Translate فتح الباري وتفسير بن كثير كيكي520.

الجمعة، 10 يونيو 2022

مجلد7. و8. معاني القرآن وإعرابه - للزَّجَّاج بو إسحاق إبراهيم السَّرِي بن سَهل " المعروف بـ الزَّجَّاج " (المتوفي 311 هـ)

  مجلد7. و8. معاني القرآن وإعرابه - للزَّجَّاج بو إسحاق إبراهيم السَّرِي بن سَهل " المعروف بـ الزَّجَّاج " (المتوفي 311 هـ)

 مجلد7.معاني القرآن وإعرابه - للزَّجَّاج أبو إسحاق إبراهيم السَّرِي بن سَهل " المعروف بـ الزَّجَّاج " (المتوفي 311 هـ)

أمر النبوة.
فيكون المعنى تُلقي الروح أو أمر النبوة على من تشاء ، على من
تختصه بالرسالة.
(لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاَقِ).
أي لينذر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالذي يوحى إليه يوم التلاق ، ويجوز أن يكون لينذر اللَّه يوم التلاق ، والأجود - واللَّه أعلم - أن يكون لينذرَ النبي - صلى الله عليه وسلم -.
والدليل على ذلك أنه قرئ لتُنْذِرَ يوم التلاق - بالتاء -.
ويجوز يوم التَلَاقِي بإثبات الياء ، والحذف جائز حسن لأنه آخر آية.
ومعنى التلاقي يوم يلتقي أهل الأرض وأهل السماء.
وتأويل الروح فيما فسَّرنا أنه به حياة الناس ، لأن كل مُهتَدٍ حَيٌّ ، وكل ضَالٍّ كالميِّتِ ، قال الله عز وجل : (أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ). وقال : (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ).
وهذا جائز في خطاب الناس ، يقول القائل لمن لَا يفقه عَنه ما فيهِ صَلَاحُه : أنت مَيِّتٌ.
* * *
(وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18)
معنى أنذرهم خوِّفهم ، والآزفة يوم القيامَةِ ، كذا جاء في التفسير.
وإنما قيل لها آزفة لأنها قريبة وإن اسْتَبْعَدَ الناس مَدَاها.
يقال قد أزِفَ الأمْرُ إذَا قَرُبَ.
وقوله : (إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ).
نصب (كَاظِمِينَ) على الحال ، والحال محمولة على المعنى لأن القلوب لا
يقال لها كاظمة ، وإنَّما الكاظمون أصحابُ القُلوبِ والمعنى إذ قلوب الناس
لدى الحناجر في حَالِ كَظمِهِمْ.
وجاء في التفسير أن القلب من الفزع يرتفع

(4/369)


فيلتصق بالحنجرة فلا يرجج إلى مكانه ولا يخرج فَيُسْتَراحُ من كَرْبِ غَمِّهِ.
(مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ).
(يُطاع) من صفة شفيع ، أي ولا من شَفيع مُطَاع.
* * *
(يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19)
إذا نظر الناظر نظرة خيانة عَلِمَها اللَّه ، فإذا نظر أول نظرة غير متعمد
خيانةً فذلك غير إثم ، فإن عاد ونيتُه الخيانة في النَّظرِ علم الله ذلك ، والله
- عزَّ وجلَّ - عالم الغيب والشهادة ، ولكنه ذكر العلم ههنا ليعلم أن المجازاة لا محالةَ واقعة.
* * *
وقوله - جلَّ وعزَّ - : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23)
أي بعلاماتنا التي تدلَّ على صِحة نبوته ، من العصا وإخراج يده بيضاء
من غير سوء وأشباه ذلك.
(وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ) أي حجة ظاهرةٍ.
* * *
(إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24)
هذه الأسماء . في موضع خفض إلَّا أنها فتحت لأنها لا تَنصَرِفُ لأنها
معرفة وهي أعجمية.
(فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ).
المعنى فقالوا هو ساحر كذاب ، جعلوا أمر الآيات التي يعجز عنها
المخلوقون سِحْراً.
* * *
(فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (25)

(4/370)


وإنه كان قِيلَ لفرعون إن ملكه يزول بسبب غلام يُولَد ، فقيل افعلوا هذا
حتى لا ينْجو المولود.
(وَمَا كيدُ الكَافِرِينَ إلَا في ضَلاَلٍ).
أي يذهب باطلًا ، ويحيق الله به ما يُرِيدُ.
* * *
وقوله : (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26)
(أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ).
على هذا مصاحف أهل العراق ، وفي مصحف أهل الحجاز : (وَأَنْ يُظْهِرَ)
بغير ألف ، ويجوز وأن يَظْهر ، ومعنى أو وقوع أحد الشيئيق فالمعنى على
(أو) أن فرعون قال إني أخاف أن يُبدَلَ دينكم أو يُفْسِدَ ، فجعل طاعة الله تعالى هي الفساد ، فيكون المعنى إني أخاف أن يبطل دينكم ألبتَّة ، فإن لم يبطله أَوْقَع فيه الفَسادَ.
ومن قرأ - " وَأَنْ " فيكون المعنى أخاف إبطال دينكم والفساد مَعَهُ.
* * *
(وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ
(28)
جاء في التفسير أن هذا الرجُلَ أعني مؤمنَ آل فرعونَ ، كان أن يسمى
سِمَعَانَ ، وقيل كان اسمه حَبِيباً ، ويكون (مِنْ آل فِرْعَوْنَ) صفة للرجُلِ ، ويكون (يَكْتُمُ إِيمَانَهُ) معه محذوف ، ويكون المعنى يَكْتُمُ إِيمَانَهُ مِنْهُمْ ، ويكون يكتم من صفة رجل ، فيكون المعنى : وقال رجل مؤمن يكتم إيمانه من آل فرعونَ.
(أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ).
المعنى لأن يقول ربي اللَّه.
(وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ).
أي بما يدل على صدقه من آيات النبوةِ
(وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ) أي فلا يَضُركم.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { أَوْ أَن } : قرأ الكوفيون « أو أَنْ » بأو التي للإِبهام والباقون بواو النسق على تَسَلُّط الحرفِ على التبديل وظهور الفساد معاً . وقرأ نافعٌ وأبو عمروٍ وحفصٌ « يُظْهِرَ » بضم الياءِ وكسرِ الهاء مِنْ أَظْهر ، وفاعلُه ضميرُ موسى عليه السلام ، « الفسادَ » نصباً على المفعول به . والباقون بفتح الياء والهاء مِنْ ظهر ، « الفسادُ » رفعاً بالفاعلية وزيدُ بن علي « يُظْهَرَ » مبنياً للمفعول ، « الفسادُ » مرفوعٌ لقيامِه مقامَ الفاعل . ومجاهد « يَظَّهَّرَ » بتشديد الظاء والهاء ، وأصلها يَتَظَهَّر مِنْ تَظَهَّر بتشديد الهاء فأدغم التاء في الظاء . و « الفسادُ » رفعٌ على الفاعلية . وفتح ابن كثير ياءَ { ذروني أَقْتُلْ موسى } وسَكَّنها الباقون . اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/371)


(وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ).
وهذا من لطيف المسائل ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا وعد وعْداً وقع الوعدُ بأسره ، لم يقع بعضه ، فالسؤال في هذا من أيْنَ جاز أن يقول بعض الذي يَعِدُكُمْ ، وحق اللفظ كل الذي يَعدُكم فهذا باب من النظَرِ يذهب فيه المناظرِ إلى الزام الحجة بأيْسَرِ ما في الأمر ، وليس في هذا نفي إصابة الكل
ومثل هذا قول الشاعر :
قد يُدْرِكُ المُتَأَنّي بَعْضَ حاجتِه . . . وقد يكونُ مع المسْتَعْجِل الزَّلَلُ
إنما ذكر البعضَ ليوجب له الكُل ، لا أن البعضَ هو الكل ولكن للقائل إذا
قال أَقَل ما يكون للمتَأنِي إدراك بعض الحاجة ، وأقل ما يكون للمستعجل
الزلل ، فقد أبان فضل المتأني على المستعجل بما لا يقدر الخصم أن يدفعه.
وكان مُؤمِنَ آل فرعونَ قال لهم : أقل مَا يكون في صدقه أن يُصِيبَكُمْ بعضُ
الذي يعدكم ، وفي بعض ذَلِك هَلَاكُكُمْ ، فهذا تأويله واللَّه أعلم.
* * *
(يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29)
هذه حكاية قول مؤمن آل فرعون.
أعلمهم اللَّه أن لهم الملك في حال ظهورهم على جميع الناس.
ثم أعلمهم أن بأس اللَّه لا يدفعه دافع ولا ينصر منه ناصر فقال :
(فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا).
* * *
(وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30)
أي مثل يوم حَزْبِ حِزْبِ ، والأحزاب ههنا قوم نوح وعادٍ وثمودَ وَمَن
أُهلكَ بعدَهُمْ وَقَبلَهُمْ .

(4/372)


ومعنى : (مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31)
مثل عادة ، وجاء في التفسير مثل حال قوم نوح ، أي أخاف عليكم أن
تقيموا على كُفْرِكُمُ فينزل بكم ما نزل بالأمَم السالِفَةِ المكذبَةِ رُسُلَهم.
* * *
(وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32)
(التَّنَادِ)
بكسر الدال - وقرأ الحَسَنُ يوم التنادي - بإثبات الياء - ، وأكثر القراءة
- التناد ، وقرأ ابن عباس يوم التنَادِّ - بتشديد الدال ، والأصل التنادي وإثبات الياء الوجه ، وحذفها حسن جميل لأن الكسرة تدل عليها الياء وهو رأس آية ، وأواخر هذه الآيات على الدال.
ومعنى يوم التنادي يوم ينادي (أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا)
وينادي (أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ).
ويجوز - واللَّه أعلم - أن يكون " يَوْمَ الئنَادِ " يوم يدعي كل أناس
بإمَامِهِمْ.
ومن قرأ يوم التَنادِّ بتشديد الدالِ ، فهو من قولهم نَدَّ فلانٌ وندَّ البعيرُ إذا
هَرَبَ على وجهه ، ومما يدل على هذا قوله : (يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ).
وقوله (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35).

(4/373)


وجاء في التفسير أنهم يؤمر بهم إلى النار فيفرون ولا يعصمهم من النار
* * *
(وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34)
أي الآيات المعجزات.
(حَتى إذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا).
أي أقمتم على كفركم وظننتم أنه لا يجدد عليكم إيجاب الحجة.
(كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ).
أي مثل ذلك الضلال يضل اللَّه من هو مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ :
(مُسْرِفٌ) ههنا كافر ، و (مُرتابٌ) شاكٌّ في أمر اللَّه وأنبيائه.
* * *
(الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35)
(الذين) في موضع نَصْب على الرد على " مَنْ " أي كذلك اللَّه يُضل الذين
يجادلون في آيات اللَّه بغير حجة أَتَتْهُمْ.
ويجوز أن يكون موضع (الذين) رفعاً على معنى مَنْ هُوَ مُسْرِف مرتابٌ هم الذين يُجَادِلُونَ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنوا).
أي كبُر جِدَالُهُمْ مَقْتاً عند الله وعند الًذِينَ آمنوا.
(كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ).
ويقرأ عَلَى كلِ قَلْبٍ مُتَكَبِّرٍ ، والأول الوجه ، لأن المتكبر هو الإنسان.
وقد يجوز أن تقول : قلب مُتَكَبِّرٌ ، أَيْ صَاحِبه مُتَكَبِّرٌ.
* * *
(وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36)

(4/374)


والصرح القصر ، وكل بناء عظيم فهوصرح.
(لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ).
جاء في التفسير أبْوابَ السماء ، والأسباب في اللغَة ما اتصل بالشيء.
وكذلك يقال للحبل سبب ، لأنه يُوصَلُ بالأشياء.
وجاء في التفسير أيضاً طُرُقَ السَّمَاوَاتِ.
فالمعنى - واللَّه أعلم . لعلي أبلغ إلى الذي يؤديني إلى السَّمَاوَات.
* * *
(أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ
(37)
ويقرأ (فَأطلِعُ) - بالرفع والنصب.
(وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا).
هذا قول فرعونَ ، يقول وإن كنت زعمت أني أطلِعُ إِلى إله موسى ، فأنا
قلت هذا على دعوى موسى لا على أني على يقينٍ من ذلك.
فيروى أن هامان طَبخ الآجُر لبناء الصَرْحِ وأن أولَ من طَبَخَ الآجُرَ هَامَانُ.
(وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ).
موضع الكاف نصب المعنى (زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ) مثل ما وَصَفْنَا.
(وَصدَّ عَنِ السَّبِيلِ).
أي صدَّ عَنِ السَّبِيلِ المستقيم . أي المستقيمة بكفره.
(وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ).
إلا في خسرانِ ، يقال : تبَّتْ يداه أي خسِرتا.
* * *
(وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38)
يعني سبيل القصد إلى اللَّه عزَّ وجلَّ ، وأخرجكم عَنْ سَبِيل فرعونَ.
فأهدكم جزم جواب للأمر.
المعنى إن تتبعوني أهدِكُمْ.
(لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43)

(4/375)


يعني أنه ليس له استجابة دعوة في الدنيا ولا في الآخرة.
قال سيبويه : سألت الخليل عن قوله : (لَا جَرَمَ) ، فقال : لا جَرَمَ رَدٌّ
لِكَلَام . والمعنى وجب أَنَ لَهُمُ النَّارَ ، وحق أن لهم النارَ.
وأنْشَدَ :
ولقد طعنت أبا عيينة طَعْنَةً . . . جَرَمَتْ فَزَارةَ بَعدهَا أَن يغضبوا
المعنى كسبتهم الغَضَبَ ، وأحَقَّتْهُمُ بالغضب.
فمعنى (لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) لقد وجب أن ما تدعونني إليه ليس له دَعْوَةُ أي وجب بطلان دعوته.
(وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ).
وَجَبَ مَرَدُنا إلى اللَّهِ ، وكذلك (وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ).
* * *
وقوله - عزَّ وجلَّ - : (سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)
(النَّارُ) بدل من قوله (سُوءُ العَذَابِ) ، وجائز أن تكونَ مرتفعة على إضمار
تفسير سوء العَذَابِ ، كان قائلا قال : ما هو ؟ فكان الجوابُ هو :
(النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا)
فإن قال قائل : كيف يُعرضُونَ عليها وهم من أهل النار ؟
فجاء في التفسير أن أرواحهم في أجواف طير سُودٍ تعرض على النار بالغَدَاة والعشى إلى يوم القيامَةِ.
ألا ترى أن - بعده (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ)
ويقرأ ادخُلُوا على معنى الأمر لهم بالدخول ، كأنَّه ويوم تقوم الساعة
يقول ادخلوا يا آل فرعون أشد العذاب.
وقرئت (أدخِلُوا) على جهة الأمْرِ للملائكة بإدخَالِهِمْ أَشَدَّ العَذَابِ.
* * *
(إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51)
(وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ).
أي : الملائكة ، وأحدهم شاهدٌ ، مثل صاحب وأصحاب .

(4/376)


(إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56)
أي يجادلون في دفع آيات اللَّه
(بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ).
أي بغير حجة أَتَتْهُم.
(إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ).
أي ما هم ببالغي إرادتهم فيه ، وإرادتهم دفع آيات اللَّه عزَّ وجلَّ وَدَل
على هذا المعنى (يُجَادِلُونَ في آيَاتِ اللَّهِ).
لأن الكبر هم قد أوقعوه فليس يلبس هذا ببالغي الكبرِ.
وجاء في التفسير أنه يُعْنى بِهِ اليهودُ ، وأن الكبر الذي ليس هم ببالغيه
تَوقعُ أمر الدَّجالِ ، فتكبروا مُتَرَبصِينَ يتوقعون خروج الدجالِ.
فأَعلم اللَّه أن هذه الفرقة التي تجادِلُ لا تبلغ خروج الدجَالِ.
ويدل على قول من قال هذا قول اللَّه - عزَّ وجلَّ - يعقب هذا :
(فاسْتَعِذْ بِاللَّهِ).
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)
(سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ).
معناه صَاغِرِينَ.
* * *
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78)
جاء في التفسير أن اللَّه عَز وَجَل بعث ثمانية ألف نَبي ، مِنْهُمْ أربَعَة
آلاف من بني اسرائيل ، ومنهم أربعة آلاف من سائر الناس.
وجاء عن علي رضي اللَّه عنه أنه قال : في قوله تعالى :
(وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ)
أن اللَّه بعث نبياً أسود . فهو ممن لم تذكر قصته في القرآن.
* * *
وقوله تعالى : (اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79)

(4/377)


الأنعام هَهُنَا الإبل.
* * *
وقوله : (إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ).
يجوز على ثلاثة أوجُهٍ
(وَالسَّلَاسِلَ) بالنصب ، و (السَّلَاسِلِ) بالخفض.
فمن رفع فعطف على الأغلال ومن جر فالمعنى إذ الأغْلَالُ فِي أعْنَاقِهِمْ وفي
السلاسِلِ ، وَمَنْ نَصَب ففتح اللام قرأ (وَالسَّلَاسِلَ يَسْحَبُونَ).
* * *
(ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُم تَفْرَحُونَ) الآية.
يدل عليه قوله تعالى : (فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ).
أي ذلك العذاب الذي نزل بكم بما كنتم تفرحون بالباطل الذي كنتم
فيه ، و (تمرحون) أي تأشرون وتبطرون وتستهزئون.
* * *
(فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)
يقول حين عاينوا العذابَ.
(سُنَّتَ اللَّهِ).
على معنى سَنَّ اللَّه هذه السُّنَّةَ فِي الأمَمِ كُلِّهَا ، لاَ يَنْفَعُهُمْ إيمانُهُمْ إذا
رأوا العذاب.
(وَخَسِرَ هُنَالِكَ الكَافِرُونَ).
وكذلك : (وخَسِرَ هُنَالِكَ المبْطِلُونَ).
والمبطلون والكافرون خاسرون في ذلك الوقت وفي كل وقتٍ خاسرون.
ولكنه تعالى بيَّن لهم خُسْرانَهُمْ إذا رأوا العذاب .

(4/378)


سُورَة فُصِّلَتْ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2)
(تَنْزِيلٌ) رفع بالابتداء ، وخبره (كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ).
هذا مذهب البصريينَ.
وقال الفَرَّاءُ يجوز أن يكون (تَنْزِيلٌ) مرتفعاً بِـ (حم) ، ويجوز أن يرتفع
بإضمار هذا . المعنى هذا تنزيل من العزيز الرحيم ، أي هو تنزيل.
(قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3)
نصب (قُرْآنًا) على الحال.
المعنى بينت آياته قرآناً ، أي بينت آياته في حال جمعه عربياً.
(لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أي بيَّنا لمن يعلم.
* * *
(بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4)
(بَشِيرًا وَنَذِيرًا)
من صفته.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5)
(وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ)
فِي غُلُفِ ، أي ما تدعونا إليه لا يصل إلى قلوبنا لأنها في أغطية ، وواحد
الأكِنةِ كِنَان.
(وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ).

(4/379)


أيْ صَمَمٌ وقفل يمنع من الاستماع لقولك أي نحن في ترك القبول
منك بمنزلة من لا يستمع قولك.
(وَمِنْ بَيْينَا وَبَييكَ حِجَابٌ).
أي حاجز في النِحْلَةِ والدِّينِ.
وهو - مثل (قُلوِبنَا في أَكِنةٍ) إلا أن معنى هذا أَنا لا نُجامِعُك فِي مَذْهِبٍ.
(فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ).
أي على مذهبنا ، وأنت عامل على مَذْهَبَكَ.
ويَجُوزُ أَنْ يكونَ فاعمل في إبطال مذهبنا إنا عاملون في إبطال أَمْرِكَ.
* * *
(وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ
(7)
أي لا يرونها واجبة عليهم ، وَلاَ يُعْطُونها.
* * *
(قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9)
لو أراد - جل وعَلَا - أنْ يخلقها في لَحظَةٍ لَفَعَلَ ولكان ذلك سائغا في
قُدْرَتِهِ ، ولكنه أحب أن يُبْصِرَ الخَلْقُ وُجُوهَ الأناةِ والقُدْرَةِ على خلق السَّمَاوَات والأرض في أيام كثيرة وفي لحظةٍ وَاحِدَةٍ لأن المخلوقين كلهُم والملائِكَةَ المقَربِينَ لو اجتمعوا على أن يخلقوا مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْهَا مَا خَلَقُوا.
وجاء في التفسير أن ابتداء خلق الأرْضِ كان في يوم الأحَدِ واستقام
خلقها في يوم الاثنين.
* * *
(وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10)
(وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا).
في الثلاثاء والأربعاء فصارت الجملة أَربعة أَيَّام ، فذلك قوله : (وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ).

(4/380)


أي في تتمة أرْبَعةِ أَيَّام.
(سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ).
وَسَواءٍ ، ويجوز الرفعُ . فمن خفض جَعَلَهُ صفَةً للأيَّامِ.
المعنى في أربعة أَئامٍ مسْتَوَياتٍ ، ومن - نصب فعلى المصدر ، على
معنى استوت سَواءً ، واسْتِوَاءً.
ومَنْ رَفَع فعلى معنى هي سَوَاء (1).
ومعنى (لِلسَّائِلِينَ) ، مُعَلًق بِقَوْله : (وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا) لكل محتاج إلى
القوتِ.
وَإنما قِيلَ (لِلسَّائِلِينَ) لأن كُلًّا يَطْلُبُ القُوتَ وَيَسْألُه.
ويجوز أن يكون للسائلين لمن سأل في كم خُلِقَت السماواتُ والأرَضُونَ ؛ فقيل : خُلِقَتْ الأرْضُ في أربعة أيام سَوَاء لَا زيادَةَ فِيهَا وَلاَ نقصانَ جَوَاباً لِمَنْ سَأل.
* * *
(ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11)
معنى استوى عَمَدَ إلى السماءِ وَقَصَدَ.
(قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ).
على الحال مَنْصُوبٌ ، وإنما قِيلَ طَائِعين دُونَ طَائِعَات ، لِأنَّهُنَّ جَرَيْن
مَجْرَى ما يَعْقِل وُيميزُ ، كما قيل في النجوم : (وَكُل في فَلَكَ يُسْبَحُونَ)
وقد قِيلَ (قَالَتَا أَتَيْنَا) أَيْ ، نَحْنُ وَمَنْ فينَا طَائِعِينَ.
وَمَعْنَى (طَوْعًا أَوْ كَرْهًا) على معنى أَطِيعَا لما أَمَرت طَوْعاً ، بمنزلة أَطِيعَا الطَاعَةَ أو تُكْرَها إكراهاً.
* * *
(فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)
(فَقَضَاهُنَّ).
فَخَلَقَهُنَّ وَصَنَعُهُنَّ.
قَالَ أَبُو ذُؤيبٍ.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : » سواءً « العامَّةُ على النصبِ ، وفيه أوجهٌ ، أحدُها : أنه منصوبٌ على المصدرِ بفعلٍ مقدرٍ أي : استَوتْ استواءً ، قاله مكي وأبو البقاء . والثاني : أنه حالٌ مِنْ » ها « في » أقواتها « أو مِنْ » ها « في » فيها « العائدةِ على الأرض أو من الأرض ، قاله أبو البقاء.
وفيه نظرٌ؛ لأنَّ المعنى : إنما هو وصفُ الأيامِ بأنها سواءٌ ، لا وصفُ الأرضِ بذلك ، وعلى هذا جاء التفسيرُ . ويَدُلُّ على ذلك قراءةُ » سَواءٍ « بالجرِّ صفةً للمضافِ أو المضافِ إليه . وقال السدي وقتادة : سواءً معناه : سواءً لمن سألَ عن الأمرِ واستفهم عن حقيقةِ وقوعِه ، وأرادَ العِبْرَةَ فيه ، فإنه يَجِدُه كما قال تعالى ، إلاَّ أنَّ ابنَ زيدٍ وجماعةً قالوا شيئاً يَقْرُبُ من المعنى الذي ذكره أبو البقاء ، فإنهم قالوا : معناه مُسْتَوٍ مُهَيَّأٌ أمرُ هذه المخلوقاتِ ونَفْعُها للمحتاجين إليها من البشر ، فعبَّر بالسائلين عن الطالبين.
وقرأ زيد بن علي والحسن وابن أبي إسحاق وعيسى ويعقوب وعمرو بن عبيد » سَواءٍ « بالخفضِ على ما تقدَّمَ ، وأبو جعفرٍ بالرفع ، وفيه وجهان ، أحدهما : أنه على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ أي : هي سواءٌ لا تَزيد ولا تنقصُ . وقال مكي : » هو مرفوعٌ بالابتداء « ، وخبرُه » للسائلين « . وفيه نظرٌ : من حيث الابتداءُ بنكرةٍ من غيرِ مُسَوِّغٍ ، ثم قال : » بمعنى مُسْتوياتٍ ، لمن سأل فقال : في كم خُلِقَتْ؟ وقيل : للسَّائلين لجميع الخَلْقِ لأنهم يَسْألون الرزقَ وغيرَه مِنْ عند اللَّهِ تعالى «.
قوله : » للسَّائلين « فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها : أنه متعلقٌ ب » سواء « بمعنى : مُسْتويات للسائلين . الثاني : أنه متعلِّقٌ ب » قَدَّر « أي : قَدَّر فيها أقواتَها لأجلِ الطالبين لها المحتاجين المُقتاتين . الثالث : أَنْ يتعلَّق بمحذوفٍ كأنه قيل : هذا الحَصْرُ لأجلِ مَنْ سأل : في كم خُلِقَتِ الأرضُ وما فيها ؟. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/381)


وعليهما مسرودتان قضاهما . . . داودُ أو صَنَع السَّوابغَ تبَّع
معناه عملهما وَصَنَعُهَما.
(وَأوُحَى فِي كُلَ سَمَاءٍ أَمْرَهَا).
قِيلَ ما يُصْلِحُهَا ، وَقِيلَ مَلَائِكَتُهَا.
(وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا).
معناه وحفظناها مِنَ اسْتِمَاعِ الشياطِين بالكواكب حِفْظاً فقال :
(قل أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ) بمن هذه قدرته (وتجعلون له أنداداً) أي أصناماً
تنحتونها بَأيْدِيكم.
(ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ).
أي الذي هذه صفته وله هذه القدرة رَبُّ العَالَمِينَ.
* * *
ثم قال : (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ
(13)
أي فإن لم يقبلوا رسالتك بعد هذه الإبَانَةَ ويوحدوا اللَّه.
(فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ).
أي أنذرتهمْ بأنْ يَنْزِلَ بكم ما نزل بمن كفر من الأمَمِ قَبلَكُمْ ، ثم قصَّ
قصة كُفْرِهِمْ والسبَب في عُتُوِّهِمْ وإقامتهم على ضلالتهم فقال :
(فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً)
فأرسل اللَّه عليهم ريحاً صَرْصَراً فقال :
(فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16)
(نَحِسَاتٍ)
ويروى نَحْسَاتٍ.
قال أبو عبيدة : الصرْصَر الشديدة الصوْتِ.
وجاء في

(4/382)


التفسير الشديدة البَرْدِ ، وَنَحِسَاتٍ مشئومَاتٍ واحدها نحِسٌ.
ومن قرأ نَحْسَات فَواحدها نَحْسٌ ، قال اللَّه - عزَّ وجلَّ - :
(فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19). (1)
* * *
(وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17)
الجَيِّدُ إسقاط التنوين ، ويقرأ ثَمودٌ - بالتنوين - ويجوز ثَمُوداً بِالنًصْبِ.
بفعل مضمر الذي ظهر تفسيره.
ومعنى (هَدَيْنَاهُمْ) قال قَتَادَةُ بَينَّا لَهُمْ طريق الهُدَى وطَريق الضًلاَلَةِ.
(فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى).
والاختيار رفع ثمود على الابتداء والخبر ، وهذا مذهب جميع النحويين.
اختيار الرفع ، وكلهم يجيز النصْبَ.
وقوله - عزَّ وجلَّ - : (فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ).
فَالهونُ والخزيُ الذي يهينهم ويخزيهم.
* * *
(وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19)
يقرأ إلى النارِ - بفتح النون والتفخيم - وقراءة أبي عَمْرٍو - إلى النارِ -
على الإمالة إلى الكسر - وإنَّما يختار ذلك مع الراءِ - يعني الكسر - لأنها حرف فيه تكريرٌ ، فلذلك آثَرَ أَبُو عَمْرٍ الكسرَ.
(فَهُمْ يُوزَعُونَ).
جاء في التفسير يُحْبَسُ أَوَّلُهم على آخِرِهِمْ ، وأصله من وزعْتُهُ إذا
كففته ، وقال الحسن البَصْرِي حين وَليَ القضاءَ : لَا بُدَّ للناس من وَزَعةٍ.
أي لا بد لهم من أَعْوانٍ يَكُفُّونَ الناس عَنِ التعَدِّي.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { صَرْصَراً } : الصَّرْصَرُ : الريحُ الشديدة فقيل : هي الباردةُ مِن الصِّرِّ ، وهو البردُ . وقيل : هي الشديدةُ السَّمومِ . وقيل هي المُصَوِّتَةُ ، مِنْ صَرَّ البابُ أي : سُمِع صريرُه . والصَّرَّة : الصَّيْحَةُ . ومنه : { فَأَقْبَلَتِ امرأته فِي صَرَّةٍ } [ الذاريات : 29 ] . قال ابن قتيبة : « صَرْصَر : يجوزُ أَنْ يكونَ من الصِّرِّ وهو البردُ ، وأَنْ يكونَ مِنْ صَرَّ البابُ ، وأَنْ تكونَ من الصَّرَّة ، وهي الصيحةُ ، ومنه : { فَأَقْبَلَتِ امرأته فِي صَرَّةٍ } [ الذاريات : 29 ] . وقال الراغب : » صَرْصَر لفظة من الصِّرِّ ، وذلك يرجِعُ إلى الشَّدِّ لِما في البرودة من التعقُّدِ «.
قوله : » نَحِساتٍ « قرأ الكوفيون وابن عامر بكسرِ الحاءِ ، والباقون بسكونِها . فأمَّا الكسرُ فهو صفةٌ على فَعِل ، وفعلُه فَعِل بكسرِ العين أيضاً كفِعْلِهِ يقال : نَحِس فهو نَحِسٌ كفَرِح فهو فَرِحٌ ، وأَشِرَ فهو أَشِرٌ . وأمال الليث/ عن الكسائي ألفَه لأجل الكسرةِ ، ولكنه غيرُ مشهورٍ عنه ، حتى نسبه الدانيُّ للوَهْم.
وأمَّا قراءةُ الإِسكانِ فتحتملُ ثلاثةَ أوجهٍ ، أحدُها : أَنْ يكونَ مخففاً مِنْ فَعِل في القراءةِ المتقدمةِ ، وفيه توافُقُ القراءتين . والثاني : أنَّه مصدرٌ وُصِفَ به كرجلٍ عَدْلٍ . إلاَّ أنَّ هذا يُضْعِفُه الجمعُ فإنَّ الفصيحَ في المصدرِ الموصوفِ أَنْ يُوَحَّدَ ، وكأنَّ المُسَوِّغَ للجمع اختلافُ أنواعِه في الأصل . والثالث : أنه صفةٌ مستقلةٌ على فَعْل بسكونِ العينِ . ولكن أهلَ التصريفِ لم يذكروا في الصفةِ الجائيةِ مِنْ فَعِلَ بكسرِ العين ، إلاَّ أوزاناً محصورةً ليس فيها فَعْل بالسكونِ فذكروا : فَرِحَ فهو فَرِحٌ ، وحَوِرَ فهو أحورُ ، وشَبعَ فهو شبعانُ ، وسَلِمَ فهو سالمٌ ، وبَلي فهو بالٍ.
وفي معنى » نَحِسات « قولان ، أحدهما : أنها مِن الشُّؤْم . قال السدِّي : أي : مشائيم مِن النَّحْسِ المعروف . والثاني : أنها شديدةُ البردِ . وأنشدوا على المعنى الأول قولَ الشاعرِ :
3954 يَوْمَيْنِ غَيْمَيْنِ ويوماً شَمْسا . . . نَجْمَيْنِ سَعْدَيْنِ ونجماً نَحْسا
وعلى المعنى الثاني قولَ الآخرِ :
3955 كأنَّ سُلافَةً عُرِضَتْ لنَحْسٍ . . . يُحِيْلُ شَفيفُها الماءَ الزُّلالا
ومنه :
3956 قد أَغْتدي قبلَ طُلوعِ الشمسِ . . . للصيدِ في يومٍ قليلِ النَّحْسِ
وقيل : يُريدُ به في هذا البيت الغبارَ أي : قليلِ الغبار ، وقد قيل بذلك في الآيةِ أنها ذاتُ غُبارٍ . و » نَحِسات « نعتٌ لأيَّام ، والجمعُ بالألفِ والتاءِ مُطَّرِدٌ في صفةِ ما لا يَعْقِلُ كأيامٍ معدوداتٍ . وقد تقدَّم تحقيقُه في البقرة . اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/383)


(حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20)
جاء في التفسير (جُلُودُهُمْ) كناية عن الفَرج ، المعنى شَهِدَتْ فروجهم
بمعاصيهم.
* * *
(وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21)
أي جَعَلنا اللَّه شهوداً.
* * *
(وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)
(وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ).
مرفوع بخبر الابتداء ، و (أرْدَاكمْ) خبر ثانٍ.
ويجوز أن يكون (ظَنُّكُمُ). بَدَلاً مِنْ (ذَلِكُمْ).
ويكون المعنى وظنكم الذي ظننتم بِرَبكُمْ أرْداكم.
ومعنى (أرْدَاكُمْ) أ هْلَكَكُمْ.
* * *
(وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25)
(وَقَيَّضْنَا) :
وسببنا من حيث لا يَحْتَسِبُونَ.
(لَهُمْ قُرَنَاءَ) . . الآية.
يقول زينوا لهم أعْمَالَهُم الًتِي يَعْمَلُونَها ويشاهدونها.
(وَمَا خَلْفَهُمْ) وما يَعْزمُونَ أَنْ يَعْمَلُوه.
* * *
(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ
(26)
أي عارضوه بكلام لَا يُفهَم يكون ذلك الكلام لَغْواً ، يقال : لغا يَلْغُو
لَغْواً ، ويقال لَغِيَ يلْغَى لَغْواً إذا تكلم باللغو ، وهو الكلام الذي لَا يُحَصّل ولا تفهم حقيقته (1).
* * *
(ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (28)
(ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ)
هذا يدل على رفعه.
قوله : (فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا).
المعنى ذلك العذاب الشديد جزاء أعداء اللَّه.
(النَّارُ) رفع بدل من (جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ)
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { والغوا } : العامَّةُ على فتحِ الغين . وهي تحتملُ وجهين ، أحدُهما : أَنْ يكون مِنْ لَغِي بالكسر يَلْغَى . وفيها معنيان ، أحدُهما : مِنْ لَغِيَ إذا تكلَّم باللَّغْوِ ، وهو ما لا فائدةَ فيه . والثاني : أنه مِنْ لَغِي بكذا ، أي : رَمى به فتكونُ « في » بمعنى الباء أي : ارْمُوا به وانبِذُوه . والثاني من الوجهين الأوَّلين : أَنْ تكونَ مِنْ لَغا بالفتح يَلْغَى بالفتحِ أيضاً ، حكاه الأخفش ، وكان قياسُه الضمَّ كغزا يَغْزو ، ولكنه فُتِح لأجلِ حَرْفِ الحلقِ . وقرأ قتادة وأبو حيوة وأبو السَّمَّالِ والزعفراني وابن أبي إسحاق وعيسى بضم الغين ، مِنْ لَغا بالفتحِ يَلْغُو كدَعا يَدْعُو . وفي الحديث : « فقد لَغَوْتَ » ، وهذا موافِقٌ لقراءةِ غيرِ الجمهور . اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/384)


وإن شِئت رفعت (النَّارُ) على التفسير ، كأنَّه قيل ما هو فقيل هي
النارُ (1).
(لَهُمْ فِيهَا دَارُ الخُلْدِ).
أي لهم في النارِ دار الخلد ، والنار هي الدار ، كما تقول : لك في هذه
الدارِ دَارُ السرور ، وأنت تعني الدار بِعَيْنها
كما قال الشاعر :
أَخُو رَغائِبَ يُعْطِيها ويَسْأَلُها . . . يَأْبَى الظُّلامَةَ منه النَّوْفَلُ الزُّفَرُ
(1)
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29)
(أَرِنَا)
بكسر الراء وبإسكانها - لثقل الكسرة كما قالوا في فَخِذٍ فَخْذ ، ومن كسر
فعلى الأصل ، والكسر أَجْوَدُ لأنه في الأصْلِ أَرْئِنَا - فحذفت الهمزة وبقيت
الكسرةُ دليلاً عليها والكسر أجود.
ومعنى الآية فيما جاء من التفسير أنه يعني بهما ابن آدم قابيل الذي قتل
أخاه ، وإبليس ، فقابيل مِنَ الإنس وإبليس مِنَ الجِنِّ.
ومعنى : (نجعلْهُمَا تحت أَقْدَامِنَا).
أي يكونان - في الدَّرْك الأسفل.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30)
أي : وحدوا اللَّه ، واستقاموا : عملوا بِطَاعَتِهِ ولزموا سنة نبيِّهِ.
(تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ).
بُشَراءَ يبشرونهم عند الموت وفي وقت البعث فلا تَهُولُهم أهَوالُ القيامة.
* * *
وقوله : (نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { ذَلِكَ } : فيه وجهان ، أحدهما : أنه مبتدأٌ و « جزاءُ » خبره . والثاني : أنه خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي : الأمرُ ذلك و { جَزَآءُ أَعْدَآءِ الله النار } جملةٌ مستقلةٌ مبيِّنَةٌ للجملةِ قبلَها.
قوله : « النارُ » فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنها بدلٌ مِنْ « جزاء » ، وفيه نظرٌ؛ إذ البدلُ يَحُلُّ مَحَلَّ المبدلِ منه ، فيصيرُ التقديرُ : ذلك النار . الثاني : أنها خبرُ مبتدأ مضمرٍ . الثالث : أنها مبتدأٌ ، و { لَهُمْ فِيهَا دَارُ الخُلْدِ } الخبر . و « دارُ » يجوز ارتفاعُها بالفاعليَّة أو الابتداءِ.
وقوله : { فِيهَا دَارُ الخُلْدِ } يقتضي أَنْ تكونَ « دارُ الخلد » غيرَ النارِ ، وليس الأمرُ كذلك ، بل النارُ هي نفسُ دارِ الخُلْدِ . وأُجيب عن ذلك : بأنَّه قد يُجْعَلُ الشيءُ ظَرْفاً لنفسِه باعتبارِ متعلَّقِه على سبيل المبالغةِ ، كأنَّ ذلك المتعلَّقَ صار مستقَراً له ، وهو أبلغُ مِنْ نسبةِ المتعلَّقِ إليه على سبيلِ الإِخبارِ به عنه ، ومثلُه قولُه :
3959 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وفي اللَّهِ إنْ لم يُنْصِفُوا حَكَمٌ عَدْلُ
وقوله تعالى : { لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } [ الأحزاب : 21 ] ، والرسولُ عليه السلام هو نفسُ الأُسْوةِ . كذا أجابوا . وفيه نظرٌ؛ إذ الظاهرُ - وهو معنىً صحيحٌ منقولٌ - أنَّ في النار داراً تُسَمَّى دارَ الخلدِ ، والنارُ مُحيطةٌ بها.
قوله : « جَزاءً » في نصبِه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنَّه منصوبٌ بفعلٍ مقدرٍ ، وهو مصدرٌ مؤكدٌ أي : يُجْزَوْن جزاءَ . الثاني : أَنْ يكونَ منصوباً بالمصدرِ الذي قبلَه ، وهو { جَزَآءُ أَعْدَآءِ الله } ، والمصدرُ يُنْصَبُ بمثلِه كقوله : { فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً } [ الإسراء : 63 ] . الثالث : أَنْ يَنْتَصِبَ على أنه مصدرٌ واقعٌ موقعَ الحالِ ، و « بما » متعلِّقٌ ب « جَزاء » الثاني ، إنْ لم يكنْ مؤكِّداً ، وبالأول إن كان ، و « بآياتِنا » متعلِّقٌ ب « يَجْحَدون » . اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/385)


معناه وأبشروا بالجنة تنزلُونها نُزُلاً.
قال أبو الحسن الأخفش : (نُزُلًا) منصوب من وجهين :
أحدهما أن يكون مَنْصُوباً على المصدَرِ ، على معنى لكم
ْفيها ما تشتهي أنفسكم أنزَلْناهُ نُزُلاً.
ويجوز أنْ يكون منصوباً على الحال على معنى لكم فيها ما تشتهي أَنْفُسُكُمْ منزلا نُزُلًا ، كما تقول جاء زيد مشياً في معنى جاء زيد ماشياً (1).
* * *
(وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33)
(وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا)
منصوب على التفسير كما تقول زيد أحسن منك وجهاً ، وجاء في
التفسير أنه يعنى به محمد - صلى الله عليه وسلم - لأنه دعا إلى توحيد اللَّه ، وجاء أيضاً في التفسير عن عائشة وغيرها أنها نزلت في المؤذنين.
* * *
(وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34)
و " لا " زائدة مؤكدة ، المعنى لا تستوي والسيئة.
(ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ).
معناه ادفع السيئة بالتي هي أحسن.
(كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) : الحميم القريب.
* * *
(وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)
أي ما يلقى مجازاة هذا أي وما يلَقى هذه الفعلة (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا) أي
إِلَّا الَّذِينَ يكظمون الغيظ.
(وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ).
الحظ ههنا الجنَّة ، أي وما يلقاها إلا من وجبت له الجنة.
ومعنى (ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) ، أي حَظٍّ عَظِيمٍ في الخير.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { نُزُلاً } : فيه أوجهٌ ، أحدها : أنه منصوبٌ على الحالِ من الموصولِ ، أو من عائدِه . والمراد بالنُزُلِ الرزقُ المُعَدُّ للنازِل ، كأنه قيل : ولكم فيها الذي تَدَّعُونه حال كونِه مُعَدًّا . الثاني : أنَّه حالٌ مِنْ فاعل « تَدَّعُوْن » ، أو من الضمير في « لكم » على أَنْ يكونَ « نُزُلاً » جمعَ نازِل كصابِر وصُبُر ، وشارِف وشُرُف . الثالث : أنه مصدرٌ مؤكِّدٌ . وفيه نظرٌ؛ لأنَّ مصدرَ نَزَل النزولُ لا النُّزُل . وقيل : هو مصدرُ أَنْزَل.
قوله : « مِنْ غَفَورٍ » يجوزُ تعلُّقه بمحذوفٍ على أنه صفةٌ ل « نُزُلاً » ، وأَنْ يتعلَّقَ بتَدَّعون ، أي : تَطْلبونه مِنْ جهةِ غفورٍ رحيمٍ ، وأَنْ يتعلَّقَ بما تعلَّقَ الظرفُ في « لكم » من الاستقرارِ أي : استقرَّ لكم مِنْ جهةِ غفورٍ رحيم . قال أبو البقاء : « فيكونُ حالاً مِنْ » ما « . قلت : وهذا البناءُ منه ليس بواضحٍ ، بل هو متعلِّقٌ بالاستقرارِ فَضْلةً كسائرِ الفضلاتِ ، وليس حالاً مِنْ » ما « . اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/386)


(وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)
يقول إن نزغك مِنَ الشيطان ما يصرفك به عن الاحتمال فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ
من شرِّه وامض على حلمك.
* * *
(وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37)
أَي مِنْ عَلاَمَاتِهِ التي تَدُلُّ على أَنه واحد.
وقوله : (وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ).
وقد قال : الليلُ والنهار والقمر وهي مُذَكَرَة.
وقال : (خَلَقَهُنَّ) والهاء والنون
يدلان على التأنيث ، ففيها وجهان :
أحدهما أَن ضمير غير ما يعقل على لفظ
التأنيث ، تقول : هذه كِبَاشُك فسُقْها ، وَإنْ شئت فسُقْهُن ، وإنَّمَا يكون
" خَلَقَهُمْ " لما يعقل لا غير ، ويجوز أن يكون (خَلَقَهُنَّ) راجعاً على معنى الآيات لأنه قال : ومن آياته هذه الأشياء.
(وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ) (1).
* * *
(فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38)
هذه خطاب لمحمد - صلى الله عليه وسلم -
و (الَّذِينَ) ههنا يعنى به الملائكة ، فالمعنى فإن استكبروا وَلَمْ يُوحِّدُوا اللَّهَ ويعْبُدوه ويؤمنوا برسوله ، فالملائكة (يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ).
(وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ).
لاَ يَملُّون - ثم زَادَهُمْ في الدلالة فقال :
* * *
(وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)
أي مُتَهَشِمَةً متغيرة ، وهو مثل هامدة.
__________
(1) قال السَّمين :

قوله : { خَلَقَهُنَّ } : في هذا الضميرِ ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها : / أنه يعودُ على الأربعةِ المتعاطفةِ . وفي مجيءِ الضميرِ كضميرِ الإِناثِ - كما قال الزمخشري - هو أنَّ جَمْعَ ما لا يَعْقِلُ حكمُه حكمُ الأنثى أو الإِناث نحو : « الأقلامُ بَرَيْتُها وبَرَيْتُهنَّ » . وناقشه الشيخ من حيث إنه لم يُفَرِّقْ بين جمعِ القلةِ والكثرةِ في ذلك؛ لأنَّ الأفصحَ في جمعِ القلةِ أَنْ يُعامَلَ معاملةَ الإِناثِ ، وفي جمع الكثرةِ أَنْ يُعامَلَ معاملةَ الأنثى فالأفْصحُ أَنْ يُقال : الأجذاعُ كَسَرْتُهُنَّ ، والجذوعُ كَسَرْتُها . والذي تقدَّمَ في هذه الآيةِ ليس بجمعِ قلةٍ أعني بلفظٍ واحدٍ ، ولكنه ذكر أربعةً متعاطفةً فتنزَّلَتْ منزلَة الجمعِ المعبَّرِ به عنها بلفظٍ واحد . قلت : والزمخشري ليس في مقام بيانِ الفصيح والأفصح ، بل في مقامِ كيفيةِ مجيء الضميرِ ضميرَ إناث بعد تقدُّم ثلاثةِ أشياءَ مذكَّراتٍ وواحدٍ مؤنثٍ ، فالقاعدةُ تغليبُ المذكرِ على المؤنثِ ، أو لمَّا قال : « ومِنْ آياته » كُنَّ في معنى الآياتِ فقيل : خلقهنَّ ، ذكره الزمخشريُّ أيضاً أنه يعود على لفظ الآياتِ . الثالث : أنه يعودُ على الشمس والقمر؛ لأنَّ الاثنين جمعٌ ، والجمعُ مؤنثٌ ، ولقولهم : شموس وأقمار . اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/387)


(فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ).
ويقرأ وَرَبأتْ بالهمز ، ومعنى ربت عظمت ، ومعنى ربأت ارْتَفَعَتْ لأن
النبت إذا همَّ أن يظهر ارتفعت له الأرض.
* * *
وقوله - عزَّ وجلَّ - : (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40)
(يَلْحَدُونَ) بفتح الياء والحاء ، وتفسير يَلْحدُونَ يجعلون الكلام على غير
جِهَتِه ، ومن هذا اللَّحْدُ لأنه الحفرُ في جانب القَبْر ، يُقال لَحَد وَألْحَدَ ، في
معنى وَاحِدٍ.
(اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ).
لفط هذا الكلام لفظ أَمْرٍ ، ومعناه الوعيد والتهدد ، وقد بيَّن لهم المجازاة
على الخير والشر.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)
فيه وجهان :
أحدهما أن الكتب التي تقدمت لا تبطله وَلَا يأتي بعده كتابُ
يُبْطِلُه.
والوجه الثاني أنه محفوظ من أن يَنقُصَ منه فيأتيه الباطل من بين يديه أو
يزاد فيه فيأتيه الباطل من خلفه.
والدليل على هذا قوله : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9).
* * *
(مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43)
أي تكذيبك كما كُذِبَ الرسُلُِ مِنْ قَبلِكَ ، وقيل لهم كما يقول الكفارُ
لك ، ثم قال :

(4/388)


(إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ) : المعنى لمن آمن بك.
(وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ) : لِمَنْ كَذبَك.
* * *
(وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44)
(وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ)
أي بُيِّنَت.
(أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ).
وتقرأ (أَأَعْجَمِيٌّ) بهمزتين وَ (أَعْجَمِيٌّ) بهمزةٍ واحدةٍ وبهمزة بعدها مخففة
تشبه الألف ، ولا يجوز أن يكون ألفاً خَالِصَةً لأن بعدها العين وهي ساكنة.
وتقرأ أَعجَمِي وعَرَبي - بهمزة واحدة وفتح العين.
وقرأ الحسن أَعْجَمى بهمزة وَسَكُونِ العَيْن.
والذِي جَاءَ في التفْسِير أَن المعنى (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا) : هلَّا
بينت آياتِهِ ، أقرآنٌ أعجميٌّ ونبيٌّ عربي.
فمن قرأ (آأعجمي) فهمزة وألفٍ فَإنهُ مَنْسوبُ إلى اللسَانِ الأعجم ، تقول : هذا رَجُل أعجمي إذا كان لا يُفْصِحُ إن
كَانَ مِنَ العَجَمِ أو من العَرَبٍ ، وتقول : هذا رجل عَجَمِي إذا كان من
الأعاجم ، فصيحاً كان أَمْ غَيرَ فصيح ، ومثل ذَلِكَ : هذا رَجُلٌ أعرابي إذا كان من أهل البادية ، وكان جنسه من العَرَب أو من غير العَرَبِ ، والأجودُ في القرآن أَعْجَمِي بهمزة وأَلِفٍ على جهة النسبة إلى الأعْجَمِ ، ألا ترى قوله : (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا) ، ولم يقرأ أحَد عَجَميُّا.
فأمَّا قراءة الحسن أعني أَعْجَمى بإسكان العَيْنِ لا على معنى الاستفهام ولكن على معنى هَلَّا بُيِّنَتْ آياتُه ، فجعل بعضه بياناً للعجم وبعضه بياناً للعرب ، وكل هذه الأوجه الأربعة سائغ في العربية
وعلى ذلك تفسيره (1).
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { ءَاعْجَمِيٌّ } : قرأ الأخوان وأبو بكر بتحقيقِ الهمزة ، وهشام بإسقاطِ الأولى . والباقون بتسهيلِ الثانية بينَ بينَ . وأمَّا المدُّ فقد عُرِف حكمُه مِنْ قولِه : « أأنذَرْتَهم » في أولِ هذا الموضوع . فمَنْ استفَهْم قال : معناه أكتابٌ أَعجميٌّ ورسولٌ عربيٌّ . وقيل : ومُرْسَلٌ إليه عَربيٌّ . وقيل : معناه أَبَعْضُهُ أعجميٌّ وبعضُه عربيٌّ . ومَنْ لم يُثْبِتْ همزةَ استفهامٍ فيُحتمل أنه حَذَفها لفظاً وأرادها معنًى . وفيه توافُقُ القراءتين . إلاَّ أنَّ ذلك لا يجوز عند الجمهور ، إلاَّ إنْ كان في الكلام « أم » نحو :
3960 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . بسَبْعٍ رَمَيْنَ الجَمْرَ أم بثمان
فإنْ لم تكنْ « أم » لم يَجُزْ إلاَّ عند الأخفش . وتقدَّم ما فيه ، ويحتمل أَنْ يكونَ جعله خبراً مَحْضاً ويكونُ معناه : هَلاَّ فُصِّلَتْ آياتُه فكان بعضُها أعجمياً تفهمُه العجمُ ، وبعضُها عربياً يفهمُه العربُ.
والأعجميُّ مَنْ لا يُفْصِحُ ، وإن كان مِنَ العرب ، وهو منسوبٌ إلى صفته كأحمرِيّ ودَوَّاريّ ، فالياءُ فيه للمبالغةِ في الوصفِ وليس النسبُ منه حقيقياً . وقال الرازيُّ في لوامحه : « فهو كياء كُرْسِيّ وبُخْتِيّ » . وفَرَّق الشيخُ بينهما فقال : « وليسَتْ كياءِ كُرْسِيّ فإن كرسيّ وبُخْتيّ بُنِيَتِ الكلمةُ عليها بخلافِ ياء » أعجميّ « فإنهم يقولون : رجل أَعْجم وأعْجميّ ».
وقرأ عمرو بن ميمون « أَعَجَمِيٌّ » بفتح العين وهو منسوبٌ إلى العجم ، والياءُ فيه للنسَبِ حقيقةً يُقال : رجل أعجميٌّ وإنْ كان فصيحاً . وقد تقدَّم الكلامُ في الفرقِ بينهما في سورةِ الشعراء.
وفي رفع « أَعْجميّ » ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنه مبتدأٌ ، والخبرُ محذوف تقديرُه ، أعجميٌّ وعربيٌّ يَسْتويان . والثاني : أنه خبرُ مبتدأ محذوف أي : هو ، أي : القرآن أعجميٌّ والمرسلُ به عربيٌّ . والثالث : أنه فاعلُ فعلٍ مضمرٍ أي : أيَسْتوي أعجميٌّ وعربيٌّ . وهذا ضعيفٌ؛ إذ لا يُحذف الفعلُ إلاَّ في مواضعَ بَيَّنْتُها غيرَ مرةٍ.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/389)


وقوله عزَّ وجلَّ : (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ).
يعني القرآن.
(وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ).
أي هم في ترك القبول بمنزلة من في أذنه صمم.
(وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى)
ويقرأ (وهو عَلَيْهِمْ عَمٍ) بِكسر الميم والتنوين ، ويجوز (وهو عَليْهِمْ عَمِيَ)
بإثبات الياء وَفَتْحِهَا ، ولا يجوز إسكان الياء وترك التنوين (1).
(أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ).
يعني من قسوة قلوبهم يُبعَدُ عنهم مَا يُتْلَى عليهم.
* * *
(وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45)
(وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ)
ْالكلمة وَعْدَهُمُ الساعة ، قال عزَّ وجلَّ : (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ)
* * *
(مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46)
(وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا).
أي : على نفسه.
ويدل على أن الكلمة ههنا الساعة قوله : (إلَيْه يُرَد عِلْمُ السَّاعَةِ).
وقوله - عزَّ وجلَّ - : (وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47)
(وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا).
نحو خروج الطلع من قشره.
(وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي).
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { والذين لاَ يُؤْمِنُونَ } فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها : أَنْ يكونَ مبتدأً ، و « في آذانِهم » خبرُه و « وَقْرٌ » فاعلٌ ، أو « في آذانهم » خبرٌ مقدم « ووقرٌ » مبتدأٌ مؤخر ، والجملةُ خبرُ الأول . الثاني : أنَّ وَقْراً خبرُ مبتدأ مضمرٍ . والجملةُ خبرُ الأولِ والتقديرُ : والذين لا يُؤْمنون هو وَقْرٌ في آذانهم لَمَّا أَخْبر عنه بأنه هدىً لأولئك ، أخبر عنه أنه وَقْرٌ في آذان هؤلاءِ وَعَمَىً عليهم . قال معناه الزمخشري . ولا حاجةَ إلى الإِضمار مع تمام الكلامِ بدونه . الثالث : أن يكونَ { الذين لاَ يُؤْمِنُونَ } عطفاً على « الذين آمنوا » ، و « وَقْرٌ » عطفٌ على « هدىً » وهذا من بابِ العطفِ على معمولَيْ عامِلَيْنِ . وفيه مذاهبُ تقدَّم تحريرُها.
قوله : « عَمَىً » العامَّةُ على فتحِ الميم المنونةِ وهو مصدرٌ ل عَمِي يَعْمَى نحو : صَدِي يَصْدَى صَدَىً ، وهَوِي يَهْوَى هَوَىً.
وقرأ ابن عباس وابن عمر وابن الزبير وجماعة « عَمٍ » بكسرِها منونةً اسماً منقوصاً وُصِفَ بذلك مجازاً . وقرأ عمرو بن دينار ورُوِيت عن ابن عباس « عَمِيَ » بكسر الميم وفتح الياء فعلاً ماضياً . وفي الضمير وجهان أظهرُهما : أنه للقرآن . والثاني : أنه للوَقْر والمعنى يأباه ، و « في آذانهم » - إنْ لم تجعَلْه خبراً - متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه حالٌ منه؛ لأنه صفةٌ في الأصلِ ولا يتعلَّق به ، لأنَّه مصدرٌ ، فلا يتقدَّم معمولُه عليه وقوله : { وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى } كذلك في قراءة العامَّةِ ، وأمَّا في القراءتين المتقدمتين فتتعلَّق « على » بما بعده؛ إذ ليس بمصدرٍ . اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/390)


المعنى أين قولكم أن لي شركاء ، واللَّه - جل وعلا - واحدٌ لا شريك له.
وقد بين ذلك في قوله : (أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ).
(آذَناكَ) أَعْلَمْنَاكَ مَا مِنا من شهِيدٍ لَهُمْ.
* * *
(وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48)
(وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ).
أَي أيقنوا.
* * *
(لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49)
لا يَمَل الخير الذي يُصيبه ، وإذا اختبر بشيء من الشر يئس وقنط.
* * *
(وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50)
(وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي)
أي هذا واجب لي ، بعملي استحققته ، وهذا يعني به الكَافِرُونَ ، ودليل
ذلك قوله : (وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى).
يقول : إني لست أُوقِنُ بالبعث وقيام الساعة ، فإن كان الأمر على ذلك إن لي عنده للحسنى.
* * *
(وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51)
ويقرأ (ناء) والمعنى مُتَقَارِب ، يقول : إذا كان فيْ نعمةٍ تباعَدَ عن ذكر اللَّه
وَدُعَائِه
(وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ)
وعريضٌ ههنا كبير ، وكذلك لو كان ذو دعاء طويل كانَ معناه كبيرٌ.
* * *
وقوله : (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)
أي سنريهم الأعلام التي تدل على التوحيد في الآفاق ، وواحدها أُفُق.
يقول : سنريهم آثار مَن مَضَى قبلهم مِمنْ كَذبَ الرسُلَ من الأمم وآثرَ خلقِ اللَّه في كل البلاد
(وَفِي أَنْفُسِهِمْ) من أنهم كانوا نُطَفاً ثم عَلقَاً ثم مُضَغاً ثم عِظاماً

(4/391)


كُسِيَتْ لحماً ، ثم نقلوا إل التمييز والعقل ، وذلك كله دَليل على أن الذي فعله واحدٌ ليس كمثلِه شيء.
(أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ).
ويجوز " إنَّهُ " ، والقراءة " أنَّه " بالفتح.
وموضع (بِرَبِّكَ) في المعنى رفع.
المعنى أولم يكف رَبكَ
وموضع (أنه) نصب ، وإن شئتَ كانَ رفعاً.
المعنى في النصب أو لم يكف ربك بأنه على كل شيء شَهِيدٌ.
ومن رفع فعلى البدل ، المعنى أوَلم يكف أَنَ رَبَّكَ عَلَى كُلِ شَيء شَهِيدٌ ، أي أوَلم يكفهم شهادة ربِّك.
ومعنى الكفاية ههنا أنه قَد بَين لهم ما فيه كفاية في الدلاَلَةِ على تَوْحِيدِهِ وبينت
رُسُلُه (1).
* * *
(أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)
في شك.
(أَلَا) كلمة يبتدأ بها ينبَّهُ بِهَا المخاطب توكيداً يَدُلُّ عَلَى صحة
ما بعدها.
(أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ).
أي عالم بكل شيء علماً يحيطُ بما ظَهَر وَخَفِيَ.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ } فيه وجهان ، أحدهما : أن الباءَ مزيدةٌ في الفاعلِ ، وهذا هو الراجحُ . والمفعولُ محذوفٌ أي : أو لم يَكْفِكَ ربُّكَ . وفي قوله : { أَنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } وجهان ، أحدهما : أنه بدلٌ مِنْ « بربك » فيكون مرفوعَ المحلِّ مجرورَ اللفظِ كمتبوعِه . والثاني : أنَّ الأصلَ بأنَّه ، ثم حَذَفَ الجارَّ فجرى الخلافُ . الثاني من الوجهين الأولين : أَنْ يكون « بربك » هو المفعولَ ، وأنه وما بعده هو الفاعلُ أي : أو لم يكْفِ ربُّك شهادتَه . وقُرئ { أَنَّهُ على كُلِّ } بالكسر ، وهو على إضمارِ القولِ ، أو على الاستئناف . اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/392)


سُورَةُ الشُّورَى
حم عسق ، ( مَكِّيَّة )
بسم اللّه الرحمن الرحيم
قوله عزَّ وجلَّ : (حم (1) عسق (2)
قد بيَّنَّا حروف الهجاء ، وجاء في التفسير أن هذه الحروفَ اسم من
أسماء اللَّه ، ورويت حم سق - بغير عين - والمصاحف فيها العين بائنة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3)
وقرئت يُوحَى ، وقرئت نُوحِي إِليك وإلى الذين من قبلك بِالنونِ (1).
وجاء في التفسير أن " حم عسق " قد أوحِيَتُ إِلى كل نَبِي قبلَ محمد - صلى الله عليه - وعليهم أجمعين.
وموضع الكاف من " كذلك " نصبٌ.
المعنى مثل ذلك يوحى إِليك.
فمن قرأ يوحِي بالياء ، فاسم اللَّه عزَّ جل رفع بفعله وهو يُوحِي.
وَمَنْ قَرأَ . يُوحَى إليك فاسم اللَّه مبين عما لمَ يسم فاعله ، ومثل هذا من الشعْرِ.
لِيُبْكَ يزيدٌ ضارِعٌ لخُصُومةٍ . . . ومُخْتبِطٌ مما تُطِيحُ الطَّوائِحُ
فبين من ينبغي أن يبكيه.
ومن قرأ نُوحي إليك بالتون جعل نوحي إخباراً عن اللَّه - عزَّ وجلَّ -.
ورفع (اللَّهُ) بالابتداء وجعل (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) خبراً عن (اللَّهُ) ، وإن شاء كان
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { كَذَلِكَ يوحي } : القُراء على « يُوْحي » بالياء مِنْ أسفلَ مبنياً للفاعلِ ، وهو اللَّهُ تعالى . « والعزيزُ الحكيمُ » نعتان . والكافُ منصوبةُ المحلِّ : إمَّا نعتاً لمصدرٍ ، أو حالاً مِنْ ضميرِه أي : يوحي إيحاءً مثلَ ذلك الإِيحاءِ . وقرأ ابنُ كثير - وتُروى عن أبي عمروٍ - « يُوْحَى » بفتحِ الحاءِ مبنياً للمفعول . وفي القائمِ مَقامَ الفاعلِ ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : ضميرٌ مستترٌ يعود على « كذلك » لأنه مبتدأٌ ، والتقدير : مثلُ ذلك الإِيحاءِ يُوْحَى هو إليك . فمثلُ ذلك مبتدأٌ ، ويُوْحى هو إليك خبرُه . الثاني : أنَّ القائمَ مقامَ الفاعلِ « إليك » ، والكافُ منصوبُ المحلِّ على الوجهَيْن المتقدِّمَيْن . الثالث : أنَّ القائمَ [ مَقامَه ] الجملةُ مِنْ قولِه : « اللَّهُ العزيزُ » أي : يُوْحَى إليك هذا اللفظُ . وأصولُ البَصْريين لا تساعِدُ عليه؛ لأنَّ الجملةَ لا تكونُ فاعلةً ولا قائمةً مقامَه.
وقرأ أبو حيوةَ والأعمشُ وأبانٌ « نُوْحي » بالنون ، وهي موافقةٌ للعامَّةِ . ويُحتمل أَنْ تكونَ الجملةُ مِنْ قولِه : « اللَّهُ العزيزُ » منصوبةَ المحلِّ مفعولةً ب « نُوْحي » أي : نُوحي إليك هذا اللفظَ . إلاَّ أنَّ فيه حكايةَ الجملِ بغيرِ القولِ الصريحِ . و « نُوْحي » على اختلافِ قراءاتِه يجوزُ أَنْ يكونَ على بابه من الحالِ أو الاستقبالِ ، فيتعلَّقَ قولُه : { وَإِلَى الذين مِن قَبْلِكَ } بمحذوفٍ لتعذُّرِ ذلك ، تقديرُه : وأوحَى إلى الذين ، وأَنْ يكونَ بمعنى الماضي . وجيْءَ به على صورةِ المضارعِ لغَرَضٍ وهو تصويرُ الحالِ.
قوله : « اللَّهُ العزيزُ » يجوزُ أَنْ يرتَفِعَ بالفاعليةِ في قراءةِ العامَّةِ ، وأَنْ يرتفعَ بفعلٍ مضمرٍ في قراءةِ ابنِ كثير ، كأنه قيل : مَنْ يُوْحيه؟ فقيل : اللَّه ، ك { يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال } [ النور : 36 ] ، وقوله :
3964 لِيُبْكَ يزيدُ ضارِعٌ . . . . . . . . . . . .
وقد مرَّ ، وأَنْ يرتفعَ بالابتداءِ ، وما بعدَه خبرُه ، والجملةُ قائمةٌ مَقامَ الفاعلِ على ما مَرَّ ، وأَنْ يكون « العزيزُ الحكيمُ » خبَريْن أو نعتَيْن . والجملةُ مِنْ قولِه : { لَهُ مَا فِي السماوات } خبرٌ أولُ أو ثانٍ على حَسَبِ ما تقدَّم في « العزيزُ الحكيمُ ».
وجوَّز أبو البقاءِ أَنْ يكونَ « العزيز » مبتدأً و « الحكيمُ » خبرَه ، أو نعتَه ، و { لَهُ مَا فِي السماوات } خبرَه . وفيه نظرٌ؛ إذ الظاهرُ تَبَعيَّتُهما للجلالة . وأنت إذا قلتَ : « جاء زيدٌ العاقلُ الفاضلُ » لا تجعلُ العاقل مرفوعاً على الابتداء . اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/393)


(الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) صفة للَّهِ - عزَّ وجلَّ - يرتفع كما يرتفع اسم اللَّه ، ويكون
الخبر (لَهُ مَا في السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأرْضِ).
* * *
قوله : (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5)
(تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَنْفَطِرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ)
وقرئت مِمَّنْ فَوْقَهُن ، وقرئت (يَتَفَطَّرْنَ) ، ومعنى يَنْفَطِرنَ ويتفطرن
يَنْشَقِقْن ، ويَتَشَققْنَ ، فالمعنى - واللَّه أعلم - أي تكاد السَّمَاوَاتُ ينفطرن من
فوقهن لعظمة اللَّه. لأنه لما قال : (وَهُوَ العَلِيُّ العَظِيمُ).
قال : تكاد السَّمَاوَات ينفطِرْنَ لعَظمِتِه ، وكذلك - ينفطرن ممن فوقَهِن ، أي من عظمة من فوقَهُن.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ).
مَعنَى (يُسَبِّحُونَ) يعظمون اللَّه وينزهونه عن السوء
(وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ) من المؤمنين.
ولا يجوز أن يكون يَسْتَغْفِرُونَ لكل من في الأرض ، لأن الله تعالى قال فِي الكفار : (أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّه وَالمَلَائِكَةِ والنَّاسِ أجْمَعِينَ)
ففي هذا دليل على أن الملائكة إنما يستغفرون للمؤمنين ، ويدل
على ذلك قوله في سورة المُؤمِن : (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ
(7)
(أُمَّ الْقُرَى) مكة ، وموضع (وَمَنْ حَوْلَهَا) نصب.
المعنى لتنذر أهل أم القرى ومن حولها ، لأن البلد لا يعقل.
ومثل هذا (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا).
وقوله : (وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ).
أي يوم يبعث الناس جَميعاً ، ثم أَعلم مَا حَالُهم في ذَلِكَ اليوم فقال :
(فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ).

(4/394)


وقوله جلَّ وعزَّ : (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (8)
ارتفع (الظَّالِمُونَ) بالابتداء.
وقوله : (يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (31).
الفصل بين هذا والأول أن أَعد لهم فِعل فنصب (الظالمين) بفعل مضمر يفسره
ما ظهر ، المعنى وَأوعد الظالمين أعد لهم عذاباً أليماً.
* * *
وقوله : (فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)
(جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا).
أي خلق الذكَرَ والأنْثَى مِنَ الحَيَوانِ كُلِّهِ.
وقوله : (يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ).
أي يُكَثركم بِجَعْلِهِ منكم وَمنَ الأنْعَامِ أزواجاً.
وقوله : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ).
هذه الكاف مؤكَدة ، والمعنى ليس مثله شيء ، ولا يجوز أن يقال :
المعنى مثلَ مثلِهِ شيء ، لأن من قال هذا فقد أثبت المثل للَّهِ تعالى عن ذلك
عُلُوًّا كَبيراً (1).
* * *
قوله : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13)
روي في التفسير أن أول من أتى بتحريم البنات والأخَوَات والأمهات نوح.
(وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى).
أي وشرع لكم ما وصى به إبراهيم وموسى وعيسى.
وقوله عزَّ وَجَل : (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ).
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { فَاطِرُ } : العامَّةُ على رفعِه خبراً ل « ذلكم » أو نعتاً ل « ربِّي » على تَمَحُّضِ إضافتِه . و « عليه توكَّلْتُ » معترضٌ على هذا ، أو مبتدأ ، وخبرُه « جَعَلَ لكم » أو خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي : هو . وزيد بن علي : « فاطرِ » بالجرِّ نعتاً للجلالةِ في قوله : « إلى اللَّهِ » ، وما بينهما اعتراضٌ أو بدلاً مِن الهاء في « عليه » أو « إليه ».
وقال مكيٌّ : « وأجاز الكسائيُّ النصبَ على النداء » . وقال غيرُه : على المدح . ويجوزُ في الكلامِ الخفضُ على البدلِ من الهاءِ في « عليه » . قلت : قد قرأ بالخفضِ زيدُ بن علي . وأمَّا نصبُه فلم أحفَظْه قراءةً.
قوله : « يَذْرَؤُكُمْ فيه » يجوزُ أَنْ تكونَ « في » على بابِها . والمعنى : يُكَثِّرُكُمْ في هذا التدبير ، وهو أنْ جَعَلَ للناسِ والأنعام أزواجاً حتى كان بين ذُكورِهم وإناثِهم التوالُدُ . والضميرُ في « يَذرَؤُكم » للمخاطبين والأنعامِ . وغَلَّب العُقلاءَ على غيرِهم الغُيَّبِ . قال الزمخشري : « وهي/ من الأحكامِ ذاتِ العلَّتَيْن » . قال الشيخ : « وهو اصطلاحٌ غريبٌ ، ويعني : أنَّ الخطابَ يُغَلَّبُ على الغَيْبة إذا اجتمعا » . ثم قال الزمخشريُّ : « فإنْ قلت : ما معنى يَذْرَؤُكم في هذا التدبيرِ؟ وهلا قيل يَذْرَؤُكم به . قلت : جُعِل هذا التدبيرُ كالمَنْبَع والمَعدِنِ للبَثِّ والتكثيرِ . ألا تَراك تقول : للحَيَوان في خلق الأزواج تكثير ، كما قال تعالى : { وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ } [ البقرة : 179 ] . والثاني : أنها للسببية كالباء أي : يُكَثِّرُكم بسبِبه . والضميرُ يعودُ للجَعْلِ أو للمخلوقِ ».
قوله : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } في هذه الآيةِ أوجهٌ ، أحدُها - وهو المشهورُ عند المُعْرِبين - أنَّ الكافَ زائدةٌ في خبرِ ليس ، و « شيءٌ » اسمُها . والتقدير : ليس شيءٌ مثلَه . قالوا : ولولا ادِّعاءُ زيادتِها لَلَزِمَ أَنْ يكونَ له مِثْلٌ . وهو مُحالٌ؛ إذ يَصيرُ التقديرُ على أصالةِ الكاف : ليس مثلَ مثلِه شيءٌ ، فنفى المماثلةَ عن مثلِه ، فثبَتَ أنَّ له مثْلاً ، لا مثلَ لذلك المَثَلِ ، وهذا مُحالٌ تَعالى اللَّه عن ذلك.
وقال أبو البقاء : « ولو لم تكنْ زائدةً لأَفْضَى ذلك إلى المُحال؛ إذ كان يكونُ المعنى : أنَّ له مِثْلاً وليس لمثلِه مِثْلٌ . وفي ذلك تناقضٌ؛ لأنَّه إذا كان له مِثْلٌ فلِمِثْله مِثْلٌ وهو هو ، مع أنَّ إثباتَ المِثْلِ لله تعالى مُحالٌ » . قلت : وهذه طريقةٌ غريبةٌ في تقريرِ الزيادةِ ، وهي طريقةٌ حسنةٌ فيها حُسْنُ صناعةٍ.
والثاني : أنَّ مِثْلاً هي الزائدةُ كزيادتِها في قوله تعالى : { بِمِثْلِ مَآ آمَنْتُمْ بِهِ } [ البقرة : 137 ] . قال الطبري : « كما زِيْدَتِ الكافُ في قوله :
3966 وصَالياتٍ كَكَما يُؤَثْفَيْنْ . . .
وقولِ الآخر :
3967 - فصُيِّروا مثلَ كعَصْفٍ مَأْكُوْلْ . . . وهذا ليس بجيدٍ؛ لأنَّ زيادةَ الأسماءِ ليسَتْ بجائزةٍ . وأيضاً يصيرُ التقديرُ ليس ك هو شيءٌ ، ودخولُ الكافِ على الضمائرِ لا يجوزُ إلاَّ في شعرٍ.
الثالث : أنَّ العربَ تقولُ « مثلُكَ لا يَفْعَلُ كذا » يعْنُون المخاطبَ نفسَه؛ لأنَّهم يُريدون المبالغةَ في نَفْيِ الوصفِ عن المخاطب ، فينفونَها في اللفظِ عن مثلِه ، فَيَثْبُتُ انتفاؤُها عنه بدليلِها . ومنه قول الشاعر :
3968 على مِثْلِ ليلى يَقْتُل المرءُ نفسَه . . . وإنْ باتَ مِنْ ليلى على اليأس طاويا
وقال أوس بن حجر :
3969 ليس كمثلِ الفتى زُهَيْرٍ . . . خَلْقٌ يُوازِيه في الفضائلِ
وقال آخر :
3970 سَعْدُ بنُ زيدٍ إذا أبصرْتَ فضلَهُمُ . . . فما كمِثْلِهِمْ في الناسِ مِنْ أَحَدِ
قال ابن قتيبة : « العرب تُقيم المِثْلَ مُقامَ النفسِ فتقول : مثلي لا يُقال له هذا ، أي : أنا لا يُقال لي » . قيل : و [ نظيرُ ] نسبةُ المِثْل إلى مَنْ لا مِثْل له قولُك : فلانٌ يدُه مبسوطةٌ تريد أنه جَوادٌ ، ولا نَظَرَ في الحقيقة إلى اليد ، حتى تقولُ ذلك لمَنْ لا يَدَ له كقولِه تعالى : { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } [ المائدة : 64 ].
الرابع : أَنْ يُرادَ بالمِثْلِ الصفةُ ، وذلك أنَّ المِثْلَ بمعنى المَثَلَ والمَثَلُ الصفةُ ، كقولِه تعالى : { مَّثَلُ الجنة } [ الرعد : 35 ] فيكونُ المعنى : ليس مِثْلُ صفتِه تعالى شيءٌ من الصفات التي لغيرِه ، وهو مَحْمَلٌ سهلٌ . اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/395)


تفسير قوله : (ما وَصى بِهِ إبْرَاهِيمَ) - وموضع " أن " يجوز أن يكونَ نَصْباً
وَرَفْعاً وَجَرَّا.
فالنصْبُ على معنى شرع لكم أن أقيموا الدِّينَ.
والرفع على معنى هو أن أقيموا الدِّينَ ، والجر على البدل من الباء ، والجر أَبْعَدُ هذه الوُجُوه ، وجائز أن يكونَ أن أقيموا الدِّينَ تفسيراً لما وصى به نوحاً ولقوله (والذي أوحينا إليك) ولقوله : (وما وَصيْنَا بِهِ إبرَاهِيم).
فيكون المعنى : شرع لكم وَلمَنْ قبلكم إقامة الدِّينِ وَتَركَ الفرقة ، وشرع الاجتماع على اتباع الرسُلِ
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14)
أي وما تفرق أهل الكتاب إلا عَنْ علْم بأن الفرقة ضَلاَلَةٌ ولكنهم فعلوا
ذلك بغياً أي للبغي.
وقوله : (وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ).
أي لَجُوزُوا بأعمالهم ، والكلمة هي تأجيله الساعة ، يدل على ذلك
قوله : (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ).
* * *
وقوله : (فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15)
(فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ).
معناه فإلى ذلك فادع واستقم أي إلى إقامَةِ الدِّين (فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ).
أي آمَنْتُ بكتب اللَّه كُلِّهَا ، لأن الذين تفرقوا آمنوا ببعض الكتب وكفروا
ببعض.
* * *
وقوله : (اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17)
(الْمِيزَان) العدل
(وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ).
إنما جاز (قَرِيبٌ) لأن تأنيث الساعة غير تأنيث حقيقي ، وهو بمعنى لعل

(4/396)


البعث قريب ، ويجوز أن يكون على معنى لعَل مجيء السَّاعَةِ قريب.
(يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (18)
أي يستعجل بها من يظن أنه غير مبعوث.
وقوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا).
لأنهم يعلمون أنهم مبعوثون مُحَاسبُون.
(أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ).
أي الذين تدخلهم المرية والشك في الساعة ، فيمارون فيها ويجحدون
كونها (لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ) ، لأنهم لو فكروا لعلموا أن الذي أنشاهم وخلقهم من تراب ثم من نطفة ثم من عَلَقةٍ إلى أن بَلَغُوا مَبَالِغَهُمْ ، قادر على إنشائهم
وبعْثِهِمْ.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20)
جاء في التفسير أن معناه مَنْ كان يُرِيدُ عمل الآخرة.
فالمعْنَى - واللَّه أعلم - أنه من كان يريد جَزاءَ عمل الآخرة نزِدْ له في حرثه ، أي نوفقه ، ونضاعف له الحسنات.
ومن كان يُريدُ حرث الدنيا ، أي مَنْ كَانَ إنما يقْصِدُ إلى الحظِّ من
الدنيا وهو غير مؤمن بالآخرة نؤته من الدنيا أي نرزُقه من الدنيا لا أنه يُعطَى
كل ما يريدُهُ وإذا لم يؤمن بالآخرة فلا نصيب له في الخير الذي يصل إليه من
عمل الآخرة.
* * *
وقوله : (تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22)
أي تراهم مشفقين من ثواب ما كسبوا ، وثواب ما كسبوا النار.
(وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ) أي وثواب كسْبِهِمْ وَاقِعٌ بِهِمْ .

(4/397)


(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ).
أي : والظالِمُونَ لهم النار ، والمؤمنون لهم الجنة.
* * *
وقوله : (ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23)
يقرأ : يُبَشِّرُ ويَبْشرُ ، وُيبْشِرُ
وقوله : (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى).
أي إلا أن تودوني في قرابتي.
وجاء في التفسير عن ابن عباس رحمه الله أنه قال : ليس حي من قريش إلا وللنبي - صلى الله عليه وسلم - فيه قرابة ، وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لقريش : أنتم قرابتي وأول من أجابني وأَطَاعَنِي ، وروي أن الأنصار أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت : قد هدانا اللَّه بك وأنْتَ ابن أختنا ، وأتوه بنفقة يستعين بها على ما ينوبه ، فأنزل اللَّه عزَّ وجلَّ : (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى).
قال أبو إسحاق : وَنَصْبُ (الْمَوَدَّةَ) أن يكون بمعنى استثناء ليس من الأول.
لا على معنى أسالكم عليه أجراً المودة في القُرْبَى ، لأن الأنبياء صلوات اللَّه
عليهم لا يسألون أجراً على تبليغ الرسالة ، والمعنى - واللَّه أعلم - ولكنني
أذكركم الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى.
قوله : (وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا).
أي من يعمل حسنة نضاعِفْها له (1).
(إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ).
غفور للذنوب قبول للتوبة مثيب عليها.
* * *
وقوله - عزَّ وجلَّ - : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (24)
__________
(1) قال السَّمين :
قوله « إلاَّ المودَّةَ » فيها قولان ، أحدهما : أنَّها استثناءٌ منقطعٌ؛ إذ ليسَتْ من جنسِ الأَجْرِ . والثاني : أنه متصلٌ أي : لا أسألُكم عليه أجراً إلاَّ هذا . وهو أَنْ تَوَدُّوا أهلَ قرابتي ولم يكنْ هذا أجراً في الحقيقةِ؛ لأنَّ قرابتَه قرابتُهم فكانت صلتُهم لازمةً لهم في المروءةِ ، قاله الزمخشري . وقال أيضاً : « فإنْ قلت : هلاَّ قيل : إلاَّ مودةَ القُرْبَى ، أو إلاَّ المودةَ للقُرْبى . قلت : جُعِلوا مكاناً للمودَّةِ ومَقَرًّا لها كقولِك : لي في آل فلان مَوَدَّة ، وليست » في « صلةً للمودةِ كاللامِ إذا قلتَ : إلاَّ المودةَ للقربى ، إنما هي متعلقةٌ بمحذوفٍ تَعَلُّقَ الظَرفِ به في قولك : » المالُ في الكيس « ، وتقديرُه : إلاَّ المودةَ ثابتةً في القُرْبَى ومتمكنةً فيها » . قلت : وأحسنُ ما سَمِعْتُ في معنى هذه الآيةِ حكايةُ الشعبيِّ قال : أَكْثَرَ الناسُ علينا في هذه الآيةِ فكتَبْنا إلى ابن عباس نسألُه عنها . فكتب : أنَّ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم كان أوسطَ الناسِ في قريش ، ليس بطنٌ مِنْ بطونهم إلاَّ قد وَلَدَه ، فقال الله تعالى : قل لا أسألُكم عليه أَجْراً إلاَّ أن تَوَدُّوني في قَرابتي منكم فارْعَوْا ما بيني وبينكم فصَدِّقوني.
وقال أبو البقاء : « وقيل : متصلٌ أي/ : لا أسألكم شيئاً إلاَّ المودةَ » . قلت : وفي تأويلِه متصلاً بما ذَكَر ، نظرٌ لمجيئه ب « شيء » الذي هو عامٌّ ، وما مِنْ استثناءٍ منقطع إلاَّ ويمكن تأويلُه بما ذَكَر ، ألا ترى إلى قولِك : « ما جاءني أحدٌ إلاَّ حمارٌ » أنه يَصِحُّ : ما جاءني شيءٌ إلاَّ حماراً.
وقرأ زيد بن علي « مَوَدَّة » دون ألفٍ ولام.
قوله : { نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً } العامَّةُ على « نَزِدْ » بالنون للعظمة . وزيد ابن علي وعبدُ الوارث عن أبي عمروٍ « يَزِدْ » بالياءِ مِنْ تحتُ أي : يَزِدِ اللَّهُ . والعامَّةُ على « حُسْناً » بالتنوين مصدراً على فُعْل نحو : شُكْر . وهو مفعولٌ به . وعبدُ الوارث عن أبي عمرو « حُسْنى » بألفِ التأنيث على وزنِ بُشْرَى ورُجْعَى وهو مفعولٌ به أيضاً . ويجوز أَنْ يكونَ صفةً ك فُضْلَى ، فيكونَ وصفاً لمحذوف أي خَصْلَةً حسنى . اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/398)


معناه فإن يشأ اللَّه يُنْسِكَ ما أتاك ، كذلك قال قتادة.
ويجوز (فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ) يربط على قلبك بالصبر على أذاهم وعلى قولهم (افترى على اللَّه كَذِباً).
(ويمحو اللَّه الباطل) ، الوقوف عليها (ويمحوا) بواو وألف لأن المعنى واللَّه يمحو الباطل على كل حال ، وكتبت في المصحف بغير واو لأن الواو تسقط في اللفظ لالتقاء السَّاكنين ، فكتبت على الوصل.
ولفظ الواو ثابت ، والدليل عليه (ويحق الحق بكلماته) ، أي ويمحو اللَّه الشرك ويحق الحق بما أنزله من كتابه على لسان نبيِّهِ عليه السلام.
* * *
وقوله : (وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (26)
المعنى ويجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات.
* * *
قوله عزَّ وجلَّ : (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28)
ويقرأ (قَنِطُوا) بكسر النون ، يقال قَنط يقنِطُ ، وقَنِطَ يَقْنَطُ إذا - يئس.
ويروى أن عمر قيل له قد أَجْدَبَتِ الأرض وَقَنِط الناسُ فقال : مُطِرُوا
إذَنْ ، لهذه الآية.
* * *
وقوله : (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)
(وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا . . . ).
وهي في مصحف أهل المدينة (بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) - بغَيرِ فَاء - ، وكذلك
يقرأونها خلا أَبَا جَعفر فإنه يثبت الفاء وهي في مصاحف أهل العراق بالفاء.
وكذلك قراءتهم ، وهو في العربية أجود لأن الفاء مجازاة جواب الشرط.
المعنى ما تُصِبْكُمْ من مُصِيبَةٍ فبما كسبت أيديكم.
وقرئت (ويعْلَمُ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ) والنصب على إضمار أن (1) ، لأن قبلها جزاء ، تقول : ما تصنع أصنع مثله وأُكْرِمَكَ ، وإن شئت قلت وَأُكْرِمُكَ على وَأَنا أكرمك ، وإن شئت : وَأُكْرِمْكَ جزماً.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { وَيَعْلَمَ الذين يُجَادِلُونَ } : قرأ نافعٌ وابنُ عامر برفعِه . والباقون بنصبِه . وقُرِئ بجزمِه أيضاً . فأمَّا الرفعُ فهو واضحٌ جداً ، وهو يحتملُ وجهين : الاستئنافَ بجملةٍ فعليةٍ ، والاستئنافَ بجملةٍ اسميةٍ ، فتُقَدِّرُ قبل الفعل مبتدأً أي : وهو يعلمُ الذين ، فالذين على الأول فاعلٌ ، وعلى الثاني مفعولٌ . فأمَّا قراءةُ النصبِ ففيها أوجهٌ ، أحدُها : قال الزجَّاج : « على الصَّرْف » . قال : « ومعنى الصرفِ صَرْفُ العطف عن اللفظ إلى العطفِ على المعنى » . قال : « وذلك أنَّه لَمَّا لم يَحْسُنْ عطفُ » ويعلَمْ « مجزوماً على ما قبلَه إذ يكونُ المعنى : إنْ يَشَأْ/ يَعْلَمْ ، عُدِل إلى العطف على مصدرِ الفعلِ الذي قبلَه . ولا يتأتَّى ذلك إلاَّ بإضمار » أنْ « ليكونَ مع الفعلِ في تأويلِ اسم ».
الثاني : قولُ الكوفيين أنه منصوبٌ بواوِ الصرف . يَعْنُون أنَّ الواوَ نفسَها هي الناصبةُ لا بإضمارِ « أنْ » ، وتقدَّم معنى الصرف.
الثالث : قال الفارسيُّ - ونقله الزمخشري عن الزجاج - إن النصب على إضمار « أنْ »؛ لأنَّ قبلها جزاءً تقول : « ما تصنعْ أصنعْ وأكرمَك » وإنْ شِئْتَ : وأكرمُك ، على وأنا أكرِمُك ، وإنْ شِئْتَ « وأكرمْك » جزْماً . قال الزمخشري : « وفيه نظرٌ؛ لِما أَوْردَه سيبويه في كتابه » قال : « واعلَمْ أنَّ النصبَ بالواوِ والفاء في قوله : » إنْ تَأْتِني آتِك وأعطيكَ « ضعيفٌ ، وهو نحوٌ مِنْ قولِه :
3978 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وأَلْحَقُ بالحجازِ فَأَسْتريحا
فهذا لا يجوزُ ، لأنه ليس بحَدِّ الكلامِ ولا وجهِه ، إلاَّ أنه في الجزاء صار أقوى قليلاً؛ لأنه ليس بواجبٍ أنَّه يفعلُ ، إلاَّ أَنْ يكونَ من الأولِ فِعْلٌ ، فلمَّا ضارَعَ الذي لا يُوْجِبُهُ كالاستفهام ونحوِه أجازوا فيه هذا على ضَعْفِه » . قال الزمخشري : « ولا يجوزُ أَنْ تُحْمَلَ القراءةُ المستفيضةُ على وجهٍ ليس بحَدِّ الكلامِ ولا وجهِه ، ولو كانَتْ من هذا البابِ لَما أَخْلَى سيبويه منها كتابَه ، وقد ذَكَرَ نظائرَها مِن الآياتِ المُشْكِلة ».
الرابع : أَنْ ينتصِبَ عطفاً على تعليلٍ محذوفٍ تقديرُه : لينتقمَ منهم ويعلمَ الذين ، ونحوُه في العطفِ على التعليلِ المحذوفِ غيرُ عزيزٍ في القرآن . ومنه : { وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلْنَّاسِ } [ مريم : 21 ] وخَلَق اللَّهُ السماواتِ والأرضَ بالحقِّ ، ولِتُجْزَى « قاله الزمخشري . قال الشيخ : » ويَبْعُدُ تقديرُه : لِيَنْتَقِمَ منهم؛ لأنه تَرَتَّبَ على الشرطِ إهلاكُ قومٍ ونجاةُ قومٍ فلا يَحْسُنُ لينتَقِمَ منهم . وأمَّا الآيتان فيمكنُ أَنْ تكونَ اللامُ متعلقةً بفعلٍ محذوفٍ تقديرُه : ولنجعلَه آيةً للناسِ فَعَلْنا ذلك ، ولُتْجزَى كلُّ نفسٍ فَعَلْنا ذلك ، وهو - كثيراً - يُقَدِّرُ هذا الفعل مع هذه اللامِ إذا لم يكنْ فعلٌ يتعلَّقُ به « . قلت : بل يَحْسُنُ تقديرُ » لينتقمَ « لأنَّه يعودُ في المعنى على إهلاكِ قومٍ المترتبِ على الشرط.
وأمَّا الجزمُ فقال الزمخشري : » فإنْ قلتَ : كيف يَصِحُّ المعنى على جزم « ويعلَمْ »؟ قلت : كأنه قيل : إنْ يَشَأْ يَجْمَعْ بين ثلاثةِ أمور : إهلاكِ قومٍ ، ونجاةِ قومٍ ، وتحذيرِ آخرين « . وإذا قُرِئَ بالجزم فتُكْسَرُ الميمُ لالتقاءِ الساكنين. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/399)


وروي عن علي رضي اللَّه عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : إن اللَّه أكرم من أن يَثْنيَ على عبده العُقوبَةَ ، أي إذا أصابته في الدنيا مصيبة بما كسبت يداه لم يثن عليه العقوبة في الآخرة.
وأما من قرأ : (وما أصابكم مِنْ مُصِيبَةٍ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكم ويعفو عن كثير)
أي لا يجازى على كثير مما كسبت أيديكم قي الدنيا ، وجائز أن يكون
(يَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) فلا يجازى عليه في الدنيا ولا في الآخرة.
ومعنى : (مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ).
ما لهم من مَعْدِلٍ ، ولا مِنْ مَنجى ، يقال حاص عنه إذا تنحى ، ويقال
حاض عنه في معنى حاص ، ولا يجوز أن يقرأ ما لهم من محيض ، وأن كان
المعنى واحداً.
فأمَّا موضع (الذين) في قوله : (وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) فيجوز أن يكون نصباً ، ويجوز أن يكون رفعاً.
فمن نصب فعلي معنى ويجيب اللَّه الذين آمنوا وعملوا الصالحات.
ومن رفع فعلى معنى يستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات للَّهِ - عزَّ وجلَّ - أي لما يدعوهم اللَّه إليه.
* * *
وقوله : (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37)
موضع (الَّذِينَ) خفض صفة لقوله (لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ).
و (كَبَائِرَ الْإِثْمِ) ، قال بعضهم كل ما وعد اللَّه عليه النار فهو كبيرة.
وقيل الكبائر من أول سورة النساء من قوله : (وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ)
إلى قوله : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ).
وقد قيل : الكبائر الشرك باللَّهِ ، وقتل النفس التي حرم اللَّه ، وقذف المحصنات ، وعقوق الوالدين ، وأكل مال اليتيم ، والفرار من الزحف ، واستحلال الحرام.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38)

(4/400)


(الذين) في موضع خفض أيضاً ، على معنى وما عند اللَّهِ خَيْرٌ وأبقى
للذين آمنوا وللذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة.
وقوله : (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ).
أي لا ينفردون برأي حتى يجتمعوا عليه ، وقيل إنه ما تشاور قوم قَط - إلا
هُدُوا لأحسن ما يحضرهم.
* * *
(وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39)
جاء في التفسير أنهم كانوا يكرهون أَنْ يَذلوا أَنْفُسَهُم . فيجترئ عليهم
الفساق.
وروي أنها نزلت في أبي بكر الصديق.
فإن قال قائل : أهم محمودون على انتصارهِم أم لا ؟
قيل هم محمودون ؛ لأن من انتصر فأخذ بحقه ولم يجاوز في ذلك ما أمر اللَّه به فلم يُسْرِفْ في القتل إن كان ولي دم ولا في قصاص فهو مطيع للَّهِ عزَّ وجلَّ ، وكل مطيع محمود ، وكذلك من اجتنب المعاصي فهو محمود ، ودليل ذلك قوله : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31).
* * *
وقوله : (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40)
فالأولى (سيئة) في اللفظ والمعنى ، والثانية (سيئة) في اللفظ ، عاملها ليس
بمسيء ، ولكنها سميت سيئة لأنها مجازاة لسوء فإنما يجازي السوء بمثله.
والمجازاة به غيْرُ سيّئة توجب ذَنْباً ، وَإنَّمَا قيل لها سيئة ليعلم أَن الجَارِحَ
والجاني يُقْتَص مِنْهُ بمقدار جنايته.
وهذا مثل قوله تعالى : (فَمِن اعتدى عليكم فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) تأويله كافئوه بمثله ، وعلى هذا كلام العرب.
* * *
وقوله : (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)

(4/401)


أي الصابر يؤتى بصبره ثواباً فكل من زادت رغبته في الثواب فهو أتمُّ
عَزْم ، وقد قال بعض أهل اللغة إن معنى قوله تعالى : (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) أن منه القصاصَ والعفوَ.
فالعفو أحسنه (1).
* * *
وقوله تعالى : (وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ (45)
(يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ).
يعني ينظرون إلى النار من طرف خَفِي ، قال بعضهم إنهم يُحْشرونَ
عُمْياً فيرونَ النارَ بِقُلوِبهِمْ إذا عُرِضُوا عَلَيْها ، وقيل ينظرونَ إليها مُسَارَقَة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47)
(مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ).
أي ليس لكم مَخلَصٌ من العَذَابِ ، ولا تَقْدِرُون أن تنكروا ما تقفون
عليه مِنْ ذُنُوبَكُمْ ولا ما يَنْزِلُ بِكُمْ مِنَ العَذَابِ.
* * *
وقوله : (يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50)
أي ويجعل ما يهبه من الولد ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا.
فمعنى (يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا) أي يُقْرِنُهُمْ ، وكل اثنين يقترن أحدُهما بالآخر فهما زوجان ، كل واحد منهما يقال له زوج.
تقول : عندي زوجان من الخفاف ، يعني أن عندك من العدد
اثنين أي خُفيْن ، وكذلك المرأة وزوجها زوجان (2).
وقوله : (وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا).
أي يجعل المرأة عقيماً ، وهي - التي لا تَلِدُ ، وكذلك رَجُلُ عقيم أيْضاً لا
يولد له ، وكذلك الريح العقيم التي لا يكون عنها مطر وَلَا خيْر.
* * *
وقوله : (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51)
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { وَلَمَن صَبَرَ } : الكلامُ في اللام بَيِّنٌ كما تقدَّم . فإنْ جَعَلْتَها شرطيةً ف « إنَّ » جوابُ القسمِ المقدَّر ، وحُذِفَ جوابُ الشرطِ للدلالةِ عليه . وإنْ كانَتْ موصولةً كان « إنَّ ذلك » هو الخبرُ . وجَوَّز الحوفي وغيرُه أن تكونَ « مَنْ » شرطيةً ، وأنَّ ذلك جوابُها على حَذْفِ الفاء على حَدِّ حَذْفِها في البيت المشهور :
3979 مَنْ يَفْعَلِ الحَسَناتِ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وفي الرابط قولان ، أحدُهما : هو اسمُ الإِشارةِ إذا أُريد به المبتدأُ ، ويكون حينئذٍ على حَذْفِ مضافٍ ، تقديره : إنَّ ذلك لَمِنْ ذوي عَزْمِ الأمور والثاني : أنه ضميرٌ محذوفٌ تقديرُه : لمِنْ عَزْمِ الأمورِ منه ، أوله . وقولُه : « ولَمَنْ صَبَرَ » عطفٌ على قولِه : « ولَمَنِ انتصَرَ » . والجملةُ مِنْ قولِه : « إنما السبيلُ » اعتراضٌ . اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(2) قال السَّمين :
قوله : { ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً } : حالٌ ، وهي حالٌ لازمةٌ ، وسَوَّغ مجيْئَها كذلك : أنَّها بعدما يجوزُ أَنْ يكونَ الأمرُ على خلافه؛ لأنَّ معنى « يُزَوِّجُهم » يَقْرِنُهم . قال الزمخشري : « فإنْ قلتَ : لِمَ قَدَّم الإِناثَ أولاً على الذكورِ مع تقديمِهم عليهنَّ ، ثم رَجَعَ فقدَّمَهم؟ ولِمَ عَرَّف الذكورَ بعدما نَكَّر الإِناثَ؟ قلت : لأنَّه ذكر البلاءَ في آخر الآية الأولى ، وكفرانَ الإِنسان بنسيانِه الرحمةَ السابقةَ ، ثم عَقَّبَ بذِكْر مُلْكِه ومشيئتِه وذكرَ قسمةَ الأولادِ فقدَّم الإِناثَ؛ لأنَّ سياق الكلامِ أنه فاعلُ ما يشاءُ لا ما يشاؤه الإِنسانُ ، فكان ذِكْرُ الإِناثِ التي مِنْ جملة ما لا يَشاؤه الإِنسانُ أهمَّ ، والأهمُّ واجبُ التقديمِ ، ولِيَليَ الجنسَ الذي كانت العربُ تَعُدُّه بلاءً ، ذكر البلاء ، وأخَّر الذكورَ ، فلمَّا أَخّرهم تدارَك تأخيرَهم وهم أَحِقَّاءُ بالتقديم بتعريفَهم؛ لأنَّ تعريفَهم فيه تَنْويهٌ وتشهيرٌ ، كأنه قال : ويَهَبَ لمَنْ يشاءُ الفرسانَ الأعلامَ المذكورين الذين لا يَخْفَوْن عليكم ، ثم أعطى بعد ذلك كلا الجنسَيْن حقَّه من التقديمِ والتأخيرِ ، وعَرَّفَ أنَّ تقديمَهن لم يكُنْ لتقدُّمِهنَّ ولكنْ لمقتضٍ آخر ، فقال : ذُكْراناً وإناثاً ، كما قال : { إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وأنثى } [ الحجرات : 13 ] { فَجَعَلَ مِنْهُ الزوجين الذكر والأنثى } [ القيامة : 39 ] . اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/402)


يقرأ (أَوْ يُرْسِلُ) برفع . (يُرْسِلُ)
و (فيوحِي) بإسكان الياء.
والتفسير أن كلام الله للبشر إما أن يكون برسالة مَلَكٍ إليْهِمْ كما أرسل إلى أنبيائه ، أو من وراء حجاب كما كلم موسى عليه السلام ، أو بإلهام يُلْهِمُهُمْ.
قال سيبويه : سَألت الخليلَ عن قوله تعالى (أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا) بِالنصْبِ.
فقال : (يُرْسِل) محمول على " أن يوحي " هذه التي في قوله أن يكلمَهُ اللَّه.
قال لأن ذلك غير وجه الكلام لأنه يصرف المعنى : ما كان لبشر أن يرسل اللَّه رسولا ، وذلك غير جائز ، لأن ما نرسل محمول على وحي.
المعنى ماكان لبشر أن يكلمه اللَّه إلا بأن يوحي أو أن يرسل.
ويجوز الرفع في (يُرْسِلُ) على معنى الحال ، ويكون المعنى : ما كان
لبشر أن يكلمه اللَّه إلا موحياً أو مرسلاً رسولًا كذلك كلامُهُ إيَّاهُمْ.
قال الشاعر :
وخيل قد دَلَفْتُ لها بخيلٍ . . . تحية بينهم ضربٌ وجيعُ
ومثل قوله : (أَوْ يُرْسِلَ) بالنصب قوله الشاعر :
ولولا رجالٌ من رِزامٍ أَعِزَّةٌ وآلُ سُبَيْعٍ أو أََسُوءَكَ عَلْقَما
والمعنى أو أن أسوءك.
وقال : ويجوز أن يرفع " أو يرسلُ " على معنى أو هو يرسلُ ، وهذا قول
الخليل وسيبويه وجميع من يوثق بعلمه (1).
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52)
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { أَن يُكَلِّمَهُ الله } : « أَنْ » ومنصوبُها اسمُ كان وليس « خبرَ » « ما » . وقال أبو البقاء : « أَنْ والفعلُ في موضع رفعٍ على الابتداءِ وما قبلَه الخبرُ ، أو فاعلٌ بالجارِّ لاعتمادِه على حرفِ النفي » وكأنه [ وَهِمَ في التلاوةِ ، فزعَم أنَّ القرآنَ : وما لبشَرٍ أَنْ يُكَلِّمه ] مع أنَّه يمكنُ الجوابُ عنه بتكلُّفٍ . و « إلاَّ وَحْياً » يجوزُ أَنْ يكونَ مصدراً أي : إلاَّ كلامَ وَحْيٍ . وقال أبو البقاء : « استثناءٌ منقطعٌ؛ لأنَّ الوَحْيَ ليس من جنس الكلام » وفيه نظرٌ لأنَّ ظاهرَه أنه مُفرَّغٌ ، والمفرَّغُ لا يُوْصَفُ بذلك . ويجوزُ أَنْ يكونَ مصدراً في موضعِ الحال.
قوله : « أو يُرْسِل » قرأ نافعٌ « يُرْسِلُ » برفع اللامِ ، وكذلك « فيوحِيْ » فسَكَنَتْ ياؤُه . والباقون بنصبهما . فأمَّا القراءةُ الأولى ففيها ثلاثة أوجهٍ ، أحدها : أنَّه رفعٌ على إضمارِ مبتدأ أي : أو هو يُرْسِلُ . الثاني : أنه عطفٌ على « وَحْياً » على أنَّه حالٌ؛ لأنَّ وَحْياً في تقديرِ الحال أيضاً ، فكأنه قال : إلاَّ مُوْحِياً أو مرسِلاً . الثالث : أَنْ يُعْطَفَ على ما يتعلَّقُ به « من وراءه » ، إذ تقديرُه : أو يُسْمِعُ مِنْ وراءِ حجاب ، و « وَحْياً » في موضعِ الحال ، عُطِف عليه ذلك المقدَّرُ المعطوفُ عليه « أَوْ يُرْسِلُ » . والتقدير : إلاَّ مُوْحِياً أو مُسْمِعاً مِنْ وراءِ حجابٍ ، أو مُرْسِلاً.
وأمَّا الثانيةُ ففيها ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أَنْ يُعْطَفَ على المضمرِ الذي يتعلَّقُ به { مِن وَرَآءِ حِجَابٍ } إذ تقديرُه : أو يُكَلِّمه مِنْ وراءِ حجابٍ . وهذا الفعلُ المقدَّر معطوفٌ على « وَحْياً » والمعنى : إلاَّ بوَحْي أو إسماعٍ مِنْ وراءِ حجاب أو إرسالِ رسولٍ . ولا يجوزُ أَنْ يُعَطفَ على « يكلِّمَه » لفسادِ المعنى . قلت : إذ يَصيرُ التقديرُ : وما كان لبشَرٍ أن يُرْسِلَ اللَّهُ رسولاً ، فَيَفْسُدُ لَفْظاً ومعنى . وقال مكي : « لأنَّه يَلْزَم منه نَفْيُ الرسلِ ونفيُ المُرْسَلِ إليهم ».
الثاني : أَنْ يُنْصَبَ ب « أنْ » مضمرةً ، وتكونَ هي وما نَصَبَتْه معطوفَيْن على « وَحْياً » و « وَحْياً » حالٌ ، فيكونَ هنا أيضاً [ حالاً : والتقدير : إلاَّ مُوْحِياً أو مُرْسِلاً ] . وقال الزمخشري : « وَحْياً وأَنْ يُرْسِلَ مصدران واقعان موقعَ الحال؛ لأنَّ أَنْ يُرْسِلَ في معنى إرسالاً . و { مِن وَرَآءِ حِجَابٍ } ظرفٌ واقعٌ موقعَ الحالِ أيضاً ، كقوله : { وعلى جُنُوبِهِمْ } [ آل عمران : 191 ] . والتقدير : وما صَحَّ أَنْ يُكَلَّم أحداً إلاَّ مُوْحياً أو مُسْمِعاً مِنْ وراءِ حجاب أو مُرسِلاً » . وقد رَدَّ عليه الشيخُ : بأنَّ وقوعَ المصدرِ موقعَ الحالِ غيرُ منقاسٍ ، وإنما قاسَ منه المبردُ ما كان نوعاً للفعلِ فيجوزُ : « أتيتُه رَكْضاً » ويمنعُ « أَتَيْتُه بكاءً » أي : باكياً.
وبأنَّ « أَنْ يُرْسِلَ » لا يقعُ حالاً لنصِّ سيبويه على أنَّ « أَنْ » والفعلَ لا يَقَعُ حالاً ، وإن كان المصدرُ الصريحُ يقع حالاً تقولُ : « جاء زيد ضَحِكاً » ، ولا يجوز « جاء أَنْ يضحكَ ».
الثالث : أنَّه عطفٌ على معنى « وَحْياً » فإنَّه مصدرٌ مقدَّرٌ ب « أنْ » والفعلِ . والتقديرُ : إلاَّ بأَنْ يوحيَ إليه أو بأَنْ يُرْسِلَ ، ذكره مكي وأبو البقاء.
وقوله : { أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ } العامَّةُ على الإِفراد . وابنُ أبي عبلةَ « حُجُبٍ » جمعاً . وهذا الجارُّ يتعلَّقُ بمحذوفٍ تقديرُه : أو يُكَلِّمَه مِنْ وراء حجاب . وقد تقدَّم أن هذا الفعلَ معطوفٌ على معنى وَحْياً أي : إلاَّ أَنْ يوحيَ أو يكلِّمَه . قال أبو البقاء : « ولا يجوزُ أَنْ تتعلَّق » مِنْ « ب » يُكَلِّمَه « الموجودةِ في اللفظِ؛ لأنَّ ما قبل الاستثناءِ لا يعملُ فيما بعد إلاَّ » ، ثم قال : « وقيل : » مِنْ « متعلِّقةٌ ب » يُكلِّمه « لأنه ظرفٌ ، والظرفُ يُتَّسَعُ فيه » . اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/403)


أي فعلنا في الوحي اليك كما فعلنا بالرسل من قبلك.
وموضع (كَذَلِكَ) نصبٌ بقوله (أَوْحَيْنا).
ومعنى (رُوحاً مِن أمْرِنَا) ما نحيي به الخلق من أمرنا.
أي ما يُهْتَدَى به فيكون حيًّا.
وقوله : (مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا)
ولم يقل جَعَلْنَاهُمَا لأن المعنى ولكن جعلنا الكتاب نُوراً ، وهو دليل على
الإيمان.
وقوله : (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ).
ويقرأ : (وَإِنَّكَ لتُهْدي) ، فمن قرأ (لَتَهْدِي) ، فالمعنى تهدي بما أوحينا إليك
إلى صراط مستقيم ، ويجوز أن يَكونَ (لَتُهْدَى) مخاطبة للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأُمَّتِه ، فيكون المعنى وإنك وأمتك لتُهدَوْنَ إلى صراط مستقيم ، كما قال : (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ)
فهو بمنزلة يا أيها الناس المؤمنون إذا طلقتم النساء (1).
* * *
وقوله : (صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)
(صِرَاطِ اللَّهِ)
خفض بدل من (صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ).
المعنى وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطِ اللَّه.
ويجوز (صِرَاطُ اللَّهِ) بالرفع ، و (صِرَاطَ اللَّهِ) بالنصب.
ولا أعلم أحدا قرأ بهما ولا بواحدة منهما ، فلا تقرأنَّ بواحدة منهما لأن القراءة سُنَّة . لا تخالف ، وإن كان ما يقرأ به جائزاً في النحو.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكتاب } : « ما » الأولى نافيةٌ ، والثانيةُ استفهاميةٌ . والجملةُ الاستفهامية معلِّقَةٌ للدِّراية فهي في محلِّ نصبٍ لسَدِّها مَسَدَّ مفعولَيْنِ . والجملةُ المنفيةُ بأَسْرِها في محلِّ نصبٍ على الحالِ من الكافِ في « إليك » . قوله : « جَعَلْنَاه » الضميرُ يعودُ : إمَّا ل « رُوْحاً » وإمَّا ل « الكتاب » وإمَّا لهما؛ لأنَّهما مَقْصَدٌ واحدٌ فهو كقولِه : { والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } [ التوبة : 62 ].
وقرأ ابن حوشب « لتُهْدَى » مبنياً للمفعول . وابن السَّمَيْفَع « لتُهْدي » بضم التاء وكسر الدال مِنْ أهْدَى.
قوله : « نَهْدِي » يجوز أَنْ يكونَ مُسْتأنفاً ، وأن يكونَ مفعولاً مكرَّراً للجَعْل ، وأَنْ يكونَ صفةً ل « نُوْراً » . اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/404)


سُورَةُ الزُّخرُف
( مَكِّيَّة )
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله عزَّ وجلَّ : (حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2)
قد فسرنا معنى (حم) ، ومعنى (الْكِتَابِ الْمُبِينِ) ، الذي أبان طرقَ
الهدى من طرق الضلالة ، وأبان كل ما تحتاج إليه الأمَّةِ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3)
معناه إِنا بيَّنَّاه قرآنا عربياً.
* * *
وقوله (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4)
(أم الكتاب) أصل الكتاب ، وأصل كل شيء أمُّه ، والقرآن مثبت عند اللَّهِ
في اللوح المحفوظ ، والدليل على ذلك قوله : (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22).
* * *
وقوله : (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (5)
ويقرأ (إِنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ) (1) فمن فتحها فالمعنى أفنضرب عنكم الذكر
صفحاً لأن كنتم ، ومن كسرها فعلى معنى الاستقبال ، على معنى إن تكونوا
مسرفين نضرب عنكم الذكر ، ويقال : ضربت عنه الذكر وأضربت عنه الذكر.
والمعنى أفنضرب عنكم ذِكْر العذاب والعذابَ بأن أسرفتم.
والدليل على أن
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { صَفْحاً } : فيه خمسةُ أوجهٍ ، أحدها : أنَّه مصدرٌ في معنى يَضْرِب؛ لأنه يُقال : ضَرَبَ عن كذا وأَضْرَبَ عنه ، بمعنى أعرض عنه ، وصَرَف وجهَه عنه . قال :
3981 اضْرِبَ عنكَ الهمومَ طارِقَها . . . ضَرْبَك بالسيفِ قَوْنَسَ الفرسِ
والتقديرُ : أَفَنَصْفَحُ عنكم الذِّكْرَ أي : أفَنُزِيْلُ القرآنَ عنكم إزالةً ، يُنْكِرُ عليهم ذلك . الثاني : أنَّه منصوبٌ على الحالِ من الفاعل أي : صافِحين . الثالث : أَنْ ينتصِبَ على المصدرِ المؤكِّدِ لمضمونِ الجملةِ ، فيكونَ عاملُه محذوفاً ، نحو : { صُنْعَ الله } [ النمل : 88 ] قاله ابنُ عطية . الرابع : أن يكونَ مفعولاً من أجله . الخامس : أَنْ يكونَ منصوباً على الظرف . قال الزمخشري : « وصَفْحاً على وجهَيْن : إمَّا مصدرٍ مِنْ صَفَح عنه إذا أَعْرَضَ عنه ، منتصبٍ على أنَّه مفعولٌ له على معنى : أَفَنَعْزِلُ عنكم إنْزالَ القرآنِ وإلزامَ الحجةِ به إعراضاً عنكم . وإمَّا بمعنى الجانبِ مِنْ قولِهم : نَظَرَ إليه بصَفْحِ وَجْهِه . وصَفْحُ وَجْهِه بمعنى : أفَنُنَحِّيه عنكم جانباً ، فينتصبُ على الظرف نحو : ضَعْه جانباً وامْشِ جانباً . وتَعْضُدُه قراءةُ » صُفْحاً « بالضم » . قلت : يشيرُ إلى قراءةِ حسان ابن عبد الرحمن الضبعي وسميط بن عمير وشبيل بن عزرة قَرؤوا « صُفْحاً » بضم الصاد . وفيها احتمالان ، أحدهما : ما ذكره مِنْ كونِه لغةً في المفتوحِ ويكونُ ظرفاً . وظاهرُ عبارةِ أبي البقاء أنَّه يجوزُ فيه جميعُ ما جاز في المفتوح؛ لأنه جَعَله لغةً فيه كالسُّد والسَّد . والثاني : أنه جمعُ صَفُوح نحو : صَبور وصُبُر . فينتصبُ حالاً مِنْ فاعل نَضْرِب . وقَدَّر الزمخشري على عادته فِعْلاً بين الهمزةِ والفاءِ أي : أنُهمِلُكم فَنَضْرِب . وقد عَرَفْتَ ما فيه غيرَ مرةٍ.
قوله : « أنْ كُنتم » قرأ نافعٌ والأخَوان بالكسر على أنها شرطيةٌ ، وإسرافُهم كان متحققاً ، و « إنْ » إنما تدخلُ على غير المتحقِّق ، أو المتحقِّقِ المبهم الزمانِ . وأجاب الزمخشريُّ : « أنَّه من الشرط الذي يَصْدُر عن المُدِلِّ بصحةِ الأمرِ والتحقيق لثبوتِه ، كقول الأجير : » إنْ كنتُ عَمِلْتُ لك عملاً فَوَفِّني حقي « وهو عالمٌ بذلك ، ولكنه يُخَيَّلُ في كلامِه أَنَّ تفريطَك في إيصالِ حقي فِعْلُ مَنْ له شكٌّ في استحقاقِه إياه تجهيلاً له » . وقيل : المعنى على المجازاةِ والمعنى : أفنضرِبُ عنكم الذِّكر صَفْحاً متى أَسْرَفتم أي : إنكم غيرُ متروكين من الإِنذار متى كنتم قوماً مُسْرفين . وهذا أراد أبو البقاء بقولِه : « وقرئ إنْ بكسرِها على الشرط ، وما تقدَّم يدلُّ على الجواب » . والباقون بالفتحِ على العلَّة أي : لأَنْ كنتم ، كقول الشاعر :
3982 أتَجْزَعُ أنْ بانَ الخليطُ المُوَدَّعُ . . . . . . . . . .
ومثله :
3983 أتَجْزَعُ أنْ أُذْنا قتيبةَ حُزَّتا . . . . . . . . . . . .
يُرْوَى بالكسر والفتح ، وقد تقدَّم نحوٌ من هذا أول المائدة ، وقرأ زيد بن علي « إذ » بذالٍ عوضَ النونِ ، وفيها معنى العلَّة . اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/405)


المعنى هذا وأنه ذِكْرُ العذابِ قوله : (فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8).
أي مضْت سنتهم ، ويكون (أفنضرب عنكم الذِكر) أي نهملكم فلا
نعرفكم ما يجب عليكم لأن أسرفتم ، ومثله : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36).
* * *
وقوله : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10)
(وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا) :
طرقاً.
* * *
وقوله : (وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12)
معناه خلق الأصناف كلها ، تقول عندي من كلِّ زوج أي من كلِّ صنف.
(وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ).
أي خلق لكم وسخرها لكم :
(لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ).
وقوله عزَّ وجلَّ : (ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13)
أي تحمدون اللَّه وتعظمونه ، فيقول القائل إذا ركب السفينة : بسم اللَّه
مجراها ومرساها ، ويقول إذا ركب الدابة : الحمد للَّهِ سبحان الذي سخر لنا
هذا وما كنا له مقرنين ، أي مطيقين ، واشتقاته من قولك : أنا لفلان مقرن أي مطيق ، أي قد صرت قرناً له.
* * *
(وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (14)
أي نحن مقرُّون بالبعث.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15)
يعنى به الذين جعلوا الملائكة بنات اللَّه ، وقد أنشدني بعض أهل

(4/406)


اللغة بيتا يدل على أن معنى جزء معنى الإناثِ ولا أدري البيْتَ ، قديم أم
مَصْنُوع ، أنشدني :
إِنْ أَجْزَأَتْ حُرَّةٌ يَوْماً فلا عَجَبٌ . . . قد تُجْزِئُ الحُرَّةُ المِذْكارُ أَحْيانا
أي إن " أنثت ، ولدت أنثى.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18)
ويقرأ (يَنْشَأ) ، وموضع " مَن " نَصْبٌ.
المعنى أجَعَلُوا من يُنَشَّأُ في الحلية - يعني البنات - للَّهِ (1).
(وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ).
يعنى البنات ، أي الأنثى لا تكاد تستوفي الحجة ولا تبين.
وقد قيل في التفسير إن المرأة لا تكاد تحتج بحجة إلا عليها.
وقد قيل إنَّه يعني به الأصنام.
والأجود أن يكون يعني به المؤنث.
* * *
وقوله تعالى : (وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19)
الجَعْلُ ههنا في معنى القول والحكم على الشيء . تقول : قدْ جَعَلْتُ
زيداً أعلم الناس ، أي قد وصفته بذلك وحكمت به.
وقوله - عزَّ وجلَّ - : (سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ).
وتقرأ سنَكْتُبُ ، ويجوز سيَكْتُب ، المعنى سيكتب اللَّه شَهادَتُهم ولا نعْلَمُ
أَحَداً قرأ بها . والقراءةْ بالتاء والنون (2).
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { أَوَمَن يُنَشَّأُ } : يجوزُ في « مَنْ » وجهان ، أحدهما : أَنْ يكونَ في محلِّ نصبٍ مفعولاً بفعلٍ مقدر أي : أو يجعلون مَنْ يُنَشَّأُ في الحِلْية . والثاني : أنه مبتدأ وخبرُه محذوفٌ ، تقديره : أو من يُنَشَّأ جزءٌ أو ولدٌ؛ إذ جعلوه لله جزءاً . وقرأ العامَّةُ « يَنْشَأ » بفتح الياء وسكون النون مِنْ نَشَأَ في كذا يَنْشأ فيه . والأخوان وحفص بضم الياء وفتحِ النون وتشديدِ الشينِ مبنياً للمفعولِ أي : يُرَبَّى . وقرأ الجحدريُّ كذلك ، إلاَّ أنَّه خَفَّف الشينَ ، أَخَذَه مِنْ أنشأه . والحسن « يُناشَأُ » ك يُقاتَل مبنياً للمفعول . والمفاعَلَةُ تأتي بمعنى الإِفعال كالمُعالاة بمعنى الإِعلاء.
قوله : { وَهُوَ فِي الخصام غَيْرُ مُبِينٍ } الجملةُ حال . و « في الخصام » يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ يَدُلُّ عليه ما بعده . تقديره : وهو لا يَبين في الخصام . ويجوز أَنْ يتعلَّق ب « مُبين » وجاز للمضافِ إليه أن يعملَ فيما قبل المضافِ؛ لأن « غيرَ » بمعنى « لا » . وقد تقدَّم تحقيقُ هذا في آخر الفاتحة وما أنشدْتُه عليه وما في المسألةِ من الخلاف.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(2) قال السَّمين :
قوله : { عِبَادُ الرحمن } : قرأ نافع وابن كثير وابن عامر « عند الرحمن » ظرفاً . والباقون « عبادَ » جمع عَبْد ، والرسمُ يحتملهما . وقرأ الأعمش كذلك إلاَّ أنه نصبَ « عبادَ » على إضمارِ فعلٍ : الذين هم خُلِقوا عباداً ونحوِه . وقرأ عبدُ الله وكذلك هي في مصحفه « الملائكةَ عبادَ الرحمن » . وأُبَيٌّ وعبد الرحمن/ بالإِفراد . و « إناثاً » هو المفعولُ الثاني للجَعْلِ بمعنى الاعتقادِ أو التصيير القولي . وقرأ زيدُ بنُ علي « أُنُثا » جمعَ الجمع.
قوله : « أشَهِدُوا » قرأ نافعٌ بهمزةٍ مفتوحة ، ثم بأخرى مضمومةٍ مُسَهلةٍ بينها وبين الواو وسكونِ الشينِ . وقرأ قالون بالمدِّ يعني بإدخال ألفٍ بين الهمزتين والقصرِ ، يعني بعدمِ الألف . والباقون بفتح الشين بعد همزة واحدة . فنافع أدخل همزةَ التوبيخ على أُشْهِدوا [ فعلاً ] رباعياً مبنيَّاً للمفعول ، فسَهَّلَ همزتَه الثانيةَ ، وأدخل ألفاً بينهما كراهةً لاجتماعهما ، وتارة لم يُدْخِلْها ، اكتفاءً بتسهيل الثانية ، وهي أوجهُ . والباقون أدخلوا همزةَ الإِنكار على « شهدوا » ثلاثياً ، والشهادةُ هنا الحضورُ . ولم يَنْقُلِ الشيخُ عن نافع تسهيلَ الثانيةِ بل نَقَله عن علي بن أبي طالب.
وقرأ الزهريُّ « أُشْهِدُوا » رباعياً مبنياً للمفعول . وفيه وجهان ، أحدُهما : أَنْ يكونَ حَذَفَ الهمزةَ لدلالةِ القراءةِ الأخرى ، كما تقدَّم في قراءةِ « أعجميٌّ » . والثاني : أَنْ تكونَ الجملةُ خبريةً وقعَتْ صفةً ل « إناثاً » أي : أجعلوهم إناثاً مَشْهوداً خَلْقُهم كذلك؟
قوله : « سَتُكْتَبُ شهادتُهم » قرأ العامَّةُ « سَتُكْتَبُ » بالتاءِ مِنْ فوقُ مبنياً للمفعول ، « شهادتُهم » بالرفع لقيامه مَقامَ الفاعل . وقرأ الحسن « شهاداتُهم » بالجمع ، والزهري : « سَيَكتب » بالياء مِنْ تحت وهو في الباقي كالعامَّة . وابن عباس وزيد بن علي وأبو جعفر وأبو حيوةَ « سنكتبُ » بالنون للعظمة ، « شهادتَهم » بالنصب مفعولاً به.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/407)


وقوله : (وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20)
المعنى ما لهم بقولهم إنَّ الملائكة بنات اللَّه من علم ، ولا بجميع ما
تخرصوا به.
* * *
وقوله : (أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21)
أي أم هل قالوا عن كتابٍ ، المعنى أشهدوا خلقهم أم آتيناهم بكتاب
بما قالوه من عبادتهم ما يعبدون من دون اللَّه ، ثم أعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أن
فِعلَهم اتباع ضلالة آبائهم فقال : (بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22)
ويقرأ " عَلَى إِمَّةٍ " بالكسرِ ، فالمعنى على طريقة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23)
أي قد قال لك هَؤلاء كما قال أمثالهم للرسل مِنْ قَبْلكَ.
وقوله : (وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ).
معناه نقتدي بهم ، ويصلح أن يكون خبراً لإنا مهتدون ، و (على) من صلة
مهتدين ، وكذلك مقتدون ، فيكون المعنى وإنهم مهتدون على آثارهم ، وكذلك يكون المعنى مقتدون على آثارهم ، ويصلح أن يكون خبراً بعد خبر ، فيكون (وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ) الخبر ويكون (مُهْتَدُونَ) خبراً ثانياً ، وكذلك (مُقْتَدُونَ).
* * *
وقوله : - عزَّ وجلَّ - (قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24)
المعنى فيه قل أَتَتبعُون ما وجدتم عليه آباءكم وإن جِئْتُكُمْ بِأهدى منه.
* * *
وقوله تعالى : (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27)

(4/408)


(بَرَاءٌ) بمعنى بريء مِمَّا تَعْبُدُونَ ، والعرب تقول للواحد منها أنا البراء
منك ، وكذلك الاثنان والجماعة والذكر والأنثى يقولون نحن البراء منك
والخلاء منك ، ولا يقولون : نحن البراءان منك ولا البراءونَ.
وإنما المعنى إنا ذوو البراء منك ونحن ذوو البراء منك كما تقول رجل عدل وامرأة عَدْل وَقَوْمٌ عَدْلٌ ، والمعنى ذوو عدل وذوات عدل (1).
* * *
وقوله : (إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27)
المعنى إنا نتبرأ مما تعبدون إلا من الله عزَّ وجلَّ ، ويجوز أن يكون " إلا "
بمعنى لكن فيكون المعنى لكن الذي فطرني فإنه سيهدين (2).
* * *
(وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28)
يعني بها كلمة التوحيد وهي لا إله إلا اللَّه باقية في عقب إبراهيم ، لا
يزال من ولده من يوحد اللَّه عزَّ وجلَّ.
* * *
(وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31)
المعنى على رجل من رَجُلَي القريتين عظيم ، والرجُلَانِ أحدهما الوليد
ابن المغيرة المخزومي من أهلَ مكة ، والآخر حبيب بن عمرو بن عمير الثقفي
من أهل الطائف ، والقريتان ههنا مكة والطائف.
ويجوز " لَوْلَا نَزَّلَ " أي لولا نَزَّلَ اللَّه هذا القرآن ، ويجوز لوْلاَ نَزَلَ هذا القرآن.
ومعنى لولا هلَّا ولم يُقْرَأْ بهاتين الأخْرَيَين ، إنما القراءة (نُزِّلَ).
و (هذا) في موضع رفع ، والقرآن ههنا مُبَيِّنٌ عن هذا ويسميه سيبويه عطف البيان ، لأن لفظه لفظ الصفة ، ومما يبين أنه عطف البيان قولك مررت بهذا الرجل وبهذه الدار ، و (هَذَا الْقُرْآنُ) إنما يذكر بعد هذا اسما يبين بها اسم الإشارة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32)
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { بَرَآءٌ } : العامَّةُ على فتحِ الباءِ وألفٍ وهمزةٍ بعد الراء . وهو مصدرٌ في الأصل وقع موقعَ الصفةِ وهي بَريْء ، وبها قرأ الأعمش ولا يُثَنَّى « براء » ولا يُجْمع ولا يُؤَنث كالمصادر في الغالب . والزعفراني وابن المنادي عن نافع بضم الباء بزنة طُوال وكُرام . يقال : طَويل وطُوال وبَريء وبُراء . وقرأ الأعمش « إنِّي » بنونٍ واحدة.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(2) قال السَّمين :
قوله : { إِلاَّ الذي فَطَرَنِي } : فيه أربعةُ أوجهٍ ، أحدها : أنه استثناءٌ منقطع؛ لأنَّهم كانوا عبدةَ أصنامٍ فقط . والثاني : أنه متصلٌ؛ لأنه رُوِي أنهم كانوا يُشْرِكون مع الباري غيرَه.
الثالث : أَنْ يكونَ مجروراً بدلاً مِنْ « ما » الموصولة في قولِه : « ممَّا تعبدُون » قاله الزمخشريُّ . ورَدَّه الشيخ : بأنه لا يجوزُ إلاَّ في نفيٍ أو شبهه قال : « وغَرَّه كونُ براء في معنى النفي ، ولا ينفعه ذلك لأنه موجَبٌ » . قلت : قد تأوَّل النحاةُ ذلك في مواضعَ من القرآن كقولِه تعالى : { ويأبى الله إِلاَّ أَن يُتِمَّ } [ التوبة : 32 ] { وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين } [ البقرة : 45 ] والاستثناء المفرغُ لا يكونُ في إيجاب ، ولكن لَمَّا كان « يأبى » بمعنى : لا يفعلُ ، وإنها لكبيرة بمعنى : لا تَسْهُلُ ولا تَخِفُّ ساغ ذلك ، فهذا مثلُه.
الرابع : أَنْ تكونَ « إلاَّ » صفةً بمعنى « غير » على أن تكونَ « ما » نكرةً موصوفةً ، قاله الزمخشريُّ قال الشيخ : « وإنما أخرجها في هذا الوجهِ عن كونِها موصولةً؛ لأنَّه يرى أنَّ » إلاَّ « بمعنى » غير « لا يُوْصَفُ بها إلاَّ النكرة » وفيها خلافٌ . فعلى هذا يجوزُ أَنْ تكونَ « ما » موصولةً و « إلاَّ » بمعنى « غير » صفةً لها.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/409)


أي قولهم : لِمَ لَمْ ينَزلْ هذا القرآن على غير محمد عليه السلام
اعتراض منهم ، وليس تفضل اللَّه عزَّ وجلَّ يقسمه غيره.
ولما أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالرسالة قالت العرب - أو أكثرها - : كيف لم يرسل اللَّه مَلَكاً وكيف أرسل اللَّه بَشراً ، فقال اللَّه عزَّ وجلَّ : (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى).
وقال : (أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ).
فلما سمعوا أن الرسالة كانت في رجال من أهل القرى قالوا :
" لَوْلَا نُزِل على أحَدِ هذين الرجلين ".
وقال - عزَّ وجلَّ - : (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ).
قَكَما فَضلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْض في الرزق وفي المنزلة ، كذلك
اصطفينا للرسالة من نشاء.
وقوله : (لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سِخْرِيًّا).
و (سُخْرِيًّا)
أي ليستعمل بعضهم بَعْضاً ، ويستخدم بعضُهم بعضاً.
وقيل (سِخْرِيًّا) أي ، يتخذ بعضهم بعضاً عبيداً.
ثم أعلم - عزَّ وجلَّ - أن الآخرة أحَظُّ من الدنيا فقال :
(وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ).
وأعلمَ قِلَّةَ الدنيا عنده عزَّ وجلَّ فقال :
(وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33)
ويقرأ سَقْفاً مِنْ فِضةٍ ، ويجوز سُقْفاً بسكون القاف وَضَم السين ، فمن
قال سُقُفاً وَسُقْفاً فهو جمع سَقْف كما قيل رَهْن وَرُهُنٌ وَرُهْن ، ومن قال سَقْفاً
ْفهو واحد يَدُلُّ على الجمع المعنى جعلنا لبيت كلِ واحد منهم سقفاَ من فضة .

(4/410)


وقوله : (وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ).
(معارج) دَرَج واحدها مَعْرج.
المعنى وجعلنا معارج من فِضةٍ ، وكذلك :
(أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34)
أي أَبْواباً من فضةٍ وسُرُراً من فِضةٍ.
(وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35)
(وَزُخْرُفًا).
الزخرف - جاء في التفسير أنه ههنا الذهَبُ ، إلا زيد بن أسلم فإنه
قال : هو متاع البيت ، والزخرف في اللغة الزينة وكمال الشيء فيها ، ودليل
ذلك قوله : (حتى إذَا أَخَذتِ الأرْضُ زُخْرُفَها) أي كمالها وَتَمامَها.
(وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ).
معناه وما كل ذلك إلا متاع الحياة الدنْيَا ، ويقرأ لَمَا متاع
و " ما " ههنا لَغْوٌ ، المعنى لَمَتاعُ (1).
* * *
وقوله : (وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً).
أي : لَوْلاَ أن تميل بهم الدنيا فيصيرَ الخلق كفاراً لأعطى اللَّه الكافر في
الدنيا غاية ما يتمنى فيها لِقِلَّتِهَا عِنْدَهُ ، ولكنه - عزَّ وجلَّ - لم يفعل ذلك لعلمه بأن الغالب على الخلقِ حبُّ العَاجِلَة.
* * *
وقوله : (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36)
ويقرأ (وَمَنْ يَعْشَ) بفتح الشين من عَشِيَ يَعْشَى ، أي من يَعْمَ عن ذكر الرْحْمنِ.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { وَزُخْرُفاً } : يجوز أَنْ يكونَ منصوباً ب جَعَلَ أي : وجَعَلْنا لهم زخرفا . وجوَّز الزمخشري أن ينتصبَ عطفاً على محلِّ « مِنْ فضة » كأنه قيل : سُقُفاً من فضةٍ وذَهَبٍ أي : بعضُها كذا ، وبعضها كذا.
وقد تقدَّم الخلافُ في « لَمَّا » تخفيفاً وتشديداً في سورة هود ، وقرأ أبو رجاء وأبو حيوةَ « لِما » بكسر اللام على أنها لامُ العلةِ دَخَلَتْ على « ما » الموصولة وحُذِفَ عائدُها ، وإنْ لم تَطُل الصلةُ . والأصل : الذي هو متاعٌ كقولِه : { تَمَاماً عَلَى الذي أَحْسَنَ } [ الأنعام : 154 ] برفع النون . و « إنْ » هي المخففةُ من الثقيلة ، و « كل » مبتدأ ، والجارُّ بعده خبرُه أي : وإن كل ما تقدَّم ذِكْرُه كائن للذي هو متاعُ الحياة ، وكان الوجهُ أن تدخُلَ اللامُ الفارقة لعدم إعمالِها ، إلاَّ أنَّها لما دَلَّ الدليلُ على الإِثباتِ جاز حَذْفُها كما حَذَفها الشاعرُ في قوله :
3992 أنا ابنُ أباةِ الضَّيْم مِنْ آلِ مالكٍ . . . وإنْ مالكٌ كانَتْ كرامَ المعادنِ
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/411)


(نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا).
نسبب له شيطاناً ، يجعل اللَّه له ذَلِكَ جزاءه (1).
* * *
وقوله : (وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37)
أي الشياظين تصدهم عن السبيل ، ويحسب الكفار أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ.
* * *
وقوله - عزَّ وجلَّ - : (لِمَنْ يَكْفُر بالرحْمنِ لبُيُوتِهِم)
يصلح أن يكونَ بدلاً من قوله (لمن يكفر بالرحمن) ، ويكون المعنى
لجعلنا لبيوت من يكفر بالرحمن ، ويصلح أن يكون لبُيوتهِمْ على معنى لجعلنا
لمن يكفر بالرحمن على بُيُوتهم.
* * *
وقوله : (حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38)
ويقرأ (جَاءَانَا) فمن قرأ (جَاءَانَا) فالمعنى حتى إذَا جَاءَ الكَافِرُ وشيطاته.
ومن قرأ (حَتَّى إِذَا جَاءَنَا) فعلى الكافر وحده.
(قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ).
معنى (الْمَشْرِقَيْنِ) ههنا بعد المشرق والمغرب ، فلما جعلا اثنين غلب لفظ
المشرق كما قال :
لنا قمراها والنجوم الطوالع
يريد الشمس والقمر ، وكما قالوا سنةُ العُمَريْن يراد سنةُ أبي بكر وعمر.
رحمةُ اللَّه عَلَيْهِمَا.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39)
المعنى لَنْ تَنْفَعَكُم الشرِكَةُ في العذاب ، قال محمد بن يزيد في جواب
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { وَمَن يَعْشُ } : العامَّة على ضم الشين مِن عشا يعشو أي : يتعامى ويتجاهل . وقتادة ويحيى بن سلام « يَعْشَ » بفتحها بمعنى يَعْمَ . وزيد بن علي « يَعْشو » بإثبات الواو . قال الزمخشري : « على أنّ » مَنْ « موصولة وحَقُّ هذا أن يقرأَ نقيضُ بالرفع » . قال الشيخ : « ولا تتعيَّنُ موصوليتُها بل تُخَرَّج على وجهين : إمَّا تقديرِ حذفِ حركةِ حرفِ العِلة ، وقد حكاها الأخفش لغةً ، وتقدَّم منه في سورةِ يوسفَ شواهدُ ، وإمَّا على أنه جزمٌ ب » مَنْ « الموصولة تشبيهاً لها ب » مَنْ « الشرطيةِ » . قال : « وإذا كانوا قد جَزَموا ب » الذي « ، وليس بشرطٍ قط فأَوْلَى بما اسْتُعْمِلَ شرطاً وغيرَ شرطٍ . وأنشد :
3993 ولا تَحْفِرَنْ بِئْراً تُريد أخاً بها . . . فإنّك فيها أنت مِنْ دونِه تقَعْ
كذاكَ الذي يَبْغي على الناسِ ظالماً . . . يُصِبْه على رَغْمٍ عواقبُ ما صَنَعْ
/قال : » وهو مذهبُ الكوفيين ، وله وَجْهٌ من القياسِ : وهو أنَّ « الذي » أَشْبَهَتْ اسمَ الشرطِ في دخولِ الفاءِ في خبرِها ، فتُشْبِهُ اسمَ الشرطِ في الجزم أيضاً . إلاَّ أنَّ دخولَ الفاءِ منقاسٌ بشرطِه ، وهذا لا ينقاسُ «.
ويقال : عَشا يَعْشُو ، وعَشِي يَعْشَى . فبعضُهم جعلهما بمعنىً ، وبعضُهم فَرَّقَ : بأنَّ عَشِيَ يَعْشَى إذا حَصَلَتْ الآفَةُ من بَصَرَه ، وأصلُه الواوُ وإنما قُلِبَتْ ياءً لانكسارِ ما قبلها كرضِيَ يَرْضى وعَشَا يَعْشُو أي : تفاعَل ذلك . ونَظَرَ نَظَرَ العَشِي ولا آفَةَ ببصرِه ، كما قالوا : عَرَجَ لمَنْ به آفةُ العَرَجِ ، وعَرُجَ لمَنْ تعارَجَ ، ومَشَى مِشْيَةَ العُرْجان . قال الشاعر :
3994 أَعْشُو إذا ما جارتي بَرَزَتْ . . . حتى يُوارِيْ جارتي الخِدْرُ
أي : أنظرُ نَظَرَ الَعَشِي . وقال آخر :
3995 متى تَأْتِه تَعْشُوا إلى ضَوْءِ نارِه . . . تَجِدْ خيرَ نارٍ عندها خيرُ مُوْقِدِ
أي : تَنْظُرُ نَظَرَ العشِي لضَعْفِ بصرِه مِنْ كثرةِ الوَقودِ . وفَرَّق بعضُهم : بأنَّ عَشَوْتُ إلى النارِ إذا اسْتَدْلَلْتَ عليها بنظرٍ ضعيفٍ وقيل : وقال الفراء : » عَشا يَعْشى يُعْرِض ، وعَشِي يَعْشَى عَمِيَ « . إلاَّ أنَّ ابن قتيبة قال : » لم نَرَ أحداً حكى عَشَوْتُ عن الشيء : أَعْرَضْتُ عنه ، وإنما يقال : تعاشَيْتُ عن كذا إذا تغافَلْتَ عنه وتعامَيْتَ «.
وقرأ العامَّةُ » نُقَيِّضْ « بنونِ العظمةِ . وعلي بن أبي طالب والأعمش ويعقوبُ والسلميُّ وأبو عمروٍ وعاصمٌ في روايةٍ عنهما » يُقَيِّضْ « بالياء من تحت أي : يُقَيِّض الرحمنُ . و » شيطاناً « نصبٌ في القراءتين . وابن عباس » يُقَيَّضْ « مبنياً للمفعول ، » شيطانٌ « بالرفع ، قائمٌ مقامَ الفاعلِ . اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/412)


هذه الآية إنَّهمْ مُنِعُوا رَوْح التَّأَسِّي لأن التَّأَسِّي يُسَهِّلُ المصيبة ، فأعلموا أن لَنْ
يَنْفَعَهم الاشْتراك في العَذاب وأن اللَّه - عزَّ وجلَّ - لا يجعل فيه أُسْوة.
قال وأنشدني في المعنى للخنساء :
ولَوْلا كَثْرَةُ الباكينَ حَوْلِي . . . على إِخْوانِهِمْ لَقَتَلْتُ نَفْسِي
وما يَبْكُونَ مِثْلَ أخي ولكِنْ . . . أُعَزِي النَّفْسَ عَنْهُ بالتَّأسِّي
(1)
* * *
وقوله - عزَّ وجلَّ - : (فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42)
دخل " ما " توكيداً للشرط والنون الثقيلة في قوله : (نَذْهَبَنَّ) دَخَلتْ أيضاً
توكيداً ، وإذا دَخَلَتْ (ما) دخلت معها النون كما تَدْخُل مع لام القَسَم.
والمعنى إنا نَنْتَقِمُ مِنْهُم إنْ توفيتَ أو نريك ما وعدناهم وَوَعَدْنَاكَ فِيهِمْ من
النصْر ، فقد أراه اللَّه - عزَّ وجلَّ - ما وعَدَهُ فيهِمْ وَوَعَدَهُمْ مِنْ إهْلَاكِهِمْ إن
كذبوا.
وقد قيل إنه كانت بعد رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أشياء لم يُحْبِبِ اللَّه أنْ يُريَه إياها.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44)
يريدُ أن القرآنَ شرفٌ لك ولقومك.
وقوله : (وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ).
معناه سوف تسألون عن شِكر ما جعله اللَّه لكم من الشرف.
* * *
وقوله : (وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)
في هذه المسألة ثلاثَةُ أَوْجُهٍ :
جاء في التفسير أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة أسري به
جمع له الأنبياء في بيت المقدس فأَمَّهم وصلَّى بهم ، وقيل له : سَلْهُمْ فلم
يشكك عليه السلام ولم يَسَلْ.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : « إذْ ظَلَمْتُمْ » قد استشكل المُعْرِبون هذه الآيةَ . ووجهُه : أنَّ قولَه « اليومَ » ظرفٌ حالِيٌّ ، و « إذ » ظرفٌ ماضٍ ، و « يَنْفَعَكم » مستقبلٌ؛ لاقترانِه ب « لن » التي لنفي المستقبلِ . والظاهرُ أنه عاملٌ في الظرفَيْن ، وكيف يعملُ الحدثُ المستقبلُ الذي لم يقَعْ بعدُ في ظرفٍ حاضرٍ أو ماضٍ؟ هذا ما لا يجوزُ . فأُجيب عن إعماله في الظرفِ الحاليِّ على سبيلِ قُرْبِه منه؛ لأنَّ الحالَ قريبٌ من الاستقبالِ فيجوز في ذلك . قال تعالى : { فَمَن يَسْتَمِعِ الآن } [ الجن : 9 ] وقال الشاعر :
3997 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . سَأَسْعَى الآنَ إذ بَلَغَتْ أَناها
وهو إقناعيٌّ ، وإلاَّ فالمستقبلُ يَسْتحيلُ وقوعُه في الحالِ عقلاً . وأمَّا قولُه : « إذ » ففيها للناسِ أوجهٌ كثيرةٌ . قال ابن جني : « راجَعْتُ أبا عليّ فيها مِراراً فآخرُ ما حَصَّلْت منه : أنَّ الدنيا والآخرةَ متصلتان ، وهما سواءٌ في حُكْم اللَّهِ تعالى وعِلْمِه ، ف » إذ « بدلٌ من » اليوم « حتى كأنَّه مستقبلٌ أو كأنَّ اليومَ ماضٍ . وإلى هذا نحا الزمخشريُّ قال : » وإذْ بدلٌ من اليوم « وحَمَلَه الزمخشريُّ على معنى : إذْ تبيَّن وصَحَّ ظُلْمُكم ، ولم يَبْقَ لأحدٍ ولا لكم شبهةٌ في أنَّكم كنتم ظالمين . ونظيرُه :
3998 إذا ما انْتَسَبْنا لم تَلِدْني لئيمةٌ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أي : تَبَيَّن أني وَلَدُ كريمةٍ » . وقال الشيخ : « ولا يجوزُ البدلُ ما دامت » إذ « على موضوعِها من المُضِيِّ ، فإنْ جُعِلَتْ لمطلقِ الزمانِ جاز » . قلت : لم يُعْهَدْ في « إذ » أنها تكونُ لمطلقِ الزمان ، بل هي موضوعةٌ لزمانٍ خاصٍ بالماضي كأَمْسِ . الثاني : أنَّ في الكلام حَذْفَ مضافٍ تقديرُه : بعد إذ ظَلَمْتُمْ.
الثالث : أنها للتعليلِ . وحينئذٍ تكونُ حرفاً للتعليلِ كاللام . الرابعُ : أنَّ العاملَ في « إذ » هو ذلك الفاعلُ المقدَّرُ لا ضميرُه . والتقدير : ولن ينفعَكم ظلمُكم أو جَحْدُكم إذ ظَلَمْتم . الخامس : أنَّ العاملَ في « إذ » ما دَلَّ عليه المعنى . كأنه قال : ولكن لن ينفعَكم اجتماعُكم إذ ظَلَمْتُمْ . قاله الحوفي ، ثم قال : « وفاعلُ » يَنْفَعَكم « الاشتراكُ » انتهى . فظاهرُ هذا متناقضٌ؛ لأنَّه جَعَلَ الفاعلَ أولاً اجتماعَكم ، ثم جعلَه آخِراً الاشتراكَ . ومنع أَنْ تكونَ « إذ » بدلاً مِن اليوم لتغايُرِهما في الدلالة . وفي كتاب أبي البقاء « وقيل : إذْ بمعنى » أَنْ « أي : أَنْ ظَلَمْتُم » . ولم يُقَيِّدْها بكونِها أن بالفتح أو الكسر ، ولكن قال الشيخ : « وقيل : إذ للتعليلِ حرفاً بمعنى » أَنْ « يعني بالفتح؛ وكأنَّه أراد ما ذكره أبو البقاءِ ، إلاَّ أنَّ تَسْمِيَتَه » أنْ « للتعليل مجازٌ ، فإنها على حَذْفِ حرفِ العلةِ أي : لأَنْ ، فلمصاحبتِها لها ، والاستغناءِ بها عنها سَمَّاها باسمِها . ولا ينبغي أَنْ يُعْتَقَدَ أنَّها في كتابِ أبي البقاء بالكسرِ على الشرطية؛ لأنَّ معناه بعيدٌ.
وقُرِئ » إنكم « بالكسرِ على الاستئناف المفيدِ للعلةِ . وحينئذٍ يكونُ الفاعلُ مضمراً على أحدِ التقادير المذكورة . اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/413)


ووجه ثانٍ وهو الذي أختاره ، وهو أن المعْنَى سل أمَمَ من أَرْسَلْنَا من قبلك من رُسْلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ ؟.
ويكون معنى السؤال ههنا على جهة التقرير كما قال : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) فليس يَسْاَلُهمْ ههنا عَمنْ خَلَقَهُمْ إلا على جهةِ التقرير وكذلك إذا سال جميع أمم الأنبياء لم يأتوا بأن في كتبهِمْ أن اعبدوا غيرِي.
ووجه ثالث يكون المعنى في خطاب النبي - صلى الله عليه وسلم - معناه مخاطبة الأمَّة ، كأنَّه قال : واسألوا ، والدليل على أن مخاطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - قد يدخل فيها خطاب الأمة
قوله : (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ).
* * *
وقوله : (وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49)
إن قال قائل : كيف يقولون لموسى عليه السلام يَا أَيُّهَا الساحر وهم
يزعمون أنهم مهتدون ؟
فالجواب أنهم خاطبوه بما تقدم له عندهم من التسمية بالسحر ، ومعنى بما عَهَدَ عنْدَك أي بما عهد عندك فيمَن آمن به مِنْ كشف العذاب عنه.
الدليل على ذلك قوله : (فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ
(50)
أي إذا هم ينقُضُون عَهْدَهُمْ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51)
" مصر " ههنا يعنى بها مدينة مصر المعروفة ، فمصر مذكر سُمِّيَ بهِ مؤنث
لأن المدينة الغالب عليها التأنيث ، وَقدْ يَجُوزُ مَلكُ مِصْر ، يذهب به إلى أن
مصر اسم لبلد ، وهذا فيه بُعْدٌ من قِبَلِ أن أكثر ما يستعمل البلد لما يضم مدناً

(4/414)


كبيرةً نحو بلاد الرُّوم وبلاد الشام وبلد خراسان.
ويجوز أن تصرف مصراً إذا جعلته اسماَ لبلد عند جميع النحويين من البصريين (1).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52)
قال سيبويه والخليلْ عطف " أَنَا " بـ (أَمْ) على قوله (أَفَلَا تُبْصِرُونَ)
لأنَّ معنى (أَمْ أَنَا خَيْرٌ) معناه أمْ تُبْصِرُونَ ، كأنَّه قال : " أَفَلَا تبصرون أمْ تُبصِرُونَ ، قال لأنهم إذَا قالوا أنت خير منه فقد صاروا عنده بُصَرَاءَ ، فكأنَّه قال أفلا تبْصِرُونَ أم أنتم بُصَرَاءُ (2).
وَمَعْنَى (مَهِين) قليل.
يقال شَيءٌ مَهِينٌ أَي قَليلٌ ، وهو فعيل من المهانة.
وقوله (وَلَا يَكَادُ يُبِينُ).
قال ذلك لأنه كانت في لسان موسى عليه السلام لثغة ، والأنبياء
- صلوات اللَّه عليهم - أجمعون مُبَيِّنونَ بُلَغَاءُ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53)
كانه لما وَصَفَ نفسه بالمُلْكِ والريَاسَةِ قال : هَلَّا جاء مُوسَى
بشيء يُلْقَى عليه فيكون ذلك أسْوِرَةً مِنْ ذَهَبٍ تدل على أنها
من عند إلهه الذي يدعوكم إلى توحيده ، أو هلَّا جاء معه الملائكةُ
مقترنين أي يمشون معه فيَدُلُّونَ على صحة نُبوتهِ ، وقد أتى موسى
عليه السلام من الآيات بما فيه دلالة على تثبيت النبُوة ، وليس للذين يرسل
إليهم الأنْبِياءُ أَنْ يَقْتَرِحُوا من الآيات ما يريدون هم.
وتقرأ (أساوِرَةٌ مِنْ ذَهب) ، ويصلح أن يكون جمعَ الجمعِ تقول أسْوِرَة
وَأَسَاوِرَة ، كما تقول : أقوال وأقاويل ويجوز أن يكون جَمَعَ إسْوار وأساورة.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { وهذه الأنهار } : يجوزُ في « وهذه » وجهان ، أحدهما : أَنْ تكونَ مبتدأةً ، والواوُ للحالِ . والأنهارُ صفةٌ لاسمِ الإِشارةِ ، أو عطفُ بيانٍ . و « تجري » الخبرُ . والجملةُ حالٌ مِنْ ياء « لي » . والثاني : أنَّ « هذه » معطوفةٌ على « مُلْك مِصْرَ » ، و « تَجْري » على هذا حالٌ أي : أليس مُلْكُ مِصْرَ وهذه الأنهارُ جاريةً أي : الشيئان.
قوله : « تُبْصِرونَ » العامَّةُ على الخطابِ لِمَنْ ناداه . وقرأ عيسى بكسر النون أي : تُبْصِروني . وفي قراءةِ العامَّةِ المفعولُ محذوفٌ أي : تُبْصِرون مُلْكي وعَظَمتي . وقرأ فهد بن الصقر « يُبْصِرون » بياء الغَيْبة : إمَّا على الالتفاتِ من الخطاب إلى الغَيْبة ، وإمَّا رَدًّا على قوم موسى . اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(2) قال السَّمين :
قوله : { أَمْ أَنَآ خَيْرٌ } : في « أم » أقوالٌ ، أحدها : أنها منقطعةٌ ، فتتقدَّرُ ب بل التي لإِضرابِ الانتقال ، وبالهمزة التي للإِنكار . والثاني : أنها بمعنى بل فقط ، كقوله :
4001 بَدَتْ مِثْلَ قَرْنِ الشَّمْسِ في رَوْنَق الضُّحى . . . وصورتِها أم أنتِ في العينِ أَمْلَحُ
أي : بل أنتِ . الثالث : أنها منقطعةٌ لفظاً ، متصلةٌ معنىً . قال أبو البقاء : « أمْ هنا منقطعةٌ في اللفظ لوقوع الجملةِ بعدَها في اللفظ ، وهي في المعنى متصلةٌ معادِلةٌ؛ إذ المعنى : أنا خيرٌ منه أم لا ، وأيُّنا خيرٌ » وهذه عبارةٌ غريبةٌ : أن تكونَ منقطعةً لفظاً ، متصلةً معنى ، وذلك أنهما معنيان مختلفان؛ فإن الانقطاعَ يَقْتضي إضراباً : إمَّا إبطالاً ، وإمّا انتقالاً . الرابع : أنها متصلةٌ ، والمعادِلُ محذوفٌ تقديره : أم تُبْصِرون . وهذا لا يجوزُ إلاَّ إذا كانت « لا » بعد أم نحو : أتقومُ أم لا؟ أي : أم لا تقوم . وأزيدٌ عندك أم لا؟ أي : أم لا هو عندك . أمَّا حَذْفُه دون « لا » فلا يجوزُ ، وقد جاء حَذْفُ « أم » مع المعادِلِ وهو قليلٌ جداً . قال الشاعر :
4002 دعاني إليها القلبُ إني لأَمْرِها . . . سميعٌ فلا أَدْري أَرُشْدٌ طِلابُها
أي : أم غَيٌّ . وكان الشيخ قد نقل عن سيبويه أنَّ هذه هي « أم » المعادِلَةُ أي : أم تُبْصِرُون الأمرَ الذي هو حقيقٌ أَنْ يُبْصَرَ عنده ، وهو أنَّه خيرٌ مِنْ موسى . قال : « وهذا القولُ بدأ به الزمخشريُّ فقال : » أم/ هذه متصلة لأنَّ المعنى : أفلا تُبْصِرون أم تُبْصرون ، إلاَّ أنه وَضَعَ قولَه : « أنا خيرٌ » موضعَ « تُبْصِرون »؛ لأنهم إذا قالوا : أنت خيرٌ ، فهم عنده بُصَراءُ ، وهذا من إنزالَ السببِ منزلةَ المسبب « . قال الشيخ : » وهذا متكلَّفٌ جداً؛ إذ المعادِلُ إنما يكونُ مقابلاً للسابقِ . فإن كان المعادِلُ جملةً فعليةً كان السابقُ جملةً فعليةً أو جملةً اسميةً يتقدَّر منها فعليةٌ ، كقوله : { أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ } [ الأعراف : 193 ] لأنَّ معناه : أم صَمَتُّم ، وهنا لا تتقدَّرُ منها جملةٌ فعليةٌ؛ لأنَّ قولَه : { أَمْ أَنَآ خَيْرٌ } ليس مقابلاً لقولِه : « أفلا تُبْصِرون » . وإن كان السابقُ اسماً كان المعادِلُ اسماً ، أو جملةً فعليةً يتقدَّر منها اسمٌ نحو قولِه :
4003 أمُخْدَجُ اليدَيْنِ أم أَتَمَّتِ . . . ف « أتمَّت » معادِلٌ للاسم ، فالتقديرُ : أم مُتِمًّا « قلت : وهذا الذي رَدَّه على الزمخشريِّ رَدٌّ على سيبويه؛ لأنه هو السابقُ به ، وكذا قولُه أيضاً : إنه لا يُحْذَفُ المعادِلُ بعد » أم « إلاَّ وبعدها » لا « فيه نظرٌ؛ من حيث تجويزُ سيبويه حَذْفُ المعادِلِ دون » لا « فهو رَدٌّ على سيبويهِ أيضاً.
[ قوله : { وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ } هذه الجملةُ يجوزُ أَنْ تكونَ معطوفةً على الصلةِ ، وأَنْ تكونَ مستأنفةً ، وأن تكونَ حالاً ] . والعامَّة على » يُبين « مِنْ أبان ، والباقر » يَبين « بفتحِها مِنْ بان أي : ظهر . اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/415)


وإنما صَرَفْتَ أساورة لأنك ضَمَمْتَ الهاء إلى أسَاور فصار اسْماً وَاحِداً وصار
الاسم له مِثال في الواحد مثل عَلَانية وعباقية (1).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55)
معنى (آسفونا) أغضبونا.
* * *
(فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ (56)
جعلناهم سلَفاً مُتَقَدِّمِينَ ليتَعِظَ بهم الآخرون.
ويُقْرأُ سُلُفاً - بضم السين واللام ، ويُقرأُ سُلَفاً - بضم السين وفتح اللام - . فمن قال سُلُفاً - بضمتين - فهو جِمع سَلِيف ، أي جميع قد مضى.
ومن قرأ سُلَفاً فهو جمع سُلْفَة أي فرقة قد مَضت.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57)
(يَصِدُّونَ) ويقرأ (يَصُدُّونَ) - بضم الصاد - والكسر أكثر ومعناهما جميعاً يضجُّونَ
ويجوز أن يكون معنى المضمومة يُعْرضُونَ.
وجاء في التفسير أن كُفارَ قريش خاصمت النبى - صلى الله عليه وسلم - فلما قيل لهم :
(إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) قالوا قد رضينا أن تكون آلهتُنا
بمنزله عيسى ابن مريم والملائكةِ الذين عُبِدوا من دون اللَّه.
فهذا معنى ضَرْبِ عيسى المثل.
* * *
وقوله : (وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58)
(مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا).
أي طلباً للمجادلة لأنهم قد علموا أن المعنى في (حَصَبُ جَهَنَّمَ) ههنا أنه
يعني به الأصنام وهم.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { أَسْوِرَةٌ } : قرأ حفص « أَسْوِرَة » كأَحْمِرَة . والباقون « أساوِرَة » . فأسْوِرَة جمع سِوار كحِمار وأَحْمِرَة ، وهو جمعُ قلةٍ ، وأساوِرَة جمعُ إسْوار بمعنى سِوار . يقال : سِوارُ المرأة وإسْوارُها ، والأصل : أساوير بالياء ، فَعُوِّضَ من حرف المدِّ تاءُ التأنيثِ كزَنادقة . وقيل : بل هي جمعُ أَسْوِرة فهي جمعُ الجمعِ . وقرأ أُبَيٌّ والأعمش - ويُرْوى عن أبي عمرو - « أساوِر » دونَ تاءٍ . ورُوِي عن أُبَيّ أيضاً وعبد الله أساْوِير . وقرأ الضحاك « أَلْقَى » مبنياً للفاعلِ أي الله . و « وأساوِرة » نصباً على المفعولية . و « مِنْ ذَهَبٍ » صفةٌ ل أَساورة . ويجوزُ أَنْ تكون « مِنْ » الداخلةَ على التمييز.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/416)


وقوله تعالى : (إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (59)
يعني به عيسى ابن مريم.
ومعنى (وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ) أنه يدلهم على نبوته.
* * *
(وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60)
معنى (يَخْلُفُونَ) يخلف بعضهم بعضاً ، والمعنى لجعلنا منهم بَدَلًا
منكم.
* * *
(وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)
ويقرأ (لَعَلَمٌ لِلسَّاعَةِ) المعنى أن ظهورَ عيسى ابن مريم عليه السلام علَمٌ
لِلسَّاعَةِ ، أي إذا ظهر دَلَّ على مجيء الساعة.
وقد قيل إنه يعني به أن القرآن العَلَمُ للساعة يدل على قرب مجيئها ، والدليل على ذلك قوله : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ).
والأول أكثر في التفسير (1).
وقوله : (فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا) أي لا تَشُكُّنَّ فيها.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63)
قوله جاء (بالحكمة) أي بالإنجيل وبالبينات أي الآيات التي يعجز عنها
المخلوقون.
وقالوا في معنى (بَعْضَ الَّذي تَخْتلِفونَ فِيهِ) أي كل الذي
يختلفون فيه واستشهدوا بقول لبيد.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ } : المشهورُ أنَّ الضمير لعيسى ، يعني نزولَه آخر الزمان . وقيل الضميرُ للقرآن أي : فيه عِلْمُ الساعةِ وأهوالُها ، أو هو علامةٌ على قُرْبها . وفيه { اقترب لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ } [ الأنبياء : 1 ] { اقتربت الساعة } [ القمر : 1 ] . وقيل : للنبي صلَّى الله عليه وسلَّم . ومنه « بُعِثْت أنا والساعةُ كهاتَيْن ».
والعامَّةُ على « عِلْم » مصدراً ، جُعِل عِلْماً مبالغَةً لَمَّا كان به يَحْصُلُ العِلْمُ ، أو لَمَّا كان شَرْطاً يُعْلَم به ذلك أُطْلِق عليه عِلْم . وابن عباس وأبو هُرَيْرَة وأبو مالكِ الغِفاري وزيد بن علي « لَعَلَمٌ » بفتح الفاءِ والعينِ أي : لَشَرْطُ وعَلامةٌ ، وقرأ أبو نضرة وعكرمةُ كذلك ، إلاَّ أنهما عَرَّفا باللام ، فقرآ « للعَلَمُ » أي : لَلْعلامَةُ المعروفةُ.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/417)


أو يخترم بَعْضَ النُّفوسِ حِمامُها
يريد كل النفوس ، واستشهدوا أيضاً بقول القطامي :
قد يُدْرِكُ المُتَأَنّي بَعْضَ حاجتِه.
قالوا معناه كل حاجته.
وهذا مذهب أبي عبيدة ، والصحيح أن البعض لا يكون في معنى الكل ، وهذا ليس في الكلام ، والذي جاء به عيسى في الإنجيل إنَّما هو بعض الذي اختلفوا فيه ، وبين اللَّه سبحانه لهم من غير الإنجيل ما احتاجوا إليه ، وكذلك قوله : أو يخترم بعض النفوس حمامها ، إنما يعني نفسه ، ونفسه بعض النفوس.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65)
(الأحزاب) قيل إنهم الأربعة الذين كانوا بعد عيسى ، يعني به اليهود
والنصارى.
وقوله : (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67)
جاء في التفسير عن النبى - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : الأخِلاءُ أَرْبَعَة مؤمنان وكافران - فمات أَحَدُ المؤمِنَيْنِ فَسُئِلَ عن خليله فقال ما علمته إلا أمَّاراً بالمعروف نهَّاءً عن المنكر ، اللهم اهده كما هَدَيْتَنِي ، وأمِتْه على مَا أَمَتني عليه.
وسئل الكافر عن خليله فقال : ما علمته إلا أمَّاراً بالمنكر نهَّاءً عن المعروف ، اللهم أضلله كما أضللتني ، وأمِتْهُ على ما أَمتني عليه ، فإذا كان يوم القيامة أثنى كل واحد على صاحبه شَرًّا .

