مجلد 43.و44. فتح الباري أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ)
43.
مجلد 43. فتح الباري أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر
العسقلاني (المتوفى : 852هـ)
26 - باب كَرَاهِيَةِ الْخِلاَفِ
7364 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ عَنْ
سَلاَمِ بْنِ أَبِي مُطِيعٍ عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ عَنْ جُنْدَبِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"اقْرَءُوا الْقُرْآنَ مَا ائْتَلَفَتْ قُلُوبُكُمْ فَإِذَا اخْتَلَفْتُمْ
فَقُومُوا عَنْهُ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ سَمِعَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ سَلاَمًا
7365 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ
حَدَّثَنَا هَمَّامٌ حَدَّثَنَا أَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ عَنْ جُنْدَبِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
"اقْرَءُوا الْقُرْآنَ مَا ائْتَلَفَتْ عَلَيْهِ قُلُوبُكُمْ فَإِذَا
اخْتَلَفْتُمْ فَقُومُوا عَنْهُ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ
هَارُونَ عَنْ هَارُونَ الأَعْوَرِ حَدَّثَنَا أَبُو عِمْرَانَ عَنْ جُنْدَبٍ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
7366 - حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا هِشَامٌ عَنْ مَعْمَرٍ
عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ
قَالَ لَمَّا حُضِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ وَفِي
الْبَيْتِ رِجَالٌ فِيهِمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَالَ هَلُمَّ أَكْتُبْ لَكُمْ
كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ قَالَ عُمَرُ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَلَبَهُ الْوَجَعُ وَعِنْدَكُمْ الْقُرْآنُ فَحَسْبُنَا
كِتَابُ اللَّهِ وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْبَيْتِ وَاخْتَصَمُوا فَمِنْهُمْ مَنْ
يَقُولُ قَرِّبُوا يَكْتُبْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ مَا قَالَ
عُمَرُ فَلَمَّا أَكْثَرُوا اللَّغَطَ وَالِاخْتِلاَفَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "قُومُوا عَنِّي قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ
فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ إِنَّ الرَّزِيَّةَ كُلَّ الرَّزِيَّةِ مَا حَالَ
بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ أَنْ يَكْتُبَ
لَهُمْ ذَلِكَ الْكِتَابَ مِنْ اخْتِلاَفِهِمْ وَلَغَطِهِمْ
قوله: "باب كراهية الاختلاف" ولبعضهم الخلاف أي في الأحكام الشرعية أو
أعم من ذلك وسقطت هذه الترجمة لابن بطال فصار حديثها من جملة باب النهي للتحريم
ووجهه بأن الأمر بالقيام عند الاختلاف في القرآن للندب لا لتحريم القراءة عند
الاختلاف والأولى ما وقع عند الجمهور وبه جزم الكرماني فقال في آخر حديث عبد الله
بن مغفل هذا آخر ما أريد إيراده في الجامع من مسائل أصول الفقه. قوله: "حدثنا
إسحاق" هو ابن راهويه كما جزم به أبو نعيم في المستخرج، وقوله في آخره: "قال
أبو عبد الله سمع عبد الرحمن " يعني ابن مهدي المذكور في السند سلاما يعني
بتشديد اللام وهو ابن أبي مطيع، وأشار بذلك إلى ما أخرجه في فضائل القرآن عن عمرو
بن علي عن عبد الرحمن قال: حدثنا سلام بن أبي مطيع، ووقع هذا الكلام للمستملي
وحده. قوله: "وقال يزيد بن هارون إلخ" وصله الدارمي عن يزيد بن هارون
لكن قال عن همام، ثم أخرجه عن أبي النعمان عن هارون الأعور، وتقدم في آخر فضائل
القرآن بيان الاختلاف على أبي عمران في سند هذا الحديث مع شرح الحديث. وقال
الكرماني: مات يزيد بن هارون سنة ست ومائتين، فالظاهر أن رواية البخاري عنه تعليق
انتهى. وهذا لا يتوقف فيه من اطلع على ترجمة البخاري، فإنه لم يرحل من بخاري إلا
بعد موت يزيد ابن هارون بمدة.قوله: "في حديث ابن عباس واختلف أهل البيت:
اختصموا" كذا لأبي ذر وهو تفسير لاختلفوا ولغيره: "واختصموا "
بالواو العاطفة وكذا تقدم في آخر المغازي. قوله: "قال عبيد الله" هو ابن
عبد الله بن عتبة هو موصول بالسند المذكور، وقد تقدم بيان ذلك في " كتاب
العلم " وفي أواخر المغازي في باب الوفاة النبوية.
(13/336)
27 - باب نَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَلَى التَّحْرِيمِ إِلاَّ مَا تُعْرَفُ إِبَاحَتُهُ
وَكَذَلِكَ أَمْرُهُ نَحْوَ قَوْلِهِ حِينَ أَحَلُّوا أَصِيبُوا مِنْ النِّسَاءِ
وَقَالَ جَابِرٌ وَلَمْ يَعْزِمْ عَلَيْهِمْ وَلَكِنْ أَحَلَّهُنَّ
(13/336)
لَهُمْ وَقَالَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ نُهِينَا عَنْ اتِّبَاعِ
الْجَنَازَةِ وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَا
7367 - حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ
عَطَاءٌ قَالَ جَابِرٌ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ
البُرْسَانِيُّ حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ سَمِعْتُ
جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ فِي أُنَاسٍ مَعَهُ قَالَ أَهْلَلْنَا أَصْحَابَ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَجِّ خَالِصًا لَيْسَ
مَعَهُ عُمْرَةٌ قَالَ عَطَاءٌ قَالَ جَابِرٌ فَقَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صُبْحَ رَابِعَةٍ مَضَتْ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ فَلَمَّا
قَدِمْنَا أَمَرَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَحِلَّ
وَقَالَ أَحِلُّوا وَأَصِيبُوا مِنْ النِّسَاءِ قَالَ عَطَاءٌ قَالَ جَابِرٌ
وَلَمْ يَعْزِمْ عَلَيْهِمْ وَلَكِنْ أَحَلَّهُنَّ لَهُمْ فَبَلَغَهُ أَنَّا نَقُولُ
لَمَّا لَمْ يَكُنْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ عَرَفَةَ إِلاَّ خَمْسٌ أَمَرَنَا أَنْ
نَحِلَّ إِلَى نِسَائِنَا فَنَأْتِي عَرَفَةَ تَقْطُرُ مَذَاكِيرُنَا الْمَذْيَ
قَالَ وَيَقُولُ جَابِرٌ بِيَدِهِ هَكَذَا وَحَرَّكَهَا فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ قَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي أَتْقَاكُمْ
لِلَّهِ وَأَصْدَقُكُمْ وَأَبَرُّكُمْ وَلَوْلاَ هَدْيِي لَحَلَلْتُ كَمَا
تَحِلُّونَ فَحِلُّوا فَلَوْ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا
أَهْدَيْتُ فَحَلَلْنَا وَسَمِعْنَا وَأَطَعْنَا
7368 - حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ الْحُسَيْنِ
عَنْ ابْنِ بُرَيْدَةَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ الْمُزَنِيُّ عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "صَلُّوا قَبْلَ صَلاَةِ
الْمَغْرِبِ قَالَ فِي الثَّالِثَةِ لِمَنْ شَاءَ كَرَاهِيَةَ أَنْ يَتَّخِذَهَا
النَّاسُ سُنَّةً
قوله: "باب نهي النبي صلى الله عليه وسلم على التحريم" أي النهي الصادر
منه محمول على التحريم وهو حقيقة فيه. قوله: "إلا ما تعرف إباحته" أي
بدلالة السياق أو قرينة الحال أو قيام الدليل على ذلك. قوله: "وكذلك أمره"
أي يحرم مخالفته لوجوب امتثاله ما لم يقم الدليل على إرادة الندب أو غيره. قوله:
"نحو قوله حين أحلوا" أي في حجة الوداع، لما أمرهم ففسخوا الحج إلى
العمرة وتحللوا من العمرة، والمراد بالأمر صيغة أفعل والنهي لا تفعل، واختلفوا في
قول الصحابي: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا أو نهانا عنة، فالراجح عند
أكثر السلف أن لا فرق، وقد أنهى بعض الأصوليين صيغة الأمر إلى سبعة عشر وجها،
والنهي إلى ثمانية أوجه، ونقل القاضي أبو بكر بن الطيب عن مالك والشافعي: أن الأمر
عندهما على الإيجاب والنهي على التحريم حتى يقوم الدليل على خلاف ذلك وقال ابن
بطال: هذا قول الجمهور. وقال كثير من الشافعية وغيرهم: الأمر على الندب والنهي على
الكراهة حتى يقوم دليل الوجوب في الأمر ودليل التحريم في النهي، وتوقف كثير منهم
وسبب توقفهم ورود صيغة الأمر للإيجاب والندب والإباحة والإرشاد وغير ذلك، وحجة
الجمهور أن من فعل ما أمر به استحق الحمد، وأن من تركه استحق الذم، وكذا بالعكس في
النهي، وقول الله تعالى {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ
تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} يشمل الأمر والنهي، ودل
الوعيد فيه على تحريمه فعلا وتركا. قوله: "أصيبوا من النساء" هو إذن لهم
في جماع نسائهم إشارة إلى المبالغة في الإحلال، إذ الجماع يفسد النسك دون غيره من
محرمات الإحرام، ووقع في رواية حماد بن زيد عن ابن جريج في " كتاب الشركة
" فأمرنا فجعلناها عمرة، وأن نحل إلى نسائنا، ثم ذكر في الباب
(13/337)
أحاديث. قوله: "وقالت أم عطية نهينا عن اتباع الجنائز، ولم يعزم علينا" تقدم موصولا في " كتاب الجنائز " وبينه وبين حديث جابر فرق من جهة اختلاف السببين، فالقصة التي في رواية جابر كانت إباحة بعد حظر فلا تدل على الوجوب للقرينة المذكورة لكن أراد جابر التأكيد في ذلك، والقصة التي في حديث أم عطية نهى بعد إباحة فكان ظاهرا في التحريم، فأرادت أن تبين لهم أنه لم يصرح لهم بالتحريم، والصحابي أعرف بالمراد من غيره، وقد تقدم شرح ذلك مستوفي في " كتاب الجنائز". قوله: "حدثنا المكي بن إبراهيم عن ابن جريج قال عطاء وقال جابر قال أبو عبد الله. وقال محمد بن بكر حدثنا ابن جريج أخبرني عطاء سمعت جابر بن عبد الله" أما قوله: "وقال جابر " فهو معطوف على شيء محذوف يظهر مما تقدم في باب " من أهل في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم: "من " كتاب الحج، وفي باب " بعث على إلى اليمن، من أواخر كتاب المغازي بهذين السندين معلقا وموصولا، ولفظه: "أمر النبي صلى الله عليه وسلم عليا أن يقيم على إحرامه" فذكر هذه القصة ثم قال وقال جابر: أهللنا بالحج خالصا، وأما التعليق فوصله الإسماعيلي من الطريق المذكورة عن محمد بن بكر وخرجه أيضا من طريق يحيى القطان عن ابن جريج، وأفادت رواية محمد بن بكر التصريح بسماع عطاء من جابر، وقوله: "في أناس معه " فيه التفات ونسق الكلام أن يقول معي، ووقع كذلك في رواية يحيى القطان، وقوله: أهللنا بالحج خالصا ليس معه عمرة، هو محمول على ما كانوا ابتدؤوا به ثم وقع الإذن بإدخال العمرة على الحج وبفسخ الحج إلى العمرة فصاروا على ثلاثة أنحاء مثل ما قالت عائشة "منا من أهل بحج ومنا من أهل بعمرة، ومنا من جمع" وقد تقدم ذلك مشروحا في " كتاب الحج " وقوله: "وقال عطاء عن جابر " هو موصول بالسندين المذكورين. قوله: "صبح رابعة" تقدم بيانه في حديث أنس في الباب المشار إليه. قوله: "قال عطاء قال جابر" هو موصول بالسند المذكور، وقوله: "وقال محمد بن بكر عن ابن جريج " هو موصول عند الإسماعيلي كما تقدم. قوله: "ولم يعزم عليهم" أي في جماع نسائهم أي لأن الأمر المذكور إنما كان للإباحة ولذلك قال جابر ولكن أحلهن لهم وقد تقدم في الباب المذكور قالوا أي الحل قال: الحل كله. قوله: "فبلغه أنا نقول لما لم يكن بيننا وبين عرفة إلا خمس ليال" أي أولها ليلة الأحد وآخرها ليلة الخميس لأن توجههم من مكة كان عشية الأربعاء فباتوا ليلة الخميس بمنى ودخلوا عرفة يوم الخميس. قوله: "فنأتي عرفة تقطر مذاكيرنا المذي" في رواية المستملي: "المنى " وكذا عند الإسماعيلي ويؤيده ما وقع في رواية حماد بن زيد بلفظ "فيروح أحدنا إلى منى وذكره يقطر منيا " وإنما ذكر منى لأنهم يتوجهون إليها قبل توجههم إلى عرفة. قوله: "ويقول جابر بيده هكذا وحركها" أي أمالها. وفي رواية حماد بن زيد بلفظ: فقال جابر بكفه أي أشار بكفه قال الكرماني هذه الإشارة لكيفية التقطر ويحتمل أن يكون إلى محل التقطر ووقع في رواية الإسماعيلي قال: يقول جابر كأني أنظر إلى يده يحركها، وهذا يحتمل أن يكون مرفوعا. قول "فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال" زاد في رواية حماد خطيبا فقال بلغني أن أقواما يقولون كذا وكذا. قوله: "قد علمتم أني أتقاكم لله وأصدقكم" في رواية حماد " والله لأنا أبر وأتقى لله منهم". قوله: "ولولا هديي لحللت كما تحلون" في رواية الإسماعيلي لأحللت، وكذا مضى في باب "عمرة التنعيم من طريق حبيب المعلم " عن عطاء عن جابر وهما لغتان: حل وأحل وتقدم شرح الحديث هناك، إلا أنه لم يذكر فيه كلام جابر بتمامه ولا الخطبة. قول "فحلوا" كذا فيه بصيغة الأمر من حل. وقوله: "فحللنا وسمعنا وأطعنا" في رواية الإسماعيلي فأحللنا قوله: "عبد الوارث" هو ابن سعيد " وحسين " هو ابن ذكوان المعلم،
(13/338)
ووقع منسوبا في رواية الإسماعيلي و "ابن بريدة، هو عبد الله و " عبد الله المزني" هو ابن مغفل بالمعجمة والفاء الثقيلة، ووقع بيانه في "كتاب الصلاة " وبين الإسماعيلي سبب الاقتصار على قوله عن عبد الله دون ذكر أبيه فأخرجه من طريق محمد بن عبيد بن حسان عن عبد الوارث فقال فيه: "عن عبد الله المزني" كالذي هنا وقال: كتبته فنسيته لا أدري ابن مغفل أو ابن معقل أي بالمعجمة والفاء أو المهملة والقاف، وقد تقدم شرح الحديث في باب كم بين الأذان والإقامة من " كتاب الصلاة " وموضع الترجمة منه قوله في آخره: "لمن شاء " فإن فيه إشارة إلى أن الأمر حقيقة في الوجوب فلذلك أردفه بما يدل على التخيير بين الفعل والترك فكان ذلك صارفا للحمل على الوجوب. قوله: "خشية أن يتخذها الناس سنة" أي طريقة لازمة لا يجوز تركها، أو سنة راتبة يكره تركها وليس المراد ما يقابل الوجوب لما تقدم.
