مجلد7. و8. معاني القرآن وإعرابه - للزَّجَّاج بو إسحاق إبراهيم السَّرِي بن سَهل " المعروف بـ الزَّجَّاج " (المتوفي 311 هـ)
مجلد7.معاني القرآن وإعرابه - للزَّجَّاج أبو إسحاق إبراهيم السَّرِي بن سَهل " المعروف بـ الزَّجَّاج " (المتوفي 311 هـ)
أمر
النبوة.
فيكون المعنى تُلقي الروح أو أمر النبوة على من تشاء ، على من
تختصه بالرسالة.
(لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاَقِ).
أي لينذر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالذي يوحى إليه يوم التلاق ، ويجوز أن
يكون لينذر اللَّه يوم التلاق ، والأجود - واللَّه أعلم - أن يكون لينذرَ النبي -
صلى الله عليه وسلم -.
والدليل على ذلك أنه قرئ لتُنْذِرَ يوم التلاق - بالتاء -.
ويجوز يوم التَلَاقِي بإثبات الياء ، والحذف جائز حسن لأنه آخر آية.
ومعنى التلاقي يوم يلتقي أهل الأرض وأهل السماء.
وتأويل الروح فيما فسَّرنا أنه به حياة الناس ، لأن كل مُهتَدٍ حَيٌّ ، وكل ضَالٍّ
كالميِّتِ ، قال الله عز وجل : (أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ
أَيَّانَ يُبْعَثُونَ). وقال : (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ
وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ).
وهذا جائز في خطاب الناس ، يقول القائل لمن لَا يفقه عَنه ما فيهِ صَلَاحُه : أنت
مَيِّتٌ.
* * *
(وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ
مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18)
معنى أنذرهم خوِّفهم ، والآزفة يوم القيامَةِ ، كذا جاء في التفسير.
وإنما قيل لها آزفة لأنها قريبة وإن اسْتَبْعَدَ الناس مَدَاها.
يقال قد أزِفَ الأمْرُ إذَا قَرُبَ.
وقوله : (إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ).
نصب (كَاظِمِينَ) على الحال ، والحال محمولة على المعنى لأن القلوب لا
يقال لها كاظمة ، وإنَّما الكاظمون أصحابُ القُلوبِ والمعنى إذ قلوب الناس
لدى الحناجر في حَالِ كَظمِهِمْ.
وجاء في التفسير أن القلب من الفزع يرتفع
(4/369)
فيلتصق
بالحنجرة فلا يرجج إلى مكانه ولا يخرج فَيُسْتَراحُ من كَرْبِ غَمِّهِ.
(مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ).
(يُطاع) من صفة شفيع ، أي ولا من شَفيع مُطَاع.
* * *
(يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19)
إذا نظر الناظر نظرة خيانة عَلِمَها اللَّه ، فإذا نظر أول نظرة غير متعمد
خيانةً فذلك غير إثم ، فإن عاد ونيتُه الخيانة في النَّظرِ علم الله ذلك ، والله
- عزَّ وجلَّ - عالم الغيب والشهادة ، ولكنه ذكر العلم ههنا ليعلم أن المجازاة لا
محالةَ واقعة.
* * *
وقوله - جلَّ وعزَّ - : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ
مُبِينٍ (23)
أي بعلاماتنا التي تدلَّ على صِحة نبوته ، من العصا وإخراج يده بيضاء
من غير سوء وأشباه ذلك.
(وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ) أي حجة ظاهرةٍ.
* * *
(إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24)
هذه الأسماء . في موضع خفض إلَّا أنها فتحت لأنها لا تَنصَرِفُ لأنها
معرفة وهي أعجمية.
(فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ).
المعنى فقالوا هو ساحر كذاب ، جعلوا أمر الآيات التي يعجز عنها
المخلوقون سِحْراً.
* * *
(فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ
الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ
إِلَّا فِي ضَلَالٍ (25)
(4/370)
وإنه
كان قِيلَ لفرعون إن ملكه يزول بسبب غلام يُولَد ، فقيل افعلوا هذا
حتى لا ينْجو المولود.
(وَمَا كيدُ الكَافِرِينَ إلَا في ضَلاَلٍ).
أي يذهب باطلًا ، ويحيق الله به ما يُرِيدُ.
* * *
وقوله : (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي
أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26)
(أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ).
على هذا مصاحف أهل العراق ، وفي مصحف أهل الحجاز : (وَأَنْ يُظْهِرَ)
بغير ألف ، ويجوز وأن يَظْهر ، ومعنى أو وقوع أحد الشيئيق فالمعنى على
(أو) أن فرعون قال إني أخاف أن يُبدَلَ دينكم أو يُفْسِدَ ، فجعل طاعة الله تعالى
هي الفساد ، فيكون المعنى إني أخاف أن يبطل دينكم ألبتَّة ، فإن لم يبطله أَوْقَع
فيه الفَسادَ.
ومن قرأ - " وَأَنْ " فيكون المعنى أخاف إبطال دينكم والفساد مَعَهُ.
* * *
(وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ
رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ
رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا
يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ
مُسْرِفٌ كَذَّابٌ
(28)
جاء في التفسير أن هذا الرجُلَ أعني مؤمنَ آل فرعونَ ، كان أن يسمى
سِمَعَانَ ، وقيل كان اسمه حَبِيباً ، ويكون (مِنْ آل فِرْعَوْنَ) صفة للرجُلِ ،
ويكون (يَكْتُمُ إِيمَانَهُ) معه محذوف ، ويكون المعنى يَكْتُمُ إِيمَانَهُ
مِنْهُمْ ، ويكون يكتم من صفة رجل ، فيكون المعنى : وقال رجل مؤمن يكتم إيمانه من
آل فرعونَ.
(أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ).
المعنى لأن يقول ربي اللَّه.
(وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ).
أي بما يدل على صدقه من آيات النبوةِ
(وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ) أي فلا يَضُركم.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { أَوْ أَن } : قرأ الكوفيون « أو أَنْ » بأو التي للإِبهام والباقون بواو
النسق على تَسَلُّط الحرفِ على التبديل وظهور الفساد معاً . وقرأ نافعٌ وأبو عمروٍ
وحفصٌ « يُظْهِرَ » بضم الياءِ وكسرِ الهاء مِنْ أَظْهر ، وفاعلُه ضميرُ موسى عليه
السلام ، « الفسادَ » نصباً على المفعول به . والباقون بفتح الياء والهاء مِنْ ظهر
، « الفسادُ » رفعاً بالفاعلية وزيدُ بن علي « يُظْهَرَ » مبنياً للمفعول ، «
الفسادُ » مرفوعٌ لقيامِه مقامَ الفاعل . ومجاهد « يَظَّهَّرَ » بتشديد الظاء
والهاء ، وأصلها يَتَظَهَّر مِنْ تَظَهَّر بتشديد الهاء فأدغم التاء في الظاء . و
« الفسادُ » رفعٌ على الفاعلية . وفتح ابن كثير ياءَ { ذروني أَقْتُلْ موسى }
وسَكَّنها الباقون . اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(4/371)
(وَإِنْ
يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ).
وهذا من لطيف المسائل ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا وعد وعْداً وقع
الوعدُ بأسره ، لم يقع بعضه ، فالسؤال في هذا من أيْنَ جاز أن يقول بعض الذي
يَعِدُكُمْ ، وحق اللفظ كل الذي يَعدُكم فهذا باب من النظَرِ يذهب فيه المناظرِ
إلى الزام الحجة بأيْسَرِ ما في الأمر ، وليس في هذا نفي إصابة الكل
ومثل هذا قول الشاعر :
قد يُدْرِكُ المُتَأَنّي بَعْضَ حاجتِه . . . وقد يكونُ مع المسْتَعْجِل الزَّلَلُ
إنما ذكر البعضَ ليوجب له الكُل ، لا أن البعضَ هو الكل ولكن للقائل إذا
قال أَقَل ما يكون للمتَأنِي إدراك بعض الحاجة ، وأقل ما يكون للمستعجل
الزلل ، فقد أبان فضل المتأني على المستعجل بما لا يقدر الخصم أن يدفعه.
وكان مُؤمِنَ آل فرعونَ قال لهم : أقل مَا يكون في صدقه أن يُصِيبَكُمْ بعضُ
الذي يعدكم ، وفي بعض ذَلِك هَلَاكُكُمْ ، فهذا تأويله واللَّه أعلم.
* * *
(يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ
يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ
إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29)
هذه حكاية قول مؤمن آل فرعون.
أعلمهم اللَّه أن لهم الملك في حال ظهورهم على جميع الناس.
ثم أعلمهم أن بأس اللَّه لا يدفعه دافع ولا ينصر منه ناصر فقال :
(فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا).
* * *
(وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ
الْأَحْزَابِ (30)
أي مثل يوم حَزْبِ حِزْبِ ، والأحزاب ههنا قوم نوح وعادٍ وثمودَ وَمَن
أُهلكَ بعدَهُمْ وَقَبلَهُمْ .
(4/372)
ومعنى
: (مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ
وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31)
مثل عادة ، وجاء في التفسير مثل حال قوم نوح ، أي أخاف عليكم أن
تقيموا على كُفْرِكُمُ فينزل بكم ما نزل بالأمَم السالِفَةِ المكذبَةِ رُسُلَهم.
* * *
(وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32)
(التَّنَادِ)
بكسر الدال - وقرأ الحَسَنُ يوم التنادي - بإثبات الياء - ، وأكثر القراءة
- التناد ، وقرأ ابن عباس يوم التنَادِّ - بتشديد الدال ، والأصل التنادي وإثبات
الياء الوجه ، وحذفها حسن جميل لأن الكسرة تدل عليها الياء وهو رأس آية ، وأواخر
هذه الآيات على الدال.
ومعنى يوم التنادي يوم ينادي (أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ
وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا)
وينادي (أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ
الْمَاءِ).
ويجوز - واللَّه أعلم - أن يكون " يَوْمَ الئنَادِ " يوم يدعي كل أناس
بإمَامِهِمْ.
ومن قرأ يوم التَنادِّ بتشديد الدالِ ، فهو من قولهم نَدَّ فلانٌ وندَّ البعيرُ
إذا
هَرَبَ على وجهه ، ومما يدل على هذا قوله : (يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ).
وقوله (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35).
(4/373)
وجاء
في التفسير أنهم يؤمر بهم إلى النار فيفرون ولا يعصمهم من النار
* * *
(وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي
شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ
مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34)
أي الآيات المعجزات.
(حَتى إذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا).
أي أقمتم على كفركم وظننتم أنه لا يجدد عليكم إيجاب الحجة.
(كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ).
أي مثل ذلك الضلال يضل اللَّه من هو مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ :
(مُسْرِفٌ) ههنا كافر ، و (مُرتابٌ) شاكٌّ في أمر اللَّه وأنبيائه.
* * *
(الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ
مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ
عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35)
(الذين) في موضع نَصْب على الرد على " مَنْ " أي كذلك اللَّه يُضل الذين
يجادلون في آيات اللَّه بغير حجة أَتَتْهُمْ.
ويجوز أن يكون موضع (الذين) رفعاً على معنى مَنْ هُوَ مُسْرِف مرتابٌ هم الذين
يُجَادِلُونَ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنوا).
أي كبُر جِدَالُهُمْ مَقْتاً عند الله وعند الًذِينَ آمنوا.
(كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ).
ويقرأ عَلَى كلِ قَلْبٍ مُتَكَبِّرٍ ، والأول الوجه ، لأن المتكبر هو الإنسان.
وقد يجوز أن تقول : قلب مُتَكَبِّرٌ ، أَيْ صَاحِبه مُتَكَبِّرٌ.
* * *
(وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ
الْأَسْبَابَ (36)
(4/374)
والصرح
القصر ، وكل بناء عظيم فهوصرح.
(لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ).
جاء في التفسير أبْوابَ السماء ، والأسباب في اللغَة ما اتصل بالشيء.
وكذلك يقال للحبل سبب ، لأنه يُوصَلُ بالأشياء.
وجاء في التفسير أيضاً طُرُقَ السَّمَاوَاتِ.
فالمعنى - واللَّه أعلم . لعلي أبلغ إلى الذي يؤديني إلى السَّمَاوَات.
* * *
(أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ
كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ
وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ
(37)
ويقرأ (فَأطلِعُ) - بالرفع والنصب.
(وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا).
هذا قول فرعونَ ، يقول وإن كنت زعمت أني أطلِعُ إِلى إله موسى ، فأنا
قلت هذا على دعوى موسى لا على أني على يقينٍ من ذلك.
فيروى أن هامان طَبخ الآجُر لبناء الصَرْحِ وأن أولَ من طَبَخَ الآجُرَ هَامَانُ.
(وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ).
موضع الكاف نصب المعنى (زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ) مثل ما وَصَفْنَا.
(وَصدَّ عَنِ السَّبِيلِ).
أي صدَّ عَنِ السَّبِيلِ المستقيم . أي المستقيمة بكفره.
(وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ).
إلا في خسرانِ ، يقال : تبَّتْ يداه أي خسِرتا.
* * *
(وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38)
يعني سبيل القصد إلى اللَّه عزَّ وجلَّ ، وأخرجكم عَنْ سَبِيل فرعونَ.
فأهدكم جزم جواب للأمر.
المعنى إن تتبعوني أهدِكُمْ.
(لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا
وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ
هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43)
(4/375)
يعني
أنه ليس له استجابة دعوة في الدنيا ولا في الآخرة.
قال سيبويه : سألت الخليل عن قوله : (لَا جَرَمَ) ، فقال : لا جَرَمَ رَدٌّ
لِكَلَام . والمعنى وجب أَنَ لَهُمُ النَّارَ ، وحق أن لهم النارَ.
وأنْشَدَ :
ولقد طعنت أبا عيينة طَعْنَةً . . . جَرَمَتْ فَزَارةَ بَعدهَا أَن يغضبوا
المعنى كسبتهم الغَضَبَ ، وأحَقَّتْهُمُ بالغضب.
فمعنى (لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) لقد وجب أن ما تدعونني إليه
ليس له دَعْوَةُ أي وجب بطلان دعوته.
(وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ).
وَجَبَ مَرَدُنا إلى اللَّهِ ، وكذلك (وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ
النَّارِ).
* * *
وقوله - عزَّ وجلَّ - : (سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا
غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ
أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)
(النَّارُ) بدل من قوله (سُوءُ العَذَابِ) ، وجائز أن تكونَ مرتفعة على إضمار
تفسير سوء العَذَابِ ، كان قائلا قال : ما هو ؟ فكان الجوابُ هو :
(النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا)
فإن قال قائل : كيف يُعرضُونَ عليها وهم من أهل النار ؟
فجاء في التفسير أن أرواحهم في أجواف طير سُودٍ تعرض على النار بالغَدَاة والعشى
إلى يوم القيامَةِ.
ألا ترى أن - بعده (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ
أَشَدَّ الْعَذَابِ)
ويقرأ ادخُلُوا على معنى الأمر لهم بالدخول ، كأنَّه ويوم تقوم الساعة
يقول ادخلوا يا آل فرعون أشد العذاب.
وقرئت (أدخِلُوا) على جهة الأمْرِ للملائكة بإدخَالِهِمْ أَشَدَّ العَذَابِ.
* * *
(إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51)
(وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ).
أي : الملائكة ، وأحدهم شاهدٌ ، مثل صاحب وأصحاب .
(4/376)
(إِنَّ
الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي
صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ
هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56)
أي يجادلون في دفع آيات اللَّه
(بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ).
أي بغير حجة أَتَتْهُم.
(إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ).
أي ما هم ببالغي إرادتهم فيه ، وإرادتهم دفع آيات اللَّه عزَّ وجلَّ وَدَل
على هذا المعنى (يُجَادِلُونَ في آيَاتِ اللَّهِ).
لأن الكبر هم قد أوقعوه فليس يلبس هذا ببالغي الكبرِ.
وجاء في التفسير أنه يُعْنى بِهِ اليهودُ ، وأن الكبر الذي ليس هم ببالغيه
تَوقعُ أمر الدَّجالِ ، فتكبروا مُتَرَبصِينَ يتوقعون خروج الدجالِ.
فأَعلم اللَّه أن هذه الفرقة التي تجادِلُ لا تبلغ خروج الدجَالِ.
ويدل على قول من قال هذا قول اللَّه - عزَّ وجلَّ - يعقب هذا :
(فاسْتَعِذْ بِاللَّهِ).
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ
الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)
(سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ).
معناه صَاغِرِينَ.
* * *
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ
وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ
بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ
وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78)
جاء في التفسير أن اللَّه عَز وَجَل بعث ثمانية ألف نَبي ، مِنْهُمْ أربَعَة
آلاف من بني اسرائيل ، ومنهم أربعة آلاف من سائر الناس.
وجاء عن علي رضي اللَّه عنه أنه قال : في قوله تعالى :
(وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ)
أن اللَّه بعث نبياً أسود . فهو ممن لم تذكر قصته في القرآن.
* * *
وقوله تعالى : (اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا
وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79)
(4/377)
الأنعام
هَهُنَا الإبل.
* * *
وقوله : (إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ).
يجوز على ثلاثة أوجُهٍ
(وَالسَّلَاسِلَ) بالنصب ، و (السَّلَاسِلِ) بالخفض.
فمن رفع فعطف على الأغلال ومن جر فالمعنى إذ الأغْلَالُ فِي أعْنَاقِهِمْ وفي
السلاسِلِ ، وَمَنْ نَصَب ففتح اللام قرأ (وَالسَّلَاسِلَ يَسْحَبُونَ).
* * *
(ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُم تَفْرَحُونَ) الآية.
يدل عليه قوله تعالى : (فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا
بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ).
أي ذلك العذاب الذي نزل بكم بما كنتم تفرحون بالباطل الذي كنتم
فيه ، و (تمرحون) أي تأشرون وتبطرون وتستهزئون.
* * *
(فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ
الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)
يقول حين عاينوا العذابَ.
(سُنَّتَ اللَّهِ).
على معنى سَنَّ اللَّه هذه السُّنَّةَ فِي الأمَمِ كُلِّهَا ، لاَ يَنْفَعُهُمْ
إيمانُهُمْ إذا
رأوا العذاب.
(وَخَسِرَ هُنَالِكَ الكَافِرُونَ).
وكذلك : (وخَسِرَ هُنَالِكَ المبْطِلُونَ).
والمبطلون والكافرون خاسرون في ذلك الوقت وفي كل وقتٍ خاسرون.
ولكنه تعالى بيَّن لهم خُسْرانَهُمْ إذا رأوا العذاب .
(4/378)
سُورَة
فُصِّلَتْ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2)
(تَنْزِيلٌ) رفع بالابتداء ، وخبره (كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ).
هذا مذهب البصريينَ.
وقال الفَرَّاءُ يجوز أن يكون (تَنْزِيلٌ) مرتفعاً بِـ (حم) ، ويجوز أن يرتفع
بإضمار هذا . المعنى هذا تنزيل من العزيز الرحيم ، أي هو تنزيل.
(قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3)
نصب (قُرْآنًا) على الحال.
المعنى بينت آياته قرآناً ، أي بينت آياته في حال جمعه عربياً.
(لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أي بيَّنا لمن يعلم.
* * *
(بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4)
(بَشِيرًا وَنَذِيرًا)
من صفته.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا
إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ
إِنَّنَا عَامِلُونَ (5)
(وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ)
فِي غُلُفِ ، أي ما تدعونا إليه لا يصل إلى قلوبنا لأنها في أغطية ، وواحد
الأكِنةِ كِنَان.
(وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ).
(4/379)
أيْ
صَمَمٌ وقفل يمنع من الاستماع لقولك أي نحن في ترك القبول
منك بمنزلة من لا يستمع قولك.
(وَمِنْ بَيْينَا وَبَييكَ حِجَابٌ).
أي حاجز في النِحْلَةِ والدِّينِ.
وهو - مثل (قُلوِبنَا في أَكِنةٍ) إلا أن معنى هذا أَنا لا نُجامِعُك فِي
مَذْهِبٍ.
(فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ).
أي على مذهبنا ، وأنت عامل على مَذْهَبَكَ.
ويَجُوزُ أَنْ يكونَ فاعمل في إبطال مذهبنا إنا عاملون في إبطال أَمْرِكَ.
* * *
(وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ
بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ
(7)
أي لا يرونها واجبة عليهم ، وَلاَ يُعْطُونها.
* * *
(قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ
وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9)
لو أراد - جل وعَلَا - أنْ يخلقها في لَحظَةٍ لَفَعَلَ ولكان ذلك سائغا في
قُدْرَتِهِ ، ولكنه أحب أن يُبْصِرَ الخَلْقُ وُجُوهَ الأناةِ والقُدْرَةِ على خلق
السَّمَاوَات والأرض في أيام كثيرة وفي لحظةٍ وَاحِدَةٍ لأن المخلوقين كلهُم
والملائِكَةَ المقَربِينَ لو اجتمعوا على أن يخلقوا مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْهَا مَا
خَلَقُوا.
وجاء في التفسير أن ابتداء خلق الأرْضِ كان في يوم الأحَدِ واستقام
خلقها في يوم الاثنين.
* * *
(وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا
أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10)
(وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا).
في الثلاثاء والأربعاء فصارت الجملة أَربعة أَيَّام ، فذلك قوله : (وَجَعَلَ
فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا
فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ).
(4/380)
أي
في تتمة أرْبَعةِ أَيَّام.
(سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ).
وَسَواءٍ ، ويجوز الرفعُ . فمن خفض جَعَلَهُ صفَةً للأيَّامِ.
المعنى في أربعة أَئامٍ مسْتَوَياتٍ ، ومن - نصب فعلى المصدر ، على
معنى استوت سَواءً ، واسْتِوَاءً.
ومَنْ رَفَع فعلى معنى هي سَوَاء (1).
ومعنى (لِلسَّائِلِينَ) ، مُعَلًق بِقَوْله : (وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا) لكل
محتاج إلى
القوتِ.
وَإنما قِيلَ (لِلسَّائِلِينَ) لأن كُلًّا يَطْلُبُ القُوتَ وَيَسْألُه.
ويجوز أن يكون للسائلين لمن سأل في كم خُلِقَت السماواتُ والأرَضُونَ ؛ فقيل :
خُلِقَتْ الأرْضُ في أربعة أيام سَوَاء لَا زيادَةَ فِيهَا وَلاَ نقصانَ جَوَاباً
لِمَنْ سَأل.
* * *
(ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ
ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11)
معنى استوى عَمَدَ إلى السماءِ وَقَصَدَ.
(قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ).
على الحال مَنْصُوبٌ ، وإنما قِيلَ طَائِعين دُونَ طَائِعَات ، لِأنَّهُنَّ
جَرَيْن
مَجْرَى ما يَعْقِل وُيميزُ ، كما قيل في النجوم : (وَكُل في فَلَكَ يُسْبَحُونَ)
وقد قِيلَ (قَالَتَا أَتَيْنَا) أَيْ ، نَحْنُ وَمَنْ فينَا طَائِعِينَ.
وَمَعْنَى (طَوْعًا أَوْ كَرْهًا) على معنى أَطِيعَا لما أَمَرت طَوْعاً ، بمنزلة
أَطِيعَا الطَاعَةَ أو تُكْرَها إكراهاً.
* * *
(فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا
وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ
الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)
(فَقَضَاهُنَّ).
فَخَلَقَهُنَّ وَصَنَعُهُنَّ.
قَالَ أَبُو ذُؤيبٍ.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : » سواءً « العامَّةُ على النصبِ ، وفيه أوجهٌ ، أحدُها : أنه منصوبٌ على
المصدرِ بفعلٍ مقدرٍ أي : استَوتْ استواءً ، قاله مكي وأبو البقاء . والثاني : أنه
حالٌ مِنْ » ها « في » أقواتها « أو مِنْ » ها « في » فيها « العائدةِ على الأرض
أو من الأرض ، قاله أبو البقاء.
وفيه نظرٌ؛ لأنَّ المعنى : إنما هو وصفُ الأيامِ بأنها سواءٌ ، لا وصفُ الأرضِ
بذلك ، وعلى هذا جاء التفسيرُ . ويَدُلُّ على ذلك قراءةُ » سَواءٍ « بالجرِّ صفةً
للمضافِ أو المضافِ إليه . وقال السدي وقتادة : سواءً معناه : سواءً لمن سألَ عن
الأمرِ واستفهم عن حقيقةِ وقوعِه ، وأرادَ العِبْرَةَ فيه ، فإنه يَجِدُه كما قال
تعالى ، إلاَّ أنَّ ابنَ زيدٍ وجماعةً قالوا شيئاً يَقْرُبُ من المعنى الذي ذكره
أبو البقاء ، فإنهم قالوا : معناه مُسْتَوٍ مُهَيَّأٌ أمرُ هذه المخلوقاتِ
ونَفْعُها للمحتاجين إليها من البشر ، فعبَّر بالسائلين عن الطالبين.
وقرأ زيد بن علي والحسن وابن أبي إسحاق وعيسى ويعقوب وعمرو بن عبيد » سَواءٍ «
بالخفضِ على ما تقدَّمَ ، وأبو جعفرٍ بالرفع ، وفيه وجهان ، أحدهما : أنه على خبرِ
ابتداءٍ مضمرٍ أي : هي سواءٌ لا تَزيد ولا تنقصُ . وقال مكي : » هو مرفوعٌ
بالابتداء « ، وخبرُه » للسائلين « . وفيه نظرٌ : من حيث الابتداءُ بنكرةٍ من غيرِ
مُسَوِّغٍ ، ثم قال : » بمعنى مُسْتوياتٍ ، لمن سأل فقال : في كم خُلِقَتْ؟ وقيل :
للسَّائلين لجميع الخَلْقِ لأنهم يَسْألون الرزقَ وغيرَه مِنْ عند اللَّهِ تعالى
«.
قوله : » للسَّائلين « فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها : أنه متعلقٌ ب » سواء « بمعنى :
مُسْتويات للسائلين . الثاني : أنه متعلِّقٌ ب » قَدَّر « أي : قَدَّر فيها
أقواتَها لأجلِ الطالبين لها المحتاجين المُقتاتين . الثالث : أَنْ يتعلَّق
بمحذوفٍ كأنه قيل : هذا الحَصْرُ لأجلِ مَنْ سأل : في كم خُلِقَتِ الأرضُ وما فيها
؟. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(4/381)
وعليهما
مسرودتان قضاهما . . . داودُ أو صَنَع السَّوابغَ تبَّع
معناه عملهما وَصَنَعُهَما.
(وَأوُحَى فِي كُلَ سَمَاءٍ أَمْرَهَا).
قِيلَ ما يُصْلِحُهَا ، وَقِيلَ مَلَائِكَتُهَا.
(وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا).
معناه وحفظناها مِنَ اسْتِمَاعِ الشياطِين بالكواكب حِفْظاً فقال :
(قل أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ) بمن هذه قدرته (وتجعلون له أنداداً) أي أصناماً
تنحتونها بَأيْدِيكم.
(ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ).
أي الذي هذه صفته وله هذه القدرة رَبُّ العَالَمِينَ.
* * *
ثم قال : (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ
عَادٍ وَثَمُودَ
(13)
أي فإن لم يقبلوا رسالتك بعد هذه الإبَانَةَ ويوحدوا اللَّه.
(فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ).
أي أنذرتهمْ بأنْ يَنْزِلَ بكم ما نزل بمن كفر من الأمَمِ قَبلَكُمْ ، ثم قصَّ
قصة كُفْرِهِمْ والسبَب في عُتُوِّهِمْ وإقامتهم على ضلالتهم فقال :
(فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ
أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً)
فأرسل اللَّه عليهم ريحاً صَرْصَراً فقال :
(فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ
عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى
وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16)
(نَحِسَاتٍ)
ويروى نَحْسَاتٍ.
قال أبو عبيدة : الصرْصَر الشديدة الصوْتِ.
وجاء في
(4/382)
التفسير
الشديدة البَرْدِ ، وَنَحِسَاتٍ مشئومَاتٍ واحدها نحِسٌ.
ومن قرأ نَحْسَات فَواحدها نَحْسٌ ، قال اللَّه - عزَّ وجلَّ - :
(فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19). (1)
* * *
(وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى
فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17)
الجَيِّدُ إسقاط التنوين ، ويقرأ ثَمودٌ - بالتنوين - ويجوز ثَمُوداً بِالنًصْبِ.
بفعل مضمر الذي ظهر تفسيره.
ومعنى (هَدَيْنَاهُمْ) قال قَتَادَةُ بَينَّا لَهُمْ طريق الهُدَى وطَريق
الضًلاَلَةِ.
(فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى).
والاختيار رفع ثمود على الابتداء والخبر ، وهذا مذهب جميع النحويين.
اختيار الرفع ، وكلهم يجيز النصْبَ.
وقوله - عزَّ وجلَّ - : (فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ).
فَالهونُ والخزيُ الذي يهينهم ويخزيهم.
* * *
(وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19)
يقرأ إلى النارِ - بفتح النون والتفخيم - وقراءة أبي عَمْرٍو - إلى النارِ -
على الإمالة إلى الكسر - وإنَّما يختار ذلك مع الراءِ - يعني الكسر - لأنها حرف
فيه تكريرٌ ، فلذلك آثَرَ أَبُو عَمْرٍ الكسرَ.
(فَهُمْ يُوزَعُونَ).
جاء في التفسير يُحْبَسُ أَوَّلُهم على آخِرِهِمْ ، وأصله من وزعْتُهُ إذا
كففته ، وقال الحسن البَصْرِي حين وَليَ القضاءَ : لَا بُدَّ للناس من وَزَعةٍ.
أي لا بد لهم من أَعْوانٍ يَكُفُّونَ الناس عَنِ التعَدِّي.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { صَرْصَراً } : الصَّرْصَرُ : الريحُ الشديدة فقيل : هي الباردةُ مِن
الصِّرِّ ، وهو البردُ . وقيل : هي الشديدةُ السَّمومِ . وقيل هي المُصَوِّتَةُ ،
مِنْ صَرَّ البابُ أي : سُمِع صريرُه . والصَّرَّة : الصَّيْحَةُ . ومنه : {
فَأَقْبَلَتِ امرأته فِي صَرَّةٍ } [ الذاريات : 29 ] . قال ابن قتيبة : « صَرْصَر
: يجوزُ أَنْ يكونَ من الصِّرِّ وهو البردُ ، وأَنْ يكونَ مِنْ صَرَّ البابُ ،
وأَنْ تكونَ من الصَّرَّة ، وهي الصيحةُ ، ومنه : { فَأَقْبَلَتِ امرأته فِي
صَرَّةٍ } [ الذاريات : 29 ] . وقال الراغب : » صَرْصَر لفظة من الصِّرِّ ، وذلك
يرجِعُ إلى الشَّدِّ لِما في البرودة من التعقُّدِ «.
قوله : » نَحِساتٍ « قرأ الكوفيون وابن عامر بكسرِ الحاءِ ، والباقون بسكونِها .
فأمَّا الكسرُ فهو صفةٌ على فَعِل ، وفعلُه فَعِل بكسرِ العين أيضاً كفِعْلِهِ
يقال : نَحِس فهو نَحِسٌ كفَرِح فهو فَرِحٌ ، وأَشِرَ فهو أَشِرٌ . وأمال الليث/
عن الكسائي ألفَه لأجل الكسرةِ ، ولكنه غيرُ مشهورٍ عنه ، حتى نسبه الدانيُّ
للوَهْم.
وأمَّا قراءةُ الإِسكانِ فتحتملُ ثلاثةَ أوجهٍ ، أحدُها : أَنْ يكونَ مخففاً مِنْ
فَعِل في القراءةِ المتقدمةِ ، وفيه توافُقُ القراءتين . والثاني : أنَّه مصدرٌ
وُصِفَ به كرجلٍ عَدْلٍ . إلاَّ أنَّ هذا يُضْعِفُه الجمعُ فإنَّ الفصيحَ في
المصدرِ الموصوفِ أَنْ يُوَحَّدَ ، وكأنَّ المُسَوِّغَ للجمع اختلافُ أنواعِه في
الأصل . والثالث : أنه صفةٌ مستقلةٌ على فَعْل بسكونِ العينِ . ولكن أهلَ التصريفِ
لم يذكروا في الصفةِ الجائيةِ مِنْ فَعِلَ بكسرِ العين ، إلاَّ أوزاناً محصورةً
ليس فيها فَعْل بالسكونِ فذكروا : فَرِحَ فهو فَرِحٌ ، وحَوِرَ فهو أحورُ ، وشَبعَ
فهو شبعانُ ، وسَلِمَ فهو سالمٌ ، وبَلي فهو بالٍ.
وفي معنى » نَحِسات « قولان ، أحدهما : أنها مِن الشُّؤْم . قال السدِّي : أي :
مشائيم مِن النَّحْسِ المعروف . والثاني : أنها شديدةُ البردِ . وأنشدوا على
المعنى الأول قولَ الشاعرِ :
3954 يَوْمَيْنِ غَيْمَيْنِ ويوماً شَمْسا . . . نَجْمَيْنِ سَعْدَيْنِ ونجماً
نَحْسا
وعلى المعنى الثاني قولَ الآخرِ :
3955 كأنَّ سُلافَةً عُرِضَتْ لنَحْسٍ . . . يُحِيْلُ شَفيفُها الماءَ الزُّلالا
ومنه :
3956 قد أَغْتدي قبلَ طُلوعِ الشمسِ . . . للصيدِ في يومٍ قليلِ النَّحْسِ
وقيل : يُريدُ به في هذا البيت الغبارَ أي : قليلِ الغبار ، وقد قيل بذلك في
الآيةِ أنها ذاتُ غُبارٍ . و » نَحِسات « نعتٌ لأيَّام ، والجمعُ بالألفِ والتاءِ
مُطَّرِدٌ في صفةِ ما لا يَعْقِلُ كأيامٍ معدوداتٍ . وقد تقدَّم تحقيقُه في البقرة
. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(4/383)
(حَتَّى
إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ
بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20)
جاء في التفسير (جُلُودُهُمْ) كناية عن الفَرج ، المعنى شَهِدَتْ فروجهم
بمعاصيهم.
* * *
(وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ
الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ
تُرْجَعُونَ (21)
أي جَعَلنا اللَّه شهوداً.
* * *
(وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ
مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)
(وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ).
مرفوع بخبر الابتداء ، و (أرْدَاكمْ) خبر ثانٍ.
ويجوز أن يكون (ظَنُّكُمُ). بَدَلاً مِنْ (ذَلِكُمْ).
ويكون المعنى وظنكم الذي ظننتم بِرَبكُمْ أرْداكم.
ومعنى (أرْدَاكُمْ) أ هْلَكَكُمْ.
* * *
(وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا
خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ
مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25)
(وَقَيَّضْنَا) :
وسببنا من حيث لا يَحْتَسِبُونَ.
(لَهُمْ قُرَنَاءَ) . . الآية.
يقول زينوا لهم أعْمَالَهُم الًتِي يَعْمَلُونَها ويشاهدونها.
(وَمَا خَلْفَهُمْ) وما يَعْزمُونَ أَنْ يَعْمَلُوه.
* * *
(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ
لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ
(26)
أي عارضوه بكلام لَا يُفهَم يكون ذلك الكلام لَغْواً ، يقال : لغا يَلْغُو
لَغْواً ، ويقال لَغِيَ يلْغَى لَغْواً إذا تكلم باللغو ، وهو الكلام الذي لَا
يُحَصّل ولا تفهم حقيقته (1).
* * *
(ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ
جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (28)
(ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ)
هذا يدل على رفعه.
قوله : (فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا).
المعنى ذلك العذاب الشديد جزاء أعداء اللَّه.
(النَّارُ) رفع بدل من (جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ)
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { والغوا } : العامَّةُ على فتحِ الغين . وهي تحتملُ وجهين ، أحدُهما :
أَنْ يكون مِنْ لَغِي بالكسر يَلْغَى . وفيها معنيان ، أحدُهما : مِنْ لَغِيَ إذا
تكلَّم باللَّغْوِ ، وهو ما لا فائدةَ فيه . والثاني : أنه مِنْ لَغِي بكذا ، أي :
رَمى به فتكونُ « في » بمعنى الباء أي : ارْمُوا به وانبِذُوه . والثاني من
الوجهين الأوَّلين : أَنْ تكونَ مِنْ لَغا بالفتح يَلْغَى بالفتحِ أيضاً ، حكاه
الأخفش ، وكان قياسُه الضمَّ كغزا يَغْزو ، ولكنه فُتِح لأجلِ حَرْفِ الحلقِ .
وقرأ قتادة وأبو حيوة وأبو السَّمَّالِ والزعفراني وابن أبي إسحاق وعيسى بضم الغين
، مِنْ لَغا بالفتحِ يَلْغُو كدَعا يَدْعُو . وفي الحديث : « فقد لَغَوْتَ » ،
وهذا موافِقٌ لقراءةِ غيرِ الجمهور . اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(4/384)
وإن
شِئت رفعت (النَّارُ) على التفسير ، كأنَّه قيل ما هو فقيل هي
النارُ (1).
(لَهُمْ فِيهَا دَارُ الخُلْدِ).
أي لهم في النارِ دار الخلد ، والنار هي الدار ، كما تقول : لك في هذه
الدارِ دَارُ السرور ، وأنت تعني الدار بِعَيْنها
كما قال الشاعر :
أَخُو رَغائِبَ يُعْطِيها ويَسْأَلُها . . . يَأْبَى الظُّلامَةَ منه النَّوْفَلُ
الزُّفَرُ
(1)
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ
أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا
لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29)
(أَرِنَا)
بكسر الراء وبإسكانها - لثقل الكسرة كما قالوا في فَخِذٍ فَخْذ ، ومن كسر
فعلى الأصل ، والكسر أَجْوَدُ لأنه في الأصْلِ أَرْئِنَا - فحذفت الهمزة وبقيت
الكسرةُ دليلاً عليها والكسر أجود.
ومعنى الآية فيما جاء من التفسير أنه يعني بهما ابن آدم قابيل الذي قتل
أخاه ، وإبليس ، فقابيل مِنَ الإنس وإبليس مِنَ الجِنِّ.
ومعنى : (نجعلْهُمَا تحت أَقْدَامِنَا).
أي يكونان - في الدَّرْك الأسفل.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا
تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا
وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30)
أي : وحدوا اللَّه ، واستقاموا : عملوا بِطَاعَتِهِ ولزموا سنة نبيِّهِ.
(تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ).
بُشَراءَ يبشرونهم عند الموت وفي وقت البعث فلا تَهُولُهم أهَوالُ القيامة.
* * *
وقوله : (نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { ذَلِكَ } : فيه وجهان ، أحدهما : أنه مبتدأٌ و « جزاءُ » خبره . والثاني
: أنه خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي : الأمرُ ذلك و { جَزَآءُ أَعْدَآءِ الله النار }
جملةٌ مستقلةٌ مبيِّنَةٌ للجملةِ قبلَها.
قوله : « النارُ » فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنها بدلٌ مِنْ « جزاء » ، وفيه
نظرٌ؛ إذ البدلُ يَحُلُّ مَحَلَّ المبدلِ منه ، فيصيرُ التقديرُ : ذلك النار .
الثاني : أنها خبرُ مبتدأ مضمرٍ . الثالث : أنها مبتدأٌ ، و { لَهُمْ فِيهَا دَارُ
الخُلْدِ } الخبر . و « دارُ » يجوز ارتفاعُها بالفاعليَّة أو الابتداءِ.
وقوله : { فِيهَا دَارُ الخُلْدِ } يقتضي أَنْ تكونَ « دارُ الخلد » غيرَ النارِ ،
وليس الأمرُ كذلك ، بل النارُ هي نفسُ دارِ الخُلْدِ . وأُجيب عن ذلك : بأنَّه قد
يُجْعَلُ الشيءُ ظَرْفاً لنفسِه باعتبارِ متعلَّقِه على سبيل المبالغةِ ، كأنَّ
ذلك المتعلَّقَ صار مستقَراً له ، وهو أبلغُ مِنْ نسبةِ المتعلَّقِ إليه على سبيلِ
الإِخبارِ به عنه ، ومثلُه قولُه :
3959 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وفي اللَّهِ إنْ
لم يُنْصِفُوا حَكَمٌ عَدْلُ
وقوله تعالى : { لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } [ الأحزاب
: 21 ] ، والرسولُ عليه السلام هو نفسُ الأُسْوةِ . كذا أجابوا . وفيه نظرٌ؛ إذ
الظاهرُ - وهو معنىً صحيحٌ منقولٌ - أنَّ في النار داراً تُسَمَّى دارَ الخلدِ ،
والنارُ مُحيطةٌ بها.
قوله : « جَزاءً » في نصبِه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنَّه منصوبٌ بفعلٍ مقدرٍ ،
وهو مصدرٌ مؤكدٌ أي : يُجْزَوْن جزاءَ . الثاني : أَنْ يكونَ منصوباً بالمصدرِ
الذي قبلَه ، وهو { جَزَآءُ أَعْدَآءِ الله } ، والمصدرُ يُنْصَبُ بمثلِه كقوله :
{ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً } [ الإسراء : 63 ] . الثالث : أَنْ
يَنْتَصِبَ على أنه مصدرٌ واقعٌ موقعَ الحالِ ، و « بما » متعلِّقٌ ب « جَزاء »
الثاني ، إنْ لم يكنْ مؤكِّداً ، وبالأول إن كان ، و « بآياتِنا » متعلِّقٌ ب «
يَجْحَدون » . اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(4/385)
معناه
وأبشروا بالجنة تنزلُونها نُزُلاً.
قال أبو الحسن الأخفش : (نُزُلًا) منصوب من وجهين :
أحدهما أن يكون مَنْصُوباً على المصدَرِ ، على معنى لكم
ْفيها ما تشتهي أنفسكم أنزَلْناهُ نُزُلاً.
ويجوز أنْ يكون منصوباً على الحال على معنى لكم فيها ما تشتهي أَنْفُسُكُمْ منزلا
نُزُلًا ، كما تقول جاء زيد مشياً في معنى جاء زيد ماشياً (1).
* * *
(وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ
إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33)
(وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا)
منصوب على التفسير كما تقول زيد أحسن منك وجهاً ، وجاء في
التفسير أنه يعنى به محمد - صلى الله عليه وسلم - لأنه دعا إلى توحيد اللَّه ،
وجاء أيضاً في التفسير عن عائشة وغيرها أنها نزلت في المؤذنين.
* * *
(وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34)
و " لا " زائدة مؤكدة ، المعنى لا تستوي والسيئة.
(ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ).
معناه ادفع السيئة بالتي هي أحسن.
(كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) : الحميم القريب.
* * *
(وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ
عَظِيمٍ (35)
أي ما يلقى مجازاة هذا أي وما يلَقى هذه الفعلة (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا) أي
إِلَّا الَّذِينَ يكظمون الغيظ.
(وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ).
الحظ ههنا الجنَّة ، أي وما يلقاها إلا من وجبت له الجنة.
ومعنى (ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) ، أي حَظٍّ عَظِيمٍ في الخير.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { نُزُلاً } : فيه أوجهٌ ، أحدها : أنه منصوبٌ على الحالِ من الموصولِ ، أو
من عائدِه . والمراد بالنُزُلِ الرزقُ المُعَدُّ للنازِل ، كأنه قيل : ولكم فيها
الذي تَدَّعُونه حال كونِه مُعَدًّا . الثاني : أنَّه حالٌ مِنْ فاعل « تَدَّعُوْن
» ، أو من الضمير في « لكم » على أَنْ يكونَ « نُزُلاً » جمعَ نازِل كصابِر وصُبُر
، وشارِف وشُرُف . الثالث : أنه مصدرٌ مؤكِّدٌ . وفيه نظرٌ؛ لأنَّ مصدرَ نَزَل
النزولُ لا النُّزُل . وقيل : هو مصدرُ أَنْزَل.
قوله : « مِنْ غَفَورٍ » يجوزُ تعلُّقه بمحذوفٍ على أنه صفةٌ ل « نُزُلاً » ،
وأَنْ يتعلَّقَ بتَدَّعون ، أي : تَطْلبونه مِنْ جهةِ غفورٍ رحيمٍ ، وأَنْ
يتعلَّقَ بما تعلَّقَ الظرفُ في « لكم » من الاستقرارِ أي : استقرَّ لكم مِنْ جهةِ
غفورٍ رحيم . قال أبو البقاء : « فيكونُ حالاً مِنْ » ما « . قلت : وهذا البناءُ
منه ليس بواضحٍ ، بل هو متعلِّقٌ بالاستقرارِ فَضْلةً كسائرِ الفضلاتِ ، وليس
حالاً مِنْ » ما « . اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(4/386)
(وَإِمَّا
يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ
السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)
يقول إن نزغك مِنَ الشيطان ما يصرفك به عن الاحتمال فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ
من شرِّه وامض على حلمك.
* * *
(وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا
لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ
كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37)
أَي مِنْ عَلاَمَاتِهِ التي تَدُلُّ على أَنه واحد.
وقوله : (وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ).
وقد قال : الليلُ والنهار والقمر وهي مُذَكَرَة.
وقال : (خَلَقَهُنَّ) والهاء والنون
يدلان على التأنيث ، ففيها وجهان :
أحدهما أَن ضمير غير ما يعقل على لفظ
التأنيث ، تقول : هذه كِبَاشُك فسُقْها ، وَإنْ شئت فسُقْهُن ، وإنَّمَا يكون
" خَلَقَهُمْ " لما يعقل لا غير ، ويجوز أن يكون (خَلَقَهُنَّ) راجعاً
على معنى الآيات لأنه قال : ومن آياته هذه الأشياء.
(وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ) (1).
* * *
(فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ
وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38)
هذه خطاب لمحمد - صلى الله عليه وسلم -
و (الَّذِينَ) ههنا يعنى به الملائكة ، فالمعنى فإن استكبروا وَلَمْ يُوحِّدُوا
اللَّهَ ويعْبُدوه ويؤمنوا برسوله ، فالملائكة (يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ
وَالنَّهَارِ).
(وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ).
لاَ يَملُّون - ثم زَادَهُمْ في الدلالة فقال :
* * *
(وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا
عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ
الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)
أي مُتَهَشِمَةً متغيرة ، وهو مثل هامدة.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { خَلَقَهُنَّ } : في هذا الضميرِ ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها : / أنه يعودُ على
الأربعةِ المتعاطفةِ . وفي مجيءِ الضميرِ كضميرِ الإِناثِ - كما قال الزمخشري - هو
أنَّ جَمْعَ ما لا يَعْقِلُ حكمُه حكمُ الأنثى أو الإِناث نحو : « الأقلامُ
بَرَيْتُها وبَرَيْتُهنَّ » . وناقشه الشيخ من حيث إنه لم يُفَرِّقْ بين جمعِ
القلةِ والكثرةِ في ذلك؛ لأنَّ الأفصحَ في جمعِ القلةِ أَنْ يُعامَلَ معاملةَ
الإِناثِ ، وفي جمع الكثرةِ أَنْ يُعامَلَ معاملةَ الأنثى فالأفْصحُ أَنْ يُقال :
الأجذاعُ كَسَرْتُهُنَّ ، والجذوعُ كَسَرْتُها . والذي تقدَّمَ في هذه الآيةِ ليس
بجمعِ قلةٍ أعني بلفظٍ واحدٍ ، ولكنه ذكر أربعةً متعاطفةً فتنزَّلَتْ منزلَة
الجمعِ المعبَّرِ به عنها بلفظٍ واحد . قلت : والزمخشري ليس في مقام بيانِ الفصيح
والأفصح ، بل في مقامِ كيفيةِ مجيء الضميرِ ضميرَ إناث بعد تقدُّم ثلاثةِ أشياءَ
مذكَّراتٍ وواحدٍ مؤنثٍ ، فالقاعدةُ تغليبُ المذكرِ على المؤنثِ ، أو لمَّا قال :
« ومِنْ آياته » كُنَّ في معنى الآياتِ فقيل : خلقهنَّ ، ذكره الزمخشريُّ أيضاً
أنه يعود على لفظ الآياتِ . الثالث : أنه يعودُ على الشمس والقمر؛ لأنَّ الاثنين
جمعٌ ، والجمعُ مؤنثٌ ، ولقولهم : شموس وأقمار . اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(4/387)
(فَإِذَا
أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ).
ويقرأ وَرَبأتْ بالهمز ، ومعنى ربت عظمت ، ومعنى ربأت ارْتَفَعَتْ لأن
النبت إذا همَّ أن يظهر ارتفعت له الأرض.
* * *
وقوله - عزَّ وجلَّ - : (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا
يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي
آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ
بَصِيرٌ (40)
(يَلْحَدُونَ) بفتح الياء والحاء ، وتفسير يَلْحدُونَ يجعلون الكلام على غير
جِهَتِه ، ومن هذا اللَّحْدُ لأنه الحفرُ في جانب القَبْر ، يُقال لَحَد وَألْحَدَ
، في
معنى وَاحِدٍ.
(اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ).
لفط هذا الكلام لفظ أَمْرٍ ، ومعناه الوعيد والتهدد ، وقد بيَّن لهم المجازاة
على الخير والشر.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ
مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)
فيه وجهان :
أحدهما أن الكتب التي تقدمت لا تبطله وَلَا يأتي بعده كتابُ
يُبْطِلُه.
والوجه الثاني أنه محفوظ من أن يَنقُصَ منه فيأتيه الباطل من بين يديه أو
يزاد فيه فيأتيه الباطل من خلفه.
والدليل على هذا قوله : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ
لَحَافِظُونَ (9).
* * *
(مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ
لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43)
أي تكذيبك كما كُذِبَ الرسُلُِ مِنْ قَبلِكَ ، وقيل لهم كما يقول الكفارُ
لك ، ثم قال :
(4/388)
(إِنَّ
رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ) : المعنى لمن آمن بك.
(وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ) : لِمَنْ كَذبَك.
* * *
(وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ
أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ
وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى
أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44)
(وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ)
أي بُيِّنَت.
(أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ).
وتقرأ (أَأَعْجَمِيٌّ) بهمزتين وَ (أَعْجَمِيٌّ) بهمزةٍ واحدةٍ وبهمزة بعدها مخففة
تشبه الألف ، ولا يجوز أن يكون ألفاً خَالِصَةً لأن بعدها العين وهي ساكنة.
وتقرأ أَعجَمِي وعَرَبي - بهمزة واحدة وفتح العين.
وقرأ الحسن أَعْجَمى بهمزة وَسَكُونِ العَيْن.
والذِي جَاءَ في التفْسِير أَن المعنى (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا
لَقَالُوا لَوْلَا) : هلَّا
بينت آياتِهِ ، أقرآنٌ أعجميٌّ ونبيٌّ عربي.
فمن قرأ (آأعجمي) فهمزة وألفٍ فَإنهُ مَنْسوبُ إلى اللسَانِ الأعجم ، تقول : هذا
رَجُل أعجمي إذا كان لا يُفْصِحُ إن
كَانَ مِنَ العَجَمِ أو من العَرَبٍ ، وتقول : هذا رجل عَجَمِي إذا كان من
الأعاجم ، فصيحاً كان أَمْ غَيرَ فصيح ، ومثل ذَلِكَ : هذا رَجُلٌ أعرابي إذا كان
من أهل البادية ، وكان جنسه من العَرَب أو من غير العَرَبِ ، والأجودُ في القرآن
أَعْجَمِي بهمزة وأَلِفٍ على جهة النسبة إلى الأعْجَمِ ، ألا ترى قوله : (وَلَوْ
جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا) ، ولم يقرأ أحَد عَجَميُّا.
فأمَّا قراءة الحسن أعني أَعْجَمى بإسكان العَيْنِ لا على معنى الاستفهام ولكن على
معنى هَلَّا بُيِّنَتْ آياتُه ، فجعل بعضه بياناً للعجم وبعضه بياناً للعرب ، وكل
هذه الأوجه الأربعة سائغ في العربية
وعلى ذلك تفسيره (1).