(4/418)


قوله - عز وجل - (يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ
(68)
وتقرأ يا عبادي - بإثبات الياء ، وقد فسرنا حذف الياء وإثباتها في مثل
هذا فيما سلف من الكتاب.
* * *
وقوله : (الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69)
(الذين) في موضع نصب على النعت لِعِبَادِي ، لأن عبادي منادى
مضاف ، وإنَّمَا قيل (لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ) للمؤمنين لا لغيرهم ، وكذلك " (ادْخُلوا الجَنَّةَ) لَا خَوْفَ عَلَيْكُمْ
يعنى يا عبادي المؤمنين ادْخُلوا الجَنَّةَ.
* * *
وقوله : (أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70)
(تُحْبَرُونَ) تكرمون إكراماً يبالغ فيه ، والحَبْرَةُ المبالغة فيما وصف بجميل.
* * *
وقوله : (يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71)
" الصحاف " واحدها صَحْفَة وهي القصعة ، والأكواب واحدها كوب وهو
إناء مستدير لا عروة له.
وقوله : (وَفِيهَا مَا تَشْتَهِي الأنْفُسُ).
وقرئت (تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ) بإثبات الهاء ، وأكثر المصاحف بغيرها ، وفي
بعضها الهاء.
* * *
وقوله - عزَّ وجلَّ - : (لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75)
المبلس : الساكتُ المُمْسِكُ إمساك يائِس من فَرَج.
* * *
وقوله : (وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76)
" هِمْ " ههنا فصل كذا يسميها البصريون ، وهي تأتي دليلاً على أن ما

(4/419)


بعدها ليس بصفة لما قبلها ، وأن المتكلم يأتي بخبر الأول . ويسميها الكوفيون
العِمَاد.
وهي عِندَ البصريينِ لا موضع لها في رفع ولا نصب ولَا جَرٍّ ، ويزعَمُون
أنها بمنزلة (ما) في قوله سبحانه : (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ)
وقد فسرت ما في هذا فيما تقدم من الكتاب
ويجوز " ولكن كانوا هم الظالِمُونَ " في غير القرآن ، ولكن لا تقرأنَّ بها لأنَّها تُخَالِفُ المُصْحفَ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ
(77)
وقد رُوَيَتْ يَا مَالِ - بغير كاف ، وبكسْر اللام - وهذا يسميه النحوُّيونَ
الترَخيم ، وهو كثير في الشِعْر في مالك وعامر ولكنني أَكْرَهُهُمَا لمخالفتهما
المصحف.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79)
أي أم أحكموا عند أنْفُسِهِمْ أَمراً من كيد أو شَرٍّ فَإنا مُبْرِمُونَ.
مُحْكِمُونَ مُجَازَاتَهم كيداً بكيدِهِمْ ، وشَرًّا بِشَرِّهِمْ.
* * *
وقوله : (قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81)
معناه إنْ كنتم تزعمون أن للرحمن وَلَداً فانا أول الموَحِّدِينَ لأن من عبد
الله - عزَّ وجلَّ - واعترف بأنه إلهه فقد دفع أن يكون له وَلَدٌ.
والمعنى أن كان للرحمن ولد في قولكم ، كما قال : (أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ) أي في قولكم . واللَّه واحد لا شريك له.
وقد قيل إنَّ (إنْ) في هذا الموضع في موضع (ما)
المعنى ما كان للرحمن وَلَد ، (فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ).
وقد قيل إن العابدين في معنى الآنفين ، فأنا أول من يأنف من هذا القول.
__________
(1) قال الإمام فخر الدين الرَّازي بعد كلام طويل ما نصُّه :
المعنى أنه تعالى قال : {قُلْ} يا محمد {إِن كَانَ للرحمن وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين} لذلك الولد وأنا أول الخادمين له ، والمقصود من هذا الكلام بيان أنى لا أنكر ولده لأجل العناد والمنازعة فإن بتقدير أن يقوم الدليل على ثبوت هذا الولد كنت مقراً به معترفاً بوجوب خدمته إلا أنه لم يوجد هذا الولد ولم يقم الدليل على ثبوته ألبتة ، فكيف أقول به ؟ بل الدليل القاطع قائم على عدمه فكيف أقول به وكيف أعترف بوجوده ؟ وهذا الكلام ظاهر كامل لا حاجة به ألبتة إلى التأويل والعدول عن الظاهر ، فهذا ما عندي في هذا الموضع ونقل عن السدي من المفسرين أنه كان يقول حمل هذه الآية على ظاهرها ممكن ولا حاجة إلى التأويل ، والتقرير الذي ذكرناه يدل على أن الذي قاله هو الحق ، أما القائلون بأنه لا بد من التأويل فقد ذكروا وجوهاً الأول : قال الواحدي كثرت الوجوه في تفسير هذه الآية ، والأقوى أن يقال المعنى {إِن كَانَ للرحمن وَلَدٌ} في زعمكم {فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين} أي الموحدين لله المكذبين لقولكم بإضافة الولد إليه ، ولقائل أن يقول إما أن يكون تقدير الكلام : إن يثبت للرحمن ولد في نفس الأمر فأنا أول المنكرين له أو يكون التقدير إن يثبت لكم ادعاء أن للرحمن ولداً فأنا أول المنكرين له ، والأول : باطل لأن ثبوت الشيء في نفسه لا يقتضي كون الرسول منكراً له ، لأن قوله إن كان الشيء ثابتاً في نفسه فأنا أول المنكرين يقتضي إصراره على الكذب والجهل وذلك لا يليق بالرسول ، والثاني : أيضاً باطل لأنهم سواء أثبتوا لله ولداً أو لم يثبتوه له فالرسول منكر لذلك الولد ، فلم يكن لزعمهم تأثير في كون الرسول منكراً لذلك الولد فلم يصلح جعل زعمهم إثبات الولد مؤثراً في كون الرسول منكراً للولد.
الوجه الثاني : قالوا معناه : إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين الآنفين من أن يكون له ولد من عبد يعبد إذا اشتدت أنفته فهو عبد وعابد ، وقرأ بعضهم ( عبدين ).
واعلم أن السؤال المذكور قائم ههنا لأنه إن كان المراد : إن كان للرحمن ولد في نفس الأمر فأنا أول الآنفين من الإقرار به ، فهذا يقتضي الإصرار على الجهل والكذب ، وإن كان المراد إن كان للرحمن ولد في زعمكم واعتقادكم فأنا أول الآنفين ، فهذا التعليق فاسد لأن هذه الأنفة حاصلة سواء حصل ذلك الزعم والاعتقاد أو لم يحصل ، وإذا كان الأمر كذلك لم يكن هذا التعليق جائزاً.
والوجه الثالث : قال بعضهم إن كلمة إن ههنا هي النافية والتقدير ما كان للرحمن ولد فأنا أول الموحدين من أهل مكة أن لا ولد له.
واعلم أن التزام هذه الوجوه البعيدة إنما يكون للضرورة ، وقد بينا أنه لا ضرورة ألبتة فلم يجز المصير إليها ، والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 27 صـ 197 - 198}
وقال السَّمين :
قوله : { إِن كَانَ للرحمن } : قيل : هي شرطيةٌ على بابِها . واخْتُلِفَ في تأويلِه فقيل : إنْ صَحَّ ذلك فأنا أولُ مَنْ يَعْبُده لكنه لم يَصِحَّ ألبتَّةََ بالدليلِ القاطعِ ، وذلك أنَّه عَلَّق العبادةَ بكيْنونة الولدِ ، وهي مُحالٌ في نفسِها ، فكان المُعَلَّقُ بها مُحالاً مثلَها ، فهو في صورةِ إثباتِ الكينونةِ والعبادةِ ، وفي معنى نَفْيهِما على أَبْلغِ الوجوهِ وأَقْواها ، ذكره الزمخشريُّ . وقيل : إن كان له ولدٌ في زَعْمِكم . وقيل : العابدين بمعنى : الآنفين . مِنْ عَبِدَ يَعْبَدُ إذا اشْتَدَّ أَنَفَةً فهو عَبِدٌ وعابِدٌ . ويؤيِّدُه قراءةُ السُّلَميِّ واليماني « العَبِدين » دون ألفٍ . وحكى الخليل قراءةً غريبةً وهي « العَبْدِيْن » بسكون الباءِ ، وهي تخفيفُ قراءةِ السُّلَمي فأصلها الكسرُ . قال ابنُ عرفة : « يقال : عَبِدَ بالكسر يَعْبَد بالفتح فهو عَبِد ، وقلَّما يقال : عابِد ، والقرآن لا يجيْءُ على القليلِ ولا الشاذِّ » . قلتُ : يعني فتخريج مَنْ قال : إنَّ العابدين بمعنى الآنفين لا يَصِحُّ ، ثم قال كقول مجاهد . وقال الفرزدق :
4010 أولئك آبائي فجِئْني بمثْلِهم . . . وأَعْبَدُ أنْ أَهْجُوْ كُلَيْباً بدارِمِ
أي : آنَفُ . وقال آخر :
4011 متى ما يَشَأْ ذو الوُدِّ يَصْرِمْ خليلَه . . . ويُعْبَدْ عليه لا مَحالةَ ظالما
وقال أبو عبيدة : « معناه الجاحِدين » . يقال : عَبَدَني حَقِّي أي : جَحَدنيه . وقال أبو حاتم : « العَبِدُ بكسر الباءِ : الشديدُ الغَضَبِ » ، وهو معنى حسنٌ أي : إنْ كان له ولدٌ على زَعْمِكم فأنا أولُ مَنْ يَغْضَبُ لذلك.
وقيل : « إنْ » نافيةٌ أي : ما كان ، ثم أَخْبَرَ بقولِه : { فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين } وتكونُ الفاءُ سببيةً . ومنع مكي أَنْ تكونَ نافيةً قال : « لأنه يُوْهِمُ أنَّك إنما نَفَيْتَ عن الله الولدَ فيما مضى دونَ ما هو آتٍ ، وهذا مُحالٌ ».
وقد رَدَّ الناسُ على مكيّ ، وقالوا : كان قد تَدُلُّ على الدوامِ كقوله : { وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً } [ النساء : 96 ] إلى ما لا يُحْصَى ، والصحيحُ من مذاهبِ النحاةِ : أنها لا تدُلُّ على الانقطاعِ ، والقائلُ بذلك يقولُ : ما لم يكنْ قرينة كالآياتِ المذكورةِ . وتقدَّمَ الخلافُ في قراءَتَيْ : وَلَد ووُلْد في مريم . اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/420)


وقوله عزَّ وجلَّ : (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84)
المعنى هو الموحَّدُ في السماء وفي الأرْضِ.
وقرئت (في السَّماءِ اللَّهُ وفِي الأرْضِ اللَّهُ).
ويدل ما خلق بَيْنَهُما وفيهما أَنه وَاحِد حكيم عليم ، لأن
خلقُهما يدل على الحِكْمَةِ والعِلْمِ (1).
* * *
وقوله : (وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ (88)
(وَقِيلَهِ)
ويُقْرأ (وقِيلِهِ) ، (وقِيلُهِ يَا رَبِّ) ، فيها ثلاثة أوجه :
الخفض على مَعْنَى (وعنده علم الساعة) وعلمُ قِيلِه يَا رَبِّ
والنصب من ثلاثة أوجه :
قال أبو الحسن الأخفش إنه منصوب من جهتين :
إحداهما على العطف على قوله : (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ) وقيلَهُ ، أي ونسمع قيله . ويكون على وقال قيله.
قال أبو إسحاق : والَّذي أختاره أنا أن يكون " قيلَه " نصْباً على مَعْنَى
وعنده علم الساعة ويعلمُ قيلَهُ ، فيكون المعنى إنَّه يعلم الغيب ويعلم قيله ، لأن معنى عنده علم الساعة يعلم الساعة ويعلم قيله.
ومعنى الساعة في كل القرآن الوقت الذي تقوم فيه القيامَةُ.
والرفع على معنى وقيلُه هذا القول ، أي وقيله قوله (يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ) (2).
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { وَهُوَ الذي فِي السمآء إله } : « في السماء » متعلِّقٌ ب « إله » لأنه بمعنى معبودٌ أي : معبودٌ في السماء ومعبودٌ في الأرض ، وحينئذٍ فيقال : الصلة لا تكونُ إلاَّ جملةً أو ما في تقديرِها وهو الظرفُ وعديلُه ، ولا شيءَ منها هنا . والجوابُ : أنَّ المبتدأَ حُذِفَ لدلالة المعنى عليه ، وذلك المحذوفُ هو العائدُ تقديرُه : وهو الذي في السماءِ إلهٌ ، وهو في الأرض إلهٌ ، وإنما حُذِف لطولِ الصلةِ بالمعمولِ فإنَّ الجارَّ متعلِّقٌ ب إله . ومثلُه « ما أنا بالذي قائلٌ لك سوءاً ».
وقال الشيخ : « وحَسَّنه طولُه بالعطفِ عليه ، كما حَسَّنَ في قولِهم : قائل [ لك ] شيئاً طولُه بالمعمولِ » . قلت : حصولُه في الآيةِ وفيما حكاه سواءٌ؛ فإن الصلةَ طالَتْ بالمعمولِ في كلَيْهما ، والعطفُ أمرٌ زائدٌ على ذلك فهو زيادةٌ في تحسين الحَذْفِ . ولا يجوزُ أَنْ يكونَ الجارُّ خبراً مقدماً ، و « إله » مبتدأٌ مؤخرٌ لئلا تَعْرَى الجملةُ مِنْ رابطٍ ، إذ يصيرُ نظيرَ « جاء الذي في الدار زيد » . فإن جَعَلْتَ الجارَّ صلةً وفيه ضميرٌ عائدٌ على الموصولِ وجَعَلْتَ « إله » بدلاً منه . قال أبو البقاء : « جاز على ضَعْفٍ؛ لأن الغَرَض الكليَّ إثباتُ الإِلهيةِ لا كونُه في السماء والأرض ، فكان يَفْسُدُ أيضاً من وجهٍ آخرَ وهو قولُه : { وَفِي الأرض إله } لأنه معطوفٌ على ما قبلَه ، وإذا لم تُقَدِّرْ ما ذكرْنا صار منقطعاً عنه وكان المعنى : أنَّ في الأرض إلهاً » انتهى . وقال الشيخ : « ويجوزُ أَنْ تكونَ الصلةُ الجارَّ والمجرورَ ، والمعنى : أنه فيهما بألوهِيَّتِه وربُوبِيَّتِه ، إذ يَستحيل حَمْلُه على الاستقرار ».
وقرأ عمرُ وعلي وعبد الله في جماعة { وَهُوَ الذي فِي السمآء الله } ضُمِّن العَلَمُ أيضاً معنى المشتقِّ ، فيتعلَّقُ به الجارُّ . ومثله « هو حاتمٌ في طَيِّئ » أي : الجوادُ فيهم . ومثلُه : فرعون العذاب . اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(2) قال السَّمين :
قوله : { وَقِيلِهِ } : قرأ حمزةُ وعاصمٌ بالجرِّ . والباقون بالنصب . فأمَّا الجرُّ فعلى وجهَيْن ، أحدهما : أنَّه عطفٌ على « الساعة » أي : عنده عِلْمُ قيلِه ، أي : قولِ محمدٍ أو عيسى عليهما السلام . والقَوْلُ والقالُ والقِيْلُ بمعنى واحد جاءَتْ المصادرُ على هذه الأوزانِ . والثاني : أنَّ الواوَ للقَسم . والجوابُ : إمَّا محذوفٌ تقديرُه : لتُنْصَرُنَّ أو لأَفْعَلَنَّ بهم ما أريد ، وإمَّا مذكورٌ وهو قولُه : { إِنَّ هؤلاء قَوْمٌ لاَّ يُؤْمِنُونَ } ذكره الزمخشريُّ.
وأمَّا قراءةُ النصبِ ففيها ثمانيةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنَّه منصوبٌ على محلِّ « الساعة » . كأنَّه قيل : إنه يَعْلَمُ الساعةَ ويعْلَمُ قِيْله كذا . الثاني : أنَّه معطوفٌ على « سِرَّهم ونجواهم » أي : لا نعلم سِرَّهم ونجواهم ولا نعلمُ قِيْلَه . الثالث : عطفٌ على مفعولِ « يكتُبون » المحذوفِ أي : يكتبون ذلك ويكتبون قيلَه كذا أيضاً . الرابع : أنَّه معطوفٌ على مفعولِ « يعلمون » المحذوفِ أي : يَعْلمون ذلك ويعلمون قيلَه . الخامس : أنه مصدرٌ أي : قالَ قيلَه . السادس : أَنْ ينتصِبَ بإضمارِ فعلٍ أي : اللَّهُ يعلمُ قيلَ رسولِه وهو محمدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم . السابع : أَنْ ينتصِبَ على محلِّ « بالحق » أي : شَهِدَ بالحقِّ وبِقيْلِه . الثامن : أَنْ ينتصِبَ على حَذْفِ حرفِ القسمِ كقوله :
4012 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . فذاك أمانةَ اللَّهِ الثَّريدُ
وقرأ الأعرجُ وأبو قلابةَ ومجاهدٌ والحسنُ بالرفع ، وفيه أوجه [ أحدها : ] الرفعُ عطفاً على « علمُ الساعةِ » بتقديرِ مضافٍ أي : وعنده عِلْمُ قِيْلِه ، ثم حُذِفَ وأُقيم هذا مُقامَه . الثاني : أنَّه مرفوعٌ بالابتداءِ ، والجملةُ مِنْ قولِه : « يا رب » إلى آخره هي الخبر . الثالث : أنه مبتدأٌ وخبرُه محذوفٌ تقديرِه : وقيلُه كيتَ وكيتَ مَسْموعٌ أو مُتَقَبَّلٌ . الرابع : أنه مبتدأ وأصلُه القسمُ كقولِهم : « ايمُنُ الله » و « لَعَمْرُ الله » فيكونُ خبرُه محذوفاً . والجوابُ كما تقدَّم ، ذَكرَه الزمخشري أيضاً.
واختار القراءةَ بالنصب جماعةٌ . قال النحاس : « القراءةُ البَيِّنَةُ بالنصب من جهتَيْن ، إحداهما : أنَّ التفرقةَ بين المنصوبِ وما عُطِفَ عليه مُغْتَفَرَةٌ بخلافِها بين المخفوضِ وما عُطِفَ عليه . والثانيةُ تفسيرُ أهلِ التأويل بمعنى النصب » . قلت : وكأنَّه يُريدُ ما قال أبو عبيدة قال : « إنما هي في التفسيرِ : أم يَحْسَبون أنَّا لا نَسْمع سِرَّهم ونجواهم ولا نسمعُ قِيْلَه يا رب . ولم يَرْتَضِ الزمخشريُّ من الأوجهِ المتقدمةِ شيئاً ، وإنما اختار أَنْ تكونَ قَسَماً في القراءاتِ الثلاثِ ، وتقدَّم تحقيقُها.
وقرأ أبو قلابة » يا رَبَّ « بفتح الباءِ على قَلْب الياء ألفاً ثم حَذََفَها مُجْتَزِئاً عنها بالفتحة كقولِه :
4013 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . بلَهْفَ ولا بِلَيْتَ . . . . . . . . . . . . . . . . .
والأخفشُ يَطَّرِدُها . اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/421)


سُورَةُ الدُّخَان
( مَكِّيَّة )
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
جاء في التفسير : من قرأ سورة الدخان في ليلة الجمعة تصديقاً وإيماناً
غفر اللَّه له.
وقد فسرنا معنى (حم) فيما سَلَفَ.
* * *
وقوله : (وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2)
قَسَمٌ.
* * *
وقوله : (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3)
جاء في التفسير أنها ليلة القدر ، قال اللَّه - عزَّ وجلَّ - :
(إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ).
وقال المفسرُون : (فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ) هي ليلة القدر.
نزل جملة إلى السماءِ الدنْيَا في ليلة القَدْرِ ، ثم نزل عَلَى رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - شيئاً بعد شيء.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4)
يَفْرُق اللَّه عزَّ وجلَّ في ليلة القدر كل أمر فيه حكمة من أرزاقِ العِبادِ
وآجالِهِمْ وجميع أَمْرِهم الذي يكون مُؤَجَّلاً إلى ليلة القدر التي تكون في السنة
المقبلة.
* * *
وقوله - عزَّ وجلَّ - : (أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6)
(أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا) (1) ، وقوله : (رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ).
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { أَمْراً } : فيه اثنا عشر وجهاً ، أحدُها : أَنْ ينتصِبَ حالاً مِنْ فاعل « أَنْزَلْناه » . الثاني : أنه حالٌ مِنْ مفعولِه أي : أنزلناه آمِرِيْن ، أو مَأْموراً به . الثالث : أَنْ يكونَ مفعولاً له ، وناصبُه : إمَّا « أَنْزَلْناه » وإمَّا « مُنْذرِين » وإمَّا « يُفْرَقُ » . الرابع : أنه مصدرٌ مِنْ معنى يُفْرَق أي : فَرْقاً . الخامس : أنه مصدرٌ ل « أَمَرْنا » محذوفاً . السادس : أَنْ يكونَ « يُفْرَقُ » بمعنى يَأْمُر . والفرقُ بين هذا وما تقدَّم : أنَّك رَدَدْتَ في هذا بالعاملِ إلى المصدرِ وفيما تقدَّم بالعكس . السابع : أنَّه حالٌ مِنْ « كُلُّ » . الثامن : أنه حالٌ مِنْ « أَمْرٍ » وجاز ذلك لأنه وُصِفَ . إلاَّ أنَّ فيه شيئين : مجيءَ الحالِ من المضاف إليه في غيرِ المواضع المذكورة . والثاني : أنها مؤكدةٌ . التاسع : أنه مصدرٌ ل « أَنْزَل » أي : إنَّا أَنْزَلْناه إنزالاً ، قاله الأخفش . العاشر : أنَّه مصدرٌ ، لكن بتأويل العاملِ فيه إلى معناه أي : أَمَرْنا به أَمْراً بسببِ الإِنزال ، كما قالوا ذلك في وَجْهي فيها يُفْرَقُ فَرْقاً أو يَنْزِل إنزالاً . الحادي عشر : أنه منصوبٌ على الاختصاص ، قاله الزمخشري ، ولا يَعْني بذلك الاختصاصَ الاصطلاحيَّ فإنه لا يكون نكرةً . الثاني عشر : أَنْ يكونَ حالاً من الضميرِ في « حكيم » . الثالث عشر : أَنْ ينتصِبَ مفعولاً به ب « مُنْذِرين » كقولِه : { لِّيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً } [ الكهف : 2 ] ويكونُ المفعولُ الأول محذوفاً أي : مُنْذِرين الناسَ أمراً . والحاصلُ أنَّ انتصابَه يَرْجِعُ إلى أربعة أشياء : المفعولِ به ، والمفعولِ له ، والمصدريةِ ، والحاليةِ ، وإنما التكثيرُ بحَسبِ المحالِّ ، وقد عَرَفْتَها بما قَدَّمْتُه لك.
وقرأ زيد بن علي « أَمْرٌ » بالرفع . قال الزمخشري : « وهي تُقَوِّي النصبَ على الاختصاصِ ».
قوله : « مِنْ عِنْدِنا » يجوز أَنْ يتعلَّق ب « يُفْرَقُ » أي : مِنْ جهتِنا ، وهي لابتداءِ الغاية مجازاً . ويجوز أَنْ يكونَ صفةً ل أَمْراً . اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/423)


منصوبان - قال الأخفش - على الحال ، المعنى إنا أنزلناه آمرين أَمْرِاً
وراحمين رحْمةً.
ويجوز أن يكون منصوباً بِـ (يُفْرَقُ) بمنزلة يفرُقُ فرقاً لأن أمْرَاً
بمعنى فَرْقاً ، لأن المعْنَى يؤتمر فيها أمراً.
ويجوز أن يكون (رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) مَفْعُولًا له ، أي إنا أنزلناه رحمة أي
للرحْمَةِ (1).
* * *
وقوله : (رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7)
بالخفض والرفع . فالرفعُ عَلَى الصفَةِ ، والخفض على قوله : (مِنْ رَبِّكَ
رَبِّ السَّمَاوَاتِ.
ومن رفع فعلى قوله : (إنَّه هو السميع العليم رَبُّ السَّمَاوَاتِ).
وإن شئت على الاستئناف على معنى هو ربُّ السَّمَاوَاتِ.
* * *
وقوله : (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8)
ويقرأ (رَبكُمْ وَرَبِّ آبائِكم الأولينَ) - فالخفض على معنى رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ
رَبِّكم وربّ آبائكم الأولين.
* * *
وقوله : (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10)
(فارتقب) فانتظر ، وفي أكثر التفسير أن الدخان قَدْ مَضى وذلك حين دعا
رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - عَلَى مُضَرٍ فقال :
اللهم اشدد وطأتك على مُضَرٍ واجْعَلْها عَلَيْهِم سِنِينَ كسني يُوسُفَ.
أي اجْعَلْهُم سِنُوهم في الجدب كسني يوسف.
والعَرَبُ أيضاً تسمي الجدبِ السَّنَةَ ، فيكونُ المْعَنى اجعلها عليهم جَدُوباً . فارتفع القَطْرُ ، وأجْدَبَتِ الأرضُ وصار بين السماء والأرض كالدخَانِ.
* * *
وقوله : (يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11)
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { رَحْمَةً } : فيها خمسةُ أوجهٍ [ أحدها ] : المفعولُ له . والعاملُ فيه : إمَّا « أَنْزَلْناه » وإمَّا « أَمْراً » وإمَّا « يُفْرَقُ » وإمَّا « مُنْذِرين » . الثاني : مصدرٌ بفعلٍ مقدرٍ أي : رَحِمْنا رَحْمَةً . الثالث : مفعولٌ ب مُرْسِلين . الرابع : حالٌ من ضمير « مُرْسِلين » أي : ذوي رحمة . الخامس : أنها بدلٌ مِنْ « أَمْراً » فيجيءُ فيها ما تقدَّم ، وتكثرُ الأوجهُ فيها حينئذٍ.
و « مِنْ رَبِّك » يتعلَّقُ برَحْمة ، أو بمحذوفٍ على أنها صفةٌ . وفي « مِنْ ربِّك » التفاتٌ من التكلُّم إلى الغَيْبة ، ولو جَرَى على مِنْوالِ ما تقدَّمَ لقال : رحمةً منا . اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/424)


المعنى يقول الناسُ الذين يحل بهم الجَدْبُ : (هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ)
وكذلك قوله (رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ).
* * *
وقوله - عزَّ وجلَّ - : (إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15)
ويجوز أَنَّكُمْ عَائِدُونَ.
فمن قرأ أَنكُمْ عائدونَ فهو الوجه ، والمعنى أنه يعلمهم أنهم لا يتعِظُونَ ، وأنهم إذَا زال عنهم المكروه عادوا في طُغْيانِهم.
* * *
وقوله - عزَّ وجلَّ : (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16)
يوم نَبْطِش ، وَنَبْطُش إِنَّا مُنْتَقِمُونَ.
هذا مثل عَكَفَ يَعكُف وَيَعْكِفُ ، وعَرَشَ يَعْرِشُ ويعْرُشُ وهذا في اللغة
كثير.
وقيل إن البطشة الكبرى يوم بَدْر.
و " يومَ " لا يجوز أن يكون منصُوباً بقوله مُنْتَقِمُونَ ، لأن ما بَعْدَ (إنَّا) لا يجوز أن يعمل فيما قبلَها ، ولكنه مَنْصُوبُ بقوله : واذكر يوم نبطش البطشة الكبرى.
* * *
وقوله - عزَّ وجلَّ - : (وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18)
(أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ)
أن أسلموا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ ، يعني بني إسرائيل كما قال : (فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ) ، أي أطلقهم من عَذَابِكَ.
وجائز أن يكون (عِبَادَ اللَّهِ) مَنصُوباً على النداء ، فيكون المعنى أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ ما أمركم اللَّه به يا عباد اللَّه.
* * *
(وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (19)
أي بِحِجةٍ وَاضحةٍ بَيِّنَةٍ تَدل على أني نبيٌّ.
* * *
وقوله : (وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20)
أي أن تقتلون .

(4/425)


وقوله : (وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21)
أي إن لم تؤمنوا لي فلا تكونوا عليَّ ولا مَعِي.
* * *
(فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22)
من كسر (إنَّ) فالمعنى قال إن هؤلاء ، وَ " إنَّ) بعد القول مكسورة.
ويجوز الفتح على معنى فَدَعَا رَبَّهُ بأَنَّ هَؤُلَاءِ.
* * *
وقوله : (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24)
جاء في التفسير " يَبَساً " كما قال : (فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا"
وقال أهل اللغة : رَهواً سَاكِناً.
* * *
وقوله : (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26)
جاء في التفسير أن المقام الكريم يعنى به المنابر ههنا ، وجاء في
مَقام كريم أي في منازل حسنة.
* * *
قوله : (كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (28)
المعنى الأمر كذلكْ.
موضع كذلك رفع على خبر الابتداء المضمَر.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ
(29)
لأنهم ماتوا كفاراً ، والمؤمنون إذَا مَاتُوا تبكي عليهم السماء والأرض.
فيبكي على المؤمن من الأرض مُصَلَّاه أي مكان مُصَلاهُ ومن السماء مكان مصعد
عمله ومنزل رزقه.
وجاء في التفسير أن الأرض تبكي على المؤمن أربعين
صَبَاحاً.
* * *
وقوله : (وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ).

(4/426)


أي ما كانوا مؤخرين بالعذاب.
(وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (32)
أي على عالمي دهرِهم.
* * *
وقوله : (إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35)
هذا قاله الكفار من قريش ، معنى (إن هي) ما هي ، ومعنى (بِمُنْشَرِينَ)
بمبعوثين ، يقال أنشر اللَّه الموتى فَنَشَرُوا هُمْ [إِذا حَيُوا] (1).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (37)
جاء في التفسير أن تُبَّعاً كان مؤمناً ، وأن قومه كانوا كافرين ، وجاء أنه
نظر إلى كتاب على قبرين بناحية حمير ، على قبر أحدهما : هذا قبر رَضْوَى.
وعلى الآخر هذا قبر حُبى ابْنتي تُبَّع لا يشركان باللَّهِ شيئاً.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39)
يعنى به السَّمَاوَات والأرض أي إلا لإقامة الحق.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40)
ويجوز ميقاتهم بنصب التاء ، ولا أعلم أنه قرئ بها ، فلا تقرأن بها.
فمن قرأ ميقاتهم بالرفع جعل يوم الفصل اسم إنَّ ، وجعل ميقاتهم الخبر ، ومن
نصب ميقاتهمْ جعله اسم إنَّ ونصب يوم الفصل على الظرف ، ويكون المعنى
ميقاتهم في يوم الفصل.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (41)
لا يغني ولي عن وَليِّهِ شيئاً ، ولا والد عن ولده ، ولا مَوْلُودٌ عن وَالِدِه.
* * *
وقوله : (إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44)
__________
(1) زيادة من لسان العرب. 5 / 206).

(4/427)


يعنى به ههنا أبو جهل بن هشام.
والمهل دُرْدِيُّ الزيت ويقال : المهمل ما كان ذائباً من الفضة والنحاس وما أشبه ذلك (3).
* * *
وقوله : (خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47)
ويقرأ فاعْتُلوه - بضم التاء وكسرها.
المعنى يا أيها الملائكة خذوه فاعتلوه.
والعَتْلُ أن يؤخذَ فيمْضَى به بِعَسْفٍ وَشِدةٍ.
(إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ) إلى وَسَطِ الجَحِيمِ.
* * *
وقوله : (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49)
الناس كلهم على كسر " إِنَّكَ " إلا الكسائي وحده فإنه قرأ : ذق أنَّكَ
أنت ، أي لأنَّكَ قُلْتَ إنك أنت العزيز الكريم ، وذلك أنه كان يقول : أنا أعز أهل هذا الوادي وَأمْنَعُهمُ فقال الله عزَّ وجلَّ ذق هذا العذابَ إِنَّك أنت القائل : أنا العزيز الكريم.
* * *
وقوله : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51)
أي قد أمنوا فيه الغِيَرَ (1).
* * *
وقوله : (يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (53)
قيل الإِسْتَبْرَق : الديباج الصَّفيقُ (2).
والسُنْدُس : الحرير ، وإنما قيل له إستبرق
- واللَّه أعلم - لشدة بريقه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56)
المعنى لا يذوقون فيها الموت ألبتَّة سوى الموتة الأولى التي ذاقوها في
الدنيا ، وهما كما قال : (وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ).
__________
(1) أمنوا فيه الغِيَرَ والحوادث (زاد المسير. 7 / 350)
(2) الغليظ الحسَن
(3) قال السَّمين :
قوله : { كالمهل } : يجوزُ أَنْ يكونَ خبراً ثانياً ، وأَنْ يكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ أي : هو كالمُهْلِ . ولا يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً مِنْ « طعام الأثيم » . قال أبو البقاء : « لأنَّه لا عاملَ إذ ذاك » . وفيه نظرٌ؛ لأنَّه يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً ، والعاملُ فيه معنى التشبيه ، كقولك : زيدٌ أخوك شجاعاً.
والأَثيم صفةُ مبالَغَةٍ . ويقال : الأَثُوم كالصَّبورِ والشَّكور . والمُهْل : قيل دُرْدِيُّ الزيت . وقيل عَكَر القَطِران . وقيل : ما أُذِيْبَ مِنْ ذَهَبٍ أو فضة . وقيل : ما أُذِيْبَ منهما ومِنْ كُلِّ ما في معناهما من المُنْطبعات كالحديدِ والنحاس والرَّصاص . والمَهْلُ بالفتح : التُّؤَدَةُ والرِّفْقُ . ومنه { فَمَهِّلِ الكافرين } [ الطارق : 17 ] . وقرأ الحسن « كالمَهْل » بفتح الميم فقط ، وهي لغةٌ في المُهْلِ بالضم.
قوله : « يَغْلي » قرأ ابن كثير وحفصٌ بالياءِ مِنْ تحتُ . والفاعلُ ضميرٌ يعود على طعام . وجَوَّز أبو البقاء أَنْ يعودَ على الزَّقُّوم . وقيل : يعود على المُهْلِ نفسِه ، و « يَغْلي » حالٌ من الضميرِ المستترِ في الجارِّ أي : مُشْبهاً المُهْلَ غالياً . ويجوزُ أَنْ يكونَ حالاً مِنَ المُهْلِ نفسِه . وجَوَّزَ أبو البقاء أَنْ يكونَ خبرَ مبتدأ محذوفٍ أي : هو يَغْلي أي : الزقُّوم أو الطعامُ . والباقون « تَغْلي » بالتاء مِنْ فوقُ ، على أنَّ الفاعلَ ضميرُ الشجرةِ ، والجملةُ خبرٌ ثانٍ أو حالٌ على رَأْيٍ ، أو خبرُ مبتدأ مضمر أي : هي تَغْلي . اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/428)


وقوله عزَّ وجلَّ : (فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57)
ويجوز (فَضْلٌ مِنْ رَبِّكَ) ، ولا يقرأنَّ بها لخلاف المصحف ، والنصْبُ على
معنى قوله (يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ).
وعلى معنى (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ)
وذلك بفضل من اللَّه ، فالمعنى فعَل الله بهم ذلك فضلاً منه.
وتفضلاً منه.
* * *
وقوله : (فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59)
معناه فانتظر إنهم منتظرون .

(4/429)


سُورَةُ الجاثية
( مَكِّيَّة )
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله عزَّ وجلَّ : (إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3)
المعنى - واللَّه أعلم إن في خلق السَّمَاوَات والأرض لآياتٍ
ويدل عليه قوله (وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ
(4)
يقرأ (آياتٍ) و (آياتٌ) بخفض التاء ورفعها
وهي في موضع نصب على النسَق على قوله : (إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ).
المعنى إن في خَلْقِكم لآيات ، ومن قرأ (لَآيَاتٌ) فعلى ضربين :
على الاستئناف على معنى وفي خلقكم آياتٌ.
وعلى موضع أن مع ما عملت فيه.
تقول : إن زيداً قائم وَعَمْراً وعَمْر.
فتعطف بعَمْرٍو على زيد إذا نَصَبْتَ ، وإذَا رفعت فعلى موضع إنَّ مع زيدٍ ، فإن مَعْنَى إنَّ زَيداً قائم زيد قائم.
* * *
وقوله : (وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5)
(آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)
يقرأ بالرفع وبكسر التاء والتنوين ، والموضع موضع نَصْبٍ ويكون قوله :
(وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) عطف على قوله : (وفي خلقكم) ، وعلى قوله :

(4/431)


(إن في السَّمَاوَاتِ والأرضِ) ، وإن في (اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) آياتٍ.
وهذا عطف عَلَى عَامِلَيْن
ومثله من الشعر :
أكلَّ امرِىءٍ تَحْسَبين امرَأً . . . ونارٍ تَوَقَّدُ بالليلِ نارا
عطف على ما عملت فيه كل ، وما عملت فيه أتحسبين.
وقد أباهُ بعض النحويين ، وقالوا : لا يجوز إلا الرفع في قوله :
(وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ)
وجعله عطفاً على عامل واحد على معنى واختلاف الليل والنهار وتصريف الرياح آيات ، وهذا أيضاً عطف على عاملين لأنه يَرْفَع (آياتً) على العطف على ما قبلها كما خفض (واختلافِ) على العطف على ما قبلها.
ويكون معطوفاً إن شئت على موضع أن وَمَا عَمِلتْ فيه ، وإن شئت على قراءة من قرأ : (وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٍ) (1).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6)
و (تؤمنون) جميعاً ، والمعنى - واللَّه أعلم - فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ كتاب اللَّهِ
وآياته يؤمنون.
قال اللَّه عزَّ وجلَّ : (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ)
فجعل القرآن أحسن الحديث.
* * *
وقوله : (ويل لِكُلِ أَفاكٍ أَثِيم).
(أَفاكٍ) كذاب.
* * *
وقوله : (هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20)
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { وَمَا يَبُثُّ مِن دَآبَّةٍ } : فيه وجهان ، أظهرهما : أنه معطوفٌ على « خَلْقِكم » المجرورِ ب « في » والتقديرُ : وفي ما يَبُثُّ . والثاني : أنه معطوفٌ على الضميرِ المخفوضِ بالخَلْق ، وذلك على مذهبِ مَنْ يرى العطفَ على الضميرِ المجرورِ دونَ إعادةِ الجارِّ واستقبحه الزمخشريُّ وإنْ أُكِّد نحو : « مررتُ بك أنت وزيدٍ » يُشير بذلك إلى مذهب الجرميِّ فإنَّه يقول : إن أُكِّد جازَ ، وإلاَّ فلا ، فقولُه مذهبٌ ثالثٌ.
قوله : { آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } و { آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } قرأ « آياتٍ » بالكسر في الموضعَيْن الأخوَان ، والباقون برفعهما . ولا خلافَ في كسرِ الأولى لأنها اسمُ « إنَّ » . فأمَّا { آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } بالكسر فيجوزُ فيها وجهان ، أحدهما : أنها معطوفةٌ على اسم « إنَّ » ، والخبرُ قولُه : « وفي خَلْقِكم » . كأنه قيل : وإنَّ في خَلْقِكم وما يَبُثُّ مِنْ دابة آياتٍ . والثاني : أَنْ تكونَ كُرِّرَتْ تأكيداً لآيات الأُولى ، ويكونُ « في خَلْقكم » معطوفاً على « في السماوات » كُرِّر معه حرفُ الجَرِّ توكيداً . ونظيرُه أَنْ تقولَ : « إنَّ في بيتك زيداً وفي السوق زيداً » فزيداً الثاني تأكيدٌ للأول ، كأنك قلت : إنَّ زيداً زيداً في بيتك وفي السوق وليس في هذه عطفٌ على معمولَيْ عاملَيْن ألبتَّةََ.
وقد وَهِم أبو البقاء فجعلها مِنْ ذلك فقال : { آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } يُقرأ بكسر التاءِ ، وفيه وجهان ، أحدهما : أنَّ « إنَّ » مضمرةٌ حُذِفَتْ لدلالة « إنَّ » الأُولى عليها ، وليسَتْ « آيات » معطوفةً على « آيات » الأولى لِما فيه من العطفِ على معمولَيْ عامليْن . والثاني : أَنْ تكونَ كُرِّرَتْ للتأكيد لأنها مِنْ لفظ « آيات » الأُوْلى ، وإعرابُها كقولِك : « إن بثوبك دماً وبثوبِ زيد دماً » ف « دم » الثاني مكررٌ؛ لأنَّك مُسْتغنٍ عن ذِكْرِه « انتهى.
فقوله : » وليسَتْ معطوفةً على آياتِ الأولى لِما فيه من العطفِ على عامِلَيْن « وَهَمٌ؛ أين معمولُ العاملِ الآخر؟ وكأنه توهَّمَ أنَّ » في « ساقطةٌ مِنْ قولِه : » وفي خَلْقِكم « أو اختلطَتْ عليه { آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } بهذه؛ لأنَّ تَيْكَ فيها ما يُوْهِمُ العطفَ على عامِلَيْن وقد ذكره هو أيضاً.
وأمَّا الرفعُ فمِنْ وجهَيْن أيضاً ، أحدهما : أَنْ يكونَ » في خَلْقِكم « خبراً مقدَّماً ، و » آياتٌ « مبتدأً مؤخراً ، وهي جملةٌ معطوفةٌ على جملة مؤكدةٍ . ب » إنَّ « . والثاني : أَنْ تكون معطوفةً على » آيات « الأولى باعتبار المحلِّ عند مَنْ يُجيزُ ذلك ، لا سيما عند مَنْ يقولُ : إنه يجوز ذلك بعد الخبرِ بإجماعٍ.
وأمَّا قولُه : { واختلاف الليل والنهار } الآية فقد عَرَفْتَ أنَّ الأخَوَيْن يقرآن » آيات « بالكسرِ ، وهي تحتاج إلى إيضاحٍ ، فإن الناسَ قد تكلَّموا فيها كلاماً كثيراً ، وخرَّجوها على أوجهٍ مختلفةٍ ، وبها استدلَّ على جوازِ العطفِ على عاملين.
قلت : والعطفُ على عامِلَيْن لا يختصُّ بقراءةِ الأخوَيْن بل يجوز أَنْ يُسْتَدَلَّ عليه أيضاً بقراءة الباقين ، كما ستقف عليه إن شاء الله تعالى . فأما قراءةُ الأخوين ففيها أوجهٌ ، أحدُها : أن يكونَ « اختلافِ الليلِ » مجروراً ب « في » مضمرةً ، وإنما حُذِفَتْ لتقدُّم ذكرِها مَرَّتَيْنِ ، وحرفُ الجرِّ إذا دَلَّ عليه دليلٌ/ جاز حَذْفُه وإبقاءُ عملِه . وأنشَدَ سيبويه :
4023 الآن قَرَّبْتَ تَهْجُونا وتَشْتِمُنا . . . فاذهَبْ فما بك والأيامِ من عَجَبِ
تقديرُه : وبالأيام لتقدُّم الباءِ في « بك » ولا يجوزُ عَطْفُه على الكاف لأنه ليس مِنْ مذهبه - كما عَرَفْتَ - العطفُ على الضميرِ المجرورِ دونَ إعادةِ الجارِّ ، فالتقديرُ في هذه الآيةِ : « وفي اختلافِ آيات » ف « آيات » على ما تقدَّم من الوجهين في « آيات » قبلَها : العطفِ أو التأكيدِ . قالوا : ويَدُلُّ على ذلك قراءةُ عبد الله « وفي اختلافِ » تصريحاً ب « في » . فهذان وجهان.
الثالث : أَنْ يُعْطَفَ « اختلافِ » على المجرورِ ب « في » وآياتٍ على المنصوبِ ب « إنَّ » . وهذا هو العطفُ على عاملَيْنِ ، وتحقيقُه على معمولَيْ عاملين : وذلك أنَّك عَطَفْتَ « اختلاف » على خَلْق وهو مجرورٌ ب « في » فهو معمولُ عاملٍ ، وعَطَفْتَ « آياتٍ » على اسمِ « إنَّ » وهو معمولُ عاملٍ آخرَ ، فقد عَطَفْتَ بحرفٍ واحدٍ وهو الواوُ معمولين وهما « اختلاف » و « آيات » على معمولَيْن قبلَهما وهما : خَلْق وآيات . وبظاهرِها استدلَّ مَنْ جَوَّز ذلك كالأخفشِ . وفي المسألة أربعةُ مذاهب : المَنْعُ مطلقاً ، وهو مذهبُ سيبويه وجمهورِ البصريين . قالوا : لأنه يُؤَدِّي إلى إقامة حرفِ العطفِ مقامَ عاملين وهو لا يجوزُ؛ لأنه لو جاز في عامِلَيْن لجازَ في ثلاثةٍ ، ولا قائل به ، ولأنَّ حرفَ العطفِ ضعيفٌ فلا يَقْوَى أَنْ ينوبَ عن عاملَيْنِ ولأنَّ القائلَ بجوازِ ذلك يَسْتَضْعِفُه ، والأحسنُ عنده أن لا يجوزَ ، فلا ينبغي أَنْ يُحْمَلَ عليه كتابُ اللَّهِ ، ولأنه بمنزلةِ التعديتَيْنِ بمُعَدٍّ واحد ، وهو غيرُ جائزٍ.
قال ابن السراج : « العطفُ على عاملَيْن خطأٌ في القياسِ ، غيرُ مَسْموع من العرب » ثم حَمَل ما في هذه الآيةِ على التكرارِ للتأكيد . قال الرمَّاني : « هو كقولِك : » إنَّ في الدارِ زيداً والبيتِ زيداً « فهذا جائزٌ بإجماعٍ فتدبَّرْ هذا الوجهَ الذي ذكره ابنُ السراجِ فإنه حسنٌ جداً ، لا يجوزُ أَنْ يُحْمَلَ كتابُ اللَّهِ إلاَّ عليه . وقد بَيَّنْتُ القراءةَ بالكسرِ ولا عيبَ فيها في القرآن على وجهٍ ، والعطفُ على عاملَيْن عيبٌ عند مَنْ أجازه ومَنْ لم يُجِزْه ، فقد تناهى في العيب ، فلا يجوزُ حَمْلُ هذه الآيةِ إلاَّ على ما ذكره ابنُ السَّراج دون ما ذهبَ إليه غيرُه ».
قلت : وهذا الحَصْرُ منه غيرُ مُسَلَّمٍ فإنَّ في الآيةِ تخريجاتٍ أُخَرَ غيرَ ما ذكره ابن السراج يجوزُ الحَمْلُ عليها . وقال الزجاج : « ومثلُه في الشعر :
4024 أكلَّ امرِئٍ تَحْسَبين امْرَأً . . . ونارٍ تَوَقَّدُ بالليلِ نارا
وأنشد الفارسيُّ للفرزدق :
4025 وباشَرَ راعيها الصَّلا بلَبانِه . . . وجَنْبَيْه حَرَّ النارِ ما يتحرَّق
وقول الآخر :
4026 أَوْصَيْتُ مِنْ رُبْدَةَ قَلْباً حُرَّاً . . . بالكلبِ خيراً والحَماةِ شَرا
قلت : أمَّا البيتُ الأولُ فظاهرُه أنه عَطَفَ و » نارٍ « على » امرئ « المخفوض ب » كل « و » ناراً « الثانية على » امرَأ « الثاني . والتقدير : وتحسبين كلَّ نارٍ ناراً ، فقد عطف على معمولَيْ عاملَيْن . والبيتُ الثاني عَطَفَ فيه » جَنْبَيْه « على » بلبانه « وعَطَفَ » حَرَّ النارِ « على » الصلا « ، والتقدير : وباشر بجَنْبَيْه حرَّ النار ، والبيتُ الثالث عَطَفَ فيه » الحَماة « على » الكلب « و » شَرًّا « على » خيراً « ، تقديرُه وأَوْصَيْتُ بالحَماة شراً . وسيبويه في جميع ذلك يرى الجرَّ بخافضٍ مقدرٍ لكنه عُورض : بأنَّ إعمال حرفِ الجرِّ مضمراً ضعيفٌ جداً ، ألا ترى أنَّه لا يجوزُ » مررتُ زيدٍ « بخفضِ » زيد « إلاَّ في ضرورةٍ كقولِه :
4027 إذا قيلَ أيُّ الناسِ شرُّ قبيلةٍ . . . أشارَتْ كليبٍ بالأكفِّ الأصابعُ
يريد : إلى كليب ، وقولِ الآخر :
4028- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . حتى تَبَذَّخَ فارتقى الأعلامِ
أي إلى الأعلام ، فقد فَرَّ مِنْ شيءٍ فوقَع في أضعفَ منه . وأُجيب عن ذلك : بأنه لَمَّا تَقَدَّم ذِكْرُ الحرف في اللفظِ قَوِيَتِ الدلالةُ عليه ، فكأنَّه ملفوظٌ به بخلافِ ما أَوْرَدْتموه في المثالِ والشعر.
والمذهب الثاني : التفصيلُ - وهو مذهب الأخفش - وذلك أنَّه يجوز بشرطَيْنِ ، أحدُهما : أَنْ يكونَ أحدُ العاملَيْن جارًّا . والثاني : أن يتصلَ المعطوفُ بالعاطفِ أو يُفْصَلَ بلا ، مثالُ الأولِ الآيةُ الكريمةُ والأبياتُ التي قَدَّمْتُها . ولذلك استصوب المبردُ استشهادَه بالآيةِ . ومثالُ الفَصْل ب لا قولك : » ما في الدارِ زيدٌ ولا الحجرةِ عمروٌ « ، فلو فُقِدَ الشرطانِ نحو : إنَّ/ زيداً شَتَمَ بِشْراً ، وواللَّهِ خالداً هنداً ، أو فُقِدَ أحدُهما نحو : إنَّ زيداً ضربَ بَكْراً ، وخالداً بشراً . فقد نَقَلَ ابنُ مالكٍ الامتناعَ عند الجميعِ . وفيه نظرٌ لِما سَتَعْرِفُه من الخلافِ.
الثالث : أنَّه يجوزُ بشرطِ أَنْ يكونَ أحدُ العامِلَيْنِ جارَّاً ، وأَنْ يكونَ متقدماً ، نحوَ الآيةِ الكريمةِ ، فلو لم يتقدَّمْ نحوَ : » إنَّ زيداً في الدار ، وعمراً السوقِ « لم يَجُزْ ، وكذا لو لم يكنْ حرفَ جرٍّ كما تقدَّمَ تمثيلُه.
الرابع : الجوازُ ، ويُعْزَى للفَرَّاء.
الوجهُ الرابعِ من أوجهِ تخريجِ القراءةِ المذكورة : أَنْ تنتصِبَ » آيات « على الاختصاصِ.
قاله الزمخشريُّ ، وسيأتي فيما أَحْكيه عنه.
وأمَّا قراءةُ الرفعِ ففيها أوجهٌ ، أحدُها : أَنْ يكونَ الأولُ والثاني ما تقدَّم في { آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } . الثالث : أَنْ تكونَ تأكيداً لآيات التي قبلها ، كما كانَتْ كذلك في قراءةِ النصبِ . الرابع : أَنْ تكونَ المسألةُ من بابِ العطفِ على عامِلَيْن؛ وذلك أنَّ « اختلافِ » عطفٌ على « خَلْقِكم » وهو معمولٌ ل « في » و « آيات » معطوفةٌ على « آيات » قبلَها ، وهي معمولةٌ للابتداءِ فقد عَطَفَ على معمولَيْ عامِلَيْنِ في هذه القراءةِ أيضاً . قال الزمخشري : « قُرِئَ { آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } بالرفع والنصبِ على قولِك : » إنَّ زيداً في الدار وعمراً في السوقِ ، أو وعمروٌ في السوق « . وأمَّا قولُه : { آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } فمن العطفِ على عامِلَيْنِ سواءً نَصَبْتَ أم رَفَعْتَ فالعاملان في النصبِ هما : » إنَّ « ، و » في « أُقيمت الواوُ مُقامَهما فعَمِلَتْ الجرَّ في و { واختلاف اليل والنهار } والنصبَ في » آياتٍ « . وإذا رَفَعْتَ فالعاملانِ : الابتداءُ ، و » في « عملت الرفع في » آيات « والجرَّ في » اختلاف « » . ثم قال في توجيهِ النصبِ : « والثاني أَنْ ينتصِبَ على الاختصاصِ بعد انقضاءِ المجرور ».
الوجهُ الخامسُ أَنْ يرتفعَ « آياتٌ » على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ أي : هي آياتٌ . وناقَشَه الشيخُ فقال : « ونسبةُ الجرِّ والرفعِ ، والجرِّ والنصبِ للواوِ ليس بصحيحٍ؛ لأنَّ الصحيحَ من المذاهبِ أنَّ حرفَ العطفِ لا يعملُ » قلت : وقد ناقشه الشيخُ شهابُ الدين أبو شامةَ أيضاً فقال : « فمنهم مَنْ يقولُ : هو على هذه القراءةِ أيضاً - يعني قراءةَ الرفعِ - عطفٌ على عاملَيْنِ وهما حرفُ » في « ، والابتداءُ المقتضي للرفعِ . ومنهم مَنْ لا يُطْلِقُ هذه العبارةَ في هذه القراءةِ؛ لأنَّ الابتداءَ ليس بعاملٍ لفظي ».
وقُرئ « واختلافُ » بالرفعِ « آيةٌ » بالرفعِ والتوحيدِ على الابتداء والخبر ، وكذلك قُرئ { وَمَا يَبُثُّ مِن دَآبَّةٌ آيةٌ } بالتوحيد . وقرأ زيد بن علي وطلحة وعيسى « وتصريف الريح » كذا قال الشيخ . قلت وقد قرأ بهذه القراءةِ حمزةُ والكسائيُّ أيضاً ، وقد تقدَّم ذلك في سورةِ البقرةِ . اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/432)


(هذا) إشارة إلى القرآن ، المعنى هذا القرآن بصائر للناس.
* * *
وقوله (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)
(سَوَاءٌ مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ)
ويقرأ (سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ) ، وقد قرئت سواءٌ مَحْياهم وَمَماتَهمْ
بنصب الممات.
وحكى بعض النحويين أن ذلك جائز في العربية.
ومعنى (اجْتَرَحُوا) اكتسبوا ، ويقال : فلانٌ جَارِحةُ أهله أي كاسبهم ، والاختيار عند سيبويه والخليل وجميع البصريين (سَوَاءٌ) برفع سواء.
وعليه - أكثر القراء ، ويجيزون النصب ، وتقول : ظننت زيداً - سواءٌ أبوه وأمُّه ، وسواءً أبوه وأُمُّه.
والرفع أجود ، لأن سواء في مذهب المصدر كما تقول : ظننت زيداً ذو استواء أبوه وأُمُّه.
ومن قرأ (سَوَاءً) بالنصب جعله في موضع مستوياً محياهم وَمَمَاتُهُمْ
ومن نصب محياهم ومماتهم ، فهو عند قوم من النحويين (سَوَاءً) في محياهم وفي مماتهم ، ويذهب به مذهب الأوقات ، وهو يجوز على غير ذلك على أن يجعله بدلاً من الهاء والميم ، ويكون المعنى أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعل محياهم ومماتهم سواءً كالذين آمنوا وعملوا الصالحات ، أي كمحيا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ومَمَاتهم (1).
* * *
وقوله : (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ
(23)
وقد رويت آلِهَةً هَوَاهُ ، ولها وجه في التفسير وروي أن قريشاً كانت تعبد
العُزى وهي حجر أبيض فإذا رأت حجراً أشد بياضاً منه وأحسن اتخذت ذلك
الأحسن واطَّرَحت الأولَ ، فهذا يدل على آلهته ، وكذلك أيضاً إلهه.
وقوله (وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ).
أي على ما سبق في علمه قبل أن يخلقه أنه ضال.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { أَمْ حَسِبَ } : « أم » منقطعةٌ ، فَتُقَدَّر ب بل والهمزةِ ، أو ب بل وحدها ، أو بالهمزة وحدَها . وتقدم تحقيق هذا.
قوله : { كالذين آمَنُواْ } : هو المفعولُ الثاني للجَعْل أي : أَنْ نجعلَهم كائنين كالذين آمنوا أي : لا يَحْسَبُوْن ذلك ، وقد تَقَدَّمَ في سورة الحج : أنَّ الأخَوَيْن وحفصاً قرؤُوا هنا « سواءً » بالنصب ، والباقون بالرفع ، ووَعَدْتُ بالكلام عليه هنا ، فأقول وبالله التوفيق : أمَّا قراءةُ النصبِ ففيها ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها : أَنْ تَنْتَصِبَ على الحالِ من الضميرِ المستترِ في الجارِّ والمجرورِ وهما : « كالذين آمنوا » ، ويكونُ المفعولُ الثاني للجَعْل « كالذين آمنوا » أي : أحَسِبوا أَنْ نَجْعَلَهم مثلَهم في حالِ استواءِ مَحْياهم ومماتِهم ليس الأمرُ كذلك . الثاني : أَنْ يكونَ « سواءً » هو المفعولَ الثاني للجَعْل ، و « كالذين » في محلِّ نصبٍ على الحال أي : لن نجعلَهم حالَ كونِهم مثلَهم سواءً ، وليس معناه بذاك . الثالث : أَنْ يكونَ « سواءً » مفعولاً ثانياً ل « حَسِب ».
وهذا الوجهُ نحا إليه أبو البقاء ، وأظنُّه غَلَطاً لِما سَيَظْهَرُ لك فإنَّه قال : « ويُقْرأ بالنصب . وفيه وجهان ، أحدهما : هو حالٌ من الضميرِ في الكافِ أي : نجعلَهم مثلَ المؤمنين في هذه الحالِ . والثاني : أَنْ يكونَ مفعولاً ثانياً ل » حَسِب « والكافُ حالٌ ، وقد دَخَلَ استواءُ مَحْياهم وممَاتُهم في الحُسْبان ، وعلى هذا الوجهِ مَحْياهم ومماتُهم مرفوعان ب » سَواء «؛ لأنَّه قد قَوِيَ باعتمادِه » انتهى . فقد صَرَّح بأنه مفعولٌ ثانٍ للحُسْبان . وهذا لا يَصِحُّ ألبتَّةََ؛ لأنَّ « حَسِبَ » وأخواتِها إذا وَقَعَ بعدها « أنَّ » المشددةُ أو « أَنْ » المخففةُ أو الناصبةُ سَدَّتْ مَسَدَّ المفعولين ، وهنا قد وَقع بعد الحُسْبان « أنْ » الناصبةُ فهي سادَّةٌ مَسَدَّ المفعولَيْنِ ، فَمِنْ أين يكونُ « سواءً » مفعولاً ثانياً ل حَسِب؟
فإنْ قلتَ : هذا الذي قُلْتُه رأيُ الجمهورِ سيبويهِ وغيرِه ، وأمَّا غيرُهم كالأخفشِ فيدَّعي أنها تَسُدُّ مَسَدَّ واحدٍ . إذا تقرَّر هذا فقد يجوزُ أنَّ أبا البقاءِ ذَهَبَ هذا المذهبَ ، فأعرب « أَنْ نجعلَهم » مفعولاً أولَ و « سواءً » مفعولاً ثانياً . فالجواب : أنَّ الأخفشَ صَرَّحَ بأنَّ المفعولَ الثاني حينئذٍ يكونُ محذوفاً . ولَئِنْ سَلَّمْنا أنَّه لا يُحْذَفُ امتنع مِنْ وجهٍ آخرَ : وهو أنه قد رفع به « محياهُم ومماتُهم » لأنه بمعنى مُسْتَوٍ كما تقدَّم ، ولا ضميرَ يَرْجِعُ مِنْ مرفوعِه إلى المفعولِ الأولِ ، بل رَفَعَ أجنبياً من المفعولِ الأولِ . وهو نظيرُ : « حَسِبْتُ قيامَك مُسْتوياً ذهابُك وعَدَمُه ».
ومَنْ قرأ بالرفع فتحتمل قراءتُه وجهَيْن ، أحدهما : أَنْ يكونَ « سواءٌ » خبراً مقدماً . و « مَحْياهم » مبتدأً مؤخراً/ ويكون « سواء » مبتدأً و « مَحْياهم » خبرَه.
كذا أعربوه . وفيه نظرٌ تقدَّم في سورة الحج وهو : أنَّه نكرةٌ لا مُسَوِّغ فيها ، وأنه متى اجتمع معرفةٌ ونكرةٌ جَعَلْتَ النكرةَ خبراً لا مبتدأً . ثم في هذه الجملةِ ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنَّها استئنافية . والثاني : أنها بدلٌ من الكافِ الواقعةِ مفعولاً ثانياً . قال الزمخشري : « لأنَّ الجملةَ تقع مفعولاً ثانياً فكانَتْ في حكمِ المفردِ . ألا تراكَ لو قُلْتَ : أن نجعلَهم سواءٌ مَحْياهم ومماتُهم ، كان سديداً ، كما تقول : ظننتُ زيداً أبوه منطلقٌ » . قال الشيخ : « وهذا - أَعْني إبدالَ الجملة من المفرد - أجازه ابنُ جني وابنُ مالك ، ومنعَه ابنُ العِلْجِ » ، ثم ذكر عنه كلاماً كثيراً في تقرير ذلك ثم قال : « والذي يَظْهَرُ أنه لا يجوزُ » ، يعني ما جَوَّزه الزمخشريُّ قال : « لأنَّها بمعنى التصييرِ ولا يجوزُ : » صَيَّرْتُ زيداً أبوه قائمٌ « لأنَّ التصييرَ انتقالٌ من ذاتٍ إلى ذاتٍ ، أو من وصفٍ في الذاتِ إلى وصفٍ فيها . وتلك الجملةُ الواقعةُ بعد مفعولِ » صَيَّرْت « المقدرةُ مفعولاً ثانياً ليس فيها انتقالٌ مما ذكرْنا فلا يجوز » . قلت : ولِقائلٍ أَنْ يقولَ : بل فيها انتقالٌ مِنْ وصفٍ في الذاتِ إلى وصفٍ فيها؛ لأنَّ النحاة نَصُّوا على جوازِ وقوع الجملةِ صفةً وحالاً نحو : مررتُ برجلٍ أبوه قائمٌ ، وجاء زيدٌ أبوه قائم . فالذي حكموا عليه بالوصفيَّةِ والحاليةِ يجوزُ أَنْ يقعَ في حَيِّز التَّصْيير؛ إذ لا فَرْقَ بين صفةٍ وصفةٍ من هذه الحيثيَّة.
الثالث : أن تكونَ الجملةُ حالاً ، التقدير : أم حَسِبَ الكفار أَنْ نُصَيِّرهم مثلَ المؤمنين في حالِ استواءِ محياهم ومماتِهم ، ليسوا كذلك بل هم مُفْترقون . وهذا هو الظاهر عند الشيخِ . وعلى الوجهين الأخيرين تكونُ الجملةُ داخلةً في حَيِّز الحُسْبانِ . وإلى ذلك نحا ابن عطية فإنه قال : « يَقْتضي هذا الكلامُ أنَّ لفظَ الآية خبرٌ ، ويظهر أنَّ قولَه : { سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ } داخلٌ في المَحْسَبَةِ المُنْكَرَةِ السيئةِ ، وهذا احتمالٌ حسن والأولُ جيدٌ » انتهى . ولم يبين كيفيةَ دخولِه في الحُسْبانِ ، وكيفيَّةُ أحدِ الوجهين الأخيرَيْن : إما البدلِ وإمَّا الحاليةِ كما عَرَفْتَه.
وقرأ الأعمشُ « سواءً » نصباً « مَحْياهم ومَماتَهم » بالنصب أيضاً . فأمَّا « سواءً » فمفعولٌ ثانٍ أو حالٌ كما تقدَّم . وأمَّا نصب « مَحْياهم ومماتَهم » ففيه وجهان ، أحدهما : أَنْ يكونا ظَرْفَيْ زمانٍ ، وانتصبا على البدلِ مِنْ مفعولِ « نَجْعَلَهم » بدلِ اشتمال ، ويكون « سواءً » على هذا هو المفعولَ الثاني . والتقدير : أن نجعلَ محياهم ومماتَهم سواءً . والثاني : أَنْ ينتصِبا على الظرفِ الزمانيِّ . والعاملُ : إمَّا الجَعْلُ أو سواء . والتقدير : أَنْ نجعلَهم في هذَيْن الوقتَيْن سواءً ، أو نجعلَهم مُسْتَوِين في هذين الوقتين.
قال الزمخشري مقدِّراً لهذا الوجه : « ومَنْ قرأ بالنصبِ جَعَلَ » مَحْياهم ومماتَهم « ظَرْفَيْنِ كمَقْدَمِ الحاجِّ وخُفوقِ النجم ».
قال الشيخ : « وتمثيلُه بخُفوق النجم ليس بجيدٍ؛ لأنَّ » خُفوقَ « مصدرٌ ليس على مَفْعَل فهو في الحقيقةِ على حَذْفِ مضافٍ أي : وقتَ خُفوقِ بخلاف مَحْيا ومَمات ومَقْدَم فإنها موضوعةٌ على الاشتراك بين ثلاثةِ معانٍ : المصدريةِ والزمانيةِ والمكانيةِ . فإذا اسْتُعْملت مصدراً كان ذلك بطريق الوَضْعِ لا على حَذْفِ مضافٍ كخُفوق؛ فإنه لا بُدَّ مِنْ حَذْفِ مضافٍ لكونِه موضوعاً للمصدرية » . وهذا أمرٌ قريبٌ لأنَّه إنما أراد أنه وَقَع هذا اللفظُ مُراداً به الزمانُ . أمَّا كونُه بطريق الأصالةِ أو الفرعيةِ فلا يَضُرُّ ذلك.
والضميرُ في « مَحْياهم ومماتُهم » يجوزُ أَنْ يعودَ على القَبِيْلَيْنِ بمعنى : أنَّ مَحْيا المؤمنين ومماتَهم سواءٌ عند الله في الكرامةِ ، ومَحْيا المجترحين ومماتَهم سواءٌ في الإِهانةِ عنده ، فَلَفَّ الكلام اتِّكالاً على ذِهْنِ السَّامع وفهمِه . ويجوزُ أَنْ يعودَ على المُجْترحين فقط . أَخْبَرَ أَنَّ حالَهم في الزمانَيْن سواءٌ.
قال أبو البقاء : « ويُقْرَأُ » مَماتَهم « بالنصب أي : في مَحْياهم ومماتَهم . والعاملُ » نَجْعل « أو سواء . وقيل : هو ظرفٌ » . قلت : قوله : « وقيل » هو القولُ الأولُ بعينِه . اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/433)


(وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً).
ويقرأ غَشوة بفتح الغيْن بغير ألف ، ويقرأ غُشَاوَةَ - بضم الغين والألف (1).
* * *
وقوله : (وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24)
فإن قال قائل : كيف قالوا نموت ونحيا وهم لا يقرون بالبعث.
فالدليل على أنهم لا يقرون بالبعث قولهم ما هِيَ إلا حياتنا ، وفي نموت ونحيا ثلاثة أقوال.
يكون المعنى (نَمُوتُ وَنَحْيَا) ، يحيا أولادُنا ، فيموت قوم ويحيا قوم.
ويكون معنى (نَمُوتُ وَنَحْيَا) نحيا ونموت ، لأن الواو للاجتماع.
وليس فيها دليل على أن أحد الشيئين قبل الآخر.
ويكون (نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ) أي ابتداؤنا موات في أصل الخلقة ، ثم نحيا ثم يهلكنا الدَّهْرُ.
فَاَعْلَمَ اللَّه - عزَّ وجلَّ - أَنهمْ يَقولُونَ ذلك ضُلَّالًا ، شَاكِين فقال :
(وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ).
المعنى ما هم إِلَّا يَظُنُّونَ.
* * *
وقوله - عزَّ وجلَّ - : (مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25)
يجوز في (حُجَّتَهُمْ) الرفْعُ ، فمن رفع جعل (حُجَّتُهُمْ) اسم كان
و (أنْ قَالُوا) خبر كان.
ومن نصب (حُجَّتَهُمْ) جعل اسم كان أَنْ مَعَ صِلَتِها.
ويكون المعنى ما كان (حُجَّتَهُمْ) إلَّا مَقَالَتَهم ائتوا بآبائنا.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28)
أي كل أحد يُجزى بما تضمنه كتابه ، كما قال عزَّ وجلَّ :
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { أَفَرَأَيْتَ } : بمعنى : أَخْبِرْني ، وتقدَّم حكمُها مشروحاً . والمفعولُ الأولُ « مَنْ اتَّخذ » ، والثاني محذوف ، تقديره بعد غشاوة : أيهتدي ، ودَلَّ عليه قولُه : « فَمَنْ يهْديه » وإنما قَدَّرْتَه بعد غشاوة لأجلِ صلاتِ الموصولِ.
قوله : « على عِلْمٌ » حالٌ من الجلالةِ أي : كائناً على علمٍ منه فيه أنَّه أهلٌ لذلك . وقيل : حالٌ من المفعول أي : أضلَّه وهو عالِمٌ ، وهذا أشنعُ له.
وقرأ الأعرجُ « آلهةً » على الجمع ، وعنه كذلك مضافة لضميره : « آلهتَه هواه ».
قوله : « غِشاوة » قرأ الأخَوان « غَشْوَة » بفتح الغين وسكونِ الشين . والأعمشُ وابن مصرف كذلك إلاَّ أنَّهما كسرا الغَيْنَ . وباقي السبعة « غِشاوة » بكسر الغين . وابنُ مسعود والأعمشُ أيضاً بفتحها ، وهي لغةُ ربيعةَ . والحسن وعكرمة وعبد الله أيضاً بضمِّها ، وهي لغةُ عُكْلية . وتقدَّم الكلامُ في ذلك أولَ البقرة ، وأنَّه قُرئ هناك بالعين المهملة . والعامَّةُ : « تَذَكَّرون » بالتشديد والجحدريُّ بتخفيفها . والأعمش بتاءَيْن « تَتَذَكَّرون ».
قوله : { مِن بَعْدِ الله } أي : مِنْ بعد إضلالِ الله إياه . اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/434)


(وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ).
ْفهذا مثل قوله : (كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا).
رفع (كُلُّ) بالابتداء ، والخبر (تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا).
ومَن نصب جعله بدلاً من " كُلَّ " الأول ، والمعنى وترى كل أمة تدعى إلى كتابها.
ومعنى (جَاثِيَةً) جالسة على الركب ، يقال قد جثا فلان يجثو إذا جلس على ركبته ، ومثله جَذا يجذو.
والجُذُؤ أشا استيفازاً من الجثو لأن الجذو أن يجلس صاحبه على أطراف
أصابعه.
* * *
وقوله : (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29)
الاسْتِنْساخُ لا يكون إلا من أَصْل ، وهو أن يستنسخ كتاباً من كتابٍ.
فنستنسخَ ما يكتب الحفظة ويثبت عند اللَّه - عزَّ وجلَّ -.
* * *
وقوله : (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ (31)
جواب (أَمَّا) محذوف ، لأن في الكلام دليلاً عليه ، المعنى وأما الذين
كفروا فيقال لهم : أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ ، ودلت الفاء في قوله
(أَفَلَمْ) على الفاء المحذوفة فى قولك فيقال لهم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32)
(وَالسَّاعَةُ)
(وَالسَّاعَةَ) ، فمن نصب فَعَطفٌ على الوعد.
المعنى : وإذا قيل إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأنَّ الساعةَ.
ومن رفع فعلى معنى وقيل الساعةُ لا ريب فيها .

(4/435)


وقوله عزَّ وجلَّ : (وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (34)
أي اليوم نترككم في العذاب ، كما تركتم الإيمان والعمل ليومكم.
والدليل على ذلك قوله :
(فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35)
لا يردون ولا يلتمس منهم عمل وَلَا طَاعة.
* * *
وقوله : (وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)
أي له العظمة في السَّمَاوَات والأرض.
* * *
ْوقوله : (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ).
ويقرأ (مِنَّةً)
(جميعاً) منصوب على الحال ، والمعنى كل ذلك منه تفضُّلٌ وإحسان.
و (مِنَّةً) على معنى المفعول له ، والمعنى فعل ذلك مِنَّةً ، أي مَنَّ مِنَّةً.
لأن تسخيره بمعنى مَنَّ عليكم.

(4/436)


سُورَةُ الأحقاف
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله عزَّ وجلَّ : (مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3)
جاء في التفسير : مَا خَلَقْنَاهما إِلَّا للحَقِّ ، أي لإقامة الحق ، وتكون على
معنى ما قامت السماوات والأرض إلا بالحق.
وقوله بعقب هذا :
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ).
أي أعرضوا بعد أن قام لهم الدليل بخلق الله السماوات والأرض ، وما
بينهما ثم دعاهم إلى الدليل لهم على بطلان عبادة ما يعبدونَ من الأوثان
فقال :
(قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4)
ويقرأ أَرَيْتُمْ بغير ألف.
(مَا تَدْعُونَ مِنْ دونِ اللَّهِ)
ما تدعونه إلهاً من دون اللَّه.
(أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ).
أي في خلق السَّمَاوَاتِ ، أي فلذلك أشركتموهم في عبادة الله عزَّ وجلَّ .

(4/437)


(ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا).
أي ايتوني بِكتابِ أنزل فيه برهانُ ما تَدَّعُونَ.
(أَوْ أَثَرَةٍ مِنْ عِلْمٍ)
ويقرأ (أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ) ، وقرئت أو أَثْرةٍ مِنْ عِلْمٍ - بإسكان الثاء - ومعناها ؛ إذا قال : أَثارة على معنى عَلَامةٍ مِنْ عِلْم ، ويجوز أن يكون على معنى بقية من علم ، ويجوز أن يكون على معنى ما يؤثر من العلم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5)
أي من أضل مِمنْ عَبَدَ غيرَ اللَّه.
وجَمِيعُ مَا خلق اللَّه دليل على وَحْدَانِيَّته فمن أضل ممن عبد حجراً لا يستجيب لَه.
وقال و (مَنْ) وقال و (وَهُمْ) وهو لغير ما يعْقِل ، لأن الذين عبدوها أجْرَوْهَا مجرى ما يميز فخوطبوا على مُخَاطَبَاتِهِمْ كما قالوا : (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)
ولو كانت " ما " لكان جَيداً كما قال : (لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6)
أي كانت الأصْنامُ كَافِرةً بعبادتهم إياها ، تقول ما دعوهم إلى عبادتنا.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8)

(4/438)


أي فَلَسْتُمْ تملكون من اللَّه شيئاً ، أي اللَّه أملك بعباده.
(كَفَى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ)
أي كفَى هو شهيداً.
وَ (بِه) في موضع رفع.
وقوله في هذا الموضع :
(وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)
معناه أنه مَنْ أَتَى من الكبائر العِظَام ما أتيتُمْ به من الافتراء على اللَّه
جلَّ وعزَّ وَعَلا - ثم تاب فإن الله غفورٌ رَحيمٌ له.
* * *
وقوله : (قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9)
أي ما كنت أول من أرْسِلَ . قد أرسل قبلي رُسُلٌ كثيرونَ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ)
كان رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - رأى في منامه أنه سيصير إلى أَرْض ذَاتِ نَخْل وَشَجرٍ ، وقد شكا أصحابه الشدةِ التي نالتهم فلما أَعْلَمَهُم أنه سيصير إلى أرض ذات نَخْل وَشَجرٍ ، وتأخَّرَ ذَلِكَ استبطأوا ما قال عليه السلام ، فأعلمهم أن الذي يتبِعُهُ ما يُوحَى إليه ، إن أمر بِقِتَال أو انتقال ، وكان ذلك الأمْرُ وحياً فَهُو مُتَّبِعُهُ ، ورؤيا الأنبياء عليهم السلام وَحْيٌ (1).
* * *
وقوله : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10)
جاء في التفسير أن عبد اللَّه بن سلام صار إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قآمن به ، وقال له : سَلْ اليهودَ عني فَإنهُمْ سَيُزَكونَنِي عندك ويخبرونك بمكانِي من العِلْم ، فَسَاَلَهُم النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه من قبْل أن يَعْلَمُوا أَنه قدْ آمن . فأخبروا عنه بأنه أعلمُهُم بالتوراة وبِمَذْهَبِهِم ، وأنه عالم ابن عالم ابن عَالِم.
قآمن بحضرتِهِم وشهِدَ أن محمداً رسول اللَّه فقالوا بَعْدَ إيمانه أنتَ شرُّنَا وابن شَرِّنَا.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { بِدْعاً } : فيه وجهان ، أحدهما : على حَذْفِ مضافٍ تقديرُه : ذا بِدْعٍ ، قاله أبو البقاء . وهذا على أَنْ يكونَ البِدْعُ مصدراً . والثاني : أَنَّ البِدْعَ بنفسِه صفةٌ على فِعْل بمعنى بديع كالخِفِّ والخَفيف . والبِدْعُ والبديعُ : ما لم يُرَ له مِثْلٌ ، وهو من الابتداع وهو الاختراعُ . أنشد قطرب :
4039ب فما أنا بِدْعٌ مِنْ حوادِثَ تَعْتَري . . . رجالاً عَرَتْ مِنْ بعدِ بُؤْسَى بأَسْعُدِ
وقرأ عكرمة وأبو حيوةَ وابنُ أبي عبلة « بِدَعاً » بفتح الدال جمع بِدْعة أي : ما كنتَ ذا بِدَع . وجَوَّز الزمخشري أَنْ يكونَ صفةً على فِعَل ك « دِين قِيَم » و « لحم زِيَم » . قال الشيخ : « ولم يُثْبِتْ سيبويه صفةً على فِعَل إلاَّ قوماً عِدَا ، وقد اسْتُدْرِك عليه » لحم زِيَم « أي : متفرق ، وهو صحيحٌ . فأمَّا » قِيَم « فمقصورٌ مِنْ قيام ، ولولا ذلك لصَحَّتْ عينُه كما صَحَّتْ في حِوَل وعِوَض . وأمَّا قولُ العربِ : » مكان سِوَىً « و » ماء رِوَىً « ورجل رِضَا وماء صِرَىً فمتأوَّلَةٌ عند التَّصْريفيِّين » قلت : تأويلُها إمَّا بالمصدريَّة أو القَصْر كقِيَم في قيام.
وقرأ أبو حيوةَ أيضاً ومجاهد « بِدَع » بفتح الباء وكسر الدال وهو وصفٌ كحَذِر.
وقوله : « يُفْعَلُ » العامَّةُ على بنائه للمفعول . وابنُ أبي عبلة وزيد ابن علي مبنياً للفاعلِ أي : الله تعالى . والظاهرُ أنَّ « ما » في قولِه : { مَا يُفْعَلُ بِي } استفهاميةٌ مرفوعةٌ بالابتداءِ ، وما بعدها الخبرُ ، وهي معلِّقَةٌ لأَدْري عن العملِ ، فتكونُ سادَّةً مَسَدَّ مفعولَيْها . وجَوَّزَ الزمخشري أَنْ تكونَ موصولةً منصوبةً يعني أنها متعديةٌ لواحدٍ أي : لا أعْرِفُ الذي يفعلُه اللَّهُ تعالى.
قوله : { إِلاَّ مَا يوحى } العامَّةُ على بناء « يُوْحَى » للمفعول . وقرأ ابن عُمير بكسرِ الحاءِ على البناءِ للفاعلِ ، وهو اللَّهُ تعالى . اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/439)


قال : ألم يأتكم في التوراة عن موسى عليه السلام : إذا رأيتم محمداً فأقرئِوه السلام مني وآمنوا به ، وأَقْبَلَ يَقِفُهُمْ من التوراة على أَمْكنةٍ فيها ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - وصفته ، وهم
يستكبرون ويجحَدون ويتعمدون ستر ذلك بِأيْدِيهم.
وجواب : (إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ) أتؤمِنُونَ.
ثم أعلم أن هؤلاء المعاندين خاصة لَا يؤمِنونَ ، فقال : (إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).
أي قد جعل جزاءَهم على كفرهم بعدما تَبَينَ لهم الهُدَى مَدَّهم في الضلَالَة.
وَقِيلَ في تفسير قوله : (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ)
عَلَى مثل شهادَةِ عبْد اللَّه بن سَلَام.
والأجود - واللَّه أعلم - أن يكون (عَلَى مِثْلِه) على مثل شهادة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
* * *
وقوله : (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11)
جاء في التفسير أنه لما أسلمت جُهَينة ومُزَينَةُ وأسلم وغِفار ، قالت بَنو
عَامِرٍ وغطفان وأسد وأشجع : لو كان ما دخل فيه هؤلاء مِنَ الذِين خَيراً ما
سبقونا إليه ، ونحن أعز مِنْهمْ ، وَإنما هؤلاء رُعَاةُ الْبَهْمِ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (12)
(إِمَامًا) منصوب على الحال وقوله : (وَرَحْمَةً) عطف علَيْهِ.
(وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا).

(4/440)


المعنى واللَّه أعلم ، وهو مصدق لما بين يَدَيْهِ لساناً عَربيًّا ، لما جاء بعد
هذا الموضع.
(قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ).
وحذف (له) ههنا أعني من قوله (وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ) لأن قبله (وَمِنْ قَبْلِهِ)
كتاب موسى ، فالمعنى وهذا كتاب مُصَدِّقٌ له ، أي مُصَدِّقٌ التوْرَاةَ
و (لِسَانًا عَرَبِيًّا) منصوبان على الحال.
المعنى مصدق لما بين يديه عَرَبِيًّا ، وذكر (لِسَانًا) توكيداً.
كما تقول جاءني زيد رجلًا صالحاً ، تريد : جاءني زيد صالحاً.
وتذكر رجلًا توكيداً ، وفيه وجه آخر ، على معنى وهذا كتاب مصدق
لِسَانًا عَرَبِيًّا . المعنى مصدق النبي عليه السلام ، فيكون المعنى مصدق ذا
لسانٍ عربى.
وقوله : (لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا)
ويقرأ (لِتُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا).
(وبُشْرَى لِلمُحْسِنينَ)
الأجود أن يكون (بُشْرَى) في موضع رفع ، المعنى وهو بشرى
للمحسنين ، ويجوز أن يكون بشرى في موضع نصب على معنى لينذر الذين
ظلموا وُيبشِرَ المحسنين بُشْرَى (1).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13)
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ موسى } : العامَّةُ على كسر ميم « مِنْ » حرفَ جرٍّ . وهي مع مجرورِها خبرٌ مقدَّمٌ . والجملةٌ حاليةٌ أو خبرٌ مستأنفٌ.
وقرأ الكلبيُّ بنصبِ « الكتابَ » تقديرُه : وأَنْزَلَ مِنْ قبلِه كتابَ موسى . وقُرِئ « ومَنْ » بفتح الميم « كتابَ موسى » بالنصبِ على أن « مَنْ » موصولةٌ ، وهي مفعولٌ أولُ لآتَيْنا مقدَّراً . وكتابَ موسى مفعولُه الثاني . أي : وآتَيْنا الذي قبلَه كتابَ موسى.
قوله : « إماماً ورَحْمَةً » حالان مِنْ « كتاب موسى » . وقيل : منصوبان بمقدرٍ أي : أنْزَلْناه إماماً . ولا حاجةَ إليه . وعلى كَوْنِهما حالَيْن هما منصوبان بما نُصِبَ به « مِنْ قبل » من الاستقرار.
قوله : « لِساناً » حالٌ مِن الضمير في « مُصَدِّقٌ » . ويجوزُ أَنْ يكونَ حالاً مِنْ « كتاب » والعاملُ التنبيهُ ، أو معنى الإِشارةِ و « عربيَّاً » [ صفةٌ ] ل « لساناً » ، وهو المُسَوِّغُ لوقوع هذا الجامد حالاً . [ وجَوَّز أبو البقاء ] أَنْ يكونَ مفعولاً به ناصبُهُ « مُصَدِّقٌ » . وعلى هذا تكون الإِشارةُ إلى غيرِ القرآنِ؛ لأنَّ المرادَ باللسانِ العربيِّ القرآنُ وهو خلافُ الظاهر . وقيل : هو على حَذْفِ مضافٍ أي : مُصَدِّقٌ ذا لسانٍ عربي ، وهو النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم . وقيل : هو على إسقاطِ حرفِ الجرِّ أي : بلسانٍ . وهو ضعيفٌ.
قوله : « ليُنْذِرَ » متعلِّقٌ بمصدِّق . و « بُشْرَى » عطفٌ على محلِّه . تقديره : للإِنذار وللبشرى ، ولمَّا اختلف العلةُ والمعلولُ وَصَلَ العاملُ إليه باللامِ ، [ وهذا فيمَنْ قرأ بتاء الخطابِ . فأمَّا مَنْ قرأ بياءِ الغَيْبة . وقد تقدَّم ذلك في يس فإنهما مُتَّحدان . وقيل : بُشْرى ] عطفٌ على لفظ « لتنذِرَ » أي : فيكونُ مجروراً فقط . وقيل : هي مرفوعةٌ على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ . تقديرُه : هي بُشْرَى . وقيل : بل هي عطفٌ على « مُصَدِّقٌ » وقيل : هي منصوبةٌ بفعل مقدرٍ أي : وبَشِّر بُشْرى . ونقل الشيخُ وجهَ النصبِ عطفاً على محلِّ « لتنذِرَ » عن الزمخشري وأبي البقاء . ثم قال : « وهذا لا يَصِحُّ على الصحيح من مذاهبِ النحويين لأنهم يَشْتَرِطون في الحَمْلِ على المَحَلِّ أَنْ يكونَ بحقِّ الأصالة ، وأَنْ يكونَ للموضعِ مُحْرِزٌ ، وهنا المحلُّ ليسَ بحقِّ الأصالة ، إذ الأصلُ في المفعولِ [ له ] الجرُّ ، والنصبُ ناشِئ عنه ، لكن لَمَّا كَثُرَ بالشروط المذكورةِ وَصَلَ إليه الفعلُ فنصبَه » انتهى.
قوله : « الأصلُ في المفعول له الجرُّ بالحرفِ » ممنوعٌ بدليل قولِ النَّحْويين : إنَّه يَنْصِبُ بشروطٍ ذكروها . ثم يقولون : ويجوزُ جرُّه بلامٍ ، فقولُهم « ويجوز » ظاهرٌ في أنه فرعٌ لا أصلٌ.
و « للمُحْسِنين » متعلقٌ ب « بُشْرَى » أو بمحذوفٍ على أنَّه صفةٌ لها . اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/441)


معنى (ثم استقاموا) أي أقاموا على توحيد اللَّه وشريعة نبيه عليه السلام.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ
(15)
(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا)
وتُقْرأُ (إِحْسَانًا) ، وكلتاهما جيِّدٌ ، ونصب (إِحْسَانًا) على المصدر ، لأن معنى
وصيناه بوالديه أمرناه بأن يحسن إليهما (إِحْسَانًا).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا)
وَ (كَرْهاً) ، وقد قرئ بهما جميعاً.
المعنى حملته أمه على مشَقَّة ووضعته على مشَقَّة.
وقوله : (وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا)
وقد قرئت (وفصله ثلاثون شَهراً) . ومعنى فِصَاله فطامُه.
وَأَقَل ما يكون الحمل لستة أَشْهُر.
والاختيار (وَفِصَالُهُ) ، لأن الذي جاء في الحديث : إلا رِضَاعَ
بعد الفِصَالِ " يعني بعد الفطام.
وقوله : (حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً)
جاء في التفسير أن الأشد ثلاث وثلاثون سنة ، وقيل الأشد ثَماني عشرة
سنة ، وقيل الأشد بلوغ الحلم ، والأكثر أن يكون ثلاثاً وثلاثين ، لأن الوقت
الذي يكمل فيه الإنسانُ في بدنه وقوته واستحكام شبابه أن يبلغ بضْعاً
وثلاثين سنة ، وكذلك في تمييزه.
وقوله : (وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي).
معناه اجعل ذُرِّيَّتِي صالحين (1).
* * *
وقوله : أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16)
(أُولَئِكَ الَّذِينَ يُتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا).
ويجوز (أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا).
فالقِرَاءَة (يُتَقَبَّلُ) و (نَتَقَبَّلُ)
وكذلك يُتجاوزُ ونَتجاوزُ ، ويَتقبَّلُ جائز ، ولَا أعْلَمُ أحَداً قَرأ بها.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { إِحْسَاناً } : قرأ الكوفيون « إحْساناً » وباقي السبعةِ « حُسْناً » بضمِّ الحاءِ وسكونِ السينِ ، فالقراءةُ الأولى يكون « إحساناً » فيها منصوباً بفعلٍ مقدَّرٍ أي : وَصَّيْناه أَنْ يُحْسِنَ إليهما إحساناً . وقيل : بل هو مفعولٌ به على تضمينِ وصَّيْنا معنى أَلْزَمْنا ، فيكونُ مفعولاً ثانياً . وقيل : بل هو منصوبٌ على المفعولِ به أي : وصَّيناه بهما إحساناً مِنَّا إليهما . وقيل : هو منصوبٌ على المصدرِ؛ لأنَّ معنى وصَّيْنا : أَحْسَنَّا فهو مصدرٌ صريحٌ . والمفعولُ الثاني/ هو المجرورُ بالباء . وقال ابن عطية : « إنها تتعلَّق : إمَّا بوَصَّيْنا ، وإمَّا بإحساناً » . ورَدَّ الشيخُ : هذا الثاني بأنَّه مصدرٌ مؤَوَّلٌ فلا يتقدَّم معمولُه عليه ، ولأن « أَحْسَنَ » لا يتعدَّى بالباء ، وإنما يتعدَّى باللامِ . لا تقول : « أحسَنْتُ بزيدٍ » على معنى وصول الإِحسان إليه . وقد رَدَّ بعضُهم هذا بقولِه : { وَقَدْ أَحْسَنَ بي إِذْ أَخْرَجَنِي } [ يوسف : 100 ] وقيل : هو بغير هذا المعنى . وقدَّر بعضُهم : ووَصَّيْنا الإِنسانَ بوالدَيْه ذا إحسانٍ ، يعني فيكونُ حالاً . وأمَّا « حُسْناً » فقيل فيه ما تقدَّم في إحسان.
وقرأ عيسى والسُّلَمي « حَسَناً » بفتحِهما . وقد تقدَّمَ معنى القراءتَيْنِ في البقرة وفي لقمان.
قوله : « كُرْهاً » قد تَقَدَّم الخلافُ فيه في النساء . وله هما بمعنىً واحد أم لا؟ وقال أبو حاتم : « الكَرْهُ بالفتح لا يَحْسُنُ لأنَّه بالفتح الغَصْبُ والغَلَبَةُ » . ولا يُلْتَفَتُ لِما قاله لتواتُرِ هذه القراءةِ . وانتصابُها : إمَّا على الحالِ من الفاعلِ أي : ذاتَ كُرْه . وإمَّا على النعت لمصدرٍ مقدرٍ أي : حَمْلاً كُرْهاً.
قوله : « وحَمْلُه » أي : مدةُ حَمْلِه . وقرأ العامَّةُ « فِصالُه » مصدر فاصَلَ ، كأنَّ الأمَّ فاصَلَتْهُ وهو فاصَلَها . والجحدري والحسن وقتادة « فَصْلُه » . قيل : والفَصْلُ والفِصال بمعنىً كالفَطْمِ والفِطام ، والقَطْفِ والقِطاف . ولو نَصَب « ثلاثين » على الظرفِ الواقعِ موقعَ الخبرِ جاز ، وهو الأصلُ . هذا إذا لم نُقَدِّر مضافاً ، فإنْ قَدَّرْنا أي : مدةُ حَمْلِه لم يَجُزْ ذلك وتعيَّن الرفعُ ، لتصادُقِ الخبرِ والمُخْبَرِ عنه.
قوله : { حتى إِذَا بَلَغَ } لا بُدَّ مِنْ جملةٍ محذوفةٍ تكونُ « حتى » غايةً لها أي : عاش واستمرَّتْ حياتُه حتى إذا.
قوله : « أربعين » أي : تمامَها ف « أربعين » مفعولٌ به.
قوله : { وَأَصْلِحْ لِي فِي ذريتي } أَصْلَحَ يتعدَّى بنفسِه لقولِه : { وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ } [ الأنبياء : 90 ] وإنما تعدَّى ب في لتضمُّنِه معنى الطُفْ بي في ذرِّيَّتي ، أو لأنه جَعَلَ الذرِّيَّة ظرفاً للصَّلاح كقولِه :
4040 . . . . . . . . . . . . . . . . .
يَجْرَحُ في عَراقيبها نَصْلي.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/442)


وقوله : (وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ).
هذا منصوبٌ لأنه مَصْدَرٌ مؤكد لما قبله ، لأن قوله : أولئك الذين نَتَقئلُ
عَنْهُم أحسنَ مَا عَمِلُوا . بمعنى الوعد ، لأنه قد وعدهم الله القَبُولَ.
فوعدُ الصِّدْقِ توكيد لذلك.
* * *
وقوله تعالى : (وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17)
(أُفِّ لَكُمَا)
وقد قرئت (أُفٍّ لَكُمَا) (أُفَّ لَكُمَا) وقد فسرنا ذلك في سُورَةِ بني
إسرائيل.
وقولهِ : (أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ).
ويقرأ (أَنْ أَخرُجَ) ويجوز أَتَعِدَانِي بالإدْغَام ، وإن شئت أَظْهَرَت النونَيْنِ.
وإنْ شئت أسكنت الياء ، وإن شئت فتحتها.
وقد رُوِيَتْ عن بعضهم أَتَعِدانَني - بالفتح . وذلك لحن لا وجه له ، فَلاَ تَقْرَأَنَّ به ، لأن فتح نُونِ الاثْنَيْنِ خطأ ، وإن حُكِي ذلكَ في شُذُوذٍ ، فلا تحمل القراءة على الشذوذِ (1).
ويروى أن قوله في الآيةِ التي قبل هذه إلى قولك له : (أولئك الذين نتقبل
عنهم) نزلت في أبي بكر رَحْمَةُ اللَّه عَلَيْه.
فأما قوله : (وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا).
فقال بعضهم : إنها نزلت في عبد الرحمن قبل إسلامه ، وهذا يبطله
قوله (أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18)
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : « أَتَعِدانِني » العامَّةُ على نونَيْن مكسورتَيْن : الأولى للرفع والثانية للوقاية ، وهشام بالإِدغام ، ونافع في روايةٍ بنونٍ واحدة . وهذه مُشَبَّهةٌ بقوله : { تأمروني أَعْبُدُ } [ الزمر : 64 ] . وقرأ الحسن وشيبة وأبو جعفر وعبد الوارث عن أبي عمروٍ بفتح النونِ الأولى ، كأنَّهم فَرُّوا مِنْ توالي مِثْلَيْنِ مكسورَيْن بعدهما ياءٌ . وقال أبو البقاء : « وهي لغةٌ شاذَّةٌ في فتح نون الاثنين » قلت : إنْ عَنَى نونَ الاثنين في الأسماءِ نحو قولِه :
4041 على أَحْوَذِيَّيْنَ اسْتَقَلَّتْ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فليس هذا منه . وإن عَنَى في الفعلِ فلم يَثْبُتْ ذلك لغةً ، وإنَّما الفتحُ هنا لِما ذكَرْتُ.
قوله : « أَنْ أُخْرَجَ » هو الموعودُ به ، فيجوزُ أَنْ تُقَدِّرَ الباءَ قبل « أَنْ » وأَنْ لا تُقَدِّرَها.
قوله : « وقد خَلَتْ » جملةٌ حاليةٌ . وكذلك { وَهُمَا يَسْتَغثِيَانِ الله } أي : يَسْألان اللَّهَ . واستغاث يتعدَّى بنفسِه تارةً وبالباء أخرى ، وإن كان ابنُ مالكٍ زعمَ أنَّه متعدٍّ بنفسِه فقط ، وعابَ قولَ النحاةِ « مستغاث به » قلت : لكنه لم يَرِدْ في القرآن إلاَّ متعدَّياً بنفسِه : { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ } [ الأنفال : 9 ] { فاستغاثه الذي } [ القصص : 15 ] { وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ } [ الكهف : 29 ] قوله : « وَيْلَكَ » منصوبٌ على المصدرِ بفعلٍ مُلاقٍ له في المعنى دونَ الاشتقاقِ . ومثله : وَيْحَه ووَيْسَه ووَيْبَه ، وإمَّا على المفعولِ به بتقدير : ألزمَك الله وَيْلَكَ . وعلى كلا التقديرَيْن الجملةُ معمولةٌ لقولٍ مقدرٍ أي : يقولان وَيْلَكَ آمِنْ . والقولُ في محلِّ نصب على الحال أي : يَسْتغيثان اللَّهَ قائلين ذلك.
قوله : { إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ } العامةُ على كسرِ « إنَّ » / استئنافاً أو تعليلاً . وقرأ عمرو بن فائد والأعرج بفتحِها على أنها معمولةٌ ل آمِنْ على حَذْفِ الباءِ أي : آمِنْ بأنَّ وَعْدَ اللَّهِ حقٌّ . اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/443)


فأَعلم اللَّه أن هؤلاء قد حقتْ عَلَيْهِم كلمة العذاب ، وإذا أعلم بذلك
فقد أعلم أنهم لا يؤمنون ، وعبد الرحمن مؤمن ، ومن أفاضل المُؤْمِنِين.
وسَرَوَاتِهم.
والتفسير الصحيح أنها نزلت في الكافر العاق.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19)
(وَلِيُوَفِّيَهُمْ)
(وَلِنُوَفِّيَهُمْ) جميعاً ، بالنون والياء.
* * *
وقوله : (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)
أكثر القراءة الفتح في النون والتفخيم في النارِ ، وأكثر كلام العرب على
إمالة الألف إلى الكسر ، وبها يَقْرأ أبو عَمْرٍو (عَلَى النَّارِ) يختار الكسر في الرَّاءِ ، لأن الراء عندهم حرف مُكررٌ ، فكان كسرته كسرتانِ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ)
بغير ألف الاستفهام ، ويقرأ (أَأَذْهَبْتُم) - بهمزتين محققتين ، وبهمزتين
الثانية منهما مخففة ، وهذه الألف للتوبيخ ، التوبيخ إن شئت أثبت فيه الألف ، وإن شئت حذفتها ، كما تقول : " يا فلان أحدثت مَا لا يَحِل لك جَنَيْتَ عَلَى نَفْسِك " إذا وَبَّخْتةُ.
وإن شئت : أأخذت مَا لَا يَحِل لَكَ ، أجنيت على نفسك.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ)
معناه الهَوَان.
* * *
وقوله - عز وجل - : (وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21)
(الأحقاف) رمال مستطيلة مُرْتفعة كالدَكَّاوات ، وكانت هذه الأحقافُ
منازلَ عَادٍ .

(4/444)


وقوله : (وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ)
أي قد أنذروا بالعذاب إنْ عَبَدُوا غير اللَّه فيما تَقَدَّمَ قَبْلَ إنْذَارِ هُودٍ.
وعلى لسان هود عليه السلام.
(إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22)
أي لِتَصْرِفنا عنها بالإفْكِ والكَذِب . .
(فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا) أي اثتنا بالعذاب الذي نَعِدُنا ، (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ)
* * *
(قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (23)
أي هو يعلم متى يأتيكم العَذَابُ
(وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ) إلَيْكُمْ.
ويقرأ بالتخفيف وأُبْلِغُكُمِ.
(وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ)
أي أدُّلُّكُمْ على الرَّشَادِ وأنتم تَصُدُّونَ
وَتَعْبُدونَ آلِهَة لا تَنفع ولا تَضُر.
* * *
وقوله : (فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24)
أي فلما رَأَوُا السحاب الذي نشأت منه الريح التي عُذِبُوا بِهَا قد
عَرَضت في السماء ، قالوا الذي وَعَدْتَنا به سحابٌ فيه الغيث والحياة والمطر.
فقال اللَّه عزَّ وجلَّ : (بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ).
وقرأ بعضهم : " قُل بَلْ هُوَ ما اسْتَعْجَلْتُم ".
وكانت الريح من شدتها ترفع الراعي مَعَ غَنَمِهِ ، فأهلك اللَّه قوم عَادٍ بتلك الريح.
وقوله : (مُمْطِرُنَا) لَفظه لفظ معرفة ، وهو صفة للنكرة ، المعنى عَارِضٌ
مُمطِرٌ إيَّانَا ، إلا أَن إيَّانَا لا يفصل ههنا.
* * *
وقوله : (فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25)

(4/445)


في هذا خمسة أوجه :
أجودها في العربية والقراءة ، (لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ)
مَسَاكِنُهُمْ) ، وتأويله لَا يُرَى شيءٌ إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ لأنَّهُمْ قد أُهْلِكُوا.
ويجوز فأصبحوا لاَ تُرَى إلا مساكِنُهُمْ فيكون المعنى لا تُرَى أشخاصٌ إلا مَسَاكِنُهُم.
ويقرأ فأصبحوا تَرَى مَسَاكِنَهُمْ ، أي لا ترى شيئاً إلا مساكِنَهُمْ.
وفيها وجهان بحذف الألف ، فأصبحوا لا يُرَى إلا مَسْكِنهُمْ ، وَمَسْكَنَهُمْ ، ويجوز فأصبحوا لا ترى إلا مَسْكَنَهُمْ.
يقال : سَكَن يَسْكُن مَسْكَناً وَمَسْكِناً (1).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (كذَلِكَ نَجْزِي القَوْمَ المُجْرِمِينَ)
المعنى مثل ذلك نجزي القوم المجرمين أي بالعَذَابِ.
* * *
وقوله : (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (26)
(وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ)
(إن) ههنا في معنى " ما " و (إن) في النفي مع " ما " التي في مَعْنى الَّذِي
أحسن في اللفظ مِنْ " مَا " ، ألا ترى أنك لو قلت رغبت فيما ما رَغِبَت فيه
لكان الأحسن أن تقول : قَدْ رَغِبْتَ فيما إن رَغِبْتَ فيه ، تريد في الذي ما رغبت فيه ، لاختلاف اللفظين.
* * *
وقوله عزَّ وجل : (بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28)
أي دعاؤهم آلهتهم هُوَ إفكُهُمْ ، ويقرأ (أَفَكَهُمْ) بمعنى وذلك كذبُهُمْ
وَكُفْرُهُمْ ، والأفك والأفَكَ مثل النَجْس والنجَسُ ويقرأ أَفَكُهُم ، أي ذلك جَعَلَهُم ضلالاً كافرين ، أي صَرَفَهُمْ عنِ الحق ، ويقرأ آفَكَهُمْ أَيْ جَعَلَهُمْ يأفكونَ ، كما تقول : ذلك أكفرهم وأضلهُمْ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29)
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { فَأْصْبَحُواْ لاَ يرى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ } : قرأ حمزةُ وعاصم « لا يُرَى » بضمِّ الياءِ مِنْ تحتُ مبنياً للمفعولِ ، « مَسَاكنُهم » بالرفع لقيامِه مقامَ الفاعلِ . والباقون من السبعةِ بفتح تاءِ الخطاب « مَساكنَهم » بالنصب مفعولاً به . والجحدريُّ والأعمش وابنُ أبي إسحاقَ والسُّلميُّ وأبو رجاءٍ بضمِّ التاءِ مِنْ فوقُ مبنياً للمفعول . « مساكنُهم » بالرفع لقيامِه مقامَ الفاعل ، إلاَّ أنَّ هذا عند الجمهور لا يجوزُ ، أعني إذا كان الفاصلُ « إلاَّ » فإنه يمتنع لَحاقُ علامةِ التأنيثِ في الفعل إلاَّ في ضرورةٍ كقولِه : /
4045 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وما بَقِيَتْ إلاَّ الضلوعُ الجراشِعُ
وقول الآخر :
4046 كأنه جَمَلٌ هَمٌّ وما بَقِيَتْ . . . إلاَّ النَّحِيزةُ والألواحُ والعَصَبُ
وعيسى الهمداني « لا يُرى » بالياء مِنْ تحتُ مبنياً للمفعول ، « مَسْكَنُهم » بالتوحيد . ونصر بن عاصم بتاء الخطاب « مَسْكَنَهم » بالتوحيد أيضاً منصوباً ، واجتُزِئ بالواحد عن الجمع . اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/446)


أي قال بعضهم لبعض صَهْ ، ومعنى صهْ اسْكُتْ ، ويقال إِنهُمْ كانوا تسعة
نَفرٍ أو سبعة نَفَرٍ ، وكان فيهم زوبَعَة.
(فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ)
أي فلما تلى عليهم القرآن حتى فرَع منه ، (وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ)
ويُقْرَأُ (فَلما قضَاهُ).
* * *
(قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30)
أي يُصَدِّق جَمِيعَ الكُتب التي تقدمَتْهُ والأنبياء الذين أَتَوْا بها.
وفي هذا دليل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث إلى الإنس والجِنِّ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33)
دخلت الباء في خبر (إنَّ) بدخول (أَوَلَمْ) في أول الكلام ، ولو قلت :
ظنَنْت أن زيداً بقائم لم يجز ، وَلَوْ قُلْتَ : ما - ظننتُ أَن زيداً بقائم جاز بدخول ما ، ودخول أن إنما هو توكيد للكلام فكأنَّه في تقدير أَلَيْسَ اللَّهُ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْييَ المَوْتَى فيما ترون وفيما تعلمونه.
وقد قرئت يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُحْييَ المَوْتَى ، والأوْلَى هي القراءة التي عليها
أكثر القراء . وهذه جائزة أيضاً.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)
جاء في التفسير أن أُولي العَزْمِ نوح وإبراهيم ومُوسَى وعيسى ومحمد.
صَلواتُ الله عليهم أجمعين .

(4/447)


قوله : (لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ).
الرفع على معنى ذلك بَلَاغٌ.
والنصبُ في العربيًةِ جيدٌ بالغ . إلَا أَنَه يخالف المصحف ، وبَلَاغاً على معنى يبلغون بَلَاغا كما قال : (كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ) مَنصُوبٌ عَلَى معنى :
(حُرمَتْ عليكم أُمَّهَاتُكُمْ) ، تأويله : كتب اللَّه ذلك كتاباً . .
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ).
تأويله أنه لا يهلك مع رحمة اللَّه وتَفَضله إلا القومُ الفَاسِقُونَ
ولو قرئت " فَهَلْ يَهْلِكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ " كان وجهاً.
ولا أعلم أحداً قرأ بها.
وما في الرجاء لرحمة اللَّه شيء أقوى من هذه الآية.
وهي قوله : (فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ) (1).
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { فاصبر } : الفاءُ عاطفةٌ هذه الجملةَ على ما تقدَّمَ ، والسببيَّةُ فيها ظاهرةٌ.
قوله : « من الرسُل » يجوزُ أَنْ تكونَ تبعيضيَّةً ، وعلى هذا فالرسلُ أولو عَزْمٍ وغيرُ أُولي عَزْمٍ . ويجوز أَنْ تكونَ للبيانِ ، فكلُّهم على هذا أُوْلو عَزْم.
قوله : « بلاغٌ » العامَّةُ على رَفْعِه . وفيه وجهان ، أحدهما : أنَّه خبرُ مبتدأ محذوفٍ ، فقدَّره بعضُهم : تلك الساعةُ بلاغٌ ، لدلالةِ قولِه : { إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ } وقيل : تقديرُه هذا أي : القرآن والشرعُ بلاغٌ . والثاني : أنَّه مبتدأٌ ، والخبرُ قولُه : « لهم » الواقعُ بعد قولِه : « ولا تَسْتَعْجِلْ » أي : لهم بلاغٌ ، فيُوْقَفُ على « فلا تَسْتعجل » . وهو ضعيفٌ جداً للفصلِ بالجملةِ التشبيهية ، لأنَّ الظاهرَ تَعَلُّقُ « لهم » بالاستعجال ، فهو يُشْبِه التهيئةَ والقطعَ . وقرأ زيد بن علي والحسن وعيسى « بلاغاً » نصباً على المصدرِ أي : بَلَغَ بلاغاً ، ويؤيِّده قراءةُ أبي مجلز « بَلِّغْ » أمراً . وقرأ أيضاً « بَلَغَ » فعلاً ماضياً.
ويُؤْخَذُ مِنْ كلامِ مكيّ أنه يجوزُ نصبُه نعتاً ل « ساعةً » فإنه قال : « ولو قُرِئ » بلاغاً « بالنصبِ على المصدر أو على النعتِ ل » ساعةً « جاز » . قلت : قد قُرِئ به وكأنه لم يَطَّلِعْ على ذلك.
وقرأ « الحسن » أيضاً « بلاغ » بالجرِّ . وخُرِّجَ على الوصف ل « نهار » على حَذْفِ مضافٍ أي : مِنْ نَهارٍ ذي بلاغ ، أو وُصِف الزمانُ بالبلاغ مبالغةً.
قوله : « يُهْلَكُ » العامَّةُ على بنائِه للمفعولِ . وابن محيصن « يَهْلِك » بفتح الياء وكسرِ اللام مبنياً للفاعل . وعنه أيضاً فتحُ اللامِ وهي لغةٌ . والماضي هلِكَ بالكسر . قال ابن جني : « كلٌ مرغوبٌ عنها » . وزيد بن ثابت بضمِّ الياءِ وكسرِ اللام/ والفاعلُ اللَّهُ تعالى . « القومَ الفاسقين » نصباً على المفعولِ به . و « نُهْلك » بالنون ونصب « القوم ».
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/448)


سُورَةُ محمَّد - صلى الله عليه وسلم -
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1)
قوله عزَّ وجلَّ : (أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ).
أحبطها فلا يرون في الآخرة لها جزاء ، والمعنى أن حبط ما كان من
صدَقَاتِهِمْ وصلتهم الرحِمَ وأبواب البر بكفرهم ، كما قال عزَّ وجلَّ : (كَذَلِكَ يُرِيهُمُ اللَّهُ أعْمَالَهُم حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ) وقوله (كَسَرَابٍ بِقيعَةٍ)
وهؤلاء هم الذين صدوا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -
والدليل على ذلك قوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2)
أي كفَّر عَنْهُم وما اقترفوه وَهُمْ كافرونَ لمَّا آمنوا باللَّهِ وبالنبي عليه السلام.
وسائر الأنبياء أجمعين.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ).
أي أصْلَحَ امْرَهُمْ وحالهم.
* * *
وقوله : (ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3)
أي الأمر ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل.
وجائز أن يكون ذلك الإضلال لاتباعهم الباطل ، وتلك الهداية والكفارات باتباع المؤمنين الحقَ ، ثم قال عزَّ وجلَّ :

(5/5)


(كذلك يَضْرِبُ اللَّهُ للنَّاسِ أمْثَالَهُمْ).
أي كذلك يبين الله للناس أمثال حسنات المؤمنين وسيئات الكافرين أي
كالبيان الذي ذكر ، ومعنى قول القائل : ضربت لك مثلًا ، أي بينت لك ضرباً من الأمثال ، أي صنفاً منها.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4)
معناه فاضربوا الرقاب ضرباً ، منصوبٌ على الأمر ، وتأويله فإذا لقيتُم
الذين كفروا فاقتلوهم ، ولكن أكثر مواقع القتل ضرب العُنُق ، فأعلمهم اللَّه
- عزَّ وجلَّ - كيف القصد ، وكيف قال : (واضْرِبُوا مِنْهُم كُلً بَنَانٍ)
أي فليس يتوهم بهذا أن الضَّربَ محظور إلَّا على الرقبة فقط.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ).
(أَثْخَنْتُمُوهُمْ) أكثرتم فيهم القتل ، كما قال : (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) ، فالأسر بعد المبالغة في القتل.
ثم قال : (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً).
أي بعد أن تَأسِروهُمْ إِما مننتم عليهم مَنَّا ، وإِما أطلقتموهم بفداء.
وقوله : (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا).
(حتى) موصولة بالقتل والأسْرِ ، المعنى فاقتلوهم وأسِرُوهُمْ حتى تضع
الحرب أوزارها.
والتفسير حتى يؤمنوا وُيسْلِمُوا ، فلا يجب أن تحاربوهم ، فما
دام الكفر فالجهاد والحرب قائمة أبداً.
وقوله : (ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ).
.

(5/6)


(ذلك) في موضع رفع ، المعنى الأمر ذلك ، ويجوز أنْ يكون مَنْصُوباً على
معنى افعلوا ذلك.
(وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ).
أي لو يشاءُ اللَّهُ لَعذَّبَهُمْ وأهلكهم لأنه قادِرٌ عَلَى ذَلِك.
(وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ).
المعنى ولكن أمركم بالحرب ليبلو بعضكم ببعض ، أي ليمَحِّصَ اللَّه
المؤمنين ويمحق الكافِرينَ.
وقوله : (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ).
ذكر في أول السورة : (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ) وأعلم أن الذين قاتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم.
ويقرأ عَلَى أربعة أوْجُهٍ :
قَاتَلُوا في سبيل اللَّه ، وقُتِلُوا في سبيل اللَّه ، على ما لم يسمَّ
فاعله ، ويُقْرأ قُتِّلُوا بتشديد التاء ، ويُقْرأ قَتَلُوا في سبيل اللَّه ، بفتحِ القاف.
* * *
وقوله : (سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5)
يُصْلِحُ لَهُمْ أمر معاشهم في الدنيا مع ما يجازيهم به في الآخرة ، كما
قال - عزَّ وجلَّ - : (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ)
أي لو أنهم قبلوا ما فيها وما في الكتب وعملوا به لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرْجُلِهم ، وكما قال :
(اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12)
فوعد الله عزَّ وجلَّ المؤمنين إصلاح شأنهم وبالهم في الدنيا والآخِرة.
* * *
وقوله : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8)

(5/7)


(الَّذِينَ) في موضع رفع على الابتداء . ويكون (فَتَعْسًا لَهُمْ) الخبر.
ويجوز أن يكون نصباً على معنى أتعسهم اللَّه.
والتععحم ، في اللغة الانْحِطاطُ والعُثور.
* * *
(ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9)
كرهوا القرآن ونبوة النبي عليه السلام فأحبط اللَّه أعمالهم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10)
المعنى فينظروا كيف كان عاقبة الكافرين الذين من قبلهم.
(دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) ، أي أهلكهم اللَّه.
(وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا) أي أمثال تلك العاقبة ، فأهلك الله عزَّ وجل
بالسَّيف من أهلك ممن صدَّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
* * *
(ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11)
أي بأن اللَّه ولي الذين آمنوا يتولاَّهم في جميع أمورِهم في هدايتهم
والنصر على عدوهم.
(وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ).
أي لا وليَّ لهم ينصرهم من اللَّهِ في هِدَايةٍ ولا عُلُوٍّ على المؤمنين ، ثم
أعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - ما أعدَّ للمؤِمنين مع النصر والتمكين ، وما أعدَّ للكافرين مع الخذلان والإِضلال فقال : (إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12)
ثم بين صفات تلك الجنات وقال :
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ).
والمثوى المنزل.
* * *
وقوله - عزَّ وجلَّ - : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ (13)

(5/8)


المعنى وكم من أهل قَرْيةٍ هي أشدُّ قوةً مِنْ أهْلِ قَرْيتِكَ التي أخرجتك.
أي الذين أخرجوك أهلكناهم بتكذيبهم للرسل فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ.
ثم أعلم فقال :
* * *
(أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ
(14)
وهذه ألفُ توقِيفٍ وتَقْرِيرٍ ، لأن الجواب معلوم ، كما أنك إِذا قلْتَ من
يفعل السيئات يشق ، ومن يفعل الحسنات يَسْعَد ، ثم قلت : الشقاء أحب إليك أم السعادَة . فقد علم أن الجواب السعَادَة ، فهذا مجرى ألف التوقيف
والتقرير.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15)
(مَثَلُ الْجَنَّةِ).
تفسير لقوله تعالى : (إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) ، ففسر تلك الأنهار فقال : (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) أي مما عرفتموه من الدنيا من جناتها وأنهارها جنَّةٌ (فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ).
ويقرأ من ماء غير أسِنٍ ، ويجوز في العربية أسْنٍ ، يقال أَسَنَ الماءُ يأسِن
فهو آسِنٌ ، ويقال : أسَنَ الماءُ فهو أَسِنٌ إذا تغيرت رائحته ، فأعلم اللَّه
- عزَّ وجلَّ - أن أنهار الجنة لا تَتَغير رائحة مائها ، ولايَأسَن.
(وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ).
أي لا يدخله ما يدخل ألبان الدنيا من التغيرِ.
( وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ).
ليس فيها غَوْلٌ أي لا تُسْكِرُ وَلاَ تفنى.
(وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى).
معناه مصفى لم يخرج من بطون النحل فَيخالطه الشَمْع.
( وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ).

(5/9)


كما قال : (إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) ، وصف تلك الجناتِ فقال : مثل الجنَّة جنَّة كما وصف.
وقيل إن المعنى صِفَةُ الجنَّةِ ، وهو نحَوٌ مِما فَسَّرَنَا.
ثم قال : (وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ).
أي لهم فيها من كل الثمَرات وَلَهُم مَغْفِرةٌ من رَبهمْ ، يَغْفِر ذُنُوبَهُمْ ولا
يجازون بالسيئات ، ولا يوَبَّخُونَ في الجنَّةِ ، فَيُهكوْنَ الفوز العظيم والعَطاءَ
الجَزِيلَ.
ثم قال :
(كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ).
المعنى أفمن كان على بَينَةٍ من رَبِّه وأُعْطَىْ هَذِهِ الأشْيَاء ، كمَن زُيِّنَ له
سوء عمله وهو خَالِدٌ في النَّارِ.
(وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ).
واحد الأمعاء مِعًى ، مثل ضِلَع وَأضْلَاع.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16)
يعني المنافقين.
(حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا).
كانُوا يَسْمُعونَ خطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - فإذا خرجوا سألوا أصحاب رسول الله استهزاء وإعلاماً أنهم لم يلتفتوا إلى ما قال ، فقالوا : مَاذَا قَال آنِفاً ، أي ماذا قال الساعة ، ومعنى آنفاً من قولك استأنَفْتُ الشيء إذا ابْتَدَأتُه ، ورَوْضَة أُنُفٌ ، إذَا لَمْ تُرْعَ بَعْدُ ، أي لها أولٌ يُرعَىْ ، فالمعنى ماذا قال من أول وَقْتٍ يَقْرُب مِنَّا.
وقوله : (أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17)
الضمير الذي في (زَادَهُمْ) يجوز أن يكون فيه أحدُ ثلاثة أوْجُهٍ :
فأجْوَدُهَا - واللَّه أعلم - أن يكون فيه ذكر الله ، فيكون المعنى مردُوداً على

(5/10)


قوله : (أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ)
ويجوز أن يَكونَ الضَميرُ في (زَادَهم) قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
فيكون المعنى وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ ما قال رسول اللَّه هُدًى.
ويجوز أن يكون زَادَهم إعراضُ المنافقين واستهزاؤهم هُدًى.
قوله : (وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ).
يجوز أن يكون وَألهمهم تقواهم ، كما قال عزَّ وجلَّ : (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا).
ويجوز أن يكون - واللَّه أعلم - وآتَاهمْ ثَوَابَ تَقْوَاهُمْ.
* * *
وقوله - عزَّ وجلَّ - (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ (18)
ويقرأ " إِلَّا السَّاعَةَ إِنْ تَأْتِهمْ " بغير ياء ، والأولى أجْوَد لموافقة المصحف.
وموضع " أن " نَصْبٌ البدَلِ مِنَ السَّاعَةِ.
المعنى فهل ينظرون إِلا أن تأتِيَهُمْ السَّاعَة بَغْتةً.
وهذا البدل المشتمل على الأول في المعنى وهو نحو
قوله (وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ)
المعنى لولا أن تطؤوا رِجالاً مؤمِنين ونساءً مؤمِنَاتٍ.
ومعنى (هَلْ يَنْظُرُونَ) هَلْ يَنْتَظِرونَ واحِدٌ.
ومن قرأ : إن تأتهم " (فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا) فعلى الشرط والجزاء.
وأشراطها أعلامها.
(فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ).
المعنى فمن أين لهم ذكراهم إذا جاءتهم الساعة ، و (ذِكْرَاهُمْ) في موضع
رفع بقوله (فَأَنَّى) .

(5/11)


وقوله : (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19)
هذه الفاء جاءت للجزاء ، المعنى قد بَيَّنَا مَا يَدل على أنَّ الله وَاحِدٌ
فأعلم اللَّه أنه لا إِله إلا اللَّه ، والنبي عليه السلام قد علم ذلك ولكنه خطاب
يدخل الناس فيه مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ، كما قال اللّه عزَّ وجلَّ : (يَا أيها النبي إذا طلقتم ْالنساء) ، والمعنى من عَلِمَ فليقم على ذلك العلم ، كما قال : (اهْدِنَا الصِرَاطَ المسْتقيم) أي ثبتنا على الهداية.
(وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ).
أي يعلم متصرفاتكم ويعلم مثواكم ، أي يعلم أين مقامكم في الدنيا
والآخرة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (20)
كان المؤمنون - رحمهم اللَّه - يأنسون بالوحي ويسْتَوْحِشُونَ لإِبْطائِه
فلذلك قالوا : (لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ).
(فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ).
ومعنى (مُحْكَمَةٌ) ، غير منسوخة ، فإذا ذكر فيها فَرْضُ القِتَالِ
(رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) يعنى المنافقين.
(يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ).
لأنهم منافقون يكرهون القتال ، لأنهم إذا قعدوا عنه ظَهَرَ نِفَاقُهُمْ ، فَخَافوا
عَلَى أنْفُسِهِم القَتْل.
(فَأَوْلَى لَهُمْ).
(أَوْلَى لَهُمْ) وعيدٌ وتَهَدُدٌ ، المعنى وَلِيَهُم المكروهُ
* * *
وقوله : (طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ (21)

(5/12)


قال سيبويه والخليل : المعنى طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ أمثل ، وقيل إنهم كان
قولهم أولًا طاعة وقول معروف.
ويجوز - واللَّه أعلم - أن يكون المعنى فإذا أنزلت سورة ذات طاعة أي يؤمر فيها بالطاعة ، وقول معروف ، فيكون المعنى فإذا أنزلت سورة ذات طاعة وقول معروف.
* * *
(فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ).
المعنى فإذا جَدَّ الامْرُ ولزم فرض القتال ، فلو صدقوا اللَّه فآمنوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وعملوا بما نزل عليه وما أمروا به من فرض القتال لكان خيراً لهم.
المعنى لكان صدقهم اللَّه بإِيمانِهِمْ خيراً لهم.
* * *
وقوله : (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22)
وقرأ نافع " فَهَلْ عَسِيتُمْ " واللغة الجيدة البالغة عَسَيْتُمْ - بفتح السين ولو
جاز عَسِيتُمْ لجاز أن تقول : عَسِيَ رَبُّكُمْ أنْ يَرْحَمَكُمْ.
ويقرأ (إِنْ تُوُلِّيتُمْ) و (إِنْ تَوَلَّيْتُمْ) - بضم التاء وفتحها.
(أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ).
فمن قرأ (تَوَلَّيْتُمْ) - بالفتح - ففيها وجهان :
أحَدَهُمَا أن يكون المعنى لعلكم إن توليتم عما جاءكم به النبي أنْ تَعُودُوا إلى أمر الجاهلية ، فتفسدوا وَيَقْتُلُ بعضكم بعضاً.
(وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ) ، أي تئدوا البنات ، أي تدفنوهن أحياء.
ويجوز أن يكون فلعلكم إن توليتم الأمر أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا
أرحَامَكُمْ ، ويَقْتُلُ قُريشٌ بَنِي هاشم ، وبَنو هَاشِم قُريْشاً ، وكذلِكَ إن توليتم.
* * *
وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25)
المعنى رجعوا - بعد سماع الهدى وتَبَيُّنِهِ - إلى الكُفرْ.
وقوله : (الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ).

(5/13)


معنى (سَوَّلَ لَهُمْ) زَيَّنَ لَهُمْ
(وَأمْلَى لهم) ، أملى اللَّه لهم كما قال :
(إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا) معناه إنما نؤخرهم.
وقد قرئت (الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأُمْلِي لَهُمْ) على الإخبار عَنِ اللَّه عزَّ وجلَّ ، المعنى وأنَا أُمْلِي.
وقُرئت (وَأُمْلِيَ لَهُمْ) بفتح الياء على ما لم يسم فاعله (1).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26)
المعنى - والله أعلم - الأمر ذلك أي ذلك الِإضلال بقولهم للذين
كرهوا ما نزل اللَّه ، وجاء في التفسير أنهم اليهود ، قالوا سنطيعكم في بعض
الأمر ، أي سنطيعكم في التظاهر على عداوة النبي - صلى الله عليه وسلم -
(وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَسْرَارَهُمْ).
و (إِسْرَارَهُمْ) قرئ بهما جميعاً ، فمن قرأ (أَسْرَارَهُمْ)- بالفتح - فهُو جمعُ سِرٍّ
وأسرار ، مثل حمل وأحمال ، ومن قرأ (إِسْرَارَهُمْ) فهو مصدر أسْرَرْتً إسرَاراً.
* * *
وقوله : (فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27)
يفعلون بهم ذلك في نار جهنم - واللَّه أعلم - ويكون المعنى فكيف
يكون حالهم إذا توفتهم الملائكة وهم يضربون وجوههم وأدبَارَهم.
* * *
قوله : (ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28)
المعنى - واللَّه أعلم - ذلك جزاؤهم بأنهم اتبعوا الشيء الذي أسخط
اللَّه وكرهوا رضوانه ، أي اتبعو مَن خالف النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن خالف الشريعة وكرهوا الِإيمان بالنبي - صلى الله عليه وسلم - واتباع شريعته.
(فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ).
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { الشيطان سَوَّلَ } : هذه الجملةُ خبرُ { إِنَّ الذين ارتدوا } . وقد تقدَّم الكلامُ على « سَوَّل » معنًى واشتقاقاً . وقال الزمخشري هنا : « وقد اشتقَّه من السُّؤْل مَنْ لا عِلْمَ له بالتصريفِ والاشتقاقِ جميعاً » كأنَّه يُشير إلى ما قاله ابن بحر : مِنْ أنَّ المعنى : أعطاهم سُؤْلَهم . ووجهُ الغلطِ فيه أنَّ مادةَ السُّؤْلِ من السؤال بالهمز ، ومادةَ هذا بالواوِ فافترقا ، فلو كان على ما قيل لقيل : سَأَّل بتشديد الهمزة لا بالواو . وفيما قاله الزمخشريُّ نَظَرٌ؛ لأن السؤالَ له مادتان : سَأَل بالهمز ، وسال بالألفِ المنقلبةِ عن واوٍ ، وعليه قراءةُ « سال سايل » وقوله :
4067 سالَتْ هُذَيْلٌ رسولَ الله فاحِشةً . . . ضَلَّتْ هُذَيْلٌ بما سالَتْ ولم تُصِبِ
وقد تقدَّم هذا في البقرةِ مُسْتوفى.
قوله : « وأَمْلَى » العامَّةُ على « أَمْلَى » مبنياً للفاعل ، وهو ضمير الشيطان . وقيل : هو للباري تعالَى . قال أبو البقاء : « على الأول يكونُ معطوفاً على الخبر ، وعلى الثاني يكونُ مُسْتأنفاً » . ولا يَلْزَمُ ما قاله بل هو معطوفٌ على الخبر في كلا التقديرَيْن ، أخبر عنهم بهذا وبهذا . وقرأ أبو عمروٍ في آخرين « أُمْلِيَ » مبنياً للمفعول ، والقائمُ مَقامَ الفاعلِ الجارُّ . وقيل : القائم مَقامَه ضميرُ الشيطان ، ذكره أبو البقاء ، ولا معنى لذلك . وقرأ يَعْقُوبُ وسلام ومجاهد/ « وأُمْلِيْ » بضمِ الهمزةِ وكسرِ اللام وسكونِ الياءِ . فاحتملَتْ وجهَيْن ، أحدُهما : أَنْ يكونَ مضارعاً مُسْنداً لضمير المتكلم أي : وأُمْلِي أنا لهم ، وأَنْ يكونَ ماضياً كقراءة أبي عمروٍ سُكِّنَتْ ياؤه تخفيفاً . وقد مضى منه جملةٌ.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5/14)


أي ما كان من عمل خيرٍ نحو صلة رحم أوْ برٍ أو صَدَقةٍ ، أحبط اللَّه ذلك
بكفرهم بما أتى به النبي - صلى الله عليه وسلم -.
* * *
وقوله : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ
(29)
(الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) المنافقون أي لن يبدي اللَّه عداوتهم لرسوله
عليه السلام ويظهره على نفاقهم.
* * *
(وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30)
معنى (لَأَرَيْنَاكَهُمْ) لعَرفْنَاكَهُمْ ، تقول : قد أرَيْتَكَ هَذَا الأمْر أي قد عرفتك
إياه ، المعنى لو نشاء لجعلنا على المنافقين علامة وهي السيمياء.
(فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ).
أي بتلك العلامة.
(وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) ، أي في فحوى القَوْلِ.
فدلَّ بهذا والله أعلم - على أن قول القائل وفعله يدُلُّ على نِيَّته.
وقولُ الناس : قد لَحَنَ فلانٌ ، تأويله : قد أَخذ في ناحية عن الصواب ، وَعدَلَ عن الصواب إِليها ، وقول الشاعر :
مَنْطِقٌ صائِبٌ وتَلْحَنُ أَحْيا . . . ناً وخَيْرُ الحديثِ ما كانَ لَحْنا
تأويله : خير الحديث من مِثْل هذه ما كان لا يعرفه كلُّ أحد ، إِنما يُعْرََفُ قولها في أنحاء قولها.

(5/15)


وقوله : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31)
معنى (لَنَبْلُوَنَّكُمْ) لنختبرنكم بالحرب.
(حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ).
وهو عزَّ وجلَّ قَدْ عَلِمَ قَبْلَ خَلْقِهِم المجاهدين منهم والصابرين ، ولكنه
أراد العلم الذي يقع به الجزاء ، لأنه إنما يجازيهم على أعمالهم.
فتأويله حتى يعلم المجاهدين علم شهادة ، وقد علم - عزَّ وجلَّ - الغيب ، ولكن الجزاء بالثواب والعقاب يقع على علم شهادة.
* * *
وقوله - عزَّ وجلَّ - : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34)
أعلم - عزَّ وجلَّ - أنه لا يغفر لمن مات على الكفر.
* * *
وقوله : (فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35)
(إِلَى السَّلْمِ)
والسَّلَم ، ومعناه الصلْحُ ، يقال للصُّلِحَ هو السِّلْمُ ، والسَّلْمُ ، والسَّلَمُ.
ومعنى (لَا تَهِنُوا) لا تَضْعُفوا . يقال : وَهَنَ يَهِن ، إِذَا ضَعُفَ ، فمنع اللَّه المُسْلِمينَ أن يَدْعوا الكافرين إِلىَ الصُّلْحِ وأمرَهًمْ بِحَرْبِهِمْ حتى يُسْلِمُوا.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ).
تأويله . أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ فى الحجةِ ومَعَكًمً النبيُ - صلى الله عليه وسلم - وَمَا أتَى به من الآياتِ التي تدل على نبُوته ، (وَاللَّهُ مَعَكمْ) أي نَاصِرُكُمْ.
وقوله - عزَّ وجلَّ - (وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ).
أي لن ينْقِصكُمْ شيئاً مِن ثَوَابِكًمْ.
* * *
وقوله : (إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36)
وقد عرفهم أنَّ أجورهم الجنةُ.
وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36) إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (37)

(5/16)


أي إِن يجهدكُمْ بالمسألة (تَبْخَلُوا وَيُخْرِج أضْغَانَكُمْ).
ونخْرِج أضْغَانُكُمْ ، وقد قرئ بهما جميعاً.
* * *
وقوله : (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)
جاء في التفسير : إن تَوَلَّى العِبَادُ استَبْدَلَ اللَّه بِهِمُ المَلَائِكَة.
وجاء أيضاً : إن تَوَلَّى أهل مكَةَ استبدل الله بهم أهل المدينة.
وجاء أيضاً - يَستَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكمْ مِن أهل فَارِسَ.
فأما ما جاء أنه يستبدل بهم الملائكة ، فهو في اللغةِ عَلَى مَا أَتَوَهَّم فيه بُعْدٌ لأنه لا يقال للملائكة قومٌ ، إِنما يقال قوم لِلآدَمِيينَ.
والمعنى - واللَّه أعلم - وَإِنْ تَتَوَلًوْا يستَبْدِل قَوماً أطْوَعَ مِنكم ، كما قال - عزَّ وجلَّ - (عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ).
إِلى آخر القصة.
فلم يتولَّ جَميعَ النَّاسِ - واللَّه أعلم .

(5/17)


سُورَةُ الفتح
(مَدنيةٌ) كلها بِإِجْمَاعٍ
بسم اللَّه الرحمن الرَّحيم
قوله - عزَّ وجلََّّ - : (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1)
جاء في التفسير أنه فتحُ الحُديبية ، وَكان هذا الفتح عَن غَير قتالٍ قيل
إنه كان عن تراضٍ بين القوم.
والحُدَيْبيَةُ بئرٌ فسمي المكان باسم البئر.
والفتح إنما هُوَ الطفَرُ بالمكان والمدينةِ والقَرْيَةِ ، كان بحرب أو بغَيْر حُرْبٍ ، أو
كان دخول عَنْوَةٍ أو صُلْح ، فَهوَ فتحٌ لأن الموضع إِنما يكون مُنْغَلِقاً فإذا صار
في اليَدِ فَهُوَ فتحُ.
ومعنى (فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا) - وَاللَّهُ أعلَمُ - هو الهداية إلى الِإسْلاَمِ.
وجاء في التفسير : قضينا لكَ قضاء مُبِينًا أي حكمنا لك بإظهار دين الِإسلام
والنصرة على عدوك.
وأكثَر ما جاء في التفسير أنه فتح الحُدَيْبِيةِ ، وكان في فتح الحديبية آية
عظيمة من آيات النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وذلك أنها بئر فاسْتُقِيَ جميعُ ما فيها من الماء حتى نَزَحَت ولم يبق فيها ماء ، فتمضمض رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ثم مَجَّهُ فيها فدرت البئر بالماء حتى شَرِبَ جميع من كان مع النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وليس يخرج هذا من معنى فتحنا لك فتحاً مبيناً أنه يُعْنَى به الهداية إلى الِإسْلاَم ، ودليل

(5/19)


ذلك قوله (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2)
فالمعنى فتحنا لك فتحاً في الدين لتَهْتَدِيَ بِهِ أنت والمُسْلِمونَ.
* * *
ومعنى (وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3)
نَصْراً نَصْراً ذا عِزٍّ لا يقع معه ذُلٌّ.
ثم أعلم عن أسباب فتح الدين على نبيه عليه السلام فقال :
* * *
(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4)
أي أسْكَنَ قُلوبَهم التعظيم للهِ ولرسوله ، والوقار.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا).
تأويله - واللَّه أعلم - أن جميع ما خلق الله في السَّمَاوَات والأرض جنود
له ، لأن ذلك كله يدل على أنه واحد وأنه لا يَقْدِرُ أحدٌ أنْ يأتِيَ بمثل شيء
واحد مما خلق اللَّه في السَّمَاوَاتِ والْأَرْضِ.
ومن الدليل أيضاً على أن معنى قوله : (إِنَّا فتحنا لك) أي إنَّا أرشدناك
إلى الإِسلام وفتحنا لك أمر الدينِ
قوله عزَّ وجلَّ : (وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6)
كانوا يظنون أن لن يَعودَ الرسول والمؤمِنونَ إلى أهْليهم أبداً وَزينَ ذلك
في قلوبِهِمْ ، فجعل الله دائرة السَّوْءِ عَليْهم.
ومن قرأ " ظَنَّ السُّوءِ " فهو كما ترى أيْضاً.
قال أبو إسحاق : وَلاَ أعْلَمُ أحداً قَرأ بِهَا ، وقد قيل أيضاً إنه قرِئ بِهِ.
وزعم الخليل وسيبويه أن معنى السوء هِهنا الفساد.
والمعنى : الظانين باللَّهِ ظَنَّ الفَسَادِ ، وهو ما ظَنُّوا أن الرسول عليه السلام ومن معه لا يَرْجِعونَ .