(13/339)
28 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَأَمْرُهُمْ شُورَى
بَيْنَهُمْ} , {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ}
وَأَنَّ الْمُشَاوَرَةَ قَبْلَ الْعَزْمِ وَالتَّبَيُّنِ لِقَوْلِهِ فَإِذَا
عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِذَا عَزَمَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ لِبَشَرٍ التَّقَدُّمُ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ
وَشَاوَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ يَوْمَ
أُحُدٍ فِي الْمُقَامِ وَالْخُرُوجِ فَرَأَوْا لَهُ الْخُرُوجَ فَلَمَّا لَبِسَ
لاَمَتَهُ وَعَزَمَ قَالُوا أَقِمْ فَلَمْ يَمِلْ إِلَيْهِمْ بَعْدَ الْعَزْمِ
وَقَالَ لاَ يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ يَلْبَسُ لاَمَتَهُ فَيَضَعُهَا حَتَّى يَحْكُمَ
اللَّهُ وَشَاوَرَ عَلِيًّا وَأُسَامَةَ فِيمَا رَمَى بِهِ أَهْلُ الإِفْكِ عَائِشَةَ
فَسَمِعَ مِنْهُمَا حَتَّى نَزَلَ الْقُرْآنُ فَجَلَدَ الرَّامِينَ وَلَمْ
يَلْتَفِتْ إِلَى تَنَازُعِهِمْ وَلَكِنْ حَكَمَ بِمَا أَمَرَهُ اللَّهُ وَكَانَتْ
الأَئِمَّةُ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَشِيرُونَ
الأُمَنَاءَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي الأُمُورِ الْمُبَاحَةِ لِيَأْخُذُوا
بِأَسْهَلِهَا فَإِذَا وَضَحَ الْكِتَابُ أَوْ السُّنَّةُ لَمْ يَتَعَدَّوْهُ
إِلَى غَيْرِهِ اقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَرَأَى أَبُو بَكْرٍ قِتَالَ مَنْ مَنَعَ الزَّكَاةَ فَقَالَ عُمَرُ كَيْفَ
تُقَاتِلُ النَّاسَ وَقَدْ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أُمِرْتُ أَنْ
أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ فَإِذَا قَالُوا
لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلاَّ
بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَاللَّهِ
لاَقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ مَا جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ تَابَعَهُ بَعْدُ عُمَرُ فَلَمْ يَلْتَفِتْ أَبُو بَكْرٍ
إِلَى مَشُورَةٍ إِذْ كَانَ عِنْدَهُ حُكْمُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الَّذِينَ فَرَّقُوا بَيْنَ الصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ
وَأَرَادُوا تَبْدِيلَ الدِّينِ وَأَحْكَامِهِ وَقال النبي صلى الله عليه وسلم:
"مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ وَكَانَ الْقُرَّاءُ أَصْحَابَ مَشُورَةِ
عُمَرَ كُهُولًا كَانُوا أَوْ شُبَّانًا وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ
عَزَّ وَجَلَّ
7369 - حدثنا الأويسي حدثنا إبراهيم بن سعد عن صالح عن بن شهاب حدثني عروة وابن
المسيب وعلقمة بن وقاص وعبيد الله عن عائشة رضي الله عنها "حين قال لها أهل
الإفك ما قالوا قالت ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وأسامة بن
زيد رضي الله عنهما حين استلبث الوحي يسألهما وهو يستشيرهما في فراق أهله فأما
أسامة فأشار بالذي يعلم من براءة أهله وأما علي فقال لم يضيق الله عليك والنساء
سواها كثير
(13/339)
وسل الجارية تصدقك فقال هل رأيت من شيء يريبك قالت ما رأيت أمرا
أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن فتأكله فقام على
المنبر فقال يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهلي والله ما علمت
على أهلي إلا خيرا فذكر براءة عائشة
7370 - حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي
زَكَرِيَّاءَ الْغَسَّانِيُّ عَنْ هِشَامٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ النَّاسَ فَحَمِدَ
اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ مَا تُشِيرُونَ عَلَيَّ فِي قَوْمٍ يَسُبُّونَ
أَهْلِي مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُوءٍ قَطُّ وَعَنْ عُرْوَةَ قَالَ لَمَّا
أُخْبِرَتْ عَائِشَةُ بِالأَمْرِ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَأْذَنُ لِي أَنْ
أَنْطَلِقَ إِلَى أَهْلِي فَأَذِنَ لَهَا وَأَرْسَلَ مَعَهَا الْغُلاَمَ وَقَالَ
رَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا
سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ
قوله: "باب قول الله تعالى : {أَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ، وَشَاوِرْهُمْ
فِي الْأَمْرِ} " هكذا وقعت هذه الترجمة مقدمة على اللتين بعدها عند أبي ذر،
ولغيره مؤخرة عنهما وأخرها النسفي أيضا، لكن سقطت عنده ترجمة النهي على التحريم
وما معها، فأما الآية الأولى فأخرج البخاري في " الأدب المفرد " وابن
أبي حاتم بسند قوي عن الحسن قال: "ما تشاور قوم قط بينهم إلا هداهم الله
لأفضل ما يحضرهم " وفي لفظ: "إلا عزم الله لهم بالرشد أو بالذي ينفع
" وأما الآية الثانية فأخرج ابن أبي حاتم بسند حسن عن الحسن أيضا قال: قد علم
أنه ما به إليهم حاجة، ولكن أراد أن يستن به من بعده، في حديث أبي هريرة " ما
رأيت أحدا أكثر مشورة لأصحابه من النبي صلى الله عليه وسلم: "ورجاله ثقات إلا
أنه منقطع، وقد أشار إليه الترمذي في الجهاد فقال: ويروى عن أبي هريرة فذكره،
وتقدم في الشروط من حديث المسور بن مخرمة قوله صلى الله عليه وسلم: "أشيروا
علي في هؤلاء القوم، وفيه: جواب أبي بكر وعمر وعمله صلى الله عليه وسلم بما أشارا
به وهو في الحديث الطويل في صلح الحديبية. قوله: "وإن المشاورة قبل العزم
والتبين بقوله تعالى: {فإذا عزمت فتوكل على الله} وجه الدلالة ما ورد عن قراءة
عكرمة وجعفر الصادق بضم التاء من عزمت أي إذا أرشدتك إليه فلا تعدل عنه فكأن
المشاورة إنما تشرع عند عدم العزم وهو واضح. وقد اختلف في متعلق المشاورة فقيل في
كل شيء ليس فيه نص وقيل في الأمر الدنيوي فقط وقال الداودي إنما كان يشاوره في أمر
الحرب مما ليس فيه حكم لأن معرفة الحكم إنما تلتمس منه قال: ومن زعم أنه كان
يشاوره في الأحكام فقد غفل غفلة عظيمة وأما في غير الأحكام فربما رأى غيره أو سمع
ما لم يسمعه أو يره كما كان يستصحب الدليل في الطريق وقال غيره اللفظ وإن كان عاما
لكن المراد به الخصوص للاتفاق على أنه لم يكن يشاورهم في فرائض الأحكام. قلت: وفي
هذا الإطلاق نظر فقد أخرج الترمذي وحسنه وصححه ابن حبان من حديث علي قال:
"لما نزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ}
الآية، قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: "ما ترى؟ دينار. قلت: لا يطيقونه
قال: فنصف دينار؟ قلت: لا يطيقونه. قال: فكم؟ قلت شعيرة. قال: إنك لزهيد . فنزلت
{أَأَشْفَقْتُمْ}. الآية قال: فبي خفف الله عن هذه الأمة ، ففي هذا الحديث
المشاورة في بعض الأحكام. ونقل السهيلي عن ابن عباس أن المشاورة مختصة بأبي بكر
وعمر ولعله من تفسير الكلبي ثم وجدت له مستندا في فضائل الصحابة لأسد بن موسى
والمعرفة ليعقوب بن سفيان بسند لا بأس به عن عبد الرحمن
(13/340)
ابن غنم بفتح المعجمة وسكون النون وهو مختلف في صحبته أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر وعمر " لو أنكما تتفقان على أمر واحد ما عصيتكما في مشورة أبدا " وقد وقع في حديث أبي قتادة في نومهم في الوادي " إن تطيعوا أبا بكر وعمر ترشدوا " لكن لا حجة فيه للتخصيص ووقع في الأدب من رواية طاوس عن ابن عباس في قوله تعالى {وَشَاوِرْهُمْ فِي} قال في بعض الأمر قيل وهذا تفسير لا تلاوة، ونقله بعضهم قراءة عن ابن مسعود وعد كثير من الشافعية المشاورة في الخصائص واختلفوا في وجوبها فنقل البيهقي في المعرفة الاستحباب عن النص وبه جزم أبو نصر القشيري في تفسيره وهو المرجح. قوله: "فإذا عزم الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن لبشر التقدم على الله ورسوله" يريد أنه صلى الله عليه وسلم بعد المشورة إذا عزم على فعل أمر مما وقعت عليه المشورة وشرع فيه لم يكن لأحد بعد ذلك أن يشير عليه بخلافه لورود النهي عن التقدم بين يدي الله ورسوله في آية الحجرات وظهر من الجمع بين آية المشورة وبينها تخصيص عمومها بالمشورة فيجوز التقدم لكن بإذنه منه حيث يستشير، وفي غير صورة المشورة لا يجوز لهم التقدم فأباح لهم القول جواب الاستشارة وزجرهم عن الابتداء بالمشورة وغيرها، ويدخل في ذلك الاعتراض على ما يراه بطريق الأولى، ويستفاد من ذلك أن أمره صلى الله عليه وسلم إذا ثبت لم يكن لأحد أن يخالفه ولا يتحيل في مخالفته بل يجعله الأصل الذي يرد إليه ما خالفه لا بالعكس كما يفعل بعض المقلدين، ويغفل عن قوله تعالى {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} الآية. والمشورة بفتح الميم. وضم المعجمة وسكون الواو، وبسكون المعجمة وفتح الواو لغتان والأولى أرجح. قوله: "وشاور النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه يوم أحد في المقام والخروج إلخ" هذا مثال لما ترجم به أنه شاور فإذا عزم لم يرجع، والقدر الذي ذكره هنا مختصر من قصة طويلة لم تقع موصولة في موضع آخر من الجامع الصحيح وقد وصلها الطبراني وصححها الحاكم من رواية عبد الله بن وهب عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس قال: "تنفل رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفه ذا الفقار يوم بدر " وهو الذي رأى فيه الرؤيا يوم أحد، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما جاءه المشركون يوم أحد كان رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقيم بالمدينة فيقاتلهم فيها فقال له ناس لم يكونوا شهدوا بدرا، أخرج بنا يا رسول الله إليهم نقاتلهم بأحد، ونرجو أن نصيب من الفضيلة ما أصاب أهل بدر، فما زالوا برسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لبس لأمته، فلما لبسها ندموا. وقالوا يا رسول الله أقم فالرأي رأيك، فقال ما ينبغي لنبي أن يضع أداته بعد أن لبسها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه " وكان ذكر لهم قبل أن يلبس الأداة أني رأيت أني في درع حصينة فأولتها المدينة، وهذا سند حسن وأخرج أحمد والدارمي والنسائي من طريق حماد بن سلمة عن أبي الزبير عن جابر نحوه، وتقدمت الإشارة إليه في " كتاب التعبير " وسنده صحيح ولفظ أحمد "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال رأيت كأني في درع حصينة، ورأيت بقرا تنحر فأولت الدرع الحصينة المدينة، الحديث وقد ساق محمد بن إسحاق هذه القصة في المغازي مطولة، وفيها أن عبد الله بن أبي رأس الخزرج كان رأيه الإقامة فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم غضب وقال أطاعهم وعصاني، فرجع بمن أطاعه وكانوا ثلث الناس. قوله: "فلما لبس لأمته" بسكون الهمزة هي الدرع وقيل الأداة بفتح الهمزة وتخفيف الدال وهي الآلة من درع وبيضة وغيرهما من السلاح، والجمع لأم بسكون الهمزة مثل تمرة وتمر وقد تسهل وتجمع أيضا على لؤم بضم ثم فتح على غير قياس، واستلأم للقتال إذا لبس سلاحه كاملا. قوله: "وشاور عليا وأسامة فيما رمى به أهل الإفك عائشة فسمع منهما حتى نزل القرآن فجلد الرامين" قال ابن بطال عن القابسي: الضمير في قوله: "منهما " لعلي وأسامة