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { ءَاعْجَمِيٌّ } : قرأ الأخوان وأبو بكر بتحقيقِ الهمزة ، وهشام بإسقاطِ
الأولى . والباقون بتسهيلِ الثانية بينَ بينَ . وأمَّا المدُّ فقد عُرِف حكمُه
مِنْ قولِه : « أأنذَرْتَهم » في أولِ هذا الموضوع . فمَنْ استفَهْم قال : معناه
أكتابٌ أَعجميٌّ ورسولٌ عربيٌّ . وقيل : ومُرْسَلٌ إليه عَربيٌّ . وقيل : معناه
أَبَعْضُهُ أعجميٌّ وبعضُه عربيٌّ . ومَنْ لم يُثْبِتْ همزةَ استفهامٍ فيُحتمل أنه
حَذَفها لفظاً وأرادها معنًى . وفيه توافُقُ القراءتين . إلاَّ أنَّ ذلك لا يجوز
عند الجمهور ، إلاَّ إنْ كان في الكلام « أم » نحو :
3960 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . بسَبْعٍ رَمَيْنَ
الجَمْرَ أم بثمان
فإنْ لم تكنْ « أم » لم يَجُزْ إلاَّ عند الأخفش . وتقدَّم ما فيه ، ويحتمل أَنْ
يكونَ جعله خبراً مَحْضاً ويكونُ معناه : هَلاَّ فُصِّلَتْ آياتُه فكان بعضُها
أعجمياً تفهمُه العجمُ ، وبعضُها عربياً يفهمُه العربُ.
والأعجميُّ مَنْ لا يُفْصِحُ ، وإن كان مِنَ العرب ، وهو منسوبٌ إلى صفته كأحمرِيّ
ودَوَّاريّ ، فالياءُ فيه للمبالغةِ في الوصفِ وليس النسبُ منه حقيقياً . وقال
الرازيُّ في لوامحه : « فهو كياء كُرْسِيّ وبُخْتِيّ » . وفَرَّق الشيخُ بينهما
فقال : « وليسَتْ كياءِ كُرْسِيّ فإن كرسيّ وبُخْتيّ بُنِيَتِ الكلمةُ عليها
بخلافِ ياء » أعجميّ « فإنهم يقولون : رجل أَعْجم وأعْجميّ ».
وقرأ عمرو بن ميمون « أَعَجَمِيٌّ » بفتح العين وهو منسوبٌ إلى العجم ، والياءُ
فيه للنسَبِ حقيقةً يُقال : رجل أعجميٌّ وإنْ كان فصيحاً . وقد تقدَّم الكلامُ في
الفرقِ بينهما في سورةِ الشعراء.
وفي رفع « أَعْجميّ » ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنه مبتدأٌ ، والخبرُ محذوف تقديرُه
، أعجميٌّ وعربيٌّ يَسْتويان . والثاني : أنه خبرُ مبتدأ محذوف أي : هو ، أي :
القرآن أعجميٌّ والمرسلُ به عربيٌّ . والثالث : أنه فاعلُ فعلٍ مضمرٍ أي :
أيَسْتوي أعجميٌّ وعربيٌّ . وهذا ضعيفٌ؛ إذ لا يُحذف الفعلُ إلاَّ في مواضعَ
بَيَّنْتُها غيرَ مرةٍ.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(4/389)
وقوله
عزَّ وجلَّ : (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ).
يعني القرآن.
(وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ).
أي هم في ترك القبول بمنزلة من في أذنه صمم.
(وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى)
ويقرأ (وهو عَلَيْهِمْ عَمٍ) بِكسر الميم والتنوين ، ويجوز (وهو عَليْهِمْ عَمِيَ)
بإثبات الياء وَفَتْحِهَا ، ولا يجوز إسكان الياء وترك التنوين (1).
(أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ).
يعني من قسوة قلوبهم يُبعَدُ عنهم مَا يُتْلَى عليهم.
* * *
(وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ
سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ
مُرِيبٍ (45)
(وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ)
ْالكلمة وَعْدَهُمُ الساعة ، قال عزَّ وجلَّ : (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ)
* * *
(مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ
بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46)
(وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا).
أي : على نفسه.
ويدل على أن الكلمة ههنا الساعة قوله : (إلَيْه يُرَد عِلْمُ السَّاعَةِ).
وقوله - عزَّ وجلَّ - : (وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا
تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ
أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47)
(وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا).
نحو خروج الطلع من قشره.
(وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي).
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { والذين لاَ يُؤْمِنُونَ } فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها : أَنْ يكونَ مبتدأً
، و « في آذانِهم » خبرُه و « وَقْرٌ » فاعلٌ ، أو « في آذانهم » خبرٌ مقدم «
ووقرٌ » مبتدأٌ مؤخر ، والجملةُ خبرُ الأول . الثاني : أنَّ وَقْراً خبرُ مبتدأ
مضمرٍ . والجملةُ خبرُ الأولِ والتقديرُ : والذين لا يُؤْمنون هو وَقْرٌ في آذانهم
لَمَّا أَخْبر عنه بأنه هدىً لأولئك ، أخبر عنه أنه وَقْرٌ في آذان هؤلاءِ
وَعَمَىً عليهم . قال معناه الزمخشري . ولا حاجةَ إلى الإِضمار مع تمام الكلامِ
بدونه . الثالث : أن يكونَ { الذين لاَ يُؤْمِنُونَ } عطفاً على « الذين آمنوا » ،
و « وَقْرٌ » عطفٌ على « هدىً » وهذا من بابِ العطفِ على معمولَيْ عامِلَيْنِ .
وفيه مذاهبُ تقدَّم تحريرُها.
قوله : « عَمَىً » العامَّةُ على فتحِ الميم المنونةِ وهو مصدرٌ ل عَمِي يَعْمَى
نحو : صَدِي يَصْدَى صَدَىً ، وهَوِي يَهْوَى هَوَىً.
وقرأ ابن عباس وابن عمر وابن الزبير وجماعة « عَمٍ » بكسرِها منونةً اسماً منقوصاً
وُصِفَ بذلك مجازاً . وقرأ عمرو بن دينار ورُوِيت عن ابن عباس « عَمِيَ » بكسر
الميم وفتح الياء فعلاً ماضياً . وفي الضمير وجهان أظهرُهما : أنه للقرآن .
والثاني : أنه للوَقْر والمعنى يأباه ، و « في آذانهم » - إنْ لم تجعَلْه خبراً -
متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه حالٌ منه؛ لأنه صفةٌ في الأصلِ ولا يتعلَّق به ، لأنَّه مصدرٌ
، فلا يتقدَّم معمولُه عليه وقوله : { وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى } كذلك في قراءة
العامَّةِ ، وأمَّا في القراءتين المتقدمتين فتتعلَّق « على » بما بعده؛ إذ ليس
بمصدرٍ . اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(4/390)
المعنى
أين قولكم أن لي شركاء ، واللَّه - جل وعلا - واحدٌ لا شريك له.
وقد بين ذلك في قوله : (أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ
شَهِيدٍ).
(آذَناكَ) أَعْلَمْنَاكَ مَا مِنا من شهِيدٍ لَهُمْ.
* * *
(وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ
مَحِيصٍ (48)
(وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ).
أَي أيقنوا.
* * *
(لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ
فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49)
لا يَمَل الخير الذي يُصيبه ، وإذا اختبر بشيء من الشر يئس وقنط.
* * *
(وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ
لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ
إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50)
(وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ
لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي)
أي هذا واجب لي ، بعملي استحققته ، وهذا يعني به الكَافِرُونَ ، ودليل
ذلك قوله : (وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي
إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى).
يقول : إني لست أُوقِنُ بالبعث وقيام الساعة ، فإن كان الأمر على ذلك إن لي عنده
للحسنى.
* * *
(وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا
مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51)
ويقرأ (ناء) والمعنى مُتَقَارِب ، يقول : إذا كان فيْ نعمةٍ تباعَدَ عن ذكر اللَّه
وَدُعَائِه
(وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ)
وعريضٌ ههنا كبير ، وكذلك لو كان ذو دعاء طويل كانَ معناه كبيرٌ.
* * *
وقوله : (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى
يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى
كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)
أي سنريهم الأعلام التي تدل على التوحيد في الآفاق ، وواحدها أُفُق.
يقول : سنريهم آثار مَن مَضَى قبلهم مِمنْ كَذبَ الرسُلَ من الأمم وآثرَ خلقِ
اللَّه في كل البلاد
(وَفِي أَنْفُسِهِمْ) من أنهم كانوا نُطَفاً ثم عَلقَاً ثم مُضَغاً ثم عِظاماً
(4/391)
كُسِيَتْ
لحماً ، ثم نقلوا إل التمييز والعقل ، وذلك كله دَليل على أن الذي فعله واحدٌ ليس
كمثلِه شيء.
(أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ).
ويجوز " إنَّهُ " ، والقراءة " أنَّه " بالفتح.
وموضع (بِرَبِّكَ) في المعنى رفع.
المعنى أولم يكف رَبكَ
وموضع (أنه) نصب ، وإن شئتَ كانَ رفعاً.
المعنى في النصب أو لم يكف ربك بأنه على كل شيء شَهِيدٌ.
ومن رفع فعلى البدل ، المعنى أوَلم يكف أَنَ رَبَّكَ عَلَى كُلِ شَيء شَهِيدٌ ، أي
أوَلم يكفهم شهادة ربِّك.
ومعنى الكفاية ههنا أنه قَد بَين لهم ما فيه كفاية في الدلاَلَةِ على تَوْحِيدِهِ
وبينت
رُسُلُه (1).
* * *
(أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ
شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)
في شك.
(أَلَا) كلمة يبتدأ بها ينبَّهُ بِهَا المخاطب توكيداً يَدُلُّ عَلَى صحة
ما بعدها.
(أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ).
أي عالم بكل شيء علماً يحيطُ بما ظَهَر وَخَفِيَ.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ } فيه وجهان ، أحدهما : أن الباءَ مزيدةٌ في
الفاعلِ ، وهذا هو الراجحُ . والمفعولُ محذوفٌ أي : أو لم يَكْفِكَ ربُّكَ . وفي
قوله : { أَنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } وجهان ، أحدهما : أنه بدلٌ مِنْ «
بربك » فيكون مرفوعَ المحلِّ مجرورَ اللفظِ كمتبوعِه . والثاني : أنَّ الأصلَ
بأنَّه ، ثم حَذَفَ الجارَّ فجرى الخلافُ . الثاني من الوجهين الأولين : أَنْ يكون
« بربك » هو المفعولَ ، وأنه وما بعده هو الفاعلُ أي : أو لم يكْفِ ربُّك شهادتَه
. وقُرئ { أَنَّهُ على كُلِّ } بالكسر ، وهو على إضمارِ القولِ ، أو على الاستئناف
. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(4/392)
سُورَةُ
الشُّورَى
حم عسق ، ( مَكِّيَّة )
بسم اللّه الرحمن الرحيم
قوله عزَّ وجلَّ : (حم (1) عسق (2)
قد بيَّنَّا حروف الهجاء ، وجاء في التفسير أن هذه الحروفَ اسم من
أسماء اللَّه ، ورويت حم سق - بغير عين - والمصاحف فيها العين بائنة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ
اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3)
وقرئت يُوحَى ، وقرئت نُوحِي إِليك وإلى الذين من قبلك بِالنونِ (1).
وجاء في التفسير أن " حم عسق " قد أوحِيَتُ إِلى كل نَبِي قبلَ محمد -
صلى الله عليه - وعليهم أجمعين.
وموضع الكاف من " كذلك " نصبٌ.
المعنى مثل ذلك يوحى إِليك.
فمن قرأ يوحِي بالياء ، فاسم اللَّه عزَّ جل رفع بفعله وهو يُوحِي.
وَمَنْ قَرأَ . يُوحَى إليك فاسم اللَّه مبين عما لمَ يسم فاعله ، ومثل هذا من
الشعْرِ.
لِيُبْكَ يزيدٌ ضارِعٌ لخُصُومةٍ . . . ومُخْتبِطٌ مما تُطِيحُ الطَّوائِحُ
فبين من ينبغي أن يبكيه.
ومن قرأ نُوحي إليك بالتون جعل نوحي إخباراً عن اللَّه - عزَّ وجلَّ -.
ورفع (اللَّهُ) بالابتداء وجعل (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) خبراً عن (اللَّهُ) ، وإن
شاء كان
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { كَذَلِكَ يوحي } : القُراء على « يُوْحي » بالياء مِنْ أسفلَ مبنياً
للفاعلِ ، وهو اللَّهُ تعالى . « والعزيزُ الحكيمُ » نعتان . والكافُ منصوبةُ
المحلِّ : إمَّا نعتاً لمصدرٍ ، أو حالاً مِنْ ضميرِه أي : يوحي إيحاءً مثلَ ذلك
الإِيحاءِ . وقرأ ابنُ كثير - وتُروى عن أبي عمروٍ - « يُوْحَى » بفتحِ الحاءِ
مبنياً للمفعول . وفي القائمِ مَقامَ الفاعلِ ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : ضميرٌ
مستترٌ يعود على « كذلك » لأنه مبتدأٌ ، والتقدير : مثلُ ذلك الإِيحاءِ يُوْحَى هو
إليك . فمثلُ ذلك مبتدأٌ ، ويُوْحى هو إليك خبرُه . الثاني : أنَّ القائمَ مقامَ
الفاعلِ « إليك » ، والكافُ منصوبُ المحلِّ على الوجهَيْن المتقدِّمَيْن . الثالث
: أنَّ القائمَ [ مَقامَه ] الجملةُ مِنْ قولِه : « اللَّهُ العزيزُ » أي :
يُوْحَى إليك هذا اللفظُ . وأصولُ البَصْريين لا تساعِدُ عليه؛ لأنَّ الجملةَ لا
تكونُ فاعلةً ولا قائمةً مقامَه.
وقرأ أبو حيوةَ والأعمشُ وأبانٌ « نُوْحي » بالنون ، وهي موافقةٌ للعامَّةِ .
ويُحتمل أَنْ تكونَ الجملةُ مِنْ قولِه : « اللَّهُ العزيزُ » منصوبةَ المحلِّ
مفعولةً ب « نُوْحي » أي : نُوحي إليك هذا اللفظَ . إلاَّ أنَّ فيه حكايةَ الجملِ
بغيرِ القولِ الصريحِ . و « نُوْحي » على اختلافِ قراءاتِه يجوزُ أَنْ يكونَ على
بابه من الحالِ أو الاستقبالِ ، فيتعلَّقَ قولُه : { وَإِلَى الذين مِن قَبْلِكَ }
بمحذوفٍ لتعذُّرِ ذلك ، تقديرُه : وأوحَى إلى الذين ، وأَنْ يكونَ بمعنى الماضي .
وجيْءَ به على صورةِ المضارعِ لغَرَضٍ وهو تصويرُ الحالِ.
قوله : « اللَّهُ العزيزُ » يجوزُ أَنْ يرتَفِعَ بالفاعليةِ في قراءةِ العامَّةِ ،
وأَنْ يرتفعَ بفعلٍ مضمرٍ في قراءةِ ابنِ كثير ، كأنه قيل : مَنْ يُوْحيه؟ فقيل :
اللَّه ، ك { يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال } [ النور : 36 ] ، وقوله :
3964 لِيُبْكَ يزيدُ ضارِعٌ . . . . . . . . . . . .
وقد مرَّ ، وأَنْ يرتفعَ بالابتداءِ ، وما بعدَه خبرُه ، والجملةُ قائمةٌ مَقامَ
الفاعلِ على ما مَرَّ ، وأَنْ يكون « العزيزُ الحكيمُ » خبَريْن أو نعتَيْن .
والجملةُ مِنْ قولِه : { لَهُ مَا فِي السماوات } خبرٌ أولُ أو ثانٍ على حَسَبِ ما
تقدَّم في « العزيزُ الحكيمُ ».
وجوَّز أبو البقاءِ أَنْ يكونَ « العزيز » مبتدأً و « الحكيمُ » خبرَه ، أو نعتَه
، و { لَهُ مَا فِي السماوات } خبرَه . وفيه نظرٌ؛ إذ الظاهرُ تَبَعيَّتُهما
للجلالة . وأنت إذا قلتَ : « جاء زيدٌ العاقلُ الفاضلُ » لا تجعلُ العاقل مرفوعاً
على الابتداء . اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(4/393)
(الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ) صفة للَّهِ - عزَّ وجلَّ - يرتفع كما يرتفع اسم اللَّه ، ويكون
الخبر (لَهُ مَا في السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأرْضِ).
* * *
قوله : (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ
يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا
إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5)
(تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَنْفَطِرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ)
وقرئت مِمَّنْ فَوْقَهُن ، وقرئت (يَتَفَطَّرْنَ) ، ومعنى يَنْفَطِرنَ ويتفطرن
يَنْشَقِقْن ، ويَتَشَققْنَ ، فالمعنى - واللَّه أعلم - أي تكاد السَّمَاوَاتُ
ينفطرن من
فوقهن لعظمة اللَّه. لأنه لما قال : (وَهُوَ العَلِيُّ العَظِيمُ).
قال : تكاد السَّمَاوَات ينفطِرْنَ لعَظمِتِه ، وكذلك - ينفطرن ممن فوقَهِن ، أي
من عظمة من فوقَهُن.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ
وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ).
مَعنَى (يُسَبِّحُونَ) يعظمون اللَّه وينزهونه عن السوء
(وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ) من المؤمنين.
ولا يجوز أن يكون يَسْتَغْفِرُونَ لكل من في الأرض ، لأن الله تعالى قال فِي
الكفار : (أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّه وَالمَلَائِكَةِ والنَّاسِ
أجْمَعِينَ)
ففي هذا دليل على أن الملائكة إنما يستغفرون للمؤمنين ، ويدل
على ذلك قوله في سورة المُؤمِن : (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا
وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا
لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا
رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ
(7)
(أُمَّ الْقُرَى) مكة ، وموضع (وَمَنْ حَوْلَهَا) نصب.
المعنى لتنذر أهل أم القرى ومن حولها ، لأن البلد لا يعقل.
ومثل هذا (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا).
وقوله : (وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ).
أي يوم يبعث الناس جَميعاً ، ثم أَعلم مَا حَالُهم في ذَلِكَ اليوم فقال :
(فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ).
(4/394)
وقوله
جلَّ وعزَّ : (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ
يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ
وَلَا نَصِيرٍ (8)
ارتفع (الظَّالِمُونَ) بالابتداء.
وقوله : (يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ
عَذَابًا أَلِيمًا (31).
الفصل بين هذا والأول أن أَعد لهم فِعل فنصب (الظالمين) بفعل مضمر يفسره
ما ظهر ، المعنى وَأوعد الظالمين أعد لهم عذاباً أليماً.
* * *
وقوله : (فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ
أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ
شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)
(جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا).
أي خلق الذكَرَ والأنْثَى مِنَ الحَيَوانِ كُلِّهِ.
وقوله : (يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ).
أي يُكَثركم بِجَعْلِهِ منكم وَمنَ الأنْعَامِ أزواجاً.
وقوله : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ).
هذه الكاف مؤكَدة ، والمعنى ليس مثله شيء ، ولا يجوز أن يقال :
المعنى مثلَ مثلِهِ شيء ، لأن من قال هذا فقد أثبت المثل للَّهِ تعالى عن ذلك
عُلُوًّا كَبيراً (1).
* * *
قوله : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي
أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ
أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا
تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ
مَنْ يُنِيبُ (13)
روي في التفسير أن أول من أتى بتحريم البنات والأخَوَات والأمهات نوح.
(وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى
وَعِيسَى).
أي وشرع لكم ما وصى به إبراهيم وموسى وعيسى.
وقوله عزَّ وَجَل : (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ).
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { فَاطِرُ } : العامَّةُ على رفعِه خبراً ل « ذلكم » أو نعتاً ل « ربِّي »
على تَمَحُّضِ إضافتِه . و « عليه توكَّلْتُ » معترضٌ على هذا ، أو مبتدأ ، وخبرُه
« جَعَلَ لكم » أو خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي : هو . وزيد بن علي : « فاطرِ » بالجرِّ نعتاً
للجلالةِ في قوله : « إلى اللَّهِ » ، وما بينهما اعتراضٌ أو بدلاً مِن الهاء في «
عليه » أو « إليه ».
وقال مكيٌّ : « وأجاز الكسائيُّ النصبَ على النداء » . وقال غيرُه : على المدح .
ويجوزُ في الكلامِ الخفضُ على البدلِ من الهاءِ في « عليه » . قلت : قد قرأ بالخفضِ
زيدُ بن علي . وأمَّا نصبُه فلم أحفَظْه قراءةً.
قوله : « يَذْرَؤُكُمْ فيه » يجوزُ أَنْ تكونَ « في » على بابِها . والمعنى :
يُكَثِّرُكُمْ في هذا التدبير ، وهو أنْ جَعَلَ للناسِ والأنعام أزواجاً حتى كان
بين ذُكورِهم وإناثِهم التوالُدُ . والضميرُ في « يَذرَؤُكم » للمخاطبين والأنعامِ
. وغَلَّب العُقلاءَ على غيرِهم الغُيَّبِ . قال الزمخشري : « وهي/ من الأحكامِ
ذاتِ العلَّتَيْن » . قال الشيخ : « وهو اصطلاحٌ غريبٌ ، ويعني : أنَّ الخطابَ
يُغَلَّبُ على الغَيْبة إذا اجتمعا » . ثم قال الزمخشريُّ : « فإنْ قلت : ما معنى
يَذْرَؤُكم في هذا التدبيرِ؟ وهلا قيل يَذْرَؤُكم به . قلت : جُعِل هذا التدبيرُ
كالمَنْبَع والمَعدِنِ للبَثِّ والتكثيرِ . ألا تَراك تقول : للحَيَوان في خلق
الأزواج تكثير ، كما قال تعالى : { وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ } [ البقرة : 179
] . والثاني : أنها للسببية كالباء أي : يُكَثِّرُكم بسبِبه . والضميرُ يعودُ
للجَعْلِ أو للمخلوقِ ».
قوله : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } في هذه الآيةِ أوجهٌ ، أحدُها - وهو المشهورُ
عند المُعْرِبين - أنَّ الكافَ زائدةٌ في خبرِ ليس ، و « شيءٌ » اسمُها . والتقدير
: ليس شيءٌ مثلَه . قالوا : ولولا ادِّعاءُ زيادتِها لَلَزِمَ أَنْ يكونَ له
مِثْلٌ . وهو مُحالٌ؛ إذ يَصيرُ التقديرُ على أصالةِ الكاف : ليس مثلَ مثلِه شيءٌ
، فنفى المماثلةَ عن مثلِه ، فثبَتَ أنَّ له مثْلاً ، لا مثلَ لذلك المَثَلِ ،
وهذا مُحالٌ تَعالى اللَّه عن ذلك.
وقال أبو البقاء : « ولو لم تكنْ زائدةً لأَفْضَى ذلك إلى المُحال؛ إذ كان يكونُ
المعنى : أنَّ له مِثْلاً وليس لمثلِه مِثْلٌ . وفي ذلك تناقضٌ؛ لأنَّه إذا كان له
مِثْلٌ فلِمِثْله مِثْلٌ وهو هو ، مع أنَّ إثباتَ المِثْلِ لله تعالى مُحالٌ » .
قلت : وهذه طريقةٌ غريبةٌ في تقريرِ الزيادةِ ، وهي طريقةٌ حسنةٌ فيها حُسْنُ
صناعةٍ.
والثاني : أنَّ مِثْلاً هي الزائدةُ كزيادتِها في قوله تعالى : { بِمِثْلِ مَآ
آمَنْتُمْ بِهِ } [ البقرة : 137 ] . قال الطبري : « كما زِيْدَتِ الكافُ في قوله
:
3966 وصَالياتٍ كَكَما يُؤَثْفَيْنْ . . .
وقولِ الآخر :
3967 - فصُيِّروا مثلَ كعَصْفٍ مَأْكُوْلْ . . . وهذا ليس بجيدٍ؛ لأنَّ زيادةَ
الأسماءِ ليسَتْ بجائزةٍ . وأيضاً يصيرُ التقديرُ ليس ك هو شيءٌ ، ودخولُ الكافِ
على الضمائرِ لا يجوزُ إلاَّ في شعرٍ.
الثالث : أنَّ العربَ تقولُ « مثلُكَ لا يَفْعَلُ كذا » يعْنُون المخاطبَ نفسَه؛
لأنَّهم يُريدون المبالغةَ في نَفْيِ الوصفِ عن المخاطب ، فينفونَها في اللفظِ عن
مثلِه ، فَيَثْبُتُ انتفاؤُها عنه بدليلِها . ومنه قول الشاعر :
3968 على مِثْلِ ليلى يَقْتُل المرءُ نفسَه . . . وإنْ باتَ مِنْ ليلى على اليأس
طاويا
وقال أوس بن حجر :
3969 ليس كمثلِ الفتى زُهَيْرٍ . . . خَلْقٌ يُوازِيه في الفضائلِ
وقال آخر :
3970 سَعْدُ بنُ زيدٍ إذا أبصرْتَ فضلَهُمُ . . . فما كمِثْلِهِمْ في الناسِ مِنْ
أَحَدِ
قال ابن قتيبة : « العرب تُقيم المِثْلَ مُقامَ النفسِ فتقول : مثلي لا يُقال له
هذا ، أي : أنا لا يُقال لي » . قيل : و [ نظيرُ ] نسبةُ المِثْل إلى مَنْ لا
مِثْل له قولُك : فلانٌ يدُه مبسوطةٌ تريد أنه جَوادٌ ، ولا نَظَرَ في الحقيقة إلى
اليد ، حتى تقولُ ذلك لمَنْ لا يَدَ له كقولِه تعالى : { بَلْ يَدَاهُ
مَبْسُوطَتَانِ } [ المائدة : 64 ].
الرابع : أَنْ يُرادَ بالمِثْلِ الصفةُ ، وذلك أنَّ المِثْلَ بمعنى المَثَلَ
والمَثَلُ الصفةُ ، كقولِه تعالى : { مَّثَلُ الجنة } [ الرعد : 35 ] فيكونُ
المعنى : ليس مِثْلُ صفتِه تعالى شيءٌ من الصفات التي لغيرِه ، وهو مَحْمَلٌ سهلٌ
. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(4/395)
تفسير
قوله : (ما وَصى بِهِ إبْرَاهِيمَ) - وموضع " أن " يجوز أن يكونَ
نَصْباً
وَرَفْعاً وَجَرَّا.
فالنصْبُ على معنى شرع لكم أن أقيموا الدِّينَ.
والرفع على معنى هو أن أقيموا الدِّينَ ، والجر على البدل من الباء ، والجر
أَبْعَدُ هذه الوُجُوه ، وجائز أن يكونَ أن أقيموا الدِّينَ تفسيراً لما وصى به
نوحاً ولقوله (والذي أوحينا إليك) ولقوله : (وما وَصيْنَا بِهِ إبرَاهِيم).
فيكون المعنى : شرع لكم وَلمَنْ قبلكم إقامة الدِّينِ وَتَركَ الفرقة ، وشرع
الاجتماع على اتباع الرسُلِ
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ
الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى
أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ
بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14)
أي وما تفرق أهل الكتاب إلا عَنْ علْم بأن الفرقة ضَلاَلَةٌ ولكنهم فعلوا
ذلك بغياً أي للبغي.
وقوله : (وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى
لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ).
أي لَجُوزُوا بأعمالهم ، والكلمة هي تأجيله الساعة ، يدل على ذلك
قوله : (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ).
* * *
وقوله : (فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ
أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ
لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ
أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا
وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15)
(فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ).
معناه فإلى ذلك فادع واستقم أي إلى إقامَةِ الدِّين (فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا
أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ
مِنْ كِتَابٍ).
أي آمَنْتُ بكتب اللَّه كُلِّهَا ، لأن الذين تفرقوا آمنوا ببعض الكتب وكفروا
ببعض.
* * *
وقوله : (اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا
يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17)
(الْمِيزَان) العدل
(وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ).
إنما جاز (قَرِيبٌ) لأن تأنيث الساعة غير تأنيث حقيقي ، وهو بمعنى لعل
(4/396)
البعث
قريب ، ويجوز أن يكون على معنى لعَل مجيء السَّاعَةِ قريب.
(يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا
مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ
يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (18)
أي يستعجل بها من يظن أنه غير مبعوث.
وقوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا).
لأنهم يعلمون أنهم مبعوثون مُحَاسبُون.
(أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ).
أي الذين تدخلهم المرية والشك في الساعة ، فيمارون فيها ويجحدون
كونها (لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ) ، لأنهم لو فكروا لعلموا أن الذي أنشاهم وخلقهم من
تراب ثم من نطفة ثم من عَلَقةٍ إلى أن بَلَغُوا مَبَالِغَهُمْ ، قادر على إنشائهم
وبعْثِهِمْ.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي
حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي
الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20)
جاء في التفسير أن معناه مَنْ كان يُرِيدُ عمل الآخرة.
فالمعْنَى - واللَّه أعلم - أنه من كان يريد جَزاءَ عمل الآخرة نزِدْ له في حرثه ،
أي نوفقه ، ونضاعف له الحسنات.
ومن كان يُريدُ حرث الدنيا ، أي مَنْ كَانَ إنما يقْصِدُ إلى الحظِّ من
الدنيا وهو غير مؤمن بالآخرة نؤته من الدنيا أي نرزُقه من الدنيا لا أنه يُعطَى
كل ما يريدُهُ وإذا لم يؤمن بالآخرة فلا نصيب له في الخير الذي يصل إليه من
عمل الآخرة.
* * *
وقوله : (تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ
مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22)
أي تراهم مشفقين من ثواب ما كسبوا ، وثواب ما كسبوا النار.
(وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ) أي وثواب كسْبِهِمْ وَاقِعٌ بِهِمْ .
(4/397)
(وَالَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا
يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ).
أي : والظالِمُونَ لهم النار ، والمؤمنون لهم الجنة.
* * *
وقوله : (ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا
الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا
حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23)
يقرأ : يُبَشِّرُ ويَبْشرُ ، وُيبْشِرُ
وقوله : (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي
الْقُرْبَى).
أي إلا أن تودوني في قرابتي.
وجاء في التفسير عن ابن عباس رحمه الله أنه قال : ليس حي من قريش إلا وللنبي - صلى
الله عليه وسلم - فيه قرابة ، وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لقريش :
أنتم قرابتي وأول من أجابني وأَطَاعَنِي ، وروي أن الأنصار أتت النبي - صلى الله
عليه وسلم - فقالت : قد هدانا اللَّه بك وأنْتَ ابن أختنا ، وأتوه بنفقة يستعين
بها على ما ينوبه ، فأنزل اللَّه عزَّ وجلَّ : (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ
أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى).
قال أبو إسحاق : وَنَصْبُ (الْمَوَدَّةَ) أن يكون بمعنى استثناء ليس من الأول.
لا على معنى أسالكم عليه أجراً المودة في القُرْبَى ، لأن الأنبياء صلوات اللَّه
عليهم لا يسألون أجراً على تبليغ الرسالة ، والمعنى - واللَّه أعلم - ولكنني
أذكركم الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى.
قوله : (وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا).
أي من يعمل حسنة نضاعِفْها له (1).
(إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ).
غفور للذنوب قبول للتوبة مثيب عليها.
* * *
وقوله - عزَّ وجلَّ - : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ
يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ
الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (24)
__________
(1) قال السَّمين :
قوله « إلاَّ المودَّةَ » فيها قولان ، أحدهما : أنَّها استثناءٌ منقطعٌ؛ إذ
ليسَتْ من جنسِ الأَجْرِ . والثاني : أنه متصلٌ أي : لا أسألُكم عليه أجراً إلاَّ
هذا . وهو أَنْ تَوَدُّوا أهلَ قرابتي ولم يكنْ هذا أجراً في الحقيقةِ؛ لأنَّ
قرابتَه قرابتُهم فكانت صلتُهم لازمةً لهم في المروءةِ ، قاله الزمخشري . وقال
أيضاً : « فإنْ قلت : هلاَّ قيل : إلاَّ مودةَ القُرْبَى ، أو إلاَّ المودةَ
للقُرْبى . قلت : جُعِلوا مكاناً للمودَّةِ ومَقَرًّا لها كقولِك : لي في آل فلان
مَوَدَّة ، وليست » في « صلةً للمودةِ كاللامِ إذا قلتَ : إلاَّ المودةَ للقربى ،
إنما هي متعلقةٌ بمحذوفٍ تَعَلُّقَ الظَرفِ به في قولك : » المالُ في الكيس « ،
وتقديرُه : إلاَّ المودةَ ثابتةً في القُرْبَى ومتمكنةً فيها » . قلت : وأحسنُ ما
سَمِعْتُ في معنى هذه الآيةِ حكايةُ الشعبيِّ قال : أَكْثَرَ الناسُ علينا في هذه
الآيةِ فكتَبْنا إلى ابن عباس نسألُه عنها . فكتب : أنَّ رسولَ الله صلَّى الله
عليه وسلَّم كان أوسطَ الناسِ في قريش ، ليس بطنٌ مِنْ بطونهم إلاَّ قد وَلَدَه ،
فقال الله تعالى : قل لا أسألُكم عليه أَجْراً إلاَّ أن تَوَدُّوني في قَرابتي
منكم فارْعَوْا ما بيني وبينكم فصَدِّقوني.
وقال أبو البقاء : « وقيل : متصلٌ أي/ : لا أسألكم شيئاً إلاَّ المودةَ » . قلت :
وفي تأويلِه متصلاً بما ذَكَر ، نظرٌ لمجيئه ب « شيء » الذي هو عامٌّ ، وما مِنْ
استثناءٍ منقطع إلاَّ ويمكن تأويلُه بما ذَكَر ، ألا ترى إلى قولِك : « ما جاءني
أحدٌ إلاَّ حمارٌ » أنه يَصِحُّ : ما جاءني شيءٌ إلاَّ حماراً.
وقرأ زيد بن علي « مَوَدَّة » دون ألفٍ ولام.
قوله : { نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً } العامَّةُ على « نَزِدْ » بالنون للعظمة .
وزيد ابن علي وعبدُ الوارث عن أبي عمروٍ « يَزِدْ » بالياءِ مِنْ تحتُ أي : يَزِدِ
اللَّهُ . والعامَّةُ على « حُسْناً » بالتنوين مصدراً على فُعْل نحو : شُكْر .
وهو مفعولٌ به . وعبدُ الوارث عن أبي عمرو « حُسْنى » بألفِ التأنيث على وزنِ
بُشْرَى ورُجْعَى وهو مفعولٌ به أيضاً . ويجوز أَنْ يكونَ صفةً ك فُضْلَى ، فيكونَ
وصفاً لمحذوف أي خَصْلَةً حسنى . اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(4/398)
معناه
فإن يشأ اللَّه يُنْسِكَ ما أتاك ، كذلك قال قتادة.
ويجوز (فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ) يربط على قلبك بالصبر على
أذاهم وعلى قولهم (افترى على اللَّه كَذِباً).
(ويمحو اللَّه الباطل) ، الوقوف عليها (ويمحوا) بواو وألف لأن المعنى واللَّه يمحو
الباطل على كل حال ، وكتبت في المصحف بغير واو لأن الواو تسقط في اللفظ لالتقاء
السَّاكنين ، فكتبت على الوصل.
ولفظ الواو ثابت ، والدليل عليه (ويحق الحق بكلماته) ، أي ويمحو اللَّه الشرك ويحق
الحق بما أنزله من كتابه على لسان نبيِّهِ عليه السلام.
* * *
وقوله : (وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ
مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (26)
المعنى ويجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات.
* * *
قوله عزَّ وجلَّ : (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا
وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28)
ويقرأ (قَنِطُوا) بكسر النون ، يقال قَنط يقنِطُ ، وقَنِطَ يَقْنَطُ إذا - يئس.
ويروى أن عمر قيل له قد أَجْدَبَتِ الأرض وَقَنِط الناسُ فقال : مُطِرُوا
إذَنْ ، لهذه الآية.
* * *
وقوله : (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو
عَنْ كَثِيرٍ (30)
(وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا . . . ).
وهي في مصحف أهل المدينة (بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) - بغَيرِ فَاء - ، وكذلك
يقرأونها خلا أَبَا جَعفر فإنه يثبت الفاء وهي في مصاحف أهل العراق بالفاء.
وكذلك قراءتهم ، وهو في العربية أجود لأن الفاء مجازاة جواب الشرط.
المعنى ما تُصِبْكُمْ من مُصِيبَةٍ فبما كسبت أيديكم.
وقرئت (ويعْلَمُ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ) والنصب على إضمار أن (1) ، لأن قبلها
جزاء ، تقول : ما تصنع أصنع مثله وأُكْرِمَكَ ، وإن شئت قلت وَأُكْرِمُكَ على
وَأَنا أكرمك ، وإن شئت : وَأُكْرِمْكَ جزماً.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { وَيَعْلَمَ الذين يُجَادِلُونَ } : قرأ نافعٌ وابنُ عامر برفعِه .
والباقون بنصبِه . وقُرِئ بجزمِه أيضاً . فأمَّا الرفعُ فهو واضحٌ جداً ، وهو
يحتملُ وجهين : الاستئنافَ بجملةٍ فعليةٍ ، والاستئنافَ بجملةٍ اسميةٍ ،
فتُقَدِّرُ قبل الفعل مبتدأً أي : وهو يعلمُ الذين ، فالذين على الأول فاعلٌ ،
وعلى الثاني مفعولٌ . فأمَّا قراءةُ النصبِ ففيها أوجهٌ ، أحدُها : قال الزجَّاج :
« على الصَّرْف » . قال : « ومعنى الصرفِ صَرْفُ العطف عن اللفظ إلى العطفِ على المعنى
» . قال : « وذلك أنَّه لَمَّا لم يَحْسُنْ عطفُ » ويعلَمْ « مجزوماً على ما قبلَه
إذ يكونُ المعنى : إنْ يَشَأْ/ يَعْلَمْ ، عُدِل إلى العطف على مصدرِ الفعلِ الذي
قبلَه . ولا يتأتَّى ذلك إلاَّ بإضمار » أنْ « ليكونَ مع الفعلِ في تأويلِ اسم ».
الثاني : قولُ الكوفيين أنه منصوبٌ بواوِ الصرف . يَعْنُون أنَّ الواوَ نفسَها هي
الناصبةُ لا بإضمارِ « أنْ » ، وتقدَّم معنى الصرف.
الثالث : قال الفارسيُّ - ونقله الزمخشري عن الزجاج - إن النصب على إضمار « أنْ »؛
لأنَّ قبلها جزاءً تقول : « ما تصنعْ أصنعْ وأكرمَك » وإنْ شِئْتَ : وأكرمُك ، على
وأنا أكرِمُك ، وإنْ شِئْتَ « وأكرمْك » جزْماً . قال الزمخشري : « وفيه نظرٌ؛
لِما أَوْردَه سيبويه في كتابه » قال : « واعلَمْ أنَّ النصبَ بالواوِ والفاء في
قوله : » إنْ تَأْتِني آتِك وأعطيكَ « ضعيفٌ ، وهو نحوٌ مِنْ قولِه :
3978 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وأَلْحَقُ بالحجازِ
فَأَسْتريحا
فهذا لا يجوزُ ، لأنه ليس بحَدِّ الكلامِ ولا وجهِه ، إلاَّ أنه في الجزاء صار
أقوى قليلاً؛ لأنه ليس بواجبٍ أنَّه يفعلُ ، إلاَّ أَنْ يكونَ من الأولِ فِعْلٌ ،
فلمَّا ضارَعَ الذي لا يُوْجِبُهُ كالاستفهام ونحوِه أجازوا فيه هذا على ضَعْفِه »
. قال الزمخشري : « ولا يجوزُ أَنْ تُحْمَلَ القراءةُ المستفيضةُ على وجهٍ ليس
بحَدِّ الكلامِ ولا وجهِه ، ولو كانَتْ من هذا البابِ لَما أَخْلَى سيبويه منها
كتابَه ، وقد ذَكَرَ نظائرَها مِن الآياتِ المُشْكِلة ».
الرابع : أَنْ ينتصِبَ عطفاً على تعليلٍ محذوفٍ تقديرُه : لينتقمَ منهم ويعلمَ
الذين ، ونحوُه في العطفِ على التعليلِ المحذوفِ غيرُ عزيزٍ في القرآن . ومنه : {
وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلْنَّاسِ } [ مريم : 21 ] وخَلَق اللَّهُ السماواتِ
والأرضَ بالحقِّ ، ولِتُجْزَى « قاله الزمخشري . قال الشيخ : » ويَبْعُدُ تقديرُه
: لِيَنْتَقِمَ منهم؛ لأنه تَرَتَّبَ على الشرطِ إهلاكُ قومٍ ونجاةُ قومٍ فلا
يَحْسُنُ لينتَقِمَ منهم . وأمَّا الآيتان فيمكنُ أَنْ تكونَ اللامُ متعلقةً بفعلٍ
محذوفٍ تقديرُه : ولنجعلَه آيةً للناسِ فَعَلْنا ذلك ، ولُتْجزَى كلُّ نفسٍ
فَعَلْنا ذلك ، وهو - كثيراً - يُقَدِّرُ هذا الفعل مع هذه اللامِ إذا لم يكنْ
فعلٌ يتعلَّقُ به « . قلت : بل يَحْسُنُ تقديرُ » لينتقمَ « لأنَّه يعودُ في
المعنى على إهلاكِ قومٍ المترتبِ على الشرط.
وأمَّا الجزمُ فقال الزمخشري : » فإنْ قلتَ : كيف يَصِحُّ المعنى على جزم «
ويعلَمْ »؟ قلت : كأنه قيل : إنْ يَشَأْ يَجْمَعْ بين ثلاثةِ أمور : إهلاكِ قومٍ ،
ونجاةِ قومٍ ، وتحذيرِ آخرين « . وإذا قُرِئَ بالجزم فتُكْسَرُ الميمُ لالتقاءِ
الساكنين. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(4/399)
وروي
عن علي رضي اللَّه عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : إن اللَّه أكرم
من أن يَثْنيَ على عبده العُقوبَةَ ، أي إذا أصابته في الدنيا مصيبة بما كسبت يداه
لم يثن عليه العقوبة في الآخرة.
وأما من قرأ : (وما أصابكم مِنْ مُصِيبَةٍ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكم ويعفو عن كثير)
أي لا يجازى على كثير مما كسبت أيديكم قي الدنيا ، وجائز أن يكون
(يَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) فلا يجازى عليه في الدنيا ولا في الآخرة.
ومعنى : (مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ).
ما لهم من مَعْدِلٍ ، ولا مِنْ مَنجى ، يقال حاص عنه إذا تنحى ، ويقال
حاض عنه في معنى حاص ، ولا يجوز أن يقرأ ما لهم من محيض ، وأن كان
المعنى واحداً.
فأمَّا موضع (الذين) في قوله : (وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ) فيجوز أن يكون نصباً ، ويجوز أن يكون رفعاً.
فمن نصب فعلي معنى ويجيب اللَّه الذين آمنوا وعملوا الصالحات.
ومن رفع فعلى معنى يستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات للَّهِ - عزَّ وجلَّ - أي
لما يدعوهم اللَّه إليه.
* * *
وقوله : (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا
مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37)
موضع (الَّذِينَ) خفض صفة لقوله (لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ
يَتَوَكَّلُونَ).
و (كَبَائِرَ الْإِثْمِ) ، قال بعضهم كل ما وعد اللَّه عليه النار فهو كبيرة.
وقيل الكبائر من أول سورة النساء من قوله : (وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ
بِالطَّيِّبِ)
إلى قوله : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ
عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ).
وقد قيل : الكبائر الشرك باللَّهِ ، وقتل النفس التي حرم اللَّه ، وقذف المحصنات ،
وعقوق الوالدين ، وأكل مال اليتيم ، والفرار من الزحف ، واستحلال الحرام.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ
وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38)
(4/400)
(الذين)
في موضع خفض أيضاً ، على معنى وما عند اللَّهِ خَيْرٌ وأبقى
للذين آمنوا وللذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة.
وقوله : (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ).
أي لا ينفردون برأي حتى يجتمعوا عليه ، وقيل إنه ما تشاور قوم قَط - إلا
هُدُوا لأحسن ما يحضرهم.
* * *
(وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39)
جاء في التفسير أنهم كانوا يكرهون أَنْ يَذلوا أَنْفُسَهُم . فيجترئ عليهم
الفساق.
وروي أنها نزلت في أبي بكر الصديق.
فإن قال قائل : أهم محمودون على انتصارهِم أم لا ؟
قيل هم محمودون ؛ لأن من انتصر فأخذ بحقه ولم يجاوز في ذلك ما أمر اللَّه به فلم
يُسْرِفْ في القتل إن كان ولي دم ولا في قصاص فهو مطيع للَّهِ عزَّ وجلَّ ، وكل
مطيع محمود ، وكذلك من اجتنب المعاصي فهو محمود ، ودليل ذلك قوله : (إِنْ
تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ
وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31).
* * *
وقوله : (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ
عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40)
فالأولى (سيئة) في اللفظ والمعنى ، والثانية (سيئة) في اللفظ ، عاملها ليس
بمسيء ، ولكنها سميت سيئة لأنها مجازاة لسوء فإنما يجازي السوء بمثله.
والمجازاة به غيْرُ سيّئة توجب ذَنْباً ، وَإنَّمَا قيل لها سيئة ليعلم أَن
الجَارِحَ
والجاني يُقْتَص مِنْهُ بمقدار جنايته.
وهذا مثل قوله تعالى : (فَمِن اعتدى عليكم فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا
اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) تأويله كافئوه بمثله ، وعلى هذا كلام العرب.
* * *
وقوله : (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)
(4/401)
أي
الصابر يؤتى بصبره ثواباً فكل من زادت رغبته في الثواب فهو أتمُّ
عَزْم ، وقد قال بعض أهل اللغة إن معنى قوله تعالى : (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا
أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) أن منه القصاصَ والعفوَ.
فالعفو أحسنه (1).
* * *
وقوله تعالى : (وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ
يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ
الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ
الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ (45)
(يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ).
يعني ينظرون إلى النار من طرف خَفِي ، قال بعضهم إنهم يُحْشرونَ
عُمْياً فيرونَ النارَ بِقُلوِبهِمْ إذا عُرِضُوا عَلَيْها ، وقيل ينظرونَ إليها
مُسَارَقَة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ
لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ
مِنْ نَكِيرٍ (47)
(مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ).
أي ليس لكم مَخلَصٌ من العَذَابِ ، ولا تَقْدِرُون أن تنكروا ما تقفون
عليه مِنْ ذُنُوبَكُمْ ولا ما يَنْزِلُ بِكُمْ مِنَ العَذَابِ.
* * *
وقوله : (يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49)
أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا
إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50)
أي ويجعل ما يهبه من الولد ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا.
فمعنى (يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا) أي يُقْرِنُهُمْ ، وكل اثنين يقترن
أحدُهما بالآخر فهما زوجان ، كل واحد منهما يقال له زوج.
تقول : عندي زوجان من الخفاف ، يعني أن عندك من العدد
اثنين أي خُفيْن ، وكذلك المرأة وزوجها زوجان (2).
وقوله : (وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا).
أي يجعل المرأة عقيماً ، وهي - التي لا تَلِدُ ، وكذلك رَجُلُ عقيم أيْضاً لا
يولد له ، وكذلك الريح العقيم التي لا يكون عنها مطر وَلَا خيْر.
* * *
وقوله : (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ
وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ
عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51)
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { وَلَمَن صَبَرَ } : الكلامُ في اللام بَيِّنٌ كما تقدَّم . فإنْ جَعَلْتَها
شرطيةً ف « إنَّ » جوابُ القسمِ المقدَّر ، وحُذِفَ جوابُ الشرطِ للدلالةِ عليه .
وإنْ كانَتْ موصولةً كان « إنَّ ذلك » هو الخبرُ . وجَوَّز الحوفي وغيرُه أن تكونَ
« مَنْ » شرطيةً ، وأنَّ ذلك جوابُها على حَذْفِ الفاء على حَدِّ حَذْفِها في
البيت المشهور :
3979 مَنْ يَفْعَلِ الحَسَناتِ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. .
وفي الرابط قولان ، أحدُهما : هو اسمُ الإِشارةِ إذا أُريد به المبتدأُ ، ويكون
حينئذٍ على حَذْفِ مضافٍ ، تقديره : إنَّ ذلك لَمِنْ ذوي عَزْمِ الأمور والثاني :
أنه ضميرٌ محذوفٌ تقديرُه : لمِنْ عَزْمِ الأمورِ منه ، أوله . وقولُه : « ولَمَنْ
صَبَرَ » عطفٌ على قولِه : « ولَمَنِ انتصَرَ » . والجملةُ مِنْ قولِه : « إنما
السبيلُ » اعتراضٌ . اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(2) قال السَّمين :
قوله : { ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً } : حالٌ ، وهي حالٌ لازمةٌ ، وسَوَّغ مجيْئَها
كذلك : أنَّها بعدما يجوزُ أَنْ يكونَ الأمرُ على خلافه؛ لأنَّ معنى « يُزَوِّجُهم
» يَقْرِنُهم . قال الزمخشري : « فإنْ قلتَ : لِمَ قَدَّم الإِناثَ أولاً على
الذكورِ مع تقديمِهم عليهنَّ ، ثم رَجَعَ فقدَّمَهم؟ ولِمَ عَرَّف الذكورَ بعدما
نَكَّر الإِناثَ؟ قلت : لأنَّه ذكر البلاءَ في آخر الآية الأولى ، وكفرانَ
الإِنسان بنسيانِه الرحمةَ السابقةَ ، ثم عَقَّبَ بذِكْر مُلْكِه ومشيئتِه وذكرَ
قسمةَ الأولادِ فقدَّم الإِناثَ؛ لأنَّ سياق الكلامِ أنه فاعلُ ما يشاءُ لا ما
يشاؤه الإِنسانُ ، فكان ذِكْرُ الإِناثِ التي مِنْ جملة ما لا يَشاؤه الإِنسانُ
أهمَّ ، والأهمُّ واجبُ التقديمِ ، ولِيَليَ الجنسَ الذي كانت العربُ تَعُدُّه
بلاءً ، ذكر البلاء ، وأخَّر الذكورَ ، فلمَّا أَخّرهم تدارَك تأخيرَهم وهم
أَحِقَّاءُ بالتقديم بتعريفَهم؛ لأنَّ تعريفَهم فيه تَنْويهٌ وتشهيرٌ ، كأنه قال :
ويَهَبَ لمَنْ يشاءُ الفرسانَ الأعلامَ المذكورين الذين لا يَخْفَوْن عليكم ، ثم
أعطى بعد ذلك كلا الجنسَيْن حقَّه من التقديمِ والتأخيرِ ، وعَرَّفَ أنَّ تقديمَهن
لم يكُنْ لتقدُّمِهنَّ ولكنْ لمقتضٍ آخر ، فقال : ذُكْراناً وإناثاً ، كما قال : {
إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وأنثى } [ الحجرات : 13 ] { فَجَعَلَ مِنْهُ
الزوجين الذكر والأنثى } [ القيامة : 39 ] . اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(4/402)
يقرأ
(أَوْ يُرْسِلُ) برفع . (يُرْسِلُ)
و (فيوحِي) بإسكان الياء.
والتفسير أن كلام الله للبشر إما أن يكون برسالة مَلَكٍ إليْهِمْ كما أرسل إلى
أنبيائه ، أو من وراء حجاب كما كلم موسى عليه السلام ، أو بإلهام يُلْهِمُهُمْ.
قال سيبويه : سَألت الخليلَ عن قوله تعالى (أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا) بِالنصْبِ.
فقال : (يُرْسِل) محمول على " أن يوحي " هذه التي في قوله أن يكلمَهُ
اللَّه.
قال لأن ذلك غير وجه الكلام لأنه يصرف المعنى : ما كان لبشر أن يرسل اللَّه رسولا
، وذلك غير جائز ، لأن ما نرسل محمول على وحي.
المعنى ماكان لبشر أن يكلمه اللَّه إلا بأن يوحي أو أن يرسل.
ويجوز الرفع في (يُرْسِلُ) على معنى الحال ، ويكون المعنى : ما كان
لبشر أن يكلمه اللَّه إلا موحياً أو مرسلاً رسولًا كذلك كلامُهُ إيَّاهُمْ.