(5/20)


قال اللَّه تعالى : (عَلَيْهِمْ دَائِرَة السَّوْءِ) أي الفساد والهلاك يقع بهم
(وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا).
* * *
(وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (7)
تفسيره مثل الأول.
(وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) عَالِياً حَكيماً فِيما دَبَّرَهُ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8)
أي شاهداً على أمتِك يوم القيامة.
وهذه حال مُقَدَّرَة أي مبشَراً بالجنة من عمل خَيْراً ومنْذِراً مَنْ عَمِل
شرَّا بالنَّارِ.
* * *
(لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9)
الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - وخطاب للنَاس وَلأمَّتِه.
والمعنى يَدُل على ذلك.
ويجوز (لِيُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) . وقَدْ قرِئ بهمَا جميعاً.
وجائز أن يكون (لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) خِطَاباً للمومِنينَ وللنَّبي جَميعاً.
لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد آمن بالله وبآياته
وكتُبه ورسلِه.
وقوله (شاهداً) حال مقدرة ، أي يكون يوم القِيَامَةِ ، والبشارة والِإنذار
حال يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - ملابساً لها في الدنيا لمن شاهده فيها من أمَّتِه ، وحال مُقدرة لمن يأتي بعده من أمَّتِه إلى يوم القيامَةِ مِمنْ لم يشاهده.
يَعْنِي بقوله مُقدَّرة أن الحال عنده في وقت الِإخإر عَلَى ضَرَبَيْن.
حال ملَابسة يَكونُ المُخْبِر ملَابِساً لها في حين إِخْبارِه.
وَحَالٌ مُقَدَّرَةٌ لأن تلابَسَ فى ثانٍ مِنَ الزَمَانِ.
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ).
معنى (تُعَزِّرُوهُ) تنصروه ، يقال : عَزَّرْته أُعَزِّرهُ ، أي نصرته مَرةً بعْدُ مرةٍ.
وجاء في التفسير لتنصروه بالسيْفِ ويجوز وَلِتَعْزروه ، يقال : عَزَرْتُه أعْزرُه عَزْراً ، وعَزَّرْته أُعَزِّرهُ عَزْراً وتعْزِيراً . ونصرة النبي - صلى الله عليه وسلم - هي نُصْرَة الله عَزَّ وجلَّ.
(وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا).

(5/21)


فهذه الهاءُ تَرْجِع عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
ومعنى يُسبحون اللَّه ، أي يُصلُّون له . والتسبِيح في اللًغَةِ تعظِيم الله وتنزيهه عن السوءِ.
* * *
وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10)
أي أخذكَ عَلَيْهم البَيْعَةَ عَقْدٌ لِلَّهِ عزَّ وجلَّ عَلَيْهم.
ومعنى (يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ)
يحتمل ثلاثة أوجُهٍ :
منها وَجْهَانِ جاءا في التفسير ، أحدُهما يَدُ اللَّه في الوَفَاء فَوْقَ أيْدِيهم.
وجاء أيْضاً يد اللَّه في الثواب فوق أيْدِيهم.
والتفسير - واللَّه أعلم - يد الله في المِنَّةِ عَلَيْهِمْ في الهِدَايَةِ فوق أيْدِيهِمْ في الطاعة.
وقوله : (فَمَنْ نَكَثَ فَإنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ).
والنكث في اللغةِ نقضُ مَا تَعْقِده ، وما تُصْلِحه.
وجاء في التفسير : ثلاثة أشياء تَرجِعُ عَلى أهلِهَا.
أحدُهَا النكث . والبغي والمكر.
قال اللَّه - عزَّ وجلَّ - (إِنَّما بَغْيُكُم عَلَى أنْفُسِكم).
والمكْرُ قال اللَّه عزَّ وجلَّ : (وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ)
وقوله : (فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا).
(فَسَنُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا)
ويقرأ (فَسَيُؤتيه أجْراً عظيماً).
ويقرأ عَلَيْهِ اللَّه ، وعَلَيهُ اللَّهَ.
وقد فسرنا مثل هذا فيما سلف.
* * *
(سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11)
(فَاسْتَغْفِرْ لَنَا) بإظهار الراء عند اللَامِ ، وقد رُوِيت عَنْ أبِي عَمْروٍ فاستغفِلَّنَا بالإدغام ، وكذلك في قوله يَغْفِلَّكًمْ.
ولا يُجيزُ سيبويه والخليل إدغام الراء في اللام.
ولا يحكون هذه اللغة عن أحدٍ من العرب - ، ويذكرون أن إدغام الراء

(5/22)


في اللام غير جائز لأن الراء عندهم حرفٌ مَكرر ، فإذا أدغم في اللام بطل هذا الإشباع الذي فيه.
وأعلم الله عزَّ وجلَّ أن هؤلاء منافقون فقال :
(يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ).
وأعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أنهم تخلفوا عن الخروج مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بظنِهم ظن السَّوءِ ، فأطلع الله نبيه على ذلك ، قال اللَّه عزَّ وجلَّ : (بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12)
أي هالكين عند اللَّهِ - عزَّ وجلَّ - فاسِدين في عِلْمِه.
وقوله عزَّ وجلَّ : (شَغلَتْنَا أمْوَالُنَا).
أي ليس لنا من يَقوم بها.
(وأهْلُونَا).
أي وشغلتنا أهلونا ، ليس لنا من يخلفنا فيهم ، ويجوز وأهلُنَا ، ولكن
القراءة المشهورة بالواو ، فمن قال وَأهلُونا فهو جمع أهل وأهلون ، ومن قال
وأهلنا فهو يتضمَّن الجماعة كُلها.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (15)
يعنى بقوله : (يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ) - قوله عزَّ وجلَّ :

(5/23)


(فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا).
فأرادُوا أن يأتوا بما ينقض هذا . فأعلم الله عزَّ وجلَّ أنهم لا يعقلون ، ولا يقدرون على ذلك فقال : (قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ).
ولو كان الكلام نهياً لقال : قل لا تَتَبِعُونا.
وقرئت : " يُرِيدُونَ أنْ يُبَدِّلُوا كَلِمَ اللَّهِ).
فالْكَلِمُ جمع كلمة ، والكلام في موضع التَّكلِيم.
* * *
وقوله : (قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16)
وقد قرئت (أو يُسْلِموا) ، فالمعنى تقاتلونَهُمْ حتى يسلموا.
وإِلَّا أن يسلموا.
فإن قال قائِلٌ : قد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهم :
(لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا)
فكيف جاز أن يقول : (سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ).
فإنما قال - صلى الله عليه وسلم - ذلك لأن اللَّه أعلمه أنَّهُمْ منافقون ، وأعلمه مع ذلك أنهم لا يُقَاتِلُونَ معَه.
وجاء في التفسير أنه عنِيَ بقوله : (سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ) بنو
حنيفة ، وأبو بكر رحمه اللَّه ، قاتلهم في أيام مسيلمة.
وجاءً أيضاً هوازِن.
والمعنى أن كل من ظَاهِره الِإسلام فعلى أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يدعوهم إلى الجهاد.
والصحابة لم يطْلَعُوا في وقت الجهاد على من يُقَاتِل ومن لا يُقَاتِل.
ولا على من ينافق ومن لا ينافق ، لأن الإظهار على ذلك من آيات الأنبياء
عليهم السلام.
وقد قيل : (إِلَى قَوْمٍ أوليَ بَأْسٍ شَدِيدٍ) أي ، إلى فارس والروم ، وذلك
في أيام أبي بكر وعمَر رحمة اللَّه عليهما وَمَنْ بَعْدَهم .

(5/24)


(فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا).
أي إن تبْتًم وتَركْتُم النِّفَاقَ وجَاهَدْتم . يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا.
(وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا).
[وإن تولَّيتم فأقمتم على نفاقكم ، وأعرضتم عن الإِيمان والجهاد كما تولَّيتم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يعذِّبكم عذاباً أليماً] (1).
ثم أعلم عزَّ وجلَّ بخبر من أخلص نيَّتَهُ فقال :
* * *
(لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18)
أي علم أنهم مًخْلِصون.
وجاء في التفسير أن الذين بايعوا تحت الشجرة كانوا ألفاً وأرْبَعَمائة.
وقيل ألفاً وخمسمائة ، وقيل ألفاً وثَلاثَمائةٍ وكانوا
بايعوا النبي - صلى الله عليه وسلم - على أن لا يوَلوُّا في القتال وَلَا يَهْرَبُوا ، وسُمِّيَتْ بيْعةَ الرضوانِ لقوله تعالى : (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ)
وكانت الشجرةُ سَمُرَةً.
(فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا).
قيل إنه فتح خَيْبَر.
* * *
(وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19) وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (20)
وهذا التكرير تكرير في الوَعْدِ ، أي فعجَّلَ هذه يَعْني خَيْبَر.
(وَكَص ايْدِيَ النَّاسِ عَنْكًمْ وَلتَكًونَ آيةً للمؤمِنِينَ).
__________
(1) النصُّ مضطرب في الكتاب المطبوع ، وتمَّ ضبطه من زاد المسير فيما حكاه عن الزَّجَّاج. اهـ (زاد المسير. 7 / 432).

(5/25)


أي كف أيديَ الناس عَنْكمْ لَمَّا خرجوا وخلفوا عِيَالَهمْ بالمدينة حَفِظَ اللَّه
عِيَالَهمْ وَبَيْضَتَهمْ ، وَقَد همَّت اليَهودُ بِهِمْ فَمَنَعهَم اللَّه ذَلِكَ.
* * *
(وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (21)
المعنى وعدكم اللَّه مغانم أخرى (قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا) ، قد علمها اللَّه.
وهو مَا يَغْنَم المُسْلِموَن إِلَى أنْ لاَ يُقَاتِلَهمْ أحدٌ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23)
المعنى لو قاتلك من لم يقاتلك لَنصِرْتَ عَلَيْهم ، لأن سنة الله النَصْر
لأوليائه وحِزْبه.
(سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23)
و (سُنَّةَ اللَّهِ) منصوبة على المصْدَرِ ، لأن قوله (لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ) مَعناه سنَّ
اللَّهُ خِذْلَانَهُمْ سُنَّةً ، وقد مر مثل هذا في قوله : (كِتَابَ اللَّهِ عَليهمْ).
وفي قوله : (صُنْعَ اللَّهِ) ، ولو قرئت " سُنَّةُ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ " لكان
جيِّداً في العربيةِ.
المعنى تلك سنة اللَّه التي قد خَلَتْ مِنْ قَبْلُ ، ولكن لا أعلم
أحداً قرأ بها فلا تقرأنَّ بها.
* * *
(وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24)
(مَكَة) لا تَنْصَرِفُ لأنَّها مؤنثَةٌ وهي مَعْرِفَة.
وقوله : (مِنْ بَعْدِ أن أظْفَرَكمْ عَلَيْهِمْ).
جاء في التًفْسِيرِ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أُتِيَ باثنتيْ عشر رَجُلًا أُخِذوا بلا عهد

(5/26)


ولا عقد فخلاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ومَنَّ عَلَيْهمْ ، وكان عاقبة ذلك أن سلِمَ للرجل مَنْ بَينَهُ وبينه قَرابةٌ وَمَن هُوَ مؤمِن أن يُصَابَ
قال الله عزَّ وجلَّ : (وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25)
وموضع " أن " رفع بدل مِنْ (رِجَالٌ) ، المعنى لولا أنْ تطأوا رجالاً مُؤْمِنينَ
ونساءً مؤمِنَاتٍ.
ثم قال : (لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا).
أي لو تَميَّزَ الكافِرُونَ مِنَ المُسْلِمِينَ لأنزلنا بالكافرين ما يكون عَذَاباً لَهُمْ
فى الدنيَا.
وَمَعْنَى : (فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ).
قيل : لولا أن يقتلوا منهم قوماً مؤمنين خطأً فَتَلزَمُكُم الديَاتُ
والمعنى - واللَّه أعلم - لولا كراهة أنْ يَلحقكُمْ عَنتٌ بأن قتلتم من هو على دينكم إذ أنتم مختلِطُونَ بهم لعَذَبنا الذين كفروا مِنهُمْ عذاباً أليماً.
* * *
وقوله : (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ).
(الهَدْيَ) مَنْصُوبٌ سبق على الكاف والميم ، المعنى وصَدُوا الهَدْيَ.
و (مَعكوفاً) مَحْبُوساً أنْ يبْلُغَ مَحِلًهُ.
(وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ) كما وَصَفْنَا لنَصَرْنَاكُمُ عَلَيْهم ، ولكن الذي مَنَع عن
ذلك كراهةُ وَطْءِ المؤمنين بالمكرُوه والقَتْلِ.
وموضع (أَنْ يبلُغَ مَحِلَّه) منصوب عَلَى مَعْنى وصدوا الهَدْيَ محبوساً عن أنْ يبلُغَ مَحِلَّهُ.
* * *
وقوله - عَزَّ وَجَلً - (فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26)
أَنْزَلَ اللَّه عَلَيْهِم الوقار والهيبة.
(وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى).

(5/27)


جا في التفسير أن شعارَهم لا إله إِلا الله ، وكلمة التقوَى توْحِيد اللهِ
والإِيمان برسوله عليه السلام.
(وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا).
أي كانوا أحق بها من غيرهم ، لأنَّ اللَّهَ - جلَّ وعزَّ - اختارَ لنبيه - صلى الله عليه وسلم - ولدينه أهلَ الخَيْرِ ومُسْتَحِقيه ، ومن هو أولى بالهِدَايَة مِنْ غيره.
* * *
وقوله : (لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27)
رأى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - في منامه كأنَّهُ وأصْحابَهُ - رحمهم اللَّه - يدخلون مكَة محلِّقِين ومُقَصِّرِين ، فَصَدَق اللَّهُ رسوله الرؤيا فدخلوا على ما رأى.
وكانوا قد استبطأوا الدخُولَ.
ومعنى (إنْ شَاءَ اللَّهُ) يخرج على وَجْهَيْن :
أحدهما إِن أمركم اللهُ به.
ويجوز وهو حسن أن يكون " إن شَاءَ اللَّهُ " - جرى على ما أمر الله به في
كل ما يُفعَلُ مُتَوَقعاً ، فقال : (وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا
(29)
وَصَفَهُم اللَهُ بِأن بعضَهُمْ مَتَحَنِّنٌ على بَعْضِ ، وأن عَليْهمِ السكينةَ
والوقَارَ ، وبعضهم يخلص المودةَ لبَعْضٍ ، وهم أشِداءُ عَلَى الكُفَارِ.
أشداء جمع شديدٍ ، والأصل أشدِدَاء ، نحو نصيب وأنْصِبَاء ، ولكن الدالَيْنِ تَحَركَتَا فأدْغِمتِ الأولى في الثانية ، ومثل هذا قوله : (مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ).

(5/28)


وقوله : (سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ).
أي في وجوههم عَلَامَة السجودِ ، وهي علامة الخاشِعين لِلَّهِ المصَلِّين.
وقيل يبعثون يَوْمَ القِيَامَةِ غرًّا مُحجَّلينَ من أثر الطُهُورِ ، وهذا يجعله اللَّه لَهُمْ يَوْمَ القيامَةِ عَلامَة وهي السيماء يُبَين بها فَضْلَهمْ عَلَى غَيْرِهِمْ.
وقوله : (ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ).
أي ذلك صفة محمد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه في التَورَاةَ ، ثم أعلم أنَّ صفَتَهم في الِإنجيل أيضاً.
(كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ).
معنى (أَخْرَجَ شَطْأَهُ) أخرج نباته
(فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ) ، أي فَآزَرَ الصغارُ الكبارَ حتى استوى بعضه مع بعْض
(عَلَى سُوقِهِ) جمع ساقِ.
وقوله : (يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ).
(الزُّرَّاعَ) محمد عليه السلام والدُّعاة إلى الِإسْلاَمِ وهم أصحَابًه.
وقوله : (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا).
(مِنْهم) فيه قولان :
أن تكون " مِنهم " ههنا تخليصاً للجنس من غيرِه كما
تقول : أنفقْ نَفَقَتَك منَ الدراهِمِ لَا مِنَ الدنَانِيرِ.
المعنى اجعل نفقتك من هذا الجنس ، وكما قال : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ) ، لا يريد أن بعضها - رجس وبعضها غير رِجْسٍ.
ولكن المعنى اجتنبوا الرجس الذِي هُوَ الأوثانُ .

(5/29)


فالمعنى وعد اللَّه الذين آمنوا وعملوا الصالحات من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - المؤمنين أجراً عظيماً وفَضَّلَهُمْ الله على غيرهم لِسَابِقتِهم وَعَظَّم أجْرَهُمْ.
والوجه الثاني أن يكون المعنى وعد الله الذين أقاموا منهم على الإيمَانِ
والعمل الصالح مَغْفِرةً وأجراً عظيماً .

(5/30)


سُورَةُ الْحُجُرَات
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1)
وقد قرئت (لَا تَقَدَّمُوا) بفتح التاء والدال ، والمعنى إذا أمِرْتم بأمْرٍ فلا
تفعلوه قبلَ الوقتِ الذي أمِرْتم أن تفعلوهُ فِيهِ.
وجاء في التفسير أن رجلاً ذبح يوم الأضْحَى قَبْلَ صَلاةِ الأضْحَى فتقدم
قبل الوقت فاعلم اللَّهُ أن ذلك غير جائز.
ففي هذا دليل أنَّهُ لَا يَجُوزُ أن يؤدى فَرْضٌ قبل وقْتِهِ وَلَا تطوعٌ قَبْلَ وَقْتِهِ مِمَّا جَاءَت به السُّنَّةُ ، وفي هذا دليل أن تقديم الزكاةِ قبل وقتها لا ينبغي أن يجوز ، فأما ما يروى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استسلَفَ من العباس شيْئاً من الزكاة ، فلا أعلم أن أحداً ممن أجاز تقديم الزكاة احتج إلا بهذا الحديث ، وهذا إن صح فهو على ضربين :
أحدهما أن يكون مخصوصاً
والآخر أن يكونَ الحاجة اشتدت فوقع اضطرار إلى استسلاف الزكاة.
والإجماع أن إعطاءها في وقتها هو الحق ، وهو الفَضلُ إنْ شَاء اللَّه.
ومن قرأ : (لَا تَقَدَّمُوا) فمعناه كمعنى (لَا تُقَدِّمُوا) (1).
* * *
وقوله عزْ وجلَّ : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2)
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { لاَ تُقَدِّمُواْ } : العامَّةُ على ضمِّ التاءِ وفتح القافِ وتشديدِ الدالِ مكسورةً ، وفيها وجهان ، أحدُهما : أنَّه متعدٍّ ، وحُذِفَ مفعولُه : إمَّا اقتصاراً كقولهم : هو يعطي ويمنع ، { وَكُلُواْ واشربوا } [ البقرة : 187 ] ، وإمَّا اختصاراً للدلالةِ عليه أي : لا تُقَدِّموا ما لا يَصْلُحُ . والثاني : أنه لازمٌ نحو : وَجَّه وتَوَجَّه ، ويَعْضُدُه قراءةُ ابنِ عباس والضَّحَّاك « لا تَقَدَّمُوا » بالفتح في الثلاثة ، والأصلُ : لا تَتَقَدَّمُوْا فحذَف إحدى التاءَيْن . وبعضُ المكِّيين « لا تَّقَدَّمُوْا » كذلك ، / إلاَّ أنَّه بتشديد التاء كتاءات البزي . والمتوصَّلُ إليه بحرفِ الجرِّ في هاتَيْن القراءتَيْن أيضاً محذوفٌ أي : لا تَتَقَدَّموا إلى أمرٍ من الأمور . وقُرِىء « لا تُقْدِموا » بضمِّ التاءِ وكسرِ الدالِ مِنْ أَقْدَمَ أي : لا تُقْدِموا على شيءٍ.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5/31)


أمرهم اللَّه - عزَّ وجلَّ - بتبجيل نبيِّه عليه السلام ، وَأنْ يَغُضوا أصْوَاتَهُمْ
وأن يخاطبوه بالسكينة والوقار ، وأن يفضلوه في المخاطبة ، وذلك مما كانوا
يفعلونه في تعظيم ساداتهم وكبرائهم.
ومَعنى (كَجَهْرِ بَعْضِكُم لِبَعْضٍ) أي لا تنزلوه منزلةَ بعضكم من بعض.
فتقولوا : يا محمدِ خاطبوه بالنبوة ، والسكينة والإِعظام.
وقوله : (أنْ تَحْبَط أعْمَالُكُمْ).
معناه لا تفعلوا ذلك فتحبط أعمالكم.
والمعنى لئلا تحبط أعمالكم
فالمعنى معنى اللام في أن . وهذه اللام لام الصيرورة وهي كاللام في قوله :
(فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا) والمعنى فالتقطه آل فرعَوْنَ
ليصير أمرهم إلى ذلك ، لَا أنَّهمْ قصدوا أن يصير إلى ذلك . ولكنه في المقدار
فيما سبق من علم الله أن سبب الصير التقاطهم إياه ، وكذلك لا ترْفَعُوا
أصواتكم فيكون ذلك سبباً لأن تحبط أعمالكم.
(وَأنْتُمْ لَا تَشْعُرونَ).
هذا إعلامٌ أن أمرَ النَبِى - صلى الله عليه وسلم - ينبغي أن يُجَلَّ وُيعَظَّمَ غايَة الِإجْلَالِ.
وأنه قد يُفعل الشيءُ مما لا يَشْعَرُ به من أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيكون ذلك مُهلكاً لِفَاعِلِه أو لِقَائِله.
ولذلك قال بعض الفقهاء : من قال إدْ زِرَّ رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وسخ يريد به - النقصَ منه وجب قتْلُه.
هذا مذهبُ مالِكٍ وأصْحَابه.
* * *
وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3)
(امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ)
أخلَصَ قلُوبَهمْ.
وَ " هُمْ " يخرج على تفسير حقيقة اللغة ، والمعنى
__________

(5/32)


اختبر اللَّه قُلُوبَهم فَوَجَدَهُمْ مُخْلِصِين - كما تقول : قد امتحنت هذا الذهب
وهذه الفضة . تأويله قد اختبرْتُهُمَا بأن أذَبْتُهَمَا حتى خلصت الذهَب والْفضة
فَعَلِمْتُ حَقِيقَةَ كل واحد منهما.
* * *
وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4)
يقرأ بضم الحاء والجيم ، والحُجَرَاتَ بِفَتْح الجيم ، ويجوز في اللغة
الحُجْرات . بتسكين الجيم - ولا أعلم أحَداً قَرأ بالتَسْكِينِ وَقَدْ فَسًرْنَا هذا
الجمع فيما تقدم من الكتاب.
وواحد الحجرات حُجْرَةٌ . ويجوز أن تكون الحُجراتُ جمع حُجَرٍ
وحُجرات ، والأجود أن تكون الحُجُرَات جمع حُجرة ، وأن الفتح جاز بدلاً من الصفةِ لثقل الضمَتَيْن.
وهؤلاء قوم جاءوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من بني تميم فَنَادَوْه من وراء الحجرات.
ولهم في التفسير حديث فيه طول ، وجملته أنهم جاءوا يفاخرون
النبي وأنَّهمْ لم يلقَوْه بما يجب له عليه السلام.
* * *
قال : (وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
أي - من تاب بعد هذا الفِعْل فاللَّه غفور رحيم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6)
ويقرأ فتثَبَّتُوا أَنْ تُصِيبُوا.
(قَوْماً بجَهَالةٍ).
جاء في التفسير أنها نزلت بسبب الوليد بن عقبة.
وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بَعَثَهُ ساعِياً يجْبي صدقات بني المصطلق ، وكان بينه وبينهم أحْنَة أي عداوة ،

(5/33)


فلما اتصَلَ بهم خَبَرُه وقد خرج نحوهم قال بعضهم لبعْضٍ : قد علمتم ما بيننا
وبين هذا الرجل ، فامْنعوه صَدَقَاتِكًمْ ، فاتصل به ذلك فرجع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره أنهم مَنَعوه الصدقة وأنهم ارْتدُّوا ، وأعَدُّوا السِّلَاحَ للحَرْبِ ، فوجه رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - بخالد بن الوليد ومعه جيش ، وتقدم إِليْه أن ينزل بعقوتهم ليلاً ، فإن
رأى ما يدل على إقامتهم على الإسلام من الأذان والصلاة والتَّهجد أمسك عن محاربتهم ، وطالبهم بصَدَقَاتِهِمْ فلما صار خَالِدٌ إليهم ليلاً سَمِعَ النداء
بِالصلَاة ، ورآهم يُصَلُّونَ ويتهجَّدونَ ، وقالوا له : قد استبطأنا رسالة رسول
اللَّه - صلى الله عليه وسلم - في الصدَقَاتِ ، وسلموها إليه ، فأنزل اللَّه - عزَّ وجلَّ - (إِنْ جَاءَكًمْ فَاسِق بِنَبَأٍ) أي بخَبرٍ (فَتَبَينوا أنْ تصِيبًوا قَوْمَاً بِجَهَالَةٍ)
أي كراهة أن تصِيبوا قوماً بِجَهَالَةٍ
وهذا دليل أنه لا يجوز أن يقبل خبر من فاسق [إلا أن] (1) يتَبَيَّن وأَنَ الثقة يجوز قبول خبرِه.
والثقةً من لم تجرب عليه شهادَةً زورٍ وَلَا يُعْرَف بفِسْقٍ وَلَا جُلِدَ في حَدٍّ ، وهو مع ذلك صحيح التمييز.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7)
أي لو أطاع مثل هذا المخبر الذي أخبره بما لا أصل له لوقعتم في
عَنَتٍ ، والعَنَتُ الفساد والهَلاَكُ.
(وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ) . .
هذا يعنى به المؤمنون المخلصون.
(وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ).
ويحتمل (فِي قُلُوبِكُمْ) وجهين :
أحدهما أنه دلهم عليه بالحجج القاطعة البينة ، والآيات التي أتى بها النبي - صلى الله عليه وسلم - المعجزةِ.
والثاني أنه زَيَّنَهُ في قلوبهم بتوفيقه إياهم.
__________
(1) زيادة ضرورية.

(5/34)


(وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ).
وذلك أيضاً تبْيينه ما عليهم في الكفر وتوفيقه إياهم إن اجْتَنَبوه.
وقوله : (أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ).
أي هؤلاء الذين وفقهم اللَّه - عزَّ وجلَّ - بتحبيب الِإيمان إليهم وتكريه
الكفر أولئك هم الراشدون.
* * *
(فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)
منصوب مفعول له - المعنى فعل الله ذلك بكم فضلاً من اللَّه ونعمةً أي
للفضل والنعْمةِ ، ولو كان في غير القرآن لجاز (فَضْلٌ من اللَّه ونعمةٌ).
المعنى ذلك فضل من الله ونعمة.
* * *
وقوله - عزَّ وجلَّ - : (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9)
والباغية التي تعدل عن الحق وما عليه أئمة المسْلِمين وَجَمَاعَتُهُمْ.
(حَتَى تَفِيءَ إِلى أمْرِ اللَّهِ).
حتى ترجع إلى أمر اللَّه.
(فَإِنْ فَاءَت) : فإن رَجَدَتْ.
(فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا).
أي وأعْدِلُوا.
(إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)
وهذه - قيل - نزلتْ بسبب جَمْعَيْن من الأنْصَارِ كان بينهم قِتَال ولم يكن
ذلك بسيوف ولا أسْلحة ، جاء في التفسير أنه كان بينهم قِتال بالأيدي والنَعَال وَتَرَامٍ بِالحِجَارةِ .

(5/35)


(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ
(10)
ويقرأ بين إخْوَانكم ، وبين إخْوَاتِكُمْ وبين إخْوَتكم.
فأعلم اللَّه - عزَ وجل - أن الذينَ يجمعهم وأنهم إِخوَة إذا كانوا متفقين في دينهم فرجعوا في الاتفاق في الدين إلى أصل النسَبِ ، لأنهم لآدَم وحَواء ، ولو اختلفت أدْيَانُهم لافترقوا في النسَبِ ، وإن كان في الأصل أنهم لأب وأم.
ألَا ترى أنه لا يرث الولدُ المؤمن الأب الكافِرَ ولا الحمِيمُ المؤمِنُ نسيبه الكافِر.
* * *
وقوله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)
عسى أن يكون المسخور منه خيراً من الساخرين ، وكذلك عسى أن
يكون النساء المسخور منهن خيراً من النساء الساخرات ، فنهى اللَّه
- عزَّ وجلَّ - أن يسخر المؤمنون من المؤمنين ، والمؤمنات من المؤمنات.
(وَلَا تَلْمِزُوا أنْفُسَكُمْ).
واللمز والهمز العيب والعض من الِإنسان . فأعلمَ اللَّهُ أن عيب بعضهم
بعضاً لازم لهم ، يلزَمُ العائِبَ عيبُ المعيب.
(وَلَا تَنَابَزُوا بِالْألْقَابِ) والنبز واللقب في معنىً وَاحِدٍ ، لا يقول المسلم
لمن كان يَهودياً أو نصرانياً فأسلم لقباً يعيره فيه بأنه كان نصرانياً أو يهودياً.
(بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ) ، أي بئس الاسم أن يقول له : يا
يهودي ويا نصراني وقد آمن ، ويحتمل أن يكون في كل لقبٍ يكرهه الِإنسان ، لأنه إنما يجب أن يخاطب المؤمن أخاه بأحب الأسماء إليه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)
أمر اللَّه عزَّ وجل باجتناب كثير مِنَ الظن ، وهو أن تظن بأهل الخير سوءاً

(5/36)


إذا كنا نعلم أن الذي ظهر منه خير ، فأمَّا أهل السوء والفسق فلنا أن نظن بهم مِثْلَ الذي ظهر منهم.
وقوله : (ولا يَغْتَبْ بَعْضُكُم بَعْضاً) ، والغيبة أن يُذْكَرَ الإنسان من خلفه
بسوء وإن كان فيه السوء
وأما ذكره بما ليس فيه فذلِكَ البهْتُ والبُهْتَانُ - كذلك
جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ - : (أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا).
ويجوز (مَيِّتاً) وتأويله أن ذكرك بِسوءٍ من لم يَحْضر لك بمنزلة أكل لحمه
وهو مَيِّت لَا يُحِسُّ هُوَ بذلك ، وكذلك تقول للمغتاب فلان يأكل لحوم الناس.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَكَرِهْتُمُوهُ).
ويُقرأ " فَكُرِّهْتُمُوهُ " - فتأويله كما تكرهون أكل لحمه مَيتاً كذلك تجنبوا
ذكره بالسوء غائباً.
* * *
وقوله : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)
خلقناكم من آدم وحواء ، وكلكم بنو أبٍ وَاحِدٍ وَأُمٍّ وَاحِدَة إِلَيْهما
تَرْجِعُونَ.
(وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا).
والشعب أعظم من القبيلة.
أي لم يجعلكم شعوباً وقبائل لتفاخروا وإنما جعلناكم كذلك لتتعارَفُوا ، ثم أعلمهم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أن أرفعهم عِنْدَهُ مَنْزِلَةً
أتْقَاهُمْ فقال :
(إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ).
ولو قرئتِ " أَنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ "
جاز ذلك على معنى وجَعَلْناكم

(5/37)


شعوباً ليعرف بعضكم بعضاً أنَّ أكرمكم عند اللَّه أتقاكم (1).
* * *
وقوله - عزَّ وجلَّ - (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)
وهذا موضع يحتاج الناس إلى تفهمه ، وأين ينفصل المؤمن من
المسلم . وأين يستويان.
والِإسلام إظهار الخضوع والقبول لما أتى به النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وبذلك يحقن الدَّمُ.
فإن كان مع ذلك الِإظهار اعتقاد وتصديق بالقلب فذلك الِإيمان الذي مَنْ
هُوَ صفته فهو مؤمن مُسْلِم ، وهو المؤمن باللَّه ورسوله غَيْرَ مرتابٍ ولا شَاكٍّ.
وهو الذي يرى أن أداء الفرائض واجب عليه ، وأن الجهاد بنفسه وماله واجب عليه لا يدخلُه في ذلكَ رَيبٌ ، فهو المؤمِنَ وهو المُسْلِمُ حقاً ، كما قال
عز وجلَّ : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15).
أي إذا قالوا إنا مؤمنون فهم الصادقون ، فأما من أظهر قبول الشريعة
واستسلم لدفع المكروه فهو في الظاهر مسلم ، وباطنه غير مُصَدق ، فذلك
الذي يقول أسلمتُ لأن الِإيمانَ لا بد من أن يكون صاحبه صديقاً ، لأنَّ قولك
آمَنْتُ بكذا وكذا معناه صدقت به ، فأخرج اللَّه هؤلاء من الِإيمان فقال : (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ).
أي لم تصدقوا إنما أسلمتم تعوذاً من القتل ، فالمؤمن مُبْطِنٌ من
التصديق مثل ما يظهر ، والمسلم التام الِإسلام وهو مظهر الطاعة مع ذلك
مؤمن بها ، والمسلم الذي أظهر الِإسلام تعوذاً غير مؤَمن في الحقيقة ، إلا أن
حكمه في الظاهر حكم المسلمين.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ } : الشُّعوب : جمع شَعْب وهو أعلى طبقاتِ الأنسابِ ، وذلك أن طبقاتِ النَّسَبِ التي عليها العربُ ستٌّ : الشَّعْبُ والقبيلة والعِمارة والبَطْنُ والفَخِذُ والفَصيلةُ ، وكلُّ واحدٍ يَدْخُل فيما قبله ، فالفصيلةُ تَدْخُلُ في الفَخِذ ، والفَخِذُ في البطن . وزاد بعضُ الناسِ بعد الفَخِذ العشيرة ، فجعلها سبعاً وسُمِّيَ الشَّعبُ شعباً لتشَعُّبِ القبائلِ منه ، والقبائل سُمِّيَتْ بذلك لتقابُلها ، شُبِّهَتْ بقبائلِ الرأسِ وهي قطعٌ متقابلةٌ . وقيل : الشُّعوب في العجم ، والقبائل في العرب ، والأسباطُ في بني إسرائيل . وقيل : الشعبُ النَسبُ الأبعدُ ، والقبيلةُ الأقربُ . وأنشد :
4086 قبائلُ مِنْ شُعوبٍ ليس فيهِمْ . . . كريمٌ قد يُعَدُّ ولا نَجيبُ
والنسَبُ إلى الشَّعْب « شَعوبيَّة » بفتح الشين ، وهم جيلٌ يَبْغَضون العربَ.
قوله : { لتعارفوا } العامَّةُ على تخفيفِ التاء ، والأصلُ : لتتعارفوا فحذفَ إحدى التاءَيْن . والبزيُّ بتشديدِها . وقد تقدَّم ذلك في البقرة . واللام متعلقةٌ بجَعَلْناكم . وقرأ الأعمش بتاءَيْن وهو الأصلُ الذي أدغمه البزيُّ وحَذَفَ منه الجمهورُ . وابن عباس : « لِتَعْرِفُوا » مضارعَ عَرَفَ . والعامَّةُ على كسرِ « إنَّ أكْرَمَكم » . وابن عباس على فتحها : فإنْ جَعَلْتَ اللامَ لامَ الأمرِ وفيه بُعْدٌ اتَّضَحَ أَن يكونَ قولُه : « أنَّ أَكْرَمَكم » بالفتح مفعولَ العِرْفان ، أَمَرَهم أَنْ يَعْرِفوا ذلك ، وإنْ جَعَلْتَها للعلة لم يظهرْ أَنْ يكونَ مفعولاً؛ لأنه لم يَجْعَلْهم شعوباً وقبائلَ ليعرِفوا ذلك ، فينبغي أن يُجْعَلَ المفعولُ محذوفاً واللامُ للعلة أي : لِتَعْرِفوا الحقَّ؛ لأنَّ أكرمَكم.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5/38)


وقوله تعالى : (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17)
قيل إن هذه نزلت في المنافقين . فاعلموا أنكم إنْ كنتم صادقين فإنكم
قد أسلمتم فلله المنُّ عَلَيْكمْ لِإخراجه إياكم من الضلالة إلى الهدى.
وقد قيل : إنها نزلت في غير المنافقين ، في قوم من المسلمين قالوا آمنا
وهاجرنا وفعلنا وصنعنا فمنوا على رسول الله بذلك.
والأشبه - واللَّه أعلم - أن يكون في قوم من المنافقين.
وقوله - عزَّ وجلَّ - (وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا).
(لَا يَألِتْكُم)
ويُقرأ (لَا يَلْتِكمْ) ، فمن قرأ (يَألِتْكُم) فدليله
(وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ)
ومعناه وما نقصناهم ، وكذلك (لا يَألِتْكُم) لاينقصكم.
ومن قرأ (لَا يَلِتْكمْ) فهو من لات يليت ، يقال : لَاتَه يَلِيتُهُ . وَألَاتَهُ يُليتُه إذا نقصه أيضاً ، والمعنى فيهما واحد . أعني (يَألِتْكُم) و (يَلِتْكمْ).
والقراءة (لَاَ يَلِتْكمْ) أكثر ، والأخرى أعني (يَألِتْكُم) جيدة بالغة ، ودليلها في القرآن على ما وصفنا .

(5/39)


سُورَةُ ( ق )
خمس وأربعون آية "
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله عزَّ وجلَّ (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1)
أكثر أهل اللغة وما جاء في التفسير أن مجاز (ق) مجاز الحروف التي
تكون في أوائل السوَر نحو (ن) ، و (الم) ، و (ص) وقد فسرنا ذلك
ويجوز أن يكون معنى (قَافْ) معنى قضي الأمر ، كَمَا قِيلَ (حم) حُمَّ الأمْرُ.
واحتج الذين قالوا من أهل اللغة أن معنى (ق) بمعنى قضي الأمر بقول
الشاعر :
قلنا لها قفي قالت قاف . . . لا تحسبي أنا نسينا الإيجاف
معناه فقالت أقف
ومذهب الناس أن قاف ابتداء للسورة على ما وصفنا ، وقد جاء في
بعض التفسير أن قاف جبل محيط بالدنيا من ياقوتة خضراء وأن السماء بيضاء
وإنما اخْضَرت مِنْ خُضْرَتِه ، واللَّه أعلم
وجواب القسم في (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) مَحْذُوف ، يدل عليه (أإذا مِتْنَا
وكُنَّا تراباً).
المعنى واللَّهِ أعلم : والقرآن المجيد إنكم لمبعوثون.
فعجبوا فقالوا (أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا).

(5/41)


أي أنبعث إذَا - مِتْنَا وكنا تُراباَ . ولو لم يكن إذا متعلق لم يكن في
الكلام فائدة.
وقوله : (ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3)
أي يبعد عندنا أن نبعث بَعَدَ المَوْتِ.
ويجوز أن يكون الجواب (قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأرْضُ مِنْهُمْ) ، فيكون
المعنى : ق والقرآن المجيد لقد علمنا ما تنقص الأرض منهم وحذفت اللام لأن
ما قبلها عوض منها كما قال : (والشمس وضحاها) إلى قوله : (قَدْ أفْلَحَ مَنْ
زَكَاهَا) ، المعنى لقد أفلح من زكاها.
والمعنى (ما تَنَقُصُ الأرْضُ مِنْهُم).
ما تأخذه الأرض من لحومهم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5)
مَريج : مختلف ملتبس عليهم مرة يقولون للنبي - صلى الله عليه وسلم - شاعر ومرة ساحِر ومرة مُعَلَّم.
فهذا دليل على أن أمرهم مريج ملتبس عليهم.
ثم دلهم عزَّ وجلَّْ على قدرته على بعثهم بعد الموت بعظيم خلقه الذي يدل على وحدانِيته وأنه على كل شيء قدير فقال :
(أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ
(6)
وأن الله عزَّ وجلَّ ممسكها بغير عَمَدٍ من أن تقع على الأرض.
(وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ).
لا صدع فيها ولا فرجة.
(وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7)
والرواسي الجبال.
(وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8)

(5/42)


أي فعلنا ذلك لِنُبَصِّر به ونَدُلَّ على القُدرة.
ثم قال (لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ)
أي لكل عبد يرجع إلى اللَّه ويفكر في قدرته.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9)
أي وأنبتنا فيها حب الحَصِيدِ ، فجمع بذلك جميع ما يقتات به من حب
الحنطة والشعير وكل ما حَصِدَ.
* * *
(وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10)
بسوقها طولها ، المعنى وأنبتنا فيها هذه الأشياء.
* * *
وقوله : (رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11)
ينتصب على وجهين :
أحدهما على معنى رزقناهم رزقاً لأن إنباته هذه الأشياء رزق ، ويجوز أن يكون مفعولاً له ، المعنى : فأنبتنا هذه الأشياء للرزق.
ثم قال : (كَذَلِكَ الخُروجُ).
أي كما خلقنا هذه الأشياء نبعثكم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14)
أي فحقت عليه كلمة العذاب والوعيد للمكذبين للرسل ، وكذلك قوله :
(فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16)
* * *
وقوله : (أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15)
هذا تقرير لأنهم اعترفوا بأن اللَّه - عزَّ وجلَّ - الخَالِقُ ، وأنكروا البعث ؛
فقال : (أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ) ، يقال : عَيِيتُ بالأمر إذا لم تعْرف وجهه.
وأعَيْيتُ إذَا تعبتُ .

(5/43)


وقوله عزَّ وجلَّ : (بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ).
أي بل هم في لَبْسٍ مِنَ البَعْثِ.
* * *
(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16)
أي نَعلَمُ ما يخفي وما يكنه في نفسه.
(وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ).
والوريد عرق في باطن العنق ، وهما وريدان ، قال الشاعر.
كأَنْ ورِيدَاهُ رِشَاءا خُلْبِ
يعني من ليف.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17)
(المُتَلَقيَانِ) كاتباه الموكلانِ بِهِ ، يَتَلقيان ما يعمله فيَثبتانه.
المعنى عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد ، فدل أحَدُهما على الآخر ، فحذف المدلول عليه ، ومثله قَوْلُ الشاعِر.
نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وأنْتَ بِمَا عِنْ . . . دَكَ رَاضٍ والرَّأْيُ مُخْتَلِفُ
أي نحن بما عندنا راضون وأنت بما عندك راض ، ومثله أيضاً
رَمَانِي بِأَمْرٍ كُنْتُ مِنْهُ وَوالِدِي . . . بَريئاً ومِنْ أَجْلِ الطَّوِىِّ رَمَانِي
المعنى رماني بأمر كنت منه بريئاً ، ووالدي بريئاً منه .

(5/44)


وقوله (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)
(عَتِيدٌ) أي ثابت لازم.
* * *
وقوله : (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19)
أي جاءت السكرة التي تدل الإنسانَ على أنه ميت.
(بِالْحَقِّ) أي بالمَوْتِ الذي خلق له.
وقال بعضهم : وجاءت سكرة الحق بالموت ، ورويت عن أبي
بكر رحمه اللَّه والمعنى واحد ، وقيل الحق ههنا اللَّه عزَّ وجلَّ.
* * *
وقوله : (وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21)
قيل في التفسير سائقِ يسوقها إلى محشرها ، وَ (شَهِيدٌ) يشهد عَلَيْها بِعَمَلِها
وقيل : وَ (شَهِيدٌ) هُوَ العَمل نفسه.
* * *
وقوله : (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)
وهذا مَثلٌ ، المعنى كنت بمنزلة من عليه غطاء وعلى قلبه غشاوة.
(فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ).
أي فعلمك بما أنت فيه نافذٌ ، ليس يراد بهذا البصر من - بَصَرِ العين -
كما تقول : فلان بصير بالنحو والفقه ، تُرِيدُ عَالِمَاً بِهِمَا ، ولم ترد بصر العَيْن.
* * *
- وقوله : (وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23)
(ما) رفع بهذا و (عَتِيدٌ) صفة لـ (ما) فِيمَنْ جَعَلَ " ما " في مذهب النكرة ، المعنى هذا شيء لدي عتيد.
ويجوز أن يكون رفعه على وجهين غير هذا الوجه ، على
أن يُرْفَع (عَتِيدٌ) بإضْمارٍ ، كأنك قلت : هذا شيءٌ لَدَيَّ هو عتيد
ويجوز أن ترفعه على أنه خبر بعد خبر ، كما تقول هذا حلو حامض ، فيكون المعنى هذا شيء لَدَيَّ عتيدٌ.
ويجوز أن يكون رفعه على البدل من " ما " ، فيكون المعنى هذا
عتيد.
* * *
وقوله : (أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24)
أي عَنِدَ عن الحق ، وقوله : (ألْقِيَا) ، الوجه عندي - واللَّه أعلم - أن
يكون أمر الملكين ، لأن (ألْقِيَا) للاثنين ، ، وقال بعض النحويين : إن العربَ

(5/45)


تأمر الواحد بلفظ الاثنين ، فتقول قوماً واضربا زيداً يا رجل ، وروَوْا أن الحجاج كان يقول : يا حَرَسِي اضربا عنقه ، وقالوا : إنما قيل ذلك لأن أكثر ما يتكلم به العرب فيمن تأمره بلفظ الاثنين ، نحو.
خليلي مُرا بي على أُمِّ جُندَبِ
قفا نبك من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ
وقال محمد بن يزيد : هذا فعل مثنى توكيداً كأنَّه لَمَّا قال ألْقِيَا ناب عن
قوله ألْقِ ألْقِ ، وكذلك عنده قفا معناه عنده قف قف ، فناب عن فعلين فبنى.
وهذا قولٌ صالحٌ وأنا اعتقد أنه أمر الاثنين (1) ، واللَّه أعلم.
* * *
وقوله : (قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27)
المعنى إنما طغى وهو بضلاله وإنما دعوته فاستجاب ، كما قال : (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي).
* * *
وقوله : (مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29)
أي من عمل حسنة فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ، ومن عمل سيئة - فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ
(30)
وقرئت (يَوْمَ يَقُولُ لِجَهَنَّمَ)
نصب (يَوْمَ) على وجهين :
على معنى ما يبدل القول لديَّ في ذلك اليوم.
وعلى معنى أنذرهم يوم نقول لجهنم ، كما قال :
(وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ).
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { أَلْقِيَا } : اختلفوا : هل المأمورُ واحدٌ أم اثنان؟ فقال بعضُهم : واحد ، وإنما أتى بضميرِ اثنين ، دلالةً على تكرير الفعل كأنه قيل : أَلْقِ أَلْقِ . وقيل : أراد أَلْقِيَنْ بالنونِ الخفيفة فأبدلها ألفاً إجراءً للوَصْلِ مُجْرى الوقفِ ، ويؤيِّده قراءةُ الحسنِ « أَلْقِيَنْ » بالنونِ.
وقيل : العرب تخاطِبُ الواحدَ مخاطبةَ الاثنين تأكيداً كقولِه :
4095 فإن تَزْجُراني يا بنَ عَفَّانَ أَزْدَجِرْ . . . وإنْ تَدَعاني أَحْمِ عِرْضاً مُمَنَّعا
وقال آخر :
4096 فقُلْتُ لصاحبي لا تَحْبِسانا . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
البيت . وقال بعضُهم : المأمور مثنى . وهذا هو الحقُّ لأنَّ المرادَ مَلَكان يفعلان ذلك.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5/46)


وقوله عزَّ وجلَّ : (هَلِ امْتَلَأْتِ).
أي : أم لم تمتلئ ، وإنما السوال توبيخ لمن أُدْخِلَهَا ، وزيادة في مكروهه.
ودليل على تصديق قوله : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ).
فأمَّا قوله : (وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ).
ْففيه وجهان عند أهل اللغة :
أحدهما أنها تقول ذلك بعد امتلائها فتقول : (هل من مزيد).
أي هل بقي في موضع لم يمتلئ ، أي قد امتلأت.
ووجه آخر : تقول : هل من مزيد تغيظاً على من عصى كما قال عزَّ وجلَّ : (سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا).
فأمَّا قولها هذا ومخاطبتها فاللَّه - عز وجل - جعل فيها ما به
تميز وتخاطب ، كما جعل فيما خلق أن يسبح بحمده ، وكما جعل في النملة
أن قالت : (يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ)
وقد زعم قوم أنها امتلأت فصارت صورتها صورة من لو ميَّزَ لَقال :
(هل من مزيد)
كما قال الشاعر :
امتلأ الحوض وقال قطني . . . مهلاً رويداً قد ملأت بطني
وليس هناك قول.
وهذا ليس يُشْبِه ذاك ، لأن الله عزَّ وجلَّ قد أعلمنا أن المخلوقات تسبح وأننا لا نفقه تسبيحها ، فلو كان إنما هو أن يدل على أنها
مخلوقة كنا نفقه تسبيحها.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35)
المعنى لهم فيها ما يشاءون ولدينا مزيد مما لم يخطر على قلوبِهِمْ.
وجاء في التفسير أن السحاب يمر بأهل الجنة فيمطر لهم الحور ، فيقول الحورُ
نحن الذين قال اللَّه عزَّ وجلَّْ فيهم ، (وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ).

(5/47)


(وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36)
اختلف الناس في القرن فقال قوم : القرن عشر سنين ، وقال قوم ثلاثون
سنة ، وقال قوم أربعون سنة ، وقال قوم سبعون سنة ، وقالوا مائة سنة ، وقال قوم مائة وعشرون سنة.
والقرن واللَّه أعلم مقدار التوسط في أعمار أهل الزمان ، فالقرن في قوم
نوح على مقدار أعمارهم.
واشتقاقه من الاقتران فكأنه المقدار الذي هو أكبر ما يقترن فيه أهل ذلك
الزمان في بقائهم.
وقوله عزَّ وجلَّّ : (فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ).
وقرئت (فَنَقَبُوا) - بالتشديد والتخفيف - المعنى طوِّقوا وفتِّشوا ، فلم تَرَوا مَحيصاً من الموت.
قال امرؤ القيس.
لقَدْ نَقَّبْتُ في الآفاقِ حتَّى . . . رَضِيتُ مِنَ الْغَنِيمَةِ بالإِيابِ
وتقرأ نَقِّبوا في البلاد ، أي فتشوا وانظروا ، ومن هذا نَقيبُ القومِ للذي
يعرف أمرهم ، مثل العريف.
* * *
قوله عزَّ وجلَّ : (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)
وقرئت (أو أُلقِيَ السمعُ) ومعنى (مَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ) أي من صرف قلبه إلى
التّفَهُّمِ ، ألا ترى أن قوله : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) أنهم لم يستمعوا استماع متفهم
مسترشد فجعلوا بمنزلة من لم يسمع
كما قال الشاعر :

(5/48)


أصمُّ عما ساءه سميعُ
ومعنى (أو ألقى السمع) أي استمع ولم يشغل قلبه بغير ما يسمع.
والعرب تقول : ألق إليَّ سَمعَك ، أي استمع مني.
ومعنى (وَهُوَ شَهِيدٌ) أي وقَلْبُه فيما يسمعُ.
وجاء في التفسير أنه يعنى به أهل الكتاب الذين
كانت عندهم صفة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
فالمعنى على هذا التفسير (أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) أن صفة النبي عليه إلسلام في كتابه.
* * *
وقوله : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38)
اللُّغوب : التَّعَب والإعياء ، يقال : لَغَبَ يلْغُبُ لُغوباً.
وهذا فيما ذكر أن اليهود - لُعِنَتْ - قالت : خلق اللَّه السَّمَاوَات والأرض في ستَةِ أيامِ أولُها الأحَد وآخرها الجمعة ، واستراح يوم السبت ، فأَعلم اللَّه عزَّ وجلَّّ أنه خَلقها في ستة أيام وسبحانه وتعالى أن يوصف بتعب أوْ نَصَبٍ.
ثم قال :
(فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39)
يعني قبل طلوع الشمس صلاة الفجر ، وقبل الغُروب صلاةَ العَصْرِ
* * *
(وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40)
(وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ)
صلاة المغرب.
(وَأَدْبَارَ السُّجُودِ)
الركعتان بعد صلاة المغرب على هذا.
ويجوز أن يكون الأمر بالتسبيح بعد الفراغ من الصلاة.
ويقرأ (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ)
و (إِدْبَارَ السُّجُودِ) ، فمن قرأ و (أَدْبَارَ) بقتح الألف فهو جمع دبر.
ومن قرأ و (إِدْبَارَ) فهو على مصدر أدْبَرَ يُدْبِرُ إِدباراً .

(5/49)


وقوله تعالى : (وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (41)
جاء في التفسير أنه يعنى به أنه ينادى بالحشر من مكان قريب.
وقيل : هي الصخرة التي في بيت المقدس ، ويقال إنها في وسط الأرْضِ.
* * *
قوله عزَّ وجلَّ (يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42)
أي يوم يبعثون ويخرجون ، ومثله (يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7).
والأجداث القبور
وقال أبو عبيدة : يوم الخروج من أسماء يوم القيامة.
واستشهَدَ بقول العَجاجِ.
أَلَيسَ يَوْمٌ سُمِّيَ الخُرُوجا . . . أَعْظَمَ يَوْمٍ رَجَّةً رَجُوجا ؟
* * *
وقوله : (وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45)
هذا كما قال : (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22).
وهذا قبل أن يؤمر النبي - صلى الله عليه وسلم -
بالحرب لأن سورة (ق) مكية .

(5/50)


سُورَةُ الذاريات
( مكية )
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله عزَّ وجلَّ : (وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1)
جاء في التفسير عن علي رضي الله عنه أن الكواء سأله عن ((وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا) فقال علي : هي الرياح ، قال : (فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا) قال السحابُ ، قال : (فَالْجَارِيَاتِ يُسْراً) قال الفلك.
قال : (فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا) قال الملائكة.
والمفسرون جميعاً يقولون بقول عليٍّ في هذا.
* * *
(وَالذَّارِيَاتِ) مجرور على القسم ، المعنى أحلف بالذاريات وبهذه
الأشياء ، والجواب : (إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5).
وقال قوم : المعنى وَرَبِّ الذَّارِيَاتِ ذَرْوًا كما قال عزَّ وجل :
( فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ).
والذاريات من ذَرَتِ الريح تَذرو إذا فرقت التراب وغيره.
يقال : ذرت الريح وأذرت بمعنى وَاحِدٍ ، ذرت فهي ذاريةٌ ، وهن
ذاريات ، وأذرت فهي مُذْرِية ومُذْرِياتٌ للجماعة ، وذاريات أيضاً.
والمعنى وربِّ الرياحِ الذارياتِ ، وربِّ السُفُنِ الجارياتِ ، وربِّ الملائكةِ المقسماتِ ، إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ.
* * *
وقوله : (وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6)
أي إن المجازاة على أعمَالكم لواقعة .

(5/51)


وقوله : (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8)
جاء في التفسير أنها ذات الخلق الحسن ، وأهل اللغة يقولون ذات
الحبك ذات الطرائق الحسنة ، والمحبوك في اللغة ما أُجِيدَ عَمَلهُ وكل ما تراه
من الطرائق في الماء وفي الرمل إذا أصابته الريح فهو حبك ، وواحدها حِبَاك.
مثل مِثَال ومُثُل ، وتكون واحدتها أيضاً حبيكة مثل طريقة وطرق (1).
* * *
وقوله : (إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8)
أي في أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -
* * *
(يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9)
أي يُصرف عنه من صُرِفَ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10)
هم الكذابون ، تقول : قد تَخَرَّصَ عليَّ فُلان الباطل.
ويجوز أن يكون الخرَّاصون الذين يتظنون الشيء لا يُحِقونه ، فيعملون بما لا يدرون صحته.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12)
ويجوز إِيَّانَ بكسر الهمزة وفتحها ، أي يقولون متى يوم الجزاء.
* * *
وقوله : (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13)
بنصب يوم ، ويجوز يَوْمُ هم على النَّار يفتنونَ.
فمن نَصَبَ فهو على وجْهَين :
أحدهما على معنى يقع الجزاء يَوْمَ هُمْ عَلى النار يفْتَنونَ
ويجوز أن يكون لفظه لفظَ نَصْبٍ ومعناه معنى رفع ، لأنه مضاف إلى جملة كلام ، تقول : يعجبني يَوْمَ أنْتَ قَائِمٌ ، ويوم أنت قائم ، ويوْمُ أنْتَ تَقُومُ ، وإن شئت فتحت وهو في موضع رفع
كما قال الشاعر :
لم يَمْنع الشُّرْبَ منها غَيْرَ أَن نطقت . . . حمامة في غُصُونٍ ذاتِ أَوْقالِ
وقد رويت غَيْر أن نطقت ، لما أضاف غير إلى أن وليست بِمُتَمكَنةٍ
فتح ، وكذلك لما أضاف يوم إِلى (هُمْ علَى النَّارِ) فتح.
وكما قرئت :
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { ذَاتِ الحبك } : العامَّةُ على « الحُبُك » بضمتين وهي الطرائقُ نحو : طرائق الرَّمْل والماءِ إذا صَفَقَتْه الريحُ ، وحُبُك الشَّعْر : آثارُ تَثَنِّيه وتَكَسُّرِه . قال زهير :
4102 مُكَلَِلٌ بأصولِ النجم تَنْسُجُه . . . ريحُ حَريقٍ لضاحي مائِه حُبُكُ
والحُبُكُ : جمعٌ يُحتمل أَنْ يكونَ مفردُه « حَبيكة » كطريقةٍ وطُرُق أو حباكِ نحو : حِمار وحُمُر . قال الراجز :
4103 كأنَّما جَلَّلها الحُوَّاكُ . . . طِنْفِسَةٌ في وَشْيِها حِباكُ
وأصلُ الحَبْكِ : إحكامُ الشيءِ وإتقانُه ، ومنه يقال للدِّرع : مَحْبوكة . وقيل : الحَبْكُ الشَّدُّ والتوثُّقُ . قال امرؤ القيس :
4104 قد غدا يَحْمِلُنِي في أَنْفِه . . . لاحِقُ الإِطْلَيْنِ مَحْبوكٌ مُمَرّْ
وفي هذه اللفطةِ قراءاتٌ كثيرةٌ : فعن الحسن ستٌ : الحُبُك بالضم كالعامَّةِ ، الحُبْك بالضمِّ والسكون ، وتُروى عن ابن عباس وأبي عمروٍ ، الحِبِك بكسرهما ، الحِبْك بالكسر والسكون ، وهو تخفيف المكسور ، الحِبَك بالكسر والفتح ، الحِبُك بالكسر والضم . فهذه سِتٌّ أقلقُها الأخيرةُ؛ لأنَّ هذه الزِّنةَ مهملةٌ في أبنية العربِ ، قال ابنُ عطية وغيرُه : « هو من التداخُلِ » يعني : أن فيها لغتين : الكسرَ في الحاء والباء والضمَّ فيهما ، فأخذ هذا القارىءُ الكسرَ من لغةٍ والضمَّ مِنْ أخرى . واستبعدها الناسُ؛ لأن التداخُلَ إنما يكون في كلمتين . وخَرَّجها الشيخ على أن الحاءَ أُتْبِعَتْ لحركة التاءِ في « ذات » قال : « ولم يَعْتَدَّ باللام فاصلةً لأنها ساكنةٌ فهي حاجزٌ غيرُ حصينٍ » . وقد وافق الحسنَ على هذه القراءةِ أو مالك الغفاريُّ . وقرأ عكرمةُ بالضمِّ والفتح جمعَ « حُبْكَة » نحو : غُرْفة وغُرَف . وابن عباس وأبو مالك « الحَبَك » بفتحتين جمعُ « حَبَ‍كة » كعَقَبة وعَقَب ، فهذه ثمانِ قراءات.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5/52)


(ومِنْ خِزْيِ يَوْمَئْذٍ) ، ففتحت يوم وهو في موضع خفض لأنك أضفته إلى غير متمكن.
ومعنى (يُفْتَنُونَ) يحرقون وُيعَذَّبونَ ، ومن ذلك يقال للحجارة السود التي
كأنها قد أحرقت [بالنَّارِ] الفَتِينُ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16)
أعلم عزَّ وجلَّ ما لأهل النَّار ، ثم أعلم ما لأهل الجنَّة لأنَه لَمَّا قَالَ :
(وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ) أعلم جزاء أهل الجنَّةِ ، وجزاء أهل النَّارِ.
وقوله : (آخِذِينَ) نصب على الحال ، المعنى إن المتقين في جَنَاتٍ وعيون
في حال أخْذِ مَا آتَاهًمْ رَبهُمْ ، ولو كان في غير القرآن لجاز " آخِذُونَ "
ولكن المصحَفَ لَا يخَالف ، ويكون المعنى إن المتَقين آخِذُونَ مَا آتَاهُمْ رَبهمْ في
جنات وعيونٍ ، والوجه الأول أجْوَد في المعنى وعليه القراءة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17)
المعنى كانوا يهجعون قليلًا من الليل ، أي كانوا ينامون قليلًا مِنَ الليْلِ.
ثم أعلم اللَّه عزَّ وجلَّ في أي شيء كانَ سَهَرُهُمْ فقال :
(وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18)
وجائز أن يكون " ما " مُؤكَدة لَغْواً ، وجائز أن يكون " ما " مع ما بعدها
مَصْدراً ، يكون المعنى كانوا قليلًا من الليل هجوعهم.
* * *
(وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19)
(المحروم) جاء في التفسير الذي لا ينمو له مال ، والأكثر في اللغة لا
ينمى له مال ، وجاء أيضاً أنه [المجارَف] (1) الذي لا يكاد يكتسب.
* * *
قوله : (فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)
__________
(1) جاء في اللسان :
والمُجَرَّفُ والمُجارَفُ الفقير كالمُحارَفِ عن يعقوب وعدّه بدلاً وليس بشيء ورجل مُجَرَّفٌ قد جَرَّفَه الدهرُ أَي اجْتاح مالَه وأَفْقَرَه اللحياني رجل مُجارَفٌ ومُحارفٌ وهو الذي لا يَكْسِب خيراً ابن السكيت الجُرافُ مِكْيالٌ ضَخْم وقوله بالجُرافِ الأَكْبر يقال كان لهم من الهَواني. اهـ (لسان العرب. 9 / 25).

(5/53)


أي إن ما أتى به النبي - صلى الله عليه وسلم - حق وإن قوله : (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ) حَقٌّ.
فالمعنى أن هذا الذي ذكرنا في أمر الآيات والرزْقِ وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - حق (مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ)
وقرئت (مِثلُ ما أنكم تنطقونَ) ، وهذا كما تقول في الكلام : إنَّ هذا لحق
كما أنك متكلمٌ.
فمن رفع " مثلُ " فهي من صفة الحق ، المعنى إنه لحقٌّ مِثْلُ نطْقِكُمْ.
ومن نصب فعلى ضربين :
أحدهما أن يكون في موضع رفع إلاَّ أنه لما أضيف إلى " أنَّ " فتح.
ويجوز أن يكونَ منصوباً على التوكيد ، على معنى إنه
لحقٌّ حَقًّا مثل نطقكم.
* * *
وقوله : (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24)
جاء في التفسير أنه لما أتَتْهُ الملاتكةُ أكرمهم بالعِجل.
وقيل : أكرمهم بأنه خَدَمَهُمْ ، صلوات الله عليه وعليهم.
* * *
(إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25)
(فَقَالُوا سَلَاماً قَالَ سِلْمٌ).
وقرئت : (قَالَ سَلاَمٌ).
فنصب الأولى على معنى السَّلامُ عليكم سَلاماً.
وسلمنا عليك سلاما.
ومن قرأ ، (قَالَ سَلَامٌ) فهو على وجهين :
على معنى قال سَلام عليكم.
ويجوز أن يكون على معنى أمرنا سَلامٌ.
ومن قرأ (سِلْمٌ) فالمعنى قال سِلْمٌ أي أمري سِلْمٌ ، وأمرنا سِلْمٌ.
أي لا بَأس علينا.
وقوله : (قَوْمٌ مُنْكَرُونَ).
رفعه على معنى أنتم قوم منكرونَ.
* * *
(فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26)
معنى (فَرَاغَ إِلَى أهْلِهِ)
عدل إِلَيْهِمْ من حيث لا يعلمون لأيِّ شيء عَدَل ،

(5/54)


وكذلك يَقُولُ : راغ فلان عنا إذا عدل عنهم من حيث لا يعلمون.
* * *
وقوله : (فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27)
المعنى فقربه إِليهم ليأكلوا منه فلم يأكلوا ، قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ على النكير.
أي أمركم في ترك الأكل مما أنْكِرُه.
* * *
وقوله : (فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28)
معنى " أوْجَسَ " وقع في نَفْسِه الخوفُ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ)
معنى " عليم " أنه يبلغ وَيَعْلَمَ.
* * *
وقوله : (فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ
(29)
والصرةُ شدة الصاحِ ههنا
(فصَكَتْ وَجْهَهَا) أي لطمت وَجْهَهَا.
* * *
(وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ).
المعنى وَقَالَتْ أنَا عَجُوزٌ عَقِيمٌ ، وكيف ألِدُ.
ودليل ذلك قوله في موضع آخر : (قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا).
* * *
(قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30)
أي كما قلنا لك قال ربك ، أي إنما نخبرك عن اللَّه - عزَّ وجلَّْ - واللَّه
حكيم عَلِيم ، يقدر أن يجعل العقيم ولوداً ، والعجوز كذلك.
فعلم إبراهيم أنهم رسل وأنهم ملائكة.
* * *
(قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31)
أي ما شأنكم وفيم أرْسِلْتُمْ.
* * *
(قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33)
أي إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ لنهلكهم بِكُفْرِهَمْ.
* * *
(مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34)

(5/55)


أي معَلَّمَة على كل حجر منها اسم من جعل إِهْلَاكُه به ، والمسَوَّمَة
المعلَّمَة أُخِذَ من السومَةِ وهي العَلاَمة.
* * *
وقوله : (وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (37)
أي تركنا في مدينة قوم لوط علامة للخائفين تَدُلُّهُمْ عَلَى أن اللَّه أهلكهم
وينكل غيرهم عن فعلهم.
* * *
وقوله : (وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38)
هذا عطف على قوله : (وَفِي الأرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِيِننَ)
وعلى قوله : (وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ).
وقوله : (بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ) ، أي بحجة واضحة.
* * *
(فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39)
أي تولى بما كان يتقوى به من جُنْدِهِ ومُلكِهِ.
(وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ)
المعنى وقال هذا ساحر أو مجنون
* * *
(فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40)
(فَأخَذْنَاهُ) وركنه الذي يتقوى به
(فَنَبَذْنَاهُمْ في اليمْ) واليم البحر.
(وَهُوَ مُلِيمٌ) أي اللائمة لازمة له ، أي ليس ذلك الذي فعل به بكفارة له.
والمُلِيمُ في اللغة الذي يأتي بما يجب أن يلام عليه.
ومعنى (نبذناهم) ألقيناهم ، وكل شيء ألقيته تقول فيه قد نبذته.
ومن ذلك نبذت النبيذ ، ومن ذلك تقول للملقوط منبوذ لأنه قد رُمِيَ به.
* * *
وقوله : (وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41)
أي (وَفِي عَادٍ) أيضاً آية على ما شرِحنا في قوله : (وَفِي مُوسَى) والريح
العقيم التي لا يكون معها لَقْحٌ ، أي لا تأتي بمطر ، وإنما هي ريح الإهلاك.
* * *
(مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42)

(5/56)


والرميم الورق الجاف المتحطم ، مثل الهشيم ، كما قال :
(كَهَشِيم المُحْتَظِرِ).
* * *
(وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43)
أي وفي ثمود أيضاً آية.
* * *
وقوله : (وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (46)
قرئت (وقومِ نوحٍ) - بالخفض - (وقومَ نوحٍ) - بالنصب -
فمن خفض فالمعنى في قوم نوح.
ومن نصب فهو عطف على معنى قوله : (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ).
ومعنى أخذتهم الصاعقة أهلكناهم.
فالمعنى فأهلكناهم وأهلكنا قوم نوح من قبل.
والأحسن واللَّه أعلم أن يكون محمولًا على قوله : (فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ) ، لأن المعنى فأغرقناه وجنوده وأغرقنا قوم نوح من قبل (1).
* * *
(وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47)
أي بقُوَّةٍ.
(وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ)
جعلنا بينها وبين الأرض سعة.
* * *
(وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48)
عطف على ما قبله مَنْصُوبٌ بفعل مضمر ، المعنى وفرشنا الأرْضَ
فرشناها.
ومعنى (فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ) نحن ، ولكن اللفظ بقوله فرشناها يدلُّ على
المضمر المحذوف.
* * *
وقوله : (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49)
المعنى - واللَّه أعلم - على الحيوان لأن الذكر والأنثى يقال لهما زَوْجَانِ
ومثله (وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى).
ويجوز أن يكون الزوجان من كل
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { وَقَوْمَ نُوحٍ } : قرأ الأخَوان وأبو عمرو بجرِّ الميم ، والباقون/ بنصبها . وأبو السَّمَّال وابن مقسم وأبو عمرو في روايةِ الأصمعيِّ « وقومُ » بالرفع . فأمَّا الخفضُ ففيه أربعةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنه معطوفٌ على « وفي الأرض » . الثاني : أنه معطوفٌ على « وفي موسى » الثالث : أنه معطوفٌ على « وفي عاد » . الرابع : أنه معطوفٌ على « وفي ثمودَ » ، وهذا هو الظاهرُ لقُرْبِه وبُعْدِ غيرِه . ولم يذكرْ الزمخشريُّ غيرَه فإنه قال : « وقُرِىء بالجرِّ على معنى » وفي قوم نوح « . ويُقَوِّيه قراءةُ عبد الله » وفي قوم نوح « . ولم يَذْكُرْ أبو البقاء غيرَ الوجهِ الأخيرِ لظهورِه.
وأمّا النصبُ ففيه ستةُ أوجهٍ ، أحدها : أنه منصوبٌ بفعلٍ مضمرٍ أي : وأهلَكْنا قومَ نوح؛ لأنَّ ما قبلَه يَدُلُّ عليه . الثاني : أنه منصوبٌ ب اذْكُرْ مقدراً ، ولم يَذْكُرْ الزمخشريُّ غيرَهما . الثالث : أنَّه منصوبٌ عطفاً على مفعول » فأَخَذْناه « . الرابع : أنه معطوفٌ على مفعول { فَنَبَذْنَاهُمْ فِي اليم } وناسَبَ ذلك أنَّ قومَ نوح مُغْرقون من قبلُ . لكنْ يُشْكِلُ أنَّهم لم يَغْرَقوا في اليمِّ . وأصلُ العطفِ أَنْ يقتضيَ التشريكَ في المتعلَّقات . الخامس : أنَّه معطوفٌ على مفعولِ » فَأَخَذَتْهم الصاعقةُ « . وفيه إشكالٌ؛ لأنهم لم تأخُذْهم الصاعقةُ ، وإنما أُهْلكوا بالغَرَقِ . إلاَّ أَنْ يُرادَ بالصاعقةِ الداهيةُ والنازلةُ العظيمة من أيِّ نوع كانت ، فيَقْرُبُ ذلك . السادس : أنه معطوفٌ على محلِّ » وفي موسى « ، نقله أبو البقاء وهو ضعيفٌ.
وأما الرفعُ على الابتداءِ والخبرُ مقدَّرٌ أي : أهلَكْناهم . وقال أبو البقاء : » والخبرُ ما بعدَه « يعني مِنْ قولِه : إنهم كانوا قوماً فاسقين . ولا يجوز أَنْ يكونَ مرادُه قولَه : » من قبلُ «؛ إذ الظرفُ ناقصٌ فلا يُخبَرُ به.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5/57)


شيء ، ويكون المعنى في كل شيء في الحيوان الذكر والأنثى ويكون في غيره
صِنفان أصل كل حيوان ومَوَاتٍ ، واللَّه أعلم.
* * *
وقوله عزَّ وجلََّ : (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50)
المعنى ففروا إلى اللَّه من الشرك باللَّه ومن مَعَاصِيه إليه.
(إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) ، أي أنذركم عذابه وعقابه.
* * *
وقوله : (وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51) كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52)
المعنى الأمر كذلك ، أي كما فعل من قبلهم في تَكذيبِ الرسُلِ.
* * *
(إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ).
أي إلا قالوا هذا ساحر ، ارتفع ساحر بإضمار هو.
* * *
وقوله : (أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53)
معناه أوصى أولهم آخرهم ، وهذه ألف التوبيخ وألف الاستفهام.
* * *
وقوله : (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54)
أي لا لوم عليك إذ أديت الرسَالةَ.
* * *
(وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55)
أي ذكرهم بأيام الله وعذابه وعقابه ورحمته.
* * *
قوله : (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)
اللَّه - عزَّ وَجَلّ - قد علم من قبل أن يَخْلُقَ الجنَّ والِإنسَ من يعبده مِمَّنْ
يكفر به ، فلو كان إنما خلقهم ليجبرهم على عِبَادَتِه لكانوا كلهم عباداً مؤمنين ولم يكن منهم ضُلَّالٌ كافِرونَ.
فالمعنى : وما خلقت الجنَّ والِإنس إلا لأدعوهم إلى عِبَادَتِي.
وأنا مرِيدٌ العِبَادَةَ مِنْهُمْ ، يعني من أهلها.
* * *
(مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57)

(5/58)


أي ما أريد أن يرزقوا أحَداً من عبادي ، وما أريد أن يطعموه (1) ؛ لأني أنا
الرزاقُ المطعِمُ.
* * *
(إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)
والقراءة الرفْعُ وهو في العربية أحسن نكون رفع (الْمَتِينُ) صفة لِلًهِ
عزّ وجَل ، ومن قرأ (ذو القوةِ المتينِ) - بالخفض - جعل المتين صفة للقوة لأن تأنيث القوة كتأنيث الموعظة ، كما قال : (فمن جَاءَهُ مَوْعِظةٌ)
المعنى فمن جاءه وَعظ.
ومعنى (ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) ذو [الاقْتِدَارِ] الشديد.
* * *
وقوله : (فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ
(59)
الذَّنُوب في اللغة النصيب والدلو يقال لها الذنوب.
المعنى فإن للذين ظلموا نصيباً من العذاب مثلَ نَصيبِ أصْحَابِهم الذين أهلكوا نحو عاد وثمود وقوم لوط.
* * *
(فَلَا يَسْتَعْجِلُونَ).
أي إن أُخِّرُوا إلى يَوْمِ القيامَةِ.
* * *
(فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)
أي من يوم القيامة.
__________
(1) قال ابن الجوزي :
قوله تعالى : { ما أُريدُ منهم من رِزْقٍ } أي : ما أُريدُ أن يرزُقوا أنفسهم { وما أُريدُ أن يُطْعِموني } أي : أن يُطْعِموا أحداً من خَلْقي ، لأنِّي أنا الرَّزّاق.
وإنما أسند الإطعام إلى نفسه ، لأن الخلق عيالُ الله ، ومن أطعمَ عِيالَ أحد فقد أطعمه.
وقد جاء في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " يقول اللهُ عز وجل يوم القيامة : يا ابن آدم : استطعمتُكَ فلم تُطْعِمْني " ، اي : لم تُطْعِم عبدي. اهـ (زاد المسير. 8 / 43).

(5/59)


سُورَةُ الطور
( مَكِّيَّة )
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله : (وَالطُّورِ (1)
قسم ، والطور الجبل ، وجاء في التفسير أنه الجبل الذي كَلَّمَ اللَّه عليه
موسى عليه السلام.
* * *
(وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3)
الكتاب ههنا ما أثبت على بني آدم من أعمالهم.
* * *
(وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4)
فىِ التفسير أنه بيت في السماء بإزاء الكعبة يدخله كل يوم سبعون ألف
ملك ثم يخرجون منه وَلَا يَعُودُونَ إليه.
* * *
وقوله : (إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7)
جواب القسم ، أي وهذه الأشياء إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ).
وجائز أن يكون المعنى - واللَّه أعلم - ورب هذه الأشياء (إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ).
* * *
وقوله : (يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9)
(تمور) تدور.
و " يومَ " منصوبُ بقوله (إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ).
أي لواقع يوم القيامة .

(5/61)


(فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11)
والويل كلمة يقولها العرب لكل من وقع في هلكة.
* * *
قوله : (الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12)
أي يشاغلهم بكفرهم لعب عاقِبتُه العذاب.
* * *
(يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13)
أي يوم يزعجون إليها إزعاجاً شديداً ، ويدفعون دفعاً عنيفاً ، ومن هذا
قوله : (الذِي يَدُعُّ اليَتِيمَ) ، أي يدفعه عما يجب له.
* * *
وقوله : (هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14)
المعنى فيقال لهم : (هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ).
(والبَحْرِ المَسْجُورِ).
جاء في التفسير أن البحر يسجر فيكون نار جهنم.
وأما أهل اللغة فقالوا : البحر المسجور المملوء.
وأنشدوا :
إِذا شاء طالَعَ مَسْجُورَةً . . . تَرى حَوْلَها النَّبْعَ والسَّاسَما
يعني ترى حولها عيناً مملوءة بالماء.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15)
لفظ هذه الألف لفظ الاستفهام ، ومعناها ههنا التوبيخ والتقريع أي
أتصدقون الآن أن عذاب الله لواقع.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16)
(سَوَاءٌ) مرفوع بالابتداء ، والخبر محذوف ، المعنى سواء عليكم الصبر والجزع .

(5/62)


(إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).
معنى إنما ههنا ما تجزون إِلَّا ما كنتم تعملون ، أي الأمر جارٍ عليكم
على العدل ، ما جوزيتم إِلَّا أعمالكم.
* * *
وقوله : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18)
(فَكِهِينَ)
و (فَاكِهِينَ) جميعاً ، والنصب على الحال.
ومعنى (فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ)
أي معجبين بما آتاهم رَبُّهُمْ
* * *
(وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ).
أي غفر لهم ذنوبهم التي توَجِبُ النَّار بإسلامهم وتوبتهم.
* * *
وقوله عزَّ وجلٌ : (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19)
المعنى : يقال لهم كلوا واشربوا هنيئاً.
و (هنيئاً) منصوب وهو صفة في موضع المصدر.
المعنى كلوا واشربوا هُنِّئتُمْ هَنيئاً وليهنكم ما صرتم إِليه.
* * *
وقوله : (يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (23)
معنى (يتنازعون) يتعاطون فيها كأساً ، يُتَناول هذا الكأس من يد هذا وهذا
من يد هذا.
وقوله : (لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ)
معناه لا يجري بينهم ما يُلْغَى ، أي لا يجري بينهم باطل
ولا ما فيه إثم كما يجري في الدنيا لِشَرَبَةِ الخمر.
والكأسُ في اللُغة الإِنَاءُ المملوء ، فإذا كان فارغاً فليس بكأس.
وتقرأ : لا لغوَ فيها ولا تَأثِيمَ . بالنَصْبِ.
فمن رفع فعلى ضربين :
على الرفع بالابتداء ، و " فِيْهَا " هو الخبر.
وعلى أن يكون " لا " في مذهب " ليس " رافعة.
أنشد سيبويه وغيره :
مَن صَدَّ عن نِيرانِها . . . فأنا ابن قيس لاَ بَراحُ

(5/63)


ومن نصب فعلى النَّفْي والتبرية كما قال في قوله : لا ريب فيهِ ، إلا أن
الاختيارَ عند النحويين إذا كررَتْ " لا " في هذا الموضع الرفع.
والنصْبُ عند جميعهم جائز حَسَن.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26)
الكلام - واللَّه أعلم - يدل ههنا أنهم يتساءلون في الجنَّة عن أحوالهم
التي كانت في الدنيا ، كان بعضهم يقولُ لبعض : بم صرت إلى هذه المنزلة
الرفيعة ، وفي الكلام دليل على ذلك وهو قوله في جواب المسألة :
(إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ).
أي مشفقين من المصير إلى عذاب الله عزَّ وجلَّ ، فعملنا بطَاعَتِه ، ثم
قرنوا الجوابَ مع ذلك بالِإخلاص والتوحيد بقولهم :
(إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ).
أي نُوَحِّدُه ولا ندعو إلهاً غيره.
* * *
(فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27)
أي عذاب سموم جهنم.
* * *
وقوله : عزَّ وجلَّ : (فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ
(29)
أي ذكرهم بما أعتَدْنَا للمتقِينَ المؤمنين والضلال للكافِرِين.
(فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ)
أي لست تقول ما تَقُولُه كهانَة ، ولا تنطق إِلَّا بَوَحيٍ من الله عزَّ وَجَلَّ.
* * *
وقوله : (أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30)
(رَيْبَ المَنُونِ)
حوادث الدهر.
* * *
(قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31)

(5/64)


فجاء في التفسير أن هؤلاء الذين قالوا هذا - وكان فيهم أبو جهل -
هلكوا كلهم قبل وفاة رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -.
* * *
وقوله : (أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32)
أي أتأمرهم أحْلَامُهُم بترك القبول ممن يدعوهم إلى التوحيد وتأتيهم
على ذلك بالدلائل ، ويعملون أحْجَاراً ويعبدونها.
(أمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ).
أي أم هم يكفرون طغياناً وقد ظهر لهم الحق.
* * *
(فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34)
أي إذا قالوا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تقوله فقد زعموا أنه من قول البشر ، فليَقولوا مثلَهُ فما رام أحَدٌ مِنهم أن يقول مثل عَشْرِ سُور ولا مثل سورةٍ.
* * *
وقوله : (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35)
معناه بل أُخلِقُوا من غير شيء.
وفي هذه الآية قولان :
وهي مِنْ أصْعَب ما في هذه السورة.
قال بعض أهل اللغة :
ليس هم بأشد خلقاً من خلق السَّمَاوَات والأرض ، لأن السَّمَاوَات والأرض خُلِقَتَا من غير شيء ، وهم خُلِقوا من آدم وآدم من تراب.
وقيل فيها قولٌ آخر ، (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ) أَمْ خُلِقُوا لِغَيْرِ شَيْءٍ
أي خلقوا باطِلًا لا يحاسبون ولا يؤمرون ولا يَنْهَوْنَ.
* * *
ْوقوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّاتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّاتِهُمْ).
وقرئت (أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ)
وقرئت " واتبعتم ذُريَّتُهُمْ " وكلا الوجهين جائز ، الذُرية تقع على الجماعة ، والذريَّات جَمِع ، وذُرَيَّة على التوحيد أكثر.
وتأويل الآية أن الأبناء إذا كانوا مؤمنين ، وكانت مراتب آبائهم في الجنة

(5/65)


أعلى من مراتبهم ألحق الأبناء بالآباء ، ولم ينْقص الآباء من عملهم شيئاً.
وكذلك إن كان عَمَل الآبَاء أنقَص ، أُلْحِقَ الآبَاءُ بالأبْنَاءِ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ).
معناه ما أنْقَصْنَاهم ، يقال ألَتَه يَألِته ألْتاً إِذَا نَقَصَة.
قال الشاعِرْ
أَبْلِغْ بَني ثُعَلٍ عَنِّي مُغَلْغَلَةً . . . جَهْدَ الرِّسالَةِ لا أَلْتاً ولا كَذِبا
ويقال لأته يليتهُ لَيْتاً إذا نَقَصَهُ وصرفَهُ عن الشيء.
قال الشاعر :
وليلةٍ ذات ندى سَريْتُ . . . وَلَم يَلتْني عن هواها ليتُ (1)
* * *
وقوله عزَّ وجلَّّ : (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37)المصيطرون : الأرباب المتسَلِّطونَ.
يقال : قد سيطر علينا وتسيطر وتسيطر . بالسين والصّاد.
والأصل السين ، وكل سين بعدها طاء يجوز أن تقلب صاداً ، تقول : سيطر
وصيطر ، وسطا وصَطا.
وتفسير (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ)
أي عندهم ما في خزائن ربك من العلم.
وقيل - في " خزائن ربك " أي رزق ربك.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38)
وقال أهل اللغة : - معنى يستمعون فيه ، يستمعون عليه ومثله :
(لَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ)
أي على جذوع النخل.
(فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ).
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { والذين آمَنُواْ } : فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها : أنه مبتدأٌ ، والخبرُ الجملةُ من قولِه : { أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } والذُّرِّيَّةُ هنا تَصْدُق على الآباء وعلى الأبناء أي : إنَّ المؤمنَ إذا كان عملُه أكبرَ أُلْحِقَ به مَنْ دونَه في العمل ، ابناً كان أو أباً ، وهو منقولٌ عن ابن عباس وغيرِه . والثاني : أنه منصوبٌ بفعلٍ مقدرٍ . قال أبو البقاء : « على تقدير وأكرَمْنا الذين آمنوا » . قلت : فيجوزُ أَنْ يريدَ أنه من باب الاشتغالِ وأنَّ قولَه : { أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } مُفَسِّر لذلك الفعلِ من حيث المعنى ، وأَنْ يريدَ أنه مضمرٌ لدلالةِ السياقِ عليه ، فلا تكونُ المسألةُ من الاشتغالِ في شيء.
والثالث : أنه مجرورٌ عطفاً على « حورٍ عينٍ » . قال الزمخشري : « والذين آمنوا معطوفٌ على » حورٍ عينٍ « أي : قَرَنَّاهم بالحورِ وبالذين آمنوا أي : بالرُّفَقاءِ والجُلَساءِ منهم ، كقوله : { إِخْوَاناً على سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ } [ الحجر : 47 ] فيتمتَّعون تارةً بملاعبةِ الحُور ، وتارةً بمؤانسةِ الإِخوانِ » . ثم قال الزمخشري : « ثم قال تعالى : { بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } أي : بسببِ إيمانٍ عظيمٍ رفيعِ المحلِّ وهو إيمانُ الآباءِ أَلْحَقْنا بدَرَجَتِهم ذرِّيَّتَهم ، وإنْ كانوا لا يَسْتَأهِلُونها تَفَضُّلاً عليهم ».
قال الشيخ : « ولا يتخيَّلُ أحدٌ أنَّ » والذين آمنوا « معطوفٌ على » بحورٍ عينٍ « غيرُ هذا الرجلِ ، وهو تخيُّلُ أعجميٍّ مُخالفٍ لِفَهْمِ العربيِّ القُحِّ ابنِ عباسٍ وغيرِه » . قلت : أمَّا ما ذكره أبو القاسم من المعنى فلا شكَّ في حُسْنِه ونَضارَتِه ، وليس في كلامِ العربيِّ القُحِّ ما يَدْفَعُه ، بل لو عُرِض على ابنِ عباسٍ وغيرِه لأَعْجبهم . وأيُّ مانعٍ معنوي أو صناعي يمنعُه؟.
وقوله : { واتبعتهم } يجوزُ أَنْ يكونَ عطفاً على الصلةِ ، ويكونَ « والذين » مبتدأً ، ويتعلقَ « بإيمان » بالاتِّباع بمعنى : أنَّ اللَّهَ تعالى يُلْحق الأولادَ الصغارَ ، وإن لم يَبْلغوا الإِيمانَ ، بأحكام الآباءِ المؤمنين . وهذا المعنى منقولٌ عن ابنِ عباس والضحاك . ويجوزُ أَنْ يكونَ معترضاً بين المبتدأ والخبر ، قاله الزمخشري . ويجوزُ أَنْ يتعلَّق « بإيمان » بألحَقْنا كما تقدَّم . فإنْ قيل : قولُه : « اتَّبَعتْهم ذُرِّيَّتَهم » يفيد فائدةَ قولِه : { أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } . فالجوابُ أنَّ قولَه : « أَلْحَقْنا بهم » أي : في الدرجات والاتِّباعُ إنما هو في حُكْمِ الإِيمان ، وإن لم يَبْلُغوه كما تقدَّم . وقرأ أبو عمرو و « وأَتْبَعْناهم » بإسناد الفعل إلى المتكلمٍ المعظِّمِ نفسَه . والباقون « واتَّبَعَتْهم » بإسنادِ الفعلِ إلى الذرِّيَّة وإلحاقِ تاء التأنيث . وقد تَقَدَّم الخلافُ في إفرادِ « ذُرِّيَّتهم » وجمعِه في سورة الأعرافِ محرراً بحمد الله تعالى.
قوله : { أَلَتْنَاهُمْ } قرأ ابن كثير « أَلِتْناهم » بكسر اللام ، والباقون بفتحِها . فأمَّا الأولى فَمِنْ أَلِتَ يَأْلَتُ بكسرِ العينِ في الماضي وفتحِها في المضارع كعَلِمَ يَعْلَمُ.
وأمَّا الثانيةُ فتحتمل أَنْ تكونَ مِنْ أَلَتَ يَأْلِتُ كضَربَ يَضْرِبُ ، وأَنْ تَكونَ مِنْ أَلات يُليت كأَماتَ يُميت ، فَأَلَتْناهم كأَمَتْناهم . وقرأ ابن هرمز « آلَتْناهم » بألفٍ بعد الهمزة ، على وزنِ أَفْعَلْناهم . يقال : آلَتَ يُؤْلِتُ كآمَنَ يُؤْمِنُ . وعبد الله وأُبَيٌّ والأعمش وطلحة ، وتُرْوى عن ابنِ كثير « لِتْناهم » بكسر اللام كبِعْناهم يُقال : لاتَه يَليته ، كباعه يَبيعه . /
وقرأ طلحة والأعمش أيضاً « لَتْناهم » بفتح اللام . قال سهل : « لا يجوز فتحُ اللامِ مِنْ غير ألفٍ بحالٍ » ولذلك أَنْكر « آلَتْناهم » بالمدِّ : وقال : « لا يَدُلُّ عليها لغةٌ ولا تفسيرٌ » . وليس كما زعم؛ بل نَقَلَ أهلُ اللغةِ : آلَتَ يُؤْلِتُ . وقُرِىء « وَلَتْناهم » بالواو ك « وَعَدْناهم » نَقَلها هارون . قال ابن خالويه : « فيكونُ هذا الحرفُ مِنْ لاتَ يَليت ، ووَلَتَ يَلِتَ ، وأَلِتَ يَأْلَت ، وأَلَت ، وأَلات يُليت . وكلُّها بمعنى نَقَص . ويقال : أَلَتَ بمعنى غَلَّظ . وقام رجلٌ إلى عمر يَعِظُه فقال له رجل : لا تَأْلِتْ أميرَ المؤمنين أي : لا تُغْلِظْ عليه » . قلت : ويجوزُ أَنْ يكونَ هذا الأثرُ على حالِه ، والمعنى : لا تُنْقِصْ أميرَ المؤمنين حَقَّه ، لأنه إذا أَغْلَظَ له القولَ نَقَصَه حَقَّه.
قوله : { مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ } « مِنْ شيءٍ » مفعولٌ ثانٍ ل « أَلَتْناهم » و « مِنْ » مزيدةٌ فيه . والأُولى في محلِّ نصبٍ على الحال مِنْ « شيء » لأنَّها في الأصلِ صفةٌ له ، فلَمَّا قُدِّمَتْ نُصِبَتْ حالاً . وجَوَّزَ أبو البقاء أَنْ يتعلَّقَ ب « أَلَتْناهم » وليس بظاهرٍ . وفي الضمير في « أَلَتْناهم » وجهان ، أظهرهما : أنَّه عائدٌ على المؤمنين . والثاني : أنَّه عائد على أبنائهم . قيل : ويُقَوِّيه قولُه : { كُلُّ امرىء بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ }.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5/66)


أي بحجة واضحة ، والمعنى - واللَّه أعلم - أنهم كجبريل الذي يأتي
النبي - صلى الله عليه وسلم - بالوحي ويبيِّنُ تبيينه عن اللَّه ، ما كان وما يكون.
ثم سفر أحلامهم في جعلهم البنات للَّهِ فقال :
* * *
(ام لَهُ البَنَات وَأ@كُم البَنُونَ). -
أي أنتم يجعلواط للَّهِ ما تكرهون وأنتم حكماءْ عند أنفسكم.
* * *
(أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40)
المعنى أن الحجة واجبة عليهم من كل جهة ، لأنك أتيتهم بالبيان
والبرهان ولم تسألهم على ذلك أجراً.
* * *
ْوقوله جلَّ وعزَّ : (أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42)
أي أم يريدون لكفرهم وطغيانهم كيداً.
فاللَّه عزَّ رجل يكيدهم ويجزيهم بكيدهم العذاب في الدنيا والآخرة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43)
المعنى بل ألَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ.
فإن قال قائل : هم يزعمون أن الأصنام آلهتهم ، فإن قيل لهم : (أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ) ؟
فالجواب في ذلك ألَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يخلق ويرْزق ويفعل ما يعجز عنه المخلوقون ، فمن يفعل ذلك إلا الله عزَّ وجلَّ ، ثم نَزَهَ نفسه عزَّ وجلَّ فقال : (سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ).
جاء في التفسير وفي اللغة أن معناه تنزيه اللَّهِ - عمَّا يشركون ، أي عمن
يجعلون شريكاً لِلَّهِ عزَّ وجلَّ.
* * *
وقوله : (وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ (44)
أي وإن يروا قطعة من العذاب يقولوا لشدة طغيانهم وكفرهم : هذا سحاب مركوم ، ومركوم قد ركم بعضا ، على بعض ، وهذا في قوم من أئمة الكفر وهم الذين

(5/67)


قال اللَّه - عزَّ وجلَّ - فيهم : (وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15).
فأعلمَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ أن هُؤلَاءِ لَا يَعْتَبِرونَ وَلَا يوقِنُونَ ولا يؤمنون بأبْهَرِ ما يكون من الآيات.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45)
(يَصْعَقُونَ)
وقرئت : (يُصْعَقُونَ) ، أي فذرهم إلى يوم القيامةِ.
ثم أعلم أنه يعجل لهم العذاب في الدنيا فقال :
(وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (47)
المعنى وإن للذين ظلموا عذاباً دون عذاب الآخرة ، يعني من القتل
والأسر وسبي الذَارَارِي الَّذِي نزل بهم ، وأعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أنه ناصِرٌ دينه ومهلك من عادى نبيه ، ثم أمره بالصبر إلى أن يقع العذاب بهم فقال :
(وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48)
أي فإنك بحيث نراك ونحفظك ونرعاك ، ولا يصلون إلى مكروهك.
(وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ).
أي حين تقوم من منامك ، وقيل حين تقوم في صلاتك ، وهو ما يُقَالُ مع
التكبير : سبحانك اللهم وبحمدك.
* * *
(وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49)
وقرئت (وَأَدْبَارَ النُّجُومِ).
فمن قرأ (إِدْبَارَ) بالكسر فعلى المصدر أَدبَرْت إِدْباراً.
ومن قرأ (أَدْبَارَ) بالفتح فهو جمع دبر.
وأجمعوا في التفسير أن معنى (أَدْبَارَ السًّجُودِ) معناه صلاة الركعتين بعد المغرب ، وأن (إِدْبَارَ النُّجُومِ) صلاة ركعتي الغداة .

(5/68)


سُورَةُ النَّجْم
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله تعالى : (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1)
أقسم اللَّه - عزَّ وجَلَّ - بالنَّجم.
وقوله : (مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2)
جَوَاب القسم.
وجاء في التفير أن النجم الثريَّا ، وكذلك يسميها العَرَبُ ، وجاء أيضاً
في التفسير أن النجم نزول القرآن نَجماً بعد نجم ، وكان ينزل منه الآية
والآيتان ، وكان بين أول نزوله إلى استتمامه عشرون سنةً.
وقال بعض أهل اللغة : النجم بمعنى النجوم وأنشدوا.
فباتت تَعُدُّ النَّجْمَ في مُسْتَحيرةٍ . . . سَريعٍ بأَيدي الآكِلينَ جُمودُها
يصف قِدراً كثيرة الدسم ، ومعنى تعد النجم أي من صفاء دسمها ترى
النجوم فيه ، والمستحيرة القدر ، فقال يجمد على الأيدي الدَّسَمَ مِنْ كَثْرتِه
وقالوا مثله : (فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ).
ومعنى : (إذَا هَوَى) ، إذا سقط ، وإذا كان معناه نزول القرآن فالمعنى
في " إذَا هَوَى " ، إذَا نزل (1).
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { إِذَا هوى } : في العاملِ في هذا الظرفِ أوجهٌ ، وعلى كلٍ فيها إشكال . أحدُ الأوجهِ : أنه منصوبٌ بفعل القسمِ المحذوفِ تقديرُه : أُقْسِمُ بالنجم وقتَ هُوِيِّه ، قاله أبو البقاء وغيرُه . وهو مُشْكِلٌ فإن فِعْلَ القسمِ إنشاءٌ ، والإِنشاءُ حالٌ ، و « إذا » لِما يُسْتقبل من الزمان فكيف يتلاقيان؟ الثاني : أنَّ العاملَ فيه مقدرٌ على أنَّه حالٌ من النجم أي : أُقْسِم به حالَ كونِه مستقراً في زمانِ هُوِيِّه . وهو مُشْكِلٌ مِنْ وجهين ، أحدهما : أن النجم جثةٌ ، والزمانُ لا يكونُ حالاً عنها كما لا يكونُ خبراً عنها . والثاني : أنَّ « إذا » للمستقبلِ فكيف يكونُ حالاً؟ وقد أُجيب عن الأول : بأنَّ المرادَ بالنجم القطعةُ من القرآن ، والقرآنُ قد نَزَلَ مُنَجَّماً في عشرين سنةً . وهذا تفسيرُ ابن عباس وغيرِه . وعن الثاني : بأنها حالٌ مقدرةٌ . الثالث : أنَّ العاملَ فيه نفسُ النجم إذا أُريد به القرآنُ ، قاله أبو البقاء . وفيه نظرٌ؛ لأنَّ القرآنَ لا يَعْمل في الظرف إذا أُريد به أنه اسمٌ لهذا الكتابِ المخصوص . وقد يُقال : إن النجمَ بمعنى المُنَجَّم كأنه قيل : والقرآنِ المنجَّمِ في هذا الوقتِ . وهذا البحثُ وارِدٌ في مواضعَ منها { والشمس وَضُحَاهَا } [ الشمس : 1 ] وما بعدَه ، وقولُه : { والليل إِذَا يغشى } [ الليل : 1 ] ، { والضحى والليل إِذَا سجى } [ الضحى : 1 ] . وسيأتي في الشمس بحثٌ أخصُّ مِنْ هذا تقف عليه إنْ شاء الله تعالى . وقيل : المراد بالنجم هنا الجنسُ وأُنْشد :
4121 فباتَتْ تَعُدُّ النجمَ في مُسْتَحيرةٍ . . . سريعٍ بأيدي الآكلين جمودُها
أي : تَعُدُّ النجومَ ، وقيل : بل المرادُ نجمٌ معين . فقيل : الثُّريَّا . وقيل : الشِّعْرَى لذِكْرِها في قوله : { وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشعرى } [ النجم : 49 ] . وقيل : الزُّهْرة لأنها كانت تُعْبَدُ . والصحيح أنها الثريَّا ، لأنَّ هذا صار عَلَماً بالغَلَبة . ومنه قولُ العرب : « إذا طَلَعَ النجمُ عِشاءً ابتغى الراعي كِساءً » . وقالوا أيضاً : « طَلَعَ النجمُ غُدْيَة فابتغى الراعي كُسْيَة » . وهَوَى يَهْوي هُوِيّاً أي : سقط من علو ، وهَوِي يَهْوَى هَوَىً أي : صَبَا . وقال الراغب : « الهُوِيُّ سقوطٌ مِنْ عُلُوّ » . ثم قال : والهُوِيُّ : ذهابٌ في انحدارٍ . والهوى : ذهابٌ في ارتفاع وأَنْشد : /
4122 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . يَهْوي مخارِمَها هُوِيَّ الأجدَلِ
وقيل : هَوَى في اللغة خَرَقَ الهوى ، ومَقْصَدُه السُّفْلُ ، أو مصيرُه إليه وإن لم يَقْصِدْه . قال :
4123 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . هُوِيَّ الدَّلْوِ أسْلَمَها الرِّشاءُ
وقد تقدَّم الكلامُ في هذا مُشْبَعاً.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5/69)


(مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2)
يعني النبي - صلى الله عليه وسلم -.
* * *
وقوله : (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3)
أي ما الذي يأتيكم به مِما قَاله بهَواه.
* * *
(إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)
" إن " بمعنى " ما " ، المعنى : ما هو إلا وحي.
* * *
(عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5)
يعني به جبريل عليه السلام.
* * *
وقوله : (ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6)
(ذُو مِرَّةٍ) من نعت قوله (شَدِيدُ الْقُوَى) ، والمرة القوة.
(عَلَّمَهُ) علم النبي - صلى الله عليه وسلم -.
* * *
وقوله : (فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7)
قال بعض أهل اللغة : " هو " ههنا يعنى به النبي عليه السلام.
المعنى فاستوى جبريل والنبي - صلى الله عليه وسلم - بالأفق الأعلى.
وهذا عند أهل اللغة لا يجوز مثله إلا في الشعر إلا أن يكون مثل قولك : استويت أنا وزيدٌ ، ويستقبحون استويت وزيدٌ.
وإنما المعنى استوى جبريل وهو بالأفق الأعلى على صورته الحقيقية.
لأنه كان يتمثل للنبي - صلى الله عليه وسلم - إذا هبط عليه بالوحي في صورة رجلٍ ، فأحبَّ رسول اللَّهِ أن يراه على حقيقته فاستوى في أفق المشرق فملأ الأفق.
فالمعنى - واللَّه أعلم - فاستوى جبريل في الأفق الأعلى على صورته.
* * *
(ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8)
ومعنى(دَنَا ، وَتَدَلى) واحد ، لأن المعنى أنه قَربَ ، وتدلى زَادَ في القرب.
كما تقول : قد دنا فلان مني وقرب ، ولو قلت : قد قُرَبَ مني ودنا جاز.
* * *
(فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9)

(5/70)


المعنى كان ما بينه وبين رسول اللَّه مقدار قوسين مِنَ القَسِيِّ العربيةِ أو
أقرب.
وهذا الموضع يحتاج إلى شرح لأن القائل قد يقول : ليس تَخْلُو " أو "
من أن تكون للشك أو لغير الشك.
فإن كانت للشك فمحال أن يكون موضع شك.
وإن كان معناها بل أدنى ، بل أقْرَبُ فما كانت الحاجة إلى أن يقول :
(فكان قاب قَوْسَيْن) - كان ينبغي أن يكون كان أدنى من قاب قَوسَينْ.
والجواب في هذا - والله أعلم - أن العباد خوطبوا على لغتهم ومقدار
فهمهم وقيل لهم في هذا ما يقال للذي يحزر (1) ، فالمعنى فكان على ما تُقَدرونَه
أنتم قدر قوسين أو أدنى من ذلك ، كما تقول في الذي تقدره : هذا قدر رُمْحَينِ أو أنقص من رُمْحَين أو أرجح.
وقد مرَّ مثل هذا في قوله : (وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ).
* * *
(فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10)
أي فَأوحى جبريل إلى النبي عليه السلام ما أوحى.
* * *
قوله : (مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11)
وقرئت : (مَا كَذَّبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى) بتشديد الذَّال.
* * *
وقوله : (لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)
جاء في التفسير أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رَبَّهُ - عزَّ وجلَّ - بقلبه ، وأنه فَضْلٌ خُصَّ به كما خُصَّ إبراهيم عليه السلام بِالخُلَّةِ.
وقيل رأى أمراً عظيماً ، وتفسيره (لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى).
* * *
وقوله - عزَّ وجل - : (أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12)
__________
(1) الحَزَّاءُ والحازي الذي يَحْزُرُ الأَشياء ويقَدِّرُها بظنه. (انظر اللسان. 14 / 174).

(5/71)


(أفَتمْروُنه)
و (أفَتُمارُونَه) وقرئت بالوجهين جميعاً ، فمن قرأ (أفَتَمرونَهُ) فالمعنى
أفتَجْحَدونَهُ.
ومن قرأ (أفَتُمارُونَه) فمعناه أتجادولنه فى أنه رأى اللَّه - عز
وجل - بقلبه ، وأنه رأى الكبرى من آياته.
* * *
وقوله تعالى : (مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17)
أي ما زاغ بصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وَمَا طَغَى ، ما عدل وَلاَ جَاوَزَ القصدَ في رؤيته جبريل قد ملأ الأفقَ.
* * *
وقوله تعالى : (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14)
أي رآه مرة أخرى عند سدرة المنتهى.
* * *
(عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15)
جاء في التفسير أنها جنة تصير إليها أرواح الشهداء ، فلما قصَّ هذه
الأقاصيص ، وأعلم - عزَّ وجلَّ - كيف قصه جبريل ، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يأتيه ذلك من عند اللَّه الذي ليس كمثله شيء قيل لهم :
* * *
(أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20)
كأن المعنى - واللَّهُ أعلم - أخبرونا عن هذه الآلهة التي لكم تعبدونها من
دون اللَّه - عزَّ وجلَّ - هل لها من هذه القدرة والعظمة التي وصف بها رب
العزة - جلَّ وعزَّ - شيء.
وجاء في التفسير أن اللَّاتَ صَنَمٌ كان لثقيف يعبدونه ، وأن العُزَّى
سَمُرة ، وهي شجرة كانت لغطفانَ يعبدونها ، وأن مَنَاة صخرة كانت لِهذَيْلٍ
وخزاعة يعبدونها من دون اللَّه.
فقيل لهم أخبرونا عن هذه الآلهة التي تَعْبدونَها
وتعبدون معها الملائكة ، تزعمون أن الملائكة وهذه بنات اللَّه.
فوبَّخَهمْ اللَّه فقال : أرأيتم هذه الإناث ألِلَّهِ هي وأنتم تَخْتَارونُ الذُكْرَانَ.
وذلك قوله : (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21).

(5/72)


ومن قرأ (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَّ وَالْعُزَّى) بتشديد التاء فزعموا أن رَجُلًا كان يَلِتُّ
السَّويق وَيَبيعُة عند ذلك الصنم فسمي الصنمُ اللَّاتّ - بتشديد التاء - والأكثر " اللَّاتَ " بتخفيف التاء.
وكان الكسائي يقف عليها بالهاء ، يقول " اللاه " وهذا قياس
والأجود في هذا اتباع المصحف والوقف عليها بالتاء.
وقرئت (عِنْدَهَا جَنَّهُ الْمَأْوَى) - بالهاء - والأجود (جَنَّةُ الْمَأْوَى) ، لأنه جاء في التفسير كما ذكرنا أنه يحل فيها أرواح الشهداء (1).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22)
أي جَعْلكم للَّهِ البنات ولكم البنين.
والضِّيزى في كلام العرب : الناقصةُ الجائرة ، يقال : ضازه يَضِيزُه : إذا نقصه حَقَّه ، ويقال : ضَأَزَه يَضْأَزُه بالهمز.
وأجمع النحويُّون أن أصل ضِيزَى : ضُوزًى ، وحُجَّتُهم أنها نُقلت من «فُعْلى» من ضْوزى إلى ضِيزى ، لتَسلم الياء ، كما قالوا : أبيض وبِيْض ، وأصله : بُوضٌ ، فنُقلت الضَّمَّة إلى الكسرة . .
وقرأت على بعض العلماء باللُّغة : في «ضيزى» لغات؛ يقال : ضِيزَى ، وضُوزَى ، وضُؤْزَى ، وضَأْزَى على «فَعْلى» مفتوحة؛ ولا يجوز في القرآن إلاّ «ضِيزى» بياءٍ غير مهموزة؛ وإنما لم يقُل النحويُّون : إنها على أصلها لأنهم لا يعرفون في الكلام «فِعْلى» صفة ، إنما يعرفون الصِّفات على «فَعْلَى» بالفتح ، نحو سَكُرَى وغَضْبى ، أو بالضم ، نحو حُبْلى وفُضْلى . .
وكذلك قالوا مشية - حيكى ، وهي مشية يحيك فيها صاحبها ، يقال : حاك يحيك إذا تبختر ، فحيكى عندَهم فعْلَى أيضاً (2).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26)
جاء (شَفَاعَتُهُمْ) واللفظ لفظ واحد ، ولو قيل شفاعته لجاز ولكن المعنى
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { عِندَ سِدْرَةِ } : ظرفٌ لِرَآه و « عندها جنةُ » جملةٌ ابتدائيةٌ في موضعِ الحالِ . والأحسنُ أَنْ يكونَ الحالُ الظرفَ ، و « جَنَّةُ المَأْوى » فاعلٌ به . والعامَّةُ على « جنَّة » اسمٌ مرفوعٌ . وقرأ أمير المؤمنين وأبو الدرداء وأبو هريرة وابن الزبير وأنس وزر بن حبيش ومحمد بن كعب « جَنَّهُ » فعلاً ماضياً . والهاء ضميرُ المفعول يعود للنبي صلَّى الله عليه وسلَّم . والمَأْوَى فاعلٌ بمعنى : سَتَره إيواءُ اللَّهِ تعالى . وقيل : المعنى : ضَمَّه المبيتُ والليلُ . وقيل : جَنَّهُ بظلالِه ودَخَلَ فيه . وقد رَدَّت عائشةُ رضي الله عنها هذه القراءةَ وتبعها جماعةٌ وقالوا : « أجَنَّ اللَّهُ مَنْ قرأها » ، وإذا ثبتت قراءةً عن مثلِ هؤلاء فلا سبيلَ إلى رَدِّها ، ولكنِّ المستعملَ إنما/ هو أَجَنَّه رباعياً ، فإن استعمل ثلاثياً تَعَدَّى ب « على » كقولِه { فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الليل } [ الأنعام : 76 ] . وقال أبو البقاء : « وهو شاذٌّ والمستعملُ أجنَّه » . وقد تقدَّم الكلامُ على هذه المادةِ في الأنعام . و « إذ يَغْشَى » منصوبٌ ب رآه . وقولُه : « ما يَغْشَى » كقولِه : { مَآ أوحى } [ النجم : 10 ] . اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(2) قال السَّمين :
قوله : { ضيزى } : قرأ ابنُ كثير « ضِئْزَى » بهمزةٍ ساكنةٍ ، والباقون بياءٍ مكانَها . وزيدُ علي « ضَيْزَى » بفتح الضادِ والياءِ الساكنة . فأمَّا قراءةُ العامَّةِ فيُحْتمل أَنْ تكونَ مِنْ ضازه يَضَيزه إذا ضامه وجارَ عليه . فمعنى ضِيْزَى أي : جائرة . قال الشاعر :
4132 ضازَتْ بنو أُسْدٍ بحُكْمِهِمُ . . . إذ يَجْعلون الرأسَ كالذَّنَبِ
وعلى هذا فتحتملُ وجهين ، أحدُهما : أَنْ تكونَ صفةً على فُعْلى بضم الفاءِ ، وإنما كُسِرت الفاءُ لتصِحَّ الياءُ كبِيْض . فإنْ قيل : وأيُّ فالجوابُ أن سيبويه حكى أنه لم يَرِدْ في الصفاتِ فِعْلَى بكسر الفاء إنما وَرَدَ بضمِّها نحو : حُبْلى وأُنْثى ورُبَّى وما أشبهه . إلاَّ أنه قد حَكى غيرُه في الصفات ذلك ، حكى ثعلب : « مِشْية حِيْكى » ، ورجلٌ كِيْصَى . وحكى غيرُه : أمرأةٌ عِزْهى ، وامرأة سِعْلى ، وهذا لا يُنْقَضُ لأن سيبويه يقول : حِيْكى وكِيْصى كقولِه في « ضيزَى » لتَصِحَّ الياءُ ، وأما عِزْهَى وسِعْلى فالمشهورُ فيهما : سِعْلاة وعِزْهاة.
والوجه الثاني : أَنْ تكونَ مصدراً كذِكْرى ، قال الكسائي : يقال : ضازَ يَضيز ضِيْزَى ، كذَكَر يَذْكُر ذِكْرى . ويُحتمل أَنْ يكونَ مِنْ ضَأَزَه بالهمز كقراءةِ ابن كثير ، إلاَّ أنه خُفِّفَ همزُها ، وإن لم يكنْ من أصولِ القُرَّاءِ كلِّهم إبدالُ مثلِ هذه الهمزةِ ياءً لكنها لغةٌ التُزِمَتْ فقرؤُوا بها ، ومعنى ضَأَزَه يَضْأَزُه بالهمز : نَقَصه ظُلماً وجَوْراً ، وهو قريبٌ من الأول . ومِمَّن جَوَّز أَنْ تكونَ الياءُ بدلاً مِنْ همزة أبو عبيد ، وأَنْ يكونَ أصلُها ضُوْزَى بالواوِ لأنه سُمِع ضازَه يَضُوْزُه ضُوْزى ، وضازه يَضِيْزُه ضِيْزى ، وضَأَزه يَضْأَزُه ضَأْزاً ، حكى ذلك كلَّه الكسائيُّ ، وحكى أبو عبيد ضِزْتُه وضُزْته بكسرِ الفاء وضمِّها . وكُسِرت الضادُ مِنْ ضُوْزَى لأنَّ الضمةَ ثقيلةٌ مع الواو ، وفعلوا ذلك ليَتَوَصَّلوا به إلى قَلْب الواوِ ياءً ، وأنشد الأخفش على لغةِ الهمز :
4133 فإن تَنْأَ عَنَّا نَنْتَقِصْك وإن تَغِبْ . . . فَسَهْمُكَ مَضْؤُوْزٌ وأَنْفُكَ راغِمُ
و « ضِئْزَى » في قراءةِ ابن كثير مصدرٌ وُصِفَ به ، ولا يكون وصفاً أصلياً لِما تقدَّم عن سيبويه . فإنْ قيل : لِم لا قيل في « ضِئْزى » بالكسر والهمز : إنَّ أصلَه ضُئْزَى بالضم فكُسِرَتِ الفاءُ كما قيل فيها مع الياء؟ فالجواب : أنه لا مُوْجِبَ هنا للتغيير؛ إذ الضمُّ مع الهمز لا يُسْتثقل استثقالَه مع الياء الساكنة ، وسُمع منهم « ضُوْزَى » بضم الضاد مع الواو أو الهمزة.
وأمَّا قراءةُ زيدٍ فَتَحْتمل أَنْ تكونَ مصدراً وُصِف به كدَعْوى ، وأَنْ تكونَ صفةً كسَكْرى وعَطْشَى.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5/73)


معنى جماعة ، لأن " كَمْ " سؤال عن عَدَدٍ وإخبار بِعَدَدٍ كثير ، لأن " رُبَّ " لِلْقِلَّةِ و " كم " للكثرة ، ومعنى شفاعتهم ههنا يفسرها قوله - عزَّ وجلَّ - : (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9).
فأعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ ، أنَّهُمْ لَا يَشْفَعُون إلَّا لمن - ارْتَضَى.
فهذا تأويل قوله (لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (27) وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28)
أي يقولون إن الملائكة بنات اللَّه عزَّ وجلَّ.
* * *
وقوله : (ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (30)
لأنه وَصَفَهُمْ بأنهم لا يريدونَ إلا الحياة الدنيا فقال : (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ).
إنّما يعلمون ما يحتاجون إليه في مَعَاشِهِم ، فقد نبذوا أمر الآخرة وراء
ظهورهم.
* * *
وقوله عزَّ وَجَلّ : (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32)
قيل إن اللمم نحو القُبلة والنظرة وما أشبه ذلك ، وقيل إلا اللمم إلَّا أن
يكون العبد قد ألمَّ بفاحشة ثم تاب.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ).
يدل هذا على أن اللمم هوَ أن يَكونَ الِإنْسانُ قد ألم بالمعصية ولم يُصِرّ
ولم يُقِمْ على ذلك ، وإنما الِإلْمَامُ في اللغة يوجب أنك تأتي الشيء الوقت ولا تقيم

(5/74)


عليه ، فهذا - واللَّه أعلم - معنى اللْمَم في هذا الموضع.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ - (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى (34)
معنى " أكدى " قطع ، وأصله من الحفر في البئر يقال للحافر إذا حَفَر البئر
فبلغ إلى حَجَرٍ لا يمكنه معه الحفر : قد بلغ إلى الكدية ، فعند ذلك يقطع
الحفر.
* * *
وقوله : (أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (35)
معناه فهو يعلم والرؤية على ضربين :
أحَدُهُمَا " رَأيتُ " أبصَرتُ والآخر عَلِمْتُ ، كما تقول : رأيت زيداً أخاكَ وَصَدِيقَكَ مَعْنَاهُ عَلِمْتُ.
ألا تَرَى أن المَكفُوفَ يقول : رأيت زيداً عَاقِلًا ، فلو كان من رؤية العَيْنِ لم يجز.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37)
أي قضى ، يقال إن إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - وَفَّى مَا أمِرَ به ، وما امْتحِنَ به من ذبح وَلدِه ، فعزم على ذلك حتى فداه اللَّه بالذبح وامْتُحِن بالصبر على عداوة قومه حين أُجِّجَتْ له النار فطُرِحَ فيها ، وَأمِرَ أيضاً - بالاختَتانِ فاختتن ، وقيل وفَّى وهي أبلغ من وَفَى لأن الذي امتُحِنَ به من أعظم المِحَنِ.
ومعنى (أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَهِيمَ)
أي أم لم يخبر ، ثم أعلم ما في الصحف.
* * *
ومَوْضعُ (أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38)
خَفْضٌ ، . المعنى أم لم يُنَبأ بأن لا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى.
وَ " أنْ " ههنا بدل من (ما) ويجوز أن تكون " أنْ " في مَوْضع رَفْع على
إضمار " هو " كَأنهُ لما قِيلَ : بما في صحف موسى قيل : مَا هوَ ؛ قيل هو
(أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى).
ومعناه ولا تؤخذ نفس بإثم غيرها.
وكذلك قوله : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)

(5/75)


أي هذا أيضاً مما في صحف إبراهيم وموسى عليهما السلام.
وَمَعْنَاه : ليس للِإنسان إلَّا جزاء سعيه ، إن عَمِلَ خيراً جزِيَ خيراً.
وإن عَمِل شرًّا جزِيَ شرَّا . .
وتزر من وَزَرَ يَزِز إذَا كسبَ وِزْرَاً وهو الِإثم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40)
إن قَالَ قَائِلٌ : إن الله عزَّ وجلَّ يَرَى عَمَلَ كل عَامِلٍ ويعلمه ، فما معنى
(سَوْفَ يُرَى) ؟
فالمعنى أنه يرى العَبْدُ سَعْيَة يوم القيامَةِ ، أي يرى في مِيزَانه
عَمَلَه.
* * *
(ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41)
أي يجزي عمله أوفى جزاء . وجائز أن تقرأ سَوْفَ يَرى ، والأجْوَدُ يُرَى.
لأن قولك إنَّ زيداً سوف أكرم ، فيه ضَعْفٌ لأن إنَّ عاملة وأكرم عاملة ، فلا
يجوز أن ينتصب الاسم من وجْهَيْن ، ولكن يجوز على إضمار الهاء ، على
معنى سوف يراهُ ، أو على إضمار الهاء في " أن " تقول : إن زيداً سَأكْرِمُ ، على أنه زيد سأكرم.
* * *
ْوقوله تعالى : (وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42)
أي إليه المرجع ، وهذا كله في صحف إبراهيم ومُوسَى.
* * *
(وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (48)
قيل في (أَقْنَى) قولان :
أحدهما (أَقْنَى) هو أرضَى.
والآخر (أَقْنَى) جعل له قِنْيَةً ، أي جعل الغنى أصْلاً لِصَاحِبِه ثَابتاً.
ومن هذا قولك : قد أقْتَنَيت كذا وكذْا.
أي عملت على أنه يكون عِنْدِي لا أخرجه مِنْ يَدِي.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (49)

(5/76)


الشعرى كوكب خَلْفَ الجوزاء ، وهو أحد كوكبي ذِرَاع الأسَد ، وكان قوم
من العرب يعبدون الشعرى ، فأعلم اللَّه - جلَّ وعزَّ - أنه رَبُّها وأنه خَالِقُهَا ، وهوَ المَعْبُود - عزَّ وجلَّ (1).
* * *
(وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى (50)
هؤلاء هم قوم هودٍ ، وهم أُولَى عَادٍ.
فأما الأولى ففيها ثلاثِ لُغاتٍ :
بسكون اللام وإثْباتِ الهَمْزَةِ ، وهي أجْوَد اللغَاتِ والتي تَليها في الجَوْدَةِ
" الأولى " - بضم اللام وطرح الهَمْزَةِ ، وكان يجب في القياس إذا تحركت اللام أن تسقطَ ألف الوَصْلِ ، لأن ألِفَ الوَصْلِ اجْتُلِبَتْ لسكون اللام ، ولكن جاز ثُبُوتهَا لأن ألف لَامِ المَعْرِفَةِ لا تسقط مع ألف الاستفهام " ، فخالفت ألفات الوَصْلِ.
ومن العرب من يقول : لُولي - يريد الأولى - فطرح الهمزة لتحرك
اللام.
وَقَدْ قُرِئ (عاداً لُّوْلى). على هذه اللغَةِ ، وأُدغِمَ التنوين في اللام.
والأكثرْ عاداً الأولى بكسر التنوين (2).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51)
ثمود نسق على عادٍ ، ولا يجوز أن ينصب بقوله (فَمَا أَبْقَى) لأنَّ مَا بَعْدَ
الفاء لا يعمل فيما قبلها ، لا تقول : زيداً فضربت.
فكيف وَقَدْ أتت " ما " بعد الفاء.
وأكثر النحويين لا ينصب ما قبل الفاء بما بعدها.
والمعنى وأهلك ثمود فما أبقاهم.
* * *
(وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53)
المؤتفكة المخسوفُ بهَا ، أي ائتفكت بأهلها ، ومعنى أهوى ، أي رُفِعَتْ
حِينَْ خُسِفَ بهم إلى نحو السماء حتى سمع من في السماء أصوات أهل مدينة
قوم لوط ثم أهويت أي ألقِيَتْ في الهاوية.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { رَبُّ الشعرى } : الشِّعْرى في لسان العرب كوكبان يُسَمَّى أحدُهما : الشِّعْرى العَبُور ، وهو المرادُ في الآيةِ الكريمةِ فإنَّ خُزاعةَ كانت تَعْبُدها ، وسَنَّ عبادتَها أبو كبشةَ رجلٌ مِنْ ساداتِهم ، وكانت قريشٌ تقولُ لرسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم : أبو كبشَة تشبيهاً بذلك الرجل ، في أنه أَحْدَثَ ديناً غيرَ دينهم . والشِّعْرى العَبُور تَطْلُعُ بعد الجوزاءِ في شدَّةِ الحرِّ ، ويُقال لها : مِرْزَمُ الجَوْزاء ويُسَمَّى كلبَ الجبَّار . والثاني : / الشِّعْرَى الغُمَيْصاء ، وهي التي في الذِّراع . وسبب تَسْميتها بذلك ما زَعَمَتْه العربُ : مِنْ أنَّهما كانا أخْتَيْن أو زوجَيْن لسُهَيْل ، فانحدر سهيلٌ إلى اليمنِ ، فاتَّبَعْته الشِّعْرى العَبُوْر فعبَرَتْ المَجَرَّة فسُمِّيَتِ العَبورَ ، وأقامَتِ الغُمَيْصاءُ ، وبَكَتْ لفَقْدِه حتى غَمَصَتْ عَيْنُها ، ولذلك كانت أَخْفَى من العَبُوْر . اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(2) قال السَّمين :
قوله : { عَاداً الأولى } : اعلَمْ أنَّ هذه الآيةَ الكريمةَ مِنْ أشكلِ الآياتِ نَقْلاً وتوجيهاً ، وقد يَسَّر اللَّهُ تعالى تحريرَ ذلك كلِّه بحولِه وقوتِه فأقول : إنَّ القرَّاءَ اختلفوا في ذلك على أربعِ رُتَبٍ ، إحداها : قرأ ابن كثير وابن عامر والكوفيون « عادَاً الأُولى » بالتنوين مكسوراً وسكونِ اللام وتحقيقِ الهمزةِ بعدها ، هذا كلُّه في الوصلِ فإذا وقفوا على « عاداً » وابتدؤوا ب « الأُوْلى » فقياسُهم أَنْ يقولوا « الأولى » بهمزةِ الوصلِ وسكونِ اللامِ وتحقيقِ الهمزة.
الثانيةُ : قرأ قالون « عاداً لُّؤْلَى » بإدغامِ التنوين في اللامِ ، ونَقْلِ حركةِ الهمزةِ إلى لام التعريفِ ، وهمزِ الواوِ ، هذا في الوصل . وأمَّا في الابتداءِ بالأولى فله ثلاثةُ أوجهٍ ، الأولُ : « الُّؤْلَى » بهمزةِ وصل ، ثم بلامٍ مضمومة ، ثم بهمزةٍ ساكنة . الثاني : « لُؤْلَى » بلامٍ مضمومةٍ ثم بهمزةٍ ساكنةٍ . الثالث : كابتداءِ ابنِ كثير ومَنْ معه.
الثالثة : قرأ ورش « عاداً لُّوْلى » بإدغامِ التنوين في اللام ونَقْلِ حركةِ الهمزةِ إليها كقالون ، إلاَّ أنه أبقى الواوَ على حالِها غيرَ مبدلةٍ همزةً هذا في الوصل . وأمَّا في الابتداءِ بها فله وجهان : « ألُّوْلَى » بالهمزةِ والنقلِ ، و « لُوْلَى » بالنقلِ دونَ همزِ وصلٍ ، والواوُ ساكنةٌ على حالِها في هذَيْن الوجهَيْن.
الرابعة : قرأ أبو عمروٍ كوَرْشٍ وَصْلاً وابتداءً سواءً بسواءٍ ، إلاَّ أنه يزيدُ عليه في الابتداءِ بوجهٍ ثالثٍ ، وهو وجهُ ابنِ كثير ومَنْ ذُكِرَ معه ، فقد تحصَّل أنَّ لكلّ مِنْ قالون وأبي عمرو في الابتداء ثلاثةَ أوجهٍ ، وأنَّ لورشٍ وجهين . فتأمَّلْ ذلك فإنَّ تحريرَه صعبُ المأخذِ من كتب القراءات هذا ما يتعلَّقُ بالقراءات.
وأمَّا توجيهُها فيُوقف على معرفةِ ثلاثةِ أصولٍ ، الأول : حكمُ التنوينِ إذا وقع بعدَه ساكنٌ . الثاني : حكمُ حركةِ النقلِ . الثالث : أصلُ « أُوْلَى » ما هو؟ إمَّا الأولُ فحكمُ التنوينِ الملاقي أنْ يُكْسَرَ لالتقاءِ الساكنين نحو : { قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ } [ الإِخلاص : 1 ] أو يُحْذَفَ تشبيهاً بحرفِ العلةِ كقراءةِ { أَحَدٌ الله الصمد } ، وكقولِ الشاعر :
4140 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ولا ذاكرَ اللَّهَ إلاَّ قليلاً
وهو قليلٌ جداً ، وقد مضى تحقيقُه . وأمَّا الثاني فإنَّ للعرب في الحركة المنقولةِ مذهبين : الاعتدادَ بالحركةِ ، وعدمَ الاعتدادِ بها ، وهي اللغةُ العالية . وأمَّا الثالثُ فأُوْلَى تأنيثُ أَوَّل ، وقد تقدَّم الخلافُ في أصلِه مستوفى في أولِ هذا التصنيفِ فعليك باعتبارِه . إذا تقرَّرَتْ هذه الأصولُ الثلاثةُ فأقولُ :
أمَّا قراءةُ ابنِ كثير ومَنْ معه فإنهم صرفوا « عاداً » : إمَّا لأنه اسمٌ للحيِّ أو الأبِ فليس فيه ما يمنعُه ، وإمَّا لأنَّه كان مؤنثاً اسماً للقبيلةِ أو الأمِّ ، إلاَّ أنَّه مثلُ هِنْد ودَعْد فيجوزُ فيه الصرفُ وعدمُه فيكونُ كقوله :
4141 لم تَتَلَفَّعْ بفَضْلِ مِئْزَرِها . . . دَعْدٌ ولم تُسْقَ دعدُ في العُلَب
فصرفَها أولاً ومَنَعَها ثانياً ، ولَم يَنْقُلوا حركةَ الهمزةِ إلى لام التعريف فالتقى ساكنان ، فكسروا التنوينَ لالتقائِهما على ما هو المعروفُ من اللغتين وحذفوا همزةَ الوصلِ من « الأُوْلى » للاستغناءِ عنها بحركة التنوين وَصْلاً فإذا ابتدَؤوا بها احتاجُوا إلى همزة الوصل فأَتَوْا بها فقالوا : الأُوْلى كنظيرِها/ من هَمَزاتِ الوصلِ . وهذه قراءة واضحة لا إشكال فيها ومن ثم اختارها الجَمُّ الغَفيرُ.
وأمَّا قراءة مَنْ أدغم التنوينَ في لامِ التعريفِ وهما نافعٌ وأبو عمرو مع اختلافِهما في أشياءَ كما تقدَّم بيانُه فوجْهُه الاعتدادُ بحركةِ النقل؛ وذلك أنَّ مِنَ العربِ مَنْ إذا نَقَل حركة الهمزةِ إلى ساكنٍ قبلَها كلامِ التعريفِ عامَلَها معاملَتَها ساكنةً ، ولا يَعْتَدُّ بحركةِ النقلِ ، فيكسرُ الساكَنَ الواقعَ قبلَها ، ولا يُدْغِم فيها التنوينَ ، ويأتي قبلها بهمزةِ الوصلِ فيقول : لم يَذْهَبِ لَحْمَرُ ، ورأيت زياداً لَعْجَم ، من غيرِ إدغام التنوينِ ، والَحْمَرُ والَعْجَمُ بهمزة الوصلِ لأن اللامَ في حكمِ السكونِ ، وهذه هي اللغةُ المشهورة . ومنهم مَنْ يَعْتَدُّ بها ، فلا يكسِر الساكنَ الأولَ ، ولا يأتي بهمزةِ الوصلِ ، ويُدْغم التنوين في لام التعريف فيقولُ : لم يَذْهَبْ لَحْمر بسكون الباء ، ولَحْمَرُ ولَعْجَمُ من غيرِ همزٍ ، وزيادُ لّعجم بتشديدِ اللامِ ، وعلى هذه اللغةِ جاءَتْ هذه القراءةُ ، هذا من حيث الإِجمال.
وأمَّا من حيث التفصيلُ فأقول : أمَّا قالون فإنه نَقَلَ حركة الهمزةِ إلى لام التعريف ، وإنْ لم يكنْ من أصلِه النقلُ لأجل قَصْدِه التخفيفَ بالإِدغام ، ولَمَّا نقل الحركةَ اعْتَدَّ بها ، إذ لا يمكن الإِدغامُ في ساكنٍ ولا ما هو في حُكْمِه.
وأمَّا همزُه الواوُ ففيه وجهان منقولان ، أحدُهما : أَنْ تكونَ أُوْلى أصلُها عنده وُؤْلَى مِنْ وَأَل أي : نجا ، كما هو قولُ الكوفيين ، ثم أَبْدَلَ الواوَ همزةً لأنها واوٌ مضمومةٌ ، وقد تقدَّم لك أنها لغةٌ مطردةٌ ، فاجتمع همزتان ثانيتُهما ساكنةٌ فَوَجَبَ قلبُها واواً نحو : « أُوْمِنُ » ، فلمَّا حُذِفَتْ الهمزةُ الأولى بسببِ نَقْلِ حركتِها رَجَعَتْ الثانيةُ إلى أصلِها من الهمزةِ لأنَّها إنما قُلِبت واواً من أجلِ الأُولى ، وقد زالَتْ ، وهذا كما رأيتَ تكلُّفٌ لا دليلَ عليه . والثاني : أنَّه لَمَّا نَقَلَ الحركةَ إلى اللامِ صارَت الضمةُ قبل الواوِ كأنَّها عليها ، لأنَّ حركةَ الحرفِ بين يديه ، فأبدل الواوَ همزةً كقولِه :
4142 أَحَبُّ المُؤْقِدِيْنَ إليَّ موسى . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وكقراءةِ « يُؤْقنون » وهمزِ « السُّؤْقِ » و « سُؤْقِه » وقد تقدَّم تحريرُ ذلك ، وهذا بناءً منه على الاعتدادِ بالحركةِ أيضاً . وليس في هذا الوجهِ دليلٌ على أصلِ « أُوْلى » عنده ما هو؟ فيُحتمل الخلافُ المذكورُ جميعُه . وأمَّا ابتداؤُه الكلمةَ من غير نَقْلٍ فإنه الأصلُ ، ولأنه إنما نَقَلَ في الوصلِ لقَصْدِه التخفيفَ بالإِدغام ، ولا إدغامَ في الابتداءِ فلا حاجةَ إلى النقلِ . وأمَّا الابتداءُ له بالنقلِ فلأنه محمولٌ على الوصل ليجريَ اللفظُ فيهما على سَنَنٍ واحدٍ.
وعلةُ إثباتِ ألفِ الوصلِ مع النقلِ في أحدِ الوجهَينِ : تَرْكُ الاعتدادِ بحركةِ اللامِ على ما عليه القراءةُ في نظائرِه ممَّا وُجِدَ فيه النقلُ؛ إذ الغَرَضُ إنما هو جَرْيُ اللفظِ في الابتداءِ والوصلِ على سَنَنٍ واحدٍ ، وذلك يَحْصُل بمجرد النقلِ وإنْ اختلفا في تقديرِ الاعتدادِ بالحركةِ وتركِه . وعلةُ تَرْكِ الإِتيانِ بالألفِ في الوجهِ الثاني حَمْلُ الابتداءِ على الوصلِ في النقلِ والاعتدادِ بالحركةِ جميعاً . ويُقَوِّي هذا الوجهَ رسمُ « الأولى » في هذا الموضع بغيرِ ألفٍ . والكلامُ في همز الواوِ مع النقل في الابتداءِ كالكلامِ عليه في الوَصْل كما تقدَّم.
وأمَّا ورشٌ فإنَّ أصلَه أن ينقلَ حركةَ الهمزةِ على اللام في الوصلِ فنقل على أصلِه ، إلاَّ أنه اعتدَّ بالحركةِ ليصِحَّ ما قَصَدَه في التخفيفِ بالإِدغامِ ، وليس من أصله الاعتدادُ بالحركة في نحو ذلك . ألا ترى أنه يَحْذِفُ الألفَ في { سِيَرتَهَا الأولى } [ طه : 21 ] و { وَيَتَجَنَّبُهَا الأشقى } [ الأعلى : 11 ] ولو اعْتَدَّ بالحركةِ لم يَحْذِفْها . وأمَّا ما جاء عنه في بعضِ الرواياتِ : { قَالُواْ لآنَ جِئْتَ بالحق } [ البقرة : 71 ] فإنه وجهٌ نادرٌ مُعَلَّلٌ باتِّباعِ الأثرِ والجَمْعِ بين اللغتين . والابتداءُ له بالنَّقْلِ على أصلِه في ذلك أيضاً ، والابتداءُ له بألفِ الوصلِ على تَرْكِ الاعتدادِ بالحركةٍِ ، إذْ لا حاجةَ إلى قَصْد ذلك في/ الابتداءِ ، وتَرْكِ الإِتْيانِ له بالألف على الاعتدادِ له بالحركة حَمْلاً للابتداءِ على الوصل وموافقةَ الرسمِ أيضاً ، لا يُبْتَدأ له بالأصل ، إذ ليس مِنْ أصلِه ذلك ، و « الأُوْلَى » في قراءتِه تَحْتَمل الخلافَ المذكورَ في أصلِها.
وأمَّا أبو عمروٍ فالعلةُ له في قراءتِه في الوصلِ والابتداءِ كالعلةِ المتقدمةِ لقالون ، إلاَّ أنَّه يُخالفه في همزِ الواو لأنه لم يُعْطِها حكمَ ما جاوَرَها ، وليسَتْ عنده مِنْ وَأل بل مِنْ غيرِ هذا الوجهِ ، كما تقدَّم لكَ الخلافُ فيه أولَ هذا الموضوع ، ويجوز أَنْ يكونَ أصلُها عندَه مِنْ وَأَل أيضاً إلاَّ أنه أَبْدَلَ في حالِ النقلِ مبالغةً في التخفيف ، أو موافَقَةً لحالِ تَرْكِ النَّقلِ ، وقد عاب هذه القراءةَ أعني قراءةَ الإِدغامِ أبو عثمانَ ، وأبو العباس ، ذهاباً منهما إلى أنَّ اللغةَ الفَصيحة عدمُ الاعتدادِ بالعارِضِ ، ولكن لا التفاتَ إلى رَدِّهما لثبوتِ ذلك لغةً وقراءةً ، وإن كان غيرُها أَفْصَحَ منها . وقد ثَبَتَ عن العرب أنَّهم يقولون : الَحْمَر ولَحْمَر بهمزةِ الوصلِ وعَدَمِها مع النقل ، واللَّهُ أعلمُ.
وقرأ أُبَيٌّ وهي في حَرْفِه « عادَ الأُولى » ، غيرَ مصروفٍ ذهاباً إلى القبيلةِ أو الأمِّ كما تقدَّم ، ففيه العلَمِيَّةُ والتأنيثُ ، ويَدُلُّ على التأنيثِ قولُه : « الأُوْلَى » فوصَفَها بوَصْفِ المؤنث . اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5/77)


(فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54)
معناه فغشاها اللَّه - عزَّ وجلَّ - من العذاب ما غَشَّى.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : ( فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (55)
هذا - واللَّه أعلم - خطاب للِإنسانِ . لما عدَّدَ عليه مما فعله الله به ، مما
يدل على وحدانيته.
كان المعنى أيها الإنسان فبأيِّ نِعم ربِّك التي تدُلُّك على أنه واحدٌ تتشكَّك؟ ، لأن [المراد به الشَكُّ].
* * *
وقوله : (هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى (56)
أي النبي - صلى الله عليه وسلم - مجراه في الِإنذار مجرى مَنْ تَقَدَّمَة من الأنبياء ، صلوات اللَّه عَلَيْهم ، وجائز أن يكون في معنى هذا إنذار لكم ، كما أنذر من قبلكم وقد أعلمتم بما قص الله عليكم من حال من كذب بالرُسُلِ ، وما وقع بهم من الإهلاك.
* * *
وقوله : (أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57)
معناه قربَ القريبة ، تقول : قد أزف الشيء إذا قرب ودنا ، وهذا مثل
(اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ).
* * *
ومعنى (لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ (58)
معناه لا يكشف علمها متى تكون أحَدٌ إلا الله عزَّ وجلَّ ، كما قال -
- عزَّ وجلَّ - (لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ).
* * *
(أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59)
أي مما يتلى عليكم من كتاب اللَّه ، (تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61).
تفسيره : لاهون .

(5/78)


وقوله : (فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62)
معناه فاسجدوا للَّهِ الذي خلق ا لسماوات والأرَضِين ، ولا تعبدوا اللَّاتَ
والعُزى ومناة الثالثة الأخرى ، والشِّعْرَى ، لأنه قَدْ جرى ذكر معبوداتهم في
هذه السورة .

(5/79)


سُورَةُ القَمَر
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1)
أجمع المفسرون ، - ورَوينا عن أهل العلم الموثوق بهم - أن القمر انشق
على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
قال أبو إسحاق : وزعم قوم عَندُوا عَنِ القَصْدِ وما عليه أهل العلم : أنَّ تاوِيله أن القمر ينشق يوم القيامة ، والأمر بين في اللفظ وإجْماعِ أهلِ العلم لأن قوله : (وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2)
فكيف يكون هذا في القيامَةِ.
قال أبو إسحاق : وجميع ما أملم عليكم في هذا ما حَدثني به إسماعيل
ابن إسحاق قال حَدثَنَا محمد بن المنهال ، قال حَدثنا يزيد بن زرَيْع قال ثَنَا
شعْبةَ عن قَتَادة - عن أنس أن أهل مكة سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - آية فَأراهم القَمَرَ مَرتَيْنِ انشقاقَه ، وكان يذكر هذا الحديث عند هذه الآية : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ).
حدثنا إسماعيل بن إسحاق قال ثنا مسَددد ، قال ثنا يحيى عن شعبة عن
قتادة عن أَنَسٍ قال : انشق القمر فرقين .

(5/81)


ثنا نصر بن علي قال ثنا حرمي بن عمارة ، قال ثنا شعبة عن قتادة عَنْ
أنس بن مالك قال : انشق القمر على عهد رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -.
حدثنا إسماعيل قال ثنا محمد بن عيد قال ثنا محمد بن ثور عن معمر
عن قتادة عَن أنَس قال : سأل أهل مكة النبي - صلى الله عليه وسلم - آية فانشق القمر بمكة مرتين ، فقال : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2).
يعني ذَاهِبٌ.
ثنا إسماعيل قال ثنا نصر قال ثنا أبو أحمد قال ثنا إسرائيل عن سماك
عن إبراهيم عن الأسود عن عبد اللَّه قال : انشق القَمَرُ فأبصرت الجبل بين
فرجتي القَمَر.
ثنا إسماعيل قال ثنا نصر قال حدثَنِي أبي قال أخبرنا إسرائيل عن سماك
عن إبراهيم عن الأسود عن عبد اللَّه في قوله :
(اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ)
قال : انشق القمر حتى رأيت الجبل بين فلقتي القَمَر.
ثنا إسماعيل قال ثنا محمد بن عبداللَّه بن نمير قال ثنا أبو مُعاويَةَ قال ثنا
الأعمش عن إبراهيم عن أبي معمر عن عبد اللَّه قال : انشق القمر ونحن مع
النبي - صلى الله عليه وسلم - بمعنى حتى ذهبت فرقة منه خلف الجبل فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، اشْهَدُوا.
ثنا إسماعيل قال ثنا مسدد قال ثنا يحيى عن شعبةَ وسفيانٍ عن الأعْمش
وعن إبراهيم عن أبي مَعْمَر عن أبي مسعود قال : انشق القمر على عهد
النبي - صلى الله عليه وسلم - فرقتين فرقة فوق الجبل وفرقة دونه.
فقال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - اشهدوا
ثنا إسماعيل قال ثنا مسعود قال ثنا يحيى عن شعبة عن الأعمش عن
مجاهدٍ عن ابن عمر مثله.
ثنا إسماعيل قال ثنا علي بن عبد اللَّه قال ثنا سفيان قال أخبرنا ابن أبي
نجيح عن مجاهد عن ابن أبي معمر عن عبد اللَّه : انشق القمر على عهد

(5/82)


رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شقتين ، فقال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اشهدوا اشهدوا.
ثنا إسماعيل قال قال علي وحدثنا به مَرةً أخرى عن ابن أبي نجيح عن
مجاهِدٍ عن أبي معمر عن عبد الله بن مسعود : انشق القمر شقتين حتى رأيناه.
فقال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اشْهَدُوا.
ثنا إسماعيل قال ثنا محمد بن أبي بكر قال ثنا محمد بن كثير عن
سليمان يعني ابن كثير عن حصين عن محمد بن جبير عن أبيه ، قال : انشق
القمر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرقتين على هذا الجبل وعلى هذا الجبل فقال الناس : سحرنا محمدٌ ، فقال رجل : إنْ سَحَركم فلم يسحر الناسَ كُلَّهُمْ.
وحدثنا إسماعيل قال ثنا محمد بن أبي بكر قال ثنا زهير بن إسحاق عن
دَاودَ عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال : ثلاث قد ذكرهن الله في
القرآن قد تقضين : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ).
فقد انشق القمر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شقتين حتى رآه الناس.
ثنا إسماعيل قال ثنا نصر بن علي قال ثنا عبد الأعلى قال ثنا داود بن
أبي هِنْدٍ عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله
(اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ).
قال : قد مضى قبل الهجرة وانشق القمر حتى - رأوا شقتيه.
حدثنا إسماعيل قال ثنا علي بن عبد الله قال : ثنا سفيان قال قال عمرو
عن عكرمة قال انشق القمر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال المشركون سَحَرَ القمَر سَحَر القمَرَ ، فأنزل اللَّه - عزَّ وجلَّ - : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2).
ْحدثنا إسماعيل قال ثنا محمد بن أبيْ بكرقال ثنا الضحاك بن مخلد عن
ابن جريج عن عمروٍ عن عكرمة : انشق القَمَرُ على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال

(5/83)


المشركون : سَحَرَ القَمَرَ ، سَحَرَ القَمَرَ ، فنزلت : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2).
حدثنا إسماعيل قال ثنا عَارِمُ بْنُ الْفَضْلِ وسليمان بن حرب قالا : ثنا
حماد ابن زيد عن عكرمة عن عطار بن السائب عن أبي عبد الرحمن السُّلَّمِي
قال : انطلقت مع أبي يوم الجمعة فخطبنا حذيفة - وقال سليمان في حديثه :
فخطب حذَيْفَةُ وهو بالمدائن فتلا : ((اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) ، ثم قال : ألا إن الساعة قد اقتربت وإن القمر قد انشق ، إلا وإن المضمار اليوم والسباق غدا ، قال سليمان في حديثه : فقلت لأبي يا أبتاه ترسل الخيل غداً وقال عارم في حديثه : فقلت لأبي يستبق الناس غداً ، فلما كانت الجمعة التي تليها خطبنا فتلا : ((اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) ، فقال : ألا اُن الساعة قد اقتربت وإن القمر قد انشقَّ على عهد نبيكم - صلى الله عليه وسلم - ألا وإن المضمار اليوم والسباق غداً ، والغاية النار والسابق من سبق إلى الجَنَّةِ.
حدثنا إسماعيل قال : ثنا حجاج بن المنهال قال : حدثنا حماد بن سلمة
عن عطاء بن السائب عن عبد اللَّه بن حبيب ، قال : كنا بالمدائن فجئنا إلى
الجمعة فخطبنا حذيفة فحمد اللَّه وأثنى عليه ثم قال : أما بعد فإن الله تبارك
وتعالى يقول : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) ، ألا إِنَّ اليَوْمَ المضمار وغداً
السباق ، ألا وَإن الغاية النَّارُ ، فلما كانت الجمعة الأخرى خطبنا فحمد اللَّه
وأثنى عليه قال فقال مثل قوله ، وقال : السابق من سبق إلى الجنة.
ثنا إسماعيل ثنا علي قال ثنا سُفْيَانُ عن سليمان ، وقَطَرٍ عن مسلم عن
مسروق عن عبد الله قال : مضى اللزام ومضت البطشة ومضى الدخان ومضى الروم -
حدثنا إسماعيل قال ثنا عبد الله بن إسماعيل عن عبد الرحمن بن زيد

(5/84)


ابن أسلم في قول اللَّه عزَّ وجلَّ : ((اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ)
قال ابن زيد :
انشق القمرُ في زمان رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فكان يرى نصفه على قُعَيْقِعَانَ والنصف الآخر على أبي قيس.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2)
أي ذاهب وقيل دائم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3)
تأويله أنه يستقر لأهل النار عملهم ولأهل الجنة عملهم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ َ : (وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4)
يعنى من أخبار من قد سلف ، قبلهم فأهلكوا بتكذيبهم ما فيه مُزْدَجَر ، أي
ما فيه مُنْتَهَى ، تقول : نهيتُه فانتهى وزجرته فازدجر.
والأصل فازتجر بالتاء ، ولكن التاء إذا وقعت بعد زَايٍ أبدلت دَالًا نحو مُزْدَان أصله مزْتَان ، وكذلك مزتجر.
وإنما أبدلت دالًا لأن التاء حرف مهموس والزاي حرف مجهورٌ فأبْدِلَ من التاء
من مكانها حرف مجهورٌ ، وهو دال ، فهذا لَا يفهمه إلا من أحكم كل
العربية ، وهذا في آخر كتاب سيبويه ، والذي ينبغي أن يقال للمتعلم إذا بنيت افتعل أو مفتعل مِما أوله زاي فاقلب التاء دَالاً ، نحو ازدجر ومزدجر.
* * *
وقال عزَّ وجلَّ : (حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5)
رُفِعَتْ (حِكمَةٌ) بدلاً من " ما ".
المعنى ولقد جاءهم حكمة بالغة.
وإن شئت رفعت حكمة بإضمار (هو) المعني هو حكمة بالغة.
وقوله : (فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ).
" ما " جائز أن يكون في لفظ الاستفهام ، ومعناها التوبيخ ، فيكون المعنى
فأي شيء تُغْنِي النُّذُرُ ، ويكون موضعها نصباً بـ (تُغْنِ).
ويجوز أن يكون نفياً على معنى فليست تغني النذر .