(13/341)
وأما جلده الرامين فلم يأت فيه بإسناد. قلت: أما أصل مشاورتهما فذكره موصولا في الباب باختصار وتقدم في قصة الإفك مطولا في تفسير سورة النور مشروحا، وقوله: "فسمع منهما " أي فسمع كلامهما ولم يعمل بجميعه حتى نزل الوحي، أما علي فأومأ إلى الفراق بقوله: "والنساء سواها كثير " وتقدم بيان عذره في ذلك، وأما أسامة فنفى أن يعلم عليها إلا الخير، فلم يعمل بما أومأ إليه على من المفارقة، وعمل بقوله وسل الجارية فسألها وعمل بقول أسامة في عدم المفارقة، ولكنه أذن لها في التوجه إلى بيت أبيها، وأما قوله: "فجلد الرامين " فلم يقع في شيء من طرق حديث الإفك في الصحيحين ولا أحدهما، وهو عند أحمد وأصحاب السنن من رواية محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر ابن محمد بن عمرو بن حزم عن عمرة عن عائشة " قالت: لما نزلت براءتي قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر فدعا بهم وحدهم " وفي لفظ: "فأمر برجلين وامرأة فضربوا حدهم " وسموا في رواية أبي داود مسطح ابن أثاثة وحسان بن ثابت وحمنة بنت جحش، قال الترمذي حسن لا نعرفه إلا من حديث ابن إسحاق من هذا الوجه قلت: ووقع التصريح بتحديثه في بعض طرقه، وقد تقدم بسط القول في ذلك في شرح حديث الإفك في التفسير. قوله: "ولم يلتفت إلى تنازعهم ولكن حكم بما أمره الله" قال ابن بطال عن القابسي. كأنه أراد تنازعهما فسقطت الألف لأن المراد أسامة وعلي. وقال الكرماني القياس أن يقال: "تنازعهما، إلا أن يقال إن أقل الجمع اثنان أو أراد بالجمع هما ومن معهما أو من وافقهما على ذلك انتهى. وأخرج الطبراني عن ابن عمر في قصة الإفك، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى علي بن أي طالب وأسامة بن زيد وبريرة، فكأنه أشار بصيغة الجمع إلى ضم بريرة إلى علي وأسامة لكن استشكله بعضهم بأن ظاهر سياق الحديث الصحيح أنها لم تكن حاضرة لتصريحه بأنه أرسل إليها، وجوابه أن المراد بالتنازع اختلاف قول المذكورين عند مساءلتهم واستشارتهم، وهو أعم من أن يكونوا مجتمعين أو متفرقين ويجوز أن يكون مراده بقوله فلم يلتفت إلى تنازعهم كلا من الفريقين في قصتي أحد والإفك. قوله: "وكانت الأئمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها" أي إذا لم يكن فيها نص بحكم معين وكانت على أصل الإباحة، فمراده ما احتمل الفعل والترك احتمالا واحدا، وأما ما عرف وجه الحكم فيه فلا، وأما تقييده بالأمناء فهي صفة موضحة لأن غير المؤتمن لا يستشار ولا يلتفت لقوله، وأما قوله: "بأسهلها " فلعموم الأمر بالأخذ بالتيسير والتسهيل والنهي عن التشديد الذي يدخل المشقة على المسلم، قال الشافعي: إنما يؤمر الحاكم بالمشورة لكون المشير ينبهه على ما يغفل عنه ويدله على مالا يستحضره من الدليل لا ليقلد المشير فيما يقوله، فإن الله لم يجعل هذا لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ورد من استشارة الأئمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم أخبار كثيرة: منها مشاورة أبي بكر رضي الله عنه في قتال أهل الردة، وقد أشار إليها المصنف. وأخرج البيهقي بسند صحيح عن ميمون بن مهران قال: "كان أبو بكر الصديق إذا ورد عليه أمر نظر في كتاب الله، فإن وجد فيه ما يقضي به قضى بينهم، وإن علمه من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى به وإن لم يعلم خرج فسأل المسلمين عن السنة، فإن أعياه ذلك دعا رؤوس المسلمين وعلماءهم واستشارهم " وأن عمر بن الخطاب كان يفعل ذلك، وتقدم قريبا أن القراء كانوا أصحاب مجلس عمر ومشاورته، ومشاورة عمر الصحابة في حد الخمر تقدمت في " كتاب الحدود " ومشاورة عمر الصحابة في إملاص المرأة تقدمت في الديات، ومشاورة عمر في قتال الفرس تقدمت في الجهاد، ومشاورة عمر المهاجرين والأنصار ثم قريشا لما أرادوا دخول الشام وبلغه أن الطاعون وقع بها، وقد مضى مطولا مع شرحه في " كتاب الطب " وروينا في القطعيات
(13/342)
من رواية إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم قال: جاء رجل إلى معاوية فسأله عن مسألة فقال سل عنها عليا، قال ولقد شهدت عمر أشكل عليه شيء فقال هاهنا على، وفي كتاب النوادر للحميدي، والطبقات لمحمد بن سعد من رواية سعيد بن المسيب قال: كان عمر يتعوذ بالله من معضلة ليس لها أبو الحسن - يعني علي بن أبي طالب - ومشاورة عثمان الصحابة أول ما استخلف فيما يفعل بعبيد الله بن عمر لما قتل الهرمزان وغيره، ظنا منه أن لهم في قتل أبيه مدخلا، وهي عند ابن سعد وغيره بسند حسن، ومشاورته الصحابة في جمع الناس على مصحف واحد، أخرجها ابن أبي داود في " كتاب المصاحف " من طرق عن علي منها قوله: "ما فعل عثمان الذي فعل في المصاحف إلا عن ملأ منا " وسنده حسن. قوله: "ورأى أبو بكر قتال من منع الزكاة إلخ" يشير إلى حديث أبي هريرة الذي تقدم قريبا في باب الاقتداء بالسلف. قوله: "وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من بدل دينه فاقتلوه" تقدم موصولا من حديث ابن عباس في " كتاب المحاربين". قوله: "وكان القراء أصحاب مشورة عمر كهولا كانوا أو شبانا" هذا طرف من حديث ابن عباس في قصة الحر بن قيس وعمه عيينة بن حصن؛ وتقديم قريبا في باب الاقتداء بالسلف أيضا بلفظ: "ومشاورته " ووقع بلفظ: "ومشورته " موصولا في التفسير، وقوله في آخره هنا: "وكان وقافا " بقاف ثقيلة أي كثير الوقوف، وهذه الزيادة لم تقع في الطريق الموصولة في باب الاقتداء وإنما وقعت في التفسير، ثم ذكر طرفا من حديث الإفك من طريق صالح بن كيسان عن الزهري، وقد تقدم بطوله في " كتاب المغازي " واقتصر منه على موضع حاجته وهي مشاورة علي وأسامة. وقال في آخره. فذكر براءة عائشة وأشار بذلك إلى أنه هو الذي اختصره وذكر طرفا منه من طريق هشام بن عروة عن أبيه، وقد أورد طريق أبي أسامة عن هشام التي علقها هنا مطولة في " كتاب التفسير " وقد ذكرت هناك من وصلها عن أبي أسامة وشيخه هنا في الطريق الموصولة، هو محمد بن حرب النشائي بنون ومعجمة خفيفة و " يحيى بن أبي زكريا " هو يحيى بن يحيى الشامي نزيل واسط، وهو أكبر من يحيى بن يحيى النيسابوري شيخ الشيخين، و " الغساني " بفتح المعجمة وتشديد المهملة نسبته مشهورة، ووقع في بعض النسخ بضم العين المهملة وتخفيف الشين المعجمة، وهو تصحيف شنيع وقوله فيه إن النبي صلى الله عليه وسلم: "خطب الناس فحمد الله وأثنى عليه " تقدم في رواية أبي أسامة أن ذلك كان عقب سماعه كلام بريرة، وفيه: "قام في خطيبا - أي من أجلي - فتشهد وحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: أما بعد". قوله: "ما تشيرون علي" هكذا هنا بلفظ الاستفهام، وتقدم في طريق أبي أسامة بصيغة الأمر " أشيروا علي " والحاصل أنه استشارهم فيما يفعل بمن قذف عائشة، فأشار عليه سعد بن معاذ وأسيد بن حضير بأنهم واقفون عند أمره موافقون له فيما يقول ويفعل، ووقع النزاع في ذلك بين السعدين، فلما نزل عليه الوحي ببراءتها أقام حد القذف على من وقع منه. وقوله: "يسبون أهلي " كذا هنا بالمهملة ثم الموحدة الثقيلة من السب، وتقدم في التفسير بلفظ: "أبنوا " بموحدة ثم نون، وتقدم تفسيره هناك وأن منهم من فسر ذلك بالسب. قوله: "ما علمت عليهم من سوء قط" يعني أهله وجمع باعتبار لفظ الأهل، والقصة إنما كانت لعائشة وحدها لكن لما كان يلزم من سبها سب أبويها ومن هو بسبيل منها؛ وكلهم كانوا بسبب عائشة معدودين في أهله صح الجمع، وقد تقدم في حديث الهجرة الطويل قول أبي بكر " إنما هم أهلك يا رسول الله " يعني عائشة وأمها وأسماء بنت أبي بكر. قوله: "وعن عروة" هو موصول بالسند المذكور، وقوله: "أخبرت " بضم أوله على البناء للمجهول، وقد تقدمت تسمية من أخبرها بذلك.
(13/343)
قوله: "أتأذن لي أن انطلق إلى أهلي" في رواية أبي أسامة " أرسلني إلى بيت أبي". قوله: "وقال رجل من الأنصار إلخ" وقع عند ابن إسحاق أنه أبو أيوب الأنصاري وأخرجه الحاكم من طريقه، وأخرجه الطبراني في مسند الشاميين وأبو بكر الآجري في طرق حديث الإفك، من طريق عطاء الخراساني عن الزهري عن عروة عن عائشة، وتقدم في شرحه في التفسير أن أسامة بن زيد قال ذلك أيضا لكن ليس هو أنصاريا، وفي روايتنا في فوائد محمد بن عبد الله المعروف بابن أخي ميمي من مرسل سعيد بن المسيب وغيره، وكان رجلان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا سمعا شيئا من ذلك قالا سبحانك هذا بهتان عظيم، زيد بن حارثة وأبو أيوب، وزيد أيضا ليس أنصاريا، وفي تفسير سنيد من مرسل سعيد بن جبير أن سعد ابن معاذ لما سمع ما قيل في أمر عائشة قال: "سبحانك هذا بهتان عظيم " وفي الإكليل للحاكم من طريق الواقدي أن أبي بن كعب قال ذلك، وحكي عن المبهمات لابن بشكوال ولم أره أنا فيها أن قتادة بن النعمان قال ذلك " فإن ثبت فقد اجتمع ممن قال ذلك ستة: أربعة من الأنصار ومهاجريان". "تنبيه": وقع في بعض النسخ في هذه الأبواب الثلاثة الأخيرة تقديم وتأخير والخطب فيها سهل "خاتمة": اشتمل " كتاب الاعتصام " من الأحاديث المرفوعة وما في حكمها على مائة وسبعة وعشرين حديثا، المعلق منها وما في معناه من المتابعة ستة وعشرون حديثا وسائرها موصول، المكرر منها فيه وفيما مضى مائة حديث وعشرة أحاديث والباقي خالص، وافقه مسلم على تخريجها سوى حديث أبي هريرة، كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، وحديث عمر: نهينا عن التكلف، وحديث أبي هريرة: في مأخذ القرون، وحديث عائشة: في الرفق وحديثها: لا أزكي به؛ وحديث عثمان: في الخطبة، وحديث أبي سلمة المرسل: في الاجتهاد، وحديث: المشاورة في الخروج إلى أحد، وفيه من الآثار عن الصحابة ومن بعدهم ستة عشر أثرا والله سبحانه وتعالى الهادي إلى الصواب
(13/344)
كتاب التوحيد
مَا جَاءَ فِي دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّتَهُ
إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى
...