قال الشاعر :
وخيل قد دَلَفْتُ لها بخيلٍ . . . تحية بينهم ضربٌ وجيعُ
ومثل قوله : (أَوْ يُرْسِلَ) بالنصب قوله الشاعر :
ولولا رجالٌ من رِزامٍ أَعِزَّةٌ وآلُ سُبَيْعٍ أو أََسُوءَكَ عَلْقَما
والمعنى أو أن أسوءك.
وقال : ويجوز أن يرفع " أو يرسلُ " على معنى أو هو يرسلُ ، وهذا قول
الخليل وسيبويه وجميع من يوثق بعلمه (1).
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا
كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا
نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ
مُسْتَقِيمٍ (52)
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { أَن يُكَلِّمَهُ الله } : « أَنْ » ومنصوبُها اسمُ كان وليس « خبرَ » «
ما » . وقال أبو البقاء : « أَنْ والفعلُ في موضع رفعٍ على الابتداءِ وما قبلَه
الخبرُ ، أو فاعلٌ بالجارِّ لاعتمادِه على حرفِ النفي » وكأنه [ وَهِمَ في
التلاوةِ ، فزعَم أنَّ القرآنَ : وما لبشَرٍ أَنْ يُكَلِّمه ] مع أنَّه يمكنُ
الجوابُ عنه بتكلُّفٍ . و « إلاَّ وَحْياً » يجوزُ أَنْ يكونَ مصدراً أي : إلاَّ
كلامَ وَحْيٍ . وقال أبو البقاء : « استثناءٌ منقطعٌ؛ لأنَّ الوَحْيَ ليس من جنس
الكلام » وفيه نظرٌ لأنَّ ظاهرَه أنه مُفرَّغٌ ، والمفرَّغُ لا يُوْصَفُ بذلك .
ويجوزُ أَنْ يكونَ مصدراً في موضعِ الحال.
قوله : « أو يُرْسِل » قرأ نافعٌ « يُرْسِلُ » برفع اللامِ ، وكذلك « فيوحِيْ »
فسَكَنَتْ ياؤُه . والباقون بنصبهما . فأمَّا القراءةُ الأولى ففيها ثلاثة أوجهٍ ،
أحدها : أنَّه رفعٌ على إضمارِ مبتدأ أي : أو هو يُرْسِلُ . الثاني : أنه عطفٌ على
« وَحْياً » على أنَّه حالٌ؛ لأنَّ وَحْياً في تقديرِ الحال أيضاً ، فكأنه قال :
إلاَّ مُوْحِياً أو مرسِلاً . الثالث : أَنْ يُعْطَفَ على ما يتعلَّقُ به « من
وراءه » ، إذ تقديرُه : أو يُسْمِعُ مِنْ وراءِ حجاب ، و « وَحْياً » في موضعِ
الحال ، عُطِف عليه ذلك المقدَّرُ المعطوفُ عليه « أَوْ يُرْسِلُ » . والتقدير :
إلاَّ مُوْحِياً أو مُسْمِعاً مِنْ وراءِ حجابٍ ، أو مُرْسِلاً.
وأمَّا الثانيةُ ففيها ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أَنْ يُعْطَفَ على المضمرِ الذي
يتعلَّقُ به { مِن وَرَآءِ حِجَابٍ } إذ تقديرُه : أو يُكَلِّمه مِنْ وراءِ حجابٍ
. وهذا الفعلُ المقدَّر معطوفٌ على « وَحْياً » والمعنى : إلاَّ بوَحْي أو إسماعٍ
مِنْ وراءِ حجاب أو إرسالِ رسولٍ . ولا يجوزُ أَنْ يُعَطفَ على « يكلِّمَه »
لفسادِ المعنى . قلت : إذ يَصيرُ التقديرُ : وما كان لبشَرٍ أن يُرْسِلَ اللَّهُ
رسولاً ، فَيَفْسُدُ لَفْظاً ومعنى . وقال مكي : « لأنَّه يَلْزَم منه نَفْيُ
الرسلِ ونفيُ المُرْسَلِ إليهم ».
الثاني : أَنْ يُنْصَبَ ب « أنْ » مضمرةً ، وتكونَ هي وما نَصَبَتْه معطوفَيْن على
« وَحْياً » و « وَحْياً » حالٌ ، فيكونَ هنا أيضاً [ حالاً : والتقدير : إلاَّ
مُوْحِياً أو مُرْسِلاً ] . وقال الزمخشري : « وَحْياً وأَنْ يُرْسِلَ مصدران
واقعان موقعَ الحال؛ لأنَّ أَنْ يُرْسِلَ في معنى إرسالاً . و { مِن وَرَآءِ
حِجَابٍ } ظرفٌ واقعٌ موقعَ الحالِ أيضاً ، كقوله : { وعلى جُنُوبِهِمْ } [ آل
عمران : 191 ] . والتقدير : وما صَحَّ أَنْ يُكَلَّم أحداً إلاَّ مُوْحياً أو
مُسْمِعاً مِنْ وراءِ حجاب أو مُرسِلاً » . وقد رَدَّ عليه الشيخُ : بأنَّ وقوعَ
المصدرِ موقعَ الحالِ غيرُ منقاسٍ ، وإنما قاسَ منه المبردُ ما كان نوعاً للفعلِ
فيجوزُ : « أتيتُه رَكْضاً » ويمنعُ « أَتَيْتُه بكاءً » أي : باكياً.
وبأنَّ « أَنْ يُرْسِلَ » لا يقعُ حالاً لنصِّ سيبويه على أنَّ « أَنْ » والفعلَ
لا يَقَعُ حالاً ، وإن كان المصدرُ الصريحُ يقع حالاً تقولُ : « جاء زيد ضَحِكاً »
، ولا يجوز « جاء أَنْ يضحكَ ».
الثالث : أنَّه عطفٌ على معنى « وَحْياً » فإنَّه مصدرٌ مقدَّرٌ ب « أنْ » والفعلِ
. والتقديرُ : إلاَّ بأَنْ يوحيَ إليه أو بأَنْ يُرْسِلَ ، ذكره مكي وأبو البقاء.
وقوله : { أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ } العامَّةُ على الإِفراد . وابنُ أبي عبلةَ «
حُجُبٍ » جمعاً . وهذا الجارُّ يتعلَّقُ بمحذوفٍ تقديرُه : أو يُكَلِّمَه مِنْ
وراء حجاب . وقد تقدَّم أن هذا الفعلَ معطوفٌ على معنى وَحْياً أي : إلاَّ أَنْ
يوحيَ أو يكلِّمَه . قال أبو البقاء : « ولا يجوزُ أَنْ تتعلَّق » مِنْ « ب »
يُكَلِّمَه « الموجودةِ في اللفظِ؛ لأنَّ ما قبل الاستثناءِ لا يعملُ فيما بعد
إلاَّ » ، ثم قال : « وقيل : » مِنْ « متعلِّقةٌ ب » يُكلِّمه « لأنه ظرفٌ ، والظرفُ
يُتَّسَعُ فيه » . اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(4/403)
أي
فعلنا في الوحي اليك كما فعلنا بالرسل من قبلك.
وموضع (كَذَلِكَ) نصبٌ بقوله (أَوْحَيْنا).
ومعنى (رُوحاً مِن أمْرِنَا) ما نحيي به الخلق من أمرنا.
أي ما يُهْتَدَى به فيكون حيًّا.
وقوله : (مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ
جَعَلْنَاهُ نُورًا)
ولم يقل جَعَلْنَاهُمَا لأن المعنى ولكن جعلنا الكتاب نُوراً ، وهو دليل على
الإيمان.
وقوله : (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ).
ويقرأ : (وَإِنَّكَ لتُهْدي) ، فمن قرأ (لَتَهْدِي) ، فالمعنى تهدي بما أوحينا
إليك
إلى صراط مستقيم ، ويجوز أن يَكونَ (لَتُهْدَى) مخاطبة للنبي - صلى الله عليه وسلم
- وأُمَّتِه ، فيكون المعنى وإنك وأمتك لتُهدَوْنَ إلى صراط مستقيم ، كما قال :
(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ)
فهو بمنزلة يا أيها الناس المؤمنون إذا طلقتم النساء (1).
* * *
وقوله : (صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ
أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)
(صِرَاطِ اللَّهِ)
خفض بدل من (صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ).
المعنى وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطِ اللَّه.
ويجوز (صِرَاطُ اللَّهِ) بالرفع ، و (صِرَاطَ اللَّهِ) بالنصب.
ولا أعلم أحدا قرأ بهما ولا بواحدة منهما ، فلا تقرأنَّ بواحدة منهما لأن القراءة
سُنَّة . لا تخالف ، وإن كان ما يقرأ به جائزاً في النحو.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكتاب } : « ما » الأولى نافيةٌ ، والثانيةُ
استفهاميةٌ . والجملةُ الاستفهامية معلِّقَةٌ للدِّراية فهي في محلِّ نصبٍ
لسَدِّها مَسَدَّ مفعولَيْنِ . والجملةُ المنفيةُ بأَسْرِها في محلِّ نصبٍ على
الحالِ من الكافِ في « إليك » . قوله : « جَعَلْنَاه » الضميرُ يعودُ : إمَّا ل «
رُوْحاً » وإمَّا ل « الكتاب » وإمَّا لهما؛ لأنَّهما مَقْصَدٌ واحدٌ فهو كقولِه :
{ والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } [ التوبة : 62 ].
وقرأ ابن حوشب « لتُهْدَى » مبنياً للمفعول . وابن السَّمَيْفَع « لتُهْدي » بضم
التاء وكسر الدال مِنْ أهْدَى.
قوله : « نَهْدِي » يجوز أَنْ يكونَ مُسْتأنفاً ، وأن يكونَ مفعولاً مكرَّراً
للجَعْل ، وأَنْ يكونَ صفةً ل « نُوْراً » . اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(4/404)
سُورَةُ
الزُّخرُف
( مَكِّيَّة )
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله عزَّ وجلَّ : (حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2)
قد فسرنا معنى (حم) ، ومعنى (الْكِتَابِ الْمُبِينِ) ، الذي أبان طرقَ
الهدى من طرق الضلالة ، وأبان كل ما تحتاج إليه الأمَّةِ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
(3)
معناه إِنا بيَّنَّاه قرآنا عربياً.
* * *
وقوله (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4)
(أم الكتاب) أصل الكتاب ، وأصل كل شيء أمُّه ، والقرآن مثبت عند اللَّهِ
في اللوح المحفوظ ، والدليل على ذلك قوله : (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي
لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22).
* * *
وقوله : (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا
مُسْرِفِينَ (5)
ويقرأ (إِنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ) (1) فمن فتحها فالمعنى أفنضرب عنكم
الذكر
صفحاً لأن كنتم ، ومن كسرها فعلى معنى الاستقبال ، على معنى إن تكونوا
مسرفين نضرب عنكم الذكر ، ويقال : ضربت عنه الذكر وأضربت عنه الذكر.
والمعنى أفنضرب عنكم ذِكْر العذاب والعذابَ بأن أسرفتم.
والدليل على أن
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { صَفْحاً } : فيه خمسةُ أوجهٍ ، أحدها : أنَّه مصدرٌ في معنى يَضْرِب؛
لأنه يُقال : ضَرَبَ عن كذا وأَضْرَبَ عنه ، بمعنى أعرض عنه ، وصَرَف وجهَه عنه .
قال :
3981 اضْرِبَ عنكَ الهمومَ طارِقَها . . . ضَرْبَك بالسيفِ قَوْنَسَ الفرسِ
والتقديرُ : أَفَنَصْفَحُ عنكم الذِّكْرَ أي : أفَنُزِيْلُ القرآنَ عنكم إزالةً ،
يُنْكِرُ عليهم ذلك . الثاني : أنَّه منصوبٌ على الحالِ من الفاعل أي : صافِحين .
الثالث : أَنْ ينتصِبَ على المصدرِ المؤكِّدِ لمضمونِ الجملةِ ، فيكونَ عاملُه
محذوفاً ، نحو : { صُنْعَ الله } [ النمل : 88 ] قاله ابنُ عطية . الرابع : أن
يكونَ مفعولاً من أجله . الخامس : أَنْ يكونَ منصوباً على الظرف . قال الزمخشري :
« وصَفْحاً على وجهَيْن : إمَّا مصدرٍ مِنْ صَفَح عنه إذا أَعْرَضَ عنه ، منتصبٍ
على أنَّه مفعولٌ له على معنى : أَفَنَعْزِلُ عنكم إنْزالَ القرآنِ وإلزامَ الحجةِ
به إعراضاً عنكم . وإمَّا بمعنى الجانبِ مِنْ قولِهم : نَظَرَ إليه بصَفْحِ
وَجْهِه . وصَفْحُ وَجْهِه بمعنى : أفَنُنَحِّيه عنكم جانباً ، فينتصبُ على الظرف
نحو : ضَعْه جانباً وامْشِ جانباً . وتَعْضُدُه قراءةُ » صُفْحاً « بالضم » . قلت
: يشيرُ إلى قراءةِ حسان ابن عبد الرحمن الضبعي وسميط بن عمير وشبيل بن عزرة قَرؤوا
« صُفْحاً » بضم الصاد . وفيها احتمالان ، أحدهما : ما ذكره مِنْ كونِه لغةً في
المفتوحِ ويكونُ ظرفاً . وظاهرُ عبارةِ أبي البقاء أنَّه يجوزُ فيه جميعُ ما جاز
في المفتوح؛ لأنه جَعَله لغةً فيه كالسُّد والسَّد . والثاني : أنه جمعُ صَفُوح
نحو : صَبور وصُبُر . فينتصبُ حالاً مِنْ فاعل نَضْرِب . وقَدَّر الزمخشري على
عادته فِعْلاً بين الهمزةِ والفاءِ أي : أنُهمِلُكم فَنَضْرِب . وقد عَرَفْتَ ما
فيه غيرَ مرةٍ.
قوله : « أنْ كُنتم » قرأ نافعٌ والأخَوان بالكسر على أنها شرطيةٌ ، وإسرافُهم كان
متحققاً ، و « إنْ » إنما تدخلُ على غير المتحقِّق ، أو المتحقِّقِ المبهم الزمانِ
. وأجاب الزمخشريُّ : « أنَّه من الشرط الذي يَصْدُر عن المُدِلِّ بصحةِ الأمرِ
والتحقيق لثبوتِه ، كقول الأجير : » إنْ كنتُ عَمِلْتُ لك عملاً فَوَفِّني حقي «
وهو عالمٌ بذلك ، ولكنه يُخَيَّلُ في كلامِه أَنَّ تفريطَك في إيصالِ حقي فِعْلُ
مَنْ له شكٌّ في استحقاقِه إياه تجهيلاً له » . وقيل : المعنى على المجازاةِ
والمعنى : أفنضرِبُ عنكم الذِّكر صَفْحاً متى أَسْرَفتم أي : إنكم غيرُ متروكين من
الإِنذار متى كنتم قوماً مُسْرفين . وهذا أراد أبو البقاء بقولِه : « وقرئ إنْ
بكسرِها على الشرط ، وما تقدَّم يدلُّ على الجواب » . والباقون بالفتحِ على
العلَّة أي : لأَنْ كنتم ، كقول الشاعر :
3982 أتَجْزَعُ أنْ بانَ الخليطُ المُوَدَّعُ . . . . . . . . . .
ومثله :
3983 أتَجْزَعُ أنْ أُذْنا قتيبةَ حُزَّتا . . . . . . . . . . . .
يُرْوَى بالكسر والفتح ، وقد تقدَّم نحوٌ من هذا أول المائدة ، وقرأ زيد بن علي «
إذ » بذالٍ عوضَ النونِ ، وفيها معنى العلَّة . اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(4/405)
المعنى
هذا وأنه ذِكْرُ العذابِ قوله : (فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى
مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8).
أي مضْت سنتهم ، ويكون (أفنضرب عنكم الذِكر) أي نهملكم فلا
نعرفكم ما يجب عليكم لأن أسرفتم ، ومثله : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ
سُدًى (36).
* * *
وقوله : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا
لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10)
(وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا) :
طرقاً.
* * *
وقوله : (وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ
وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12)
معناه خلق الأصناف كلها ، تقول عندي من كلِّ زوج أي من كلِّ صنف.
(وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ).
أي خلق لكم وسخرها لكم :
(لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ).
وقوله عزَّ وجلَّ : (ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ
عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ
مُقْرِنِينَ (13)
أي تحمدون اللَّه وتعظمونه ، فيقول القائل إذا ركب السفينة : بسم اللَّه
مجراها ومرساها ، ويقول إذا ركب الدابة : الحمد للَّهِ سبحان الذي سخر لنا
هذا وما كنا له مقرنين ، أي مطيقين ، واشتقاته من قولك : أنا لفلان مقرن أي مطيق ،
أي قد صرت قرناً له.
* * *
(وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (14)
أي نحن مقرُّون بالبعث.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ
لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15)
يعنى به الذين جعلوا الملائكة بنات اللَّه ، وقد أنشدني بعض أهل
(4/406)
اللغة
بيتا يدل على أن معنى جزء معنى الإناثِ ولا أدري البيْتَ ، قديم أم
مَصْنُوع ، أنشدني :
إِنْ أَجْزَأَتْ حُرَّةٌ يَوْماً فلا عَجَبٌ . . . قد تُجْزِئُ الحُرَّةُ
المِذْكارُ أَحْيانا
أي إن " أنثت ، ولدت أنثى.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ
غَيْرُ مُبِينٍ (18)
ويقرأ (يَنْشَأ) ، وموضع " مَن " نَصْبٌ.
المعنى أجَعَلُوا من يُنَشَّأُ في الحلية - يعني البنات - للَّهِ (1).
(وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ).
يعنى البنات ، أي الأنثى لا تكاد تستوفي الحجة ولا تبين.
وقد قيل في التفسير إن المرأة لا تكاد تحتج بحجة إلا عليها.
وقد قيل إنَّه يعني به الأصنام.
والأجود أن يكون يعني به المؤنث.
* * *
وقوله تعالى : (وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ
إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19)
الجَعْلُ ههنا في معنى القول والحكم على الشيء . تقول : قدْ جَعَلْتُ
زيداً أعلم الناس ، أي قد وصفته بذلك وحكمت به.
وقوله - عزَّ وجلَّ - : (سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ).
وتقرأ سنَكْتُبُ ، ويجوز سيَكْتُب ، المعنى سيكتب اللَّه شَهادَتُهم ولا نعْلَمُ
أَحَداً قرأ بها . والقراءةْ بالتاء والنون (2).
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { أَوَمَن يُنَشَّأُ } : يجوزُ في « مَنْ » وجهان ، أحدهما : أَنْ يكونَ في
محلِّ نصبٍ مفعولاً بفعلٍ مقدر أي : أو يجعلون مَنْ يُنَشَّأُ في الحِلْية .
والثاني : أنه مبتدأ وخبرُه محذوفٌ ، تقديره : أو من يُنَشَّأ جزءٌ أو ولدٌ؛ إذ
جعلوه لله جزءاً . وقرأ العامَّةُ « يَنْشَأ » بفتح الياء وسكون النون مِنْ نَشَأَ
في كذا يَنْشأ فيه . والأخوان وحفص بضم الياء وفتحِ النون وتشديدِ الشينِ مبنياً
للمفعولِ أي : يُرَبَّى . وقرأ الجحدريُّ كذلك ، إلاَّ أنَّه خَفَّف الشينَ ،
أَخَذَه مِنْ أنشأه . والحسن « يُناشَأُ » ك يُقاتَل مبنياً للمفعول .
والمفاعَلَةُ تأتي بمعنى الإِفعال كالمُعالاة بمعنى الإِعلاء.
قوله : { وَهُوَ فِي الخصام غَيْرُ مُبِينٍ } الجملةُ حال . و « في الخصام » يجوزُ
أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ يَدُلُّ عليه ما بعده . تقديره : وهو لا يَبين في الخصام .
ويجوز أَنْ يتعلَّق ب « مُبين » وجاز للمضافِ إليه أن يعملَ فيما قبل المضافِ؛ لأن
« غيرَ » بمعنى « لا » . وقد تقدَّم تحقيقُ هذا في آخر الفاتحة وما أنشدْتُه عليه
وما في المسألةِ من الخلاف.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(2) قال السَّمين :
قوله : { عِبَادُ الرحمن } : قرأ نافع وابن كثير وابن عامر « عند الرحمن » ظرفاً .
والباقون « عبادَ » جمع عَبْد ، والرسمُ يحتملهما . وقرأ الأعمش كذلك إلاَّ أنه
نصبَ « عبادَ » على إضمارِ فعلٍ : الذين هم خُلِقوا عباداً ونحوِه . وقرأ عبدُ
الله وكذلك هي في مصحفه « الملائكةَ عبادَ الرحمن » . وأُبَيٌّ وعبد الرحمن/
بالإِفراد . و « إناثاً » هو المفعولُ الثاني للجَعْلِ بمعنى الاعتقادِ أو التصيير
القولي . وقرأ زيدُ بنُ علي « أُنُثا » جمعَ الجمع.
قوله : « أشَهِدُوا » قرأ نافعٌ بهمزةٍ مفتوحة ، ثم بأخرى مضمومةٍ مُسَهلةٍ بينها
وبين الواو وسكونِ الشينِ . وقرأ قالون بالمدِّ يعني بإدخال ألفٍ بين الهمزتين
والقصرِ ، يعني بعدمِ الألف . والباقون بفتح الشين بعد همزة واحدة . فنافع أدخل
همزةَ التوبيخ على أُشْهِدوا [ فعلاً ] رباعياً مبنيَّاً للمفعول ، فسَهَّلَ
همزتَه الثانيةَ ، وأدخل ألفاً بينهما كراهةً لاجتماعهما ، وتارة لم يُدْخِلْها ،
اكتفاءً بتسهيل الثانية ، وهي أوجهُ . والباقون أدخلوا همزةَ الإِنكار على « شهدوا
» ثلاثياً ، والشهادةُ هنا الحضورُ . ولم يَنْقُلِ الشيخُ عن نافع تسهيلَ الثانيةِ
بل نَقَله عن علي بن أبي طالب.
وقرأ الزهريُّ « أُشْهِدُوا » رباعياً مبنياً للمفعول . وفيه وجهان ، أحدُهما :
أَنْ يكونَ حَذَفَ الهمزةَ لدلالةِ القراءةِ الأخرى ، كما تقدَّم في قراءةِ «
أعجميٌّ » . والثاني : أَنْ تكونَ الجملةُ خبريةً وقعَتْ صفةً ل « إناثاً » أي :
أجعلوهم إناثاً مَشْهوداً خَلْقُهم كذلك؟
قوله : « سَتُكْتَبُ شهادتُهم » قرأ العامَّةُ « سَتُكْتَبُ » بالتاءِ مِنْ فوقُ
مبنياً للمفعول ، « شهادتُهم » بالرفع لقيامه مَقامَ الفاعل . وقرأ الحسن «
شهاداتُهم » بالجمع ، والزهري : « سَيَكتب » بالياء مِنْ تحت وهو في الباقي
كالعامَّة . وابن عباس وزيد بن علي وأبو جعفر وأبو حيوةَ « سنكتبُ » بالنون للعظمة
، « شهادتَهم » بالنصب مفعولاً به.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(4/407)
وقوله
: (وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ
عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20)
المعنى ما لهم بقولهم إنَّ الملائكة بنات اللَّه من علم ، ولا بجميع ما
تخرصوا به.
* * *
وقوله : (أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21)
أي أم هل قالوا عن كتابٍ ، المعنى أشهدوا خلقهم أم آتيناهم بكتاب
بما قالوه من عبادتهم ما يعبدون من دون اللَّه ، ثم أعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أن
فِعلَهم اتباع ضلالة آبائهم فقال : (بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا
عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22)
ويقرأ " عَلَى إِمَّةٍ " بالكسرِ ، فالمعنى على طريقة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ
نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ
وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23)
أي قد قال لك هَؤلاء كما قال أمثالهم للرسل مِنْ قَبْلكَ.
وقوله : (وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ).
معناه نقتدي بهم ، ويصلح أن يكون خبراً لإنا مهتدون ، و (على) من صلة
مهتدين ، وكذلك مقتدون ، فيكون المعنى وإنهم مهتدون على آثارهم ، وكذلك يكون
المعنى مقتدون على آثارهم ، ويصلح أن يكون خبراً بعد خبر ، فيكون (وَإِنَّا عَلَى
آثَارِهِمْ) الخبر ويكون (مُهْتَدُونَ) خبراً ثانياً ، وكذلك (مُقْتَدُونَ).
* * *
وقوله : - عزَّ وجلَّ - (قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ
عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24)
المعنى فيه قل أَتَتبعُون ما وجدتم عليه آباءكم وإن جِئْتُكُمْ بِأهدى منه.
* * *
وقوله تعالى : (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ
مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27)
(4/408)
(بَرَاءٌ)
بمعنى بريء مِمَّا تَعْبُدُونَ ، والعرب تقول للواحد منها أنا البراء
منك ، وكذلك الاثنان والجماعة والذكر والأنثى يقولون نحن البراء منك
والخلاء منك ، ولا يقولون : نحن البراءان منك ولا البراءونَ.
وإنما المعنى إنا ذوو البراء منك ونحن ذوو البراء منك كما تقول رجل عدل وامرأة
عَدْل وَقَوْمٌ عَدْلٌ ، والمعنى ذوو عدل وذوات عدل (1).
* * *
وقوله : (إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27)
المعنى إنا نتبرأ مما تعبدون إلا من الله عزَّ وجلَّ ، ويجوز أن يكون " إلا
"
بمعنى لكن فيكون المعنى لكن الذي فطرني فإنه سيهدين (2).
* * *
(وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28)
يعني بها كلمة التوحيد وهي لا إله إلا اللَّه باقية في عقب إبراهيم ، لا
يزال من ولده من يوحد اللَّه عزَّ وجلَّ.
* * *
(وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ
عَظِيمٍ (31)
المعنى على رجل من رَجُلَي القريتين عظيم ، والرجُلَانِ أحدهما الوليد
ابن المغيرة المخزومي من أهلَ مكة ، والآخر حبيب بن عمرو بن عمير الثقفي
من أهل الطائف ، والقريتان ههنا مكة والطائف.
ويجوز " لَوْلَا نَزَّلَ " أي لولا نَزَّلَ اللَّه هذا القرآن ، ويجوز
لوْلاَ نَزَلَ هذا القرآن.
ومعنى لولا هلَّا ولم يُقْرَأْ بهاتين الأخْرَيَين ، إنما القراءة (نُزِّلَ).
و (هذا) في موضع رفع ، والقرآن ههنا مُبَيِّنٌ عن هذا ويسميه سيبويه عطف البيان ،
لأن لفظه لفظ الصفة ، ومما يبين أنه عطف البيان قولك مررت بهذا الرجل وبهذه الدار
، و (هَذَا الْقُرْآنُ) إنما يذكر بعد هذا اسما يبين بها اسم الإشارة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا
بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ
فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ
رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32)
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { بَرَآءٌ } : العامَّةُ على فتحِ الباءِ وألفٍ وهمزةٍ بعد الراء . وهو
مصدرٌ في الأصل وقع موقعَ الصفةِ وهي بَريْء ، وبها قرأ الأعمش ولا يُثَنَّى «
براء » ولا يُجْمع ولا يُؤَنث كالمصادر في الغالب . والزعفراني وابن المنادي عن
نافع بضم الباء بزنة طُوال وكُرام . يقال : طَويل وطُوال وبَريء وبُراء . وقرأ
الأعمش « إنِّي » بنونٍ واحدة.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(2) قال السَّمين :
قوله : { إِلاَّ الذي فَطَرَنِي } : فيه أربعةُ أوجهٍ ، أحدها : أنه استثناءٌ
منقطع؛ لأنَّهم كانوا عبدةَ أصنامٍ فقط . والثاني : أنه متصلٌ؛ لأنه رُوِي أنهم
كانوا يُشْرِكون مع الباري غيرَه.
الثالث : أَنْ يكونَ مجروراً بدلاً مِنْ « ما » الموصولة في قولِه : « ممَّا
تعبدُون » قاله الزمخشريُّ . ورَدَّه الشيخ : بأنه لا يجوزُ إلاَّ في نفيٍ أو شبهه
قال : « وغَرَّه كونُ براء في معنى النفي ، ولا ينفعه ذلك لأنه موجَبٌ » . قلت :
قد تأوَّل النحاةُ ذلك في مواضعَ من القرآن كقولِه تعالى : { ويأبى الله إِلاَّ
أَن يُتِمَّ } [ التوبة : 32 ] { وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين }
[ البقرة : 45 ] والاستثناء المفرغُ لا يكونُ في إيجاب ، ولكن لَمَّا كان « يأبى »
بمعنى : لا يفعلُ ، وإنها لكبيرة بمعنى : لا تَسْهُلُ ولا تَخِفُّ ساغ ذلك ، فهذا
مثلُه.
الرابع : أَنْ تكونَ « إلاَّ » صفةً بمعنى « غير » على أن تكونَ « ما » نكرةً
موصوفةً ، قاله الزمخشريُّ قال الشيخ : « وإنما أخرجها في هذا الوجهِ عن كونِها
موصولةً؛ لأنَّه يرى أنَّ » إلاَّ « بمعنى » غير « لا يُوْصَفُ بها إلاَّ النكرة »
وفيها خلافٌ . فعلى هذا يجوزُ أَنْ تكونَ « ما » موصولةً و « إلاَّ » بمعنى « غير
» صفةً لها.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(4/409)
أي
قولهم : لِمَ لَمْ ينَزلْ هذا القرآن على غير محمد عليه السلام
اعتراض منهم ، وليس تفضل اللَّه عزَّ وجلَّ يقسمه غيره.
ولما أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالرسالة قالت العرب - أو أكثرها - : كيف
لم يرسل اللَّه مَلَكاً وكيف أرسل اللَّه بَشراً ، فقال اللَّه عزَّ وجلَّ :
(وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ
الْقُرَى).
وقال : (أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ).
فلما سمعوا أن الرسالة كانت في رجال من أهل القرى قالوا :
" لَوْلَا نُزِل على أحَدِ هذين الرجلين ".
وقال - عزَّ وجلَّ - : (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا
بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ
فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ).
قَكَما فَضلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْض في الرزق وفي المنزلة ، كذلك
اصطفينا للرسالة من نشاء.
وقوله : (لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سِخْرِيًّا).
و (سُخْرِيًّا)
أي ليستعمل بعضهم بَعْضاً ، ويستخدم بعضُهم بعضاً.
وقيل (سِخْرِيًّا) أي ، يتخذ بعضهم بعضاً عبيداً.
ثم أعلم - عزَّ وجلَّ - أن الآخرة أحَظُّ من الدنيا فقال :
(وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ).
وأعلمَ قِلَّةَ الدنيا عنده عزَّ وجلَّ فقال :
(وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ
بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا
يَظْهَرُونَ (33)
ويقرأ سَقْفاً مِنْ فِضةٍ ، ويجوز سُقْفاً بسكون القاف وَضَم السين ، فمن
قال سُقُفاً وَسُقْفاً فهو جمع سَقْف كما قيل رَهْن وَرُهُنٌ وَرُهْن ، ومن قال
سَقْفاً
ْفهو واحد يَدُلُّ على الجمع المعنى جعلنا لبيت كلِ واحد منهم سقفاَ من فضة .
(4/410)
وقوله
: (وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ).
(معارج) دَرَج واحدها مَعْرج.
المعنى وجعلنا معارج من فِضةٍ ، وكذلك :
(أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34)
أي أَبْواباً من فضةٍ وسُرُراً من فِضةٍ.
(وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35)
(وَزُخْرُفًا).
الزخرف - جاء في التفسير أنه ههنا الذهَبُ ، إلا زيد بن أسلم فإنه
قال : هو متاع البيت ، والزخرف في اللغة الزينة وكمال الشيء فيها ، ودليل
ذلك قوله : (حتى إذَا أَخَذتِ الأرْضُ زُخْرُفَها) أي كمالها وَتَمامَها.
(وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ).
معناه وما كل ذلك إلا متاع الحياة الدنْيَا ، ويقرأ لَمَا متاع
و " ما " ههنا لَغْوٌ ، المعنى لَمَتاعُ (1).
* * *
وقوله : (وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً).
أي : لَوْلاَ أن تميل بهم الدنيا فيصيرَ الخلق كفاراً لأعطى اللَّه الكافر في
الدنيا غاية ما يتمنى فيها لِقِلَّتِهَا عِنْدَهُ ، ولكنه - عزَّ وجلَّ - لم يفعل
ذلك لعلمه بأن الغالب على الخلقِ حبُّ العَاجِلَة.
* * *
وقوله : (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ
لَهُ قَرِينٌ (36)
ويقرأ (وَمَنْ يَعْشَ) بفتح الشين من عَشِيَ يَعْشَى ، أي من يَعْمَ عن ذكر
الرْحْمنِ.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { وَزُخْرُفاً } : يجوز أَنْ يكونَ منصوباً ب جَعَلَ أي : وجَعَلْنا لهم
زخرفا . وجوَّز الزمخشري أن ينتصبَ عطفاً على محلِّ « مِنْ فضة » كأنه قيل :
سُقُفاً من فضةٍ وذَهَبٍ أي : بعضُها كذا ، وبعضها كذا.
وقد تقدَّم الخلافُ في « لَمَّا » تخفيفاً وتشديداً في سورة هود ، وقرأ أبو رجاء
وأبو حيوةَ « لِما » بكسر اللام على أنها لامُ العلةِ دَخَلَتْ على « ما »
الموصولة وحُذِفَ عائدُها ، وإنْ لم تَطُل الصلةُ . والأصل : الذي هو متاعٌ كقولِه
: { تَمَاماً عَلَى الذي أَحْسَنَ } [ الأنعام : 154 ] برفع النون . و « إنْ » هي
المخففةُ من الثقيلة ، و « كل » مبتدأ ، والجارُّ بعده خبرُه أي : وإن كل ما
تقدَّم ذِكْرُه كائن للذي هو متاعُ الحياة ، وكان الوجهُ أن تدخُلَ اللامُ الفارقة
لعدم إعمالِها ، إلاَّ أنَّها لما دَلَّ الدليلُ على الإِثباتِ جاز حَذْفُها كما
حَذَفها الشاعرُ في قوله :
3992 أنا ابنُ أباةِ الضَّيْم مِنْ آلِ مالكٍ . . . وإنْ مالكٌ كانَتْ كرامَ
المعادنِ
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(4/411)
(نُقَيِّضْ
لَهُ شَيْطَانًا).
نسبب له شيطاناً ، يجعل اللَّه له ذَلِكَ جزاءه (1).
* * *
وقوله : (وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ
مُهْتَدُونَ (37)
أي الشياظين تصدهم عن السبيل ، ويحسب الكفار أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ.
* * *
وقوله - عزَّ وجلَّ - : (لِمَنْ يَكْفُر بالرحْمنِ لبُيُوتِهِم)
يصلح أن يكونَ بدلاً من قوله (لمن يكفر بالرحمن) ، ويكون المعنى
لجعلنا لبيوت من يكفر بالرحمن ، ويصلح أن يكون لبُيوتهِمْ على معنى لجعلنا
لمن يكفر بالرحمن على بُيُوتهم.
* * *
وقوله : (حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ
الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38)
ويقرأ (جَاءَانَا) فمن قرأ (جَاءَانَا) فالمعنى حتى إذَا جَاءَ الكَافِرُ وشيطاته.
ومن قرأ (حَتَّى إِذَا جَاءَنَا) فعلى الكافر وحده.
(قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ
الْقَرِينُ).
معنى (الْمَشْرِقَيْنِ) ههنا بعد المشرق والمغرب ، فلما جعلا اثنين غلب لفظ
المشرق كما قال :
لنا قمراها والنجوم الطوالع
يريد الشمس والقمر ، وكما قالوا سنةُ العُمَريْن يراد سنةُ أبي بكر وعمر.
رحمةُ اللَّه عَلَيْهِمَا.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي
الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39)
المعنى لَنْ تَنْفَعَكُم الشرِكَةُ في العذاب ، قال محمد بن يزيد في جواب
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { وَمَن يَعْشُ } : العامَّة على ضم الشين مِن عشا يعشو أي : يتعامى
ويتجاهل . وقتادة ويحيى بن سلام « يَعْشَ » بفتحها بمعنى يَعْمَ . وزيد بن علي «
يَعْشو » بإثبات الواو . قال الزمخشري : « على أنّ » مَنْ « موصولة وحَقُّ هذا أن
يقرأَ نقيضُ بالرفع » . قال الشيخ : « ولا تتعيَّنُ موصوليتُها بل تُخَرَّج على
وجهين : إمَّا تقديرِ حذفِ حركةِ حرفِ العِلة ، وقد حكاها الأخفش لغةً ، وتقدَّم
منه في سورةِ يوسفَ شواهدُ ، وإمَّا على أنه جزمٌ ب » مَنْ « الموصولة تشبيهاً لها
ب » مَنْ « الشرطيةِ » . قال : « وإذا كانوا قد جَزَموا ب » الذي « ، وليس بشرطٍ
قط فأَوْلَى بما اسْتُعْمِلَ شرطاً وغيرَ شرطٍ . وأنشد :
3993 ولا تَحْفِرَنْ بِئْراً تُريد أخاً بها . . . فإنّك فيها أنت مِنْ دونِه
تقَعْ
كذاكَ الذي يَبْغي على الناسِ ظالماً . . . يُصِبْه على رَغْمٍ عواقبُ ما صَنَعْ
/قال : » وهو مذهبُ الكوفيين ، وله وَجْهٌ من القياسِ : وهو أنَّ « الذي »
أَشْبَهَتْ اسمَ الشرطِ في دخولِ الفاءِ في خبرِها ، فتُشْبِهُ اسمَ الشرطِ في
الجزم أيضاً . إلاَّ أنَّ دخولَ الفاءِ منقاسٌ بشرطِه ، وهذا لا ينقاسُ «.
ويقال : عَشا يَعْشُو ، وعَشِي يَعْشَى . فبعضُهم جعلهما بمعنىً ، وبعضُهم فَرَّقَ
: بأنَّ عَشِيَ يَعْشَى إذا حَصَلَتْ الآفَةُ من بَصَرَه ، وأصلُه الواوُ وإنما
قُلِبَتْ ياءً لانكسارِ ما قبلها كرضِيَ يَرْضى وعَشَا يَعْشُو أي : تفاعَل ذلك .
ونَظَرَ نَظَرَ العَشِي ولا آفَةَ ببصرِه ، كما قالوا : عَرَجَ لمَنْ به آفةُ
العَرَجِ ، وعَرُجَ لمَنْ تعارَجَ ، ومَشَى مِشْيَةَ العُرْجان . قال الشاعر :
3994 أَعْشُو إذا ما جارتي بَرَزَتْ . . . حتى يُوارِيْ جارتي الخِدْرُ
أي : أنظرُ نَظَرَ الَعَشِي . وقال آخر :
3995 متى تَأْتِه تَعْشُوا إلى ضَوْءِ نارِه . . . تَجِدْ خيرَ نارٍ عندها خيرُ
مُوْقِدِ
أي : تَنْظُرُ نَظَرَ العشِي لضَعْفِ بصرِه مِنْ كثرةِ الوَقودِ . وفَرَّق بعضُهم
: بأنَّ عَشَوْتُ إلى النارِ إذا اسْتَدْلَلْتَ عليها بنظرٍ ضعيفٍ وقيل : وقال
الفراء : » عَشا يَعْشى يُعْرِض ، وعَشِي يَعْشَى عَمِيَ « . إلاَّ أنَّ ابن قتيبة
قال : » لم نَرَ أحداً حكى عَشَوْتُ عن الشيء : أَعْرَضْتُ عنه ، وإنما يقال :
تعاشَيْتُ عن كذا إذا تغافَلْتَ عنه وتعامَيْتَ «.
وقرأ العامَّةُ » نُقَيِّضْ « بنونِ العظمةِ . وعلي بن أبي طالب والأعمش ويعقوبُ
والسلميُّ وأبو عمروٍ وعاصمٌ في روايةٍ عنهما » يُقَيِّضْ « بالياء من تحت أي :
يُقَيِّض الرحمنُ . و » شيطاناً « نصبٌ في القراءتين . وابن عباس » يُقَيَّضْ «
مبنياً للمفعول ، » شيطانٌ « بالرفع ، قائمٌ مقامَ الفاعلِ . اهـ (الدُّرُّ
المصُون).
(4/412)
هذه
الآية إنَّهمْ مُنِعُوا رَوْح التَّأَسِّي لأن التَّأَسِّي يُسَهِّلُ المصيبة ،
فأعلموا أن لَنْ
يَنْفَعَهم الاشْتراك في العَذاب وأن اللَّه - عزَّ وجلَّ - لا يجعل فيه أُسْوة.
قال وأنشدني في المعنى للخنساء :
ولَوْلا كَثْرَةُ الباكينَ حَوْلِي . . . على إِخْوانِهِمْ لَقَتَلْتُ نَفْسِي
وما يَبْكُونَ مِثْلَ أخي ولكِنْ . . . أُعَزِي النَّفْسَ عَنْهُ بالتَّأسِّي
(1)
* * *
وقوله - عزَّ وجلَّ - : (فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ
مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ
مُقْتَدِرُونَ (42)
دخل " ما " توكيداً للشرط والنون الثقيلة في قوله : (نَذْهَبَنَّ)
دَخَلتْ أيضاً
توكيداً ، وإذا دَخَلَتْ (ما) دخلت معها النون كما تَدْخُل مع لام القَسَم.
والمعنى إنا نَنْتَقِمُ مِنْهُم إنْ توفيتَ أو نريك ما وعدناهم وَوَعَدْنَاكَ
فِيهِمْ من
النصْر ، فقد أراه اللَّه - عزَّ وجلَّ - ما وعَدَهُ فيهِمْ وَوَعَدَهُمْ مِنْ
إهْلَاكِهِمْ إن
كذبوا.
وقد قيل إنه كانت بعد رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أشياء لم يُحْبِبِ
اللَّه أنْ يُريَه إياها.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44)
يريدُ أن القرآنَ شرفٌ لك ولقومك.
وقوله : (وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ).
معناه سوف تسألون عن شِكر ما جعله اللَّه لكم من الشرف.
* * *
وقوله : (وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا
مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)
في هذه المسألة ثلاثَةُ أَوْجُهٍ :
جاء في التفسير أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة أسري به
جمع له الأنبياء في بيت المقدس فأَمَّهم وصلَّى بهم ، وقيل له : سَلْهُمْ فلم
يشكك عليه السلام ولم يَسَلْ.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : « إذْ ظَلَمْتُمْ » قد استشكل المُعْرِبون هذه الآيةَ . ووجهُه : أنَّ
قولَه « اليومَ » ظرفٌ حالِيٌّ ، و « إذ » ظرفٌ ماضٍ ، و « يَنْفَعَكم » مستقبلٌ؛
لاقترانِه ب « لن » التي لنفي المستقبلِ . والظاهرُ أنه عاملٌ في الظرفَيْن ، وكيف
يعملُ الحدثُ المستقبلُ الذي لم يقَعْ بعدُ في ظرفٍ حاضرٍ أو ماضٍ؟ هذا ما لا
يجوزُ . فأُجيب عن إعماله في الظرفِ الحاليِّ على سبيلِ قُرْبِه منه؛ لأنَّ الحالَ
قريبٌ من الاستقبالِ فيجوز في ذلك . قال تعالى : { فَمَن يَسْتَمِعِ الآن } [ الجن
: 9 ] وقال الشاعر :
3997 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . سَأَسْعَى الآنَ إذ
بَلَغَتْ أَناها
وهو إقناعيٌّ ، وإلاَّ فالمستقبلُ يَسْتحيلُ وقوعُه في الحالِ عقلاً . وأمَّا
قولُه : « إذ » ففيها للناسِ أوجهٌ كثيرةٌ . قال ابن جني : « راجَعْتُ أبا عليّ
فيها مِراراً فآخرُ ما حَصَّلْت منه : أنَّ الدنيا والآخرةَ متصلتان ، وهما سواءٌ
في حُكْم اللَّهِ تعالى وعِلْمِه ، ف » إذ « بدلٌ من » اليوم « حتى كأنَّه مستقبلٌ
أو كأنَّ اليومَ ماضٍ . وإلى هذا نحا الزمخشريُّ قال : » وإذْ بدلٌ من اليوم «
وحَمَلَه الزمخشريُّ على معنى : إذْ تبيَّن وصَحَّ ظُلْمُكم ، ولم يَبْقَ لأحدٍ
ولا لكم شبهةٌ في أنَّكم كنتم ظالمين . ونظيرُه :
3998 إذا ما انْتَسَبْنا لم تَلِدْني لئيمةٌ . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . .
أي : تَبَيَّن أني وَلَدُ كريمةٍ » . وقال الشيخ : « ولا يجوزُ البدلُ ما دامت »
إذ « على موضوعِها من المُضِيِّ ، فإنْ جُعِلَتْ لمطلقِ الزمانِ جاز » . قلت : لم
يُعْهَدْ في « إذ » أنها تكونُ لمطلقِ الزمان ، بل هي موضوعةٌ لزمانٍ خاصٍ بالماضي
كأَمْسِ . الثاني : أنَّ في الكلام حَذْفَ مضافٍ تقديرُه : بعد إذ ظَلَمْتُمْ.
الثالث : أنها للتعليلِ . وحينئذٍ تكونُ حرفاً للتعليلِ كاللام . الرابعُ : أنَّ
العاملَ في « إذ » هو ذلك الفاعلُ المقدَّرُ لا ضميرُه . والتقدير : ولن ينفعَكم
ظلمُكم أو جَحْدُكم إذ ظَلَمْتم . الخامس : أنَّ العاملَ في « إذ » ما دَلَّ عليه
المعنى . كأنه قال : ولكن لن ينفعَكم اجتماعُكم إذ ظَلَمْتُمْ . قاله الحوفي ، ثم
قال : « وفاعلُ » يَنْفَعَكم « الاشتراكُ » انتهى . فظاهرُ هذا متناقضٌ؛ لأنَّه
جَعَلَ الفاعلَ أولاً اجتماعَكم ، ثم جعلَه آخِراً الاشتراكَ . ومنع أَنْ تكونَ «
إذ » بدلاً مِن اليوم لتغايُرِهما في الدلالة . وفي كتاب أبي البقاء « وقيل : إذْ
بمعنى » أَنْ « أي : أَنْ ظَلَمْتُم » . ولم يُقَيِّدْها بكونِها أن بالفتح أو
الكسر ، ولكن قال الشيخ : « وقيل : إذ للتعليلِ حرفاً بمعنى » أَنْ « يعني بالفتح؛
وكأنَّه أراد ما ذكره أبو البقاءِ ، إلاَّ أنَّ تَسْمِيَتَه » أنْ « للتعليل مجازٌ
، فإنها على حَذْفِ حرفِ العلةِ أي : لأَنْ ، فلمصاحبتِها لها ، والاستغناءِ بها
عنها سَمَّاها باسمِها . ولا ينبغي أَنْ يُعْتَقَدَ أنَّها في كتابِ أبي البقاء
بالكسرِ على الشرطية؛ لأنَّ معناه بعيدٌ.
وقُرِئ » إنكم « بالكسرِ على الاستئناف المفيدِ للعلةِ . وحينئذٍ يكونُ الفاعلُ
مضمراً على أحدِ التقادير المذكورة . اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(4/413)
ووجه
ثانٍ وهو الذي أختاره ، وهو أن المعْنَى سل أمَمَ من أَرْسَلْنَا من قبلك من
رُسْلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ ؟.
ويكون معنى السؤال ههنا على جهة التقرير كما قال : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ
خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) فليس يَسْاَلُهمْ ههنا عَمنْ خَلَقَهُمْ إلا على
جهةِ التقرير وكذلك إذا سال جميع أمم الأنبياء لم يأتوا بأن في كتبهِمْ أن اعبدوا
غيرِي.
ووجه ثالث يكون المعنى في خطاب النبي - صلى الله عليه وسلم - معناه مخاطبة الأمَّة
، كأنَّه قال : واسألوا ، والدليل على أن مخاطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - قد
يدخل فيها خطاب الأمة
قوله : (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ).
* * *
وقوله : (وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ
عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49)
إن قال قائل : كيف يقولون لموسى عليه السلام يَا أَيُّهَا الساحر وهم
يزعمون أنهم مهتدون ؟
فالجواب أنهم خاطبوه بما تقدم له عندهم من التسمية بالسحر ، ومعنى بما عَهَدَ
عنْدَك أي بما عهد عندك فيمَن آمن به مِنْ كشف العذاب عنه.
الدليل على ذلك قوله : (فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ
يَنْكُثُونَ
(50)
أي إذا هم ينقُضُون عَهْدَهُمْ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ
لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا
تُبْصِرُونَ (51)
" مصر " ههنا يعنى بها مدينة مصر المعروفة ، فمصر مذكر سُمِّيَ بهِ مؤنث
لأن المدينة الغالب عليها التأنيث ، وَقدْ يَجُوزُ مَلكُ مِصْر ، يذهب به إلى أن
مصر اسم لبلد ، وهذا فيه بُعْدٌ من قِبَلِ أن أكثر ما يستعمل البلد لما يضم مدناً
(4/414)
كبيرةً
نحو بلاد الرُّوم وبلاد الشام وبلد خراسان.
ويجوز أن تصرف مصراً إذا جعلته اسماَ لبلد عند جميع النحويين من البصريين (1).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا
الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52)
قال سيبويه والخليلْ عطف " أَنَا " بـ (أَمْ) على قوله (أَفَلَا
تُبْصِرُونَ)
لأنَّ معنى (أَمْ أَنَا خَيْرٌ) معناه أمْ تُبْصِرُونَ ، كأنَّه قال : "
أَفَلَا تبصرون أمْ تُبصِرُونَ ، قال لأنهم إذَا قالوا أنت خير منه فقد صاروا عنده
بُصَرَاءَ ، فكأنَّه قال أفلا تبْصِرُونَ أم أنتم بُصَرَاءُ (2).
وَمَعْنَى (مَهِين) قليل.
يقال شَيءٌ مَهِينٌ أَي قَليلٌ ، وهو فعيل من المهانة.
وقوله (وَلَا يَكَادُ يُبِينُ).
قال ذلك لأنه كانت في لسان موسى عليه السلام لثغة ، والأنبياء
- صلوات اللَّه عليهم - أجمعون مُبَيِّنونَ بُلَغَاءُ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ
جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53)
كانه لما وَصَفَ نفسه بالمُلْكِ والريَاسَةِ قال : هَلَّا جاء مُوسَى
بشيء يُلْقَى عليه فيكون ذلك أسْوِرَةً مِنْ ذَهَبٍ تدل على أنها
من عند إلهه الذي يدعوكم إلى توحيده ، أو هلَّا جاء معه الملائكةُ
مقترنين أي يمشون معه فيَدُلُّونَ على صحة نُبوتهِ ، وقد أتى موسى
عليه السلام من الآيات بما فيه دلالة على تثبيت النبُوة ، وليس للذين يرسل
إليهم الأنْبِياءُ أَنْ يَقْتَرِحُوا من الآيات ما يريدون هم.
وتقرأ (أساوِرَةٌ مِنْ ذَهب) ، ويصلح أن يكون جمعَ الجمعِ تقول أسْوِرَة
وَأَسَاوِرَة ، كما تقول : أقوال وأقاويل ويجوز أن يكون جَمَعَ إسْوار وأساورة.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { وهذه الأنهار } : يجوزُ في « وهذه » وجهان ، أحدهما : أَنْ تكونَ مبتدأةً
، والواوُ للحالِ . والأنهارُ صفةٌ لاسمِ الإِشارةِ ، أو عطفُ بيانٍ . و « تجري »
الخبرُ . والجملةُ حالٌ مِنْ ياء « لي » . والثاني : أنَّ « هذه » معطوفةٌ على «
مُلْك مِصْرَ » ، و « تَجْري » على هذا حالٌ أي : أليس مُلْكُ مِصْرَ وهذه
الأنهارُ جاريةً أي : الشيئان.