(5/85)


وقوله : (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (6)
وقف التمام (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ).
وقوله (إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ) إلى ما كانوا يَنْكِرونَهُ من البعث ، فتول عنهم يوم كذا في الآية.
و (يَوْمَ) منصوب بقوله (يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ).
فأمَّا حذفُ الواو من (يدعُو) في الكتاب فلأنها تحذف في اللفظ
لالتقاء السَّاكنين ، وهما الواو من (يدعُو) واللام من (الداعِي) ، فأجريت في الكتاب على ما يلفظ بها ، وأما الداعي فإثبات الياء فيه أجْوَدُ.
وقد يجوز حذفها لأن - الكسرة تدل عليها.
* * *
وقوله عزَّ وجلََّّ : (خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7)
منصوب على الحال.
المعنى يخرجون من الأجداث خشَعاً أبصارهم.
وقرئت (خَاشِعاً أبْصَارهُم).
وقرأ ابن مسعود (خَاشِعةً أبصارُهم).
ولك في أسماء الفاعلين إذا تقدمت على الجماعة التوحيد نحو خاشعاً أبصارهم ، ولك التوحيد والتأنيث - لتأنيث الجماعة - خاشعة أبصارهم.
ولك الجمع نحو خُشَعاً أبْصَارُهم.
تقول : مررتُ بشبَّانٍ حَسَنٍ أوجههم ، وحِسَانٍ أوْجُهُهُمْ ، وحَسَنَةٍ أوجههم ، قال الشاعر :
وشَبابٍ حَسَنٍ أَوْجُهُهُمْ . . . مِنْ إِياد بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعَدّ
* * *
- وقوله عزَّ وجلَّ : (مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8)
مَنْصُوبٌ أيضاً على - الحال.
المعنى يخرجون خُشَعاً أبصارُهُم مهطعين.
ومعنى (مُهْطِعِينَ) ناظِرين لا يقلعون أبْصَارُهم.
* * *
وقوله : (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9)
أي كذبتِ قوم نُوحٍ نُوحاً قبل قومك يا مُحمدُ.
* * *
(وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ).
وقالوا هو مجنون كما قال قومك يا محمد لك - صلى الله عليه وسلم - وعليهم أجمعين

(5/86)


وازدُجِر ، زُجِرَ بالشَتْمِ.
وقد بيَّنَّا ما في مزدجر في انقلاب التاء دَالاً وأصل هذا
وازتجر.
* * *
وقوله : (فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10)
والقراءة (أَنِّي) بفتح الألف وقرأ عيسى بن عمر النحوي (إِنِّي) - بكسر
الألف - وفسر سيبويه (إِنِّي) بالكسر فقال على إرادة القول
على معنى فَدَعَا رَبَّهُ فقال إِنِّي مَغْلُوبٌ.
قال : ومثله : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى).
المعنى ، قالوا ما نعبدهم إلا لقربونا.
ومن فتح - وهو الوجه - فالمعنى دَعَا رَبَّهُ بأَنِّي مَغْلُوبٌ.
* * *
وقوله : (فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11)
المعنى فأجبنا دعاءه فنصرناه ، وبيَّن النَصْرَ الذي نصر به فقال : (فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ).
ينصبُّ انصباباً شديداً.
* * *
(وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12)
هذا أكثر القراءة (عُيُونًا) بِالضم.
وقد رويت (عِيُوناً) - بكسر العين - وهي رديئة في العربية.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ).
يعني ماء السماء والأرض ولم يقل فالتقى الماءان ، ولو كان ذلك لكان
جائزاً ، إلا أن الماء اسم يجمع مَاء الأرض وماءَ السماء.
ومعنى (عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) أي قدْ قُدِرَ في اللوح المحفوظ.
وقيلَ قَدْ قُدِرَ أي كان قدر ماء السماء كقدر ماء الأرض.
* * *
(وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13)
المعنى على سفينة ذات ألواح.
والدُّسُر اسم المسامير والشُّرُط التي

(5/87)


تُشَدِّ بها الألواح ، وكل شيء نحو السَّمْر أو إدخال شيء في شيءٍ بقوَّة وشِدة قَهر فهو دَسْر ، يقال : دَسَرْتُ المسمار أدْسُرُه وأَدْسِرُه.
والدُّسُر : واحدها دِسار ، نحو حِمار ، وحُمُر.
* * *
وقوله : (تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14)
أي فعلنا ذلك جزاء لنوح وأصحابه ، أي - نجيناه ومن آمن مَعَهُ ، وأغرقنا
من كذَّبَ به جزاء لِماصُنِعَ بِهِ.
* * *
وقوله : (تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا)
أي تجري بمرأى مِنَا وحفظ.
* * *
قوله عَزَ وَجَلَّ : (وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15)
أي تركنا هذه الفَعْلَة وأمر سفينة نُوحٍ ، آيَةً أي علامَةً لِيُعْتَبَرَ بها.
(فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ).
القراءة بالدال غير المعجمة ، وأصله مُذْتَكِر بالذال والتاء ، ولكن التاء
أبدل منها الدال ، والذال من موضع التاء ، وهي أشبه بالدال من التاء فأدغمت الذال في الدالِ ، فهذا هو الوجه ، أعني القراءة بالدال - غير معجمة -
وقد قال بعض العرَبِ (مُذَّكِر) بالذال معجمةً ، فأدغم الثاني في الأول وهذا ليس بالوجه إنما الوجه إدغام الأول في الثاني.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)
المعنى سَهَّلْنَا ، وَقِيل : إنَّ كُتبَ أهل الأديانَ نحو التوراة والِإنجيل إنما
يتلوها أهلها نظراً ، ولا يكادون يحفظون كُتُبَهُمْ من أولها إلى آخرها كما يحفظ
القرآنُ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ
(19)
صَرْصَر شديدة البرد .

(5/88)


(فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ).
يعني نَحس مشؤوم ، مستمر أي دائم الشؤم ، وقيل في يوم أربعاء في
آخر الشهر لا يدورُ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20)
" كَأنَّهُمْ " ههنا في موضع الحال.
والمعنى تنزع الناس مُشْبِهِينَ النَخْلَ المنْقَعِر ، فالمنْقَعِرُ المقطوع من أُصُوله ، وكانت الريحُ تَكُبُّهُمْ على وُجوهِهِم.
وقوله : (مُنْقَعِرٍ) النخل يذكَّرُ ويؤنث ، يقال : هذا نخل ، وهذه نَخْلٌ
فمنقعِرٌ على من قال : هذا نخل ، ومن قال : هذه نخل.
فمثل قوله تعالى (أعجازُ نَخْلٍ خَاوَية).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23)
النُّذُر جمعُ نَذِير.
* * *
(فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (24)
(بَشَرًا) منصوب بِفعل مُضْمر الذي ظهر يُفَسِرهُ ، المعنى أنتَبعُ بشراً.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ).
معناه إنا إذاً لفي ضلال وجنون ، يقال : ناقة مسعورة إذا كان بها جُنونٌ.
ويجوز أن يكون على معنى إن اتبعناه فنحن في ضَلَال وفي عَذَابٍ.
* * *
وقوله : (بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25)
(أشِرٌ) بمعنى بَطِر ، يقال : (أشِرَ يأْشَرُ أشراً فهو (أشِرٌ ، مثل بَطِر يبطَر بَطَراً
فهو بَطِر.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27)
(فتنةً) منصوب مفعول له ، المعنى إنا مرسلو النَّاقة لنفتنهم ، أي
لنختبرهم .

(5/89)


وقوله عزَّ وجلَّ : (وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28)
أي الماء قسمة بين الناقة وبين ثمود لها يوم ولهم يوم ، وهذا معناه كل
شرب محتضر ، يحْضَر القوم الشرب يوماً ، وتحضر الناقة يَوْماً.
* * *
(فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29)
وكان يقال له أحمر ثمود ، وَأحَيمْر ثمود ، والعرب تَغْلِط فتجعَل أحمر
عادٍ فنضرب به المثل في الشؤم ، قال زهير يَصِف حَرْباً.
فَتُنْتَجْ لكم غِلمانَ أَشأَم كلُّهُمْ . . . كأَحْمَرِ عاد ثم تُرْضِعْ فَتَفْطِمِ
ومعنى (فَتَعَاطَى فَعَقَرَ) فَتَعَاطى عَقْرَ النَاقَةِ فعقر فبلغ ما أرادَ.
* * *
وقوله تعالى : : (إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31)
بكسر الظاء ، ويقرأ المححتظر بفتح الظاء ، والهشيم ما يبسَ من الورق وتَكسَّر وتحطَّم ، أي فكانوا كالهشيم الذي يجمعه صاحب الحظيرة ، أي قد بلغ الغاية في الجفاف ، حتى بلغ إلى أن يجمع ليوقد.
ومن قرأ (المحتظَر) - بفتح الظاء - فهو اسم للحظيرة.
المعنى كهشيم المكان الذي يُحتَظر فيه الهشيم.
ومن قرأ (المحْتَظِر). - بكسر الظاء نسبة إلى الذي يجمع الهشيم من الحطب في
الحظيرة ، فإن ذلك المحتظِر ، لأنه فاعل.
* * *
وقوله تعالى : (إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ (34)
" سَحَر " إذا كان نكرة يراد به سحراً من الأسحار انصرف ، تقول : أتيت
زيداً سحراً من الأسحار ، فإذا أردت سحر يومك قلت أتيته لِسَحَر يا هَذَا وأتيته سَحَرَ يا هذا.
* * *
وقوله تعالى : (نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35)
منصوب مفعول له.
المعنى نجيناهم للِإنعام عليهم.
ولو قرئت " نعمةٌ مِنْ عِنْدَنَا " كان وجهاً ، ويكون المعنى تلك

(5/90)


نِعمَةٌ مِنْ عِندِنا ، وَإِنْجَاؤنَا إِياهُمْ نعمة من عندنا.
قال أبو إسحاقَ : ولكني لا أعلم أحداً قرأ بها ، فلا تقرأنَّ بها إلَّا أن تثبت رواية صحيحة.
قال مشايخنا من أهل العلم : القراءة سُنَّةٌ متَّبُعَة ، ولا يرون أن يقرأْ أحد بما يجوز في العربية إِذَا لَمْ تَثْبُتْ رِوَايةٌ صحيحة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ (38)
بكرة وغدوة إذا كانتا نكرتين نونَتَا وصُرِفَتَا ، وإذا أرَدْتَ بهما بكرة يومك
وغداة يومك لم تصرفهما ، فـ (بكرة) ههنا نكرة ، ولو كانت قرئت بكرةَ عَذَاب مستقر ، وقرئت " نجيناهم بسَحَرَ نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا " كانتا جائزتين في العربية.
يكون المعنى بكرةَ يومهم ، وسَحَر يَوْمِهِمْ ، ولكن النكرة والصرف أجود في
هذه الآية ، ولم تثبت رواية في أنه كان في يوم كذا من شهر كذا.
* * *
ْوقوله تعالى : (وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (37)
راودَ قومُ لوط لوطاً عن ضيفه ، وهم الملائكة ، فأمر اللَّه - عزَّ وجلّ
جبريل فسفق أعينهم بجناحيه سَفْقَةً ، فأذهبها وَطَمَسَها ، فبقوا في البيت عمياً
حيارى.
* * *
وقوله عزَّ . وجلَّ : (أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43)
أي أكفاركم يا معشر العرب ، ومن أرسل إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - (خيرٌ مِن أولائكم)
أي الكفار الذين ذكرنا أقَاصِيصَهُمْ وَإِهْلَاكَهُمْ.
(أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ).
أي أم أتاكم في الكُتُبِ أنكم مبرَّأُونَ مِمَّا يُوجِبُ عِدَاءَكُمْ.
* * *
(أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44)
والمعنى بل أَيَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ ، فيدلون بقوة واجتماع عليك ،

(5/91)


ثم أعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أنه يهلِكُهُمْ في الجهة
التي يقدرون الغلبة منها فقال :
(سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45)
فأعلم الله عزَّ وجلَّ - نبيَّه - عليه السلام - أنه يظهره عليهم ويجعل كلمته
العلْيَا ، فقال : (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ).
فكانت هذه الهزيمةُ يوم بَدْرٍ (1).
* * *
ثم قال عزَّ وجلَّ : (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46)
أي لَيْسَ مَا نَزَلَ بِهِمْ مِنَ الْقَتْلِ في يوم بدر والأسر بمخفف عنهم من
عذاب الآخرة شيئاً ، فقال : (وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ).
أي أشَدُّ ، وكل داهية فمعناها الأمر الشديد الذي لا يُهْتَدى لدوائه.
ومعنى (وَأَمَرُّ) أشد مَرَارَةً من القتل والأسر.
* * *
وقوله : (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47)
في التفسير إن هذه الآية نزلت في القَدَرِيَّةِ.
* * *
وقوله تعالى : (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48)
المعنى يقال لهم : (ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ).
* * *
(إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)
أي كل ما خلقنا فمقدورمكتوب في اللوح المحفوظ قبل وقوعه.
ونصب " كُلَّ شَيْءٍ " بفعل مضمر ، المعنى إنا خلقنا كل شيء خلقناه بِقَدَرٍ.
ويدل على هذا
(وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53)
(مُسْتَطَرٌ) مفعول من السطر ، المعنى كل صَغِيرْ من الذنوب وكبير مستطر
مكتوب على فاعليه قبل أن يفعلوه ، ومكتوب لهم وعليهم إذا فعلوه لِيجازَوْا
عَلَى أفعالهم.
* * *
وقوله : (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ).
المعنى وُيوَلُّونَ الأدْبَارَ ، كما قال : (وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ).
__________
(1) قال السَّمين :
والعامَّةُ على « سَيُهْزَمُ » مبنياً للمفعول . « والجَمْعُ » مرفوعٌ به . وقُرِىء « ستَهْزِمُ » بفتح التاء خطاباً للرسول عليه السلام ، « الجمعَ » مفعولٌ به ، وأبو حيوة في روايةٍ ويعقوب « سَنَهْزِمُ » بنونِ المعظِّمِ نفسَه ، و « الجمعَ » منصوبٌ أيضاً ، ورُوِيَ عن أبي حيوة أيضاً وابن أبي عبلة « سَيَهْزِمُ » بياء الغَيْبة مبنياً للفاعل ، « الجمعَ » منصوبٌ ، أي : سَيَهْزِمُ اللهُ الجمعَ . « ويُوَلُّوْن » العامَّة على الغَيْبة . وأبو حيوة وأبو عمروٍ في روايةٍ « وتُوَلُّون » بتاء الخطاب ، وهي واضحةٌ.
والدُّبُرُ هنا : اسمُ جنسٍ . وحَسُنَ هنا لوقوعِه فاصلةً بخلافِ { لَيُوَلُّنَّ الأدبار } [ الحشر : 12 ] . وقال الزمشخري : « أي : الأدبار ، كما قال :
4166 كُلُوا في بَعْضِ بَطْنِكُمُ تَعِفُّوا . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقُرىء » الإِدْبار « . قال الشيخ : » وليس مثل/ « بعضِ بَطْنكم » لأن الإِفراد هنا له مُحَسِّنٌ ولا مُحَسِّنٌ لإِفرادِ « بَطْنكم ».
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5/92)


وكذا المعنى في قوله : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54)
المعنى في جنات وأنهار والاسم الواحد يدل على الجميع فَيجْتَزأ بِهِ من
الجميع.
وأنشد سيبويه والخليل :
بها جِيَف الحَسْرى فأمَّا عِظامُها . . . فَبيضٌ وأَمَّا جِلْدُها فَصَلِيبُ
يريدون وأما جلودها.
وأنشد :
في حَلْقِكمْ عَظْمٌ وَقَدْ شجينا
المعنى في حلوقكم عظام ، وَكما قال :
كُلُوا في بعض بَطْنِكُم تَعِفُّوا . . . فإنَّ زمانَكمْ زَمَنٌ خَمِيصُ
المعنى كلوا في بعض بطونكم (1).
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { نَهَرٍ } : العامةُ بالإِفرادِ وهو اسمُ جنسٍ بدليل مقارنتِه للجمع ، والهاء مفتوحةٌ كما هو الفصيح ، وسَكَّنها مجاهد والأعرج وأبو السَّمَّال والفياض وهي لُغَيَّةٌ . وقد تقدَّم الكلامُ عليها أولَ البقرة . وقيل ليس المرادُ هنا نهرَ الماءِ ، وإنما المرادُ به سَعَةُ الأرزاقِ لأنَّ المادةَ تَدُلُّ على ذلك كقول قيس بن الخطيم : /
4169 مَلَكْتُ بها كَفِّي فَأَنْهَرْتُ فَتْقَها . . . يَرى قائمٌ مِنْ دونِها ما وراءَها
أي : وسَّعْتُ . وقرأ أبو نهيك وأبو مجلز والأعمش وزهير الفرقبي « ونُهُر » بضم النونِ والهاءِ ، وهي تحتمل وجهين ، أحدهما : أَنْ يكونَ جمعَ نَهَر بالتحريك وهو الأَوْلى نحو : أُسُد في أَسَد . والثاني : أن يكون جمعَ الساكنِ نحو : سُقُف في سَقْف ورُهُن في رَهْن ، والجمع مناسِبٌ للجمع قبلَه في « جنات » وقراءةُ العامة بإفرادِه أَبْلَغُ وقد تقدَّم كلامُ ابن عباس في قوله تعالى آخر البقرة { وملائكته وَكُتُبِهِ } [ البقرة : 285 ] بالإِفرادِ ، وأنه أكثرُ مِنْ « الكتب » . وتقدَّم أيضاً تقديرُ الزمخشري لذلك ، فعليك . . .
قوله تعالى { فِي مَقْعَدِ } يجوزُ أَنْ يكونَ خبراً ثانياً ، وهو الظاهرُ وأَنْ يكون حالاً من الضمير في الجارِّ لوقوعِه خبراً . وجَوَّز أبو البقاء أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ قولِه « في جنات » وحينئذٍ يجوزُ أَنْ يكونَ بدلَ بعضٍ ، لأن المقعدَ بعضُها ، وأَنْ يكون اشتمالاً أنها مشتمِلَةٌ ، والأولُ أظهرُ ، والعامَّةُ على إفراد « مَقْعَد » مُراداً به الجنس كما تقدَّم في « نَهَر » . وقرأ عثمان البتِّي « مقاعِدِ » وهو مناسبٌ للجمع قبلَه . ومَقْعَدُ صِدْقِ من بابِ رجلُ صدقٍ : في أنه يجوزُ أنْ يكون من إضافةِ الموصوف لصفتِه . والصدقُ يجوزُ أَنْ يُرادَ بهِ ضدُّ الكذبِ ، أي : صُدِّقوا في الإِخبار به ، وأَنْ يرادَ به الجَوْدَةُ والخيريَّةُ.
و « مليك » مثلُ مبالغةٍ وهو مناسِبٌ هنا ، ولا يُتَوهَّمُ أنَّ أصلَه مَلِك لأنه هو الوارِدُ في غيرِ موضعٍ ، وأنَّ الكسرةَ أُشْبِعَتْ فتولَّد منها ياءٌ؛ لأنَّ الإِشباعَ لم يَرِدْ إلاَّ ضرورةً أو قليلاً ، وإنْ كان قد وقع في قراءةِ هشام « أَفْئِيدَةً » في آخر إبراهيم ، وهناك يطالعَ ما ذكَرْتُه فيه.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5/93)


سُورَةُ الرَّحْمَنِ
( مَكِّيَّة )
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله عزَّ وجلَّ : (الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2)
(الرَّحْمَنُ) اسم من أسماء الله تعالى.
لا يقال لغيره ، وهو في الكتب المتقدمَة ، ومعناه الكثير الرحمة.
* * *
وقوله : (عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2)
معناه يسَّرهُ لأن يذكر.
* * *
وقوله : (خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4)
قيل إنه يعني بالِإنسان ههنا النبي - صلى الله عليه وسلم - عَلَّمَهُ البَيَانَ . علمه القرآن الذي فيه بيان كل شيء.
وقيل الإنسان ههنا آدم - صلى الله عليه وسلم -.
ويجوز في اللغة أن يكون الِإنسان اسماً لجنس الناس جميعاً ، ويكون على هذا المعنى عَلَّمَه البَيانَ جعله مميزاً حتى انفصل الِإنسان من جميع الحيوان.
* * *
وقوله تعالى : (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5)
(الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) مرفوعان بالابتداء.
وقوله (بِحُسْبَانٍ) يَدُل عَلَى خبرِ الابتداء
ويكون المعنى : الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ يجريان بحسابٍ ، وبكون أيْضاً معنى
(بِحُسْبَانٍ) أنهما ، يَدُلانِ على عدد الشهور والسنين وجميع الأوقات.
* * *
وقوله تعالى : (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6)

(5/95)


قال أهل اللغة وأكثر أهل التفسير : النجم كل ما نبت على وجه الأرض
مما ليس له سَاق.
والشَجَرُ كل ما له ساق ، ومعنى سجودهما دوران الظل
معهما كما قال : (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ).
وقد قيل إنَّ النجم أيضاً يراد به النجوم.
وهذا جائز أن يكون ، لأن اللَّه - عزَّ وجلَّ - قد أعلمنا أن النجم يسجد ، فقال : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ).
ويجوز أن يكون النجم ههنا يعني به ما نبت على وجه الأرض وما طلع
من نجوم السماء ، يقال لكل ما طلع : قَدْ نَجَمَ.
* * *
وقوله : (وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7)
المعنى رفعها فوق الأرض وأمسكها أن تقع على الأرض ، ووضع
الميزان لينتصف بعض الناس من بعض.
وقيل : الميزان ههنا العدل ، لأن المعادَلةَ موازنة الأشياء.
* * *
وقوله : (أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8)
ألا يجاوزوا القدر والعدل.
ويجوز (أَلَّا تَطْغَوْا) بمعنى اللام ، " لأن ْ لَا تَطْغَوْا "
وتكون (أَلَّا تَطْغَوْا) على النهي ومعنى " أن " التفسير.
فيكون المعنى - واللَّه أعلم - ووضع الميزان أي لا تطغوا في الميزان.
ويدل عليه المعطوف عليه وهو قوله :
(وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9)
القراءة بضم التاء ، وروى أهل اللغة : أَخْسَرْت المِيزَانَ وَخَسَرْتُ ، فعلى

(5/96)


خَسَرت " ولا تَخْسِروا ".
ولا تقرأنَّ بها إلا أن تثبت رواية صَحيحةٌ عن إمام في القراءة.
وقد رُوِي أن إنساناً قرأ بها من المتقدمين ولكنه ليس مِمن أخذت عنه
القراءة ولا له حرف يقرأ بِه.
* * *
وقوله : (وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10)
الأنَامُ الِإنْسُ والجِنُّ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11)
معنى (الأكمام) ما غَطَّى وكل شجرة تخرج ما هو مُكَمَّم فهي ذات أَكمام وأَكمامُ النخلة ما غَطى جُمّارَها من السَّعَف والليف والجِذْع وكلُّ ما أَخرجته النخلة فهو ذو أَكمام فالطَّلْعة كُمُّها قشرها ومن هذا قيل للقَلَنْسُوة كُمَّة لأنها تُغَطِّي الرأْس ومن هذا كُمّا القميص لأنهما يغطيان اليدين.
* * *
وقوله عزَّ وجل : (وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (12)
ويقرأ والريحانَ ، وأكثر القراءة (والريْحَانُ).
والعصف ورق الزرع ويقال التِّبْن هو العصْفُ ، ويقال العَصْفَة (1)
قال الشاعر.
تَسْقي مَذانِبَ قد مَالَتْ عَصِيفتُها . . . جُدُورُها من أَتِيِّ الماء مَطْمُومُ
ويروى بأتِيَ الماء.
ومعنى (ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ) ذو الورق [والرِّزقُ] ، العرب تقول : سبْحَانَ
اللَّه وَرَيْحانه.
قال أهل اللغة : معناه واسترزاقه ، قال النمر بن تولب.
سلام الإِله وريحانه . . . ورحمته وسماء درر
قال : معنى ريحانه رزقه لمن قرأ ، (والريْحَانِ) عطف على العصف ، ومن
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { والحب ذُو العصف والريحان } : قرأ ابنُ عامر بنصب الثلاثة . وفيه ثلاثةُ أوجهٍ : النصبُ على الاختصاص ، أي : وأخُصُّ الحبَّ ، قاله الزمخشري . وفيه نظرٌ؛ لأنه لم يَدْخُلْ في مُسَمَّى الفاكهة والنخل حتى يَخُصَّه مِنْ بَيْنِها ، وإنما أراد إضمارَ فعلٍ وهو أَخَصُّ ، فليس هو الاختصاصَ الصناعيَّ . الثاني : أنَّه معطوفٌ على الأرض . قال مكي : « لأنَّ قولَه » والأرضَ وَضَعَها « ، أي : خلقها ، فعطف » الحَبَّ « على ذلك » . الثالث : أنَّه منصوبٌ ب « خَلَق » مضمراً ، أي : وخلق الحَبَّ . قال مكي : « أو وخَلَقَ الحَبَّ » وقرأ به موافقةً لرَسْم مصاحِف بلده ، فإنَّ مصاحفَ الشامِ « ذا » بالألف . وجَوَّزوا في « الرَّيْحان » أن يكونَ على حَذْفِ مضافٍ ، أي : وذا الريحان فحُذِفَ/ المضافُ ، وأٌقيم المضافُ إليه مُقامَه ك { وَسْئَلِ القرية } [ يوسف : 82 ].
وقرأ الأخَوان برفع الأَوَّلين وجَرِّ « الرَّيْحان » عطفاً على « العَصْفِ » ، وهي تؤيِّدُ قولَ مَنْ حذفَ المضافَ في قراءةِ ابنِ عامرٍ . والباقون برفع الثلاثةِ عطفاً على فاكهة ، أي : وفيها أيضاً هذه الأشياءُ . ذكر أولاًّ ما يتلذَّذُون به من الفواكه ، وثانياً الشيءَ الجامعَ بين التلذُّذِ والتغذِّي وهو ثَمَرُ النَخْلِ ، وثالثاً ما يَتَغَذَّى به فقط ، وهو أعظمُها ، لأنه قُوْتُ غالبِ الناسِ . ويجوز في الرَّيْحان على هذه القراءةِ أَنْ يكونَ معطوفاً على ما قبلَه ، أي : وفيها الرَّيْحانُ أيضاً ، وأَنْ يكونَ مجروراً بالإِضافةِ في الأصلِ ، أي : وذو الرَّيحْان ففُعِلَ به ما تقدَّم.
والعَصْفُ : وَرَقُ الزَّرْعِ . وقيل : التِّبْنُ . وأصلُه كما قال الراغب : مِن « العَصْفِ والعَصِيْفة وهو ما يُعْصَفُ ، أي : يُقْطَعُ من الزَرْع » وقيل : هو حُطامُ النباتِ . والريحُ العاصف : التي تكسِرُ ما تمرُّ عليه وقد مَرَّ ذلك . والرَّيْحان في الأصل : مصدرٌ ثم أُطْلِقَ على الرزق كقولهم : « سُبْحانَ الله ورَيْحَانَه » ، أي : استِرْزاقُه وقيل : الرَّيْحان هنا هو المَشْمومُ.
وفي الرَّيْحان قولان ، أحدُهما : أنه على فَعْلان كاللَّيَّان مِنْ ذواتِ الواوِ . والأصلُ : رَوْحان . قال أبو علي : « فأُبْدِلَتْ الواوُ ياءً ، كما أَبْدَلوا الياءَ واواً في » أَشاوى « . والثاني : أن يكون أصلُه رَيْوِحان ، على وزن فَيْعِلان ، فأُبْدِلَتِ الواوُ ياءً ، وأُدْغِمَتْ فيها الياءُ ، ثم خُفِّفَ بحَذْفِ عينِ الكلمةِ كما قالوا : كَيْنُوْنة وبَيْنُونة . والأصلُ تشديدُ الياءِ فخفِّفَتْ كما خُفِّف هَين ومَيْت . قال مكي : » ولَزِم تَخْفِيْفُه لطولِه بلَحاق الزيادتَيْنِ « . ثم رَدَّ قولَ الفارسيِّ بأنه لا مُوْجبَ لقَلْبِها ياءً ثم قال : » وقال بعضُ الناسِ « فذكَر ما قَدَّمْتُه عن أبي علي إلى آخره.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5/97)


قرأ : (والريْحَانُ) عطف على (الْحَبُّ) ويكون المعنى فيهما فاكهة فيهما الحب ذو العصف وفيهما الريحان ، فيكون الريحان ههنا الريحان الذي يشم ، ويكون
أيضاً ههنا الرزق.
فذكر اللَّه - عزَّ وجلَّ - في هذه السورة ما يدل على وحدانيته من خلق
الِإنسان وتعليم البيان ومن خلق الشمسِ والقمر والسماء والأرض ثم خاطب
الِإنس والجن فقال :
* * *
(فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13)
أي : فَبِأَيِّ نِعَمِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ من هذه الأشياء المذكورة ، لأنها كلها منعم
بها عليكم في دلالتها إياكم على وحدانيته وفي رزقه إياكم ما به قوامكم
والوصلة إلى حياتكم ، والآلاء واحدها أَلَى وَإِلْيٌ (1) ، وكل ما في السورة من قوله (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) فمعناه على ما فسَّرْناه ، فَبِأَيِّ نِعَمِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (1).
* * *
قوله عزَّ وجلَّ : (خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14)
وقال في موضع آخر : (إنَا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ)
وقال : (مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ)
وقال : (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ).
وهذه الألفاظ التي قال الله عزَّ وجلَّ إنه خلق الِإنسان منها مختلفة
اللفظ وهي في المعنى راجعة إلى أصل وَاحدٍ.
فأصل الطين التراب.
فأعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أنه خلق آدم من تراب جُعِلَ طيناً ثم انتقل فصار
كالْحمَأ ثم انتقل فصار صَلْصَالًا كالْفَخار ، والصلصال اليابس ، فهذا كله أصله التراب وليس فيه شيء ينقض بعضه بعضاًء وإنما شرحنا هذا لأن قوماً من
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { آلآءَ الله } أي نِعَمه ، وهو جمعٌ مفردُه » إلْيٌ « بكسر الهمزة وسكونِ اللام كحِمْل وأحمال ، أو » أُلْي « بضم الهمزة وسكون اللام كقُفل وأقفال ، أو » إلَى « بكسرِ الهمزة وفتح اللام كضِلَع وأضلاع وعِنب وأعناب ، أو » أَلَى « بفتحها كقفا وأقفاء ، قال الأعشى :
2228 . . . أبيضُ لا يَرْهَبُ الهُزال ولا
يقطعُ رَحْمي ولا يَخُونُ إلى . . . يُنشد بكسر الهمزة وهو المشهور وبفتحها ومثله » الآناء « جمع إنْي أو أُنْي أو إنَى أو أَنَى . وقال الأخفش : » إنْوٌ « . والآناء : الأوقات كقوله : { وَمِنْ آنَآءِ الليل } [ طه : 130 ] . اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5/98)


الملحدين يسألون عن مثل هذا ليُلْبِسُوا على الضعفة ، فأعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - من أي شيء خلق أبا الإنس جميعاً آدم عليه السلام ، وأعلم من أي شي : خلق أصل الجنِّ فقال :
(وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15)
والمارج اللهب المختلط بسواد النَّار.
* * *
وقوله - عزَّ وجلَّ - : (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17)
يعنى به مشرقَي الشمس وكذلك القمر ، ومغربي الشمس والقَمَر ، فأحَدُ
المشرقين مشرق الشتاء والآخر مشرق الصيف ، وكذلك المغربان.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26)
معناه على الأرض.
* * *
قوله : (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31)
يعني بالثقلين الِإنس والجن.
ويجوز ُ (سَنَفْرَغُ لَكُمْ) بفتح الراء.
ويجوز (سَيَفْرُغُ) - بفتح الياء -
ويجوز (سَيُفْرَغ لكم) - بضم الياء وفتح الراء -
ومعناه سنقصد لِحِسَابِكُمْ ، واللَّه لا يَشْغَلُه شأن عن شأن.
والفراغ في اللغة على ضربين :
أحدهما الفراغ من شُغلٍ
والآخر القصد للشيء ، تقول : قد فرغت مما كنت فيه.
أي قد زال شغلي به ، وتقول : سَأتَفَرغ لفلانٍ ، أي سأجْعَلُ قَصْدِي له (1).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33)
والأقطار النَواحي.
(لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ).
أي حيثما كنتم شاهدتم حجةً لِلَّهِ وسلطاناً تدل على أنه واحدٌ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (35)
ويقرأ (ونحاسٍ) - بكسر السين -
والنحاس الدُّخان ، والشواظ اللهب الذي لا دُخَانَ معه.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { سَنَفْرُغُ } : قرأ سَيَفْرُغُ بالياءِ الأخَوان أي : سَيَفْرُغُ اللَّهُ تعالى . والباقون من السبعة بنون العظمة ، والراءُ مضمومةٌ في القراءتَيْن ، وهي اللغةُ الفُصْحى لغة الحجازِ . وقرأها مفتوحة الراء مع النونِ الأعرجُ ، وتحتمل وجهَيْن ، أحدهما : أَنْ تكونْ مِنْ فَزَغَ بفتحِ الراء في الماضي ، وفُتِحت في المضارع لأَجْلِ حرفِ الحَلْقِ . والثاني : أنه سُمِعَ فيه فَرِغَ بكسرِ العينِ ، فيكون هذا مضارعه/ وهذه لغةُ تميمٍ . وعيسى بن عمر وأبو السَّمَّال « سَنِفْرَغُ » بكسر حرفِ المضارعةِ وفتحِ الراءِ . وتوجيهُها واضحٌ مِمَّا تقدَّم في الفاتحة قال أبو حاتم : « وهي لُغَةُ سُفْلى مُضَرَ . والأعمش وأبو حيوةَ وإبراهيمُ » سَنِفْرَغُ « بضم الياء مِنْ تحتُ مبنياً للمفعولِ . وعيسى أيضاً بفتح نونِ العظمةِ وكسرِ الراء . والأعرجُ أيضاً بفتح الياء والراء . ورُوي عن أبي عمروٍ . وقد تقدَّم قراءةُ » أيها « في النور . والفَراغُ هنا استعارةٌ . وقيل : هو القَصْدُ . وأُنْشِد لجرير :
4176 ألانَ وقد فَرَغْتُ إلى نُمَيْرٍ . . . فهذا حينَ كُنْتُ لهمُ عَذاباً
وأنشد الزجاج :
4177 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . فَرَغْتُ إلى العبدِ المقيَّدِ في الحِجْلِ
ويَدُلُّ عليه قراءةُ أُبَيّ » سَنَفْرُغُ إليكم « أي : سَنَقْصِدُ إليكم . والثَّقَلان : الجن والإِنس لأنهما ثَقَلا الأرضِ . وقيل : لثِقَلِهم بالذنوب . وقيل : الثَّقَلُ : الإِنسُ لشَرَفَهم . وسُمِّيَ الجنُّ بذلك مجازاً للمجاورة . والثَّقَل . العظيم الشريف . وفي الحديث : » إني تاركٌ فيكم ثَقَلَيْن كتابَ الله وعِتْرتي «
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5/99)


وقوله عزَّ وجلَّ : (مَرَجَ البَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ).
معنى مرج خلط ، يعني البحر الملح والبحر العذب.
وقوله تعالى : (بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يبغِيَانِ).
البرزخ الحاجز ، وهو حاجز من قدرة اللَّه ، لا يبغيان لا يَبْغي الملح
على العذب فيختلط به ، ولا العذب على الملح فيختلط به.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22)
(المرجان) صغار اللؤلؤ ، واللؤلؤ اسم جامع للحَبِّ الذي يخرج من البحر.
وقال (يَخْرُجُ مِنْهُمَا) وإنما يخرج من البحر الملح لأنه قد ذكرهما وَجَمَعَهُمَا ، فإذا خرج من أحدهما فقد خرج منهما ، ومثل ذلك قوله عزَّ وجلَّ :
(أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16).
والشمس في السماء الدنْيَا إلَّا أنه لما أجمل ذكر السبع كان ما في إحداهن
فِيهِنَ ، ويقرأ : (يُخْرَجُ مِنْهُمَا) بضم الياء.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَئَاتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (24)
الجواري الوقف عليها بالياء ، وإنما سقطت الياء في اللفظ لسكون
اللام.
والاختيار وصلها ، وإن وقف عليها واقف بغير ياء فذلك جائز على بعد.
ولكن يروم الكسر في الراء ليدل على حذف الياء.
ويقرأ " المُنْشِآت " - بكسر الشين - والفتح أجود في الشين.
ومعنى المنشئآت المرفوعات الشُّرُع.
والمنشِئَات على معنى الحاملات الرافعات الشرع ، ومعنى كالأعلام
كالجبال ، قال الشاعر :

(5/100)


إذا قطعن عَلَمَاً بدا علم
والجواري السُفُن.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37)
معنى (وَرْدَةً) صارت كلون الورد ، وذلك في يوم القيامة.
ومعنى (كَالدِّهَانِ) تتلون من الفزع الأكبر تَلَوْن الدهان المختلفة.
والدِّهَان جمع دُهْنٍ ، ودليل ذلِك قَوله (يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ)
أي كالزيت الذي قد أُغْلِيَ.
وقيل (فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ) أي فكانت كلون فرسٍ وردَةٍ.
والكَمِيتُ الوردُ يتلون فيكون في الشتاء لونه خلاف لونه في الصيف.
ويكون في الفصل لونه غير لونه في الشتاء والصيف.
* * *
(فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39)
وقال في موضع آخر (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24)
فإذا كان ذلك اليوم كانت سيما المجرمين سواد الوجه والزرقة.
ودليل ذلك قوله : (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ)
أي بعلامتهم هذه ، ودليل ذلك قوله : (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) ، وقوله : (وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102).

(5/101)


وقوله : (فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41)
قيل تجعل الأقدام مضمومة إلى النواصي من خلف ويلقون في النار.
وذلك أشد لعذابهم ، والتشويه بهم.
* * *
وقوله : (هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ ءَانٍ (44)
يعني (آنٍ). قد أنى يأنى فهو آنٍ إذا انتهى في النضج والحرارة ، فإذا
استغاثوا من النار جعل غياثهم الحميم الآني الذي قد صار كالمهل ، فيطاف
بهم مرَّةً إلى الحميم ومرة إلى النار.
أسْتَجِيرُ باللَّه وبرحمته منها.
ثم أعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - ما لمن اتقاه وخافه فقال :
* * *
(وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46)
قيل من أراد معصية فذكر ما عليه فيها فتركها خوفاً من اللَّه - عزَّ وجلََّّ -
ورهبةَ عِقَابه ورجاء ثوابه فله جنتانِ.
ثم وصفهما فقال :
* * *
(ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48)
والأفنان جمع فَنٍّ ، أي له فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعْيُن من كل
فَنٍّ ، والأفنان الألْوانُ ، والأفنان الأغصَانُ ، واحدها فنَن ، وهو أجود الوجهين (1).
* * *
وقوله عزَّ وجلََّّ : (فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52)
الزوجان النوعان.
* * *
وقوله : (فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56)
معناه فيهن حورٌ قاصرات الطرف ، قد قَصَرْنَ طرفَهُنَّ على أزوَاجِهِنَ لا
ينظرن إلى غيرهم.
* * *
(لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ).
لَمْ يَمْسَسْهُنَّ.
ويقرأ " لَمْ يَطْمُثْهُنَّ " ، وهي في القراءة قليلة ، وفي اللغة
__________
قال في اللسان :
وقال عكرمة في قوله تعالى (ذَواتَا أَفْنانٍ) قال ظِلُّ الأغصانِ على الحِيطانِ وقال أَبو الهيثم فسره بعضهم ذَواتا أغصانٍ وفسره بعضهم ذواتا أَلوان واحدها حينئذ فَنّ وفَنَنٌ كما قالوا سَنٌّ وسَنَنٌ وعَنٌّ وعَنَنٌ قال أَبو منصور واحدُ الأَفنان إذا أَردت بها الأَلوان فَنٌّ وإذا أردْتَ بها الأغصان فواحدها فَنَنٌ أَبو عمرو شجرة فَنْواء ذات أَفنان قال أبو عبيد وكان ينبغي في التقدير فَنَّاء ثعلب شجرة فَنَّاء وفَنْواء ذات أَفْنانٍ وأَما قَنْواء بالقاف فهي الطويلة قال أَبو الهيثم الفُنُون تكون في الأغصان والأغصان تكون في الشُّعَبِ والشُّعَبُ تكون في السُّوق وتسمى هذه الفُروعُ يعني فروعَ الشجر الشَّذَبَ والشَّذَبُ العِيدانُ التي تكون في الفُنون ويقال للجِذعِ إذا قطع عند الشَّذَب جِذْعٌ مُشَذَّبٌ قال امرؤ القيس يُرادَا على مِرْقاةِ جِذْعٍ مُشَذَّبِ يُرادا أي يُدارا يقال رادَيْتُه ودارَيْتُه والفَنَنُ الفَرْع من الشجر والجمع كالجمع وفي حديث سِدْرة المُنْتَهَى يسير الراكب في ظِلِّ الفَنَنِ مائةَ سَنةٍ وامرأَة فَنْواء كثيرة الشعر والقياس في كل ذلك فَنَّاء وشعَر فَيْنان قال سيبويه معناه أَن له فنوناً كأَفنانِ الشجر ولذلك صرف ورجل فَيْنان وامرأَة فَينانة قال ابن سيده وهذا هو القياس لأَن المذكر فَيْنان مصروف مشتق من أَفنان الشجر وحكي ابن الأَعرابي امرأَة فَيْنَى كثيرة الشعر مقصور قال فإن كان هذا كما حكاه فحكم فَيْنان أن لا ينصرف قال وأُرى ذلك وهَماً من ابن الأَعرابي وفي الحديث أَهلُ الجنة مُرْدٌ مُكَحَّلون أُولو أَفانِين يريد أُولو شُعور وجُمَم وأَفانِينُ جمع أَفنان وأَفنانٌ جمع فَنَنٍ وهو الخُصلة من الشعر شبه بالغصن قال الشاعر يَنْفُضْنَ أَفنانَ السَّبيبِ والعُذَرْ يصف الخيلَ ونَفْضَها خُصَل شعر نواصيها وأَذنابها وقال المَرَّار أَعَلاقَةً أُمَّ الوُلَيِّد بعدَما أَفْنانُ رأْسِك كالثَّغام المُخْلِسِ ؟ يعني خُصَلَ جُمَّة رأْسِه حين شاب أَبو زيد الفَينان الشعر الطويل الحسَنُ قال أَبو منصور فَيْنانٌ فَيعال من الفَنَن والياء زائدة التهذيب وإن أَخذت قولهم شعر فَيْنانٌ من الفَنَن وهو الغصن صرفته في حالي النكرة والمعرفة وإن أَخذته من الفَيْنة وهو الوقت من الزمان أَلحقته بباب فَعْلان وفَعْلانة فصرفته في النكرة ولم تصرفه في المعرفة وفي الحديث جاءَت امرأَةٌ تشكو زوجَها فقال النبي صلى الله عليه وسلم تُرِيدينَ أن تزَوَّجِي ذا جُمَّةٍ فَينانة على كل خُصلة منها شيطان الشعر الفَيْنانُ الطويل الحسن والياء زائدة ويقال فَنَّنَ فلانٌ رأْيه إذا لَوَّنه ولم يثبت على رأْي واحد والأَفانِينُ الأَساليب وهي أَجناس الكلام وطُرُقه ورجل مُتفَنِّنٌ أي ذو فُنون وتَفنَّنَ اضطرب كالفَنَن وقال بعضهم تَفنَّن اضطرب ولم يَشْتقَّه من الفَنن والأَول أَولى قال لو أَن عُوداً سَمْهَريّاً من قَنا أو من جِيادِ الأَرْزَناتِ أَرْزَنا لاقى الذي لاقَيْتُه تَفنَّنا والأُفْنونُ الحية وقيل العجوز وقيل العجوز المُسِنَّة وقيل الداهية وأَنشد ابن بري لابن أَحمر في الأُفْنون العجوز شَيْخٌ شآمٍ وأُفْنونٌ يَمانِيةٌ من دُونِها الهَوْلُ والمَوْماة والعِلَلُ وقال الأَصمعي الأُفْنون من التَّفَنُّن قال ابن بري وبيت ابن أَحمر شاهد لقول الأَصمعي وقولُ يعقوب إنَّ الأُفْنون العجوز بعِيدٌ جدّاً لأَنَّ ابنَ أَحمر قد ذكر قبل هذا البيت ما يَشْهَد بأَنها محبوبته وقد حال بينه وبينها القَفْرُ والعِلل والأُفْنون من الغُصن المُلتفُّ والأُفنون الجَرْيُ المختلط من جَرْي الفرس والناقة والأُفنون الكلام المُثبَّجُ من كلام الهِلْباجة وأُفْنون اسم امرأَة وهو أَيضاً اسم شاعرسمي بأَحد هذه الأَشياء والمُفَنَّنة من النساء الكبيرة السيئة الخُلُق ورجل مُفَنَّنٌ كذلك والتَّفْنِينُ فِعْلُ الثَّوْب إذا بَلِيَ فتفَزَّرَ بعضهُ من بعض وفي المحكم التَّفْنِينُ تفَزُّر الثوب إذا بَليَ من غير تشقق شديد وقيل هو اختلاف عمَله برِقَّة في مكان وكثافة في آخر وبه فسرابن الأَعرابي قول أَبانَ بن عثمان مَثَلُ اللَّحْن في الرجل السَّريِّ ذي الهيئة كالتَّفنِين في الثوب الجيِّد وثوب مُفَنَّنٌ مختلف ابن الأَعرابي التَّفْنِينُ البُقعة السَّخيفة السَّمِجة الرقيقة في الثوب الصفيق وهو عيب والسَّريُّ الشريف النفيس من الناس والعربُ تقول كنتُ بحال كذا وكذا فَنَّةً من الدهر وفَيْنةً من الدهر وضَرْبة من الدهر أي طرَفاً من الدهر والفَنِينُ وَرَمٌ في الإبط ووجع. اهـ (لسان العرب. 13 / 326).

(5/102)


طَمَثَ يطمِثُ ويطمُثُ . وفي هذه الآية دليل على أن الجني يغشى ، كما أن
الِإنسى يغشى (1).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58)
قال أهل التفسير وأهل اللغة : هن في صفاء الياقوت وبياض المرجان
والمرجان صغار اللؤلؤ وهو أشد بياضاً.
وقوله : (فِيهنَّ) وإنما ذكر جنَّتَين يعني من هاتين الجنتين
وما أعد لصاحب هذه القصة غير هاتين الجنَّتَين.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60)
أي ما جزاء من أحسن في الدنيا إلا أن يُحْسَنَ إليه في الآخرةِ.
* * *
وقوله - عزَّ وجلَّ : (وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62)
أي لمن خاف مقام ربه جنتان وله من دونهما جَنَّتان.
والجنة في لغة العرب البستان.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (مُدْهَامَّتَانِ (64)
يعني أنهما خَضْراوَانِ تضرب خضرتهما إلى السَّواد ، وكل نبت أخضَر فتمام
خضرته ورِيِّه أن يضرب إلى السَّوَادِ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66)
جاء في التفسير أنهما ينضخان كُلً خَير.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68)
قال قوم : إن النخل والرَّمَّان ليسا من الفاكهة.
وقال بعض أهل اللغَةِ ، منهم يونس النحوي ، وهو يتلو الخليل في القدم والحذق : إن الرَّمَّان والنخل من أفضل الفاكهة ، وإنما فُصِلاَ بالواو لفضلهما ، واستشهد في ذلك بقوله تعالى :
(مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ).
فقال لفضلهما فصِلَا بالواو
__________
أي : يغشى المرأة
قال ابن الجوزي :
وفي الآية دليل على أن الجِنِّيَّ يَغْشَى المرأة كالإنسيِّ. اهـ (زاد المسير. 8 / 122).

(5/103)


قوله عزَّ وجلَّ : (مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54)
قيل الإستبرق الديباج الصفيق جدًّا نحو ما يعمل للكعبة والبطائن ما يلي
الأرض.
وقوله : (وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ).
أي ما يجنى من ثمرهما إذا أرادوه دنا من أفواههم حتى يتناوَلوه
بإفواههم وأيديهم.
* * *
وقوله : (فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70)
أصْلُه في اللغَة خَيِّرات ، والمعنى أنَّهن خَيرات الأخلاق حسان الخلق.
وقد قرئ بها - أعني بتشديد الياء.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72)
الخيام في لغَةِ العَرَبِ جَمْع خَيْمَةٍ.
والخيام شيئانِ : الخيام الهوادج والخيام البيوت.
وجاء في التفسير أن الخيمة من هذه الخيام من دُرَّةٍ مجَوَّفَةٍ.
ومعنى (مَقْصُورَاتٌ) مُخَدَّرات ، قد قصرن على أزْوَاجِهِنَّ.
* * *
وقوله : (مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (76)
وقرئت (على رَفَارفَ خُضْرٍ وعَبَاقِرَيَّ حِسَانٍ) (1).
القراءة هي الأولى ، وهذه القراءة لا مخرج لها في العربية ، لأن
الجمع الذي بعد ألفه حرفان نحو مساجد ومفاتيح لا يكون فيه مثل عباقري
لأن ما جاوز الثلاثة لا يجمع بياء النسب . لو جمعت " عبقري " كان جمعه
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { رَفْرَفٍ } : الرَّفْرَفُ جمع رَفْرَفَة فهو اسمُ جنسٍ . وقيل : بل هو اسمُ جمعٍ ، نقلهما معاً مكيٌّ ، وهي ما تَدَلَّى من الأسِرَّة مِنْ عالي الثياب . وقال الجوهريُّ : « ثيابٌ خُضْرٌ يُتَّخَذُ منها المجالِسُ ، الواحدةُ رَفْرَفة » واشتقاقُه مِنْ رَفَّ الطائرُ : أي : ارتفع في الهواء . ورَفْرَفَ بجناحَيْه : إذا نَشَرهما للطيران ورَفْرَفُ السَّحابِ هُبوبُه ، ويَدُلُّ على كونه جمعاً وصفُه بالجمع . وقال الراغب : « رفيفُ الشجر : انتشارُ أغصانِه . ورَفَّ الطائرُ : نَشَرَ جناحَه يَرِفُّ بالكسرِ . ورَفَّ فَرْخَه يَرُفُّه بالضم تَفَقَّده ، ثم اسْتُعير للتفَقُّدِ . ومنه » ماله حافٌّ ولا رافٌّ « ، أي : مالَه مَنْ يَحُفُّه ويتفقَّدُه . والرَّفْرَفُ : المنتشِرُ من الأوراقِ . وقولُه { على رَفْرَفٍ خُضْرٍ } : ضَرْبٌ من الثياب مُشَبَّه بالرياض . وقيل : الرَّفْرَفُ طرفُ الفُسْطاطِ والخِباءِ الواقعِ على الأرض دونَ الأَطنْابِ والأوتادِ . وذكر الحسن أنه المَخادُّ » انتهى . وقال ابن جُبير : « رياضُ الجنَّة ، مِنْ رَفَّ البيتُ إذا تَنَعَّمَ وحَسُن . وعن ابن عُيَيْنة هي الزَّرابِيُّ . ونُعِت هنا بخُضْر لأنَّ اسمَ الجنسِ يُنْعَتُ بالجمعِ كقولِه : { والنخل بَاسِقَاتٍ } [ ق : 10 ] وبالمفرِد . وحَسَّنَ جَمْعَه هنا جَمْعُ حِسان . وقرأ العامَّةُ » رَفْرَفٍ « وقرأ عثمان بن عفان ونصر ابن عاصم وعاصم والجحدري والفرقبي وغيرهم » رَفارِفَ خُضْرٍ « بالجمع وسكونِ الضاد . وعنهم أيضاً » خُضُرٍ « بضم الضاد وهو إتباعٌ للخاء . وقيل : هي لغةٌ في جمع أَفْعَلَ الصفةِ . وأُنْشد لطرفة :
4198 أيها الفتيانُ في مَجْلِسِنا . . . جَرِّدُوا منها وِراداً وشُقُرْ
وقال آخر :
4199 وما انْتَمَيْتُ إلى خُوْرٍ ولا كُسُف . . . ولا لئامٍ غداةَ الرَّوْع أَوْزاعِ
وقرؤوا » عباقِرِيَّ « بكسر القاف وفتحِها وتشديدِ الياءِ متوحةً/ على مَنْعِ الصرفِ . وهي مُشْكِلَةٌ؛ إذ لا مانعَ من تنوينِ ياءَيْ النسَبِ ، وكأنَّ هذا القارىءَ تَوَهَّمَ كَوْنَها في مَفاعِل فمنعَها من الصرفِ . وقد رَوَى عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وجماعةٍ » وعباقِرِيٍّ « منوناً ابنُ خالويه ورُوِي عن عاصمٍ » رَفارِفٍ « بالصرف . وقد يُقال في مَنْ مَنَعَ » عباقِرِيَّ « إنَّه لما جاوزَ » رفارِفَ « الممتنعَ امتنع مُشاكلةً . وفي مَنْ صَرَفَ رفارِفَ : إنَّه لما جاوَزَ عباقِريَّاً المنصرفَ صَرَفَه للتناسُب ك { سَلاسلاً وأَغْلالاً } [ الإِنسان : 4 ] كما سيأتي.
وقرأ أبو محمد المروزي وكان نَحْوياً » خَضَّارٍ « كضَرَّاب بالتشديد . وأَفْعَلُ وفَعَّالٌ لا يُعْرَفُ.
والجمهورُ » وعَبْقِرِيٍّ « منسوب إلى عَبْقَر ، تَزْعُم العربُ أنه بلدُ الجن فكلُّ ما عَظَّموه وتعجَّبوا منه قالوا : هذا عَبْقريٌّ . وفي الحديث : » فلم أرَ عَبْقَريَّاً يَفْري فَرِيَّه « والمرادُ به هنا قيل : البُسُط التي فيها صُوَرٌ وتماثيلُ . وقيل : هي الزَّرابِيُّ . وقيل : الطَّنافِسُ . وقيل : الدِّيباج . وعَبْقريّ جمع عَبْقَريَّة ، يعني فيكونُ اسمَ جنسٍ ، كما تقدَّم في رَفْرفَ . وقيل : هو واحدٌ دالٌّ على الجمع ، ولذلك وُصِف بحسان.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5/104)


عباقرة ، كما أنك لو جمعت " مُهَلَّبِيّ " كان جمعه مَهَالِبَة ، ولم يقل مَهَالِبيّ ، فإن قال قَائِل : فمن أين جاز عبقَريَ حِسَانٌ ، و " عَبْقَري " واحد ، وحسان جمع ؟
فالأصل أن واحده عبقريَّةٌ ، والجمع عبقري ، كما تقول ثَمَرَةَ وثَمَر ولوزَةٌ ولوْزٌ.
ويكون أيضاً عبقري اسماً للجنس ، فالقراءة هي الأولى.
وأما تفسير (رَفْرَفٍ خُضْرٍ وعَبْقَرِيٍّ) فقالوا : الرَّفْرَفُ ههنا رياض الجنَّةِ
وقالوا : الرفرف الوسائد ، وقالوا المحابس ، وقالوا أيضاً فضول المحابس
للفرش.
فأما العبقري ، فقالوا : البُسُط ، وقالوا : الطنافِسُ المبْسُوطَةُ والذي
يدل على هذا من القرآن قوله : (وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16).
فالنمارق الوسائد ، والزرابى البسط.
فمعنى " رفرف " ههنا ، و " عَبْقَرِيْ " أنه الوسائد والبُسط.
ويدل - واللَّه أعلم - على أن الوسائد ذوات رَفْرَفَ.
وأصل العبقري في اللغة صفة لكل ما بولغ في وصفه ، وأصله أن عبقر
اسم بلد كان يوَشَّى فيه البسط وغيرها ، فنسب كل شيء جيد ، وكل ما بولغ في وصفه إلى عبقر . قال زهير :
بِخَيْلٍ عليها جِنَّةٌ عَبْقَريةٌ . . . جَديرون يوماً أَن يَنالوا فيَسْتَعْلُوا
* * *
وقوله : (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (77)
أي : فَبِأَيِّ نعم رَبِّكما التي عددت عليكما يا معشر الجن والِإنس تكذبان.
فإنما ينبغي أن يعظِّما الله ويمجداه ، فختم السورة بما ينبغي أن يمجَّدَ به
- عزَّ وجلَّ - ويُعظَّم - فقال عزَّ وجلَّ : (تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78). (1)
__________
(1) قال ابن الجوزي :
قوله تعالى : { تبارك اسمُ ربِّكَ } فيه قولان.
أحدهما : أن ذِكْر «الاسم» صِلَة ، والمعنى : تبارك ربُّك.
والثاني : أنه أصل.
قال ابن الأنباري : المعنى : تفاعل من البَرَكة ، أي : البَرَكة تُنال وتُكْتَسَب بذِكْر اسمه.
وقد بيَّنّا معنى «تبارك» في [ الأعراف : 54 ] ، وذكرنا في هذه السورة معنى { ذي الجلال والإكرام } [ الرحمن : 27 ] ، وكان ابن عامر يقرأ : «ذو الجلال» وكذلك هي في مصاحف أهل الشام؛ والباقون : «ذي الجلال» وكذلك هي في مصاحف أهل الحجاز والعراق ، وهم متفقون على الموضع الأول أنه «ذو». اهـ (زاد المسير. 8 / 129).

(5/105)


سُورَةُ الواقعة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله عزَّ وجلَّ : (إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1)
يقال لكل آت كان يتوقع قد وَقَعَ ، تقول : قد وقع الأمر.
كقولك قد جاء الأمر.
والواقعة ههنا الساعة والقيامة.
* * *
وقوله : (خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3)
المعنى أنها تخفض أهل المعاصي ، وترفع أهل الطاعة.
و (خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ) ا لقراءة بالرفع ، والنصبُ جائز ولم يقرأ به إمام من القراءَ ، وقد رويت عن الزِيدي صاحب أبي عمرو ابن العلاء ، فمن رفع وهو الوجه.
فالمعنى هي خافضة رافعة
ومن نصب فعلى وجهين :
أحدهما " إذا وقعت الواقعة خافِضَةً رافِعةً " على الحال
ويجوز على إضمار " تقع " ويكون المعنى إذا وقعت
تقع خافضة رافعة - على الحال من تقع المضمر.
* * *
وقوله - عزَّ وجلَّ - : (لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2)
أي لا يردها شيء كما تقول : قَدْ حَمَلَ فُلان لا يُكَذَبُ ، أي لايرد حَمْلَته
شيء
و " كَاذِبَة " مصدر كقولك [عافاه] الله عافية وعَاقَبَهُ عاقبة ، وكذلك كذب
كاذبة ، وهذه أسماء في مَوْضِعِ المَصَادِرِ.
* * *
وقوله : (إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4)

(5/107)


موضع " إذا " نصب.
المعنى إذا وقعت في ذلك الوقت.
ويجوز النَصْب على " تقع " (إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا).
ومعنى (رُجَّتِ) حركت حركة شديدة وزلزلتْ.
* * *
(وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5)
(بُسَّتِ) لُتَّت وخُلِطتْ ، و (بُسَّتِ) أيضاً سابتْ.
* * *
(فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6)
غباراً ، ومثله (وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا).
ومثل خُلِطتْ ولُتَّت
قول الشاعر :
لا تَخْبِزوا خَبْزاً وبُسَّا بَسَّا . . .
ومثل [سابت وانسابتْ] قوله :
وانْبَسَّ حَيَّاتُ الكَثِيبِ الأَهْيَلِ
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7)
أي أصنافاً ثلاثة ، يقال للأصناف التي بعضها مع بعض أزواج
كما يقال للخفين زوجان.
* * *
وقوله . : (فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8)
رفع بالابتداء.
والمعنى وأصحاب الميمنة ما هم ، أي شيء هُمْ
(وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9)
أي شيء هم.
وهذا اللفظ مجراه في العربية مجرى

(5/108)


التعَحب ، ومجراه من اللَّه - عزَّ وجلَّ - في مخاطبة العباد مجرى ما يعظم به
الشأنُ عندهم . .
ومثله (الحاقة ما الحاقة) ، و (القارعة ما القارعة).
ومعنى (أصحاب الميمنة) أصحاب اليمين.
(وأصحاب المشامة) أصحاب الشمال.
(وأصحاب اليمين) هم أصحاب المنزلة الرفيعة.
وأصحاب الشمال هم أصحاب المنزلة الدنيئة الخسيسة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : ( وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11)
معناه - واللَّه أعلم - السابقون السابقون إلى طاعة اللَّه عزَّ وجل
والتصديق بأنبيائه.
والسابقون الأول رفع بالابتداء ، والثاني توكيد ، ويكون
الخبر (أولئك المقربون).
ثم أخبر أين محلهم فقال : (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12)
ويجوز أن يكون السابِقُون الأول رفعاً بالابتداء.
ويكون خبره (السابقون) الثاني.
فيكون المعنى - واللَّه أعلم - السابقون إلى طاعة اللَّه السابقون إلى
رحمة اللَّه.
ويكون (أولئك المقربون) من صِفتهم.
* * *
وقوله : (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14)
(ثُلَّةٌ) رفع على معنى هم (ثُلَّةٌ).
والثُّلَّة : الجماعَة ، وهذا - واللَّه أعلم - معنى (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ) أي جماعة ممن عاين الأنبياء وصدق بِهِمْ.
فالذين عاينوا جميع النبيين وصدَّقوا بِهِم أكثر ممن عاين النبي عليه السلام ، وذلك قوله في قصة يونس : (وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (148).
هَؤلاء سوى سائر من آمن بجميع الأنبياء ممن عاينهم وصَدَّقَهُم
ويجوز أن يكون الثُّلَّة بمعنى قليل من الأولين وقليل من الآخرين.
لأن اشتقاق الثلة من القطعة.
والثل الكسر والقطع ، والثُّلَّة نحو الفئة والفرقة.
* * *
وقَوْلُه : (عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16)

(5/109)


(متكئين ، ومتقابلين) منصوبان على الحال ، المعنى أولئك المقربون في
جنات النعيم في هذه الحال.
والسرر جمع سرير ، مثل كثيب وكثب.
ومعنى " متقابلين " ينظر بعضهم إلى وجوه بعض ولاينظر في أقفاء بعض.
وصفوا مع نعمهم بحسن العشرة وتهذيب الأخلاق ، وصفاء المودة ومن
ذلك قوله عزَّ وجلَّ : (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47).
وجاء في التفسير (موضونة) مرمولة ومعنى مرمولة منسوجة ، نحو نسج
الدروع ، وجاء في التفسير أنها من ذهب.
ومثل موضونة قول الأعشى.
ومن نَسْجِ داودَ مَوْضونَة . . . يُساقُ بها الحَيُّ عِيراً فَعِيرا
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18)
الأكواب آنية لا عُرى لها ولا خراطيم ، والِإبريق ما له خرطوم وعُروة.
(وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ).
والكأس : الِإناء فيه الشراب ، فإن لم يكن فيه شراب فليس بكأسِ.
وقوله : (مِنْ مَعِينٍ) معناه من خمر تجْري من العُيونِ.
* * *
وقوله : (لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19)
تأويله لا ينالهم عن شربها ما يَنال أهل الدنيا من الصُّداع.
(وَلَا يُنْزِفُونَ) لا يسكرون ، والنزيف السكران ، وإنما قيل له نزيف ومنزوف لأنه نزف عقله.
ويقرأ (وَلَا يُنْزَفُونَ) ، معناه لا ينزف شَرابُهُمْ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23)

(5/110)


بالخفض ، وقرئت بالرفع ، والذين قرأوها بالرفع كرهوا الخفض لأنَّهُ
عطف على قوله : (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ).
فقالوا : الحور ليس مما يطاف به ، ولكن مخفوض على غير ما ذهب إليه هؤلاء لأن معنى (يطوف عليهم وِلْدَان مخلدونَ) ينعمون بهذا ، وكذلك ينعمون بلحم طيرٍ وكذلك ينعمون بحورٍ عِينٍ.
ومن قرأ بالرفع فهو أحْسَن الوجهين لأن معنى (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ) بهذه الأشياء بمعنى ما قد ثبت لهم فكأنه قال : ولهم حُورٌ عِينٌ.
ومثله مما حمل على المعنى قول الشاعر :
بَادَت وغُيِّر آيهن مع البلي . . . إلاَّ رَواكدَ جَمْرُهُنَّ هَباءُ
ومشججٌ أما سواءُ قذا له . . . فبدا وغيره سَارَه المَعْزَاءُ
لأنه قال : إلَّا رَوَاكِدَ ، كان المعنى بها رَوَاكِد ، فَحَمَلَ ومشججٌ على
المعنى.
وقد قرئت (وحوراً عِيناً) بالنَّصْبِ على الحمل على المعنى أيضاً ، لأن
المعنى يُعْطَوْن هذه الأشياءَ يُعْطَون حوراً عيناً ، إلا أن هذه القراءة تخالف
المصحف الذي هو الِإمَامَ ، وأهل العلم يكرهون أن يُقْرَا بِمَا يَخَالِف الِإمَامَ.
ومعنى الحور : الشديدات البياض ، والعِين الكبيرات العيُونِ حِسَانها (1).
ومعنى (كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23)
أي كأمثال الدر حين يخرج من صَدَفِه وَكِنِّه.
لم يغيره الزَّمَان واختلاف أحوال الاستعْمَال وإنما يعنى بقوله :
(كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ) أي في صفائهن وتَلْألُئِهِن كصفاء الدُّرِّ وتَلَألِئِه.
* * *
وقوله : (جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24)
منصوب مفعول له.
المعنى يفعل بهم ذَلِكَ لِجَزاءِ أعمَالَهم.
ويجوز أن يكون (جَزَاءً) منصوباً على أنه مصدر.
لأن معنى (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ)
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { وَحُورٌ } قرأ الأخَوان بجرِّ « حور عين » . والباقون برفعِهما . والنخعيُّ : « وحِيرٍ عين » بقلب الواو ياءً وجرِّهما ، وأُبَيٌّ وعبد الله « حُوْراً عيناً » بنصبهما . فأمَّا الجرُّ فمن أوجه ، أحدها : أنه عطفٌ على { جَنَّاتِ النعيم } [ الواقعة : 12 ] كأنه قيل : هم في جنات وفاكهة ولحمٍ وحورٍ ، قاله الزمخشري . قال الشيخ : « وهذا فيه بُعْدٌ وتفكيكُ كلامٍ مرتبطٍ بعضُه ببعض ، وهو فُهْمُ أعجمي » . قلت : والذي ذهب إليه معنى حسنٌ جداً ، وهو على حَذْفِ مضافٍ أي : وفي مقاربة حور ، وهذا هو الذي عناه الزمخشري . وقد صرَّح غيرُه بتقدير هذا المضاف . الثاني : أنه معطوفٌ على « بأكواب » وذلك بتجوُّزٍ في قوله : « يطُوفُ » إذ معناه : يُنَعَّموْن فيها باكواب وبكذا وبُحور ، قاله الزمخشري . الثالث : أنه معطوفٌ عليه حقيقةً ، وأن الوِلْدانَ يَطُوفون عليهم بالحور أيضاً ، فإن فيه لذةً لهم ، طافُوا عليهم بالمأكولِ والمشروبِ والمُتَفَكَّهِ بعد المنكوحِ ، وإلى هذا ذهب أبو عمرو بن العلاء وقطرب . ولا التفات إلى قولِ أبي البقاء : « عطفاً على أكواب في اللفظ دون المعنى؛ لأنَّ الحوَر لا يُطاف بها ».
وأمَّا الرفعُ فمِنْ أوجهٍ أيضاً ، عطفاً على « ولْدانٌ » ، أي : إنَّ الحورَ يَطُفْنَ عليهم بذلك ، كما الوَلائدُ في الدنيا . وقال أبو البقاء : « أي : يَطُفْنَ عليهم للتنعُّمِ لا للخدمة » قلت : / وهو للخدمةِ أبْلَغُ؛ لأنهم إذا خدمهم مثلُ أولئك ، فما الظنُّ بالمَوْطوءات؟ الثاني : أَنْ يُعطفَ على الضمير المستكنِّ في « مُتَّكِئين » وسَوَّغ ذلك الفصلُ بما بينهما . الثالث : أَنْ يُعْطفَ على مبتدأ وخبر حُذِفا معاً تقديرُه : لهم هذا كلُّه وحورٌ عين ، قاله الشيخ ، وفيه نظر؛ لأنَّه إنما عُطِف على المبتدأ وحدَهُ ، وذلك الخبرُ له ولِما عُطِف هو عليه.
الرابع : أَنْ يكونَ مبتدأً ، خبرُه مضمرٌ تقديرُه : ولهم ، أو فيها ، أو ثَمَّ حورٌ . وقال الزمخشري « على وفيها حُوْرٌ كبيت الكتاب :
4211 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . إلاَّ رَواكدَ جَمْرُهُنَّ هَباءُ
الخامس : أن يكونَ خبراً لمبتدأ مضمر ، أي : نساؤهم حورٌ ، قاله أبو البقاء . وأمَّا النصبُ ففيه وجهان ، أحدهما : أنه منصوبٌ بإضمارِ فِعْل ، أي : يَعْطَوْن ، أو يَرِثُون حُوْراً ، والثاني : أن يكونَ محمولاً على معنى : يَطوف عليهم؛ لأن معناه يُعْطَوْن كذا وكذا فعطف عليه هذا . وقال مكي : » ويجوز النصبُ على أَنْ يُحْمَلَ أيضاً على المعنى؛ لأنَّ معنى يَطوفُ وِلْدانٌ بكذا وكذا يُعْطَوْن كذا وكذا ، ثم عطف حوراً على معناه « فكأنه لم يَطَّلعْ عليها قراءةً.
وأمَّا قراءةُ » وحِيْرٍ « فلمجاورتها » عين « ولأنَّ الياءَ أخفُّ من الواو ، ونظيرهُ في التغيير للمجاورة : » أَخَذَه ما قَدُم وما حَدُث « بضم دال » حَدُث « لأجل » قَدُم « وإذا أُفْرِد منه فَتَحْتَ دالَه فقط ، وقوله عليه السلام :
« وربِّ السماوات ومَنْ أَظْلَلْنَ ورَبِّ الشياطين ومَنْ أَضْلَلْنَ » وقوله عليه السلام : « أيتكنَّ صاحبةُ الجمل الأَرْبَب تَنْبَحُها كلابُ الحَوْءَب » فَكَّ « الأَرْبَبَ » لأجل « الحَوْءَب ».
وقرأ قتادة « وحورُ عينٍ » بالرفع والإِضافة ل « عين » وابن مقسم بالنصب والإِضافةِ وقد تقدَّم توجيهُ الرفع والنصب . وأمَّا الإِضافةُ فمِنْ إضافة الموصوف لصفته مؤولاً . وقرأ عكرمةُ « وحَوْراءَ عَيْناءَ » بإفرادِهما على إرادةِ الجنس . وهذه القراءةُ تحتمل وجهَيْن : أحدهما : أَنْ تكونَ نصباً كقراءة أُبَيّ وعبد الله ، وأن تكونَ جرَّاً ، كقراءة الأخوَيْن؛ لأن هذين الاسمَيْن لا ينصرفان فهما محتملان للوجَهْين . وتقدَّم الكلام في اشتقاق العِين.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5/111)


يجازون جزاء بأعمالِهِم.
وهذا الوجه عليه أكثر النحويين.
* * *
وقوله : (إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26)
(قِيلًا) منصوب بقوله (لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26).
فالمعنى لا يسمعون إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا ، مَنصوبٌ من جهتين
إحداهما أن يكون من نعت لـ (قِيلًا) ، فيكون المعنى لا يَسْمَعون إلا قيلاً يسلم فيه من اللغو والِإثم.
والوجه الثاني أن يكونَ (سَلاَماً) منصوباً على المصدر ، فيكون
المعنى لا يسمعون فيها إلا أن يَقولَ بعضهُم لبعض سَلَامًا سَلَامًا.
ودليل هذا قوله تعالى : (تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29)
المخضود : الذي قد نزع شوكه ، والطلح جاء في التفسير أنه شجر
الموز ، والطلح شجر أم غَيْلانَ أيضاً ، وجائز أن يكون يعنى به ذلك الشجر.
لأنَّ له نَوْراً طيب الرائحة جدًّا ، فخوطبوا ووعدوا بما يحبُّونَ مثله ، إلا أن فضله على ما في الدنيا كفضل سائر ما في الجنة على ما في الدنيا.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30)
معناه تام دائم.
* * *
وقوله : (وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31)
يعنى به أنه ماء لا يتعبون فيه ينسكب لهم كيف يحبون.
* * *
وقوله : (إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35)
يعني الحورَ ، أنْشِئْنَ لأولياء الله عَزَّ وجل ، لَيْسَ ممن وقعت عليه ولادة.
* * *
(فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36)
لَمْ يُطْمِثْنَ.
* * *
(عُرُبًا أَتْرَابًا (37)
عُرُباً ، والعرب المتحببات إلى ازوَاجِهِنَ .

(5/112)


وقوله : (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40)
معناه - واللَّه أعلم - جماعة ممن تبع النبي - صلى الله عليه وسلم - وعاينه ، وجماعة ممن آمن به وكان بعده.
* * *
وقوله : (وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43)
اليحموم الشديد السواد ، وقيل إنه الدخان الشديد السَّوَاد.
وقيل (وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ) أي من نار يعذبون بها.
ودليل هذا قوله عزَّ وجلَّ : (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ) إلا أنه موصوف في هذا الموضع بِشِدة السواد.
* * *
(وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46)
قيل في التفسير : الحنث الشرك ، وَقيل على الِإثم العظيم ، وهو - واللَّه
أعلم - الشرك والكفر بالبعث ، لأن في القرآن دليل ذلك وهو
(وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا) فهذا - واللَّه أعلم - إصرارهم على الحنث العظيم.
* * *
(فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55)
ويقرأ (شَرْبَ الْهِيمِ) ، والشَّرْب المصدر ، والشُّربُ الاسم ، وقد قيل إن
الشُّرْب أيضاً مَصْدَرٌ . والهيم الِإبلُ العِطَاشُ (1).
* * *
وقوله : ( هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56)
أي هذا غذاؤهم يوم الجزاء أي يوم يجازَوْنَ بأعمالهم.
* * *
وقوله : (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58)
أي ما يكون منكم من المَنِيِّ الذي يكون مِنهُ الوَلَدُ ، يقال : أمنى الرجل
يمني ، ومَنَى يَمْنِي.
فيجوز على هذا " تَمْنُون " بفتح التاء ، ولا أعلم أحداً قرأ بها ، فلا تقرأنَّ بها إلا أن تثبت رواية.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { شُرْبَ الهيم } : قرأ نافعٌ وعاصمٌ وحمزةُ بضم الشين ، وباقي السبعة بفتحِها ، ومجاهد وأبو عثمان النهدي بكسرِها فقيل : الثلاثُ لغاتٌ في مصدر شَرِب ، والمقيسُ منها إنما هو المفتوحُ . وقيل : المصدرُ هو المفتوحُ والمضموم والمكسورُ اسمان لِمَا يُشْرَبُ كالرِّعْي والطِّحْن . / وقال الكسائي : يُقالُ شرِبْتُ شُرباً وشَرْباً . ويروى قولُ جعفر : « أيامُ مِنى أيامُ أكلٍ وشُرْبٍ وبِعال » بفتح الشين . والشَّرْب في غيرِ هذا اسمٌ للجماعة الشاربين قال :
4215 كأنَّه خارِجٌ من جَنْبِ صَفْحَتِهِ . . . سَفُّوْدُ شَرْبٍ نَسُوْهُ عند مُفْتَأَدِ
والمعنى : مثلَ شُرْبِ الهِيم . والهِيْمُ فيه أوجهٌ ، أحدها : أنه جَمْعُ أَهْيمَ أو هَيْماء ، وهو الجَمَلَُ والناقةُ التي أصابها الهُيامُ وهو داءٌ مُعْطِشٌ تشرب الإِبلُ منه إلى أن تموتَ أو تَسْقُمُ سُقْماً شديداً ، والأصلُ : هُيْم بضمِّ الهاءِ كأَحْمر وحُمْراء وحُمْر ، فقُلِبت الضمةُ كسرةً لتصِحَّ الياءُ ، وذلك نحو : بِيْض في أبيض . وأُنْشد لذي الرمة :
4216 فأصبَحْتُ كالهَيْماءِ لا الماءُ مُبْرِدٌ . . . صَداها ولا يَقْضي عليها هُيامُها
الثاني : أنه جمع هائِم وهائِمة من الهُيام أيضاً ، إلاَّ أنَّ جَمْعَ فاعِل وفاعِلة على فُعْل قليلٌ نادرٌ نحو : بازِل وبُزْل وعائِذ وعُوْذ ومنه : العُوْذُ المَطافيل . وقيل : هو من الهُيام وهو الذَّهابُ؛ لأنَّ الجملَ إذا أصابه ذلك هامَ على وَجْهه . الثالث : أنه جمع هَيام بفتح الهاء وهو الرَّمْلُ غيرُ المتماسكِ الذي لا يُرْوَى من الماء أصلاً ، فيكونُ مثلَ سَحاب وسُحُب بضمتين ، ثم خُفِّف بإسكان عينه ثم كُسِرَتْ فاؤه لتصِحَّ الياء ، كما فُعِلَ بالذي قبله . الرابع : أنَّه جمعُ « هُيام » بضم الهاء وهو الرَّمْل غيرُ المتماسكِ أيضاً لغةً في « الهَيام » بالفتح ، حكاها ثعلب ، إلاَّ أن المشهورَ الفتحُ ثم جُمع على فُعْل نحو : قُراد وقُرْد ، ثم خُفِّفَ وكُسِرَتْ فاؤُه لتصِحَّ الياء والمعنى : أنَّه يُصيبهم من الجوع ما يُلجِئُهم إلى أَكْلِ الزَّقُّوم ، ومن العطشِ ما يَضْطرُّهم إلى شُرْب الحميم مثلَ شُرْبِ الهِيْم . وقال الزمخشري : « فإن قلتَ : كيف صَحَّ عَطْفُ الشاربين على الشاربين ، وهما لذواتٍ واحدةٍ ، وصفتان متفقتان ، فكان عطفاً للشيء على نفسِه؟ قلت : لَيْستا بمتفقتَيْن من حيث إنَّ كونَهم شاربين على ما هو عليه مِنْ تناهي الحرارة وقَطْع الأمعاء أمرٌ عجيبٌ ، وشُرْبُهم له على ذلك كما تَشْرَب الهِيم أمرٌ عجيب أيضاً ، فكانتا صفتَيْن مختلفتَيْن » انتهى يعنى قولَه : « فشاربون عليه من الحميم ، فشاربون » وهو سؤالٌ حسنٌ ، وجوابُه مثلُه.
وأجاب بعضُهم عنه بجواب آخر : وهو أنَّ قولَه : { فَشَارِبُونَ شُرْبَ الهيم } تفسيرٌ للشُرْب قبلَه ، ألا ترى أنَّ ما قبلَه يَصْلُح أن يكونَ مثلَ شُرْبِ الهيمِ ومثلَ شُرْبِ غيرِها ففَسَّره بأنه مثلُ شُرْبِ هؤلاء البهائم أو الرِّمالِ.
وفي ذلك فائدتان ، إحداهما : التنبيهُ على كثرةِ شُرْبهم منه والثاني : عَدمُ جَدْوَى الشُّرْب ، وأن المشروبَ لا يَنْجَعُ فيهم كما لا يَنْجَعُ في الهِيْم على التفسيرَين.
وقال الشيخ : « والفاءُ تقتضي التعقيبَ في الشُّرْبَيْنِ ، وأنهم أولاً لمَّا عَطِشوا شَرِبوا من الحميم ، ظَنّاً منهم أنه يُسَكِّنُ عَطَشَهُم ، فازداد العطشُ بحرارةِ الحميمِ ، فشربوا بعده شُرْباً لا يقع بعدَه رِيٌّ أبداً . وهو مِثْلُ شُرْبِ الهيم فهما شُربان مِنَ الحَميم لا شُرْبٌ واحدٌ ، اختلفَتْ صفتاه فَعَطف . والمشروبُ مِنْه في { فَشَارِبُونَ شُرْبَ الهيم } محذوفٌ لفَهْمِ المعنى تقديرُه : فشاربون منه » انتهى . والظاهرُ أنه شُرْبٌ واحدٌ بل الذي نعتقدُ هذا فقط ، وكيف يُناسِبُ أَنْ تكونَ زيادتُهم العطشَ بشُرْبِه مقتضيةً لشُرْبِهم منه ثانياً؟
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5/113)


رقوله : (أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59)
احتج عليهم في البعث بالقدرة على ابتداء الخلق كما قال عزَّ وجلَّ :
(وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61)
أي إن أردنا أن نخلق خلقاً غيركم لم يسبقنا سابق ولا يفوتنا ذلك.
* * *
وقوله : (وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61)
أي إن أردنا أن نجعل منكم القردة والخنازير لم نسبق ولَا فَاتَنا ذَلك.
* * *
(وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62)
أي قد علمتم ابتداء الخلق فلم أنَكرتم البعث.
ومعنى " لَوْلَا تَذَكَّرُونَ " هلَّا تذكرون.
* * *
وقوله : (لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65)
أي لو جعلنا ما تزرعون حطاماً ، أي أبطلناه حتى يكون متحطماً لا حنطة
فيه ولا شيء مما تَزْرَعُونَ.
(فَظَلْتُم تَفًكَّهُونَ).
أي تَنَدّمُون ، ويجُوزُ فَظِلْتُم تفكهون - بكسر الظاء - (1)
* * *
وقوله : (إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66)
أي يقولون قد غرمنا وذهب زرعنا ، (بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ).
* * *
وقوله : (أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69)
وهي السحاب واحدته مُزْنَةٌ وجمعه مُزْن.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { فَظَلْتُمْ } : هذه قراءةُ العامَّةِ أعني فتحَ الظاء مع لامِ واحدة . وقد تقدَّم الكلامُ عليها مستوفى في طه . وأبو حيوة وأبو بكرٍ في روايةٍ بكسرِ الظاء . وعبد الله والجحدريُّ « فظَلِلْتُمْ » على الأصل بلامَيْن ، أُولاهما مكسورةٌ . ورُوي عن الجحدري فتحُها ، وهي لغةٌ أيضاً.
والعامةُ « تَفَكَّهون » بالهاء ، ومعناه : تَنْدَمون ، وحقيقتُه : تُلْقُون الفُكاهةَ عن أَنْفسِكم ، ولا تُلْقَى الفُكاهةُ إلاَّ من الخِزْيِ فهو من بابِ : تَحَرَّج وتَأَثَّم وتَحَوَّب . وقيل : تَفَكَّهون : تَعْجَبون . وقيل : تَلاومون ، وقيل : تَتَفَجَّعون ، وهذا تفسيرٌ باللازم.
وقرأ أبو حرام العكلي « تَفَكَّنون » بالنون مثل تَتَنَدَّمون . قال ابن خالويه : « تَفَكَّهَ تَعَجَّب ، وتَفَكَّن تندَّمَ » . وفي الحديث : « مَثَلُ العالِمِ مَثَلُ الحَمَّة يَأْتيها البُعَداء ويترُكها القُرَباء . فبيناهُمْ إذ غار ماؤها فانتفع بها قومٌ وبقي قومٌ يَتَفَكَّنون » أي : يَتَنَدَّمون.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5/114)


وقوله : (لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70)
الأجاج الماء الملح الذي لا يمكن شربه ألبتَّة.
(فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ) ، معناه " فَهَلَّا.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71)
معناه تقدحونَ ، تقول وري الزند يَرِي ورْياً ، فهو وارٍ إذا انقدحت منه
النار ، وأوريت النار إذا قدحتها ، والعرب تقدَحُ بالزندِ والزنْدَةِ ، وهذا خشب يحك بعضه على بعض فيخرجِ منه النار ، فقال :
* * *
(أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73)
أي إذا رآها الرائي ذَكَرَ جهنم وما يخافه من العذاب ، فذكر الله عزَّ وجلّ
واستجار به منها.
ومعنى (مَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ) ، المقوي الذي ينزل بالقواء.
وهي الأرض الخالية.
فذكر اللَّه - عزَّ وجلَّ - جمع ما يدل على توحيده وما أنعم به عليهم من
خَلْقِهم ، وتغذيتهم مما يأكلون ويشربون ، مما يدل على قَدْرَتِهِ ووحدانيتَه.
ثم قال عزَّ وجلَّ :
* * *
(فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)
أي فبرِّئ اللَه - عزَّ وجلََّ.
[لما ذكر ما يدل على توحيده ، وقدرته ، وإنعامه ، قال : «فسبح» أي : برِّء الله ونزّهه عما يقولون في وصفه] (1).
* * *
(فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75)
معناه أقسم ، ودخلت (لَا) توكيداً كما قال عزَّ وجل :
(لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ) ، معناه لأن يعلم أهل الكتاب.
ومواقع النجوم مَسَاقِطُها.
كما قال - عزَّ وجلَّ - (فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ).
وقيل إن مواقعِ النجومِ يعنى به نجوم القرآن ، لأنه كان ينزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - نُجُوماً شيئاَ بَعْدَ شَيءٍ (2)
ودليل هذا القول (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77).
* * *
وقوله : (فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78)
أي مصون في السماء في اللوح المحفوظ.
__________
(1) زيادة حكاها ابن الجوزي عن الزَّجَّاجِ. (زاد المسير. 8 / 150).
(2) قال السَّمين :
قوله : { فَلاَ أُقْسِمُ } : قرأه العامَّةُ « فلا » ، لامَ ألفٍ ، وفيها أوجهٌ ، أحدُها : أنها حرفُ نفي ، وأنَّ المنفيَّ بها محذوفٌ ، وهو كلامُ الكافرِ الجاحدِ تقديرُه : فلا حُجَّةَ لِما يقولُ الكافرُ ، ثم ابتدأ قَسَماً بما ذَكَر ، وإليه ذهب جماعةٌ من المفسِّرين والنَّحْويين . وضُعِّفَ هذا : بأنَّ فيه حَذْفَ اسمِ « لا » وخبرِها . قال الشيخ : « ولا يجوز » ولا ينبغي؛ فإن القائلَ بذلكَ مثلُ سعيدِ بنِ جُبير تلميذِ حَبْر القرآنِ وبحرِه عبدِ اللَّهِ ابن عباس رضي الله عنهما ، ويَبْعُدُ أَنْ يقولَه سعيدٌ إلاَّ بتوقيف.
الثاني : أنها زائدةٌ للتوكيدِ ، مِثْلُها في قولِه تعالى : { لِّئَلاَّ يَعْلَمَ } [ الحديد : 29 ] والتقدير : فأُقْسِمُ ، وليَعْلَمَ ، وكقولِه :
4224 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . فلا وأَبي أعدائِها لا أَخُوْنُها
الثالث : أنَّها لامُ الابتداءِ . والأصلُ : فَلأُقْسِمُ فأُشْبِعَتْ الفتحةُ فتولَّد منها ألفٌ ، كقولِه :
4225 أَعوذُ باللَّهِ من العَقْرابِ . . . قاله الشيخُ ، واستشهدَ بقراءةِ هشام « أَفْئِيْدَة » . قلت . وهذا ضعيفٌ جداً ، واستند أيضاً لقراءةِ الحسن وعيسى/ « فَلأُقْسِمُ » بلامٍ واحدةٍ . قلت : وفي هذه القراءةِ تخريجان أحدُهما : أنَّ اللامَ لامُ الابتداءِ ، وبعدَها مبتدأٌ محذوفٌ ، والفعلُ خبرُه ، فلمَّا حُذِفَ المبتدأُ اتصلَتْ اللامُ بخبرِه وتقديرُه : فلأَنا أٌقْسِمُ نحو : لَزيدٌ منطلقٌ ، قاله الزمخشري وابن جني . والثاني : أنها لامُ القسمِ دخَلَتْ على الفعل الحالي . ويجوز أَنْ يكونَ القسم جواباً للقسمِ كقوله : { وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا } [ التوبة : 107 ] فنفسُ « ليَحْلِفُنَّ » قسمٌ جوابُه « إنْ أرَدْنَا » وهو جوابٌ لقسمٍ مقدرٍ ، كذلك هذا ، وهو قولُ الكوفيين : يُجيزون أَنْ يُقْسَم على فعلِ الحالِ . البصريُّون يَأْبَوْنه ويُخَرِّجون ما يُوهم ذلك على إضمار مبتدأ فيعود القسم على جملةٍ اسمية . ومنع الزمخشري أن تكونَ لامَ القسمِ قال : « لأمرَيْن ، أحدهما : أنَّ حَقَّها أَنْ تُقْرَنَ بالنونِ المؤكدةِ ، والإِخلالُ بها ضعيفٌ قبيحٌ . والثاني : أنَّ لأفعلنَّ في جواب القسم للاستقبالِ ، وفعلُ القسمِ يجب أَنْ يكونَ للحال » وهذا كما تقدَّم أنه يرى مذهبَ البَصرْيين ، ومعنى قولِه : « وفعلُ القَسَمِ يجبُ أنْ يكونَ للحال » يعني أنَّ فِعْلَ القسمِ إنشاءٌ والإِنشاءُ حالٌ . وإمَّا قولُه : « أَنْ يُقْرن بها النونُ » هذا مذهبُ البصريين . وأمَّا الكوفيون فيجيزون التعاقبَ بين اللام والنونِ نحو : واللَّهِ لأَضْرِبُ زيداً كقولِه :
4226 لَئِن تَكُ قد ضاقَتْ عليكم بيوتُكمْ . . . لَيَعْلَمُ ربِّي أنَّ بيتيَ واسعُ
وواللَّهِ اضربَنَّ زيداً كقولِه :
4227 وقتيلُ مُرَّةَ أَثْأَرَنَّ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقد تقدَّم قريبٌ من هذه الآية في قولِه تعالى : { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكِّمُوكَ } [ النساء : 65 ] ولكن هناك ما لا يُمْكن القولُ به هنا كما أنَّ هنا ما لا يمكن القولُ به هناك ، وسيأتي قريبٌ منه في القيامةِ في قراءةِ ابن كثير { لأُقْسِمُ بيوم القيامة } [ القيامة : 1 ].
وقرأ العامَّة « بمواقِع » جمعاً ، والأخَوان « بموقع » مفرداً بمعنى الجمع لأنَّه مصدرٌ فوُحِّدَ ، ومواقعُها : مَساقِطُها ومَغارِبُها.
وقيل : سُقوطُها يوم تَنْكَدِرُ . وقيل : النجومُ للقرآن ، ويؤيِّدُه « وإنَّه لَقَسَمٌ » ، و { إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ } والمُقْسَمُ عليه قولُه : { إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ } وعلى هذا فيكونُ في الكلام اعتراضان ، أحدُهما : الاعتراضُ بقوله : « وإنه لَقَسَمٌ » بين القسمِ والمُقْسَم عليه ، والثاني : الاعتراضُ بقولِه : « لو تعلمون » بين الصفةِ والموصوفِ . وأبى ابنُ عطية أَنْ يُجْعَلَ قولُه : « وإنَّه لَقَسَمٌ » اعتراضاً فقال : « وإنه لَقَسَمٌ » تأكيدٌ للأمرِ وتنبيهُ المُقْسَم به ، وليس هذا باعتراضٍ بين الكلامَيْن ، بل هذا معنىً قُصِدَ التَّهَمُّمُ به ، وإنما الاعتراضُ قولُه : « لو تعلمون » قلت : وكونُه تأكيداً ومُنَبِّهاً على تعظيمِ المُقْسَمِ به لا يُنافي الاعتراضَ بل هذا معنى الاعتراضِ وفائدتُه.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5/115)


وقوله : (لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79)
يعنى به الملائكة . لا يمسه في اللوح المحفوظ إلا الملائكة.
ويقرأ " الْمُطَهِّرُونَ " وهي قليلة ، ولها وجهان :
أحدهما الذين طَهَّروا أنفسهم من الذُنوبِ.
والثاني أن يكون الَّذِينَ يُطَهِّرونَ غيرهم.
* * *
وقوله : (تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80)
صفة لقوله (كريم) ، وإن شئت كان مرفوعاً على قوله هو تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81)
أي أفبالقرآن تكذِبُونَ ، والفدْهِن المدَاهِنَّ والكذاب المنافق.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82)
كانوا يقولون : مطرنا بنوء كذا ، ولا ينسبون السقيا إلى اللَّه - عزَّ وجلَّ -
فقيل لهم : أتجعلون رِزقكم أي شكركم بما رزقتم التكذيبَ.
وقرئت " وتَجْعَلُونَ شكْرَكمْ أنكم أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ "
ولا ينبغي أن يقرأ بها لخلاف المصحف.
وقد قالوا إن تفسير رزقكم ههنا الشكر ، ورووا أنه يقال " وتجعلون رزقي في
معنى شكري " وليس بصحيح.
إنما الكلام في قوله (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) يدل على معنى
" وتجعلون شكركم أنكم تكذَبُون "
أي تجعلون شكر رزقكم أن تقولوا : مطرنا بنوء كذا ، فَتكْذِبُونَ في ذلك.
* * *
وقوله : (فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83)
يعنى إذا بلغت الروح الحلقوم.
* * *
(وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84)
أي أنتم يا أهل الميِّت في تلك الحال ترونه قد صار إلى أن تخرج نفسه.
* * *
(وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85)

(5/116)


جاء في التفسير أنه لا يموت أحد حتى يعلم أهو من أهل الجنَّةِ أم من
أهل النَّارِ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87)
ومعناه هلَّا ترجعون الروح إن كنتم غير مَدِينين ، أي غيرمَمْلوكين
مُدَبَّرين ليس لكم في الحياة والموت قدرة ، فهلَّا إن كنتم كما زعمتم ومثل
قولكم الذي جاء في القرآن : (الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168).
كما قال (أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا).
فالمعنى إن كنتم تقدرون أن تؤخروا أجلًا فهلَّا تَرْجِعُون الروح إذا بلغت
الحلقوم ، وهلَّا تدرأون عن أنفسكم الموت.
* * *
وقوله : (فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89)
بفتح الراء في (رَوح) . ومعناه فاستراحة وبرد ، (وَرَيْحَانٌ) رزق
قال الشاعر :
سلام الإله وريحانه . . . ورحمته وسماء دِرَرْ
ورُوِيت " فَرُوحٌ " بضم الراء ، وتفسيره فحياة دائمة لا موت بعدها
(وَرَيْحَانٌ) رِزق . وجائز أن يكون ريحان ههنا تحية لأهل الجنة ، وأجمع النحويون أن أصل ريحان في اللغة (رَيِّحَان) من ذوات الواو فالأصل " رَيْوِحان " فقلبت الواو

(5/117)


ياء وأدغمت فيها الأولى ، فصارت ريحان ، فخفف كما قالوا في " ميِّتٍ
ميْت ، ولا يجوز في " رَيْحان " التشديد إلا على بُعْدٍ لأنه قد زيد فيه ألف ونون فخفف بحذف الياء وألزم التخفيف.
ورفعه على معنى فأما إن كان المتوفى من المقربين فله روح وَرَيْحان.
* * *
وقوله : (وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91)
وقد بيَّن ما لأصحاب اليمين في أوَل السورة.
ومعنى (فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91)
أنك ترى فيهم ما تحب من السَّلاَمةِ وقد علمت ما أُعِدَّ لهم من الجزاء.
* * *
وقوله : (وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93)
وُيقْرا (فَنُزْل) بالتخفيف والتثقيل.
فمعناه فغذاء من حميم وتَصْلِيَة جحِيمً).
أي إقامةً في جحيم.
فأَعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أن الجحيم ههنا للمكذبين الضالين.
* * *
وقوله : (إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95)
أي إن هذا الذي قصصنا عليك في هذه السورة من الأقاصيص وما أعد
اللَّه لأوليائه وأعدائه وما ذكِرَ مما يدل على وحدانيته لَيَقِين حَق اليقين ، كما
تقول : " إن زيداً لعالم حق عالم ، وإنه للْعَالِم حق العَالِم "
إذا بالغت في التوكيد.
* * *
وقوله : (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)
أي فَنَزِّهِ اللَّه - عزَّ وجلَّ - عن السوء ، لأن معنى سبحان اللَّه تنزيه اللَّه عن

(5/118)


السوءِ . كذلك جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وأهلُ اللغة كذلك يُفَسِّرونَه . بَرَاءة اللَّه من السوء.
وأنشَدَ سِيبَوَيْه في هذا المعنى :
أقول لما جاء في فخره . . . سبحان من علقمة الفاجر
أي أبرأ منه .

(5/119)


سُورَةُ الحديد
(مدنية)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله عزَّ وجلَّ : (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
(1)
قال قوم : التسبيح آثار الصنعة في السَّمَاوَاتِ وفي الأرضِ ومن فيهما
وكذلك فسروا قوله : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) ، وهذا خطأ ، التسبيحِ تمجيد اللَّه وتنزيهه من السوء ودليل ذلك قوله :
(وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْيِيحَهُمْ) فلو كان التسبيح آثارَ الصّنعة لكانَتِ مَعقوله ، وكانوا يفقهونها.
ودليل هذا القول أيضاً قوله : (وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ) ، فلو كان تسبيحها آثار الصنعة لم يكن في قوله (وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ) فائدة.
* * *
وقوله : (لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2)
أي يحي الموتى يوم القيامةِ ، وُيميتُ الأحياء في الدنيا.
ويكون يُحْيِي وَيُمِيتُ : يُحْيِي النطف التي إِنَّمَا هي مَوَات ، وَيُمِيتُ الأحياء.
ويكون موضع (يُحْيِي وَيُمِيتُ) رَفْعاً على معنى هو يُحْيِي وَيُمِيتُ.
ويجوز أن يكون نصباً على معنى له ملك السَّمَاوَات والأرض مُحْيياً ومُمِيتاً
قادِراً.

(5/121)


وقوله تعالى : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3)
تأويله هو الأول قبل كل شيء والآخر بعد كل شيء ، والظاهر العالم بما
ظهر والباطن العالم بما بطن ، كما تقول : فلان يُبْطُنُ أمر فُلانٍ ، أي يعلم دِخْلَةَ أمْرِه.
(وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)
لا يخفى عليه شيء
* * *
وقوله تعالى : (يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)
تأويله يعلم ما يدخل في الأرض من مَطَرٍ وَغَيْرِه.
(وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا) من نبات وغيره.
(وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ) من رزق ومطر وملك.
(وَمَا يَعْرُجُ فِيها).
أي ما يصعد إليها من أعمال العباد ، وما يَعْرُج مِنَ الملائكة.
* * *
(يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ
(6)
معناه يدخل الليل في النهار بأن ينقص من الليل ويزيد في النَّهَارِ.
وكذلك (وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ) ينقص من النهارَ ويزيد في الليْلِ وهو مثل
قوله : (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ).
* * *
وقوله : (آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7)
معناه صَدقوا بأن اللَّه واحد وأن محمداً رسوله.
(وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ).
أي أنفقوا مما مَلككم ، فأنفقوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا يُقَربُ مِنْهُ.
* * *
وقوله : (وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10)

(5/122)


تأويله وأي شيء لكم في ترك الِإنفاق فيما يقرب من اللَّه وأنتم مَيِّتونَ
تَارِكُونَ أمْوَالَكُم.
وقوله : (لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا).
لأن من تقدم في الِإيمان باللَّه وبرسوله عليه السلام وصَدَّقَ به فهو أفضل
مِمنْ أتى بعدَه بالِإيمان والتصديق ، لأن المتقدِّمينَ نالهم من المشقة أكثر مما
نال مَنْ بَعْدَهُمْ ، فكانت بصائرهم أيضاً أنفذ.
وقال : (وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى).
إلا أنه أعلم فضل السابق إلى الِإيمان على المتأخر.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11)
(فَيُضَاعِفُهُ لَهُ)
ويقرأ (فَيُضَاعِفَهُ لَهُ) - بالنصب ، فمن نصب فعلى جواب الاستفهام
بالفاء ، ومن رفع فعلى العطف على يقرض ، ويكون على الاستئناف على
معنى فهو يضاعفه له.
ومعنى (يُقْرِضُ) ههنا يفعَل فعلاً حسناً في اتِّباع أمر اللَّه وطاعته.
والعرب تقول لكل من فعل إليها خيراً : قد أحَسْنَتَ قَرْضِي ، وقد
أقرضتني قرضاً حَسَناً ، إذا فعل به خيراً.
قال الشاعر :
وإِذا جُوزِيتَ قَرْضاً فاجْزِه . . . إِنما يَجْزِي الفَتَى ليْسَ الجَمَلْ
المعنى إذا أسدي إليك معروف فكافئ عليه.
* * *
وقوله : (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)
(يَوْمَ) منصوب بقوله : (فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ) في ذلك اليوم .

(5/123)


ومعنى : (يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ).
أي بمعنى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ، وهو علامة أيديهم الصالحة.
(يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا) ، أي بلغنا به إِلى جَنَتِك.
* * *
وقوله تعالى : (يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13)
وقرئت (أنْظِرُونا) - بقطع الألف ووصلها -
فمن قال : (انْظُرُونَا) فهو من نظر ينظر ، معناه انتظرونا.
ومن قال : (أنْظِرُونا) - بالكسر - فمعناه - أَخِّرونا.
وقد قيل إنَ مَعْنَى " أنْظِرونا " انتظرونا أيضاً.
وأنْشَدَ القائل بيت عمرو بن كلثوم :
أَبا هِنْدٍ فلا تَعْجَلْ علينا . . . وأَنْظِرْنا نُخَبِّرْكَ اليَقِينا
وقوله : (قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا).
تأويله لا نور لَكم عندنا.
وقوله : (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ).
أي ما يلي المؤمنين ففيه الرحمة ، وما يلي الكافرين ظاهره يأتيهم مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ.
* * *
قوله عزَّ وجلَّ : (وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14)
معنى (فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ) اسْتَعْمَلُتُموهَا في الفِتْنَةِ ، وتربصتم بالنبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين الدوائر.
(وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ).
أي ما كنتُمْ تَمنَّونَ من نزول الدوائر بالمؤمنين.
(حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ).

(5/124)


أي حتى أنزل الله نَصْرَهُ عَلَى نَبِيِّهِ والمؤمنين.
(وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ).
أيْ غَرَّكُمُ الشَيْطَانُ ، وهو الغرور على وَزْن الفَعُول ، وَفَعُول من أسماء
المبالغة ، تقول : فلان أكول إذا كانَ كثير الأكل وضروبٌ إذَا كانَ كثير
الضرْبِ ، ولذلك قيل للشيطان : الغرور لأنه يَغُرُّ ابنَ آدم كثيراً ، فإذا غرَّ مرة واحدةً فهو غارٌّ ، ويصلح غارٌّ للكثير ، فأمَّا غَرُورُ فلا يصلح لِلْقَلِيْلِ ، وقرئت (الغُرُورُ) وهو كل ما غرَّ من متاع الدنيا.
ومعنى (ارْتَبْتُمْ) غَلَّبْتُمُ الشكَّ على اليقين.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15)
هي أوْلَى بِكُمْ لما أسْلَفْتُمْ من الذُنُوبِ ، ومثل ذلك قول الشاعر :
فَعَدَتْ كِلا الفَرْجَيْن تَحْسِبُ أَنه . . . مَوْلَى المَخافَةِ خَلْفُها وأَمامُها
مثل ذلك . أي مولى المخافة خلفها وأمامها.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16)
(وَمَا نَزَّلَ مِنَ الْحَقِّ)
ويقرأ (وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ) - بالتخفيف.
وقوله (يَأْنِ) من أنَى يَأني ، ويقال آن يئين.
وفي هذا المعنى ومعناه " حَانَ يَحِينُ ".
وهذه الآية - واللَّه أعلم - نزلت في طائفة من المؤمنين حُثوا عَلَى الرِّقَّة
والرحمةِ والخشوع.
فأما من كان ممن وصفه - عزَّ وجلَّ - بالخضوع والرقة
والرحمة فطائفة من المؤمنين فوق هؤلاء.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ)

(5/125)


وقرئت بالتاء ، - تكونوا -
(فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ).
أي لا تكونوا كالذين لما طالت عليهم المدة قَسَتْ قُلُوبُهُمْ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17)
معناه أن إحياء الأرض بعد موتها دليل على توحيد اللَّه ، ومن آياته
الدالة على ذلك.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18)
بتشديد الصَّاد ، معناه أن المتَصَدِّقين والمتصدِّقَاتِ.
ويقرأ (إِنَّ الْمُصَدِّقِينَ وَالْمُصَدِّقَاتِ) بالتخفيف ، ومعناه إن المؤمنين والمؤمنات مِمنْ صدَّق اللَّهَ ورسولَهُ فآمن بما أتى به النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وقوله : (وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا).
أي تصدَّقوا من مال طيِّبٍ.
(يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ).
أي يضاعف لهم ما عملوا ، ويكون ذلك التضعيف أجْراً كريماً.
* * *
وقوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (19)
(الصِّدِّيقُونَ)
على وزن " الفعِيلينَ " وأحدهم صِدِّيقٌ وهو اسم للمبَالَغَةِ في الفِعْلِ
تقول : رجل " صِدِّيقٌ " كثير التصديق وكذلك رجل سكِّيت كثير السُّكوتِ.
فالمعنى إنَّ المُؤمِنَ المصَدِّقَ باللَّه ورسُلِهِ هو المبالغ في الصِّدْقِ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ).
يصلح أن يكون كلاماً مسْتَانفاً مرفوعاً بالابتداء ، فيكون المعنى
" والشُهَدَاءَ عِنْدَ رَبِّهِمْ لهم أجرهم ونورهم.
والشهداء هم الأنبياء ، ويجوز أن يكون " والشهداء " نسقا على ما قبله ، فيكون المعنى أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ

(5/126)


وأولئك هم الشهداء عند رَبِّهِمْ ، ويكون (لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ)
للجماعة من الصديقين والشهداء.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20)
(كَمَثَلِ)
الكاف في موضع رفع من وجهين :
أحَدُهُما أن تكون صفة فيكون المعنى : " إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم مَثلُ غيثٍ ، وهو المطر ويكون رفعها عَلَى خَبرٍ بَعْدَ خَبَرٍ ، على معنى أن الحياة الدنيا وزينتَها مَثْلُ غَيْثٍ أعجب الكفار نباته.
والكفار ههنا له تفسيران :
أحدهما أنه الزرْعُ ، وإذا أعجب الزُرَّاعَ نبَاتُه مع علمهم به ، فهو في غاية ما يستحسن ، ويكون الكفَّار ههنا الكفَّار باللَّه ، وهم أشد إعجاباً بزينة الدُّنْيَا من المؤمنين.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا).
معنى (يَهِيجُ) يأخذ في الجفاف فَيَبْتَدِئ به الصُّفْرَةِ.
(ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا).
أي متحطماً متكَسِّراً ذاهِباً.
وضرب الله هذا مثلاً لزوال الدنيا.
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ).
ويقرأ (ورُضْوان) ، وقد روينا جميعاً عن عاصم - بالضم والكسر - فمعناه
فمغفرة لأولياء الله وعذاب لأعدائه.
* * *
وقوله (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)
المعنى سابقوا بالأعمال الصالحة .

(5/127)


وقيل إن الجَنات سَبْع ، وقيل أرْبَع لقوله (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46)
وقوله بعد ذلك (وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62).
وقيل عرضها ولم يذكر طولها - واللَّه أعلم - وإنما ذِكْرُ عَرْضِها هَهنا تمثيل للعِبَادِ بِمَا يَفْعَلونَه ويقَعُ فِي نفوسِهم ، وأكبر ما يقع في نفوسهم مقدار السَّمَاوَاتِ والأرضِ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ).
وهذا دليل أنه لا يدخل أحَدٌ الجنَّةَ إِلًا بفضل اللَّه.
ثم أعلمهم أن ذلك المؤَدِّي إلى الجنَّةِ أو النَّارِ لَا يكون إلا بقضاء وَقَدَرٍ
فقال عزَّ وجلَّ :
(مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22)
أي مِنْ قَبل أن نَخْلقَهَا ، فما وقع في الأرض من جَدْبٍ أوْ نَقْصٍ وكذلك
ما وقع في النفوس من مرضٍ وموتٍ أو خسْرانٍ في تجارةٍ أو كسبِ خيرٍ أو شَرٍّ
فمكتوبٌ عند اللَّه معلومٌ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23)
فمن قرأ " أتاكُمْ " فمعناه جاءكم ، ومن قَرأ (آتَاكمْ) فمعْنَاه أعْطَاكم
ومعنى " تفرحوا " ههنا لا تفرحوا فَرَحاً شديداً تأشروا فيه وتبطروا ودليل ذلك : (وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ).
فدل بهذا أنه ذم الفرح الذي يختال فيه صاحبه ويبطر له ، فأمَّا الفرح
بنعمة اللَّه والشكر عليها فغير مذمومِ.
وكذلك (لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ).
أي لا تحزنوا حزناً يطغيكم حتى يخرجكم إلى أن تلزِموا أنْفسِكُم الهَلَكَةَ
ولا تعتدوا بثواب - اللَّه ما تسلبونَه وَمَا فاتكم .

(5/128)


وقوله : (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24)
ويقرأ (بالبَخَلِ) مثل الرُّشدِ والرَّشَد ، وهذا على ضربين :
أحَدُهمَا في التفسير أنهم الذين يبخلون بتعريف صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - التي قد عرفوها في التوراة والإنجيل.
والوجه الثاني أنه لما حَثَّ على الصفَةِ ، أعلم أنَّ الًذِينَ يَبْخَلونَ
بها ويأمرون بالبخل بها ، فإن الله عزَّ وجل غني عنهم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)
جاء في التفسير أن آدم عليه السلام هبط إلى الأرْضِ بالعلاة والمطرقة
والكلبتين . والعلاة هي التي يسميها الحدادونَ السِّنْدَانَ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ (فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ).
أي : [يُمتَنع به] ، ويحارَبُ به.
(وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ).
يستعملونه في أدواتهم وما ينتفعون به من آنِيَتِهِمْ ، وجميع ما يتصرف
وقوله : (وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ).
أي ليعْلَمَ الله من يقاتل مع رسَلِه في سُبُلِهِ.
وقد مر تفسيره ومعناه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27)
(ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا)
أي أتبعنا نوحاً وإبراهيم رسُلًا بعْدَهمْ.
(وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ).
جاء في التفسير أن الِإنجيل آتاه اللَّه عيسى جمْلَةً واحدةً.
وقوله (وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً).
ويجوز رآفة على وزن السماحة ، حكى أبو زيد أنه يقال : رَؤُفْت بالرجل
رَأفَةً ، وهي القِراءة.
وقد قرئَت ورآفَة .

(5/129)


وقوله : (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ).
هذه الآية صعبة في التفسير.
ومعناها - واللَّه أعلم - يحتمل ضَربَيْن :
أحَدُهُمَا أن يكون المعنى في قوله : (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا) ابتدَعوا رهبانية كما
تقول : رأيت زيداً ، وعمراً أكرمتُه ، وتكون (مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيهِمْ) معناه لم نكتبها عليهم ألبتَّةَ ، ويكون (إلا ابْتغَاءَ رضوان الله) بَدَلًا - من الهاء والألف ، فيكون المعنى ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رِضْوَانِ اللَّه ، وابتغاءُ رضوان اللَّه اتبَاعُ مَا أمَرَ بِه.
فَهذا - واللَّه أعلم - وجه.
وفيها وجه آخر في (ابْتَدَعُوهَا).
جاء في التفسير أنَّهُمْ كانوا يَرَوْنَ من مُلُوكهم ما لا يَصْبِرُونَ عليهِ فاتخذوا
أسراباً وصَوَامِعَ.
فابتدعوا ذلك ، فلما ألزمرا أنْفُسَهُم ذلك التطوع ودَخَلُوا فيه
لزمهم [إِتمامه] ، كما أن الِإنسان إذا جعل على نفسه صوماً لم يُفْتَرَض عليه لزمه أنْ يُتِمَّهُ.
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا).
على ضربين - واللَّه أعلم - :
أحدهما أن يكونوا قصَّروا فيما ألزموه أنْفُسَهُم.
والآخر وهو أجود أن يكونوا حين بُعِثَ النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يؤمنوا به كانوا تاركين لطاعة اللَّهِ ، فما رعوا تلك الرهبانية حق رعايتها . ودليل ذلك قوله عزَّ وجلَّ : (فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ).
أي الذين آمنوا منهم بالنبي عليه السلام .

(5/130)


(وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ)
أي كافرونَ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28)
يعني (آمِنُوا بِرَسُولِهِ) ، صَدِّقُوا برسُوله.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ).
معناه يؤتكم نصيبين من رحمته ، وإنَّما اشتقاقه في اللغة من الكِفْل ، وهو
كساء يجعله الراكب تحته إذا ارتدف لئلا يسقط ، فتَأويله يؤتكم نصيبين
يحفظانكم من هلكة الْمَعَاصي.
(وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ).
كما قال عزَّ وجلَّ : (نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أيْدِيهِمْ)
وهذه علامة المؤمنين في القيامة ، ودليل ذلك قوله :
(يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ).
ويجوز أن يكون واللَّه أعلم : (وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ)
يجعل لهم سبيلاً واضحاً من الهدى تهتدون به.
* * *
وقوله : (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
المعنى فعل الله بكم ذلك كما فعل بمن آمَن مِنْ أَهْلِ الكِتابِ لأنْ يَعْلَموا
و (لا) مؤكدة . و (أَلَّا يَقْدِرُونَ) (لا) ههنا يدل على الِإضمار في " أن " مع
تخفيف " أن " المعنى أنهم لا يقدرون ، أي لِيَعْلَمَ أهل الكتاب أنهم لاَ يَقْدِرُونَ على شيء من فضل اللَّه (1).
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { لِّئَلاَّ يَعْلَمَ } : هذه اللامُ متعلقةٌ بمعنى الجملة الطلبية المتضمنةِ لمعنى الشرطِ ، إذ التقدير : إنْ تتقوا اللَّهَ وآمنتم برسلِه يُؤْتِكم كذا وكذا ، لئلا يعلمَ . وفي « لا » هذه وجهان ، أحدهما : / وهو المشهورُ عند النحاةِ والمفسِّرين والمُعْرِبين أنها مزيدةٌ كهي في { مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ } [ الأعراف : 12 ] ، و { أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ } [ يس : 31 ] على خِلافٍ في هاتين الآيتين . والتقدير : أَعْلَمَكم اللَّهُ بذلك ، ليعلمَ أهلُ الكتابِ عدمَ قدرتِهم على شيءٍ مِنْ فضلِ اللَّهِ وثبوتَ أنَّ الفَضْل بيدِ الله ، وهذا واضح بَيَّنٌ ، وليس فيه إلاَّ زيادةُ ما ثبتَتْ زيادتُه شائِعاً ذائعاً.
والثاني : أنها غيرُ مزيدةٍ . والمعنى لئلا يعلمَ أهلُ الكتابِ عَجْزَ المؤمنين ، نقل ذلك أبو البقاء وهذا لفظُهُ ، وكان قد قال قبلَ ذلك : « لا » زائدة والمعنى : ليعلمَ أهلُ الكتابِ عَجْزَهم « وهذا غيرُ مستقيم؛ لأنَّ المؤمنين عاجزون أيضاً عن شيءٍ مِنْ فضل اللَّهِ وكيف يعملُ هذا القائلُ بقولِه { وَأَنَّ الفضل بِيَدِ الله } ؛ فإنه معطوفٌ على مفعولِ العِلْمِ المنفيِّ فيصيرُ التقدير : ولئلا يعلمَ أهلُ الكتاب أنَّ الفضلَ بيد الله؟ هذا لا يستقيمُ نَفْيُ العِلْمِ به ألبتَّةَ ، فلا جرم كان قولاً مُطَّرحاً ذكَرْتُه تنبيهاً على فسادِه.
وقراءةُ العامَّةِ » لئلا « بكسر لام كي وبعدها همزةٌ مفتوحةٌ مخففةٌ . وورش يُبْدِلها ياءً مَحْضَة وهو تخفيفٌ قياسيٌّ نحو : مِيَة وفِيَة ، في : مئة وفئة . ويدلُّ على زيادتِها قراءةُ عبد الله وابن عباس وعكرمةَ والجحدري وعبد الله بن سلمة » لِيَعْلَم « بإسقاطِها ، وقراءةُ حطان ابن عبد الله » لأَنْ يعلمَ « بإظهار » أَنْ « . والجحدري أيضاً والحسن » لِيَنَّعَلَمَ « وأصلُها كالتي قبلها لأَنْ يعلم ، فأبدل الهمزةَ ياءً لانفتاحِها بعد كسرة ، وقد تقدم أنه قياسٌ كقراءة ورش » لِيَلاَّ « ثم أَدْغَمَ النون في الياء . قال الشيخ : » بغير غُنَّة كقراءة خلف { أَن يَضْرِبَ } [ البقرة : 26 ] بغيرِ غُنَّة « انتهى . فصار اللفظ لِيَنَّعْلَمَ . وقوله : » بغير غنَّة « ليس عَدَمُ الغنَّةِ شرطاً في صحة هذه المسألةِ ، بل جاء على سبيل الاتفاقِ ولو أَدْغَمَ بُغنَّةٍ لجاز ذلك فسقوطُها في هذه القراءاتِ يؤيِّد زيادتها في المشهورةِ.
وقرأ الحسن أيضاً فيما رَوَى عنه أبو بكر ابن مجاهد » لَيْلاً يَعْلَمَ « بلام مفتوحةٍ وياءٍ ساكنةٍ كاسم المرأة ورفعِ الفعلِ بعدها . وتخريجُها : على أنَّ أصلَها : لأَنْ لا ، على أنها لامُ الجرِّ ولكنْ فُتِحَتْ على لغةٍ معروفة ، وأنشدوا :
4237 أُريدُ لأَنْسَى ذِكْرَها . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
بفتح اللام ، وحُذِفَت الهمزةُ اعتباطاً ، وأُدْغمت النونُ في اللام فاجتمع ثلاثة أمثالٍ فثَقُلَ النطقُ به فأبدلَ الوسطَ ياءً تخفيفاً ، فصار اللفظُ » لَيْلا « كما ترى ورُفِع الفعل؛ لأنَّ » أَنْ « هي المخففةُ لا الناصبةُ ، واسمُها على ما تقرَّر ضميرُ الشأنِ ، وفُصِل بينها وبين الفعلِ الذي هو خبرُها بحرفِ النفي.
وقرأ الحسن أيضاً فيما روى عنه قطرب « لِيْلا » بلام مكسورة وياءٍ ساكنةٍ ورفع الفعل ، وهي كالتي قبلها في التخريج . غايةُ ما في الباب أنه جاء بلامٍ مكسورةٍ كما في اللغة الشهيرة . ورُوي عن ابن عباس « لكي يعلَمَ » ، و « كي يعلم » وعن عبد الله « لكيلا » وهذه كلُّها مخالِفةٌ للسوادِ الأعظمِ ولسوادِ المصحف.
وقرأ العامَّةُ { أَنْ لا يَقْدِرُون } بثوبت النون على أنَّ « أَنْ » هي المخففة وعبد الله بحَذْفِها على أَنَّ « أَنْ » هي الناصبة وهذا شاذٌّ جداً؛ لأنَّ العِلْمَ لا تقع بعده الناصبةُ.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5/131)


سُورَةُ المجادلة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله عزَّ وجلَّ : (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1)
إدغام الدال في السين حسن ، لقرَب المخرجين . يقرَأ (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ)
بإدغام الدال في السين حتى لا يلفظ التكلم بِدال.
وإنما حسن ذلك لأنَّ السين والدال من حروف طرف اللسان فإدغام الدال في السين تقوية للحرف.
وإظهار الدال جائز لأن موضع الدال - وإن قَرُبَ من موضع السين - فموضع الدال حَيِّزٌ على حدة.
ومن موضع الدال الطاء والتاء ، هذه الأحرف الثلاثة
موضعها واحد . والسين والزايُ والصاد من موضع واحدٍ ، وهي تسمى حروف الصفير ، فلذلك جاز إظهار الدال.
وهذه الآية نزلت بسبب خَوْلَة بنت ثعلبة ، وَأوْس بن الصامت وكانا من
الأنصار ، قال لها : أنت على كظهر أُمِّي.
وقيل قَالَ لها أنت على كأُمِّي.
وكانت هذه الكلمة مما يطلق بها أهل الجاهلية ، فروَوْا أنها صارت إلى
النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت : إنَّ أوْساً تزوجَنِي وأنا شَابَّة مرغوب فِيَّ ، فلما خلا سني ونثرتُ بَطني ، أي كثر ولدي جعلني عليه كأمِّه.
فروي أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال لها : ما عندي في أمرك شيء ، فشكت إلى اللَّه عزَّ وجلََّ وقالت :
اللهم إني أشكو إليك.
وروي أيضاً أنها قالت للنبي عليه السلام فيما قالت : إن لي صبية
صِغَاراً إن ضممتهم إليه ضاعوا ، وإن ضممتهم إليَّ جاعوا ، فأنزل اللَّه

(5/133)


- عزَّ وجلَّ - كفَّارة الظِّهار.
وفي هذا دَليل أنه لا يكون ما يطلق به الجاهلية طلاقاً
إلا أن يأتي الإسلام بذلك نحو ما قالوا في خليَّة وبَرِيَّة وحبلك على غاربك.
وأصل قولهم : أنْتِ طَالِقٌ لَمَّا أتى الِإسلام بحكم فيه مضى على حكم
الإسلام.
* * *
وقوله : (الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2)
المعنى ما اللواتي يجعلن من الزوجات كالأمهات بأُمَّهَاتٍ.
(إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ).
المعنى ما أمهاتهم إلا اللائي وَلَدْنَهُمْ ، فذكر اللَّه - عزَّ وجلَّ - الأمَّهاتِ
في موضع آخر فقال : (وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ) ، فأعلمَ اللَّهُ أنَّ المرضِعَاتِ أمهاتٌ ، والمعنى ما أمهاتهم إلا اللائي ولَدْنَهم ، أي الوَالِداتُ والمرضِعَاتً.
فلا تكن الزوجات كهؤلاء ، فأَعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أن ذلك منكر وباطل فقال :
(وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ).
عفا عنهم وغفر لهم بجعله الكفارة عليهم.
و (الذِين) في مَوْضِع رَفْعٍ بالابتداء ، وخبره (مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ).
وأمهاتهم في موضع نصب على خبر (ما).
المعنى ليس هن بأُمَّهَاتِهِمْ.
* * *
وقوله : (وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3)
(الذين) رفع بالابتداء ، وخبرهم فعَلَيْهم تَحْرِير رَقَبَةٍ ، ولم يذكر " عَلَيْهم "
لأن في الكلام دليلًا عليه ، وإن شئت أضمرت فكفارتهم تحريرُ رَقَبَةٍ.
(مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا).
فاختلف أهل العلم فقال بعضهم : الكفارة للمسيس.
وقال بعضهم : إذا أراد العوْدَ إليها والِإقامة مسَّ أو لم يمس كفَّرَ .

(5/134)


وقوله عزَّ وجلَّ : (ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ).
المعنى ذلكم التغليظ في الكفَّارة توعظون به.
وقال بعض الناس لا تجب الكفَّارة حتى يقول ثانية : أنت عليَّ كظهر أُمِّي . وهذا قول من لا يدري اللغة ، وهو خلاف قول أهل العلم أجمعين.
إنما المعنى ثم يعودون العودة التي من أجل القول ، فلتلك العودة تلزم الكفارة لا لكل عودَة.
وفيها قول آخر للأخفش وهو أن يُجْعَلَ " لما قالوا " من صلة فتحرير رقبة ، فالمعنى عنده : والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون فتحرير رقبة لما قالوا ، فهذا مذهب حسن أيضاً.
والدليل على بطلان هذا القائل أن " ثم يعودون لما قالوا " أن يقول ثانية : أنت على كظهر أُمِّي - قول جميع أهل العلم ومتابعته هو إياهم :
(لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا)
فأجمعوا أنه ليس (فَإِنْ فَاءُوا) فإن حَلَفُوا ثانية.
ومعنى فاءوا في اللغة وعادوا معنى واحد.
وقوله : (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا)
كناية عن الجماع ، ودليل ذلك قوله : (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ).
فالمعنى من قبل أن تدخلوا بِهِنَّ.
* * *
وقوله : (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4)
المعنى فمن لم يجد الرقبة فكفارته صيام شهرين متتابعين ، وإن شئت
فعليه صيام شهرين متتابعين.
ولو قرئت فَصِيَامٌ شهرين جَازَ كما قال اللَّهُ - عزَّ وجلَّ -
(أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15).
ولا أعلم أحداً قرأ بالتنوين.
* * *
وقوله : (فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا).

(5/135)


" مَن " في موضع رفع على معنى فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ الصيام فكفارتُه إِطعام
سِتَينَ مِسْكِيناً ، وكذلك فإطعامٌ بالتنوين ولا أعلم أحداً قرأ بها.
وقوله : (ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ).
(ذَلِكَ) في مَوْضِع رَفْعٍ ، المعنى الفرض ذَلِكَ الذِي وَصَفْنَا.
ومعنى لتؤمنوا باللَّه ورسوله ، أي لتصَدِّقوا ما أتى به رسول اللَّه ، ولتصَدِّقوا أن اللَّه أمرنا به.
(وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ).
أي تلك التي وَصَفنا في الظِّهار والكفَّارة حدودُ اللَّهِ.
(وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ).
أي لمن لم يصدق بها ، وأليم مؤلم.
* * *
وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (5)
معنى (كُبِتُوا) أُذلُّوا وأُخْزوا بالعذاب وبأن غلِبُوا ، كما نزل بمن قَبلَهُم ممنْ
حَادَّ اللَّهَ.
ومعنى (يُحَادُّونَ اللَّهَ) ويشاقون الله أي هم في غير الحَدِّ الذي يكون فيه أولياء اللَّه ، وكذلك يُشَّاقُون يكونون في الشق الذي فيه أعداء اللَّه.
* * *
وقوله : (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6)
(يَوْمَ) منصوب بمعنى قوله : وللْكَافِرين عَذَابٌ مُهِينٌ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا) ، أي يبعثهم مجتمعين في حال واحدة.
(فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا).
أي يخبرهم بذلك ليعلموا وجوب الحجة عليهم.
* * *
وقوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7)

(5/136)


أي يعلم كل ما في السَّمَاوَات وكل ما في الأرض مما ظهر للعباد ومما بطن.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ).
أي ما يكون من خَلْوَةِ ثلاثةٍ يسرون شيئاً وَيتناجون به إلا وهو رابعهم
عالم به ، وهو في كل مكانٍ ، أي بالعلم.
ونجوى مشتق من النجوة وهو ما ارتفع وَتَنَحَّى تقول : فلان من هذا المكان بنجوةٍ إذا كانت ناحية منه
فمعنى تناجون يتخالون بما يريدونَ.
وذكر الله هذه الآية لأن المنافقين واليهودَ كانوا يتناجَوْنَ ، فيوهمونَ المسلمين أنهم يتناجون فيما يسوءهم ويؤذيهم فيحزنون لذلك ، فنهي الله عزَّ وجلَّ - عق تلك النجوى فعاد المنافقون واليهود إلى ذلك
فأَعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم قد عادوا في مثل تلك النجوى بعينها فقال :
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8)
أي يوصي بعضهم بعضاً بمعصية الرسول.
(وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ).
أي هَلَّا يعذبُنَا الله بما نقول ، وكانوا إذا أتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - قالوا : السام عليكم ، والسام : الموت ، فقالوا : لم لا ينزل بنا العذاب إذا قلنا للنبي - عليه السلام - هذا القول ، واللَّه - عزَّ وجلَّ - وَعدهم بعذاب الآخرة وبالخزي في الدنيا ، وبإظهار الإسلام وأمْرِ النبي - صلى الله عليه وسلم - وغَلَبَةِ حِزْبِه ، فقال : (حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا).
وقال : (كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ).
وقال : (فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56).
فصدق وَعْدَهُ ونصر جُنْدَهُ رأظْهَرَ دِينَهُ وكبت عَدُوَّهُ .

(5/137)


وقوله عزَّ وجلَّ : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ
(9)
أي إذا تخاليْتُمْ لِلسِّر فلا تخالوا إلا بالبرِّ والتقوى ، ولا تكونوا كاليهود
والمنافقين.
وفي تناجوا ثلائة أوجهٍ :
فلا تتناجَوْا بتاءين ظاهرتين.
وبتاء واحدة مدغمة مشدَّدَةٍ : فلا تَنَاجَوْا.
وإنما أدْغمت التاءان لأنهما حرفان من مخرج واحد مُتحرّكان وقبلهما ألف ، والألف قد يكون بعدها الدغم نحو دَابَّةٍ وَرَادَّ.
ويجور الِإظهار لأن التاءين في أول الكلمة وأن " لا " كلمة على حالها.
و " تتناجوا " كلمة أخرى ، فلم يكن هذا البناء لاَزِماً فلذلك كان الِإظهار أجود.
ويجوز الِإدغام ، ويجوز حَذْفُ التاء لاجتماع التاءين.
يحكى عن العرب " تبين هذه الخصلة ، وتتبين هذه الخَصْلَةُ ، وفي القرآن لعلكم تَذَكَّرُون ، وَتَتَذَكَّرُونَ
وتذكُرون واحدة ، ولا أعلم أحداً قرأ " ولا تناجوا " بتاء واحدة ولكن تقرأ " فَلَا تَنْتَجُوا " أي لا تفتعلوا من النجوى.
* * *
وقوله : (إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10)
أي النجوى بالِإثْمِ والعًدْوَانِ مِنَ الشَيطانِ ليحزن الذين آمنوا.
ويجوز (ليُحْزِنَ الذين آمنوا) - بضم الياء وكسر الزاي -
العرب تقول : حزنني الأمر وأحزنني.
(وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا).
أي ليس يضرُّ التناجي المؤمنين شيئاً.
ويجوز أن يكون وليس بضارهم الشيطان شيئاً.
وقوله : (إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) ، أي لا يضرهم شيء إلا ما أراد الله
(وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ).
أي يكلون أمرهم إلى الله ويستعيذون به من الشيطان الرجيم .

(5/138)


وقوله : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11)
(فِي الْمَجْلِسِ) (تَفَسَّحُوا)
ويقرأ (في المَجَالِس) وتقرأ (تَفَاسَحُوا).
وجاء في التفسير أن المجلس ههنا يعنى به مجلس النبي - صلى الله عليه وسلم -
وقيل في المجالس مجالس الحرب مثل قوله تعالى : (مقاعد للقتال).
فأمَّا مَا أمِروا به في مجلس النبي عليه السلام فقيل إن الآية نزلت بسبب عبد اللَّه بن شَمَّاسٍ وكان من أهل الصفَّةِ ، وكان من يجلس في مجلس النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذوي الغِنَى والشرف كأنهم لَا يُوَسعُون لِمَنْ هو دونَهمْ ، فأمر اللَّه المؤمنين بالتواضع وأن يفسحوا في المجلس لمن أرادَ النبي - صلى الله عليه وسلم - ليتساوى الناس بالأخذِ بالحظ منه.
(وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا).
أي إذا قيل انهضوا - قوموا - فانهضوا.
وهذا كما قال : (وَلَامُسْتَانِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُوذِي النَبِى فَيَسْتَحي مِنْكُمْ).
وَقِيلَ أيْضاً (وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا) أي إذا قيل قوموا لصلاة
أو قضاء حَقٍّ أو شهادَةٍ فانشُزُوا.
ويجوز " انشُروا فانْشُرْوا ، جميعاً يقرأ بهما ويرويان عن العرب نشر ينشرُ وينْشِز.
* * *
وقوله : (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ).
والدليل على فضل أهل العلم ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : عبادةُ العالم يَوْماً واحِداً تعدِلُ عِبَادَةَ العابد الجاهل أربعين سنةً.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)
أي إذا خاليتم الرسول بالسِّرِّ فقدموا قبل ذلك صدقة وافعلوا ذلك.
وقيل إن سبب ذلك أن الأغنياء كانوا يستخلون النبي - صلى الله عليه وسلم - فَيُسَارُّونَه بما يريدونَ ، وكان الفقراء لا يتمكنون من النبي - صلى الله عليه وسلم - تمكنهم ففرض عليهم

(5/139)


الصدقة قبل النجوى ليمتنعوا من ذلك ، فروي أن عَلِيًّا رحمه الله أراد أن
يناجِيَ النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فتصدق بدينار باعه بعشرة دَرَاهم قبل منَاجَاتِه ، ثم نسخ ذلك الزكاة فقال - عزَّ وجلَّ :
(أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13)
أي أطيعوه في كل أمْرٍ ، ودخل في ذلك التَّفَسُّحُ في المجْلِسِ لتَقَارُب
النَّاسِ في الدُّنُوِ من النبي عليه السلام.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14)
هؤلاء المنافقون تولَّوُا اليهودَ.
ومعنى قَوله : (ويحْلِفُونَ عَلَى الكَذِبِ) يَدل على تفسيره قوله : (وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ)
وقوله : (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ)
يدل عليه قوله : (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ).
* * *
وقوله : (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19)
معنى " استحوذ " في اللغة استولى ، يقال : حُذْتُ الِإبِلَ وَحُزْتُهَا إذا
استوليت عليها وجمعتها ، وهذا مما خرج على أصله ومثله في الكلام أجْوَدْتُ
وأطيبتُ ، والأكثر أجدتُ وأطَبتُ ، إلَّا أنَّ استحوذ جاء على الأصل ، لأنه لم
يُقَلْ عَلَى حَاذَ لأنه إنما بني على استفعل في أول وهلة كما بني افتقر على
افتعل وهو من الفقر ولم يُقَلْ منه فَقُرَ ولا استعمل بغير زيادة ، ولم يقل : حاذ
عليهم الشيطان ولو جاء استحاذ كان صواباً ، ولكن استحوذ ههنا أجود لأنَّ

(5/140)


الفعل في ذا المعنى لم يستعمل إلا بزيادة.
وقوله عزَّ وجلَّ : (أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ).
قال أبو عبيدة : حزب الشيطان جند الشَيطان ، والأصل في اللغة أن
الحزب الجمع والجماعة ، يقال منه : قد تحزب القوم إذا صاروا فِرَقاً ، جماعةً
كذا وجماعة كذا.
* * *
وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20)
قد فسرنا يحادون ومعناه يشاقونَ أي يصيرون في غير حَد أولياء اللَّه.
وفي غير شِقِّهِمْ.
(أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ) ، أي أولَئِكَ في المغلوبين.
* * *
وقوله : (كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21)
أي قضى الله قضاء ثابتاً ، ومعنى غلبة الرسل عَلَى نَوعين :
مَنْ بُعِثَ بالحرب فغالب في الحرب.
ومن بعث منهم بغير حرب فهو غالب بالحجة.
(إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ).
أي مانعٌ حِزْبَهُ من أن يُذَلَّ لأنه قال جلَّ وعلَا : (أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ).
والعزيز الذي لا يُغلب وَلَا يُقْهَر.
* * *
وقوله : (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)
جاء في التفسير أن هذه الآية نزلت بسبب حاطب بن أبي بَلْتَعة ، وكان
النبي - صلى الله عليه وسلم - عزم على قصد أهل مكة فكتب حاطب يشرح لهم القصةَ وُينْذِرَهمْ ليحرزوا فنزل الوحي على رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فذكر حاطبٌ لَمَّا وُبِّخَ بذلك أن له بمكة أهلاً وأنه لَيس لَه أحدٌ يكنفهم ، وإنما فَعَلَ ذلك ليحاط أهله ، فأعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أن إيمان المؤمِنِ يَفْسدُ بِمَوَدةِ الكفار بالمعاونة على المؤمنين.
وأعلم اللَّه تعالى أنه من كان مؤمناً باللَّه واليوم الآخر لا يوالي مَنْ كَفَر ، ولو
كان أباه أو أُمَّه أو أخاه أوْ أحَداً مِنْ عَشِيرته .

(5/141)


وقوله تعالى : (أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ).
يعني الذين لا يوادُّون من حَادَّ اللَّهَ ورَسوله ، ويوالون المؤمنين.
وقوله : (وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ).
أي قواهم بنور الِإيمان بإحياء الإِيمان ، ودليل ذلك قوله :
(وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا).
فكذلك : (وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ).
فأعلم الله عزَّ وجلَّ أن ذلك يوصلهم إلى الجنَّة فقال :
(وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ).
أي الذين لَا يُوادُّونَ من حاد الله ورسوله ومن المؤمنين ، وحزب الله أي
الداخلون في الجمع الذي اصطفاه الله وارتضاه.
وقوله : (أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).
(أَلَا) كلمة تنبيه ، وتوكيد للقصَّةِ.
و (الْمُفْلِحُونَ) المدركون البقاء في النعيم الدائم .

(5/142)


سُورَةُ الحشر
(مَدنية)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله تعالى : (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)
افتتح اللَّه السورة بذكر تقديسه وأن له أشياء تبرئُهُ من السُّوءِ ومثل ذلك
قوله : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ).
* * *
وقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2)
هَؤلَاءِ بنو النضير ، كان لهم عزَّ ومنعة مِنَ اليهود ، فظنَّ الناس أنهم لعزهم
وَمَنْعَتِهِمْ لا يخرجون من ديارِهِمْ ، وظنَّ بنو النضير أنَّ حُصُونَهمْ تمنعهم من
الله ، أي من أمر اللَّه (فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ). -
كان بنو النضير لما دخل النبي عليه السلام المدينة عاقدوه ألَّا يكونوا
عليه ولا معه ، - فلما كان يوم أحد وظهر المشركون على المسلمين نكثوا
ودخلهم الريب ، وكان كعب ، بن الأشرف رئيساً لهم فخرج في ستين رَجُلًا إلى مكة وعاقد المشركين على التظاهر على النبي عليه السلام ، فأطلع اللَّه نبيه عليه السلام على ذلك ، فلى ما صار إلى المدينة وَجَّهَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - محمد بن مسلمة ليَقْتلَه ، وكان محمد بن مَسْلَمَةً رضيعاً لكعب ، فاستَأذَنَ محمد بن مسلمة رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - في ، أن ينال منه [ليعتر] كعب بن الأشرف ، فجاءَهُ محمد

(5/143)


ومعه جماعة فاستنزله من منزله وأوهمه أنه قَدْ حُمِلَ عَلَيْهِ في أخذ الصدقَةِ مِنهُ
فلما نزل أخذ محمد بن مَسْلَمَةً بناصيته وكَبَّرَ ، فخرج أصحابه فقتلوه في
مكانِه ، وغَدَا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غازياً بني النَضِير فأناخ عليهم ، وقيل إنه غزاهم على حمار مخطومِ بليف ، فكان المؤمِنونَ يخربون من منازل بني النضير ليكون لهم أمكنة للقتال ، وكان بنو النضير يخربون منازلهم ليَسدُّوا بها أبْوابَ أزقتهم لِئَلَّا يُبْقَى علي المؤمنين ، فقذف اللَّهُ في قلوبهم الرعْبَ (يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ).
ومعنى إخرابها بأيدي المؤمنين أنهم عَرَّضُوهَا لِذَلك.
ففارقوا رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - على الجلاء من منازلهم وأن يحملوا ما استقلت به إبِلهمْ ما خلا الفضة والذهب ، فجلوا إلى الشام وطائفة منهم جلت إلى خيبر وطائفة إلى الحيرة ، وذلك قوله :
(هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ).
وهو أول حَشْرٍ حُشِرَ إلى الشامِ - ثم يحشر الخلق يوم القيامةِ إلى الشامِ
ولذلك قيل لأول الحشر.
فجميع اليهود والنصارى يُجْلَوْنَ من جزيرة العَرَبِ.
وروي عن عمرَ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :
" لأخْرِجَنَّ اليهُودَ مِنْ جَزِيرَةِ العَرَبِ ".
قال الخليل : جزيرة العرب مَعْدِنها وَمَسْكَنها ، وإنما قيل لها جَزِيرة العَرَبِ لأن
بحر الحبس وبحر فارس ودجلة والفرات قد أحاطت بها ، فَهِيَ أرضها
ومَعْدِنها.
قال أبو عبيدة : جزيرة العرب من [جَفْر] أبي موسى إلى اليَمَنِ في
الطول ومن رمل بَيْرِينَ إلى منقطع السماوة في العرض.
وقال الأصْمَعِى إلى أقصى عَدَن أبْيَن إلى أطراف اليمن حتى تبلغ أطرافَ بَوَادي الشام.
* * *
وقوله تعالى : (مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5)
أي ما قطعتم من نخلة - والنخل كله ما عدا البرني والعجوة يسميه أهل
المدينة الألْوَان ، وأصل لِينَةٍ لِوْنَهَ فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها فقيل لينة .

(5/144)


فأنكر بنو النضير قطع النخل فأعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أن ذلك بإذنه -
القطع والترك جميعاً.
(وليُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ).
بأن يريهم أموالهم يتحكم فيها المسلمون كيف أحبوا.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6)
يعني ما أفاء اللَّه على رسوله من بني النضير مما لم يوجفوا عليه خيلاً
ولا ركاباً - والركاب الإِبلُ والوَجِيفُ دون التقريب من السير ، يقال : وجف الفرس وأوجَفته ، والمعنى أنه لا شيء لكم فيه إنما هو لرسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - خالصاً يعمل فيه ما أحب ، وكذلك كل ما فتح على الأئمة مما لم يوجف المسلمون عليه خيلًا ولاركاباً.
* * *
وقوله : (مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)
معنى (فلِلَّهِ) أي له أن يأمركم فيه بما أحَبَّ.
(وَلِلرسُولِ وَلِذِي القُرْبَى).
يعني ذوي قرابات النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنهم قد منعوا الصدقة فَجُعِلَ لهم حَق في الفيء.
(وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ).
* * *
وقوله : (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8)
بَيَّنَ مَن المَسَاكِينُ الذين لهم الحق فقال : (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ).
* * *
وقوله : (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)
يعني الأنصار .

(5/145)


(وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ)
يعني المهاجرين.
(يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ)
أي يحب الأنْصَارُ المُؤْمِنِينَ.
(وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا).
أي لا يجد الأنصار في صدورهم حاجة مما يُعْطَى المهاجرونَ.
وقوله : (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ).
قال أبو إسحاق : ما أفاء اللَّه على رسوله من أهل القرَى نحو خيبر.
وما أشْبَهَهَا ، فالأمر عند أهل الحجاز في قسمة الفيء أنه يُفَرَّق في هذه الأصْنَافِ المسمَّاة على قَدْرِ ما يراه الِإمام على التحري للصلاح في ذلك إن رأى الِإمام ذلك ، وإن رأى أنَّ صِنفاً من الأصناف يحتاج فيه إلى جميع الفيء صرف فيه أو في هذه الأصنافِ عَلى قَدْرِ مَا يَرَى.
* * *
قوله : (كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ).
يقرأ بضم الدال وفتحها - فالدُّولَة اسم الشيء الذي يتداول.
والدَّوْلَة الفِعْل والانتقال من حال إلى حالٍ.
وقرئت أيضاً (دُولَةٌ) - بالرفع -
فمن قرأ " كَيْلاَ يَكُونَ دُولَةٌ " فعلى أن يكون على مذهب التمام.
ويجوز أن يكون " دُولَةٌ " اسمَ يكونُ وخَبَرُها " بين الأغنياء ".
والأكثر (كيلا يكونَ دولةً بيْنَ الأغْنِيَاءِ مِنْكُمْ) على معنى كيلا يكون الفيء دولةٍ ، أي متداولًا.
وقوله : (وَمَا آتَاكَم الرسُولُ فَخُذوهُ).
أي من الفيء.
(وَمَا نَهَاكمْ عَنْهُ) أي عن أخذه (فَانْتَهوا).
* * *
قوله (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ
(10)
أي ما أفاء اللَّه على رسوله من أهل القُرى فلله ولرسوله ولهؤلاء

(5/146)


المسلمين وللذين يجيئون من بعدهم إلى يوم القيامة ، ما أقاموا على محبة
- أصحاب رسول الله عليه السلام.
ودليل ذلك قوله : (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ) في حال قولهم : (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ . .). الآية.
فمن يترحم على أصحاب رسول اللَّهِ ولم يكن في قلبه غِلٌ لهم أجمعين
فله حظٌّ فِي فَيْء المسلمين ، ومن شَتَمُهُمْ ولم يترحم عَلَيهم أو كان في قَلْبِهِ
غِلٌّ لَهُمْ فما جعل الله له حقًّا في شيء من فيء المسلمين.
فهذا نصُّ الكتَابِ بَيِّنٌ.
* * *
قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11)
هُمْ إِخْوَانُهُمْ يَضُمُّهُمْ الكُفْرُ.
(لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ).
وقد بَانَ ذلك في أمر بني النضِير الذين عاقدهم المنافقون لأنهم أخرجوا
من ديارهم وأموالهم فلم يخرج معهم المنافقون ، وقُوتلُوا فلم ينصروهم.
فأظهر الله عزَّ وجلَّ كَذِبَهُمْ.
فإن قال قائل : ما وجه قوله : (وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ)
ثم قال : (وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ).
قال أهل اللغة في هذا قولين : قالوا معناه أنهم لو تَعَاطَوْا نَصْرَهُمْ ، أي
ولئن نَصَرهُم مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ.
* * *
وقوله : (لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14)

(5/147)


وقرئت (أَوْ مِنْ وَرَاءِ جِدَارٍ) - على الوَاحِد - وقُرئت بتسكين الدال.
فمن قرأ (جُدُرٍ) فهو جمع جدار وجُدُرٍ مثل حمار وَحُمُرٍ.
ومن قرأ بتسكين الدال حذف الضمة لِثِقَلِهَا كما قالوا صُحْفٌ وَصُحُفٌ . ومن قرأ (جِدَارٍ) فهو الوَاحِد.
فأعلم اللَّه عزَّ وجلَّ أنهم إذا اجتمعوا على قتالِكم لما قذف اللَّه في قلوبهم مِنَ
الرُعبِ لا يبرزون لحربكم إنما يقاتلون متحصنين بالقرى والجُدْرانِ.
وقوله : (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى).
أي مختلفون لا تستوي قلوبهم ولا يتعاونون بِنيات مُجْتَمِعَة لأن اللَّه -
- عزَّ وجلَّ - ناصر حزبه وخاذِل أعدائِه.
* * *
وقوله : (كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (15)
مثل ما نال أهل بَدْرٍ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16)
أي مثل المنافقين في غرورهم لبني النضِير وَقَوْلهِم لَهُمْ : (لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ) -
(كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ)
وهو - واللَّه أعلم - يدل عليه قوله : (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ).
فكذلك المنافقون ، لَمَّا نَزَلَ ببني النضِيرِ ما نزل تبرأوا منهم.
وقد جاء في التفسير أن عابداً كان يقال له بَرْصِيصَا كان يُدَاوِي مِنَ
الجُنُونِ فداوى امرأة فأعَجَبته فأغواه الشيطان حتى وَقَعَ بها ثم قتلها - ثم تبرأ

(5/148)


منه الشيطان ، وفي الحديث طول ولكن هذا معناه.
* * *
وقوله : (فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (17)
وقرأ عبد الله بن مسعود أنهما في النار خَالِدَان فِيهَا ، وَهوَ في العربيةِ
جائز إلَّا أنه خلاف المصحف ، فمن قَالَ (خَالِدَيْن فيها) فنصب على الحال.
ومن قرأ (خالدان) فهو خبر أَنَّ.
والقراءة فَكانَ عَاقِبَتهُمَا على اسم كانَ ويكون
خبر كانَ أنهما في النار على معنى فكان عاقبتهما كَوْنَهُما في النَّارِ
ويقرأ فكان (عاقِبَتُهُمَا) والنصب أحسَنُ.
ويكون اسم كان (أَنَّهُمَا).
* * *
وقوله : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)
أي ليوم القيامَةِ ، وقُرِّبَ على الناسِ فجعل كأنه يأتي غَداً.
وأصل غَدٍ غَدْوٌ إلا أنه لم يأت في القرآن إلا بحذف الواو ، وقد تُكُلِّمَ به
بحذف الواو ، وجاء في الشَعْر بإثبات الواوِ وحَذْفِها.
قال الشاعر في إثباتها :
وما الناسُ إلاَّ كالدِّيارِ وأَهلِها . . . بها يومَ حَلُّوها وغَدْواً بَلاقِعُ
وقال آخر :
لا تَغْلُواها وادْلُواها دَلْوَا . . . إنَّ مَعَ اليَوْمِ أَخاه غَدْوَ
* * *
وقوله عزَّ وجل : (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19)
نسوا الله تركوا ذكره وما أمرهم به فترك اللَّه ذكرهم بالرحمة والتوفيق.
* * *
وقوله : (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21)

(5/149)


ْأعلم اللَّه عزَّ وجلَّ أن من شأن القرآن وعَظَمَتِهِ وَبَيانِه أنه لو جُعِلَ في
الجبل تمييز كما جعل فيكم وأنزل عليه القرآن لخشع وتصدَّع من خشية اللَّه
ومعنى خشع تطأطأ وخضع ، ومعنى تصدَّع تشققَ.
وجائز أن يكون هذا عَلَى المَثَلِ لقوله : (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ)
كما قَالَ - سبحانه - : (لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90).
* * *
وقوله : (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22)
هذا رد على أول السورة ، على قوله : (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
(هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ).
* * *
قوله : (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23)
(الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ).
والقدوس الطاهر ومن هذا قيل : بيت المقدس أي بيت المكان الذي
يتطهر فيه من الذُنُوبِ.
وقوله : (السَّلَامُ).
اسم من أسماء اللَّه عزَّ وجلَّ ، وقيل السلام الذي قد سَلِمَ الخلقُ من ظُلْمِهِ.
(الْمُؤْمِنُ).
الذي وَحَّد نَفْسَهُ بقوله : (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
وقيل المؤمِنُ الذي أمِنَ الخلقُ من ظُلمِه.
وقوله : (العَزِيزُ).
أي الممتنِعُ الذي لا يغلبه شيء.
(الْمُهَيْمِنُ). -
جاء في التفسير أنه الشهيد، وجاء في التفسير أنه الأمين ، وزعم بَعْضُ

(5/150)


أهل اللغة أن الهاء بدل من الهمزة وأن أصله المؤيمِنُ ، كما قالوا : إِياك
وهِيَّاكَ ، والتفسير يشهد لهذا القول لأنه جاء أنه الأمِينُ ، وجاء أنه الشهِيدُ.
وتأويل الشهيد الأمين في شهادته.
وقوله : (الْجَبَّارُ).
تأويله الذي جبر الخلق على ما أراده من أمْرِه.
وقوله : (الْمُتَكَبِّرُ).
الذي تكبر عن ظلم عِبَادِه.
(سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ)
تأويله تنزيه الله عن شركِهِمْ.
* * *
قوله : (هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)
وقد رويت رواية لا ينبغي أن تُقْرَأ ، رويت (الْبَارِئَ الْمُصَوِّرَ) بالنصب معناه الذي برأ آدم وصَوَّرَة.
وقوله : (لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى).
جاء في التفسير أنها تسعة وتسْعُون اسماً ، من أحصاها دَخَل الجنَّةَ
وجاء في التفسير أن اسم اللَّهِ الأعظم اللَّه ، ونحن نبيِّن هذه الأسماء واشتقاق ما ينبغي أن يبين منها إن شاء اللَّه.
روى أبو هريرة الدوسي عن النبي عليه السلام قال إن للَّهِ مائة اسم غير
واحِدٍ مَن أحصاها دخل الجنَّةَ.
وهو الله الواحد الرحمن الرحيم الأحَدُ الصمَدُ الفرد السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخالق البارئ المصور الحي القيوم العَلِى الكبير الغني الكريم الولي الحميد العليم اللطيف السميع البصير الودود الشكور
الظاهر البَاطِن الأول الآخر المبدئ البديع الملك القدوس الذَارِئ الفَاصِلُ الغَفُورُ المجيد الحليم الحفيظ الشهيد الربُّ

(5/151)


القدير التَّوَّاب الحافظ الكفيل القريبُ المجيب العَظيمُ الجليل العَفُوُّ الصَّفُوح
الحق المبين المعز المذل القوِي الشديد الحنَّان المَّان الفتاح الرؤوف القابض
الباسط الباعثُ الوَارِث الدَّيَّانُ الفاضل الرقيب الحسيب المتين الوكيل الزكي
الطاهر المحسن المجمل المبارك السُّبُّوح الحكيم البرُّ الرَّزاق الهادي المولى
النصير الأعلى الأكبر الوهاب الجواد الوفى الواسع الخلاَّق الوِتْر.
جاء في التفسير أن اسم اللَّه الأعظم اللَّه.
قال سيبويه : سألت الخليل عن هذا الاسم فقال :
الأصل فيه إله فأدخلت الألف واللام بدلًا من الهمزة.
وقال مرة أخْرَى : الأصل لَاهْ وأدْخِلَتِ الألف واللام لَازِمة.
وأما الرحمن الرحيم فالرحمن اسم الله خاصة لا يقال لغير اللَّه رحمن ، ومعناه المبالغ في الرحَمَةِ وأرحم الراحمين - وَفَعْلانُ من بناء المُبَالَغَةِ ، تقول للشديد الامتلاء ملآنُ وللشديد الشبع شبعَانُ ، والرحيم اسم الفاعِلِ من رحم فَهُوَ رَحِيم ، وهو أيضاً للمبالغة والأحدُ أصله الوَحَدُ بمعنى الواحد ، وهو الواحد الذي ليس كمثله شيء.
والصَّمَدُ السيد الذي صَمَدَ له كل شيء ، أي قصد قَصْدَهُ.
وتأويل صمود كل شيء للَّهِ أن في كل شيء أثر صنعة اللَّه.
السلام الذي سلم الخلق من ظلمه ، وقد فَسَّرْنَا المؤمِن المهَيْمِن ، وفسرنا الجبار المتكبر.
والباريء الخالق ، تقول برأ اللَّه الخلق يبرؤهم أي خلقهم ، والقيُّوم المُبَالِغُ في
القيام بكل ما خَلَقَ ، وما أراد ، والولي المتولي للمؤمنين اللطيف للخلق من
حيث لا يعلمون ولا يقدرون ، والودودُ المحب الشديد المحبَّةِ.
الشكور الذي يرجع الخير عنده ، الظاهر الباطن الذي يعلم مَا ظَهَرَ وَمَا بَطَن ، المبدئ الذي ابتدأ كل شيء من غير شيء ، والبديع الذي ابتدع الخلق على غير مثالٍ ، القدُوس قد رويت القَدُّوس بفتح القاف ، جاء في التفسير أنه المبارك ، ومن ذلك أرض مقدَّسَةٌ مباركة ، وقيل الطاهر أيضاً.
والمذرئ - مهموز - الذي ذرأ الخلق أي خلقهم ، والفاصل الذي فصل بين الحَقِّ والباطل ، والغفور الذي

(5/152)


يغفر الذنوب ، وتأويل الغفران في اللغة التغطيةُ على الشيء ومن ذلك المِغفَرُ
ما غطَيَ به الرأس.
المجيد الجميل الفعال ، والشهيد الذي لا يغيب عنه شيء.
والرَّبُّ مالك كل شيء والصَّفوح المتجاوز عَنِ الذُنُوبِ يصفح عنها.
الحَنَّانُ ذو الرحمة والتعطف المَنَّان الكثير المَنِّ على عباده بمُظَاهر النعم.
الفتاح الحاكم ، الدَّيَّانُ المجازي ، الرقيب الحافظ الذي لا يغيب عنه شيء.
المتين الشديد القوة على أمْرِه ، الوكيل الذي يوكل بالقيام بجميع ما خلق.
والزكي الكثير الخير السُّبُّوح الذي بيَّن عن كل سِرٍّ ، الحليم الذي لا يعجل
بالعقوبة ، وكان الحلم على هذا تأخير العقوبة .