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
97 - كِتَاب التَّوْحِيدِ
قوله: "بسم الله الرحمن الرحيم - كتاب التوحيد" كذا للنسفي وحماد بن
شاكر، وعليه اقتصر الأكثر عن الفربري، وزاد المستملي: "الرد على الجهمية
وغيرهم " وسقطت البسملة لغير أبي ذر، ووقع لابن بطال وابن التين " كتاب
رد الجهمية " وغيرهم " التوحيد " وضبطوا التوحيد بالنصب على
المفعولية، وظاهره معترض لأن الجهمية وغيرهم من المبتدعة لم يردوا التوحيد وإنما
اختلفوا في تفسيره، وحجج الباب ظاهرة في ذلك، والمراد بقوله في رواية المستملي
وغيرهم " القدرية " وأما الخوارج فتقدم ما يتعلق بهم في " كتاب
الفتن " وكذا الرافضة تقدم ما يتعلق بهم في " كتاب الأحكام " وهؤلاء
الفرق الأربع هم رءوس البدعة وقد سمى المعتزلة أنفسهم " أهل العدل والتوحيد
" وعنوا بالتوحيد ما اعتقدوه من نفي الصفات الإلهية، لاعتقادهم أن إثباتها
يستلزم التشبيه ومن شبه الله بخلقه أشرك، وهم في النفي موافقون للجهمية، وأما أهل
السنة ففسروا التوحيد بنفي التشبيه والتعطيل، ومن ثم قال الجنيد فيما حكاه أبو
القاسم القشيري " التوحيد إفراد القديم من المحدث " وقال أبو القاسم
التميمي في " كتاب الحجة " التوحيد مصدر وحد يوحد، ومعنى وحدت الله
اعتقدته منفردا بذاته وصفاته لا نظير له ولا شبيه،
(13/344)
وقيل معنى وحدته علمته واحدا، وقيل سلبت عنه الكيفية والكمية
فهو واحد في ذاته لا انقسام له، وفي صفاته لا شبيه له، في إلهيته وملكه وتدبيره لا
شريك له ولا رب سواه ولا خالق غيره. وقال ابن بطال تضمنت ترجمة الباب أن الله ليس
بجسم لأن الجسم مركب من أشياء مؤلفة وذلك يرد على الجهمية في زعمهم أنه جسم، كذا
وجدت فيه ولعله أراد أن يقول المشبهة، وأما الجهمية فلم يختلف أحد ممن صنف في
المقالات أنهم ينفون الصفات حتى نسبوا إلى التعطيل، وثبت عن أبي حنيفة أنه قال
بالغ جهم في نفي التشبيه حتى قال إن الله ليس بشيء. وقال الكرماني الجهمية فرقة من
المبتدعة ينتسبون إلى جهم بن صفوان مقدم الطائفة القائلة أن لا قدرة للعبد أصلا،
وهم الجبرية بفتح الجيم وسكون الموحدة، ومات مقتولا في زمن هشام بن عبد الملك
انتهى. وليس الذي أنكروه على الجهمية مذهب الجبر خاصة، وإنما الذي أطبق السلف على
ذمهم بسببه إنكار الصفات. حتى قالوا إن القرآن ليس كلام الله وأنه مخلوق، وقد ذكر
الأستاذ أبو منصور عبد القاهر بن طاهر التميمي البغدادي في كتابه " الفرق بين
الفرق " أن رءوس المبتدعة أربعة إلى أن قال: والجهمية أتباع جهم بن صفوان
الذي قال: بالإجبار والاضطرار إلى الأعمال. وقال لا فعل لأحد غير الله تعالى،
وإنما ينسب الفعل إلى العبد مجازا من غير أن يكون فاعلا أو مستطيعا لشيء، وزعم أن
علم الله حادث، وامتنع من وصف الله تعالى بأنه شيء أو حي أو عالم أو مريد، حتى قال
لا أصفه بوصف يجوز إطلاقه على غيره، قال وأصفه بأنه خالق ومحي ومميت وموحد بفتح
المهملة الثقيلة لأن هذه الأوصاف خاصة به، وزعم أن كلام الله حادث، ولم يسم الله
متكلما به، قال: وكان جهم يحمل السلاح ويقاتل، وخرج مع الحارث بن سريج، وهو بمهملة
وجيم مصغر، لما قام على نصر بن سيار عامل بني أمية بخراسان فآل أمره إلى أن قتله
سلم بن أحوز وهو بفتح السين المهملة وسكون اللام، وأبوه بمهملة وآخره زاي وزن أعور
وكان صاحب شرطة نصر. وقال البخاري في " كتاب خلق أفعال العباد " بلغني
أن جهما كان يأخذ عن الجعد بن درهم، وكان خالد القسري وهو أمير العراق خطب فقال:
إني مضح بالجعد بن درهم لأنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا ولم يكلم موسى
تكليما. قلت: وكان ذلك في خلافة هشام بن عبد الملك، فكأن الكرماني انتقل ذهنه من
الجعد إلى الجهم فإن قتل جهم كان بعد ذلك بمدة، ونقل البخاري عن محمد بن مقاتل
قال: قال عبد الله بن المبارك:
ولا أقول بقول الجهم أن له ... قولا يضارع قول الشرك أحيانا
وعن ابن المبارك إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى ونستعظم أن نحكي قول جهم، وعن عبد
الله بن شوذب قال: ترك جهم الصلاة أربعين يوما على وجه الشك. وأخرج ابن أبي حاتم
في " كتاب الرد على الجهمية " من طريق خلف بن سليمان البلخي قال: كان
جهم من أهل الكوفة وكان فصيحا، ولم يكن له نفاذ في العلم، فلقيه قوم من الزنادقة
فقالوا له: صف لنا ربك الذي تعبده، فدخل البيت لا يخرج مدة ثم خرج فقال هو هذا
الهواء مع كل شيء. وأخرج ابن خزيمة في التوحيد، ومن طريقه البيهقي في الأسماء قال:
سمعت أبا قدامة يقول سمعت أبا معاذ البلخي يقول: كان جهم عذ معبر ترمذ، وكان كوفي
الأصل فصيحا ولم يكن له علم ولا مجالسة أهل العلم، فقيل له صف لنا ربك فدخل البيت
لا يخرج كذا، ثم خرج بعد أيام فقال هو هذا الهواء مع كل شيء وفي كل شيء ولا يخلو
منه شيء. وأخرج البخاري من طريق عبد العزيز بن أبي سلمة قال: كلام جهم صفة بلا
معنى، وبناء بلا أساس ولم يعد قط في أهل العلم، وقد سئل عن رجل طلق قبل الدخول
فقال تعتد امرأته، وأورد
(13/345)
آثارا كثيرة عن السلف في تكفير جهم. وذكر الطبري في تاريخه في حوادث سنة سبع وعشرين أن الحارث بن سريج خرج على نصر بن سيار عامل خراسان لبني أمية وحاربه، والحارث حينئذ يدعو إلى العمل بالكتاب والسنة وكان جهم حينئذ كاتبه ثم تراسلا في الصلح وتراضيا بحكم مقاتل بن حيان والجهم، فاتفقا على أن الأمر يكون شورى حتى يتراضى أهل خراسان على أمير يحكم بينهم بالعدل، فلم يقبل نصر ذلك واستمر على محاربة الحارث إلى أن قتل الحارث في سنة ثمان وعشرين في خلافة مروان الحمار، فيقال إن الجهم قتل في المعركة ويقال بل أسر، فأمر نصر بن سيار سلم بن أحوز بقتله فادعى جهم الأمان، فقال له سلم: لو كنت في بطني لشققته حتى أقتلك فقتله. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق محمد بن صالح مولي بني هاشم قال: قال سلم حين أخذه، يا جهم إني لست أقتلك لأنك قاتلتني، أنت عندي أحقر من ذلك، ولكني سمعتك تتكلم بكلام أعطيت الله عهدا أن لا أملكك إلا قتلتك فقتله، ومن طريق معتمر بن سليمان عن خلاد الطفاوي بلغ سلم بن أحوز، وكان على شرطة خراسان أن جهم بن صفوان ينكر أن الله كلم موسى تكليما فقتله، ومن طريق بكير بن معروف قال رأيت سلم بن أحوز حين ضرب عنق جهم فاسود وجه جهم، وأسند أبو القاسم اللالكائي في " كتاب السنة " له أن قتل جهم كان في سنة اثنتين وثلاثين ومائة والمعتمد ما ذكره الطبري أنه كان في سنة ثمان وعشرين، وذكر ابن أبي حاتم من طريق سعيد بن رحمة صاحب أبي إسحاق الفزاري أن قصة جهم كانت سنة ثلاثين ومائة، وهذا يمكن حمله على جبر الكسر، أو على أن قتل جهم تراخي عن قتل الحارث بن سريج، وأما قول الكرماني إن قتل جهم كان في خلافة هشام بن عبد الملك فوهم، لأن خروج الحارث بن سريج الذي كان جهم كاتبه كان بعد ذلك، ولعل مستند الكرماني ما أخرجه ابن أبي حاتم من طريق صالح بن أحمد بن حنبل قال: قرأت في دواوين هشام بن عبد الملك إلى نصر بن سيار عامل خراسان: أما بعد فقد نجم قبلك رجل يقال له جهم من الدهرية فإن ظفرت به فاقتله، ولكن لا يلزم من ذلك أن يكون قتله وقع في زمن هشام، وإن كان ظهور مقالته وقع قبل ذلك حتى كاتب فيه هشام والله أعلم. وقال ابن جزم في " كتاب الملل والنحل" فرق المقرين بملة الإسلام خمس: أهل السنة، ثم المعتزلة ومنهم القدرية، ثم المرجئة ومنهم الجهمية والكرامية ثم الرافضة ومنهم الشيعة، ثم الخوارج ومنهم الأزارقة والأباضية ثم افترقوا فرقا كثيرة، فأكثر افتراق أهل السنة في الفروع، وأما في الاعتقاد ففي نبذ يسيرة، وأما الباقون ففي مقالاتهم ما يخالف أهل السنة الخلاف البعيد والقريب، فأقرب فرق المرجئة من قال: الإيمان التصديق بالقلب واللسان فقط وليست العبادة من الإيمان. وأبعدهم الجهمية القائلون بأن الإيمان عقد بالقلب فقط وإن أظهر الكفر والتثليث بلسانه، وعبد الوثن من غير تقية. والكرامية: القائلون بأن الإيمان قول باللسان فقط وإن اعتقد الكفر بقلبه، وساق الكلام على بقية الفرق ثم قال: فأما المرجئة فعمدتهم الكلام في الإيمان والكفر، فمن قال إن العبادة من الإيمان، وأنه يزيد وينقص ولا يكفر مؤمنا بذنب، ولا يقول إنه يخلد في النار فليس مرجئا، ولو وافقهم في بقية مقالاتهم. وأما المعتزلة فعمدتهم الكلام في الوعد والوعيد والقدر، فمن قال القرآن ليس بمخلوق وأثبت القدر ورؤية الله تعالى في القيامة، وأثبت صفاته الواردة في الكتاب والسنة وإن صاحب الكبائر لا يخرج بذلك عن الإيمان فليس بمعتزلي وإن وافقهن في سائر مقالاتهم وساق بقية ذلك إلى أن قال: وأما الكلام فيما يوصف الله به فمشترك بين الفرق الخمسة، من مثبت لها وناف، فرأس النفاة المعتزلة والجهمية فقد بالغوا في ذلك حتى كادوا يعطلون، ورأس المثبتة مقاتل بن سليمان ومن تبعه من الرافضة والكرامية، فإنهم
(13/346)
بالغوا في ذلك حتى شبهوا الله تعالى بخلقه، تعالى الله سبحانه
عن أقوالهم علوا كبيرا، ونظير هذا التباين قول الجهمية إن العبد لا قدرة له أصلا،
وقول القدرية إنه يخلق فعل نفسه. قلت: وقد أفرد البخاري خلق أفعال العباد في
تصنيف، وذكر منه هنا أشياء بعد فراغه مما يتعلق بالجهمية
1 - باب مَا جَاءَ فِي دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أُمَّتَهُ إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى
7371 - حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ
يَحْيَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَيْفِيٍّ عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ
7372 - و حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الأَسْوَدِ حَدَّثَنَا الْفَضْلُ
بْنُ الْعَلاَءِ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَيْفِيٍّ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا مَعْبَدٍ
مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ يَقُولُ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ لَمَّا بَعَثَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ إِلَى نَحْوِ
أَهْلِ الْيَمَنِ قَالَ لَهُ إِنَّكَ تَقْدَمُ عَلَى قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ
الْكِتَابِ فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَى أَنْ يُوَحِّدُوا اللَّهَ
تَعَالَى فَإِذَا عَرَفُوا ذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ
عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي يَوْمِهِمْ وَلَيْلَتِهِمْ فَإِذَا صَلَّوْا
فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ زَكَاةً فِي أَمْوَالِهِمْ
تُؤْخَذُ مِنْ غَنِيِّهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فَقِيرِهِمْ فَإِذَا أَقَرُّوا
بِذَلِكَ فَخُذْ مِنْهُمْ وَتَوَقَّ كَرَائِمَ أَمْوَالِ النَّاسِ
7373 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا
شُعْبَةُ عَنْ أَبِي حَصِينٍ وَالأَشْعَثِ بْنِ سُلَيْمٍ سَمِعَا الأَسْوَدَ بْنَ
هِلاَلٍ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يَا
مُعَاذُ أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ قَالَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ
أَعْلَمُ قَالَ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا أَتَدْرِي مَا
حَقُّهُمْ عَلَيْهِ قَالَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ أَنْ لاَ
يُعَذِّبَهُمْ
7374 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ
أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَجُلًا سَمِعَ رَجُلًا يَقْرَأُ قُلْ هُوَ
اللَّهُ أَحَدٌ يُرَدِّدُهَا فَلَمَّا أَصْبَحَ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ وَكَأَنَّ الرَّجُلَ
يَتَقَالُّهَا
7375 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ حَدَّثَنَا