قوله : « تُبْصِرونَ » العامَّةُ على الخطابِ لِمَنْ ناداه . وقرأ عيسى بكسر النون
أي : تُبْصِروني . وفي قراءةِ العامَّةِ المفعولُ محذوفٌ أي : تُبْصِرون مُلْكي
وعَظَمتي . وقرأ فهد بن الصقر « يُبْصِرون » بياء الغَيْبة : إمَّا على الالتفاتِ
من الخطاب إلى الغَيْبة ، وإمَّا رَدًّا على قوم موسى . اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(2) قال السَّمين :
قوله : { أَمْ أَنَآ خَيْرٌ } : في « أم » أقوالٌ ، أحدها : أنها منقطعةٌ ،
فتتقدَّرُ ب بل التي لإِضرابِ الانتقال ، وبالهمزة التي للإِنكار . والثاني : أنها
بمعنى بل فقط ، كقوله :
4001 بَدَتْ مِثْلَ قَرْنِ الشَّمْسِ في رَوْنَق الضُّحى . . . وصورتِها أم أنتِ
في العينِ أَمْلَحُ
أي : بل أنتِ . الثالث : أنها منقطعةٌ لفظاً ، متصلةٌ معنىً . قال أبو البقاء : «
أمْ هنا منقطعةٌ في اللفظ لوقوع الجملةِ بعدَها في اللفظ ، وهي في المعنى متصلةٌ
معادِلةٌ؛ إذ المعنى : أنا خيرٌ منه أم لا ، وأيُّنا خيرٌ » وهذه عبارةٌ غريبةٌ :
أن تكونَ منقطعةً لفظاً ، متصلةً معنى ، وذلك أنهما معنيان مختلفان؛ فإن الانقطاعَ
يَقْتضي إضراباً : إمَّا إبطالاً ، وإمّا انتقالاً . الرابع : أنها متصلةٌ ،
والمعادِلُ محذوفٌ تقديره : أم تُبْصِرون . وهذا لا يجوزُ إلاَّ إذا كانت « لا »
بعد أم نحو : أتقومُ أم لا؟ أي : أم لا تقوم . وأزيدٌ عندك أم لا؟ أي : أم لا هو
عندك . أمَّا حَذْفُه دون « لا » فلا يجوزُ ، وقد جاء حَذْفُ « أم » مع المعادِلِ
وهو قليلٌ جداً . قال الشاعر :
4002 دعاني إليها القلبُ إني لأَمْرِها . . . سميعٌ فلا أَدْري أَرُشْدٌ طِلابُها
أي : أم غَيٌّ . وكان الشيخ قد نقل عن سيبويه أنَّ هذه هي « أم » المعادِلَةُ أي :
أم تُبْصِرُون الأمرَ الذي هو حقيقٌ أَنْ يُبْصَرَ عنده ، وهو أنَّه خيرٌ مِنْ
موسى . قال : « وهذا القولُ بدأ به الزمخشريُّ فقال : » أم/ هذه متصلة لأنَّ
المعنى : أفلا تُبْصِرون أم تُبْصرون ، إلاَّ أنه وَضَعَ قولَه : « أنا خيرٌ »
موضعَ « تُبْصِرون »؛ لأنهم إذا قالوا : أنت خيرٌ ، فهم عنده بُصَراءُ ، وهذا من
إنزالَ السببِ منزلةَ المسبب « . قال الشيخ : » وهذا متكلَّفٌ جداً؛ إذ المعادِلُ
إنما يكونُ مقابلاً للسابقِ . فإن كان المعادِلُ جملةً فعليةً كان السابقُ جملةً
فعليةً أو جملةً اسميةً يتقدَّر منها فعليةٌ ، كقوله : { أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ
أَنْتُمْ صَامِتُونَ } [ الأعراف : 193 ] لأنَّ معناه : أم صَمَتُّم ، وهنا لا
تتقدَّرُ منها جملةٌ فعليةٌ؛ لأنَّ قولَه : { أَمْ أَنَآ خَيْرٌ } ليس مقابلاً
لقولِه : « أفلا تُبْصِرون » . وإن كان السابقُ اسماً كان المعادِلُ اسماً ، أو
جملةً فعليةً يتقدَّر منها اسمٌ نحو قولِه :
4003 أمُخْدَجُ اليدَيْنِ أم أَتَمَّتِ . . . ف « أتمَّت » معادِلٌ للاسم ،
فالتقديرُ : أم مُتِمًّا « قلت : وهذا الذي رَدَّه على الزمخشريِّ رَدٌّ على
سيبويه؛ لأنه هو السابقُ به ، وكذا قولُه أيضاً : إنه لا يُحْذَفُ المعادِلُ بعد »
أم « إلاَّ وبعدها » لا « فيه نظرٌ؛ من حيث تجويزُ سيبويه حَذْفُ المعادِلِ دون »
لا « فهو رَدٌّ على سيبويهِ أيضاً.
[ قوله : { وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ } هذه الجملةُ يجوزُ أَنْ تكونَ معطوفةً على
الصلةِ ، وأَنْ تكونَ مستأنفةً ، وأن تكونَ حالاً ] . والعامَّة على » يُبين «
مِنْ أبان ، والباقر » يَبين « بفتحِها مِنْ بان أي : ظهر . اهـ (الدُّرُّ
المصُون).
(4/415)
وإنما
صَرَفْتَ أساورة لأنك ضَمَمْتَ الهاء إلى أسَاور فصار اسْماً وَاحِداً وصار
الاسم له مِثال في الواحد مثل عَلَانية وعباقية (1).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ
أَجْمَعِينَ (55)
معنى (آسفونا) أغضبونا.
* * *
(فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ (56)
جعلناهم سلَفاً مُتَقَدِّمِينَ ليتَعِظَ بهم الآخرون.
ويُقْرأُ سُلُفاً - بضم السين واللام ، ويُقرأُ سُلَفاً - بضم السين وفتح اللام -
. فمن قال سُلُفاً - بضمتين - فهو جِمع سَلِيف ، أي جميع قد مضى.
ومن قرأ سُلَفاً فهو جمع سُلْفَة أي فرقة قد مَضت.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ
مِنْهُ يَصِدُّونَ (57)
(يَصِدُّونَ) ويقرأ (يَصُدُّونَ) - بضم الصاد - والكسر أكثر ومعناهما جميعاً
يضجُّونَ
ويجوز أن يكون معنى المضمومة يُعْرضُونَ.
وجاء في التفسير أن كُفارَ قريش خاصمت النبى - صلى الله عليه وسلم - فلما قيل لهم
:
(إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) قالوا قد رضينا
أن تكون آلهتُنا
بمنزله عيسى ابن مريم والملائكةِ الذين عُبِدوا من دون اللَّه.
فهذا معنى ضَرْبِ عيسى المثل.
* * *
وقوله : (وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا
جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58)
(مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا).
أي طلباً للمجادلة لأنهم قد علموا أن المعنى في (حَصَبُ جَهَنَّمَ) ههنا أنه
يعني به الأصنام وهم.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { أَسْوِرَةٌ } : قرأ حفص « أَسْوِرَة » كأَحْمِرَة . والباقون « أساوِرَة
» . فأسْوِرَة جمع سِوار كحِمار وأَحْمِرَة ، وهو جمعُ قلةٍ ، وأساوِرَة جمعُ
إسْوار بمعنى سِوار . يقال : سِوارُ المرأة وإسْوارُها ، والأصل : أساوير بالياء ،
فَعُوِّضَ من حرف المدِّ تاءُ التأنيثِ كزَنادقة . وقيل : بل هي جمعُ أَسْوِرة فهي
جمعُ الجمعِ . وقرأ أُبَيٌّ والأعمش - ويُرْوى عن أبي عمرو - « أساوِر » دونَ تاءٍ
. ورُوِي عن أُبَيّ أيضاً وعبد الله أساْوِير . وقرأ الضحاك « أَلْقَى » مبنياً
للفاعلِ أي الله . و « وأساوِرة » نصباً على المفعولية . و « مِنْ ذَهَبٍ » صفةٌ ل
أَساورة . ويجوزُ أَنْ تكون « مِنْ » الداخلةَ على التمييز.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(4/416)
وقوله
تعالى : (إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا
لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (59)
يعني به عيسى ابن مريم.
ومعنى (وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ) أنه يدلهم على نبوته.
* * *
(وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60)
معنى (يَخْلُفُونَ) يخلف بعضهم بعضاً ، والمعنى لجعلنا منهم بَدَلًا
منكم.
* * *
(وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا
صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)
ويقرأ (لَعَلَمٌ لِلسَّاعَةِ) المعنى أن ظهورَ عيسى ابن مريم عليه السلام علَمٌ
لِلسَّاعَةِ ، أي إذا ظهر دَلَّ على مجيء الساعة.
وقد قيل إنه يعني به أن القرآن العَلَمُ للساعة يدل على قرب مجيئها ، والدليل على
ذلك قوله : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ).
والأول أكثر في التفسير (1).
وقوله : (فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا) أي لا تَشُكُّنَّ فيها.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ
بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63)
قوله جاء (بالحكمة) أي بالإنجيل وبالبينات أي الآيات التي يعجز عنها
المخلوقون.
وقالوا في معنى (بَعْضَ الَّذي تَخْتلِفونَ فِيهِ) أي كل الذي
يختلفون فيه واستشهدوا بقول لبيد.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ } : المشهورُ أنَّ الضمير لعيسى ، يعني نزولَه آخر
الزمان . وقيل الضميرُ للقرآن أي : فيه عِلْمُ الساعةِ وأهوالُها ، أو هو علامةٌ
على قُرْبها . وفيه { اقترب لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ } [ الأنبياء : 1 ] { اقتربت
الساعة } [ القمر : 1 ] . وقيل : للنبي صلَّى الله عليه وسلَّم . ومنه « بُعِثْت
أنا والساعةُ كهاتَيْن ».
والعامَّةُ على « عِلْم » مصدراً ، جُعِل عِلْماً مبالغَةً لَمَّا كان به يَحْصُلُ
العِلْمُ ، أو لَمَّا كان شَرْطاً يُعْلَم به ذلك أُطْلِق عليه عِلْم . وابن عباس
وأبو هُرَيْرَة وأبو مالكِ الغِفاري وزيد بن علي « لَعَلَمٌ » بفتح الفاءِ والعينِ
أي : لَشَرْطُ وعَلامةٌ ، وقرأ أبو نضرة وعكرمةُ كذلك ، إلاَّ أنهما عَرَّفا
باللام ، فقرآ « للعَلَمُ » أي : لَلْعلامَةُ المعروفةُ.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(4/417)
أو
يخترم بَعْضَ النُّفوسِ حِمامُها
يريد كل النفوس ، واستشهدوا أيضاً بقول القطامي :
قد يُدْرِكُ المُتَأَنّي بَعْضَ حاجتِه.
قالوا معناه كل حاجته.
وهذا مذهب أبي عبيدة ، والصحيح أن البعض لا يكون في معنى الكل ، وهذا ليس في
الكلام ، والذي جاء به عيسى في الإنجيل إنَّما هو بعض الذي اختلفوا فيه ، وبين
اللَّه سبحانه لهم من غير الإنجيل ما احتاجوا إليه ، وكذلك قوله : أو يخترم بعض
النفوس حمامها ، إنما يعني نفسه ، ونفسه بعض النفوس.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ
لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65)
(الأحزاب) قيل إنهم الأربعة الذين كانوا بعد عيسى ، يعني به اليهود
والنصارى.
وقوله : (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا
الْمُتَّقِينَ (67)
جاء في التفسير عن النبى - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : الأخِلاءُ أَرْبَعَة
مؤمنان وكافران - فمات أَحَدُ المؤمِنَيْنِ فَسُئِلَ عن خليله فقال ما علمته إلا
أمَّاراً بالمعروف نهَّاءً عن المنكر ، اللهم اهده كما هَدَيْتَنِي ، وأمِتْه على
مَا أَمَتني عليه.
وسئل الكافر عن خليله فقال : ما علمته إلا أمَّاراً بالمنكر نهَّاءً عن المعروف ،
اللهم أضلله كما أضللتني ، وأمِتْهُ على ما أَمتني عليه ، فإذا كان يوم القيامة
أثنى كل واحد على صاحبه شَرًّا .
(4/418)
قوله
- عز وجل - (يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ
تَحْزَنُونَ
(68)
وتقرأ يا عبادي - بإثبات الياء ، وقد فسرنا حذف الياء وإثباتها في مثل
هذا فيما سلف من الكتاب.
* * *
وقوله : (الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69)
(الذين) في موضع نصب على النعت لِعِبَادِي ، لأن عبادي منادى
مضاف ، وإنَّمَا قيل (لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ) للمؤمنين لا لغيرهم ،
وكذلك " (ادْخُلوا الجَنَّةَ) لَا خَوْفَ عَلَيْكُمْ
يعنى يا عبادي المؤمنين ادْخُلوا الجَنَّةَ.
* * *
وقوله : (أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70)
(تُحْبَرُونَ) تكرمون إكراماً يبالغ فيه ، والحَبْرَةُ المبالغة فيما وصف بجميل.
* * *
وقوله : (يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا
تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71)
" الصحاف " واحدها صَحْفَة وهي القصعة ، والأكواب واحدها كوب وهو
إناء مستدير لا عروة له.
وقوله : (وَفِيهَا مَا تَشْتَهِي الأنْفُسُ).
وقرئت (تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ) بإثبات الهاء ، وأكثر المصاحف بغيرها ، وفي
بعضها الهاء.
* * *
وقوله - عزَّ وجلَّ - : (لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75)
المبلس : الساكتُ المُمْسِكُ إمساك يائِس من فَرَج.
* * *
وقوله : (وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76)
" هِمْ " ههنا فصل كذا يسميها البصريون ، وهي تأتي دليلاً على أن ما
(4/419)
بعدها
ليس بصفة لما قبلها ، وأن المتكلم يأتي بخبر الأول . ويسميها الكوفيون
العِمَاد.
وهي عِندَ البصريينِ لا موضع لها في رفع ولا نصب ولَا جَرٍّ ، ويزعَمُون
أنها بمنزلة (ما) في قوله سبحانه : (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ)
وقد فسرت ما في هذا فيما تقدم من الكتاب
ويجوز " ولكن كانوا هم الظالِمُونَ " في غير القرآن ، ولكن لا تقرأنَّ
بها لأنَّها تُخَالِفُ المُصْحفَ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ
إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ
(77)
وقد رُوَيَتْ يَا مَالِ - بغير كاف ، وبكسْر اللام - وهذا يسميه النحوُّيونَ
الترَخيم ، وهو كثير في الشِعْر في مالك وعامر ولكنني أَكْرَهُهُمَا لمخالفتهما
المصحف.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79)
أي أم أحكموا عند أنْفُسِهِمْ أَمراً من كيد أو شَرٍّ فَإنا مُبْرِمُونَ.
مُحْكِمُونَ مُجَازَاتَهم كيداً بكيدِهِمْ ، وشَرًّا بِشَرِّهِمْ.
* * *
وقوله : (قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81)
معناه إنْ كنتم تزعمون أن للرحمن وَلَداً فانا أول الموَحِّدِينَ لأن من عبد
الله - عزَّ وجلَّ - واعترف بأنه إلهه فقد دفع أن يكون له وَلَدٌ.
والمعنى أن كان للرحمن ولد في قولكم ، كما قال : (أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ
كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ) أي في قولكم . واللَّه واحد لا شريك له.
وقد قيل إنَّ (إنْ) في هذا الموضع في موضع (ما)
المعنى ما كان للرحمن وَلَد ، (فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ).
وقد قيل إن العابدين في معنى الآنفين ، فأنا أول من يأنف من هذا القول.
__________
(1) قال الإمام فخر الدين الرَّازي بعد كلام طويل ما نصُّه :
المعنى أنه تعالى قال : {قُلْ} يا محمد {إِن كَانَ للرحمن وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ
العابدين} لذلك الولد وأنا أول الخادمين له ، والمقصود من هذا الكلام بيان أنى لا
أنكر ولده لأجل العناد والمنازعة فإن بتقدير أن يقوم الدليل على ثبوت هذا الولد
كنت مقراً به معترفاً بوجوب خدمته إلا أنه لم يوجد هذا الولد ولم يقم الدليل على
ثبوته ألبتة ، فكيف أقول به ؟ بل الدليل القاطع قائم على عدمه فكيف أقول به وكيف
أعترف بوجوده ؟ وهذا الكلام ظاهر كامل لا حاجة به ألبتة إلى التأويل والعدول عن
الظاهر ، فهذا ما عندي في هذا الموضع ونقل عن السدي من المفسرين أنه كان يقول حمل
هذه الآية على ظاهرها ممكن ولا حاجة إلى التأويل ، والتقرير الذي ذكرناه يدل على
أن الذي قاله هو الحق ، أما القائلون بأنه لا بد من التأويل فقد ذكروا وجوهاً
الأول : قال الواحدي كثرت الوجوه في تفسير هذه الآية ، والأقوى أن يقال المعنى
{إِن كَانَ للرحمن وَلَدٌ} في زعمكم {فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين} أي الموحدين لله
المكذبين لقولكم بإضافة الولد إليه ، ولقائل أن يقول إما أن يكون تقدير الكلام :
إن يثبت للرحمن ولد في نفس الأمر فأنا أول المنكرين له أو يكون التقدير إن يثبت
لكم ادعاء أن للرحمن ولداً فأنا أول المنكرين له ، والأول : باطل لأن ثبوت الشيء
في نفسه لا يقتضي كون الرسول منكراً له ، لأن قوله إن كان الشيء ثابتاً في نفسه
فأنا أول المنكرين يقتضي إصراره على الكذب والجهل وذلك لا يليق بالرسول ، والثاني
: أيضاً باطل لأنهم سواء أثبتوا لله ولداً أو لم يثبتوه له فالرسول منكر لذلك
الولد ، فلم يكن لزعمهم تأثير في كون الرسول منكراً لذلك الولد فلم يصلح جعل زعمهم
إثبات الولد مؤثراً في كون الرسول منكراً للولد.
الوجه الثاني : قالوا معناه : إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين الآنفين من أن
يكون له ولد من عبد يعبد إذا اشتدت أنفته فهو عبد وعابد ، وقرأ بعضهم ( عبدين ).
واعلم أن السؤال المذكور قائم ههنا لأنه إن كان المراد : إن كان للرحمن ولد في نفس
الأمر فأنا أول الآنفين من الإقرار به ، فهذا يقتضي الإصرار على الجهل والكذب ،
وإن كان المراد إن كان للرحمن ولد في زعمكم واعتقادكم فأنا أول الآنفين ، فهذا
التعليق فاسد لأن هذه الأنفة حاصلة سواء حصل ذلك الزعم والاعتقاد أو لم يحصل ،
وإذا كان الأمر كذلك لم يكن هذا التعليق جائزاً.
والوجه الثالث : قال بعضهم إن كلمة إن ههنا هي النافية والتقدير ما كان للرحمن ولد
فأنا أول الموحدين من أهل مكة أن لا ولد له.
واعلم أن التزام هذه الوجوه البعيدة إنما يكون للضرورة ، وقد بينا أنه لا ضرورة
ألبتة فلم يجز المصير إليها ، والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 27 صـ 197 - 198}
وقال السَّمين :
قوله : { إِن كَانَ للرحمن } : قيل : هي شرطيةٌ على بابِها . واخْتُلِفَ في
تأويلِه فقيل : إنْ صَحَّ ذلك فأنا أولُ مَنْ يَعْبُده لكنه لم يَصِحَّ ألبتَّةََ
بالدليلِ القاطعِ ، وذلك أنَّه عَلَّق العبادةَ بكيْنونة الولدِ ، وهي مُحالٌ في
نفسِها ، فكان المُعَلَّقُ بها مُحالاً مثلَها ، فهو في صورةِ إثباتِ الكينونةِ
والعبادةِ ، وفي معنى نَفْيهِما على أَبْلغِ الوجوهِ وأَقْواها ، ذكره الزمخشريُّ
. وقيل : إن كان له ولدٌ في زَعْمِكم . وقيل : العابدين بمعنى : الآنفين . مِنْ
عَبِدَ يَعْبَدُ إذا اشْتَدَّ أَنَفَةً فهو عَبِدٌ وعابِدٌ . ويؤيِّدُه قراءةُ
السُّلَميِّ واليماني « العَبِدين » دون ألفٍ . وحكى الخليل قراءةً غريبةً وهي «
العَبْدِيْن » بسكون الباءِ ، وهي تخفيفُ قراءةِ السُّلَمي فأصلها الكسرُ . قال
ابنُ عرفة : « يقال : عَبِدَ بالكسر يَعْبَد بالفتح فهو عَبِد ، وقلَّما يقال :
عابِد ، والقرآن لا يجيْءُ على القليلِ ولا الشاذِّ » . قلتُ : يعني فتخريج مَنْ
قال : إنَّ العابدين بمعنى الآنفين لا يَصِحُّ ، ثم قال كقول مجاهد . وقال الفرزدق
:
4010 أولئك آبائي فجِئْني بمثْلِهم . . . وأَعْبَدُ أنْ أَهْجُوْ كُلَيْباً
بدارِمِ
أي : آنَفُ . وقال آخر :
4011 متى ما يَشَأْ ذو الوُدِّ يَصْرِمْ خليلَه . . . ويُعْبَدْ عليه لا مَحالةَ
ظالما
وقال أبو عبيدة : « معناه الجاحِدين » . يقال : عَبَدَني حَقِّي أي : جَحَدنيه .
وقال أبو حاتم : « العَبِدُ بكسر الباءِ : الشديدُ الغَضَبِ » ، وهو معنى حسنٌ أي
: إنْ كان له ولدٌ على زَعْمِكم فأنا أولُ مَنْ يَغْضَبُ لذلك.
وقيل : « إنْ » نافيةٌ أي : ما كان ، ثم أَخْبَرَ بقولِه : { فَأَنَاْ أَوَّلُ
العابدين } وتكونُ الفاءُ سببيةً . ومنع مكي أَنْ تكونَ نافيةً قال : « لأنه
يُوْهِمُ أنَّك إنما نَفَيْتَ عن الله الولدَ فيما مضى دونَ ما هو آتٍ ، وهذا
مُحالٌ ».
وقد رَدَّ الناسُ على مكيّ ، وقالوا : كان قد تَدُلُّ على الدوامِ كقوله : {
وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً } [ النساء : 96 ] إلى ما لا يُحْصَى ، والصحيحُ
من مذاهبِ النحاةِ : أنها لا تدُلُّ على الانقطاعِ ، والقائلُ بذلك يقولُ : ما لم
يكنْ قرينة كالآياتِ المذكورةِ . وتقدَّمَ الخلافُ في قراءَتَيْ : وَلَد ووُلْد في
مريم . اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(4/420)
وقوله
عزَّ وجلَّ : (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ
وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84)
المعنى هو الموحَّدُ في السماء وفي الأرْضِ.
وقرئت (في السَّماءِ اللَّهُ وفِي الأرْضِ اللَّهُ).
ويدل ما خلق بَيْنَهُما وفيهما أَنه وَاحِد حكيم عليم ، لأن
خلقُهما يدل على الحِكْمَةِ والعِلْمِ (1).
* * *
وقوله : (وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ (88)
(وَقِيلَهِ)
ويُقْرأ (وقِيلِهِ) ، (وقِيلُهِ يَا رَبِّ) ، فيها ثلاثة أوجه :
الخفض على مَعْنَى (وعنده علم الساعة) وعلمُ قِيلِه يَا رَبِّ
والنصب من ثلاثة أوجه :
قال أبو الحسن الأخفش إنه منصوب من جهتين :
إحداهما على العطف على قوله : (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ
وَنَجْوَاهُمْ) وقيلَهُ ، أي ونسمع قيله . ويكون على وقال قيله.
قال أبو إسحاق : والَّذي أختاره أنا أن يكون " قيلَه " نصْباً على
مَعْنَى
وعنده علم الساعة ويعلمُ قيلَهُ ، فيكون المعنى إنَّه يعلم الغيب ويعلم قيله ، لأن
معنى عنده علم الساعة يعلم الساعة ويعلم قيله.
ومعنى الساعة في كل القرآن الوقت الذي تقوم فيه القيامَةُ.
والرفع على معنى وقيلُه هذا القول ، أي وقيله قوله (يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ
قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ) (2).
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { وَهُوَ الذي فِي السمآء إله } : « في السماء » متعلِّقٌ ب « إله » لأنه
بمعنى معبودٌ أي : معبودٌ في السماء ومعبودٌ في الأرض ، وحينئذٍ فيقال : الصلة لا
تكونُ إلاَّ جملةً أو ما في تقديرِها وهو الظرفُ وعديلُه ، ولا شيءَ منها هنا .
والجوابُ : أنَّ المبتدأَ حُذِفَ لدلالة المعنى عليه ، وذلك المحذوفُ هو العائدُ
تقديرُه : وهو الذي في السماءِ إلهٌ ، وهو في الأرض إلهٌ ، وإنما حُذِف لطولِ
الصلةِ بالمعمولِ فإنَّ الجارَّ متعلِّقٌ ب إله . ومثلُه « ما أنا بالذي قائلٌ لك
سوءاً ».
وقال الشيخ : « وحَسَّنه طولُه بالعطفِ عليه ، كما حَسَّنَ في قولِهم : قائل [ لك
] شيئاً طولُه بالمعمولِ » . قلت : حصولُه في الآيةِ وفيما حكاه سواءٌ؛ فإن الصلةَ
طالَتْ بالمعمولِ في كلَيْهما ، والعطفُ أمرٌ زائدٌ على ذلك فهو زيادةٌ في تحسين
الحَذْفِ . ولا يجوزُ أَنْ يكونَ الجارُّ خبراً مقدماً ، و « إله » مبتدأٌ مؤخرٌ
لئلا تَعْرَى الجملةُ مِنْ رابطٍ ، إذ يصيرُ نظيرَ « جاء الذي في الدار زيد » .
فإن جَعَلْتَ الجارَّ صلةً وفيه ضميرٌ عائدٌ على الموصولِ وجَعَلْتَ « إله » بدلاً
منه . قال أبو البقاء : « جاز على ضَعْفٍ؛ لأن الغَرَض الكليَّ إثباتُ الإِلهيةِ
لا كونُه في السماء والأرض ، فكان يَفْسُدُ أيضاً من وجهٍ آخرَ وهو قولُه : {
وَفِي الأرض إله } لأنه معطوفٌ على ما قبلَه ، وإذا لم تُقَدِّرْ ما ذكرْنا صار
منقطعاً عنه وكان المعنى : أنَّ في الأرض إلهاً » انتهى . وقال الشيخ : « ويجوزُ
أَنْ تكونَ الصلةُ الجارَّ والمجرورَ ، والمعنى : أنه فيهما بألوهِيَّتِه
وربُوبِيَّتِه ، إذ يَستحيل حَمْلُه على الاستقرار ».
وقرأ عمرُ وعلي وعبد الله في جماعة { وَهُوَ الذي فِي السمآء الله } ضُمِّن
العَلَمُ أيضاً معنى المشتقِّ ، فيتعلَّقُ به الجارُّ . ومثله « هو حاتمٌ في
طَيِّئ » أي : الجوادُ فيهم . ومثلُه : فرعون العذاب . اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(2) قال السَّمين :
قوله : { وَقِيلِهِ } : قرأ حمزةُ وعاصمٌ بالجرِّ . والباقون بالنصب . فأمَّا
الجرُّ فعلى وجهَيْن ، أحدهما : أنَّه عطفٌ على « الساعة » أي : عنده عِلْمُ قيلِه
، أي : قولِ محمدٍ أو عيسى عليهما السلام . والقَوْلُ والقالُ والقِيْلُ بمعنى
واحد جاءَتْ المصادرُ على هذه الأوزانِ . والثاني : أنَّ الواوَ للقَسم . والجوابُ
: إمَّا محذوفٌ تقديرُه : لتُنْصَرُنَّ أو لأَفْعَلَنَّ بهم ما أريد ، وإمَّا
مذكورٌ وهو قولُه : { إِنَّ هؤلاء قَوْمٌ لاَّ يُؤْمِنُونَ } ذكره الزمخشريُّ.
وأمَّا قراءةُ النصبِ ففيها ثمانيةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنَّه منصوبٌ على محلِّ «
الساعة » . كأنَّه قيل : إنه يَعْلَمُ الساعةَ ويعْلَمُ قِيْله كذا . الثاني :
أنَّه معطوفٌ على « سِرَّهم ونجواهم » أي : لا نعلم سِرَّهم ونجواهم ولا نعلمُ
قِيْلَه . الثالث : عطفٌ على مفعولِ « يكتُبون » المحذوفِ أي : يكتبون ذلك ويكتبون
قيلَه كذا أيضاً . الرابع : أنَّه معطوفٌ على مفعولِ « يعلمون » المحذوفِ أي :
يَعْلمون ذلك ويعلمون قيلَه . الخامس : أنه مصدرٌ أي : قالَ قيلَه . السادس : أَنْ
ينتصِبَ بإضمارِ فعلٍ أي : اللَّهُ يعلمُ قيلَ رسولِه وهو محمدٌ صلَّى الله عليه
وسلَّم . السابع : أَنْ ينتصِبَ على محلِّ « بالحق » أي : شَهِدَ بالحقِّ
وبِقيْلِه . الثامن : أَنْ ينتصِبَ على حَذْفِ حرفِ القسمِ كقوله :
4012 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . فذاك أمانةَ اللَّهِ
الثَّريدُ
وقرأ الأعرجُ وأبو قلابةَ ومجاهدٌ والحسنُ بالرفع ، وفيه أوجه [ أحدها : ] الرفعُ
عطفاً على « علمُ الساعةِ » بتقديرِ مضافٍ أي : وعنده عِلْمُ قِيْلِه ، ثم حُذِفَ
وأُقيم هذا مُقامَه . الثاني : أنَّه مرفوعٌ بالابتداءِ ، والجملةُ مِنْ قولِه : «
يا رب » إلى آخره هي الخبر . الثالث : أنه مبتدأٌ وخبرُه محذوفٌ تقديرِه : وقيلُه
كيتَ وكيتَ مَسْموعٌ أو مُتَقَبَّلٌ . الرابع : أنه مبتدأ وأصلُه القسمُ كقولِهم :
« ايمُنُ الله » و « لَعَمْرُ الله » فيكونُ خبرُه محذوفاً . والجوابُ كما تقدَّم
، ذَكرَه الزمخشري أيضاً.
واختار القراءةَ بالنصب جماعةٌ . قال النحاس : « القراءةُ البَيِّنَةُ بالنصب من جهتَيْن
، إحداهما : أنَّ التفرقةَ بين المنصوبِ وما عُطِفَ عليه مُغْتَفَرَةٌ بخلافِها
بين المخفوضِ وما عُطِفَ عليه . والثانيةُ تفسيرُ أهلِ التأويل بمعنى النصب » .
قلت : وكأنَّه يُريدُ ما قال أبو عبيدة قال : « إنما هي في التفسيرِ : أم
يَحْسَبون أنَّا لا نَسْمع سِرَّهم ونجواهم ولا نسمعُ قِيْلَه يا رب . ولم
يَرْتَضِ الزمخشريُّ من الأوجهِ المتقدمةِ شيئاً ، وإنما اختار أَنْ تكونَ قَسَماً
في القراءاتِ الثلاثِ ، وتقدَّم تحقيقُها.
وقرأ أبو قلابة » يا رَبَّ « بفتح الباءِ على قَلْب الياء ألفاً ثم حَذََفَها
مُجْتَزِئاً عنها بالفتحة كقولِه :
4013 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . بلَهْفَ ولا بِلَيْتَ . . . .
. . . . . . . . . . . . .
والأخفشُ يَطَّرِدُها . اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(4/421)
سُورَةُ
الدُّخَان
( مَكِّيَّة )
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
جاء في التفسير : من قرأ سورة الدخان في ليلة الجمعة تصديقاً وإيماناً
غفر اللَّه له.
وقد فسرنا معنى (حم) فيما سَلَفَ.
* * *
وقوله : (وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2)
قَسَمٌ.
* * *
وقوله : (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا
مُنْذِرِينَ (3)
جاء في التفسير أنها ليلة القدر ، قال اللَّه - عزَّ وجلَّ - :
(إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ).
وقال المفسرُون : (فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ) هي ليلة القدر.
نزل جملة إلى السماءِ الدنْيَا في ليلة القَدْرِ ، ثم نزل عَلَى رَسُول اللَّه -
صلى الله عليه وسلم - شيئاً بعد شيء.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4)
يَفْرُق اللَّه عزَّ وجلَّ في ليلة القدر كل أمر فيه حكمة من أرزاقِ العِبادِ
وآجالِهِمْ وجميع أَمْرِهم الذي يكون مُؤَجَّلاً إلى ليلة القدر التي تكون في
السنة
المقبلة.
* * *
وقوله - عزَّ وجلَّ - : (أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5)
رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6)
(أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا) (1) ، وقوله : (رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ).
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { أَمْراً } : فيه اثنا عشر وجهاً ، أحدُها : أَنْ ينتصِبَ حالاً مِنْ فاعل
« أَنْزَلْناه » . الثاني : أنه حالٌ مِنْ مفعولِه أي : أنزلناه آمِرِيْن ، أو
مَأْموراً به . الثالث : أَنْ يكونَ مفعولاً له ، وناصبُه : إمَّا « أَنْزَلْناه »
وإمَّا « مُنْذرِين » وإمَّا « يُفْرَقُ » . الرابع : أنه مصدرٌ مِنْ معنى يُفْرَق
أي : فَرْقاً . الخامس : أنه مصدرٌ ل « أَمَرْنا » محذوفاً . السادس : أَنْ يكونَ
« يُفْرَقُ » بمعنى يَأْمُر . والفرقُ بين هذا وما تقدَّم : أنَّك رَدَدْتَ في هذا
بالعاملِ إلى المصدرِ وفيما تقدَّم بالعكس . السابع : أنَّه حالٌ مِنْ « كُلُّ » .
الثامن : أنه حالٌ مِنْ « أَمْرٍ » وجاز ذلك لأنه وُصِفَ . إلاَّ أنَّ فيه شيئين :
مجيءَ الحالِ من المضاف إليه في غيرِ المواضع المذكورة . والثاني : أنها مؤكدةٌ .
التاسع : أنه مصدرٌ ل « أَنْزَل » أي : إنَّا أَنْزَلْناه إنزالاً ، قاله الأخفش .
العاشر : أنَّه مصدرٌ ، لكن بتأويل العاملِ فيه إلى معناه أي : أَمَرْنا به
أَمْراً بسببِ الإِنزال ، كما قالوا ذلك في وَجْهي فيها يُفْرَقُ فَرْقاً أو
يَنْزِل إنزالاً . الحادي عشر : أنه منصوبٌ على الاختصاص ، قاله الزمخشري ، ولا
يَعْني بذلك الاختصاصَ الاصطلاحيَّ فإنه لا يكون نكرةً . الثاني عشر : أَنْ يكونَ
حالاً من الضميرِ في « حكيم » . الثالث عشر : أَنْ ينتصِبَ مفعولاً به ب «
مُنْذِرين » كقولِه : { لِّيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً } [ الكهف : 2 ] ويكونُ
المفعولُ الأول محذوفاً أي : مُنْذِرين الناسَ أمراً . والحاصلُ أنَّ انتصابَه
يَرْجِعُ إلى أربعة أشياء : المفعولِ به ، والمفعولِ له ، والمصدريةِ ، والحاليةِ
، وإنما التكثيرُ بحَسبِ المحالِّ ، وقد عَرَفْتَها بما قَدَّمْتُه لك.
وقرأ زيد بن علي « أَمْرٌ » بالرفع . قال الزمخشري : « وهي تُقَوِّي النصبَ على
الاختصاصِ ».
قوله : « مِنْ عِنْدِنا » يجوز أَنْ يتعلَّق ب « يُفْرَقُ » أي : مِنْ جهتِنا ،
وهي لابتداءِ الغاية مجازاً . ويجوز أَنْ يكونَ صفةً ل أَمْراً . اهـ (الدُّرُّ
المصُون).
(4/423)
منصوبان
- قال الأخفش - على الحال ، المعنى إنا أنزلناه آمرين أَمْرِاً
وراحمين رحْمةً.
ويجوز أن يكون منصوباً بِـ (يُفْرَقُ) بمنزلة يفرُقُ فرقاً لأن أمْرَاً
بمعنى فَرْقاً ، لأن المعْنَى يؤتمر فيها أمراً.
ويجوز أن يكون (رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) مَفْعُولًا له ، أي إنا أنزلناه رحمة أي
للرحْمَةِ (1).
* * *
وقوله : (رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ
مُوقِنِينَ (7)
بالخفض والرفع . فالرفعُ عَلَى الصفَةِ ، والخفض على قوله : (مِنْ رَبِّكَ
رَبِّ السَّمَاوَاتِ.
ومن رفع فعلى قوله : (إنَّه هو السميع العليم رَبُّ السَّمَاوَاتِ).
وإن شئت على الاستئناف على معنى هو ربُّ السَّمَاوَاتِ.
* * *
وقوله : (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ
الْأَوَّلِينَ (8)
ويقرأ (رَبكُمْ وَرَبِّ آبائِكم الأولينَ) - فالخفض على معنى رَحْمَةً مِنْ
رَبِّكَ
رَبِّكم وربّ آبائكم الأولين.
* * *
وقوله : (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10)
(فارتقب) فانتظر ، وفي أكثر التفسير أن الدخان قَدْ مَضى وذلك حين دعا
رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - عَلَى مُضَرٍ فقال :
اللهم اشدد وطأتك على مُضَرٍ واجْعَلْها عَلَيْهِم سِنِينَ كسني يُوسُفَ.
أي اجْعَلْهُم سِنُوهم في الجدب كسني يوسف.
والعَرَبُ أيضاً تسمي الجدبِ السَّنَةَ ، فيكونُ المْعَنى اجعلها عليهم جَدُوباً .
فارتفع القَطْرُ ، وأجْدَبَتِ الأرضُ وصار بين السماء والأرض كالدخَانِ.
* * *
وقوله : (يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11)
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { رَحْمَةً } : فيها خمسةُ أوجهٍ [ أحدها ] : المفعولُ له . والعاملُ فيه :
إمَّا « أَنْزَلْناه » وإمَّا « أَمْراً » وإمَّا « يُفْرَقُ » وإمَّا « مُنْذِرين
» . الثاني : مصدرٌ بفعلٍ مقدرٍ أي : رَحِمْنا رَحْمَةً . الثالث : مفعولٌ ب
مُرْسِلين . الرابع : حالٌ من ضمير « مُرْسِلين » أي : ذوي رحمة . الخامس : أنها
بدلٌ مِنْ « أَمْراً » فيجيءُ فيها ما تقدَّم ، وتكثرُ الأوجهُ فيها حينئذٍ.
و « مِنْ رَبِّك » يتعلَّقُ برَحْمة ، أو بمحذوفٍ على أنها صفةٌ . وفي « مِنْ
ربِّك » التفاتٌ من التكلُّم إلى الغَيْبة ، ولو جَرَى على مِنْوالِ ما تقدَّمَ
لقال : رحمةً منا . اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(4/424)
المعنى
يقول الناسُ الذين يحل بهم الجَدْبُ : (هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ)
وكذلك قوله (رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ).
* * *
وقوله - عزَّ وجلَّ - : (إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ
عَائِدُونَ (15)
ويجوز أَنَّكُمْ عَائِدُونَ.
فمن قرأ أَنكُمْ عائدونَ فهو الوجه ، والمعنى أنه يعلمهم أنهم لا يتعِظُونَ ،
وأنهم إذَا زال عنهم المكروه عادوا في طُغْيانِهم.
* * *
وقوله - عزَّ وجلَّ : (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا
مُنْتَقِمُونَ (16)
يوم نَبْطِش ، وَنَبْطُش إِنَّا مُنْتَقِمُونَ.
هذا مثل عَكَفَ يَعكُف وَيَعْكِفُ ، وعَرَشَ يَعْرِشُ ويعْرُشُ وهذا في اللغة
كثير.
وقيل إن البطشة الكبرى يوم بَدْر.
و " يومَ " لا يجوز أن يكون منصُوباً بقوله مُنْتَقِمُونَ ، لأن ما بَعْدَ
(إنَّا) لا يجوز أن يعمل فيما قبلَها ، ولكنه مَنْصُوبُ بقوله : واذكر يوم نبطش
البطشة الكبرى.
* * *
وقوله - عزَّ وجلَّ - : (وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ
وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي
لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18)
(أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ)
أن أسلموا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ ، يعني بني إسرائيل كما قال : (فَأَرْسِلْ
مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ) ، أي أطلقهم من عَذَابِكَ.
وجائز أن يكون (عِبَادَ اللَّهِ) مَنصُوباً على النداء ، فيكون المعنى أَنْ
أَدُّوا إِلَيَّ ما أمركم اللَّه به يا عباد اللَّه.
* * *
(وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (19)
أي بِحِجةٍ وَاضحةٍ بَيِّنَةٍ تَدل على أني نبيٌّ.
* * *
وقوله : (وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20)
أي أن تقتلون .
(4/425)
وقوله
: (وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21)
أي إن لم تؤمنوا لي فلا تكونوا عليَّ ولا مَعِي.
* * *
(فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22)
من كسر (إنَّ) فالمعنى قال إن هؤلاء ، وَ " إنَّ) بعد القول مكسورة.
ويجوز الفتح على معنى فَدَعَا رَبَّهُ بأَنَّ هَؤُلَاءِ.
* * *
وقوله : (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24)
جاء في التفسير " يَبَساً " كما قال : (فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي
الْبَحْرِ يَبَسًا"
وقال أهل اللغة : رَهواً سَاكِناً.
* * *
وقوله : (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ
(26)
جاء في التفسير أن المقام الكريم يعنى به المنابر ههنا ، وجاء في
مَقام كريم أي في منازل حسنة.
* * *
قوله : (كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (28)
المعنى الأمر كذلكْ.
موضع كذلك رفع على خبر الابتداء المضمَر.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا
كَانُوا مُنْظَرِينَ
(29)
لأنهم ماتوا كفاراً ، والمؤمنون إذَا مَاتُوا تبكي عليهم السماء والأرض.
فيبكي على المؤمن من الأرض مُصَلَّاه أي مكان مُصَلاهُ ومن السماء مكان مصعد
عمله ومنزل رزقه.
وجاء في التفسير أن الأرض تبكي على المؤمن أربعين
صَبَاحاً.
* * *
وقوله : (وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ).
(4/426)
أي
ما كانوا مؤخرين بالعذاب.
(وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (32)
أي على عالمي دهرِهم.
* * *
وقوله : (إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا
الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35)
هذا قاله الكفار من قريش ، معنى (إن هي) ما هي ، ومعنى (بِمُنْشَرِينَ)
بمبعوثين ، يقال أنشر اللَّه الموتى فَنَشَرُوا هُمْ [إِذا حَيُوا] (1).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (37)
جاء في التفسير أن تُبَّعاً كان مؤمناً ، وأن قومه كانوا كافرين ، وجاء أنه
نظر إلى كتاب على قبرين بناحية حمير ، على قبر أحدهما : هذا قبر رَضْوَى.
وعلى الآخر هذا قبر حُبى ابْنتي تُبَّع لا يشركان باللَّهِ شيئاً.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ
لَا يَعْلَمُونَ (39)
يعنى به السَّمَاوَات والأرض أي إلا لإقامة الحق.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40)
ويجوز ميقاتهم بنصب التاء ، ولا أعلم أنه قرئ بها ، فلا تقرأن بها.
فمن قرأ ميقاتهم بالرفع جعل يوم الفصل اسم إنَّ ، وجعل ميقاتهم الخبر ، ومن
نصب ميقاتهمْ جعله اسم إنَّ ونصب يوم الفصل على الظرف ، ويكون المعنى
ميقاتهم في يوم الفصل.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ
يُنْصَرُونَ (41)
لا يغني ولي عن وَليِّهِ شيئاً ، ولا والد عن ولده ، ولا مَوْلُودٌ عن وَالِدِه.
* * *
وقوله : (إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44)
__________
(1) زيادة من لسان العرب. 5 / 206).
(4/427)
يعنى
به ههنا أبو جهل بن هشام.
والمهل دُرْدِيُّ الزيت ويقال : المهمل ما كان ذائباً من الفضة والنحاس وما أشبه ذلك
(3).
* * *
وقوله : (خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47)
ويقرأ فاعْتُلوه - بضم التاء وكسرها.
المعنى يا أيها الملائكة خذوه فاعتلوه.
والعَتْلُ أن يؤخذَ فيمْضَى به بِعَسْفٍ وَشِدةٍ.
(إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ) إلى وَسَطِ الجَحِيمِ.
* * *
وقوله : (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49)
الناس كلهم على كسر " إِنَّكَ " إلا الكسائي وحده فإنه قرأ : ذق أنَّكَ
أنت ، أي لأنَّكَ قُلْتَ إنك أنت العزيز الكريم ، وذلك أنه كان يقول : أنا أعز أهل
هذا الوادي وَأمْنَعُهمُ فقال الله عزَّ وجلَّ ذق هذا العذابَ إِنَّك أنت القائل :
أنا العزيز الكريم.
* * *
وقوله : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51)
أي قد أمنوا فيه الغِيَرَ (1).
* * *
وقوله : (يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (53)
قيل الإِسْتَبْرَق : الديباج الصَّفيقُ (2).
والسُنْدُس : الحرير ، وإنما قيل له إستبرق
- واللَّه أعلم - لشدة بريقه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ
الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56)
المعنى لا يذوقون فيها الموت ألبتَّة سوى الموتة الأولى التي ذاقوها في
الدنيا ، وهما كما قال : (وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ
إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ).
__________
(1) أمنوا فيه الغِيَرَ والحوادث (زاد المسير. 7 / 350)
(2) الغليظ الحسَن
(3) قال السَّمين :
قوله : { كالمهل } : يجوزُ أَنْ يكونَ خبراً ثانياً ، وأَنْ يكونَ خبرَ مبتدأ
مضمرٍ أي : هو كالمُهْلِ . ولا يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً مِنْ « طعام الأثيم » . قال
أبو البقاء : « لأنَّه لا عاملَ إذ ذاك » . وفيه نظرٌ؛ لأنَّه يجوزُ أَنْ يكونَ
حالاً ، والعاملُ فيه معنى التشبيه ، كقولك : زيدٌ أخوك شجاعاً.
والأَثيم صفةُ مبالَغَةٍ . ويقال : الأَثُوم كالصَّبورِ والشَّكور . والمُهْل :
قيل دُرْدِيُّ الزيت . وقيل عَكَر القَطِران . وقيل : ما أُذِيْبَ مِنْ ذَهَبٍ أو
فضة . وقيل : ما أُذِيْبَ منهما ومِنْ كُلِّ ما في معناهما من المُنْطبعات
كالحديدِ والنحاس والرَّصاص . والمَهْلُ بالفتح : التُّؤَدَةُ والرِّفْقُ . ومنه {
فَمَهِّلِ الكافرين } [ الطارق : 17 ] . وقرأ الحسن « كالمَهْل » بفتح الميم فقط ،
وهي لغةٌ في المُهْلِ بالضم.
قوله : « يَغْلي » قرأ ابن كثير وحفصٌ بالياءِ مِنْ تحتُ . والفاعلُ ضميرٌ يعود
على طعام . وجَوَّز أبو البقاء أَنْ يعودَ على الزَّقُّوم . وقيل : يعود على
المُهْلِ نفسِه ، و « يَغْلي » حالٌ من الضميرِ المستترِ في الجارِّ أي : مُشْبهاً
المُهْلَ غالياً . ويجوزُ أَنْ يكونَ حالاً مِنَ المُهْلِ نفسِه . وجَوَّزَ أبو
البقاء أَنْ يكونَ خبرَ مبتدأ محذوفٍ أي : هو يَغْلي أي : الزقُّوم أو الطعامُ .
والباقون « تَغْلي » بالتاء مِنْ فوقُ ، على أنَّ الفاعلَ ضميرُ الشجرةِ ،
والجملةُ خبرٌ ثانٍ أو حالٌ على رَأْيٍ ، أو خبرُ مبتدأ مضمر أي : هي تَغْلي . اهـ
(الدُّرُّ المصُون).
(4/428)
وقوله
عزَّ وجلَّ : (فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57)
ويجوز (فَضْلٌ مِنْ رَبِّكَ) ، ولا يقرأنَّ بها لخلاف المصحف ، والنصْبُ على
معنى قوله (يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ).
وعلى معنى (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ)
وذلك بفضل من اللَّه ، فالمعنى فعَل الله بهم ذلك فضلاً منه.
وتفضلاً منه.
* * *
وقوله : (فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59)
معناه فانتظر إنهم منتظرون .
(4/429)
سُورَةُ
الجاثية
( مَكِّيَّة )
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله عزَّ وجلَّ : (إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ
(3)
المعنى - واللَّه أعلم إن في خلق السَّمَاوَات والأرض لآياتٍ
ويدل عليه قوله (وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ
يُوقِنُونَ
(4)
يقرأ (آياتٍ) و (آياتٌ) بخفض التاء ورفعها
وهي في موضع نصب على النسَق على قوله : (إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
لَآيَاتٍ).
المعنى إن في خَلْقِكم لآيات ، ومن قرأ (لَآيَاتٌ) فعلى ضربين :
على الاستئناف على معنى وفي خلقكم آياتٌ.
وعلى موضع أن مع ما عملت فيه.
تقول : إن زيداً قائم وَعَمْراً وعَمْر.
فتعطف بعَمْرٍو على زيد إذا نَصَبْتَ ، وإذَا رفعت فعلى موضع إنَّ مع زيدٍ ، فإن
مَعْنَى إنَّ زَيداً قائم زيد قائم.
* * *
وقوله : (وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ
السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ
الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5)
(آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)
يقرأ بالرفع وبكسر التاء والتنوين ، والموضع موضع نَصْبٍ ويكون قوله :
(وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) عطف على قوله : (وفي خلقكم) ، وعلى قوله :
(4/431)
(إن
في السَّمَاوَاتِ والأرضِ) ، وإن في (اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) آياتٍ.
وهذا عطف عَلَى عَامِلَيْن
ومثله من الشعر :
أكلَّ امرِىءٍ تَحْسَبين امرَأً . . . ونارٍ تَوَقَّدُ بالليلِ نارا
عطف على ما عملت فيه كل ، وما عملت فيه أتحسبين.
وقد أباهُ بعض النحويين ، وقالوا : لا يجوز إلا الرفع في قوله :
(وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ)
وجعله عطفاً على عامل واحد على معنى واختلاف الليل والنهار وتصريف الرياح آيات ،
وهذا أيضاً عطف على عاملين لأنه يَرْفَع (آياتً) على العطف على ما قبلها كما خفض
(واختلافِ) على العطف على ما قبلها.
ويكون معطوفاً إن شئت على موضع أن وَمَا عَمِلتْ فيه ، وإن شئت على قراءة من قرأ :
(وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٍ) (1).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6)
و (تؤمنون) جميعاً ، والمعنى - واللَّه أعلم - فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ كتاب اللَّهِ
وآياته يؤمنون.
قال اللَّه عزَّ وجلَّ : (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا
مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ)
فجعل القرآن أحسن الحديث.
* * *
وقوله : (ويل لِكُلِ أَفاكٍ أَثِيم).
(أَفاكٍ) كذاب.
* * *
وقوله : (هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20)
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { وَمَا يَبُثُّ مِن دَآبَّةٍ } : فيه وجهان ، أظهرهما : أنه معطوفٌ على «
خَلْقِكم » المجرورِ ب « في » والتقديرُ : وفي ما يَبُثُّ . والثاني : أنه معطوفٌ
على الضميرِ المخفوضِ بالخَلْق ، وذلك على مذهبِ مَنْ يرى العطفَ على الضميرِ
المجرورِ دونَ إعادةِ الجارِّ واستقبحه الزمخشريُّ وإنْ أُكِّد نحو : « مررتُ بك
أنت وزيدٍ » يُشير بذلك إلى مذهب الجرميِّ فإنَّه يقول : إن أُكِّد جازَ ، وإلاَّ
فلا ، فقولُه مذهبٌ ثالثٌ.
قوله : { آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } و { آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } قرأ «
آياتٍ » بالكسر في الموضعَيْن الأخوَان ، والباقون برفعهما . ولا خلافَ في كسرِ
الأولى لأنها اسمُ « إنَّ » . فأمَّا { آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } بالكسر
فيجوزُ فيها وجهان ، أحدهما : أنها معطوفةٌ على اسم « إنَّ » ، والخبرُ قولُه : «
وفي خَلْقِكم » . كأنه قيل : وإنَّ في خَلْقِكم وما يَبُثُّ مِنْ دابة آياتٍ .