(5/153)


سُورَةُ الممتحنة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1)
قيل المعنى تُلقُونَ إليهم المودَّةَ ، والمعنى - واللَّه أعلم - يلقون إليهم
أخبار النبي عليه السلام وسِرَّهُ بالمودةِ التي بينكُمْ وبينهم ، ودليل هذا القول :
(تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ) ما يستره النبي عليه السلام بالمودة.
ويروى أنها نزلت في حاطب بن أبي بلتعة ، وكان كتب إلى أهل مكة
يتنصُحُ لهم ، فكتب إليهم أن رسول الله يريد أن يغزوكم فخذوا حذركم فأطلع اللَّه نبيه على ذلك ، وكان كتب إليهم كتاباً ووجه به مع امرأةٍ يقال إنها كانت مولاة بني هاشم ، فوجَّه رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - بعَلِى والزبَيْرِ خلفَها فلحقاها فسألاها عن الكتاب فأنكرت ، ففتشا ما معها فلم يجدا شيئاً ، فقال علي رضوان اللَّه عليه : إن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - لم يَكذِبْنا فأقسم عليٌّ عليها لتخرجن الكتابَ أو
ليضربنها بالسيف ، فقالت لهما : وَلِّيَا وُجُوهكما وأخرجت الكتابَ من قرن من قرون شعرها ، فجاء بالكتاب إلى النبي عليه السلام فعرضه على حاطب
فاعترف به وقال إن لي بمكة أهلًا ومالًا فأردت أن أتقرب مِنْهُمْ ، ولَنْ يرد اللَّه
بأسه عنهم ، فأنزل الله عزَّ وجلَّ :
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ) الآية
إلى آخر القصة .

(5/155)


وأما قوله : (إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي).
هذا شرط جوابه تَقَدَّم.
المعنى إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي فلا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء.
وجهاداً ، وابتغاء) منصوبان لأنهما مفعولان لهما.
المعنى إن كنتم خرجتم لجهاد وابتغاء مرضاتي فلا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء.
ثم أعلمهم تعالى أنه ليس ينفعهم التقرب إليهم بنَقْل أخبار النبي عليه السلام فقال :
* * *
(إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2)
معنى يثقفوكم يلقَوْكم.
(وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ).
ثم أعلمهم أن أهلهم وأولاَدَهم لا ينفعُونهم شيئاً في القيامةِ فقال :
(لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3)
قرئت (يَفْصِلُ) على أربعة أوجه.
يَفْصِل بينَكُمْ على مَعْنَى يفصل اللَّه بينكم ، ويُفْصَلُ بينكم على ما لم يسمَّ فاعله ، والمعنى راجع إلى الله عزَّ وجلَّ.
ويُفَصَّلَ بَيْنَكُمْ - بتشديد الصاد وفتحها وضم الياء على ما لم يُسمَّ
فاعله.
وقرئت يُفصَّل بينكم ، ويجوز نُفصِّل بينكم ونُفصِل بينكم - بالنون.
فهذه سِتَةُ أوجُهٍ.
* * *
وقوله تعالى : (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءَاءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4)
(قَدْ كَانَتْ لَكُمْ إِسْوَةٌ)
ويجوز أسوة بضم الهَمْزَةِ.
(فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءَاءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ).
فأعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أن أصحاب إبراهيم صلوات اللَّه عليه تَبَرأوا من
قومهم وعَادَوْهًمْ ، فأمِرَ أصحاب النبي عليه السلام أن يتأسَّوْا بهم وبقولهم .

(5/156)


وقوله : (إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ).
فإن ذلك عن موعدة وعدها إياه ، فلما تبين له إقامَتُهُ على الكفر تبرَّأ منه.
فأمَّا ما يجوز في " بُرَءاءُ منكم " فأربعة أوجه :
أجودُها بُرَءَاءُ على فُعَلاء ، مثل ظريف وظرفاء ، وشريك وشركاء ، وكذلك بري . وبُرَءَاءُ ، ويجوز بُرَاء منكم وبَرَآءٌ منكم جميعاً بالمَد
فمن قال بِراء بالمد فهو بمنزلة ظريف وظراف.
ومن قال بُرَاءٌ بالضم - أبْدَلَ الضمَ من الكسرة كما قالوا رُخْلَةَ ورِخَال
وقال بعضهم : رُخال بضم الراء وقالوا : شاة رُبَى وغَنَمٌ رُبَات وَرِبَابٌ - بضم الراء وكسرها - وهي الحديثة النتاج ، أي الحديثة الولادة.
ويجوز بَرَاء منكم بفتح الباء ، لأن العَرَبَ تقول : أنا البراء مِنْكَ ويقول
الاثنان والثلاثة : نحن البراء منك ، وكذلك تقول المرأةُ : أنا البراء منك.
فلا تقرأ من هذه الأوجه إلا بما قرأ به من تُوْجَد عنه القِراءةُ.
* * *
وقوله : (رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5)
معناه لا تظهرهم علينا فيظنوا أنهم على حق فَيَفْتَتِنُوا بِذَلِكَ.
* * *
وقوله : (عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7)
" عسى " واجبة من اللَّه.
جاء في التفسير أنه يعني بهذا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
تَزَوجَ أمَّ حبيبة بنت أبي سفيان ، فهذه هي المودة وقيل إنه يعني به من أسلم مِنهُمْ فيكون بينكم وبينهم موَدَّة.
* * *
وقوله : (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8)
" أن " في موضع جر بدل من " الذِين ".
المعنى لا ينهاكم أن تبروا الَّذين لم يقاتلوكم في الدِّينِ.
وهذا يدل على أن المعنى : لا ينهاكم الله عن بِرِّ الذين

(5/157)


بينكم وبينهم عَهْدٌ ودليل ذلك قوله : (وتُقْسِطُوا إلَيْهِمْ) أي وتعدلوا فيما بينكم وبينهم ، من الوفاء بالعهد ، يقال أقسط الرجل فهو مقسط إذا عَدَل ، وقسط فهو قاسط إذا جار ، وقيل إنه يعني به النساء والصبيانُ.
* * *
وقوله : (إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)
(ظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ) أي عاونوا على إخراجكم.
(أَنْ تَوَلَّوْهُمْ)
" أن " في موضع جر أيضاً على البدل.
المعنى إِنَّمَا ينهاكم اللَّه عن أن تتولوا هؤلاء الذين قاتلوكم في الدِّين لأن مُكَاتَبَتهم بإظهار ما أسره النبي عليه السلام مُوِالِاةٌ.
* * *
وقوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10)
موضع " مهاجرات "
نصب على الحال ، وقيل المؤمنات وإن لم يُعْرَفْنَ بالِإيمانِ وَقَبْلَ أن يَصِلُوا إلى النبي عليه السلام ، وإنما سمين بذلك لأن تقديرهُنَّ الِإيمان.
(فَامْتَحِنُوهُنَّ).
معناه اختبروهُنَّ.
وهذه نزلت بسبب عهد الحديبية الذي كان بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين مَنْ عَاهَدَهُ بمكة من خزاعة وغيرهم ، وكان عليه السلام
عاهدهم على أنه من جَاءَ منهم إليه ردَّه إليهم ، ومن صار من عنده إليْهِمْ لم
يردوه إليه ، فأعلم اللَّه - جلَّ وعزََّّ - أن من أتى من المؤمِنَاتِ ممن يريد الدخول في الِإسلام فلا يرجعن إلى الكُفَّار ، فذلك قوله : (فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ).
فأعلم عزَّ وجلَّ - أن إظهار الِإيمَانِ يدخُلُ في جملة الِإسلام ، واللَّه عالم

(5/158)


بما في القلوب ، وكانت المحنة إذَا جَاءَتِ المرأةُ المهاجِرَةُ أن تحلَّفَ باللَّه أنه
ما جاء بها غَيرَة على زوجها ، ولا جاءت إلا مُحِبَّةً لِلًهِ وَلرَسُولهِ وللرغْبَةِ في
الإِسلام فَهذِهِ المِحنَةُ.
وقوله تعالى : (فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ).
أي لا تردوهُن ، يقال : رجع فلان ورجعته.
وقوله : (لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ).
أي إنَّ المؤمنات لا يَحْلِلْنَ للكُفَارَ ولا الكفارُ يحلون للمؤمنات
(وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا)
فكان الزوج يُعْطَى مَهْرَ امرأته التي آمنت ، وكان يؤخَذ مِنْهمْ مَهْرُ من
مضى إليهم من نساء المؤمنين مِمن تلحق بزوجها إذا رغبت في الكُفْرِ.
فأقامَتْ عَلَيْه.
(وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ)
أي وَلاَ إِثْمَ عليكم.
(أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ)
أي أن تزوجوهُنَّ.
(إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ)
وهذا دليل على أن التَزْوِيج لَا بُدَّ فيه مِنْ مَهْرٍ.
(وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ).
أي إذا كفرن فقد زَالَتِ العِصمَةُ بين المشركةِ والمؤمِنِ ، أي قد انبَتَّ
عَقْدُ حبل النكاح ، وأصل العصمة الحبل ، وكل ما أَمْسَك شيئاً فقد عَصَمَهُ.
وقرِئَت : (وَلَا تُمْسِكُوا) . (وَلَا تَمْسَّكُوا) ، والأصل تَتَمسًكوا من قَوْلكَ تَمَسَّكْت بالشيءِ إِذَا أنتَ لَمْ تُخْله من يَدِك أو إرادتِكَ ، فحذفت إحدى التاءين.
وقُرِئَتْ ( تُمْسِّكُوا)- بضم التاء والتشديد من قَوْلكَ مَسَّكَ يُمَسِّكُ.
وقرئت (تُمْسِكُوا) بضم التاء وتَخْفِيفِ السين على معنى أمْسَكَ يُمْسِكُ .

(5/159)


وقوله : (وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11)
(فَعَاقَبْتُمْ)
على فاعلتم ، وقرئت فعقَبْتُمْ بغير ألف وتخفيف القاف.
وجاء في التفسير فَغَنِمْتُمْ ، وتأويله لأي اللغة كانت العقبى لكم ، أي كانت العقبى والغلبة لكم حتى غنمتم.
وعَقِبْتُم أجْوَدُها في اللغَةِ ، وفَعَقَبتُمْ بالتخفيف جَيِّدٌ في اللغة أيْضاً.
أي صارت لكم عقبى الغلبة ، إلا أنَّهُ بالتشديد أبلغ.
ومعنى (فعاقبتم) أصبتموهم في القتال بعقوبة حتى غنمتم.
أي إنْ مَضَتْ امرأة منكم إلى من لا عهد بينكم وبينه.
(فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا).
أي مثل ما أنفقوا في مُهُورِهِنَّ ، وكذلك إنْ مَضَتْ إلى من بينكم وبينهم
عَهْدٌ ، فنكثَ في إعطاء المَهْرِ فالذي ذهبت زوجَتُهُ كَانَ يعْطَى من الغنيمة
المَهْرَ ، فلا ينقص شيء من حقه ، يعطى حَقَّهُ كاملاً بعد إخراج مهور
النساء ، فمن ثم دفع عمر بن الخطاب رحمه الله فيما رَوَوْا مهر أم أيمن.
* * *
وقوله تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)
أي لا يأتين بِوَلَدٍ ينسبنه إلى الزوج ، فإن ذلك بَهتان وَفِرية.
(وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ).
قيل لا يعصينَك في أمر في النوح ، وقيل في تمزيق الثياب وخمش
الوجوه ومحادَثَةِ الرجال.
والجملة أن المعنَى لَا يُعْصِيَنَك في جميع ما تأمُرُهُن به بالمعروف .

(5/160)


وروي أن النبي عليه السلام جلس على الصفا ، وجلس عمر رحمه اللَّه
دُونَهُ ، فكن يبايعن النبي - صلى الله عليه وسلم - على ما تَضَمَّنَتْه الآية ، ويمسحن أيدِيَهُنَّ بِيَدِ عُمرَ.
وقيل كن يمسحن بأيديهن من وراء ثوبٍ.
* * *
وقوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13)
يعني به اليهودُ.
(كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ).
أيْ كما يئس الكفارُ الذين لاَ يوقنون بالبعث من موتاهم أن يُبْعَثُوا ، فقد
يئس اليهود والذين عاقدوا النبي - صلى الله عليه وسلم - من أن يكون لهم في الآخرة حظ.
وقيل : (قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ)
أي من الذين في القبور ، يعلمون أنهم لا حَظَّ لهم فِي الآخِرةِ .

(5/161)


سُورَةُ الصَّف
( مَكِّيَّة )
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)
قد فسرنا ما في قوله : (سَبَّحَ لِلَّهِ).
* * *
قوله : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2)
الأصل " لما " فحذفت الألف لأن ما واللام كالشيء الواحد ، فكثر
استعمال " ما " واللام في الاستفهام ، فإذا وقفت عليها قلت : لمه ولا يوقف عليها في القرآن بها لئلا يخالف المصحف.
وينبغي للقارئ أنْ يَصِلَها.
وهذا قيل لهم لأنهم قالوا : لو علمنا مَا أحَبُّ الأعمال إلى اللَّه
- عزَّ وجلَّ - لأصبناه ولو كان فيه ذَهَابُ أنفسنا وأمْوَالِنَا فأنزل اللَّه - عزَّ وجلَّ - : (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ)
إلى قوله : (وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ).
فلما كانَ يوم أحُدٍ تولَّى من تَوَلَّى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى كسرت رَبَاعيته وَشُجَّ في وَجْهِهِ أنزل اللَّه - عزَّ وجلَّ - :
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)
(أنْ تَقُولُوا) في موضع رفِع.
و (مَقْتاً) نصبٌ على . التمييز ، المعنى كَبُرَْ قولكم ما لا تَفعلون مَقْتاً عند اللَه ، ثم أعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - ما الذي يحبه فقال :

(5/163)


(إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4)
أي بنيان لاصق بعضُه بِبَعْض لا يغادر بَعْضُه بَعْضاً.
فأعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أنه يحب من يثبت في الجهاد في سبيله ويلزم
مَكَانَهُ كَبُيُوتِ البناء المرْصُوصِ.
ويجوز - واللَّه أعلم - أن يكون عني أن تستوي نِياتُهُمْ في حَرْبِ عَدُوهِمْ حتى يكونوا في اجتماع الكلمةِ ومُوَالَاةِ بعضهم بعضاً كالبنيانِ المرصوص.
* * *
وقوله : (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5)
قد بينَّا في سورة الأحْزاب ما كان آذوه به.
(فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ).
أي عدَلُوا عنِ الحق وانصرفوا عنه فأضلَّهم الله وَصَرَفَ قُلوبَهُمْ.
وقوله : (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ)
معناه لا يهدي من سبق في علمه أنَّهُ فَاسِقٌ.
* * *
وقوله : (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6)
موضع (إِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) و (إذ قال موسى) جميعاً نصب.
المعنى اذكر إذ قال موسى ، واذكر إذ قال عيسى ابنُ مريم.
أي اذْكر لقومِكَ وأُمَّتِكَ قَصةَ مُوسَى وعيسى وما كان عاقبة من آمَنَ بِهِمَا وعاقبة من كفر وآذى الأنبياءَ.
وقولُه : (لِلْحَوَارِيينَ).
قيل إن الحواريين سموا بذلك لبياض ثيابِهِمْ ، وقيل كانوا قصَّارِينَ.
والحَوارِيُّونَ خُلْصَان الأنْبِيَاءِ وصَفْوَتُهُمْ ، والدليل على ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم - :

(5/164)


الزبيرُ ابنُ عَمَّتِي وحَوَاريِّي مِنْ أُمَّتِي.
وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حواريُّون.
وتأويل الحوارِيين في اللغة الذين أخلَصُوا ونُقُّوا من كُل عَيْبِ ، وكذلك الدقيق الحوارَى من هذا ، إنما سُمِّيَ لأنَّه يُنَقى من لُبَابِ البُرِّ وخالِصِه . وتأويله في الناس أنه الذي إذَا رُجِعَ في اختياره مَرة بعد مَرةٍ وُجِدَ نقيًّا مِنَ العُيُوب.
فأصل التحوير في اللغة من حَارَ يحورُ ، وهو الرجوع والترجيعُ.
فهذا تأويله - واللَّه أعلم.
وقوله : (مَنْ أنْصَارِي إلى اللَّهِ).
أي من أنْصَارِي مع اللَّه ، وقال قوم مَنْ أنْصَارِي إلى نَصْرِ اللَّهِ.
وقال الشاعر :
ولَوْحُ ذِراعَيْنِ في بِرْكةٍ . . . إِلى جُؤْجُؤٍ رَهِلِ المَنْكِبِ
المعنى الكاهل مع جؤجؤ رهل الْمنْكِب.
* * *
وقو له : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ)
وأكثر القراءة كونوا أنصارَ اللَّهِ ، وهو الاختيار لقولهم نحن أنْصَارُ اللَّه.
لأن الآيتين في جواب كونوا أنصاراً للَّهِ ، نحن أنصَارُ اللَّهِ.
ويجوز أن يكون " نحن أنصار اللَّه " جواباً لذلك.
وقرئت (وَاللَّهُ مُتِمٌّ نُورَهِ) - (وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ) كلاهما جَيدٌ .

(5/165)


وقوله عزَّ وجلَّ : (فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ).
مَعْنَى (أَيَّدْنَا) قَوَّينَا ، واشتقاقه من الأيْدِ ، والأيْدُ القوَّةُ.
* * *
وقوله : (يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)
هذا جواب (تؤمنون باللَّه وَرَسُوله وتُجَاهِدُونَ) لأن معناه معنى الأمْرِ.
المعنى آمنوا باللَّه ورسوله وجاهدوا في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم يغفر لكم
ذنوبكم.
أي إن فعلتم ذلك يغفر لكم.
والدليل على ذلك قراءة عَبْدُ الله بن مسعودٍ : آمِنُوا باللَّهِ وَرَسولهِ ، وقد
غلِطَ بعض النحويين فقال : هذا جَوابُ " هل " ، وهذا غلط بين ، ليس إذا دلهم النبي على ما ينفعهم غفر الله لهم ، إنما يغفر اللَّه لهم إذا آمنوا وجاهدوا.
فإنما هو جواب (تُومِنُونَ باللَّهِ ورَسُوله وتجاهدون يغفر لكم).
فأمَّا جواب الاستفهام المجزوم فكقَولكَ هل جئتني بشيء أعطكَ مثله.
المعنى لو كنت جئتني أعطيتك ، وَإِنْ جئتني أعْطَيْتُكَ.
وكذلك " أين بيتك أزُرْكَ ".
* * *
وقوله : (فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ).
أي في جنات إقامة وخلودٍ ، يقال عَدَنَ بالمكان إذَا أقام به.
* * *
وقوله : (وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13)
المعنى ولكم تجارة أخرى تحبونها وهي نصر من الله وفتح قريب.
وإن شئت كان رفعاً على البَدَلِ من (أُخْرَى).
المعنى يُدْخِلْكُمْ جَنًاتٍ ولكُمْ نَصْرٌ من اللَّه وَفَتْحٌ قَرِيبٌ.
* * *
وقوله : (إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ).
(مُصَدِّقًا) منصوب على الحال.
أي إِني رسول اللَّه إليكم في حال

(5/166)


تصديقٍ لما تَقَدمَني من التوراة وفي حال تبشير برسول (يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ).
قُرِئَتْ بفتح الياء - مِنْ بَعْدِيَ - . وبإسكان الياء ، وحذْفِها من اللفظ
لالتقاء السَّاكنين ، وأَما في الكتاب فهي ثابتة . من بَعْدي اسمُه أحمد.
والاختيار عند سيبويه والخليل تحريك هذه الياء بالفتح.
فأمَّا من قرأ (يَغْفِر لكُمْ) - بإدغام الراء في اللام - فغير جائز في القراءة عند الخليل وسيبويه ، لأنه لا تدغَمُ الراء في اللام في قولهما.
وقد رُوَيتْ عن إمام عَظِيم الشأن في القِرَاءةِ.
وهُوَ أبو عمرو بن العلاء ، ولا أَحْسَبُه قرأ بها إلا وقد سمعها عن العَرَب.
زَعم سيبويه والخليل وجميع البصريين - مَا خَلَا أَبا عمرو أن اللامَ تُدْغَمُ في
الراءِ ، وأن الرَّاءَ لا تُدغَمُ في اللامِ.
وحجة الذين قالوا أن الراء لا تدغم في اللام أن الراء حرف مكرر قويٌّ
فَإذَا أدغمت الراء في اللام ذهب التكرير منها.
وَدَلِيلُهُمْ على أَن لَهَا فضلة عَلَى غَيْرِهَا في التمكن أَنَكَ لَا تميلُ ما كان على
مثال فاعل إذا كان في أَوله حَرْفٌ مِنْ حُرُوف الإطباقِ أَو المسْتَعْلِيَةِ ، وهي سبعة أَحْرُفٍ منها أَربعة مطبقة وهي الصَّادُ والضَّاد والطَّاءُ والظَّاء.
وثلاثة مستعلية وهي : الخَاءُ والغَيْن والقاف.
لا تقول : هذا صالح ، بإمالة الصادِ ، إلى الكسر - فإن كان في مَوْضع
اللام رَاء جاز الكسر ، تقول : هذا صَارِم . ولا تقول : مَرَرْت بضَابَطٍ - بإمالة الضادِ - ولكن تقول : مَررت بضارِبِ ، فَتُسفِلَ الراءَ المكسورَة كَسْرَةَ الصاد والضادِ المطبقتين.
وهذا الباب انفرد به البَصْرِيونَ في النحو وليس للكوفيين ولا المدنيين
فيه شيء ، وهو باب الِإمالةِ .

(5/167)


سُورَةُ الجمعة
(مدنية)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله عزَّ وجلَّ : (يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1)
(الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ)
بضم القاف القراءة ، وقد رُوِيتْ القَدُّوس بفتح القاف ، وهي قليلة.
ومعنى القدوس المبارَكُ وقيل الطاهِرُ أيضاً.
* * *
وقوله : (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2)
(الْأُمِّيِّينَ) الذين لا يكتبون ، الذين هم على ما خُلِقَت عليه الأمَّةُ قبل
تعلم الكتاب ، والكتَابُ لا يكون إلا بتعَلُّم ٍ.
وقولهم في الذي لا يعرف الكلام ولا القراءة : هو يقرأ بالسليقة ، أَي لم يتعلم القراءة مُعْرباً إنما يقرأ على ما سمع الكلام على سلِيقَتهِ.
والسَّلِيقَةُ والطبيعةُ والنحيبَةُ والسَّجيَّةُ والسَّرجُوجَةُ ، ْ مَعْنَاهُ كله الطبيعةُ.
وقيل أول ما بدأ الكتاب في العرب بَدَا مِنْ أَهْل الطائِفِ ، وذكر أَهل
الطائف أنهم تعلمُوا الكتابة في أَهل الحِيرَةِ ، وذكر أَهلُ الحيرَةِ أَنهم تعلموا
الكتابة من أَهل الأنبار.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3)
" آخرين " في مَوْضِع جَرٍّ.
المعنى هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ

(5/169)


وبَعَثَ في الذين لم يلحقوا بهم ، أَي في آخرين منهم لَمَّا يَلْحَقوا بِهِم.
فالنبي عليه السلام مبعوث إلى من شاهده وإلى كل من كان بَعْدَهُمْ من العرب
والعجم.
ويجوز أن يكون (وآخرين) في موضع نصب على معنى يعلمهم الكتاب
والحكمة وُيعَلَمُ آخرين منهم لما يلحقوا بِهِمْ.
* * *
وقوله : (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5)
الأسفار الكُتُب الكبار ، واحدها سِفْر ، فأعلم اللَّه - عَزً وجَل - أن اليهودَ
مَثَلُهُمْ في تركهم استعمال التوراة والإيمان بالنبي عليه السلام الذي يجدونه
مكتوباً عندهم فيها كمثل الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً.
ثم قال : (بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ).
ومعنى (بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ) المثل الذي ضَرَبْنَاه لَهُمْ.
وقرأ أبو عَمْرو كمثل الحِمَارِ - بكسر الألف - وهذه الِإمالة أَعْنِي كسر الراء كثير في كَلَامِ العَرَبِ.
وقوله : (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).
معناه أَنه لا يهدي من سبق في علمه أَنه يكون ظَالِماً.
* * *
وقوله : (قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6)
وذلك لأنهم قالوا : (نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) فقيل لهم :
إنْ كِنتُمْ تزعمون فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ.
أي فإن اللَّه سَيُمِيتُكُمْ.
وَأعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أنهم لايَتَمَنَّوْنَهُ ، لأنهم قد
عَلِمُوا أن النبي عليه السلام حَقٌّ وأَنهم إن تَمَنَّوهُ مَاتُوا ، فلم يَتَمَنَّوْهُ .

(5/170)


فهذه من أدل آيات النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ثم أعلم عزَّ وجلَّ أنهم إنْ لم يَتَمنُوا الموت وَلَمْ يَمُوتُوا فِي وَقْتِهِمْ أنهم
يموتون لَا مَحالةَ فقال :
* * *
(قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)
ودخلت الفاء في خبر إِنَّ ، ولا يجوز إنَّ زَيْداً فمنطَلِق ، لأن
(الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ) فيه معنى الشرط والجزاء.
ويجوز أَن يكونَ تَمَام الكَلاَمِ : (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ)
كَأَنَّه قيلَ : إنْ فَرَرْتُم من أَي موتٍ كانَ مِنْ قَتْلٍ أَو غيره فإنه مُلَاقِيكُمْ ، ويكون (فَإِنَّهُ) استئنافٌ ، بعد الخبر الأول.
* * *
وقوله : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9)
وقرئت الجُمْعَة - بإسكان الميم - ويجوز في اللغة الجمَعَة - بفتح الميم -
- ولا ينبغي أن يقرأ بها إلا أن تثبت بها روايةٌ عن إمام من القُرَّاء.
فمن قرأ الجُمْعَة فهو تخفيف الجُمُعَةِ ، لثقَلِ الضَمَّتَيْنِ.
ومن قال في غير القراءة الجُمَعَةِ ، فمعناه التي تجمع النَّاسَ ، كما تقول رجل لُعَنَة ، أَيْ يُكْثِرُ لَعْنَ الناس ، ورَجُل ضُحَكَةٌ ، يكثر الضَّحِكَ.
وقوله : (فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ).
معناه فاقصدوا إلى ذكر اللَّه ، وليس معناه العدو.
وقرأ ابن مَسْعودٍ : " فَامْضُوا إلى ذِكْرِ اللَّهِ "
وقال : لو كانت فاسْعَوْا لَسَعَيْتُ حتى يسقط رِدَائي.
وكذلك قرأ أبَيٌّ بن كَعْب : (فَامْضُوا).
وَقَدْ رويت عن عمر بن الخطاب.
ولكن اتباع المصحف أولى ، ولو كانت عند عمر " فامضوا " لا غير ، لغيرها في المصحف.
والدليل على أن معنى السَّعْيِ التصرف في كل عمل قول اللَّه - عز وجل -

(5/171)


(وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40)
فلا اختلاف في أَن معناه : وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا عمل.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ).
فالبيع من وقت الزوال في يوم الجُمَعَةِ إلى انقضاء الصلاةِ كالمحرَّمِ.
* * *
وقوله : (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10)
هذا معناه الِإباحة ، ليس معناه إذا انقضت الصلاة وجب أن يَتْجر
الإنْسانُ كما قال : (وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا)
فليس على من حَلَّ من إحرامٍ أن يصطادَ إنما هو مباح له ، مثل ذلك قوله في الكلام : إذَا حَضَرتني فلا تنطق وَإذا غبت عني فتكلم بما شئت ، إنَّما معناه الِإباحة.
* * *
وقوله : (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ) بضم الواو لسكونها وسكون اللام.
وَاخْتِير الضم مع الواو ، لأن الواو ههنا أصل حركتها الرفع.
لأنها تنوب عن - أسماء مرفوعة.
وقد قرئت (فتمنَوِ الموت) بكسر الواو لالتقاء السَّاكنين ، إذا التقيا من كلمتين كسر الأول منهما كما تقول : قَلِ الحق فتكسر اللام لسكون لام الحق.
* * *
وقوله : (وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)
ولم يقل إليهما ، ويجوز من الكلام ، وإذا رأو تجارة أو لهواً انفضوا إليه
انفضوا إليها ، وانفضوا إليهما فحذف خبر أحدهما لأن الخبر الثاني يدل على
الخبر المحذوف والمعنى إذا رأوا تجارة انفضوا إليها أو لهواً انفضوا إليه.
وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان في خطبتِهِ فجاءت إبل لدحية بن خليفة الكلبي وعليها زيت فانفضوا ينظرون إليها وتركوا النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب ، وبقي النبي عليه السلام مع اثني عشر رجلًا ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لو لحق آخرُهُمْ أَوَّلَهُمْ
لالتهب الوادي نَاراً.
فأَعلم اللَّه عزَّ وجلَّ أَن ما عند الله خيرٌ من اللهو ومن==

8.   معاني القرآن وإعرابه - للزَّجَّاج
المؤلف : أبو إسحاق إبراهيم السَّرِي بن سَهل " المعروف بـ الزَّجَّاج "
(المتوفي 311 هـ)

التجارة ، وأَعلم النبي عليه السلام غليظ ما في التولي عن الِإمام إذا كان
يخطب يوم الجمعة.
واللَّهوُ هَهنا قِيلَ الطَّبْلُ ، وهو - واللَّه أَعلم - كل ما يُلْهَى بِهِ.
(وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ).
أَي ليس يفوتهم من أَرْزَاقِهم لتخلفهم عن النظر إلى الميرة شيءٌ مِنْ
رِزْقٍ ولا بتركهم البيعَ في وقت الصلاة والخطبة .

(5/173)


سُورَةُ المُنَافِقِينَ
(مدنية)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله تعالى : (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1)
أَكْذَبَهمْ فيما تَعتقده قلوبُهمْ ، وفي أنهم يحلفون باللَّهِ إنهم لمنكم.
ويحلفون بالله ما قالوا ، ولقد قالوا كلمة الكفر.
* * *
وقوله : (اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2)
أي سُتْرةً يستترون بها منه ، ودليل ذلك أَنهم حَلَفوا على ما وصفنا.
وقد قرئت : (اتَّخَذُوا إِيْمَانَهُمْ) بكسر الهمزة -
أي إظْهَارَهُم الإيمَانَ (جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ).
* * *
وقوله : (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ
(3)
وقرئت فَطَبَع على قلوبِهِم . ورويت فَطَبَعَ الله على قلوِبهم.
والقراءة المعروفة المجمع عليها ههنا فَطُبِعَ ، على ما لم يسمَّ فاعله.
ويجوز في العربيَّةِ فطبعْ عَّلى قلوبهِمْ على إدغام العين في العين لأنهما من مخرج واحد ، ولاجتماع الحركات لأنه يجتمع لسِت حَرَكاتٍ ، ومن ترك الإدغام فلأن الحرفين

(5/175)


من كلمتين وأن العين من الحلق وحروف الإدغام في حروف الفم أَكثر منها
ْفي حروف الحلق نحو مدَّ وشَدَّ وقَرَّ وَرَدَّ وأكثر مِنْ بَابِ دَعَّهُ يُدعُّه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4)
كَأنه وصفهم بتمام الصوَرِ وَحُسْنِ الإِبَانة ، ثم أعلم أنهم في تركهم
التَّفهُّمَ والاستبصار بمنزلة الخشب فقال : (كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ).
ويقرأ (خُشْبٌ مُسَنَّدَةٌ) بإسْكانِ الشِين.
فمن قرأ بإسكان الشين فهو بمنزلة بَدَنةٍ وَبُدْنٍ.
ومن قال خَشُب - بضم الشين - فهو بمنزلة ثَمَرَةَ وَثُمُر.
ويجوز (خَشَبٌ مُسَنَّدَةٌ) ، فلا تقرأ بها إلا أَن تثبت بها رواية ، وخشبة وخَشَبٌ مثل شجرة وشَجَر.
وقوله : (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ).
وصفهم اللَّه تَعَالى بِالجُبْنِ ، ويكون أمر كل من خاطب النبي عليه
السلام فإنَّمَا يخاطبه في أمرهم بكشف نِفَاقِهِمْ.
وقوله : (هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ).
أَي هم العدو الأدنى ، فاحذرهم لأنهم كانوا أَعداء النبي - صلى الله عليه وسلم - ويظهرون أَنَّهم مَعَهُ.
وقوله - عزَّ وجلَّ - : (قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ).
ومعنى (أَنَّى يُؤْفَكُونَ) من أين يصرفون عن الحق إلى الباطل.
* * *
قوله : (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5)
قرأ أَبو عمرٍو يَسْتَغْفِر لَّكُمْ - بإدغام الراء في اللام - وهي عند سيبويه لا
تجوز ، وقد بيَّنَّا ذلك في سورة الصف .

(5/176)


وقوله : (لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ).
على فَعَّلُوا ، وَقُرِئَتْ (لَوَوْا رُءُوسَهُمْ) بالتخفيف.
وهذه قيل إنها نزلت في عبد اللَّه بن أُبَيٍّ.
* * *
وقوله : (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7)
هذه أيضاً نزلت في عبد الله بن أُبَيٍّ.
وذلك أنه قال لقوم ينفقون على بعض من مع رسول اللَّه : لا تنفقوا عليهم حتى ينفَضُوا عنه.
ْ(وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ).
أَي أن اللَّه يرزقهم وهو رازقهم في حال إنفاق هؤلاء عليهم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8)
يعنون أَيضاً عبد الله بنَ أُبَيٍّ.
فأعلم اللَّه أَنه مظهر دينه على الدين كله ومعزٌّ رسوله ومن معه من المؤمنين فقال : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9)
حَضهم الله على إدامة الذِكر له وأن لا يضنوا بأموالهم فقال :
(وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10)
أي من قبل أن يُعاين ما يعلم معه أَنَه مَيَت.
(فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ).

(5/177)


فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ
وقرئت (فَأَصَّدَّقَ وَأكونَ من الصالحين).
فجاء في التفسير أنهُ ما قَصَّر أحدٌ في الزكاة أو في الحج إلا سأل الكرة.
فمن قال (فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ).
(فَأَصَّدَّقَ) جواب (لَوْلَا أَخَّرْتَنِي) ومعناه هلَّا أَخَّرْتَنِي.
وجزم (وَأَكُنْ) على موضع (فَأَصَّدَّقَ) ، لأنه على معنى إن أَخرتني أصَّدَّق وأكن من الصالحين.
ومن قرأ وأكونَ فهو على لفظ (فَأَصَّدَّقَ) وَأَكونَ (1).
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { وَأَكُن } : قرأ أبو عمروٍ « وأكونَ » بنصب الفعل عطفاً على « فأصَّدَّقَ » و « فأصَّدَّقَ » منصوبٌ على جوابِ التمني في قوله : « لولا أَخَّرتني » والباقون « وأكُنْ » مجزوماً ، وحُذِفَتِ الواوُ لالتقاء الساكنين . واختلفت عبارات الناس في ذلك ، فقال الزمخشري : « عطفاً على محلِّ » فأصَّدَّقَ « كأنه قيل : إنْ أخَّرْتَني أصَّدَّقْ وأكنْ » . وقال ابنُ عطية : « عطفاً على الموضع؛ لأنَّ التقديرَ : إنْ أخَّرتني أصَّدَّقْ وأكن ، هذا مذهب أبي علي الفارسي : فأمَّا ما حكاه سيبويه عن الخليلِ فهو غيرُ هذا وهو أنه جزمٌ على توهُّمِ الشرطِ الذي يَدُلُّ عليه التمني ، ولا موضعَ هنا لأن الشرطَ ليسَ بظاهرٍ ، وإنما يُعْطَفُ على الموضع حيث يَظْهَرُ الشرطُ كقولِه : { مَن يُضْلِلِ الله فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ } [ الأعراف : 186 ] فمَنْ جَزَمَ عَطَفه على موضع { فَلاَ هَادِيَ لَهُ } لأنه لو وقع موقعَه فِعْلٌ لانجزم » انتهى . وهذا الذي نَقَله عن سيبويهِ هو المشهورُ عند النَّحويين . ونَظَّر سيبويه ذلك بقول زهير :
4268 بَداليَ أني لَسْتُ مُدْرِكَ ما مَضَى . . . ولا سابقٍ شيئاً إذا كان جائيا
فخفضَ « ولا سابقٍ » عطفاً على « مُدْرِكَ » الذي هو خبر ليس على توهُّمِ زيادةِ الباء فيه؛ لأنه قد كَثُرَ جَرُّ خبرِها بالباء المزيدة ، وهو عكسُ الآيةِ الكريمةِ؛ لأنه في الآية جُزِمَ على توهُّمِ سقوط الفاء ، وهنا خُفِضَ على تَوَهُّمِ وجودِ الباءِ ، ولكنَّ الجامعَ توهُّمُ ما يَقْتضي جوازَ ذلك ، ولكني لا أُحِبُّ هذا اللفظَ مستعملاً في القرآن ، فلا يُقال : جُزم على التوهُّم ، لقُبْحه لفظاً . وقال أبو عبيد : « رأيتهُ في مصحف عثمان » وأكُنْ « بغير واوٍ . وقد فَرَّق الشيخ بين العطفِ على الموضعِ والعطفِ على التوهُّمِ بشيءٍ فقال : » الفرقُ بينهما : أنَّ العاملَ في العطف على الموضع موجودٌ ، وأثرُه مفقودٌ ، والعاملُ في العطفِ على التوهُّمِ مفقودٌ ، وأثرُه موجودٌ « انتهى . قلت : مثالُ الأول : » هذا ضاربُ زيدٍ وعمراً « فهذا من العطفِ على الموضع ، فالعاملُ وهو » ضارب « موجودٌ ، وأثرُه وهو النصبُ مفقودٌ . ومثالُ الثاني ما نحن فيه؛ فإنَّ العاملَ للجزمِ مفقودٌ ، وأثُره موجودٌ . وأَصْرَحُ منه بيتُ زهير فإنَّ الباءَ مفقودةٌ وأثُرها موجودٌ ، ولكن أثرَها إنما ظهر في المعطوفِ لا في المعطوفِ عليه ، وكذلك في الآية الكريمة . ومن ذلك بيتُ امرىء القيس :
4269 فظلَّ طُهاةُ اللحمِ مِنْ بينِ مُنْضِجٍ . . . صَفيفِ شِواءٍ قَديرٍ مُعَجَّلِ
فإنهم جعلوه مِن العطفِ على التوهُّم؛ وذلك : أنه توهَّم أنه أضاف » منضج « إلى » صَفيف « ، وهو لو أضافَه إليه لَجَرَّه فعطفَ » قدير « على » صفيف « بالجرِّ تَوَهماً لجرِّه بالإِضافة . /
وقرأ عبيد بن عمير » وأكونُ « برفع الفعل على الاستئناف ، أي : وأنا أكونُ ، وهذا عِدَةٌ منه بالصَّلاح.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5/178)


سُورَةُ التَّغَابُن
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مكية ما خلا ثلاث آيات نزِلت بالمدينة ، وهي من آخرها
قوله : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ . . . ) إلى آخرها.
وقيل إن
الصحيح أنها مدنية كلها.
* * *
قوله عزَّ وجلَّ : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2)
خلقكم في بطون أمهاتكم كفاراً ومؤمنين ، وجاء في التفسير أن يحيى
عليه السلام خلق في بطن أُمِّه مؤمناً ، وخلق فرعون في بطن أُمِّه كافراً ، ودليل ما في التفسير قوله عزَّ وجلَّ : (فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39).
فأعلم اللَّه يُعالى أنه مخلوق كذلك ، وجائز أن يكون
(خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ)
أي مؤمن بأن اللَّه خلقه وكافِر بأن اللَّه خلقه.
ودليل ذلك أقوله سبحانه ، : (قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19).
وقال : (أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37).
* * *
وقوله : (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)
ويقرٍأ (صِوَرَكم) بكسر الصادِ ، وصُورَة يجمِع صُوَراً مثل غُرْفَةَ وَغُرَف.
ورُشْوَة ورُشى ، ويجمع أيضاً صِوَر مثل رِشْوة وَرِشَى وفُعَل وفِعَل أختان ، قالوا

(5/179)


حٌلًى وحِلًى ، ولِحىً وَلُحىً جمع لحية.
ومعنى (أَحسَنَ صُورَكم) خلقكم أحسن الحَيَوَانِ كلِّه.
والدليل على ذلك أن الإنسان لا يُسَرُّ بأن يكون صورته على غير
صورة الآدميين ، فالإنسان أحسن الحيوان.
وقيل أيضاً فأحسن صوركم من أَرَادَ اللَّه أَن يكون أبيض كان أبيض ، ومن أراد أنْ يكون أَسودَ كان أَسْوَدَ ومن أَراد أَن يكون دَمِيماً كان دَمِيماً أَو تاماً كان تامًّا.
فأحسن ذلك - عزَّ وجلَّ - وأَتى من كل صورةِ بكل صنف على إرادته.
* * *
وقوله : (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (5)
أي وذاقوا في الدنيا عظيم السطوات وَلَهُمْ في الآخرةِ عَذَابٌ أَلِيمٌ.
ثم أعلم اللَّه عزَّ وجلَّ بِمَ نَزَلَ بِهِمْ ذَلِكَ فقال :
(ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6)
فأعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أنه نزل بهم العذاب في الدنيا وأنه ينزلً بِهِمْ في
الآخرة بكفرهم.
* * *
وقوله : (فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
(8)
أي وبالقرآن الذي هو نًورٌ وكتابٌ مبِينٌ.
* * *
وقوله : (يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)
(يَوْمَ) مَنصوبٌ بقوله (لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ) يوم الجمع.
ويوم التغابن يومَ يغبن أَهلُ الجنَّةِ أَهلَ النَّارِ ، ويغبن من ارتفعت منزلته في الجنة من كان في دُونِ مَنْزِلَتِه.
وضرب ذلك مثلاً للشَراءِ والبيعِ كما قال : (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ)
وقال في موضع آخر : (فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16).
وذلك في الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضلالة بالهدى .

(5/180)


وقوله : (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11)
معناه إلا بِأمر اللَّه ، وقيل أَيضاً إلا بعلم اللَّه.
وقوله : (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ).
وَيُسَلِّمُ في وقت المصيبة لأمر الله يهد قلبه يجعله مهتدياً.
وقُرِئت (يَهْدَ قلبُه) ، تَأويل هَدَأَ قَلْبُه يهدأ إذا سكن ، ويكون على طرح الهِمزة ، ويكون في الرفع يَهْدَا قلبه - غير مهموز - وفي - الجزم : مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدَ قَلْبُهُ ، بطرح الألف للجزم ، ويكون التأويل إذا سَلَّمَ لأمر اللَّه سَكَنَ قَلْبُه.
* * *
وقوله : (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16)
هذه رخصة لقوله : (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ).
وقوله : (وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ)
أَي قدموا خَيراً لأنفسكم من أموالكم.
(وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ).
ويجوز (ومن يُوَقَّ شُحَّ نَفْسِهِ) ، ولا أعلم أحداً قرأ
بها فلا تقرأن بها إلَّا أن تثبت رواية في قراءتها.
(فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)
معناه الظافرون بالفَوْزِ والخَيْرِ.
* * *
قوله : (إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ).
جاء في التفسير أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا أَمر بالهجرة مِنْ مَكة إلى المدينة أَرَادَ قَومٌ الهِجْرَةَ فقال لهم أَزْوَاجُهُم وأَوْلَادُهُمْ : قد صبرنا لكم على مفارقة الدين ، ولا نصبر لكم على مفارقتكم ومفارقة الأموال والمساكن فأعلم اللَّه تعالى أن من كان بهذه الصورة فهو عَدُوٌّ ، وإن كان وَلَداً أو كانت زوجة.
ثم أمر عزَّ وجل بالعَفْو والصَّفْح فقال :
(وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

(5/181)


ثم أَعلم أن الأموال والأولاد مما يفتتن به فقال :
(إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15)
(فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ).
أي ما أمكنكم الجهاد والهجرة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فَلاَ يَفْتننكُمْ الميل إلى الأموال والأوْلَادِ عن ذلك.
* * *
(إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17)
فَاقترض عزَّ وجلَّ مما رزق وأعطى تفضلاً وامتحاناً.
(وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ).
يَشْكُر لكم ما عملتم وَيحْلُم عنكم عند استِحقَاقِكم العقوبَةَ على ذنوبِكمْ.
* * *
(عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)
يعلم ما تُكُِّه الصدورُ " مما لا تعلمه الحفظة ، ويعلم ما تسقط من وَرَقَةٍ
وما قَطَر مِنْ قَطْرِ المَطَرِ .

(5/182)


سُورَةُ الطَّلاق
(مدنية)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمن الرَّحِيمِ
قوله عزَّ وجلَّ : (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1)
هذا خطاب للنبي عليه السلام والمؤمنون داخلون معه في الخطاب.
ومعناه إن أردتم الطلاق كما قال : (إذَا قمْتمْ إلى الصَّلَاةِ) معناه إذا أرَدْتم
القيام إلَى الصلاة.
وقوله : (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ).
فطلاق السنة المجْتَمَع عَلَيْه في قول مَالِك أَن يطلق الرجل امْرَأَته طَاهِراً
من غير جماع تطليقة واحدة ، ثم يتركها إذا أراد المقام على فراقها ثَلَاثَ
حِيَض ، فإذا طعنت في الحيضة الثالثة فلا يملك رجعتها ، ولكن إن شاء
وشاءت أن يجددا نكاحاً جَدِيداً كان ذلك لهما لأن معنى :
(لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا)
أَي بعد الطلاق الواحد.
فإذا طلقها ثلاثاً في وقت واحد فلا معنى في قوله :
(لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا).
وإنما تفسيره الرجعة ، أعني إذا وقع الثلاث في وقت واحدٍ ، وهذا قول مالك - رحمه الله -
وقال أهل العراق إن طلقها طاهراً من غير جماع ثم أوقع عند كل حيضة تطليقة فهو أيضاً عندهم طلاق السنة ، وأن فعل ما قال مالك فهو عندهم سنة أيْضاً.
وقال الشافعي إذا طلَّقها طَاهِراً من غير جماع فهو مطلق للسنة أيضاً طلق واحدة أَو ثلاثاً ، وهذا يسقط معه إذا كان ثلاثاً .

(5/183)


قوله : (لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا).
وقد جاء التشديد فيمن تعدى طلاق السنة ، فقال :
(ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ).
وقال : (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ).
يعني بحدود اللَّه حدود طلاق السنة وما ذَكَرَ مع الطلاق.
وقوله : (وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ).
ويقرأ (مُبَيَّنَةٍ).
فجعل للمطلقات السكنى ، وقيل إن خروجهن من بُيوتهِنَّ فاحشة.
وقيل الفاحشة المبينة الزنا.
ودليل هذا القول قوله : (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ) ، يعني الزنا . وقيل أَيضاً : (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) زنا أو سَرق أَو شربُ خَمْر.
وقيل كل ما يجب فيه الحد فهو فاحشة.
* * *
قوله : (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ)
معناه يجعل له مخرجاً من الحرام إلى الحلال ، وقيل أيضاً من النار إلى
الجنَّة ويرْزُقْه مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبْ مَعْنَاهُ - وَاللهُ أَعْلَمُ - أنه إذا اتقَى اللَّهَ وآثَرَ الحلال والصبر على أهله إن كان ذَا ضَيْقَةٍ فتح الله عليه ورزقه من حيث لا يحتسب.
وجائز أن يكون إذا اتقى الله في طلاقه ، وآثر ما عند اللَّه وجرى في
ذلك على السُّنَّةِ رزقه الله أهلاً بَدَل أهله.
وقوله : (إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)
(إِنَّ اللَّهَ بَالِغٌ أَمْرَهُ)
وتقرأ (بَالِغُ أَمْرِهِ) ، أي إِن اللَّه بالغ ما يُرِيدُ.
وقرئت إنَّ اللَّهَ بَالِغ أمْرُهُ ، على رفع الأمر بِبَالِغ ، أَي إنَّ اللَّهَ يبلغ أَمره وينفذ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا).
وقَدَراً ، أَي ميقاتاً وَأَجَلًا.
* * *
وقوله : (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4)

(5/184)


قيل في بعض التفسير إِنهم سألوا فقالوا : قد عرفنا عدةَ التي تحيض.
فما عدةُ التي لا تحيض والتي لم تحض ؟
فقيل إن ارتبتم ، أي إذا ارتبتم فعدتهن ثَلَاثَةُ أشْهُرٍ.
والذي يذهب إليه مالك ، واللغةُ تدل عليه أن معناه إِن ارتبتم في حيضها وقد انقطع عنها الحيض وكانت ممن يحيض مثلها فعدتها ثلاثة أشهُرٍ ، وذلك بعد أن تترك تسعة أشْهُرٍ بمقدار الحمل ، ثم تعتد بعد ذلك
ثلاثة أشهر ، فإن حاضت في هذه الثلاثة الأشْهُرِ تمت ثلاث حِيَض.
وجائز أن يتأخر هذا الحيض فيكون كلما قاربت أن تخرج من الثلاثة حاضت ، فهذا مذهب مالك وهو الذي يروى عن عمر رحمه اللَّه.
وقال أهل العراق تترك ولو بلغت في ذلك أكثر من ثلاثين سنةً ولو بلغت
إلى السبعين ، يعنون حتى تبلغ مبلغ من لا يحيض ، وقالوا : ولو شاء اللَّه
لابتلاها بأكثر من ذلك ، وكذلك في قوله :
(وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ) معناه عند مالك معناه إِن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر ، واليائسة عند مالك وغيره بإجماع التي قد يئست من المحيض فلا ارتياب في أمرها أنها لا تحيض تعتد ثلاثة أشهر.
ولم يأتِ في القرآن النَّصُّ عَلَى ذلك ، ولكن في القرآن دليل عليه
وأنا أبَيِّنُه إن شاء الله.
فأمَّا الصغيرة التي لا يُوطأ مثلها فإن دخل بها ووطئها مكانَهُ فإنما عقرها (1).
ولا عدةَ عند مالك عليها ، إلا أن يكون مثلها يَسْتقيم أَن يُوطَأ وإنما هي عنده
في عداد من لم يُدخَلْ بها.
والذي في القرآن يدل على أن اليائسة التي لا يُرتاب فيها يجب أن تعتد ثلاثة أشهر لقوله : (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ)
فمعناه واللائي لَا يَحِضْن فعدتهن ثلاثة أَشْهُرٍ ، فقياس اللائي لا يحضن قياس اللائي لم يحضن
__________
(1) قال في اللسان :
وفي الحديث فيما روى الشعبي ليس على زانٍ عُقْرٌ أَي مَهْر وهو للمُغْتَصَبةِ من الإِماء كمَهْرِ المثل للحُرَّة وفي الحديث فأَعْطاهم عُقْرَها قال العُقْرُ بالضم ما تُعْطاه المرأَة على وطء الشبهة وأَصله أَن واطئ البِكْر يَعْقِرها إِذا اقْتَضَّها فسُمِّيَ ما تُعْطاه للعَقْرِ عُقْراً ثم صار عامّاً لها وللثيّب وجمعه الأَعْقارُ. اهـ (لسان العرب. 4 / 591)

(5/185)


فلم يحتج إلى ذكر ذلك.
وإذا كان عدة المرتاب بها ثلاثة أشهر فالتي لا يرتاب بها أولى بذلك.
قوله تعالى : (وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ).
معناه أجلهن في الانقطاع فيما بينهن وبين الأزواج أن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ.
* * *
وقوله : (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6)
(مِنْ وُجْدِكُمْ)
ويقرأ (من وِجْدِكم) ، يقال وَجَدْتً في المال وُجْداً ، أَي صرت ذا مالٍ.
وَوِجداً وَجِدَةً ، وَوَجَدْتُ الضَّالَّةَ وِجْدَاناً وَوَجَدْتُ على فلانٍ وَجْداً ، ووجَدْت عليه مَوْجِدَةً.
فأوجب اللَّه تعالى السُّكْنَى حتى تنقضِيَ العِدةُ.
والسكنى والنفقة على الزوج إذا طلق طلاق السنة إلى أن تأتي ثلاث حِيَضٍ ، فإذا أَبَتَّ الطلاقَ قبل انقضاء العِدةِ فعليه النفقة والسكنى في قول أهل العراق ، وعليه السكنى في مذهب مالك والشافعي ، فأما الحاملِ فعليه النفقة لها ، وذا في القرآن نص بقوله تعالى :
(وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ).
وقوله : (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ).
أي فأعطوهن أجْرَةَ رِضَاعهنَّ.
(وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ).
قيل في التفسير إنه الكسوةُ والدِّثَار، والمعروف - واللَّه أعلم - أن لا
يقصِّر الرجلُ في نفقة المرضع التي ترضع ولَدَه إذا كانت هي والدتَه لأن
الوالدَةَ أَرأف بولدها من غيرها به ، فلا تقصرُ في رضاعه والقيام بشأنه ، فحق
كل واحد منهما أن يأتمر في الولد بمعروف.
(وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى) .

(5/186)


معناه فليرضع الوالد غير والِدَةِ الصبِى ، وهذا خبر في مَعْنى الأمْرِ لأن
لفظ . . (فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى) لفظ الخبر ومعناه فليرضع.
ومثله في لفظ الخبر ومعنى الأمر قوله :
(وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ)
معناه ولْيُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ.
* * *
قوله : (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7)
أَمَرَ أهل التوسِعَةِ أن يُوَسِّعوا على نسائهم المرْضِعَاتِ أَوْلَادَهنَّ على قدر
سعتِهن.
(وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ).
أي مَن كان رزقه بمقدار القوت فلينفق على قدر ذلك ، كما قال :
(عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ).
(لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا)
أي إلا ما أعطاها.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا).
أعلم الله المؤمنين أنهم وَإن كانوا في حالٍ ضَيِّقَةٍ ، وقيل كان الغالب
على أكثرهم في ذلك الوقت في عهد رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - الفقر والفاقةُ فأعلمهم عز وجل أنه سَيوسِرُ المسلمون - ففتح الله عليهم بعد ذلك وجعل يُسراً بعد عُسْرٍ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8)
أي عجلنا لها العذاب ، وَمَعناه : عتا أهلها فحاسبنا أهلها وَعَذَّبْنَاهُم.
* * *
وقوله : (فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (9)
أَي ثِقْلَ عاقبةَ أَمرها .

(5/187)


(وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا)
يعني في الآخرة وهو قوله :
(أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10)
يعني بعد ذلك الذي نزل بِهِم في الدنيا.
ثم وعظ الله هذه الأمَّةَ في تصديق النبي عليه السلام ، واتباع أَمْره
وأعلم أنه قد بعث رسوله ليخرج الناس من الظلمات إلى النور فقال :
(فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا).
ومعنى أولي الألباب أصحاب العقول ، وواحد أولي الألباب ذُو لُبٍّ أَي
ذو عَقْلً.
(قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11)
(رَسُولًا) مَنْصوبٌ على ثلاثَةِ أوجه :
أجوَدُهَا أن يكون قَوله : (قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا) دليلاً على إضمار أَرْسَلَ رَسُولَاَ يتلو عليكم.
ويجوز أن يكون يعني بقوله (رَسُولًا) النبي عليه السلام.
ويكون (رَسُولًا) ، منصوباً بقوله (ذِكراً).
يكون المعنى قد أنزل الله اليكم ذِكراً (رَسُولًا) ذَا ذِكْرٍ رسولًا يتلو ، ويكون (رَسُولًا) بَدَلاً مِنْ ذِكرٍ ، ويكون يعنى به جبريل عليه السلام.
ويكون دليل هذا القول قوله يعنى به جبريل عليه السلام : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ) (1).
ومعنى : (مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) من ظلمات الكفر إلى نور الإِيمان لأن
أدلة الكِفر مظلمَة غَير بَيِّنَةٍ ، وأدلة الإسلام واضحة بيِّنَة.
قوله : (قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا).
أي رزقه اللَّه الجنة التي لا ينقطع نعيمها ، ولا يزول.
ثم ذكر - جلَّ وعزَّ -
ما يدلُّ على توحيده فقال :
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { رَّسُولاً } : فيه أوجهٌ ، أحدُها وإليه ذهب الزجَّاج والفارسي أنه منصوبٌ بالمصدرِ المنونِ قبلَه؛ لأنه يَنْحَلُّ لحرفٍ مصدري وفعلٍ ، كأنه قيل : أن ذَكرَ رسولاً ، والمصدرُ المنوَّنُ عاملٌ كقولِه تعالى : { أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً } [ البلد : 14 ] وقولِه :
4275 بضَرْبٍ بالسيوفِ رؤوسَ قَوْمٍ . . . أَزَلْنا هامَهُنَّ عن المَقيلِ
الثاني : أنَّه جُعِل نفسُ الذِّكْرِ مبالغةً فأُبْدِل منه . الثالث : أنَّه بدلٌ منه على حَذْفِ مضافٍ مِنْ الأول تقديرُه : أنزل ذا ذكرٍ رسولاً . الرابع : كذلك ، إلاَّ أنَّ « رسولاً » نعت لذلك المحذوف . الخامس : أنه بدلٌ منه على حَذْفِ مضافٍ مِنْ الثاني ، أي : ذِكْراً ذِكْرَ رسول . السادس : أَنْ يكونَ « رسولاً » نعتاً ل ذِكْراً على حَذْفِ مضاف ، أي : ذِكْراً ذا رسولٍ ، ف « ذا رسول » نعتٌ لذِكْر . السابع : أَنْ يكونَ « رسولاً » بمعنى رسالة ، فيكونَ « رسولاً » بدلاً صريحاً مِنْ غير تأويل ، أو بياناً عند مَنْ يرى جَرَيانه في النكراتِ كالفارسيِّ ، إلاَّ أنَّ هذا يُبْعِدُه قولُه : « يَتْلُو عليكم » ، لأنَّ الرسالةَ لا تَتْلوا إلاَّ بمجازٍ ، الثامن ، أَنْ يكونَ « رسولاً » منصوباً بفعلٍ مقدر ، أي : أرسل رسولاً لدلالةِ ما تقدَّمَ عليه . التاسع : أَنْ يكونَ منصوباً على الإِغراء ، أي : اتبِعوا والزَمُوا رسولاً هذه صفتُه.
واختلف الناس في « رسولاً » هل هو النبيُّ صلى الله عليه وسلم ، أو القرآنُ نفسُه ، أو جبريلُ؟ قال الزمخشري : « هو جبريلُ عليه السلام » أُبْدِل مِنْ « ذِكْراً » لأنه وُصِف بتلاوةِ آياتِ اللَّهِ ، فكأنَّ إنزالَه في معنى إنزالِ الذِّكْرِ فصَحَّ إبدالُه منه « . قال الشيخ : » ولا يَصِحُّ لتبايُنِ المدلولَيْنِ بالحقيقة ، ولكونِه لا يكونَ بدلَ بعضٍ ولا بدلَ اشتمال « انتهى . وهذا الذي قاله الزمخشريُّ سبقه إليه الكلبيُّ . وأمَّا اعتراضُه عليه فغيرُ لازمٍ لأنه إذا بُوْلِغَ فيه حتى جُعِل نفسَ الذِّكْر كما تقدَّم بيانُه . وقُرىء » رسولٌ « على إضمار مبتدأ ، أي : هو رسول.
قوله : { لِّيُخْرِجَ } متعلِّقٌ إمَّا ب » أَنْزَل « ، وإمَّا ب » يَتْلو « وفاعِلُ يُخْرِج : إمَّا ضميرُ الباري تعالى المنَزِّل ، أو ضميرُ الرسولِ ، أو الذِّكرِ ، و » مَنْ يُؤْمِنْ « هذا أحدُ المواضعِ التي رُوْعي فيها اللفظُ أولاً ، ثم المعنى ثانياً ، ثم اللفظُ آخِراً ، وقد تقدَّم ذلك في المائِدة . وقد تأوَّلَ بعضُهم هذه الآية [ وقال : ليس قولُه » خالدين « فيه ضميرٌ عائدٌ على » مَنْ « إنما يعود على مفعولِ » يُدْخِلْه « ، و » خالدين « حالٌ منه ، والعاملُ فيها » يُدْخِلْه « لا فِعْلُ الشرطِ ] . هذه عبارةُ الشيخِ ، وفيها نظرٌ؛ لأنَّ » خالدين « حالٌ مِنْ مفعول » يُدْخِلْه « عند القائلين بالقول الأول ، وكأنَّ إصلاحَ العبارة أَنْ يقالَ : حالٌ مِنْ مفعولِ » يُدْخِلْه « الثاني ، وهو » جناتٍ « والخلودُ في الحقيقةِ لأصحابِها ، وكان ينبغي على رأي البصريين أن يقال : خالدين هم فيها ، لجريان الوصفِ على غير مَنْ هو له.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5/188)


(اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)
ففي كل سماء وكل أرض خلق من خَلْقِه ، وأمر نافِذٌ مِن أَمْرِهِ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
وقوله : (وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا).
(عِلْمًا) منصوب على المَصدر المؤكد ، لأن معنى قوله :
(وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا)
أي قد علم كل شيء عِلْمًا.
ومثله : (وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ)
ثم قال : (صُنْعَ اللَّهِ) مُوكِّداً.
لأن معنى قوله : (صُنْعَ اللَّهِ) صَنَعَ اللَّهُ الجبالَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ .

(5/189)


سُورَةُ التَّحْريم
(مدنية)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1)
أَي وقد غفر اللَّه لك ذلك التحريم.
وجاء في التفسير أن النبي - صلى الله عليه وسلم - شرب عسلاً عند زينب بنت جحش فأجمعت عائشة وحفصة على أن يقولا له : إنَّا نَشَمُّ منك رِيحَ المغافير ، والمغافير صمغ متغير الرائحة.
وقيل في التفسير إنه بَقْلَة (1) ، فلما صار إلى كل واحدة منهما قالت له : إني أَشَمُّ منك ريح المغافير فحرَّم النبي - عليه السلام - على نفسه شرب العسل ، وقيل إنه حلف على ذلك.
وجاء في التفسير - وهو الأكثر - أن النبي - عليه السلام - خلا في يوم
لعائشة مع جاريته أم إبراهيم ، وكان يقال لها مارية القبطية فوقفت حفصة على ذلكِ ، فقال لها رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - لا تُعْلِمِي عَائِشَةَ ذلك ، فقالت له لَسْتُ أفعل.
وحَرَّمَ مَارِية على نفسه.
وقيل إنه حلف مع ذلك أيضاً ، فأعلمت حفصة عائشة الخبر واستكتمتها إيَّاه ، فأطلع الله نبيَّه على ذلك فقال الله عزَّ وجلَّ : (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3)
(وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا)
يعني حفصة.
موضع " إذ " نِصْبٌ ، كأنه فال : واذكر (إِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا) يعني حفصة.
(فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ) ، أي فلما خَبَّرت به عائشةَ.
__________
والمغافير : بقلة أو صمغة متغيرة الرائحة ، فيها حلاوة.
واحدها مَغْفُور.

(5/191)


(وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ).
وقًرِئَتْ (عَرَفَ بعضَه) بتخفيف الراء.
وأعلم الله أن التحريم على هذا التفسير لا يحرم.
فقال لنبيه عليه السلام :
(لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ).
فلم يجعل الله لنبيه أن يُحَرِّمَ إلا ما حَرَّمَ اللَّه ، فعلى هذين التفسيرين
ليس لأحد أن يحرِّم ما أحلَّ اللَّه ، فقال اللَّه : (قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ).
يعني الكفَّارة ، لأنه قد روىِ أنه مع ذلك التحريم حَلَفَ.
وقال قومٌ إن الكفَّارةَ كفَّارةُ التحريم.
فَأمَّا (عَرَّفَ بَعْضَهُ).
فتأويله أنه عرف بعضه حفصة ، (وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ)
جاء في التفسير أنه لما حرم مارية أخبر حفصة أنه يملك مِن بعده أبو بكر
وعمر ، فعرفها بعضَ ما أفشت من الخبر ، وأعرض عن بعض.
فإن النبى - صلى الله عليه وسلم - قد عرف كل ما كان أَسَره.
والِإعراض لا يكون إلا عما يعرف.
وتأويل هذا في اللغة حَسَن بَيِّنٌ.
معنى (عَرفَ بَعْضَه) جازى عليه ، كما تقول لمن تتوعده : قَدْ عَلِمتُ مَا عَمِلْتَ وَقَد عَرَفْتُ ما صَنَعْتَ.
وتأويله فسأجازيك عليه ، لا أنك تقصد إلى أنك قد علمت فقط.
ومثله قول الله عز وجل : (وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ).
فتأويله يعلمه اللَّه ويجازي عليه ، فإن اللَّه يعلم كل ما يُفعَل.
ومثله قوله تعالى : (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ)
واللَّه يعلم ما في قلوب الخلق أجمعين.
ومثله قوله : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7).
ليس الفائدة أنه يرى ما عمل ، إنما يرى جزاء مَا عَمِلَ.
فقيل إن النبي - صلى الله عليه وسلم -طلَّق حفصة تطليقة واحدةً فكان ذلك جزاءها عنده .

(5/192)


فذلك تأويل (عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ).
أي جازى على بعض الحديث.
وكانت حفصة ، صَوَّامةً قوَّامَةً فأمره الله تعالى أن يراجعها فراجعها.
* * *
وقوله : (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4)
يعني به عائشة وحفصة.
ومعنى (صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) . عدلت قلوبكما وزاغت عن الصدق.
وقوله : (وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ).
أي تتعاونا عليه ، فإن اللَّه هو مولاه أي هو يتولى نصرته ،.
(وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ).
جاء في التفسير أن صالح المؤمنين أبو بكر وعمر ، وجاء أَيضاً في
التفسير أن صَالِح المؤمنين عمر ، وقيل إن صالحي المؤمنين خيار
المسلمين.
و " صَالِح " ههنا ينوب عن الجمع كما تقول : يَفْعَل هَذَا الخَيِر من
الناس تريد كل خَير.
(وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ).
في معنى ظهَرَاء ، أي والملائكة أيضاً نصَّارٌ للنبي - صلى الله عليه وسلم - (1).
* * *
قوله عزَّ وجلَّ : (عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5)
(يُبْدِلَهُ)
وقرئت (يُبَدِّلَهُ) ، بتشديد الدال وفتح الباء ، وُيُبَدِّلَهُ للتَكْثِيرِ ، وَكِلَاهمَا جَيِّدٌ وقد قرئ به.
* * *
وقوله : (قَانِتَاتٍ).
جاء في التفسير مطيعاتٍ ، والقُنُوتُ القِيامُ بما يقرب إلى اللَّه - عزَّ وجلَّ -.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { إِن تَتُوبَآ } : شرطٌ وفي جوابِه وجهان ، أحدهما : هو قولُه « فقد صَغَتْ » والمعنى : إن تتوبا فقد وُجِدَ منكم ما يُوْجِبُ التوبةَ ، وهو مَيْلُ قلوبِكما عن الواجبِ في مخالفةِ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم في حُبِّ ما يُحِبُّه وكراهةِ/ ما يكرهه . وصَغَتْ : مالَتْ ، ويَدُلُّ له قراءةُ ابنِ مسعودٍ « فقد راغَتْ » . والثاني : أن الجوابَ محذوفٌ تقديرُه : فذلك واجبٌ عليكما ، أو فتابَ اللَّهُ عليكما ، قاله أبو البقاء . وقال : « ودَلَّ على المحذوفِ فقد صَغَتْ؛ لأن إصغاءَ القلبِ إلى ذلك ذنبٌ » . وهذا الذي قاله لا حاجةَ إليه ، وكأَنَّه زَعَمَ أنَّ مَيْلَ القلبِ ذنبٌ فكيف يَحْسُنُ أَنْ يكونَ جواباً؟ وغَفَلَ عن المعنى الذي ذكرْتُه في صحةِ كَوْنِه جواباً . و « قلوبُكما » مِنْ أفصحِ الكلامِ حيث أوقه الجمعَ موقعَ المثنى ، استثقالاً لمجيءِ تثنيتَيْن لو قيل : قلباكما . وقد تقدَّم تحريرُ هذا في آيةِ السَّرِقةِ في المائدة ، وشروطُ المسألةِ وما اختلف الناس فيه . ومِنْ مجيءِ التثنيةِ قولُه :
4278 فتخالَسا نَفْسَيْهما بنوافِذٍ . . . كنوافِذِ العُبْطِ التي لا تُرْقَعُ
والأحسنُ في هذا البابِ الجمعُ ، ثم الإِفرادُ ، ثم التثنيةُ ، وقال ابن عصفور : « لا يجوز الإِفراد إلاَّ في ضرورة كقوله :
4279 حمامةَ بَطْنِ الواديَيْنِ تَرَنَّمي . . . سَقاكِ مِنْ الغُرِّ الغوادِي مَطيرُها
وتبعه الشيخُ ، وغلَّط ابنَ مالك في كونِه جَعَلَه أحسن من التثنيةِ . وليس بغلطٍ للعلة التي ذكرها ، وهي كراهةُ توالي تثنيتَيْن مع أَمْنِ اللَّبْس.
وقوله : { إِن تَتُوبَآ } فيه التفاتٌ من الغيبة إلى الخطابِ ، والمرادُ أُمَّا المؤمنين بنتا الشيخَيْن عائشةُ وحفصةُ رضي الله عنهما وعن أبوَيْهما.
قوله : { وَإِن تَظَاهَرَا } أصلُه تتظاهرا فأَدْغَمَ ، وهذه قراءة العامَّةِ ، وعكرمةُ » تتظاهرا « على الأصل ، والحسن وأبو رجاء ونافع وعاصم في روايةٍ عنهما بتشديد الظاء والهاء دون ألف وأبو عمروٍ في روايةٍ » تظاهرا « بتخفيف الطاء والهاء ، حَذَفَ إحدى التاءَيْن وكلُّها بمعنىً المعاونة مِن الظهر لأنه أقوى أعضاءِ الإِنسانِ وأجلُّها.
قوله : { هُوَ مَوْلاَهُ } يجوزُ أَنْ يكونَ » هو « فصلاً ، و » مَوْلاه « الخبرَ ، وأن يكونَ مبتدأً ، و » مَوْلاه « خبرُه ، والجملةُ خبرُ » إنَّ «.
قوله : { وَجِبْرِيلُ } يجوزُ أَنْ يكون عطفاً على اسمِ الله تعالى ورُفِعَ نظراً إلى محلِّ اسمِها ، وذلكَ بعد استكمالِها خبرَها ، وقد عَرَفْتَ مذاهبَ الناسِ فيه ، ويكونَ » جبريلُ « وما بعده داخلَيْن في الولايةِ لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ، ويكونَ جبريلُ ظهيراً له بدخولِه في عمومِ الملائكةِ ، ويكونَ » الملائكة « مبتدأً و » ظهيرٌ « خبرَه ، أُفْرِدَ لأنه بزنةِ فَعيل . ويجوزُ أَنْ يكونَ الكلامُ تمَّ عند قولِه : » مَوْلاه « ويكونُ » جبريل « مبتدأ ، وما بعده عَطْفٌ عليه.
و « ظهيرٌ » خبرُ الجميع ، فتختصُّ الولايةُ بالله ، ويكون « جبريل » قد ذُكر في المعاونةِ مرَّتين : مرةً بالتنصيصِ عليه ، ومرةً بدخولِه في عموم الملائكةِ ، وهذا عكس ما في البقرة مِنْ قوله : { مَن كَانَ عَدُوّاً للَّهِ وملائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ } فإنه ذكر الخاصَّ بعد العامِّ تشريفاً له ، وهنا ذُكِر العامُّ بعد الخاصِّ ، لم يَذْكُرِ الناسُ إلاَّ القسمَ الأول.
وقوله : { وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ } الظاهرُ أنه مفردٌ ، ولذلك كُتب بالحاء دونَ واوِ الجمع . وجَوَّزوا أن يكونَ جمعاً بالواو والنون ، حُذِفَتْ النونُ للإِضافة ، وكُتِبَ دون واوٍ اعتباراً بلفظه لأنَّ الواوَ ساقطةٌ لالتقاء الساكنين نحو : { وَيَمْحُ الله الباطل } بالشورى : 24 ] و { يَدْعُ الداع } { سَنَدْعُ الزبانية } [ العلق : 18 ] إلى غيرِ ذلك ، ومثل هذا ما جاء في الحديثِ : « أهلُ القرآن أهلُ الله وخاصَّتُه » قالوا : يجوز أن يكونَ مفرداً ، وأن يكونَ جمعاً كقولِه : { شَغَلَتْنَآ أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا } [ الفتح : 11 ] وحُذِفَتِ الواوُ لالتقاء الساكنين لفظاً ، فإذا كُتِب هذا فالأحسنُ أَنْ يُكتبَ بالواوِ لهذا الغرضِ ، وليس ثَمَّ ضرورةٌ لحَذْفِها كما مَرَّ في مرسوم الخط.
وجَوَّزَ أبو البقاء في « جبريلُ » أن يكونَ معطوفاً على الضمير في « مَوْلاه » يعني المستتَر ، وحينئذ يكون الفصلُ بالضميرِ المجرورِ كافياً في تجويزِ العطفِ عليه . وجوَّز أيضاً أَنْ يكونَ مبتدأ و « صالحُ » عطفٌ عليه . والخبرُ محذوفٌ أي : مَواليه.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5/193)


وقوله تعالى : (سَائِحَاتٍ).
جاء في التفسير عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن السائحين هم الصائمونَ ، وهو مما في الكتب الأولى.
وقال أهل اللغة : إنما قيل للصائم سائح لأن الذي يسيح متعَبِّدٌ
ولا زاد مَعَه ، فحين يجد الزاد يطعَمُ ، والصائم كذلك يَمْضِي النهار ولا يَطعَمُ
شيئاً فلشبهه به سُمِّيَ سَائِحاً.
* * *
وقوله : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)
(قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا).
معناه خذوا أنفسكم وأهليكم بما يَقَرِّبُ من اللَّه - جلَّ وعزَّ - وجنبوا
أنفسكم وَأَهْليكم المعاصي.
ومعنى (قُوا أَنْفُسَكُمْ) أي : وقُّوا أَنْفُسَكُمْ (1)
وجاء في التفسير : رَحم الله رَجُلاً قال : يا أهلاه صَلَاتَكُمْ صيامكم مِسْكينكم يتيمكم جيرانكم.
معناه ألزموا واحفظوا صلاتكم وهذه الأشياء المذكورة ، ادُّوا فرض اللَّه
فيها.
وفي الحديث لعل اللَّه يجمعهم معه في الجنَّة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَقُودُهَا النَّاسُ والحِجَارَةُ).
جاء في التفسير أنها حجارة الكبريت.
والوَقُود بفتح الواو ما تُوقَدُ به النَّارُ من حَطبٍ وغَيْرِهِ ، يقال وقدت النار وُقُوداً - بضم الواو -.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً)
بفتح النون ، وتقرأ (نُصُوحاً) - بضم النُون -
فمن فتح فعلى صفة التوبة.
ومعناه توبة بالغة في النصح ، وفَعُول من أسماء الفاعلين
التي تستعمل للمبالغة في الوصف ، تقول رجل صبورٌ وَشَكُورٌ ، وتوبة نَصُوحٌ.
وَمَنْ قَرأ (نُصُوحاً) - بضَم النُّونِ - فمعناه يَنصَحُونَ بهذا نُصُوحاً.
يقال : نصحت له نُصْحاً ونصاحَةً ونصوحاً.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { قوا أَنفُسَكُمْ } : أمرٌ من الوِقايةِ فوزنُه « عُوا » لأن الفاءَ حُذِفَتْ لوقوعِها في المضارع بين ياءٍ وكسرةٍ ، وهذا محمولٌ عليه ، واللامُ حُذِفَتْ حَمْلاً له على المجزوم ، بيانه أنَّ أصلَه اِوْقِيُوا كاضْرِبوا فحُذِفَتِ الواوُ التي هي فاءٌ لِما تقدَّمَ ، واستثْقِلَتِ الضمةُ على الياء فحُذِفَتْ ، فالتقى ساكنان ، فحُذِفَتْ الياءُ وضُمَّ ما قبل الواوِ لتصِحَّ . وهذا تعليلُ البَصْريين . ونقل مكيٌّ عن الكوفيين : أنَّ الحذفَ عندهم فرقاً بين المتعدي والقاصر فحُذِفت الواوُ التي هي فاءٌ في يَقي ويَعِدُ لتعدِّيهما ، ولم تُحْذَفْ من يَوْجَل لقُصوره . قال : « ويَرِدُ عليهم نحو : يَرِمُ فإنه قاصرٌ ومع ذلك فقد حذفوا فاءَه » . قلت : وفي هذا نظرٌ؛ لأنَّ يَوْجَل لم تَقَعْ فيه الواوُ بين ياءٍ وكسرةٍ لا ظاهرةٍ ولا مضمرةٍ . فقلت : « ولا مضمرة » تحرُّزاً مِنْ يَضَعُ ويَسَعُ ويَهَبُ.
و « ناراً » مفعولٌ ثانٍ . و { وَقُودُهَا الناس } صفةٌ ل « ناراً » وكذلك « عليها ملائكةٌ » . ويجوزُ أَنْ يكونَ الوصفُ وحدَه عليها و « ملائكةٌ » فاعلٌ به . ويجوزُ أَنْ تكونَ حالاً لتخصُّصِها بالصفة الأولى وكذلك { لاَّ يَعْصُونَ الله }.
وقرأ بعضُهم « وأَهْلوكم » وخُرِّجَتْ على العطفِ على الضمير المرفوع ب « قُوا » وجَوَّزَ ذلك الفصلُ بالمفعولِ . قال الزمخشري بعد ذِكْرِهِ القراءةَ وتخريجَها : « فإنْ قلتَ : أليس التقديرُ : قُوا أنفسَكم ، ولْيَقِ أَهْلوكم أنفسكم؟ قلت : لا . ولكن المعطوفَ في التقديرِ مقارنٌ للواو ، و » أنفسَكم « واقعٌ بعده كأنَّه قيل : قُوا أنتم وأهلوكم أنفسَكم لمَّا جَمَعْتَ مع المخاطبِ الغائبَ غَلَّبْته [ عليه ] فجعَلْتَ ضميرَهما معاً على لفظِ المخاطبِ » . وتقدَّم الخلافُ في واو « وقود » ضماً وفتحاً في البقرة.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5/194)


وجاء في التفسير أن التوبة النَّصُوحُ التي لا يعاود التائب مَعَها المعْصِيةَ.
وقال بعضهم التي لا ينوي معها معاودة المعصية.
وقوله : (يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ).
(يَوْمَ) منصوبٌ بقوله : (عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ).
أي في هذا اليوم.
والقراءة النصب في قوله : (وَيُدْخِلَكُمْ) عطف على (أنْ يُكَفِّرَ)
ولو قرئت بالجزم لكانَ وَجْهاً ، يكون محمولا على موضع (عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ) لأن عسى من الله واجبة ، قال الله تعالى :
(وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82).
* * *
وقوله : (نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا).
أما إذا رأى المؤمنون نور المنافقين يُطْفَأ سأَلوا الله أَنْ يُتَمِّمَ لهم نورهم.
* * *
وقوله : (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10)
أعلم الله عزَّ وجلَّ أن الأنبياء لا يُغْنون عمَّن عمل بالمعاصي شيئاً.
وجاء في التفسير أن خيانتهما لم تكن في بغاء ، لأن الأنبياءَ لا يبتليهم
اللَّه في نِسائِهم بفسادٍ ، وقيل إن خيانة امرأة لوط أنها كانت تدل على الضيف ، وخيانة امرأة نوح أنها كانت تقول : إنه مجنون - صلى الله عليه وسلم - وعلى أَنبيائه أجمعين.
فأما من زعم غير ذلك فمخطئ لأن بعض من تأول قوله :
(يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ).

(5/195)


ذهب إلى جنس من الفسَادِ.
يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ
والقراءة في هذا ((عَمِلَ غَيْرَ صَالِحٍ) ، و (عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ).
وهما يرجعان إلى معنى وَاحدٍ.
وذلك أن تأويل (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ) إِنَّهُ ذو عمل غيرِ صالح.
وكل من كفر فقد انقطع نسبه من أَهله المؤمنين ، لا يرثهم ولا يرثونه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11)
جاء في التفسير أن فرعون وَتَد لها أرْبَعةَ أَوْتادٍ وشدَّ بدنها ورجليها وجعل
على صدرها رَحًى ، وجعلها في الشمس ، وأن اللَّه فرج لها فرأت بيتها في الجنة.
وجاء في التفسير أن الملائكة كانت تظلها بأجنحتها من الشمس.
* * *
وقوله : (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12)
(وَكُتُبِهِ)
وقرئت (وَكِتَابِهِ).
(أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا)
جاء في التَفسير أنه يعنى به فرج ثوبها.
والعرب تقول للعفيف : هو نِقى الثَّوْبِ ، وهو طيب الحُجْزةِ ، تريد أَنهُ عفيف وأَنشدوا بيت النابغة الذبياني :
رِقاق النِّعالِ طَيِّب حُجُزاتهم . . . يُحَيَّوْن بالرَّيْحان يومَ السَّباسِب
فسروا " طَيِّب حُجُزاتهم " أنهم أَعِفَّاء.
وكذلك (فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا)
أي في فرجِ ثوبها .

(5/196)


سُورَةُ الْمُلْكِ
( مَكِّيَّة )
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
جاء في التفسير أَنها تسمى المنجية ، تنجي قارئها من عذاب القبر.
وجاء في التفسير أن في التوراة : سورةُ الملك من قرأها - في لَيْلَةٍ فَقَدْ أكْثَرَ.
* * *
وقوبه : (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)
معناه تعالى وتعاظم.
* * *
قوله : (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2)
المتعلق بـ (أَيُّكُمْ) المضْمَر.
والمعنى لِيَبْلُوَكُم فيعلم أيكم أحسن عَملاً علم ما وقع.
واللَّه عزَّ وجلَّ قد علم ما يكون منهم إلا أَنَّ الجَزَاء يجب بوقوع
العَمَلِ منهم ، وارتفعت " أي " بالابتداء ، ولا يعمل فيها ما قَبلَها لأنها على أصل الاستفهام ، وهذا مثل قوله : (لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12).
وهذا عند النحويين في تَقْدِير التسْمِيَةِ ، معناه معنى الألف وأم ، إذا قلت : قد
علمت أَيُّكُمْ أَفْضَلُ ، فالمعنى قد علمت أزيد أَفضلُ أَمْ عمرو.
فَعَلِمْت لا يعمل فيه ، بعد الألف ، وكذلك لا يعمل في أي ، والمعنى واحد . ومعنى (خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ) خلق لكم الحياة ليختبركم فيها وخلق الموت ليبعثكم ويجازيكم بأعمالكم.
وجاء في تفسير الكلبي خلق الموت في صورة كبش أملح لا يمر بشيء

(5/197)


إلا مات ، ولا يطأ على شيء إلا مَاتَ ، ولا يجد رائحته شيء إلا مات ، وخلق الحياة في صورة فرس بلقاء فوق الحمار ودون البغل ، لا تمر بشيء إلا أَحْيَتْهُ ولا تطأ على شيء إلا أحيته ولا يجد ريحها شيء إلا حصي ، واللَّه أعلم بحقيقة ذلك.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3)
فِي خَلْقِ ويقرأ (فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَوُّتٍ) بغير ألف.
ويجوز في (تفَاوُتٍ) (تَفَاؤُتٍ) مهموز ، تبدل الهمزة من الواو المضمومة ، ويقال : تفاوت الشيء تفاوتاً وتفوَّت تفوُّتاً إذا اختلف ، فالمعنى ما ترى في خلقه السماء اختلافاً ولا اضطراباً.
ومعنى (طباقاً) مطبق بعضها عَلَى بَعْض ، طباق مصدر طوبقت طباقاً.
وقوله : (فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ).
أي هل ترى فيها فروجاً أو صَدُوعاً.
* * *
(ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4)
(خَاسِئًا) منصوب على الحال ، ومعناه صَاغِراً ، وهو حَسِيرٌ ، قد أَعْيَى من
قبل أَنْ يَرَى في السَّمَاءِ خَلَلاً.
* * *
وقوله : (وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6)
(عَذَابُ جَهَنَّمَ)
بالنصب والرفع ، والنصب يكون عطفاً على قوله : (وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ) ، أي وأعتدنا للذين كفروا
بِرَبِّهِمْ عَذَابَ جَهَنَّمَ.
* * *
قوله : (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا).

(5/198)


معناه التي تدنو منكم من سبع السَّمَاوَات.
وقوله : (بِمَصَابِيحَ) يعني الكواكب.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7)
وهو أقبح الأصوات وهو كصوت الحمار.
* * *
وقوله : (تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8)
معناه تكاد ينقطع مِنْ غيظها عليهم.
وقوله : (كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ).
هذا التوبيخ زيادة لهم في العذاب.
ثم اعترفوا بجهلهم فقالوا :
(لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10)
أي لو كنا سَمِعْنَا سَمْعَ مَن يَعِي ويفَكِرُ مَا كنا في أصحاب السعير ، أَو
يَعْقِل عَقْل من يمَيِّز وينظُر ما كنا في أهل النَّارِ.
* * *
(فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11)
ويروى (فَسُحُقاً) بضم الحاء.
(سُحْقًا) منصوب على المصدَر ، المعنى أسْحَقَهُم اللَّهُ سُحْقًا.
أي بَاعَدَهُم الله من رحمته مبَاعَدَةً ، والسحيق البعيد.
* * *
وقوله : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)
معناه في جبالها ، وقيل في جوانبها ، وقيل في طرقها.
وأشبه التفسير - واللَّه أعلم - تفسير من قال في جبالها ، لأن قوله :
(هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا) ، معناه سهَّل لكم السلوكَ فيها ، فإذا أمكنكم السلوك في جبالها فهو أَبْلَغُ في التذْلِيل.

(5/199)


قوله : (وَإِلَيْهِ النُّشُورُ).
معناه : إن اللَّه الذي خلق السَّمَاوَاتِ بغير عَمَدٍ لا تفاوت فيها وخلق
الأرْضَ وذللها لكم قادر على أن ينْشُرَكم ، أي يبعثكم.
* * *
وقوله : (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16)
معنى تمور تَدُورُ.
* * *
وقوله : (أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17)
أي كما أرسل على قومِ لُوطٍ الحجَارَة التي حَصَبَتْهُمْ.
* * *
وقوله : (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19)
بين لهم بخلق السَّمَاوَات والأرْضِينَ مَا دَلَّهم على توحيده ، وَبَين لهم
بتسخير الطيْرِ في جو السماء صَافًاتٍ أَجْنِحَتهُنَّ وقابضاتها.
(مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ) بِقُدْرَتِهِ.
* * *
(أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22)
أعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أن المؤمن سالك الطريقة المستقيمة ، وأن الكافر
في ضلالته بمنزلة الذي يمشي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ.
وجاء في التفسير أن الكافر يمشي على وجهه في الآخرة.
وَسُئِلَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : كيف يمشون على وُجُوهِهِم ؟ فقال : الذي مشاهم على أرجلهم قَادِرٌ على أن يمْشيَهُمْ على
وُجُوهِهِمْ.
* * *
وقوله : (فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27)
وقرئت " سُِيْئَتْ " بِإِشْمَامِ السِين الضَّمَّ ، ويجوز " سِيتْ " على طرح
الهمزة ، وإلقاء الحركة على الياء .

(5/200)


والمعنى فلما رأوا العذاب زلفةً ، أَيْ قريباً ، سِيَتْ وجوه الذين كفروا.
تَبين فيها السوء (1).
(وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ).
وقُرِئَتْ (تَدْعُونَ) ، من دعوت أَدْعو.
فَأمَّا (تَدَّعُونَ) ، فجاء في التفسير تُكَذِبُونَ.
وتأويله في اللغة هذا الذي كنتم من أجله تَدَّعُونَ الأباطيل والأكاذيب.
أي تدعون أنكم إذَا مِتُّم وكنتم تراباً وعظاماً أَنَّكُمْ لا تُخْرَجُونَ.
ومن قَرَأَ تَدْعُونَ . بالتخفيف -
فالمعنى هذا الذي كنتم به تستعجلون وتدعون اللَّه في قولكم :
(اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً
مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32).
ويجوز أن يكون معنى (تَدَّعُونَ) هذا أَيضاً تَفْتَعِلُونَ ، من الدعاء.
وتفتعلون من الدِعوى ، يجوز ذلك - واللَّه أعلم.
* * *
وقوله : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30)
أي غائِراً ، وهو مصدرٌ يوصف به الاسم ، فتقول : ماء غَوْرٌ ، وماءَان غَوْرٌ
ومياه غَوْرٌ.
كما تقول : هذا عَدْل وهذَان عَدْلٌ وهؤلاء عَدْلٌ.
ومعنى مَعِين جارٍ من العُيونِ.
وجاء في التفسير [ظاهر] ، والمعنى أَنَّه يظهر من العُيُون.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { رَأَوْهُ } : أي : الموعودَ أو العذابَ زُلْفَةً أي : قريباً ، فهو حالٌ ولا بُدَّ مِن حَذْفِ مضافٍ أي : ذا زُلْفَةٍ ، أو جُعِل نفسَ الزُّلْفَةِ مبالغةً . وقيل : « زُلْفَةً » تقديرُه : مكاناً ذا زُلْفَةٍ فينتصِبُ انتصابَ المصدرِ.
قوله : { سِيئَتْ } الأصلُ : ساء أي : أحزنَ وجوهَهم العذابُ ورؤيتُه . ثم بُنِي للمفعول . و « ساء » هنا ليسَتْ المرادِفَةَ ل « بِئْسَ » كما عَرَفْتَه فميا تقدَّم غيرَ مرةٍ . وأَشَمَّ كسرةَ السينِ الضمَّ نافعٌ وابنُ عامرٍ والكسائيُّ ، كما فعلوا ذلك في { سياء بِهِمْ } [ هود : 77 ] في هود ، وقد تقدَّم ، والباقون بإخلاصِ الكسرِ ، وقد تقدَّم في أولِ البقرةِ تحقيقُ هذا وتصريفُه ، وأنَّ فيه لغاتٍ ، عند قوله : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ } [ البقرة : 11 ].
قوله : { تَدَّعُونَ } العامَّةُ على تشديدِ الدالِ مفتوحةً . فقيل : من الدَّعْوى أي : تَدَّعُون أنه لا جنةَ ولا نارَ ، قاله الحسن . وقيل : من الدعاءِ أي : تَطْلبونه وتستعجلونه . وقرأ الحسن وقتادة وأبو رجاء والضحاك ويعقوبُ وأبو زيدٍ وابنُ أبي عبلةَ ونافعٌ في روايةِ الأصمعيِّ بسكونِ الدالِ ، وهي مؤيِّدَةٌ للقولِ : إنَّها من الدعاء في قراءةِ العامَّة.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5/201)


سُورَةُ ( ن )
( مَكِّيَّة )
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله عزَّ وجلَّ : (ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1)
قرئت بإدغام النون في الواو ، وقرئت بتبيين النون عند الواو.
وقرئت نُونَ والقلم - بفتح النون.
وَالَّذِي اختارَ إِدْغام النون في الواو كانت الواو ساكنة أَوْ متحركة.
لأن الذي جاء في التفسير يُبَاعِدُهَا من الإسكان والتبْيين ، لأن من
أسكنها وبينها فإنما يجعلها حرفَ هجاء والذي يدغِمُهَا فجائز أن يَدغمها وهي مفتوحة (1).
وجاء في التفسير أن " نُون " الحوتُ التي دُحِيت عَلَيْهَا سَبْعُ الأرضين
وجاء في التفسير أيضاً أن النون الدواة ، ولم يجئ في التفسير كما فسرت
حروف الهجاء - ، والِإسْكان لا يَجوز أن يكون فيه إلَّا حرف هجاء.
وجاء في التفسير أن أول ما خلق اللَّه القلم ، فقال له : اكتب ، فقال :
أيْ ربِّ ، وما أكتب ؟ قال : القدر ، فجرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة ، وجرى فيما جرى به القلم (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ).
* * *
وقوله : (وَمَا يَسْطُرُونَ).
معناه : وما تكتب الملائكة.
* * *
وقوله : (مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2)
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { ن } : كقوله : { ص والقرآن } [ ص : 1 ] وجوابُ القسمِ الجملةُ المنفيةُ بعدَها . وزعم قومٌ أنه اسمٌ لحُوتٍ وأنه واحد النِّينان . وقومٌ أنه اسمُ الدَّواةِ ، وقومٌ أنه اسمٌ لوحٍ مكتوبٍ فيه . قال الزمخشري : « وأمَّا قولُهم هو الدَّواةُ فما أدري : أهو وَضْعٌ لغويٌّ أم شرعيٌّ ، ولا يَخْلو إذا كان اسماً للدَّواةِ مِنْ أنْ يكونَ جنساً أو عَلَماً ، فإن كان جنساً فأين الإِعرابُ والتنوينُ؟ وإن كان عَلَماً فأين الإِعراب؟ وأيهما كان فلا بُدَّ له مِنْ مَوْقِع في تأليفِ الكلامِ؛ لأنَّك إذا جَعَلْتَه مُقْسَماً به وَجَبَ إنْ كان جنساً أَنْ تَجُرَّه وتُنَوِّنَه ، ويكونُ القَسَم بدَواة مُنكَّرةٍ مجهولةٍ ، كأنه قيل : ودَواةٍ والقلم ، وإنْ كان عَلَمَاً أَنْ تَصْرِفَه وتَجرَّه ، أو لا تصرِفه وتفتحَه للعلميِّةِ والتأنيثِ ، وكذلك التفسيرُ بالحوتِ : إمَّا أَنْ يُرادَ به نونٌ من النينانِ ، أو يُجْعَلَ عَلَماً للبَهَموتِ الذي يَزْعُمون ، والتفسيرُ باللَّوْح مِنْ نورٍ أو ذَهَبٍ والنهر في الجنةِ نحوُ ذلكَ » . وهذا الذي أَوْرَده أبو القاسم مِنْ محاسِنِ علمِ الإِعرابِ ، وقَلَّ مَنْ يُتْقِنُه.
وقرأ العامَّةُ : « ن » ساكنَ النونِ كنظائرِه . وأدغم ابنُ عامر والكسائيُّ وأبو بكرٍ عن عاصمٍ بلا خلافٍ ، وورش بخلافٍ عنه النونَ في الواو ، وأظهرها الباقون ، ونُقِلُ عَمَّنْ أدغمَ الغُنَّةُ وعَدَمُها . وقرأ ابن عباس والحسن وأبو السَّمَّال وابنُ أبي إسحاق بكسرِ النونِ وسعيد بن جبير وعيسى بخلافٍ عنه بفتحِها ، فالأُولى على التقاءِ الساكنين . ولا يجوزُ أَنْ يكونَ مجروراً على القَسَم ، حَذَفَ حرفَ الجرِّ وبقي علمُه كقولِهم : « اللَّهِ لأفعلَنَّ » لوجهَيْن ، أحدُهما : أنَّه مختصُّ بالجلالةِ المعظَّمة ، نادرٌ فيما عداها . والثاني : أنه كان ينبغي أَنْ يُنَوِّنَ . ولا يَحْسُنُ أَنْ يُقال : هو ممنوعُ الصَّرْفِ اعتباراً بتأنيث السورة ، لأنه كان ينبغي أَنْ لا يَظْهَرَ فيه الجرُّ بالكسرة ألبتَّةََ.
وأمَّا الفتحُ فيحتمل ثلاثةَ أوجهٍ ، أحدها : أَنْ يكونَ بناءً ، وأُوْثِر على الأصلِ للخفَّةِ كأينَ وكيفَ . الثاني : أَنْ يكونَ مجروراً بحرف القسمِ المقدَّرِ/ على لغةٍ ضعيفة . وقد تقدَّم ذلك في قراءةِ « فالحقِّ والحقِّ » [ ص : 84 ] . بجرِّ « الحقِّ » ، ومُنِعَتِ الصَّرْفَ ، اعتبارٌ بالسورة ، والثالث : أَنْ يكونَ منصوباً بفعلٍ محذوفٍ ، أي : اقرؤوا نونَ ، ثم ابتدأ قَسَماً بقولِه « والقلمِ » ، أو يكونَ منصوباً بعد حَذْفِ حرفِ القسم كقولِه :
4290 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . فذاكَ أمانةَ اللَّهِ الثِّريدُ
ومُنعَ الصَّرْفَ لِما تقدَّم ، وهذا أحسنُ لعَطْفِ « والقلمِ » على مَحَلِّه.
قوله : { وَمَا يَسْطُرُونَ } « ما » موصولةٌ اسميةٌ أو حرفية ، أي : والذي يَسْطُرونه مِنَ الكُتُب ، وهم : الكُتَّابُ أو الحَفَظُة من الملائكة وسَطْرِهم . والضميرُ عائدٌ على مَنْ يُسَطِّرُ لدلالةِ السياقِ عليه . ولذِكْرِ الآلةِ المُكْتَتَبِ بها . وقال الزمخشري : « ويجوزُ أَنْ يُرادَ بالقلمِ أصحابُه ، فيكون الضميرُ في » يَسْطُرون « لهم » يعني فيصيرُ كقولِه : { أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ } [ النور : 40 ] تقديرُه : أو كذي ظُلُماتٍ ، فالضميرُ في « يَغْشاه » يعود على « ذي » المحذوف.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5/203)


هذه مسألة من أبواب النحو ، تحتاج ، إلى تبيين.
قوله : (أنت) هو اسم (ما) ، و (بِمَجْنُونٍ) الخبر ، و (بِنِعْمَةِ رَبِّكَ)
موصول بمعنى النفي.
المعنى : انتفى عنك الجنون بِنِعْمَةِ رَبِّكَ ، كما تقول : أنت بنعمة اللَّه
فَهِمٌ ، وما أنت بنعمة اللَّه جاهل.
وتأويله : فارقك الجهل بِنِعْمَةِ رَبِّكَ ، وهذا جواب لقولهم :
(وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6).
* * *
قوله : (وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3)
أي : غير مَقطوع ، وجاء في التفسير : غير محسوب.
* * *
(وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)
قيل : على الإسلام ، وقيل : على القرآن.
والمعنى - واللَّه أعلم - أَنت على الخلق الذي أَمرك اللَّه به في القرآن.
* * *
قوله : (فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6)
معنى المفتون : الذي قد فُتِنَ بالجنون.
قال أبو عبيدة ، معنى الباء الطرح ، المعنى : أيكم المفتون.
قال : ومثله قول الشاعر :
نضرب بالسيف ونرجو بالفرج

(5/204)


قال معناه : نرجو الفرج . وليس كذلك.
المعنى : نرجو كشف ما فيه نحن بالفرج ، أو نرجو النصر بالفرج.
والباء في (بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ) لا يجوز أن تكون لغواً.
وليس هذا جائزاً في العربية في قول أحد من أهلها.
وفيه قولان للنحويين :
قالوا : المفتون ههنا بمعنى الفتون ، المصادر تجيء على المفعول.
تقول العرب : ليس لهذا معقول . أي عقل . وليس له
معقود رأي ، بمعنى عقد رأى.
وتقول : دعه إلى ميسور . بمعنى : إلى يسر.
فالمعنى : فستبصر وييصرون بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ.
وفيه قول آخر : بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ بالفرقة التي أنت فيها ، أو فرقة الكفار التي فيها أبو جهل والوليد بن المغيرة المخزومي ومن أشبههم.
فالمعنى على هذا : فستبصر ويبصرون في أي الفريقين المجنون.
أفي فرقة الإسلام أم في فرقة الكفر.
* * *
وقوله : (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9)
أي : ودُّوا لو تصانعهم في الدين فيصانعونك.
* * *
وقوله : (وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10)
فعيل من المهانة ، وهي القلة.
ومَعناه ههنا القلة في الرأي والتمييز.
* * *
وقوله : (هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11)
الهَمَّاز الذي يغتاب الناس.
* * *
وقوله : (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12)
معناه : كان يمنع أهله وَوَلده ولحمته من الِإسلام.
وجاء في التفسير أنه الوليد بن المغيرة المخزومي ، وكان موسراً كثير المال ، وكان له عشرة بنين فكان يقول لهم وللحمته : من أسلم منكم منعته رفدي.
* * *
وقوله : (مُعْتَدٍ أَثِيمٍ).
أي متجاوز في الظلم ، وأثيم : أي أثيم بربه ، أي أثيم باعتدائه وذنبه .

(5/205)


قوله عزَّ وجلَّ : (عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13)
جاء في التفسير أن العُتُل ههنا الشديد الخصومة ، وجاء في التفسير أنه
الجافي الخلق اللئيم الضريبة ، وهو في اللُّغَةِ الغليظ الجافي.
والزنيم جاء في اللغة أنه الملزق في القوم وليس منهم ، قال حسَّانُ بن
ثابت الأنصاري.
وَأَنْتَ زَنِيمٌ نِيطَ في آل هَاشِمٍ . . . كما نِيطَ خَلْفَ الرَّاكِبِ القَدَحُ الفَرْدُ
وقيل إن الزنيم الذي يعرف بالشر كما تعرف الشاة بزنمتها ، والزنمتان
المعلقتان عند حلوق المِعْزَى.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14)
وقرئت على لفظ الاستفهام ، والمعنى معنى التوبيخ.
وَمَوْضِعُ " أنْ " نَصبٌ على وجهين :
على معنى أَلِأنْ كان ذا مال وبنين يَقُولُ ، (إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آياتُنَا).
فيكون " أن " نصْباً بمعنى قال ذلك لأن كان ذا مال وبنين ، أي جعل مجازاة
النَعَمِةِ التي خُوِّلَهَا في المال والبنين والكفر بآياتنا.
وَإِذَا جَاءَتْ ألِفُ الاسْتِفْهام فهذا هو القول لا يصلح غيره.
وقيل في التفسير : ولا تطع كل حلاف مهين أن كان ذا مال وبنين
أي لَا تُطعْهُ لِيَسَارِه وعَدَدِه.
(إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15)
(وأساطيرُ) مرفوعة بإضمار هي ، المعنى إذا تتلى عليه آياتنا
قال هي أساطير الأولين.
وواحد الأساطير أسطورة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)

(5/206)


معناه سَنَسِمُهُ عَلَى أنفه ، والخرطوم الأنف ، ومعنى سنسمه سنجعل له في
الآخرة العلم الذي يعرف به أهل النار من اسوداد وجوهِهِمْ.
وجائز - واللَّه أعلم - أذا يفرده بِسمَةٍ لمبالغته في عداوة النبي عليه السلام . فيخصُّ من التشويه بما يتبين به من غيره كما كانت عداوته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - عداوةً يُتَبَين بها من غيره.
* * *
وقوله : (إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17)

والجنَّة : البستان ، وهؤلاء قوم بناحية اليمن كان لهم أب يتصدق من جنته على المساكين ، فجاء في التفسير أنه كان يأخذ منها قوت سنته ، ويتصدق
بالباقي
وجاء أيضاً أنه كان يترك للمساكين ما أخطأه المنجل ، وما كان في أسفل
الأكداس ، وما أخطاه القطاف من العنب وما خرج عن البساط الذي يبسط
تحت النخلة إذا صُرِمَتْ ، فكان يجتمع من ذلك شيء كثير ، فقال بنوه :
نحن جماعة ، وإن فعلنا بالمساكين ما كان يفعل أبونا ضاق علينا الأمر فحلفوا
لَيَصْرِمُنَّهَا بِسُدْفة من الليل.
قال الله عزَّ وجلَّ : (وَلَا يَسْتَثْنونَ).
فحلفوا ولم يقولوا : إن شاء اللَّه ، فلما كان الوقت الذي اتَعَدُوا فِيه بِسُدْفة
غَدَوْا إلى جنتهم ليصرموها.
* * *
(وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25)
من قولهم : حاردت السنة إذا منعت خيرها.
وقيل على غَضبٍ (1).
فأما الحرد الذي هو القصد فأنشدوا فيه :
أَقْبَل سَيْلٌ جاء مِنْ أَمْرِ اللهْ . . . يَحْرِدُ حَرْدَ الجَنَّةِ المُغِلَّهْ
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { على حَرْدٍ قَادِرِينَ } : يجوزُ أَنْ يكونَ « قادرين » حالاً من فاعل « غَدَوْا » . و « على حَرْدٍ » متعلِّقٌ به ، وأَن يكونَ « على حَرْدٍ » هو الحالَ ، و « قادرين » : إمَّا حالٌ ثانيةٌ ، وإمَّا حالٌ مِنْ ضميرِ الحالِ الأولى.
والحَرْدُ فيه أقوال كثيرة ، قيل : الغضبُ والحَنَقُ . وأُنْشد للأشهب ابن رُمَيْلة :
4304 أُسُوْدُ شَرىً لاقَتْ أُسُودَ خَفِيَّةٍ . . . تَساقَوْا على حَرْدٍ دماءَ الأساوِدِ
قيل : ومثلُه قولُ الآخرِ :
4305 إذا جِيادُ الخيل جاءتَ تَرْدي . . . مملوءَةً مِنْ غَضَبٍ وحَرْد
عَطَفَ لَمَّا تغايرَ اللفظان كقولِه :
4306 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وأَلْفى قولَها كَذِباً ومَيْنا
وقيل : المَنْعُ . مِنْ حارَدَتِ الإِبلُ : قَلَّ لَبَنُها ، والسَّنَةُ : قَلَّ مَطَرُها ، قاله أبو عبيد والقُتبيُّ . ويقال : حَرِدَ بالكسر يَحْرَدُ حَرْداً ، وقد تُفْتح فيقال : حَرَداً ، فهو حَرْدانُ وحارِدٌ . يقال : أسدٌ حارِدٌ ، ولُيوث حَوارِدُ . وقيل : الحَرْدُ والحَرَدُ الانفرادُ . يُقال : حَرَدَ بالفتح ، يَحْرُد بالضم ، حُروداً وحَرْداً وحَرَداً : انعزل ، ومنه كوكبٌ حارِدٌ ، أي : منفردٌ . قال الأصمعي : « هي لغةُ هُذَيْل » . وقيل : الحَرْدُ القَصْدُ . يقال : حَرَد يَحْرِدُ حَرْدَك ، أي : قَصَدَ قَصْدَك ، ومنه :
4307 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . يَحْرِدُ حَرْدَ الجنَّةِ المُغِلَّهْ
وقد فُسِّرت الآيةُ الكريمةُ بجميعِ ما ذَكَرَتْ . وقيل : الحَرْدُ اسمُ جنَّتِهم بعينِها ، قاله السُّدي . وقيل : اسم قَرْيتِهم ، قاله الأزهري . وفيهما بُعْدٌ بعيدٌ . و « قادرين » : إمَّا مِنْ القُدْرَةِ ، وهو الظاهرُ ، وإمَّا مِن التقدير وهو التضييقُ ، أي : مُضَيِّقين على المساكينِ . وفي التفسيرِ قصةٌ توضِّحُ ما ذكرْتُ «.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5/207)


أي يقصد قَصْدَ الجنةِ المغلَّةِ.
* * *
قوله تعالى : (فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19)
أي أرسل عليها عذاباً من السماء فاحترقت كُلها.
* * *
(فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20)
أي فأصبحت كالليل سواداً.
* * *
(فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22)
أي إن كنتم عازمين على صرام النخل.
* * *
(فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23)
أي يسرون الكلام بينهم بأن : (لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ).
والتخافِتُ إسرار الكلام.
* * *
(فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26)
(فَلَمَّا رَأَوْهَا)
مُحْتَرِقَةً.
(قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ) ، أي قد ضللنا طريق جَنتِنَا ، أي ليست هذه ، ثم
عَلِمُوا أَنَّهَا عُقُوبَةٌ فقالوا :
* * *
(بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27)
أي حُرِمْنَا ثَمَرَ جنتنا بمنعنا المساكين.
* * *
(قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28)
(أَوْسَطُهُمْ) أعدلهم من قوله : (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا)
أي عَدْلاً.
(لَوْلَا تُسَبِّحُونَ).
قال لهم : استثنوا في يمينكم ، لأنهم أقسموا لَيَصْرِمُنَّهَا مصبحين

(5/208)


ولم يستثنوا.
ومعنى التسبيح ههنا الاستثناء ، وهو أَنْ يَقول : إن شاء اللَّه.
فإذا قال قائل التسبيح أن يقول : سبحان اللَّه ، فالجَوابُ فِي ذلكَ أن كل
ما عظمت الله به فهو تسبيح ، لأن التسبيح في اللغة فيما جاء عن النبي عليه
السلام تنزيه الله عن السوء.
فالاستثناء تعظيم الله والإقرار بأنه لا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَفعل فِعْلاً إلا بمشيئتِهِ - عزَّ وجلَّ.
فالمعنى في قوله : (إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ).
إنا بلونا أهل مكة حين دعا عليهم رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فقال : اللهمِ اشدد وطأتك على مُضَرَ واجعلها عليهم سنين كسني يوسف ، فابتلاهم اللَه بالجرب والهلاك وذَهَابِ
الأقواتِ كما بلى أصحاب هذه الجنة باحتراقِها وذهاب قوتهم منها.
* * *
وقوله : (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36)
هذه الألف ألف الاستفهام ، ومجازها ههنا التوبيخ والتقرير.
وجاء في التفسير أن بعض كفار قُرَيْش قال : إن كان ما يذكرون أن لهم في الآخرة حَقًا ، فإن لنا في الآخرة أكبر منه كما أنا في الدنيا أفضل منهم . فوبخهم الله فقال :
(أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ).
وكذلك : (مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ).
معناه على أي أحوال الكفر تخرجون حُكمَكُمْ.
* * *
(أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38)
أي أعندكم كتاب من اللَّه عزَّ وجلَّ أن لكم لما تخيرونَ.
* * *
(أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39)
(أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ*
معناه مؤكدة
(إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ).
أي حَلِفٌ على ما تَدَّعُونَ في حكمكم .

(5/209)


قوله : (سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40)
والزعيمِ الكفيل والضَامِنِ.
والمعنى سلهم أَيُّهُمْ كَفَلَ بِذَلِكَ.
* * *
قوله : (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (41) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42)
أي فليأتوا بشركائهم يوم القِيَامةِ.
ومعنى (يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ) في اللغة يُكشَفُ عن الأمر الشديد.
قال الشاعر :
قد شمرت عن ساقها فشُدُّوا . . . وجدَّت الحرب بكم فَجِدُّوا
والقوس فيها وترٌ عُردُّ.
وجاء في التفسير عن أحمد بن عبد الله بن أحمد بن حَنْبَل قال ثنا أبي.
قال ثنا محمد بن جَعْفَرٍ يعني غندر ، عن شعبة عن مغيرة عن إبراهيم قال.
قال ابن عباس في قوله : (يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ) عن الأمر الشديد.
وقال ابنُ مَسْعُودٍ : يكشف الرحمن عن ساقه.
فأما المؤمنون فيخرون له سُجَّداً
وأما المنافقون فتكون ظهورهم طبقاً طبقاً كان فيها السفافيد.
فهذا ما روينا في التفسير وما قاله أهل اللغة.
قال أبو إسحاق : هذا تأويل قوله (وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أبْصَارُهُمْ).
يعنى به المنافقُونَ .

(5/210)


وقوله : (تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43)
(تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ)
معناه تَغشاهم ذِلَّةٌ.
(وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43)
يعنى به في الدنيا.
* * *
وقوله : (فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44)
ومثله : (ذَرْني ومن خَلَقْتُ وَحِيداً) ، معناه لا تَشْغَلْ قَلْبَكَ بِهِ ، كِلْهُ إليَّ
فإني أُجازيه.
ومثله قول الرجل : ذرني وإياه . وليس أنه مَنَعه بِهِ ولكن تأويله
كِلْهُ إليَّ فَإنِي أَكْفِيكَ أَمْرَه.
* * *
وقوله : (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48)
يعني : يونس عليه السلام.
* * *
(إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ)
أي مملوء غَمًّا وكرباً.
* * *
وقوله : (لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49)
والمعنى أنه قد نبذ بالعراء وهو غير مذموم ، ويدل على ذلك أن النعمة
قد شَمِلته.
* * *
وقوله : (فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50)
هذا تخليصٌ له من الذَّم ، والعراء المكان الخالي
قال الشاعر :
رَفَعْتُ رِجلاً لا أَخافُ عِثارَها . . . ونَبَذْتُ بالبَلَدِ العَراء ِثيابي
* * *
قوله عزَّ وجلَّ : (وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51)
وقرئت (ليزهقونك) - بالهاء - ولكن هذه تخالف المصحف أعني الهاء
والقراءة على ما وافق المصحف (1).
وهذه الآية تحتاج إلى فصل إبانةٍ في اللغة
فأمَّا ما رُوِيَ في التفسير
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { لَيُزْلِقُونَكَ } : قرأها نافعٌ بفتح الياءِ ، والباقون بضمِّها . فأمَّا قراءةُ الجماعةِ فمِنْ أَزْلَقَه ، أي : أَزَلَّ رِجْلَه ، فالتعديةُ بالهمزةِ مِنْ زَلَق يَزْلِقُ . وأمَّا قراءةُ نافع فالتعديةُ بالحركةِ يقال : زَلِقَ بالكسر وزَلَقْتُه بالفتح . ونظيرُه : شَتِرَتْ عَيْنُه بالكسرِ ، وشَتَرها اللَّهُ بالفتح ، وقد تقدَّم لذلك أخواتٌ . وقيل : زَلَقه وأَزْلَقه بمعنى واحدٍ . ومعنى الآية في الاصابةِ بالعينِ . وفي التفسير قصةٌ . والباءُ : إمَّا للتعديةِ كالداخلةِ على الآلةِ ، أي : جعلوا أبصارهم كالآلةِ المُزْلِقَةِ لك ، كعَمِلْتُ بالقَدوم ، وإمَّا للسببيةِ ، أي : بسبب عيونِهم .
قوله : { لَمَّا سَمِعُواْ الذكر } مَنْ جَعَلْها ظرفيةً جَعَلها منصوبةً ب « يُزْلِقُونك » ، ومَنْ جعلها حرفاً جَعَلَ جوابَها محذوفاً للدلالةِ ، أي : لَمَّا سَمِعوا الذِّكْرَ كادوا يُزْلِقونك ، ومَنْ جَوَّزَ تقديمَ الجوابِ قال : هو هنا متقدِّمٌ.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5/211)


فروي أن الرجل من العرب كان إذا أراد أن يعتان شيئا . أي يصيبَه بالعين تجوع ثلاثة أيام ، ثم يقول للذي يريد أن يعتانه : لَا أَرَى كاليوم إبلاً أَو شاءً أو ما أراد.
المعنى لَمْ أَرَ كإبل أَراها اليوم إبلًا فكان يصيبها بالعين بهذا القول.
فقالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - لما سمعوا منه الذكر كما كانوا يقولون لما يريدون أَنْ يُصِيبوه بالعين.
فأما مذهب أهل اللغة فالتأويل عندهم أنه من شدة إبغَاضِهِم لك
وعدوانهم يكادون بِنَظَرهم نَظَر البغضاء أن يضروك ، وهذا مستعمل في
الكلام ، يقول القائل : نظر إليَّ نظراً يكاد يَصْرَعنِي بِهِ ، ونظراً يكاد يأكلني فيه.
وتأويله كله أنه نظر إليَّ نظراً لو أمكنه معه أكلي أوْ أَن يَصْرَعَنِي لفعَلَ.
وهذا بين واضح ، واللَّه أعلم .

(5/212)


سُورَةُ الحَاقَّة
( مَكِّيَّة )
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله تعالى : (الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2)
الأوَّلَةُ : مرفوع بالابتداء ، و " ما " رفع بالابتداء أَيْضاً.
و (الْحَاقَّةُ) الثانية خبر " ما " والعائد على " ما " (الْحَاقَّةُ) الثانيةُ.
على تقدير ما هي ، والمعنى تفخيم شأنها ، واللفظ لفظ استفهام كما تقول : زيد ما هو ، على تأويل التعظيم لشأنه في مَدْح كان أَوْ ذَمٍّ.
والحاقَةُ : السَّاعَةُ والقِيامة وسميت (الْحَاقَّةُ) لأنها تحق كل
شيء يعمله إنسان من خير أو شر.
وكذلك (وَمَا أدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ).
معناهُ أَي شيء أعلمك ما الحاقة.
و " ما " موضعها رفع ، وأن كان بعد أدراك
لأن ما كان في لفظ الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله.
المعنى ما أعلمك أي شيء الحاقةُ.
ثم ذكر اللَّه - عزَّ وجلَّ - من كذبَ بالحاقةِ والساعة وأمر البعث
والقِيَامَةِ وما نزل بِهِمْ وَعْظاً لأمَّة محمد - صلى الله عليه وسلم - فقال :
(كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4)
أي بالقيامة.
* * *
(فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5)
ومعنى (بِالطَّاغِيَةِ) عند أهل اللغة بطغيانِهِمْ ، وفاعِلَة قد يأتي يمعنى
المصادِر نحو عافية وعاقبة.
والذي يدل عليه معنى الآية . - واللَّه أعلم - أنهم أهلكوا بالرجفة الطاغية ، كما قال :

(5/213)


(وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6)
يقال للشيء العظيم عاتٍ وعاتية ، وكذلك أهلكوا بالطاغية ، ودليل
الوصف بالطغيان في الشيء العظيم قوله عزَّ وجلَّ :
( إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ).
فوصف الماء بالطغيان لمجاوزته القَدْرَ في الكَثْرةِ ، وكذلك أهلكوا
بالطاغية ، واللَّه أعلم.
وقوله : (بِرِيح صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ)
أي بريح شديدة البرد جدًّا ، والصَّرْصَرُ شدة البردِ ، وصَرْصَر متكرر فيها البرد ، كما تقول قد قلقلت الشيء ، وأقْلَلْتُ الشيء
إذا رَفَعته من مكانه ، إلا أن قلقلته رَدَدْتُه أي كررْتُ رفعه ، وأَقْلَلْتُه رفعته . فليس فيه دليل تَكْرِيرٍ ، وكذلك صَرْصَرَ وَصَر وصَلْصَلَ ، وَصَل.
إذا سمعت صوت الصرير غير مُكَرر قلت قد صَر وَصَل ، فإذا أردت أن الصوت تكرر قلت : قد صَلْصَلَ ، وصَرْصَرَ.
* * *
وقوله تعالى : (سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7)
معنى (سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ) أقامها عليهم كما شاء ، ومعنى (حُسُوماً) دَائمَةً.
وقالوا مُتَابِعةً ، فأمَّا ما توجبه اللغة فعلى معنى تَحْسِمُهم حُسُوماً.
أَي تُذْهِبُهُمْ وتُفْنِيهِمْ.
وقوله - عزَّ وجلَّ - : (كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ).
(أَعْجَازُ نَخْلٍ) أصول نخل ، وقيل خاوية للنخل لأن النخل تذكر وتُؤنثُ.
يقال : هذا نخل حسن ، وهذه نخل حَسَنَة ، فخاوية على التأنيث.
وقال في موضع آخر : (أعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ).
* * *
وقوله : (وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9)

(5/214)


وقُرِئَتْ وَمَن قِبَلَهُ فمن قال : ومن قِبَلَهُ فمعناه وتباعُة ، ومن قال ومَنْ قَبْلَه
فالمعنى مَنْ تَقَدَّمَهُ.
(وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ).
(وَالْمُؤْتَفِكَاتُ) الذين ائتفكوا بِذُنُوبِهِمْ ، أي أهلكوا بِذُنُوبِهِمْ الَّتي أعظَمُها
الإفكُ ، وهو الكذبُ في أمر الله بأنهم كفروا وكذَبوا بالرسل فلذلك قيل لهم
مؤتفكون ، وكذلك الذين ائتفكت بهم الأرض ، أي خسِفَ بِهِمْ إنما معناه
انقلبت بِهِمْ كما يقلب بهم الكذاب الحق إلى البَاطِلِ
ومعنى (بالخاطئة) بالخطأ العظيم ، والدليل على أن من عظيم آثامهم الكذِبُ قوله :
(فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (10)
لإأنهم كذبوا رسُلَهُمْ.
(أَخْذَةً رَابِيَةً) : معنى (رَابِيَةً) تَزِيد عَلَى الأحْدَاثِ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11)
معنى طغى الماء طما وارتفع ، ومعنى الجارية ، أي سفينة نوحٍ عليه
السلام وَاللَّهُ أعلم.
* * *
وقوله : (لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12)
معناه لنجعل هذه الفعلة لكم تذكرة ، أي إغراق قوم نوح ونجاته
والمؤمنين مَعَهُ.
* * *
وقوله : (وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ).
معناه أُذُنٌ تحفظ ما سَمِعَتْ وَتَعْمَل به ، أي ليحفظ السامع ما سمع
ويعمل به.
تقول لكل شيء حفظته في نفسك : قَدْ وَعَيْته ، يقال : قَدْ وَعَيْتُ

(5/215)


العِلم وَوَعَيْتُ قُلْتَ ، وتقول لما حفظته في غير نفسك : أَوْعَيتُه ، يقال أوعيت
المتاعَ في الوعاء.
* * *
وقوله : (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13)
القراءة بالرفع في (نَفْخَةٌ) على ما لم يسم فاعله.
وذكر الأخفش (نفخةً وَاحِدةً) بالنَصْبِ ولم يذكر قرئ بها أم لا ، وهي في العربية جائزة على أن قولك في الصور يقوم مقام ما لم يسم فاعله ، تقول : في الصور نفخاً ، ففي الصور على لفظ الجر ، والمعنى نفخ الصور نفخة واحدةً ، وهذا على من نصب نفخة واحدة.
ومن رفع فعلى مَعْنَى نُفِخَ نفخة واحدةٌ فِي الصورِ.
فأما تذكير نفخ فلو كان نفخت في الصور نفخة جاز لأنه تأنيثٌ ليس بِحقيقيٍّ ، فتذكيره جَائِز ، لأن النفخة والنفخ بمعنًى وَاحِدٍ.
ومثله (فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ).
المعنى معنى الوعظ.
وقال في موضع آخر : (قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ).
* * *
وقوله : (وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16)
يقال لكل ما ضعف جدًّا قد وَهَى فهو واهٍ ، ويجوز واهية بإمالة الألف
والواو لكسر الهاء.
* * *
وقوله : (وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ
(17)
المعنى الملائكة على جَوَانِبَها ، ورَجَا كل شيء نَاحِيَتُه ، مقصور ، والتثنيةُ
رَجَوان والجمع أَرْجَاءِ.
* * *
(وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ).
يروى ثمانية أملاك أرْجُلُهم في تخوم الأرض السابعة والعَرْشُ فوق
رُؤوسِهِم وَهُمْ مُطْرِقُونَ يُسَبِّحُونَ .

(5/216)


(فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19)
يروى إذا كان يوم القيامةِ عرض الخلق ثلاث عَرَضاتٍ في الاثنين منها
الاحتجاج والاعتذار والتوبيخ ، وفي الثالثةِ تنثر الكتب فيأخذ الفائز كتابه بيمينه والهالك كتابه بشماله.
و (هَاؤُمُ) أمر للجماعة بِمَنْزِلَةِ هَاكم ، تقول للواحد هَاءَ يَا رَجل وللاثنين
) ، وهَا يا رَجُلَانِ ، وللثلاثة هَاؤُمُ يا رجال ، وللمَرْأَةِ هاءِ يا امرأَةُ - بكسر الهمزة - وللاثنين هاؤما وللجَمَاعَةِ النِسَاءِ هَاؤنَّ.
وفي هذه ثلاث لغَات قد ذكرتها في غير كِتَابِ القرآنِ (1).
* * *
وقوله : (إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20)
معناه إني أيقنتْ بأني أحاسب وأبعَث.
فأمَّا " كتابيه " و " حسابيه " فالوجه أن يوقف على هذه الهَائَاتِ ولا تُوصِلْ.
لأنها أدخلت للوقف ، وقد حذفها قوم في الوصل ولا أحب مخالفة المصحف ، ولا أن أقرأ بإثبات الهاء في الوصل.
وهذه رؤوس آياتٍ فالوجه أن يوقف عندها.
وكذلك قوله : (وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10).
* * *
وقوله : (هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29)
معناه ذهبت عني حجتِيَهْ ، والسلْطَان الحُجَّة ، وكذلك قيل للأمراء
سلاطين لأنهم الذينَ تقام بِهِمً الحجة والحُقوق.
* * *
وقوله : (قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23)
معناه تدنو من مريدها لا يمْنَعه مِنْ تَناولها بُعْدٌ وَلاَ شَوْك.
وقوله : (فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ).
ومعناه في الأيام التي مَضَتْ لهم.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { هَآؤُمُ } : أي : خُذُوا . وفيها لغاتٌ ، وذلك أنَّها تكونُ فِعْلاً صريحاً ، وتكونُ اسمَ فعلٍ ، ومعناها في الحالَيْنِ خُذْ . فإن كانَتْ اسمَ فعلٍ وهي المذكورةُ في الآيةِ الكريمةِ ففيها لغتان : المدُّ والقَصْرُ تقول : ها درهماً يا زيدُ ، وهاءَ درهماً . ويكونان كذلك في الأحوالِ كلِّها مِنْ إفرادٍ وتثنيةٍ وجمعٍ وتذكيرٍ وتأنيثٍ ، وتتصلُ بهما كافُ الخطابِ اتصالَها باسمِ الإِشارةِ ، فَتُطابِقُ مخاطبَك بحسب الواقع ، مطابَقَتَها وهي ضميرُهُ ، نحو : هاكَ هاءكَ ، هاكِ هاءَكِ إلى آخرِه ، وتَخْلُفُ كافَ الخطابِ همزةُ « هاء » مُصَرَّفةً تَصَرُّفَ كافِ الخطابِ ، فتقول : هاءَ يا زيدُ ، وهاءِ يا هندُ ، هاؤُما ، هاؤُم ، هاؤُنَّ ، وهي لغةُ القرآن.
وإذا كانت فِعْلاً صريحاً لاتصالِ الضمائر البارزةِ المرفوعةِ بها كان فيها ثلاثُ لغاتٍ ، إحداها : أَنْ تكونَ مثلَ : عاطى يُعاطي . فيُقال : هاءِ يا زيدُ ، هائِي يا هندُ ، هائِيا يا زيدان ، أو يا هندان ، هاؤُوا يا زيدون ، هائِيْنَ يا هنداتُ . الثانية : أَنْ تكونَ مثلَ « هَبْ » فتقول : هَأْ ، هَئِي ، هَآ ، هَؤُوا ، هَأْنَ . مثلَ : هَبْ ، هَبِي ، هَبا ، هَبُوا ، هَبْنَ.
الثالثة : أَنْ يكونَ مثلَ : خَفْ أمراً مِنَ الخوفِ فيقال : هَأْ ، هائي ، هاءا ، هاؤوا ، هَأْنَ ، مثلَ : خَفْ ، خافِي ، خافا ، خافُوا ، خَفْنَ.
واختُلِفَ في مَدْلولِها : فالمشهورُ أنَّها بمعنى خُذوا . وقيل : معناها تعالوا ، فيتعدَّى ب « إلى » . وقيل : هي كلمةٌ وُضِعَتْ لإِجابةِ الداعي عند الفرحِ والنشاطِ . وفي الحديث : « أنه ناداه أعرابيٌّ بصوتٍ عالٍ ، فجاوبَه النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم : هاؤُم بصَوْلةِ صَوْتِه » ومِنْ كوْنِها بمعنى « خُذْ » الحديث في الرِّبا : « إلاَّ هاءَ وهاء » أي : يقول كلُّ واحدٍ من المتبايعَيْن . خذ . وقيل معناها اقصِدوا . وزعم هؤلاء أنها مركبةٌ مِنْ ها التنبيه وأمُوا من الأَمِّ ، وهو القَصْدُ فصَيَّره التخفيفُ والاستعمالُ إلى هاؤم . وقيل الميم ضميرُ جماعةِ الذكورِ . وزَعَم القُتَبيُّ أنَّ الهمزةَ بدلٌ من الكافِ ، فإنْ عَنَى أنَّها تَحُلُّ مَحَلَّها فصحيحٌ . وإنْ عَنَى البدَل الصناعيَّ فليس بصحيح.
وقوله : { هَآؤُمُ } يطلبُ مفعولاً يتعدَّى إليه بنفسِه ، إنْ كان بمعنى خُذْ أو اقْصِدْ ، وب « إلى » إنْ كان بمعنى تعالَوا . و « اقْرؤُوا » يَطْلُبُه أيضاً فقد تنازَعا في « كتابِيَهْ » وأعملَ الثاني للحَذْفِ من الأولِ . وقد تقدَّم تحقيقُ هذا في سورة الكهفِ وفي غيرِها . والهاءُ في « كتابِيَهْ وحِسابِيَهْ وسُلْطانِيَهْ ومالِيَهْ » للسَّكْت ، وكان حقُّها أَنْ تُحْذَفَ وَصْلاً ، وتَثْبُتَ وَقْفاً ، وإنما أُجْرِيَ الوَصْلُ مُجْرَى الوقفِ ، أو وُصِلَ بنيَّة الوقفِ في « كتابِيَهْ وحِسابِيَهْ » اتفاقاً فأَثْبَتَ الهاء ، وكذلك في « مالِيه وسُلْطانِيَهْ » ، و « ما هِيَهْ » في { القارعة } [ القارعة : 10 ] عند القُرَّاءِ كلِّهم إلاَّ حمزةَ رحمه الله فإنه حَذَفَ الهاءَ مِنْ هذه الكَلِمِ الثلاثِ وَصْلاً وأَثْبَتَها وقفاً؛ لأنَّها في الوقفِ يُحْتاج إليها لتحصينِ حركةِ الموقوفِ عليه ، وفي الوصلِ يُسْتَغْنَى عنها.
فإنْ قيل : فلِمَ لَمْ يَفْعَلْ ذلك في « كِتَابِيَهْ/ وحسابِيَهْ » فالجوابُ : أنه جَمْعٌ بني اللغتين ، هذا في القراءاتِ السبعِ . وقرأ ابنُ محيصن بحَذْفِها في الكَلِم كلِّها وَصْلاً ووَقْفاً ، إلاَّ في « القارعة » ، فإنه لم يَتَحَقَّقْ عنه فيها نَقْلٌ . وقرأ الأعمشُ وابنُ أبي إسحاق بحَذْفِها فيهنَّ وَصْلاً ، وإثباتِها وَقْفاً . وابن محيصن يُسَكِّنُ الياءَ في الكَلِمِ المذكورةِ وَصْلاً . والحقُّ أنها قراءةٌ صحيحةٌ أعني ثبوتَ هاءِ السكتِ وَصْلاً ، لثبوتِها في خَطِّ المصحفِ الكريمِ ، فلا يُلْتَفَتُ إلى قولِ الزهراوي : « إنَّ إثباتَها في الوصلِ لَحْنٌ ، لا أعلَمُ أحداً يُجيزه » . وقد تقدَّم الكلامُ على هاءِ السكتِ في البقرة . والأنعام بأشبعَ مِنْ هذا فعليك باعتبارِه.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5/217)


قوله : (ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31)
المعنى اجعلوه يصلى النَّارَ.
* * *
قوله (وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36)
معناه من صديد أهل النار ، واشتقاقه مما ينغسِلُ مِنْ
أبدَانِهمْ.
* * *
وقوله : (قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) ، و (قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42)
" ما " مُؤَكدَة ، ْ وهي لَغْوٌ في باب الإعراب ، والمعنى (قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ)
و (قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ).
* * *
وقوله : (تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43)
رفعه بِـ (هُوَ) مُضْمِرَة يدل عليها قوله : (وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ) أي هُوَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
* * *
وقوله : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44)
يعني به النبي - صلى الله عليه وسلم -
* * *
(لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45)
أي بالقُدْرَةِ والقؤة وقال الشماخ :
إذا ما راية رفعت لمجد . . . تلقاها عرابة باليمين
* * *
قوله : (ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46)
الوتين نياط القلب.
* * *
(فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47)
(حَاجِزِينَ) من نعت (أَحَدٍ) ، وَ (أَحَدٍ) في معنى جميع.
المعنى فما منكم قوم يحجزون عنه.
* * *
وقوله : (وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51)
المعنى أن القُرآن لليقين حق اليقين.
* * *
قوله : (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)
التسبيح معناه تَنْزيهُ اللَّهِ مِنَ السوءِ وتنزيهه تعالى .

(5/218)


سُورَةُ المعارج
( مَكِّيَّة )
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله عزَّ وجلَّ : (سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1)
وقرئ سال بغير همز ، يقال : . سالت اسال ، وسَلْتُ أَسَالُ ، والرجلان
يتساءلان ويتساوَلان بمعنى واحِد.
والتأويل دَعَا دَاع بعذاب واقع.
وذلك كقولهم : (اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32).
وقيل معنى سأل سائِلٌ بعذاب ، أي عن عذاب واقع ، فالجواب قوله :
(لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِع).
أي يقع بالكافرين ، وقيل إن سال سايل بغير همز ، سايل وَادٍ في جهنم (1).
* * *
وقوله : (مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3)
قيل معارج الملائكة ، . وقيل ذي الفَوَاصِل.
* * *
وقوله : (تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4)
جاء في التفسير أَنًه يَوْمُ القِيَامَةِ ، وجاء أَيضاً أن مقداره لو تكلفتموه
خمسون ألف سنة ، والملائكة تعرج في كل يوم واحِدٍ.
وقرئت : تعرجُ
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { سَأَلَ } : قرأ نافع وابنُ عامر بألفٍ مَحْضَةٍ . والباقون بهمزةٍ مُحَقَّقةٍ ، وهي الأصلُ ، وهي اللغةُ الفاشيةُ . ثم لك في « سأل » وجهان أحدُهما : أنْ يكونَ قد ضُمِّنَ معنى دعا؛ فلذلك تعدَّى بالباء ، كما تقول : دعوت بكذا . والمعنى : دعا داعٍ بعذابٍ . والثاني : أَنْ يكونَ على أصلِه . والباءُ بمعنى عن ، كقوله :
4326 فإن تَسْألوني بالنساء . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
« فأسْأل بن خبيرا » ، وقد تقدَّم تحقيقُه . والأولُ أَوْلَى؛ لأن التجوُّزَ في الفعل أَوْلَى منه في الحرف لقوتِه.
وأمَّا القراءةُ بالألفِ ففيها ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها : أنها بمعنى قراءةِ الهمزة ، وإنما خُفِّفَتْ بقَلْبِها ألفاً ، وليس بقياسِ تخفيفِ مثِلها ، بل قياسُ تخفيفِها جَعْلُها بينَ بينَ . والباءُ على هذا الوجهِ كما في الوجهِ الذي تقدَّم . الثاني : أنها مِنْ سال يَسال مثلُ خاف يَخاف . وعينُ الكلمةِ واوٌ . قال الزمخشري : « وهي لغةُ قريش يقولون : سِلْتَ تَسالُ ، وهما يتسايلان » . قال الشيخ : « وينبغي أَنْ يُتَثَبَّتَ في قوله : » إنها لغةُ قريشٍ ، لأنَّ ما جاء في القرآنِ من باب السؤالِ هو مهموزٌ ، أو أصلُه الهمزُ ، كقراءةِ مَنْ قرأ « وسَلُوا اللهُ مِنْ فضلِه » [ النساء : 32 ] إذ لا جائزٌ أَنْ يكونَ مِنْ « سال » التي عينُها واوٌ ، إذ كان يكون ذلك « وسَالوا اللهَ » مثلَ « خافوا » ، فيَبْعُدُ أن يجيءَ ذلك كلُّه على لغةِ غيرِ قريشٍ ، وهم الذين نَزَل القرآنُ بلغتِهم إلاَّ يسيراً ، فيه لغةُ غيرِهم . ثم في كلامِ الزمخشريِّ « وهما يتسايَلان » بالياء ، وهو وهمٌ من النسَّاخ ، إنما الصوابُ : يتساوَلان بالواو ، لأنه صَرَّحَ أولاً أنه من السُوال يعني بالواو الصريحةِ ، وقد حكى أبو زيدٍ عن العربِ : « هما يتساولان » . الثالث : أنَّها مِنْ السَّيَلان . والمعنى : سالَ وادٍ في جهنم بعذابٍ ، فالعينُ ياءٌ ، ويؤيِّدُه قراءةُ ابن عباس « سالَ سَيْلٌ » . قال الزمخشريُّ : « والسَّيْلُ مصدرٌ في معنى السائلِ كالغَوْر بمعنى الغائر . والمعنى : اندفع عليهم وادي عذابٍ » انتهى . والظاهرُ الوجهُ الأولُ لثبوتِ ذلك لغةً مشهورةً قال :
4327 سالَتْ هُذَيْلٌ رسولَ اللهِ فاحشةً . . . ضَلَّتْ هُذَيلٌ بما سالَتْ ولم تُصِبِ
وقرأ أُبَيٌّ وعبد الله « سال سالٌ » مثلَ « مال » وتخريجُها : أنَّ الأصلَ « سائلٌ » فحُذِفَتْ عينُ الكلمةِ وهي الهمزةُ ، واللامُ محلُّ الإِعرابِ وهذا كما قيل : « هذا شاكٌ » في شائِكِ السِّلاح وقد تقدَّم الكلامُ على مادةِ السؤالِ في أول البقرة ، / فعليك باعتبارِه.
والباءُ تتعلَّق ب « سال » من السَّيَلان تعلُّقَها ب « سال الماءُ بزيدٍ » . وجَعَلَ بعضُهم الباءَ متعلقةً بمصدرٍ دَلَّ عليه فِعْلُ السؤال ، كأنه قيل : ما سؤالُهم؟ فقيل : سؤالُهم بعذابٍ ، كذا حكاهُ الشيخ عن الإِمام فخر الدين ، ولم يَعْتَرِضْه . وهذا عَجَبٌ؛ فإنَّ قولَه أولاً « إنه متعلِّقٌ بمصدرٍ دَلَّ عليه فِعْلُ السؤال » يُنافي تقديرَه بقولِه : « سؤالُهم بعذاب »؛ لأنَّ الباءَ في هذا التركيبِ المقدَّرِ تتعلَّق بمحذوفٍ لأنها خبرُ المبتدأ ، لا بالسؤال.
وقال الزمخشري : « وعن قتادةَ : سأل سائلٌ عن عذابِ الله بمَنْ يَنْزِلُ وعلى مَنْ يقعُ؟ فَنَزَلَتْ ، و » سأَل « على هذا الوجهِ مُضَمَّنٌ معنى عُنِيَ واهتمَّ ».
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5/219)


الملائكة ، ويعرج الملائكة.
وقيل منذ أول أَيامِ الدنيا إلى انقضائها خمسون ألف سنة.
وجائز أن يكون " فِي يَوْمٍ " من صلة " واقع " ، فيكون المعنى سأل سائل
بعذاب واقع في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة.
وذلك العذابُ يقع في يوم القيامة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5)
هذا يدل على أن ذلك قبل أن يؤمر النبي عليه السلام بالقتال.
* * *
قوله : (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7)
يرونه بعيداً عندهم كأنهم يستبعدونه على جهة الِإحالة ، كما تقول
لمنَاظِرِكَ : هذا بعيد لا يكون.
* * *
وقوله : (وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7)
أي صحيحاً يقرب فَهْمُ مثله بما دل اللَّه على يوم البعث بقوله :
(قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ).
وما أشبه هذا من الاحتجاجات في البعث.
* * *
وقوله : (يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9)
العِهْن الصوف ، والمهل دُرْدِيُّ الزَّيت.
* * *
(وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10)
وقرئت (ولا يُسْأَلُ حَمِيم).
فمن قرأ (وَلَا يَسْأَلُ) فالمعنى أنهم يعرف بعضهم بعضاً ، ويدل عليه قوله : (يُبَصَّرُونَهُمْ).
ومن قرأ (ولا يُسْأَل حَمِيمٌ حَمِيمًا).
فالمعنى لا يُسْأَل قريب عن قرابته ، ويَكُونُ (يُبَصَّرُونَهُمْ) - واللَّه أعلم - للملائكة.
* * *
وقوله : (وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13)
معناه أدنى قبيلته منه .

(5/220)


وقوله : (كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15)
(كَلَّا) ردع وتنبيه ، أي لَا يَرجعُ أحدٌ من هؤلَاء فاعتبروا.
* * *
(نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16)
(نَزَّاعَةٌ)
وقُرئت (نَزاعَةً للشوَى).
والقراءة (نَزَّاعَةٌ) ، والقراء عليها وهي في النحو أَقْوى مِنَ النصْبِ.
وذكر أَبو عبَيْدٍ إنها تجوز في العربيَّةِ ، وأنه لا يَعْرِفُ أَحَداً قَرَأَ بها.
وقد رويت عن الحسن ، واختلف فيها عن عَاصِمٍ ، فَأَما ما رواه أبو
عمرو عن عاصم فَـ (نَزَّاعَةً) - بالنصب - وروى غيره (نَزَّاعَةٌ) بالرفع.
فأَما الرفع فَمِنْ ثَلاث جِهَاتٍ :
أحدها أن تكون " لَظًى ، و " نَزَّاعة " خبراً عن الهَاءِ والألِفِ ، كما تقول : إنه حُلْوٌ حَامِضٌ ، تريد أنه جمع الطعمين.
فيكون الهاء والألف إضماراً للقصة ، وهو الذي يسميه ، الكوفيون المجهول.
المعنى أن القصة والخبر لظى نَزَّاعَة لِلشَّوَى ، والشوى الأطراف ، اليدَانِ
والرَجْلَانِ والرأس ، والشوى جمع شواه ، وهي جلدة الرأس.
قال الشاعر :
قَالَتْ قُتَيْلَةُ مَا لَهُ . . . قَدْ جُلِّلَتْ شَيْباً شَوَاتُهْ ؟
فأمَّا نصب (نَزَّاعَةً) فعلى أنها حال مؤكدة كما قال :
(وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا)
وكما تقول أنا زيدٌ معروفاً ، فيكون (نَزَّاعَةً) منصوباً مُؤَكِداً لأمر النار.
ويجوز أن ينصب على معنى أنها تتلظى (نَزَّاعَةً) كما قال جلَّ ثناؤه :
(فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14).
والوجه الثالث في الرفع يرفع على الذَّمِّ بإضمار هي على معنى هي نَزَّاعَةٌ لِلشَّوَى.
ويكون نصبها أيضاً على الذم فيكون نصبها على ثلاثة أوجه.
* * *
وقوله : (تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17)

(5/221)


تدعو الكافر باسمه والمنافق باسمه.
* * *
وقوله : (إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19)
الهلوع على ما في الآية من التفسير يفزع وَيجْزَعُ مِنَ الشَّرِّ.
* * *
(إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21)
الإنسان ههنا في معنى الناس ، فاستثنى اللَّه - عزَّ وجلَّ - المؤمنين
المصلين فقال : (إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23).
يعني به المحافظين على الصلاة المكتوبة.
ويجوز أن يكون الذين لا يُزِيلُونَ وجوههم عن سمت القبلة ولا يلتفتون ، فيكون اشتقاقه من الدائم وهو الساكن ، كما جاء النهي عن البول في الماء الدائم ، والمحروم الذي هو محارف قد حرم المكاسب . وهو لا يَسْألُ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30)
أي ، على هؤلاء.
وقيل إنها في مَعنى " مِنْ " المعنى عند قائل هذا إلا مِنْ أَزْوَاجِهِم أَو ما
ملكت وقيل إن " على " محمول على المعنى ، المعنى فإنَهُم لَا يلَامُونَ على
أزواجهم ، ويدل عليه (فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ).
* * *
وقوله : (فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31)
معناه في العُدْوَانِ.
وهي المبالغة في مخالفة أمر اللَّه ومجاوزة القدر في الظلِم.
وقيل : (فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ).
أي من طلب غير الأزواج وَمَا ملكت الأيمان فقد اعتدى .