عَمْرٌو عَنْ ابْنِ أَبِي هِلاَلٍ أَنَّ أَبَا الرِّجَالِ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ حَدَّثَهُ عَنْ أُمِّهِ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَكَانَتْ
فِي حَجْرِ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ
عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ رَجُلًا
عَلَى سَرِيَّةٍ وَكَانَ يَقْرَأُ لِأَصْحَابِهِ فِي صَلاَتِهِمْ فَيَخْتِمُ
بِقُلْ هُوَ
(13/347)
اللَّهُ أَحَدٌ فَلَمَّا رَجَعُوا ذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ سَلُوهُ لِأَيِّ شَيْءٍ يَصْنَعُ
ذَلِكَ فَسَأَلُوهُ فَقَالَ لِأَنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمَنِ وَأَنَا أُحِبُّ أَنْ
أَقْرَأَ بِهَا فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَخْبِرُوهُ أَنَّ اللَّهَ
يُحِبُّهُ"
قوله: "باب ما جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى توحيد الله
تعالى" المراد بتوحيد الله تعالى الشهادة بأنه إله واحد وهذا الذي يسميه بعض
غلاة الصوفية توحيد العامة، وقد ادعى طائفتان في تفسير التوحيد أمرين اخترعوهما،
أحدهما: تفسير المعتزلة كما تقدم، ثانيهما: غلاة الصوفية فإن أكابرهم لما تكلموا
في مسألة المحو والفناء وكان مرادهم بذلك المبالغة في الرضا والتسليم وتفويض
الأمر، بالغ بعضهم حتى ضاهي المرجئة في نفي نسبة الفعل إلى العبد، وجر ذلك بعضهم
إلى معذرة العصاة، ثم غلا بعضهم فعذر الكفار، ثم غلا بعضهم فزعم أن المراد
بالتوحيد اعتقاد وحدة الوجود، وعظم الخطب حتى ساء ظن كثير من أهل العلم بمتقدميهم
وحاشاهم من ذلك، وقد قدمت كلام شيخ الطائفة الجنيد وهو في غاية الحسن والإيجاز،
وقد رد عليه بعض من قال بالوحدة المطلقة فقال: وهل من غير، ولهم في ذلك كلام طويل
ينبو عنه سمع كل من كان على فطرة الإسلام والله المستعان. وذكر في الباب أربعة
أحاديث: حديث معاذ بن جبل في بعثه إلى اليمن، أورده من طريقين الأولى أعلى من
الثانية، وقد أورد الطريق العالية في "كتاب الزكاة" وساقها هناك على لفظ
أبي عاصم راويها، وذكره هناك من وجه آخر بنزول، وعبد الله بن أبي الأسود شيخه في
هذا الباب هو ابن محمد بن أبي الأسود ينسب إلى جده واسمه حميد ابن الأسود، و
" الفضل بن العلاء " يكنى أبا العلاء ويقال أبو العباس وهو كوفي نزل
البصرة وثقه على بن المديني. وقال أبو حاتم الرازي شيخ يكتب حديثه. وقال النسائي
ليس به بأس. وقال الدار قطني: كثير الوهم. قلت: وما له في البخاري سوى هذا الموضع
وقد قرنه بغيره ولكنه ساق المتن هنا على لفظه. قوله: "عن أبي معبد" كذا
للجميع بفتح الميم وسكون المهملة ثم موحدة، وفي بعض النسخ عن أبي سعيد وهو تصحيف،
وكأن الميم انفتحت فصارت تشبه السين. قوله: "سمعت ابن عباس لما بعث" كذا
فيه بحذف. "قال أو يقول" وقد جرت العادة بحذفه خطا ويقال يشترط النطق
به. قوله: "لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل إلى نحو أهل
اليمن" أي إلى جهة أهل اليمن، وهذه الرواية تقيد الرواية المطلقة بلفظ:
"حين بعثه إلى اليمن " فبينت هذه الرواية أن لفظ اليمن من باب حذف
المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، أو من إطلاق العام وإرادة الخاص، أو لكون اسم
الجنس يطلق على بعضه كما يطلق على كله، والراجح أنه من حمل المطلق على المقيد كما
صرحت به هذه الرواية، وقد تقدم في باب بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن في أواخر
" المغازي " من رواية أبي بردة بن أبي موسى، وبعث كل واحد منهما على
مخلاف قال: "واليمن مخلافان " وتقدم ضبط المخلاف وشرحه هناك، ثم قوله:
"إلى أهل اليمن " من إطلاق الكل وإرادة البعض، لأنه إنما بعثه إلى بعضهم
لا إلى جميعهم، ويحتمل أن يكون الخبر على عمومه في الدعوى إلى الأمور المذكورة وإن
كانت إمرة معاذ إنما كانت على جهة من اليمن مخصوصة. قوله: "إنك تقدم على قوم
من أهل الكتاب" هم اليهود، وكان ابتداء دخول اليهودية اليمن في زمن أسعد ذي
كرب وهو تبع الأصغر كما ذكره ابن إسحاق مطولا في السيرة، فقام الإسلام وبعض أهل
اليمن على اليهودية، ودخل دين النصرانية إلى اليمن بعد ذلك لما غلبت الحبشة
(13/348)
على اليمن، وكان منهم أبرهة صاحب الفيل الذي غزا مكة وأراد هدم الكعبة حتى أجلاهم عنها سيف بن ذي يزن، كما ذكره ابن إسحاق مبسوطا أيضا، ولم يبق بعد ذلك باليمن أحد من النصارى أصلا إلا بنجران وهي بين مكة واليمن، وبقي ببعض بلادها قليل من اليهود. قوله: "فليكن أول ما تدعوهم إلى أن يوحدوا الله فإذا عرفوا ذلك" مضى في وسط الزكاة من طريق إسماعيل بن أمية عن يحيى بن عبد الله بلفظ: "فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله فإذا عرفوا الله " وكذا أخرجه مسلم عن الشيخ الذي أخرجه عنه البخاري، وقد تمسك به من قال أول واجب المعرفة كإمام الحرمين واستدل بأنه لا يتأتى الإتيان بشيء من المأمورات على قصد الامتثال، ولا الانكفاف عن شيء من المنهيات على قصد الانزجار إلا بعد معرفة الآمر والناهي، واعترض عليه بأن المعرفة لا تتأتى إلا بالنظر والاستدلال، وهو مقدمة الواجب فيجب فيكون أول واجب النظر، وذهب إلى هذا طائفة كابن فورك، وتعقب بأن النظر ذو أجزاء يترتب بعضها على بعض، فيكون أول واجب جزأ من النظر وهو محكي عن القاضي أبي بكر بن الطيب وعن الأستاذ أبي إسحاق الأسفرايني أول واجب القصد إلى النظر، وجمع بعضهم بين هذه الأقوال بأن من قال أول واجب المعرفة أراد طلبا وتكليفا، ومن قال النظر أو القصد أراد امتثالا لأنه يسلم أنه وسيلة إلى تحصيل المعرفة، فيدل ذلك على سبق وجوب المعرفة، وقد ذكرت في " كتاب الإيمان " من أعرض عن هذا من أصله وتمسك بقوله تعالى {أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} وحديث: "كل مولود يولد على الفطرة " فإن ظاهر الآية والحديث أن المعرفة حاصلة بأصل الفطرة، وأن الخروج عن ذلك يطرأ على الشخص لقوله عليه الصلاة والسلام " فأبواه يهودانه وينصرانه " وقد وافق أبو جعفر السمناني وهو من رءوس الأشاعرة على هذا وقال: إن هذه المسألة بقيت في مقالة الأشعري من مسائل المعتزلة؛ وتفرع عليها أن الواجب على كل أحد معرفة الله بالأدلة الدالة عليه، وأنه لا يكفي التقليد في ذلك انتهى. وقرأت في جزء من كلام شيخ شيخنا الحافظ صلاح الدين العلائي ما ملخصه: أن هذه المسألة مما تناقضت فيها المذاهب وتباينت بين مفرط ومفرط ومتوسط، فالطرف الأول قول من قال يكفي التقليد المحض في إثبات وجود الله تعالى ونفي الشريك عنه، وممن نسب إليه إطلاق ذلك عبيد الله بن الحسن العنبري وجماعة من الحنابلة والظاهرية، ومنهم من بالغ فحرم النظر في الأدلة واستند إلى ما ثبت عن الأئمة الكبار من ذم الكلام كما سيأتي بيانه. والطرف الثاني: قول من وقف صحة إيمان كل أحد على معرفة الأدلة من علم الكلام، ونسب ذلك لأبي إسحاق الأسفرايني. وقال الغزالي: أسرفت طائفة فكفروا عوام المسلمين، وزعموا أن من لم يعرف العقائد الشرعية بالأدلة التي حرروها فهو كافر، فضيقوا رحمة الله الواسعة وجعلوا الجنة مختصة بشر ذمة يسيرة من المتكلمين، وذكر نحوه أبو المظفر بن السمعاني وأطال في الرد على قائله، ونقل عن أكثر أئمة الفتوى أنهم قالوا: لا يجوز أن تكلف العوام اعتقاد الأصول بدلائلها، لأن في ذلك من المشقة أشد من المشقة في تعلم الفروع الفقهية. وأما المذهب المتوسط فذكره وسأذكره ملخصا بعد هذا. وقال القرطبي في المفهم: في شرح حديث: "أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم " الذي تقدم شرحه في أثناء " كتاب الأحكام " وهو في أوائل " كتاب العلم " من صحيح مسلم، هذا الشخص الذي يبغضه الله هو الذي يقصد بخصومته مدافعة الحق ورده بالأوجه الفاسدة والشبه الموهمة، وأشد ذلك الخصومة في أصول الدين، كما يقع لأكثر المتكلمين المعرضين عن الطرق التي أرشد إليها كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وسلف أمته، إلى طرق مبتدعة واصطلاحات مخترعة وقوانين
(13/349)
جدلية وأمور صناعية مدار أكثرها على آراء سوفسطائية، أو مناقضات لفظية ينشأ بسببها على الآخذ فيها شبه ربما يعجز عنها، وشكوك يذهب الإيمان معها، وأحسنهم انفصالا عنها أجدلهم لا أعلمهم، فكم من عالم بفساد الشبهة لا يقوى على حلها، وكم من منفصل عنها لا يدرك حقيقة علمها ثم إن هؤلاء قد ارتكبوا أنواعا من المحال لا يرتضيها البله ولا الأطفال، لما بحثوا عن تحيز الجواهر والألوان والأحوال، فأخذوا فيما أمسك عنه السلف الصالح من كيفيات تعلقات صفات الله تعالى وتعديدها واتحادها في نفسها، وهل هي الذات أو غيرها وفي الكلام: هل هو متحد أو منقسم، وعلى الثاني: هل ينقسم بالنوع أو الوصف، وكيف تعلق في الأزل بالمأمور مع كونه حادثا، ثم إذا انعدم المأمور هل يبقى التعلق، وهل الأمر لزيد بالصلاة مثلا هو نفس الأمر لعمرو بالزكاة إلى غير ذلك مما ابتدعوه مما لم يأمر به الشارع وسكت عنه الصحابة ومن سلك سبيلهم، بل نهوا عن الخوض فيها لعلمهم بأنه بحث عن كيفية ما لا تعلم كيفيته بالعقل، لكون العقول لها حد تقف عنده، ولا فرق بين البحث عن كيفية الذات وكيفية الصفات، ومن توقف في هذا فليعلم أنه إذا كان حجب عن كيفية نفسه مع وجودها، وعن كيفية إدراك ما يدرك به فهو عن إدراك غيره أعجز، وغاية علم العالم أن يقطع بوجود فاعل لهذه المصنوعات منزه عن الشبيه مقدس عن النظير متصف بصفات الكمال، ثم متى ثبت النقل عنه بشيء من أوصافه وأسمائه قبلناه واعتقدناه وسكتنا عما عداه، كما هو طريق السلف، وما عداه لا يأمن صاحب من الزلل، ويكفي في الردع عن الخوض في طرق المتكلمين ما ثبت عن الأئمة المتقدمين كعمر ابن عبد العزيز ومالك بن أنس والشافعي، وقد قطع بعض الأئمة بأن الصحابة لم يخوضوا في الجوهر والعرض وما يتعلق بذلك من مباحث المتكلمين، فمن رغب عن طريقهم فكفاه ضلالا، قال: وأفضي الكلام بكثير من أهله إلى الشك، وببعضهم إلى الإلحاد وببعضهم إلى التهاون بوظائف العبادات، وسبب ذلك إعراضهم عن نصوص الشارع وتطلبهم حقائق الأمور من غيره، وليس في قوة العقل ما يدرك ما في نصوص الشارع من الحكم التي استأثر بها، وقد رجع كثير من أئمتهم عن طريقهم، حتى جاء عن إمام الحرمين أنه قال: "ركبت البحر الأعظم، وغصت في كل شيء نهى عنه أهل العلم في طلب الحق فرارا من التقليد والآن فقد رجعت واعتقدت مذهب السلف " هذا كلامه أو معناه وعنه أنه قال عند موته " يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام، فلو عرفت أنه يبلغ بي ما بلغت ما تشاغلت به " إلى أن قال القرطبي: ولو لم يكن في الكلام إلا مسألتان هما من مبادئه لكان حقيقا بالذم: إحداهما قول بعضهم إن أول واجب الشك إذ هو اللازم عن وجوب النظر أو القصد إلى النظر، وإليه أشار الإمام بقوله ركبت البحر. ثانيتهما قول جماعة منهم إن من لم يعرف الله بالطرق التي رتبوها والأبحاث التي حرروها لم يصح إيمانه، حتى لقد أورد على بعضهم أن هذا يلزم منه تكفير أبيك وأسلافك وجيرانك، فقال لا تشنع علي بكثرة أهل النار، قال وقد رد بعض من لم يقل بهما على من قال بهما بطريق من الرد النظري وهو خطأ منه، فإن القائل بالمسألتين كافر شرعا، لجعله الشك في الله واجبا، ومعظم المسلمين كفارا حتى يدخل في عموم كلامه السلف الصالح من الصحابة والتابعين، وهذا معلوم الفساد من الدين بالضرورة، وإلا فلا يوجد في الشرعيات ضروري، وختم القرطبي كلامه بالاعتذار عن إطالة النفس في هذا الموضع لما شاع بين الناس من هذه البدعة حتى اغتر بها كثير من الأغمار فوجب بذل النصيحة، والله يهدي من يشاء انتهى. وقال الآمدي في أبكار الأفكار: ذهب أبو هاشم من المعتزلة إلى أن من لا يعرف الله بالدليل فهو كافر، لأن ضد المعرفة النكرة
(13/350)