والثاني : أَنْ تكونَ كُرِّرَتْ تأكيداً لآيات الأُولى ، ويكونُ « في خَلْقكم »
معطوفاً على « في السماوات » كُرِّر معه حرفُ الجَرِّ توكيداً . ونظيرُه أَنْ
تقولَ : « إنَّ في بيتك زيداً وفي السوق زيداً » فزيداً الثاني تأكيدٌ للأول ،
كأنك قلت : إنَّ زيداً زيداً في بيتك وفي السوق وليس في هذه عطفٌ على معمولَيْ
عاملَيْن ألبتَّةََ.
وقد وَهِم أبو البقاء فجعلها مِنْ ذلك فقال : { آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ }
يُقرأ بكسر التاءِ ، وفيه وجهان ، أحدهما : أنَّ « إنَّ » مضمرةٌ حُذِفَتْ لدلالة
« إنَّ » الأُولى عليها ، وليسَتْ « آيات » معطوفةً على « آيات » الأولى لِما فيه
من العطفِ على معمولَيْ عامليْن . والثاني : أَنْ تكونَ كُرِّرَتْ للتأكيد لأنها
مِنْ لفظ « آيات » الأُوْلى ، وإعرابُها كقولِك : « إن بثوبك دماً وبثوبِ زيد دماً
» ف « دم » الثاني مكررٌ؛ لأنَّك مُسْتغنٍ عن ذِكْرِه « انتهى.
فقوله : » وليسَتْ معطوفةً على آياتِ الأولى لِما فيه من العطفِ على عامِلَيْن «
وَهَمٌ؛ أين معمولُ العاملِ الآخر؟ وكأنه توهَّمَ أنَّ » في « ساقطةٌ مِنْ قولِه :
» وفي خَلْقِكم « أو اختلطَتْ عليه { آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } بهذه؛ لأنَّ
تَيْكَ فيها ما يُوْهِمُ العطفَ على عامِلَيْن وقد ذكره هو أيضاً.
وأمَّا الرفعُ فمِنْ وجهَيْن أيضاً ، أحدهما : أَنْ يكونَ » في خَلْقِكم « خبراً
مقدَّماً ، و » آياتٌ « مبتدأً مؤخراً ، وهي جملةٌ معطوفةٌ على جملة مؤكدةٍ . ب »
إنَّ « . والثاني : أَنْ تكون معطوفةً على » آيات « الأولى باعتبار المحلِّ عند
مَنْ يُجيزُ ذلك ، لا سيما عند مَنْ يقولُ : إنه يجوز ذلك بعد الخبرِ بإجماعٍ.
وأمَّا قولُه : { واختلاف الليل والنهار } الآية فقد عَرَفْتَ أنَّ الأخَوَيْن
يقرآن » آيات « بالكسرِ ، وهي تحتاج إلى إيضاحٍ ، فإن الناسَ قد تكلَّموا فيها
كلاماً كثيراً ، وخرَّجوها على أوجهٍ مختلفةٍ ، وبها استدلَّ على جوازِ العطفِ على
عاملين.
قلت : والعطفُ على عامِلَيْن لا يختصُّ بقراءةِ الأخوَيْن بل يجوز أَنْ يُسْتَدَلَّ
عليه أيضاً بقراءة الباقين ، كما ستقف عليه إن شاء الله تعالى . فأما قراءةُ
الأخوين ففيها أوجهٌ ، أحدُها : أن يكونَ « اختلافِ الليلِ » مجروراً ب « في »
مضمرةً ، وإنما حُذِفَتْ لتقدُّم ذكرِها مَرَّتَيْنِ ، وحرفُ الجرِّ إذا دَلَّ
عليه دليلٌ/ جاز حَذْفُه وإبقاءُ عملِه . وأنشَدَ سيبويه :
4023 الآن قَرَّبْتَ تَهْجُونا وتَشْتِمُنا . . . فاذهَبْ فما بك والأيامِ من
عَجَبِ
تقديرُه : وبالأيام لتقدُّم الباءِ في « بك » ولا يجوزُ عَطْفُه على الكاف لأنه
ليس مِنْ مذهبه - كما عَرَفْتَ - العطفُ على الضميرِ المجرورِ دونَ إعادةِ الجارِّ
، فالتقديرُ في هذه الآيةِ : « وفي اختلافِ آيات » ف « آيات » على ما تقدَّم من
الوجهين في « آيات » قبلَها : العطفِ أو التأكيدِ . قالوا : ويَدُلُّ على ذلك
قراءةُ عبد الله « وفي اختلافِ » تصريحاً ب « في » . فهذان وجهان.
الثالث : أَنْ يُعْطَفَ « اختلافِ » على المجرورِ ب « في » وآياتٍ على المنصوبِ ب
« إنَّ » . وهذا هو العطفُ على عاملَيْنِ ، وتحقيقُه على معمولَيْ عاملين : وذلك
أنَّك عَطَفْتَ « اختلاف » على خَلْق وهو مجرورٌ ب « في » فهو معمولُ عاملٍ ،
وعَطَفْتَ « آياتٍ » على اسمِ « إنَّ » وهو معمولُ عاملٍ آخرَ ، فقد عَطَفْتَ
بحرفٍ واحدٍ وهو الواوُ معمولين وهما « اختلاف » و « آيات » على معمولَيْن قبلَهما
وهما : خَلْق وآيات . وبظاهرِها استدلَّ مَنْ جَوَّز ذلك كالأخفشِ . وفي المسألة
أربعةُ مذاهب : المَنْعُ مطلقاً ، وهو مذهبُ سيبويه وجمهورِ البصريين . قالوا :
لأنه يُؤَدِّي إلى إقامة حرفِ العطفِ مقامَ عاملين وهو لا يجوزُ؛ لأنه لو جاز في
عامِلَيْن لجازَ في ثلاثةٍ ، ولا قائل به ، ولأنَّ حرفَ العطفِ ضعيفٌ فلا يَقْوَى
أَنْ ينوبَ عن عاملَيْنِ ولأنَّ القائلَ بجوازِ ذلك يَسْتَضْعِفُه ، والأحسنُ عنده
أن لا يجوزَ ، فلا ينبغي أَنْ يُحْمَلَ عليه كتابُ اللَّهِ ، ولأنه بمنزلةِ
التعديتَيْنِ بمُعَدٍّ واحد ، وهو غيرُ جائزٍ.
قال ابن السراج : « العطفُ على عاملَيْن خطأٌ في القياسِ ، غيرُ مَسْموع من العرب
» ثم حَمَل ما في هذه الآيةِ على التكرارِ للتأكيد . قال الرمَّاني : « هو كقولِك
: » إنَّ في الدارِ زيداً والبيتِ زيداً « فهذا جائزٌ بإجماعٍ فتدبَّرْ هذا الوجهَ
الذي ذكره ابنُ السراجِ فإنه حسنٌ جداً ، لا يجوزُ أَنْ يُحْمَلَ كتابُ اللَّهِ
إلاَّ عليه . وقد بَيَّنْتُ القراءةَ بالكسرِ ولا عيبَ فيها في القرآن على وجهٍ ،
والعطفُ على عاملَيْن عيبٌ عند مَنْ أجازه ومَنْ لم يُجِزْه ، فقد تناهى في العيب
، فلا يجوزُ حَمْلُ هذه الآيةِ إلاَّ على ما ذكره ابنُ السَّراج دون ما ذهبَ إليه
غيرُه ».
قلت : وهذا الحَصْرُ منه غيرُ مُسَلَّمٍ فإنَّ في الآيةِ تخريجاتٍ أُخَرَ غيرَ ما
ذكره ابن السراج يجوزُ الحَمْلُ عليها . وقال الزجاج : « ومثلُه في الشعر :
4024 أكلَّ امرِئٍ تَحْسَبين امْرَأً . . . ونارٍ تَوَقَّدُ بالليلِ نارا
وأنشد الفارسيُّ للفرزدق :
4025 وباشَرَ راعيها الصَّلا بلَبانِه . . . وجَنْبَيْه حَرَّ النارِ ما يتحرَّق
وقول الآخر :
4026 أَوْصَيْتُ مِنْ رُبْدَةَ قَلْباً حُرَّاً . . . بالكلبِ خيراً والحَماةِ
شَرا
قلت : أمَّا البيتُ الأولُ فظاهرُه أنه عَطَفَ و » نارٍ « على » امرئ « المخفوض ب
» كل « و » ناراً « الثانية على » امرَأ « الثاني . والتقدير : وتحسبين كلَّ نارٍ
ناراً ، فقد عطف على معمولَيْ عاملَيْن . والبيتُ الثاني عَطَفَ فيه » جَنْبَيْه «
على » بلبانه « وعَطَفَ » حَرَّ النارِ « على » الصلا « ، والتقدير : وباشر
بجَنْبَيْه حرَّ النار ، والبيتُ الثالث عَطَفَ فيه » الحَماة « على » الكلب « و »
شَرًّا « على » خيراً « ، تقديرُه وأَوْصَيْتُ بالحَماة شراً . وسيبويه في جميع
ذلك يرى الجرَّ بخافضٍ مقدرٍ لكنه عُورض : بأنَّ إعمال حرفِ الجرِّ مضمراً ضعيفٌ
جداً ، ألا ترى أنَّه لا يجوزُ » مررتُ زيدٍ « بخفضِ » زيد « إلاَّ في ضرورةٍ
كقولِه :
4027 إذا قيلَ أيُّ الناسِ شرُّ قبيلةٍ . . . أشارَتْ كليبٍ بالأكفِّ الأصابعُ
يريد : إلى كليب ، وقولِ الآخر :
4028- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . حتى تَبَذَّخَ فارتقى
الأعلامِ
أي إلى الأعلام ، فقد فَرَّ مِنْ شيءٍ فوقَع في أضعفَ منه . وأُجيب عن ذلك : بأنه
لَمَّا تَقَدَّم ذِكْرُ الحرف في اللفظِ قَوِيَتِ الدلالةُ عليه ، فكأنَّه ملفوظٌ
به بخلافِ ما أَوْرَدْتموه في المثالِ والشعر.
والمذهب الثاني : التفصيلُ - وهو مذهب الأخفش - وذلك أنَّه يجوز بشرطَيْنِ ،
أحدُهما : أَنْ يكونَ أحدُ العاملَيْن جارًّا . والثاني : أن يتصلَ المعطوفُ
بالعاطفِ أو يُفْصَلَ بلا ، مثالُ الأولِ الآيةُ الكريمةُ والأبياتُ التي
قَدَّمْتُها . ولذلك استصوب المبردُ استشهادَه بالآيةِ . ومثالُ الفَصْل ب لا قولك
: » ما في الدارِ زيدٌ ولا الحجرةِ عمروٌ « ، فلو فُقِدَ الشرطانِ نحو : إنَّ/
زيداً شَتَمَ بِشْراً ، وواللَّهِ خالداً هنداً ، أو فُقِدَ أحدُهما نحو : إنَّ
زيداً ضربَ بَكْراً ، وخالداً بشراً . فقد نَقَلَ ابنُ مالكٍ الامتناعَ عند
الجميعِ . وفيه نظرٌ لِما سَتَعْرِفُه من الخلافِ.
الثالث : أنَّه يجوزُ بشرطِ أَنْ يكونَ أحدُ العامِلَيْنِ جارَّاً ، وأَنْ يكونَ
متقدماً ، نحوَ الآيةِ الكريمةِ ، فلو لم يتقدَّمْ نحوَ : » إنَّ زيداً في الدار ،
وعمراً السوقِ « لم يَجُزْ ، وكذا لو لم يكنْ حرفَ جرٍّ كما تقدَّمَ تمثيلُه.
الرابع : الجوازُ ، ويُعْزَى للفَرَّاء.
الوجهُ الرابعِ من أوجهِ تخريجِ القراءةِ المذكورة : أَنْ تنتصِبَ » آيات « على
الاختصاصِ.
قاله الزمخشريُّ ، وسيأتي فيما أَحْكيه عنه.
وأمَّا قراءةُ الرفعِ ففيها أوجهٌ ، أحدُها : أَنْ يكونَ الأولُ والثاني ما تقدَّم
في { آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } . الثالث : أَنْ تكونَ تأكيداً لآيات التي
قبلها ، كما كانَتْ كذلك في قراءةِ النصبِ . الرابع : أَنْ تكونَ المسألةُ من بابِ
العطفِ على عامِلَيْن؛ وذلك أنَّ « اختلافِ » عطفٌ على « خَلْقِكم » وهو معمولٌ ل
« في » و « آيات » معطوفةٌ على « آيات » قبلَها ، وهي معمولةٌ للابتداءِ فقد
عَطَفَ على معمولَيْ عامِلَيْنِ في هذه القراءةِ أيضاً . قال الزمخشري : « قُرِئَ
{ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } بالرفع والنصبِ على قولِك : » إنَّ زيداً في
الدار وعمراً في السوقِ ، أو وعمروٌ في السوق « . وأمَّا قولُه : { آيَاتٌ
لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } فمن العطفِ على عامِلَيْنِ سواءً نَصَبْتَ أم رَفَعْتَ
فالعاملان في النصبِ هما : » إنَّ « ، و » في « أُقيمت الواوُ مُقامَهما فعَمِلَتْ
الجرَّ في و { واختلاف اليل والنهار } والنصبَ في » آياتٍ « . وإذا رَفَعْتَ
فالعاملانِ : الابتداءُ ، و » في « عملت الرفع في » آيات « والجرَّ في » اختلاف «
» . ثم قال في توجيهِ النصبِ : « والثاني أَنْ ينتصِبَ على الاختصاصِ بعد انقضاءِ
المجرور ».
الوجهُ الخامسُ أَنْ يرتفعَ « آياتٌ » على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ أي : هي آياتٌ .
وناقَشَه الشيخُ فقال : « ونسبةُ الجرِّ والرفعِ ، والجرِّ والنصبِ للواوِ ليس
بصحيحٍ؛ لأنَّ الصحيحَ من المذاهبِ أنَّ حرفَ العطفِ لا يعملُ » قلت : وقد ناقشه
الشيخُ شهابُ الدين أبو شامةَ أيضاً فقال : « فمنهم مَنْ يقولُ : هو على هذه
القراءةِ أيضاً - يعني قراءةَ الرفعِ - عطفٌ على عاملَيْنِ وهما حرفُ » في « ،
والابتداءُ المقتضي للرفعِ . ومنهم مَنْ لا يُطْلِقُ هذه العبارةَ في هذه
القراءةِ؛ لأنَّ الابتداءَ ليس بعاملٍ لفظي ».
وقُرئ « واختلافُ » بالرفعِ « آيةٌ » بالرفعِ والتوحيدِ على الابتداء والخبر ،
وكذلك قُرئ { وَمَا يَبُثُّ مِن دَآبَّةٌ آيةٌ } بالتوحيد . وقرأ زيد بن علي وطلحة
وعيسى « وتصريف الريح » كذا قال الشيخ . قلت وقد قرأ بهذه القراءةِ حمزةُ
والكسائيُّ أيضاً ، وقد تقدَّم ذلك في سورةِ البقرةِ . اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(4/432)
(هذا)
إشارة إلى القرآن ، المعنى هذا القرآن بصائر للناس.
* * *
وقوله (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ
كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ
سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)
(سَوَاءٌ مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ)
ويقرأ (سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ) ، وقد قرئت سواءٌ مَحْياهم وَمَماتَهمْ
بنصب الممات.
وحكى بعض النحويين أن ذلك جائز في العربية.
ومعنى (اجْتَرَحُوا) اكتسبوا ، ويقال : فلانٌ جَارِحةُ أهله أي كاسبهم ، والاختيار
عند سيبويه والخليل وجميع البصريين (سَوَاءٌ) برفع سواء.
وعليه - أكثر القراء ، ويجيزون النصب ، وتقول : ظننت زيداً - سواءٌ أبوه وأمُّه ،
وسواءً أبوه وأُمُّه.
والرفع أجود ، لأن سواء في مذهب المصدر كما تقول : ظننت زيداً ذو استواء أبوه
وأُمُّه.
ومن قرأ (سَوَاءً) بالنصب جعله في موضع مستوياً محياهم وَمَمَاتُهُمْ
ومن نصب محياهم ومماتهم ، فهو عند قوم من النحويين (سَوَاءً) في محياهم وفي مماتهم
، ويذهب به مذهب الأوقات ، وهو يجوز على غير ذلك على أن يجعله بدلاً من الهاء
والميم ، ويكون المعنى أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعل محياهم ومماتهم سواءً
كالذين آمنوا وعملوا الصالحات ، أي كمحيا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ومَمَاتهم
(1).
* * *
وقوله : (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى
عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً
فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ
(23)
وقد رويت آلِهَةً هَوَاهُ ، ولها وجه في التفسير وروي أن قريشاً كانت تعبد
العُزى وهي حجر أبيض فإذا رأت حجراً أشد بياضاً منه وأحسن اتخذت ذلك
الأحسن واطَّرَحت الأولَ ، فهذا يدل على آلهته ، وكذلك أيضاً إلهه.
وقوله (وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ).
أي على ما سبق في علمه قبل أن يخلقه أنه ضال.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { أَمْ حَسِبَ } : « أم » منقطعةٌ ، فَتُقَدَّر ب بل والهمزةِ ، أو ب بل
وحدها ، أو بالهمزة وحدَها . وتقدم تحقيق هذا.
قوله : { كالذين آمَنُواْ } : هو المفعولُ الثاني للجَعْل أي : أَنْ نجعلَهم
كائنين كالذين آمنوا أي : لا يَحْسَبُوْن ذلك ، وقد تَقَدَّمَ في سورة الحج : أنَّ
الأخَوَيْن وحفصاً قرؤُوا هنا « سواءً » بالنصب ، والباقون بالرفع ، ووَعَدْتُ
بالكلام عليه هنا ، فأقول وبالله التوفيق : أمَّا قراءةُ النصبِ ففيها ثلاثةُ
أوجهٍ ، أحدها : أَنْ تَنْتَصِبَ على الحالِ من الضميرِ المستترِ في الجارِّ
والمجرورِ وهما : « كالذين آمنوا » ، ويكونُ المفعولُ الثاني للجَعْل « كالذين
آمنوا » أي : أحَسِبوا أَنْ نَجْعَلَهم مثلَهم في حالِ استواءِ مَحْياهم ومماتِهم
ليس الأمرُ كذلك . الثاني : أَنْ يكونَ « سواءً » هو المفعولَ الثاني للجَعْل ، و
« كالذين » في محلِّ نصبٍ على الحال أي : لن نجعلَهم حالَ كونِهم مثلَهم سواءً ،
وليس معناه بذاك . الثالث : أَنْ يكونَ « سواءً » مفعولاً ثانياً ل « حَسِب ».
وهذا الوجهُ نحا إليه أبو البقاء ، وأظنُّه غَلَطاً لِما سَيَظْهَرُ لك فإنَّه قال
: « ويُقْرأ بالنصب . وفيه وجهان ، أحدهما : هو حالٌ من الضميرِ في الكافِ أي :
نجعلَهم مثلَ المؤمنين في هذه الحالِ . والثاني : أَنْ يكونَ مفعولاً ثانياً ل »
حَسِب « والكافُ حالٌ ، وقد دَخَلَ استواءُ مَحْياهم وممَاتُهم في الحُسْبان ،
وعلى هذا الوجهِ مَحْياهم ومماتُهم مرفوعان ب » سَواء «؛ لأنَّه قد قَوِيَ
باعتمادِه » انتهى . فقد صَرَّح بأنه مفعولٌ ثانٍ للحُسْبان . وهذا لا يَصِحُّ
ألبتَّةََ؛ لأنَّ « حَسِبَ » وأخواتِها إذا وَقَعَ بعدها « أنَّ » المشددةُ أو «
أَنْ » المخففةُ أو الناصبةُ سَدَّتْ مَسَدَّ المفعولين ، وهنا قد وَقع بعد
الحُسْبان « أنْ » الناصبةُ فهي سادَّةٌ مَسَدَّ المفعولَيْنِ ، فَمِنْ أين يكونُ
« سواءً » مفعولاً ثانياً ل حَسِب؟
فإنْ قلتَ : هذا الذي قُلْتُه رأيُ الجمهورِ سيبويهِ وغيرِه ، وأمَّا غيرُهم
كالأخفشِ فيدَّعي أنها تَسُدُّ مَسَدَّ واحدٍ . إذا تقرَّر هذا فقد يجوزُ أنَّ أبا
البقاءِ ذَهَبَ هذا المذهبَ ، فأعرب « أَنْ نجعلَهم » مفعولاً أولَ و « سواءً »
مفعولاً ثانياً . فالجواب : أنَّ الأخفشَ صَرَّحَ بأنَّ المفعولَ الثاني حينئذٍ
يكونُ محذوفاً . ولَئِنْ سَلَّمْنا أنَّه لا يُحْذَفُ امتنع مِنْ وجهٍ آخرَ : وهو
أنه قد رفع به « محياهُم ومماتُهم » لأنه بمعنى مُسْتَوٍ كما تقدَّم ، ولا ضميرَ
يَرْجِعُ مِنْ مرفوعِه إلى المفعولِ الأولِ ، بل رَفَعَ أجنبياً من المفعولِ
الأولِ . وهو نظيرُ : « حَسِبْتُ قيامَك مُسْتوياً ذهابُك وعَدَمُه ».
ومَنْ قرأ بالرفع فتحتمل قراءتُه وجهَيْن ، أحدهما : أَنْ يكونَ « سواءٌ » خبراً
مقدماً . و « مَحْياهم » مبتدأً مؤخراً/ ويكون « سواء » مبتدأً و « مَحْياهم »
خبرَه.
كذا أعربوه . وفيه نظرٌ تقدَّم في سورة الحج وهو : أنَّه نكرةٌ لا مُسَوِّغ فيها ،
وأنه متى اجتمع معرفةٌ ونكرةٌ جَعَلْتَ النكرةَ خبراً لا مبتدأً . ثم في هذه
الجملةِ ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنَّها استئنافية . والثاني : أنها بدلٌ من
الكافِ الواقعةِ مفعولاً ثانياً . قال الزمخشري : « لأنَّ الجملةَ تقع مفعولاً
ثانياً فكانَتْ في حكمِ المفردِ . ألا تراكَ لو قُلْتَ : أن نجعلَهم سواءٌ
مَحْياهم ومماتُهم ، كان سديداً ، كما تقول : ظننتُ زيداً أبوه منطلقٌ » . قال
الشيخ : « وهذا - أَعْني إبدالَ الجملة من المفرد - أجازه ابنُ جني وابنُ مالك ،
ومنعَه ابنُ العِلْجِ » ، ثم ذكر عنه كلاماً كثيراً في تقرير ذلك ثم قال : « والذي
يَظْهَرُ أنه لا يجوزُ » ، يعني ما جَوَّزه الزمخشريُّ قال : « لأنَّها بمعنى
التصييرِ ولا يجوزُ : » صَيَّرْتُ زيداً أبوه قائمٌ « لأنَّ التصييرَ انتقالٌ من
ذاتٍ إلى ذاتٍ ، أو من وصفٍ في الذاتِ إلى وصفٍ فيها . وتلك الجملةُ الواقعةُ بعد
مفعولِ » صَيَّرْت « المقدرةُ مفعولاً ثانياً ليس فيها انتقالٌ مما ذكرْنا فلا
يجوز » . قلت : ولِقائلٍ أَنْ يقولَ : بل فيها انتقالٌ مِنْ وصفٍ في الذاتِ إلى
وصفٍ فيها؛ لأنَّ النحاة نَصُّوا على جوازِ وقوع الجملةِ صفةً وحالاً نحو : مررتُ
برجلٍ أبوه قائمٌ ، وجاء زيدٌ أبوه قائم . فالذي حكموا عليه بالوصفيَّةِ والحاليةِ
يجوزُ أَنْ يقعَ في حَيِّز التَّصْيير؛ إذ لا فَرْقَ بين صفةٍ وصفةٍ من هذه
الحيثيَّة.
الثالث : أن تكونَ الجملةُ حالاً ، التقدير : أم حَسِبَ الكفار أَنْ نُصَيِّرهم
مثلَ المؤمنين في حالِ استواءِ محياهم ومماتِهم ، ليسوا كذلك بل هم مُفْترقون .
وهذا هو الظاهر عند الشيخِ . وعلى الوجهين الأخيرين تكونُ الجملةُ داخلةً في
حَيِّز الحُسْبانِ . وإلى ذلك نحا ابن عطية فإنه قال : « يَقْتضي هذا الكلامُ أنَّ
لفظَ الآية خبرٌ ، ويظهر أنَّ قولَه : { سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ }
داخلٌ في المَحْسَبَةِ المُنْكَرَةِ السيئةِ ، وهذا احتمالٌ حسن والأولُ جيدٌ »
انتهى . ولم يبين كيفيةَ دخولِه في الحُسْبانِ ، وكيفيَّةُ أحدِ الوجهين
الأخيرَيْن : إما البدلِ وإمَّا الحاليةِ كما عَرَفْتَه.
وقرأ الأعمشُ « سواءً » نصباً « مَحْياهم ومَماتَهم » بالنصب أيضاً . فأمَّا «
سواءً » فمفعولٌ ثانٍ أو حالٌ كما تقدَّم . وأمَّا نصب « مَحْياهم ومماتَهم » ففيه
وجهان ، أحدهما : أَنْ يكونا ظَرْفَيْ زمانٍ ، وانتصبا على البدلِ مِنْ مفعولِ «
نَجْعَلَهم » بدلِ اشتمال ، ويكون « سواءً » على هذا هو المفعولَ الثاني .
والتقدير : أن نجعلَ محياهم ومماتَهم سواءً . والثاني : أَنْ ينتصِبا على الظرفِ
الزمانيِّ . والعاملُ : إمَّا الجَعْلُ أو سواء . والتقدير : أَنْ نجعلَهم في
هذَيْن الوقتَيْن سواءً ، أو نجعلَهم مُسْتَوِين في هذين الوقتين.
قال الزمخشري مقدِّراً لهذا الوجه : « ومَنْ قرأ بالنصبِ جَعَلَ » مَحْياهم
ومماتَهم « ظَرْفَيْنِ كمَقْدَمِ الحاجِّ وخُفوقِ النجم ».
قال الشيخ : « وتمثيلُه بخُفوق النجم ليس بجيدٍ؛ لأنَّ » خُفوقَ « مصدرٌ ليس على
مَفْعَل فهو في الحقيقةِ على حَذْفِ مضافٍ أي : وقتَ خُفوقِ بخلاف مَحْيا ومَمات
ومَقْدَم فإنها موضوعةٌ على الاشتراك بين ثلاثةِ معانٍ : المصدريةِ والزمانيةِ
والمكانيةِ . فإذا اسْتُعْملت مصدراً كان ذلك بطريق الوَضْعِ لا على حَذْفِ مضافٍ
كخُفوق؛ فإنه لا بُدَّ مِنْ حَذْفِ مضافٍ لكونِه موضوعاً للمصدرية » . وهذا أمرٌ
قريبٌ لأنَّه إنما أراد أنه وَقَع هذا اللفظُ مُراداً به الزمانُ . أمَّا كونُه
بطريق الأصالةِ أو الفرعيةِ فلا يَضُرُّ ذلك.
والضميرُ في « مَحْياهم ومماتُهم » يجوزُ أَنْ يعودَ على القَبِيْلَيْنِ بمعنى :
أنَّ مَحْيا المؤمنين ومماتَهم سواءٌ عند الله في الكرامةِ ، ومَحْيا المجترحين
ومماتَهم سواءٌ في الإِهانةِ عنده ، فَلَفَّ الكلام اتِّكالاً على ذِهْنِ السَّامع
وفهمِه . ويجوزُ أَنْ يعودَ على المُجْترحين فقط . أَخْبَرَ أَنَّ حالَهم في
الزمانَيْن سواءٌ.
قال أبو البقاء : « ويُقْرَأُ » مَماتَهم « بالنصب أي : في مَحْياهم ومماتَهم .
والعاملُ » نَجْعل « أو سواء . وقيل : هو ظرفٌ » . قلت : قوله : « وقيل » هو
القولُ الأولُ بعينِه . اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(4/433)
(وَجَعَلَ
عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً).
ويقرأ غَشوة بفتح الغيْن بغير ألف ، ويقرأ غُشَاوَةَ - بضم الغين والألف (1).
* * *
وقوله : (وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا
وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ
إِلَّا يَظُنُّونَ (24)
فإن قال قائل : كيف قالوا نموت ونحيا وهم لا يقرون بالبعث.
فالدليل على أنهم لا يقرون بالبعث قولهم ما هِيَ إلا حياتنا ، وفي نموت ونحيا
ثلاثة أقوال.
يكون المعنى (نَمُوتُ وَنَحْيَا) ، يحيا أولادُنا ، فيموت قوم ويحيا قوم.
ويكون معنى (نَمُوتُ وَنَحْيَا) نحيا ونموت ، لأن الواو للاجتماع.
وليس فيها دليل على أن أحد الشيئين قبل الآخر.
ويكون (نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ) أي ابتداؤنا موات
في أصل الخلقة ، ثم نحيا ثم يهلكنا الدَّهْرُ.
فَاَعْلَمَ اللَّه - عزَّ وجلَّ - أَنهمْ يَقولُونَ ذلك ضُلَّالًا ، شَاكِين فقال
:
(وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ).
المعنى ما هم إِلَّا يَظُنُّونَ.
* * *
وقوله - عزَّ وجلَّ - : (مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا
بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25)
يجوز في (حُجَّتَهُمْ) الرفْعُ ، فمن رفع جعل (حُجَّتُهُمْ) اسم كان
و (أنْ قَالُوا) خبر كان.
ومن نصب (حُجَّتَهُمْ) جعل اسم كان أَنْ مَعَ صِلَتِها.
ويكون المعنى ما كان (حُجَّتَهُمْ) إلَّا مَقَالَتَهم ائتوا بآبائنا.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى
كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28)
أي كل أحد يُجزى بما تضمنه كتابه ، كما قال عزَّ وجلَّ :
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { أَفَرَأَيْتَ } : بمعنى : أَخْبِرْني ، وتقدَّم حكمُها مشروحاً .
والمفعولُ الأولُ « مَنْ اتَّخذ » ، والثاني محذوف ، تقديره بعد غشاوة : أيهتدي ،
ودَلَّ عليه قولُه : « فَمَنْ يهْديه » وإنما قَدَّرْتَه بعد غشاوة لأجلِ صلاتِ
الموصولِ.
قوله : « على عِلْمٌ » حالٌ من الجلالةِ أي : كائناً على علمٍ منه فيه أنَّه أهلٌ
لذلك . وقيل : حالٌ من المفعول أي : أضلَّه وهو عالِمٌ ، وهذا أشنعُ له.
وقرأ الأعرجُ « آلهةً » على الجمع ، وعنه كذلك مضافة لضميره : « آلهتَه هواه ».
قوله : « غِشاوة » قرأ الأخَوان « غَشْوَة » بفتح الغين وسكونِ الشين . والأعمشُ
وابن مصرف كذلك إلاَّ أنَّهما كسرا الغَيْنَ . وباقي السبعة « غِشاوة » بكسر الغين
. وابنُ مسعود والأعمشُ أيضاً بفتحها ، وهي لغةُ ربيعةَ . والحسن وعكرمة وعبد الله
أيضاً بضمِّها ، وهي لغةُ عُكْلية . وتقدَّم الكلامُ في ذلك أولَ البقرة ، وأنَّه
قُرئ هناك بالعين المهملة . والعامَّةُ : « تَذَكَّرون » بالتشديد والجحدريُّ
بتخفيفها . والأعمش بتاءَيْن « تَتَذَكَّرون ».
قوله : { مِن بَعْدِ الله } أي : مِنْ بعد إضلالِ الله إياه . اهـ (الدُّرُّ
المصُون).
(4/434)
(وَكُلَّ
إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ).
ْفهذا مثل قوله : (كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا).
رفع (كُلُّ) بالابتداء ، والخبر (تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا).
ومَن نصب جعله بدلاً من " كُلَّ " الأول ، والمعنى وترى كل أمة تدعى إلى
كتابها.
ومعنى (جَاثِيَةً) جالسة على الركب ، يقال قد جثا فلان يجثو إذا جلس على ركبته ،
ومثله جَذا يجذو.
والجُذُؤ أشا استيفازاً من الجثو لأن الجذو أن يجلس صاحبه على أطراف
أصابعه.
* * *
وقوله : (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29)
الاسْتِنْساخُ لا يكون إلا من أَصْل ، وهو أن يستنسخ كتاباً من كتابٍ.
فنستنسخَ ما يكتب الحفظة ويثبت عند اللَّه - عزَّ وجلَّ -.
* * *
وقوله : (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ
فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ (31)
جواب (أَمَّا) محذوف ، لأن في الكلام دليلاً عليه ، المعنى وأما الذين
كفروا فيقال لهم : أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ ، ودلت الفاء في قوله
(أَفَلَمْ) على الفاء المحذوفة فى قولك فيقال لهم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا
رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا
وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32)
(وَالسَّاعَةُ)
(وَالسَّاعَةَ) ، فمن نصب فَعَطفٌ على الوعد.
المعنى : وإذا قيل إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأنَّ الساعةَ.
ومن رفع فعلى معنى وقيل الساعةُ لا ريب فيها .
(4/435)
وقوله
عزَّ وجلَّ : (وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ
هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (34)
أي اليوم نترككم في العذاب ، كما تركتم الإيمان والعمل ليومكم.
والدليل على ذلك قوله :
(فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35)
لا يردون ولا يلتمس منهم عمل وَلَا طَاعة.
* * *
وقوله : (وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ (37)
أي له العظمة في السَّمَاوَات والأرض.
* * *
ْوقوله : (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا
مِنْهُ).
ويقرأ (مِنَّةً)
(جميعاً) منصوب على الحال ، والمعنى كل ذلك منه تفضُّلٌ وإحسان.
و (مِنَّةً) على معنى المفعول له ، والمعنى فعل ذلك مِنَّةً ، أي مَنَّ مِنَّةً.
لأن تسخيره بمعنى مَنَّ عليكم.
(4/436)
سُورَةُ
الأحقاف
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله عزَّ وجلَّ : (مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا
إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا
مُعْرِضُونَ (3)
جاء في التفسير : مَا خَلَقْنَاهما إِلَّا للحَقِّ ، أي لإقامة الحق ، وتكون على
معنى ما قامت السماوات والأرض إلا بالحق.
وقوله بعقب هذا :
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ).
أي أعرضوا بعد أن قام لهم الدليل بخلق الله السماوات والأرض ، وما
بينهما ثم دعاهم إلى الدليل لهم على بطلان عبادة ما يعبدونَ من الأوثان
فقال :
(قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا
مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ
قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4)
ويقرأ أَرَيْتُمْ بغير ألف.
(مَا تَدْعُونَ مِنْ دونِ اللَّهِ)
ما تدعونه إلهاً من دون اللَّه.
(أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ).
أي في خلق السَّمَاوَاتِ ، أي فلذلك أشركتموهم في عبادة الله عزَّ وجلَّ .
(4/437)
(ائْتُونِي
بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا).
أي ايتوني بِكتابِ أنزل فيه برهانُ ما تَدَّعُونَ.
(أَوْ أَثَرَةٍ مِنْ عِلْمٍ)
ويقرأ (أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ) ، وقرئت أو أَثْرةٍ مِنْ عِلْمٍ - بإسكان
الثاء - ومعناها ؛ إذا قال : أَثارة على معنى عَلَامةٍ مِنْ عِلْم ، ويجوز أن يكون
على معنى بقية من علم ، ويجوز أن يكون على معنى ما يؤثر من العلم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا
يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5)
أي من أضل مِمنْ عَبَدَ غيرَ اللَّه.
وجَمِيعُ مَا خلق اللَّه دليل على وَحْدَانِيَّته فمن أضل ممن عبد حجراً لا يستجيب
لَه.
وقال و (مَنْ) وقال و (وَهُمْ) وهو لغير ما يعْقِل ، لأن الذين عبدوها أجْرَوْهَا
مجرى ما يميز فخوطبوا على مُخَاطَبَاتِهِمْ كما قالوا : (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا
لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)
ولو كانت " ما " لكان جَيداً كما قال : (لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ
وَلَا يُبْصِرُ).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا
بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6)
أي كانت الأصْنامُ كَافِرةً بعبادتهم إياها ، تقول ما دعوهم إلى عبادتنا.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ
شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي
وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8)
(4/438)
أي
فَلَسْتُمْ تملكون من اللَّه شيئاً ، أي اللَّه أملك بعباده.
(كَفَى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ)
أي كفَى هو شهيداً.
وَ (بِه) في موضع رفع.
وقوله في هذا الموضع :
(وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)
معناه أنه مَنْ أَتَى من الكبائر العِظَام ما أتيتُمْ به من الافتراء على اللَّه
جلَّ وعزَّ وَعَلا - ثم تاب فإن الله غفورٌ رَحيمٌ له.
* * *
وقوله : (قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي
وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا
نَذِيرٌ مُبِينٌ (9)
أي ما كنت أول من أرْسِلَ . قد أرسل قبلي رُسُلٌ كثيرونَ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ
إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ)
كان رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - رأى في منامه أنه سيصير إلى أَرْض ذَاتِ
نَخْل وَشَجرٍ ، وقد شكا أصحابه الشدةِ التي نالتهم فلما أَعْلَمَهُم أنه سيصير
إلى أرض ذات نَخْل وَشَجرٍ ، وتأخَّرَ ذَلِكَ استبطأوا ما قال عليه السلام ،
فأعلمهم أن الذي يتبِعُهُ ما يُوحَى إليه ، إن أمر بِقِتَال أو انتقال ، وكان ذلك
الأمْرُ وحياً فَهُو مُتَّبِعُهُ ، ورؤيا الأنبياء عليهم السلام وَحْيٌ (1).
* * *
وقوله : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ
وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ
وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10)
جاء في التفسير أن عبد اللَّه بن سلام صار إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قآمن
به ، وقال له : سَلْ اليهودَ عني فَإنهُمْ سَيُزَكونَنِي عندك ويخبرونك بمكانِي من
العِلْم ، فَسَاَلَهُم النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه من قبْل أن يَعْلَمُوا
أَنه قدْ آمن . فأخبروا عنه بأنه أعلمُهُم بالتوراة وبِمَذْهَبِهِم ، وأنه عالم
ابن عالم ابن عَالِم.
قآمن بحضرتِهِم وشهِدَ أن محمداً رسول اللَّه فقالوا بَعْدَ إيمانه أنتَ شرُّنَا
وابن شَرِّنَا.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { بِدْعاً } : فيه وجهان ، أحدهما : على حَذْفِ مضافٍ تقديرُه : ذا بِدْعٍ
، قاله أبو البقاء . وهذا على أَنْ يكونَ البِدْعُ مصدراً . والثاني : أَنَّ
البِدْعَ بنفسِه صفةٌ على فِعْل بمعنى بديع كالخِفِّ والخَفيف . والبِدْعُ
والبديعُ : ما لم يُرَ له مِثْلٌ ، وهو من الابتداع وهو الاختراعُ . أنشد قطرب :
4039ب فما أنا بِدْعٌ مِنْ حوادِثَ تَعْتَري . . . رجالاً عَرَتْ مِنْ بعدِ
بُؤْسَى بأَسْعُدِ
وقرأ عكرمة وأبو حيوةَ وابنُ أبي عبلة « بِدَعاً » بفتح الدال جمع بِدْعة أي : ما
كنتَ ذا بِدَع . وجَوَّز الزمخشري أَنْ يكونَ صفةً على فِعَل ك « دِين قِيَم » و «
لحم زِيَم » . قال الشيخ : « ولم يُثْبِتْ سيبويه صفةً على فِعَل إلاَّ قوماً
عِدَا ، وقد اسْتُدْرِك عليه » لحم زِيَم « أي : متفرق ، وهو صحيحٌ . فأمَّا »
قِيَم « فمقصورٌ مِنْ قيام ، ولولا ذلك لصَحَّتْ عينُه كما صَحَّتْ في حِوَل
وعِوَض . وأمَّا قولُ العربِ : » مكان سِوَىً « و » ماء رِوَىً « ورجل رِضَا وماء
صِرَىً فمتأوَّلَةٌ عند التَّصْريفيِّين » قلت : تأويلُها إمَّا بالمصدريَّة أو
القَصْر كقِيَم في قيام.
وقرأ أبو حيوةَ أيضاً ومجاهد « بِدَع » بفتح الباء وكسر الدال وهو وصفٌ كحَذِر.
وقوله : « يُفْعَلُ » العامَّةُ على بنائه للمفعول . وابنُ أبي عبلة وزيد ابن علي
مبنياً للفاعلِ أي : الله تعالى . والظاهرُ أنَّ « ما » في قولِه : { مَا يُفْعَلُ
بِي } استفهاميةٌ مرفوعةٌ بالابتداءِ ، وما بعدها الخبرُ ، وهي معلِّقَةٌ لأَدْري
عن العملِ ، فتكونُ سادَّةً مَسَدَّ مفعولَيْها . وجَوَّزَ الزمخشري أَنْ تكونَ
موصولةً منصوبةً يعني أنها متعديةٌ لواحدٍ أي : لا أعْرِفُ الذي يفعلُه اللَّهُ
تعالى.
قوله : { إِلاَّ مَا يوحى } العامَّةُ على بناء « يُوْحَى » للمفعول . وقرأ ابن
عُمير بكسرِ الحاءِ على البناءِ للفاعلِ ، وهو اللَّهُ تعالى . اهـ (الدُّرُّ
المصُون).
(4/439)
قال
: ألم يأتكم في التوراة عن موسى عليه السلام : إذا رأيتم محمداً فأقرئِوه السلام
مني وآمنوا به ، وأَقْبَلَ يَقِفُهُمْ من التوراة على أَمْكنةٍ فيها ذكر النبي -
صلى الله عليه وسلم - وصفته ، وهم
يستكبرون ويجحَدون ويتعمدون ستر ذلك بِأيْدِيهم.
وجواب : (إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ
بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ) أتؤمِنُونَ.
ثم أعلم أن هؤلاء المعاندين خاصة لَا يؤمِنونَ ، فقال : (إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي
الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).
أي قد جعل جزاءَهم على كفرهم بعدما تَبَينَ لهم الهُدَى مَدَّهم في الضلَالَة.
وَقِيلَ في تفسير قوله : (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى
مِثْلِهِ)
عَلَى مثل شهادَةِ عبْد اللَّه بن سَلَام.
والأجود - واللَّه أعلم - أن يكون (عَلَى مِثْلِه) على مثل شهادة النبي - صلى الله
عليه وسلم -.
* * *
وقوله : (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا
سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ
قَدِيمٌ (11)
جاء في التفسير أنه لما أسلمت جُهَينة ومُزَينَةُ وأسلم وغِفار ، قالت بَنو
عَامِرٍ وغطفان وأسد وأشجع : لو كان ما دخل فيه هؤلاء مِنَ الذِين خَيراً ما
سبقونا إليه ، ونحن أعز مِنْهمْ ، وَإنما هؤلاء رُعَاةُ الْبَهْمِ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا
كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى
لِلْمُحْسِنِينَ (12)
(إِمَامًا) منصوب على الحال وقوله : (وَرَحْمَةً) عطف علَيْهِ.
(وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا).
(4/440)
المعنى
واللَّه أعلم ، وهو مصدق لما بين يَدَيْهِ لساناً عَربيًّا ، لما جاء بعد
هذا الموضع.
(قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى
مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ).
وحذف (له) ههنا أعني من قوله (وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ) لأن قبله (وَمِنْ
قَبْلِهِ)
كتاب موسى ، فالمعنى وهذا كتاب مُصَدِّقٌ له ، أي مُصَدِّقٌ التوْرَاةَ
و (لِسَانًا عَرَبِيًّا) منصوبان على الحال.
المعنى مصدق لما بين يديه عَرَبِيًّا ، وذكر (لِسَانًا) توكيداً.
كما تقول جاءني زيد رجلًا صالحاً ، تريد : جاءني زيد صالحاً.
وتذكر رجلًا توكيداً ، وفيه وجه آخر ، على معنى وهذا كتاب مصدق
لِسَانًا عَرَبِيًّا . المعنى مصدق النبي عليه السلام ، فيكون المعنى مصدق ذا
لسانٍ عربى.
وقوله : (لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا)
ويقرأ (لِتُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا).
(وبُشْرَى لِلمُحْسِنينَ)
الأجود أن يكون (بُشْرَى) في موضع رفع ، المعنى وهو بشرى
للمحسنين ، ويجوز أن يكون بشرى في موضع نصب على معنى لينذر الذين
ظلموا وُيبشِرَ المحسنين بُشْرَى (1).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا
فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13)
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ موسى } : العامَّةُ على كسر ميم « مِنْ » حرفَ
جرٍّ . وهي مع مجرورِها خبرٌ مقدَّمٌ . والجملةٌ حاليةٌ أو خبرٌ مستأنفٌ.
وقرأ الكلبيُّ بنصبِ « الكتابَ » تقديرُه : وأَنْزَلَ مِنْ قبلِه كتابَ موسى .
وقُرِئ « ومَنْ » بفتح الميم « كتابَ موسى » بالنصبِ على أن « مَنْ » موصولةٌ ،
وهي مفعولٌ أولُ لآتَيْنا مقدَّراً . وكتابَ موسى مفعولُه الثاني . أي : وآتَيْنا
الذي قبلَه كتابَ موسى.
قوله : « إماماً ورَحْمَةً » حالان مِنْ « كتاب موسى » . وقيل : منصوبان بمقدرٍ أي
: أنْزَلْناه إماماً . ولا حاجةَ إليه . وعلى كَوْنِهما حالَيْن هما منصوبان بما
نُصِبَ به « مِنْ قبل » من الاستقرار.
قوله : « لِساناً » حالٌ مِن الضمير في « مُصَدِّقٌ » . ويجوزُ أَنْ يكونَ حالاً
مِنْ « كتاب » والعاملُ التنبيهُ ، أو معنى الإِشارةِ و « عربيَّاً » [ صفةٌ ] ل «
لساناً » ، وهو المُسَوِّغُ لوقوع هذا الجامد حالاً . [ وجَوَّز أبو البقاء ] أَنْ
يكونَ مفعولاً به ناصبُهُ « مُصَدِّقٌ » . وعلى هذا تكون الإِشارةُ إلى غيرِ
القرآنِ؛ لأنَّ المرادَ باللسانِ العربيِّ القرآنُ وهو خلافُ الظاهر . وقيل : هو
على حَذْفِ مضافٍ أي : مُصَدِّقٌ ذا لسانٍ عربي ، وهو النبيُّ صلَّى الله عليه
وسلَّم . وقيل : هو على إسقاطِ حرفِ الجرِّ أي : بلسانٍ . وهو ضعيفٌ.
قوله : « ليُنْذِرَ » متعلِّقٌ بمصدِّق . و « بُشْرَى » عطفٌ على محلِّه . تقديره
: للإِنذار وللبشرى ، ولمَّا اختلف العلةُ والمعلولُ وَصَلَ العاملُ إليه باللامِ
، [ وهذا فيمَنْ قرأ بتاء الخطابِ . فأمَّا مَنْ قرأ بياءِ الغَيْبة . وقد تقدَّم
ذلك في يس فإنهما مُتَّحدان . وقيل : بُشْرى ] عطفٌ على لفظ « لتنذِرَ » أي :
فيكونُ مجروراً فقط . وقيل : هي مرفوعةٌ على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ . تقديرُه : هي
بُشْرَى . وقيل : بل هي عطفٌ على « مُصَدِّقٌ » وقيل : هي منصوبةٌ بفعل مقدرٍ أي :
وبَشِّر بُشْرى . ونقل الشيخُ وجهَ النصبِ عطفاً على محلِّ « لتنذِرَ » عن
الزمخشري وأبي البقاء . ثم قال : « وهذا لا يَصِحُّ على الصحيح من مذاهبِ النحويين
لأنهم يَشْتَرِطون في الحَمْلِ على المَحَلِّ أَنْ يكونَ بحقِّ الأصالة ، وأَنْ
يكونَ للموضعِ مُحْرِزٌ ، وهنا المحلُّ ليسَ بحقِّ الأصالة ، إذ الأصلُ في
المفعولِ [ له ] الجرُّ ، والنصبُ ناشِئ عنه ، لكن لَمَّا كَثُرَ بالشروط
المذكورةِ وَصَلَ إليه الفعلُ فنصبَه » انتهى.
قوله : « الأصلُ في المفعول له الجرُّ بالحرفِ » ممنوعٌ بدليل قولِ النَّحْويين :
إنَّه يَنْصِبُ بشروطٍ ذكروها . ثم يقولون : ويجوزُ جرُّه بلامٍ ، فقولُهم « ويجوز
» ظاهرٌ في أنه فرعٌ لا أصلٌ.
و « للمُحْسِنين » متعلقٌ ب « بُشْرَى » أو بمحذوفٍ على أنَّه صفةٌ لها . اهـ
(الدُّرُّ المصُون).
(4/441)
معنى
(ثم استقاموا) أي أقاموا على توحيد اللَّه وشريعة نبيه عليه السلام.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا
حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ
ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً
قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ
وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي
ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ
(15)
(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا)
وتُقْرأُ (إِحْسَانًا) ، وكلتاهما جيِّدٌ ، ونصب (إِحْسَانًا) على المصدر ، لأن
معنى
وصيناه بوالديه أمرناه بأن يحسن إليهما (إِحْسَانًا).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا)
وَ (كَرْهاً) ، وقد قرئ بهما جميعاً.
المعنى حملته أمه على مشَقَّة ووضعته على مشَقَّة.
وقوله : (وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا)
وقد قرئت (وفصله ثلاثون شَهراً) . ومعنى فِصَاله فطامُه.
وَأَقَل ما يكون الحمل لستة أَشْهُر.
والاختيار (وَفِصَالُهُ) ، لأن الذي جاء في الحديث : إلا رِضَاعَ
بعد الفِصَالِ " يعني بعد الفطام.
وقوله : (حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً)
جاء في التفسير أن الأشد ثلاث وثلاثون سنة ، وقيل الأشد ثَماني عشرة
سنة ، وقيل الأشد بلوغ الحلم ، والأكثر أن يكون ثلاثاً وثلاثين ، لأن الوقت
الذي يكمل فيه الإنسانُ في بدنه وقوته واستحكام شبابه أن يبلغ بضْعاً
وثلاثين سنة ، وكذلك في تمييزه.
وقوله : (وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي).
معناه اجعل ذُرِّيَّتِي صالحين (1).
* * *
وقوله : أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا
وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ
الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16)
(أُولَئِكَ الَّذِينَ يُتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا).
ويجوز (أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا).
فالقِرَاءَة (يُتَقَبَّلُ) و (نَتَقَبَّلُ)
وكذلك يُتجاوزُ ونَتجاوزُ ، ويَتقبَّلُ جائز ، ولَا أعْلَمُ أحَداً قَرأ بها.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { إِحْسَاناً } : قرأ الكوفيون « إحْساناً » وباقي السبعةِ « حُسْناً »
بضمِّ الحاءِ وسكونِ السينِ ، فالقراءةُ الأولى يكون « إحساناً » فيها منصوباً
بفعلٍ مقدَّرٍ أي : وَصَّيْناه أَنْ يُحْسِنَ إليهما إحساناً . وقيل : بل هو
مفعولٌ به على تضمينِ وصَّيْنا معنى أَلْزَمْنا ، فيكونُ مفعولاً ثانياً . وقيل :
بل هو منصوبٌ على المفعولِ به أي : وصَّيناه بهما إحساناً مِنَّا إليهما . وقيل :
هو منصوبٌ على المصدرِ؛ لأنَّ معنى وصَّيْنا : أَحْسَنَّا فهو مصدرٌ صريحٌ .
والمفعولُ الثاني/ هو المجرورُ بالباء . وقال ابن عطية : « إنها تتعلَّق : إمَّا
بوَصَّيْنا ، وإمَّا بإحساناً » . ورَدَّ الشيخُ : هذا الثاني بأنَّه مصدرٌ
مؤَوَّلٌ فلا يتقدَّم معمولُه عليه ، ولأن « أَحْسَنَ » لا يتعدَّى بالباء ، وإنما
يتعدَّى باللامِ . لا تقول : « أحسَنْتُ بزيدٍ » على معنى وصول الإِحسان إليه .