(5/222)


والعَادُونِ جَمْعُ عَادٍ وَعَادُونَ.
* * *
قوله : (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32)
أي يَرْعَوْنَ العهد والأمانة ويحافظون عليها.
وكل محافظ على شيء فهو مُرَاعٍ له . والإِمام راعٍ لرعيته.
* * *
وقوله : (فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36)
(مُهْطِعِينَ) منصوب على الحال ، والمهطع المقبل ببصره على الشيء لا
يزايله ، لأنهم كانوا ينظرون إلى النبي عليه السلام نظر عداوة.
قال اللَّه تعالى : (وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ).
معناه غيظاً وحنقاً.
* * *
قوله : (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37)
حلقاً حلقاً وجماعةً جماعة ، وعِزِينَ جمع عِزَة ، فكانوا عن يمينه وشِمَالِه
مجتمعين ، فقالوا إن كان أصحاب محمد يدخلون الجنة فإنا ندخلها قبلهم.
وإن أعطوا فيها شيئاً أعطِينا أكثر منه ، فقال عزَّ وجلَّ :
* * *
(أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38)
وقرئت (أَنْ يَدْخُلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ) . ثم قال :
* * *
(كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39)
أَي من تراب ومن نطفة ، فأي شيء لهم يدخلون به الجنة ، وهم لك
على العداوة وعلى البغضاء.
* * *
وقوله : (فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41)
معناه فأُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ.
و " لا " مؤكدة كما قال :

(5/223)


(لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ).
ومعناه ليعلم أهل الكتاب ، ومعنى (بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ)
أي مشارق الشمس ومغاربها ، وكذلك القَمَرُ ، وهي مشارق الصيف ومشارق الشتاء وَمَغَارب الصيف ، ومغارب الشتاء فتشرق الشمس كل يوم من مشرق ، وتغرب من مغرب ، وكذلك القَمَرُ.
* * *
وقوله : (فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42)
(يخوضوا) جواب الأمر مجزوم ، وقيل إنه مجزوم وإن كان لفظه بغير آلةِ
الأمْرِ لأنه وضع موضع الأمر ، كأنه قال ليخوضوا وليَلْعَبُوا.
وهذا أَمْر على جهة الوعيد ، كما تقول : اصنع ما شئت فإني أعاقبك عليه.
وقد مر تفسير هذا مستقصًى.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43)
والأجداث القبور واحدها جَدَث ، ويقال أيضاً جَدَفٌ في هذا المعنى.
وقرئت إلى (نَصْبٍ يوفِضُونَ) وَ (إلى نُصْبٍ) - بضم النون وسُكونِ الصاد ، وقرِئَتْ (إلى نُصُبِ) بضم النون والصاد.
فمن قَرَأَ نصْب ، فمعناه كأنَّهم إلى علم مَنْصُوبَِ لهم.
ومن قرأ (إلى نصْبِ) فمعناه إلى أَصْنَام لهم.
كما قال (وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ).
ومعنى (يوفِضُونَ) يُسْرِعُونَ.
قال الشَاعِر :
لأَنْعَتَنْ نَعامةً مِيفاضا . . . خَرْجاءَ تَغْدُو وتطلُبُ الإِضَاضا
ْالميفاض السريعة ، وخرجاء ذات لونين سَوَادٍ وبياضٍ.
ومعنى الأضاض الموضع الذي يُلْجَأ إليه ، يقال أضَتني إليك الحاحة أضَاضاً .

(5/224)


قوله : (خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (44)
(تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ)
أي تغشاهم ذِلًةٌ.
وقوله : (مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ).
قرئت بالفتح والكسر ، فمن قرأ بِكَسْرِ يَوم فَعَلَى أَصْل الِإضافة لأن الذي
يضاف إليه الأول مجرور بالإضافة.
ومن فتح يوم فلأنه مضاف إلى غير متمكن مضاف إلى " إذْ " ، و " إذْ " مبهمة ، ومعناه يوم إذ يكون كذا وكذا ، فلما كانت
مبهمة وأضيف إليها ، بني المضاف إليها على الفتح.
كذلك أنشدوا قول
الشاعر :
لم يَمْنع الشُّرْبَ منها غَيْرَ أَن نطقت . . . حمامة في غُصُونٍ ذاتِ أَوْقالِ
فلما أضاف " غير " إلى " أن " بناها على الفتح ، وهي في موضع رفع ، والرفْعُ أيضا قَد رُوِيَ ، فقالوا " غيرُ " أن نطقت ، كما قرئ الحرف على إعراب الجر ، وعلى البناء على الفتح .

(5/225)


سُورَةُ نُوحٍ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله عَر وَجَلً : (إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1)
" أن " في موضع نصب بـ (أَرْسَلْنَا) ، لأنَّ الأصْلَ بأن أَنْذِرْ قَوْمَكَ ، فلما أسقطت الباء أفضى الفِعْلُ إلى " أن " فنصبها
وقد قال قوم يُرتَضَى عِلْمُهُمْ إن موضع مِثْلِها جَر وإن سقطت الباء.
لأن " أن " يحسن معها سقوط الباء . ولا تسقط من المصدر
الباء ، لأنك لو قلت : إني أرسلتك بالإنْذَارِ والتهدد لم يُجِزْ أن تقول إني
أَرْسَلْتُك الإنذار والتهدُّدَ ، ولو قلت إني أرسلتك بأن تُنْذِرَ وأن تهدد لجاز وإني أرسَلْتُكَ أن تنذر وأن تهدِّدَ.
وأصل الِإنذار في اللغة الِإعلام بما يخاف منه فيحذر ، وأن لا يتعرض
له ويجوز أن يكون " أَن " تفسير لما أُرْسِلَ بِهِ.
فيكون المعنى : إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَيْ أَنْذِرْ قَومَكَ.
* * *
(قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3)
أرسل الله نوحاً وجميع الأنبياء بالأمر بعبادته وإيثار تقواه وطاعة رسله.
* * *
وقوله : (أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3)
(يَغْفِرْ) جزم جواب الأمر (أعْبُدُوا اللَّهَ) واتقوه وأطيعوني يغفر لكم من

(5/227)


ذنوبكم ، والنحويون البصريون كلهم ما خلا أبا عمرو بن العلاء لا يدغِمُونَ
الراء في اللام ، لا يجيزون يَغْفِر لَّكُمْ ، وأبو عمرو بن العلاء يرى الإدغام
جائزاً.
وزعم الخليل وسيبويه أن الراء حرف مكرر متى أدغم في اللام ذهب
التكرير منه ، فاختل الحرف ، والمسموع من العرب وقرأه القراء إظهار الراء.
(يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4)
ومعنى (مِنْ ذُنُوبِكُمْ) ههنا - يغفر لكم ذنوبكم
ودخلت "مِنْ " تختص الذنوب من سائر الأشياء ، لم تدخل لتَبْعيض الذنُوب ، ومثله قوله (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ).
معناه اجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان ليس الرجس ههنا
بعض الأوثان.
وقوله : (وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ).
معناه اتقوا الله وأطيعون يؤخركم عن العذاب ، أي يؤخركم فتموتوا غير
ميتة المُسْتَأْصَلِين بِالعَذَابِ.
ثم قال : (إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ)
معناه إذا جاء الأجل في الموت لا يؤخر بعذاب كان أو باستئصال.
* * *
قوله : (جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7)
قيل إنهم كانوا يسدُّون آذانهم ويغطون وجوههم لئلا يسمعوا قَوْلَه.
وليبالغوا في الإعراض عنه بتغطية الوجوه.
وقوله : (وَأَصَرُّوا) أقاموا ولم ينووا توبة منه.
(وَاسْتَكْبَرُوا) أخذتهم العزة من اتباع نوح والدليل على ذلك قوله :
(أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ).
* * *
وقوله : (ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8)
أي دعوتهم مظهراً لهم الدعوة.
و " جِهَارًا " منصُوبٌ مصدر موضوع موضع

(5/228)


الحال.
المعنى دعوتهم مجاهراً بالدعاء إلى توحيد الله وتقواه.
* * *
(ثُمَّ إني أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ ، لَهًمْ إسْرَاراً).
أي خَلَطْتُ لَهُمْ دُعَاءَهم في العلانيةَ بدعاء السر.
فقلت : (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا).
أي استدعوا مَغْفِرَةَ رَبِّكُمْ.
* * *
(يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11)
وقيل إِنهم كانوا قد أجدبوا فَاعْلَمَهُم أن إيمانهم باللَّه يجمع لهم مَعَ
الحظِّ الوافِرِ في الآخرة.
الخِصْب والغِنَى في الدنيا.
و (مِدْرَارًا) : كثيرة الدَّر ، أي كثيرة المطر.
* * *
(وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12)
يعطيكم زينة الدنيا وهي المال والبنون.
* * *
(وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ) : أَي بساتين.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13)
قيل : مَا لكم لَا تَخَافُونَ للَّهِ عَظَمةً ، وقيل لا ترجون عاقبة ، وحقيقته
- واللُّه أعلم - مالكم لا ترجون عاقبة الإيمان فتوحدون الله وقد جعل لكم في - أنفسكم آية تدل على توحيده من خلقه إياكم ، ومن خلق السَّمَاوَاتِ والأرضِينَ والشمس والقمر فقال :
* * *
(وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14)
أي طوراً بعد طورٍ ، نقلكم من حالٍ إلى حال ومن جِهَةٍ من الخلق إلى
جهة - خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة ، ثم جعل
المضغة عظْماً ، وكسا العظم لحماً ثُمَّ قَررَهُمْ فقال :

(5/229)


(أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15)
و (طباقاً) مَنْصوبٌ على جهتين :
إحداهما مطَابِقَةً طِباقاً.
والأخرى من نعت (سَبْعَ) أيْ خَلَق سبعاً ذات طباق.
* * *
(وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16)
قال أهل العربية : يجوز أن يكون في السماء الدنيا
وقيل (فِيهِنَّ) لأنهن كالشيء الوَاحِد.
وجاء في التفسير أن وجه الشمس يضيء لأهل الأرض من
ظَهْرها وقَفَاهَا ويضيء لأهل السَّمَاوَات وكذلك القمر.
* * *
(وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17)
و (نَبَاتًا) محمول في المصدر على المعنى ، لأن معنى " أنبتكم " جعلكم
تنبتون نباتاً والمصدر على لفظ أنبتكم إنباتاً ونباتاً أبلغ في المعنى.
* * *
قوله : (لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20)
أي طرقاً بَيِّنَةً.
* * *
وقوله : (وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21)
(وَوُلْدُهُ) ويقرأ : (وَوَلَدُهُ).
والوَلَدُ والولد بمعنى واحِدٍ ، مثل العَرَب والعُرْب ، والعجم والعُجْم.
* * *
وقوله (وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22)
يقال : مكر كبير وكُبَّار وكِبار في معنى واحد.
* * *
(وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23)
وقُرِئَتْ (وُدًّا) - بضم الواو -.
(وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا)
هذه خمسة أصنام كانَتْ في قَوْمِ نُوح يعبدونها.
ثُمَّ صَارَتْ إلَى العَرَبِ

(5/230)


فكان وَدّ لكلب ، وكان سُواع لِهَمَدَان ، وكان يَغُوث لمذحج ، وكان نَسْر لحمَير
وقرئت (يَغُوثاً وَيَعُوقاً).
ويغوث ويعوق لا ينْصَرِفَان لأنَّهُمَا في وزن الفعل وهما معرفتان.
والقراءة التي عليها القراء والمصحف ترك الصرف.
وليس في يغوث ويعوق ألف في الكتاب ، ولذلك لا ينبغي أن يقرأ : إلا بترك الصرف.
والذين صرفوا جعلوا هذين الاسمين الأغلب عليهما كما الصرف إذ كان أصل الأسماء عندهم الصرْفَ ، أَو جعلوهما نَكِرةً وإن كانا معرفتين ، فكأنهم قالوا : ولا تذرون صنماً من أصنامكم ، ولا ينبغي أن يقرأ بها لمخالفتها المصحف (1).
* * *
قوله ت (مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25)
ويقرأ (مما خطاياهم) ، وخطيئة يجمع على خطايا . وخطيئات.
وقَد فسَّرنَا ذلك فيما سلف من الكتاب.
* * *
(وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26)
(دَيَّارًا) في معنى أحد . يُقَال ما في الدار أحَدٌ وما بها دَيَّارٌ.
وأصْلهَا دَيْوَار ، [فَيْعَال] فقلبت الواو ياء وأدغمت إحداهما في الأخرى.
وإنما دعا عليهم نوح عليه السلام لأنَّ اللَّه جَل - وَعَلَا أوحى إليه (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ).
* * *
قوله تعالى : (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28)
(وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا)
قالوا بيتي مَسْجداً ، وإن شئت ، أسكنت الياء وإن شئت فتحتها.
* * *
وقوله : (وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا).
معناه إلا تباراً ، والتبار الهلاك ، وكل شيء أهلك فقد تبر ، ولذلك سُمِّيَ
كلُّ مكَسَّرٍ تبرا.
__________
(1) قال السَّمين :

قوله : { وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً } : يجوزُ أَنْ يكونَ مِنْ عَطْفِ الخاص على العام إنْ قيل : إنَّ هذه الأسماءَ لأصنامٍ ، وأن لا يكونَ إنْ قيل : إنها أسماءُ رجالٍ صالحينَ على ما ذُكر في التفسير . وقرأ نافع « وُدّاً » بضم الواوِ ، والباقون بفتحها ، وأُنْشِدَ بالوَجْهَيْن قولُ الشاعر :
4344 حَيَّاكَ وَدٌّ فإنَّا لا يَحِلُّ لنا . . . لَهْوُ النساءِ وإنَّ الدين قد عزما
وقول الآخر :
4345 فحيَّاكِ وَدٌّ مِنْ هُداكِ لفِتْيَةٍ . . . وخُوْصٍ بأعلى ذي فُضالةَ مُنْجِدِ
قوله : { وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ } قرأهما العامَّةُ بغير تنوين . فإن كانا عربيَّيْن فالمنعُ من الصَرْف للعلميَّةِ والوزن ، وإن كانا أعجميَّيْن فللعلميَّةِ والعُجْمة . وقرأ الأعمش : « ولا يَغُوْثاً ويَعُوْقاً » مصورفَيْن . قال ابن عطية : « وذلك وهمٌ : لأنَّ التعريفَ لازمٌ ووزنَ الفعل » انتهى . وليس بوهمٍ لأمرَيْن ، أحدهما : أنه صَرَفَهما للتناسُبِ ، إذ قبله اسمان منصرفان ، وبعده اسمٌ منصرفٌ ، كما صُرِفَ « سلاسل » . والثاني : أنه جاء على لغةِ مَنْ يَصْرِفُ غيرَ المنصرِف مطلقاً . وهي لغةٌ حكاها الكسائيُّ.
ونقل أبو الفضل الصَّرْفَ فيهما عن الأشهبِ العُقَيْليِّ ثم قال : « جَعَلهما فَعُولاً؛ فلذلك صرفهما ، فأمَّا في العامَّة فإنهما صفتان من الغَوْث والعَوْق » . قلت : وهذا كلامٌ مُشْكِلٌ . أمَّا قولُه : « فَعُولاً » فليس بصحيحٍ ، إذ مادةُ « يغث » و « يعق » مفقودةٌ . وأمَّا قولُه : « صفتان من الغَوْث والعَوْق » فليس في الصفاتِ ولا في الأسماءِ « يَفْعُل » والصحيحُ ما قَدَّمْتُه . وقال الزمخشري : « وهذه قراءةٌ مُشْكِلة؛ لأنهما إنْ كانا عربيَّيْنِ أو أعجميَّيْنِ ففيهما مَنْعُ الصَّرْفِ ، ولعله قَصَدَ الازدواجَ فصرَفهما . لمصادفتِه أخواتِهما منصرفاتٍ : وَدَّاً وسُوعاً ونَسْراً » . قال الشيخ : « كأنه لم يَطَّلعْ على أنَّ صَرْفَ ما لا ينصرفُ لغةٌ ».
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5/231)


سُورَةُ الجِنِّ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله عزَّ وجلَّ : (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1)
القراءة (أوحِيَ) بإثبات الواو . - قد قرئت : (قُلْ أُحِيَ إِلَيَّ) - بغير واو.
فمن قال : (أُحِيَ إِلَيَّ) فهو من وحيت إليه ، والأكثر أَوْحَيْت إليه.
والأصل وحِي ، ولكن الواو إذا انْضمَّت قد تبدل منها الهمزة نحو :
(وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ) ، أصله وقِّتَتْ لأنه مِنَ الوَقْتِ.
وجاء في التفسير أن هؤلاء النفر الذين من الجن استمعوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي الصبح ببطن نخلة ، وهو قوله : (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا)
أي قال بعضهم لبعض أَمْسِكوا عن الكلام واستمعوا.
وقيل إنهم كانوا من جِنَ نَصِيبينْ ، وقيل إنهم كانوا مِنَ اليَمَن ، وقيل إنهم كانوا يَهوداً ، وَقِيل إنهم كانوا مشركين.
فأمَّا قوله : (أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ) ، و (أَنَّ) مفتوحة لا غير.
* * *

وقوله : (إِنَّا سَمِعْنَا) وقوله : (فَإِنَّ لَهُ) ، وقوله : (فَإِنَّهُ يَسْلُكُ).
فهذه الثلاث مكسورة لا غير.
وقد اختلف القراء فيما في هذه السورة غير هذه الحروف الثلاث فقال بعضهم : (وَأَنَّهُ ، وأَنَّا) فَاما عَاصمٌ فروى عنه أبوبكر بن عياش مثل قراءة نافع ومن تابعه ، وروى حفص بن سليمان عن الفتح فيما قرأه أبو بكر بالكسر ، والذي يَخْتاره النحوُّيونَ قراءة نافع ومن تابَعَهُ في هذه الآية عندهم ما كان محمولاً على

(5/233)


الوحي فهو (أنَّه) بفتح (أنَّ) وما كان من قول الجن فهو مكسور معطوف على
قوله : (فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا) ، وعلى هذه القراءة يكون المعنى ، وقالوا إنه تعالى جَدُّ رَبِّنَا ، وقالوا إنه كان يقول سفيهنا.
ومن فتح فذكر بعض النحويين ْأنه معطوف على الهاء.
المعنى عِندَه فآمنا به وبأنه تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا
وكذلك ما بعد هذا عنده ، وهذا رديء في القياس.
لا يعطف على الهاء المكنية المحفوضة إلا بإظهار الخافض ، ولكن وجهه أن يكون محمولًا على معنى آمناً به ، لأن معنى آمنا به صدقناه وعلمناه ، ويكون المعنى : وصدقنا أنه تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا.
* * *
(وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3)
وتأويل (تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا) تعالى جلال رَبِّنَا وعظمته عن أن يتخذ صَاحِبَةً أَوْ
وَلَداً (1).
* * *
وقوله تعالى : (وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6)
كان أهل الجاهلية إذا مرتْ جماعة منهم بوادٍ يقولون : نعوذ بعزيز هذا
الوادي من مردة الجن وَسُفَهَائِهِمْ.
ومعنى (فَزَادُوهُمْ رَهَقًا) فَزادوهم ذِلَّةً وضعفاً.
ويجوز - واللَّه أعلم - أن الإنس الذين كانوا يستعيذون بالجن زادوا الجن رهقاً ، ويجوز أَنْ يكون الجن زادوا الإنس رَهَقاً.
* * *
وقوله : (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9)
أي كنا نستمع فالآن حين حَاوَلْنَا الاستماع ورمينا بالشُهُبِ ، وهي
الكواكب.
و (رَصَدًا) أي حَفَظَةً تمنع من الاستماع.
وقيل إن الانقضاض الذي رميت به الشياطين حَدَثَ بعد مَبْعَثِ النبي عليه السلام وهو أَحَدُ آيَاتِه.
* * *
(وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10)
المعنى إنا لا ندري بحدوث رجم الكواكب أَلِصَلاَحٍ في ذلك لأهل
الأرض أو غيره.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { وَأَنَّهُ تعالى جَدُّ رَبِّنَا } : قرأ الأخَوان وابن عامر وحفص بفتح « أنَّ » وما عُطِف عليها بالواو في اثنتي عشرة كلمةً ، والباقون بالكسرة . وقرأ ابنُ عامر وأبو بكرٍ « وإنه لَمَّا قام » بالكسرة ، والباقون بالفتح ، واتفقوا على الفتحِ في قوله : { وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ } وتلخيص هذا : أن « أنَّ » المشددةَ في هذه السورةِ على ثلاثةِ أقسامٍ : قسمٍ ليس معه واوُ العطفِ ، فهذا لا خلاف بين القُرَّاءِ في فتحِه أو كسرِه . على حسبِ ما جاءَتْ به التلاوةُ واقْتَضَتْه العربيةُ ، كقولِه : { قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ استمع } لا خلافَ في فتحِه لوقوعِه موقعَ المصدرِ وكقوله : { إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً } [ الجن : 1 ] لا خلافَ في كسرِه لأنه محكيٌّ بالقول.
القسم الثاني أَن يقترنَ بالواوِ ، وهو أربعَ عشرةَ كلمةً ، إحداها : لا خلاف في فتحِها وهي : قولُه تعالى : { وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ } [ الجن : 18 ] وهذا هو القسم الثالث والثانية : { وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ } [ الجن : 19 ] كَسَرَها ابنُ عامرٍ وأبو بكر ، وفتحها الباقون . والاثنتا عشرةَ الباقيةُ : فَتَحها الأخوان وابن عامرٍ وحفص ، وكسرها الباقون ، كما تقدَّم تحريرُ ذلك كلِّه . والاثنتا عشرةَ هي قولُه : { وَأَنَّهُ تعالى جَدُّ رَبِّنَا } ، { وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ } [ الجن : 4 ] { وَأَنَّا ظَنَنَّآ } [ الجن : 5 ] { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ } [ الجن : 6 ] { وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ } [ الجن : 7 ] { وَأَنَّا لَمَسْنَا } [ الجن : 8 ] { وَأَنَّا كُنَّا } [ الجن : 9 ] { وَأَنَّا لاَ ندري } [ الجن : 10 ] { وَأَنَّا مِنَّا الصالحون } [ الجن : 11 ] { وَأَنَّا ظَنَنَّآ } [ الجن : 12 ] { وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا } [ الجن : 13 ] { وَأَنَّا مِنَّا المسلمون } [ الجن : 14 ] . وإذا عَرَفْتَ ضَبْطَها من حيث القراءاتُ فالتفِتْ إلى توجيهِ ذلك.
وقد اختلف الناسُ/ في ذلك فقال أبو حاتم في الفتح : « هو معطوفٌ على مرفوعِ » أُوْحِيَ « فتكونُ كلُّها في موضعِ رفعٍ لِما لم يُسَمَّ فاعِلُه » . وهذا الذي قاله قد رَدَّه الناسُ عليه : مِنْ حيث إنَّ أَكثرَها لا يَصِحُّ دخولُه تحت معمولِ « أُوْحِي » ألا ترى أنه لو قيل : أوُحي إليِّ أنَّا لَمَسْنا السماءَ ، وأنَّا كُنَّا ، وأنَّا لا نَدْري ، وأنَّا منَّا الصالحون ، وأنَّا لمَّا سَمِعْنا ، وأنَّا مِنَّا المسلمون لم يَسْتَقِمْ معناه . وقال مكي : « وعَطْفُ » أنَّ « على { آمَنَّا بِهِ } [ الجن : 2 ] أتَمُّ في المعنى مِنْ العطفِ على » أنَّه استمعَ « لأنك لو عَطَفْتَ { وَأَنَّا ظَنَنَّآ } [ الجن : 5 ] { وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا } [ الجن : 13 ] { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإنس } [ الجن : 6 ] { وَأَنَّا لَمَسْنَا } [ الجن : 8 ] ، وشِبْهَ ذلك على { أَنَّهُ استمع } [ الجن : 1 ] لم يَجُزْ؛ لأنه ليس مِمَّا أُوْحِي ، إليه ، إنما هو أمرٌ أو خبر ، وأنه عن أنفسهم ، والكسرُ في هذا أَبْينُ ، وعليه جماعة مِنْ القُراءِ.
الثاني : أنَّ الفتحَ في ذلك عَطْفٌ على مَحَلِّ » به « مِنْ » آمَنَّا به « . قال الزمخشري : » كأنه قال : صَدَّقْناه وصَدَّقْناه أنه تعالى جَدُّ رَبَّنا ، وأنَّه كان يقولُ سفيهُنا ، وكذلك البواقي « ، إلاَّ أنَّ مكيَّاً ضَعَّفَ هذا الوجهَ فقال : والفتحُ في ذلك على الحَمْلِ على معنى » آمَنَّا به « وفيه بُعْدٌ في المعنى؛ لأنهم لم يُخْبِروا أنهم آمنوا بأنَّهم لَمَّا سَمِعوا الهدى آمنوا به ، ولم يُخْبِروا أنهم آمنوا أنه كان رجالٌ ، إنما حكى اللَّهُ عنهم أنهم قالوا ذلك مُخْبِرين به عن أنفسِهم لأصحابِهم ، فالكسرُ أَوْلى بذلك » وهذا الذي قاله غيرُ لازمٍ؛ فإنَّ المعنى على ذلك صحيحٌ.
وقد سَبَق الزمخشريَّ إلى هذا التخريجِ الفَرَّاءُ والزجَّاجُ . إلاَّ أنَّ الفَرَّاء استشعر إشكالاً وانفصل عنه ، فإنه قال : « فُتِحَتْ » أنَّ « لوقوع الإِيمانِ عليها ، وأنت تجدُ الإِيمانَ يَحْسُنُ في بعضِ ما فُتحَ دونَ بعضٍ ، فلا يُمْنَعُ من إمضائِهنَّ على الفتح ، فإنه يَحْسُنُ فيه ما يُوْجِبُ فَتْحَ » أنَّ « نحو : صَدَقْنا وشَهِدْنا ، كما قالت العربُ :
4347 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وزَجَّجْنَ الحواجبَ والعُيونا
فنصَبَ » العيونَ « لإِتباعِها الحواجبَ ، وهي لا تُزَجَّجُ . إنما تُكَحَّلُ ، فأضمر لها الكُحْلَ » انتهى . فأشار إلى شيءٍ مِمَّا ذكرَه مكيٌّ وأجاب عنه . وقال الزجَّاج : « لكنَّ وجهَه أَنْ يكونَ محمولاً على معنى » آمنَّا به «؛ لأنَّ معنى » آمَنَّا به « صَدَّقْناه وعَلِمْناه ، فيكون المعنى : صَدَّقْنا أنه تعالى جَدُّ ربِّنا ».
الثالث : أنه معطوفٌ على الهاء به « به » ، أي : آمنَّا به وبأنه تعالى جَدُّ ربِّنا ، وبأنه كان يقولُ ، إلى آخره ، وهو مذهب الكوفيين . وهو وإن كان قوياً من حيث المعنى إلاَّ أنَّه ممنوعٌ مِنْ حيث الصناعةُ ، لِما عَرَفْتَ مِنْ أنَّه لا يُعْطَفُ على الضميرِ المجرورِ إلاَّ بإعادةِ الجارِّ . وقد تقدَّم تحقيقُ هذَيْن القولَيْن مستوفىً في سورةِ البقرة عند قولِه : { وَكُفْرٌ بِهِ والمسجد الحرام } [ البقرة : 217 ] على أنَّ مكِّيَّاً قد قَوَّى هذا لمَدْرَكٍ آخرَ وهو حَسَنٌ جداً ، قال رحمه الله : « وهو يعني العطفَ على الضميرِ المجرورِ دونَ إعادةِ الجارِّ في » أنَّ « أجوَدُ منه في غيرها ، لكثرةِ حَذْفِ حرفِ الجرِّ مع » أنَّ «.
ووجهُ الكسرِ العطفُ على قوله : { إِنَّا سَمِعْنَا } [ الجن : 1 ] فيكون الجميعُ معمولاً للقولِ ، أي : فقالوا : إنَّا سَمِعْنا ، وقالوا : إنَّه تعالى جَدُّ ربِّنا إلى آخرِه . وقال بعضُهم : الجملتان مِنْ قولِه تعالى : { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ } [ الجن : 6 ] { وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ } [ الجن : 7 ] معترضتان بين قولِ الجنِّ ، وهما مِنْ كلامِ الباري تعالى ، والظاهرُ أنَّهما مِنْ كلامِهم ، قاله بعضُهم لبعضٍ . ووجهُ الكسرِ والفتحِ في قولِه : { وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ عَبْدُ الله } [ الجن : 19 ] ما تقدَّم . ووَجْهُ إجماعِهم على فتح { وَأَنَّ المساجد } [ الجن : 18 ] وجهان ، أحدُهما : أنَّه معطوفٌ على { أَنَّهُ استمع } [ الجن : 1 ] فيكونُ مُوْحى أيضاً . والثاني : أنه على حَذْفِ حرفِ الجرِّ ، وذلك الحرفُ متعلِّقٌ بفعل النهي ، أي : فلا تَدْعوا مع اللَّهِ أحداً؛ لأنَّ المساجدَ للَّهِ ، ذكرهما أبو البقاء.
قال الزمخشري : » أنه استمع « بالفتح؛ لأنَّه فاعلُ » أُوْحي « و { إِنَّا سَمِعْنَا } [ الجن : 1 ] بالكسرِ؛ لأنَّه مبتدأٌ مَحْكِيٌّ بعد القولِ ، ثم تحملُ عليهما البواقي ، فما كان مِنَ الوحي فُتِحَ ، وما كان مِنْ قَوْل الجِنِّ كُسِرَ ، وكلُّهُنَّ مِنْ قولِهم إلاَّ/ الثِّنْتَيْنِ الأُخْرَيَيْنِ وهما : { وَأَنَّ المساجد } [ الجن : 18 ] { وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ عَبْدُ الله } [ الجن : 19 ] . ومَنْ فتح كلَّهن فعَطْفاً على مَحَلِّ الجارِّ والمجرور في { آمَنَّا بِهِ } [ الجن : 2 ] ، أي : صَدَّقْناه ، وصَدَّقْنا أنه «.
وقرأ العامَّةُ : { جَدُّ رَبِّنَا } بالفتح مضافاً ل » رَبِّنا « ، والمرادُ به هنا العظمةُ . وقيل : قُدْرتُه وأمرُه . وقيل : ذِكْرُه . والجَدُّ أيضاً : الحَظُّ ، ومنه قولُه عليه السلام : » ولا يَنْفَعُ ذا الجَدِّ منك الجَدُّ « والجَدُّ أيضاً : أبو الأبِ ، والجِدُّ بالكسرِ ضِدُّ التَّواني في الأمر.
وقرأ عكرمةُ بضمِّ باءِ » رَبُّنا « وتنوينِ » جَدٌّ « على أَنْ يكون » ربُّنا « بدلاً مِنْ » جَدٌّ « ، والجَدُّ : العظيم . كأنه قيل : وأنَّه تعالى عظيمٌ ربُّنا ، فأبدل المعرفة من النكرةِ ، وعنه أيضاً » جَدَّاً « منصوباً منوَّناً ، » رَبُّنا « مرفوعٌ . ووجْهُ ذلك أَنْ ينتصِبَ » جَدَّاً « على التمييز ، و » ورَبُّنا « فاعلٌ ب » تعالى « وهو المنقولُ مِنْ الفاعليةِ ، إذ التقديرُ : تعالى جَدُّ رَبِّنا ، ثم صار تعالى ربُّنا جَدَّاً ، أي : عَظَمةً نحو : تَصَبَّبَ زيدٌ عَرَقاً ، أي : عَرَقُ زيدٍ . وعنه أيضاً وعن قتادةَ كذلك ، إلاَّ أنَّه بكسرِ الجيم ، وفيه وجهان ، أحدُهما : أنَّه نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ ، و » رَبُّنا « فاعلٌ ب » تعالى « والتقدير : تعالى ربُّنا تعالِياً جدَّاً ، أي : حقاً لا باطلاً . والثاني : أنَّه مصنوبٌ على الحالِ ، أي : تعالى ربُّنا حقيقةً ومتمكِّناً قاله ابنُ عطية.
وقرأ حميد بن قيس » جُدُّ ربِّنا « بضم الجيم مضافاً ل » ربِّنا « وهو بمعنى العظيم ، حكاه سيبويه ، وهو في الأصل من إضافةِ الصفةِ لموصوفِها؛ إذ الأصلُ : ربُّنا العظيمُ نحو : » جَرْدُ قَطِيفة « الأصل قطيفة جَرْدٌ ، وهو مُؤَول عند البَصْريين وقرأ ابن السَّمَيْفَع » جَدَى رَبِّنا « بألفٍ بعد الدال مضافاً ل » ربِّنا « . والجَدى والجَدْوى : النَّفْعُ والعَطاء ، أي : تعالى عَطاءُ ربِّنا ونَفْعُه.
والهاءُ في » أنَّه استمعَ « » وأنَّه تعالى « وما بعد ذلك ضميرُ الأمرِ والشأنِ ، وما بعده خبرُ » أنَّ « وقوله { مَا اتخذ صَاحِبَةً } مستأنَفٌ فيه تقريرٌ لتعالِي جَدِّه.

اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5/234)


وقوله : (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11)
(قِدَدًا) متفرقون ، أي كنا جماعات ، متفرقين ، مُسْلِمِينَ وغير مسلمين.
* * *
قوله : (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14)
هذا تفسير قولهم : (كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا) ، والقاسطون : الجائرون.
وقوله (فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا).
يعني قصدوا طريق الحق والرشد ، ولا أعلم أَحَدأ قرأ في هذه السورة
رُشْداً ، والرُّشْد والرَّشَدُ يجوز في العربية ، إلا أن أواخر الآي فيما قَبْلَ الرَّشَد
وبَعْدَه على الفتح ، مبني على فَعَل ، فأواخر الآي أن يكون على هذا اللفظ
وتَسْتَوي أَحْسَنُ ، فإن ثبتت في القراءة بها رواية فالقراءة بها جائزة.
ولا يجوز أن تقرأ بما يجوز في العربية إلا أن تثبت بذلك رواية وقراءة عن إمام يقتدى بقراءته ، فإن اتباع القراءة السنة ، وتتبع الحروف الشواذ والقراءة بها بدعة.
* * *
قوله : (وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15)
يقال قسط الرجل إذَا جَارَ ، وأَقسط إذَا عَدَل.
* * *
وقوله : (وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ)
وهذا تفسيره لو استقاموا على الطريقة التي هي طريق الهدي لأسْقَيْنَاهُمْ
مَاءً غَدَقًا غَدَقاً.
والغَدَقَ الكثير ، ودليل هذا التفسير قوله عزَّ وجلَّ : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ).
وكقوله : (لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ)
وقد قيل إنه يعني به : لو استقاموا على طريقة الكفر.
ودليلٍ هذا التفسير عندهم قوله تعالى :

(5/235)


(وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33).
والذي يختار وهو أكثر التفسير أن يكون يعنى بالطريقة طريق الهدى.
لأن الطريقة معَرفَة بالألف واللام.
والأوجب أن يكون طريقة الهدى . واللَّه أعلم.
* * *
وقوله : (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17)
لنختبرهم بذلك.
وقوله : (وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا).
معناه - واللَّه أعلم - عذاباً شَاقًّا ، وقيل صخرة في جهنم - وهي في اللغة
- واللَّه أعلم - طريقة شَاقَّة مِنَ العذاب.
يقال : قد وقع القوم في صَعودٍ وَهَبُوطٍ ، إذا كانوا في غير استواء وكانوا في طَرِيقة شاقَّة.
ويقرأ (لأسقيناهم ماء غَدِقا) ، والغدق المصدر ، والغَدِق اسم الفاعل ، تقول : غَدِق يَغْدَقُ غَدَقَا فَهو غَدِق ، إذا كَثُر الندى في المكان أو الماء.
* * *
وقوله : (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18)
معناه الأمر بتوحيد الله في الصلوات.
وقيل المساجد مواضع السجود من الإنسان ، الجبهة والأنف واليدان والركبتان والرجْلَانِ.
و " أن " ههنا يصلح أن يكون في موضع نصب ويصلح أن يكونَ في مَوْضِع
جَرٍّ.
والمعنى لأن المساجد لِلَّهِ . فلا تدعوا مع الله أَحَداً ، فلما حذفت اللام صار
الموضع موضع نَصْبٍ.
ويجوز أن يكون جَرًّا وإن لم تظهر اللام ، كما تقول العرب : وَبَلَدٍ ليس به أنيس . تريد رُبَّ بَلَدٍ.
* * *
وقوله : (وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19)

(5/236)


ويَقرأ (لُبَداً) ، ويجوز (لُبَّداً).
والمعنى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما صَلَّى الصبْحَ بذات
نخلة كادت الجن - لما سمعوا القرآن وتعجبوا منه - أن يسقطوا على النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وقيل كادوا يعني به جميع الملأ التي تظاهرت على النبي - صلى الله عليه وسلم -
ومعنى (لُبَداً) يركب بعضه بعضا ، وكل شيء ألصقته بشيء إلصاقاً شديداً فقد لبدته ومن هذا اشتقاق هذه اللبود التي تفرش.
فأما من قرأ لَبِدًا فهو جمع لِبْدَة ولبَد.
ومن قرأ لُبَداً نهو جمع لُبْدَة وَلُبَدَة ولِبْدَة فني معنى واحِدٍ.
ومعنى من قرأ (لُبَّداً) فهو جمع لابد ولُبدٍ ، مثل رَاكِع وَرُكَّعٍ وغازٍ وغُزًّى (1).
* * *
قوله : (قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22)
أي ، مَنْجًى إلا أن اشتقاقه من اللحد ، وهو مثل
(لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا) فالملتحد من جنس المُدَّخَل.
* * *
ونَصَبَ (إِلَّا بَلَاغًا) على البدل من قوله (مُلْتَحَدًا).
المعنى ولن أجد من دونه منجى إلا بلاغاً أي لا ينجيني إلا
أن أبلغ عن الله ما أرسلتُ به.
* * *
وقوله : (قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (25)
أي بُعْدًا ، كما قال : [(وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ)].
* * *
قوله : (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ)
هذه الآية توجب على من ادعى أنَّ النُّجومَ تدلُّه على ما يكون من حياة وموت وغير ذلك أن قد كفر بما في القرآن.
وكذلك قوله : (قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ). والاستثناء بقوله : (إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27)
معناه أنه لا يظهر على غَيْبه إلا الرسُلَ ، لأن الرسُلَ يستدل على نبوتهم
بالآيات المعجزات ، وبأن يخبروا بالغيب فيعلم بذلك أنهم قد خالفوا غير
الأنبياء.
ثم أعلم عزَّ وجلَّ أنه يحفظ ذلك بأن يَسْلُك (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا).
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { لِبَداً } قرأ هشام بضمِّ اللامِ ، والباقون بكسرِها . فالأولى . جمعُ لُبْدَة بضمِّ اللامِ نحو : غُرْفة وغُرَف . وقيل : بل هو اسمٌ مفردٌ صفةٌ من الصفاتِ نحو : « حُطَم » ، وعليه قولُه تعالى : { مَالاً لُّبَداً } [ البلد : 6 ] . وأمَّا الثانيةُ : فجمعُ « لِبْدَة » بالكسر نحو : قِرْبَة وقِرَب . واللِّبْدَة واللُّبْدة . الشيءُ المتلبِّدُ أي : المتراكبُ بعضُه على بعضٍ ، ومنه لِبْدَة الأسد كقولِه :
4358 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . له لِبْدَةٌ أظفارُه لم تُقَلَّم
ومنه « اللِّبْدُ » لتَلَبُّدِ بعضِه فوق بعض ، ولُبَدٌ : اسمُ نَسْرِ لُقمانَ ابنِ عادٍ ، عاش مِئَتي سنةٍ حتى قالوا : « طال الأمَدُ على لُبَدٍ » والمعنى : كادَتِ الجِنُّ يكونون عليه جماعاتٍ متراكمةً مُزْدَحمِيْن عليه كاللَّبِدِ.
وقرأ الحسنُ والجحدريُّ « لُبُداً » بضمتين ، ورواها جماعةٌ عن أبي عمروٍ ، وهي تحتملُ وجهَيْنِ ، أحدُهما : أَنْ يكونَ جمعَ لَبْد نحو : « رُهُن » جمعَ « رَهْن » . والثاني : أنَّه جمعُ « لَبُود » نحو : صَبورُ وصُبُر ، وهو بناءُ مبالغةٍ أيضاً . وقرأ ابن مُحَيْصن بضمةٍ وسكونٍ ، فيجوزُ أَنْ تكونَ هذه مخففةً من القراءةِ التي قبلها ، ويجوزُ أن تكونَ وَصْفاً برأسِه . وقرأ الحسن والجحدريُّ أيضاً « لُبَّداً » بضم اللام وتشديد الباء ، وهو جمعُ « لابِد » كساجِد وسُجَّد ، وراكع ورُكَّع . وقرأ أبو رجاء بكسرِ/ اللامِ وتشديدِ الباءِ وهي غريبةٌ جداً. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5/237)


إذا نزل الملك بالوحي أرسل اللَّه معه رصداً يحفظون الملك من أن
يأتي أحد من الجن فيستمع الوحيَ فيخبر به الكهنة فيخبروا به الناس فيساؤوا
الأنبياء.
فأعلم الله أنه يسلك من بين يدي الملك ومن خلفه رَصَداً.
* * *
(لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)
فيجوز أن يكون ليعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الرسالة أتته ولم تصل إلى غيرهِ.
ويجوز أَنْ يكونَ - واللَّه أعلم - ليعلم اللَّه أن قد أبلغوا رسالاته ، وما بعده
يدل على هذا وهُوَ قوله : (وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا).
فهذا المضمر في (وَأَحْصَى) لله عزَّ وجلَّ لا لغيره.
ونصب (عدَداً) على ضربين ، على معنى وأحصى كل شيء في حال العَدَدِ ، فلم تخفَ عليه سقوط ورقة ولا حَبَّةٍ في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابِس ، ويجوز أَن يكون (عَدَداً) في موضع المصدَرِ المحمول على معنى وأحصى ، لأن معنى أحصى وَعَدَّ كل شيء عَدَداً .

(5/238)


سُورَةُ المُزَّمِّل
( مَكِّيَّة )
ما خلا آيتين من آخرها مدنية
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله : (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2)
هذا خطاب للنبي عليه السلام ، وقيل إنه نزل عليه هذا وعليه قطيفة.
والْمُزَّمِّلُ أصله المُتَزَمِّل ، ولكن التاء تدغم في الزاي لقربها منها ، يقال : تَزَمَّل
فُلان إذا تلفف بثيابه ، وكل شيء لافف فَقَدْ زُمِّلَ.
قال امرؤ القيس :
كأَنّ أَبَاناً في أَفَانِينِ وَدْقِهِ . . . كبيرُ أُناسٍ في بِجَادٍ مُزَمَّلِ
وقيل إنه كان مُتَزَمِّلًا في حال هيئة الصلاة.
* * *
قوله : (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4)
فالمعنى - واللَّه أعلم - أن (نصفه) بدل من (الليل) كما تقول : ضربت زيداً
رَأْسَهُ فإنما ذكرت زيداً لتؤكد الكلام ، وهو أوكد من قولك ضربت رأس زيداً فالمعنى قم نصف الليل إلا قليلاً أو انقص من النصف أو زد على النصف ، وذكَر (أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا) بمعنى إلا قليلاً ولكنه ذُكِرَ مَع الزِيادة ، فالمعنى قم نصف الليل أو انقص من نصف الليل أو زد على نصف.
وهذا - واللَّه أعلم - قبل أن يقع فرض الصلوات الخمس (1).
ومعنى : (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4)
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { إِلاَّ قَلِيلاً نِّصْفَهُ } : للناس في هذا كلامٌ كثيرٌ ، واستدلالٌ على جوازِ استثناءِ الأكثرِ والنصفِ ، واعتراضاتٌ وأجوبةٌ عنها . وها أنا أذكرُ ذلك مُحَرِّراً له بعون اللهِ تعالى.
اعلم أنَّ في هذه الآيةِ ثمانيةَ أوجهٍ أحدُها : أنَّ « نصفَه » بدلٌ من « الليلَ » بدلُ بعضٍ من كلٍ . و « إلاَّ قليلاً » استثناءٌ من النصفِ كأنه قيل : قُمْ أقلَّ مِنْ نصفِ الليلِ . والضميرُ في « مِنْه » و « عليه » عائدٌ على النصفِ.
والمعنى : التخييرُ بين أمرَيْنِ : بينَ أَنْ يقومَ أقلَّ مِنْ نصفِ الليلِ على البَتِّ ، وبين أَنْ يَخْتارَ أحدَ الأمرَيْن ، وهما : النُّقْصانُ من النصفِ والزيادةُ عليه ، قاله الزمخشريُّ : وقد ناقَشَه الشيخ : بأنه يَلْزَمُه تكرارٌ في اللفظِ؛ إذ يَصير التقديرُ : قُم نِصفَ الليلِ إلاَّ قليلاً مِنْ نِصْفِ الليل ، أو انقُصْ مِنْ نصفِ الليل . قال : « وهذا تركيبٌ يُنَزَّهُ القرآنُ عنه » . قلت : الوجهُ فيه إشكالٌ ، لا من هذه الحيثية فإنَّ الأمرَ فيها سهلٌ ، بل لمعنىً آخرَ [ سأَذْكرهُ قريباً إنْ شاء الله ].
وقد جعل أبو البقاءِ هذا الوجهَ مرجوحاً فإنه قال : « والثاني هو بدلٌ مِنْ قليلاً يعني النصف قال : » وهو أَشبهُ بظاهرِ الآية لأنه قال : « أو انقُصْ منه أو زِدْ عليه » ، والهاءُ فيهما للنِّصْفِ . فلو كان الاستثناءُ من النصف لصار التقديرُ : قُم نصفَ الليل إلاَّ قليلاً أو انقُصْ منه قليلاً ، والقليلُ المستثنى غيرُ مقدَّر ، فالنقصانُ منه لا يُعْقَلُ « . قلت : الجوابُ عنه : أنَّ بعضَهم قد عَيَّنَ هذا القليلَ : فعن الكلبيِّ ومقاتلٍ : هو الثلثُ ، فلم يكن القليلُ غيرَ مقدَّرٍ . ثم إنَّ في قولِه تناقضاً لأنه قال : » والقليلُ المستثنى غيرُ مقدَّرٍ ، فالنقصانُ منه [ لا يُعْقَل « ] فأعاد الضميرَ على القليل ، وفي الأولِ أعادَه على النصفِ.
ولقائلٍ أن يقولَ : قد يَنْقَدحُ هذا الوجهُ بإشكالٍ قويٍّ : وهو أنَّه يَلْزَمُ منه تكرارُ المعنى الواحدِ : وذلك أنَّ قولَه : » قُمْ نِصْف الليلِ إلاَّ قليلاً « بمعنى : انقُصْ مِنْ الليل؛ لأنَّ ذلك القليل هو بمعنى النقصانِ ، وأنت إذا قلت : قُمْ نصفَ الليلِ إلاَّ القليلَ مِن النصفِ ، وقُمْ نصفَ الليل ، أو انقُصْ من النصفِ ، وجدتَهما بمعنىً . وفيه دقةٌ فتأمَّلْه ، ولم يَذْكُرِ الحوفيُّ غيرَ هذا الوجهِ المتقدِّمِ ، فقد عَرَفْتَ ما فيه.
ومِمَّنْ ذَهَبَ إليه أبو إسحاقَ فإنه قال : » نصفَه « بدلٌ من » الليل « و » إلاَّ قليلاً « استثناءٌ من النصفِ . والضميرُ في » منه « و » عليه « عائدٌ للنصف . المعنى : قُمْ نصفَ الليل أو انقُصْ من النصفِ قليلاً إلى الثلثِ ، أو زِدْ عليه قليلاً إلى الثلثِ ، أو زِد عليه قليلاً إلى الثلثَيْن ، فكأنَّه قال : قُمْ ثلثَيْ الليلِ أو نصفَه أو ثلثَه ».
قلت : والتقديراتُ التي يُبْرزونها ظاهرةٌ حسنةٌ ، إلاَّ أنَّ التركيبَ لا يُساعِدُ عليها ، لِما عَرَفْتَ من الإِشكال الذي ذكَرْتُه لك آنفاً.
الثاني : أَنْ يكونَ « نصفَه » بدلاً مِنْ « قليلاً » ، وإليه ذهب الزمخشريُّ وأبو البقاء وابنُ عطية . قال الزمخشريُّ : « وإنْ شِئْتَ جَعَلْتَ » نصفَه « بدلاً مِنْ » قليلاً « ، وكان تخييراً بين ثلاثٍ : بين قيامِ النصفِ بتمامِه ، وبين قيامِ الناقصِ منه ، وبين قيامِ الزائدِ عليه ، وإنما وَصَفَ النصفَ بالقِلَّةِ بالنسبة إلى الكلِّ » . قلت : وهذا هو الذي جعله أبو البقاء أَشْبَهَ مِنْ جَعْلِه بدلاً من « الليل » كما تقدَّمَ.
إلاَّ أنَّ الشيخ اعترض هذا فقال : « وإذا كان » نصفَه « بدلاً مِنْ » إلاَّ قليلاً « فالضميرُ في » نصفَه « : إمَّا أَنْ يعودَ على المبدلِ منه أو على المستثنى منه ، وهو » الليلَ « ، لا جائِزٌ أَنْ يعودَ على المبدلِ منه؛ لأنه يَصيرُ استثناءَ مجهولٍ مِنْ مجهولٍ؛ إذ التقديرُ : إلاَّ قليلاً نصفَ القليل ، وهذا لا يَصِحُّ له معنىً ألبتَّةََ ، وإن عاد الضميرُ على الليل فلا فائدةَ في الاستثناءِ من » الليل « ، إذ كان يكونُ أَخْصَرَ وأوضحَ وأَبْعَدَ عن الإِلباس : قُمِ الليلَ نصفَه . وقد أَبْطَلْنا قولَ مَنْ قال : » إلاَّ قليلاً « استثناءٌ من البدلِ ، وهو » نصفَه « ، وأنَّ التقديرَ : قُم الليلَ نصفَه إلاَّ قليلاً منه ، أي : من النصفِ . وأيضاً : ففي دَعْوى أنَّ » نصفَه « بدلٌ مِنْ » إلاَّ قليلاً « والضميرُ في » نِصفَه « عائدٌ على » الليل « ، إطلاقُ القليلِ على النصفِ ، ويَلْزَمُ أيضاً أَنْ يصيرَ التقديرُ : إلاَّ نصفَه فلا تَقُمْه/ ، أو انقُصْ من النصفِ الذي لا تقومه وهذا معنىً لا يَصِحُّ وليس المرادَ من الآيةِ قطعاً ».
قلت : نقولُ بجواز عَوْدِه على كلٍ منهما ، ولا يَلْزَمُ محذورٌ . أمَّا ما ذكره : مِنْ أنه يكونُ استثناءَ مجهولٍ مِنْ مجهولٍ فممنوعٌ ، بل هو استثناءُ معلومٍ من معلومٍ ، لأنَّا قد بَيَّنَّا أنَّ القليل قَدْرٌ معيَّنٌ وهو الثلثُ ، والليل ، فليس بمجهولٍ . وأيضاً فاستثناءُ المُبْهَمِ قد وَرَدَ . قال تعالى : { مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ } [ النساء : 66 ] . وقال تعالى : { فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ } [ البقرة : 249 ] وكان حقُّه أَنْ يقولَ : لأنه بدلُ مجهولٍ مِن مجهولٍ . وأمَّا ما ذكره مِنْ أَنَّ أَخْصَرَ منه وأَوْضَحَ كيتَ وكيت : أمَّا الأخْصَرُ فمُسَلَّمٌ . وأمَّا أنه مُلْبِس فممنوعٌ ، وإنما عَدَلَ عن اللفظِ الذي ذكَرَه لأنه أَبْلَغ.
وبهذا الوجهِ اسْتَدَلَّ مَنْ قال بجوازِ استثناءِ النصفِ والأكثرِ . ووجهُ الدلالةِ على الأولِ : أنَّه جَعَلَ « قليلاً » مستثنى من « الليل » ، ثم فَسَّر ذلك القليلَ بالنصفِ فكأنه قيل : قُمِ الليلَ إلاَّ نصفَه.
ووَجْهُ الدلالةِ على الثاني : أنَّه عَطَفَ « أو زِدْ عليه » على « انقُصْ منه » فيكونُ قد استثنى الزائدَ على النصفِ؛ لأنَّ الضميرَ في « مِنْه » ، وفي « عليه » عائدٌ على النصفِ . وهو استدلالٌ ضعيفٌ؛ لأنَّ الكثرة إنما جاءَتْ بالعطفِ ، وهو نظيرُ أَنْ تقول : « له عندي عشرةٌ إلاَّ خمسةً ودرهماً ودرهماً » فالزيادةُ على النصفِ بطريقِ العطفِ لا بطريقِ أن الاستثناءِ أخرجَ الأكثرَ بنفسِه.
الثالث : أنَّ « نصفَه » بدلٌ من « الليلَ » أيضاً كما تقدَّم في الوجه الأولِ ، إلاَّ أنَّ الضميرَ في « منه » و « عليه » عائدٌ على الأقلِّ من النصف . وإليه ذهب الزمخشري فإنه قال : « وإنْ شِئْتَ قلت : لَمَّا كان معنى { قُمِ الليل إِلاَّ قَلِيلاً نِّصْفَهُ } إذا أَبْدَلْتَ النصفَ من » الليل « : قُمْ أقلَّ مِنْ نصفِ الليل ، رَجَعَ الضميرُ في » منه « و » عليه « إلى الأقلِّ من النصفِ ، فكأنه قيل : قُمْ أقلَّ مِنْ نصفِ الليلِ أو قُمْ أنقصَ مِنْ ذلك الأقلِّ أو أزيدَ مِنْه قليلاً ، فيكون التخييرُ فيما وراءَ النصفِ بينه وبينَ الثُّلُثِ ».
الرابع : أَنْ يكونَ « نصفَه » بدلاً مِنْ « قليلاً » كما تقدَّمَ ، إلاَّ أنَّك تجعلُ القليلَ الثاني رُبْعَ الليلِ . وقد أوضح الزمخشريُّ هذا أيضاً فقال : « ويجوز إذا أَبْدَلْتَ » نصفَه « مِنْ » قليلاً « وفَسَّرْتَه به أَنْ تجعلَ » قليلاً « الثاني بمعنى نصفِ النصفِ ، بمعنى الربع ، كأنه قيل : أو انقص منه قليلاً نصفَه ، وتجعلَ المزيدَ على هذا القليل أعني الربعَ نصفَ الربع ، كأنه قيل : أو زِدْ عليه قليلاً نصفَه . ويجوزُ أَنْ تجعلَ الزيادةَ لكونِها مُطْلَقَةً تتمَّةَ الثلثِ فيكون تخييراً بين النصفِ والثلثِ والرُّبُع » انتهى . وهذه الأوجهُ التي حَكَيْتُها عن أبي القاسم مِمَّا يَشْهدُ له باتِّساعِ عِلْمِه في كتاب الله . ولَمَّا اتسَعَتْ عبارتُه على الشيخ قال : « وما أوسعَ خيالَ هذا الرجلِ!! فإنه يُجَوِّزُ ما يَقْرُبُ وما يَبْعُدُ » . قلت : وما ضَرَّ الشيخَ لو قال : وما أوسعَ عِلْمَ هذا الرجلِ!!.
الخامس : أَنْ يكونَ « إلاَّ قليلاً » استثناءً مِنْ القيامِ ، فتجعلَ الليلَ اسم جنسٍ ثم قال : « إلاَّ قليلاً » أي : إلاَّ اللياليَ التي تترُكُ قيامَها عند العُذْرِ البيِّن ونحوِه : وهذا النَّظر يَحْسُنُ مع القولِ بالنَّدْبِ ، قاله ابنُ عطية ، احتمالاً مِنْ عندِه . وفي عبارته : « التي تُخِلُّ بقيامِها » فأَبْدَلْتُها : « التي تَتْرُكُ قيامَها » . وفي الجملة فهذا خلافُ الظاهرِ ، وتأويلٌ بعيدٌ.
السادس : قال الأخفش : « إنَّ الأصل : قُم الليلَ إلاَّ قليلاً أو نصفَه ، قال : » كقولك : أَعْطِه درهماً درهَمْين ثلاثةً «.
أي : أو درهمَيْن أو ثلاثةً « . وهذا ضعيفٌ جداً؛ لأن فيه حَذْفَ حرفِ العطفِ ، وهو ممنوعٌ لم يَرِدْ منه إلاَّ شَيْءٌ شاذٌّ يمكن تأويلُه كقولِهم : » أكلْتُ لحماً سَمَكاً تَمْراً « . وقول الآخر :
4364 كيف أَصْبَحْتَ كيف أَمْسَيْتَ مِمَّا . . . يَزْرَعُ الوُدَّ في فؤادِ الكريم
أي : لحماً وسمكاً وتمراً ، وكذا كيف أصبَحْتَ وكيف أمسَيْتَ . وقد خَرَّجَ الناس هذا على بَدَلِ البَداء.
السابع : قال التبريزيُّ : » الأمرُ بالقيام والتخييرُ في الزيادةِ والنقصان ، وقعَ على الثلثَيْن مِنْ آخرِ الليلِ؛ لأنَّ الثلثَ الأولَ وقتُ العَتَمَةِ ، والاستثناءُ واردٌ على المأمورِ به ، فكأنه قال : قُمْ ثُلُثي الليلِ إلاَّ قليلاً ، أي : ما دونَ نصفِه ، أو زِدْ عليه ، أي : على الثلثَيْنِ ، فكان التخيير في الزيادةِ والنقصانِ واقعاً على الثلثَيْن « وهو كلامٌ غريبٌ لا يَظْهَرُ من هذا التركيبِ.
الثامن : أنَّ » نصفَه « منصوبٌ على إضمارِ فِعْلٍ/ ، أي : قُمْ نصفَه ، حكاه مكيٌّ عن غيرِه ، فإنَّه قال : » نصفَه بدلٌ من « الليل » وقيل : انتصبَ على إضمارِ : قُمْ نصفَه « . قلت : وهذا في التحقيقِ هو وجهُ البدلِ الذي ذكرَه أولاً؛ لأنَّ البدلَ على نيةِ تَكْرارِ العاملِ.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5/239)


بينْه تبييناً ، والتبيين لا يتم بأن يعجل في القرآن ، إنما يتم بأن تبين
جميع الحروف وتوفي حَقَها في الإشباع.
* * *
قوله - عزَّ وجلَّ - : (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5)
جاء في التفسير أنه يثقل العمل به ، لأن الحلال والحرام والصلاةَ
والصيَامَ وجميع ما أمر اللَّه به أن يعمل ، ونهى عنه ، لا يؤديه أحد إلا بتكلف
ما يثقل عليه.
ويجوز على مذهب أهل اللغة أن يكون معناه أنه قول له وَزْن في صِحتِه
وبيانه ونفعه ، كما تقول : هذا كلام رَصِينٌ ، وهذا قول له وَزْن ، إذا كنت
تستجيدُه وتعلم أنه قد وقع موقع الحكمة والبيانِ.
* * *
قوله عزَّ وجلَّ :(إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6)
(وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا)
وتقرأ : (وِطْاءً وَأَقْوَمُ قِيلًا).
(نَاشِئَةَ اللَّيْلِ) ساعات الليل كلها ، كلما نَشَأ منه ، أي كل مأ حدث منه
فهو ناشئة ، ومعنى هي أَشَدُّ وَطْئًا أي أشد مواطأة لتقلب السمع.
ومَنْ قَرَأَ (وَطْئًا) - بفتح الواو - فمعناه هي أبلغ في القيامِ وأبين في القول ، ويجوز أن يكون أشد وطأ أغلظ على الإنسانِ من القيام بالنهار ، لأن الليل جُعِلَ لِيُسْكنَ فيه.
وقيل أشد وَطئًا أي أبلغ في الثواب ، لأن كل مجتهد فثوابه عَلَى قَدْرِ اجتهاده.
* * *
قوله : (إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7)
معناه فراغاً طويلاً ومتصرفاً طويلاً.
* * *
(وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8)
أي إن فاتك شيء من الليل فلك في النهار فراغ .

(5/240)


وقرئت (سَبْخاً) بالخاء معجمة ، والقراءة بالحاء غيرمعجمة ، ومعنى
(سبخاً) صحيح في اللغة ، يقال للقطعة من القطن سبخة ، ويقال سبخت
القطن بمعنى نفشته ، ومعنى نَفشتُه وسَعتُه ، فالمعنى على ذلك أن لك في
النهار توسُّعاً طويلا ، وَمَعْناه قريب من معنى السبح (1).
(وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا)
المعنى واذكر اسم ربك بالنهار ، ومعنى (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ) انقَطِعِ إليه في العِبَادَةِ
ومن هذا قيل لمريم عليها السلام البتول لأنها انقطعت إلى اللَه جل ثناؤه في
العبادة ، وكذلك صدقة بتلة منقطعة من مال المصدق وخارجة إلى سُبُل اللَّه.
والأصل في المصدر في تبتل تَبتَّلْتُ تَبْتِيلًا ، وبَتلْتُ تبتيلًا ، فتبتيلاً محمول
على معنى تَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا.
* * *
قوله : (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9)
أي اتخذه كفيلاً بما وعدك.
* * *
وقوله : (وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10)
هذا يدل - واللَّه أعلم - قبل أن يؤمر المسلمون بالقتال.
* * *
(وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11)
ومثله : (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11).
فإن قال قائل ما مجاز ذَرْني ؟ واللَّه - عزَّ وجلَّ - يفعل ما يشاء ، لا يحول
بينه وبينٍ إرادته حائل ؟
فالجواب في ذلك أن العرب إذا أرادت أن تَأْمُرَ الإنسان بأَن له همة بأمْرٍ أو بإنْسَانٍ تقول : دعني وزيداً ، ليس أنه حال بينه وبَيْنَ
زَيدٍ أَحَدٌ ، ولكن تأويله لا تَهْتَمَّ بزيدٍ فإني أكفيكه.
* * *
وقوله : (إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12)
الأنكال واحدها نِكْل.
وجاء في التفسير أنه ههنا قُيُودٌ مِنْ نَارٍ.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { سَبْحَاً } : العامَّةُ على الحاء المهملة وهو مصدرُ سَبَحَ ، وهو استعارةٌ ، استعارَ للتصرُّفِ في الحوائجِ السِّباحةَ في الماءِ ، وهي البُعْدُ فيه . وقرأ يحيى بن يعمر وعكرمة وابنُ أبي عبلة سَبْخاً « بالخاء المعجمةِ . واختلفوا في تفسيرِها ، فقال الزمخشري : » استعارةً مِنْ سَبْخِ الصُّوفِ : وهو نَفْشُه ونَشْرُ أجزائِه لانتشارِ الهَمِّ وتفرُّقِ القلبِ بالشواغل . وقيل : التَّسبيخُ : التخفيفُ ، حكى الأصمعيُّ : سَبَخَ الله عَنَك الحُمَّى ، أي : خَفَّفَها عنك . قال الشاعر :
4366 فَسَبِّخْ عليكَ الهَمَّ واعلمْ بأنَّه . . . إذا قَدَّرَ الرحمنُ شيئاً فكائِنُ
أي : خَفِّفَ . ومنه « لا تُسَبِّخي بدُعائِك » ، أي : لا تُخَفِّفي . وقيل : التَّسْبيخ : المَدُّ . يقال : سَبِّخي قُطْنَكِ ، أي : مُدِّيه ، والسَّبيخة : قطعة من القطن . والجمعُ سبائخُ . قال الأخطل يصف صائِداً وكلاباً :
4367 فأَرْسَلوهُنَّ يُذْرِيْنَ الترابَ كما . . . يُذْرِيْ سبائخَ قُطْنٍ نَدْفُ أوتارِ
وقال أبو الفضل الرازي : « وقرأ ابن يعمرَ وعكرمة » سَبْخاً « بالخاء معجمةَ وقالا : معناه نَوْماً ، أي : يَنامُ بالنهار ليَسْتعينَ به على قيام الليل . وقد تحتمِلُ هذه القراءةُ غيرَ هذا المعنى ، لكنهما فَسَّراها فلا تَجاوُزَ عنه » . قلت : في هذا نظرٌ؛ لأنهما غايةُ ما في البابِ أنَّهما نقلا هذه القراءةَ ، وظَهَرَ لهما تفسيرُها بما ذكرا ، ولا يَلْزَمُ مِنْ ذلك أنَّه لا يجوزُ غيرُ ما ذَكَرا مِنْ تفسيرِ اللفظة.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5/241)


(وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13)
طعامهم الضريع كما قال عزَّ وجلَّ : (لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6).
وهو الشبْرَقُ ، وهو شوك كالعَوْسَج.
* * *
وقوله : (يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا (14)
(يَوْمَ) منصوب معلق بقوله (إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا) ، أي ينكل [بالكافرين]
ويُعَذَبهم (يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ) ، وترجف تزلزل وتحرك أغلظ حركة.
(وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا).
والكثيب جمعه الكثبان ، وهي القِطَع العظام من الرمل.
ومعنى (مَهِيلًا) سَائِلا قد سيلَ ، وَأَصْل مَهيل مَهْيُول ، يقال تراب مهيل وتراب مهيول أي مَصْبُوب فسَئل ، والأكثر مهيل ، وإنما حذفت الواو لأن الياء تحذف منها الضمة في مَهْيُول فتسكن هي والواو وتحذف الواو لالتقاء السَّاكنين وقد شرحنا هذا في مثلَ هذا الموضع أكثر من هذا الشرح ، واختصرنا على ما سلف لاختلاف النحويين فيه ، وأنه يطولُ شرحُه في هذا الكتاب.
* * *
وقونه : (فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (16)
الوبيل الثقيل الغليظ جدًّا ، ومن هذا قيل للمطر الغليظ العظيم وابل.
* * *
وقوله : (فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17)
المعنى فكيف تتقون يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا إن كفرتم ، أي بأي شيء
[تتحصَّنون] من عذاب اللَّه في يومٍ مِنْ هَولِه يشيب فيه الصَّغَير من غير كِبَر.
وتذهل فيه كل مرضعة عمَّا أَرْضَعَت ، وَتَرَى النَّاسَ سَكرَى وَما همْ بِسَكرَى
ولَكِنَ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ، ثم وصف مِن هَوْل ذلك اليَوْمِ أن قَالَ :
* * *
(السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (18)

(5/242)


أي السماء تنشق به كما قال : (إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ).
وقيل في التفسير : (السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ) أي السماء مثقلة باللَّهِ عزَّ وجلَّ (1).
* * *
وقوله : (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)
(إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ).
فمن قرأ (نِصْفَهُ) بالنًصْبِ (وَثُلُثَهُ) فهو بيِّنٌ حَسَن.
وهو تفسير مقدار قيامه لأنه لمَّا قال (أدنى من ثلثي الليل) كان نصفه مبيناً لذلك الأدْنَى ، وَمن قرأ و (نِصْفِهُ) و (ثُلُثِهُ) ، فالمعنى وَتَقُوم أدنى من نصفه وَمِنْ ثُلُثِه.
* * *
وقوله : (مُنْفَطِرٌ بِهِ).
ولم يقل منفطرة ، ومنفطرة جائز وعليه جاء : (إذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ).
ولا يجوز أن يقرأ في هذا الموضع السماء منفطرة ؛ لخلاف المصحف.
والتذكير على ضربين :
أحدهما على معنى السماء معناه السقف ، قال اللَّه عزَّ وجلَّ :
(وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا).
والوجه الثاني على قوله : امرأة مرضع ، أي عَلَى جِهَةِ النَسَبِ.
المعنى السماء ذات انفطار ، كما تقول امرأة مرضع أَيْ ذات رَضَاعٍ.
* * *
وقوله : (أُولِي النَّعْمَةِ).
النعمة التنعم ، والنِّعْمَةِ اليَدُ الجميلة عِنْدَ الِإنسان والصنع من اللَّه
تعالى ولو قرئت أولي النِّعْمَةِ لكان وَجْهاً ، لأن المنعم عليهم يكونون مؤمنين
وغير مؤمنين ، قال اللَّه جل ثناؤه : (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ).
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ } : صفةٌ أخرى ، أي : مُتَشَقِّقة بسبب هَوْلِه : وإنما لم تُؤَنَّثِ الصفةُ لأحدِ وجوهٍ منها : تأويلُها بمعنى السَّقْفِ . ومنها : أنها على النَّسَبِ أي : ذات انفطارٍ نحو : مُرْضِعٍ وحائضٍ . ومنها : أنها تُذَكَّر وتؤنَّثُ : أنشد الفراء :
4376 ولو رَفَعَ السَّماء إليه قوماً . . . لَحِقْنا بالسَّماءِ وبالسَّحابِ
ومنها : أنَّها اسمُ جنسٍ يُفْرَّقُ بينه وبين واحدِه بالتاءِ فيقال : سَماءة وقد تقدَّم أنَّ في اسم/ الجنسِ والتذكيرَ والتأنيثَ؛ ولهذا قال الفارسي : « هو كقولِه : { جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ } [ القمر : 7 ] { الشجر الأخضر } [ يس : 80 ] و { أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ } [ القمر : 20 ] يعني فجاء على أحد الجائزَيْن . والباءُ فيه سببيَّةٌ كما تقدَّم . وجَوَّز الزمخشريُّ أَنْ تكونَ للاستعانةِ ، فإنه قال : » والباءُ في « به » مِثْلُها في قولِك : « فَطَرْتُ العُوْدَ بالقَدُومِ فانْفَطر به ».
قوله : { وَعْدُهُ } يجوزُ أَنْ يكونَ الضميرُ لله تعالى ، وإنْ لم يَجْرِ له ذِكْرٌ للعِلْمِ به ، فيكونُ المصدرُ مضافاً لفاعلِه . ويجوزُ أَنْ يكونَ لليومِ ، فيكونَ مضافاً لمفعولِه . والفاعلُ وهو اللَّهُ تعالى مُقَدَّرٌ.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5/243)


وقوله - جَل وَعَزَّ - : (وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا).
معناه خيراً لكم من متاع الدنيا.
و (خَيْرًا) منصوب مفعول ثانٍ لـ (تَجِدُوهُ)
ودخلت " هو " فصلاً.
وقد فسرنا ذلك فيما سلف من الكتاب ، ولو كان في غير القرآن لجاز تجدوه هو خير . فكنت ترفع بـ هُوَ ، ولكن النصب أجود في العربية.
ولا يجوز في القرآن غيره .

(5/244)


سُورَةُ الْمُدَّثِّر
( مَكِّيَّة )
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله عزَّ وجلَّ : (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1)
القراءة بتشديد ، والأصلُ المُتَدَثِّر ، والعلة فيها كالعلَّةِ فِي المُتَزمِّل.
وتفسيرها كتفسير المزَمِّل . وقد رويت المُتَدَثر - بالتاء -
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3)
أي صفه بالتعظيم وأنه أكَبرَ ، ودخلت الفاء على معنى جواب الجزاء.
المعنى قم فأنذر أي قم فكبر رَبَّكَ.
(وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)
مثلها ، وتأويل (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) أي لا تكن غادِراً.
يقال للغادر دَنَس الثياب ، ويكون (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) أي نَفْسَك فطهر.
وقيل (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) أي ثيابك فقصر لأن تَقْصِيرَ الثَوبِ أَبعدُ مِنَ النجاسة وأنه إذا انجر على الأرض لم يؤمن أن يُصِيبَه ما ينجسه.
* * *
(وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5)
(وَالرِّجْزَ)
بكسر الراء ، وقرئت بضم الراء ، ومعناهما واحد.
وَتَأْوِيلُهما اهجر عبادة الأوثان.
والرجز في اللغة العذاب ، قال اللَّه تعالى : (وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ).
فالتأويل على هذا ما يؤدي إلى عذاب الله فاهجره.
* * *
(وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6)
أي لا تعط شيئاً مقَدِّراً أن تأخذ بدله ما هو أكثر منه ، وتستكثر حال

(5/245)


مُتَوَقعَة وهذا للنبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة وليس على الإنسان إثم أن يهدي هديَّةً يرجو بها ما هو أكثر منها ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - أدَّبَّه الله بأشرف الآداب وأجل الأخلاق.
* * *
وقوله : (فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9)
الناقور الصُّورُ ، وقيل في التفسير إنه يعني به النفخة الأولى.
و (يَوْمٌ عَسِيرٌ) يرتفع بقوله : (فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ).
المعنى فذلك يَوْمٌ عَسِيرٌ يوم ينفخ في الصور
و " يَوْمَئِذٍ : يجوز أَنْ يكونَ رَفْعاً ، ويجوز أن يكون نَصْباً.
فإذا كان رفعاً فإنما بني على الفتح لإضافته إلى (إذ) لأن (إذ) غير متمكنة ، وإذا كان نصباً فهو على معنى فذلك يوم عَسِيرٌ في يوم ينفخ في الصور.
* * *
وقوله : (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11)
قد فسرنا معنى (ذَرْنِي) في المزمل.
و (وَحِيدًا) مَنْصُوبٌ على الحال ، وهو على وجهين :
أحدهما أن يكون وحيداً من صفة اللَّه - عزَّ وجلَّ - المعنى ذَرْنِي
ومن خلقته وَحْدي لم يشركني في خلقه أحَدٌ ، وَيكونُ (وَحِيدًا) من صفة
المخلوق ، ويكون المعنى ، ذرني ومن خلقته وحده لا مالَ له ولا ولَد.
* * *
(وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13)
تقديره مال غير منقطع عنه ، وقيل ألف دينار ، وبنين شهُوداً ، أي شهودٌ
معه لا يحتاجون إلى أن يتصرفوا ويغيبوا عنه.
وهذا قيل يعنى به الوليد بن المُغِيرَة ، كان له بنون عشرة وكان مُوسِراً
* * *
وقوله : (سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17)
أي سأحمله على مَشَقَّةٍ مِنَ العَذَاب.
* * *
قوله : (إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19)
معنى - (قُتِلَ) ههنا لُعِنَ ، ومثله : (قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10).

(5/246)


وكان الوليد بن المغيرة قال لرؤساء أهل مكة ، قد رأيتم هذا الرجل - يعني
النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلمتم ما فشا من أمره ، فإن سألكم الناس عنه ما أنتم قائلون.
قالوا نقول : هو مجنون ، قال : إذن يخاطبوه فيعلموا أنه غير مجنون.
قالوا فنقول : إنه شاعر ، قال : هم العرب ، يعلمون الشعر ويعْلَمُونَ أَنَ ما أتى به لَيْسَ بِشِعْرٍ.
قالوا : فنقول إنه كاهن ، قال الكهنة لا تقول إنه يكون كذا وكذا إن
شاء اللَّه وهو يقول إن شاء الله ، فقالوا قَدْ صَبَأَ الوليد.
وجاء أبو جَهْل ابن أخيه ، فقالوا : إن القوم يقولون إنك قد صبوت.
وقد عَزَمُوا على أن يجمعوا لك مالًا فيكون عِوَضاً مِما تقدر أنْ
تَأخُذَ من أصحاب محمد ، فقال : واللَّه ما يَشْبَعُونَ ، فكيف أقْدِرُ أن
آخذَ منهم مَالًا وإني لَمِنْ أَيْسَر الناس ، ومر به جماعة فذكروا له ما أتى به
النبي - صلى الله عليه وسلم - ففكر وعَبَس وجهه وَبَسَر ، أي نظر بكراهة شَدِيدَةٍ.
فقال : ما هذا الذي أتى به محمد إلَّا سِحرٌ يأثره عن مسَيْلمة وعن أهل بابل.
* * *
(إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25)
أي ما هذا إلا قول البشر.
* * *
(سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26)
(سَقَر) لا ينصرف لأنها معرفة ، وهي مؤنثة ، وسَقَر اسم من أسماء
جهنم.
ثم أعلم اللَّه تعالى شأن سقر في العذاب فقال :
* * *
(وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27)
تأويله وما أعلمك أي شيء سقر فقال :
(لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29)
البشر جمع بَشَرةٍ ، أي تحرق الجلْدَ حَتَّى يَسْودَّ.
* * *
(عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30) (1)
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ } : هذه الجملةُ فيها وجهان أعني : الحاليةَ والاستئنافَ وفي هذه الكلمةِ قراءاتٌ شاذةٌ ، وتوجيهاتٌ تُشاكِلُها . وقرأ أبو جعفر وطلحةُ « تسعَة عْشَر » بسكون العين مِنْ « عَشر » تخفيفاً لتوالي خمسِ حركاتٍ مِنْ جنسٍ واحدٍ/ وهذه كقراءةِ { أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً } [ يوسف : 4 ] ، وقد تقدَّمَتْ.
وقرأ أنسٌ وابنُ عباس « تسعةُ » بضمِّ التاء ، « عَشَرَ » بالفتح ، وهذه حركةُ بناءٍ ، ولا يجوزُ أَنْ يُتَوَهَّمَ كونُها إعراباً؛ إذا لو كانَتْ للإِعرابِ لَجُعِلَتْ في الاسمِ الأخيرِ لِتَنَزُّلِ الكلمتَيْن منزلةَ الكلمةِ الواحدةِ ، وإنما عُدِل إلى الضمة كراهةَ توالي خمسِ حركاتٍ . وعن المهدويِّ . « مَنْ قرأ » تسعةُ عَشَر « فكأنه من التداخُلِ كأنه أراد العطفَ فتركَ التركيبَ ورَفَعَ هاءَ التأنيث ، ثم راجَعَ البناءَ وأسكنَ » انتهى . فَجَعَلَ الحركةَ للإِعرابِ . ويعني بقولِه « أسكنَ » ، أي : أسكنَ راءَ « عشر » فإنه هذ القراءة كذلك.
وعن أنس أيضاً « تسعةُ أَعْشُرَ » بضم « تسعةُ » وأَعْشُرَ بهمزةٍ مفتوحةٍ ثم عينٍ ساكنةٍ ثم شين مضمومة . وفيها وجهان ، قال أبو الفضل : « يجوزُ أَنْ يكونَ جَمعَ العَشَرةَ على أَعْشُر ثم أجراه مُجْرى تسعة عشر » . وقال الزمخشري : « جمع عَشير ، مثل يَمين وأَيْمُن . وعن أنسٍ أيضاً » تسعَةُ وَعْشُرَ « بضم التاءِ وسكونِ العينِ وضمِّ الشين وواوٍ مفتوحةٍ بدلَ الهمزةِ . وتخريجُها كتخريجِ ما قبلَها ، إلاَّ أنَّه قَلَبَ الهمزةَ واواً مبالغةً في التخفيفِ ، والضمةُ كما تقدَّم للبناءِ لا للإِعرابِ . ونقل المهدويُّ أنه قُرِىءَ » تسعةُ وَعَشَرْ « قال : » فجاء به على الأصلِ قبلَ التركِيبِ وعَطَفَ « عشراً على تسعة » وحَذَفَ التنوينَ لكثرةِ الاستعمالِ ، وسَكَّنَ الراءَ مِنْ عشر على نيةِ الوقفِ.
وقرأ سليمان بن قتة بضمِّ التاءِ ، وهمزةٍ مفتوحةٍ ، وسكونِ العين ، وضم الشين وجرِّ الراءِ مِنْ أَعْشُرٍ ، والضمةُ على هذا ضمةُ إعرابٍ ، لأنه أضاف الاسمَ لِما بعده ، فأعربَهما إعرابَ المتضايفَيْنِ ، وهي لغةٌ لبعضِ العربِ يَفُك‍ُّون تركيبَ الأعدادِ ويُعْرِبُونهما كالمتضايفَيْنِ كقول الراجز :
4393 كُلِّفَ مِنْ عَنائِه وشِقْوَتِهْ . . . بنتَ ثماني عَشْرَةٍ مِنْ حَجَّتِهْ
قال أبو الفضل : « ويُخْبَرُ على هذه القراةِ وهي قراءةُ مَنْ قرأ » أَعْشُر « مبنياً أو معرباً من حيث هو جمعٌ أنَّ الملائكةَ الذين هم على سَقَرَ تسعون مَلَكاً. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5/247)


أي على سقر تِسْعَةَ عَشَرَ مَلَكاً ، وَوَصَفَهُم اللَّه في موضع آخر فقال :
(عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6).
الذي حكاه البَصْرِيون تسعَةَ عَشر بفتح العين في عَشَر.
وقد قرئت بتسكين العَيْنِ ، والقراءة بفتحها ، وإنما أسكنها من أسكنها لكثرة الحركات ، وذلك أَنَهمَا اسمَانِ جُعِلاَ اسماً وَاحِداً ، ولذلك بُنِيَا على الفتح ، وقرأ بَعْضهم تسعَةُ عَشَر فأعربت على الأصل ، وذلك قليل في النحو ، والأجود تِسعةَ عَشَر على البناء على الفتح ، وفيها وجة آخر
" تِسْعَة أعْشرٍ " ، وهي شاذَّة ، كأنَّها على
جمع فعيل وأَفْغل ، مثل يَمِين وأَيْمُن (1).
* * *
وقوله تعالى : (وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31)
(وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا).
أَيْ مِحْنَةً ، لأن بعضهم قال بعضنا يكفي هؤلاء.
وقوله : (لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ).
أي يعلمون أن ما أَتى به النبي عليه السلام موَافِقَاً لما في كتبهم.
(وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا).
لأنهم كلَّمَا صَدقوا بما يَأتي في كتاب اللَّه عزَّ وجلَّ زاد إيمانهم.
(وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ)
أيْ لَا يَشكونَ.
وقوله : (وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ).
جاء في التفسير أن النار في الدنيا تذكر بالنار في الآخرة.
* * *
وقوله : (وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33)
ويقرأ (إِذْ دَبَرَ) ، وكلاهما جَيِّدٌ في العربية.
يقال : دبر الليل وَأدْبَرَ ، وكذلك قَبَل الليل وَأقْبَلَ.
وقد قرئت أيضاً (إِذَا أَدْبَرَ) (وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ).
بإثبات الألف فيهما.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { إِذْ أَدْبَرَ } : قرأ نافعٌ وحمزةُ وحفصٌ « إذ » ظرفاً لِما مضى مِنْ الزمانِ ، « أَدْبَرَ » بزنةِ أَكْرَمَ . والباقون « إذا » ظرفاً لِما يُسْتقبل ، « دَبَرَ » بزنةِ ضَرَبَ ، والرسمُ محتملٌ لكلتَيْهما ، فالصورةُ الخطيَّةُ لا تختلفُ . واختار أبو عبيد قراءةَ « إذا » قال : لأنَّ بعدَه « إذا أَسْفَرَ » قال : « وكذلك هي في حرفِ عبدِ الله » قلت : يعني أنَّه مكتوبٌ بألفَيْنِ بعد الذالِ أحدُهما ألفُ « إذا » والأخرى همزةُ « أَدْبَرَ » . واختار ابنُ عباس أيضاً « إذا » ويُحْكى أنَّه لَمَّا سَمِعَ « أَدْبَرَ » قال : « إنما يُدْبِر ظهرُ البعير ».
واختلفوا : هل دَبَر وأَدْبَر ، بمعنى أم لا؟ فقيل : هما بمعنىً واحدٍ/ يقال : دَبَر الليلُ والنهارُ وأَدْبَرَ ، وقَبَلَ وأَقْبل . ومنه قولُهم « أمسٌ الدابرُ » فهذا مِنْ دَبَرَ ، وأمسٌ المُدْبر قال :
4394 . . . . . . . . . . .
ذهبوا كأمس الدابِر
وأمَّا أَدْبَرَ الراكبُ وأَقْبل فرباعيٌّ لا غيرُ . هذا قولُ الفراء والزجاج . وقال يونس : « دَبَرَ انقضى ، وأَدْبَرَ تَوَلَّى ففرَّق بينهما . وقال الزمخشري : » ودَبَرَ بمعنى أَدْبَرَ كقَبَل بمعنى أَقْبَلَ . قيل : ومنه صاروا كأمسٍ الدابرِ ، وقيل : هو من دَبَرَ الليلُ النهارَ إذا خَلَفَه «.
وقرأ العامَّةُ » أسْفَرَ « بالألف ، وعيسى بنُ الفضل وابن السَّمَيْفَع » سَفَرَ « ثلاثياً » . والمعنى : طَرَحَ الظلمةَ عن وجهِه ، على وجهِ الاستعارةِ . اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5/248)


وقوله : (إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36)
هذه الهاء كناية عَنِ النَّارِ ، أَي إنَّها لكبيرة في حَالِ الِإنذار.
وَنَصْب (نَذِيرًا) على الحال ، وذَكَّر (نَذِيرًا) لأنَّ مَعْنَاهُ معنى العَذَابِ.
ويجوز أن يكون التذكير على قولهم امرأة طاهر وطالق ، أي ذات طلاقٍ وكذلك نذير ذات إنْذَارٍ.
ويجوز أَنْ يَكُونَ (نَذِيرًا) مَنْصُوباً مُعَلَّقا بأولِ السورَةِ على معنى قم نذيراً
للبشرِ.
* * *
وقوله : (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37)
أي أن يتقدم فيما أمر به أو يتأخر ، فقد أنذرتم.
* * *
قوله عزَّ وجلَّ : (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39)
قيل أصحابُ اليمين الأطْفَالُ لأنهم لا يسألون ، تفضل اللَّه عليهم بأن أعطاهم
الجنَّةَ ، وكل نفْس رَهِينة بِعَمَلِهَا إما خَلَّصَهَا وإما أوبَقَها.
والتخليص مع عملها بتفضل اللَّه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45)
أي نَتًبعُ الغاوِينَ.
* * *
وقوله : (فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48)
يعني الكفار وفي هذا دليل أن المؤمنين تنفعهم شفاعة بعضهم لِبَعْض.
* * *
وقوله : (فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49)
منصوب على الحال.
* * *
(كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50)
وقرئت مُسْتَنْفَرَة.
قال الشاعر :

(5/249)


أمْسِكْ حِمَارَك إنَّه مُسْتَنْفِرُ . . . في إثْرِ أَحْمِرَةٍ عَمَدْنَ لِغُرَّبِ
(1)
* * *
وقوله : (فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51)
القسورةُ الأسَدُ ، وقيل أيْضاً القَسورَةُ الرَّمَاة الذين يَتَصَيدُونَها.
* * *
وقوله : (بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (52)
قيل كانوا يقولون : كان مَن أذنب من بني إسْرَائِيلَ يجد ذنبه مكتوباً من
غَدٍ عَلَى بَابِه فما بالنا لا نكون كذلك.
وَقَدْ جَاءَ في القرآنِ تفْسِيرُ طَلَبِهِمْ في سورة بني إسرائيل في قوله :
(وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ).
* * *
وقوله : (هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)
أَي هو أهل أَنْ يُتقَى عِقَابُه ، وأهل أَنْ يُعمل بما يؤدي إلى مغفرته.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { كَأَنَّهُمْ } هذه الجملةُ يجوزُ أَنْ تكونَ حالاً من الضمير في الجارِّ ، وتكون بدلاً مِنْ « مُعْرِضِيْنَ » قاله أبو البقاء ، يعني أنَّها كالمشتملة عيلها ، وأنْ تكونَ حالاً من الضميرِ في « مُعْرِضِين » ، فتكونَ حالاً متداخلةً.
وقرأ العامَّةُ « حُمُرٌ » بضمِّ الميم ، والأعمش بإسكانِها . وقرأ نافعٌ وابنُ عامر بفتح الفاء مِنْ « مُسْتَنْفَرة » على أنه اسمُ مفعولٍ ، أي : نَفَّرها القُنَّاص . والباقون بالكسرِ بمعنى : نافِرة : يُقال : استنفر ونَفَر بمعنى نحو : عَجِب واستعجب ، وسخِر واسْتَسْخر . قال الشاعر :
4398 أَمْسِكْ حِمارَكَ إنَّه مُسْتَنْفِرُ . . . في إثْرِ أَحْمِرَةٍ عَمَدْنَ لغُرَّبِ
وقال الزمخشري : « كأنها تطلُبُ النِّفار مِنْ نفوسِها في جَمْعِها له وحَمْلِها عليه » انتهى . فأبقى السينَ على بابِها من الطَّلَبِ ، وهو معنى حسن.
ورجَّحَ بعضُهم الكسرَ لقولِه « فَرَّتْ » للتناسُبِ . وحكى محمدُ ابنُ سَلاَّم قال : « سألتُ أبا سَوَّار الغَنَويَّ وكان عربياً فصيحاً ، فقلت : كأنهم/ حُمُرٌ ماذا؟ فقال : مُسْتَنْفَرَة طَرَدَها قَسْورة . فقلت : إنما هو { فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ } فقال : أفرَّتْ؟ قلت : نعم . قال : » فمُسْتَنْفِرة إذن « انتهى . يعني أنها مع قولِه » طَرَدها « تُناسِبُ الفتحَ لأنَّها اسمُ مفعولٍ فلما أُخْبر بأنَّ التلاوةَ { فَرَّتْ مِن قسْورة } رَجَعَ إلى الكسرِ للتناسُبِ ، إلاَّ أنَ بمثلِ هذه الحكاية لا تُرَدُّ القراءةُ المتواترةُ.
والقَسْوَرَةُ : قيل : الصائِدُ . وقيل : ظلمةُ الليل . وقيل : الأسد ، ومنه قولُ الشاعر :
4399 مُضَمَّرٌ تَحْذَرُه الأبطالُ . . . كأنه القَسْوَرَةُ الرِّئْبالُ
أي : الأسد ، إلاَّ إنَّ ابن عباس أنكرَه ، وقال : لا أعرفُ القَسْوَرَةَ : الأسدَ في لغة العرب ، وإنما القَسْوَرَةُ : عَصَبُ الرجال ، وأنشد :
4400 يا بنتُ ، كثوني خَيْرَةً لخَيِّرَهْ . . . أخوالُها الجِنُّ وأهلُ القَسْوَرَهْ
وقيل : هم الرُّماةُ ، وأنشدوا للبيد بن ربيعة :
4401 إذا ما هَتَفْنا هَتْفَةً في نَدِيِّنا . . . أتانا الرجالُ العانِدون القساوِرُ
والجملةُ مِنْ قولِه » فَرَّتْ « يجوزُ أَنْ تكونَ صفةً ل » حُمُر « مثلَ » مُسْتَنْفرة « ، وأنْ تكونَ حالاً ، قاله أبو البقاء.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5/250)


سُورَةُ القِيَامَةِ
( مَكِّيَّة )
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله عزَّ وجلَّ : (لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2)
لا اختلاف بين الناس أن معناه أقسِم بيوم القيامَةِ.
واختلفوا في تفسير " لاَ " ، فقال بعضهم " لا " لَغوٌ وإن كانت في أول السورة ، لأن القرآن كله كالسورَةِ الوَاحِدَةِ ، لأنه متَصِلٌ بَعْضه بِبَعْضٍ فجعلت " لا " ههنا بمنزلتها في قوله : (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ).
وقال بعض النحوبين : " لاَ " رَد لِكَلاَمِهِمْ.
كَأنهم أنكروا البعث فقيل لا ليس الأمر كما ذَكَرْتُمْ أقسم بيوم القيامة
وقوله : (إنكم مَبْعوثونَ) دَلَّ على الجواب (1).
* * *
قوله : (بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4)
المعنى : بلى لَنَجْمَعَنكمْ قَادِرِين ، المعنى أقسم بيوم القيامة والنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ لَنَجْمَعنَّها قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ.
وجاء في التفسير بلى نقدر على أن نجعله كخفِّ البَعِيرِ . والذي هو
أشكل بجمع العِظَامِ بلى نَجْمَعها قَادِرِين ، عَلَى تَسْوِيَةِ بَنَانِه على ما كانت ، وإن قَلَّ عِظَامهَا وَصَغرت وبلغ مِنها البِلَى.
والنفس اللوامة تفسيرها أن كل نفسٍ تلوم صاحبها في الآخِرَةِ إن كان
عَمِلَ شرًّا لَامَتْهُ نفسه وأن كان عمل خَيراً لَامَتْهُ على ترك الاستكثار منه.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { لاَ أُقْسِمُ } : العامَّةُ على « لا » النافيةِ . واختلفوا حينئذٍ فيها على أوجهٍ ، أحدُها : أنها نافيةٌ لكلامٍ متقدِّمٍ ، كأنَّ الكفارَ ذَكروا شيئاً . فقيل لهم : لا ، ثم ابتدأ اللَّهُ تعالى قَسَماً . الثاني : أنها مزيدةٌ . قال الزمخشري : « وقالوا إنها مزيدةٌ ، مِثْلُها في : { لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب } [ الحديد : 29 ] وفي قولِه :
4402 في بِئْرِ لاحُورٍ سَرَى وما شَعَرْ . . . واعترضوا عليه : بأنها إنما تُزاد في وسط الكلام لا في أولِه . وأجابوا : بأنَّ القرآنَ في حُكْمِ سورةٍ واحدةٍ متصلٍ بعضُه ببعضٍ . والاعتراضُ صحيحٌ؛ لأنها لم تقَعْ مزيدةً إلاَّ في وسط الكلامِ ، لكن الجوابَ غيرُ سديدٍ . ألا ترى إلى امرىء القيسِ كيف زادَها في مستهلِّ قصيدتِه؟ قلت : يعني قولَه :
4403 لا وأبيك ابنةَ العامرِيْ . . . يِ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
كما سيأتي ، وهذا الوجهُ والاعتراضُ عليه والجوابُ نقله مكي وغيرُه . الوجه الثالث : قال الزمخشري : » إدخالُ « » لا « النافيةِ على فعلِ القسمِ مستفيضٌ في كلامِهم وأشعارِهم . قال امرؤ القيس :
لا وأبيك ابنةَ العامرِيْ . . . يِ لا يَدَّعِي القومُ أنِّي أفِرّْ
وقال غُوَيَّةُ بن سُلْميٍّ :
4404 ألا نادَتْ أُمامةُ باحْتمالِ . . . لِتَحْزُنَني فلابِك ما أُبالي
وفائدتُها توكيدُ القسم » ثم قال بعد أَنْ حكى وجهَ الزيادةِ والاعتراضَ والجوابَ كما تقدَّمَ « والوَجهُ أَنْ يُقال : هي للنفي ، والمعنى في ذلك : أنه لا يُقْسِمُ بالشيءِ إلاَّ إعظاماً له يَدُلَّكَ عليه قولُه تعالى : { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النجوم وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ } [ الواقعة : 75-76 ] فكأنه بإدخالِ حرفِ النفي يقول : إنَّ إعظامي له بإقسامي به كلا إعظامٍ ، يعني أنه يَسْتَأْهِلُ فوق ذلك . وقيل : » إنَّ « لا » نفيٌ لكلامٍ وَرَدَ قبل ذلك « . انتهى . فقولُه : » والوجهُ أَنْ يُقال « إلى قولِه : » يعني أنه يستأهِلُ فوق ذلك « تقريرٌ لقولِه : » إدخالُ « لا » النافيةِ على فعلِ/ القسمِ مستفيضٌ « إلى آخره . وحاصلُ كلامِه يَرْجِعُ إلا أَنَّها نافيةٌ ، وأنَّ النفيَ مُتَسَلِّطٌ على فعل القسمِ بالمعنى الذي شَرَحَه ، وليس فيه مَنْعٌ لفظاً ولا معنىً ثم قال : فإن قلتَ : قولُه تعالى : { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ } [ النساء : 65 ] والأبياتُ التي أَنْشَدْتُها المُقْسَمُ عليه فيها منفيٌّ ، فهلا زَعَمْتَ أنَّ » لا « التي قبلَ القسمِ زِيْدَتْ موطئةً للنفيِ بعدَه ومؤكِّدةً له ، وقَدَّرْتَ المقسم عليه المحذوفَ ههنا منفيَّاً ، كقولِك : لا أُقْسم بيومِ القيامةِ لا تُتركون سُدى؟ قلت : لو قَصَروا الأمرَ على النفيِ دونَ الإِثباتِ لكان لهذا القول مَساغٌ ، ولكنه لم يُقْصَرْ . ألا ترى كيف لُقِيَ { لاَ أُقْسِمُ بهذا البلد } [ البلد : 1 ] بقولِه : { لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان } وكذلك قولُه : { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النجوم } [ الواقعة : 75 ] بقوله : { إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ } وهذا من محاسنِ كلامِه فتأمَّلْه . وقد تقدَّم الكلامُ على هذا النحوِ في سورة النساءِ ، وفي آخر الواقعة ، ولكنْ هنا مزيدُ هذه الفوائدِ.
وقرأ قنبل والبزي بخلافٍ عنه « لأُقْسِمُ بيوم » بلامٍ بعدَها همزةٌ دونَ ألفٍ . وفيها أربعةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنها جوابٌ لقسمٍ مقدرٍ ، تقديرُه : واللَّهِ لأُقْسِمُ ، والفعلُ للحالِ؛ فلذلك لم تَأْتِ نونُ التوكيدِ ، وهذا مذهبُ الكوفيين . وأمَّا البصريُّون فلا يُجيزون أَنْ يقعَ فعلُ الحالِ جواباً للقسم ، فإنْ وَرَدَ ما ظاهرُه ذلك جُعل الفعل خبراً لمبتدأ مضمرٍ ، فيعودُ الجوابُ جملةً اسميةً قُدِّرَ أحدُ جزأَيْها ، وهذا عند بعضِهم من ذلك ، التقديرُ واللَّهِ لأنا أُقْسِمُ . الثاني : أنه فعلٌ مستقبلٌ ، وإنما لم يُؤْتَ بنونِ التوكيدِ؛ لأنَّ أفعالَ اللَّهِ حقٌّ وصدقٌ فهي غنية عن التأكيدِ بخلاف أفعالِ غيره . على أنَّ سيبويهِ حكى حَذْفَ النونِ إلاَّ أنَّه قليلٌ ، والكوفيون يُجيزون ذلك مِنْ غير قلةٍ إذ مِنْ مذهبهم جوازُ تعاقُبِ اللامِ والنونِ فمِنْ حَذْفِ اللامِ قولُ الشاعر :
4405 وقتيلِ مَرَّةَ أَثْأَرَنَّ فإنَّه . . . فَرْغٌ وإنَّ أخاكم لم يُثْأَرِ
أي : لأَثْأَرَنَّ . ومِنْ حَذْفِ النونِ وهو نظيرُ الآية قولُه :
4406 لَئِنْ تَكُ قد ضاقَتْ عليكم بيوتُكُمْ . . . لَيَعْلَمُ ربي أنَّ بيتيَ واسعٌ
الثالث : أنها لامُ الابتداءِ ، وليسَتْ بلامِ القسمِ . قال أبو البقاء : « نحو : { وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ } [ النحل : 124 ] والمعروفُ أنَّ لامَ الابتداءِ لا تَدْخُل على المضارع إلاَّ في خبر » إنَّ « نحو : { وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ } وهذه الآيةُ نظيرُ الآيةِ التي في يونس [ الآية : 16 ] { وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ } فإنهما قرآها . بقصر الألف ، والكلامُ فيها قد تقدَّم . ولم يُخْتَلَفْ في قولِه : » ولا أُقْسِم « أنه بألفٍ بعد » لا «؛ لأنه لم يُرْسَمْ إلاَّ كذا ، بخلاف الأولِ فإنه رُسِمَ بدون ألفٍ بعد » لا « ، وكذلك في قولِه : { لاَ أُقْسِمُ بهذا البلد } لم يُختلَفْ فيه أنَّه بألفٍ بعد » لا «.
وجوابُ القسمِ محذوفٌ تقديرُه : لتُبْعَثُنَّ ، دلَّ عليه قولُه : » أيحسَبُ الإِنسانُ « . وقيل : الجوابُ أَيَحْسَبُ . وقيل : هو » بلى قادِرين « ويُرْوَى عن الحسن البصري . وقيل : المعنى على نَفْيِ القسم ، والمعنى : إني لا أُقْسِم على شيء ، ولكن أسألُك : أيحسَبُ الإِنسانُ . وهذه الأقوالُ شاذَّةٌ مُنْكَرةٌ لا تَصِحُّ عن قائليها لخروجِها عن لسانِ العرب ، وإنما ذكرْتُها للتنبيهِ على ضَعْفها كعادتي.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5/251)


وقوله : (بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5)
معناه أَنَه يُسوِّفُ بالتوبة ، وُيقَدِّم الأعمال السيئَةَ.
ويجوز - واللَّه أعلم - أن يكون معناه ليكفرَ بِمَا قُدَّامَهُ . ودليل ذلك قوله : (يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ).
فيفجر أمامه على هذا - واللَّه أعلم - يُكَذِّبُ بما قُدَّامَه مِنَ البَعْثِ.
* * *
وقوله : (فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7)
ويقرأ (بَرَقَ البَصَرُ).
فمن قرأ (بَرِقَ) فمعناه فَزِعَ وَتَحَيَّرَ.
وَمَن قَرأ (بَرَقَ) فهو من بَرَقَ يَبْرُقُ . مِنْ بَرِيق العَيْنَيْنِ.
* * *
وقوله : (وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8)
أي ذَهَبَ ضَوْءُ القَمَرِ.
* * *
(وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9)
أي جمِعَا فِي ذَهَابِ نُورِهما.
* * *
(يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10)
وَيُقْرَأُ (أَيْنَ الْمَفِرُّ) - بكسر الفاء -
فمن فتح فهو بمعنى أين الفِرَارُ.
ومن كسر فعلى معنى أين مكان الفِرار.
والمَفْعَلُ مِن مِثْل جَلَسْتُ بفتح العَيْنِ ، وكذلك المصدر ، تقول : جَلَسْتُ مَجْلَساً - بفتح اللام - بمعنى جُلُوساً.
فإذا قلت جَلَسْتُ مَجْلِساً ، فأنت تريد المكان.
ثم أعلم تعالى أنه لَا حِرْزَ لَهُم ولا مَحِيصَ . فقال :
* * *
(كَلَّا لَا وَزَرَ (11)
الوَزَرُ في كلام العَرَبِ الجَبَلُ الَّذِي يُلجأ إليه : هذا أصله ، وَكُل ما
التجأت إليه وَتَخَلَّصْتَ به فَهُوَ وَزَز.
* * *
وقوله : (بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15)
معناه بل الِإنسان تشهد عليه جوارحه ، قال اللَّه عزَّ وجلَّ :
(يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24).
وقال في موضع آخر

(5/252)


(حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20).
فأَعلم اللَّه أن هذه الجوارح التي يتصرفون بها شواهد عليهم.
* * *
قوله : (وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15)
ولو أدلى بكل حُجةٍ عِنْدَهُ.
وجاء في التفسير المعاذير السُتُور ، وَاحِدُها مِعذار.
* * *
وقوله : (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16)
كان جبريل عليه السلام إذا نزل بالوحي على النبي - صلى الله عليه وسلم - تلاه النبي عليه السلام عليه كراهة أَنْ يَنْفَلِتَ مِنْهُ ، فأَعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أنه لا ينسيه إيَّاهُ وَأَنَّه يجمعه في قلبه فقال :
* * *
(إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17)
أَي إِنَّ عَلَيْنَاأن نُقرِئَكَ فَلَا تَنْسَى ، وعلينا تلاوته عليك.
* * *
(فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18)
أي لا تعجل بالتلاوة إلى أن تقرأ عليك مَا يُنْزَلُ فِي وَقْتِهِ.
* * *
(ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19)
أي علينا أن ننزِّله قرآناً عربياً غير ذي عوج ، فيه بيان للناس.
* * *
قوله : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)
نُضِّرَت بِنَعِيمِ الجَنَّةِ والنَّظَرِ إلى رَبِّهَا.
قال اللَّه - عزَّ وجلَّ - : (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24).
* * *
(وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25)
(بَاسِرَةٌ)كريهة مقطبة ، قد أيقنت بأن العذاب نازل بها.
ومعنى : (تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ).

(5/253)


توقن أن يفعل بها داهية من العذاب.
* * *
وقوله : (كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26)
(كَلَّا) رَدْعٌ وتنبيه ، ومعناه ارْتَدِعُوا عما يؤدي إلى العذاب.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ).
ذكرهم الله بصعوبة أول أيام الآخرة عند بلوغ النَّفْس التَّرْقوَةِ.
* * *
(وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27)
أي من يشفي من هذه الحال ، وهذا - واللَّه أعلم - يقوله القائل عِنْدَ
البأْسِ ، أي من يَقْدِرَ أَنْ يَرْقِيَ مِنَ الموْتِ.
وقيل في التفسير : (مَنْ رَاقٍ) مَن يَرْقَى بِروحِه أمَلَائكة الرحمة أم ملائكة العذاب.
* * *
(وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28)
أَيْ وَأَيْقَنَ الذي تَبلغ روحه إلى تراقيه أنه مفارق للدنيا.
* * *
(وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29)
عند الموت تلتصق السَّاق بالسَّاقِ قيل والتفت آخر شدة الدنيا بأول شِدَّةِ
الآخرة.
* * *
وقوله : (فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31)
يعنى به أبو جهل بن هشام.
وجاء في التفسير إنَّ لكل أُمَّةٍ فِرعَوْناً ، وإنَّ فِرْعَونَ هذه الأمَّةِ أَبو جَهْلٍ بن هشام.
* * *
(ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33)
معناه بتبختر ، مأخوذ من المَطَا وهو الظهر.
* * *
وقوله : (أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34)
معناه - واللَّه أعلم - وَلِيَكَ المكروه يا أبا جهل ، والعرب تقول أولى
لفلان إذا دعت عليه بالمكروه .

(5/254)


(أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36)
أي أن يترك غير مَأمورٍ وغير مَنْهِيٍّ ، ثم دلهم على البعث بالقدرة على
الابتداء فقال :
* * *
(أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37)
وقرئت (تُمْنَى)
فمن قرأ (تُمْنَى) فللفظ النطفة.
ومَنْ قرأ (يُمْنَى) فللفظ (مَنِيٍّ).
* * *
(ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39)
ثم قررهم فقال :
* * *
(أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40)

(5/255)


سُورَةُ الإِنْسَانِ
( مَكِّيَّة )
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله عزَّ وجلَّ : (هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1)
المعنى ألم يأت عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ ، - وقد كان شيئاً إلَّا أَنَّهُ كَانَ
تُرَاباً وَطِيناً إلى أن نفخ فيه الروح فلم يكن قبل نفخ الروح فيه شيئاً مَذْكُوراً ، ويجوز أن يكون يعنى به جميع الناس ، ويكون المعنى أنهم كانوا نُطَفاً ثم عَلَقاً
ثم مُضَغاً إلى أن صاروا شيئاً مَذْكُوراً.
ومعنى (هَلْ أتى) قد أتى على الإنسان ، أي ألم يأت على الِإنْسَانِ حين
من الدهر (1).
* * *
وقوله : (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2)
(أَمْشَاجٍ) أخلاط مَنَيٍّ ودم ، ثم ينقل مِنْ حَالٍ إلى حَالٍ.
وَوَاحِدُ الأمشاج [مَشِيجٌ] ، ومعنى نبتليه نختبره يدل عليه : (فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً).
أي جعلناه كذلك لنختبره.
* * *
قوله : (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)
معناه هديناه الطريق إما لِشَقوةٍ وإما لِسَعَادَةٍ.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { هَلْ أتى } : في « هل » هذه وجهان ، أحدُهما : أنَّها على بابِها من الاستفهامِ المَحْضِ ، أي : هو مِمَّنْ يُسْأَلُ عنه لغرابتِه : أأتى عليه حينٌ من الدهرِ لَم يكنْ كذا ، فإنه يكونُ الجوابُ : أتى عليه ذلك ، وهو بالحالِ المذكورةِ ، كذا قاله الشيخ ، وهو مدخولٌ كما ستعرِفُه قريباً . وقال مكي في تقرير كونها على بابِها من الاستفهام . « والأحسنُ أَنْ تكونَ على بابِها للاستفهام الذي معناه التقريرُ ، وإنما هو تقرير لمَنْ أنكر البعثَ ، فلا بُدَّ أَنْ يقولَ : نعم قد مضى دهر طويل لا إنسانَ فيه . فيقال له : مَنْ أَحْدَثَه بعد أن لم يكُنْ وكَوَّنه بعد عَدَمِه كيف يمتنع عليه بَعْثُه وإحياؤه بعد مَوْتِه؟ وهو معنى قولِه : { وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النشأة الأولى فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ } [ الواقعة : 62 ] ، أي : فهلاَّ تَذَكَّرون فتعلَمون أنَّ مَنْ أَنْشأ شيئاً بعد أن لم يكُنْ قادرٌ على إعادتِه بعد مَوْتِه و عَدَمِه » انتهى . فقد جَعَلها لاستفهامِ التقريرِ لا للاستفهامِ المَحْضِ ، وهذا هو الذي يجبُ أَنْ يكونَ؛ لأنَّ الاستفهامَ لا يَرِدُ مِنَ الباري تعالى لاَّ على هذا النحوِ وما أشبهه . والثاني : أنها بمعنى « قد » قال الزمخشري : « هل بمعنى » قد « في الاستفهام خاصة . والأصل : أهل بدليلِ قولِه :
4430 سائِلْ فوارسَ يَرْبوعٍ بشَدَّتِنا . . . أهَلْ رَأَوْنا بوادي القُفِّ ذي الأَكَمِ
فالمعنى : أقد أتى ، على التقريرِ والتقريبِ جميعاً ، أي : أتى على الإِنسان قبلَ زمانٍ قريبٍ حينٌ من الدهرِ لم يكنْ فيه شيئاً مذكوراً ، أي : كان شيئاً مَنْسِيَّاً غير مذكور » انتهى . فقولُه : « على التقريرِ » يعني المفهومَ من الاستفهامِ ، وهو الذي فهم مكيٌّ مِنْ نفسِ « هل » . وقوله : « والتقريب » يعني المفهومَ مِنْ « قد » التي وقع مَوْقِعَها « هل » . ومعنى قولِه « في الاستفهام خاصةً » أنَّ « هل » لا تكونُ بمعنى « قد » إلاَّ ومعها استفهامٌ/ لفظاً كالبيتِ المتقدِّم ، أو تقديراً كالآية الكريمةِ . فلو قلتَ : « هل جاء زيدٌ » تعني : قد جاء ، من غيرِ استفهامٍ لم يَجُزْ ، وغيرُه جَعَلَها بمعنى « قد » من غيرِ هذا القيدِ . وبعضُهم لا يُجيزه ألبتَّةََ ، ويَتَأّوَّل البيتَ : على أنَّ مِمَّا جُمِعَ فيه بين حرفَيْ معنىً للتأكيدِ ، وحَسَّن ذلك اختلافُ لفظِهما كقولِ الشاعِرِ :
4331 فأَصْبَحْنَ لا يَسْأَلنْنَي عَنْ بِما به . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فالباءُ بمعنى « عن » ، وهي مؤكِّدةٌ لها ، وإذا كانوا قد أَكَّدوا مع اتفاقِ اللفظِ كقولِه :
4432 فَلا واللَّهِ لا يُلْفَى لِما بي . . . ولا لِلِما بهمْ أبداً دَواءُ
فَلأَنْ يُؤَكِّدوا مع اختلافهِ أَحْرى . ولم يَذْكُرِ الزمخشريُّ غيرَ كونِها بمعنى « قد » ، وبقي على الزمخشريِّ قيدٌ آخر : وهو أَنْ يقولَ : في الجملِ الفعليةِ؛ لأنَّه متى دخلَتْ « هل » على جملةٍ اسميةٍ استحالَ كونُها بمعنى « قد » لأنَّ « قد » مختصَّةٌ بالأفعالِ . وعندي أنَّ هذا لا يَرِدُ؛ لأنَّه تقرَّر أنَّ « قد » لا تباشِرُ الأسماءَ.
قوله : { لَمْ يَكُن } في هذه الجملة وجهان ، أحدُهما : أنَّها في موضعِ نصبٍ على الحالِ من « الإِنسان » ، أي : هل أتى عليه حينٌ في هذه الحالةِ . والثاني : أنها في موضعِ رفع نعتاً ل « حينٌ » بعد نعتٍ . وعلى هذا فالعائدُ تقديرُه : حينٌ لم يكُنْ فيه شيئا مذكوراً ، والأول أظهرُ لفظاً ومعنىً.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5/257)


وقوله : (إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4)
الأجود في العربية ألا يُصْرَف سَلَاسِلَ ، ولكن لما جُعِلَتْ رَأْسَ آيَةٍ
صرفت ليكون آخر الآي على لفظٍ وَاحدٍ (1).
* * *
قوله : (إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5)
الأبرار واحدهم بَرٌّ.
(يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا).
يجوز " في اللغة أن يكونَ طَعْمُ الطيب فيها والكَافورِ ، وجائز أن يمزج
بالكافور فلا يكون في ذلك ضرر لأن أهل الجنة لا يمسهم فيما يأكلون
ويشربون ضَررٌ ولا نَصَبٌ.
والكأس في اللغة الِإناء إذا كان فيه الشرَابُ.
فإذا لم يكن فيه الشراب لم يسم كأساً.
قال الشاعر :
صَبَنْتِ الكأْسَ عَنَّا أُمَّ عمروٍ وكانَ الكأْسُ مَجْراها اليَمِينا
* * *
وقوله : (عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6)
(عيناً) جائز أن يكون من صفة الكأس.
والأجود أن يكون المعنى من عَيْنٍ.
قوله : (يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا).
معناه تجري لهم تلك العين كما يحِبُّون.
* * *
قوله : (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7)
معناه يبلغ أقصى المبالغ فيه.
* * *
قوله : (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8)
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { سَلاَسِلَ } : قرأ نافعٌ والكسائيُّ وهشام وأبو بكر بالتنوين ، والباقون بغيرِ تنوينٍ ، ووقَفَ هؤلاءِ وحمزةُ وقنبلٌ عليه بالألفِ بلا خلافٍ . وابنُ ذكوانَ والبزيُّ وحفصٌ بالألفِ وبدونِها ، فعَنْ ثلاثتِهم الخلافُ ، والباقون وقَفوا بدون ألفٍ بلا خلافٍ . فقد تَحَصَّل لك من هذا أن القُرَّاءَ على [ أربع ] مراتبَ : منهم مَنْ يُنَوِّنُ وصْلاً ، ويقفُ بالألفِ وَقْفاً بلا خلافٍ وهم نافعٌ والكسائيُّ وهشامٌ وأبو بكر ، ومنهم مِنْ لا يُنَوِّنُ ولا يأتي بالألفِ وقفاً بلا خلافٍ ، وهما حمزةُ وقنبلٌ ، ومنهم مَنْ لم يُنَوِّنْ ، ويقف بالألفِ بلا خلافٍ ، وهو أبو عمروٍ وحدَه ، ومنهم مَنْ لم يُنَوِّنْ ، ويقفُ بالألف تارةٍ وبدونِها أخرى ، وهم ابنُ ذكوانَ وحفصٌ والبزيُّ ، فهذا نهايةُ الضبطِ في ذلك.
فأمَّا التنوينُ في « سلاسل » فذكَرُوا له أوجهاً منها : أنه قَصَد بذلك التناسُبَ؛ لأنَّ ما قبلَه وما بعده منونٌ منصوبٌ . ومنها : أن الكسائيَّ وغيرَه مِنْ أهلِ الكوفةِ حَكَوا عن بعض العربِ أنهم يَصْرِفُون جميعَ ما لا ينصَرِفُ ، إلاَّ أفعلَ منك . قال الأخفش : « سَمِعْنا من العربِ مَنْ يَصْرِفُ كلَّ ما لا يَنْصَرِف؛ لأنَّ الأصل في الأسماء الصرفُ ، وتُرِك الصرفُ لعارضٍ فيها ، وأنَّ الجمعَ قد جُمِع وإنْ كان قليلاً . قالوا : صواحِب وصواحبات . وفي الحديث : » إنكن لصَواحِبات يوسف « وقال الشعر :
4439 قد جَرَتِ الطيرُ أيامِنينا . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فجمع » أيامِن « جَمْعَ تصحيحِ المذكر . وأنشدوا :
4440 وإذا الرجالُ رأوا يزيدَ رأيتَهمْ . . . خُضُعَ الرِّقابِ نواكِسي الأبصارِ
بكسرِ السينِ مِنْ نواكِس ، وبعدَها ياءٌ تَظهرُ خطاً لا لفظاً لذهابِها لالتقاءِ الساكنين ، والأصلُ : » نواكِسِين « فحُذِفَتِ النونُ للإِضافةِ ، والياءُ لالتقاءِ الساكَنيْن . وهذا على رواية كسرِ السينِ ، والأشهرُ فيها نصبُ السينِ فلمَّا جُمِع شابَهَ المفرداتِ فانصَرَفَ . ومنها أنه مرسومٌ في إمامِ الحجازِ والكوفةِ بالألفِ ، رواه أبو عبيدٍ ، ورواه قالون عن نافعٍ . وروى بعضُهم ذلك عن مصاحفِ البصرةِ أيضاً.
وقال الزمخِشريُّ : » وفيه وجهان ، أحدُهما : أَنْ تكونَ هذه النونُ بدلاً من حرفِ الإِطلاقِ ويَجْري الوصل مَجْرى الوقفِ . والثاني : أَنْ يكونَ صاحبُ هذه القراءةِ مِمَّنْ ضَرِيَ بروايةِ الشِّعْر ، ومَرَنَ لسانُه على صَرْفِ ما لا ينصرف « . قلت : وفي هذه العبارةِ فَظاظةٌ وغِلْظة ، لا سيما على مَشْيَخَةِ الإِسلام وأئمةِ العلماءِ الأعلامِ.
ووَقَفَ هؤلاء بالألفِ ظاهراً . وأمَّا مَنْ لم يُنَوِّنْه/ فظاهرٌ؛ لأنَّه على صيغةِ منتهى الجموع . وقولهم : قد جُمِع ، نحو : صَواحبات وأيامِنين لا يَقْدَحُ؛ لأنَّ المَحْذورَ جمعُ التكسيرِ ، وهذا جمعُ تصحيحٍ ، وعَدَمُ وقوفِهم بالألفِ واضحٌ أيضاً . وأمَّا مَنْ لم يُنَوِّنْ ووقفَ بالألفِ فإتْباعاً للرَّسمِ الكريمِ كما تقدَّمَ ، وأيضاً فإنَّ الرَّوْمَ في المفتوحِ لا يُجَوِّزُه القُرَّاءُ ، والقارىءُ قد يُبَيِّنُ الحركةَ في وَقْفِه فأَتَوْا بالألفِ لَتَتَبيَّنَ بها الفتحةُ . ورُوِيَ عن بعضٍ أنه يقول : » رَأَيْتُ عُمَرا « بالألف يعني عُمَرَ بن الخطاب . والسَّلاسِلُ : جمع سِلْسلة ، وقد تقدَّم الكلامُ فيها . اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5/258)


هذه الهاء تعود على الطعام ، المعنى يطعمون الطعام أشد ما تكون
حاجتهم إليه للمسكين ، وَوَصَفُهُم الله بالأثرة عَلَى أنْفُسِهِم.
(وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا).
الأسير قيل كان في ذلك الوقت من الكُفَّار ، وقَدْ مُدِحَ من يطعم الأسير
وهو كافرٌ ، فكيف بأسَارَى المسلمين.
وهذا يدل عَلَى أَنَ في إطعام أهل الحبوس ثواباً جزيلا ، وأَهْل الحبوس أُسَرَاء.
* * *
وقوله : (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9)
المعنى يقولون إنما نطعمكم لوجه اللَّه ، أي لطلب ثواب اللَّه - عزَّ وجلَّ -
وجائر أن يكونوا يطعمون ولا ينطقونَ هذا القول ولكن معناهم في أطعَامِهمِ
هذا ، فَتُرْجِمَ مَا في قُلُوبِهِم ، وكذلك :
* * *
(إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10)
العبوس الذي يُعَبِّسُ الوُجُوهَ ، وهذا مثل قوله : (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ).
وقَمْطَرِيراً ، يقال يوم قمطرير ويؤْم قُماطر إذا كان شَديداً غليظاً ، وجاء في
التفسير أن قمطريرا معناه تَعْبسُ فَيجمعُ مَا بينَ العينين وهذا سائغ في اللغة.
يقال اقمَطَرتْ النَّاقَةُ إذا رفعت ذنبها وجمعت قطريها وَرمَتْ بأنفها.
* * *
وقوله (مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13)
واحدتها أريكة ، وجاء في التفسير أَنَهَا من الحِجَالُ فيها الفرش وفيها
الأسِرَّةُ.
وفي اللغة أن كل متكأ عليه فَهُوَ أريكَة.
ونصب (مُتَّكِئِينَ) على الحال
المعنى وجزاهم جنَّة في حَالِ اتكائهم فيها.
وكذلك : (وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14)
وجائز أن يكون دانية نعتاً للجنة.
المعنى وجزاهم جنة دانية عَليْهِمْ ظِلَالُهَا (1)
* * *
(وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا).
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { وَدَانِيَةً } : العامة على نصبِها وفيها أوجهٌ ، أحدُها : أنها عطفُ على محلِّ « لا يَرَوْن » . الثاني : أنها معطوفة على « مُتَّكئين » ، فيكونُ فيها ما فيها . قال الزمخشري : « فإنْ قلتَ : ودانيةً عليهم ظلالُها علامَ عُطِف؟ قلت : على الجملةِ التي قبلها ، لأنَّها في موضع الحال من المَجْزِيِّيْنَ ، وهذه حالٌ مثلُها عنهم ، لرجوعِ الضميرِ منها إليهم في » عليهم « إلاَّ أنَّها اسمٌ مفردٌ ، وتلك جماعةٌ في حكمِ مفردٍ ، تقديره : غيرَ رائين فيها شَمْساً ولا زَمْهريراً ودانية . ودخلت الواوُ للدَّلالة على أن الأمرَيْن مجتمعان لهم . كأنَّه قيل : وجَزاهم/ جنةً جامِعِيْنَ فيها : بين البُعْدِ عن الحَرِّ والقُرِّ ودُنُوِّ الظِّلالِ عليهم . الثالث : أنها صفةٌ لمحذوفٍ أي : وجنةً دانِيَةً ، قاله أبو البقاء . الرابع : أنها صفةٌ ل » جنةٌ « الملفوظِ بها ، قاله الزجَّاج.
وقرأ أبو حيوةَ » ودانِيَةٌ « بالرفع . وفيها وجهان ، أظهرهما : أَنْ يكونَ » ظلالُها « مبتدأ و » دانيةٌ « خبرٌ مقدمٌ . والجملةُ في موضعِ الحال . قال الزمخشري : » والمعنى : لا يَرَوْنَ فيها شَمْساً ولا زَمْهريراً ، والحالُ أنَّ ظلالَها دانِيَةٌ عليهم « . والثاني : أَنْ ترتفعَ » دانيةٌ « بالابتداء ، و » ظلالُها « فاعلٌ به ، وبها استدلَّ الأخفشُ على جوازِ إعمالِ اسمِ الفاعلِ ، وإنْ لم يَعْتَمِدْ نحو : » قائمٌ الزيدون « ، فإنَّ » دانية « لم يعتمِدْ على شيءٍ مِمَّا ذكره النَّحْويُّون ، ومع ذلك فقد رُفِعَتْ » ظلالُها « وهذا لا حُجَّة له فيه؛ لجوازِ أَنْ يكونَ مبتدأً وخبراً مقدَّماً كما تقدَّم.
وقال أبو البقاء : » وحُكِيَ بالجَرِّ أي : في جنَّةٍ دانية . وهو ضعيفٌ؛ لأنه عُطِفَ على الضميرِ المجرورِ من غيرِ إعادةِ الجارِّ « . قلت : يعني أنَّه قُرِىء شاذاً » ودانِيَةٍ « بالجَرِّ على أنها صفةٌ لمحذوفٍ ، ويكونُ حينئذٍ نَسَقاً على الضميرِ المجرورِ بالجَرِّ مِنْ قولِه : » لا يَرَوْنَ فيها « أي : ولا في جنةٍ دانيةٍ . وهو رَأْيُ الكوفيين : حيث يُجَوِّزون العطفَ على الضميرِ المجرورِ مِنْ غيرِ إعادةِ الجارِّ؛ ولذلك ضَعَّفَه ، وقد تقدَّم الكلامُ في ذلك مُشْبعاً في البقرة.
وأمَّا رَفْعُ » ظلالُها « فيجوزُ أَنْ يكونَ مبتدأً و » عليهم « خبرٌ مقدمٌ ، ولا يرتفع ب » دانية «؛ لأنَّ » دنا « يتعدَّى ب » إلى « لا ب » على « . والثاني : أنها مرفوعةٌ ب » دانية « على أَنْ تُضَمَّن معنى » مُشْرِفَة « لأنَّ » دنا « و » أَشْرَفَ « يتقاربان ، قال معناه أبو البقاء ، وهذان الوجهان جاريان في قراءةِ مَنْ نصبَ » دانيةً « أيضاً.
وقرأ الأعمش » ودانِياً « بالتذكير للفَصْلِ بين الوَصْفِ وبين مرفوعِه ب » عليهم « ، أو لأنَّ الجمعَ مذكرٌ.
وقرأ أُبَيٌّ « ودانٍ عليهم » بالتذكير مرفوعاً ، وهي شاهدةٌ لمذهبِ الأخفشِ ، حيث يرفع باسمِ الفاعلِ . وإنْ لم يَعْتَمِد . ولا جائزٌ أَنْ يُعْرَبا مبتدأً وخبراً مقدَّماً لعدمِ المطابقةِ . وقال مكي : « وقُرِىء » دانِياً « ثم قال : » ويجوزُ « ودانيةٌ » بالرفعِ ، ويجوزُ « دانٍ » بالرفعِ والتذكيرِ « ولم يُصَرِّح بأنهما قُرِئا ، وقد تقدَّم أنهما مقروءٌ بهما فكأنَّه لم يَطَّلِعْ على ذلك.
قوله : { وَذُلِّلَتْ } يجوزُ أَنْ يكونَ في موضع نصبٍ على الحال عطفاً على » دانِيَةً « فيمَنْ نَصَبَها أي : ومُذَلَّلةً . ويجوزُ أَنْ تكونَ حالاً من الضميرِ في » عليهم « سواءً نَصَبْتَ » دانِيَةً « أو رَفَعْتَها ، أم جَرَرْتَها . ويجوزُ أَنْ تكونَ مستأنفةً . وأمَّا على قراءةِ رفعِ » ودانيةٌ « فتكونُ جملةً فعليةً عُطِفَتْ على اسميَّةٍ . ويجوز أَنْ تكونَ حالاً كما تقدَّمَ . اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5/259)


هذا كقوله تعالى : (قطوفها دانية).
وقيل كلما أرادوا أنْ يَقْطَعُوا شيئاً منها ذُلِّلَ لَهُمْ ، ودنا منهم قُعُوداً كانوا أَوْ مُضْطَجِعينَ أَوْ قِيَاماً.
* * *
(وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ)
قرئت غير مصروفة ، وهذا الاختيار عند النحويين البصريين لأنَّ كل
جمع يأتي بعد ألفه حرفان لا ينصرف.
وقد فسرنا ذلك فيما سلف من الكتاب.
ومَن قرأ (قواريراً) فصرف الأول فلأنَّهُ رأسُ آية ، وترك صرف الثاني لأنه
ليس بآخر آية ، ومن صرف الثاني أتبْعَ اللَّفْظَ اللفظ ، لأن العرب رُبَّما قَلَبَتْ إعراب الشيء ليتبع اللفظ اللفظ ، فيقولون : هذا حُجْر ضَبِّ خَرِبٍ ، وإنما الخرب من نعت الحُجْرِ ، فكيف بما يترك صرفه ، وجميع ماَ يترك صرفه يجوز صرفه في الشِعْرِ.
* * *
ومعنى (قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16)
أصل القوارير التي في الدنيا من الرمل ، فأعلم اللَّهُ أن فضل تلك القوارير أن أَصْلَها مِنْ فِضةٍ يرى من خارجها مَا فِي دَاخِلها
ومعنى : (قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا).
أَي جُعِلَت بكون الِإناء عَلى قَدْرِ ما يحتاجون إليه وُيرِيدُونَهُ.
وَقُرِئَتْ (قُدِّرُوها تَقْدِيراً) . أي جعلت لهم على قدر إرادتهم (1).
* * *
(وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17)
أي يجمع طعم الزنجبيل ، والعرب تصف الزنجبيل ، وهو مستطاب
عندها جدًّا
قال الشاعر :
كأَنَّ القَرنْفُلَ والزَّنْجَبِيلَ . . . باتا بِفيها وأَرْياً مَشُورا
فجائز أن يكون طعم الزنجبيل فيها ، وجائز أن يكون مزاجها وَلَا غائِلَةَ لَهُ
كما قلنا في الكافور.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { قَوَارِيرَاْ قَوَارِيرَاْ } : اختلف القُراء في هذَين الحرفَيْن بالنسبة إلى التنوين وعَدَمِهِ ، وفي الوقوفِ بالألفِ وعَدَمِها كما تقدَّم خلافُهم في { سَلاَسِلَ } . واعلَمْ أنَّ القُرَّاء فيهما على خمسِ مراتبَ ، إحداها : تنوينُهما معاً ، والوقفُ عليهما : بالألفِ ، لنافعٍ والكسائيِّ وأبي بكر . الثانيةُ : مقابِلَةُ هذه ، وهي عَدَمُ تنوينِهما وعَدَمُ الوقفِ عليهما بالألفِ ، لحمزةَ وحدَه . الثالثة : عَدَمُ تنوينِهما ، والوقفُ عليهما بالألف ، لهشامٍ وحدَه . الرابعة : تنوينُ الأولِ دونَ الثاني ، والوقفُ على الأولِ بالألفِ ، وعلى الثاني بدونِها ، لابنِ كثيرٍ وحدَه . الخامسةُ : عَدَم تنوينِهما معاً ، والوقفُ على الأولِ بالألفِ ، وعلى الثاني بدونِها : لأبي عمروٍ وابن ذكوانَ وحفصٍ.
فأمَّا مَنْ نَوَّنَهما فلِما مَرَّ في تنوينِ سلاسل؛ لأنَّهما صيغَةُ منتهى الجمع ، ذاك على مَفاعلِ ، وذا على مَفاعيل . والوقفُ بالألفِ التي هي بدلٌ من التنوين ، وفيه موافقةُ المصاحفِ المذكورةِ فإنَّهما مَرْسومان فيها بالألفِ على ما نَقَلَ أبو عبيد . وأمَّا عَدَمُ تنوينِهما وعَدَمُ الوقفِ بالألف فظاهرٌ جداً . وأمَّا مَنْ نَوَّنَ الأولَ دونَ الثاني ، فإنَّه/ ناسَبَ بين الأولِ وبين رؤوسِ الآيِ . ولم يناسِبْ بينَ الثاني وبين الأولِ . والوجهُ في وَقْفِه على الأولِ بالألفِ وعلى الثاني بغيرِ ألفٍ ظاهرٌ . وقد رَوَى أبو عُبيد أنه كذلك في مصاحِف أهلِ البصرة.
وأمَّا مَنْ لم يُنَوِّنْهما ، ووقف على الأولِ بالألفِ ، وعلى الثاني بدونِها؛ فلأنَّ الأولَ رأسُ آيةٍ فناسَبَ بينه وبين رؤوس الآيِ في الوقفِ بالألفِ . وفَرَّق بينه وبين الثاني؛ لأنه ليسَ برأس آيةٍ . وأمَّا مَنْ لم يُنَوِّنْهما ووقف عليهما بالألفِ فلأنَّه ناسَبَ بين الأول وبين رؤوس الآيِ وناسَبَ بين الثاني وبين الأولِ . وحَصَل مِمَّا تقدَّم في « سلاسل » وفي هذَيْن الحرفَيْنِ أنَّ القُرَّاءَ منهم مَنْ وافَقَ مصحَفَه ، ومنهم مَنْ خالفَه لاتِّباع الأثَرِ . وتقدَّم الكلامُ على « قوارير » في سورةِ النمل ولله الحمدُ.
وقال الزمخشري : « وهذا التنوين بدلٌ مِنْ حرفِ الإِطلاقِ لأنَّه فاصلةٌ ، وفي الثاني لإِتباعِه الأولَ » يعني أنَّهم يَأْتُون بالتنوينِ بدلاً مِنْ حرفِ الإِطلاق الذي للترنم ، كقولِه :
4448 يا صاحِ ما هاجَ الدُّموعَ الذُّرَّفَنْ . . . وفي انتصابِ « قوارير » وجهان ، أحدُهما وهو الظاهرُ أنَّه خبرُ كان . والثاني : أنها حالٌ ، و « كان » تامةٌ أي : كُوِّنَتْ فكانَتْ . قال أبو البقاء : « وحَسُن التكريرُ لِما اتَّصل به مِنْ بيانِ أصلِها ، ولولا التكريرُ لم يَحْسُنْ أَنْ يكونَ الأولُ رأسَ آيةٍ لشدَّةِ اتصالِ الصفةِ بالموصوفِ . وقرأ الأعمش » قواريرُ « بالرفع على إضمارِ مبتدأ أي : هي قوارير . و » مِنْ فضة « صفةٌ ل » قوارير «.
قوله : { قَدَّرُوهَا } صفةٌ ل » قواريرَ « . والواو في » قَدَّروها « فيه وجهان ، أحدهما : أنَّه للمُطافِ عليهم . ومعنى تقديرهم إياها : أنهم قَدَّروها في أنفسِهم أَنْ تكونَ على مقاديرَ وأشكالٍ على حَسَبِ شَهَواتِهم ، فجاءَتْ كما قَدَّروا.
والثاني : أنَّ الواو للطائفين للدلالةِ عليهم ، مِنْ قولِه تعالى : « ويُطافُ » والمعنى : أنهم قَدَّروا شرابَها على قَدْر رِيِّ الشَّارِب ، وهو ألذُّ الشرابِ لكونِه على مِقْدارِ حاجتِه لا يَفْضُل عنها ولا يَعْجِزُ ، قاله الزمخشري . وجَوَّزَ أبو البقاء أَنْ تكونَ الجملةُ مستأنفةً.
وقرأ عليٌّ وابنُ عباس والسُّلميُّ والشعبيُّ وزيدُ بن علي وأبو عمروٍ في روايةِ الأصمعيِّ « قُدِّرُوْها » مبنياً للمفعول . وجَعَله الفارسِيُّ مِنْ بابِ المَقْلوبِ قال : « كأنَّ اللفظ : قُدِّروا عليها . وفي المعنى قَلْبٌ؛ لأنَّ حقيقةَ المعنى أن يقال : قُدِّرَتْ عليهم ، فهي مثلُ قولِه : { لَتَنُوءُ بالعصبة أُوْلِي القوة } [ القصص : 76 ] ومثلُ قولِ العرب : » إذا طَلَعَتِ الجَوْزاءُ أُلْقِيَ العُوْدُ على الحِرْباء « . وقال الزمخشري : » ووجهُه أَنْ يكونَ مِنْ قُدِّر منقولاً مِنْ قَدَرَ . تقول : قَدَرْتُ [ الشيءَ ] وقَدَرَنيه فلان ، إذا جعلك قادراً له ومعناه : جُعلوا قادرين لها كما شاؤوا ، وأُطْلِق لهم أَنْ يُقَدِّروا على حَسَبِ ما اشْتَهَوْا « . وقال أبو حاتم : » قُدِّرَتْ الأواني على قَدْرِ رِيِّهم « ففَسَّر بعضُهم قولَ أبي حاتمٍ هذا قال : » فيه حَذْفٌ على حَذْفٍ : وهو أنه كان : « قُدِّرَ على قَدْرِ ريِّهم إياها » ثم حُذِفَ « على » فصار : « قَدْرُ رِيِّهم » على ما لم يُسَمَّ فاعِلُه ، ثم حُذِف « قَدْرُ » فصار « رِيُّهم » ما لم يُسَمَّ فاعلُه ، فحُذِفَ الرِّيُّ فصارَتِ الواوُ مكانَ الهاءِ والميمِ ، لَمَّا حُذِفَ المضافُ مِمَّا قبلَها ، وصارَتِ الواوُ مفعولَ ما لم يُسَمَّ فاعلُه ، واتصلَ ضميرُ المفعولِ الثاني في تقديرِ النصبِ بالفعلِ بعدَ الواوِ التي تَحَوَّلَتْ من الهاءِ والميم ، حتى أُقيمَتْ مُقامَ الفاعل « . قلت : وفي هذا التخريجِ من التكلُّف ما لا يَخْفَى مع عَجْرَفَةِ ألفاظِه.
وقال الشيخ : » والأقربُ في تخريج هذه القراءةِ الشاذَّة : « قُدِّرَ رِيُّهم منها تقديراً » فحُذِف المضافُ وهو الرِّيُّ ، وأُقيم الضميرُ مُقامَه ، فصار التقديرُ : قُدِّروا مِنْها ، ثم اتُّسِع في الفعل فحُذِفَتْ « مِنْ » ووصَلَ الفعلُ إلى الضميرِ بنفسِه فصار : « قُدِّرُوْها » فلم يكن فيه إلاَّ حَذْفُ مضافٍ واتِّساعٌ في الفعل « . قلت : وهذا مُنْتَزَعٌ من تفسيرِ كلامِ أبي حاتم . اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5/260)


وقوله : (عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18)
المعنى يسقون عيناً ، وسَلْسَبِيل اسم العَيْن إلا أنه صرف لأنه رأس آية.
وسَلْسَبيل في اللغَةِ صفَة لما كان في غاية السلاسة ، فكأنَّ العيق - واللَّه أعلم - سميت بصفتها (1).
* * *
(وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19)
أي يخدمهم وصفاء مُخَلَّدُونَ ، وتأويل (مُخَلَّدُونَ) أي لا يجوز واحد منهم
حَدَّ الوَصَافة أَبداً هو وصيف ، والعرب تقول للرجل الذي لا يشيب : هو
مُخَلَّدٌ . ويقال مُخَلَّدُونَ مجَلَّون عليهم الحلَى ، ويقال لجماعة الحلى الخَلَدَة.
* * *
وقوله : (حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا).
أي هم في حسن ألوأنهم وصفائها كاللؤلؤ المنثور.
* * *
قوله : (وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20)
جاء في التفسير أنه " ملكا كبيراً " أنهم تسلم عليهم الملائكة.
وجَاء أَيضاً تستأذن عليهم الملائكة ، وَ (ثَمَّ) يعنَى به الجنة ، والعامل في (ثَمَّ) مَعْنَى رَأيْتَ.
المعنى وَإذَا رأيت ببصرك (ثَمَّ).
وقيل المعنى وإذا رأيت مَا (ثَمَّ) رَأَيتَ نَعِيماً
وهذا غَلَطٌ لأن ما موصولة بقوله (ثَمَّ) على هذا التفسير -
ولا يجوز إسقاط الموصول وترك الصلة ، ولكن " رأيت " يتعدى في المعنَى إلى (ثَمَّ).
* * *
وقوله : (عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21)
(عَالِيْهُمْ)
بإسكان الياء ، وَقرِئَتَ (عَالِيَهُمْ) - بفتح الياء - وقرئت عَلَيْهم - بغير ألف (ثِيَابُ سُنْدُسٍ) . وهذه الثلاثة توافق المصحف وكلها حسن في العربية ، وقرئ على وجهين غير هذه الثلاثة.
قرئت (عَالِيَتُهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ) - بالرفع والتأنيث -
وَ (عَالِيَتَهُمْ) بالنَّصْبِ - وهذا الوجهان جَيِّدان في العربية إلا أَنَهمَا يخالفان
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { سَلْسَبِيلاً } : السَّلْسَبيل : ما سَهُل انحدارُه في الحَلْف . قال الزجاج : « هو في اللغة صفةٌ لِما كان في غايةِ السَّلاسَة » . وقال الزمخشري : « يقال : شَرابٌ سَلْسَلٌ وسَلْسالٌ وسَلْسبيل ، وقد زِيْدت الباءُ في التركيبِ حتى صارَتِ الكلمةُ خماسيَّةً ، ودَلَّتْ على غايةِ السَّلاسَةِ » . قال الشيخ : « فإنْ كان عَنى أنَّه زِيْدت حقيقةً فليس بجيدٍ؛ لأنَّ الباءَ ليسَتْ من حروف الزيادةِ المعهودةِ في علمِ النحوِ ، وإنْ عَنَى أنها حرفٌ جاء في سِنْخِ الكلمةِ ، وليس في سَلْسَل ولا سَلْسال فَيَصِحُّ ، ويكون مما اتَّفَقَ معناه ، وكان مختلفاً في المادة » . وقال ابن الأعرابي : « لم أسمَعْ السَّلْسبيلَ إلاَّ في القرآنِ » . وقال مكي : « هو اسمٌ أعجميُّ نكرةٌ ، فلذلك صُرِفَ ».
ووزن سَلْسَبيل : فَعْلَلِيْل مثلَ « دَرْدَبيس » . وقيل : فَعْفَليل؛ لأنَّ الفاءَ مكررةٌ . وقرأ طلحةُ « سَلْسَبيلَ » دونَ تنوينٍ ومُنِعَتْ من الصرف للعلميَّةِ والتأنيث؛ لأنها اسمٌ لعَيْنٍ بعينها ، وعلى هذا فكيف صُرِفَتْ في قراءةِ العامَّةِ؟ فيُجاب : بأنُّه سُمِّيَتْ بذلك لا على جهة العَلَمِيَّة بل على جهة الإطلاقِ المجرَّدِ ، أو يكونُ مِنْ بابِ تنوين { سَلاَسِلَ } [ الإِنسان : 4 ] { قَوَارِيرَاْ } [ الإِنسان : 15 ] وقد تقدَّمَ . وأغربُ ما قيل في هذا الحرف أنه مركبٌ من كلمَتَيْن : مِنْ فعلِ أمرٍ وفاعلٍ مستترٍ ومفعولٍ . والتقدير : سَلْ أنت سَبيلا إليها . قال الزمخشري : « وقد عَزَوْا إلى عليٍّ رضي الله عنه أنَّ معناه : سَلْ سبيلاً إليها » . قال : « وهذا غيرُ مستقيمٍ على ظاهِره ، إلاَّ أنْ يُرادَ أنَّ جملةَ قولِ القائلِ » سَلْ سبيلاً « جَعِلَتْ عَلَماً للعين ، كما قيل : تأبَّط شَرَّاً وذَرَّى حبَّا . وسُمِّيت بذلك لأنه لا يَشْرَبُ منها إلاَّ مَنْ سأل سبيلاً إليها بالعمل الصالِح ، وهو مع استقامتِه في العربية تكلُّفٌ وابتداعٌ وعَزْوُه إلى مثلِ عليّ عليه السلام أَبْدَعُ . وفي شعرِ بعضِ المُحْدَثين :
4451 سَلْ سبيلاً فيها إلى راحةِ النَّفْ . . . سِ براحٍ كأنَّها سَلْسَبيلُ
قال الشيخ بعد تعجُّبِه مِنْ هذا القول : » وأَعْجَبُ مِنْ ذلك توجيهُ الزمخشريِّ له واشتغالُه بحكايتِه « . قلت : ولو تأمَّل ما قاله الزمخشريُّ لم يَلُمْه ، ولم يتعجَّبْ منه؛ لأنَّ الزمخشري هو الذي شَنَّعَ على هذا القولِ غاية التشنيع . وقال أبو البقاء : » والسلسبيلُ كلمةٌ واحدةٌ « . وفي قوله : » كلمة واحدة « تلويحٌ وإيماءٌ إلى هذا الوجهِ المذكور.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5/261)


المصحف ، ولا أرى القراءة بهما ، وقرَّاء الأمصار ليس يَقْرَأُونَ بِهِمَا (1).
فأما تفسير إسكان (عَالِيهِمْ) بإسكان الياء ، فيكون رفعه بالابتداء ، ويكون خبره (ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ).
ومن نَصَبَ فقال : (عَالِيَهُمْ) بفتح الياء ، فقال بعض النحويين إنه
ينصبه على الظرْفِ ، كما تقول فوقَهُم ثياب ، وهذا لا نعرفه في الظروف ، ولو كان ظرفاً لم يَجُزْ إسكان الياء.
ولكن نصبه على الحال من شيئين :
أحدهما من الهاء والميم ، المعنى يطوف على الأبرار وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ عَالِياً الأبْرَارَ ثيابُ سندسٍ لأنه وقدْ وصف أحوالهم في الجنَّةِ ، فيكون المعنى يطوف عليهم في هذه الحال هؤلاء.
ويجوز أن يكون حالا من الولدان.
المعنى إذا رَأَيْتَهُمْ حسبتهم لُؤلُؤاً منثوراً في حال علو الثياب إياهم.
فالنصب على هذا بين.
فأما " عَلَيْهم ثيابُ سُنْدُسٍ " فرفع كقولك عليك مَالٌ فترفعُهُ بالابتداء ، ويكون المعنى وثياب سندس عليهم.
وتفسير نصب عاليتهم ورفعها كتفسير عاليهم.
والسندس الحرير . وقد قرئت خُضرٌ وخُضْرٍ.
فمن قرأ (خضرٌ) فهو أحسن لأنه يكون نعتاً للثياب ، فلفظ الثياب لفظ الجميع ، وخُضْرٌ لفظها لفظ الجمع.
ومن قرأ خُضْرٍ فهو من نعت السندس ، والسُّندُسُ في المعنى راجع إلى
الثياب.
وقرئت (وَإِسْتَبْرَقٌ) وهو الدِّيبَاج الصَّفِيق الغليظ الخشن.
وقرئت بالرفع والجر.
فمن رفع فهو عطف على ثياب
المعنى عليهم إستبرق.
ومن جر عطف على السندس.
ويكون المعنى : عليهم ثياب من هذين النوعين ثياب سندس وإستبرق . وقرئت (وَإِسْتَبْرَقَ) على وجهين غير هذين الوجهين ، كلاهما ضَعِيف
في العربية جدًّا ، قرئت (وَإِسْتَبْرَقَ) وَحُلُّوا - بنصب (إِسْتَبْرَقَ) - وهو في موضع الجر ولم يصرف ، قرأها ابن مُحْيصِن ، وزعموا أنه لم يصرفه لأن (وَإِسْتَبْرَق) اسم أعجمى ، وأصله بالفارسية استبره ، فلما حول إلى العربية لم يصرف وهذا غلط لأنه نكرة ألا ترى أن الألف واللام يدخلانه ، تقول : السندس والإستبرق.
والوجه الثاني ، واستبرَق وَحُلُّوا - بطرح الألف - جعل الألف ألف
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { عَالِيَهُمْ } : قرأ نافعٌ وحمزةٌ بسكونِ الياءِ وكسرِ الهاء ، والباقون بفتح الياءِ وضَمِّ الهاء . لَمَّا سَكَنَتِ الياءُ كُسِرَتْ الهاءُ ، ولَمَّا تَحَرَّكَتْ ضُمَّت على ما تَقَرَّرَ في هاءِ الكنايةِ أولَ هذا الموضوعِ . فإمَّا قراءةُ نافعٍ وحمزةَ ففيها أوجهٌ ، أظهرُها : أَنْ تكونَ خبراً مقدَّماً . و « ثيابُ » مبتدأٌ مؤخرٌ ، والثاني : أنَّ « عالِيْهم » مبتدأ و « ثيابُ » مرفوعٌ على جهةِ الفاعلية ، وإنْ لم يعتمد الوصفُ ، وهذا قولُ الأخفشِ.
والثالث : أنَّ « عالِيْهم » منصوبٌ ، وإنما سُكِّن تخفيفاً ، قاله أبو البقاء . وإذا كان منصوباً فسيأتي فيه أوجهٌ ، وهي وارِدَة هنا؛ إلاَّ أنَّ تقديرَ الفتحةِ من المنقوصِ لا يجوزُ إلاَّ في ضرورةٍ أو شذوذٍ ، وهذه القراءةُ متواترةٌ فلا ينبغي أَنْ يُقالَ به فيها.
وأمَّا قراءةُ مَنْ نَصَبَ ففيه أوجهٌ ، أحدُها : أنَّه ظرفٌ خبراً مقدماً ، و « ثيابُ » مبتدأٌ مؤخرٌ كأنه قيل : فوقَهم ثيابُ . قال أبو البقاء : « لأنَّ عالِيَهم بمعنى فَوْقَهم . وقال ابن عطية : » ويجوز في النصبِ أَنْ تكونَ على الظرف لأنَّه بمعنى فوقهم « . قال الشيخ : » وعالٍ وعالية اسمُ فاعلٍ ، فيحتاج في [ إثبات ] كونِهما ظرفَيْن إلى أَنْ يكونَ منقولاً مِنْ كلامِ العرب : عالِيَك أو عاليتُك ثوبُ « . قلت : قد وَرَدَتْ ألفاظٌ مِنْ صيغةِ أسماءِ الفاعِلِيْن ظروفاً نحو : خارجَ الدار وداخلَها وباطنَها وظاهرَها . تقول : جلَسْتُ خارج الدارِ ، وكذلك البواقي فكذلك هذا.
الثاني : أنَّه حالٌ من الضمير في { عَلَيْهِمْ } [ الإِنسان : 19 ] . الثالث : أنه حالٌ مِنْ مفعولِ { حَسِبْتَهُمْ } [ الإِنسان : 19 ] . الرابع : أنه حالٌ مِنْ مضافٍ مقدرٍ ، أي : رَأَيْتَ أهلَ نعيم ومُلكٍ كبير عالَيهم . ف » عاليَهم « حالٌ مِنْ » أهل « المقدرِ . ذكرَ هذه الأجهَ الثلاثةَ الزمخشريُّ فإنه قال : » وعاليَهم بالنصبِ على أنَّه حالٌ من الضميرِ في « يَطوف عليهم » أو في « حَسِبْتَهم » ، أي : يطوفُ عليهم وِلْدانٌ عالياً للمَطوفِ عليهم ثيابٌ ، أو حَسِبْتَهم لؤلؤاً عاليَهم ثيابٌ . ويجوزُ أَنْ يراد : [ رأيت ] أهلَ نعيم « . قال الشيخ : » أمَّأ أَنْ يكونَ حالاً من الضمير في « حَسِبْتَهم » فإنه لا يعني إلاَّ ضمير المفعول ، وهو لا يعودُ إلاَّ على « وِلدانٌ » ولذلك قدَّر « عاليَهم » بقوله : « عالياً لهم » ، أي : للوِلْدان . وهذا لا يَصْلُحُ؛ لأنَّ الضمائر الآتية بعد ذلك تَدُلُّ على أنها للمَطوفِ عليهم مِنْ قوله : « وحُلُّوا » و « سَقاهم » و { إِنَّ هذا كَانَ لَكُمْ جَزَآءً } وفَكُّ الضمائر وَجَعْلُ هذا لذا ، وهذا لذا ، مع عدمِ الاحتياجِ والاضطرارِ إلى ذلك ، لا يجوزُ . وأمَّا جَعْلُه حالاً مِنْ محذوفٍ وتقديرُه : أهلَ نعيم فلا حاجةَ إلى ادِّعاء الحَذْفِ مع صحةِ الكلامِ وبراعتِه دونَ تقديرِ ذلك المحذوفِ «.
قلت : جَعْلُ أحَدِ الضمائر لشيءٍ والآخرِ لشيءٍ آخرَ لا يمنعُ صحةَ ذلك مع ما يميِّزُ عَوْدَ كلِّ واحدٍ إلى ما يليقُ به ، وكذلك تقديرُ المحذوفِ غيرُ ممنوعٍ أيضاً ، وإنْ كان الأحسنُ أَنْ تتفقَ الضمائرُ ، وأن لا يُقَدَّرَ محذوفٌ ، والزمخشريُّ إنما ذَكَرَ ذلك على سبيل التجويزِ ، لا على أنَّه أَوْلى أو مساوٍ ، فَيُرَدُّ عليه بما ذكره.
الخامس : أنه حالٌ مِنْ مفعول « لَقَّاهم » . السادس : أنه حال مِنْ مفعول « جَزاهُمْ » ذكرهما مكي . وعلى هذه الأوجهِ التي انتصبَ فيها على الحالِ يرتفعُ به « ثيابُ » على الفاعلية ، ولا تَضُرُّ إضافتُه إلى معرفةٍ في وقوعِه حالاً؛ لأنَّ الإِضافةَ لفظيةٌ ، كقولِه تعالى : { عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا } [ الأحقاف : 24 ] [ وقولِه : ]
4452 يا رُبَّ غابِطِنا . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ولم يؤنَّثْ « عالياً » لأنَّ مرفوعَه غير حقيقيِّ التأنيثِ . السابع : أَنْ ينتصِبَ « عاليَهم » على الظرفيةِ ، ويرتفع « ثيابُ » به على جهة الفاعلية . وهذا ماشٍ على قولِ الأخفش والكوفيين حيث يُعملون الظرفَ وعديلَه وإنْ لم يَعْتمد ، كما تقدَّم ذلك في الوصفِ . وإذا رُفعَ « عاليَهم » بالابتداء و « ثيابُ » على أنه فاعلٌ به كان مفرداً على بابِه لوقوعِه موقعَ الفعلِ ، وإذا جُعل خبراً مقدَّماً كان مفرداً مُراداً به الجمعُ ، فيكونُ كقولِه تعالى : { فَقُطِعَ دَابِرُ القوم } [ الأنعام : 45 ] ، أي : أدبار ، قاله مكي.
وقرأ ابن مسعود وزيد بن علي « عاليتُهم » مؤنثاً بالتاء مرفوعاً . والأعمش وأبان عن عاصم كذلك ، إلاَّ أنه منصوبٌ ، وقد عَرَفْتَ الرفعَ والنصبَ ممَّا تقدَّم ، فلا حاجةَ لإِعادتهما . وقرأَتْ عائشة رضي الله عنها « عَلِيَتْهم » فعلاً ماضياً متصلاً بتاء التأنيث الساكنة ، و « ثيابُ » فاعلٌ به ، وهي مقوِّيَةٌ للأوجه المذكورة في رفع « ثياب » بالصفةِ في قراءة الباقين كما تقدَّم تفصيلُه.
وقرأ ابنُ سيرين ومجاهد وأبو حيوة وابن أبي عبلة وخلائق « عليهم » ، جارَّاً ومجروراً ، وإعرابُه كإعرابِ « عاليَهم » ظرفاً في جوازِ كونِه خبراً مقدَّماً ، أو حالاً ممَّا تقدَّم ، وارتفاعُ « ثيابُ » به على التفصيلِ المذكورِ آنفاً.
وقرأ العامَّةُ/ « ثيابُ سُنْدُسٍ » بإضافةِ الثيابِ لِما بعدها . وأبو حيوةَ وابنُ أبي عبلةَ « ثيابٌ » منونةً « سُندُسٌ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ » برفعِ الجميعِ ، ف « سندسٌ » نعتٌ ل « ثيابٌ » لأنَّ السُّنْدسَ نوعٌ ، و « خُضْرٌ » نعتٌ ل « سندس »؛ إذ السندسُ يكونُ أخضرَ وغيرَ أخضرَ ، كما أنَّ الثيابَ يكونُ سُنْدُساً وغيرَه . و « إستبرقٌ » نَسَقٌ على ما قبلَه ، أي : وثياب استبرق.
واعلَمْ أنَّ القرَّاءَ السبعةَ في « خُضْر وإستبرق » على أربع مراتبَ ، الأولى : رَفْعُهما ، لنافعٍ وحفصٍ فقط . الثانية : خَفْضُهما ، للأخوَيْن فقط.
الثالثة : رَفْعُ الأولِ وخفضُ الثاني لأبي عمروٍ وابنِ عامرٍ فقط . الرابعةُ عكسُ الثالثةِ ، لابنِ كثيرٍ وأبي بكرٍ فقط . فأمَّا القراءةُ الأولى : فإنَّ رَفْعَ « خُضْرٌ » على النعتِ ل ثياب ، ورَفْعَ « إستبرقٌ » نَسَقاً على الثياب ، ولكن على حَذْفِ مضافٍ ، أي : وثيابُ إستبرقٍ . ومثلُه : « على زيدٍ ثوبُ خَزٍّ وكتَّانٌ » أي : وثوبُ كُتَّانٍ . وأمَّا القراءةُ الثانية فيكونُ جَرُّ « خُضْرٍ » على النعتِ لسُنْدسٍ . ثم اسْتُشْكِل على هذا وَصْفُ المفردِ بالجمعِ فقال مكي : « هو اسمٌ للجمع . وقيل : هو جمعُ سُنْدُسَة » كتَمْر وتَمْرة ، واسمُ الجنسِ وَصْفُه بالجمع سائغٌ فصيحٌ . قال تعالى : { وَيُنْشِىءُ السحاب الثقال } [ الرعد : 12 ] . وإذا كانوا قد وَصَفوا المفردَ المُحَلَّى لكونِه مُراداً به الجنسُ بالجمعِ في قولِهم : « أَهْلَكَ الناسَ الدِّينارُ الحُمْرُ والدِّرْهَمُ البيضُ » ، وفي التنزيل : { أَوِ الطفل الذين } [ النور : 31 ] فَلأَنْ يُوْجَدَ ذلك في أسماءِ الجموعِ أو أسماءِ الأجناسِ الفارقِ بينها وبين واحدِها تاءُ التأنيثِ بطريقِ الأَوْلى . وجَرُّ « إستبرق » نَسَقاً على « سندسٍ » لأنَّ المعنى : ثيابٌ مِنْ سُندسٍ وثيابٌ مِنْ إستبرق.
وأمَّا القراءةُ الثالثةُ فرَفْعُ « خُضْرٌ » نعتاً ل « ثيابٌ » وجَرُّ « إستبرقٍ » نَسَقاً على « سُنْدُسٍ » ، أي : ثيابٌ خضرٌ مِنْ سُندسٍ ومِنْ إستبرقٍ ، فعلى هذا يكون الإِستبرقُ أيضاً أخضرَ.
وأمَّا القراءةُ الرابعة فجَرُّ « خُضْرٍ » على أنه نعتٌ لسُنْدس ، ورَفْعُ « إستبرقٌ » على النَّسَقِ على « ثياب » بحَذْفِ مضافٍ ، أي : وثيابُ إستبرق . وتقدَّم الكلامُ على مادةِ السُّنْدُس والإِستبرق وما قيل فيهما في سورة الكهف.
وقرأ ابنُ مُحيصنٍ « وإستبرقَ » بفتحِ القافِ . ثم اضطرب النَّقْلُ عنه في الهمزة : فبعضُهم يَنْقُل عنه أنه قَطَعها ، وبعضهم ينقُلُ عنه أنه وَصَلَها.
فقال الزمخشري : « وقُرِىءَ » وإسْتبرقَ « نصباً في موضعِ الجرِّ على مَنْعِ الصرفِ؛ لأنَّه أعجميٌّ وهو غَلَطٌ؛ لأنَّه نكرةٌ يَدْخُلُهُ حرفُ التعريف . تقول : » الإِستبرق « إلاَّ أَنْ يَزْعُمَ ابن مُحيصن أنه يُجْعَلُ عَلَماً لهذا الضَّرْبِ من الثيابِ . وقُرِىءَ » واستبرقَ « بوصْل الهمزةِ والفتح ، على أنَّه مُسَمَّى باسْتَفْعل من البَريق ، ليس بصحيحٍ أيضاً؛ لأنَّه مُعَرَّب مشهورٌ تعريبُه ، وأنَّ أصلَه اسْتَبْرَه . وقال الشيخ : » ودلَّ قولُه « إلاَّ أَنْ يزعمَ ابنُ محيصن » وقولُه بعدُ : « وقُرىء » واسْتبرق « بوَصْلِ الألفِ والفتح أنَّ قراءةَ ابنِ محيصن هي بقَطْعِ الهمزةِ مع فتحِ القافِ . والمنقولُ عنه في كتبِ القراءاتِ أنَّه قرأ بوَصْل الألفِ وفتح القافِ » . قلت : قد سَبَقَ الزمخشريُّ إلى هذا مكيٌّ فقال : « وقد قرأ ابنُ محيصن بغيرِ صَرْفٍ ، وهو وهمٌ إنْ جعلَه اسماً لأنه نكرةٌ منصرفةٌ . وقيل : بل جَعَله فعلاً ماضياً مِنْ بَرِقَ فهو جائزٌ في اللفظِ ، بعيدٌ في المعنى.
وقيل : إنَّه في الأصلِ فعلٌ ماضٍ على اسْتَفْعل مِنْ بَرِقَ ، فهو عربيٌّ من البريق ، لمَّا سُمِّي به قُطِعَتْ ألفُه؛ لأنه ليس مِنْ أصلِ الأسماءِ أَنْ يدخلَها ألفُ الوصلِ ، وإنما دَخَلَتْ في أسماءٍ معتلةٍ مُغَيَّرَةٍ عن أصلِها معدودةٍ لا يُقاسُ عليها « انتهى . فدلَّ قولُه : » قُطِعَتْ ألفُه « / إلى آخرِه أنه قرأ بقطعِ الهمزةِ وفتحِ القافِ . ودلَّ قولُه أولاً : » وقيل : بل جعله فعلاً ماضياً مِنْ بَرِقَ « أنه قرأ بوَصْلِ الألفِ؛ لأنَّه لا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُحْكَمَ عليه بالفعليةِ غيرَ منقولٍ إلى الأسماءِ ، وبتَرْكِ ألفِه ألفَ قطع ألبتَّةََ ، فهذا جَهْلٌ باللغةِ ، فيكونُ قد رُوِي عنه قراءتان : قَطْعُ الألفِ ووَصْلُها . فظهر أنَّ الزمخشريَّ لم ينفَرِدْ بالنقل عن ابنِ محصين بقَطْع الهمزة.
وقال أبو حاتم في قراءة ابن محيصن : » لا يجوز . والصوابُ أنه اسمُ جنسٍ لا ينبغي أَنْ يَحْمِلَ ضميراً ، ويؤيِّد ذلك دخولُ المعرفةِ عليه . والثوابُ قَطْعُ الألفِ وإجراؤُه على قراءةِ الجماعةِ « . قال الشيخ : » ونقولُ : إنَّ ابن محيصن قارىءٌ جليلٌ مشهورٌ بمعرفةِ العربيةِ ، وقد أَخَذَ عن أكابرِ العلماءِ فيُتَطَلَّبُ لقراءته وَجْهٌ ، وذلك أنه يَجْعَلُ استفعل من البريق تقول : بَرِقَ واسْتَبْرَق كعَجِبَ واستعجب ، ولمَّا كان قولُه : « خُضْر » يدل على الخُضْرة ، وهي لَوْنُ ذلك السُّنْدُسِ ، وكانت الخُضْرَةُ مِمَّا يكونُ فيها لشدتها دُهْمة وغَبَش أخبرَ أنَّ في ذلك بَريقاً وحُسْناً يُزيل غُبْشَتَه فاستبرق فعلٌ ماضٍ ، والضميرُ فيه عائدٌ على السندسِ ، أو على الأخضرِ الدالِّ عليه « خُضْر » . وهذا التخريجُ أَوْلَى مِنْ تَلْحين مَنْ يعرِفُ العربية وتوهيمِ ضابطٍ ثقةٍ « . قلت : هذا هو الذي ذكره مكيٌّ كما حَكَيْتُه عنه ، وهذه القراءةُ قد تقدَّمَتْ في سورة الكهف ، وإنما أَعَدْتُ ذلك لزيادةِ هذه الفائدةِ.
قوله : { وحلوا } عطفٌ على » ويَطوف « ، عَطَفَ ماضياً لفظاً ، مستقبلاً معنىً ، وأَبْرَزه بلفظِ الماضي لتحقُّقه . وقال الزمخشري بعد سؤالٍ وجوابٍ مِنْ حيث المعنى : » وما أحسنَ بالمِعْصَمِ أَنْ يكونَ فيه سِواران : سِوارٌ مِنْ ذهبٍ وسِوارٌ مِنْ فضةٍ « ، فناقَشَه الشيخ في قولِه » بالمِعْصم « فقال : » قولُه بالمِعْصم : إمَّا أَنْ يكونَ مفعولَ « أَحْسن » ، و « أَنْ يكونَ » بدلاً منه ، وأمَّا « أنْ يكونَ » مفعولَ أَحْسن وقد فُصِلَ بينهما بالجارِّ والمجرور : فإنْ كان الأولَ فلا يجوزُ؛ لأنَّه لم تُعْهَدْ زيادةُ الباءِ في مفعولِ أَفْعَلِ التعجبِ . لا تقول : ما أحسنَ بزيدٍ تريدُ : « ما أحسن زيداً » . وإن كان الثاني ففي مثلِ هذا الفصل خلافٌ ، والمنقولُ عن بعضهِم لا يجوزُ ، والمُوَلَّدُ مِنَّا ينبغي إذا تكلَّم أن يَتَحَرَّزَ في كلامِه ممَّا فيه خلافٌ « . قلت : وأيُّ غَرَضٍ له في تتبُّعٍ كلامِ هذا الرجل ، حتى في هذا الشيءِ اليسيرِ؟ على أنَّ الصحيحَ جوازُه ، وهو المسموعُ من العربِ نثراً . قال عمروُ ابن معديكرب : » للَّهِ دَرُّ بني فلانٍ ما أشَدَّ في الهيجاءِ لقاءَها ، وأَثْبَتَ في المَكْرُمات بقاءَها ، وأحسنَ في اللَّزَبات عطاءَها « والتشاغلُ بغير هذا أَوْلى.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5/262)


وصل ، وجعله مُسمًّى بالفعل من البريق ، وهذا خطأ لأن الإستبرق معروف
معلوم أنه اسم نُقِل من العجمية إلى العربية كما سمي الديباج وهو منقول من
الفارسية.
* * *
قوله عزَّ وجلَّ : (وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا)
جاء في التفسير أنهم إذا شربوه ضمِرَت بُطُونُهم وَرَشَحَتْ جُلُودَهم عرقاً
كرائحة المسك ، وقيل إنه طهور ليس برجس كخمر الدنيا.
* * *
قوله : (وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا (24)
أو ههنا أوكد من الواو ، لأن الواو إذَا قُلتَ : لا تطع زيداً وعَمراً فأطاع
أحدهما كان غير عاص ، لأنه أمره ألا يطيع الاثنين.
فإذا قالَ (وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا)
" أو " قد دلت على أنَّ كل واحد منهما أهل لأن يعصى ، وكما أنك إذا
قلت : لا تخالف الحسن أو ابن سيرين ، أو : اتبع الحسن أو ابن سيرين ، فقد
قلت : هذان أهل أن يُتبَعَا ، وكل واحد منهما أهل وقد فسرنا مثل هذا التفسير في غَيْرِ هذا الحرف في أول سورة البقرةِ في قوله تعالى : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا) إلى آخر الآية -
وَبَعْدَ ذلك (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ) وتأويله مِثْلُهُم لأنك إنْ جَعَلْتَ مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً ، أو مَثلَّتَهُم بالصَّيِّبٍ أوْ بِهِمَا جميعاً فأنت مُصِيبٌ.
* * *
ْوقوله عزَّ وجلَّ : (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25)
الأصيلُ العَشِى ، يقال : قَدْ أَصَلْنَا إذا دخلوا في الأصيل ، وهو العشِي.
* * *
قوله : (نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا (28)
(أَسْرَهُمْ) خلقهم جاء في التفسير أيضاً مَفَاصِلُهُمْ . -

(5/263)


وقوله (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30)
أي لستم تشاءون إلا بمشيئة اللَّه.
* * *
(وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (31)
نصب (الظالمين) لأن قبله مَنْصُوباً.
المعنى يدخل من يشاء في رحمته ويعذبُ الظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ، ويكون (أَعَدَّ لَهُمْ) تفسيراً لهذَا المضمر.
وقرئت (والظالمون) ولا أرى القراءة بها ، من وجهين :
أحدهما خلاف المصحف.
والآخر إن كانت تجوز في العربية على أن يرفع الظالمين بالابتداء.
والذي بعد الظالمين خبر الابتداء ، فإن الاختيار عند النحويين
البصريين النصب ، يقول النحْوِيُونَ أعطيت زيداً وعَمْراً أَعَدَدْتُ له بُرا.
فيختارون النصب على معنى وَبَرَرْتُ عَمراً وَأَبر عَمراً أعددت له بُرا ، فلا
يختارون للقرآن إلا أَجْوَد الوجوه ، وهذا مع موافقة المصحف .