والنكرة كفر، قال: وأصحابنا مجمعون على خلافه وإنما اختلفوا فيما إذا كان الاعتقاد موافقا لكن عن غير دليل، فمنهم من قال إن صاحبه مؤمن عاص بترك النظر الواجب، ومنهم من اكتفى بمجرد الاعتقاد الموافق وإن لم يكن عن دليل وسماه علما، وعلى هذا فلا يلزم من حصول المعرفة بهذا الطريق وجوب النظر. وقال غيره: من منع التقليد وأوجب الاستدلال لم يرد التعمق في طريق المتكلمين، بل اكتفى بما لا يخلو عنه من نشأ بين المسلمين من الاستدلال بالمصنوع على الصانع، وغايته أنه يحصل في الذهن مقدمات ضرورية تتألف تألفا صحيحا وتنتج العلم، لكنه لو سئل كيف حصل له ذلك ما اهتدى للتعبير به، وقيل الأصل في هذا كله المنع من التقليد في أصول الدين وقد انفصل بعض الأئمة عن ذلك بأن المراد بالتقليد أخذ قول الغير بغير حجة، ومن قامت عليه حجة بثبوت النبوة حتى حصل له القطع بها، فمهما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم كان مقطوعا عنده بصدقه فإذا اعتقده لم يكن مقلدا لأنه لم يأخذ بقول غيره بغير حجة، وهذا مستند السلف قاطبة في الأخذ بما ثبت عندهم من آيات القرآن وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بهذا الباب، فآمنوا بالمحكم من ذلك وفوضوا أمر المتشابه منه إلى ربهم، وإنما قال من قال إن مذهب الخلف أحكم بالنسبة إلى الرد على من لم يثبت النبوة، فيحتاج من يريد رجوعه إلى الحق أن يقيم عليه الأدلة إلى أن يذعن فيسلم أو يعاند فيهلك، بخلاف المؤمن فإنه لا يحتاج في أصل إيمانه إلى ذلك، وليس سبب الأول إلا جعل الأصل عدم الإيمان فلزم إيجاب النظر المؤدي إلى المعرفة وإلا فطريق السلف أسهل من هذا كما تقدم إيضاحه من الرجوع إلى ما دلت عليه النصوص حتى يحتاج إلى ما ذكر من إقامة الحجة على من ليس بمؤمن، فاختلط الأمر على من اشترط ذلك والله المستعان. واحتج بعض من أوجب الاستدلال باتفاقهم على ذم التقليد، وذكروا الآيات والأحاديث الواردة في ذم التقليد، وبأن كل أحد قبل الاستدلال لا يدري أي الأمرين هو الهدي، وبأن كل ما لا يصح إلا بالدليل فهو دعوى لا يعمل بها، وبأن العلم اعتقاد الشيء على ما هو عليه من ضرورة أو استدلال وكل ما لم يكن علما فهو جهل، ومن لم يكن عالما فهو ضال. والجواب عن الأول أن المذموم من التقليد أخذ قول الغير بغير حجة، وهذا ليس منه حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الله أوجب اتباعه في كل ما يقول، وليس العمل فيما أمر به أو نهى عنه داخلا تحت التقليد المذموم اتفاقا، وأما من دونه ممن اتبعه في قول قاله واعتقد أنه لو لم يقله لم يقل هو به فهو المقلد المذموم، بخلاف ما لو اعتقد ذلك في خبر الله ورسوله فإنه يكون ممدوحا، وأما احتجاجهم بأن أحدا لا يدري قبل الاستدلال أي الأمرين هو الهدى فليس بمسلم، بل من الناس من تطمئن نفسه وينشرح صدره للإسلام من أول وهلة، ومنهم من يتوقف على الاستدلال، فالذي ذكروه هم أهل الشق الثاني، فيجب عليه النظر ليقي نفسه النار لقوله تعالى {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} ويجب على كل من استرشده أن يرشده ويبرهن له الحق وعلى هذا مضى السلف الصالح من عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبعده. وأما من استقرت نفسه إلى تصديق الرسول ولم تنازعه نفسه إلى طلب دليل توفيقا من الله وتيسيرا. فهم الذين قال الله في حقهم {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} الآية. وقال {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} الآية وليس هؤلاء مقلدين لآبائهم ولا لرؤسائهم. لأنهم لو كفر آباؤهم أو رؤساؤهم لم يتابعوهم بل يجدون النفرة عن كل من سمعوا عنه ما يخالف الشريعة وأما الآيات والأحاديث فإنما وردت في حق الكفار الذين اتبعوا من نهوا عن اتباعه وتركوا اتباع من أمروا باتباعه. وإنما كلفهم الله الإتيان ببرهان على دعواهم بخلاف المؤمنين فلم يرد قط أنه أسقط أتباعهم حتى يأتوا
(13/351)
بالبرهان. وكل من خالف الله ورسوله فلا برهان له أصلا وإنما كلف الإتيان بالبرهان تبكيتا وتعجيزا. وأما من اتبع الرسول فيما جاء به فقد اتبع الحق الذي أمر به وقامت البراهين على صحته، سواء علم هو بتوجيه ذلك البرهان أم لا. وقول من قال منهم إن الله ذكر الاستدلال وأمر به مسلم لكن هو فعل حسن مندوب لكل من أطاقه، وواجب على كل من لم تسكن نفسه إلى التصديق كما تقدم تقريره وبالله التوفيق. وقال غيره قول من قال طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أحكم ليس بمستقيم، لأنه ظن أن طريقة السلف مجرد الإيمان بألفاظ القرآن والحديث من غير فقه في ذلك، وأن طريقة الخلف هي استخراج معاني النصوص المصروفة عن حقائقها بأنواع المجازات، فجمع هذا القائل بين الجهل بطريقة السلف والدعوى في طريقة الخلف، وليس الأمر كما ظن، بل السلف في غاية المعرفة بما يليق بالله تعالى، وفي غاية التعظيم له والخضوع لأمره والتسليم لمراده، وليس من سلك طريق الخلف واثقا بأن الذي يتأوله هو المراد ولا يمكنه القطع بصحة تأويله، وأما قولهم في العلم فزادوا في التعريف عن ضرورة أو استدلال وتعريف العلم، انتهى عند قوله عليه: فإن أبوا إلا الزيادة فليزدادوا عن تيسير الله له ذلك وخلقه ذلك المعتقد في قلبه، وإلا فالذي زادوه هو محل النزاع فلا دلالة فيه وبالله التوفيق. وقال أبو المظفر بن السمعاني تعقب بعض أهل الكلام قول من قال إن السلف من الصحابة والتابعين لم يعتنوا بإيراد دلائل العقل في التوحيد بأنهم لم يشتغلوا بالتعريفات في أحكام الحوادث وقد قبل الفقهاء ذلك واستحسنوه فدونوه في كتبهم، فكذلك علم الكلام، ويمتاز علم الكلام بأنه يتضمن الرد على الملحدين وأهل الأهواء، وبه تزول الشبهة عن أهل الزيغ ويثبت اليقين لأهل الحق، وقد علم الكل أن الكتاب لم تعلم حقيته، والنبي لم يثبت صدقه إلا بأدلة العقل، وأجاب: أما أولا فإن الشارع والسلف الصالح نهوا عن الابتداع وأمروا بالاتباع، وصح عن السلف أنهم نهوا عن علم الكلام وعدوه ذريعة للشك والارتياب. وأما الفروع فلم يثبت عن أحد منهم النهي عنها إلا من ترك النص الصحيح وقدم عليه القياس، وأما من اتبع النص وقاس عليه فلا يحفظ عن أحد من أئمة السلف إنكار ذلك، لأن الحوادث في المعاملات لا تنقضي وبالناس حاجة إلى معرفة الحكم، فمن ثم تواردوا على استحباب الاشتغال بذلك بخلاف علم الكلام. وأما ثانيا: فإن الدين كمل لقوله تعالى {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} فإذا كان أكمله وأتمه وتلقاه الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم واعتقده من تلقى عنهم واطمأنت به نفوسهم، فأي حاجة بهم إلى تحكيم العقول والرجوع إلى قضاياها وجعلها أصلا، والنصوص الصحيحة الصريحة تعرض عليها فتارة يعمل بمضمونها، وتارة تحرف عن مواضعها لتوافق العقول. وإذا كان الدين قد كمل فلا تكون الزيادة فيه إلا نقصانا في المعنى، مثل زيادة أصبع في اليد فإنها تنقص قيمة العبد الذي يقع به ذلك، وقد توسط بعض المتكلمين فقال: لا يكفي التقليد بل لا بد من دليل ينشرح به الصدر. وتحصل به الطمأنينة العلمية، ولا يشترط أن يكون بطريق الصناعة الكلامية بل يكفي في حق كل أحد بحسب ما يقتضيه فهمه انتهى. والذي تقدم ذكره من تقليد النصوص كاف في هذا القدر. وقال بعضهم المطلوب من كل أحد التصديق الجزمي الذي لا ريب معه بوجود الله تعالى والإيمان برسله وبما جاءوا به كيفما حصل وبأي طريق إليه يوصل، ولو كان عن تقليد محض إذا سلم من التزلزل. قال القرطبي: هذا الذي عليه أئمة الفتوى ومن قبلهم من أئمة السلف، واحتج بعضهم بما تقدم من القول في أصل الفطرة وبما تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم الصحابة أنهما حكموا بإسلام من أسلم من جفاة العرب ممن كان يعبد الأوثان، فقبلوا منهم الإقرار بالشهادتين، والتزام أحكام
(13/352)
الإسلام من غير إلزام بتعلم الأدلة، وإن كان كثير منهم إنما أسلم لوجود دليل ما، فأسلم بسبب وضوحه له، فالكثير منهم قد أسلموا طوعا من غير تقدم استدلال، بل بمجرد ما كان عندهم من أخبار أهل الكتاب بأن نبيا سيبعث وينتصر على من خالفه، فلما ظهرت لهم العلامات في محمد صلى الله عليه وسلم بادروا إلى الإسلام، وصدقوه في شيء قاله ودعاهم إليه من الصلاة والزكاة وغيرهما، وكثير منهم كان يؤذن له في الرجوع إلى معاشه من رعاية الغنم وغيرها، وكانت أنوار النبوة وبركاتها تشملهم فلا يزالون يزدادون إيمانا ويقينا. وقال أبو المظفر بن السمعاني أيضا ما ملخصه: إن العقل لا يوجب شيئا ولا يحرم شيئا، ولا حظ له في شيء من ذلك، ولو لم يرد الشرع بحكم ما وجب على أحد شيء، لقوله تعالى: {مَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} وقوله: {ئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} وغير ذلك من الآيات. فمن زعم أن دعوة رسل الله عليهم الصلاة والسلام إنما كانت لبيان الفروع، لزمه أن يجعل العقل هو الداعي إلى الله دون الرسول ويلزمه أن وجود الرسول وعدمه بالنسبة إلى الدعاء إلى الله سواء، وكفى بهذا ضلالا. ونحن لا ننكر أن العقل يرشد إلى التوحيد وإنما ننكر أنه يستقل بإيجاب ذلك حتى لا يصح إسلام إلا بطريقه، مع قطع النظر عن السمعيات لكون ذلك خلاف ما دلت عليه آيات الكتاب والأحاديث الصحيحة التي تواترت ولو بالطريق المعنوي، ولو كان يقول أولئك لبطلت السمعيات التي لا مجال للعقل فيها أو أكثرها، بل يجب الإيمان بما ثبت من السمعيات، فإن عقلناه فبتوفيق الله وإلا اكتفينا باعتقاد حقيته على وفق مراد الله سبحانه وتعالى انتهى. ويؤيد كلامه ما أخرجه أبو داود عن ابن عباس " أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنشدك الله الله أرسلك أن نشهد أن لا إله إلا الله وأن ندع اللات والعزى؟ قال: نعم فأسلم " وأصله في الصحيحين في قصة ضمام بن ثعلبة، وفي حديث عمرو بن عبسة عند مسلم أنه " أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال ما أنت؟ قال: نبي الله. قلت: الله أرسلك؟ قال: نعم. قلت: بأي شيء؟ قال: أوحد الله لا أشرك به شيئا " الحديث، وفي حديث أسامة بن زيد في قصة قتله الذي قال لا إله إلا الله فأنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم وحديث المقداد في معناه، وقد تقدما في " كتاب الديات " وفي كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل وكسرى وغيرهما من الملوك يدعوهم إلى التوحيد؛ إلى غير ذلك من الأخبار المتواترة التواتر المعنوي الدال على أنه صلى الله عليه وسلم لم يزد في دعائه المشركين على أن يؤمنوا بالله وحده ويصدقوه فيما جاء به عنه، فمن فعل ذلك قبل منه سواء كان إذعانه عن تقدم نظر أم لا، ومن توقف منهم نبهه حينئذ على النظر، أو أقام عليه الحجة إلى أن يذغن أو يستمر على عناده. وقال البيهقي في " كتاب الاعتقاد " سلك بعض أئمتنا في إثبات الصانع وحدوث العالم طريق الاستدلال بمعجزات الرسالة فإنها أصل في وجوب قبول ما دعا إليه النبي صلى الله عليه وسلم. وعلى هذا الوجه وقع إيمان الذين استجابوا للرسل، ثم ذكر قصة النجاشي وقول جعفر بن أبي طالب له " بعث الله إلينا رسولا نعرف صدقه فدعانا إلى الله وتلا علينا تنزيلا من الله لا يشبهه شيء فصدقناه وعرفنا أن الذي جاء به الحق " الحديث بطوله، وقد أخرجه ابن خزيمة في " كتاب الزكاة " من صحيحه من رواية ابن إسحاق وحاله معروفة وحديثه في درجة الحسن، قال البيهقي فاستدلوا بإعجاز القرآن على صدق النبي، فآمنوا بما جاء به من إثبات الصانع ووجدانيته وحدوث العالم وغير ذلك مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم في القرآن وغيره، واكتفاء غالب من أسلم بمثل ذلك مشهور في الأخبار، فوجب تصديقه في كل شيء ثبت عنه بطريق السمع، ولا يكون ذلك تقليدا بل هو اتباع والله أعلم. وقد استدل من اشترط النظر بالآيات والأحاديث
(13/353)