وقد رَدَّ بعضُهم هذا بقولِه : { وَقَدْ أَحْسَنَ بي إِذْ أَخْرَجَنِي } [ يوسف :
100 ] وقيل : هو بغير هذا المعنى . وقدَّر بعضُهم : ووَصَّيْنا الإِنسانَ
بوالدَيْه ذا إحسانٍ ، يعني فيكونُ حالاً . وأمَّا « حُسْناً » فقيل فيه ما تقدَّم
في إحسان.
وقرأ عيسى والسُّلَمي « حَسَناً » بفتحِهما . وقد تقدَّمَ معنى القراءتَيْنِ في
البقرة وفي لقمان.
قوله : « كُرْهاً » قد تَقَدَّم الخلافُ فيه في النساء . وله هما بمعنىً واحد أم
لا؟ وقال أبو حاتم : « الكَرْهُ بالفتح لا يَحْسُنُ لأنَّه بالفتح الغَصْبُ
والغَلَبَةُ » . ولا يُلْتَفَتُ لِما قاله لتواتُرِ هذه القراءةِ . وانتصابُها :
إمَّا على الحالِ من الفاعلِ أي : ذاتَ كُرْه . وإمَّا على النعت لمصدرٍ مقدرٍ أي
: حَمْلاً كُرْهاً.
قوله : « وحَمْلُه » أي : مدةُ حَمْلِه . وقرأ العامَّةُ « فِصالُه » مصدر فاصَلَ
، كأنَّ الأمَّ فاصَلَتْهُ وهو فاصَلَها . والجحدري والحسن وقتادة « فَصْلُه » .
قيل : والفَصْلُ والفِصال بمعنىً كالفَطْمِ والفِطام ، والقَطْفِ والقِطاف . ولو
نَصَب « ثلاثين » على الظرفِ الواقعِ موقعَ الخبرِ جاز ، وهو الأصلُ . هذا إذا لم
نُقَدِّر مضافاً ، فإنْ قَدَّرْنا أي : مدةُ حَمْلِه لم يَجُزْ ذلك وتعيَّن الرفعُ
، لتصادُقِ الخبرِ والمُخْبَرِ عنه.
قوله : { حتى إِذَا بَلَغَ } لا بُدَّ مِنْ جملةٍ محذوفةٍ تكونُ « حتى » غايةً لها
أي : عاش واستمرَّتْ حياتُه حتى إذا.
قوله : « أربعين » أي : تمامَها ف « أربعين » مفعولٌ به.
قوله : { وَأَصْلِحْ لِي فِي ذريتي } أَصْلَحَ يتعدَّى بنفسِه لقولِه : {
وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ } [ الأنبياء : 90 ] وإنما تعدَّى ب في لتضمُّنِه
معنى الطُفْ بي في ذرِّيَّتي ، أو لأنه جَعَلَ الذرِّيَّة ظرفاً للصَّلاح كقولِه :
4040 . . . . . . . . . . . . . . . . .
يَجْرَحُ في عَراقيبها نَصْلي.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(4/442)
وقوله
: (وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ).
هذا منصوبٌ لأنه مَصْدَرٌ مؤكد لما قبله ، لأن قوله : أولئك الذين نَتَقئلُ
عَنْهُم أحسنَ مَا عَمِلُوا . بمعنى الوعد ، لأنه قد وعدهم الله القَبُولَ.
فوعدُ الصِّدْقِ توكيد لذلك.
* * *
وقوله تعالى : (وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ
أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ
وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ
الْأَوَّلِينَ (17)
(أُفِّ لَكُمَا)
وقد قرئت (أُفٍّ لَكُمَا) (أُفَّ لَكُمَا) وقد فسرنا ذلك في سُورَةِ بني
إسرائيل.
وقولهِ : (أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ).
ويقرأ (أَنْ أَخرُجَ) ويجوز أَتَعِدَانِي بالإدْغَام ، وإن شئت أَظْهَرَت
النونَيْنِ.
وإنْ شئت أسكنت الياء ، وإن شئت فتحتها.
وقد رُوِيَتْ عن بعضهم أَتَعِدانَني - بالفتح . وذلك لحن لا وجه له ، فَلاَ
تَقْرَأَنَّ به ، لأن فتح نُونِ الاثْنَيْنِ خطأ ، وإن حُكِي ذلكَ في شُذُوذٍ ،
فلا تحمل القراءة على الشذوذِ (1).
ويروى أن قوله في الآيةِ التي قبل هذه إلى قولك له : (أولئك الذين نتقبل
عنهم) نزلت في أبي بكر رَحْمَةُ اللَّه عَلَيْه.
فأما قوله : (وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا).
فقال بعضهم : إنها نزلت في عبد الرحمن قبل إسلامه ، وهذا يبطله
قوله (أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ
مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18)
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : « أَتَعِدانِني » العامَّةُ على نونَيْن مكسورتَيْن : الأولى للرفع
والثانية للوقاية ، وهشام بالإِدغام ، ونافع في روايةٍ بنونٍ واحدة . وهذه
مُشَبَّهةٌ بقوله : { تأمروني أَعْبُدُ } [ الزمر : 64 ] . وقرأ الحسن وشيبة وأبو
جعفر وعبد الوارث عن أبي عمروٍ بفتح النونِ الأولى ، كأنَّهم فَرُّوا مِنْ توالي
مِثْلَيْنِ مكسورَيْن بعدهما ياءٌ . وقال أبو البقاء : « وهي لغةٌ شاذَّةٌ في فتح
نون الاثنين » قلت : إنْ عَنَى نونَ الاثنين في الأسماءِ نحو قولِه :
4041 على أَحْوَذِيَّيْنَ اسْتَقَلَّتْ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . .
فليس هذا منه . وإن عَنَى في الفعلِ فلم يَثْبُتْ ذلك لغةً ، وإنَّما الفتحُ هنا
لِما ذكَرْتُ.
قوله : « أَنْ أُخْرَجَ » هو الموعودُ به ، فيجوزُ أَنْ تُقَدِّرَ الباءَ قبل «
أَنْ » وأَنْ لا تُقَدِّرَها.
قوله : « وقد خَلَتْ » جملةٌ حاليةٌ . وكذلك { وَهُمَا يَسْتَغثِيَانِ الله } أي :
يَسْألان اللَّهَ . واستغاث يتعدَّى بنفسِه تارةً وبالباء أخرى ، وإن كان ابنُ
مالكٍ زعمَ أنَّه متعدٍّ بنفسِه فقط ، وعابَ قولَ النحاةِ « مستغاث به » قلت :
لكنه لم يَرِدْ في القرآن إلاَّ متعدَّياً بنفسِه : { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ
رَبَّكُمْ } [ الأنفال : 9 ] { فاستغاثه الذي } [ القصص : 15 ] { وَإِن
يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ } [ الكهف : 29 ] قوله : « وَيْلَكَ » منصوبٌ على
المصدرِ بفعلٍ مُلاقٍ له في المعنى دونَ الاشتقاقِ . ومثله : وَيْحَه ووَيْسَه
ووَيْبَه ، وإمَّا على المفعولِ به بتقدير : ألزمَك الله وَيْلَكَ . وعلى كلا
التقديرَيْن الجملةُ معمولةٌ لقولٍ مقدرٍ أي : يقولان وَيْلَكَ آمِنْ . والقولُ في
محلِّ نصب على الحال أي : يَسْتغيثان اللَّهَ قائلين ذلك.
قوله : { إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ } العامةُ على كسرِ « إنَّ » / استئنافاً أو
تعليلاً . وقرأ عمرو بن فائد والأعرج بفتحِها على أنها معمولةٌ ل آمِنْ على حَذْفِ
الباءِ أي : آمِنْ بأنَّ وَعْدَ اللَّهِ حقٌّ . اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(4/443)
فأَعلم
اللَّه أن هؤلاء قد حقتْ عَلَيْهِم كلمة العذاب ، وإذا أعلم بذلك
فقد أعلم أنهم لا يؤمنون ، وعبد الرحمن مؤمن ، ومن أفاضل المُؤْمِنِين.
وسَرَوَاتِهم.
والتفسير الصحيح أنها نزلت في الكافر العاق.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ
أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19)
(وَلِيُوَفِّيَهُمْ)
(وَلِنُوَفِّيَهُمْ) جميعاً ، بالنون والياء.
* * *
وقوله : (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ
طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ
تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ
بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)
أكثر القراءة الفتح في النون والتفخيم في النارِ ، وأكثر كلام العرب على
إمالة الألف إلى الكسر ، وبها يَقْرأ أبو عَمْرٍو (عَلَى النَّارِ) يختار الكسر في
الرَّاءِ ، لأن الراء عندهم حرف مُكررٌ ، فكان كسرته كسرتانِ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ)
بغير ألف الاستفهام ، ويقرأ (أَأَذْهَبْتُم) - بهمزتين محققتين ، وبهمزتين
الثانية منهما مخففة ، وهذه الألف للتوبيخ ، التوبيخ إن شئت أثبت فيه الألف ، وإن
شئت حذفتها ، كما تقول : " يا فلان أحدثت مَا لا يَحِل لك جَنَيْتَ عَلَى
نَفْسِك " إذا وَبَّخْتةُ.
وإن شئت : أأخذت مَا لَا يَحِل لَكَ ، أجنيت على نفسك.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ)
معناه الهَوَان.
* * *
وقوله - عز وجل - : (وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ
وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا
إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21)
(الأحقاف) رمال مستطيلة مُرْتفعة كالدَكَّاوات ، وكانت هذه الأحقافُ
منازلَ عَادٍ .
(4/444)
وقوله
: (وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا
تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ)
أي قد أنذروا بالعذاب إنْ عَبَدُوا غير اللَّه فيما تَقَدَّمَ قَبْلَ إنْذَارِ
هُودٍ.
وعلى لسان هود عليه السلام.
(إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قَالُوا أَجِئْتَنَا
لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ
الصَّادِقِينَ (22)
أي لِتَصْرِفنا عنها بالإفْكِ والكَذِب . .
(فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا) أي اثتنا بالعذاب الذي نَعِدُنا ، (إِنْ كُنْتَ مِنَ
الصَّادِقِينَ)
* * *
(قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ
وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (23)
أي هو يعلم متى يأتيكم العَذَابُ
(وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ) إلَيْكُمْ.
ويقرأ بالتخفيف وأُبْلِغُكُمِ.
(وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ)
أي أدُّلُّكُمْ على الرَّشَادِ وأنتم تَصُدُّونَ
وَتَعْبُدونَ آلِهَة لا تَنفع ولا تَضُر.
* * *
وقوله : (فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا
عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ
أَلِيمٌ (24)
أي فلما رَأَوُا السحاب الذي نشأت منه الريح التي عُذِبُوا بِهَا قد
عَرَضت في السماء ، قالوا الذي وَعَدْتَنا به سحابٌ فيه الغيث والحياة والمطر.
فقال اللَّه عزَّ وجلَّ : (بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا
عَذَابٌ أَلِيمٌ).
وقرأ بعضهم : " قُل بَلْ هُوَ ما اسْتَعْجَلْتُم ".
وكانت الريح من شدتها ترفع الراعي مَعَ غَنَمِهِ ، فأهلك اللَّه قوم عَادٍ بتلك
الريح.
وقوله : (مُمْطِرُنَا) لَفظه لفظ معرفة ، وهو صفة للنكرة ، المعنى عَارِضٌ
مُمطِرٌ إيَّانَا ، إلا أَن إيَّانَا لا يفصل ههنا.
* * *
وقوله : (فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ
الْمُجْرِمِينَ (25)
(4/445)
في
هذا خمسة أوجه :
أجودها في العربية والقراءة ، (لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ)
مَسَاكِنُهُمْ) ، وتأويله لَا يُرَى شيءٌ إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ لأنَّهُمْ قد
أُهْلِكُوا.
ويجوز فأصبحوا لاَ تُرَى إلا مساكِنُهُمْ فيكون المعنى لا تُرَى أشخاصٌ إلا
مَسَاكِنُهُم.
ويقرأ فأصبحوا تَرَى مَسَاكِنَهُمْ ، أي لا ترى شيئاً إلا مساكِنَهُمْ.
وفيها وجهان بحذف الألف ، فأصبحوا لا يُرَى إلا مَسْكِنهُمْ ، وَمَسْكَنَهُمْ ،
ويجوز فأصبحوا لا ترى إلا مَسْكَنَهُمْ.
يقال : سَكَن يَسْكُن مَسْكَناً وَمَسْكِناً (1).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (كذَلِكَ نَجْزِي القَوْمَ المُجْرِمِينَ)
المعنى مثل ذلك نجزي القوم المجرمين أي بالعَذَابِ.
* * *
وقوله : (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا
لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا
أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ
بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (26)
(وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ)
(إن) ههنا في معنى " ما " و (إن) في النفي مع " ما " التي في
مَعْنى الَّذِي
أحسن في اللفظ مِنْ " مَا " ، ألا ترى أنك لو قلت رغبت فيما ما رَغِبَت
فيه
لكان الأحسن أن تقول : قَدْ رَغِبْتَ فيما إن رَغِبْتَ فيه ، تريد في الذي ما رغبت
فيه ، لاختلاف اللفظين.
* * *
وقوله عزَّ وجل : (بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا
يَفْتَرُونَ (28)
أي دعاؤهم آلهتهم هُوَ إفكُهُمْ ، ويقرأ (أَفَكَهُمْ) بمعنى وذلك كذبُهُمْ
وَكُفْرُهُمْ ، والأفك والأفَكَ مثل النَجْس والنجَسُ ويقرأ أَفَكُهُم ، أي ذلك
جَعَلَهُم ضلالاً كافرين ، أي صَرَفَهُمْ عنِ الحق ، ويقرأ آفَكَهُمْ أَيْ
جَعَلَهُمْ يأفكونَ ، كما تقول : ذلك أكفرهم وأضلهُمْ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ
يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ
وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29)
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { فَأْصْبَحُواْ لاَ يرى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ } : قرأ حمزةُ وعاصم « لا
يُرَى » بضمِّ الياءِ مِنْ تحتُ مبنياً للمفعولِ ، « مَسَاكنُهم » بالرفع لقيامِه
مقامَ الفاعلِ . والباقون من السبعةِ بفتح تاءِ الخطاب « مَساكنَهم » بالنصب مفعولاً
به . والجحدريُّ والأعمش وابنُ أبي إسحاقَ والسُّلميُّ وأبو رجاءٍ بضمِّ التاءِ
مِنْ فوقُ مبنياً للمفعول . « مساكنُهم » بالرفع لقيامِه مقامَ الفاعل ، إلاَّ
أنَّ هذا عند الجمهور لا يجوزُ ، أعني إذا كان الفاصلُ « إلاَّ » فإنه يمتنع
لَحاقُ علامةِ التأنيثِ في الفعل إلاَّ في ضرورةٍ كقولِه : /
4045 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وما بَقِيَتْ إلاَّ
الضلوعُ الجراشِعُ
وقول الآخر :
4046 كأنه جَمَلٌ هَمٌّ وما بَقِيَتْ . . . إلاَّ النَّحِيزةُ والألواحُ والعَصَبُ
وعيسى الهمداني « لا يُرى » بالياء مِنْ تحتُ مبنياً للمفعول ، « مَسْكَنُهم »
بالتوحيد . ونصر بن عاصم بتاء الخطاب « مَسْكَنَهم » بالتوحيد أيضاً منصوباً ،
واجتُزِئ بالواحد عن الجمع . اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(4/446)
أي
قال بعضهم لبعض صَهْ ، ومعنى صهْ اسْكُتْ ، ويقال إِنهُمْ كانوا تسعة
نَفرٍ أو سبعة نَفَرٍ ، وكان فيهم زوبَعَة.
(فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ)
أي فلما تلى عليهم القرآن حتى فرَع منه ، (وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ)
ويُقْرَأُ (فَلما قضَاهُ).
* * *
(قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى
مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ
مُسْتَقِيمٍ (30)
أي يُصَدِّق جَمِيعَ الكُتب التي تقدمَتْهُ والأنبياء الذين أَتَوْا بها.
وفي هذا دليل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث إلى الإنس والجِنِّ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ
الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33)
دخلت الباء في خبر (إنَّ) بدخول (أَوَلَمْ) في أول الكلام ، ولو قلت :
ظنَنْت أن زيداً بقائم لم يجز ، وَلَوْ قُلْتَ : ما - ظننتُ أَن زيداً بقائم جاز
بدخول ما ، ودخول أن إنما هو توكيد للكلام فكأنَّه في تقدير أَلَيْسَ اللَّهُ
بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْييَ المَوْتَى فيما ترون وفيما تعلمونه.
وقد قرئت يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُحْييَ المَوْتَى ، والأوْلَى هي القراءة التي
عليها
أكثر القراء . وهذه جائزة أيضاً.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ
وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا
إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ
الْفَاسِقُونَ (35)
جاء في التفسير أن أُولي العَزْمِ نوح وإبراهيم ومُوسَى وعيسى ومحمد.
صَلواتُ الله عليهم أجمعين .
(4/447)
قوله
: (لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ).
الرفع على معنى ذلك بَلَاغٌ.
والنصبُ في العربيًةِ جيدٌ بالغ . إلَا أَنَه يخالف المصحف ، وبَلَاغاً على معنى
يبلغون بَلَاغا كما قال : (كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ) مَنصُوبٌ عَلَى معنى :
(حُرمَتْ عليكم أُمَّهَاتُكُمْ) ، تأويله : كتب اللَّه ذلك كتاباً . .
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ).
تأويله أنه لا يهلك مع رحمة اللَّه وتَفَضله إلا القومُ الفَاسِقُونَ
ولو قرئت " فَهَلْ يَهْلِكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ " كان
وجهاً.
ولا أعلم أحداً قرأ بها.
وما في الرجاء لرحمة اللَّه شيء أقوى من هذه الآية.
وهي قوله : (فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ) (1).
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { فاصبر } : الفاءُ عاطفةٌ هذه الجملةَ على ما تقدَّمَ ، والسببيَّةُ فيها
ظاهرةٌ.
قوله : « من الرسُل » يجوزُ أَنْ تكونَ تبعيضيَّةً ، وعلى هذا فالرسلُ أولو عَزْمٍ
وغيرُ أُولي عَزْمٍ . ويجوز أَنْ تكونَ للبيانِ ، فكلُّهم على هذا أُوْلو عَزْم.
قوله : « بلاغٌ » العامَّةُ على رَفْعِه . وفيه وجهان ، أحدهما : أنَّه خبرُ مبتدأ
محذوفٍ ، فقدَّره بعضُهم : تلك الساعةُ بلاغٌ ، لدلالةِ قولِه : { إِلاَّ سَاعَةً
مِّن نَّهَارٍ } وقيل : تقديرُه هذا أي : القرآن والشرعُ بلاغٌ . والثاني : أنَّه
مبتدأٌ ، والخبرُ قولُه : « لهم » الواقعُ بعد قولِه : « ولا تَسْتَعْجِلْ » أي :
لهم بلاغٌ ، فيُوْقَفُ على « فلا تَسْتعجل » . وهو ضعيفٌ جداً للفصلِ بالجملةِ التشبيهية
، لأنَّ الظاهرَ تَعَلُّقُ « لهم » بالاستعجال ، فهو يُشْبِه التهيئةَ والقطعَ .
وقرأ زيد بن علي والحسن وعيسى « بلاغاً » نصباً على المصدرِ أي : بَلَغَ بلاغاً ،
ويؤيِّده قراءةُ أبي مجلز « بَلِّغْ » أمراً . وقرأ أيضاً « بَلَغَ » فعلاً
ماضياً.
ويُؤْخَذُ مِنْ كلامِ مكيّ أنه يجوزُ نصبُه نعتاً ل « ساعةً » فإنه قال : « ولو
قُرِئ » بلاغاً « بالنصبِ على المصدر أو على النعتِ ل » ساعةً « جاز » . قلت : قد
قُرِئ به وكأنه لم يَطَّلِعْ على ذلك.
وقرأ « الحسن » أيضاً « بلاغ » بالجرِّ . وخُرِّجَ على الوصف ل « نهار » على
حَذْفِ مضافٍ أي : مِنْ نَهارٍ ذي بلاغ ، أو وُصِف الزمانُ بالبلاغ مبالغةً.
قوله : « يُهْلَكُ » العامَّةُ على بنائِه للمفعولِ . وابن محيصن « يَهْلِك » بفتح
الياء وكسرِ اللام مبنياً للفاعل . وعنه أيضاً فتحُ اللامِ وهي لغةٌ . والماضي
هلِكَ بالكسر . قال ابن جني : « كلٌ مرغوبٌ عنها » . وزيد بن ثابت بضمِّ الياءِ
وكسرِ اللام/ والفاعلُ اللَّهُ تعالى . « القومَ الفاسقين » نصباً على المفعولِ به
. و « نُهْلك » بالنون ونصب « القوم ».
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(4/448)
سُورَةُ
محمَّد - صلى الله عليه وسلم -
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1)
قوله عزَّ وجلَّ : (أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ).
أحبطها فلا يرون في الآخرة لها جزاء ، والمعنى أن حبط ما كان من
صدَقَاتِهِمْ وصلتهم الرحِمَ وأبواب البر بكفرهم ، كما قال عزَّ وجلَّ : (كَذَلِكَ
يُرِيهُمُ اللَّهُ أعْمَالَهُم حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ) وقوله (كَسَرَابٍ بِقيعَةٍ)
وهؤلاء هم الذين صدوا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -
والدليل على ذلك قوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا
بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ
سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2)
أي كفَّر عَنْهُم وما اقترفوه وَهُمْ كافرونَ لمَّا آمنوا باللَّهِ وبالنبي عليه
السلام.
وسائر الأنبياء أجمعين.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ).
أي أصْلَحَ امْرَهُمْ وحالهم.
* * *
وقوله : (ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ
لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3)
أي الأمر ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل.
وجائز أن يكون ذلك الإضلال لاتباعهم الباطل ، وتلك الهداية والكفارات باتباع
المؤمنين الحقَ ، ثم قال عزَّ وجلَّ :
(5/5)
(كذلك
يَضْرِبُ اللَّهُ للنَّاسِ أمْثَالَهُمْ).
أي كذلك يبين الله للناس أمثال حسنات المؤمنين وسيئات الكافرين أي
كالبيان الذي ذكر ، ومعنى قول القائل : ضربت لك مثلًا ، أي بينت لك ضرباً من
الأمثال ، أي صنفاً منها.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ
حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ
وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ
اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ
وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4)
معناه فاضربوا الرقاب ضرباً ، منصوبٌ على الأمر ، وتأويله فإذا لقيتُم
الذين كفروا فاقتلوهم ، ولكن أكثر مواقع القتل ضرب العُنُق ، فأعلمهم اللَّه
- عزَّ وجلَّ - كيف القصد ، وكيف قال : (واضْرِبُوا مِنْهُم كُلً بَنَانٍ)
أي فليس يتوهم بهذا أن الضَّربَ محظور إلَّا على الرقبة فقط.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ).
(أَثْخَنْتُمُوهُمْ) أكثرتم فيهم القتل ، كما قال : (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ
يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) ، فالأسر بعد المبالغة في
القتل.
ثم قال : (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً).
أي بعد أن تَأسِروهُمْ إِما مننتم عليهم مَنَّا ، وإِما أطلقتموهم بفداء.
وقوله : (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا).
(حتى) موصولة بالقتل والأسْرِ ، المعنى فاقتلوهم وأسِرُوهُمْ حتى تضع
الحرب أوزارها.
والتفسير حتى يؤمنوا وُيسْلِمُوا ، فلا يجب أن تحاربوهم ، فما
دام الكفر فالجهاد والحرب قائمة أبداً.
وقوله : (ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ).
.
(5/6)
(ذلك)
في موضع رفع ، المعنى الأمر ذلك ، ويجوز أنْ يكون مَنْصُوباً على
معنى افعلوا ذلك.
(وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ).
أي لو يشاءُ اللَّهُ لَعذَّبَهُمْ وأهلكهم لأنه قادِرٌ عَلَى ذَلِك.
(وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ).
المعنى ولكن أمركم بالحرب ليبلو بعضكم ببعض ، أي ليمَحِّصَ اللَّه
المؤمنين ويمحق الكافِرينَ.
وقوله : (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ).
ذكر في أول السورة : (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ
أَعْمَالَهُمْ) وأعلم أن الذين قاتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم.
ويقرأ عَلَى أربعة أوْجُهٍ :
قَاتَلُوا في سبيل اللَّه ، وقُتِلُوا في سبيل اللَّه ، على ما لم يسمَّ
فاعله ، ويُقْرأ قُتِّلُوا بتشديد التاء ، ويُقْرأ قَتَلُوا في سبيل اللَّه ،
بفتحِ القاف.
* * *
وقوله : (سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5)
يُصْلِحُ لَهُمْ أمر معاشهم في الدنيا مع ما يجازيهم به في الآخرة ، كما
قال - عزَّ وجلَّ - : (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ
وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ
تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ)
أي لو أنهم قبلوا ما فيها وما في الكتب وعملوا به لأكلوا من فوقهم ومن تحت
أرْجُلِهم ، وكما قال :
(اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ
عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ
لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12)
فوعد الله عزَّ وجلَّ المؤمنين إصلاح شأنهم وبالهم في الدنيا والآخِرة.
* * *
وقوله : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8)
(5/7)
(الَّذِينَ)
في موضع رفع على الابتداء . ويكون (فَتَعْسًا لَهُمْ) الخبر.
ويجوز أن يكون نصباً على معنى أتعسهم اللَّه.
والتععحم ، في اللغة الانْحِطاطُ والعُثور.
* * *
(ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9)
كرهوا القرآن ونبوة النبي عليه السلام فأحبط اللَّه أعمالهم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ
عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ
أَمْثَالُهَا (10)
المعنى فينظروا كيف كان عاقبة الكافرين الذين من قبلهم.
(دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) ، أي أهلكهم اللَّه.
(وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا) أي أمثال تلك العاقبة ، فأهلك الله عزَّ وجل
بالسَّيف من أهلك ممن صدَّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
* * *
(ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا
مَوْلَى لَهُمْ (11)
أي بأن اللَّه ولي الذين آمنوا يتولاَّهم في جميع أمورِهم في هدايتهم
والنصر على عدوهم.
(وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ).
أي لا وليَّ لهم ينصرهم من اللَّهِ في هِدَايةٍ ولا عُلُوٍّ على المؤمنين ، ثم
أعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - ما أعدَّ للمؤِمنين مع النصر والتمكين ، وما أعدَّ
للكافرين مع الخذلان والإِضلال فقال : (إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ
وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ
وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12)
ثم بين صفات تلك الجنات وقال :
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ
وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ).
والمثوى المنزل.
* * *
وقوله - عزَّ وجلَّ - : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ
قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ (13)
(5/8)
المعنى
وكم من أهل قَرْيةٍ هي أشدُّ قوةً مِنْ أهْلِ قَرْيتِكَ التي أخرجتك.
أي الذين أخرجوك أهلكناهم بتكذيبهم للرسل فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ.
ثم أعلم فقال :
* * *
(أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ
وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ
(14)
وهذه ألفُ توقِيفٍ وتَقْرِيرٍ ، لأن الجواب معلوم ، كما أنك إِذا قلْتَ من
يفعل السيئات يشق ، ومن يفعل الحسنات يَسْعَد ، ثم قلت : الشقاء أحب إليك أم
السعادَة . فقد علم أن الجواب السعَادَة ، فهذا مجرى ألف التوقيف
والتقرير.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا
أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ
طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ
مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ
كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ
أَمْعَاءَهُمْ (15)
(مَثَلُ الْجَنَّةِ).
تفسير لقوله تعالى : (إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) ، ففسر تلك الأنهار
فقال : (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) أي مما عرفتموه من
الدنيا من جناتها وأنهارها جنَّةٌ (فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ).
ويقرأ من ماء غير أسِنٍ ، ويجوز في العربية أسْنٍ ، يقال أَسَنَ الماءُ يأسِن
فهو آسِنٌ ، ويقال : أسَنَ الماءُ فهو أَسِنٌ إذا تغيرت رائحته ، فأعلم اللَّه
- عزَّ وجلَّ - أن أنهار الجنة لا تَتَغير رائحة مائها ، ولايَأسَن.
(وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ).
أي لا يدخله ما يدخل ألبان الدنيا من التغيرِ.
( وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ).
ليس فيها غَوْلٌ أي لا تُسْكِرُ وَلاَ تفنى.
(وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى).
معناه مصفى لم يخرج من بطون النحل فَيخالطه الشَمْع.
( وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ).
(5/9)
كما
قال : (إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) ، وصف تلك الجناتِ فقال : مثل
الجنَّة جنَّة كما وصف.
وقيل إن المعنى صِفَةُ الجنَّةِ ، وهو نحَوٌ مِما فَسَّرَنَا.
ثم قال : (وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ).
أي لهم فيها من كل الثمَرات وَلَهُم مَغْفِرةٌ من رَبهمْ ، يَغْفِر ذُنُوبَهُمْ
ولا
يجازون بالسيئات ، ولا يوَبَّخُونَ في الجنَّةِ ، فَيُهكوْنَ الفوز العظيم
والعَطاءَ
الجَزِيلَ.
ثم قال :
(كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ
أَمْعَاءَهُمْ).
المعنى أفمن كان على بَينَةٍ من رَبِّه وأُعْطَىْ هَذِهِ الأشْيَاء ، كمَن زُيِّنَ
له
سوء عمله وهو خَالِدٌ في النَّارِ.
(وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ).
واحد الأمعاء مِعًى ، مثل ضِلَع وَأضْلَاع.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا
مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا
أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ
(16)
يعني المنافقين.
(حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ
مَاذَا قَالَ آنِفًا).
كانُوا يَسْمُعونَ خطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - فإذا خرجوا سألوا أصحاب رسول
الله استهزاء وإعلاماً أنهم لم يلتفتوا إلى ما قال ، فقالوا : مَاذَا قَال آنِفاً
، أي ماذا قال الساعة ، ومعنى آنفاً من قولك استأنَفْتُ الشيء إذا ابْتَدَأتُه ،
ورَوْضَة أُنُفٌ ، إذَا لَمْ تُرْعَ بَعْدُ ، أي لها أولٌ يُرعَىْ ، فالمعنى ماذا
قال من أول وَقْتٍ يَقْرُب مِنَّا.
وقوله : (أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا
أَهْوَاءَهُمْ (16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ
تَقْوَاهُمْ (17)
الضمير الذي في (زَادَهُمْ) يجوز أن يكون فيه أحدُ ثلاثة أوْجُهٍ :
فأجْوَدُهَا - واللَّه أعلم - أن يكون فيه ذكر الله ، فيكون المعنى مردُوداً على
(5/10)
قوله
: (أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا
أَهْوَاءَهُمْ (16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ
تَقْوَاهُمْ)
ويجوز أن يَكونَ الضَميرُ في (زَادَهم) قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
فيكون المعنى وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ ما قال رسول اللَّه هُدًى.
ويجوز أن يكون زَادَهم إعراضُ المنافقين واستهزاؤهم هُدًى.
قوله : (وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ).
يجوز أن يكون وَألهمهم تقواهم ، كما قال عزَّ وجلَّ : (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ
التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا).
ويجوز أن يكون - واللَّه أعلم - وآتَاهمْ ثَوَابَ تَقْوَاهُمْ.
* * *
وقوله - عزَّ وجلَّ - (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ
بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ
ذِكْرَاهُمْ (18)
ويقرأ " إِلَّا السَّاعَةَ إِنْ تَأْتِهمْ " بغير ياء ، والأولى أجْوَد
لموافقة المصحف.
وموضع " أن " نَصْبٌ البدَلِ مِنَ السَّاعَةِ.
المعنى فهل ينظرون إِلا أن تأتِيَهُمْ السَّاعَة بَغْتةً.
وهذا البدل المشتمل على الأول في المعنى وهو نحو
قوله (وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ
أَنْ تَطَئُوهُمْ)
المعنى لولا أن تطؤوا رِجالاً مؤمِنين ونساءً مؤمِنَاتٍ.
ومعنى (هَلْ يَنْظُرُونَ) هَلْ يَنْتَظِرونَ واحِدٌ.
ومن قرأ : إن تأتهم " (فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا) فعلى الشرط والجزاء.
وأشراطها أعلامها.
(فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ).
المعنى فمن أين لهم ذكراهم إذا جاءتهم الساعة ، و (ذِكْرَاهُمْ) في موضع
رفع بقوله (فَأَنَّى) .
(5/11)
وقوله
: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ
وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ
وَمَثْوَاكُمْ (19)
هذه الفاء جاءت للجزاء ، المعنى قد بَيَّنَا مَا يَدل على أنَّ الله وَاحِدٌ
فأعلم اللَّه أنه لا إِله إلا اللَّه ، والنبي عليه السلام قد علم ذلك ولكنه خطاب
يدخل الناس فيه مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ، كما قال اللّه عزَّ وجلَّ :
(يَا أيها النبي إذا طلقتم ْالنساء) ، والمعنى من عَلِمَ فليقم على ذلك العلم ،
كما قال : (اهْدِنَا الصِرَاطَ المسْتقيم) أي ثبتنا على الهداية.
(وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ).
أي يعلم متصرفاتكم ويعلم مثواكم ، أي يعلم أين مقامكم في الدنيا
والآخرة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ
فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ
الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ
عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (20)
كان المؤمنون - رحمهم اللَّه - يأنسون بالوحي ويسْتَوْحِشُونَ لإِبْطائِه
فلذلك قالوا : (لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ).
(فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ).
ومعنى (مُحْكَمَةٌ) ، غير منسوخة ، فإذا ذكر فيها فَرْضُ القِتَالِ
(رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) يعنى المنافقين.
(يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ).
لأنهم منافقون يكرهون القتال ، لأنهم إذا قعدوا عنه ظَهَرَ نِفَاقُهُمْ ، فَخَافوا
عَلَى أنْفُسِهِم القَتْل.
(فَأَوْلَى لَهُمْ).
(أَوْلَى لَهُمْ) وعيدٌ وتَهَدُدٌ ، المعنى وَلِيَهُم المكروهُ
* * *
وقوله : (طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا
اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ (21)
(5/12)
قال
سيبويه والخليل : المعنى طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ أمثل ، وقيل إنهم كان
قولهم أولًا طاعة وقول معروف.
ويجوز - واللَّه أعلم - أن يكون المعنى فإذا أنزلت سورة ذات طاعة أي يؤمر فيها
بالطاعة ، وقول معروف ، فيكون المعنى فإذا أنزلت سورة ذات طاعة وقول معروف.
* * *
(فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ).
المعنى فإذا جَدَّ الامْرُ ولزم فرض القتال ، فلو صدقوا اللَّه فآمنوا بالنبي -
صلى الله عليه وسلم - وعملوا بما نزل عليه وما أمروا به من فرض القتال لكان خيراً
لهم.
المعنى لكان صدقهم اللَّه بإِيمانِهِمْ خيراً لهم.
* * *
وقوله : (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ
وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22)
وقرأ نافع " فَهَلْ عَسِيتُمْ " واللغة الجيدة البالغة عَسَيْتُمْ -
بفتح السين ولو
جاز عَسِيتُمْ لجاز أن تقول : عَسِيَ رَبُّكُمْ أنْ يَرْحَمَكُمْ.
ويقرأ (إِنْ تُوُلِّيتُمْ) و (إِنْ تَوَلَّيْتُمْ) - بضم التاء وفتحها.
(أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ).
فمن قرأ (تَوَلَّيْتُمْ) - بالفتح - ففيها وجهان :
أحَدَهُمَا أن يكون المعنى لعلكم إن توليتم عما جاءكم به النبي أنْ تَعُودُوا إلى
أمر الجاهلية ، فتفسدوا وَيَقْتُلُ بعضكم بعضاً.
(وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ) ، أي تئدوا البنات ، أي تدفنوهن أحياء.
ويجوز أن يكون فلعلكم إن توليتم الأمر أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا
أرحَامَكُمْ ، ويَقْتُلُ قُريشٌ بَنِي هاشم ، وبَنو هَاشِم قُريْشاً ، وكذلِكَ إن
توليتم.
* * *
وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ
لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25)
المعنى رجعوا - بعد سماع الهدى وتَبَيُّنِهِ - إلى الكُفرْ.
وقوله : (الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ).
(5/13)
معنى
(سَوَّلَ لَهُمْ) زَيَّنَ لَهُمْ
(وَأمْلَى لهم) ، أملى اللَّه لهم كما قال :
(إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا) معناه إنما نؤخرهم.
وقد قرئت (الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأُمْلِي لَهُمْ) على الإخبار عَنِ اللَّه
عزَّ وجلَّ ، المعنى وأنَا أُمْلِي.
وقُرئت (وَأُمْلِيَ لَهُمْ) بفتح الياء على ما لم يسم فاعله (1).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ
اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26)
المعنى - والله أعلم - الأمر ذلك أي ذلك الِإضلال بقولهم للذين
كرهوا ما نزل اللَّه ، وجاء في التفسير أنهم اليهود ، قالوا سنطيعكم في بعض
الأمر ، أي سنطيعكم في التظاهر على عداوة النبي - صلى الله عليه وسلم -
(وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَسْرَارَهُمْ).
و (إِسْرَارَهُمْ) قرئ بهما جميعاً ، فمن قرأ (أَسْرَارَهُمْ)- بالفتح - فهُو جمعُ
سِرٍّ
وأسرار ، مثل حمل وأحمال ، ومن قرأ (إِسْرَارَهُمْ) فهو مصدر أسْرَرْتً إسرَاراً.
* * *
وقوله : (فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ
وَأَدْبَارَهُمْ (27)
يفعلون بهم ذلك في نار جهنم - واللَّه أعلم - ويكون المعنى فكيف
يكون حالهم إذا توفتهم الملائكة وهم يضربون وجوههم وأدبَارَهم.
* * *
قوله : (ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا
رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28)
المعنى - واللَّه أعلم - ذلك جزاؤهم بأنهم اتبعوا الشيء الذي أسخط
اللَّه وكرهوا رضوانه ، أي اتبعو مَن خالف النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن خالف
الشريعة وكرهوا الِإيمان بالنبي - صلى الله عليه وسلم - واتباع شريعته.
(فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ).
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { الشيطان سَوَّلَ } : هذه الجملةُ خبرُ { إِنَّ الذين ارتدوا } . وقد
تقدَّم الكلامُ على « سَوَّل » معنًى واشتقاقاً . وقال الزمخشري هنا : « وقد
اشتقَّه من السُّؤْل مَنْ لا عِلْمَ له بالتصريفِ والاشتقاقِ جميعاً » كأنَّه
يُشير إلى ما قاله ابن بحر : مِنْ أنَّ المعنى : أعطاهم سُؤْلَهم . ووجهُ الغلطِ
فيه أنَّ مادةَ السُّؤْلِ من السؤال بالهمز ، ومادةَ هذا بالواوِ فافترقا ، فلو
كان على ما قيل لقيل : سَأَّل بتشديد الهمزة لا بالواو . وفيما قاله الزمخشريُّ
نَظَرٌ؛ لأن السؤالَ له مادتان : سَأَل بالهمز ، وسال بالألفِ المنقلبةِ عن واوٍ ،
وعليه قراءةُ « سال سايل » وقوله :
4067 سالَتْ هُذَيْلٌ رسولَ الله فاحِشةً . . . ضَلَّتْ هُذَيْلٌ بما سالَتْ ولم
تُصِبِ
وقد تقدَّم هذا في البقرةِ مُسْتوفى.
قوله : « وأَمْلَى » العامَّةُ على « أَمْلَى » مبنياً للفاعل ، وهو ضمير الشيطان
. وقيل : هو للباري تعالَى . قال أبو البقاء : « على الأول يكونُ معطوفاً على
الخبر ، وعلى الثاني يكونُ مُسْتأنفاً » . ولا يَلْزَمُ ما قاله بل هو معطوفٌ على
الخبر في كلا التقديرَيْن ، أخبر عنهم بهذا وبهذا . وقرأ أبو عمروٍ في آخرين «
أُمْلِيَ » مبنياً للمفعول ، والقائمُ مَقامَ الفاعلِ الجارُّ . وقيل : القائم
مَقامَه ضميرُ الشيطان ، ذكره أبو البقاء ، ولا معنى لذلك . وقرأ يَعْقُوبُ وسلام
ومجاهد/ « وأُمْلِيْ » بضمِ الهمزةِ وكسرِ اللام وسكونِ الياءِ . فاحتملَتْ
وجهَيْن ، أحدُهما : أَنْ يكونَ مضارعاً مُسْنداً لضمير المتكلم أي : وأُمْلِي أنا
لهم ، وأَنْ يكونَ ماضياً كقراءة أبي عمروٍ سُكِّنَتْ ياؤه تخفيفاً . وقد مضى منه
جملةٌ.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(5/14)
أي
ما كان من عمل خيرٍ نحو صلة رحم أوْ برٍ أو صَدَقةٍ ، أحبط اللَّه ذلك
بكفرهم بما أتى به النبي - صلى الله عليه وسلم -.
* * *
وقوله : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ
اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ
(29)
(الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) المنافقون أي لن يبدي اللَّه عداوتهم لرسوله
عليه السلام ويظهره على نفاقهم.
* * *
(وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ
وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30)
معنى (لَأَرَيْنَاكَهُمْ) لعَرفْنَاكَهُمْ ، تقول : قد أرَيْتَكَ هَذَا الأمْر أي
قد عرفتك
إياه ، المعنى لو نشاء لجعلنا على المنافقين علامة وهي السيمياء.
(فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ).
أي بتلك العلامة.
(وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) ، أي في فحوى القَوْلِ.
فدلَّ بهذا والله أعلم - على أن قول القائل وفعله يدُلُّ على نِيَّته.
وقولُ الناس : قد لَحَنَ فلانٌ ، تأويله : قد أَخذ في ناحية عن الصواب ، وَعدَلَ
عن الصواب إِليها ، وقول الشاعر :
مَنْطِقٌ صائِبٌ وتَلْحَنُ أَحْيا . . . ناً وخَيْرُ الحديثِ ما كانَ لَحْنا
تأويله : خير الحديث من مِثْل هذه ما كان لا يعرفه كلُّ أحد ، إِنما يُعْرََفُ
قولها في أنحاء قولها.
(5/15)
وقوله
: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ
وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31)
معنى (لَنَبْلُوَنَّكُمْ) لنختبرنكم بالحرب.
(حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ).
وهو عزَّ وجلَّ قَدْ عَلِمَ قَبْلَ خَلْقِهِم المجاهدين منهم والصابرين ، ولكنه
أراد العلم الذي يقع به الجزاء ، لأنه إنما يجازيهم على أعمالهم.
فتأويله حتى يعلم المجاهدين علم شهادة ، وقد علم - عزَّ وجلَّ - الغيب ، ولكن
الجزاء بالثواب والعقاب يقع على علم شهادة.
* * *
وقوله - عزَّ وجلَّ - : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34)
أعلم - عزَّ وجلَّ - أنه لا يغفر لمن مات على الكفر.
* * *
وقوله : (فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ
وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35)
(إِلَى السَّلْمِ)
والسَّلَم ، ومعناه الصلْحُ ، يقال للصُّلِحَ هو السِّلْمُ ، والسَّلْمُ ،
والسَّلَمُ.
ومعنى (لَا تَهِنُوا) لا تَضْعُفوا . يقال : وَهَنَ يَهِن ، إِذَا ضَعُفَ ، فمنع
اللَّه المُسْلِمينَ أن يَدْعوا الكافرين إِلىَ الصُّلْحِ وأمرَهًمْ بِحَرْبِهِمْ
حتى يُسْلِمُوا.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ).
تأويله . أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ فى الحجةِ ومَعَكًمً النبيُ - صلى الله عليه وسلم
- وَمَا أتَى به من الآياتِ التي تدل على نبُوته ، (وَاللَّهُ مَعَكمْ) أي
نَاصِرُكُمْ.
وقوله - عزَّ وجلَّ - (وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ).
أي لن ينْقِصكُمْ شيئاً مِن ثَوَابِكًمْ.
* * *
وقوله : (إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا
وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36)
وقد عرفهم أنَّ أجورهم الجنةُ.
وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36) إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ
تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (37)
(5/16)
أي
إِن يجهدكُمْ بالمسألة (تَبْخَلُوا وَيُخْرِج أضْغَانَكُمْ).
ونخْرِج أضْغَانُكُمْ ، وقد قرئ بهما جميعاً.
* * *
وقوله : (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا
يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)
جاء في التفسير : إن تَوَلَّى العِبَادُ استَبْدَلَ اللَّه بِهِمُ المَلَائِكَة.
وجاء أيضاً : إن تَوَلَّى أهل مكَةَ استبدل الله بهم أهل المدينة.
وجاء أيضاً - يَستَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكمْ مِن أهل فَارِسَ.
فأما ما جاء أنه يستبدل بهم الملائكة ، فهو في اللغةِ عَلَى مَا أَتَوَهَّم فيه
بُعْدٌ لأنه لا يقال للملائكة قومٌ ، إِنما يقال قوم لِلآدَمِيينَ.
والمعنى - واللَّه أعلم - وَإِنْ تَتَوَلًوْا يستَبْدِل قَوماً أطْوَعَ مِنكم ،
كما قال - عزَّ وجلَّ - (عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ
أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ).
إِلى آخر القصة.
فلم يتولَّ جَميعَ النَّاسِ - واللَّه أعلم .
(5/17)
سُورَةُ
الفتح
(مَدنيةٌ) كلها بِإِجْمَاعٍ
بسم اللَّه الرحمن الرَّحيم
قوله - عزَّ وجلََّّ - : (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1)
جاء في التفسير أنه فتحُ الحُديبية ، وَكان هذا الفتح عَن غَير قتالٍ قيل
إنه كان عن تراضٍ بين القوم.
والحُدَيْبيَةُ بئرٌ فسمي المكان باسم البئر.
والفتح إنما هُوَ الطفَرُ بالمكان والمدينةِ والقَرْيَةِ ، كان بحرب أو بغَيْر
حُرْبٍ ، أو
كان دخول عَنْوَةٍ أو صُلْح ، فَهوَ فتحٌ لأن الموضع إِنما يكون مُنْغَلِقاً فإذا
صار
في اليَدِ فَهُوَ فتحُ.
ومعنى (فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا) - وَاللَّهُ أعلَمُ - هو الهداية إلى
الِإسْلاَمِ.
وجاء في التفسير : قضينا لكَ قضاء مُبِينًا أي حكمنا لك بإظهار دين الِإسلام
والنصرة على عدوك.
وأكثَر ما جاء في التفسير أنه فتح الحُدَيْبِيةِ ، وكان في فتح الحديبية آية
عظيمة من آيات النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وذلك أنها بئر فاسْتُقِيَ جميعُ ما
فيها من الماء حتى نَزَحَت ولم يبق فيها ماء ، فتمضمض رسول اللَّه - صلى الله عليه
وسلم - ثم مَجَّهُ فيها فدرت البئر بالماء حتى شَرِبَ جميع من كان مع النبي - صلى
الله عليه وسلم -.
وليس يخرج هذا من معنى فتحنا لك فتحاً مبيناً أنه يُعْنَى به الهداية إلى
الِإسْلاَم ، ودليل
(5/19)
ذلك
قوله (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ
وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2)
فالمعنى فتحنا لك فتحاً في الدين لتَهْتَدِيَ بِهِ أنت والمُسْلِمونَ.
* * *
ومعنى (وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3)
نَصْراً نَصْراً ذا عِزٍّ لا يقع معه ذُلٌّ.
ثم أعلم عن أسباب فتح الدين على نبيه عليه السلام فقال :
* * *
(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا
إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ
اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4)
أي أسْكَنَ قُلوبَهم التعظيم للهِ ولرسوله ، والوقار.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ
عَلِيمًا حَكِيمًا).
تأويله - واللَّه أعلم - أن جميع ما خلق الله في السَّمَاوَات والأرض جنود
له ، لأن ذلك كله يدل على أنه واحد وأنه لا يَقْدِرُ أحدٌ أنْ يأتِيَ بمثل شيء
واحد مما خلق اللَّه في السَّمَاوَاتِ والْأَرْضِ.
ومن الدليل أيضاً على أن معنى قوله : (إِنَّا فتحنا لك) أي إنَّا أرشدناك
إلى الإِسلام وفتحنا لك أمر الدينِ
قوله عزَّ وجلَّ : (وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ
وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ
السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ
وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6)
كانوا يظنون أن لن يَعودَ الرسول والمؤمِنونَ إلى أهْليهم أبداً وَزينَ ذلك
في قلوبِهِمْ ، فجعل الله دائرة السَّوْءِ عَليْهم.
ومن قرأ " ظَنَّ السُّوءِ " فهو كما ترى أيْضاً.
قال أبو إسحاق : وَلاَ أعْلَمُ أحداً قَرأ بِهَا ، وقد قيل أيضاً إنه قرِئ بِهِ.
وزعم الخليل وسيبويه أن معنى السوء هِهنا الفساد.
والمعنى : الظانين باللَّهِ ظَنَّ الفَسَادِ ، وهو ما ظَنُّوا أن الرسول عليه
السلام ومن معه لا يَرْجِعونَ .
(5/20)
قال
اللَّه تعالى : (عَلَيْهِمْ دَائِرَة السَّوْءِ) أي الفساد والهلاك يقع بهم
(وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ
مَصِيرًا).
* * *
(وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (7)
تفسيره مثل الأول.
(وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) عَالِياً حَكيماً فِيما دَبَّرَهُ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8)
أي شاهداً على أمتِك يوم القيامة.
وهذه حال مُقَدَّرَة أي مبشَراً بالجنة من عمل خَيْراً ومنْذِراً مَنْ عَمِل
شرَّا بالنَّارِ.
* * *
(لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ
وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9)
الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - وخطاب للنَاس وَلأمَّتِه.
والمعنى يَدُل على ذلك.
ويجوز (لِيُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) . وقَدْ قرِئ بهمَا جميعاً.
وجائز أن يكون (لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) خِطَاباً للمومِنينَ وللنَّبي
جَميعاً.
لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد آمن بالله وبآياته
وكتُبه ورسلِه.
وقوله (شاهداً) حال مقدرة ، أي يكون يوم القِيَامَةِ ، والبشارة والِإنذار
حال يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - ملابساً لها في الدنيا لمن شاهده فيها من
أمَّتِه ، وحال مُقدرة لمن يأتي بعده من أمَّتِه إلى يوم القيامَةِ مِمنْ لم
يشاهده.
يَعْنِي بقوله مُقدَّرة أن الحال عنده في وقت الِإخإر عَلَى ضَرَبَيْن.
حال ملَابسة يَكونُ المُخْبِر ملَابِساً لها في حين إِخْبارِه.
وَحَالٌ مُقَدَّرَةٌ لأن تلابَسَ فى ثانٍ مِنَ الزَمَانِ.
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ).
معنى (تُعَزِّرُوهُ) تنصروه ، يقال : عَزَّرْته أُعَزِّرهُ ، أي نصرته مَرةً بعْدُ
مرةٍ.
وجاء في التفسير لتنصروه بالسيْفِ ويجوز وَلِتَعْزروه ، يقال : عَزَرْتُه أعْزرُه
عَزْراً ، وعَزَّرْته أُعَزِّرهُ عَزْراً وتعْزِيراً . ونصرة النبي - صلى الله
عليه وسلم - هي نُصْرَة الله عَزَّ وجلَّ.
(وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا).
(5/21)
فهذه
الهاءُ تَرْجِع عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
ومعنى يُسبحون اللَّه ، أي يُصلُّون له . والتسبِيح في اللًغَةِ تعظِيم الله
وتنزيهه عن السوءِ.
* * *
وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ
اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ
وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10)
أي أخذكَ عَلَيْهم البَيْعَةَ عَقْدٌ لِلَّهِ عزَّ وجلَّ عَلَيْهم.
ومعنى (يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ)
يحتمل ثلاثة أوجُهٍ :
منها وَجْهَانِ جاءا في التفسير ، أحدُهما يَدُ اللَّه في الوَفَاء فَوْقَ
أيْدِيهم.