(5/264)


سُورَةُ الْمُرْسَلَاتِ
( مَكِّيَّة )
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قال أبو إسحاق : قوله عزَّ وَجلَّ : (وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1)
جاء في التفسير أنها الريَاح أرسلت كعرف الفرس ، وكذلك : (فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (3).
الرياح تأتي بالمطر كما قال عزَّ وجلَّ : (وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) (1).
* * *
وقوله : (فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (4)
يعنى به الملائكة جاءت بما يفرق بين الحق والبَاطلِ ، وكذلك
* * *
(فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (5)
يعنى الملائكة.
وقيل في تفسير (والمرسلات) أنها الملائكة أرسلت بالمعروف.
وقيل إنها لعرف الفرس.
وقيل - (فالعَاصِفَاتِ عَصْفاً) الملائكة تعصف بروح الكافِر ؛ والباقي إلى آخر الآيات يعنى به الملائكة أيضاً.
وفيه وجه ثالث ، (وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا) يعني به الرسل.
(فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا) الرياح ، (فالناشرات نشراً) الرياح.
(فالفارقات فرقاً) على هذا - التفسير الرسل أيضاً.
وكذلك (فالملقيات ذِكراً).
وهذه كلها مجرورة على جهة القسم ، وجواب القسم (إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7)
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { عُرْفاً } : فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنَّه مفعولٌ مِنْ أجلِه ، أي : لأجلِ العُرْفِ وهو ضِدُّ النُّكْرِ . والمرادُ بالمُرْسَلاتِ : إمَّا الملائكةُ ، وإمَّا الأنبياءُ ، وإمَّا الرِّياحُ أي : والملائكةُ المُرْسَلاتُ ، أو والأنبياء المُرْسَلات ، أو والرياحُ المُرْسَلات . والعُرْفُ : المعروفُ والإِحسانُ . قال الشاعر :
4454 مَنْ يَفْعَلِ الخيرَ لا يَعْدَمْ جَوازِيَهُ . . . لا يَذْهَبُ العُرْفُ بينَ اللَّهِ والناسِ
وقد يُقال : كيف جَمَعَ صفةَ المذكرِ العاقلِ بالألفِ والتاءِ ، وحقُّه أَنْ يُجْمَعَ بالواوِ والنونِ؟ تقول : الأنبياءُ المُرْسَلونَ ، ولا تقولُ : المُرْسَلات . والجوابُ : أنَّ المُرْسَلات جَمْعُ مُرْسَلة ، ومُرْسَلة صفةٌ لجماعةٍ من الأنبياء ، فالمُرْسَلات جمعُ « مُرْسَلة » الواقعةِ صفةً لجماعة ، لا جمعُ « مُرْسَل » المفردِ . الثاني : أَنْ ينتصِبَ على الحالِ بمعنى : متتابعة ، مِنْ قولِهم : جاؤوا كعُرْفِ الفَرَس ، وهم على فلانٍ كعُرْف الضَّبُع ، إذا تألَّبوا عليه . الثالث : أَنْ ينتصِبَ على إسقاطِ الخافضِ أي : المُرْسَلاتِ بالعُرْفِ . وفيه ضَعْفٌ ، وقد تقدَّمَ الكلامُ على العُرْف في الأعراف . والعامَّةُ على تسكينِ رائِه ، وعيسى بضمِّها ، وهو على تثقيلِ المخففِ نحو : « بَكُر » في بَكْر . ويُحتمل أَنْ يكونَ هو الأصلَ ، والمشهورةُ مخففةٌ منه ، ويُحْتَمَلُ أَنْ يكونا وزنَيْنِ مستقلَّيْن.
قوله : { عَصْفاً } : مصدرٌ مؤكِّدٌ لاسمِ الفاعلِ ، والمرادُ بالعاصفات : الرياحُ أو الملائكةُ ، شُبِّهَتْ بسُرْعة جَرْيِها في أمرِ الله تعالى بالرياحِ ، وكذلك « نَشْراً » و « فَرْقاً » انتصبا على المصدرِ أيضاً . اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5/265)


وقال بعض أهل اللغة : المعنى وربِّ المرسلات ، وهذه الأشياء كما
قال : (فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ).
وقرئت عَرْفاً وَعُرفاً والمعنى واحد في العرف والعرف.
* * *
وقوله : (عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (6)
وقرئت عُذُراً أَو نُذُراً . فمعناهما المصدَرُ ، والعذْرُ والعُذارُ بمعنى وَاحِدٍ.
ونصب (عُذْرًا أَوْ نُذْرًا) على ضربين :
أحدهما مفعول على البدل من قوله ذِكراً.
المعنى فالملقيات عذراً أو نُذْراً ، ويكون نصباً بِذِكراً ، فالمعنى فالملقيات أن
ذكرت عذراً ونذراً.
ويجوز أن يكون نصب عُذْراً أَو نُذْراً على المفعول له ، فيكون المعنى
فالملقيات ذكراً للإعذار والإنذار.
* * *
وقوله : (فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8)
معناه أُذْهِبَتْ وغُطيَتْ.
* * *
(وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (9)
معناه شقَّت كما قال عزَّ وجلَّ : (إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ).
* * *
(وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (10)
ذهب بها كلها بسرعة ، يقال انتسفت الشيء إذَا أَخذته كله بسرعة.
* * *
(وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11)
وقرئت (وُقِّتَتْ) بالواو ، والمعنى واحد ، فمن قرأ (أُقِّتَتْ) بالهمز فإنه أبدل
الهمزة من الواو لانضمام الواو ، فكل واو انضمت وكانت ضمتها لازمةً جاز أن تبدل منها همزة ، ومعنى (وُقِّتَتْ) جعل لها وقت وأجل.
* * *
قوله : (لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12)

(5/266)


ثم بَينَ فقال : (لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13)
أي أجلت القضاء فيما بينها وبين الأمم
ليوم الفصل.
* * *
قوله : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15)
(ويلٌ) مرفوع بالابتداء . و (لِلْمُكَذِّبِينَ) الخبر ، ويجوز في العربية
(وَيْلاً يَوْمَئِذٍ) ولا يجيزه القراء لمخالفة المصحف
* * *
قوله عزَّ وجلَّ : (أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17)
على الاستئناف ، ويقرأ ثم نتبعْهم - بالجزم عطف على نهلك ، ويكون
المعنى أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ أي أَولًا وَآخِراً.
ومن رفع فعلى معنى ثم نُتبع الأول الآخر من كل مجرم.
* * *
قوله عزَّ وجلَّ : (كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18)
موضع الكاف نصب ، المعنى مثل ذلك نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ
* * *
قوله : (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26)
(كفاتاً) ذات جمع ، المعنى تضمهم أَحْيَاءً على ظُهُورِها ، وأمواتاً في
بطنها ، و (أحياء) منصوب بقوله (كِفَاتَاً) ، يقال كفت الشيء أكفته إذا جمعته
وضممته.
(وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا (27)
أي جبالاً ثوابت ، يقال رسا الشيء يَرْسُو إذا ثبت
(شَامِخَاتٍ) مرتفعات.
(وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا)
أَي عَذْبأ.
* * *
قوله : (انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29)
يعنى النار لأنهم كذَبوا بالبعث والنشور والنار
(انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30)

(5/267)


يعنى بالظل ههنا دُخَانُ جَهَنَّمَ ، ثم أعلم عزَّ وجلَّ أنه ليس بظليل ولا
يدفع من لهب النار شيئاً فقال :
(لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32)
جاء في التفسير أنه القصرُ مِنْ هذِه القُصُورِ ، وقيل القصر جمع قَصَرة.
وهو الغليظ من الشجر ، وقرئت كالقَصَرِ - بفتح الصاد - جمع قَصَرَةُ أي كأنَّها أعناق الإبِلَ.
* * *
وقوله : (كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ (33)
يقرأ (جِمَالاتٌ) وجُمَالاتٌ ، - بضم الجيم وكسرها - يُعْنَى أن الشرر
كالجمال السُّودِ ، يقال للإبل التي هي سود تضرب إلى الصُّفْرَةِ : إبل صُفْر.
فمن قرأ (جِمَالاتٌ) بالكسر فهو جمع جِمَال ، كما تقول بُيُوت وبيوتات وهو جمع الجمع ، ومن قرأ (جُمَالاتٌ) بالضم فهو جمع جمالة.
وهو القَلْسُ من قلوس سفن البحر ، ويقال كالقَلْسِ من قلوس الجسر.
ويجوز أن يكون جمع جَمَل وجمالٍ وجمالات ، كما قيل رجال جمع رجل ، وقرئت (جِمَالَة صُفْر) على جمع جمل وجمالة كما قيل حجر وحجارة ، وَذَكَر وذِكارة ، وقُرئت (جُمالة صُفْر) على ما فسَّرنا في جُمَالَات (1).
* * *
وقوله : (هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36)
يوم القيامة له مواطن ومواقيتُ ، فهذا من المواقيت التي لا يتكلمون
فيها.
* * *
وقوله : (هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38)
أي هذا يوم يفصل فيه بين أهل الجنة والنار وأهل الحق والبَاطِلِ.
* * *
وقوله : (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { إِنَّهَا } : أي : إنَّ جهنَّم؛ لأنَّ السياقَ كلَّه لأجلها . وقرأ العامَّةُ : « بَشرَرٍ » بفتح الشينِ وعَدَمِ الألفِ بين الراءَيْن . وورش يُرَقِّقُ الراءَ الأولى لكسرِ التي بعدها . وقرأ ابن عباس وابن مقسم بكسرِ الشين وألفٍ بين الراءَيْنِ . وعيسى كذلك ، إلاَّ أنَّه فتح الشين . فقراءةُ ابنِ عباس يجوزُ أَنْ تكونَ جمعاً لشَرَرَة ، وفَعَلة تُجْمَعُ على فِعال نحو : رَقَبة ورِقاب ورَحَبة ورِحاب ، وأَنْ تكونَ جمعاً لشَرِّ ، لا يُراد به أَفْعَلُ التفضيلِ . يقال : رجلٌ شَرٌّ ورجالٌ شِرارٌ ، ورجلٌ خيرٌ ورجالٌ خِيار ، ويؤنثان فيقال : امرأة شَرَّةٌ ، وامرأةٌ خَيْرةٌ . فإن أُريد بهما التفضيلُ امتنعَ ذلك فيهما ، واختصَّا بأحكامٍ مذكورةٍ في كتبِ النحْويين أي : تَرمي بشِرارٍ من العذابِ أو بشِرار من الخَلْق.
وأمَّا قراءةُ عيسى/ فهي جمعُ شَرارَةٍ بالألفِ وهي لغةُ تميمٍ . والشَّرَرَةُ والشَّرارَة : ما تطايَرَ من النارِ متفرِّقاً.
قوله : { كالقصر } العامَّةُ على فتح القافِ وسكونِ الصادِ ، وهو القَصْرُ المعروف ، شُبِّهَتْ به في كِبَرِه وعِظَمِه . وابن عباس وتلميذاه ابن جُبَيْر وابنُ جَبْر ، والحسن ، بفتحِ القافِ والصادِ ، وهي جمعُ قَصَرة بالفتح والقَصَرَةُ : أَعْناقُ الإِبلِ والنخلِ ، وأصولُ الشجرِ . وقرأ ابن جبير والحسن أيضاً بكسرِ القافِ وفتحِ الصاد جمع « قَصَرة » يعني بفتح القافِ . قال الزمخشريُّ : « كحاجةٍ وحِوَج » وقال الشيخ : « كحَلَقة من الحديدِ وحِلَق » . وقُرىء « كالقَصِرِ » بفتح القاف وكسرِ الصادِ ، ولم أَرَ لها توجيهاً . ويظهرُ أنَّ ذلك مِنْ بابِ الإِتباعِ ، والأصلُ : كالقَصْرِ بسكونِ الصادِ ، ثم أتبعَ الصادَ حركةَ الراءِ فكسَرها ، وإذا كانوا قد فَعَلُوا ذلك في المشغولِ بحركة نحو : كَتِف وكَبِد ، فلأَنْ يَفْعلوه في الخالي منها أَوْلَى . ويجوزُ أَنْ يكون ذلك للنقل بمعنى : أنه وَقَفَ على الكلمةِ فَنَقَل كسرةَ الراءِ إلى الساكنِ قبلَها . ثم أَجْرَى الوَصْلَ مُجْرَى الوقفِ ، وهو بابٌ شائِعٌ عند القُرَّاءِ والنحاة . وقرأ عبدُ الله بضمِّهما . وفيها وجهان ، أحدُهما : أنَّه جمعُ قَصْرٍ كرَهْن وَرُهُن ، قاله الزمخشريُّ . والثاني : أنَّه مقصورٌ من قُصور كقولِه :
4458 فيها عيايِيْلُ أُسودٍ ونُمُرْ . . . يريد : ونُمور . فقصَر وكقوله : « النُّجُم » يريد النجوم . وتخريجُ الزمخشريِّ أَوْلَى؛ لأنَّ محلَّ الثاني : إمَّا الضرورةُ ، وإمَّا النُّدُور.
قوله : { جِمَالَةٌ } : قرأ الأخَوان وحَفْصٌ « جِمالَةٌ » . والباقون « جِمالات » . فالجِمالَةُ فيها وجهان ، أحدُهما : أنَّها جمعٌ صريحٌ ، والتاءُ لتأنيثِ الجمعِ . يُقال : جَمَلٌ وجِمال وجِمالَة نحو : ذَكَر وذِكار وذِكارة ، وحَجَر وحِجارة . والثاني : أنه اسمُ جمعٍ كالذِّكارة والحِجارة ، قاله أبو البقاء ، والأولُ قولُ النُّحاةِ . وأمَّا جِمالات فيجوزُ أَنْ يكونَ جمعاً ل « جِمالة » هذه ، وأَنْ يكونَ جمعاً ل جِمال ، فيكون جمعَ الجمعِ . ويجوزُ أَنْ يكونَ جمعاً ل جَمَل المفردِ كقولهم : « رجِالات قريش » كذا قالوه . وفيه نظرٌ؛ لأنَّهم نَصُّوا على أنَّ الأسماءَ الجامدةَ غيرَ العاقلةِ لا تُجْمَعُ بالألفِ والتاءِ ، إلاَّ إذا لم تُكَسَّرْ . فإنْ كُسِّرَْتْ لَم تُجْمَعْ . قالوا : ولذلك لُحِّن المتنبيُّ في قولِه :
4459 إذا كان بعضُ الناسِ سَيْفاً لدولةٍ . . . ففي الناسِ بُوْقاتٌ لها وطُبولُ
فجمع « بُوقاً » على « بُوقات » مع قولِهم : « أَبْواق » ، فكذلك جِمالات مع قولهم : جَمَل وجِمال . على أنَّ بعضَهم لا يُجيزُ ذلك ، ويَجْعَلُ نحو « : حَمَّامات وسِجلاَّت شاذَّاً ، وإنْ لم يُكَسَّرْ.
وقرأ ابنُ عباس والحسنُ وابن جبير وقتادةُ وأبو رجاء ، بخلافٍ عنهم ، كذلك ، إلاَّ أنَّهم ضَمُّوا الجيمَ وهي حِبالُ السفنِ . وقيل : قُلوس الجسورِ ، الواحدةِ » جُمْلة « لاشتمالِها على طاقاتِ الحِبال . وفيها وجهان ، أحدهما : أَنْ تكونَ » جُمالات « جمعَ جُمال ، وجُمال جَمْعَ جُمْلة ، كذا قال الشيخ ، ويَحْتاجُ في إثباتِ أنَّ جُمالاً بالضمِّ جمعُ جُمْلة بالضمِّ إلى نَقْلٍ . والثاني : أنَّ » جُمالات « جمعُ جُمالة قاله الزمخشري ، وهو ظاهرٌ . وقرأ ابنُ عباس والسُّلَمِيُّ وأبو حيوةَ » جُمالة « بضمِّ الجيم ، وهي دالَّةٌ لِما قاله الزمخشريُّ آنِفاً.
قوله : { صُفْرٌ } صفةٌ لجِمالات أو لِجمالة؛ لأنَّه : إمَّا جمعٌ أو اسمُ جمعٍ . والعامَّة على سكونِ الفاءِ جمعَ صفْراء . والحسنُ بضمِّها ، وكأنَّه إتْباعٌ . وَوَقَعَ التشبيهُ هنا في غايةِ الفصاحةِ . قال الزمخشريُّ : » وقيل : صُفْرٌ سُوْدٌ تَضْرِبُ إلى الصُّفرة . وفي شعرِ عمرانَ بنِ حِطَّانَ الخارجيِّ :
4460 دَعَتْهُمْ بأعلَى صوتِها ورَمَتْهُمُ . . . بمثل الجِمال الصفر نَزَّاعةِ الشَّوى
وقال أبو العلاء المعري :
4461 حمراءُ ساطِعَةُ الذوائب في الدُّجَى . . . تَرْمي بكل شَرارةٍ كطِرافٍ
فشبَّهها/ بالطِّراف ، وهو بيت الأُدَم في العِظَمِ والحُمْرَةِ ، وكأنه قَصَدَ بخُبْثِه أَنْ يزيدَ على تشبيهِ القرآن . ولتبجُّحه بما سُوِّل له مِنْ تَوَهُّم الزيادة جاءَ في صَدْرِ بيتِه بقولِه : « حمراءُ » توطئةً لها ومناداةً عليها ، وتَنْبيهاً للسامِعين على مكانِها . ولقد عَمِيَ جمع الله له عَمى الدَّارَيْن عن قولِه عزَّ وجلَّ : « كأنه جِمالةٌ صُفْرٌ » فإنه بمنزلةِ قولِه كبيتٍ أحمر . وعلى أنَّ في التشبيهِ بالقَصْر وهو الحِصْنُ تشبيهاً مِنْ جهتَين : مِنْ جهةِ العِظَمِ ، ومن جهةِ الطولِ في الهواءِ ، وفي التشبيه بالجِمالات وهي القُلُوسُ تشبيهٌ مِنْ ثلاثِ جهاتٍ : الطُّولِ والعِظَمِ والصُّفْرةِ « انتهى . وكان قد قال قبلَ ذلك بقليلٍ : » شُبِّهَتْ بالقُصورِ ثم بالجِمال لبيانِ التشبيهِ ، ألا ترى أنَّهم يُشَبِّهون الإِبلَ بالأَفْدان « قلت : الأَفْدانُ : القصورُ ، وكأنه يُشيرُ إلى قولِ عنترة :
4462 فوقَفْتُ فيها ناقتي وكأنَّها . . . فَدَنٌ لأَقْضِيَ حاجةَ المُتَلَوِّمِ
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5/268)


ههنا إضمار القول ، المعنى (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42)
يقال لهم : (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).
* * *
قوله : (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (48)
إذا أمروا بالصلَاةِ لَمْ يُصَلُّوا.
* * *
وقوله : (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)
أي : فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بعد القرآن الذي أتاهم فيه البيان وأَنَهُ مُعْجِزَة وهو آية
قائمة ، دليلة على الإسلام مما جاء به النبي عليه السلام .

(5/269)


سُورَةُ النَّبَأ
( مَكِّيَّة )
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله عزَّ وجلَّ : (عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1)
أصله عن ما يتساءلون . فأدْغمت النون في الميم ، لأن الميم تشرك
النُونَ في الغُنَّةِ في الأنف ، وقد فسرنا لم حذفت الألف فيما مضى من
الكتاب ، والمعنى عن أي شيء يتساءلون ، فاللفظ لفظ الاستفهام ، والمعنى
تفخيم القصة كماتقول : أي شيء زَيْدٌ.
ثم بين فقال :
* * *
(عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2)
قيل هو القرآنَ ، وقيل عن البعث ، وقيل عن أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -.
والذي يدل عليه قوله : (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا)
يدل على أنهم كانوا يَتساءلون عن البعث.
* * *
وقوله : (كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4)
وقرئتْ : (كلا ستعلمون) بالتاء.
والذىَ عليه القراء : (كَلَّا سَيَعْلَمُونَ) بالياء.
وهو أجود ، والتاء تروى عَنِ الحَسنِ.
* * *
وقوله : (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6)
وقرئت (مَهْداً) ، وأكثر القراء يقرأونها (مِهَادًا).
والمعنى واحد وتأويله إنا ذللناها لهم حتى سكنوها وساروا في مناكبها.

(5/271)


وقوله : (وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8)
خلق الذكَر والأنثى ، وقيل أزواجاً أي ألواناً.
* * *
(وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9)
والسُّبَاتُ أن ينْقطع عن الحركة والروحُ في بدنه ، أي جعلنا نومكم راحة
لكم.
* * *
(وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10)
أي تسكنون فيه وهو مشتمل عليكم
* * *
(وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12)
أي سبعَ سمواتٍ.
* * *
(وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13)
أي جعلنا فيها الشمس سراجاً.
وتأويل (وَهَّاجًا) وَقًاداً . .
* * *
(وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14)
المعصرات : السحائب لأنها تعصر الماء وقيل المعصرات كما يقال : قد
أَجَزَّ الزرْعُ فهو مُجَزّ إذا صار إلى أن يمطر . فقد أَعْصَر (1)
ومعنى ثجاج صباب.
* * *
(لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15)
كل ما حصد فهو حَبٌّ ، وكل ما أكلته الماشية من الكلأ فهو نَبَات.
* * *
(وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16)
أي وبساتين ملتفة ، فأعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - ما خلق وأنه قادِرٌ على
البعث فقال :
* * *
(إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17)
* * *
(يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18)
بدل من يوم الفصل ، إن شئت كان مُفسَراً ليوم الفصلِ.
وقد فسرنا الصور فيما مضى.
(فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا)
أي تأتي كل أمة مع إمَامِهِم.
__________
(1) قال ابن الجوزي حكايا عن الزَّجَّاجِ ما نصه :
وقال الزجاج : إنما قيل للسحاب : معصرات ، كما قيل : أجزَّ الزرع ، فهو مُجِزُّ ، أي : صار إلى أن يُجَزَّ ، فكذلك السحاب إذا صار إلى أن يمطر ، فقد أعصر. اهـ (زاد المسير. 9 / 6)
وقال السَّمين :
قوله : { مِنَ المعصرات } : يجوزُ في « مِنْ » أَنْ تكونَ على بابِها من ابتداءِ الغاية ، وأَنْ تكونَ للسببية . ويَدُلُّ قراءةُ عبدِ الله بنِ يزيد وعكرمة وقتادة « بالمُعْصِرات » بالباءِ بدلَ « مِنْ » وهذا على خلافٍ في « المُعْصِرات » ما المرادُ بها؟ فقيل : السحاب . يقال : أَعْصَرَتْ السَّحائِبُ ، أي : شارَفَتْ أَنْ تُعْصِرَها الرياحُ فتُمْطِرَ كقولك : « أجَزَّ الزرعُ » إذا حان له أن يُجَزَّ . ومنه « أَعْصَرَتِ الجارِيَةُ » إذا حان لها أَنْ تحيضَ . قاله الزمخشريُّ . وأنشد ابنُ قتيبة لأبي النجم :
4466 تَمْشي الهُوَيْنَى ساقِطاً خِمارُها . . . قد أَعْصَرَتْ أو قَدْ دَنَا إعْصارُها
قلت : ولولا تأويلُ « أَعْصَرَتْ » بذلك لكان ينبغي أَنْ تكونَ المُعْصَرات بفتح الصادِ اسمَ مفعول؛ لأنَّ الرياحَ تُعْصِرُها.
وقال الزمخشري : « وقرأ عكرمةُ » بالمُعْصِرات « . وفيه وجهان : أَنْ يُراد الرياحُ التي حانَ لها أَنْ تُعْصِرَ السحابَ ، وأَنْ يُرادَ السحائبُ؛ لأنَّه إذا كان الإِنزالُ منها فهو بها/ كما تقول : أَعْطى مِنْ يدِه درهماً ، وأَعْطى بيدِه . وعن مجاهد : المُعْصِرات : الرياحُ ذواتُ الأعاصيرِ . وعن الحسن وقتادة : هي السماواتُ . وتأويلُه : أنَّ الماءَ يَنْزِلَ من السماءِ إلى السحاب فكأنَّ السماواتِ يَعْصِرْنَ ، أي : يَحْمِلْنَ على العَصْر ويُمَكِّنَّ منه . فإنْ قلتَ : فما وَجْهُ مَنْ قرأ » من المُعْصِرات « وفسَّرها بالرياح ذواتِ الأعاصيرِ ، والمطرُ لا يَنْزِلُ من الرياح؟ قلت : الرياحُ هي التي تُنْشِىءُ السحابَ وتَدِرُّ أخلافَه ، فيَصِحُّ أَنْ تُجْعَلَ مَبْدأً للإِنزال . وقد جاء : إنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ الرياحَ فتحملُ الماءَ من السماء ، فإنْ صَحَّ ذلك فالإِنْزالُ منها ظاهرٌ . فإنْ قلت : ذكر ابن كَيْسانَ : أنه جَعَلَ المُعْصِرات بمعنى المُغِيثات ، والعاصِرُ هو المُغيث لا المُعْصِر . يقال : عَصَرَهُ فاعْتَصَرَ . قلت : وَجْهُه أَنْ يُرادَ : اللاتي أَعْصَرْن ، أي : حان لها أَنْ تُعْصِرَ ، أي : تُغيث » . قلت : يعني أنَّ « عَصَرَ » بمعنى الإِغاثةِ ثلاثيٌّ ، فكيف قيل هنا : مُعْصِرات بهذا المعنى ، وهو من الرُّباعي؟ فأجاب عنه بما تقدَّم ، يعني أنَّ الهمزةَ بمعنى الدُّخولِ في الشيء.
قوله : { ثَجَّاجاً } الثَّجُّ : الانصِبابُ بكثرةٍ وشِدَّةٍ . وفي الحديث : « أحَبُّ العملِ إلى اللَّهِ العَجُّ والثَّجُّ » فالعَجُّ : رَفْعُ الصوتِ بالتلبيةِ ، والثَّجُّ : إراقةُ دماءِ الهَدْيِ . يقال : ثَجَّ الماءُ بنفسِه ، أي : انصَبَّ وثَجَجْتُه أنا ، أي : صَبَبْتُه ثَجّاً وثُجوجاً ، فيكونُ لازماً ومتعدياً . وقال الشاعر :
4467 إذا رَجَفَتْ فيها رَحَىً مُرْجَحِنَّةٌ . . . تَبَعَّجَّ ثَجَّاجاً غَزيرَ الحوافِلِ
وقرأ الأعرج « ثجَّاحاً » بالحاءِ المهملةِ أخيراً . وقال الزمخشري : « ومَثاجِحُ الماءِ مَصابُّه ، والماءُ يَنْثَجِحُ في الوادي ».
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5/272)


(وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19)
أي تشققت كما قال عزَّ وجلَّ : (إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ)
(إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ).
* * *
وقوله : (إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآبًا (22)
أي يَرْصُدُ أَهلَ الكفر ومن حق عليه العذاب.
تكاد تميز من الغيظ ، فلا يجاوزها من حقت عليه كلمة العذاب.
ومعنى (مَآبًا) إليها يرجعون.
* * *
وقوله : (لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23)
وَلَبِثينَ ، يقال : لبث الرجل فهو لابث ، ويقال : هو لبث بمكان كذا أي
صار اللبث شَأنَهُ.
والأحقاب واحدها حُقْب ، والحقب ثمانون سنة ، كل سنة
اثنا عشر شهراً ، وكل شهر ثلاثون يوماً ، وكل يوم مقداره ألف سنة من سني الدنيا ، والمعنى أنهم يلبثون أحقاباً لاَ يَذُوقُون في الأحقاب برداً ولا شراباً ، وهم خالدون في النار أبداً كما قال عزَّ وجلَّ : (خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا) (1).
* * *
ومعنى : (لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24)
قيل نوماً ، وجائز أن يكون لَا يَذُفقُونَ فِيهَا بَرْدَ رِيح وَلاَ ظِلٍّ وَلاَ نَوْم.
* * *
(إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25)
أي لا يذوقون فيها إلَّا حميماً وهو في غاية الحرارة.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { لاَّبِثِينَ } : منصوبٌ على الحالِ من الضميرِ المستترِ في « للطَّاغِين » وهي حالٌ مقدرةٌ . وقرأ حمزةُ « لَبِثِيْنَ » دونَ ألفٍ ، والباقون « لابِثين » بها . وضَعَّفَ مكيٌّ قراءةَ حمزةَ ، قال : « ومَنْ قرأ » لبِثين « ، شَبَّهه بما هو خِلْقَةٌ في الإِنسان نحو : حَذِر وفَرِق ، وهو بعيدٌ؛ لأنَّ اللُّبْثَ ليس مِمَّا يكونُ خِلْقَةً في الإِنسان ، وبابُ فَعِل إنما هو لِما يكونُ خِلْقَةً في الإِنسانِ ، وليس اللُّبْثُ بخِلْقةٍ » . ورَجَّح الزمخشريُّ قراءةَ حمزةَ فقال : « قُرِىءَ : لابِثين ولَبِثين . والَّلبِثُ أَقْوى »؛ لأنَّ اللابِثَ يُقال لِمَنْ وجِدَ منه الُّلبْثُ ، ولا يُقال : لِبثٌ إلاَّ لمَنْ شأنُه الُّلبْثُ كالذي يَجْثُمُ بالمكانِ ، لا يكاد يَنْفَكُّ منه « . قلت : وما قاله الزمخشريُّ أَصْوَبُ . وأمَّا قولُ مكيّ : الُّلبْثُ ليس خِلْقَةً فمُسَلَّمٌ؛ لكنه بُوْلِغَ في ذلك فجُعِلَ بمنزلةِ الأشياءِ الخِلْقيَّة.
قوله : { أَحْقَاباً } منصوبٌ على الظرفِ ، وناصبهُ » لا بثين « ، هذا هو المشهورُ . وقيل : هو منصوبٌ بقولِه » لا يَذُوقون « وهذا عند مَنْ يرى تقديمَ معمولِ ما بعد » لا « عليها ، وهو أحدُ الأوجه ، وقد تقدَّم هذا مستوفىً في أواخر الفاتحة . وجَوَّز الزمخشريُّ أَنْ ينتصِبَ على الحالِ ، قال : » وفيه وجهٌ آخر : وهو أَنْ يكونَ مِنْ حَقِبَ عامُنا : إذا قَلَّ مطرُه وخيرُه ، وحَقِبَ فلانٌ : إذا أَخْطَأَهُ الرِّزْقُ فهو حَقِبٌ ، وجمعهُ أَحْقاب ، فينتصِبُ حالاً عنهم بمعنى : لابثين فيها حَقِبين جَحِدين « . وقد تقدَّم الكلامُ على » الحُقُب « ، وما قيل فيه في سورة الكهف.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5/273)


والغَسَّاقُ : قيل ما يَغْسِقُ من جُلُودهم ، أي يسيل.
وقيل : الغسَّاق الشديد البَرْدِ.
* * *
(جَزَاءً وِفَاقًا (26)
أي جُوزُوا وِفْق أعمالهم.
* * *
(إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27)
أي لا يؤمنون بالبعث وَلَا بأنهمْ يُحَاسَبُونَ ، ويرجون ثواب حساب.
* * *
(وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28)
هذا أكثر القراءة ، وَقَدْ قُرِئَتْ (كِذَابًا) بالتخفيف.
و (كِذَّابًا) بالتَشْدِيدِ أكثر.
وهو في مصادر فعَّلْتُ أجود من فِعَال.
قال الشاعر :
لَقَدْ طَالَ مَا ثَبَّطَتني عن صَحَابَتي . . . وَعَنْ حوَجٍ قِضَّاؤها من شِفَائِيَا
من قضيت قضَاء.
ومثل كِذَاباً - بالتخفيف
قول الشاعر :
فَصَدَقْتُها وكَذَبْتُها . . . وَالمَرْءُ يَنْفَعُهُ كِذَابُهْ
* * *
وقوله : (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29)
(وَكُلَّ) منصوبٌ ، بفعل مُضْمَر تفسيره أَحْصَيْنَاهُ كتاباً.
المعنى وأَحصينا كلَّ شيء أحْصَيْناه.
وقوله (كِتاباً) توكيد لقوله (أحْصَيْنَاهُ) لأن معنى أحْصَيْنَاه وكتبناه
فيما يحصل ويثبت واحد ؛ فالمعنى كتبناه كتاباً.
* * *
وقوله - جلَّ وعزَّ : - (وَكَأْسًا دِهَاقًا (34)
أي تقدير الآية لا يرجون ثواب حساب - فهناك مضاف محذوف .

(5/274)


قال أبو إسحاق : الكأس كل إناء فيه شرابٌ فهو كاس ، فإذا لم يكن فيه
شراب . فليس بكأس ، وكذلك المائدة : ما كان عليها من الأخونة طعام فهو
مائدة ، ومعنى دهاقاً مليء ، وجاء في التفسير أَيْضاً أنها صافية ، قال الشاعر :
يَلَذُّه بكَأْسِه الدِّهاق
* * *
وقوله : (جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36)
منصوب بمعنى (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا) ، المعنى جازاهم بذلك جزاء.
وكذلك (عَطَاءً حِسَابًا) ، لأن معنى أعطاهم وجزاهم وَاحِد.
و (حِسَابًا) معناه ما يكفيهم ، أي فيه ما يشتهون.
يقال : أَحْسَبَنِي كذا وكذا بمعنى كفاني.
* * *
وقوله : (رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37)
قرئت بالجر على الصفة من قوله : " مِنْ رَبِّكَ " رَبِّ.
وقرئت " ربُّ " على معنى هو رَبُّ السَّمَاواتِ والأرْضِ.
وكذلك قرئَت (الرَّحْمَنُ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا) - بالجرِّ والرفع.
وتفسيرها تفسير (رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ).
* * *
وقوله : (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38)
(الرُّوحُ) خلق كالإنس ، وليس هو إنس.
وقيل : الروح جبريل عليه السلام.
* * *
وقوله : (فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (39)
أي مرْجعاً.
* * *
وقوله : (وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (40)
جاء في التفسير أنه إذا كان يوم القيامة اقتُصَّ للجَمَّاءِ مِنَ القَرْناء.
والجمَّاء

(5/275)


التي لا قرن لها.
ثم يجعل اللَّه تعالى الجميع تراباً ، وذَلِك التُرابً هو القَتَرَة
التي تَرْهَقُ وجوهَ الكفار وتعلو وجوههم ، فيتمنى الكافر أن يكون ترَاباً.
وقد قيل : إن معنى (يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا).
أي ليتني لم أبعث ، كما قال : (يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25).

(5/276)


سُورَةُ النَّازِعَاتِ
( مَكِّيَّة )
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله عزَّ وجلَّ : (وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2)
قيل في التفسير يعنى به الملائكة تنزِع روحَ الكَافِرِ وتنشطها فيشتد عليه
أمر خروج نَفْسِه.
* * *
وقوله : (وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4)
أرواح المؤمنين تخرج بسهولةٍ.
وقيل : (وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا) القسِي ، (وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا) الأَوْهاق
(وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا) السُّفن ، (فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا) الخيل.
* * *
(فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5)
(فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا) الملائِكَة ، جبريل وميكائيل وإسرافيل وملَك الموْتِ
فجبريل بالوحي والتنزيل وميكائيل بالقطر والنبات ، وإسرافيل للصورِ وملك
الموت لقبض الأرْوَاحِ.
وقيل : (وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا) : النجوم تنزع من مَكَانٍ إلى مكانٍ وكذلك
(وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا) النجوم تسبح في الفلك كما قال : (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ).
__________
(1) الأَوْهاق جمع وهق وهو الأربطة والقيود

(5/277)


وكذلك (فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا)
فأما (المدبرات أمراً) فالملائكةً ، وقيل ((فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا) الملائكة تسبق الشياطينَ بالوَحْي إلى الأنبياء
كل هذا جاء في التفسير واللَّه أعلم بحقيقة ذلك.
* * *
وقوله : (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7)
ترجف تتحرك حركة شديدة ، وقيل : الراجفة النفخة الأولى التي تموت
معها جميع الخلق.
* * *
وَقَوْلَهُ : (تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7)
قيل النفخة الثانية التي تبعث معها الخلق ، وهو كقوله تعالى :
(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68).
و (يَوْمَ) منصوب على معنى قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ.
ومعنى واجفة شديدة الاضطراب.
* * *
(أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9)
ذليلة.
وجواب والنازعات - واللَّه أعلم - محذوفٌ ، والمعنى كأنَّه أَقْسَمَ فقال :
وهَذِه الأشْياء لَتُبْعثنَّ ، والدلِيلُ عَلَى ذَلكَ قوله :
* * *
(يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10)
أي إنا نرد في الحياة بعد الموت إذا كنا عظاماً نَخِرة ، أي نُردُّ ونبعث.
ويقال : رجع فلان في حافرته إذا رجع في الطريق الذي جاء فيه.
(أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (11)
وقرئت (نَخِرَةً) (1) ، و (نَاخِرَةً) أكثر في القراءة وأجود لشبه آخِرِ الآي بعضها ببعض ، الحافرة
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { نَّخِرَةً } : قرأ الأخَوان وأبو بكر « ناخِرَة » بألفٍ ، والباقون « نَخِرَة » بدونِها وهما كحاذِر وحَذِر ، فاعِل لمَنْ صَدرَ منه الفِعْلُ ، وفَعِل لِمَنْ كان فيه غَريزةً ، أو كالغَريزة . وقيل : ناخِرة ونَخِرة بمعنى بالية . وقيل : ناخِرَة ، أي : صارَتِ الريحُ تَنْخِرُ فيها ، أي : تُصَوِّتُ ، ونَخِرَة ، أي : تَنْخِرُ فيها دائماً . وقيل : ناخِرَة : بالِية ، ونَخِرَة : متآكلة . وعن أبي عمروٍ : الناخِرة : التي لم تَنْخَرْ بعدُ ، والنَّخِرَةُ : البالية . وقيل : الناخِرَةُ : المُصَوِّتَةُ فيها الريحُ ، والنَّخِرةُ : الباليةُ التي تَعَفَّنَتْ . قال الزمخشري : « يُقال : نَخِر العظمُ ، فهو نَخِرٌ وناخِرٌ ، كقولِك : طَمِعَ فهو طَمعٌ وطامعٌ ، وفَعِل أَبْلَغُ مِنْ فاعِل ، وقد قُرِىء بها ، وهو البالي الأجوفُ الذي تَمُرُّ فيه الرِّيحُ فيُسْمَعُ له نَخِير » . قلت : ومنه قولُه :
4484 وأَخْلَيْتُها مِنْ مُخِّها فكأنَّها . . . قواريرُ في أجوافِها الريحُ تَنْخِرُ
وقال الراجزُ لفَرَسه :
4485 أَقْدِمْ نَجاحُ إنها الأَساوِرَهْ . . . ولا يَهْوْلَنَّكَ رَحْلٌ نادِرَهْ
فإنما قَصْرُك تُرْبُ السَّاهِرَهْ . . . ثم تعودُ بعدها في الحافِرَهْ
مِنْ بعدِ ما كنتَ عِظاماً ناخِرَهْ . . . ونُخْرَةُ الرِّيْح بضمِّ النون : شِدَّةُ هبوبِها ، والنُّخْرَةُ أيضاً : مُقَدَّمُ أَنْفِ الفَرَسِ والحمارِ والخِنْزير . يقال : هَشَم نُخْرَتَه ، أي : مُقَدَّمَ أَنْفِه . و « إذا » منصوبٌ بمضمرٍ ، أي : إذا كُنَّا كذا نُرَدُّ ونُبْعَثُ.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5/278)


وناخرة وخاسرة . ونخرة جَيدة أيضاً ، يقال : نخر العظم يَنْخَر فهو نخِر مثل عفِنَ الشيءُ يعْفنُ فهو عَفِن . وَنَاخِرة على معنى عظاماً فارغة يصير فيها من هبوب الريح كالنخير ، ويجوز ناخرة كما تقول : بَلِي الشيء وبليت العظام فهي بَالِية.
* * *
(قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12)
أي هذه الكرة كرة خُسْران.
والمعنى أهلها خاسرونَ.
ثم أَعْلَمَ عزَّ وجل سهولة البعث عليه فقال :
* * *
(فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)
والساهرة وجه الأرض.
* * *
وقوله : (إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16)
أي المبارك.
وقرئت " طُوَى اذْهَبْ " - غَيْرَ مَصْرُوفَةٍ - وطًوًى منوَّنَةً.
وقرئت طِوَى بكسر الطاء.
وطُوَى اسم الوادي الذي كلم الله عليه موسى.
فمن صرفه فهو بمنزلة نُغَر (1) وَصُرَدِ إذا سميت به مذكراً ، ومن لم يصرفه فهو على ضربين :
أحدهما أَنْ يكون اسمَ البقعة التي هي مشتملة على الوادي ، كما
قال : (فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ)
وَقِيلَ إنَه مُنِعَ الصرْف لأنه معدول نحو عُمَر ، فكان طوى عُدِلَ عَنْ طاوٍ
كما أن عًمرَ عُدِلَ عَنْ عَامِر.
ومن قال طِوى بالكسر فعلى معنى المقدَّس مرةً بعد مَرةٍ.
كما قال طرفة بن العَبْد :
أَعاذِل إِنَّ اللَّوْمَ في غيرِ كُنْهِه عليَّ طُِوىً من غَيِّك المُتَرَدِّد
أي إن اللوْمَ المكرُورَ عَلَيَّ.
* * *
وقوله : (فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20)
__________
(1) النغر فراخ العصافير واحدها نغرة .

(5/279)


يعنى أنه اليدُ التي أخرجها تتلألأ من غير سوء.
* * *
قوله عزَّ وجلَّ : (فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25)
(نَكَالَ) منصوب مصدر مؤكد لأن معنى أخذه اللَّه نَكَّلَ بِهِ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى أي أغرقه في الدنيا ويعذبه في الآخرة.
وجاء في التفسير أن (نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى)
نكال قوله : (مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي).
وقوله : (أنا رَبُّكُمُ الأعْلَى).
فنكل اللَّه به نكال هاتين الكلمتين (1).
* * *
قوله : (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27)
قال بعض النحويين : (بناها) من صلة السَّمَاءِ ، المعنى أم التي بناها.
وقال قوم : السماء ليس مِما يوصل ، ولكن المعنى أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ
أَشَدُّ خَلْقًا.
ثم بين كيف خلقها فقال :
* * *
(بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29)
أي أظْلَمَ لَيْلَها.
* * *
(وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا) : أظهر نورها بالشمس.
* * *
وقوله : (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30)
القراءة على نصب (الْأَرْضَ) ، على معنى : ودحا الأرضَ بعد ذلك ، وفسر
هذا المضمر فقال (دَحَاهَا) ، كما تقول : ضربت زيدا وعمرا أكرمته.
وقد قرئت (وَالْأَرْضُ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا) على الرفع بالابتداء.
والنصب أجودُ ، لأنك تعطف بفعل على فعل أحسن ، فيكون على معنى بناها.
وفعَل وفَعَل ودَحَا الأرض بعد ذلك.
* * *
قوله : (وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32)
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { نَكَالَ الآخرة } : يجوزُ أَنْ يكونَ مصدراً ل « أَخَذَ » ، والتجوُّزُ : إمَّا في الفعل ، أي : نَكَّل بالأَخْذِ نَكالَ الآخرةِ ، وإمَّا في المصدر ، أي : أَخَذَه أَخْذَ نَكالٍ . ويجوزُ أَنْ يكونَ مفعولاً له ، أي : لأجل نَكالِه . ويَضْعُفُ جَعْلُه حالاً لتعريفِهِ ، وتأويلُه كتأويلِ جَهْدَك وطاقَتَك غيرُ مَقيس . ويجوزُ أَنْ يكونَ مصدراً مؤكِّداً لمضمونِ الجملةِ المتقدِّمةِ ، أي : نَكَّل الله به نَكالَ الآخرةِ ، قاله الزمخشري ، وجعله ك { وَعْدَ الله } [ النساء : 122 ] و { صِبْغَةَ الله } [ البقرة : 138 ] . والنَّكالُ : بمنزلةِ التَّنْكيل ، كالسَّلام بمعنى التَّسْليم . والآخرةُ والأولى : « إمَّا الداران ، وإمَّا الكلمتان ، فالآخرةُ قولُه : { أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى } [ النازعات : 24 ] ، والأولى : { مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرِي } [ القصص : 38 ] فحُذِفَ الموصوفُ للعِلْم به . اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5/280)


تفسير نصب الجبال كتفسير نصب الأرض ، وكذلك يجوز الرفع ، وقد
قرئ به في الجبال على تفسير والأرض.
ومعنى (أَرْسَاهَا) أثبتَهَا.
* * *
وقوله : (مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33)
نصب (مَتَاعًا لَكُمْ) بمعنى قوله أخْرَجَ مِنْهَا مَاَءَهَا ومَرْعَاهَا للِإمتاع لكم.
لأن معنى أخرج منها ماءها ومرعاها أمتع بذلك.
* * *
وقوله : (فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34)
إذا جاءت الصيحة التي تَطُم كلَّ شيء ، الصيْحة التي يقع معها البعث
والحساب والعقاب والعذاب والرحمة.
* * *
وقوله : (فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39)
هذا جواب فإذا جاءت الطامة الكبرى ، فإن الأمر كذلك ، ومعنى هي
الْمَأْوَى أي هي الْمَأْوَى له ، وقال قوم : الألف واللام بَدَل من الهاء ، المعنى
فهي مأواه لأن الألف واللام بدل من الهاء ، وهذا كما تقول للإنسان : غُضِ
الطرفَ يا هَذَا . فلابس الألف واللام بدلا من الكاف وأن كان المعنى غضَ
طَرْفَك لأن المخاطب يعلم أنك لا تأمره بغض طرف غيره.
قال الشاعر :
فغضَّ الطرفَ إنَّك من نُمَيْرٍ . . . فلا كعباً بلغتَ ولا كِلَابا
وكذلك معنى (فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) على ذلك التفسير.
* * *
وقوله : (يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42)
معناه متى وقوعها وقيامها.
ومعنى (إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44)
أي منتهى علمها .

(5/281)


وقوله : (إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45)
وقرئت (مُنْذِرٌ) بالتنوين على معنى إنما أنت في حال إنذار من يخشاها
وتنذر أيضاً فيما يستقبل من يخشاها ، ومُفعِل وفاعِل إذا كان واحد منهما ومما كان في معناهما لما يستقبل وللحال نوَّنته لأنه يكون بَدَلاً من الفعل ، والفعل لا يكون إلا نكرة.
وقد يجوز حذف التنوين على الاستئفاف ، والمعنى معنى
ثبوته يعني ثبوت التنوين ، فإذا كان لما مضى فهو غير مُنَوَّنٍ ألبتَّةَ ، تقول : أنت منذر زيداً ، أي - أنت أنذرت زيداً.
* * *
وقوله : (إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46)
هذه الألف والهاء عائدة على (عَشِيَّةً) ، المعنى إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا.
أو ضحى العشية ، فأضفت الضحى إلى العشية ، والغداة والعَشِي والضحوة
والضحى لليوم الذي يكون فيه ، فإذا قلت أتيتك صباحاً ومساءه ، أو مساء
وصَباحَه ، فالمبنى أتيتك صباحاً ومساء يلي الصباح ، وأتيتك مساء وصَبَاحاً
يلي المساء .

(5/282)


سُورَةُ عَبَسَ
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
قوله : (عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2)
(أَنْ) في موضع نصب مفعول له ، المعنى لأن جاءه الأعمى.
وهذه الآيات وما بعدها إلى قوله (فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى)
نزلت في عبد اللَّه ابن أمِّ مكتوم . كان صار إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - والنبي يدعو بعض أشراف قريش إلى الإسلام رجاء أن يسلم بإسلامه غيره ، فتشَاغَل - عليه السِلام - بدعائه عن الإقبال
على عبد الله بن أم مكتوم ، فأمره الله ألا يتشاغَلَ عن الإقبالِ على أَحَدٍ من
المسلمين بغيره ، فقال : (عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4)
(فَتَنْفَعُهُ الذِّكْرَى)
وُيقْرَأُ (فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى).
فمن نصب فعلى جواب (لَعَلَّ) ومن رفع فعلى العطف على (يَزَّكَّى)
* * *
وقوله : (أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6)
أي أنت تقبل عليه ، ويقرأ (تَصَّدَّى) ، فمن قرأ (تَصَدَّى) - بتخفيفِ الصاد - فالأصل تَتصَدَّى ، ولكن حذفت التاء الثانية لاجتماع تاءين ، ومن قرأ (تَصَّدَّى)

(5/283)


بإدغام التاء ، فالمعنى أيضا تتَصَدَّى ، إلا أن التاء أدغمت في الصاد لقرب
المخرجين - مخرج التاء مِنَ الصادِ.
* * *
وقوله : (وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7)
أي أي شيء عليك أن لا يسلم من تَدْعُوه إلى الإسلام.
* * *
وقوله : (فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10)
معناه تَتَشَاغَلُ ، يقال : لَهيت عن الشيء
ألهى عنه إذا تشاغلت عنه.
* * *
وقوله : (كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11)
يعنى به هذه الموعظة التي وعظ الله بها النبي عليه السلام.
* * *
(فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12)
ذُكِرَ لأن الموعظة والوعظ واحد ، والمعنى راجع إلى حَمَلَةِ القُرآن
المعنى فمن شاء أن يذكره ذكره.
ثم أخبر جلَّ وعزَّ أن الكتابَ في اللوح المحفوظ عنده ، فقال : (فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15)
والسَّفَرَةُ الكتبة ، يعني به الملائكة ، واحدهم سَافِر وَسَفَرة مثل كاتب
وكتبة ، وكافر وكفرة ، وَإنما قيل للكتاب سَفَرة ، وللكاتب سافِر ، لأن مَعْنَاه أنه يبَيِّن الشيءَ وُيوَضحُه ، يقال أَسْفَرَ الصُّبْحُ إذَا أضاء ، وسفرت المرأة إذا كشفت النقاب عن وَجْهِهَا ، ومنه : سَفَرت بين القوم أي كشفت قلب هذا وقلب هذا لأصلح بينهم.
* * *
وقوله : (كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16)
جمع بارٍّ.
* * *
وقوله : (قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17)
يكون على جهة لفظ التعجُب ، ويكون التَعَجب مِمَّا يؤمَرُ بِهِ الآدَمِيُّونَ

(5/284)


ويكون المعنى كقوله : (فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) أي اعْجَبُوا أنتم من
كُفْرِ الإنْسَان ، ويجوز على معنى التوبيخ ولفظه لفظ الاستفهام.
أيْ أيُّ شيء أكفَرَهُ . ثم بَيَّن مِن أَمْره ما كان ينبغي أن يُعْلَمَ مَعَهُ أن الله خَالِقُه ، وأنه وَاحِد فقال :
* * *
(مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18)
على لفظ الاستفهام ، ومعناه التقرير ثم بيَّن فقال :
* * *
(مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19)
المعنى فَقَدَّرَهُ على الاستواء كما قال عزَّ وجلَّ : (أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37).
* * *
وقوله : (ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20)
أي هداه السبيل (إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا).
* * *
وقوله : (ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21)
معنى أقبره جعل له قَبراً يوارى فيه ، يقال أَقْبَرْتُ فُلَاناً ، جعلت له قبراً.
وقبرت فلاناً دفنته فأنا قابِرُهُ.
قال الشاعر :
لَوْ أَسْنَدَتْ مَيْتاً إلى نَحْرِهَا . . . عَاشَ ولم يُنْقَلْ إلَى قَابِرِ
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22)
معناه بعثه ، يقال : أنشر اللَّهُ المَوْتَى ، فَنُشِرُوا ، فالواحد نَاشِر
قال الشاعر :
حَتَّى يَقُولَ النَّاسُ مَمَّا رَأَوْا . . . يَا عَجَبَاً لِلْمَيِّتِ النَّاشِرِ

(5/285)


وقوله : (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24)
أي فلينظر الإنسان كيف خلق الله طعامه وطعام جميع الحيوان الذي
جعله الله سبباً لحياتِهِمْ.
* * *
(أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25)
(إِنَّا صَبَبْنَا)
ويقرأ (أَنَّا صَبَبْنَا) ، فمن قرأ (إِنَّا) فعلى الابتداء والاستئناف ومن قرأ (أَنَّا)
فعلى البدل من الطعَام ، ويكون (إِنَّا) في موضع جرٍّ ، المعنى فلينظر الإنسان إلى إِنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (1).
* * *
(ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26)
أي بالنبات.
* * *
(فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27)
والحبُ كل ما حُصِدَ ، كالحنطة والشعير وكل ما
يتغَذى به من ذي حَبٍّ . والقضب الرطْبة.
* * *
(وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30)
حدائق واحدتها حديقة ، وهي البساتين ، والشجر الملتف ، قوله (غُلْبًا)
معناه مُتَكاثِفَة عِظام.
* * *
(وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31)
الأب جميع الكلأ الذي تعتلفه الماشيةُ ، وذكر اللَّه عزَّ وجلَّ من آياته ما
يدل على وحدانيته في إنشاء ما يغذو جميع الحيوان.
* * *
وقوله : (مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32)
منصوب ، مصدر مؤكد لقوله (فَأَنْبَتْنَا فِيهَا) الأشياء التي ذكرت ، لأن إنباته
هذه الأشياء قد أمتع بها الخلق من الناس وجميع الحيوان.
* * *
وقوله . (فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33)
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { أَنَّا صَبَبْنَا المآء صَبّاً } : قرأ الكوفيون « أنَّا » بفتح الهمزة غيرَ ممالةِ الألف . والباقون بالكسر . والحسنُ بن عليّ بالفتحِ والإِمالةِ . فأمَّا القراءةُ الأولى ففيها ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها : أنها بدلٌ مِنْ « طعامِه » فتكونُ في محلِّ جر . استشكل بعضُهم هذا الوجهَ ، وَرَدَّه : « بأنه ليس الأولَ فيُبْدَلَ منه؛ لأنَّ الطعامَ ليس صَبَّ الماءِ . ورُدَّ على هذا بوجهَيْن ، أحدهما : أنَّه بدلُ كلٍّ مِنْ كلّ بتأويلٍ : وهو أنَّ المعنى : فَلْيَنْظُرِ الإِنسانُ إلى إنعامِنا في طعامِه فصَحَّ البدلُ ، وهذا ليسَ بواضح . والثاني : أنَّه مِنْ بدلِ الاشتمالِ بمعنى : أنَّ صَبَّ الماءِ سببٌ في إخراجِ الطعامِ فهو مشتملٌ عليه بهذا التقدير . وقد نحا مكي إلى هذا فقال : لأنَّ هذه الأشياءَ مشتملةٌ على الطعامِ ، ومنها يتكوَّنُ؛ لأنَّ معنى » إلى طعامه « : إلى حدوثِ طعامهِ كيف يتأتَّى؟ فالاشتمالُ على هذا إنما هو من الثاني على الأولِ؛ لأنَّ الاعتبارَ إنما هو في الأشياءِ التي يتكوَّن منها الطعامُ لا في الطعامِ نفسِه ».
والوجه الثاني : أنَّها على تقديرِ لامِ العلةِ ، أي : فلينظُرْ لأِنَّا ، ثم حُذِفَ الخافضُ فجرى الخلافُ المشهورُ في محلِّها . والوجهُ الثالث : أنَّها في محلِّ رفعٍ خبراً لمبتدأ محذوفٍ ، أي : هو أنَّا صَبَبْنا ، وفيه ذلك النظرُ المتقدِّم؛ لأنَّ الضميرَ إنْ عاد على الطعام فالطعامُ ليس هو نفسَ الصَّبِّ ، وإنْ عاد على غيرِه فهو غيرُ معلومٍ ، وجوابُه ما تقدَّمَ.
وأمّا القراءةُ الثانية فعلى الاستئنافِ تعديداً لِنِعَمِه عليه . وأمَّا القراءةُ الثالثةُ فهي « أنَّى » التي بمعنى « كيف » وفيها معنى التعجبِ ، فهي على هذه القراءةِ كلمةٌ واحدةٌ ، وعلى غيرِها كلمتان.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5/286)


التي تكون عليها القيامةُ ، تصِخُّ الأسماع أي تُصِمُّها فلا يسمع إلا ما
يدعى فيه لإحيائها . .
ثم فسَّرَ في أي وقت تجيء فقال :
(يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37)
(يُغْنِيهِ)
بالغين معجمة ، وقد قرئت (شَأْنٌ يُعْنِيهِ) ، أي شأن لا يهمه معه غيرُه
وكذلك (يُغْنِيهِ) لَا يَقْدِرَ مع الاهتمام به على الاهتمام بغيره.
ثم بَينَ أَحْوَالَ المُؤْمِنِينَ والكَافِرِينَ فوصف أحوال المؤمنين فقال :
* * *
(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39)
(مُسْفِرَةٌ) مضيئة قد علمت ما لها من الفوز والنعيم.
ووصف الكفار وأهل النار فقال :
* * *
(وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41)
أي غَبَرَةٌ يعلوها سواد كالدخَانِ ، ثم بَينَ مَنْ أَهْل هَذِه الحالِ فقال :
(أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42).

(5/287)


سُورَةُ التَّكْوير
( مَكِّيَّة )
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله : (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1)
معنى (كُوِّرَتْ) جمع ضوءها ولُفَّتْ كما تلف العمامة ، يقال : كرتُ العِمَامَةَ
على رأسِي أكوِّرُها ، وكوَّرْتُها أكوِّرهاَ إذا لَفَفْتَها.
* * *
(وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2)
انكدرت : تهافتت وتناثرت.
* * *
(وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3)
صارتْ سَرَاباً.
* * *
(وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4)
(الْعِشَارُ) النوق الحوامل التي في بطونها أولاها ، والواحِدَةُ عُشَراء ، وإنما
قيل لها عشار لأنها إذَا أتت عليها عَشَرةُ أَشهُرٍ - وهي تضع إذا وضعت لِتَمام
في سنة - فَهِيَ عُشَراء ، أحسن ما يكون في الحملُ ، فليس يعطلها أهلها إلا
في حال القيامة.
وخوطبت العرب بأمر العِشار لأن مالها وَعَيْشَها أكثرهُ من
الِإبل (1).
* * *
(وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5)
قيل تحشر الوحوش كلها حَتَّى الذُّبَابُ يُحْشَرُ للقصاص.
__________
(1) قال السَّمين :
والعِشار : جمع عُشَراء ، وهي الناقةُ التي مَرَّ لِحَمْلِها عشرةُ أشهرٍ ، ثم هو اسمُها إلى أَنْ تَضَعَ في تمام السنةِ ، وكذلك « نِفاس » في جَمْع نُفَساء . وقيل : العِشارُ : السَّحابُ . وعُطِّلت ، أي : لا تُمْطر . وقيل : الأرضُ التي تَعَطَّل زَرْعُها . والتَّعْطيل : الإِهمالُ . ومنه قيل للمرأة : « عاطِلٌ » إذا لم يكُنْ عليها حُلِيّ . وتقدَّم/ في « بئرٍ مُعَطَّلةٍ » . وقال امرؤ القيس :
4511 وجِيْدٍ كجِيْدِ الرِّئْمِ ليس بفاحشٍ . . . إذا هي نَصَّتْهُ ولا بمُعَطَّلِ
وقرأ ابنُ كثير في روايةٍ « عُطِلت » بتخفيفِ الطاءِ . قال الرازي : « هو غَلَطٌ ، إنما هو » عَطَلَتْ « بفتحتَيْنَ بمعنى تَعَطَّلَتْ؛ لأنَّ التشديدَ فيه للتعدي . يُقال : عَطَّلْتُ الشيءَ وأَعْطَلْتُه فَعَطَلَ ».
والوحوش : ما لم يَتَأنَّسْ من حيوانِ البَرِّ . والوَحْشُ أيضاً : المكانُ الذي لا أُنْسَ فيه ، ومنه لَقِيْتُه بوَحْشِ إصْمِت ، أي : ببلدٍ قَفْر . والوحشُ : الذي يَبيت جوفُه خالياً من الطعام ، وجمعُه أَوْحاش ، ويُسَمَّى المنسوبُ إلى المكانِ الوَحْشِ : وَحْشِيّ ، وعَبَّر بالوَحْشِيِّ عن الجانبِ الذي يُضادُّ الإِنسيَّ ، والإِنسيُّ ما يُقْبَلُ من الإِنسان ، وعلى هذا وحشيُّ الفَرَس وإنْسِيُّه . وقرأ الحسن وابن ميمون بتشديد الشينِ مِنْ حُشِّرَتْ.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5/289)


(وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6)
بالتثقيل ، ويقرأ (سُجِرَتْ) بالتخفيف.
ومعنى سُجِّرَتْ قيل إنه في معنى فُجِّرتْ ، وقيل سُجِّرَتْ مُلِئَتْ ، وِمنه البحر المسْجُورِ المَمْلُوء.
وقيل معنى سُجِرَت جُعَلِتْ مياهها نيراناً بها يعذَب أهل النَّارِ.
* * *
(وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7)
قُرِنَتْ كل شيعةٍ بمن شَايَعَتْ ، وقيل قُرِنَتْ بأعمَالِها ، وقيل قُرِنَت
الأجسام بالأرواح.
* * *
(وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9)
ويقرأ (وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سَأَلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ)
والْمَوْءُودَةُ : التي كانت العرب تَئِدُهَا ، كانُوا إذَا وُلدَ لأحَدِهم بنت دَفَنَها حيَّة ، فمعنى سؤالها ب(بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ)
تبكيتُ قَاتِلِها في القيامة لأن جَوَابَهَا قُتِلَتُ بغير ذنب.
ومثل هذا التبكيت قول الله تعالى : (يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ)
فإنما سؤاله وجوابه تبكيت لمَنِ ادَّعى هذا عليه.
يقال : وَأَدْتُ أَئِدُ وأْداً ، إذا دفنت المولود حيًّا ، والفاعل وَائدٌ ، والفاعلة
وائدة ، والفاعلات وائدات.
قال الفرزدق :
وَمِنَّا الَّذِي مَنَعَ الوَائِدَا . . . تِ فَأَحْيَا الوَئِيدَ وَلَمْ يُوأَدِ
وكذلك من قرأ : سَأَلَتْ بأي ذنب قُتِلَتْ ، سؤالها تبكيت لقاتلها (1).
* * *
(وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10)
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { الموءودة } : هي البنتُ تْدْفَنُ حيةً مِنْ الوَأْدِ ، وهو الثِّقَلُ؛ لأنَّها تُثْقَلُ بالترابِ والجَنْدَل . يقال : وَأَدَه يَئِدُهُ كوَعَدَه يَعِدُه . وقال الزمخشري : « وَأَدَ يَئِدُ ، مقلوبٌ مِنْ آد يَؤُوْد إذا أَثْقَلَ . قال اللَّهُ تعالى : { وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا } [ البقرة : 255 ] لأنه إثْقالٌ بالتراب » . قال الشيخ : « ولا يُدَّعى ذلك؛ لأنَّ كلاً منهما كاملُ التصرُّفِ في الماضي والأمرِ والمضارعِ والمصدرِ واسمِ الفاعلِ واسمِ المفعولِ ، وليس فيه شيءٌ مِنْ مُسَوِّغات ادِّعاءِ القَلْبِ . والذي يُعْلَمُ به الأصالةُ مِنْ القَلْب : أَنْ يكونَ أحدُ النَّظْمَيْن فيه حُكْمٌ يَشْهَدُ له بالأصالةِ ، والآخرُ ليس كذلك أو كونُه مجرداً من حروف الزيادة والآخر فيه مزيداً ، وكونُه أكثرَ تصرفاً والآخر ليس كذلك ، أو أكثرَ استعمالاً من الآخرِ ، وهذا على ما قُرِّرَ وأُحْكِمَ في علمِ التصريفِ . فالأول : كيَئِس وأيِسَ . والثاني : كَطَأْمَنْ واطمأنَّ . والثالث : كشوايع وشواعِي . والرابع : كلَعَمْري ورَعَمْلي ».
وقرأ العامَّةُ : « المَوْءُوْدَة » بهمزةٍ بينَ واوَيْن ساكنتَيْن كالمَوْعودة . وقرأ البزيُّ في روايةٍ بهمزةٍ مضمومةٍ ثم واوٍ ساكنةٍ . وفيها وجهان ، أحدُهما : أَنْ تكونَ كقراءةِ الجماعة ثم نَقَلَ حركةَ الهمزةِ إلى الواوِ قبلها ، وحُذِفَتِ الهمزةُ ، فصار اللفظُ المَوُوْدَة : واوٌ مضومةٌ ثم أخرى ساكنةٌ ، فقُلبت الواوُ المضمومةُ همزةً نحو : « أُجوه » في وُجوه ، فصار اللفظُ كما ترى ، ووزنُها الآن المَفُوْلة؛ لأنَّ المحذوفَ عينُ الكلمةِ . والثاني : أَنْ تكونَ الكلمةُ اسمَ مفعولٍ مِنْ آدَه يَؤُوده مثلَ : قاده يَقُوده . والأصلُ : مأْوُودة ، مثلَ مَقْوُوْدة ، ثم حَذَفَ إحدى الواوين على الخلافِ المشهورِ في الحَذْفِ مِنْ نحوِ : مَقُوْل ومَصُوْن فوزنُها الآن : إمَّا مَفُعْلَة إنْ قلنا : إنَّ المحذوفَ الواوَ الزائدةُ ، وإمَّا مَفُوْلة إنْ قُلْنا : إنَّ المحذوفَ عينُ الكلمةِ ، وهذا يُظْهِرُ فَضْلَ عِلْمِ التصريفِ.
وقُرِىءَ « المَوُوْدة » بضمِّ الواو الأولى على أنه نَقَل حركةَ الهمزةِ بعد حَذْفِها ولمَ يَقْلِبَ الواوَ همزةً . وقرأ الأعمش « المَوْدَة » بزنةِ المَوْزَة . وتوجيهُه : أنه حَذَفَ الهمزةَ اعتباطاً ، فالتقى ساكنان ، فحَذَفَ ثانيهما ، ووزنُها المَفْلَة؛ لأنَّ الهمزةَ عينُ الكلمةِ ، وقد حُذِفَتْ . وقال مكي : « بل هو تخفيفٌ قياسِيٌّ؛ وذلك أنَّه لمَّا نَقَل حركةَ الهمزةِ إلى الواوِ لم يَهْمِزْها ، فاستثقلَ الضمَّةَ عليها ، فسَكَّنها ، فالتقى ساكنان فحَذَفَ الثاني ، وهذا كلُّه خروجٌ عن الظاهرِ ، وإنما يظهر في ذلك ما نَقَله القُرَّاء في وقفِ حمزةَ : أنه يقفُ عليها كالمَوْزَة . قالوا : لأجل الخطِّ لأنها رُسِمَتْ كذلك ، والرسمُ سُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ.
والعامَّةُ على » سُئِلت « مبنياً للمفعولِ مضمومَ السين . والحسنُ بكسرِها مِنْ سال يَسال كما تقدَّم . وقرأ أبو جعفر » قُتِّلَتْ « بتشديد التاءِ على التكثيرِ؛ لأنَّ المرادَ اسمُ الجنسِ ، فناسبَه التكثيرُ.
وقرأ عليٌّ وابن معسود وابن عباس » سَأَلَتْ « مبنياً للفاعل ، » قُتِلْتُ « بضمِّ التاءِ الأخيرة التي للمتكلم حكايةً لكلامِها . وعن أُبَيّ وابن مسعود أيضاً وابن يعمرَ » سَأَلَتْ « مبنياً للفاعل ، » قُتِلَتْ « بتاءِ التأنيث الساكنةِ كقراءةِ العامة.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5/290)


وَنَشَرَتْ . نشرت الصحف وأعطى كل إنسان كتابه بيمينه أو بشماله على
قدر عمله.
* * *
(وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11)
وقرئت (قُشِطَتْ) بالْقَافِ ، ومعناهما قُلِعَت كما يُقْلَع السَّقْفُ.
يقال : كَشَطْتُ السقفَ وقشطت السقف بمعنى واحد.
والقاف والكاف تُبْدَلُ إحداهما من الأخرى كثيراً.
وَمِثلُ ذَلِكَ لبكت الشيء ولبقته إذَا خَلطته.
* * *
(وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12)
(سُعِرَتْ)
وَ (سُعِّرَتْ) بالتشديد والتخفيف ، ومعناه أُوقدت ، وكَذَلِكَ (سُعِّرَتْ).
إلا أن (سُعِّرَتْ) أوقدت مرة بعد مرة.
* * *
(وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13)
أي قربت من المتقين ، وجواب هذه الأشياء قوله :
* * *
(عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14)
أي إذا كانت هذه الأشياء التي هي في يوم القيامة ، علمت في ذلك
الوقت كل نفس ما أَحْضَرَتْ ، أَي مِنْ عَمَل ، فأثيبت عَلَى قَدْرِ عَمَلِها.
* * *
وقوله : (فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16)
الخُنَس جمع خَانِسٍ ، والجواري جمع جَارِيَةٍ ، من جَرَى يَجْرِي.
والخنس جمع خانس وخانسةٍ ، وكذلك الْكُنَّسِ جمعُ كانِس وكانسةٍ.
والمعنى فأقسم ، و " لَا " مؤكدة.
والخنس ههنا أكثر التفسير يعنى بها النجوم ، لأنها تَخْنِس أَيْ تَغِيبُ لأن
مَعَنى (وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18)).
وَمَعَنَى (الخُنَس). و (الكُنْس) في

(5/291)


النجوم أنها تطلع جارية ، وكذلك تخْنسُ ، أي تغيب ، وكذلك تكنس تدخل
في كناسها ، أي تغيب في المواضع التي تغيب فيها.
وقيل الخنس ههنا يعني بَقَر الْوَحْشِ وظباء الوحش ، ومعنى خُنس جمع خَانِسٍ والظباء خنسٌ والبَقَر خُنسٌ.
والخَنسُ قِصَرُ الأنف وتأخره عَنِ الفَمِ ، وإذا كان للبقر أو كان للظباء
فمعنى الكنس أي التي تكنس ، أي تدخل الكِنَاسَ وهو الغصن من أغْصَانِ
الشجَرِ.
* * *
(وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17)
يقال عَسْعَسَ الليل إذَا أَقْبَلَ ، وعَسْعَسَ إذا أَدْبَرَ ، والمَعْنَيَانِ يرجعان إلى
شيءٍ وَاحدٍ ، وهو ابتداء الظلام في أوله ، وإدباره في آخره.
* * *
(وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18)
إذا امتدَّ حَتَى يصيرَ نَهَاراً بيِّناً.
وجواب القسم في هذه الأشياء أعني (فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ)
وما بعده قوله :
* * *
(إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19)
يعنى أن القرآن نزل به جبريل عليه السلام.
* * *
(ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20)
قيل إنه من قوة جبريل - صلى الله عليه وسلم - أنه قَلَبَ مَدِينة قوم لُوطٍ بِقَوَادِمِ جناحه وهي قرى أربع.
* * *
(وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22)
هذا أيضاً جواب القسم ، المعنى فأقسم بهذه الأشياء أن القرآن نزل به
جبريل عليه السلام ، وأقسم بهذه الأشياء مَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ ، يعني به النبي - صلى الله عليه وسلم -

(5/292)


لأنهم قالوا : (يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6).
فقال : (ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2).
وقال في هذا الموضع
(وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23)
قد فسرنا ذلك فِي سُورَةِ والنجِمْ.
* * *
(وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24)
(بِظَنِينٍ)
ويقرأ (بِضَنِينٍ) فمن قَرَأ (بِظَنِينٍ) فمعناه ما هو على الغيب بِمُتهَم وهو الثقة
فيما أداه عن اللَّه - جلَّ وعزَّ - ، يقال ظننت زيداً في معنى اتهمت زيداً ، ومن قرأ (بِضَنِينٍ) فمعناه ما هو على الغيب ببخيل ، أي هو - صلى الله عليه وسلم - يؤدي عن الله وُيعَلِّمُ كتابَ اللَّه (1).
* * *
(فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26)
معناه فأيَّ طريق تسلكون أبين من هذه الطريقة التي بينتُ لَكُمْ.
* * *
(لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28)
أي الاستقامة واضحة لكم ، فمن شاء أخذ في طريق الحقِّ والقصد وهو
الإيمان باللَّهِ عزَّ وجلَّ ورسوله.
ثم أعلمهم أن المشيئَةَ في التوفيق إليه ، وأنهم لا يقدرون على ذَلِك
إلا بمشيئة اللَّه وتوفيقه فقال :
* * *
(وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)
ودليل ذلك أيضاً : (وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ).
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { بِضَنِينٍ } : قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بالظاء بمعنى مُتَّهم ، مِنْ ظنَّ بمعنى اتَّهم فيتعدَّى لواحدٍ . وقيل : معناه بضعيفِ القوةِ عن التبليغ مِنْ قولِهم : « بئرٌ ظَنُوْنٌ » ، أي : قليلةُ الماءِ . وفي مصحفِ عبد الله كذلك ، والباقون بالضاد بمعنى : ببخيلٍ بما يأتيه من قِبَلِ ربِّه ، إلاَّ أنَّ الطبريَّ نَقَلَ أنَّ الضادَ خطوطُ المصاحفِ كلِّها ، وليس كذلك لِما مرَّ ، وكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها ، وهذا دليلٌ على التمييز بين الحرفين ، خِلافاً لمَنْ يقول : إنه لو وقع أحدُهما مَوْقِعَ الآخرِ لجاز ، لِعُسْرِ معرفتِه . وقد شَنَّعَ الزمخشري على مَنْ يقول ذلك ، وذكر بعضَ المخارج وبعضَ الصفاتِ ، بما لا يَليق التطويلُ فيه . و « على الغيب » متعلقٌ ب « ظَنِين » أو « بضَنِين »
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5/293)


فهذا إعلام أن الإنسان لا يعمل خيراً إلا بتوفيق اللَّه ولا شرًّا إلا بخذلانٍ
من اللَّه ، لأن الخير والشر بقضائه وقَدَرِه يضل من يشاء ويهدي من يشاء كما
قال جَلَّ وَعَزَّ (اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13).

(5/294)


سُورَةُ الانْفِطَار
( مَكِّيَّة )
بسم اللَّه الرحن الرحيم
قوله عزَّ وجلَّ : (إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1)
أي انشقت ، تتشقق السماء يومَ القيامة بالغمام ، كما قال عزَّ وجلَّ :
* * *
(وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2)
أي تَساقطت وتهافتت.
* * *
(وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3)
فُجِّرَ العَذْبُ إلى المالح.
* * *
(وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4)
يعني بحثرت ، أي قلب ترابها وبعث الموتى الذين فيها.
* * *
(عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5)
(مَا قَدَّمَتْ) من عَمَلٍ أمرت به وما (أَخَّرَتْ) منه فلم تعلمه.
وقيل : وَأخرَتْ سَنَّتْ من سُنةٍ - عُمِل بها بعدها.
* * *
قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6)
أي ما خدعك وَسَوَّلَ لكَ حتى أضعت ما وجب عليك.
* * *
وقوله : (الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7)
(فَعَدَّلَكَ)
أي خلقك في أحسن تقويم
وتقرأ (فَعَدَلَكَ) بالتخفيف والتشديد جميعاً (1).
* * *
وقوله : (فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8)
يجوز أن يكون (ما) صِلةً مُؤَكدَة ، ويكون المعنى في أي صورة شاء
ركَبَكَ . إما طويلا وإما قصيرا ، إما مستحسنا وإما غير ذلك.
ويجوز أَنْ يكون
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { الذي خَلَقَكَ } : يحتمل الإِتباعَ على البدلِ والبيان والنعتِ ، والقطعَ إلى الرفع أو النصبِ.
قوله : { فَعَدَلَكَ } قرأ الكوفيون « عَدَلَك ، مخففاً . والباقون/ مثقلاً . فالتثقيل بمعنى : جَعَلكَ متناسِبَ الأطرافِ ، فلم يجعَلْ إحدى يَدَيْكَ أو رِجْلَيْكَ أطولَ ، ولا إحدى عينَيْك أَوْسَعَ ، فهو من التَّعْديلِ . وقراءةُ التخفيفِ تحتمل هذا ، أي : عَدَلَ بعضَ أعضائِك ببعضٍ . وتحتمل أَنْ تكونَ من العُدولِ ، أي : صَرَفَك إلى ما شاء من الهيئاتِ والأشكالِ والأشباهِ.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5/295)


ما في معنى الشرط والجزاء ، فيكون المعنى في أي صورة ما شاء أن يركبك
فيها ركبك
* * *
وقوله : (كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9)
أي بل تكذبون بأنكم تبعثون وتدانون ، أي تجازون بأعمالكم ، ثم
أعلمهم - عزَّ وجلَّ - أن أعمالهم محفوظة فقال :
* * *
(يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12)
فيكتبونه عليهم.
* * *
وقوله : (يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15)
يوم الجزاء وهو يوم القيامة.
* * *
وقوله (وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17)
فكرر ذكر اليوم تعظيماً لشأنه.
* * *
وقوله : (يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)
وقرئت (يَوْمُ) لا يملك نفس.
فمن قرأ بالرفع فعلى أن اليومَ صفةٌ لقوله (يَوْمُ الدِّينِ)
ويجوز أن يكون رفعاً بإضمار هو ، فيكون المعنى هو لا تملك
لنفس شيئاً ، ويجوز أن يكون في موضع رفع وهو مبني على الفتح لِإضافته إلى
قوله " لا تملك " لأن " ما " أضيف إلى غير المتمكن قد يبنى على الفتح وإن
كان في موضع رفع أو جر
كما قال الشاعر :
لم يَمْنع الشُّرْبَ منها غَيْرَ أَن نطقت . . . حمامة في غُصُونٍ ذاتِ أَوْقالِ
فأضاف غير إِلى أن نطقت فبناه على الفتح ، وجائز أن يكون نصبه على
معنى هذه الأشياء المذكورة ، يكون (يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا) (1).
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ } : قرأ ابن كثير وأبو عمرو برفع « يوم » على أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ ، أي : هو يومُ . وجَوَّز الزمخشري أَنْ يكونَ بدلاً مِمَّا قبلَه ، يعني قولَه : « يومَ الدين » . وقرأ أبو عمروٍ في روايةٍ « يومٌ » مرفوعاً منوناً على قَطْعِه عن الإِضافة ، وجَعَلَ الجملةَ نعتاً له ، والعائدُ محذوفٌ ، أي : لا يَمْلِكُ فيه . وقرأ الباقون « يومَ » بالفتح . وقيل : هي فتحةُ إعرابٍ ، ونصبُه بإضمار أعني أو يَتجاوزون ، أو بإضمار اذكُرْ ، فيكونُ مفعولاً به ، وعلى رأي الكوفيين يكون خبراً لمبتدأ مضمر ، وإنما بُني لإِضافتِه للفعل ، وإن كان معرباً ، كقولِه { هذا يَوْمُ يَنفَعُ } [ المائدة : 119 ] وقد تقدَّم.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5/296)


سُورَةُ الْمُطَفِّفِينَ
( مَكِّيَّة )
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله عزَّ وجلَّ : (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1)
(وَيْلٌ) رفع بالابتداء والخبر قوله (لِلْمُطَفِّفِينَ) ، ولو كان في غير القرآن لجاز
" ويلاً " للمطففين ، على معنى جعل الله لهم ويلاً ، والرفع أجود في القراءة
لأن المعنى قد ثبت لهم هذا ، والويل كلمة تقال لكل من هو في عذاب
وهلكة ، والمطففون الذين ينقصون المكيال والميزان وإنما قيل للفاعل من هذا
مطفف ، لأنه لا يكاد يسرق في المكيال والميزان ، إلا الشيء الحقير الطفيف.
وإنما أخِذَ من طَفَّ الشيء وهو جانبه ، وقد فسر أمره في السورة فقال :
* * *
(الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2)
المعنى إذا اكتالوا من الناس استوفوا عَلَيْهم
الكيل وكذلك إذا اتَّزَنُوا استوفوا الوزن ، ولم يذكرا إذا اتَّزَنوا " لأن الكيل
والوزن بهما الشراء والبيع فيما يكال ويوزن.
* * *
(وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3)
أي إذا كالوا لهم أو وزنوا لهم يخسرون ، أي ينقصون في الكيل
والوزن ، ويجوز في اللغة يَخْسِرون.
يقال : . أخسَرَتُ الميزان وخَسَرتُه ، ولا أعلم أحداً قرأ في هذا الموضع يَخْسرون ، ومن " تأول معنى " كَالُوهُم " كالوا لههم لم يجز أن يقف على كالوا حتى يصلها بِ (هم) ، فيقول (كالُوهُم) (1).
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ } : رُسِمتا في المصحفِ بغير ألفٍ بعد الواوِ في الفعلَيْن ، فمِنْ ثَمَّ اختلفَ الناسُ في « هم » على وجهين ، أحدهما : هو ضميرُ نصبٍ ، فيكونُ مفعولاً به ، ويعودُ على الناس ، أي : وإذا كالُوا الناسَ ، أو وَزَنوا الناسَ . وعلى هذا فالأصلُ في هذَيْن الفعلَيْن التعدِّي لاثنين ، لأحدِهما بنفسِه بلا خِلافٍ ، وللآخرِ بحرفِ الجرِّ ، ويجوزُ حَذْفُه . وهل كلٌّ منهما أصلٌ بنفسِه ، أو أحدُهما أصلٌ للآخر؟ خلافٌ مشهورٌ . والتقدير : وإذا كالوا لهم طعاماً أو وَزَنُوه لهم ، فحُذِف الحرفُ والمفعولُ المُسَرَّح . وأنشد الزمخشريُّ :
4513 ولقد جَنَيْتُكَ أَكْمُؤاً وعَساقِلاً . . . ولقد نَهْيْتُك عَن بناتِ الأَوْبَرِ
أي : جَنَيْتُ لك . والثاني : أنه ضميرُ رفعٍ مؤكِّدٍ للواو . والضميرُ عائدٌ على المطففينِ ، ويكونُ على هذا قد حَذَفَ المَكيلَ والمَكيلَ له والموزونَ والموزونَ لهُ . إلاَّ أنَّ الزمخشريَّ رَدَّ هذا ، فقال : « ولا يَصِحُّ أَنْ يكونَ ضميراً مرفوعاً للمطفِّفين؛ لأنَّ الكلامَ يَخْرُجُ به إلى نَظْم فاسدٍ ، وذلك أنَّ المعنى : إذا أخذوا من الناسِ اسْتَوْفُوا ، وإذا أعطَوْهم أَخْسَروا . فإنْ جَعَلْتَ الضميرَ للمطفِّفين انقلبَ إلى قولِك : إذا أخذوا من الناسِ اسْتَوْفَوْا ، وإذا تَوَلَّوا الكيلَ أو الوزنَ هم على الخصوص أَخْسَروا ، وهو كلامٌ مُتَنَافِرٌ؛ لأنَّ الحديثَ واقعٌ في الفعل لا في المباشر ».
قال الشيخ : « ولا تنافُرَ فيه بوجهٍ ، ولا فرقَ بين أَنْ يؤكَّد الضميرُ أو لا يُؤَكَّد ، والحديثُ واقعٌ في الفعل . غايةُ ما في هذا أنَّ متعلقَ الاستيفاء وهو على الناس مذكورٌ ، وهو في { كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ } محذوفٌ للعلم به؛ لأنه من المعلوم أنهم لا يُخْسِرون ذلك لأنفسهم » . قلت : الزمخشريُّ يريدُ أَنْ يُحافظَ على أنَّ المعنى مرتبطٌ بشيئَيْن : إذا أخذوا مِنْ غيرِهم ، وإذا أَعْطَوْا غيرَهم ، وهذا إنما يَتِمُّ على تقديرِ أَنْ يكونَ الضميرُ منصوباً عائداً على الناس ، لا على كونِه ضميرَ رفعٍ عائداً على المطفِّفين ، ولا شكَّ أن هذا المعنى الذي ذكَره الزمخشريُّ وأرادَه أَتَمُّ وأَحسنُ مِنْ المعنى الثاني . ورجَّح الأوّلَ سقوطُ الألفِ بعد الواوِ ، ولأنه دالٌّ على اتصالِ الضميرِ ، إلاَّ أنَّ الزمخشري استدركه فقال : « والتعلُّقُ في إبطالِه بخطِّ المصحفِ وأنَّ الألفَ التي تُكتب بعد واوِ الجمع غيرُ ثابتةٍ فيه ، ركيكٌ لأنَّ خَطَّ المصحفِ لم يُراعِ في كثيرٍ منه حَدَّ المصطلحِ عليه في علمِ الخطِّ ، على أني رأيْتُ في الكتب المخطوطةِ بأيدي الأئمة المُتْقِنين هذه الألفَ مرفوضةً لكونِها غيرَ ثابتةٍ في اللفظِ والمعنى جميعاً؛ لأنَّ الواوَ وحدَها مُعْطِيَةٌ معنى الجَمْع ، وإنما كُتِبت هذه الألفُ تَفْرِقَةً بين واوِ الجمعِ وغيرِها في نحو قولِك : » هم [ لم ] يَدْعُوا « ، و » هو يَدْعُو « ، فمَنْ لم يُثْبِتْها قال : المعنى كافٍ في التفرقةِ بينهما ، وعن عيسى بنِ عمرَ وحمزةَ أنَّها يرتكبان ذلك ، أي : يجعلان الضميرَيْن للمطففين ، ويقفان عند الواوَيْن وُقَيْفَةً يُبَيِّنان بها ما أرادا ».
ولم يَذْكُر فعلَ الوزنِ أولاً؛ بل اقتصر على الكيلِ ، فقال : « إذا اكْتالوا » ولم يَقُلْ : أو اتَّزَنوا ، كما قال ثانياً : أو وَزَنُوهم . قال الزمخشري : « كأنَّ المطفِّفين كانوا لا يأخذون ما يُكال ويُوْزَنُ إلاَّ بالمكاييلِ دون الموازينِ لتمكُّنهم بالاكتيالِ من الاستيفاءِ والسَّرِقَةِ؛ لأنَّهم يُدَعْدِعُون ويَحْتالون في المَلْء ، وإذا أَعْطَوْا/ كالُوا ووزَنوا لتمكُّنِهم من البَخْسِ في النوعَيْن جميعاً ».
قولُه : « يُخْسِرون » جوابُ « إذا » وهو مُعَدَّىً بالهمزة . يقال : خَسِرَ الرجلُ ، وأَخْسَرْتُه أنا ، فمفعولُه محذوفٌ ، أي : يُخْسِرون الناسَ مَتاعَهم.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5/297)


ومن الناس من يجعل " هم " توكيداً لما في كالوا ، فيجوز أن تقف فتقول : وإذا كالوا ، والاختيار أن تكون " هم " في موضع نصب ، بمعنى كالوا لهم . ولو كانت على معنى كالوا ، ثم جاءت " هم " توكيداً ، لكانَ في المصحف ألف مثبْة قَبلَ (همْ).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5)
يعنى يوم القيامة ، أي إنهم لو ظنوا أنهم يبعثون ما نَقصوا في الكيل
والوزن.
* * *
وقوله : (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)
(يَوْمَ) منصوب بقوله (مَبْعُوثُونَ)
المعنى ألا يظنون أنهم يبعثون يوم القيامة.
ولو قرئت " يَوْمِ يقوم الناس "
بكسر يوم لكان جَيِّداً على معنى ليوم يقوم الناس.
ولو قرئت بالرفع لَكَانَ جَيِّداً يومُ يقوم الناسُ ، على معنى ذلك يوم يقوم الناس ، ولا يجوز القراءة إلا بما قرأ به القراء
(يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ) - بالنصب - لأن القراءة سنة ، ولا يجوز أن تخالف
بما يجوز في العربية.
* * *
وقوله : (كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7)
(كَلَّا) رَدعٌ وتنبيه.
المعنى ليس الأمر على ما هم عليه ، فليرتدعوا عَنْ ذَلِكَ
وقوله : (فِي سِجِّينٍ) زعم أهل اللغة أن سِجِّينَ فِعِّيل من السجْنِ ، المعنى
كتابهم في حبس ، جعل ذلك دَلالة على خساسة مَنْزِلَتِهِمْ.
وقيل (فِي سِجِّينٍ) في حسابٍ ، وفِي سِجِّينٍ في حجر من الأرْضِ السابِعَةِ (1).
* * *
وقوله : (وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8)
أي ليس ذلك مما كنت تعلمه أنت وَلَا قَوْمُك ، ثم فسر فقال :
* * *
(كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9)
أي مكتوب.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { لَفِي سِجِّينٍ } : اختلفوا في نون « سِجِّين » . فقيل : هي أصليةٌ . اشتقاقهُ من السِّجْنِ وهو الحَبْسُ ، وهو بناءُ مبالغةٍ ، فسِجِّين من السَّجْنِّ كسِكِّير من السُّكْر . وقيل : بل هي بدلٌ من اللامِ ، والأصلُ : سِجِّيْل ، مشتقاً من السِّجِلِّ وهو الكتابُ . واختلفوا فيه أيضاً : هل هو اسمُ موضعٍ ، أو اسمُ كتابٍ مخصوصٍ؟ وهل هو صفةٌ أو عَلَمٌ منقولٌ مِنْ وصفٍ كحاتِم . وهو مصروفٌ إذ ليس فيه إلاَّ سببٌ واحدٌ وهو العَلَمِيَّةُ ، وإذا كان اسمَ مكانٍ ، فقوله « كتابٌ مَرْقُوْمٌ » : إمَّا بدلٌ منه ، أو خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ ، وهو ضميرٌ يعودُ عليه ، وعلى التقديرَيْن فهو مُشْكِلٌ؛ لأنَّ الكتابَ ليس هو المكانَ فقيل : التقدير : هو مَحَلُّ كتابٍ ، ثم حُذِفَ المضافُ . وقيل : التقديرُ : وما أدراك ما كتابُ سِجِّين؟ فالحذفُ ، إمَّا مِنْ الأولِ ، وإمَّا مِنْ الثاني : وأمَّا إذا قُلْنا : إنه اسمٌ ل « كتاب » فلا إشكال.
وقال ابن عطية : « مَنْ قال : إنَّ سِجِّيناً موضعٌ فكتابٌ مرفوعٌ ، على أنه خبرُ » إنّ « والظرفُ الذي هو » لفي سِجِّين « مُلْغَى ، ومَنْ جعله عبارةً عن الخَسارة ، فكتابٌ خبرُ مبتدأ محذوفٍ ، التقدير : هو كتابٌ ، ويكونُ هذا الكلامُ مفسِّراً لِسِجِّين ما هو؟ » انتهى ، وهذا لا يَصِحُّ ألبتَّةَ؛ إذ دخولُ اللامِ يُعَيِّنُ كونَه خبراً فلا يكونُ مُلْغى . لا يقال : اللامُ تَدْخُلُ على معمولِ الخبرِ فهذا منه فيكونُ مُلْغى؛ لأنه لو فُرِضَ الخبرُ وهو « كتابٌ » عاملاً أو صفتُه عاملةٌ وهو « مرقوم » لامتنعَ ذلك . أمَّا مَنْعُ عملِ « كتابٌ » فلأنَّه موصوف ، والمصدرُ الموصوفُ لا يعمل . وأمَّا امتناعُ عملِ « مرقومٌ » فلأنَّه صفةٌ ، ومعمولُ الصفةِ لا يتقدَّمُ على موصوفِها . وأيضاً فاللامُ إنما تدخُلُ على معمولِ الخبر بشرطِه ، وهذا ليس معمولاً للخبرِ ، فتعيَّنَ أَنْ يكونَ الجارُّ هو الخبرَ ، وليس بملغى . وأمَّا قولُه ثانياً « ويكون هذا الكلامُ مفسِّراً لسِجِّين ما هو » فمُشْكِلٌ؛ لأنَّ الكتابَ ليس هو الخسَارَ الذي جُعِلَ الضميرُ عائداً عليه مُخْبِراً عنه ب « كتابٌ ».
وقال الزمخشري : « فإنْ قلتَ : قد أخبر الله تعالى عن كتاب الفجار بأنه في سِجِّين وفَسَّر سِجِّيناً ب » كتاب مرقوم « فكأنه قيل : إنَّ كتابَهم في كتابٍ مرقوم فما معناه؟ قلت : » سِجِّين « كتابٌ جامعٌ ، هو ديوانُ الشرِّ دَوَّن الله فيه أعمال الشياطين وأعمال الكفَرَةِ والفَسَقَةِ من الجنِّ والإِنسِ ، وهو كتابٌ مَسْطورٌ بَيِّنُ الكِتابةِ ، أو مَعْلَمٌ يَعْلَمُ مَنْ رآهُ أنه لا خَيْرَ فيه فالمعنى : أنَّ ما كُتِبَ مِن أعمالِ الفُجَّارِ مُثْبَتٌ في ذلك الديوانِ ، ويُسَمَّى سِجِّيلاً فِعِّيلاً من السَّجْلِ وهو الحَبْسُ والتضييق؛ لأنه سببُ الحِبْسِ والتضييق في جهنم » انتهى.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5/298)


وقوله عزَّ وجلَّ : (إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13)
أساطير أباطيل ، واحدها أسطورة مثل أحدوثة وَأحادِيث.
* * *
وقوله : (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)
(كَلَّا)
وتفسيرها تفسير التي قبلها.
(بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ) بإدغام اللام في الراء وتفخيم الألف.
وقد قرئت بل ران - بإمالة الألف والراء إلى الكسر.
وقرئت بلْ ران بإظهار اللام والإدغام ، والِإدغام أجود لقرب اللام من الراء ، ولغلبة الراء على اللام.
وإظهار اللام جائز إلا أن اللام من كلمة ، والراء من كلمة أخرى.
وران بمعنى غطى عَلَى قُلُوبِهِمْ ، يقال : ران على قلبه الذنب يَرينُ رَيْناً إذا غشي على قلبه.
ويقال غان على قلبه يغينُ غَيْناً.
والغَيْنُ كالغيم الرقيق ، والريْن كالصدأ يغشى على القلب.
* * *
وقوله جل ثناؤه : (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15)
وفي هذه الآية دليل على أن الله يُرَى في الآخرة ، لولا ذلك لما كان في
هذه الآية فائدة ، ولا [خسَّت] منزلة الكفار بأنهم يحجبون عن اللَّه - عزَّ وجلَّ -
وقال تعالى في المؤمنين : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23).
فأعلم اللَّه عزَّ وجلَّ أن المؤمنين ينظرون إلى اللَّه ، وأن الكفارَ يُحْجَبُونَ عَنْه
* * *
(ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16)
ثم بعد [حجبهم] عن الله يدخلِون النار وَلاَ يخرجُونَ عنها خَالِدِين فيها.
* * *
(ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17)
أي كنتم تكذبون بالبعث والجنة والنَّارِ . ثم أَعْلَمَ - عزَّ وجلَّ - أين محل
كتاب الأبرار وما لهم من النعيم فرفع كتابهم على قدر مرتبتهم كما سَفَل
وخسَّس كتاب الفجار فقال :
* * *
(كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18)
أَي أعلى الأمكنة (1).
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { لَفِي عِلِّيِّينَ } : هو خبر « إنَّ » . وقال ابنُ عطية هنا كما قال هناك ، ويُرَدُّ عليه بما تقدَّم . وعِلِّيُّون جمع عِلِّيّ ، أو هو اسمُ مكانٍ في أعلى الجنة ، وجَرَى مَجْرَى جمع العقلاء فرُفع بالواوِ ونُصِبَ وجُرَّ بالياء مع فوات شرطِ العقل . وقال أبو البقاء : « واحدُهم عِلِّيّ وهو الملك . وقيل : هي صيغةُ الجمع مثلَ عشرين » ثم ذكر نحواً مِمَّا ذَكرَهُ في « سِجِّين » مِنْ الحَذْفِ المتقدِّم . وقال الزمخشري : « عِلِّيُّون : عَلَمٌ لديوانِ الخبر الذي دُوِّن فيه كلُّ ما عَمِلَتْه الملائكةُ وصُلَحاءُ الثقلَيْنِ ، منقولٌ مِنْ جَمْع » عِلِّيّ « فِعِّيل من العُلُو ك » سِجِّين « مِنْ السَّجْن » ، سُميِّ بذلك : إمَّا لأنه سببُ الارتفاعِ ، وإمَّا لأنه مرفوعٌ في السماءِ السابعةِ « . قلت : وتلك الأقوالُ الماضيةُ في » سِجِّين « كلُّها عائدةٌ هنا.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5/299)


(وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19)
وإعراب هذا الاسم كإعراب الجمع لأنه على لفظ الجمع ، كما تقول
هذه قِنِسْرُونَ ، ورأيت قِنِسْرِين ، وقال بعض النحويين : هذا جمع لما لا
يُحَدُّ وَاحِده ، نحو ثَلَاثُون وَأَرْبَعونَ ، فثلاثون كان لفظه لفظ جمع ثَلَاثٍ.
وكذلك قول الشاعر :
قَدْ شَرِبَتْ إِلاَّ الدُّهَيْدِهِينَا . . . قُلَيِّصَاتٍ وأُبَيْكِريِنَا
يعني أن الإبل قَدْ شَرِبَت الأجمع الدهْدَاةِ ، والدهداة حاشية الإبل كان
قليصات وأبيكرين ، ودهيدهين جمع ليس واحده محدوداً معلوم العَدَدِ.
والقول الأول قول أكثر النحويين وأَبْيَنُها.
* * *
وقوله : (عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23)
الأرائك : واحدها أريكة ، وهي الأسِرَّة في الحجال.
* * *
وقوله : (يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25)
الرحيق الشراب الذي لاَ غِشَّ فيه ، قَالَ حَسَّان :
يَسْقُونَ مَنْ وَرَدَ البَريصَ عليهمُ . . . بَرَدى يُصَفَّقُ بالرحِيقِ السَّلْسَل
ومعنى (مَخْتُومٍ) : في انقطاعه خاصة - ثم بَيَن فَقَالَ :
* * *
(خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26)

(5/300)


شربوا هذا الرحيق فَنِيَ ما في الكأس وانقطع الشرْبُ ، انختم ذلك بطعم
المسك ورائحته.
* * *
(وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28)
تأتيهم من علو عيناً تنسم عليهم من الغرف ، فعيناً في هذا القول
منصوبة مَفْعولةٌ ، كما قال : (أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا).
ويجوز أن يكون (عَيْنًا) منصوبة بقوله يَسْقَوْنَ عيناً ، أي مِنْ عَيْنٍ.
ويجوز أن يكون عيناً منصوباً على الحال ، ويكون (تَسْنِيم) معرفة
و (عَيْنًا) نكرة.
* * *
وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30)
هؤلاء جماعة من كفار قرَيش كان يَمُرُّ بِهِمْ من قَدُمَ إسلامُه مع النبي - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه ، وغيره - رحمهم اللَّه فيعيرونَهُمْ بالإسلام على وجه السخْرِية مِنْهمْ.
* * *
(وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31)
معجبيين بما هم فيه يَتَفكَّهوَنَ بذكرهم.
* * *
(وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33)
أي ما أرسل هؤلاء القوم على أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يحفظون عَلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ.
* * *
(فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34)
يعني يوم القيامةِ.
* * *
(هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)
أي هل جُوزُوا بِسُخْرِيَتهمْ بالمؤمِنينَ في الدنيا.
ويقرأ هَثُّوِّبَ ، بإدغام اللام في الثاء .

(5/301)


سُورَةُ الانْشِقَاق
( مَكِّيَّة )
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله : (إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1)
ْتنشق يوم القيامة بالغمام ، وجواب (إذا) يدل عليه : (فَمُلاَقِيهِ)
المعنى إذا كان يوم القيامة لقي الِإنْسَانُ عَمَلَهُ.
* * *
ومعنى : (وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2)
أي سمعت ، يقال : أذنت للشيء آذن إذَا سَمِعتَ
قال الشاعِرُ :
صُمٌّ إِذا سَمِعوا خَيْراً ذُكِرْتُ به . . . وِإِنْ ذُكِرْتُ بسُوء عندهم أَذِنُوا
أي سمعوا.
ومعنى (وَحُقَّتْ) أي حق لها أنْ تَفْعَلَ (1).
* * *
(وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3)
أزيلت عَنْ هَيْئَتِهَا وَبُدِّلت.
* * *
(وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4)
أَلْقَتْ مَا فِيهَا مِنَ المَوْتَى والكُنُوز.
* * *
وقوله : (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6)
جاء في التفسير إنك عامِل لربك عَمَلاً فملاقيه.
وجاء أيضاً : سَاعٍ إلى
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { وَأَذِنَتْ } : عَطْفٌ على « انْشَقَّتْ » ، وقد تقدَّم أنه جوابٌ على زيادةِ الواوِ ، ومعنى « أَذِنَتْ » ، أي : استمعَتْ أَمْرَه . يُقال : أَذِنْتُ لك ، أي : استمَعْتُ كلامَك . وفي الحديث : « ما أَذِن اللَّهُ لشيءٍ إذْنَه لنبيٍّ يتغَنَّى بالقرآن » وقال الشاعر :
4521 صُمٌّ إذا سَمِعوا خيراً ذُكِرْتُ به . . . وإن ذُكِرْتُ بسُوْءٍ عندهم أَذِنوا
وقال آخر :
4522 إنْ يَأْذَنُوا رِيْبةً طاروا بها فَرَحاً . . . وما هُمُ أَذِنُوا مِنْ صالحٍ دَفَنوا
وقال الجحَّافُ بنُ حكيم :
4523 أَذِنْتُ لكمْ لَمَّا سَمِعْتُ هريرَكُمْ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
والاستعارةُ المذكورةُ في قولِه تعالى : { قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ } [ فصلت : 11 ] أو الحقيقةُ عائدٌ ههنا.
قوله : { وَحُقَّتْ } الفاعلُ في الأصلِ هو اللَّهُ تعالى ، أي : حَقَّ اللَّهُ عليها ذلك ، أي : بسَمْعِه وطاعتِه . يُقال : هو حقيقٌ بكذا وتَحَقَّق به ، والمعنى : وحُقَّ لها أَنْ تفعلَ.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5/303)


رَبِّك سَعْياً فَمُلاقِيهِ.
والكدح في اللغة السعْيُ [والدأب] في العَمَلِ في باب
الدنيا وباب الآخرة ، قال تميم بن مقبل :
وما الدَّهرُ إِلا تارَتانِ فمنهما . . . أَموتُ وأُخْرى أَبْتَغي العَيْشَ أَكْدَحُ
أي وَتَارة أسعى في طلبه العيش وأدْأبُ ، وقيلإ فملاقيه @فملاقٍ رَبًكَ.
وقيل فَمُلَاقٍ عَمَلكَ.
* * *
وقوله : (فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9)
رَوينَا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ذلك العرض على اللَّه - عزَّ وجلَّ - وأَنَّه مَنْ نوقش الحساب عُذِّبَ.
وَرَوينَا أيضاً أنه مَن نوقش الحسابَ هَلَكَ.
* * *
وقوله : (فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11)
أي يقول : يا ويلاه ، يا ثبوراه ، وهذا يقوله من وقع في هلكة أي من
أوتي كتابه وراء ظهره ، ودليل ذلك علَى أَنهُ من المُعذبِينَ قوله :
(وَيَصْلَى سَعِيرًا (12)
وقرئت (وَيَصْلَّى سَعِيرًا) ، أي يكثر عذابه.
* * *
وقوله : (إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13)
يعني في الدنْيَا.
* * *
فأمَّا (وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا)
فمن صفة المؤمن ، وينقلب إلى أهله في الجنانِ التي أعَدَّهن اللَّه لأوليائه.
* * *
وقوله : (إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14)

(5/304)


هذه صفة الكافر ظنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ بأن لن يبعث ، ومعنى يحور - في
اللغة - أن يرجع إلى اللَّه عزَّ وجلَّ.
* * *
(بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15)
قبلَ أَن يخلقه ، عالماً بأن مرجعه إليه - عَزَّ وَجَلَّ -
* * *
قوله : (فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16)
معناه فأقسم وقد فسرنا ذلك.
والشفَق الحمرة التي ترى في الأفق في المغرب بعد سقوط الشمس.
وقيل الشفق النَّهارُ (1).
* * *
(وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17)
معنى وَسَقَ جَمَعَ وَضم.
قَال الشاعِر.
مُسْتَوْسِقَاتٍ لو يَجِدْنَ سَائِقَا
* * *
(وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18)
اجتمع واستوى ليلة ثلاثَ عَشْرَةَ وأربَعَة عشرة.
* * *
(لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19)
(لَيَرْكَبُنَّ)
أي حالًا بعد حال حتى يصير إلى اللَّه عزَّ وجلَّ ، من إحياء وَأمامَةٍ
وَبَعْثٍ.
وقُرِئَتْ : (لَتَرْكَبَنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ).
أي لَتَرْكَبَنَّ يا محمد طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ
من أطباق السماء (2).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23)
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { بالشفق } : قال الراغب : « الشَّفَقُ : اختلاطُ ضوءِ النهارِ بسوادِ الليل عند غُروبِ الشمس . والإِشفاقُ : عنايةٌ مختلِطَةٌ بخوفٍ؛ لأنَّ المُشْفِقَ يحبُّ المُشْفَقَ عليه ، ويَخاف ما يلحقُه ، فإذا عُدِّيَ ب » مِنْ « فمعنى الخوفِ فيه أظهرُ ، وإذا عُدِّي ب » على « فمعنى العنايةِ فيه أظهرُ » . وقال الزمخشري : « الشَّفَقُ : الحُمْرَةُ التي تُرى في الغرب بعد سقوطِ الشمسِ ، وبسقوطِه يخرُجُ وقتُ المغربِ ويَدْخُلُ وقتُ العَتَمَةِ عند عامَّةِ العلماء ، إلاَّ ما يُرْوى عن أبي حنيفةَ في إحدى الروايتَيْن أنه البياضُ وروى أسدُ بن عمرو أنه رَجَعَ عنه . سُمِّي شَفَقاً لر‍ِقَّته ، ومنه الشَّفَقَةُ على الإِنسان : رِقَّةُ القلبِ عليه » . انتهى . والشَّفَقُ شفقان : الشَّفَقُ الأحمر ، والآخر الأبيضُ ، والشَّفَق والشَّفَقَةُ اسمان للإِشفاقِ . قال الشاعر :
4527 تَهْوَى حياتي وأَهْوَى مَوْتَها شَفَقا . . . والموتُ أكرَمُ نَزَّالٍ على الحُرَمِ
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(2) قال السَّمين :
قوله : { لَتَرْكَبُنَّ } : هذا جوابُ القسم . وقرأ الأخَوان وابن كثير بفتحِ التاءِ على خطابِ الواحد ، والباقون بضمِّها على خطاب الجمع . وتقدَّم تصريفُ مثلِه . فالقراءةُ الأولى رُوْعي فيها : إمَّا خطابُ الإِنسانِ المتقدِّمِ الذِّكْرِ في قوله : { ياأيها الإنسان } [ الانشقاق : 6 ] ، وإمَّا خطابُ غيرِه . وقيل : هو خطابٌ للرسول ، أي : لتركبَنَّ مع الكفارِ وجهادِهم . وقيل : التاءُ للتأنيثِ والفعلُ مسندٌ لضميرِ السماء ، أي : لتركبَنَّ السماءَ حالاً بعد حال : تكون كالمُهْلِ وكالدِّهان ، وتَنْفَطر وتَنشَقُّ . وهذا قولُ ابنِ مسعود . والقراءة الثانيةِ رُوْعِي فيها معنى الإِنسان إذ المرادُ به الجنسُ.
وقرأ عمر « لَيَرْكَبُنَّ » بياء الغَيْبة وضَمِّ الباء على الإِخبار عن الكفار . وقرأ عمر أيضاً وابن عباس بالغَيبة وفتحِ الباء ، أي : لَيركبَنَّ الإِنسانُ . وقيل : ليركبَنَّ القمرُ أحوالاً مِنْ سَرار واستهلال وإبدار . وقرأ عبد الله وابن عباس « لَتِرْكَبنَّ » بكسر حَرْفِ المضارعة وقد تقدَّم تحقيقُه في الفاتحة . وقرأ بعضُهم بفتح حرف المضارعة وكسرِ الباء على إسناد الفعل للنفس ، أي : لَتَرْكَبِنَّ أنت يا نفسُ.
قوله : { طَبَقاً } مفعولٌ به ، أو حالٌ كما سيأتي بيانُه . والطَّبَقُ : قال الزمخشري : « ما طابَقَ غيرَه . يُقال : ما هذا بطَبَقٍ لذا ، أي : لا يطابقُه . ومنه قيل للغِطاء : الطَّبَقُ . وأطباق الثرى : ما تَطابَقَ منه ، ثم قيل للحال المطابقةِ لغيرِها : طَبَقٌ . ومنه قولُه تعالى : { طَبَقاً عَن طَبقٍ } ، أي : حالاً بعد حال ، كلُّ واحدةٍ مطابقةٌ لأختها في الشدَّةِ والهَوْلِ . ويجوز أنْ يكونَ جمعَ » طبقة « وهي المرتبةُ ، مِنْ قولهم : هم على طبقاتٍ ، ومنه » طبَقات الظهر « لفِقارِه ، الواحدةُ طبَقَة ، على معنى : لَتَرْكَبُّنَّ أحوالاً بعد أحوالٍ هي طبقاتٌ في الشدَّة ، بعضُها أرفعُ من بعض ، وهي الموتُ وما بعده من مواطنِ القيامة » انتهى . وقيل : المعنى : لتركبُنَّ هذه الأحوال أمةً بعد أمةٍ . ومنه قولُ العباس فيه عليه السلام :
4530 وأنتَ لَمَّا وُلِدْتَ أَشْرَقَتِ الْ . . . أرضُ وضاءَتْ بنورِك الطُّرُقُ
تُنْقَلُ مِنْ صالِبٍ إلى رَحِمٍ . . . إذا مضى عالَمٌ بدا طَبَقُ
يريد : بدا عالَمٌ آخرُ : فعلى هذا التفسير يكون « طبقاً » حالاً لا مفعولاً به . كأنه قيل : متتابعِين أُمَّةً بعد أُمَّة . وأمَّا قولُ الأقرعِ :
4531 إنِّي امرُؤٌ قد حَلَبْتُ الدهرَ أَشْطُرَه . . . وساقَني طبَقاً منه إلى طَبَقِ
فيحتملُ الأمرين ، أي : ساقَني مِنْ حالةٍ إلى أخرى ، أو ساقني من أمةٍ وناس إلى أمةٍ وناسٍ آخرين ، ويكون نصبُ « طَبَقاً » على المعنيَيْن على التشبيه بالظرف ، أو الحال ، أي : منتقلاً . والطَّبَقُ أيضاً : ما طابقَ الشيءَ ، أي : ساواه ، ومنه دَلالةُ المطابقةِ . وقال امرؤ القيس :
4532 دِيْمَةٌ هَطْلاءُ فيها وَطَفٌ . . . طَبَقُ الأرضِ تَحَرَّى وتَدُرّ
قوله : { عَن طَبقٍ } في « عن » وجهان ، أحدُهما : أنها على بابها ، والثاني : أنها بمعنى « بَعْدَ ».
وفي محلِّها وجهان ، أحدهما : أنها في محلِّ نصبٍ على الحال مِنْ فال « تَرْكَبُنَّ » . والثاني : أنَّها صفةٌ ل « طَبقا » . قال الزمخشري : « فإنْ قلتَ : ما محلُّ » عن طبَق «؟ قلت : النصبُ على أنُّه صفةٌ ل » طبقا « ، أي : طبقاً مجاوزاً لطبق ، أو حالٌ من الضمير في » لتركبُنَّ « ، أي : لتركبُنَّ طبقاً مجاوزِيْن لطبَق أو مجاوزاً أو مجاوزةً على حَسَبِ القراءة ».
وقال أبو البقاء : « وعن بمعنى بَعْدَ . والصحيح أنها على بابِها ، وهي صفةٌ ، أي : طبقاً حاصلاً عن طَبق ، أي : حالاً عن حال . وقيل : جيلاً عن جيل » انتهى . يعني الخلافَ المتقدِّمَ في الطبق ما المرادُ به؟ هل هو الحالُ أو الجيلُ أو الأمةُ؟ كما تقدَّم نَقْلُه ، وحينئذٍ فلا يُعْرَبُ « طَبَقاً » مفعولاً به بل حالاً ، كما تقدَّم ، لكنه لم يَذْكُرْ في « طبقاً » غيرَ المفعولِ به . وفيه نظرٌ لِما تقدَّم مِن استحالتِه معنى ، إذ يصير التقديرُ : لتركَبُنَّ أمةً بعد أمَّةٍ ، فتكون الأمةُ مركوبةً لهم ، وإن كان يَصِحُّ على تأويلٍ بعيدٍ جداً وهو حَذْفُ مضافٍ ، أي : لَتركبُنَّ سَنَنَ أو طريقةَ طبقٍ بعد طبقٍ.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5/305)


أي بما يحملون في قلوبهم ، يقال : أوْعَيْتُ المتاعَ في الوعاء ، ووعيتُ
العلمَ.
* * *
وقوله : (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24)
المعنى اجعل بدل البشارة للمؤمنين بالجنة والرحمة والرضوان ، للكفار
العذاب الأليم.
* * *
(إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)
لا يمنُّ عليهم ، قال أهل اللغة : غير ممنون غير مقطوع ، يقال منيت
الحبل إذَا قطعته .

(5/306)


سُورَةُ الْبُرُوجِ
( مَكِّيَّة )
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله عزَّ وجلَّ : (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1)
جواب القسم : (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ).
وقيل (ذَاتِ الْبُرُوجِ)
ذات الكواكب وقيل ذات القصور لقُصُورِ في السماء.
* * *
(وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2)
يوم القيَامة.
* * *
(وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3)
شاهد يوم الجمعة ، ومشهود يوم عرفة.
وقيل : وَشَاهد يعنى به النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ومشهود يوم القيامة ، كما قال تعالى :
(ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4)
الأخدود : شق في الأرض ، ويجمع أَخَاديد (1).
وقيل أصحاب الأخْدُودِ قوم
كانوا يَعْبدُونَ صَنما ، وكان معهم قوم يكتمون إيمانَهم ، يعبدون اللَّه عزَّ وجلَّ ويوحدونه ، فعلموا بهم فخدُّوا لهم أخدوداً وملأوه ناراً ، وقذفوا بهم في تلك النار فتقحموها ولم يَرْتَدُّوا عَنْ دينهم ثبوتاً على الإسلام ، ويقيناً أنهم يصيرون إلى الجنة.
فجاء في التفسير أن آخِرَ من ألقي منهم امرأة معها صَبِي رضيع.
فلما رأت النار صدت بَوَجْهِهَا وَأَعْرَضَتْ ، فقال لها الصبي : يا أمتاه قفي
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { قُتِلَ } : هذا جوابُ القسمِ على المختارِ ، وإنما حُذِفَتِ اللامُ ، والأصلُ : لَقُتِلَ ، كقولِ الشاعر :
4533 حَلَفْتُ لها باللَّهِ حَلْفَةَ فاجرٍ . . . لَناموا فما إنْ مِنْ حديثٍ ولا صالِ
وإنما حَسُن حَذْفُها للطُّولِ ، كما سيأتي إن شاء اللَّهُ تعالى في قولِه : { قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا } [ الشمس : 9 ] . وقيل : تقديرُه : لقد قُتِلَ ، فحَذَفَ اللامَ وقد ، وعلى هذا فقولُه : « قُتِلَ » خبرٌ لا دُعاءٌ . وقيل بل هي دعاءٌ فلا يكونُ جواباً . وفي الجواب حينئذٍ أوجهٌ ، أحدُها : أنَّه قولُه : { إِنَّ الذين فَتَنُواْ } . الثاني : قولُه : { إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ } قاله المبرد . الثالث : أنه مقدرٌ . فقال الزمخشري : ولم يَذْكُرْ غيرَه « هو محذوفٌ يَدُلُّ عليه { قُتِلَ أَصْحَابُ الأخدود } ، كأنه قيل : أُقْسِمُ بهذه الأشياءِ إنَّ كفَّار قريشٍ مَلْعونون كما لُعِنَ أصحابُ الأُخدودِ » ثم قال : « وقُتِل دعاءٌ عليهم ، كقوله : { قُتِلَ الإنسان } [ عبس : 17 ] ، وقيل : التقدير : لَتُبْعَثُنَّ.
وقرأ الحسن وابن مقسم » قُتِّلَ « بتشديدِ التاءِ مبالغةً أو تكثيراً . وقوله : » الموعودِ « ، أي : الموعود به . قال مكي : » الموعود نعتٌ لليوم . وثَم ضميرٌ محذوفٌ يتمُّ الموعودُ به . ولولا ذلك لَما صَحَّتِ الصفةُ؛ إذ لا ضميرَ يعودُ على الموصوفِ مِنْ صفتِه « انتهى . وكأنَّه يعني أن اليومَ موعودٌ به غيرُه من الناس ، فلا بُدَّ مِنْ ضمير يَرْجِعُ إليه ، لأنه موعودٌ به لا موعودٌ . وهذا لا يُحتاج إليه؛ إذ يجوزُ أَنْ يكون قد تَجَوَّزَ بأنَّ اليومَ وَعَدَ بكذا فيصِحُّ ذلك ، ويكونُ فيه ضميرٌ عائدٌ عليه ، كأنَّه قيل : واليومِ الذي وَعَدَ أَنْ يُقْضَى فيه بين الخلائِقِ.
والأُخْدودُ : الشِّقُّ في الأرضِ . قال الزمخشري : » والأخْدودُ : الخَدُّ في الأرضِ ، وهو الشِّقُّ . ونحوُهما بناءً ومعنىً : الخَقُّ والأُخْقُوق ، ومنه : « فساخَتْ قوائمُه في أخاقيقِ جِرْذان » . انتهى . فالخَدُّ في الأصلِ مصدرٌ ، وقد يقعُ على المفعولِ وهو الشِّقُّ نفسُه ، وأمَّا الأخدودُ فاسمٌ له فقط . وقال الراغب : « الخَدُّ والأُخْدُوْدُ شِقٌّ في أرضٍ ، مستطيلٌ غائِصٌ.
وجمع الأخدود : أخاديدُ . وأصلُ ذلك مِن خَدَّيْ الإِنسان ، وهما ما اكتنفا الأَنْفَ عن اليمينِ والشمالِ ، والخَدُّ يُستعار للأرضِ ولغيرها كاستعارةِ الوجهِ ، وتخدُّدُ اللحمِ زَوالُه عن وجهِ الجسم » ثم يُعَبَّرُ بالمُتَخَدِّدِ عن المهزول ، والخِدادُ مِيْسَمٌ في الخَدِّ . وقال غيره : سُمِّيَ الخَدُّ خَدَّاً لأنَّ الدموعَ تَخُدُّ فيه أخاديدَ ، أي : مجاريَ.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5/307)


ولا تنافقي ، وقيل إنه قال لها : مَا هِيَ إلا [غُميضة] ، فَصَبَرَتْ فألقِيتْ في النار.
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا ذكر أصحاب الأخدودِ تَعَوَّذَ مِنْ جَهْد البلاء.
فأَعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - قِصًةَ قَوْم بلغت بصيرتُهم وحقيقة إيمَانِهِم إلى
أن صبروا على أن يحرقوا بالنار في اللَّه عزَّ وجلَّ.
* * *
(وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8)
أي ما أنكروا عليهم ذنباً إلا إيمَانَهم ، ثم أعلم - عزَّ وجلَّ - مَا أُعِدَّ
لأوْلَئِك الَّذِينَ أَحْرَقُوا المُؤْمِنِينَ فقال :
* * *
(إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10)
أي أحْرَقُوا المُؤْمِنِينَ والمُؤْمِنَاتِ ، يقال فتنت الشيء ، أحرقته ، والفَتِينُ
حجارة سودٌ كأنَّها مُحْرَقَة.
(فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ).
فالمعنى واللَّه أعلم فلهم عذاب جهنم بكفرهم ، ولهم عذاب الحريق
بما أحرقوا المؤمنين والمؤمنات.
* * *
قوله عزَّ وجلَّ : (إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13)
أي يبدئ الخلق ثم يعيده بعد بلاه.
* * *
(وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14)
أي المحب أولياءه.
* * *
(ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15)
(الْمَجِيدِ)
ويقرأ (الْمَجِيدُ) . ومعنى المجيد الكريم.
فمن جَرَّ (الْمَجِيدِ) فمن صفة العرش ، ومن رفع فمن صفة (ذُو).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18)

(5/308)


(فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ) في موضع جرٍّ بَدَلًا من الجنود ، المعنى هل أتاك حديث
فرعون وثمود.
* * *
وقوله : (وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20)
أي لا يعجزه منهم أحد . قدرته مُشْتَمِلة عليهم.
* * *
(بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21)
ويقرأ (قرآنُ مَجِيدٍ) ، والقراءة (قُرْآنٌ مَجِيدٌ) من نعت قرآن.
ومن قرأ قرآنُ ، فالمعنى هو قرآن رَبٍّ مَجِيدٍ.
* * *
وقوله : (فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)
القرآن في اللوح وهو أم الكتاب عند اللَّه.
وقرئت (مَحْفُوظٌ) ، مِنْ نعت (قُرْآنٌ)
المعنى بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ محفوظٌ في لوح .

(5/309)


سُورَةُ الطَّارِقِ
( مَكِّيَّة )
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله : (وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1)
جواب القسم : (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4).
والطارق النجم ، والنجم يعنى به النجوم.
وإنما قيل للنجم طارق لأنه طلوعه بالليل ، وكلُّ ما أتى ليلا
فهو طارق ، لأن الليل يسكن فيه ، ومن هذا قيل : أَطرَقَ فُلَان إذا أَمْسَكَ عَنِ الكلامِ وَسَكَنَ.
* * *
(النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3)
و (الثَّاقِبُ)
المُضِيء لقال ثقب يثقُبُ تقوباً إذا أضاء ، ويقال للموقِدِ :
أثقب نارك أي أَضِئها.
* * *
وقوله : (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4)
(لَمَا عَلَيْهَا)
معناه لَعَلَيْها حافظ ، و " ما " لغوٌ.
وقرئت " لَمَّا " عَلَيْها حَافِط - بالتشديد.
والمعنى معنى (إلا) استعْمِلَتْ " لَمَّا " في موضع " إلا " في موضعين :
أحدهما هذا.
والآخر في بَابِ القَسَمِ.
يقال : سَأَلْتكَ لَمَّا فَعلت بمعنى إلا فعلت (1).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6)
معناه من فوق ، ومذهب سيبويه وأصحابه أن معناه النسب إلى الاندفاق.
المعنى من ماء ذي اندفاق.
* * *
وقوله : (يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7)
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا } : قد تقدَّم في سورةِ هود التخفيفُ والتشديدُ في « لَمَّاً » . فمَنْ خَفَّفها هنا كانت « إنْ » هنا مخففةً من الثقيلة ، و « كلُّ » مبتدأٌ ، واللامُ فارقةٌ ، و « عليها » خبرٌ مقدَّمٌ و « حافظٌ » مبتدأٌ مؤخرٌ ، والجملةُ خبرُ « كل » و « ما » مزيدةٌ بعد اللامِ الفارقةِ . ويجوزُ أَنْ يكونَ « عليها » هو الخبرَ وحدَه ، و « حافِظٌ » فاعلٌ به ، وهو أحسنُ . ويجوزُ أَنْ يكونَ « كلُّ » متبدأً ، و « حافظٌ » خبرَه ، و « عليها » متعلقٌ به و « ما » مزيدة أيضاً ، هذا كلُّه تفريعٌ على قولِ البصريِين . وقال الكوفيون : « إنْ هنا نافيةٌ ، واللامُ بمعنى » إلاَّ « إيجاباً بعد النفي ، و » ما « مزيدةٌ . وتقدَّم الكلامُ في هذا مُسْتوفى.
وأمَّا قراءةُ التشديدِ فإنْ نافيةٌ ، و » لَمَّا « بمعنى » إلاَّ « ، وتقدَّمَتْ شواهدُ ذلك مستوفاةً في هود . وحكى هارونُ أنه قُرِىءَ هنا » إنَّ « بالتشديدِ ، » كلَّ « بالنصب على أنَّه اسمُها ، واللامُ هي الداخلةُ في الخبرِ ، و » ما « مزيدةٌ و » حافظٌ « خبرُها ، وعلى كلِّ تقديرِ فإنْ وما في حَيِّزِها جوابُ القسمِ سواءً جَعَلها مخففةً أو نافيةً . وقيل : الجواب { إِنَّهُ على رَجْعِهِ } ، وما بينهما اعتراضٌ . وفيه بُعْدٌ.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5/311)


الترائب : جاء في التفسير أنها أربعة أضلاع من يمنة الصدر وأربَعُ
أضلاع من يَسْرةِ الصدر.
وجاء في التفسير أن الترائب اليدان والرجلان والعينان.
وقال أهل اللغة أجمعون : الترائب موضع القلادة من الصدر.
وأنشدوا لامرئ القيس :
مُهَفْهَفَةٌ بَيْضَاءُ غَيْرُ مُفَاضَةٍ . . . تَرائِبُها مَصْقُولَةٌ كالسَّجَنْجَلِ
* * *
وقوله : (إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8)
جاء في التفسير : على رجع الماء إلى الإحليل لَقَادِرٌ.
وجاء أيضاً على رجعه إلى الصلب ، وجاء أيضاً على رجعه على بعث الإنسانِ ، وهذا يشهد له قوله :
* * *
(يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9)
أي إنه قادر على بعثه يوم القيامة.
* * *
وقوله : (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12)
(ذات الرجع)
ذات المطر لأنه يجيء ويرجع ويتكرر.
قال أبو عبيدة :
الرجعُ : الماء ، وأنشد بيت المنخل الهذلي ؛
أَبيض كالرَّجْع رَسوبٌ إِذا . . . ما ثاخَ في مُحْتَفَلٍ يَخْتَلي
قال يصف السيف ، يقول : هو أبيض كالماء .

(5/312)


(وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12)
أي تصدع بالنبات.
* * *
(إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13)
جواب القسم يعنى به القرآن ، يفصل بين الحق والباطل.
* * *
(وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14)
مَا هُوَ بالَّلعِبِ.
* * *
(إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15)
يعني به الكفار ، أنهم يحاتلون النبي عليه السلام ، ويظهرون ما هم
خلافه . .
* * *
(وَأَكِيدُ كَيْدًا (16)
كيد اللَّه لهم استدراجهم من حيث لا يعلمونَ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17)
أي أمهلهم قليلاً .