الواردة في ذلك، ولا حجة فيها لأن من لم يشترط النظر لم ينكر أصل النظر، وإنما أنكر توقف الإيمان على وجود النظر بالطرق الكلامية، إذ لا يلزم من الترغيب في النظر جعله شرطا، واستدل بعضهم بأن التقليد لا يفيد العلم إذ لو أفاده لكان العلم حاصلا لمن قلد في قدم العالم ولمن قلد في حدوثه. وهو محال لإفضائه إلى الجمع بين النقيضين. وهذا إنما يتأتى في تقليد غير النبي صلى الله عليه وسلم. وأما تقليده صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به عن ربه فلا يتناقض أصلا واعتذر بعضهم عن اكتفاء النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة بإسلام من أسلم من الأعراب من غير نظر بأن ذلك كان لضرورة المبادئ. وأما بعد تقرر الإسلام وشهرته فيجب العمل بالأدلة ولا يخفى ضعف هذا الاعتذار والعجب أن من اشترط ذلك من أهل الكلام ينكرون التقليد وهم أول داع إليه حتى استقر في الأذهان أن من أنكر قاعدة من القواعد التي أصلوها فهو مبتدع ولو لم يفهمها ولم يعرف مأخذها وهذا هو محض التقليد فآل أمرهم إلى تكفير من قلد الرسول عليه الصلاة والسلام في معرفة الله تعالى والقول بإيمان من قلدهم وكفى بهذا ضلالا وما مثلهم إلا كما قال بعض السلف: إنهم كمثل قوم كانوا سفرا فوقعوا في فلاة ليس فيها ما يقوم به البدن من المأكول والمشروب ورأوا فيها طرقا شتى فانقسموا قسمين فقسم وجدوا من قال لهم أنا عارف بهذه الطرق وطريق النجاة منها واحدة فاتبعوني فيها تنجوا فتبعوه فنجوا، وتخلفت عنه طائفة فأقاموا إلى أن وقفوا على أمارة ظهر لهم أن في العمل بها النجاة فعملوا بها فنجوا وقسم هجموا بغير مرشد ولا أمارة فهلكوا، فليست نجاة من اتبع المرشد بدون نجاة من أخذ بالأمارة إن لم تكن أول منها، ونقلت من جزء الحافظ صلاح الدين العلائي يمكن أن يفصل فيقال: من لا له أهلية لفهم شيء من الأدلة أصلا وحصل له اليقين التام بالمطلوب إما بنشأته على ذلك أو لنور يقذفه الله في قلبه، فإنه يكتفي منه بذلك، ومن فيه أهلية لفهم الأدلة لم يكتف منه إلا بالإيمان عن دليل، ومع ذلك فدليل كل أحد يحسبه وتكفي الأدلة المجملة التي تحصل بأدنى نظر، ومن حصلت عنده شبهة وجب عليه التعلم إلى أن تزول عنه، قال فبهذا يحصل الجمع بين كلام الطائفة المتوسطة، وأما من غلا فقال لا يكفي إيمان المقلد فلا يلتفت إليه، لما يلزم منه من القول بعدم إيمان أكثر المسلمين، وكذا من غلا أيضا فقال لا يجوز النظر في الأدلة لما يلزم منه من أن أكابر السلف لم يكونوا من أهل النظر انتهى ملخصا. واستدل بقوله: "فإذا عرفوا الله " بأن معرفة الله بحقيقة كنهه ممكنة للبشر، فإن كان ذلك مقيدا بما عرف به نفسه من وجوده وصفاته اللائقة من العلم والقدرة والإرادة مثلا، وتنزيهه عن كل نقيصة كالحدوث فلا بأس به، فأما ما عدا ذلك فإنه غير معلوم للبشر وإليه الإشارة بقوله تعالى: {يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} فإذا حمل قوله فإذا عرفوا الله على ذلك كان واضحا مع أن الاحتجاج به يتوقف على الجزم بأنه صلى الله عليه وسلم نطق بهذه اللفظة وفيه نظر، لأن القصة واحدة ورواة هذا الحديث اختلفوا: هل ورد الحديث بهذا اللفظ أو بغيره؟ فلم يقل صلى الله عليه وسلم إلا بلفظ منها، ومع احتمال أن يكون هذا اللفظ من تصرف الرواة لا يتم الاستدلال، وقد بينت في أواخر " كتاب الزكاة " أن الأكثر رووه بلفظ: "فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك " ومنهم من رواه بلفظ: "فادعهم إلى أن يوحدوا الله، فإذا عرفوا ذلك " ومنهم من رواه بلفظ: "فادعهم إلى عبادة الله، فإذا عرفوا الله " ووجه الجمع بينهما أن المراد بالعبادة: التوحيد، والمراد بالتوحيد: الإقرار بالشهادتين، والإشارة بقوله ذلك إلى التوحيد، وقوله: فإذا عرفوا الله أي عرفوا توحيد الله، والمراد بالمعرفة الإقرار والطواعية فبذلك يجمع بين هذه الألفاظ المختلفة في القصة الواحدة وبالله التوفيق. وفي حديث ابن عباس في الفوائد غير ما تقدم الاقتصار في الحكم
(13/354)
بإسلام الكافر إذا أقر بالشهادتين، فإن من لازم الإيمان بالله ورسوله التصديق بكل ما ثبت عنهما والتزام ذلك، فيحصل ذلك لمن صدق بالشهادتين. وأما ما وقع من بعض المبتدعة من إنكار شيء من ذلك فلا يقدح في صحة الحكم الظاهر، لأنه إن كان مع تأويل فظاهر، وإن كان عنادا قدح في صحة الإسلام، فيعامل بما يترتب عليه من ذلك كإجراء أحكام المرتد وغير ذلك. وفيه قبول خبر الواحد ووجوب العمل به، وتعقب بأن مثل خبر معاذ حفته قرينة أنه في زمن نزول الوحي فلا يستوي مع سائر أخبار الآحاد، وقد مضى في باب إجازة خبر الواحد ما يغني عن إعادته، وفيه أن الكافر إذا صدق بشيء من أركان الإسلام كالصلاة مثلا يصير بذلك مسلما، وبالغ من قال كل شيء يكفر به المسلم إذا جحده يصير الكافر به مسلما إذا اعتقده، والأول أرجح كما جزم به الجمهور، وهذا في الاعتقاد أما الفعل لو صلى فلا يحكم بإسلامه وهو أولى بالمنع لأن الفعل لا عموم له، فيدخله احتمال العبث والاستهزاء. وفيه وجوب أخذ الزكاة ممن وجبت عليه، وقهر الممتنع على بذلها ولو لم يكن جاحدا، فإن كان مع امتناعه ذا شوكة قوتل، وإلا فإن أمكن تعزيره على الامتناع عزر بما يليق به، وقد ورد عن تعزيره بالمال حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده مرفوعا ولفظه: "ومن منعها - يعني الزكاة - فإنا آخذوها، وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا " الحديث أخرجه أبو داود والنسائي وصححه ابن خزيمة والحاكم، وأما ابن حبان فقال في ترجمة بهز بن حكيم لولا هذا الحديث لأدخلته في " كتاب الثقات " وأجاب من صححه ولم يعمل به بأن الحكم الذي دل عليه منسوخ وأن الأمر كان أولا كذلك ثم نسخ، وضعف النووي هذا الجواب من جهة أن العقوبة بالمال لا تعرف أولا حتى يتم دعوى النسخ ولأن النسخ لا يثبت إلا بشرطه كمعرفة التاريخ ولا يعرف ذلك، واعتمد النووي ما أشار إليه ابن حبان من تضعيف بهز وليس يجيد لأنه موثق عند الجمهور حتى قال إسحاق بن منصور عن يحيى بن معين بهز بن حكيم عن أبيه عن جده صحيح إذا كان دون بهز ثقة. وقال الترمذي: تكلم فيه شعبة وهو ثقة عند أهل الحديث، وقد حسن له الترمذي عدة أحاديث، واحتج به أحمد وإسحاق والبخاري خارج الصحيح وعلق له في الصحيح. وقال أبو عبيدة الآجري عن أبي داود وهو عندي حجة لا عند الشافعي فإن اعتمد من قلد الشافعي على هذا كفاه، ويؤيده إطباق فقهاء الأمصار على ترك العمل به فدل على أن له معارضا راجحا، وقول من قال بمقتضاه يعد في ندرة المخالف وقد دل خبر الباب أيضا على أن الذي يقبض الزكاة الإمام أو من أقامه لذلك، وقد أطبق الفقهاء بعد ذلك على أن لأرباب الأموال الباطنة مباشرة الإخراج، وشذ من قال بوجوب الدفع إلى الإمام وهو رواية عن مالك، وفي القديم للشافعي نحوه على تفصيل عنهما فيه. قوله: "عن أبي حصين" بفتح أوله واسمه عثمان بن عاصم الأسدي، والأشعث بن سليم، هو أشعث بن أبي الشعثاء المحاربي، وأبوه مشهور بكنيته أكثر من اسمه. قوله: "أتدري ما حق الله على العباد" تقدم شرحه مستوفى في " كتاب الرقاق " ودخوله في هذا الباب من قوله لا تشركوا به شيئا فإنه المراد بالتوحيد، قال ابن التين يريد بقوله: "حق العباد على الله " حقا علم من جهة الشرع لا بإيجاب العقل فهو كالواجب في تحقيق وقوعه أو هو على جهة المقابلة والمشاكلة، كقوله تعالى: {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ} . فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهَا لَتَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ زَادَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَخْبَرَنِي أَخِي قَتَادَةُ بْنُ النُّعْمَانِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قوله: "حدثنا إسماعيل" هو ابن أبي أويس، وتقدم المتن في فضل {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} في " كتاب فضائل القرآن " من وجه آخر عن مالك مشروحا، وأورده هنا لما صرح به من وصف الله تعالى بالأحدية كما في الذي بعده، وقوله هنا زاد إسماعيل بن جعفر تقدم هناك بزيادة راو في أوله،
(13/355)
فقال: وزاد أبو معمر " حدثنا إسماعيل بن جعفر " وكذا وقع هنا في بعض النسخ، وفي بعضها وقال أبو معمر، وتقدم هناك الاختلاف في المراد بأبي معمر هذا وتسمية من وصله. حديث عمرة عن عائشة فيما يتعلق بسورة الإخلاص أيضا؛ وقد تقدم معلقا في فضائل القرآن. قوله: "حدثنا أحمد بن صالح" كذا للأكثر وبه جزم أبو نعيم في المستخرج وأبو مسعود في الأطراف، ووقع في الأطراف للمزي أن في بعض النسخ " حدثنا محمد حدثنا أحمد بن صالح". قلت: وبذلك جزم البيهقي تبعا لخلف في الأطراق قال خلف: ومحمد هذا أحسبه محمد بن يحيى الذهلي، ووقع عند الإسماعيلي بعد أن ساق الحديث من رواية حرملة عن ابن وهب ذكره البخاري " عن محمد " بلا خبر عن أحمد بن صالح، فكأنه وقع عند الإسماعيلي بلفظ: "قال محمد " وعلى رواية الأكثر فمحمد هو البخاري المصنف، والقائل " قال محمد " هو محمد الفربري وذكر الكرماني هذا احتمالا. قلت: ويحتاج حينئذ إلى إبداء النكتة في إفصاح الفربري به في هذا الحديث دون غيره من الأحاديث الماضية والآتية. قوله: "حدثنا عمرو" هو ابن الحارث المصري و " ابن أبي هلال " هو سعيد وسماه مسلم في روايته. قوله: "بعث رجلا على سرية" تقدم في باب الجمع بين السورتين في ركعة من " كتاب الصلاة " بيان الاختلاف في تسميته " وهل بينه وبين الذي كان يؤم قومه في مسجد قباء مغايرة أو هما واحد وبيان ما يترجح من ذلك". قوله: "فيختم بقل هو الله أحد" قال ابن دقيق العيد هذا يدل على أنه كان يقرأ بغيرها ثم يقرأها في كل ركعة وهذا هو الظاهر، ويحتمل أن يكون المراد أنه يختم بها آخر قراءته فيختص بالركعة الأخيرة، وعلى الأول فيؤخذ منه جواز الجمع بين سورتين في ركعة انتهى. وقد تقدم البحث في ذلك في الباب المذكور من " كتاب الصلاة " بما يغني عن إعادته. قوله: "لأنها صفة الرحمن" قال ابن التين إنما قال إنها صفة الرحمن لأن فيها أسماءه وصفاته، وأسماؤه مشتقة من صفاته. وقال غيره: يحتمل أن يكون الصحابي المذكور قال ذلك مستندا لشيء سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم إما بطريق النصوصية وإما بطريق الاستنباط، وقد أخرج البيهقي في " كتاب الأسماء والصفات " بسند حسن عن ابن عباس " أن اليهود أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا صف لنا ربك الذي تعبد " فأنزل الله عز وجل : {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} إلى آخرها، فقال: "هذه صفة ربي عز وجل " وعن أبي بن كعب قال: قال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم أنسب لنا ربك، فنزلت سورة الإخلاص الحديث، وهو عند ابن خزيمة في " كتاب التوحيد " وصححه الحاكم " وفيه أنه ليس شيء يولد إلا يموت وليس شيء يموت إلا يورث، والله لا يموت ولا يورث، ولم يكن له شبه ولا عدل، وليس كمثله شيء". قال البيهقي: معنى قوله ليس كمثله شيء ليس كهو شيء، قاله أهل اللغة قال ونظيره قوله تعالى :{فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ} يريد بالذي آمنتم به وهي قراءة ابن عباس، قال: والكاف في قوله: "كمثله " للتأكيد، فنفى الله عنه المثلية بآكد ما يكون من النفي، وأنشد لورقة بن نوفل في زيد بن عمرو بن نفيل من أبيات: "ودينك دين ليس دين كمثله " ثم أسند عن ابن عباس في قوله تعالى :{وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} يقول ليس كمثله شيء. وفي قوله: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} هل تعلم له شبها أو مثلا، وفي حديث الباب حجة لمن أثبت أن لله صفة وهو قول الجمهور، وشذ ابن حزم فقال هذه لفظة اصطلح عليها أهل الكلام من المعتزلة ومن تبعهم، ولم تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه، فإن اعترضوا بحديث الباب فهو من أفراد سعيد بن أبي هلال وفيه ضعف، قال: وعلى تقدير صحته فقل هو الله أحد صفة الرحمن كما جاء في هذا الحديث، ولا يزاد عليه بخلاف الصفة التي يطلقونها فإنها في لغة العرب لا تطلق إلا على
(13/356)