وجاء أيْضاً يد اللَّه في الثواب فوق أيْدِيهم.
والتفسير - واللَّه أعلم - يد الله في المِنَّةِ عَلَيْهِمْ في الهِدَايَةِ فوق
أيْدِيهِمْ في الطاعة.
وقوله : (فَمَنْ نَكَثَ فَإنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ).
والنكث في اللغةِ نقضُ مَا تَعْقِده ، وما تُصْلِحه.
وجاء في التفسير : ثلاثة أشياء تَرجِعُ عَلى أهلِهَا.
أحدُهَا النكث . والبغي والمكر.
قال اللَّه - عزَّ وجلَّ - (إِنَّما بَغْيُكُم عَلَى أنْفُسِكم).
والمكْرُ قال اللَّه عزَّ وجلَّ : (وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا
بِأَهْلِهِ)
وقوله : (فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا
عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا).
(فَسَنُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا)
ويقرأ (فَسَيُؤتيه أجْراً عظيماً).
ويقرأ عَلَيْهِ اللَّه ، وعَلَيهُ اللَّهَ.
وقد فسرنا مثل هذا فيما سلف.
* * *
(سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا
وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي
قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ
بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ
خَبِيرًا (11)
(فَاسْتَغْفِرْ لَنَا) بإظهار الراء عند اللَامِ ، وقد رُوِيت عَنْ أبِي عَمْروٍ
فاستغفِلَّنَا بالإدغام ، وكذلك في قوله يَغْفِلَّكًمْ.
ولا يُجيزُ سيبويه والخليل إدغام الراء في اللام.
ولا يحكون هذه اللغة عن أحدٍ من العرب - ، ويذكرون أن إدغام الراء
(5/22)
في
اللام غير جائز لأن الراء عندهم حرفٌ مَكرر ، فإذا أدغم في اللام بطل هذا الإشباع
الذي فيه.
وأعلم الله عزَّ وجلَّ أن هؤلاء منافقون فقال :
(يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ).
وأعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أنهم تخلفوا عن الخروج مع النبي - صلى الله عليه وسلم
- بظنِهم ظن السَّوءِ ، فأطلع الله نبيه على ذلك ، قال اللَّه عزَّ وجلَّ : (بَلْ
ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ
أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ
وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12)
أي هالكين عند اللَّهِ - عزَّ وجلَّ - فاسِدين في عِلْمِه.
وقوله عزَّ وجلَّ : (شَغلَتْنَا أمْوَالُنَا).
أي ليس لنا من يَقوم بها.
(وأهْلُونَا).
أي وشغلتنا أهلونا ، ليس لنا من يخلفنا فيهم ، ويجوز وأهلُنَا ، ولكن
القراءة المشهورة بالواو ، فمن قال وَأهلُونا فهو جمع أهل وأهلون ، ومن قال
وأهلنا فهو يتضمَّن الجماعة كُلها.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى
مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا
كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ
فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا
(15)
يعنى بقوله : (يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ) - قوله عزَّ وجلَّ :
(5/23)
(فَقُلْ
لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا).
فأرادُوا أن يأتوا بما ينقض هذا . فأعلم الله عزَّ وجلَّ أنهم لا يعقلون ، ولا
يقدرون على ذلك فقال : (قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ
قَبْلُ).
ولو كان الكلام نهياً لقال : قل لا تَتَبِعُونا.
وقرئت : " يُرِيدُونَ أنْ يُبَدِّلُوا كَلِمَ اللَّهِ).
فالْكَلِمُ جمع كلمة ، والكلام في موضع التَّكلِيم.
* * *
وقوله : (قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ
أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا
يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ
قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16)
وقد قرئت (أو يُسْلِموا) ، فالمعنى تقاتلونَهُمْ حتى يسلموا.
وإِلَّا أن يسلموا.
فإن قال قائِلٌ : قد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهم :
(لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا)
فكيف جاز أن يقول : (سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ
تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ).
فإنما قال - صلى الله عليه وسلم - ذلك لأن اللَّه أعلمه أنَّهُمْ منافقون ، وأعلمه
مع ذلك أنهم لا يُقَاتِلُونَ معَه.
وجاء في التفسير أنه عنِيَ بقوله : (سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ) بنو
حنيفة ، وأبو بكر رحمه اللَّه ، قاتلهم في أيام مسيلمة.
وجاءً أيضاً هوازِن.
والمعنى أن كل من ظَاهِره الِإسلام فعلى أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أن
يدعوهم إلى الجهاد.
والصحابة لم يطْلَعُوا في وقت الجهاد على من يُقَاتِل ومن لا يُقَاتِل.
ولا على من ينافق ومن لا ينافق ، لأن الإظهار على ذلك من آيات الأنبياء
عليهم السلام.
وقد قيل : (إِلَى قَوْمٍ أوليَ بَأْسٍ شَدِيدٍ) أي ، إلى فارس والروم ، وذلك
في أيام أبي بكر وعمَر رحمة اللَّه عليهما وَمَنْ بَعْدَهم .
(5/24)
(فَإِنْ
تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا).
أي إن تبْتًم وتَركْتُم النِّفَاقَ وجَاهَدْتم . يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا
حَسَنًا.
(وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا
أَلِيمًا).
[وإن تولَّيتم فأقمتم على نفاقكم ، وأعرضتم عن الإِيمان والجهاد كما تولَّيتم على
عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يعذِّبكم عذاباً أليماً] (1).
ثم أعلم عزَّ وجلَّ بخبر من أخلص نيَّتَهُ فقال :
* * *
(لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ
فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ
فَتْحًا قَرِيبًا (18)
أي علم أنهم مًخْلِصون.
وجاء في التفسير أن الذين بايعوا تحت الشجرة كانوا ألفاً وأرْبَعَمائة.
وقيل ألفاً وخمسمائة ، وقيل ألفاً وثَلاثَمائةٍ وكانوا
بايعوا النبي - صلى الله عليه وسلم - على أن لا يوَلوُّا في القتال وَلَا
يَهْرَبُوا ، وسُمِّيَتْ بيْعةَ الرضوانِ لقوله تعالى : (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ
عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ)
وكانت الشجرةُ سَمُرَةً.
(فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا).
قيل إنه فتح خَيْبَر.
* * *
(وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19)
وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ
وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ
وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (20)
وهذا التكرير تكرير في الوَعْدِ ، أي فعجَّلَ هذه يَعْني خَيْبَر.
(وَكَص ايْدِيَ النَّاسِ عَنْكًمْ وَلتَكًونَ آيةً للمؤمِنِينَ).
__________
(1) النصُّ مضطرب في الكتاب المطبوع ، وتمَّ ضبطه من زاد المسير فيما حكاه عن
الزَّجَّاج. اهـ (زاد المسير. 7 / 432).
(5/25)
أي
كف أيديَ الناس عَنْكمْ لَمَّا خرجوا وخلفوا عِيَالَهمْ بالمدينة حَفِظَ اللَّه
عِيَالَهمْ وَبَيْضَتَهمْ ، وَقَد همَّت اليَهودُ بِهِمْ فَمَنَعهَم اللَّه
ذَلِكَ.
* * *
(وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (21)
المعنى وعدكم اللَّه مغانم أخرى (قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا) ، قد علمها اللَّه.
وهو مَا يَغْنَم المُسْلِموَن إِلَى أنْ لاَ يُقَاتِلَهمْ أحدٌ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا
الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22) سُنَّةَ اللَّهِ
الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23)
المعنى لو قاتلك من لم يقاتلك لَنصِرْتَ عَلَيْهم ، لأن سنة الله النَصْر
لأوليائه وحِزْبه.
(سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ
اللَّهِ تَبْدِيلًا (23)
و (سُنَّةَ اللَّهِ) منصوبة على المصْدَرِ ، لأن قوله (لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ)
مَعناه سنَّ
اللَّهُ خِذْلَانَهُمْ سُنَّةً ، وقد مر مثل هذا في قوله : (كِتَابَ اللَّهِ
عَليهمْ).
وفي قوله : (صُنْعَ اللَّهِ) ، ولو قرئت " سُنَّةُ اللَّهِ الَّتِي قَدْ
خَلَتْ مِنْ قَبْلُ " لكان
جيِّداً في العربيةِ.
المعنى تلك سنة اللَّه التي قد خَلَتْ مِنْ قَبْلُ ، ولكن لا أعلم
أحداً قرأ بها فلا تقرأنَّ بها.
* * *
(وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ
مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا
تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24)
(مَكَة) لا تَنْصَرِفُ لأنَّها مؤنثَةٌ وهي مَعْرِفَة.
وقوله : (مِنْ بَعْدِ أن أظْفَرَكمْ عَلَيْهِمْ).
جاء في التًفْسِيرِ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أُتِيَ باثنتيْ عشر
رَجُلًا أُخِذوا بلا عهد
(5/26)
ولا
عقد فخلاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ومَنَّ عَلَيْهمْ ، وكان عاقبة ذلك أن
سلِمَ للرجل مَنْ بَينَهُ وبينه قَرابةٌ وَمَن هُوَ مؤمِن أن يُصَابَ
قال الله عزَّ وجلَّ : (وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ
تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ
لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25)
وموضع " أن " رفع بدل مِنْ (رِجَالٌ) ، المعنى لولا أنْ تطأوا رجالاً
مُؤْمِنينَ
ونساءً مؤمِنَاتٍ.
ثم قال : (لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا
أَلِيمًا).
أي لو تَميَّزَ الكافِرُونَ مِنَ المُسْلِمِينَ لأنزلنا بالكافرين ما يكون
عَذَاباً لَهُمْ
فى الدنيَا.
وَمَعْنَى : (فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ).
قيل : لولا أن يقتلوا منهم قوماً مؤمنين خطأً فَتَلزَمُكُم الديَاتُ
والمعنى - واللَّه أعلم - لولا كراهة أنْ يَلحقكُمْ عَنتٌ بأن قتلتم من هو على
دينكم إذ أنتم مختلِطُونَ بهم لعَذَبنا الذين كفروا مِنهُمْ عذاباً أليماً.
* * *
وقوله : (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ).
(الهَدْيَ) مَنْصُوبٌ سبق على الكاف والميم ، المعنى وصَدُوا الهَدْيَ.
و (مَعكوفاً) مَحْبُوساً أنْ يبْلُغَ مَحِلًهُ.
(وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ) كما وَصَفْنَا لنَصَرْنَاكُمُ عَلَيْهم ، ولكن
الذي مَنَع عن
ذلك كراهةُ وَطْءِ المؤمنين بالمكرُوه والقَتْلِ.
وموضع (أَنْ يبلُغَ مَحِلَّه) منصوب عَلَى مَعْنى وصدوا الهَدْيَ محبوساً عن أنْ
يبلُغَ مَحِلَّهُ.
* * *
وقوله - عَزَّ وَجَلً - (فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى
الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا
وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26)
أَنْزَلَ اللَّه عَلَيْهِم الوقار والهيبة.
(وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى).
(5/27)
جا
في التفسير أن شعارَهم لا إله إِلا الله ، وكلمة التقوَى توْحِيد اللهِ
والإِيمان برسوله عليه السلام.
(وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا).
أي كانوا أحق بها من غيرهم ، لأنَّ اللَّهَ - جلَّ وعزَّ - اختارَ لنبيه - صلى
الله عليه وسلم - ولدينه أهلَ الخَيْرِ ومُسْتَحِقيه ، ومن هو أولى بالهِدَايَة
مِنْ غيره.
* * *
وقوله : (لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ
الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ
وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ
ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27)
رأى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - في منامه كأنَّهُ وأصْحابَهُ - رحمهم
اللَّه - يدخلون مكَة محلِّقِين ومُقَصِّرِين ، فَصَدَق اللَّهُ رسوله الرؤيا
فدخلوا على ما رأى.
وكانوا قد استبطأوا الدخُولَ.
ومعنى (إنْ شَاءَ اللَّهُ) يخرج على وَجْهَيْن :
أحدهما إِن أمركم اللهُ به.
ويجوز وهو حسن أن يكون " إن شَاءَ اللَّهُ " - جرى على ما أمر الله به
في
كل ما يُفعَلُ مُتَوَقعاً ، فقال : (وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ
ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ
عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ
فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ
السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ
كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ
يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا
(29)
وَصَفَهُم اللَهُ بِأن بعضَهُمْ مَتَحَنِّنٌ على بَعْضِ ، وأن عَليْهمِ السكينةَ
والوقَارَ ، وبعضهم يخلص المودةَ لبَعْضٍ ، وهم أشِداءُ عَلَى الكُفَارِ.
أشداء جمع شديدٍ ، والأصل أشدِدَاء ، نحو نصيب وأنْصِبَاء ، ولكن الدالَيْنِ
تَحَركَتَا فأدْغِمتِ الأولى في الثانية ، ومثل هذا قوله : (مَنْ يَرْتَدَّ
مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ
وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ).
(5/28)
وقوله
: (سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ).
أي في وجوههم عَلَامَة السجودِ ، وهي علامة الخاشِعين لِلَّهِ المصَلِّين.
وقيل يبعثون يَوْمَ القِيَامَةِ غرًّا مُحجَّلينَ من أثر الطُهُورِ ، وهذا يجعله
اللَّه لَهُمْ يَوْمَ القيامَةِ عَلامَة وهي السيماء يُبَين بها فَضْلَهمْ عَلَى
غَيْرِهِمْ.
وقوله : (ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ).
أي ذلك صفة محمد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه في التَورَاةَ ، ثم أعلم أنَّ
صفَتَهم في الِإنجيل أيضاً.
(كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ).
معنى (أَخْرَجَ شَطْأَهُ) أخرج نباته
(فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ) ، أي فَآزَرَ الصغارُ الكبارَ حتى استوى بعضه مع بعْض
(عَلَى سُوقِهِ) جمع ساقِ.
وقوله : (يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ).
(الزُّرَّاعَ) محمد عليه السلام والدُّعاة إلى الِإسْلاَمِ وهم أصحَابًه.
وقوله : (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ
مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا).
(مِنْهم) فيه قولان :
أن تكون " مِنهم " ههنا تخليصاً للجنس من غيرِه كما
تقول : أنفقْ نَفَقَتَك منَ الدراهِمِ لَا مِنَ الدنَانِيرِ.
المعنى اجعل نفقتك من هذا الجنس ، وكما قال : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ
الْأَوْثَانِ) ، لا يريد أن بعضها - رجس وبعضها غير رِجْسٍ.
ولكن المعنى اجتنبوا الرجس الذِي هُوَ الأوثانُ .
(5/29)
فالمعنى
وعد اللَّه الذين آمنوا وعملوا الصالحات من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -
المؤمنين أجراً عظيماً وفَضَّلَهُمْ الله على غيرهم لِسَابِقتِهم وَعَظَّم أجْرَهُمْ.
والوجه الثاني أن يكون المعنى وعد الله الذين أقاموا منهم على الإيمَانِ
والعمل الصالح مَغْفِرةً وأجراً عظيماً .
(5/30)
سُورَةُ
الْحُجُرَات
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ
وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1)
وقد قرئت (لَا تَقَدَّمُوا) بفتح التاء والدال ، والمعنى إذا أمِرْتم بأمْرٍ فلا
تفعلوه قبلَ الوقتِ الذي أمِرْتم أن تفعلوهُ فِيهِ.
وجاء في التفسير أن رجلاً ذبح يوم الأضْحَى قَبْلَ صَلاةِ الأضْحَى فتقدم
قبل الوقت فاعلم اللَّهُ أن ذلك غير جائز.
ففي هذا دليل أنَّهُ لَا يَجُوزُ أن يؤدى فَرْضٌ قبل وقْتِهِ وَلَا تطوعٌ قَبْلَ
وَقْتِهِ مِمَّا جَاءَت به السُّنَّةُ ، وفي هذا دليل أن تقديم الزكاةِ قبل وقتها
لا ينبغي أن يجوز ، فأما ما يروى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استسلَفَ من
العباس شيْئاً من الزكاة ، فلا أعلم أن أحداً ممن أجاز تقديم الزكاة احتج إلا بهذا
الحديث ، وهذا إن صح فهو على ضربين :
أحدهما أن يكون مخصوصاً
والآخر أن يكونَ الحاجة اشتدت فوقع اضطرار إلى استسلاف الزكاة.
والإجماع أن إعطاءها في وقتها هو الحق ، وهو الفَضلُ إنْ شَاء اللَّه.
ومن قرأ : (لَا تَقَدَّمُوا) فمعناه كمعنى (لَا تُقَدِّمُوا) (1).
* * *
وقوله عزْ وجلَّ : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ
فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ
لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2)
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { لاَ تُقَدِّمُواْ } : العامَّةُ على ضمِّ التاءِ وفتح القافِ وتشديدِ
الدالِ مكسورةً ، وفيها وجهان ، أحدُهما : أنَّه متعدٍّ ، وحُذِفَ مفعولُه : إمَّا
اقتصاراً كقولهم : هو يعطي ويمنع ، { وَكُلُواْ واشربوا } [ البقرة : 187 ] ،
وإمَّا اختصاراً للدلالةِ عليه أي : لا تُقَدِّموا ما لا يَصْلُحُ . والثاني : أنه
لازمٌ نحو : وَجَّه وتَوَجَّه ، ويَعْضُدُه قراءةُ ابنِ عباس والضَّحَّاك « لا
تَقَدَّمُوا » بالفتح في الثلاثة ، والأصلُ : لا تَتَقَدَّمُوْا فحذَف إحدى
التاءَيْن . وبعضُ المكِّيين « لا تَّقَدَّمُوْا » كذلك ، / إلاَّ أنَّه بتشديد
التاء كتاءات البزي . والمتوصَّلُ إليه بحرفِ الجرِّ في هاتَيْن القراءتَيْن أيضاً
محذوفٌ أي : لا تَتَقَدَّموا إلى أمرٍ من الأمور . وقُرِىء « لا تُقْدِموا » بضمِّ
التاءِ وكسرِ الدالِ مِنْ أَقْدَمَ أي : لا تُقْدِموا على شيءٍ.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(5/31)
أمرهم
اللَّه - عزَّ وجلَّ - بتبجيل نبيِّه عليه السلام ، وَأنْ يَغُضوا أصْوَاتَهُمْ
وأن يخاطبوه بالسكينة والوقار ، وأن يفضلوه في المخاطبة ، وذلك مما كانوا
يفعلونه في تعظيم ساداتهم وكبرائهم.
ومَعنى (كَجَهْرِ بَعْضِكُم لِبَعْضٍ) أي لا تنزلوه منزلةَ بعضكم من بعض.
فتقولوا : يا محمدِ خاطبوه بالنبوة ، والسكينة والإِعظام.
وقوله : (أنْ تَحْبَط أعْمَالُكُمْ).
معناه لا تفعلوا ذلك فتحبط أعمالكم.
والمعنى لئلا تحبط أعمالكم
فالمعنى معنى اللام في أن . وهذه اللام لام الصيرورة وهي كاللام في قوله :
(فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا) والمعنى
فالتقطه آل فرعَوْنَ
ليصير أمرهم إلى ذلك ، لَا أنَّهمْ قصدوا أن يصير إلى ذلك . ولكنه في المقدار
فيما سبق من علم الله أن سبب الصير التقاطهم إياه ، وكذلك لا ترْفَعُوا
أصواتكم فيكون ذلك سبباً لأن تحبط أعمالكم.
(وَأنْتُمْ لَا تَشْعُرونَ).
هذا إعلامٌ أن أمرَ النَبِى - صلى الله عليه وسلم - ينبغي أن يُجَلَّ وُيعَظَّمَ
غايَة الِإجْلَالِ.
وأنه قد يُفعل الشيءُ مما لا يَشْعَرُ به من أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -
فيكون ذلك مُهلكاً لِفَاعِلِه أو لِقَائِله.
ولذلك قال بعض الفقهاء : من قال إدْ زِرَّ رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وسخ
يريد به - النقصَ منه وجب قتْلُه.
هذا مذهبُ مالِكٍ وأصْحَابه.
* * *
وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ
أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ
وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3)
(امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ)
أخلَصَ قلُوبَهمْ.
وَ " هُمْ " يخرج على تفسير حقيقة اللغة ، والمعنى
__________
(5/32)
اختبر
اللَّه قُلُوبَهم فَوَجَدَهُمْ مُخْلِصِين - كما تقول : قد امتحنت هذا الذهب
وهذه الفضة . تأويله قد اختبرْتُهُمَا بأن أذَبْتُهَمَا حتى خلصت الذهَب والْفضة
فَعَلِمْتُ حَقِيقَةَ كل واحد منهما.
* * *
وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ
لَا يَعْقِلُونَ (4)
يقرأ بضم الحاء والجيم ، والحُجَرَاتَ بِفَتْح الجيم ، ويجوز في اللغة
الحُجْرات . بتسكين الجيم - ولا أعلم أحَداً قَرأ بالتَسْكِينِ وَقَدْ فَسًرْنَا
هذا
الجمع فيما تقدم من الكتاب.
وواحد الحجرات حُجْرَةٌ . ويجوز أن تكون الحُجراتُ جمع حُجَرٍ
وحُجرات ، والأجود أن تكون الحُجُرَات جمع حُجرة ، وأن الفتح جاز بدلاً من الصفةِ
لثقل الضمَتَيْن.
وهؤلاء قوم جاءوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من بني تميم فَنَادَوْه من
وراء الحجرات.
ولهم في التفسير حديث فيه طول ، وجملته أنهم جاءوا يفاخرون
النبي وأنَّهمْ لم يلقَوْه بما يجب له عليه السلام.
* * *
قال : (وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا
لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
أي - من تاب بعد هذا الفِعْل فاللَّه غفور رحيم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ
بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى
مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6)
ويقرأ فتثَبَّتُوا أَنْ تُصِيبُوا.
(قَوْماً بجَهَالةٍ).
جاء في التفسير أنها نزلت بسبب الوليد بن عقبة.
وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بَعَثَهُ ساعِياً يجْبي صدقات بني المصطلق
، وكان بينه وبينهم أحْنَة أي عداوة ،
(5/33)
فلما
اتصَلَ بهم خَبَرُه وقد خرج نحوهم قال بعضهم لبعْضٍ : قد علمتم ما بيننا
وبين هذا الرجل ، فامْنعوه صَدَقَاتِكًمْ ، فاتصل به ذلك فرجع إلى النبي - صلى
الله عليه وسلم - فأخبره أنهم مَنَعوه الصدقة وأنهم ارْتدُّوا ، وأعَدُّوا
السِّلَاحَ للحَرْبِ ، فوجه رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - بخالد بن الوليد
ومعه جيش ، وتقدم إِليْه أن ينزل بعقوتهم ليلاً ، فإن
رأى ما يدل على إقامتهم على الإسلام من الأذان والصلاة والتَّهجد أمسك عن محاربتهم
، وطالبهم بصَدَقَاتِهِمْ فلما صار خَالِدٌ إليهم ليلاً سَمِعَ النداء
بِالصلَاة ، ورآهم يُصَلُّونَ ويتهجَّدونَ ، وقالوا له : قد استبطأنا رسالة رسول
اللَّه - صلى الله عليه وسلم - في الصدَقَاتِ ، وسلموها إليه ، فأنزل اللَّه -
عزَّ وجلَّ - (إِنْ جَاءَكًمْ فَاسِق بِنَبَأٍ) أي بخَبرٍ (فَتَبَينوا أنْ
تصِيبًوا قَوْمَاً بِجَهَالَةٍ)
أي كراهة أن تصِيبوا قوماً بِجَهَالَةٍ
وهذا دليل أنه لا يجوز أن يقبل خبر من فاسق [إلا أن] (1) يتَبَيَّن وأَنَ الثقة
يجوز قبول خبرِه.
والثقةً من لم تجرب عليه شهادَةً زورٍ وَلَا يُعْرَف بفِسْقٍ وَلَا جُلِدَ في
حَدٍّ ، وهو مع ذلك صحيح التمييز.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ
فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ
الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ
وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7)
أي لو أطاع مثل هذا المخبر الذي أخبره بما لا أصل له لوقعتم في
عَنَتٍ ، والعَنَتُ الفساد والهَلاَكُ.
(وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ) . .
هذا يعنى به المؤمنون المخلصون.
(وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ).
ويحتمل (فِي قُلُوبِكُمْ) وجهين :
أحدهما أنه دلهم عليه بالحجج القاطعة البينة ، والآيات التي أتى بها النبي - صلى
الله عليه وسلم - المعجزةِ.
والثاني أنه زَيَّنَهُ في قلوبهم بتوفيقه إياهم.
__________
(1) زيادة ضرورية.
(5/34)
(وَكَرَّهَ
إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ).
وذلك أيضاً تبْيينه ما عليهم في الكفر وتوفيقه إياهم إن اجْتَنَبوه.
وقوله : (أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ).
أي هؤلاء الذين وفقهم اللَّه - عزَّ وجلَّ - بتحبيب الِإيمان إليهم وتكريه
الكفر أولئك هم الراشدون.
* * *
(فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)
منصوب مفعول له - المعنى فعل الله ذلك بكم فضلاً من اللَّه ونعمةً أي
للفضل والنعْمةِ ، ولو كان في غير القرآن لجاز (فَضْلٌ من اللَّه ونعمةٌ).
المعنى ذلك فضل من الله ونعمة.
* * *
وقوله - عزَّ وجلَّ - : (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا
بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي
تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا
بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9)
والباغية التي تعدل عن الحق وما عليه أئمة المسْلِمين وَجَمَاعَتُهُمْ.
(حَتَى تَفِيءَ إِلى أمْرِ اللَّهِ).
حتى ترجع إلى أمر اللَّه.
(فَإِنْ فَاءَت) : فإن رَجَدَتْ.
(فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا).
أي وأعْدِلُوا.
(إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)
وهذه - قيل - نزلتْ بسبب جَمْعَيْن من الأنْصَارِ كان بينهم قِتَال ولم يكن
ذلك بسيوف ولا أسْلحة ، جاء في التفسير أنه كان بينهم قِتال بالأيدي والنَعَال
وَتَرَامٍ بِالحِجَارةِ .
(5/35)
(إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ
لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ
(10)
ويقرأ بين إخْوَانكم ، وبين إخْوَاتِكُمْ وبين إخْوَتكم.
فأعلم اللَّه - عزَ وجل - أن الذينَ يجمعهم وأنهم إِخوَة إذا كانوا متفقين في
دينهم فرجعوا في الاتفاق في الدين إلى أصل النسَبِ ، لأنهم لآدَم وحَواء ، ولو
اختلفت أدْيَانُهم لافترقوا في النسَبِ ، وإن كان في الأصل أنهم لأب وأم.
ألَا ترى أنه لا يرث الولدُ المؤمن الأب الكافِرَ ولا الحمِيمُ المؤمِنُ نسيبه
الكافِر.
* * *
وقوله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى
أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ
خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا
بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ
فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)
عسى أن يكون المسخور منه خيراً من الساخرين ، وكذلك عسى أن
يكون النساء المسخور منهن خيراً من النساء الساخرات ، فنهى اللَّه
- عزَّ وجلَّ - أن يسخر المؤمنون من المؤمنين ، والمؤمنات من المؤمنات.
(وَلَا تَلْمِزُوا أنْفُسَكُمْ).
واللمز والهمز العيب والعض من الِإنسان . فأعلمَ اللَّهُ أن عيب بعضهم
بعضاً لازم لهم ، يلزَمُ العائِبَ عيبُ المعيب.
(وَلَا تَنَابَزُوا بِالْألْقَابِ) والنبز واللقب في معنىً وَاحِدٍ ، لا يقول
المسلم
لمن كان يَهودياً أو نصرانياً فأسلم لقباً يعيره فيه بأنه كان نصرانياً أو
يهودياً.
(بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ) ، أي بئس الاسم أن يقول له : يا
يهودي ويا نصراني وقد آمن ، ويحتمل أن يكون في كل لقبٍ يكرهه الِإنسان ، لأنه إنما
يجب أن يخاطب المؤمن أخاه بأحب الأسماء إليه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ
الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ
بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا
فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)
أمر اللَّه عزَّ وجل باجتناب كثير مِنَ الظن ، وهو أن تظن بأهل الخير سوءاً
(5/36)
إذا
كنا نعلم أن الذي ظهر منه خير ، فأمَّا أهل السوء والفسق فلنا أن نظن بهم مِثْلَ
الذي ظهر منهم.
وقوله : (ولا يَغْتَبْ بَعْضُكُم بَعْضاً) ، والغيبة أن يُذْكَرَ الإنسان من خلفه
بسوء وإن كان فيه السوء
وأما ذكره بما ليس فيه فذلِكَ البهْتُ والبُهْتَانُ - كذلك
جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ - : (أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا).
ويجوز (مَيِّتاً) وتأويله أن ذكرك بِسوءٍ من لم يَحْضر لك بمنزلة أكل لحمه
وهو مَيِّت لَا يُحِسُّ هُوَ بذلك ، وكذلك تقول للمغتاب فلان يأكل لحوم الناس.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَكَرِهْتُمُوهُ).
ويُقرأ " فَكُرِّهْتُمُوهُ " - فتأويله كما تكرهون أكل لحمه مَيتاً كذلك
تجنبوا
ذكره بالسوء غائباً.
* * *
وقوله : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى
وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ
اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)
خلقناكم من آدم وحواء ، وكلكم بنو أبٍ وَاحِدٍ وَأُمٍّ وَاحِدَة إِلَيْهما
تَرْجِعُونَ.
(وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا).
والشعب أعظم من القبيلة.
أي لم يجعلكم شعوباً وقبائل لتفاخروا وإنما جعلناكم كذلك لتتعارَفُوا ، ثم أعلمهم
اللَّه - عزَّ وجلَّ - أن أرفعهم عِنْدَهُ مَنْزِلَةً
أتْقَاهُمْ فقال :
(إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ).
ولو قرئتِ " أَنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ "
جاز ذلك على معنى وجَعَلْناكم
(5/37)
شعوباً
ليعرف بعضكم بعضاً أنَّ أكرمكم عند اللَّه أتقاكم (1).
* * *
وقوله - عزَّ وجلَّ - (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا
وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ
وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا
إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)
وهذا موضع يحتاج الناس إلى تفهمه ، وأين ينفصل المؤمن من
المسلم . وأين يستويان.
والِإسلام إظهار الخضوع والقبول لما أتى به النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وبذلك
يحقن الدَّمُ.
فإن كان مع ذلك الِإظهار اعتقاد وتصديق بالقلب فذلك الِإيمان الذي مَنْ
هُوَ صفته فهو مؤمن مُسْلِم ، وهو المؤمن باللَّه ورسوله غَيْرَ مرتابٍ ولا
شَاكٍّ.
وهو الذي يرى أن أداء الفرائض واجب عليه ، وأن الجهاد بنفسه وماله واجب عليه لا
يدخلُه في ذلكَ رَيبٌ ، فهو المؤمِنَ وهو المُسْلِمُ حقاً ، كما قال
عز وجلَّ : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ
ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15).
أي إذا قالوا إنا مؤمنون فهم الصادقون ، فأما من أظهر قبول الشريعة
واستسلم لدفع المكروه فهو في الظاهر مسلم ، وباطنه غير مُصَدق ، فذلك
الذي يقول أسلمتُ لأن الِإيمانَ لا بد من أن يكون صاحبه صديقاً ، لأنَّ قولك
آمَنْتُ بكذا وكذا معناه صدقت به ، فأخرج اللَّه هؤلاء من الِإيمان فقال :
(وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ).
أي لم تصدقوا إنما أسلمتم تعوذاً من القتل ، فالمؤمن مُبْطِنٌ من
التصديق مثل ما يظهر ، والمسلم التام الِإسلام وهو مظهر الطاعة مع ذلك
مؤمن بها ، والمسلم الذي أظهر الِإسلام تعوذاً غير مؤَمن في الحقيقة ، إلا أن
حكمه في الظاهر حكم المسلمين.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ } : الشُّعوب : جمع شَعْب وهو أعلى
طبقاتِ الأنسابِ ، وذلك أن طبقاتِ النَّسَبِ التي عليها العربُ ستٌّ : الشَّعْبُ
والقبيلة والعِمارة والبَطْنُ والفَخِذُ والفَصيلةُ ، وكلُّ واحدٍ يَدْخُل فيما
قبله ، فالفصيلةُ تَدْخُلُ في الفَخِذ ، والفَخِذُ في البطن . وزاد بعضُ الناسِ
بعد الفَخِذ العشيرة ، فجعلها سبعاً وسُمِّيَ الشَّعبُ شعباً لتشَعُّبِ القبائلِ
منه ، والقبائل سُمِّيَتْ بذلك لتقابُلها ، شُبِّهَتْ بقبائلِ الرأسِ وهي قطعٌ
متقابلةٌ . وقيل : الشُّعوب في العجم ، والقبائل في العرب ، والأسباطُ في بني
إسرائيل . وقيل : الشعبُ النَسبُ الأبعدُ ، والقبيلةُ الأقربُ . وأنشد :
4086 قبائلُ مِنْ شُعوبٍ ليس فيهِمْ . . . كريمٌ قد يُعَدُّ ولا نَجيبُ
والنسَبُ إلى الشَّعْب « شَعوبيَّة » بفتح الشين ، وهم جيلٌ يَبْغَضون العربَ.
قوله : { لتعارفوا } العامَّةُ على تخفيفِ التاء ، والأصلُ : لتتعارفوا فحذفَ إحدى
التاءَيْن . والبزيُّ بتشديدِها . وقد تقدَّم ذلك في البقرة . واللام متعلقةٌ
بجَعَلْناكم . وقرأ الأعمش بتاءَيْن وهو الأصلُ الذي أدغمه البزيُّ وحَذَفَ منه
الجمهورُ . وابن عباس : « لِتَعْرِفُوا » مضارعَ عَرَفَ . والعامَّةُ على كسرِ «
إنَّ أكْرَمَكم » . وابن عباس على فتحها : فإنْ جَعَلْتَ اللامَ لامَ الأمرِ وفيه
بُعْدٌ اتَّضَحَ أَن يكونَ قولُه : « أنَّ أَكْرَمَكم » بالفتح مفعولَ العِرْفان ،
أَمَرَهم أَنْ يَعْرِفوا ذلك ، وإنْ جَعَلْتَها للعلة لم يظهرْ أَنْ يكونَ
مفعولاً؛ لأنه لم يَجْعَلْهم شعوباً وقبائلَ ليعرِفوا ذلك ، فينبغي أن يُجْعَلَ
المفعولُ محذوفاً واللامُ للعلة أي : لِتَعْرِفوا الحقَّ؛ لأنَّ أكرمَكم.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(5/38)
وقوله
تعالى : (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ
إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ
كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17)
قيل إن هذه نزلت في المنافقين . فاعلموا أنكم إنْ كنتم صادقين فإنكم
قد أسلمتم فلله المنُّ عَلَيْكمْ لِإخراجه إياكم من الضلالة إلى الهدى.
وقد قيل : إنها نزلت في غير المنافقين ، في قوم من المسلمين قالوا آمنا
وهاجرنا وفعلنا وصنعنا فمنوا على رسول الله بذلك.
والأشبه - واللَّه أعلم - أن يكون في قوم من المنافقين.
وقوله - عزَّ وجلَّ - (وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ
أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا).
(لَا يَألِتْكُم)
ويُقرأ (لَا يَلْتِكمْ) ، فمن قرأ (يَألِتْكُم) فدليله
(وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ)
ومعناه وما نقصناهم ، وكذلك (لا يَألِتْكُم) لاينقصكم.
ومن قرأ (لَا يَلِتْكمْ) فهو من لات يليت ، يقال : لَاتَه يَلِيتُهُ . وَألَاتَهُ
يُليتُه إذا نقصه أيضاً ، والمعنى فيهما واحد . أعني (يَألِتْكُم) و (يَلِتْكمْ).
والقراءة (لَاَ يَلِتْكمْ) أكثر ، والأخرى أعني (يَألِتْكُم) جيدة بالغة ، ودليلها
في القرآن على ما وصفنا .
(5/39)
سُورَةُ
( ق )
خمس وأربعون آية "
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله عزَّ وجلَّ (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1)
أكثر أهل اللغة وما جاء في التفسير أن مجاز (ق) مجاز الحروف التي
تكون في أوائل السوَر نحو (ن) ، و (الم) ، و (ص) وقد فسرنا ذلك
ويجوز أن يكون معنى (قَافْ) معنى قضي الأمر ، كَمَا قِيلَ (حم) حُمَّ الأمْرُ.
واحتج الذين قالوا من أهل اللغة أن معنى (ق) بمعنى قضي الأمر بقول
الشاعر :
قلنا لها قفي قالت قاف . . . لا تحسبي أنا نسينا الإيجاف
معناه فقالت أقف
ومذهب الناس أن قاف ابتداء للسورة على ما وصفنا ، وقد جاء في
بعض التفسير أن قاف جبل محيط بالدنيا من ياقوتة خضراء وأن السماء بيضاء
وإنما اخْضَرت مِنْ خُضْرَتِه ، واللَّه أعلم
وجواب القسم في (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) مَحْذُوف ، يدل عليه (أإذا مِتْنَا
وكُنَّا تراباً).
المعنى واللَّهِ أعلم : والقرآن المجيد إنكم لمبعوثون.
فعجبوا فقالوا (أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا).
(5/41)
أي
أنبعث إذَا - مِتْنَا وكنا تُراباَ . ولو لم يكن إذا متعلق لم يكن في
الكلام فائدة.
وقوله : (ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3)
أي يبعد عندنا أن نبعث بَعَدَ المَوْتِ.
ويجوز أن يكون الجواب (قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأرْضُ مِنْهُمْ) ، فيكون
المعنى : ق والقرآن المجيد لقد علمنا ما تنقص الأرض منهم وحذفت اللام لأن
ما قبلها عوض منها كما قال : (والشمس وضحاها) إلى قوله : (قَدْ أفْلَحَ مَنْ
زَكَاهَا) ، المعنى لقد أفلح من زكاها.
والمعنى (ما تَنَقُصُ الأرْضُ مِنْهُم).
ما تأخذه الأرض من لحومهم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي
أَمْرٍ مَرِيجٍ (5)
مَريج : مختلف ملتبس عليهم مرة يقولون للنبي - صلى الله عليه وسلم - شاعر ومرة
ساحِر ومرة مُعَلَّم.
فهذا دليل على أن أمرهم مريج ملتبس عليهم.
ثم دلهم عزَّ وجلَّْ على قدرته على بعثهم بعد الموت بعظيم خلقه الذي يدل على
وحدانِيته وأنه على كل شيء قدير فقال :
(أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا
وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ
(6)
وأن الله عزَّ وجلَّ ممسكها بغير عَمَدٍ من أن تقع على الأرض.
(وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ).
لا صدع فيها ولا فرجة.
(وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا
مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7)
والرواسي الجبال.
(وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى
لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8)
(5/42)
أي
فعلنا ذلك لِنُبَصِّر به ونَدُلَّ على القُدرة.
ثم قال (لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ)
أي لكل عبد يرجع إلى اللَّه ويفكر في قدرته.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا
بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9)
أي وأنبتنا فيها حب الحَصِيدِ ، فجمع بذلك جميع ما يقتات به من حب
الحنطة والشعير وكل ما حَصِدَ.
* * *
(وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10)
بسوقها طولها ، المعنى وأنبتنا فيها هذه الأشياء.
* * *
وقوله : (رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ
الْخُرُوجُ (11)
ينتصب على وجهين :
أحدهما على معنى رزقناهم رزقاً لأن إنباته هذه الأشياء رزق ، ويجوز أن يكون
مفعولاً له ، المعنى : فأنبتنا هذه الأشياء للرزق.
ثم قال : (كَذَلِكَ الخُروجُ).
أي كما خلقنا هذه الأشياء نبعثكم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14)
أي فحقت عليه كلمة العذاب والوعيد للمكذبين للرسل ، وكذلك قوله :
(فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15)
الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16)
* * *
وقوله : (أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ
جَدِيدٍ (15)
هذا تقرير لأنهم اعترفوا بأن اللَّه - عزَّ وجلَّ - الخَالِقُ ، وأنكروا البعث ؛
فقال : (أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ) ، يقال : عَيِيتُ بالأمر إذا لم
تعْرف وجهه.
وأعَيْيتُ إذَا تعبتُ .
(5/43)
وقوله
عزَّ وجلَّ : (بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ).
أي بل هم في لَبْسٍ مِنَ البَعْثِ.
* * *
(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ
وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16)
أي نَعلَمُ ما يخفي وما يكنه في نفسه.
(وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ).
والوريد عرق في باطن العنق ، وهما وريدان ، قال الشاعر.
كأَنْ ورِيدَاهُ رِشَاءا خُلْبِ
يعني من ليف.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ
الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17)
(المُتَلَقيَانِ) كاتباه الموكلانِ بِهِ ، يَتَلقيان ما يعمله فيَثبتانه.
المعنى عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد ، فدل أحَدُهما على الآخر ، فحذف المدلول
عليه ، ومثله قَوْلُ الشاعِر.
نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وأنْتَ بِمَا عِنْ . . . دَكَ رَاضٍ والرَّأْيُ مُخْتَلِفُ
أي نحن بما عندنا راضون وأنت بما عندك راض ، ومثله أيضاً
رَمَانِي بِأَمْرٍ كُنْتُ مِنْهُ وَوالِدِي . . . بَريئاً ومِنْ أَجْلِ الطَّوِىِّ
رَمَانِي
المعنى رماني بأمر كنت منه بريئاً ، ووالدي بريئاً منه .
(5/44)
وقوله
(مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)
(عَتِيدٌ) أي ثابت لازم.
* * *
وقوله : (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ
تَحِيدُ (19)
أي جاءت السكرة التي تدل الإنسانَ على أنه ميت.
(بِالْحَقِّ) أي بالمَوْتِ الذي خلق له.
وقال بعضهم : وجاءت سكرة الحق بالموت ، ورويت عن أبي
بكر رحمه اللَّه والمعنى واحد ، وقيل الحق ههنا اللَّه عزَّ وجلَّ.
* * *
وقوله : (وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21)
قيل في التفسير سائقِ يسوقها إلى محشرها ، وَ (شَهِيدٌ) يشهد عَلَيْها بِعَمَلِها
وقيل : وَ (شَهِيدٌ) هُوَ العَمل نفسه.
* * *
وقوله : (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ
فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)
وهذا مَثلٌ ، المعنى كنت بمنزلة من عليه غطاء وعلى قلبه غشاوة.
(فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ).
أي فعلمك بما أنت فيه نافذٌ ، ليس يراد بهذا البصر من - بَصَرِ العين -
كما تقول : فلان بصير بالنحو والفقه ، تُرِيدُ عَالِمَاً بِهِمَا ، ولم ترد بصر
العَيْن.
* * *
- وقوله : (وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23)
(ما) رفع بهذا و (عَتِيدٌ) صفة لـ (ما) فِيمَنْ جَعَلَ " ما " في مذهب
النكرة ، المعنى هذا شيء لدي عتيد.
ويجوز أن يكون رفعه على وجهين غير هذا الوجه ، على
أن يُرْفَع (عَتِيدٌ) بإضْمارٍ ، كأنك قلت : هذا شيءٌ لَدَيَّ هو عتيد
ويجوز أن ترفعه على أنه خبر بعد خبر ، كما تقول هذا حلو حامض ، فيكون المعنى هذا
شيء لَدَيَّ عتيدٌ.
ويجوز أن يكون رفعه على البدل من " ما " ، فيكون المعنى هذا
عتيد.
* * *
وقوله : (أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24)
أي عَنِدَ عن الحق ، وقوله : (ألْقِيَا) ، الوجه عندي - واللَّه أعلم - أن
يكون أمر الملكين ، لأن (ألْقِيَا) للاثنين ، ، وقال بعض النحويين : إن العربَ
(5/45)
تأمر
الواحد بلفظ الاثنين ، فتقول قوماً واضربا زيداً يا رجل ، وروَوْا أن الحجاج كان
يقول : يا حَرَسِي اضربا عنقه ، وقالوا : إنما قيل ذلك لأن أكثر ما يتكلم به العرب
فيمن تأمره بلفظ الاثنين ، نحو.
خليلي مُرا بي على أُمِّ جُندَبِ
قفا نبك من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ
وقال محمد بن يزيد : هذا فعل مثنى توكيداً كأنَّه لَمَّا قال ألْقِيَا ناب عن
قوله ألْقِ ألْقِ ، وكذلك عنده قفا معناه عنده قف قف ، فناب عن فعلين فبنى.
وهذا قولٌ صالحٌ وأنا اعتقد أنه أمر الاثنين (1) ، واللَّه أعلم.
* * *
وقوله : (قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ
بَعِيدٍ (27)
المعنى إنما طغى وهو بضلاله وإنما دعوته فاستجاب ، كما قال : (وَقَالَ
الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ
وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ
إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي).
* * *
وقوله : (مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29)
أي من عمل حسنة فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ، ومن عمل سيئة - فَلَا يُجْزَى إِلَّا
مِثْلَهَا.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ
مِنْ مَزِيدٍ
(30)
وقرئت (يَوْمَ يَقُولُ لِجَهَنَّمَ)
نصب (يَوْمَ) على وجهين :
على معنى ما يبدل القول لديَّ في ذلك اليوم.
وعلى معنى أنذرهم يوم نقول لجهنم ، كما قال :
(وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ).
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { أَلْقِيَا } : اختلفوا : هل المأمورُ واحدٌ أم اثنان؟ فقال بعضُهم : واحد
، وإنما أتى بضميرِ اثنين ، دلالةً على تكرير الفعل كأنه قيل : أَلْقِ أَلْقِ .
وقيل : أراد أَلْقِيَنْ بالنونِ الخفيفة فأبدلها ألفاً إجراءً للوَصْلِ مُجْرى
الوقفِ ، ويؤيِّده قراءةُ الحسنِ « أَلْقِيَنْ » بالنونِ.
وقيل : العرب تخاطِبُ الواحدَ مخاطبةَ الاثنين تأكيداً كقولِه :
4095 فإن تَزْجُراني يا بنَ عَفَّانَ أَزْدَجِرْ . . . وإنْ تَدَعاني أَحْمِ
عِرْضاً مُمَنَّعا
وقال آخر :
4096 فقُلْتُ لصاحبي لا تَحْبِسانا . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . .
البيت . وقال بعضُهم : المأمور مثنى . وهذا هو الحقُّ لأنَّ المرادَ مَلَكان
يفعلان ذلك.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(5/46)
وقوله
عزَّ وجلَّ : (هَلِ امْتَلَأْتِ).
أي : أم لم تمتلئ ، وإنما السوال توبيخ لمن أُدْخِلَهَا ، وزيادة في مكروهه.
ودليل على تصديق قوله : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ
مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ).
فأمَّا قوله : (وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ).
ْففيه وجهان عند أهل اللغة :
أحدهما أنها تقول ذلك بعد امتلائها فتقول : (هل من مزيد).
أي هل بقي في موضع لم يمتلئ ، أي قد امتلأت.
ووجه آخر : تقول : هل من مزيد تغيظاً على من عصى كما قال عزَّ وجلَّ : (سَمِعُوا
لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا).
فأمَّا قولها هذا ومخاطبتها فاللَّه - عز وجل - جعل فيها ما به
تميز وتخاطب ، كما جعل فيما خلق أن يسبح بحمده ، وكما جعل في النملة
أن قالت : (يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ)
وقد زعم قوم أنها امتلأت فصارت صورتها صورة من لو ميَّزَ لَقال :
(هل من مزيد)
كما قال الشاعر :
امتلأ الحوض وقال قطني . . . مهلاً رويداً قد ملأت بطني
وليس هناك قول.
وهذا ليس يُشْبِه ذاك ، لأن الله عزَّ وجلَّ قد أعلمنا أن المخلوقات تسبح وأننا لا
نفقه تسبيحها ، فلو كان إنما هو أن يدل على أنها
مخلوقة كنا نفقه تسبيحها.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35)
المعنى لهم فيها ما يشاءون ولدينا مزيد مما لم يخطر على قلوبِهِمْ.
وجاء في التفسير أن السحاب يمر بأهل الجنة فيمطر لهم الحور ، فيقول الحورُ
نحن الذين قال اللَّه عزَّ وجلَّْ فيهم ، (وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ).
(5/47)
(وَكَمْ
أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا
فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36)
اختلف الناس في القرن فقال قوم : القرن عشر سنين ، وقال قوم ثلاثون
سنة ، وقال قوم أربعون سنة ، وقال قوم سبعون سنة ، وقالوا مائة سنة ، وقال قوم
مائة وعشرون سنة.
والقرن واللَّه أعلم مقدار التوسط في أعمار أهل الزمان ، فالقرن في قوم
نوح على مقدار أعمارهم.
واشتقاقه من الاقتران فكأنه المقدار الذي هو أكبر ما يقترن فيه أهل ذلك
الزمان في بقائهم.
وقوله عزَّ وجلَّّ : (فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ).
وقرئت (فَنَقَبُوا) - بالتشديد والتخفيف - المعنى طوِّقوا وفتِّشوا ، فلم تَرَوا
مَحيصاً من الموت.
قال امرؤ القيس.
لقَدْ نَقَّبْتُ في الآفاقِ حتَّى . . . رَضِيتُ مِنَ الْغَنِيمَةِ بالإِيابِ
وتقرأ نَقِّبوا في البلاد ، أي فتشوا وانظروا ، ومن هذا نَقيبُ القومِ للذي
يعرف أمرهم ، مثل العريف.
* * *
قوله عزَّ وجلَّ : (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ
أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)
وقرئت (أو أُلقِيَ السمعُ) ومعنى (مَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ) أي من صرف قلبه إلى
التّفَهُّمِ ، ألا ترى أن قوله : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) أنهم لم يستمعوا استماع
متفهم
مسترشد فجعلوا بمنزلة من لم يسمع
كما قال الشاعر :
(5/48)
أصمُّ
عما ساءه سميعُ
ومعنى (أو ألقى السمع) أي استمع ولم يشغل قلبه بغير ما يسمع.
والعرب تقول : ألق إليَّ سَمعَك ، أي استمع مني.
ومعنى (وَهُوَ شَهِيدٌ) أي وقَلْبُه فيما يسمعُ.
وجاء في التفسير أنه يعنى به أهل الكتاب الذين
كانت عندهم صفة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
فالمعنى على هذا التفسير (أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) أن صفة النبي
عليه إلسلام في كتابه.
* * *
وقوله : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي
سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38)
اللُّغوب : التَّعَب والإعياء ، يقال : لَغَبَ يلْغُبُ لُغوباً.
وهذا فيما ذكر أن اليهود - لُعِنَتْ - قالت : خلق اللَّه السَّمَاوَات والأرض في
ستَةِ أيامِ أولُها الأحَد وآخرها الجمعة ، واستراح يوم السبت ، فأَعلم اللَّه
عزَّ وجلَّّ أنه خَلقها في ستة أيام وسبحانه وتعالى أن يوصف بتعب أوْ نَصَبٍ.
ثم قال :
(فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ
الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39)
يعني قبل طلوع الشمس صلاة الفجر ، وقبل الغُروب صلاةَ العَصْرِ
* * *
(وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40)
(وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ)
صلاة المغرب.
(وَأَدْبَارَ السُّجُودِ)
الركعتان بعد صلاة المغرب على هذا.
ويجوز أن يكون الأمر بالتسبيح بعد الفراغ من الصلاة.
ويقرأ (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ)
و (إِدْبَارَ السُّجُودِ) ، فمن قرأ و (أَدْبَارَ) بقتح الألف فهو جمع دبر.
ومن قرأ و (إِدْبَارَ) فهو على مصدر أدْبَرَ يُدْبِرُ إِدباراً .
(5/49)
وقوله
تعالى : (وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (41)
جاء في التفسير أنه يعنى به أنه ينادى بالحشر من مكان قريب.
وقيل : هي الصخرة التي في بيت المقدس ، ويقال إنها في وسط الأرْضِ.
* * *
قوله عزَّ وجلَّ (يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ
الْخُرُوجِ (42)
أي يوم يبعثون ويخرجون ، ومثله (يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (6)
خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ
مُنْتَشِرٌ (7).
والأجداث القبور
وقال أبو عبيدة : يوم الخروج من أسماء يوم القيامة.