(5/313)


سُورَةُ الْأَعْلَى
( مَكِّيَّة )
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله عزَّ وجلَّ : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)
أي نَزِّهْ ربَّك عن السوءِ وقل :
سبحان ربي الأعلى.
* * *
(الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2)
خلق الإنسان مستوياً ، أشهده على نفسه بأنه ربُّه.
وخلقه على الفطرة.
* * *
وقوله : (وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3)
هداه السبيل إما شَاكِراً وَإما كَفوراً.
وقال بعض النحويين : فَهَدَى وَأَضل ولكن حذفت وأضل لأن في الكلام دليلاً عليه ، قال عزَّ وجلَّ : (يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ).
* * *
(وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5)
(أحوى) في موضع نصب حال من (المرعى) المعنى الذي أخرج المرعى
أَحْوَى أي أخرجه أخْضَرَ يضرب إلى الحُوَّة ، والحُوَّة السَّوَادُ.
(فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى) ، جفَّفَه حتى صيره هشيماً جافًّا كالغثاء الذي تراه فوق ماء السيل.
* * *
قوله : (سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7)
أعلم الله عزَّ وجلَّ أنه سيجعل للنبي - صلى الله عليه وسلم - آيةً يتبيَّن له بها الفَضْلية بأن

(5/315)


جبريل عليه السلام ينزل عليه بالوحي وهو أُمِّيٌّ لا يكتب كتاباً ولا يقرْؤه.
ويقرئ أصحابه ولا ينسى شيئاً من ذلك ولا يكرر عليه الشيء.
قال الله عز وجل : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9).
* * *
فأما (إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ)
فقيل إلا ما شاء الله ثم يذكره بعد ، وقيل إلا ما شاء اللَّه أن يؤخره من القرآن (1).
* * *
(وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11)
المعنى يتجنب الذكرى الأشقى.
* * *
وقوله : (ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (13)
لا يموت موتاً يستريح به من العذاب ، ولا يحيا حياة يجد معها روح
الحياة.
* * *
وقوله تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14)
أي قد صادف البقاء الدائم والفوز بالنعيم.
ومعنى (تَزَكَّى) تكثَّر بتقوى اللَّه ، ومعنى الزاكي النامي الكثير.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16)
وقرئت (بَلْ يُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) بالياء.
والأجود التاء ، لأنها رويت عن أُبَيٍّ بن كعب :
بل أنتم تؤثرون الحياة الدنيا.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18)
يعني من قوله : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) إلى هذا الموضع.
وقيل بل السورة كلها.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { إِلاَّ مَا شَآءَ الله } : فيه أوجهٌ ، أحدُها : أنَّه مفرغٌ ، أي : إلاَّ ما شاءَ الله أن يُنْسِيَكَهُ فإنك تَنْساه . والمرادُ رَفْعُ تلاوتِه . وفي الحديث : « أنه كان يُصبح فينسَى الآياتِ لقولِه : { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا } [ البقرة : 106 ] . وقيل : إنَّ المعنى بذلك القِلَّةُ والنُّدْرَةُ ، كما رُوِيَ » أنه عليه السلام أسقطَ آيةً في صلاتِه ، فحسِب أُبَيٌّ أنها نُسِخَتْ ، فسأله فقال : « نَسِيْتُها » « وقال الزمخشري : » الغَرَضُ نَفْيُ النِّسْيان رَأْساً ، كما يقول الرجل لصاحبه : أنت سَهِيْمي فيما أَمْلِكُ إلاَّ ما شاء اللَّهُ ، ولم يَقْصِدْ استثناءَ شيءٍ ، وهو مِنْ استعمالِ القلَّة في معنى النفي « انتهى . وهذا القولُ سبقَه إليه الفراء ومكي . وقال الفراء وجماعة معه : » هذا الاستثناءُ صلةٌ في الكلام على سنةِ الله تعالى في الاستثناء . وليس [ ثم ] شيءٌ أُبيح استثناؤُه « . قال الشيخ : » هذا لا يَنْبغي أَنْ يكونَ في كلامِ اللَّهِ تعالى ولا في كلامٍ فصيحٍ ، وكذلك القولُ بأنَّ « لا » للنهي ، والألفَ فاصلةٌ « انتهى . وهذا الذي قاله الشيخُ لم يَقْصِدْه القائلُ بكونِه صلةً ، أي : زائداً مَحْضاً بل المعنى الذي ذكره ، وهو المبالغةُ في نَفْي النسيانِ أو النهي عنه.
وقال مكي : » وقيل : معنى ذلك ، إلاَّ ما شاء الله ، وليس يشاءُ اللَّهُ أَنْ يَنْسَى منه شيئاً ، فهو بمنزلةِ قولِه في هود في الموضعَيْنِ : خالِدِيْنَ فيها ما دامَتِ السماواتُ والأرضُ إلاَّ ما شاء ربُّك « وليس جَلَّ ذِكْرُه تَرَكَ شيئاً من الخلودِ لتقدُّمِ مَشيئتِه بخُلودِهم » . وقيل : هو استثناءٌ مِنْ قولِه { فَجَعَلَهُ غُثَآءً أحوى } . نقله مكي . وهذا يَنْبغي أَنْ لا يجوزَ ألبتَّةَ.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5/316)


سُورَةُ الْغَاشِيَةِ
( مَكِّيَّة )
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله عزَّ وجلَّ : (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1)
قيل إن الغاشية القيامة لأنها تغشى الخلق ، وقيل الغاشية النار لأنها
ْتغشى وجوه الكفار.
* * *
(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2)
(خَاشِعَةٌ) خبر (وُجُوهٌ) ، ومعنى خاشعة ذليلة.
* * *
(تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4)
ويقرأ (تُصْلَى).
* * *
وقوله (تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5)
أي متناهية في شدة الحرِّ : كقوله : (يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44).
* * *
(لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6)
يعني لأهل النار ، والضريع الشبرق.
وهو جنس من الشوك ، إذا كان رطباً فهو شبرق ، فإذا يبس فهوَ الضَّرِيعُ ، قال كفار قريش : إنَّ الضريع لَتَسْمَنُ عليه إبِلُنَا ، فقال اللَّه - عزَّ وجلَّ -
* * *
(لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7)
ومعنى (هَلْ أتَاكَ) أي هذا ألم يكن من عِلْمِكَ ولا من علم قَوْمِكَ ، وكذلك

(5/317)


الأقاصيص التي أخبر بها النبي - صلى الله عليه وسلم -.
قال اللَّه - عزَّ وجلَّ - : (مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا).
* * *
وَمَعْنَى (عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ) : قيل إنها عاملة ناصبة في الدنيا لغير ما يقَربُ إلى
الله تعالى ، وقيل إنهم الرهبان ومن أشبههم ، وقيل (عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ) في النار.
فوصف مُقاساتها العذاب.
وقوله في صفة أهل الجنة : (لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11)
وقرئت (لَا يَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً) ، وقرئت (لَا تُسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةٌ)
أي لا تسمع فيها آئمة.
ويجوز أن يكون لا تسمع فيها كلمة تلغى ، أي تسقط ، لا يتكلم أهل الجنة إلا بالحكمة ، وحمد اللَّه على مارزَقَهم من نعيمه الدائم.
* * *
وقوله : (وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14)
الأكواب آنية شبيهة بالأباريق لا عرى لها.
* * *
(وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15)
واحدتها نمرقة.
* * *
(وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16)
الذرابِي : البسط ، واحدتها زربية.
* * *
وقوله : (أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17)
نبههم الله على عظيم من خلقه قَد ذَلَّلَه للصغِيرِ يقوده وينتجهُ وينهضه.
ويحمل عليه الثقيل من الحمل وهو بارك فينهض بثقيل حمله ، وليس ذلك في
شيء من الحوامِل غيره ، فأراهم عظيماً من خلقه ليدلهم بذلك على توحيده.
* * *
(وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18)
يعنى بغير عَمَدٍ.
* * *
(وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19)
(نُصِبَتْ) مرساة مثبتة لا تزول .

(5/318)


(وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20)
أَي دُحِيتَْ وَبُسِطَتْ.
* * *
(فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21)
هذا قبل أن يؤمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالحرب.
* * *
(لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22)
أي بِمسَلَّط.
* * *
(إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24)
أي عذابَ جَهنَّمَ
* * *
(إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25)
(إيَّابهم)
وقُرئت إيابَهُمْ ، بالتخفيف والتثقيل.
ومعنى إيابهم رجوعهم ، ومَعْنَى (إيَّابهم) على مصدر أَيَّبَ إيَّاباً ، على معنى فَيْعَلَ فِيعَالاً ، من آب يؤوبَ والأصل إيوابا ، فأدغمت الياء في الواو ، وانقلبت الواو إلى الياء لأنها سبقت بسكونٍ .

(5/319)


سُورَةُ الْفَجْرِ
( مَكِّيَّة )
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله عزَّ وجلَّ : (وَالْفَجْرِ (1)
الفجر انفجار الصبح من الليل ، وجواب القسم (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)
* * *
(وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2)
ليالي عشر ذي الحجة.
* * *
(وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3)
(وَالْوِتْرِ)
قرئَت (وَالْوَتْرِ) بفتح الواو ، والوَتْرِ يوم النحر ، والوتر يوم عرفة
وقيل الشفع والوتر الأعداد ، والأعداد كلها شفع ووتر.
وقيل : (الْوَتْرِ) اللَّه عزَّ وجلَّ ، الواحد.
و (الشَّفْعِ) جميع الخلق ، خلِقوا أزواجاً.
* * *
(وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4)
إذا مَضىَ . سَرَى يَسْرِي ، كما قال - عزَّ وجلَّ :
(وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ).
وَ (يَسْرِ) حذفت الياء لأنها رأس آية.
وقد قرئت (والليل إذَا يَسْري) بإثبات الياء.
واتباع المصحف وحذف الياء أَحَبُّ إليَّ لأن القراءة بذلك أكثر.
ورُووس الآي فَوَاصِلُ تحذف معها اليَاءَات وتدل عليه الكسرات (1).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5)
أي لذي عَقْل وَلُبٍّ ، ومعنى القسم توكيد ما يَذْكُر وتصحيحه بأن يُقْسِم
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { إِذَا يَسْرِ } : منصوبٌ بمحذوفٍ هو فعلُ القسم ، أي : أُقْسِم به وقتَ سُراه . وحَذَفَ ياءَ « يَسْري » وَقْفاً ، وأثبتها وصلاً ، نافعٌ وأبو عمروٍ ، وأثبتها في الحالَيْنِ ابنُ كثير ، وحَذَفَها في الحالين الباقون لسقوطِها في خَطِّ المصحفِ الكريم ، وإثباتُها هو الأصلُ لأنها لامُ فعلٍ مضارعٍ مرفوعٍ ، وحَذْفُها لموافقةِ المصحفِ وموافقةِ رؤوسِ الآي ، وجَرْياً بالفواصلِ مَجْرى القوافي . ومَنْ فَرَّقَ بين حالَتَيْ الوقفِ والوصلِ فلأنَّ الوقفَ محلُّ استراحةٍ . ونَسَبُ السُّرى إلى الليل مجازٌ؛ إذ المرادُ : يُسْرَى فيه ، قاله الأخفش . وقال غيره : المرادُ يَنْقُصُ كقوله : { إِذْ أَدْبَرَ } [ المدثر : 33 ] ، { إِذَا عَسْعَسَ } [ التكوير : 17 ].
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5/321)


وقوله : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6)
قيل هما عادان عاد الأولى وَهي إرَم ، وعاد الأخيرة ، وقيل إرم أبو عاد.
وهو عاد بن إرم ، وقيل إرم اسم لبلْدَتِهِمْ التي كانوا فيها.
وإرم لم تنصرف لأنها جعلت اسماً للقبيلة ، فلذلك فتحت
وهي في موضع جَرٍّ.
* * *
وقوله : (إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7)
أي ذاتِ الطُولِ ، يقال رجل معمَّد إذا كان طويلًا.
وقيل (ذَاتِ الْعِمَادِ)
ذات البناء الطويل الرفيع.
* * *
وقوله : (وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9)
جابوا : قطعوا ، كما قال عزَّ وجلَّ - (وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ).
* * *
(وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10)
فِرْعَون لم ينصرف لأنه أعجمي ، وقيل (ذِي الْأَوْتَادِ) ، لأنه كان له أربَعُ
أَسَاطِين ، إذا عاقَب الانْسَانَ ربط منه كل قائمة إلى اسطوانة من تلك
الأساطين.
ومعناه ألم تر كيف أهلك ربُّك هذه الأمم التي كذبت رُسُلَها.
وكيف جعل عقوبتها أن جعل سوطه الذي ضربهم به العذاب فقال :
(فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13)
* * *
وقوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)
أي يرصدا من كفر به وعبد غيره بالعذاب.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15)
والمعنى إذا ما اختبره رَبُّهُ وَأَوْسَعَ عَليه فيقول رَبِّي أَكْرَمَنْ .

(5/322)


(وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16)
أي جعل رزقه مَقدَّراً.
(فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا).
أي ليس الأمر كما يظن الِإنسانُ ، وهَذَا يُعْنَى به الكافِرُ الذي لا يؤمِنُ
بالبَعْثِ ، وإنما الكرامة عنده والهوان بكثرة الحظ في الدنيا ، وَصِفَةُ المْؤمِنِ أنَ
الإكرَام عنده توفيق اللَّهِ إياه أي ما يؤديه إلى حَظِّ الآخرةِ.
* * *
(كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18)
(وَلَا تَحُضُّونَ)
وَيُقْرَأ (وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ).
وكانوا يأكلون أَمْوالَ اليَتامَى إسرافاً وَبِدَاراً فقال :
* * *
(وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19)
((وَيَأْكُلُونَ)
أي تراث اليتامى (لَمًّا) يُلِمُّون بِجَمِيعِه.
* * *
وقوله : (وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20)
أي كثيراً ، والتزاث أصله الوُراث من وَرِثْتُ ، ولكن التاء تبدل من الوَاوِ
إذَا كَانَتِ الواوُ مَضْمُومَةً ، نحو تُراث وأصله وُرَاث ونحو تجاه وأصله وجاهِ من
وَاجَهْتُ.
* * *
وقوله : (كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21)
إذا زلزلت فَدَكَّ بعضُهَا بَعْضاً.
* * *
(وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22)
والمعنى والملائكة كما قال جل ثَنَاوةُ : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ).

(5/323)


وقوله : (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23)
كما قال : (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ).
وقيل في التفسير جيء بجهنم تقَادُ بألف زِمَام كل زمام في أيدي سبعين ألف مَلَكٍ.
* * *
(يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ)
يَوْمَئِذٍ يُظْهِر الإنْسَانُ التَّوْبَةَ.
(وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى)
أي ومن أين له الذكرى ، أي التوبة.
* * *
(يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24)
أي لدار الآخرة التي لَا مَوْتَ فِيهَا.
* * *
(فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25)
(لَا يُعَذَّبُ)
المعنى لَا يُعذًبَ عَذَابَ هذا الكافِرِ
وعذاب هذا الصِّنْفَ مِنَ الكفار أحَدٌ.
* * *
(وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26)
ومن قرأ (لَا يُعَذِّبُ) ، وهو أكثر القراءة ، فالمعنى لا يَتَوَلَّى يوم القيامَةِ
عذاب اللَّه أَحَدٌ ، الملك يومئذ لِله وَحْدَه - جلَّ وعزَّ.
وقيل لا يعذب عَذَابه أَحَدٌ ، أي عذاب اللَّه أَحَدٌ ، فعلى هذا لا يُعَذِبُ أحَدٌ في الدنيا عَذَاب اللَّه في الآخرة (1).
* * *
وقوله : (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27)
" أيُّ " تؤنث إذا دعوت بِها مؤنًثاً وَتذَكَّرُ ، تقول : يَا أَيَّتُهَا المرأة.
وإن شئت يَا أَيُّهَا المرْأةُ ، فمن ذكَره فلأنَّ (أَيَّا) مبْهَمَةٌ ومن أنَّث فَلأنَّها مع إبْهَامِهَا قد لزمها الإِعراب والإِضافة.
وزعم سيبويه أن بعض العرب تقول كُلتُهُنَّ في كلُهُنَّ.
والمطمئنة التي اطمأنت بالإيمان وأخبتت إلَى رَبِّهَا.
* * *
(ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28)
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { لا يُعَذِّبُ } : قرأ الكسائي « لا يُعَذَّبُ » و « لا يُوْثَقُ » مبنيين للمفعولِ . والباقون قرؤُوهما مبنيَّيْن للفاعل . فأمَّا قراءةُ الكسائي فأُسْنِد الفعلُ فيها إلى « أحد » وحُذِفَ الفاعلُ للعِلْم به وهو اللَّهُ تعالى أو الزَّبانيةُ المُتَوَلُّون العذابَ بأمرِ اللَّهِ تعالى . وأمَّا عذابه ووَثاقه فيجوزُ أَنْ يكونَ المصدران مضافَيْن للفاعلِ والضميرِ للَّهِ تعالى ، ومضافَيْنِ للمفعول ، والضميرُ للإِنسانِ ، ويكون « عذاب » واقعاً موقع تَعْذيب . والمعنى : لا يُعَذَّبُ أحدٌ تعذيباً مثلَ تعذيبِ اللَّهِ تعالى هذا الكافرَ ، ولا يُوْثَقُ أحدٌ توثيقاً مثلَ إيثاقِ اللَّهِ إياه بالسَّلاسِلِ والأغلالِ ، أو لا يُعَذَّبُ أحدٌ مثلَ تعذيبِ الكافرِ ، ولا يُوْثَقُ مثلَ إيثاقِه ، لكفرِه وعنادِه ، فالوَثاق بمعنى الإيثاق كالعَطاء بمعنى الإِعطاء . إلاَّ أنَّ في إعمالِ اسمِ المصدرِ عملَ مُسَمَّاه خلافاً مضطرباً فنُقل عن البصريين المنعُ ، وعن الكوفيين الجوازُ ، ونُقل العكسُ عن الفريقَيْن . ومن الإِعمال قولُه :
4571 أكُفْراً بعد رَدِّ الموتِ عني . . . وبعد عَطائِكَ المِئَةَ الرَّتاعا
ومَنْ مَنَعَ نَصَبَ « المِئَة » بفعلٍ مضمر . وأَصْرَحُ من هذا قولُ الآخر :
4572 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . فإنَّ كلامَها شفاءٌ لِما بيا
وقيل : المعنى ولا يَحْمِلُ عذابَ الإِنسانِ أحدٌ كقوله : { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى } [ الأنعام : 164 ] قاله الزمخشري . وأمَّا قراءةُ الباقين فإنه أَسْنَدَ الفعلَ لفاعلِه . /
والضميرُ في « عذابَه » و « وَثاقَه » يُحتمل عَوْدُه على الباري تعالى ، بمعنى : أنَّه لا يُعَذِّبُ في الدنيا مثلَ عذابِ اللَّهِ تعالى يومئذٍ أحدٌ ، أي : إنَّ عذابَ مَنْ يُعَذِّبُ في الدنيا ليس كعذابِ الله تعالى يومَ القيامةِ ، كذا قاله أبو عبد الله ، وفيه نظرٌ : من حيث إنه يَلْزَمُ أَنْ يكونَ « يومئذٍ » معمولاً للمصدرِ التشبيهيِّ ، وهو ممتنعٌ لتقدُّمِه عليه ، إلاَّ أن يُقالَ : يُتَوَسَّعُ فيه.
وقيل : المعنى لا يَكِلُ عذابه ولا وَثاقَه لأحدٍ؛ لأنَّ الأمرَ لله وحدَه في ذلك . وقيل : المعنى أنَّه في الشدة والفظاعةِ في حَيِّزٍ لم يُعَذِّبْ أحدٌ قط في الدنيا مثلَه . ورُدَّ هذا : بأنَّ « لا » إذا دَخَلَتْ على المضارعِ صَيَّرَتْه مستقبلاً ، وإذا كان مستقبلاً لم يطابقْ هذا المعنى ، ولا يُطْلَقُ على الماضي إلاَّ بمجازٍ بعيدٍ ، وبأنَّ « يومَئذٍ » المرادُ به يومَ القيامة لا دارُ الدنيا . وقيل : المعنى أنَّه لا يُعَذِّبُ أحدٌ في الدنيا مثلَ عذابِ اللهِ الكافرَ فيها ، إلاَّ أن هذا مردودٌ بما رُدَّ به ما قَبلَه . ويُحتمل عَوْدُه على الإِنسان بمعنى : لا يُعَذِّبُ أحدٌ من زبانيةِ العذابِ مثلَ ما يُعَذِّبون هذا الكافرَ ، أو يكونُ المعنى : لا يَحْمِلُ أحدٌ عذابَ الإِنسانِ كقوله : { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى } [ فاطر : 18 ] . وهذه الأوجهُ صَعْبَةُ المَرامِ على طالِبها من غيرِ هذا الموضوعِ لتفرُّقها في غيرِه وعُسْرِ استخراجِها منه.
وقرأ نافعٌ في روايةٍ وأبو جعفر وشَيْبة بخلافٍ عنهما « وِثاقَه » بكسر الواو.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5/324)


أَصْلُ (مَرْضِيَّةً) مَرْضوَّة أي راضية بما أتاها ، قد رُضِيَتْ وَزُكيَتْ.
* * *
(فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29)
في جملة عبادي المصطفين.
وقرئت فادْخُلي في عَبْدي.
(وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)
فعلى هذه القراءة - واللَّه أعلم - ادخلي إلى صاحبك الذي خَرَجْتِ
مِنه فادخُلي فيه.
والأكثر في القراءة والتفسير : (فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30).

(5/325)


سُورَةُ الْبَلَدِ
( مَكِّيَّة )
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله عزَّ وجلَّ : (لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1)
يعنى بالبلد ههنا مكة ، والمعنى أقسم بهذا البلد.
و " لا " أدخلت توكيداً كما قال عزَّ وجلَّ : (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ). وقرئت (لأقْسِمُ بهذا البلد).
تكون اللام لامَ القسَم والتوكيد ، وهذه القراءة قليلة.
وهي في العربية بعيدة لأن لام القسم لا تدخل على الفعل المستقبل إلا معه النون ، تقول لأضربن زيداً ، ولا يجوز لأضرِبُ تريد الحال.
وزعم سيبويه والخليل أن هذه اللام تدخل مع أن
فاستغنى بها في باب إن ، تقول إني لأحِبُّكَ.
* * *
ومعنى : (وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2)
أُحِلَّتْ مَكًةُ للنبي عليه السلام ساعة من النهار ، ولم تحل لأحد قبله ولا
لأحَدٍ بعده ، ومعني أُحِلَّتْ له أُحِلَّ لَه صَيْدُهَا وأن يختلى خلالها وأن يعضد
شجرها.
يقال : رَجلْ حِلٌّ وَحَلال وَمُحَلٌّ ، وكذلك رجل حرام وحِرْم وَمحْرِمٌ (1).
* * *
وقوله : (وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3)
جاء في التفسير أن معناه آدم وولده ، وجاء معناه أيضاً كل والد وكل
مولودٍ.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { وَأَنتَ حِلٌّ بهذا البلد } : فيه وجهان ، أحدُهما : أنَّ الجملةَ اعتراضيةٌ على أحد معنَييْن : إمَّا على معنى أنه تعالى أَقْسَمَ بهذا البلدِ وما بعدَه على أنَّ الإِنسانَ خُلِقَ في كَبَدٍ واعتُرِض بينهما بهذه الجملةِ ، يعني ومن المكابَدَةِ أنَّ مثلَكَ على عِظَمِ حُرْمَتِك يُسْتَحَلُّ بهذا البلدِ كما يُسْتَحَلُّ الصَّيْدُ في غير الحَرَمِ ، وإمَّا على معنى أنَّه أَقْسَم ببلدِه على أنَّ الإِنسان لا يَخْلُوا مِنْ مَقاساةِ الشدائِد . واعْتُرِض بأَنْ وَعَدَه فتحَ مكة تَتْميماً للتسلية ، فقال : وأنت حِلٌّ به فيما تَسْتَقْبِلُ تصنعُ فيه ما تريدُ من القَتْلِ والأَسْرِ ، ف « حِلٌّ » بمعنى حَلال ، قال معنى ذلك الزمخشري . ثم قال : « فإنْ قلتَ أين نظيرُ قولِه » وأنت حِلٌّ « في معنى الاستقبال؟ قلت : قوله تعالى { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ } [ الزمر : 30 ] ومثلُه واسعٌ في كلامِ العبادِ تقول لمن تَعِدُهُ الإِكرامَ والحِباء : أنت مُكَرَّمٌ مَحْبُوٌّ ، وهو في كلامِ اللَّهِ تعالى أوسعُ؛ لأنَّ الأحوال المُسْتَقْبَلَةَ عنده كالحاضرِةَ المشاهَدَةِ ، وكفاك دليلاً قاطِعاً على أنه للاستقبالِ ، وأنَّ تفسيرَه بالحالِ مُحالٌ ، أنَّ السورةَ بالاتفاقِ مكيةٌ ، وأين الهجرةُ عن وقتِ نزولِها فما بالُ الفتحِ؟ وقد ناقشه الشيخ بما لا يَتَّجِهُ ، ورَدَّ عليه قولَه الإِجماعَ على نزولِها بمَكةَ بخلافٍ حكاه ابنُ عطية.
الثاني من الوجَهْين الأوَّلَيْن . أنَّ الجملةَ حاليةٌ ، أي : لا أُقْسِمُ بهذا البلدِ وأنت حالٌّ بها لعِظَمِ قَدْرِك ، أي : لا يُقْسِمُ بشيءٍ وأنت أحَقُّ بالإِقسام بك منه . وقيل : المعنى لا أٌقْسِم به وأنت مُسْتَحَلٌّ فيه ، أي : مُسْتَحَلٌّ أَذاك . وتقدَّم الكلام في مثلِ » لا « هذه المتقدِّمةِ فِعْلَ القسمِ.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5/327)


ْوقوله : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4)
هذا جواب القسم ، المعنى أقسم بهذه الأشياء (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ) ، أي يكابد أمره في الدنيا والآخرة.
وقيل : (فِي كَبَدٍ) أي خلق منتصباً يمشي على رِجْلَيْه وسائر الأشياء والحيوان غير منتصبة.
وقيل (فِي كَبَدٍ) خَلْقُ الإنسان في بَطْنِ أمَهِ ورأسه قِبَلَ رأسِها ، فإذا أرادت الولادة انقلب الرأس إلى أسفل.
* * *
وقوله (أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5)
هذا جاء في التفسير أنه رجل كان شديداً جدًّا ، وكان يبسط له الأديم
العكاظِي فيقوم عليه فيهد فلا يخرج من تحت رجليه إلا قطعاً من شدتِه ، وكان يقال له كلدة فقيل : أيحسب لشدته أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ وأنه لا يبعث.
وقيل أن لن يَقْدِرَ عليه اللَّه عزَّ وجلَّ لأنه كان لا يؤمن بالبعث.
* * *
(يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6)
وقرئت (أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا) ، ويُقْرأَ لُبَّدًا).
ومعنى " لُبَد " كثير بعضه قَدْ لُبِّدَ بِبَعْض ، وفُعَل للكثرةِ ، يقال : رجل حُطَم : إذا كان كثير الحطم.
ومن قرأ لُبَّداً فَهو جمع لاَبِدٍ.
* * *
(أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7)
أي أيحسب أن لم يحص عليه ما أنفق ، وفي الكلام دليل على أنه
ادعَى أنه أنفق كثيراً لم ينفعهُ.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10)
أي ألم نَفعل به ما يُسسْتَدلُّ به على أن اللَّه قَادرٌ على أن يبعثه وأن
يحصِيَ عليه ما يعمله.
* * *
(وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10)

(5/328)


الطريقين الْوَاضِحَيْن ، النجد المرتفع من الأرْضِ ، فالمعنى ألم نعرْفه
طريق الخير وَطَرِيقَ الشرِّ بَيِّنَيْنِ كبيان الطريقين العَالِيَيْنِ.
* * *
وقوله (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11)
المعنى فلم يقتحم العقبة كما قال : (فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلًى).
ولم يذكر " لا " إلا مَرةٍ وَاحِدَةً ، وقلما يتكلم العرب في مثل هذا المكان إلا بلا مَرتين أو أكثر ، لا تكاد تقول : لا حَيَّيتَني تريد مَا حَيَّيْتَنِي.
فإن قلت : لاحَييْتَني ولا زُرْتَني صَلَح.
ْوالمعنى في (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) موجود أن " لا " ثانية كأنَّها في الكلام
لأن قوله : (ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا)
تدل على معنى فلا اقتحم العقبة ولا آمن.
* * *
وقرئت : (فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14)
وقرئت (فَكَّ رَقَبَةً) ، (أو أَطْعَمَ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ).
وكلاهما جائز ، فمن قال (فَكُّ رَقَبَةٍ) فالمعنى اقتحام العقبة فك رقبة أو إطعام ، ومن قرأ (فَكَّ رَقَبَةً) فهو محمول على المعنى (1).
والمسغبة المجاعة.
* * *
ْوقوله : (يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15)
معناه ذا قرابة ، تقول زيد ذو قرابتي وذو مقربتي ، وزيد قرابتي قبيح لأن
القرابة المصدر
قال الشاعر :
__________
(1) قال السَّمين :
وقرأ أبو عمرو وابن كثير والكسائيُّ « فَكَّ » فعلاً ماضياً ، « ورقبةً » نصباً « أو أَطْعم » فعلاً ماضياً أيضاً . والباقون « فَكُّ » برفع الكاف اسماً ، « رقبةٍ » خَفْصٌ بالإِضافة ، « أو إطعامٌ » اسمٌ مرفوعٌ أيضاً . فالقراءةُ الأولى الفعلُ فيها بَدَلٌ مِنْ قولِه « اقتحمَ » فهو بيانٌ له ، كأنَّه قيل : فلا فَكَّ رقبةً ولا أطعَمَ ، والثانيةُ يرتفع فيها « فَكُّ » على إضمار مبتدأ ، أي : هو فَكُّ رقبة أو إطعامٌ ، على معنى الإِباحة . وفي الكلامِ حَذْفُ مضافٍ دلَّ عليه « فلا اقتحمَ » تقديرُه : وما أدراك ما اقتحامُ العقبة؟ فالتقدير : اقتحامُ العقبة فكُّ رَقَبَة أو إطعامٌ ، وإنما احْتيج إلى تقديرِ هذا المضافِ ليتطابقَ المفسِّر والمفسَّر . ألا ترى أنَّ المفسِّر - بكسرِ السين - مصدرٌ ، والمفسَّر - بفتحِ السينِ - وهو العقبةُ غيرُ مصدر ، فلو لم نُقَدِّرْ مضافاً لكان المصدرُ وهو « فَكُّ » مُفَسِّراً للعين ، وهو العقبةُ.
وقرأ أميرُ المؤمنين وأبو رجاء « فَكَّ أو أطعمَ » فعلَيْن كما تقدَّم ، إلاَّ أنهما نصبا « ذا » بالألف . وقرأ الحسن « إطعامٌ » و « ذا » بالألفِ أيضاً وهو على هاتَيْنِ القراءتَيْن مفعولُ « أَطْعم » أو « إطعامٌ » و « يتيماً » حينئذٍ بدلٌ منه أو نعتٌ له . وهو في قراءةِ العامَّةِ « ذي » بالياء نعتاً ل « يوم » على سبيل المجاز ، وُصِفَ اليومُ بالجوع مبالغةً كقولهم : « ليلُك قائمٌ ونهارُك صائمٌ » والفاعلُ لإِطعام محذوفٌ ، وهذا أحدُ المواضعِ التي يَطَّرِدُ فيها حَذْفُ الفاعلِ وحدَه عند البصريين ، وقد بَيَّنْتُها مُسْتوفاةً ولله الحمدُ.
والمَسْغَبَةُ : الجوعُ مع التعبِ ، وربما قيل في العطش مع التعب ، قال الراغب . يُقال منه : سَغِبَ الرجل يَسْغَبُ سَغْباً وسُغُوباً فهو ساغِبٌ وسَغْبانُ والمَسْغَبَةُ مَفْعَلَة منه ، وكذلك المَتْرَبَةُ من التراب . يقال تَرِب ، أي : افتقر حتى لَصِقَ جِلْدُه بالتراب . فأمَّا أَتْرَبَ بالألف فبمعنى استغنى نحو : أَثْرى ، أي : صار مالُه كالتراب وكالثرى والمَقْرَبَةُ أيضاً : مَفْعَلَة من القَرابة . وللزمخشري هنا عبارةٌ حلوة قال : « والمَسْغَبَةُ والمَقْرَبَةُ والمَتْرَبَةُ مَفْعَلات مِنْ سَغِبَ إذا جاع وقَرُبَ في النَّسَب وتَرِبَ إذا افتقر ».
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5/329)


يَبْكِي عليه غَرِيبٌ ليس يَعْرِفُهُ . . . وذُو قَرَابَتهِ في الحَيِّ مَسْرُورُ
وقوله : (ذَا مَتْرَبةً).
يعنى أنه من فقره قد لصق بالتُّرَابِ.
* * *
وقوله : (ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ
(17)
معناه إذا فعل ذلك وكان عقد الإيمان ثم أقام على إيمانِه.
(وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ).
أي على طاعة اللَّه ، والصبر عن الدخول في معاصيه ، ثم كان مع ذلك
مِنَ الَّذِينَ يتواصون (بالمرحمة) ، أولئك أصحاب اليمن على أنفسهم أي كانوا
ميامين على أنفسهم غير مشائيم.
* * *
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19)
أي هم المشائيم على أنفسهم ، نعوذ باللَّهِ من النار.
* * *
وقوله : (عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)
ويقرأ بغير هَمزٍ ، ومعناه مطبقة.
يقال آصَدْتُ البابَ وأوصدته إذا أطبقته .

(5/330)


سُورَةُ الشَّمْسِ
( مَكِّيَّة )
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله عزَّ وجلَّ : (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1)
هذا قسم وجوابه : (قَدْ أفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا).
ومعناه لَقَدْ أَفْلَحَ ولكن اللام حذفت لأن الكلامَ طَالَ فصار طوله عوضا منها ومعنى (وضحاها) وَضِيائِها.
وقيل ضحاها النهار ، وقرأ الأعمش وأصْحَابُهُ ضحاها وتلاها وطحاها بالفتح ، وقرأوا باقي السُّورة بالكسر.
وقرأ الكسائي السورة كلها بالإمالة.
وقرأها أبو عمرو بن العلاء بين اللفظين.
وهذا الذي يسميه الناس الكسر ليس بكسر صحيح ، يسميه الخليل
وأبو عمرو الِإمَالَةَ ، وإنما كسر من هذه الحروف ما كان منها من ذوات الياء ليدلوا على أن الشيء من ذوات الياء.
ومن فتح ضحاها وَتَلَاهَا وطحاها فلأنه من ذوات الواو ، ومن كسر فلأن ذوات الواو كلها إذا رد الشيء إلى ما لم يسم
فاعله انتقل إلى الياء ، تقول قد تُلِيَ وَدُحِيَ وَطُحِيَ.
* * *
وقوله : (وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2)
معناه حين تلاها ، وقيل حين - استدار فكان يتلو الشمس في الضياء
والنور.
* * *
وقوله : (وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3)

(5/331)


قالوا معناه إذَا جَلَّى الظلمة ، وإن لم يكن في الكلام ذكر الظلمة فالمعنى
يدل عليها كما تقول : أصبحت باردة ، تريد أصبحت غُداتنا بَارِدة
وقيل : (وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا) إذا بين الشمس لأنها تبين إذا انبسط النهار.
* * *
وقوله : (وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5)
معناه والسماء وبنائها ، وكذلك (وَالأرْضِ وَمَا طَحَاهَا) معناه والأرض
وطحوها.
وكذلك : (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7)
وقيل معنى " ما " ههنا معنى (مَنْ)
المعنى والسماء والذي بناها.
ويحكى عن أهل الحجاز " سُبْحَانَ مَا سَبَّحْتُ لَهُ " أي سبحان الذي سبحت ، وَمَنْ سَبَّحْتُ له.
فأقسم اللَّه - عزَّ وجلَّ - بهذه الأشياء العظام من خلقه لأنها تدل
على أَنه واحِدٌ والذي ليس كمثله شيء (1).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)
قيل علمها طريق الفجور وطَرِيقَ الهدى.
والكلام على أن أَلهَمَها التقوى ، وفقَهَا للتقوى ، وألْهَمَها فُجورَهَا خذلها ، واللَّه أعلم.
* * *
وقوله : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9)
أي قد أفلحت نفسٌ زَكاهَا اللَّهُ.
* * *
( وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)
خابت نَفْسٌ دَسَّاهَا اللَّه.
ومعنى (دَسَّاهَا) جعلها قليلة خَسِيسَةً.
والأصل دَسَّسَهَا ، ولكن الحروف إذا اجتمعت من لفظٍ واحِدٍ أُبدَل من أحدها ياء.
قال الشاعر :
تَقَضِّيَ البَازِي إِذا البَازِي كَسَرْ
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { وَمَا بَنَاهَا } : وما بعدَه ، فيه وجهان ، أحدُهما : أنَّ « ما » موصولةٌ بمعنى الذي ، وبه استشهد مَنْ يُجَوِّزُ وقوعَها على آحادِ أولي العلم؛ لأنَّ المرادَ به الباري تعالى ، وإليه ذهب الحسنُ ومجاهدٌ وأبو عبيدةَ ، واختاره ابن جرير . والثاني : أنها مصدريةٌ ، أي : وبناءِ السماء ، وإليه ذهبَ الزجَّاج والمبرد ، وهذا بناءً منهما على أنها مختصةٌ بغيرِ العقلاءِ ، واعْتُرِضَ على هذا القولِ : بأنَّه يَلْزَمُ أَنْ يكونَ القَسَمُ بنفسِ المصادر : بناءِ السماء وطَحْوِ الأرضِ وتَسْويةِ النفس ، وليس المقصودُ إلاَّ القَسَمَ بفاعلِ هذه الأشياءِ وهو الرَّبُّ تبارك وتعالى . وأُجِيب عنه بوجهَيْن ، أحدُهما : يكونُ على حَذْفِ مضافٍ ، أي : وربِّ - أو باني - بناءِ السماء ونحوه . والثاني : أنه لا غَرْوَ في الإِقسام بهذه الأشياء كما أَقْسم تعالى بالصبح ونحوه.
وقال الزمخشري : « جُعِلَتْ مصدريةً وليس بالوجهِ لقولِه » فأَلْهمها « وما يؤدي إليه مِنْ فسادِ النظم . والوجهُ أَنْ تكونَ موصولةً ، وإنما أُوْثِرَتْ على » مَنْ « لإِرادة معنى الوصفية كأنه قيل : والسماءِ والقادرِ العظيم الذي بناها ، ونفس والحكيمِ الباهرِ الحكمةِ الذي سَوَّاها . وفي كلامهم : » سبحانَ ما سَخَّرَكُنَّ لنا « انتهى . يعني أنَّ الفاعلَ في » فألهمها « عائدٌ على اللَّهِ تعالى فليكُنْ في » بناها « كذلك ، وحينئذٍ يَلْزَمُ عَوْدُه على شيءٍ وليس هنا ما يمكنُ عَوْدُه عليه غيرُ » ما « فتعيَّنَ أَنْ تكونَ موصولةً.
وقال الشيخ : » أمَّا قولُه : « وليس بالوجهِ لقولِه » فَأَلْهمها « يعني مِنْ عَوْدِ الضمير في » فَأَلْهمها « على الله تعالى ، فيكونُ قد عاد على مذكورٍ وهو » ما « المرادُ به الذي . قال : » ولا يَلْزَمُ ذلك؛ لأنَّا إذا جَعَلْناها مصدريةً عاد الضميرُ على ما يُفْهَمُ مِنْ سياق الكلامِ ، ففي « بناها » ضميرٌ عائدٌ على الله تعالى ، أي : وبناها هو ، أي : الله تعالى ، كما إذا رأيتَ زيداً قد ضرب عَمْراً فتقول : « عجبتُ مِمَّا ضَرَبَ عمراً » تقديره : مِنْ ضَرْبِ عمروٍ هو ، كان حسناً فصيحاً جائزاً ، وعَوْدُ الضمير على ما يُفْهَمُ مِنْ سياقِ الكلامِ كثيرٌ وقوله : « وما يُؤدِّي إليه مِنْ فسادِ النظم » ليس كذلك ، ولا يُؤدِّي جَعْلُها مصدريةً إلى ما ذُكِرَ ، وقوله : « وإنما أُوْثِرَتْ » إلى آخره لا يُراد بما ولا بمَنْ الموصولتين معنى الوصفيةِ؛ لأنهما لا يُوْصفُ بهما بخلاف « الذي » فاشتراكُهما في أنَّهما لا يُؤَدِّيان معنى الوصفيةِ موجودٌ بينهما فلا تنفردُ به « ما » دون « مَنْ » وقوله : : وفي كلامِهم « إلى آخره تَأَوَّله أصحابُنا على أنَّ » سبحان « عَلَم و » ما « مصدريةٌ ظرفيةٌ » انتهى.
أمَّا ما رَدَّ به عليه مِنْ كونِه يعود على ما يُفْهَمُ من السِّياق فليس يَصْلُح رَدَّاً ، لأنه إذا دار الأمرُ بين عَوْدِه على ملفوظٍ به وبينَ غيرِ ملفوظٍ به فعَوْدُه على الملفوظِ به أولى لأنَّه الأصلُ . وأمَّا قولُه : فلا تنفرد به « ما » دونَ « مَنْ » فليس مرادُ الزمخشري أنها تُوْصَفُ بها وصْفاً صريحاً ، بل مُرادُه أنها تقعُ على نوعِ مَنْ يَعْقل ، وعلى صفتِه ، ولذلك مَثَّل النَّحْويون ذلك بقوله : { فانكحوا مَا طَابَ } [ النساء : 3 ] ، وقالوا : تقديره : فانْكِحُوا الطيِّبَ مِنْ النساءِ ، ولا شكَّ أن هذا الحكمَ تَنْفَرِدُ به « ما » دون مَنْ . والتنكيرُ في « نفس » : إمَّا لتعظيمِها ، أي ، نفس عظيمة ، وهي نفسُ آدمَ ، وإمَّا للتكثيرِ كقولِه : { عَلِمَتْ نَفْسٌ } [ الانفطار : 5 ].
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5/332)


قالوا معناه تقضض.
وقيل : قد أفلح مَنْ زَكَّى نفْسَه بالعمل الصالح.
* * *
وقوله : (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11)
أي بطغيانها ، وأصل (طَغْواها) طَغْيَهَا وَفَعْلَى إذا كانت من ذوات الياء
أبدلت في الاسم وَاواً ليفصُل بين الاسم والصفة ، تقول : هي التقوى ، وإنما
هي مِنْ أيقنتُ ، وهي التقوى وإنما هي من يقنت ، وقالوا : امرأةٌ خَزْياً لأنها
صفةٌ.
* * *
وقوله تعالى : (فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13)
(ناقةَ) مَنْصُوبٌ على معنى ذروا ناقة اللَّه ، كما قال سبحانه :
(هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ) ، أي ذروا سقياها ، وكان للناقَةِ يَوْمٌ وَلَهُمْ يَوْمٌ في الشِّرْبِ.
* * *
(فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14)
(فَكَذَّبُوهُ)
أي فلم يوقنوا أنهم يُعَذبُونَ حين قال لهم (وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ).
* * *
(فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا).
معناه دَمْدَمَ عَلَيْهِمْ أطبق عليهم العَذَابَ ، يقال : دَمْدَمْتُ على الشيء إذا
أطبقت عليه ، وكذلك [دَمَمْتُ] عليه القبرَ وما أشبهه ، وكذلِكَ ناقة مَدْمُومَةٌ ، أي قد ألْبَسَها الشحم ، فإذا كررت الإطباق قُلْتَ دَمْدَمُتْ عليه (1).
* * *
وقوله : (وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15)
أكثر ما جاء في التفسير لا يخاف الله تعالى تبعةَ ما أَنزل بِهِمْ ، وقيل لا
يخاف رَسُولُ اللَّهِ صَالِحٌ عليه السلام الذي أرسل إليهم عُقْبَاهَا.
وقيل إذا انبعث أشقاها وهو لا يخاف عقباها.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { فَدَمْدَمَ } : الدَّمْدَمَةُ . قيل : الإِطباقُ يُقال : دَمْدَمْتُ عليه القبرَ ، أي : أَطْبَقْتُه عليه . وقيل : الإِلزاقُ بالأرض . وقيل : الإِهلاكُ باستئصالٍ . وقيل : الدَّمْدَمَةُ حكايةُ صوتِ الهَدَّة ومنه : دَمْدَمَ في كلامه . ودَمْدَمْتُ الثوبَ : طَلَيْتُه بالصَّبْغ . والباءُ في « بذَنْبهم » للسببية.
قوله : { فَسَوَّاهَا } الضميرُ المنصوبُ يجوزُ عَوْدُه على ثمودَ باعتبار القبيلةِ كما أعادَه في قولِه « بَطَغْواها » ويجوزُ عَوْدُه على الدَّمْدَمَة والعقوبةِ ، أي : سَوَّاها بينهم ، فلم يَفْلَتْ منهم أحدٌ . وقرأ ابن الزبير « فَدَهْدَمَ » بهاءٍ بين الدالَيْن بدلَ الميم ، وهي بمعنى القراءةِ المشهورةِ.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5/333)


سُورَةُ وَاللَّيْل
( مَكِّيَّة )
ْبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله تعالى : (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2)
هذا قسم جوابه (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) ، أي إن سَعْيَ المْؤمِنِ والكَافِرِ
لمخْتَلِف بينهما بُعْدٌ.
ومعنى إذَا يَغْشَى الليل الأرْضَ توارى الأفُقَ
وجميع ما بين السماء والأرض ، والنهار إذَا تَجَلَى إذا بأن وظهر.
* * *
(وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3)
كما فسَرناها في قوله : (والسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا).
* * *
وقوله : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6)
في التفسير أنها نزلت في أَبِي بَكْرٍ الصديقِ - رَحِمَه اللَّهُ - وكان اشترى
جماعة كان يعذبهم المشركون ليرتدُّوا عن الإسلام فيهم بلال فوصَفَهُ اللَّه - عز وجل - على أنه أعْطى تقوى ، وصدَّق بالحسنى ، لأنه يجازى عليه.
وقيل صَدَّقَ لأنه يخلف عليه لقوله : (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ).
* * *
وقاك : (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7)
أي للأمر السهل الذي لا يقدر عليه أَحَدٌ إلَّا المؤمنين.
* * *
وقوله : (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)

(5/335)


نزلت في رجل أكْرَة ذِكْرَهُ ، وهي جامعة لكل مَنْ بَخِلَ وَكَذَّبَ لأن الله
جلَّ وعزَّ يجازيه أو يخلف عليه.
* * *
(فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)
العذاب والأمرُ العَسِيرُ.
* * *
(وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11)
قِيلَ إذا مات وقيل إِذَا تَرَدَّى في النارِ.
* * *
(إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12)
أي إن علينا أن نبين طريق الهدى من طريق الضلاَل.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16)
(تَلَظَّى) معناه تتوهج وَتَتَوقَّدُ.
وَهذه الآية هيَ التي مِنْ أَجْلِهَا قال أهل الإرجاء بالإرجاء ، فزعموا أنه لا يدخل النار إلا كافر لقوله : (لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16).
وليس كما ظنوا ، هذه نَارٌ مَوْصوفة بعينها لا يصلى هذه النارَ إلا الأشقى الَّذي كذَّبَ وَتَوَلَّى ، ولأهل النار منازل فمنها قوله :
(إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ).
واللَّه عزَّ وجلَّ كل ما وَعَد عليه بجنس من العذاب فَجَائز أن يُعَذِبَ به.
وقال عزَّ وجلَّ : (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) فلو كان كل من لم يشرك باللَّه لا يعذب ، لم يكن في قوله تعالى . :
(وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ) فائدة ، وكان يغفر ما دون ذلك.
* * *
وقوله : (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18)
أي يطلب أن يكون عند الله زاكياً ، لا يطلب بذلك رياءً ، ولا سمعةً.
ونزلت في أبي بكر - رضي اللَّه عنه -.
* * *
(وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19)
أي لم يفعل ذلك مجازاة لِيَدٍ أُسْدِيَتْ إليه .

(5/336)


(إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20)
أي إلا طلب ثوابه.
* * *
وقوله : (وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21)
أي سوف يدخل الجنة كما قال : (ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30) .

(5/337)


سُورَةُ الضُّحَى
( مَكِّيَّة )
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله تعالى : (وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2)
هذا قسم وجوابه (مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى).
والضحى : النهار ، وقيل ساعة من ساعات النهار.
* * *
(وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2)
وقوله إذا سجا معناه إذا سكن.
قال الشاعر :
يا حبَّذا القمراءُ والليلُ الساجْ . . . وطُرُقٌ مثلُ مُلاء النَّسَّاجْ
* * *
ومعنى : (مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3)
أي لم يقطع الوحي عنك وَلَا أَبْغَضَكَ ، وذلك أنه تأخر الوحي عن
رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - خمسة عشر يوماً ، فقال ناس من الناس : إن محمداً قد ودعه صاحبه وقلاه ، فأنزل الله عزَّ وجلَّ - (مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى)
المعنى ما قلاك ، كما قال : (وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ)
المعنى والذاكراته (1).
* * *
وقوله : (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6)
وكان النبي عليه السلام يكفله عمُّه أَبُو طَالبٍ.
* * *
وقوله : (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7)
معناه - واللَّه أعلم - أنه لم يكن يدري القرآن ولا الشرائِع فهداه اللَّه
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { مَا وَدَّعَكَ } : هذا هو الجوابُ . والعامَّةُ على تشديد الدالِ من التَوْديع . [ وقرأ ] عروة بن الزبير وابنه هشام وأبو حيوة وابن أبي عبلة بتخفيفِها مِنْ قولِهم : وَدَعَه ، أي : تركه والمشهورُ في اللغةِ الاستغناءُ عن وَدَعَ ووَذَرَ واسمِ فاعِلهما واسمِ مفعولِهما ومصدرِهما ب « تَرَكَ » وما تصرَّفَ منه ، وقد جاء وَدَعَ ووَذَرَ . قال الشاعر :
4591 سَلْ أميري ما الذي غَيَّرَهْ . . . عن وِصالي اليومَ حتى وَدَعَهْ
وقال الشاعر :
4592 وثُمَّ وَدَعْنا آلَ عمروٍ وعامرٍ . . . فرائِسَ أَطْرافِ المُثَقَّفةِ السُّمْرِ
قيل : والتوديعُ مبالغةٌ في الوَدْع؛ لأن مَنْ وَدَّعك مفارقاً فقد بالغ في تَرْكِك.
قوله : { وَمَا قلى } أي : ما أَبْغَضَك ، قلاه يَقْليه بكسر العين في المضارع ، وطيِّىء تقول : قلاه يقلاه بالفتح قال الشاعر :
4593 أيا مَنْ لَسْتُ أَنْساه . . . ولا واللَّهِ أَقْلاه
لكَ اللَّهُ على ذاكَ . . . لكَ اللَّهُ [ لكَ اللَّهُ ]
وحُذِفَ مفعولُ « قَلَى » مراعاةً للفواصلِ مع العِلْم به وكذا بعدَ « فآوى » وما بعدَه.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5/339)


إلى القرآن وشرائع الإسلام ، ودليل ذلك قوله : (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ)
وقال قوم : كان على أَمْرِ قَوْمِهِ أربعين سنة (1).
* * *
وقوله : (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9)
أي لا تقهره على ماله.
* * *
(وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10)
أي لا تنهرهُ ، إما أعطيته ، وإما رددته ردًّا لَيِّناً.
* * *
(وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)
أي بلِّغ ما أرسلت به وحَدِّثْ بالنبوة التي آتاك الله وهي أجَلُّ النِّعمِ.
__________
(1) كلام في غاية الفساد والبطلان ، ويكفي في رده قوله تعالى (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2).

(5/340)


سُورَةُ الشَّرْحِ
( مَكِّيَّة )
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1)
أي شرحناه للإسلام.
* * *
(وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2)
أي وضعنا عنك إثمك أن غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر.
* * *
(الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4)
جعل ذكر رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - مقروناً بذكر توحيد اللَّه في الأذان وفي كثير مما يذكر الله جلَّ وعزَّ ، يقول فيه : أشهد أن لا إله إلا اللَّه ، أشهد أن محمداً رسول اللَّه.
* * *
وقوله : (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5)
فذكر العسر مع الألف واللام ثم ثَنَّى ذكره ، فصار المعنى إنَّ مع العُسْرِ
يُسْريْنِ ، وقال النبي عليه السلام : لا يغلب عسر يُسْرَين.
وقيل : لو دخل العسر جحراً لدخل اليسر عليه ، وذلك أن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا في ضيقٍ شديدٍ.
فأعلمهم الله أنهم سَيُوسِرونَ وأن سَيُفْتَح عَلَيْهِمْ.
وَأَبْدَلَهمْ بالعُسْرِ اليُسْرَ (1).
* * *
وقوله : (وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)
أي اجْعَل رغبتك إلى الله وحده.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { فَإِنَّ مَعَ العسر يُسْراً } : العامَّةُ على سكونِ السين في الكلم الأربع ، وابن وثاب وأبو جعفر وعيسى بضمِّها . وفيه خلافٌ . هل هو أصلٌ ، أو مثقلٌ من المسكِّن؟ والألفُ واللامُ في « العُسر » الأولِ لتعريف الجنس ، وفي الثاني للعهدِ؛ ولذلك رُوِيَ عن ابن عباس : « لن يُغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْن » ورُوي أيضاً مرفوعاً أنه عليه السلام خرج يضحك يقول : « لن يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ » والسببُ فيه : أنَّ العربَ إذا أَتَتْ باسمٍ ثم أعادَتْه مع الألفِ واللامِ ِكان هو الأولَ نحو : « جاء رجلٌ فأكرمْتُ الرجلَ » وكقولِه تعالى : { كَمَآ أَرْسَلْنَآ إلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فعصى فِرْعَوْنُ الرسول } [ المزمل : 1516 ] ولو أعادَتْه بغير ألفٍ ولامٍ كان غيرَ الأول . فقوله : { إِنَّ مَعَ العسر يُسْراً } لَمَّا أعاد العُسْرَ الثاني أعادَه بأل ، ولَمَّا كان اليُسْرُ الثاني غيرَ الأولِ لم يُعِدْه ب أل.
وقال الزمخشري : « فإنْ قلتَ ما معنى قولِ ابن عباس؟ وذكرَ ما تقدَّم . قلت : هذه عَمَلٌ على الظاهرِ وبناءٌ على قوةِ الرجاءِ ، وأنَّ موعدَ اللَّهِ لا يُحْمل إلاَّ على أوفى ما يحتملُه اللفظُ وأَبْلَغُه ، والقولُ فيه أنه يحتمل أَنْ تكونَ الجملةُ الثانيةُ تكريراً للأولى ، كما كرَّر قولَه : { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } [ المرسلات : 15 ] لتقريرِ معناها في النفوسِ وتمكينِها في القلوب ، وكما يُكَرَّر المفرد في قولك : » جاء زيدٌ زيدٌ « وأَنْ تكونَ الأولى عِدَةً بأنَّ العُسْرَ مُرْدَفٌ بيُسْرٍ لا مَحالَةَ ، والثانيةُ عِدَةً مستأنفةٌ بأنَّ العُسْرَ متبوعٌ بيسرٍ ، فهما يُسْران على تقديرِ الاستئناف ، وإنما كان العُسْرُ واحداً لأنه لا يخلو : إمَّا أَنْ يكونَ تعريفُه للعهدِ وهو العسرُ الذي كانوا فيه فهو هو؛ لأنَّ حكمَه حكمُ » زيد « في قولك : » إنَّ مع زيد مالاً ، إنَّ مع زيد مالاً « وإمَّا أَنْ يكونَ للجنسِ الذي يَعْلَمُه كلُّ أحدٍ فهو هو أيضاً ، وأمَّا اليُسْرُ فمنكَّرٌ مُتَناولٌ لبعض الجنسِ ، وإذا كان الكلامُ الثاني مستأنفاً غيرَ مكررٍ فقد تناوَلَ بعضاً غيرَ البعضِ الأولِ بغيرِ إشكال ».
وقال أبو البقاء : « العُسْرُ في الموضعَيْنِ واحدٌ؛ لأنَّ الألفَ واللامَ توجبُ تكريرَ الأولِ ، وأمَّا » يُسْراً « في الموضعَيْنِ فاثنانِ ، لأنَّ النكرةَ إذا أُريد تكريرُها جيْءَ بضميرِها أو بالألفِ واللام ، ومن هنا قيل : » لن يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْن « وقال الزمخشري أيضاً : » فإنْ قلتَ : إنَّ « مع » للصحبة ، فما معنى اصطحابِ اليُسْرِ والعُسْرِ؟ قلت : أراد أنَّ اللَّهَ تعالى يُصيبُهم بيُسرٍ بعد العُسْرِ الذي كانوا فيه بزمانٍ قريبٍ ، فَقَرُبَ اليُسْرُ المترقَّبُ حتى جَعَله كأنَّه كالمقارِنِ للعُسْرِ ، زيادةً في التسلية وتقويةً للقلوب « وقال أيضاً : فإنْ قلتَ ما معنى هذا التنكير؟ قلت : التفخيمُ كأنه قيل : إنَّ مع العُسْر يُسْراً عظيماً وأيَّ يُسْرٍ؟ وهو في مُصحفِ ابن مسعودٍ مرةٌ واحدٌ . فإنْ قلتَ : فإذا ثَبَتَ في قراءتِه غيرَ مكررٍ فلِمَ قال : » والذي نفسي بيده لو كان العُسْرُ في جُحْرٍ لطَلَبه اليُسْرُ حتى يَدْخُلَ عليه ، لن يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْن « قلت : » كأنه قَصَدَ باليُسْرين ما في قوله « يُسْراً » مِنْ معنى التفخيم ، فتأوَّله ب « يُسْرِ الدارَيْن » وذلك يُسْران في الحقيقة «.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5/341)


سُورَةُ التِّينِ
( مَكِّيَّة )
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله : (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1)
قيل التين دمشق والزيتون بيت المقدس.
وقيل : التين جبل عليه دمشق ، والزيتون جبل عليه بيت المقدس.
وقيل والتين والزيتون جَبَلانِ.
وقيل التين والزيتون هذا التين الذي نعرفه ، وهذا الزيتون الذي نعرفُه.
* * *
(وَطُورِ سِينِينَ (2)
جبل ، وقرأ بعضهم و " طورِ سيناء " ، وهذا القول - والله
أعلم - أشبه لقوله : (وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ).
* * *
(وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3)
يعني مكة.
* * *
(لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)
أي في أَحْسَنِ صُورَةٍ.
* * *
(ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5)
إلى أرذل العُمُر ، وقيل إلى الضلال كما قال عزَّ وجلَّ : (إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ).
وهو - واللَّه أعلم - أنْ خلق الخلق على الفطرة فمن كفر وضل فهو المردود إلَى أَسْفَلِ السَّافِلِين .

(5/343)


(إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6)
أي إلَّا هُؤلَاءِ فَلم يردوا إلى أسفل سافلين.
* * *
وقوله : (فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ).
أي لا يُمَنَّ عَلَيْهِمْ ، وقيل غير ممنون غير مقطوع.
وجواب القسم في قوله : (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) قوله : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ).

(5/344)


سُورَةُ العَلَقِ
( مَكِّيَّة )
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله تعالى : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)
جاء في التفسير أن أول آية نزلت من القرآن (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ).
* * *
وقوله : (الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4)
أي الذي علم الكتابة.
* * *
وقوله : (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7)
هذه نزلت في أَبي جَهْلٍ بنِ هِشَام ، وكذلك : (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10).
لأن أبا جهل قال : إنْ رَأَيْتُ مُحمداً يُصَلِّي تَوَطَّأْتُ عنقه.
* * *
وقوله : (كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15)
أي لنُجَرنَّ ناصيته إلى النار ، يقال : سَفَعْتُ بالشيء إذَا اقْبَضْتُ عليه
وجذبته جَذْباً شديداً (1).
* * *
وقوله : (نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16)
وتأويله بناصيةٍ صَاحِبُها كاذبٌ خاطئ ، كما يقال فلان نهارُه صائم وليلُه
قائم ، المعنى هو صائم فِي نهاره وقائم في ليله.
* * *
(فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17)
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { لَنَسْفَعاً } : الوقفُ على هذه النونِ بالألفِ ، تشبيهاً لها بالتنوين ، وكذلك يُحْذَفُ بعد الضمة والكسرة وقفاً . وتكتب ههنا ألفاً إتباعاً للوقف . ورُوِي عن أبي عمروٍ « لَنَسْفَعَنَّ » بالنونِ الثقيلةِ . والسَّفْعُ : الأَخْذُ والقَبْضُ على الشيءِ بشدةٍ وجَذْبه . وقال عمرو بن معد يكرب :
4607 قومٌ إذا سَمِعُوا الصَّريخَ رَأَيْتَهُمْ . . . ما بين مُلْجمِ مُهْرِه أو سافعِ
وقيل : هو الأَخْذُ بلغةِ قريشٍ . وقال الراغب : « السَّفْعُ : الأخْذُ بسُفْعِه الفَرَس ، أي : بسَوادِ ناصيتِه ، وباعتبار السوادِ قيل للأثافيّ : » سُفْعٌ « وبه سُفْعَةُ غَضَبٍ ، اعتباراً بما يَعْلُو من اللون الدُّخاني وَجْهَ مَنْ اشتدَّ به الغضبُ ، وقيل : للصَّقْر : » أسْفَعُ « لِما فيه مِنْ لَمْعِ السَّوادِ ، وامرأةٌ سَفْعاءُ اللونِ » انتهى . وفي الحديث : « فقامَتِ امرأةٌ سَفْعاءُ الخَدَّيْن ».
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5/345)


معناه فليدع أهل ناديه ، وهم أهل مجلسه ، وَكَانُوا عَشِيرَتَه أي فليستنصر بهم.
* * *
(سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18)
الزبانية الغلاظ الشداد ، وَاحِدُهم زِبْنية ، وهم ههنا الملائكة ، قال اللَّه
عزَّ وجلَّ : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ)
وَهُمُ الزَبَانِيَةُ.
* * *
(كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)
(كَلَّا)
أي ليس الأمر على ما عليه أبوجهل.
(لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ)
أي وتقرَّب إلى ربِّك بالطاعة .

(5/346)


سُورَةُ الْقَدْرِ
مدنية وقيل الصحيح ( مَكِّيَّة )
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1)
الهاء ضمير القرآن ولم يجر له ذكَر في أول السورة ولكنه جرى ذكره
فيما قبلها ، وهو قوله ؛ (حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ) ، وهي لَيْلة القَدْرِ.
ومعنى ليلَة القدر ليلة الحكم قال الله تعالى : (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ).
نزل القرآن كله إلى السماء الدنيا في ليلة القَدْرِ ، ثم نزل به جبريل عليه
السلام على النبي - صلى الله عليه وسلم - في عشرين سنة.
* * *
وقوله : (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3)
من ألف شهر ليس فيه لَيلة القَدْرِ.
* * *
وقوله : (تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4)
تنزل الملائكة بما يقضي الله عزَّ وَجَل في ليلَة القدرَ للسنة إلَى أن تأتيَ
ليلةُ القَدْرِ.
وقُرِئَتْ (مِنْ كُلِّ امْرِئٍ) (1) ، وهذه القراءة تخالف المصحف ، إلا أنها
قد رويت عن ابن عباس.
* * *
وقوله : (سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)
__________
(1) قال السَّمين :
« امْرِئٍ » مُذ‍كَّرُ امرأة ، أي : مِنْ أجلِ كلِّ إنسانٍ . وقيل : مِنْ أجل كلِّ مَلَكٍ ، وهو بعيدٌ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5/347)


أي لا داء فيها ، ولا يستطيع الشيطانُ أن يصنع فيها سَيِّئاً ، والروح
جبريل عليه السلابم.
وقرئت (مَطْلَعَ الفَجْرِ) ، وَمَطْلِعَ الفَجْرِ - بفتح اللام والكسر -
فمن فتح فَهوَ المصدَرُ بمعنى الطلع . تَقُول : طلع الفجر طلوعاً وَمَطْلَعاً.
ومن قال مَطْلِع فهو اسم لوقت الطلوع وكذلك لمكان الطلوع ، الاسم مَطْلِع بكسر اللام .

(5/348)


سُورَةُ القَيِّمَة
(مَدَنية) وقيل الصحيح ( مَكِّيَّة )
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله عزَّ وجلَّ : (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1)
(المشركين) في موضع جر عطف على أهل الكتاب ، المعنى لم يكن
الذين كفروا من أهل الكتاب ومن المشركين.
وقوله : (مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ).
أي لم يكونوا منفكين من كفرهم ، ومعنى منفكين منتهين عن كفرهم.
* * *
وقوله (رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2)
(رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو)
يرتفع على ضربين :
أَحَدهُما على البَدَلَ مِنَ (الْبَيِّنَةُ).
المعنى حتى يأتيهم رسول من اللَّه.
والضرب الثاني على تفسير (الْبَيِّنَةُ) ، و (الْبَيِّنَةُ) (رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً).
أي مطهرة من الأدناس والباطل ، قال الله عزَّ وجلَّ : (فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14).
* * *
وقوله : (فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3)

(5/349)


أي كتب غير ذات عوج مستقيمة تُبَيِّنُ الحقَّ من الباطل على الاستواء
والبرهان.
* * *
قوله . : (وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4)
أي ما تفرقوا في ملكهم وكفرهم بالنبي عليه السلام إلا من بعد أن تبينُوا
أنه الذي وعدوا به في التوراة والإنجيل.
* * *
(وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)
أي يعبدونه مُوحِّدين له لا يعبدون معه غيره
(حُنَفَاءَ) على دين إبراهيم ودين محمد عليه السلام.
(وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ).
أي يؤمنوا مع التوحيد بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ويقيموا شرائعه.
(وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ).
أي وذلِكَ دين الأمة الْقَيِّمَةِ بالحق فيكون ذلك دين الملَّةِ المستقيمة.
* * *
وقوله : (أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6)
القراءة (الْبَرِيَّةِ) بترك الهمزة.
وقد قرأ نافع (البريئة) بالهمز ، والقُرَّاء غيرُهُ مجمعُونَ على ترك الهمز ، كما أجمعوا في النبي ، والأصل البريئة ، إلا أن الهمزة خففت لكثرة الاستعمال . يقولون : هذا خيرُ البريِّةِ وشرُّ البريَّةِ وما في البريَّة مِثْلُه ، واشتقاقهُ من برأ اللَّه الخلق.
وقال بعضهم : جائز أن يكون اشتقاقها من البَرَا وهو التراب ، ولو كان كذلك لما قرأوا البريئة بالهمز.
والكلام برأ اللَّه الخلق يبرؤهم ، ولم يحك أحد براهم يبريهم ، فيكون اشتقاقه
من البَرَا وهو التراب (1).
* * *
وقوله : (جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)
(جَنَّاتُ عَدْنٍ)
أي جَنَّاتُ إقامة.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { البرية } : قرأ نافعٌ وابن ذَكْوان « البَريئة » بالهمزِ في الحرفَيْن ، والباقون بياءٍ مشدَّدةٍ . واخْتُلِف في ذلك الهمز ، فقيل : هو الأصلُ ، مِنْ بَرَأ اللَّهُ الخَلْقَ ابتدأه واخترعَه فيه فعليةٌ بمعنى مَفْعولةٌ ، وإنما خُفِّفَتْ ، والتُزِمَ تحفيفُها عند عامَّةِ العربِ . وقد ذَكَرْتُ أنَّ العربَ التزمَتْ غالباً تخفيفَ ألفاظٍ منها : النبيُّ والخابِيةَ والذُّرِّيَّة والبَرِيَّة . وقيل : بل البَرِيَّةُ دونَ همزةِ مشتقةٌ مِنْ البَرا ، وهو الترابُ ، فهي أصلٌ بنفسِها ، فالقراءتان مختلفتا الأصلِ متفقتا المعنى . إلاَّ أنَّ ابنَ عطيةَ غَضَّ مِنْ هذا فقال : « وهذا الاشتقاقُ يَجْعَلُ الهمزةَ خطأً وهو اشتقاقٌ غيرُ مَرْضِيّ » انتهى . يعني أنَّه إذا قيل بأنَّها مشتقةٌ من البَرا وهو الترابُ فمَنْ أين يجيْءُ في القراءةِ الأخرى؟ وهذا غيرُ لازم لأنهما قراءتان مُسْتقلَّتان ، لكلٍ منهما أصلٌ مستقلٌ ، فقيل : مِنْ بَرَأَ ، أي : خَلَق ، وهذه مِنْ البَرا؛ لأنَّهم خُلِقوا مِنْه ، والمعنى بالقراءتين شيءٌ واحدٌ ، وهو جميعُ الخَلْقِ . ولا يُلْتَفَتُ إلى مَنْ ضَعَّف الهمزَ من النحاةِ والقُرَّاءِ لثبوتِه متواتِراً.
وقرأ العامَّةُ « خيرُ البَرِيَّة » مقابلاً لشَرّ . وعامر بن عبد الواحد « خِيارُ » وهو جمع خَيِّر نحو : جِياد وطِياب في جمع جَيِّد وطَيِّب ، قاله الزمخشري.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5/350)


سُورَةُ الزَّلْزَلَةِ
مدنية
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله عزَّ وجلَّ : (إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1)
إذا حركت حركة شديدة ، والقراءة (زِلْزَالَها) بكسر الزاي ، ويجوز في
الكلام زَلْزَالَها ، وقرئت (زَلْزَالَها) ، وليس في الكلام فَعْلَال بفتح الفَاء إلا في
المضاعف نحو الزلزال والصلْصَال.
والاختيارُ كَسرِ الزاي ، والفتح جائز.
* * *
(وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2)
أخرجت كُنوزها وموتاها
* * *
(وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3)
هذا قول الكافِرِ لأنه لم يكن يؤمن بالبعث ، فقال : مَا لَها ، أي لأي شيء
زلزالها.
* * *
(يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4)
(يَوْمَئِذٍ) منصوب بقوله : (إِذَا زُلْزِلَت) ، وأخرجت ، في ذلك اليوم
ومعنى (تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا) ، [تخبرُ] بما عُمِلَ عَليها.
* * *
(يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6)
أي يَصْدُرون متفرقينَ منهم من عمْل صالحاً ومنهم من عمل شَرًّا

(5/351)


والقراءة (لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ)
وُيرْوَى (لِيَرَوْا أَعْمَالَهُمْ) ، ولا أعلم أَحَداً قرأ بها.
ولا يجوز أن يقرأ بما يجوز في العربية إذا لم يقرأ به من أُخِذَت عَنْهُ القراءة.
* * *
ومعنى : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7)
تأويله أن اللَّه جلَّ وعزَّ قد أحصى أعمال العباد من خَيرٍ ، وكل يرى عمله ، فمن أَحَبَّ اللَّه أن يغفر له غَفَر له.
ومن أحب أَنْ يُجَازِيَه جَازَاهُ.
وقيل مَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ في الدنيا.
وكذلك شَرُّا يره في الدنيا (1). واللَّه أعلم.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { خَيْراً } ، { شَرّاً } : في نصبِهما وجهان ، أظهرهما : أنهما تمييز للمِثْقال فإنه مقدارٌ . والثاني : أنهما بدلان مِنْ « مثقالَ »
قوله : { يَرَهُ } جوابُ الشرط في الموضعين . وقرأ هشام بسكونِ هاء « يَرَهْ » وَصْلاً في الحرفَيْن . وباقي السبعةِ بضمِّها موصولةً بواوٍ وَصْلاً ، وساكنةً وَقْفاً كسائرِ هاءِ الكنايةِ ، هذا ما قرَأْتُ به . ونَقَل الشيخُ عن هشام وأبي بكر سكونَها ، وعن أبي عمرو ضمُّها مُشْبعة ، وباقي السبعةِ بإشباعِ الأولى وسكونِ الثانية . انتهى . وكان ذلك لأجلِ الوقفِ على آخرِ السورةِ غالباً . أمَّا لو وَصَلوا آخرَها بأولِ « العادِيات » كان الحكمُ الإِشباعَ هذا مقتضى أصولِهم كما قَدَّمْتُه وهو المنقولُ.
وقرأ العامَّةُ « يَرَهُ » مبنياً للفاعلِ . وقرأ ابن عباس والحسين بن علي وزيد بن علي وأبو حيوة وعاصم والكسائي في رواية « يُرَه » مبنياً للمفعول . وعكرمة « يَراه » بالألفِ : إمَّا على تقديرِ الجزمِ بحَذْفِ الحركةِ المقدرة ، وإمَّا على تَوَهُّمِ أنَّ « مَنْ » موصولةٌ ، وتحقيق هذا مذكورٌ في أواخِر يوسف . وحكى الزمخشري أن أعرابياً أَخَّر « خيراً يَرَهُ » فقيل له : قَدَّمْتُ وأَخَّرْتَ ، فأنشد :
4615 خذا بَطْنَ هرشى أوقَفاها فإنَّه . . . كِلا جانِبَيْ هرشى لَهُنَّ طريقُ
انتهى . يريدُ أنَّ التقديمَ والتأخيرَ سواءٌ ، وهذا لا يجوزُ ألبتَّةََ فإنه خطأٌ لا يُعْتَقَدُ به قراءةً.
والذَّرَّة قيل : النملةُ الصغيرةُ . وأصغرُ ما تكونُ قضى عليها حَوْلٌ قال امرؤ القيس :
4616 من القاصراتِ الطَرْفِ لو دَبَّ مُحْوِلٌ . . . من الذَّرِّ فوق الإِتْبِ منها لأَثَّرا
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5/352)


سُورَةُ وَالْعَادِيَاتِ
( مَكِّيَّة )
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله تعالى : (وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1)
يعنى بالعاديات ههنا الخيل ، وهذَا قسم جوابه : (إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ).
وقوله : (ضَبْحًا).
معناه والعاديات تضبح ضبحاً ، وضبحها صوت أجوافها إذا عَدَتْ.
* * *
(فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2)
إذا عدت الخيل بالليل وأصابت حوافرها الحجارة انقدح منها النيران.
* * *
(فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3)
يعنى الخيل.
وجاء في التفسير أنها سَريَّة كانت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى
كندة.
* * *
(فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4)
النقع الغبارُ ، فقال " بِهِ " ولم يتقدم ذكر المكان ، ولكن في الكلام دَليلٌ
عليه ، المعنى فَأَثَرْنَ بمكان عَدْوِهَا نَقْعًا أَيْ غباراً.
* * *
(فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5)
القراءة (فَوَسَّطْنَ) أي فتوسطْنَ المكان.
ولو قال (فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا) لجازَتْ ، إلا أنِّي لَا أعْلَمُ أحَداً قَرأ بها (1).
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { فَوَسَطْنَ } : العامَّةُ على تخفيفِ السينِ ، أي : تَوَسَّطْنَ . وفي الهاءِ في « به » أوجهٌ ، أحدُها : أنها للصبح ، كما تقدَّم . والثاني : أنها للنَّقْعِ ، أي : وَسَطْنَ بالنَّقْعِ الجَمْعَ ، أي : جَعَلْنَ الغبارَ وَسْطَ الجمع ، فالباءُ للتعدية ، وعلى الأولِ هي ظرفيةٌ ، الثالث : أنَّ الباءَ للحاليةِ ، أي : فتوَسَّطْن مُلْتبساتٍ بالنقع ، أي : بالغبار جمعاً من جموع الأعداء . وقيل : الباءُ مزيدةٌ ، نقله أبو البقاء و « جَمْعاً » على هذه الأوجهِ مفعولٌ به . الرابع : أنَّ المرادَ ب جَمْع المزدلفةُ وهي تُسَمَّى جَمْعاً . والمرادُ أنَّ الإِبلَ تتوسَّطُ جَمْعاً الذي هو المزدلفةُ ، كما مرَّ عن أميرِ المؤمنين رضي الله عنه ، فالمرادُ بالجَمْعِ مكانٌ لا جماعةُ الناسِ ، كقولِ صفية :
4626 . . . . . . . . . . . والعادياتِ غَداةَ جَمْعٍ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقولِ بشرِ بنِ أبي خازم :
4627 فَوَسَطْنَ جَمْعَهُمُ وأَفْلَتَ حاجبٌ . . . تحت العَجابةِ في الغُبارِ الأَقْتَمِ
و « جَمْعاً » على هذا منصوبٌ على الظرف ، وعلى هذا فيكونُ الضميرُ في « به » : « إمَّا للوقتِ ، أي : في وقت الصبح ، وإمَّا للنَّقْع ، وتكونُ الباءُ للحال ، أي : مُلْتبساتٍ بالنَّقْع . إلاَّ أنه يُشْكِلُ نَصْبُ الظرفِ المختصِّ إذ كان حَقُّه أَنْ يتعدى إليه ب » في « وقال أبو البقاء : » إنَّ جَمْعاً حالٌ « وسبقه إليه مكي . وفيه بُعْدٌ؛ إذ المعنى : على أنَّ الخيلَ توسَّطَتْ جَمْعٌ الناسِ.
وقرأ علي وزيد بن علي وقتادة وابن أبي ليلى بتشديد السين ، وهما لغتان بمعنىً واحدٍ أعني التثقيلَ والتخفيفَ . وقال الزمخشري : » التشديدُ للتعديةِ والباءُ مزيدةٌ للتأكيدِ كقوله : { وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً } [ البقرة : 25 ] وهي مبالَغَةٌ في « وَسَطْن » انتهى . وقولُه : « وهي مبالَغَةٌ » يناقِضُ قولَه أولاً « للتعدية »؛ لأن التشديدَ للمبالغة لا يُكْسِبُ الفعلَ مفعولاً آخر تقول : « ذَبَحْتُ الغنم » مخففاً ثم تبالِغُ فتقول : « ذَبَّحْتها » مثقلاً ، وهذا على رأيِه قد جَعَله متعدياً بنفسِه بدليلِ جَعْلِه الباءِ مزيدةً فلا يكون للمبالغة.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5/353)


وقوله عزَّ وجلَّ : (إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6)
معناه لكفورٌ ، يعنى بذلك الكافِرُ.
* * *
(وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8)
معنى (لَشَدِيدٌ) لَبخيل ، أي وإنه من أَجْل حُبِّ المال لبخيل.
قال طرفة :
أَرَى المَوْتَ يَعْتَامُ الكِرَام ويَصْطَفي . . . عَقِيلَةَ مَالِ البَاخِلِ المُتَشدِّدِ
* * *
وقوله : (أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9)
بعثر وبحثر بمعنى وَاحِدٍ ، والمعنى أفلا يعلم إذا بعث الموتى.
* * *
وقوله : (إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)
الله عزَّ وجلَّ خبير بَهَم في ذلك اليوم وَفي غيره ، ولكن المعنى إن اللَّه
يجازيهم على كفرهم في ذلك اليوم ، وليس يجازيهم إلا بِعِلْمِهِ أعمالهم.
ومثله : (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوِبهِمْ) @ فمعناه أولئك الذين لايتركُ مجازاتِهُمْ .

(5/354)


سُورَةُ الْقَارِعَةِ
( مَكِّيَّة )
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله عزَّ وجلَّ : (الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2)
القارعة والواقعة والحاقَّة مِن صفات ساعة القيامَةِ.
والقارعة التي تقرع بالأهوال.
وقد فسرنا إعراب (الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ) ومِثلها (الْقَارِعَةُ مَا الْقَارِعَةُ).
* * *
وقوله : (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4)
(يَوْمَ) منصوب على الظرف ، المعنى يكون يوم يكون الناس كالفراش
المبثوث ، والفراش ما تراه كصغار البق يتهافت في النار ، وشبه الناس في
وقت البعث بالجراد المنتشر ، والفراش المبثوث لأنهم إذا بعثوا يموج بعضهم
في بعض كالجراد الذي يموج بعضه في بعض.
* * *
وقوله : (وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5)
(العِهْن) الصوف ، واحدته عِهنة ، يقالُ عِهْنة وعِهْن ، مثل صوفة وصوف.
* * *
وقوله : (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7)
ذات رِضًى ، معناه من ثقلت موازينه بالحسنات ، كما تقول : لفلان
عندي وزن ثقيلٌ ، تأويله له وزن في الخير ثقيل.
ومعنى (فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ) ذات رضى يرضاها من يعيش فيها.
وقال قوم : معناه مرْضِيةٍ ، وهو يعود إلى هذا المعنى في التفسير .

(5/355)


وقوله : (وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10)
أي فَمَسْكَنَه النار.
وقيل (أُمُّهُ) لَمَسْكِنِه لأن الأصل في السكونِ إلى
الأُمَّهاتِ فَأُبْدَلَ فِيمَا يَسْكُنُ إلَيْه (نَارٌ حَامِيَةٌ).
* * *
وقوله : (وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10)
الوقف " هِيَه " ، والوصل هي نار حَامِيةٌ إلا أن الهاء دخلت في الوقف
تبين فتحة الياء ، والذي يجب اتباع المصحف فيوقف عليها ولا توصل.
فيقرأ (وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11)).
لأن السنة اتباع المصحف ، والهاء ثابتة فيه.

(5/356)


سُورَةُ التَّكَاثُر
( مَكِّيَّة )
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله عزَّ وجلَّ : (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1)
أي شَغَلكم التكَاثُر بالأموال والأولاد عن طاعة اللَّهِ.
* * *
(حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2)
أي حتى أَدْرَككم الموت على تلك الحال.
وجاء في التفسير أن حَيينِ من العرب ، وهم بنو عبد مناف وبنو سهم تَفاخروا وتكاثروا ، ففخرت بنو عبد مناف على بني سهم بأن عدوا الأحياء ، فقالت بنو سهم : فاذكروا الموتى.
وَكَثرَتْهُم بَنُو سهم بعد أن كان بنو عبد مناف قد كَثرُوا بني سَهْمٍ.
* * *
وقوله : (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3)
(كَلَّا) ردع وتنبيه ، المعنى ليس الأمر الذي ينبغي أن يكونوا عليه
التكَاثُرَ ، والذي ينبغي أن يكونوا عليه طاعة اللَّه والإيمانُ بنبيه - صلى الله عليه وسلم -.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5)
المعنى لو علمتم الشيء حق علمه ، وصرفتُم التفهم إليه ، لارْتَدَعْتُم.
ثم قال :
* * *
(لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6)

(5/357)


كما قال : (وَإِنْ مِنْكُمْ إلا وَارِدُهَا).
والقراءة لتروُن - بضم الواو غير مهموزة - فضمت الواو لسكونها وسكون النون - وقد همزها بعضهم - لَتَرؤن -
والنحويونْ يكرهون همزة الواو ، لأن ضمتها غير لازمة لأنها حركت لالتقاء
السَّاكنين ، ويهمزون الواو التي ضمتها لازمة نحو أَدْؤرٍ جمع دار ، فيجوز أدؤر بالهمز وادور بغير الهمز ، وأنت مخير فيهما ، فأمَّا " لَتَرؤنَّ " ثم لَتَرَوُنَها فلا يختار النحويون إلا ترك الهمزة ، وقرئت : " لتُرَؤُنَّ " الجحيم ، على ما لم يُسَم فاعِلُه.
* * *
(ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)
أي يوم القيامة ، عن كل ما يتنعَم به في الدنيا ، وجاء في الحديث أن
النبي عليه السلام أكل هو وجماعة من أصحابه تمراً - وروي بُسْراً - وشربوا
عليه ماء فقال : الحمد للَّهِ الذي أطعمنا وسقانا وجعلنا مسلمين.
وجاء أن مما لا يسأل العبد عنه لباساً يواري سوْأَتَه وطعاماً يقيم به صلبه ، ومكاناً يكنه مِنَ الحَرِّ والبَرْدِ .

(5/358)


سُورَةُ والْعَصْرِ
( مَكِّيَّة )
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله تعالى : (وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2)
الإنسان ههنا في معنى الناس ، كما تقول : قد كثر الدرهم والدينار في
أيدي الناس ، تريد قد كثر الدراهم.
وقوله : (لَفِي خُسْرٍ)
الخسرُ والخسْرانُ في معنى وَاحِدٍ.
المعنى إن الناس الكفارَ والعاملين بغير طاعة الله لفي خُسرٍ.
* * *
(إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)
تواصوا بالِإقامة على تَوْحِيدِ اللَّه والإيمان بنبيه عليه السلام.
(وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)
على طاعة اللَّه والجهاد في سبيله والقيام بشرائع نبيه.
والعصر هو الدهر ، والعصران اليوم ، والعصرُ الليلة.
قال الشاعر :
ولن يَلْبَثَ العَصْرَانِ يومٌ وليلة . . . إِذا طَلَبَا أَن يُدْرِكا ما تَيَمَّما

(5/359)


(وَالعَصْرِ) قسم وجوابه (إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ).
وقال بعضهم : معناه ورَبِّ العَصْرِ كما قال جل ثناؤه : (فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ).(1)
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { والعصر } : العامَّةُ على سكونِ الصادِ . وسلام « والعَصِرْ » والصَّبِرْ « بكسرِ الصادِ والباء . قال ابنُ عطية : ولا يجوزُ إلاَّ في الوقفِ على نَقْلِ الحركةِ . ورُوِيَ عن أبي عمروٍ » بالصَّبِر « بكسرِ الباء إشماماً . وهذا أيضاً لا يجوزُ إلاَّ في الوقفِ » انتهى . ونَقَل هذه القراءةَ جماعةٌ كالهُذَليِّ وأبي الفضل الرازيِّ وابنِ خالويه . قال الهُذَليُّ : « والعَصِرْ والصَّبِرْ ، والفَجِرْ ، والوَتِرْ ، بكسرِ ما قبل الساكنِ في هذه كلِّها هارونُ وابنُ موسى عن أبي عمروٍ والباقون بالإِسكانِ كالجماعةِ » انتهى . فهذا إطْلاقٌ منه لهذه القراءةِ في حالتي الوقفِ والوصلِ . وقال ابن خالويه : « والصَّبِرْ » بنَقْل الحركةِ عن أبي عمرو « فأطْلَقَ ايضاً . وقال أبو الفضل : » عيسى البصرة بالصَّبِرْ « بنَقْلِ حركةِ الراءِ إلى الباءِ يُحتاجَ إلى أَنْ يأتيَ ببعضِ الحركةِ في الوقفِ ، ولا إلى أَنْ يُسَكَّنَ فيُجْمَعَ بين ساكنَيْن ، وذلك لغةٌ شائعةٌ وليسَتْ بشاذةٍ ، بل مُسْتفيضةٌ ، وذلك دَلالةٌ على الإِعرابِ ، وانفصالٌ من التقاءِ الساكنَيْن ، وتأديةُ حقِّ الموقوفِ عليه من السكونِ » انتهى . فهذا يُؤْذِنُ بما ذَكَرَ ابنُ عطيةَ أنه كان ينبغي . وأنشدوا على ذلك :
4636 . . . . . . واصْطِفاقاً بالرِّجِلْ . . . يريد بالرِّجْلِ . وقال آخر :
4637 أنا جريرٌ كُنْيتي أبو عَمِرْ . . . أَضْرِبُ بالسَّيْفِ وسَعْدٌ في القَصِرْ
والنقلُ جائزٌ في الضمة أيضاً كقوله :
4638 . . . . . . . . . . . . . إذْ جَدَّ النُّقُرْ . . . والعَصْرُ : الليلةُ واليومُ قال :
4639 ولن يَلْبَثَ العَصْرانِ يَوْمٌ وليلةٌ . . . إذا طلبا أن يُدْرِكا ما تَيَمَّما
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5/360)


سُورَةُ الهُمَزَة
( مَكِّيَّة )
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله : (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1)
(وَيْلٌ) مرفوع بالابتداء والخبر (لِكُلِّ هُمَزَةٍ)
ولو كان في غير القرآن جاز النصب ، ولا يجوز في القرآن لمخالفة المصحف . فمن قال : وْيلاً للكافرين.
فالمعنى جعل الله له ويلاً ، ومن قال : (وَيْلٌ) فهو أجود فى العربية
لأنه قد ثبت له الويل ، والويل كلمة تقال لكل من وقع في هلكة.
والهُمَزَةُ اللُمَزَةُ الذي يغتاب النَّاسَ ويَغُضُّهم
قال الشاعر :
إذا لَقِيتُكَ عَنْ كُرْهٍ تُكَاشِرُني . . . وإن تَغَيَّبْتُ كُنْتَ الهَامِزَ اللُّمَزَهْ
* * *
(الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2)
وقرئت : (الذي جَمَّعَ مَالًا) ، وقرئت (جَمَعَ مَالًا) ، بالتخفيف.
وقرئت (وَعَدَّدَهُ) بالتشديد ، وقرئت (وَعَدَدَهُ) - بالتخفيف.
فمن قرأ (وَعَدَّدَهُ) فمعناه ، وَعَدَّدَهُ للدهُور.
ومن قرأ (وَعَدَدَهُ) فمعناه جمع مالاً وَعَدَداً ، أي وقوماً أعَدَّهم نُصَّاراً (1).
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { الذى جَمَعَ } : يجوزُ جرُّه بدلاً ، ونصبُه ورفعُه على القطع . ولا يجوزُ جَرُّه نعتاً ولا بياناً لتغايُرِهما تعريفاً وتنكيراً . وقولُه : « جَمَعَ » قرأ الأخَوان وابن عامر بتشديدِ الميم على المبالغةِ والتكثيرِ ، ولأنَّه يوافِقُ « عَدَّدَه » والباقون « جمَعَ » مخففاً وهي محتمِلَةٌ للتكثيرِ وعدمِه.
قوله : « وعَدَّدَه » العامَّةُ على تثقيل الدالِ الأول ، وهو أيضاً للمبالغةِ . وقرأ الحسن والكلبُّي بتخفيفِها . وفيه أوجهٌ ، أحدُها : أنَّ المعنى : جَمَعَ مالاً وعَدَدَ ذلك المالَ ، أي : وجَمَعَ عَدَدَه ، أي : أحصاه . والثاني : أنَّ المعنى : وجَمَعَ عَدَدَ نفسِه مِنْ عَشِيرَتِهِ وأقاربِه ، و « عَدَدَه » على هَذَيْنِ التأويلَيْنِ اسمٌ معطوفٌ على « مالاً » أي : وجَمَعَ عَدَدَ المالِ أو عَدَدَ نفسِه . الثالث : أنَّ « عَدَدَه » فعلٌ ماضٍ بمعنى عَدَّه ، إلاَّ أنَّه شَذَّ في إظهارِه كما شَذَّ في قولِه :
4641 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . إني أَجُوْدُ لأَِقْوامٍ وإنْ ضَنِنُوا
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5/361)


وقوله : (يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3)
أي يعمل عمل من لا يظن مع يساره أنه يَمُوتَ.
* * *
وقوله : (كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4)
أي يرمى به في النار.
والحُطَمَةُ اسم من أسماء النار.
وقرئت (لَيُنْبَذَانِّ فِي الْحُطَمَةِ).
ورويت - عن الحسن ، على أن المعنى لينبذنَّ هو وماله في الحُطَمَةِ.
وقرئت (لَتَنْبُذُنَ) فِي الْحُطَمَةِ ، فمعناه أنه لينبذ هو وجمعُه في
الحطمة . والقراءة المعروفة (لَيُنْبَذَنَّ).
* * *
قوله : (نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7)
هذه نار معدة لهؤلاء الكفار ومن كان مثلهم.
ومعنى (تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ)
يبلغ ألمها وإحْرَاقُها إلى الأفئدة.
* * *
وقوله : (إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8)
قرئت بالِهمز وبغير همز.
وقرئت مُوصَدَة ، والعرب تقول أَوْصَدْتُه فعلى هذا مُوصَدَة.
وتقول آصَدْتُه فعلى هذا مؤصَدَة . بالهمزة.
ومعنى " مُوصَدَةٌ " مطبقة ، أي العَذَابُ مطبَق عليهم.
* * *
وقوله : (فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)
وقرئت (فِي عُمُدٍ) وهو جمع عمَادٍ وَعُمَد وَعُمُد ، كما قالوا : إِهابٌ وأَهَبٌ وَأُهُبٌ . ومعناه أنها في عُمَد مِنَ النَّارِ (1).
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { فِي عَمَدٍ } : قرأ الأخَوان وأبو بكر بضمتين جمعَ « عَمُود » نحو : « رَسُول ورُسُل » . وقيل : جمعُ عِماد نحو : كِتاب وكُتُب . ورُوي عن أبي عمروٍ الضمُّ والسكونُ ، وهو تخفيفٌ لهذهِ القراءةِ . والباقون « عَمَد » بفتحتَيْن . فقيل : اسمُ جَمْعٍ لعَمود . وقيل : بل هو جمعٌ له ، قال الفراء : كأَدِيْم وأَدَم « وقال ابو عبيدة : » هو جمعُ عِماد « و » في عَمَدٍ « يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً مِنْ الضميرِ في » عليهم « ، أي : مُوْثَقِين ، وأَنْ يكونَ خبراً لمبتدأ مُضمرٍ ، أي : هم في عَمَدٍ ، وأَنْ يكونَ صفةٌ لمُؤْصَدَة ، قال أبو البقاء » يعني : فتكون النارُ داخلَ العَمَدِ «.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5/362)


سُورَةُ الْفِيلِ
( مَكِّيَّة )
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله عزَّ وجلَّ : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1)
(كَيْفَ) في موضع نصب ب (فَعَلَ رَبُّكَ) لا بِقَوْله : (أَلَمْ تَرَ) ، لأن كيف
من حروف الاستفهام.
ومعنى (أَلَمْ تَرَ) ألم تعلم ، فأَعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - رسوله
ما كان مما سَلَفَ من الأقاصيص وما فيه دَالٌّ على توحيد اللَّه وتعظيمه أمر
كعبته ، وكان من قصة أصحاب الفيل أنَّ قوماً من العرب - وكانوا ببلاد
النجاشي - وكانوا بحضرة بيت هو مصَلَّى للنَّصَارَى وأصحاب النجاشي.
فأججوا ناراً استعملوها لبعض ما احتاجوا إليه ، ثم رحلوا ولم يطفئوها فحملتها الريح حتى أَحْرَقَتِ البَيْتَ الذي كان مصلاهم وَمَثَابة للنجاشي وَأَصْحَابِه ، فقصد مكة مقَدِّراً أَن يَحرقَ بيت الحَرَامَ ويستبيح أهل مكة.
فلما قربوا من الحرم لَمْ تَسِرْ بهم دَوَابهم نحو البيتِ فإذا عطفوها راجعين سَارَتْ.
فوعظهم اللَّهُ بأَبْلَغ مَوْعظةٍ ، فأقاموا على قصد البيت وعلى أن يحرقوه ، فأرسل الله عليهم طَيراً أَبابيل ، فجعل كيدهم في تضليل ، أي في ذهاب وهلاك ، وكان مع كل طائر ثلاثة أحجار ، حجر في منقاره وحَجران في رجليه ، يقع الحجر منها على رأس الرجل فيخرج من دبره على كل حجر اسم الرجل الذي وقع عليه ، فقال اللَّه جل ثناؤه :
(وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3)
جماعات من ههنا وجماعات من ههنا
والمعنى أرسل اللَّه عليهم هذا الطير بهذه الحجارة من كل جانب .

(5/363)


ومعنى (تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4)
وصف اللَّه في كل من عَذَبه بالحجارة أَنَها مِنْ سِجِّيلٍ ، فقال في قوم
لُوطٍ : (وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ).
فالمعنى وأرْسَل عليهم ما يرميهم بحجارة مِنْ سِجِّيلٍ ، أي من شديد
عَذَابه ، والعرب إذا وصفت المكروه بسِجِيلٍ كأنها تعني به الشدَّةَ ولا يوصف
بهء غير المكروه.
قال الشاعر.
وَرَجْلَةً يَضْرِبُونَ البَيْضَ عَنْ عُرُضٍ . . . ضرباً تواصَتْ به الأبطالُ سِجِّيلَا
أَيْ ضَرْباً . شَدِيداً.
وأما (أبابيل) قال أبو عُبَيدَةَ : لا واحد لها ، وقال غيره : إبَّالةُ وَأَبابيل.
و (إبَّالَة) كأنَّها جماعة ، وقَالَ بَعْضُهم واحدها " إبَّوْل " وأبابيل ، مثل عجول
وعجاجيل.
* * *
(فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)
أي جعلهم كَوَرَقِ الزَّرْعِ الذي جَفَّ وأُكل : أي : وقع فيه الأُكال.
وجاء في التفسير أن الله تعالى أرسل عليهم سيلًا فحملهم إلى البحر .

(5/364)


سُورَةُ قُرَيْشٍ
( مَكِّيَّة )
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله عزَّ وجلَّ : (لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1)
فيه ثلاثة أوجه : (لإِلافِ قُرَيْشٍ) ، و (لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ) ، ووجه ثالث " لِإِلْفِ
قُرَيْش).
وقد قرئ بالوجهين الأولين (1).
* * *
وقوله : (إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2)
يجوز فيه ما جاز في " لِايلَافِ " إلا أَنه قد قرئ في هذها إلْفِهِمْ "
و " إيلافهم " ويجوز إلَافِهم . وهذه اللام قال النحويون فيها ثلاثة أوجه ، قيل هي موصولة بما قبلها ، المعنى فجعلهم كعصف مأكول لإلف قريش.
أي أهلك اللَّه أصحاب الفيل لتبقى قريش وما قَد ألفُوا من رحلة الشتاء والصيف.
وقال قوم : هذه لام التعجب فكان المعنى اعجبوا لإيلاف قريش.
وقال النحويون الذين ترتضى عربيتهم : هذه اللام معناها متصل بما بعد
فليعبدوا ، والمعنى فليعبد هؤلاء ربَّ هذا البيت لِإِلْفِهِمْ رحلة الشتاء
والصيف.
والتأويل أن قريشاً كانوا يرحلون في الشتاء إلى الشام وفي الصيف إلى
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ } : في متعلَّقِ هذه اللامِ ، أوجهٌ ، أحدُها : أنه ما في السورةِ قبلَها مِنْ قولِه { فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ } [ قريش : 5 ] . قال الزمخشري : « وهذا بمنزلةِ التَّضْمينِ في الشِّعْرِ » وهو أَنْ يتعلَّقَ معنى البيتِ بالذي قبلَه تَعَلُّقاً لا يَصِحُ إلا‍َّ به ، وهما في مصحفِ أُبَي سورةٌ واحدٍ بلا فَصْلٍ . وعن عُمَرَ أنه قرأهما في الثانية من صلاة المغرب وفي الأولى بسورةِ « والتين » انتهى . وإلى هذا ذهبَ أبو الحسنِ الأخفشُ إلاَّ أنَّ الحوفيَّ قال : « ورَدَّ هذا القولَ جماعةٌ : بأنَّه لو كان كذا لكان » لإِيلافِ « بعضَ سورةِ » ألم تَرَ « وفي إجماعِ الجميعِ على الفَصْلِ بينهما ما يدلُّ على عَدَمِ ذلك »
الثاني : أنَّه مضمرٌ تقديرُه : فَعَلْنا ذلك ، أي : إهلاكَ أصحابِ الفيل لإِيلافِ قريش . وقيل : تقديرُه اعْجَبوا . الثالث : أنه قولُه « فَلْيَعْبُدوا ».
وإنما دَخَلَتْ الفاءُ لِما في الكلامِ مِنْ معنى الشرطِ ، أي : فإنْ لم يَعْبُدوه لسائرِ نِعَمِه فَلْيَعْبدوه لإِيلافِهم فإنَّها أَظْهَرُ نعمِهِ عليهم ، قاله الزمخشري وهو قولُ الخليلِ قبلَه.
وقرأ ابن عامر « لإِلافِ » دونَ ياءٍ قبل اللامِ الثانيةِ ، والباقون « لإِيلافِ » بياءٍ قبلَها ، وأَجْمَعَ الكلُّ على إثبات الياءِ في الثاني ، وهو « إيلافِهِمْ » ومِنْ غريبِ ما اتَّفَق في هذَيْن الحرفَيْنِ أنَّ القرَّاءَ اختلفوا في سقوطِ الياءِ وثبوتِها في الأولِ ، مع اتفاقِ المصاحفِ على إثباتِها خَطَّاً ، واتفقوا على إثباتِ الياءِ في الثاني مع اتفاقِ المصاحفِ على سقوطِها فيه خَطَّاً ، فهو أَدَلُّ دليلٍ على أنَّ القُرَّاءَ مُتَّبِعون الأثَر والروايةَ لا مجرَّدَ الخطِّ.
فأمَّا قراءةُ ابنِ عامرٍ ففيها وجهان ، أحدُهما : أنه مصدرٌ ل أَلِف ثلاثياً يُقال : أَلِفْتُه إلافاً ، نحو : كتبتُه كِتاباً ، يُقال : أَلِفْتُه إلْفاً وإلافاً . وقد جَمَعَ الشاعرُ بينَهما في قولِه :
4647 زَعَمْتُمْ أنَّ إخْوَتَكُمْ قُرَيْشٌ . . . لهم إلْفٌ وليس لكُمْ إلافُ
والثاني : أنَّه مصدرُ آلَفَ رباعياً نحو : قاتَلَ قِتالاً . وقال الزمخشري : « أي : لمُؤالَفَةِ قريشٍ ».
وأمَّا قراءةُ الباقين فمصدرُ آلَفَ رباعياً بزنةِ أَكْرَم يقال : آلَفْتُه أُوْلِفُه إيْلافاً . قال الشاعر :
4648 مِنَ المُؤْلِفاتِ الرَّمْلِ أَدْماءُ حُرَّةٍ . . . شعاعُ الضُّحى في مَتْنِها يَتَوضَّحُ
وقرأ عاصمٌ في روايةٍ « إإْلافِهم » بمهزتين : الأولى مسكورةٌ والثانية ساكنةٌ ، وهي شاذَّةٌ ، لأنه يجب في مثلِه إبدالُ الثانية حرفاً مجانساً كإِيمان . ورُويَ عنه أيضاً بِهَمْزَتين مَكْسورَتَيِن بعدهما ياءٌ ساكنةٌ . وخُرِّجَتْ على أنه أَشْبَعَ كسرةً الهمزةِ الثانية فتولَّد منها ياءٌ ، وهذه أَشَذُ مِنْ الأولى ونَقَلَ أبو البقاء أشَذَّ منها فقال : « بهمزةٍ مكسورةٍ بعدها ياءٌ ساكنةٌ ، بعدها همزةٌ مسكورةٌ ، وهو بعيدٌ . ووَجْهُها أنه أشبعَ الكسرةَ فنشَأَتْ الياءُ ، وقَصَد بذلك الفصلَ بين الهمزتَيْن كالألفِ في { أَأَنذَرْتَهُمْ } [ البقرة : 6 ].
وقرأ أبو جعفر « لإِلْفِ قُرَيْشٍ » بزنة قِرْد . وقد تقدَم أنه مصدرٌ لأَلِفَ كقوله :
4649 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . لهم إلْفٌ وليس لكم إلافُ
وعنه أيضاً وعن ابن كثير « إلْفِهم » وعنه أيضاً وعن ابن عامر « إلا فِهِمْ » مثل : كِتابهم . وعنه أيضاً « لِيْلافِ » بياءٍ ساكنةٍ بعد اللامِ؛ وذلك أنه لَمَّا أبدل الثانيةَ حَذَفَ الأولى على غير قياسٍ . وقرأ عكرمةُ « لِتَأْلَفْ قُرَيْش » فعلاً مضارعاً وعنه « لِيَأْلَفْ على الأمر ، واللامُ مكسورةٌ ، وعنه فَتْحُها مع الأمرِ وهي لُغَيَّةٌ.
وقُرَيْش اسمٌ لقبيلةٍ . قيل : هم وَلَدُ النَّضْرِ بنِ كِنانَةَ ، وكلُّ مَنْ وَلَدُه النَّضْرُ فهو قُرَشِيٌّ دونَ كِنانةَ ، وهو الصحيحُ وقيل : هم وَلَدُ فِهْرِ بن مالك ابن النَّضْر بنِ كِنانةَ . فَمَنْ لم يَلِدْه فِهْرٌ فليس بقُرَشيٍّ ، فوقع الوِفاقُ على أنَّ بني فِهْرٍ قرشيُّون . وعلى أنًَّ كنانةَ ليسوا بقرشيين . ووقع الخلافُ في النَّضْر ومالكٍ.
واخْتُلِفَ في اشتقاقِه على أوجه ، أحدها : أنه من التَّقَرُّشِ وهو التجمُّعُ سُمُّوا بذلك لاجتماعِهم بعد افتراقِهم . قال الشاعر :
4650 أبونا قُصَيُّ كان يدعى مُجَمِّعاً . . . به جَمَّعَ اللَّهُ القبائلَ مِنْ فِهْرِ
والثاني : أنه من القَرْشِ وهو الكَسْبُ . وكانت قريشٌ تُجَّاراً . يقال : قَرَشَ يَقْرِشُ أي : اكتسب . والثالث : أنه مِنْ التفتيش . يقال قَرَّشَ يُقَرِّشُ عني ، أي : فَتَّش . وكانت قريشٌ يُفَتِّشون على ذوي الخُلاَّنِ ليَسُدُّوا خُلَّتَهم . قال الشاعر :
4651 أيُّها الشامِتُ المُقَرِّشُ عنا . . . عند عمروٍ فهَلْ له إبْقاءُ
وقد سأل معاويةُ ابنَ عباس . فقال : سُمِّيَتْ بدابةٍ في البحرِ يقال لها : القِرْش ، تأكلُ ولا تُؤكَل ، وتَعْلو ولا تعلى وأنشد قولَ تُبَّعٍ :
4652 وَقُرَيْشٌ هي التي تَسْكُنُ البَحْ . . . رَ سُمِّيَتْ قُرَيْشٌ قُرَيْشَا
تأكلُ الغَثَّ والسَّمينَ ولا تَتْ . . . رُكُ فيها لذي جناحَيْنِ رِيشا
هكذا في البلادِ حَيُّ قُرَيْشٍ . . . يأكلونَ البلادَ أكْلاً كَميشا
ولهم آخِرَ الزمان نَبيٌّ . . . يُكْثِرُ القَتْلَ فيهمُ والخُموشا
ثم قريشٌ : إمَّا أَنْ يكونَ مصغراً مِنْ مزيدٍ على الثلاثةِ ، فيكونَ تصغيرُه تصغيرَ ترخيمٍ . فقيل : الأصلُ : مُقْرِش . وقيل : قارِش ، وإمَّا أَنْ يكونَ مُصَغَّراً مِنْ ثلاثيٍّ نحوَ القَرْشِ . وأجمعوا على صَرْفِه هنا مُراداً به الحيُّ ولو أُريد به القبيلةُ لا متنعَتْ مِنْ الصرفِ كقولِ الشاعر :
4653- غَلَبَ المَساميحَ الوليدُ سَماحةً . . . وكفى قُرَيْشَ المُعْضِلاتِ وسادَها
قال سيبويه في مَعَدّ وقُرَيْش وثَقِيْف وكِنانةَ : » هذه للأحياءِ « وإنْ جعلَتها اسماً للقبائلِ فهو جائزٌ حَسَنٌ ».
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5/365)


اليمن فيمتارون ، وكانوا في الرحلتين آمنين والناس يتخطفون ، وكانوا إذا
عرض لهم عارض قالوا نحن أهل حرم الله فلا يتعرض لهم.
فأعلم اللَّه سبحانه أن من الدلالة على وحدانيته ما فعل بهؤلاء لأنهم ببلد لا زرع فيه وأنهم فيه آمنون.
قال اللَّه - جل ثناؤه - (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67).
أي يؤمنون بالأصنام ويكفرون باللَّه - عزَّ وجلَّ - الذي أنعم عليهم بهذه النِّعْمَةِ ، فأمرهم بعبادته وحده لأِنْ آلَفَهُم هاتين الرحلتين.
* * *
(الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)
وكانوا قد أصابتهم شدة حتى أكلوا الميتة والجيف.
(وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ).
آمنهم من أن يخافوا في الحرم ، ومِن أَنْ يخافوا في رحلتهم يقال :
أَلِفْت المكان آلفه إلفاً ، وآلفت المكان بمعنى ألفت ، أولفهُ إيلافاً .

(5/366)


سُورَةُ الْمَاعُون ( الدِّين )
( مَكِّيَّة )
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله تعالى : (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1)
وقرئت " أَرَيْتَ "
والاختيارُ أرأيت بإثبات الهمزة الثانية لأن الهمزة إنَّمَا
طرحت للمستقبل في ترى ويرى وأرى.
والأصل ترأى وَيرأى.
فأمَّا رأيت فليس يصح عن العرب فيها ريت.
ولكن ألف الاستفهام لما كانت في أول
الكلام سَهَّلَت إلقاء الهمزة ، والاختيار إثباتها.
* * *
وقوله : (فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2)
معنى يدُع في اللغة يدفع ، وكذلك قوله : (يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا).
أي يدفعون إليها دفعاً بعنف ، فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ عن حَقِه.
ويقرأ (فَذَلِكَ الَّذِي يَدَعُ الْيَتِيمَ).
تأويله فذلك الذي لا يعبأ باليتيم ويتركه مهملاً
* * *
وقوله : (وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3)
أي لا يطعم المسكين ولا يأمر بإطْعَامِه.
* * *
وقوله : (الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6).
يُعْنَى بهذا المنافقون ، لأنهم كانوا إنما يراءون بالصلاة إذَا هُمْ رآهم
المؤمنون صلوا معهم ، وإذا لم يروهم لم يصلوا ، وقيل هم عن صلاتهم

(5/367)


ساهون يؤخرونها عن وقتها ، ومن تعمَّد تأخيرها عن وقتها حتى يدخل وقت
غيرها فالويل له أيضاً كما قال اللَّه عزَّ وجلَّ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)
أي يمنعون ما فيه منفعة.
والماعون في الجاهلية ما فيه منفعة حتى الفأس والدلو والقدر والقَدُّاحَة
وكل ما انتفع به من قليل أو كثير.
قال الأعشى :
بأَجْوَدَ منه بماعُونِه . . . إذا ما سَمَاؤهم لم تَغِمْ
والماعون في الإسلام قيل هو الزكاة والطاعة.
قال الراعي.
قَوْمي على الإِسْلام لمَّا يَمْنَعُوا . . . ماعُونَهُمْ ويُضَيِّعُوا التَّهْلِيلا
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { الماعون } : أوجهٌ ، أحدُها : أنه فاعُول من المَعْنِ وهو الشيءُ القليل . يُقال : « مالُه مَعْنَةٌ » أي : قليلٌ ، قاله قطرب . الثاني : أنَّه اسمُ مفعولٍ مِنْ أعانه يُعينه . والأصلُ : مَعْوُوْن . وكان مِنْ حَقِّه على هذا أَنْ يقال : مَعُوْن كمَقُوْل ومَصُون اسمَيْ مفعول مِنْ قال وصان ، ولكنه قُلِبَتِ الكلمةُ : بأنْ قُدِّمَتْ عينُها قبل فائِها فصار مَوْعُوْن ، ثم قُلِبَتِ الواوُ الأولى ألفاً كقولِهم « تابَةٌ » و « صامَةٌ » في تَوْبة وصَوْمَة ، فوزنُه الآن مَعْفُوْل . وفي هذا الوجه شذوذٌ من ثلاثةِ أوجهٍ ، أوَّلُها : كَوْنُ مَفْعول جاء من أَفْعَل وحقُّه أَنْ يكونَ على مُفْعَل كمُكْرَم فيقال : مُعان كمُقام . وإمَّا مَفْعول فاسمُ مفعولِ الثلاثي . الثاني : القَلْبُ وهو خلافُ الأصلِ : الثالث : قَلْبُ حرفِ العلةِ ألفاً ، وإنْ لم يتحرَّكْ ، وقياسُه على تابة وصامة بعيدٌ لشذوذِ المَقيسِ عليه . وقد يُجاب عن الثالث : بأنَّ الواوَ متحركةٌ في الأصل قبل القلبِ فإنه بزنةِ مَعْوُوْن.
الثالث : من الأوجه الأُوَل : أنَّ أصله مَعُوْنَة والألفُ عوضٌ من الهاء ، ووزنُه مَفُعْل كمَلُوْم ووزنُه بعد الزيادة : ما فُعْل . واختلفَتْ عباراتُ أهلِ التفسير فيه ، وأحسنُها : أنَّه كلُّ ما يُستعان به ويُنتفع به كالفَأْس والدَّلْوِ والمِقْدحة وأُنْشِد قولُ الأعشى :
4657 بأَجْوَدَ مِنْه بماعُوْنِه . . . إذا ما سماؤُهمُ لم تَغِمّْ
ولم يَذْكُرِ المفعولَ الأولَ للمَنْع : إمَّا للعِلْمِ به ، أي : يَمْنعون الناسَ أو الطالبين ، وإمَّا لأنَّ الغَرَضَ ذِكْرُ ما يمنعونه لا مَنْ يمنعون ، تنبيهاً على خساسَتِهم وضَنِّهم بالأشياءِ التافهةِ المُسْتَقْبَحِ مَنْعُها عند كلِّ أحدٍ . اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5/368)


سُورَةُ الْكَوْثَر
( مَكِّيَّة )
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله عزَّ وجلَّ : (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1)
جاء في التفسير أن الكوثر نهر في الجنة أشد بياضاً من اللبن وأحلى من
العسل ، حافَّتَاه قباب الدر ، مجوف ، وجاء في التفسير أيضاً أن الكوثر الإسلام والنبوةُ.
وقال أهل اللغة : الكوثر فوعل من الكثرة ، ومعناه الخير الكثير.
وجميع ما جاء في تفسير هذا قد أعطيه النبي عليه السلام.
قد أعطي الإسلام والنبوة وإظهار الدين الذي أتى به على كل دين والنصر على عدوه والشفاعة.
وما لا يحصى مما أعطيه ، وقد أعطي من الجنة على قدر فضله على أهل
الجنة.
* * *
ومعنى (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2)
أي وانحر أيضاً لربك ، وقيل يعنى به صلاة الغداة في يوم النحر ، أي
وانحر بعد صلاة الفجر ، والأكثر فيما جاء " فَصَلِّ لِرَبك وانْحَرْ "
صلاة يوم الأضْحَى ثم النحر بعد الصلاة.
وقيل (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) أي اجعل يمينك على
شمالك إذا وقفت في الصلاة وضمهما إلى صدرك .

(5/369)


وقوله عزَّ وجلَّ : (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)
(شَانِئَكَ) مبغضك وهذا هو العاص بن وائل دخل النبي عليه السلام وهو
جالس فقال : هذا الأبتر ، أي هذا الذي لا عقب له ، فقال اللَّه تعالى : (إِنَّ شَانِئَكَ) يا محمد (هُوَ الْأَبْتَرُ).
فجائز أن يكون هو المنقطع العقب.
وجائز أن يكون هو المنقطع عنه كل خير.
والبتر استئصال القطع .

(5/370)


سُورَةُ الْكَافِرُونَ
( مَكِّيَّة )
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله عزَّ وجلَّ : (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5)
أي لست في حالي هذه عابداً ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد ولَا أَنَا
عَابِدٌ مَا عَبَدْتُم.
أي ولا أعبد فيما أستَقْبِل ما عبدتم ، ولا أنتم فيما تستقبلون عابدون ما
أعبد - فهذا نفي الحال ، وأن يكون أيضاً فيما يستقبل ، ينتقل عن الحال.
وكذلك نفى عنهم العبادة في الحال للَّهِ عزَّ وجلَّ وفي الاستقبال.
وهذا - واللَّه أعلم - في قومه.
أعلمه الله أنهم لا يؤمنونَ كما قال عزَّ وجلَّ في قصة نوح : (لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ).
* * *
(لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)
قيل هذا قبل أن يؤمر - صلى الله عليه وسلم - بالقتال .

(5/371)


سُورَةُ النَّصْرِ
(مدنية)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله عزَّ وجلَّ : (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1)
قيل إن الفتح كَمَا جاء في التفسير أنه نعيت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - نفسه في هذه السورة.
فأعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أنه إذَا جَاء فتح مكة ودخل الناس في
الإسلام أفواجاً فقد قرب أجله - صلى الله عليه وسلم - وكان يقول ذلك إنه قد نعيت إلى نفسي في هذه السورة.
فأمره اللَّه عزَّ وجلَّ أن يكثر التسبيحَ والاستغفار ليختم له في آخرِ عمره
بالزيادة في العمل الصالح باتباع ما أمره به.
* * *
(وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2)
ومعنى : (أَفْوَاجًا)
جماعات كثيرة ، أي بعد أن كانوا يدخلون وَاحِداً واحِداً.
واثنين اثنين ، صارت القبيلة تدخل بأسرها في الإسلام .

(5/373)


سُورَةُ تَبَّتْ
( مَكِّيَّة )
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله عزَّ وجلَّ : (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1)
معناه خسرت يدا أبي لهب ، وتب : أي خسر.
وجاء في التفسير أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا عمومته وقدم إليهم صحفة فيها طعام فقالوا : أحدنا وحده يأكل الشاة وإنما قدم إلينا هذه الصحفة ، فأكلوا منها جميعاً ولم ينقص منها إلا الشيء اليسير ، فقالوا : مالنا عندك إن اتبعناك ، قال : لكم ما للمسلمين وعليكم ما عليهم ، وإنما تتفاضلون في الدين ، فقال أبو لهب : تبًّا لك ألهذا دعوتنا !؟
فأنزل الله عز وجل : (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ)
* * *
وقوله : مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2)
المفسرون قالوا : ما كسب هاهنا ولده.
موضع (ما) رفع ، المعنى مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وكسبه.
* * *
(سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3)
أي : وولده سيصلى ناراً ذات لهب.
ويقرأ : (سَيُصْلَى نَارًا).
* * *
(وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4)
(حَمَّالَةُ الْحَطَبِ)
ويقرأ (حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) - بالنصب - وامرأته رفع من وجهين :
أحدهما العطف على ما في " سَيُصْلَى " ، المعنى سيصلى هو وامرأته ويكون (حَمَّالَةُ الْحَطَبِ) نعتا لها.
ومن نصب فعلى الذم ، والمعنى : أعني (حَمَّالَةَ الْحَطَبِ).
ويجوز رفع (وَامْرَأَتُهُ) على الابتداء ، و (حَمَّالَةُ) من نعتها ، ويكون الخبر :
(فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ).
خبر الابتداء.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ } : أي : خَسِرَتْ ، وتقدَّم تفسيرُ هذه المادةِ في سورة غافر في قولِه : { إِلاَّ فِي تَبَابٍ } [ غافر : 37 ] ، وأسند الفعلَ إلى اليدَيْنِ مجازاً لأنَّ أكثرَ الأفعالِ تُزاوَلُ بهما ، وإنْ كانَ المرادُ جملةَ المَدْعُوِّ عليه . وقوله : « تَبَّتْ » دعاءٌ ، و « تَبَّ » إخبارٌ ، أي : قد وقع ما دُعِيَ به عليه . كقول الشاعر :
4668 جَزاني جَزاه اللَّهُ شرَّ جَزائِه . . . جزاءَ الكِلابِ العاوياتِ وقد فَعَلْ
ويؤيِّده قراءةُ عبد الله « وقد تَبَّ » والظاهرُ أنَّ كليهما دعاءٌ ، ويكونُ في هذا شَبَهٌ مِنْ مجيءِ العامِّ بعد الخاصِّ؛ لأنَّ اليَدَيْن بعضٌ ، وإن كان حقيقةُ اليدَيْن غيرَ مرادٍ ، وإنما عَبَّر باليدَيْنِ؛ لأن الأعمال غالِباً تُزاوَلُ بهما.
وقرأ العامة « لَهَبٍ » بفتح الهاء . وابنُ كثيرٍ بإسكانِها . فقيل : لغتان بمعنىً ، نحو النَّهْر والنَّهَر ، والشَّعْر والشَّعَر ، والنَّفَر والنَّفْر ، والضَّجَر والضَّجْر . وقال الزمخشري : « وهو مِنْ تغييرِ الأعلامِ كقوله : » شُمْس ابن مالك « بالضم ، يعني أنَّ الأصلَ شَمْسِ بفتح الشين فَغُيِّرَتْ إلى الضَمِّ ، ويُشير بذلك لقولِ الشاعر :
4669 وإنِّي لَمُهْدٍ مِنْ ثَنَائِي فَقاصِدٌ بِهِ . . . لابنِ عَمِّ الصِّدْقِ شُمْسِ بنِ مالكِ
وجَوَّزَ الشيخُ في » شُمْس « أَنْ يكونَ منقولاً مِنْ » شُمْس « الجمع مِنْ قولِه : » أذنابُ خيلٍ شُمْسٍ « فلا يكونُ من التغيير في شيءٍ . وكنى بذلك : إمَّا لالتهابِ وجنَتَيْه ، وكان مُشْرِقَ الوجهِ أحمرَه ، وإمَّا لِما يَؤُول إليه مِنْ لَهَبِ جنهمَ ، كقولِهم : أبو الخيرِ وأبو الشَّرِّ لصُدورِهما منه . وإمَّا لأنَّ الكُنيةَ أغلبُ من الاسم ، أو لأنَّها أَنْقصُ منه ، ولذلك ذكرَ الأنبياءَ بأسمائِهم دون كُناهم ، أو لُقْبحْ اسمِه ، فإنَّ اسمَهِ » عبد العزى « فعَدَلَ إلى الكُنْية ، وقال الزمخشري : » فإنْ قلتَ : لِمَ كَناه والكُنيةُ تَكْرُمَةٌ؟ ثم ذكَرَ ثلاثةَ أجوبةٍ : إمَّا لشُهْرَتِه بكُنْيته ، وإمَّا لقُبْحِ اسمِه كما تقدَّم ، وإمَّا لأنَّ مآلَه إلى لهبِ جهنمِ « . انتهى . وهذا يقتضي أنَّ الكنيةَ أشرفُ وأكملُ لا أنقصُ ، وهو عكسُ قولٍ تقدَّمَ آنفاً.
وقُرئ : » يدا أبو لَهَبٍ « بالواوِ في مكانِ الجرِّ . قال الزمخشري : » كما قيل : عليُّ بن أبو طالب ، ومعاويةُ بنُ أبو سفيان ، لئلا يتغيَّرَ منه شيءٌ فيُشْكِلَ على السامعِ ول فَلِيْتَةَ بنِ قاسمٍ أميرِ مكة ابنان ، أحدُهما : عبدِ الله بالجرِّ ، والآخرُ عبدَ الله بالنصب « ولم يَختلف القُرَّاءُ في قولِه : { ذاتَ لَهَب } أنها بالفتح . والفرقُ أنها فاصلةٌ فلو سَكَنَتْ زال التَّشاكلُ.
قوله : { مَآ أغنى } : يجوزُ في « ما » النفيُ والاستفهامُ ، وعلى الثاني تكون منصوبةَ المحلِّ بما بعدَها التقدير : أيُّ شيء أغنى المالُ؟ وقُدِّم لكونِه له صَدْرُ الكلامِ.
قوله : { وَمَا كَسَبَ } يجوز في « ما » هذه أَنْ تكونَ بمعنى الذي ، فالعائد محذوفٌ ، وأَنْ تكونَ مصدريةً ، أي : وكَسْبُه ، وأَنْ تكونَ استفهاميةً يعني : وأيَّ شيءٍ كَسَبَ؟ أي : لم يَكْسَبْ شيئاً ، قاله الشيخُ ، فجعل الاستفهامَ بمعنى النفيِ ، فعلى هذا يجوزُ أَنْ تكونَ نافيةً ، ويكونَ المعنى على ما ذَكَرَ ، وهو غيرُ ظاهرٍ وقرأ عبد الله : « وما اكْتَسَبَ ».
قوله : { سيصلى } العامَّةُ على فتحِ الياءِ وإسكانِ الصادِ وتخفيفِ اللامِ ، أي : يصلى هو بنفسِه . وأبو حيوةَ وابنُ مقسمٍ وعباسٌ في اختيارِه بالضمِّ والفتحِ والتشديدِ . والحسن وأبن أبي إسحاق بالضمِّ والسكون.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5/375)


وجاء في التفسير.
(حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) أنها أم جميل وأنها كانت تمشي بالنميمة
قال الشاعر :
مِن البِيضِ لم تُصْطَدْ على ظَهْرِ لأْمَةٍ . . . ولم تَمْشِ بينَ الحَيِّ بالحَطَبِ الرَّطْبِ
أي بالنميمة.
وقيل إنها كانت تحمل الشوك ، شوك العضاة فتطرحه في طريق النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)
الجَيِّد العنق.
وقيل في التفسير : (حبل مِنْ مَسَدٍ). سلسلة طولها سَبْعُونَ ذراعاً.
يعنى أنها تسلك في السلسلة سبعون ذراعاً.
والمسد في لغة العرب الحبل إذا كان من ليفِ المُقْلِ ، وقد يقال لما كان من أدبار الإبل من الحبال مَسَدٌ.
قال الشاعِرُ :
وَمَسَدٍ أُمِرَّ مِنْ أَيَانُقِ (1).
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { وامرأته حَمَّالَةَ الحطب } : قراءةُ العامَّةِ بالرفع على أنهما جملةٌ مِنْ مبتدأ وخبرٍ سِيْقَتْ للإِخبار بذلك . وقيل : « وامرأتُه » عطفٌ على الضميرِ في « سَيَصْلى » ، سَوَّغَه الفصلُ بالمفعولِ . و « حَمَّالةُ الحطبِ » على هذا فيه أوجهٌ : كونُها نعتاً ل « امرأتهُ » . وجاز ذلك لأن الإِضافةَ حقيقيةٌ؛ إذا المرادُ المضيُّ ، أو كونُها بياناً أو كونُها بدلاً لأنها قريبٌ مِنْ الجوامدِ لِتَمَحُّضِ إضافتِها ، أو كونُها خبراً لمبتدأ مضمرٍ ، أي : هي حَمَّالةُ . وقرأ ابنُ عباس « ومُرَيَّتُهُ » و « مْرَيْئَتُهُ » على التصغير ، إلاَّ أنَّه أقَرَّ الهمزةَ تارةً وأبدلَها ياءً ، وأدغم فيها أخرى.
وقرأ العامةُ { حَمَّالَةُ } بالرفع . وعاصمٌ بالنصبِ فقيل : على الشَّتْم ، وقد أتى بجميلٍ مَنْ سَبَّ أمَّ جميل . قاله الزمخشري ، وكانت تُكْنَى بأمِّ جميل . وقيل : نصبٌ على الحالِ مِنْ « أمرأتُه » إذا جَعَلْناها مرفوعةً بالعطفِ على الضَّميرِ . ويَضْعُفُ جَعْلُها حالاً عند الجمهور من الضميرِ في الجارِّ بعدها إذا جَعَلْناه خبراً ل « امرأتُه » لتقدُّمها على العاملِ المعنويِّ . واستشكل بعضُهم الحاليةَ لِما تقدَّم من أنَّ المرادَ به المُضِيُّ ، فيتعرَّفُ بالإِضافةِ ، فكيف يكونُ حالاً عند الجمهور؟ ثم أجابَ بأنَّ المرادَ الاستقبالُ لأنَّه وَرَدَ في التفسير : أنها تحملُ يومَ القيامةِ حُزْمَةً مِنْ حَطَبِ النار ، كما كانت تحملُ الحطبَ في الدنيا.
وفي قوله : { حَمَّالَةَ الحطب } قولان . أحدُهما : هو حقيقةُ . والثاني : أنه مجازٌ عن المَشْيِِ بالنميمةِ ورَمْيِ الفِتَنِ بين الناس . قال الشاعر :
4670 إنَّ بني الأَدْرَمِ حَمَّالو الحَطَبْ . . . هُمُ الوشاةُ في الرِّضا وفي الغضبْ
وقال آخر :
4671 مِنْ البِيْضِ لم تُصْطَدْ على ظَهْرِ لأْمَةٍ . . . ولم تَمْشِ بين الحَيِِّ بالحطبِ الرَّطْبِ
جَعَلَه رَطْباً تنبيهاً على تَدْخينه ، وهو قريبٌ مِنْ ترشيحِ المجازِ . وقرأ أبو قلابة { حاملةَ الحطبِ } على وزن فاعِلَة . وهي محتملةُ لقراةِ العامَّةِ . وعباس « حَمَّالة للحطَبِ » بالتنوين وجَرِّ المفعولِ بلامٍ زائدةٍ تقويةً للعاملِ ، كقولِه تعالى : { فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ } [ هود : 107 ] وأبو عمروٍ في روايةٍ « وامرأتُه » باختلاسِ الهاءِ دونَ إشباعٍ.
قوله : { فِي جِيدِهَا حَبْلٌ } : يجوزُ أَنْ يكونَ « في جيدِها » خبراً ل « امرأتُه » و « حبلٌ » فاعلٌ به ، وأَنْ يكونَ حالاً مِنْ « امرأتُه » على كونِها فاعلة . و « حبلٌ » مرفوعٌ به أيضاً ، وأَنْ يكونَ خبراً مقدَّماً . و « حَبْلٌ » مبتدأٌ مؤخرٌ . والجملةُ حاليةٌ أو خبر ثانٍ ، والجِيْدُ : العُنُق ، ويُجْمع على أجيادُ . قال امرؤ القيس :
4672 وجِيْدٍ كجِيْدِ الرِّئْمِ ليس بفاحِشٍ . . . إذا هي نَصَّتْهُ ولا بمُعْطَّلِ
و { مِّن مَّسَدٍ } صفةٌ ل « حَبْل » والمَسَدُ : لِيْفُ المُقْلِ : وقيل : اللِّيفُ مطلقاً . وقيل : هو لِحاءُ شَجَرٍ باليمن . قال النابغة :
4673 مَقْذُوْفَةٌ بِدَخِيْسِ النَّحْضِ بَازِلُها . . . له صريفٌ صَريفُ القَعْوِ بالمَسَدِ
وقد يكونُ مِنْ جلود الإِبل وأَوْبارِها . وأنشد :
4647 ومَسَدٍ أُمِرَّ مِنْ أَيانِقِ . . . ويقال : رجلٌ مَمْسود الخَلْق ، أي : شديدُه.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5/376)


سُورَةُ الإِخْلَاصِ
( مَكِّيَّة )
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله عزَّ وجلَّ : (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2)
بتنوين أحَدٍ ، وقرئت بترك التنوين " أَحَدُ اللَّهُ الصَّمَدُ "
وقرئت بإسكان الدال . وحذف التنوين.
أما حذف التنوين ، فلالتقاء السَّاكنين أيضاً ، إلا أنه
سكون (1) السَّاكنين ، فمن أسكن أراد الوقف ثم ابتدأ فقال : (اللَّهُ الصَّمَدُ)
وأما (هُوَ) ، فإنما هو كناية عن ذِكْرِ الله عزَّ وجلَّ.
المعنى الذي سألتم تبيين نِسْبَته (هُوَ اللَّهُ).
و (أَحَدٌ) مرفوع على معنى هو أحد هو الله فهو مبتدأ ويجوز أن يكون
" هو " للأمر كما تقول هو زَيد قَائِمٌ ، أي الأمر زيد قائم.
والمعنى الأمر اللَّه أَحَدٌ (2).
* * *
وقوله : (اللَّهُ الصَّمَدُ (2)
روِيَ في التفسير أن المشركين قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - انسب لنا ربك ، فأنزل اللَّه عزَّ وجلَّ : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4).
وتفسير (الصَّمَد) السَيد الذي ينتهي إليه السُّؤدَدُ
قال الشاعر :
__________
(1) بياض بالأصل.
(2) قال السَّمين :
قوله : { قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ } : في « هو » وجهان ، أحدهما : أنه ضميرٌ عائدٌ على ما يفْهَمُ من السياقِ ، فإنه يُرْوى في الأسباب : أنَّهم قالوا لرسولِ الله صلَّى الله عليه وسلم : صِفْ لنا ربَّك وانْسُبْه . وقيل : قالوا له : أمِنْ نُحاس هو أم مِنْ حديدٍ؟ فنَزَلَتْ . وحينئذٍ يجوزُ أَنْ يكونَ « الله » مبتدأً ، و « أَحَدٌ » خبرُه . والجملةُ خبرُ الأولُ . ويجوزُ أَنْ يكونَ « اللَّهُ » بدلاً ، و « أحدٌ » الخبرَ . ويجوزُ أَنْ يكونَ « اللَّهُ » خبراً أوَّلَ ، و « أحدٌ » خبراً ثانياً . ويجوزُ أَنْ يكونَ « أحدٌ » خبرَ مبتدأ محذوفٍ ، أي : هو أحدٌ . والثاني : أنَّه ضميرُ الشأنِ لأنه موضعُ تعظيمٍ ، والجلمةُ بعدَه خبرُه مفسِّرِةٌ.
وهمزةُ « أحد » بدلٌ من واوٍ ، لأنَّه من الوَحْدة ، وإبدالُ الهمزةِ من الواوِ المفتوحةِ . وقيل : منه « امرأةٌ أناة » من الونى وهو الفُتورُ . وتقدَّم الفرقُ بين « أحد » هذا و « أحد » المرادِ به العمومُ ، فإنَّ همزةُ ذاك أصلٌ بنفسِها . ونَقَل أبو البقاءِ أنَّ همزةَ « أحد » هذا غيرُ مقلوبةٍ ، بل أصلٌ بنفسِها كالمرادِ به العمومُ ، والمعروفُ الأولُ . وفَرَّق ثعلب بين « واحد » وبين « أحد » بأنَّ الواحدَ يدخُلُه العَدُّ والجمعُ والاثنان ، و « أحَد » لا يَدْخُلُه ذلك . ويقال : اللَّهُ أحدٌ ، ولا يقال : زيدٌ أحدٌ؛ لأنَّ للَّهِ تعالى هذه الخصوصيةَ ، وزَيْدٌ له حالاتٌ شتى . ورَدَّ عليه الشيخُ : بأنَّه يُقال : أحد وعشرونَ ونحوه فقد دخلَه العددُ « أنتهى . وقال مكي : » إنَّ أَحَدَاً أصلُه وَأَحَد ، فأُبْدِلَتِ الواوُ همزةً فاجتمع ألفان ، لأنَّ الهمزةَ تُشْبه الألفَ ، فحُذِفَتْ إحداهما تخفيفاً «.
وقرأ عبد الله وأُبَيُّ { اللَّهُ أحدٌ } دونَ » قُلْ « وقرأ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم » أحدٌ « بغيرِ » قل هو « وقرأ الأعمش : » قل هو اللَّهُ الواحد «.
وقرأ العامَّةُ بتنوين » أحدٌ « وهو الأصلُ . وزيد بن علي وأبان ابن عثمان وابن أبي إسحاق والحسن وأبو السَّمَّال وأبو عمروٍ في روايةٍ في عددٍ كثيرٍ بحذف التنوين لالتقاء الساكنين كقولِه :
4675 عمرُو الذي هَشَمَ الثَّريدَ لقومِه . . . ورجالُ مكةَ مُسْنِتُون عِجافُ
وقال آخر :
4676 فأَلْفَيْتُه غيرَ مُسْتَعْتِبٍ . . . ولا ذاكرَ اللَّهَ إلاَّ قليلا
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5/377)


لَقَدْ بَكَّرَ النَّاعي بِخَيْريْ بَني أَسَدْ . . . بعمرو بن مَسْعودٍ وبالسَّيدِ الصَّمَدْ
وقيل الصمد الذي لا جوف له ، وقيل الصمد الذي صَمَدَ له كل شيءٍ
والذي خلق الأشياء كلها ، لا يستغنى عنه شيء وكلها تدل على وحدانيته وهذه الصفات كلها يجوز أن تكون للَّهِ عزَّ وجلَّ.
* * *
وقوله (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)
فيها أربعة أوجه في القراءة.
(كُفُواً) بضم الكاف والفاء ، وكُفْواً بضم الكاف وسكون الفاء
وكِفْواً " بكسر الكاف وسكون الفاء.
وقد قرئ بها.
وكِفَاء بكسر الكاف.
والكَفْء - بفتح الكاف وسكون الفاء اسم . لم يقرأ بها.
وفيها وجه آخر لا يجوز في القراءة.
ويقال فلان كُفءُ فلان مثل كُفِيّ فلان (1).
جاء في الحديث أن (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)
تعدل بثلث القرآن ، و (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) تعدل ربع القرآن.
و (إِذَا زُلْزِلَتِ) تعدل نصف القرآن.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { الصمد } : فَعَل بمعنى مَفْعُول كالقَبَضِ والنَّقَضِ . وهو السَّيِّدُ الذي يُصْمَدُ إليه في الحوائجِ ، أي : يُقْصَدُ ولا يَقْدِرُ على قضائِها إلاَّ هو . وأنشد :
4677 ألا بَكَّرَ النَّاعي بخَيْرِ بني أسدْ . . . بعَمْرِو بن مسعودٍ وبالسَّيِّد الصَّمَدْ
وقال الآخر :
4678 عَلَوْتُه بحُسامٍ ثم قُلْتُ له . . . خُذْها حُذَيْفُ فأنتَ السَّيِّدُ الصَّمَدُ
وقيل : الصَّمَدُ : هو الذي لا جَوْفَ له ، ومنه قوله :
4679 شِهابُ حُروبٍ لا تَزال جيادُه . . . عوابِسَ يَعْلُكْنَ الشَّكِيْمَ المُصَمَّدا
وقال ابن كعب : تفسيرُه ما بعده مِنْ قولِه : « لم يَلِدْ ولم يُوْلَدُ » وهذا يُشْبِهُ ما قالوه في تفسير الهَلوع . والأحسنُ في هذه الجملة أَنْ تكون مستقلةً بفائدةِ هذا الخبرِ . ويجوز أنْ يكونَ « الصَّمَدُ » صفةً . والخبرُ في الجملةِ بعده ، كذا قيل : وهو ضعيفٌ ، من حيث السِّياقُ ، فإنَّ السِّياقَ يَقْتضي الاستقلالَ بأخبارِ كلِّ جملةٍ.
قوله : { كُفُواً أَحَدٌ } : في نصبِه وجهان ، أحدُهما : أنه خبرُ « يكنْ » و « أحدٌ » اسمُها و « له » متعلِّقٌ بالخبر ، اي : ولم يكُنْ أحدٌ كُفُواً له . وقد رَدَّ المبردُ على سيبويهِ بهذه الآيةِ ، من حيث إنه يزعمُ أنه إذا تَقَدَّم الظرفُ كان هو الخبرَ ، وهنا لم يَجْعَلْه خبراً مع تقدُّمِه.
وقد رُدَّ على المبردِ بوجهَيْن ، أحدُهما : أنَّ سيبويهِ لم يُحَتِّمْ ذلك بل جَوَّزه . والثاني : أنَّا لا نُسَلِّم أن الظرفَ هنا ليس بخبرٍ بل هو خبرٌ ، ونصبُ « كُفُواً » على الحال على ما سيأتي بيانُه . وقال الزمخشري : « الكلامُ العربيُّ الفصيحُ أَنْ يؤخَّرَ الظرفُ الذي هو لَغْوٌ غيرُ مستقِرِّ ولا يُقَدَّمَ . وقد نَصَّ سيبويه في » كتابِه « على ذلك ، فما بالُه مُقَدَّماً في أَفْصَحِ كلامٍ وأَعْرَبِه؟ قلت : هذا الكلامُ إنما سِيْقَ لنَفْيِ المكافأةِ عن ذاتِ الباري تعالى ، وهذا المعنى مَصَبُّه ومَرْكَزُه هو هذا الظرفُ ، فكان لذلك أهمَّ شيءٍ وأَعْناه وأحقَّه بالتقديمِ وأَحْراه ».
والثاني : أَنْ يُنْصَبَ على الحال مِنْ « أحد » لأنَّه كان صفتَه فلمَّا تقدَّم عليه نُصِب حالاً ، و « له » هو الخبر . قاله مكي وأبو البقاء وغيرُهما . ويجوز أَنْ يكونَ حالاً من الضمير المستكِنِّ في الجارِّ لوقوعِه خبراً . قال الشيخ بعد أَنْ حكى كلامَ الزمخشري ومكي : « وهذه الجملةُ ليسَتْ من هذا البابِ وذلك أنَّ قولَه : { وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } ليس الجارُّ والمجرورُ فيه تامَّاً ، إنما ناقصٌ لا يَصْلُحُ أَنْ يكونَ خبراً ل » كان « بل هو متعلِّقٌ ب » كُفُواً « وقُدِّمَ عليه . التقدير : ولم يكنْ أحدٌ مكافِئاً له ، فهو في معنى المفعولِ متعلِّقٌ ب » كُفُواً « وتَقَدَّم على » كُفُواً « للاهتمامِ به ، إذ فيه ضميرُ الباري تعالى ، وتوسَّطَ الخبرُ وإنْ كان الأصلُ التأخيرَ؛ لأنَّ تأخيرَ الاسمِ هو فاصلةٌ فحَسُنَ ذلك.
وعلى هذا الذي قَرَّرْناه يَبْطُل إعرابُ مكي وغيرِه أنَّ » له « الخبرُ ، و » كُفُواً « حالٌ مِنْ » أحد « لأنه ظرفٌ ناقصٌ لا يَصْلُح أَنْ يكونَ خبراً . وبذلك يَبْطُل سؤالُ الزمخشريِّ وجوابُه . وسيبويه إنما تكلَّم في الظرفِ الذي يَصْلُحُ أَنْ يكونَ خبراً وأنْ لا يكون . قال سيبويه : » وتقول : ما كان فيها أحدٌ خيرٌ منك ، وما كان [ أحدٌ ] مثلُك فيها ، وليس أحدٌ فيها خيرٌ منك ، إذا جعلت « فيها » : مستقراً ، ولم تجعَلْه على قولك : فيها زيدٌ قائمٌ أَجْرَيْتَ الصفةَ على الاسم . فإن جَعَلْتَه على « فيها زيدٌ قائمٌ » نَصَبْتَ فتقول : ما كان فيها أحدٌ خيراً منك ، وما كان أحدٌ خيراً منك فيها ، إلاَّ أنَّكَ إذا أرَدْتَ الإِلْغاءَ فلكما أَخَّرْتَ المُلْغَى فهو أَحْسَنُ ، وإذا أرَدْتَ أَنْ يكونَ مستقرَّاً فكلما قَدَّمْته كان أحسنَ ، والتقديمُ والتأخيرُ والإِلغاءُ والاستقرارُ عربيٌُّ جيدٌ كثيرٌ قال تعالى : { وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } وقال الشاعر :
4680 ما دامَ فيهِنَّ فَصِيْلٌ حَيَّاً . . . انتهى كلامُ سيبويه . قال الشيخ : « فأنت ترى كلامَه وتمثيلَه بالظرف الذي يَصْلُح أَنْ يكونَ خبراً . ومعنى قولِه » مستقرَّاً « أي : خبراً للمبتدأ أو لكان . فإن قلتَ : فقد مَثَّل بالآية . قلت : هذا أوقَع مكيَّاً والزمخشريَّ وغيرَهما فيما وقعوا فيه ، وإنما أراد سيبويه أنَّ الظرفَ التامَّ وهو في قولِه :
ما دامَ فيهِنَّ فَصِيلٌ حَيَّاً . . . أُجْري فَضْلةً لا خبراً كما أنَّ » له « في الآية أُجْرِي فَضْلَةً فجعلَ الظرفَ القابلَ أن يكونَ خبراً كالظرفِ الناقصِ في كونِه لم يُستعمل خبراً . ولا يَشُكُّ مَنْ له ذِهْنٌ صحيحٌ أنه لا ينعقدُ كلامٌ مِنْ » له أحد « بل لو تأخَّرَ » كُفُو « وارتفع على الصفةِ وقد جَعَل » له « خبراً لم ينعقِدْ منه كلامٌ . بل أنت ترى أنَّ النفيَ لم يتسلَّطْ إلاَّ على الخبرِ الذي هو » كُفُواً « والمعنى : لم يكنْ أحدٌ مكافِئَه » انتهى ما قاله الشيخ.
وقوله : « ولا يَشُكُّ أحدٌ » إلى آخره تَهْوِيلٌ على الناظرِ . وإلاَّ فقولُه : « هذا الظرفُ ناقصٌ » ممنوعٌ؛ لأنَّ الظرفَ الناقصَ عبارةٌ عَمَّا لم يكُنْ في الإِخبارِ به فائدةٌ ، كالمقطوعِ عن الإِضافة ، ونحوِ « في دارٍ رجلٌ » وقد نَقَلَ عن سيبويه الأمثلَةَ المتقدمةَ نحو : « ما كان فيها أحدٌ خيراً منك » ، وما الفرق بين هذا وبين الآيةِ الكريمة؟ وكيف يقول هذا وقد قال سيبويهِ في آخرِ كلامهِ : « والتقديمُ والتأخيرُ والإِلغاء والاستقرارُ عربيٌّ جيدٌ كثيرٌ »؟
وقرأ العامَّةُ بضمِّ الكافِ والفاء . وسَهَّل الهمزةَ الأعرجُ وشيبةُ ونافعٌ في روايةٍ . وأسكنَ الفاءَ حمزةُ ، وأبدل الهمزةَ واواً وقفاً خاصة . وأبدلها حفصٌ واواً مطلقاً . والباقون بالهمزِ مطلقاً . وقد تقدَّم الكلامُ على هذا في أوائِل البقرةِ في قوله : { هُزُواً } [ البقرة : 67 ].
وقرأ سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس « كِفاءٌ » بالكسر والمدِّ ، أي : لا مِثْلَ له . وأُنْشِدَ للنابغة :
4681 لا تَقْذِفَنِّي برُكْنٍ لا كِفاءَ له . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ونافعٌ في رواية « كِفا » بالكسر وفتح الفاء مِنْ غير مَدّ ، كأنه نَقَلَ حركةَ الهمزةِ وحَذَفَها . والكُفْءُ : النظيرُ . وهذا كفْءٌ لك ، أي : نظيرُكَ والاسم الكَفاءة بالفتح.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5/378)


سُورَةُ الْفَلَقِ
( مَكِّيَّة )
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله عزَّ وجلَّ : (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1)
وهو فلق الصبح وهو ضياؤه ، ويقال أيضاً فرق الصبح.
يقال : " هو أبين من فلق الصبح ".
ومعنى الفلق الخلق : قال اللَّه عزَّ وجلَّ : (فَالِقُ الْإِصْبَاحِ)
و (فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى).
وكذلك فلق الأرض بالنبات والسحاب بالمطر ، وإذا تأملت الخلق تبين لك أن خلقه أكثره عن انفلاق.
فالفلق جميع المخلوقات وفلق الصبح من ذلك.
* * *
(وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3)
(غَاسِقٍ) يعنى به الليل.
(إِذَا وَقَبَ) إذا دَخَل.
وقيل لليل غاسقٌ - واللَّه أعلم - لأنه أبرد من النهار.
والغاسق البارد.
* * *
(وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4)
(النَّفَّاثَاتِ) السواحر ، تنفث : تتفل بلا ريق كأنه نفخ كما يفعل كل من
يرقى .

(5/379)


سُورَةُ النَّاسِ (1)
( مَكِّيَّة )
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4)
مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4)
(الْوَسْوَاسِ)
ذُو الْوَسْوَاسِ ، وذُو الْخَنَّاسِ وهو الشيطان (الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5)
وقيل في التفسير : إن له رأس كرأس الحية ، يجثم على القلب ، فإذا ذكر اللَّهَ العبدُ تنحَّى وخنس ، وإذا ترك ذكرَ اللَّهِ رجع إلى القلب يوسوس.
* * *
وقوله : (مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)
قيل : الناس هنا يصلح للجنِّ والإنسِ
المعنى على هذا القول : يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ الذين هم جنٌّ ،
ويُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ
والتأويل عند أبي إسحاق غير هذا
المعنى : " قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ " من الجنِّ الذين هم الجنُّ.
و (النَّاسِ) معطوف على (الْوَسْوَاسِ)
المعنى : مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ ، ومِنْ شَرِّ النَّاسِ
قال أبو إسحاق : وهذا المعنى عليه أمر الدعاء ، إنه يستعاذ مِنْ شَرِّ الْجِنِّ والإِنْسِ ، ودليل ذلك (مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ).
* * *
آخر كتاب معاني القرآن ، والْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى ، وحسبنا الله ونعم الوكيل ، وصلَّى الله على نبيه محمد وآله الطيبين وسلم تسليماً.
ابتدأ أبو إسحاق إبراهيم بن السَّرِي النحوي الزَّجَّاج في إملاء هذا الكتاب في صفر من سنة خمس وثمانين ومائتين ، وأتمَّه في ربيع الأول من سنة إحدى وثلاثمائة ، وكُتبَ في دمشق جمادى الأولى سنة خمس وتسعين وثلاثمائة.
رحم الله من دعا لكاتبه بالرحمة والمغفرة ولجميع أُمَّةِ محمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ تَمَّ كتابةُ سورة النَّاسِ من مخطوط معاني القرآن وإعرابه للزجاج ، وقد أغفله المحقق.=

قلت المدون سبحان الله وبحمده  عدد خلقه وزنة عرشه  ورضا نفسه ومداد كلماته} أقولها ما حييت وبعد موتي  والي يوم الحساب وارحم  واغفر اللهم لوالدي ومن مات من اخوتي واهلي والمؤمنين منذ خلقت الخلق الي يوم الحساب آمين وفرج كربي ورد اليَّ عافيتي وارضي عني في الدارين  واعني علي أن انفقها في سبيلك يا ربي اللهم فرج كربي واكفني همي واكشف البأساء والضراء عني وعنا.. ورد إليَّ عافيتي وثبتني علي دينك الحق ولا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب اللهم وآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار وتوفنا مع الأبرار وألِّف بين قلوبنا اجمعين.يا عزيز يا غفار ... *اللهم واشفني شفاءا لا يغادر سقما واعفو عني وعافني وارحمني وفرج كربي واكفني همي واعتقني مما أصابني من مكروه أنت تعلمه واعتقني من النار وقني عذاب القبر وعذاب جهنم وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات ومن شر فتنة المسيح الدجال ومن المأثم والمغرم ومن غلبة الدين وقهر الرجال اللهم آمين/اللهم   اشرح لي صدري ويسر لي أمري وأحلل عقد لساني واغنني بك عمن سواك يارب

 ==

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أشعار النساء - ط عالم الكتب المؤلف المرزباني

  أشعار النساء للمرزباني ثالث ما ألف من الكتب في أشعار النساء، بعد (أشعار الجواري) للمفجع البصري المتوفى سنة 327هـ و(الإماء الشواعر)...