واستشهَدَ بقول العَجاجِ.
أَلَيسَ يَوْمٌ سُمِّيَ الخُرُوجا . . . أَعْظَمَ يَوْمٍ رَجَّةً رَجُوجا ؟
* * *
وقوله : (وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ
وَعِيدِ (45)
هذا كما قال : (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22).
وهذا قبل أن يؤمر النبي - صلى الله عليه وسلم -
بالحرب لأن سورة (ق) مكية .
(5/50)
سُورَةُ
الذاريات
( مكية )
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله عزَّ وجلَّ : (وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1)
جاء في التفسير عن علي رضي الله عنه أن الكواء سأله عن ((وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا)
فقال علي : هي الرياح ، قال : (فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا) قال السحابُ ، قال : (فَالْجَارِيَاتِ
يُسْراً) قال الفلك.
قال : (فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا) قال الملائكة.
والمفسرون جميعاً يقولون بقول عليٍّ في هذا.
* * *
(وَالذَّارِيَاتِ) مجرور على القسم ، المعنى أحلف بالذاريات وبهذه
الأشياء ، والجواب : (إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5).
وقال قوم : المعنى وَرَبِّ الذَّارِيَاتِ ذَرْوًا كما قال عزَّ وجل :
( فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ).
والذاريات من ذَرَتِ الريح تَذرو إذا فرقت التراب وغيره.
يقال : ذرت الريح وأذرت بمعنى وَاحِدٍ ، ذرت فهي ذاريةٌ ، وهن
ذاريات ، وأذرت فهي مُذْرِية ومُذْرِياتٌ للجماعة ، وذاريات أيضاً.
والمعنى وربِّ الرياحِ الذارياتِ ، وربِّ السُفُنِ الجارياتِ ، وربِّ الملائكةِ
المقسماتِ ، إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ.
* * *
وقوله : (وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6)
أي إن المجازاة على أعمَالكم لواقعة .
(5/51)
وقوله
: (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8)
جاء في التفسير أنها ذات الخلق الحسن ، وأهل اللغة يقولون ذات
الحبك ذات الطرائق الحسنة ، والمحبوك في اللغة ما أُجِيدَ عَمَلهُ وكل ما تراه
من الطرائق في الماء وفي الرمل إذا أصابته الريح فهو حبك ، وواحدها حِبَاك.
مثل مِثَال ومُثُل ، وتكون واحدتها أيضاً حبيكة مثل طريقة وطرق (1).
* * *
وقوله : (إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8)
أي في أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -
* * *
(يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9)
أي يُصرف عنه من صُرِفَ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10)
هم الكذابون ، تقول : قد تَخَرَّصَ عليَّ فُلان الباطل.
ويجوز أن يكون الخرَّاصون الذين يتظنون الشيء لا يُحِقونه ، فيعملون بما لا يدرون
صحته.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12)
ويجوز إِيَّانَ بكسر الهمزة وفتحها ، أي يقولون متى يوم الجزاء.
* * *
وقوله : (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13)
بنصب يوم ، ويجوز يَوْمُ هم على النَّار يفتنونَ.
فمن نَصَبَ فهو على وجْهَين :
أحدهما على معنى يقع الجزاء يَوْمَ هُمْ عَلى النار يفْتَنونَ
ويجوز أن يكون لفظه لفظَ نَصْبٍ ومعناه معنى رفع ، لأنه مضاف إلى جملة كلام ، تقول
: يعجبني يَوْمَ أنْتَ قَائِمٌ ، ويوم أنت قائم ، ويوْمُ أنْتَ تَقُومُ ، وإن شئت
فتحت وهو في موضع رفع
كما قال الشاعر :
لم يَمْنع الشُّرْبَ منها غَيْرَ أَن نطقت . . . حمامة في غُصُونٍ ذاتِ أَوْقالِ
وقد رويت غَيْر أن نطقت ، لما أضاف غير إلى أن وليست بِمُتَمكَنةٍ
فتح ، وكذلك لما أضاف يوم إِلى (هُمْ علَى النَّارِ) فتح.
وكما قرئت :
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { ذَاتِ الحبك } : العامَّةُ على « الحُبُك » بضمتين وهي الطرائقُ نحو :
طرائق الرَّمْل والماءِ إذا صَفَقَتْه الريحُ ، وحُبُك الشَّعْر : آثارُ تَثَنِّيه
وتَكَسُّرِه . قال زهير :
4102 مُكَلَِلٌ بأصولِ النجم تَنْسُجُه . . . ريحُ حَريقٍ لضاحي مائِه حُبُكُ
والحُبُكُ : جمعٌ يُحتمل أَنْ يكونَ مفردُه « حَبيكة » كطريقةٍ وطُرُق أو حباكِ
نحو : حِمار وحُمُر . قال الراجز :
4103 كأنَّما جَلَّلها الحُوَّاكُ . . . طِنْفِسَةٌ في وَشْيِها حِباكُ
وأصلُ الحَبْكِ : إحكامُ الشيءِ وإتقانُه ، ومنه يقال للدِّرع : مَحْبوكة . وقيل :
الحَبْكُ الشَّدُّ والتوثُّقُ . قال امرؤ القيس :
4104 قد غدا يَحْمِلُنِي في أَنْفِه . . . لاحِقُ الإِطْلَيْنِ مَحْبوكٌ مُمَرّْ
وفي هذه اللفطةِ قراءاتٌ كثيرةٌ : فعن الحسن ستٌ : الحُبُك بالضم كالعامَّةِ ،
الحُبْك بالضمِّ والسكون ، وتُروى عن ابن عباس وأبي عمروٍ ، الحِبِك بكسرهما ،
الحِبْك بالكسر والسكون ، وهو تخفيف المكسور ، الحِبَك بالكسر والفتح ، الحِبُك
بالكسر والضم . فهذه سِتٌّ أقلقُها الأخيرةُ؛ لأنَّ هذه الزِّنةَ مهملةٌ في أبنية
العربِ ، قال ابنُ عطية وغيرُه : « هو من التداخُلِ » يعني : أن فيها لغتين :
الكسرَ في الحاء والباء والضمَّ فيهما ، فأخذ هذا القارىءُ الكسرَ من لغةٍ والضمَّ
مِنْ أخرى . واستبعدها الناسُ؛ لأن التداخُلَ إنما يكون في كلمتين . وخَرَّجها
الشيخ على أن الحاءَ أُتْبِعَتْ لحركة التاءِ في « ذات » قال : « ولم يَعْتَدَّ
باللام فاصلةً لأنها ساكنةٌ فهي حاجزٌ غيرُ حصينٍ » . وقد وافق الحسنَ على هذه
القراءةِ أو مالك الغفاريُّ . وقرأ عكرمةُ بالضمِّ والفتح جمعَ « حُبْكَة » نحو :
غُرْفة وغُرَف . وابن عباس وأبو مالك « الحَبَك » بفتحتين جمعُ « حَبَكة »
كعَقَبة وعَقَب ، فهذه ثمانِ قراءات.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(5/52)
(ومِنْ
خِزْيِ يَوْمَئْذٍ) ، ففتحت يوم وهو في موضع خفض لأنك أضفته إلى غير متمكن.
ومعنى (يُفْتَنُونَ) يحرقون وُيعَذَّبونَ ، ومن ذلك يقال للحجارة السود التي
كأنها قد أحرقت [بالنَّارِ] الفَتِينُ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ
مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16)
أعلم عزَّ وجلَّ ما لأهل النَّار ، ثم أعلم ما لأهل الجنَّة لأنَه لَمَّا قَالَ :
(وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ) أعلم جزاء أهل الجنَّةِ ، وجزاء أهل النَّارِ.
وقوله : (آخِذِينَ) نصب على الحال ، المعنى إن المتقين في جَنَاتٍ وعيون
في حال أخْذِ مَا آتَاهًمْ رَبهُمْ ، ولو كان في غير القرآن لجاز " آخِذُونَ
"
ولكن المصحَفَ لَا يخَالف ، ويكون المعنى إن المتَقين آخِذُونَ مَا آتَاهُمْ
رَبهمْ في
جنات وعيونٍ ، والوجه الأول أجْوَد في المعنى وعليه القراءة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17)
المعنى كانوا يهجعون قليلًا من الليل ، أي كانوا ينامون قليلًا مِنَ الليْلِ.
ثم أعلم اللَّه عزَّ وجلَّ في أي شيء كانَ سَهَرُهُمْ فقال :
(وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18)
وجائز أن يكون " ما " مُؤكَدة لَغْواً ، وجائز أن يكون " ما "
مع ما بعدها
مَصْدراً ، يكون المعنى كانوا قليلًا من الليل هجوعهم.
* * *
(وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19)
(المحروم) جاء في التفسير الذي لا ينمو له مال ، والأكثر في اللغة لا
ينمى له مال ، وجاء أيضاً أنه [المجارَف] (1) الذي لا يكاد يكتسب.
* * *
قوله : (فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ
تَنْطِقُونَ (23)
__________
(1) جاء في اللسان :
والمُجَرَّفُ والمُجارَفُ الفقير كالمُحارَفِ عن يعقوب وعدّه بدلاً وليس بشيء ورجل
مُجَرَّفٌ قد جَرَّفَه الدهرُ أَي اجْتاح مالَه وأَفْقَرَه اللحياني رجل مُجارَفٌ
ومُحارفٌ وهو الذي لا يَكْسِب خيراً ابن السكيت الجُرافُ مِكْيالٌ ضَخْم وقوله
بالجُرافِ الأَكْبر يقال كان لهم من الهَواني. اهـ (لسان العرب. 9 / 25).
(5/53)
أي
إن ما أتى به النبي - صلى الله عليه وسلم - حق وإن قوله : (وَفِي السَّمَاءِ
رِزْقكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ) حَقٌّ.
فالمعنى أن هذا الذي ذكرنا في أمر الآيات والرزْقِ وأمر النبي - صلى الله عليه
وسلم - حق (مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ)
وقرئت (مِثلُ ما أنكم تنطقونَ) ، وهذا كما تقول في الكلام : إنَّ هذا لحق
كما أنك متكلمٌ.
فمن رفع " مثلُ " فهي من صفة الحق ، المعنى إنه لحقٌّ مِثْلُ نطْقِكُمْ.
ومن نصب فعلى ضربين :
أحدهما أن يكون في موضع رفع إلاَّ أنه لما أضيف إلى " أنَّ " فتح.
ويجوز أن يكونَ منصوباً على التوكيد ، على معنى إنه
لحقٌّ حَقًّا مثل نطقكم.
* * *
وقوله : (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24)
جاء في التفسير أنه لما أتَتْهُ الملاتكةُ أكرمهم بالعِجل.
وقيل : أكرمهم بأنه خَدَمَهُمْ ، صلوات الله عليه وعليهم.
* * *
(إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25)
(فَقَالُوا سَلَاماً قَالَ سِلْمٌ).
وقرئت : (قَالَ سَلاَمٌ).
فنصب الأولى على معنى السَّلامُ عليكم سَلاماً.
وسلمنا عليك سلاما.
ومن قرأ ، (قَالَ سَلَامٌ) فهو على وجهين :
على معنى قال سَلام عليكم.
ويجوز أن يكون على معنى أمرنا سَلامٌ.
ومن قرأ (سِلْمٌ) فالمعنى قال سِلْمٌ أي أمري سِلْمٌ ، وأمرنا سِلْمٌ.
أي لا بَأس علينا.
وقوله : (قَوْمٌ مُنْكَرُونَ).
رفعه على معنى أنتم قوم منكرونَ.
* * *
(فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26)
معنى (فَرَاغَ إِلَى أهْلِهِ)
عدل إِلَيْهِمْ من حيث لا يعلمون لأيِّ شيء عَدَل ،
(5/54)
وكذلك
يَقُولُ : راغ فلان عنا إذا عدل عنهم من حيث لا يعلمون.
* * *
وقوله : (فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27)
المعنى فقربه إِليهم ليأكلوا منه فلم يأكلوا ، قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ على
النكير.
أي أمركم في ترك الأكل مما أنْكِرُه.
* * *
وقوله : (فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ
عَلِيمٍ (28)
معنى " أوْجَسَ " وقع في نَفْسِه الخوفُ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ)
معنى " عليم " أنه يبلغ وَيَعْلَمَ.
* * *
وقوله : (فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ
عَجُوزٌ عَقِيمٌ
(29)
والصرةُ شدة الصاحِ ههنا
(فصَكَتْ وَجْهَهَا) أي لطمت وَجْهَهَا.
* * *
(وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ).
المعنى وَقَالَتْ أنَا عَجُوزٌ عَقِيمٌ ، وكيف ألِدُ.
ودليل ذلك قوله في موضع آخر : (قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ
وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا).
* * *
(قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30)
أي كما قلنا لك قال ربك ، أي إنما نخبرك عن اللَّه - عزَّ وجلَّْ - واللَّه
حكيم عَلِيم ، يقدر أن يجعل العقيم ولوداً ، والعجوز كذلك.
فعلم إبراهيم أنهم رسل وأنهم ملائكة.
* * *
(قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31)
أي ما شأنكم وفيم أرْسِلْتُمْ.
* * *
(قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ
حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33)
أي إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ لنهلكهم بِكُفْرِهَمْ.
* * *
(مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34)
(5/55)
أي
معَلَّمَة على كل حجر منها اسم من جعل إِهْلَاكُه به ، والمسَوَّمَة
المعلَّمَة أُخِذَ من السومَةِ وهي العَلاَمة.
* * *
وقوله : (وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (37)
أي تركنا في مدينة قوم لوط علامة للخائفين تَدُلُّهُمْ عَلَى أن اللَّه أهلكهم
وينكل غيرهم عن فعلهم.
* * *
وقوله : (وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38)
هذا عطف على قوله : (وَفِي الأرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِيِننَ)
وعلى قوله : (وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ
الْأَلِيمَ).
وقوله : (بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ) ، أي بحجة واضحة.
* * *
(فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39)
أي تولى بما كان يتقوى به من جُنْدِهِ ومُلكِهِ.
(وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ)
المعنى وقال هذا ساحر أو مجنون
* * *
(فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40)
(فَأخَذْنَاهُ) وركنه الذي يتقوى به
(فَنَبَذْنَاهُمْ في اليمْ) واليم البحر.
(وَهُوَ مُلِيمٌ) أي اللائمة لازمة له ، أي ليس ذلك الذي فعل به بكفارة له.
والمُلِيمُ في اللغة الذي يأتي بما يجب أن يلام عليه.
ومعنى (نبذناهم) ألقيناهم ، وكل شيء ألقيته تقول فيه قد نبذته.
ومن ذلك نبذت النبيذ ، ومن ذلك تقول للملقوط منبوذ لأنه قد رُمِيَ به.
* * *
وقوله : (وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41)
أي (وَفِي عَادٍ) أيضاً آية على ما شرِحنا في قوله : (وَفِي مُوسَى) والريح
العقيم التي لا يكون معها لَقْحٌ ، أي لا تأتي بمطر ، وإنما هي ريح الإهلاك.
* * *
(مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42)
(5/56)
والرميم
الورق الجاف المتحطم ، مثل الهشيم ، كما قال :
(كَهَشِيم المُحْتَظِرِ).
* * *
(وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43)
أي وفي ثمود أيضاً آية.
* * *
وقوله : (وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (46)
قرئت (وقومِ نوحٍ) - بالخفض - (وقومَ نوحٍ) - بالنصب -
فمن خفض فالمعنى في قوم نوح.
ومن نصب فهو عطف على معنى قوله : (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ
يَنْظُرُونَ).
ومعنى أخذتهم الصاعقة أهلكناهم.
فالمعنى فأهلكناهم وأهلكنا قوم نوح من قبل.
والأحسن واللَّه أعلم أن يكون محمولًا على قوله : (فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ
فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ) ، لأن المعنى فأغرقناه وجنوده وأغرقنا قوم نوح من
قبل (1).
* * *
(وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47)
أي بقُوَّةٍ.
(وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ)
جعلنا بينها وبين الأرض سعة.
* * *
(وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48)
عطف على ما قبله مَنْصُوبٌ بفعل مضمر ، المعنى وفرشنا الأرْضَ
فرشناها.
ومعنى (فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ) نحن ، ولكن اللفظ بقوله فرشناها يدلُّ على
المضمر المحذوف.
* * *
وقوله : (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49)
المعنى - واللَّه أعلم - على الحيوان لأن الذكر والأنثى يقال لهما زَوْجَانِ
ومثله (وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى).
ويجوز أن يكون الزوجان من كل
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { وَقَوْمَ نُوحٍ } : قرأ الأخَوان وأبو عمرو بجرِّ الميم ، والباقون/
بنصبها . وأبو السَّمَّال وابن مقسم وأبو عمرو في روايةِ الأصمعيِّ « وقومُ »
بالرفع . فأمَّا الخفضُ ففيه أربعةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنه معطوفٌ على « وفي الأرض
» . الثاني : أنه معطوفٌ على « وفي موسى » الثالث : أنه معطوفٌ على « وفي عاد » .
الرابع : أنه معطوفٌ على « وفي ثمودَ » ، وهذا هو الظاهرُ لقُرْبِه وبُعْدِ غيرِه
. ولم يذكرْ الزمخشريُّ غيرَه فإنه قال : « وقُرِىء بالجرِّ على معنى » وفي قوم
نوح « . ويُقَوِّيه قراءةُ عبد الله » وفي قوم نوح « . ولم يَذْكُرْ أبو البقاء
غيرَ الوجهِ الأخيرِ لظهورِه.
وأمّا النصبُ ففيه ستةُ أوجهٍ ، أحدها : أنه منصوبٌ بفعلٍ مضمرٍ أي : وأهلَكْنا قومَ
نوح؛ لأنَّ ما قبلَه يَدُلُّ عليه . الثاني : أنه منصوبٌ ب اذْكُرْ مقدراً ، ولم
يَذْكُرْ الزمخشريُّ غيرَهما . الثالث : أنَّه منصوبٌ عطفاً على مفعول »
فأَخَذْناه « . الرابع : أنه معطوفٌ على مفعول { فَنَبَذْنَاهُمْ فِي اليم }
وناسَبَ ذلك أنَّ قومَ نوح مُغْرقون من قبلُ . لكنْ يُشْكِلُ أنَّهم لم يَغْرَقوا
في اليمِّ . وأصلُ العطفِ أَنْ يقتضيَ التشريكَ في المتعلَّقات . الخامس : أنَّه
معطوفٌ على مفعولِ » فَأَخَذَتْهم الصاعقةُ « . وفيه إشكالٌ؛ لأنهم لم تأخُذْهم
الصاعقةُ ، وإنما أُهْلكوا بالغَرَقِ . إلاَّ أَنْ يُرادَ بالصاعقةِ الداهيةُ
والنازلةُ العظيمة من أيِّ نوع كانت ، فيَقْرُبُ ذلك . السادس : أنه معطوفٌ على
محلِّ » وفي موسى « ، نقله أبو البقاء وهو ضعيفٌ.
وأما الرفعُ على الابتداءِ والخبرُ مقدَّرٌ أي : أهلَكْناهم . وقال أبو البقاء : »
والخبرُ ما بعدَه « يعني مِنْ قولِه : إنهم كانوا قوماً فاسقين . ولا يجوز أَنْ
يكونَ مرادُه قولَه : » من قبلُ «؛ إذ الظرفُ ناقصٌ فلا يُخبَرُ به.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(5/57)
شيء
، ويكون المعنى في كل شيء في الحيوان الذكر والأنثى ويكون في غيره
صِنفان أصل كل حيوان ومَوَاتٍ ، واللَّه أعلم.
* * *
وقوله عزَّ وجلََّ : (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ
مُبِينٌ (50)
المعنى ففروا إلى اللَّه من الشرك باللَّه ومن مَعَاصِيه إليه.
(إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) ، أي أنذركم عذابه وعقابه.
* * *
وقوله : (وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ
نَذِيرٌ مُبِينٌ (51) كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ
إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52)
المعنى الأمر كذلك ، أي كما فعل من قبلهم في تَكذيبِ الرسُلِ.
* * *
(إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ).
أي إلا قالوا هذا ساحر ، ارتفع ساحر بإضمار هو.
* * *
وقوله : (أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53)
معناه أوصى أولهم آخرهم ، وهذه ألف التوبيخ وألف الاستفهام.
* * *
وقوله : (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54)
أي لا لوم عليك إذ أديت الرسَالةَ.
* * *
(وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55)
أي ذكرهم بأيام الله وعذابه وعقابه ورحمته.
* * *
قوله : (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)
اللَّه - عزَّ وَجَلّ - قد علم من قبل أن يَخْلُقَ الجنَّ والِإنسَ من يعبده
مِمَّنْ
يكفر به ، فلو كان إنما خلقهم ليجبرهم على عِبَادَتِه لكانوا كلهم عباداً مؤمنين
ولم يكن منهم ضُلَّالٌ كافِرونَ.
فالمعنى : وما خلقت الجنَّ والِإنس إلا لأدعوهم إلى عِبَادَتِي.
وأنا مرِيدٌ العِبَادَةَ مِنْهُمْ ، يعني من أهلها.
* * *
(مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57)
(5/58)
أي
ما أريد أن يرزقوا أحَداً من عبادي ، وما أريد أن يطعموه (1) ؛ لأني أنا
الرزاقُ المطعِمُ.
* * *
(إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)
والقراءة الرفْعُ وهو في العربية أحسن نكون رفع (الْمَتِينُ) صفة لِلًهِ
عزّ وجَل ، ومن قرأ (ذو القوةِ المتينِ) - بالخفض - جعل المتين صفة للقوة لأن
تأنيث القوة كتأنيث الموعظة ، كما قال : (فمن جَاءَهُ مَوْعِظةٌ)
المعنى فمن جاءه وَعظ.
ومعنى (ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) ذو [الاقْتِدَارِ] الشديد.
* * *
وقوله : (فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ
فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ
(59)
الذَّنُوب في اللغة النصيب والدلو يقال لها الذنوب.
المعنى فإن للذين ظلموا نصيباً من العذاب مثلَ نَصيبِ أصْحَابِهم الذين أهلكوا نحو
عاد وثمود وقوم لوط.
* * *
(فَلَا يَسْتَعْجِلُونَ).
أي إن أُخِّرُوا إلى يَوْمِ القيامَةِ.
* * *
(فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)
أي من يوم القيامة.
__________
(1) قال ابن الجوزي :
قوله تعالى : { ما أُريدُ منهم من رِزْقٍ } أي : ما أُريدُ أن يرزُقوا أنفسهم {
وما أُريدُ أن يُطْعِموني } أي : أن يُطْعِموا أحداً من خَلْقي ، لأنِّي أنا
الرَّزّاق.
وإنما أسند الإطعام إلى نفسه ، لأن الخلق عيالُ الله ، ومن أطعمَ عِيالَ أحد فقد
أطعمه.
وقد جاء في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " يقول
اللهُ عز وجل يوم القيامة : يا ابن آدم : استطعمتُكَ فلم تُطْعِمْني " ، اي :
لم تُطْعِم عبدي. اهـ (زاد المسير. 8 / 43).
(5/59)
سُورَةُ
الطور
( مَكِّيَّة )
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله : (وَالطُّورِ (1)
قسم ، والطور الجبل ، وجاء في التفسير أنه الجبل الذي كَلَّمَ اللَّه عليه
موسى عليه السلام.
* * *
(وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3)
الكتاب ههنا ما أثبت على بني آدم من أعمالهم.
* * *
(وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4)
فىِ التفسير أنه بيت في السماء بإزاء الكعبة يدخله كل يوم سبعون ألف
ملك ثم يخرجون منه وَلَا يَعُودُونَ إليه.
* * *
وقوله : (إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7)
جواب القسم ، أي وهذه الأشياء إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ).
وجائز أن يكون المعنى - واللَّه أعلم - ورب هذه الأشياء (إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ
لَوَاقِعٌ).
* * *
وقوله : (يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9)
(تمور) تدور.
و " يومَ " منصوبُ بقوله (إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ).
أي لواقع يوم القيامة .
(5/61)
(فَوَيْلٌ
يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11)
والويل كلمة يقولها العرب لكل من وقع في هلكة.
* * *
قوله : (الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12)
أي يشاغلهم بكفرهم لعب عاقِبتُه العذاب.
* * *
(يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13)
أي يوم يزعجون إليها إزعاجاً شديداً ، ويدفعون دفعاً عنيفاً ، ومن هذا
قوله : (الذِي يَدُعُّ اليَتِيمَ) ، أي يدفعه عما يجب له.
* * *
وقوله : (هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14)
المعنى فيقال لهم : (هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ).
(والبَحْرِ المَسْجُورِ).
جاء في التفسير أن البحر يسجر فيكون نار جهنم.
وأما أهل اللغة فقالوا : البحر المسجور المملوء.
وأنشدوا :
إِذا شاء طالَعَ مَسْجُورَةً . . . تَرى حَوْلَها النَّبْعَ والسَّاسَما
يعني ترى حولها عيناً مملوءة بالماء.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15)
لفظ هذه الألف لفظ الاستفهام ، ومعناها ههنا التوبيخ والتقريع أي
أتصدقون الآن أن عذاب الله لواقع.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ
عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16)
(سَوَاءٌ) مرفوع بالابتداء ، والخبر محذوف ، المعنى سواء عليكم الصبر والجزع .
(5/62)
(إِنَّمَا
تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).
معنى إنما ههنا ما تجزون إِلَّا ما كنتم تعملون ، أي الأمر جارٍ عليكم
على العدل ، ما جوزيتم إِلَّا أعمالكم.
* * *
وقوله : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فَاكِهِينَ بِمَا
آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18)
(فَكِهِينَ)
و (فَاكِهِينَ) جميعاً ، والنصب على الحال.
ومعنى (فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ)
أي معجبين بما آتاهم رَبُّهُمْ
* * *
(وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ).
أي غفر لهم ذنوبهم التي توَجِبُ النَّار بإسلامهم وتوبتهم.
* * *
وقوله عزَّ وجلٌ : (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19)
المعنى : يقال لهم كلوا واشربوا هنيئاً.
و (هنيئاً) منصوب وهو صفة في موضع المصدر.
المعنى كلوا واشربوا هُنِّئتُمْ هَنيئاً وليهنكم ما صرتم إِليه.
* * *
وقوله : (يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (23)
معنى (يتنازعون) يتعاطون فيها كأساً ، يُتَناول هذا الكأس من يد هذا وهذا
من يد هذا.
وقوله : (لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ)
معناه لا يجري بينهم ما يُلْغَى ، أي لا يجري بينهم باطل
ولا ما فيه إثم كما يجري في الدنيا لِشَرَبَةِ الخمر.
والكأسُ في اللُغة الإِنَاءُ المملوء ، فإذا كان فارغاً فليس بكأس.
وتقرأ : لا لغوَ فيها ولا تَأثِيمَ . بالنَصْبِ.
فمن رفع فعلى ضربين :
على الرفع بالابتداء ، و " فِيْهَا " هو الخبر.
وعلى أن يكون " لا " في مذهب " ليس " رافعة.
أنشد سيبويه وغيره :
مَن صَدَّ عن نِيرانِها . . . فأنا ابن قيس لاَ بَراحُ
(5/63)
ومن
نصب فعلى النَّفْي والتبرية كما قال في قوله : لا ريب فيهِ ، إلا أن
الاختيارَ عند النحويين إذا كررَتْ " لا " في هذا الموضع الرفع.
والنصْبُ عند جميعهم جائز حَسَن.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25)
قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26)
الكلام - واللَّه أعلم - يدل ههنا أنهم يتساءلون في الجنَّة عن أحوالهم
التي كانت في الدنيا ، كان بعضهم يقولُ لبعض : بم صرت إلى هذه المنزلة
الرفيعة ، وفي الكلام دليل على ذلك وهو قوله في جواب المسألة :
(إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ).
أي مشفقين من المصير إلى عذاب الله عزَّ وجلَّ ، فعملنا بطَاعَتِه ، ثم
قرنوا الجوابَ مع ذلك بالِإخلاص والتوحيد بقولهم :
(إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ).
أي نُوَحِّدُه ولا ندعو إلهاً غيره.
* * *
(فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27)
أي عذاب سموم جهنم.
* * *
وقوله : عزَّ وجلَّ : (فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا
مَجْنُونٍ
(29)
أي ذكرهم بما أعتَدْنَا للمتقِينَ المؤمنين والضلال للكافِرِين.
(فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ)
أي لست تقول ما تَقُولُه كهانَة ، ولا تنطق إِلَّا بَوَحيٍ من الله عزَّ وَجَلَّ.
* * *
وقوله : (أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30)
(رَيْبَ المَنُونِ)
حوادث الدهر.
* * *
(قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31)
(5/64)
فجاء
في التفسير أن هؤلاء الذين قالوا هذا - وكان فيهم أبو جهل -
هلكوا كلهم قبل وفاة رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -.
* * *
وقوله : (أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32)
أي أتأمرهم أحْلَامُهُم بترك القبول ممن يدعوهم إلى التوحيد وتأتيهم
على ذلك بالدلائل ، ويعملون أحْجَاراً ويعبدونها.
(أمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ).
أي أم هم يكفرون طغياناً وقد ظهر لهم الحق.
* * *
(فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34)
أي إذا قالوا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تقوله فقد زعموا أنه من قول البشر ،
فليَقولوا مثلَهُ فما رام أحَدٌ مِنهم أن يقول مثل عَشْرِ سُور ولا مثل سورةٍ.
* * *
وقوله : (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35)
معناه بل أُخلِقُوا من غير شيء.
وفي هذه الآية قولان :
وهي مِنْ أصْعَب ما في هذه السورة.
قال بعض أهل اللغة :
ليس هم بأشد خلقاً من خلق السَّمَاوَات والأرض ، لأن السَّمَاوَات والأرض
خُلِقَتَا من غير شيء ، وهم خُلِقوا من آدم وآدم من تراب.
وقيل فيها قولٌ آخر ، (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ) أَمْ خُلِقُوا لِغَيْرِ
شَيْءٍ
أي خلقوا باطِلًا لا يحاسبون ولا يؤمرون ولا يَنْهَوْنَ.
* * *
ْوقوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّاتُهُمْ بِإِيمَانٍ
أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّاتِهُمْ).
وقرئت (أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ)
وقرئت " واتبعتم ذُريَّتُهُمْ " وكلا الوجهين جائز ، الذُرية تقع على
الجماعة ، والذريَّات جَمِع ، وذُرَيَّة على التوحيد أكثر.
وتأويل الآية أن الأبناء إذا كانوا مؤمنين ، وكانت مراتب آبائهم في الجنة
(5/65)
أعلى
من مراتبهم ألحق الأبناء بالآباء ، ولم ينْقص الآباء من عملهم شيئاً.
وكذلك إن كان عَمَل الآبَاء أنقَص ، أُلْحِقَ الآبَاءُ بالأبْنَاءِ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ).
معناه ما أنْقَصْنَاهم ، يقال ألَتَه يَألِته ألْتاً إِذَا نَقَصَة.
قال الشاعِرْ
أَبْلِغْ بَني ثُعَلٍ عَنِّي مُغَلْغَلَةً . . . جَهْدَ الرِّسالَةِ لا أَلْتاً
ولا كَذِبا
ويقال لأته يليتهُ لَيْتاً إذا نَقَصَهُ وصرفَهُ عن الشيء.
قال الشاعر :
وليلةٍ ذات ندى سَريْتُ . . . وَلَم يَلتْني عن هواها ليتُ (1)
* * *
وقوله عزَّ وجلَّّ : (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ
الْمُصَيْطِرُونَ (37)المصيطرون : الأرباب المتسَلِّطونَ.
يقال : قد سيطر علينا وتسيطر وتسيطر . بالسين والصّاد.
والأصل السين ، وكل سين بعدها طاء يجوز أن تقلب صاداً ، تقول : سيطر
وصيطر ، وسطا وصَطا.
وتفسير (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ)
أي عندهم ما في خزائن ربك من العلم.
وقيل - في " خزائن ربك " أي رزق ربك.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ
مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38)
وقال أهل اللغة : - معنى يستمعون فيه ، يستمعون عليه ومثله :
(لَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ)
أي على جذوع النخل.
(فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ).
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { والذين آمَنُواْ } : فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها : أنه مبتدأٌ ، والخبرُ
الجملةُ من قولِه : { أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } والذُّرِّيَّةُ هنا
تَصْدُق على الآباء وعلى الأبناء أي : إنَّ المؤمنَ إذا كان عملُه أكبرَ أُلْحِقَ
به مَنْ دونَه في العمل ، ابناً كان أو أباً ، وهو منقولٌ عن ابن عباس وغيرِه .
والثاني : أنه منصوبٌ بفعلٍ مقدرٍ . قال أبو البقاء : « على تقدير وأكرَمْنا الذين
آمنوا » . قلت : فيجوزُ أَنْ يريدَ أنه من باب الاشتغالِ وأنَّ قولَه : {
أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } مُفَسِّر لذلك الفعلِ من حيث المعنى ، وأَنْ
يريدَ أنه مضمرٌ لدلالةِ السياقِ عليه ، فلا تكونُ المسألةُ من الاشتغالِ في شيء.
والثالث : أنه مجرورٌ عطفاً على « حورٍ عينٍ » . قال الزمخشري : « والذين آمنوا
معطوفٌ على » حورٍ عينٍ « أي : قَرَنَّاهم بالحورِ وبالذين آمنوا أي :
بالرُّفَقاءِ والجُلَساءِ منهم ، كقوله : { إِخْوَاناً على سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ
} [ الحجر : 47 ] فيتمتَّعون تارةً بملاعبةِ الحُور ، وتارةً بمؤانسةِ الإِخوانِ »
. ثم قال الزمخشري : « ثم قال تعالى : { بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ
ذُرِّيَّتَهُمْ } أي : بسببِ إيمانٍ عظيمٍ رفيعِ المحلِّ وهو إيمانُ الآباءِ
أَلْحَقْنا بدَرَجَتِهم ذرِّيَّتَهم ، وإنْ كانوا لا يَسْتَأهِلُونها تَفَضُّلاً
عليهم ».
قال الشيخ : « ولا يتخيَّلُ أحدٌ أنَّ » والذين آمنوا « معطوفٌ على » بحورٍ عينٍ «
غيرُ هذا الرجلِ ، وهو تخيُّلُ أعجميٍّ مُخالفٍ لِفَهْمِ العربيِّ القُحِّ ابنِ
عباسٍ وغيرِه » . قلت : أمَّا ما ذكره أبو القاسم من المعنى فلا شكَّ في حُسْنِه
ونَضارَتِه ، وليس في كلامِ العربيِّ القُحِّ ما يَدْفَعُه ، بل لو عُرِض على ابنِ
عباسٍ وغيرِه لأَعْجبهم . وأيُّ مانعٍ معنوي أو صناعي يمنعُه؟.
وقوله : { واتبعتهم } يجوزُ أَنْ يكونَ عطفاً على الصلةِ ، ويكونَ « والذين »
مبتدأً ، ويتعلقَ « بإيمان » بالاتِّباع بمعنى : أنَّ اللَّهَ تعالى يُلْحق
الأولادَ الصغارَ ، وإن لم يَبْلغوا الإِيمانَ ، بأحكام الآباءِ المؤمنين . وهذا
المعنى منقولٌ عن ابنِ عباس والضحاك . ويجوزُ أَنْ يكونَ معترضاً بين المبتدأ
والخبر ، قاله الزمخشري . ويجوزُ أَنْ يتعلَّق « بإيمان » بألحَقْنا كما تقدَّم .
فإنْ قيل : قولُه : « اتَّبَعتْهم ذُرِّيَّتَهم » يفيد فائدةَ قولِه : {
أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } . فالجوابُ أنَّ قولَه : « أَلْحَقْنا بهم »
أي : في الدرجات والاتِّباعُ إنما هو في حُكْمِ الإِيمان ، وإن لم يَبْلُغوه كما
تقدَّم . وقرأ أبو عمرو و « وأَتْبَعْناهم » بإسناد الفعل إلى المتكلمٍ المعظِّمِ
نفسَه . والباقون « واتَّبَعَتْهم » بإسنادِ الفعلِ إلى الذرِّيَّة وإلحاقِ تاء
التأنيث . وقد تَقَدَّم الخلافُ في إفرادِ « ذُرِّيَّتهم » وجمعِه في سورة
الأعرافِ محرراً بحمد الله تعالى.
قوله : { أَلَتْنَاهُمْ } قرأ ابن كثير « أَلِتْناهم » بكسر اللام ، والباقون
بفتحِها . فأمَّا الأولى فَمِنْ أَلِتَ يَأْلَتُ بكسرِ العينِ في الماضي وفتحِها
في المضارع كعَلِمَ يَعْلَمُ.
وأمَّا الثانيةُ فتحتمل أَنْ تكونَ مِنْ أَلَتَ يَأْلِتُ كضَربَ يَضْرِبُ ، وأَنْ
تَكونَ مِنْ أَلات يُليت كأَماتَ يُميت ، فَأَلَتْناهم كأَمَتْناهم . وقرأ ابن
هرمز « آلَتْناهم » بألفٍ بعد الهمزة ، على وزنِ أَفْعَلْناهم . يقال : آلَتَ
يُؤْلِتُ كآمَنَ يُؤْمِنُ . وعبد الله وأُبَيٌّ والأعمش وطلحة ، وتُرْوى عن ابنِ
كثير « لِتْناهم » بكسر اللام كبِعْناهم يُقال : لاتَه يَليته ، كباعه يَبيعه . /
وقرأ طلحة والأعمش أيضاً « لَتْناهم » بفتح اللام . قال سهل : « لا يجوز فتحُ
اللامِ مِنْ غير ألفٍ بحالٍ » ولذلك أَنْكر « آلَتْناهم » بالمدِّ : وقال : « لا
يَدُلُّ عليها لغةٌ ولا تفسيرٌ » . وليس كما زعم؛ بل نَقَلَ أهلُ اللغةِ : آلَتَ
يُؤْلِتُ . وقُرِىء « وَلَتْناهم » بالواو ك « وَعَدْناهم » نَقَلها هارون . قال
ابن خالويه : « فيكونُ هذا الحرفُ مِنْ لاتَ يَليت ، ووَلَتَ يَلِتَ ، وأَلِتَ
يَأْلَت ، وأَلَت ، وأَلات يُليت . وكلُّها بمعنى نَقَص . ويقال : أَلَتَ بمعنى
غَلَّظ . وقام رجلٌ إلى عمر يَعِظُه فقال له رجل : لا تَأْلِتْ أميرَ المؤمنين أي
: لا تُغْلِظْ عليه » . قلت : ويجوزُ أَنْ يكونَ هذا الأثرُ على حالِه ، والمعنى :
لا تُنْقِصْ أميرَ المؤمنين حَقَّه ، لأنه إذا أَغْلَظَ له القولَ نَقَصَه حَقَّه.
قوله : { مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ } « مِنْ شيءٍ » مفعولٌ ثانٍ ل « أَلَتْناهم
» و « مِنْ » مزيدةٌ فيه . والأُولى في محلِّ نصبٍ على الحال مِنْ « شيء » لأنَّها
في الأصلِ صفةٌ له ، فلَمَّا قُدِّمَتْ نُصِبَتْ حالاً . وجَوَّزَ أبو البقاء أَنْ
يتعلَّقَ ب « أَلَتْناهم » وليس بظاهرٍ . وفي الضمير في « أَلَتْناهم » وجهان ،
أظهرهما : أنَّه عائدٌ على المؤمنين . والثاني : أنَّه عائد على أبنائهم . قيل :
ويُقَوِّيه قولُه : { كُلُّ امرىء بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ }.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(5/66)
أي
بحجة واضحة ، والمعنى - واللَّه أعلم - أنهم كجبريل الذي يأتي
النبي - صلى الله عليه وسلم - بالوحي ويبيِّنُ تبيينه عن اللَّه ، ما كان وما
يكون.
ثم سفر أحلامهم في جعلهم البنات للَّهِ فقال :
* * *
(ام لَهُ البَنَات وَأ@كُم البَنُونَ). -
أي أنتم يجعلواط للَّهِ ما تكرهون وأنتم حكماءْ عند أنفسكم.
* * *
(أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40)
المعنى أن الحجة واجبة عليهم من كل جهة ، لأنك أتيتهم بالبيان
والبرهان ولم تسألهم على ذلك أجراً.
* * *
ْوقوله جلَّ وعزَّ : (أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ
الْمَكِيدُونَ (42)
أي أم يريدون لكفرهم وطغيانهم كيداً.
فاللَّه عزَّ رجل يكيدهم ويجزيهم بكيدهم العذاب في الدنيا والآخرة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا
يُشْرِكُونَ (43)
المعنى بل ألَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ.
فإن قال قائل : هم يزعمون أن الأصنام آلهتهم ، فإن قيل لهم : (أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ
غَيْرُ اللَّهِ) ؟
فالجواب في ذلك ألَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يخلق ويرْزق ويفعل ما يعجز عنه
المخلوقون ، فمن يفعل ذلك إلا الله عزَّ وجلَّ ، ثم نَزَهَ نفسه عزَّ وجلَّ فقال :
(سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ).
جاء في التفسير وفي اللغة أن معناه تنزيه اللَّهِ - عمَّا يشركون ، أي عمن
يجعلون شريكاً لِلَّهِ عزَّ وجلَّ.
* * *
وقوله : (وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ
مَرْكُومٌ (44)
أي وإن يروا قطعة من العذاب يقولوا لشدة طغيانهم وكفرهم : هذا سحاب مركوم ، ومركوم
قد ركم بعضا ، على بعض ، وهذا في قوم من أئمة الكفر وهم الذين
(5/67)
قال
اللَّه - عزَّ وجلَّ - فيهم : (وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ
السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ
أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15).
فأعلمَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ أن هُؤلَاءِ لَا يَعْتَبِرونَ وَلَا يوقِنُونَ ولا
يؤمنون بأبْهَرِ ما يكون من الآيات.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ
يُصْعَقُونَ (45)
(يَصْعَقُونَ)
وقرئت : (يُصْعَقُونَ) ، أي فذرهم إلى يوم القيامةِ.
ثم أعلم أنه يعجل لهم العذاب في الدنيا فقال :
(وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا
يَعْلَمُونَ (47)
المعنى وإن للذين ظلموا عذاباً دون عذاب الآخرة ، يعني من القتل
والأسر وسبي الذَارَارِي الَّذِي نزل بهم ، وأعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أنه
ناصِرٌ دينه ومهلك من عادى نبيه ، ثم أمره بالصبر إلى أن يقع العذاب بهم فقال :
(وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ
حِينَ تَقُومُ (48)
أي فإنك بحيث نراك ونحفظك ونرعاك ، ولا يصلون إلى مكروهك.
(وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ).
أي حين تقوم من منامك ، وقيل حين تقوم في صلاتك ، وهو ما يُقَالُ مع
التكبير : سبحانك اللهم وبحمدك.
* * *
(وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49)
وقرئت (وَأَدْبَارَ النُّجُومِ).
فمن قرأ (إِدْبَارَ) بالكسر فعلى المصدر أَدبَرْت إِدْباراً.
ومن قرأ (أَدْبَارَ) بالفتح فهو جمع دبر.
وأجمعوا في التفسير أن معنى (أَدْبَارَ السًّجُودِ) معناه صلاة الركعتين بعد
المغرب ، وأن (إِدْبَارَ النُّجُومِ) صلاة ركعتي الغداة .
(5/68)
سُورَةُ
النَّجْم
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله تعالى : (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1)
أقسم اللَّه - عزَّ وجَلَّ - بالنَّجم.
وقوله : (مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2)
جَوَاب القسم.
وجاء في التفير أن النجم الثريَّا ، وكذلك يسميها العَرَبُ ، وجاء أيضاً
في التفسير أن النجم نزول القرآن نَجماً بعد نجم ، وكان ينزل منه الآية
والآيتان ، وكان بين أول نزوله إلى استتمامه عشرون سنةً.
وقال بعض أهل اللغة : النجم بمعنى النجوم وأنشدوا.
فباتت تَعُدُّ النَّجْمَ في مُسْتَحيرةٍ . . . سَريعٍ بأَيدي الآكِلينَ جُمودُها
يصف قِدراً كثيرة الدسم ، ومعنى تعد النجم أي من صفاء دسمها ترى
النجوم فيه ، والمستحيرة القدر ، فقال يجمد على الأيدي الدَّسَمَ مِنْ كَثْرتِه
وقالوا مثله : (فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ).
ومعنى : (إذَا هَوَى) ، إذا سقط ، وإذا كان معناه نزول القرآن فالمعنى
في " إذَا هَوَى " ، إذَا نزل (1).
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { إِذَا هوى } : في العاملِ في هذا الظرفِ أوجهٌ ، وعلى كلٍ فيها إشكال .
أحدُ الأوجهِ : أنه منصوبٌ بفعل القسمِ المحذوفِ تقديرُه : أُقْسِمُ بالنجم وقتَ
هُوِيِّه ، قاله أبو البقاء وغيرُه . وهو مُشْكِلٌ فإن فِعْلَ القسمِ إنشاءٌ ،
والإِنشاءُ حالٌ ، و « إذا » لِما يُسْتقبل من الزمان فكيف يتلاقيان؟ الثاني :
أنَّ العاملَ فيه مقدرٌ على أنَّه حالٌ من النجم أي : أُقْسِم به حالَ كونِه
مستقراً في زمانِ هُوِيِّه . وهو مُشْكِلٌ مِنْ وجهين ، أحدهما : أن النجم جثةٌ ،
والزمانُ لا يكونُ حالاً عنها كما لا يكونُ خبراً عنها . والثاني : أنَّ « إذا »
للمستقبلِ فكيف يكونُ حالاً؟ وقد أُجيب عن الأول : بأنَّ المرادَ بالنجم القطعةُ
من القرآن ، والقرآنُ قد نَزَلَ مُنَجَّماً في عشرين سنةً . وهذا تفسيرُ ابن عباس
وغيرِه . وعن الثاني : بأنها حالٌ مقدرةٌ . الثالث : أنَّ العاملَ فيه نفسُ النجم
إذا أُريد به القرآنُ ، قاله أبو البقاء . وفيه نظرٌ؛ لأنَّ القرآنَ لا يَعْمل في
الظرف إذا أُريد به أنه اسمٌ لهذا الكتابِ المخصوص . وقد يُقال : إن النجمَ بمعنى
المُنَجَّم كأنه قيل : والقرآنِ المنجَّمِ في هذا الوقتِ . وهذا البحثُ وارِدٌ في
مواضعَ منها { والشمس وَضُحَاهَا } [ الشمس : 1 ] وما بعدَه ، وقولُه : { والليل
إِذَا يغشى } [ الليل : 1 ] ، { والضحى والليل إِذَا سجى } [ الضحى : 1 ] . وسيأتي
في الشمس بحثٌ أخصُّ مِنْ هذا تقف عليه إنْ شاء الله تعالى . وقيل : المراد بالنجم
هنا الجنسُ وأُنْشد :
4121 فباتَتْ تَعُدُّ النجمَ في مُسْتَحيرةٍ . . . سريعٍ بأيدي الآكلين جمودُها
أي : تَعُدُّ النجومَ ، وقيل : بل المرادُ نجمٌ معين . فقيل : الثُّريَّا . وقيل :
الشِّعْرَى لذِكْرِها في قوله : { وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشعرى } [ النجم : 49 ] .
وقيل : الزُّهْرة لأنها كانت تُعْبَدُ . والصحيح أنها الثريَّا ، لأنَّ هذا صار
عَلَماً بالغَلَبة . ومنه قولُ العرب : « إذا طَلَعَ النجمُ عِشاءً ابتغى الراعي
كِساءً » . وقالوا أيضاً : « طَلَعَ النجمُ غُدْيَة فابتغى الراعي كُسْيَة » .
وهَوَى يَهْوي هُوِيّاً أي : سقط من علو ، وهَوِي يَهْوَى هَوَىً أي : صَبَا .
وقال الراغب : « الهُوِيُّ سقوطٌ مِنْ عُلُوّ » . ثم قال : والهُوِيُّ : ذهابٌ في
انحدارٍ . والهوى : ذهابٌ في ارتفاع وأَنْشد : /
4122 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . يَهْوي
مخارِمَها هُوِيَّ الأجدَلِ
وقيل : هَوَى في اللغة خَرَقَ الهوى ، ومَقْصَدُه السُّفْلُ ، أو مصيرُه إليه وإن
لم يَقْصِدْه . قال :
4123 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . هُوِيَّ
الدَّلْوِ أسْلَمَها الرِّشاءُ
وقد تقدَّم الكلامُ في هذا مُشْبَعاً.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(5/69)
(مَا
ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2)
يعني النبي - صلى الله عليه وسلم -.
* * *
وقوله : (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3)
أي ما الذي يأتيكم به مِما قَاله بهَواه.
* * *
(إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)
" إن " بمعنى " ما " ، المعنى : ما هو إلا وحي.
* * *
(عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5)
يعني به جبريل عليه السلام.
* * *
وقوله : (ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6)
(ذُو مِرَّةٍ) من نعت قوله (شَدِيدُ الْقُوَى) ، والمرة القوة.
(عَلَّمَهُ) علم النبي - صلى الله عليه وسلم -.
* * *
وقوله : (فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7)
قال بعض أهل اللغة : " هو " ههنا يعنى به النبي عليه السلام.
المعنى فاستوى جبريل والنبي - صلى الله عليه وسلم - بالأفق الأعلى.
وهذا عند أهل اللغة لا يجوز مثله إلا في الشعر إلا أن يكون مثل قولك : استويت أنا
وزيدٌ ، ويستقبحون استويت وزيدٌ.
وإنما المعنى استوى جبريل وهو بالأفق الأعلى على صورته الحقيقية.
لأنه كان يتمثل للنبي - صلى الله عليه وسلم - إذا هبط عليه بالوحي في صورة رجلٍ ،
فأحبَّ رسول اللَّهِ أن يراه على حقيقته فاستوى في أفق المشرق فملأ الأفق.
فالمعنى - واللَّه أعلم - فاستوى جبريل في الأفق الأعلى على صورته.
* * *
(ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8)
ومعنى(دَنَا ، وَتَدَلى) واحد ، لأن المعنى أنه قَربَ ، وتدلى زَادَ في القرب.
كما تقول : قد دنا فلان مني وقرب ، ولو قلت : قد قُرَبَ مني ودنا جاز.
* * *
(فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9)
(5/70)
المعنى
كان ما بينه وبين رسول اللَّه مقدار قوسين مِنَ القَسِيِّ العربيةِ أو
أقرب.
وهذا الموضع يحتاج إلى شرح لأن القائل قد يقول : ليس تَخْلُو " أو "
من أن تكون للشك أو لغير الشك.
فإن كانت للشك فمحال أن يكون موضع شك.
وإن كان معناها بل أدنى ، بل أقْرَبُ فما كانت الحاجة إلى أن يقول :
(فكان قاب قَوْسَيْن) - كان ينبغي أن يكون كان أدنى من قاب قَوسَينْ.
والجواب في هذا - والله أعلم - أن العباد خوطبوا على لغتهم ومقدار
فهمهم وقيل لهم في هذا ما يقال للذي يحزر (1) ، فالمعنى فكان على ما تُقَدرونَه
أنتم قدر قوسين أو أدنى من ذلك ، كما تقول في الذي تقدره : هذا قدر رُمْحَينِ أو
أنقص من رُمْحَين أو أرجح.
وقد مرَّ مثل هذا في قوله : (وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ
يَزِيدُونَ).
* * *
(فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10)
أي فَأوحى جبريل إلى النبي عليه السلام ما أوحى.
* * *
قوله : (مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11)
وقرئت : (مَا كَذَّبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى) بتشديد الذَّال.
* * *
وقوله : (لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)
جاء في التفسير أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رَبَّهُ - عزَّ وجلَّ - بقلبه
، وأنه فَضْلٌ خُصَّ به كما خُصَّ إبراهيم عليه السلام بِالخُلَّةِ.
وقيل رأى أمراً عظيماً ، وتفسيره (لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى).
* * *
وقوله - عزَّ وجل - : (أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12)
__________
(1) الحَزَّاءُ والحازي الذي يَحْزُرُ الأَشياء ويقَدِّرُها بظنه. (انظر اللسان.
14 / 174).
(5/71)
(أفَتمْروُنه)
و (أفَتُم