جوهر أو عرض كذا قال، وسعيد متفق على الاحتجاج به فلا يلتفت إليه في تضعيفه، وكلامه الأخير مردود باتفاق الجميع على إثبات الأسماء الحسنى، قال الله تعالى :{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} وقال بعد أن ذكر منها عدة أسماء في آخر سورة الحشر {لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} والأسماء المذكورة فيها بلغة العرب صفات ففي إثبات أسمائه إثبات صفاته، لأنه إذا ثبت أنه حي مثلا فقد وصف بصفة زائدة على الذات وهي صفة الحياة، ولولا ذلك لوجب الاقتصار على ما ينبئ عن وجود الذات فقط، وقد قاله سبحانه وتعالى: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} فنزه نفسه عما يصفونه به من صفة النقص، ومفهومه أن وصفه بصفة الكمال مشروع، وقد قسم البيهقي وجماعة من أئمة السنة جميع الأسماء المذكورة في القرآن وفي الأحاديث الصحيحة على قسمين: أحدهما صفات ذاته: وهي ما استحقه فيما لم يزل ولا يزال، والثاني صفات فعله: وهي ما استحقه فيما لا يزال دون الأزل، قال ولا يجوز وصفه إلا بما دل عليه الكتاب والسنة الصحيحة الثابتة أو أجمع عليه، ثم منه ما اقترنت به دلالة العقل كالحياة والقدرة والعلم والإرادة والسمع والبصر والكلام من صفات ذاته، وكالخلق والرزق والإحياء والإماتة والعفو والعقوبة من صفات فعله، ومنه ما ثبت بنص الكتاب والسنة كالوجه واليد والعين من صفات ذاته، وكالاستواء والنزول والمجيء من صفات فعله، فيجوز إثبات هذه الصفات له لثبوت الخبر بها على وجه ينفي عنه التشبيه، فصفة ذاته لم تزل موجودة بذاته ولا تزال، وصفة فعله ثابتة عنه ولا يحتاج في الفعل إلى مباشرة {إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون} وقال القرطبي في المفهم: اشتملت {قل هو الله أحد} على اسمين يتضمنان جميع أوصاف الكمال: وهما الأحد والصمد، فإنهما يدلان على أحدية الذات المقدسة الموصوفة بجميع أوصاف الكمال، فإن الواحد والأحد وان رجعا إلى أصل واحد فقد افترقا استعمالا وعرفا، فالوحدة راجعة إلى نفي التعدد والكثرة، والواحد أصل العدد من غير تعرض لنفي ما عداه والأحد يثبت مدلوله ويتعرض لنفي ما سواه، ولهذا يستعملونه في النفي ويستعملون الواحد في الإثبات، يقال ما رأيت أحدا ورأيت واحدا فالأحد في أسماء الله تعالى مشعر بوجوده الخاص به الذي لا يشاركه فيه غيره، وأما الصمد فإنه يتضمن جميع أوصاف الكمال لأن معناه الذي انتهى سؤدده بحيث يصمد إليه في الحوائج كلها وهو لا يتم حقيقة إلا لله، قال ابن دقيق العيد قوله: "لأنها صفة الرحمن " يحتمل أن يكون مراده أن فيها ذكر صفة الرحمن كما لو ذكر وصف فعبر عن الذكر بأنه الوصف وإن لم يكن نفس الوصف ويحتمل غير ذلك إلا أنه لا يختص ذلك بهذه السورة لكن لعل تخصيصها بذلك لأنه ليس فيها إلا صفات الله سبحانه وتعالى فاختصت بذلك دون غيرها. قوله: "أخبروه أن الله يحبه" قال ابن دقيق العيد: يحتمل أن يكون سبب محبة الله له محبته لهذه السورة، ويحتمل أن يكون لما دل عليه كلامه لأن محبته لذكر صفات الرب دالة على صحة اعتقاده، قال المازري ومن تبعه: محبة الله لعباده إرادته ثوابهم وتنعيمهم، وقيل هي نفس الإثابة والتنعيم؛ ومحبتهم له لا يبعد فيها الميل منهم إليه وهو مقدس عن الميل، وقيل محبتهم له استقامتهم على طاعته، والتحقيق أن الاستقامة ثمرة المحبة وحقيقة المحبة له ميلهم إليه لاستحقاقه سبحانه المحبة من جميع وجوهها انتهى. وفيه نظر لما فيه من الإطلاق في موضع التقييد. وقال ابن التين: معنى محبة المخلوقين لله إرادتهم أن ينفعهم. وقال القرطبي في المفهم: محبة الله لعبده تقريبه له وإكرامه وليست بميل ولا غرض كما هي من العبد، وليست محبة العبد لربه نفس الإرادة بل هي شيء زائد عليها، فإن المرء يجد من نفسه أنه يحب ما لا يقدر على اكتسابه ولا على تحصيله، والإرادة هي التي تخصص الفعل ببعض وجوهه الجائزة ويحس من
(13/357)
نفسه أنه يحب الموصوفين بالصفات الجميلة والأفعال الحسنة كالعلماء والفضلاء والكرماء وإن لم يتعلق له بهم إرادة مخصصة، وإذا صح الفرق فالله سبحانه وتعالى محبوب لمحبيه على حقيقة المحبة كما هو معروف عند من رزقه الله شيئا من ذلك، فنسأل الله تعالى أن يجعلنا من محبيه المخلصين. وقال البيهقي: المحبة والبغض عند بعض أصحابنا من صفات الفعل، فمعنى محبته إكرام من أحبه ومعنى بغضه إهانته، وأما ما كان من المدح والذم فهو من قوله، وقوله من كلامه، وكلامه من صفات ذاته فيرجع إلى الإرادة؛ فمحبته الخصال المحمودة، وفاعلها يرجع إلى إرادته إكرامه، وبغضه الخصال المذمومة، وفاعلها يرجع إلى إرادته إهانته.
(13/358)
2 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {قُلْ ادْعُوا
اللَّهَ أَوْ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ
الْحُسْنَى}
7376 -حدثنا محمد أخبرنا أبو معاوية عن الأعمش عن زيد بن وهب وأبي ظبيان عن جرير
بن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يرحم الله من لا يرحم
الناس"
7377 - حدثنا أبو النعمان حدثنا حماد بن زيد عن عاصم الأحول عن أبي عثمان النهدي
عن أسامة بن زيد قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رسول إحدى بناته
تدعوه إلى ابنها في الموت فقال النبي صلى الله عليه وسلم ارجع فأخبرها أن لله ما
أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى فمرها فلتصبر ولتحتسب فأعادت الرسول أنها
أقسمت لتأتينها فقام النبي صلى الله عليه وسلم وقام معه سعد بن عبادة ومعاذ بن جبل
فدفع الصبي إليه ونفسه تقعقع كأنها في شن ففاضت عيناه فقال له سعد يا رسول الله ما
هذا قال هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده وإنما يرحم الله من عباده
الرحماء"
قوله: "باب قول الله تبارك وتعالى :{قُلْ ادْعُوا اللَّهَ أَوْ ادْعُوا
الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} ذكر فيه حديث
جرير " لا يرحم الله من لا يرحم الناس " وقد تقدم شرحه مستوفى في "
كتاب الأدب " وحديث أسامة بن زيد في قصة ولد بنت رسول الله صلى الله عليه
وسلم ورضي عنها، وفيه: "ففاضت عيناه " وفيه: "هذه رحمة جعلها الله
تعالى في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء " وقد تقدم شرحه
مستوفى في " كتاب الجنائز " قال ابن بطال: غرضه في هذا الباب إثبات الرحمة
وهي من صفات الذات فالرحمن وصف الله تعالى به نفسه وهو متضمن لمعنى الرحمة كما
تضمن وصفه بأنه عالم معنى العلم إلى غير ذلك، قال والمراد برحمته إرادته نفع من
سبق في علمه أنه ينفعه، قال وأسماؤه كلها ترجع إلى ذات واحدة وإن دل كل واحد منها
على صفة من صفاته يختص الاسم بالدلالة عليها، وأما الرحمة التي جعلها في قلوب
عباده فهي من صفات الفعل، وصفها بأنه خلقها في قلوب عباده، وهي رقة على المرحوم،
وهو سبحانه وتعالى منزه عن الوصف بذلك فتتأول بما يليق به. وقال ابن التين:
"الرحمن والرحيم " مشتقان من الرحمة وقيل هما اسمان من غير اشتقاق، وقيل
يرجعان إلى معنى الإرادة، فرحمته إرادته تنعيم من يرحمه، وقيل راجعان إلى تركه
عقاب من يستحق العقوبة. وقال الحليمي: معنى " الرحمن " أنه مزيح العلل
لأنه لما أمر بعبادته بين حدودها وشروطها فبشر وأنذر وكلف ما تحمله بنيتهم فصارت
العلل عنهم مزاحة والحجج منهم منقطعة، قال ومعنى " الرحيم "
(13/358)
أنه المثيب على العمل فلا يضيع لعامل أحسن عملا، بل يثيب العامل بفضل رحمته أضعاف عمله. وقال الخطابي: ذهب الجمهور إلى أن " الرحمن " مأخوذ من الرحمة مبني على المبالغة ومعناه ذو الرحمة لا نظير له فيها، ولذلك لا يثنى ولا يجمع، واحتج له البيهقي بحديث عبد الرحمن بن عوف، وفيه خلقت الرحم وشققت لها اسما من اسمي. قلت: وكذا حديث الرحمة الذي اشتهر بالمسلسل بالأولية، أخرجه البخاري في التاريخ وأبو داود والترمذي والحاكم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص بلفظ: "الراحمون يرحمهم الرحمن " الحديث، ثم قال الخطابي: "فالرحمن " ذو الرحمة الشاملة للخلق " والرحيم " فعيل بمعنى فاعل وهو خاص بالمؤمنين، قال تعالى :{وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} وأورد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "الرحمن والرحيم " اسمان رقيقان أحدهما أرق من الآخر، وعن مقاتل أنه نقل عن جماعة من التابعين مثله، وزاد: "فالرحمن " بمعنى المترحم، والرحيم بمعنى المتعطف، ثم قال الخطابي لا معنى لدخول الرقة في شيء من صفات الله تعالى، وكأن المراد بها اللطف ومعناه الغموض لا الصغر الذي هو من صفات الأجسام. قلت: والحديث المذكور عن ابن عباس لا يثبت لأنه من رواية الكلبي عن ابن صالح عنه، والكلبي متروك الحديث وكذلك مقاتل، ونقل البيهقي عن الحسين بن المفضل البجلي أنه نسب راوي حديث ابن عباس إلى التصحيف وقال إنما هو الرفيق بالفاء وقواه البيهقي بالحديث الذي أخرجه مسلم عن عائشة مرفوعا: "إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطى عليه ما لا يعطي على العنف " وأورد له شاهدا من حديث عبد الله بن مغفل ومن طريق عبد الرحمن بن يحيى ثم قال و " الرحمن " خاص في التسمية عام في الفعل، و " الرحيم " عام في التسمية خاص في الفعل، واستدل بهذه الآية، على أن من حلف باسم من أسماء الله تعالى كالرحمن والرحيم انعقدت يمينه، وقد تقدم في موضعه، وعلى أن الكافر إذا أقر بالوحدانية للرحمن مثلا حكم بإسلامه، وقد خص الحليمي من ذلك ما يقع به الاشتراك كما لو قال الطبائعي، لا إله إلا المحي المميت، فإنه لا يكون مؤمنا حتى يصرح باسم لا تأويل فيه، ولو قال من ينسب إلى التجسيم من اليهود لا إله إلا الذي في السماء لم يكن مؤمنا كذلك، إلا إن كان عاميا لا يفقه معنى التجسيم فيكتفي منه بذلك كما في قصة الجارية التي سألها النبي صلى الله عليه وسلم أنت مؤمنة، قالت نعم، قال فأين الله؟ قالت في السماء، فقال أعتقها فإنها مؤمنة ، وهو حديث صحيح أخرجه مسلم. وإن من قال لا إله إلا الرحمن حكم بإسلامه إلا إن عرف أنه قال ذلك عنادا وسمى غير الله رحمانا كما وقع لأصحاب مسيلمة الكذاب، قال الحليمي ولو قال اليهودي لا إله إلا الله لم يكن مسلما حتى يقر بأنه ليس كمثله شيء، ولو قال الوثني لا إله إلا الله وكان يزعم أن الصنم يقربه إلى الله لم يكن مؤمنا حتى تبرأ من عبادة الصنم. تنبيهان: أحدهما الذي يظهر من تصرف البخاري في " كتاب التوحيد " أنه يسوق الأحاديث التي وردت في الصفات المقدسة فيدخل كل حديث منها في باب ويؤيده بآية من القرآن للإشارة إلى خروجها عن أخبار الآحاد على طريق التنزل في ترك الاحتجاج بها في الاعتقاديات، وإن من أنكرها خالف الكتاب والستة جميعا، وقد أخرج ابن أبي حاتم في " كتاب الرد على الجهمية " بسند صحيح عن سلام بن أبي مطيع وهو شيخ شيوخ البخاري أنه ذكر المبتدعة فقال: ويلهم ماذا ينكرون من هذه الأحاديث، والله ما في الحديث شيء إلا وفي القرآن مثله، يقول الله تعالى :{إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ - وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ - َالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ - مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ - وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً - الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ونحو ذلك فلم يزل - أي سلام بن مطيع - يذكر الآيات من العصر إلى غروب الشمس؛ وكأنه لمح
(13/359)
في هذه الترجمة بهذه الآية إلى ما ورد في سبب نزولها، وهو ما أخرجه ابن مردويه بسند ضعيف عن ابن عباس أن المشركين سمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو يا الله يا رحمن، فقالوا كان محمد يأمرنا بدعاء إله واحد وهو يدعو إلهين فنزلت. وأخرج عن عائشة بسند آخر نحوه، الثاني قوله في السند الأول حدثنا محمد كذا للأكثر قال الكرماني تبعا لأبي علي الجياني هو إما ابن سلام وإما ابن المثنى انتهى. وقد وقع التصريح بأنه ابن سلام في رواية أبي ذر عن شيوخه فتعين الجزم به كما صنع المزي في الأطراف، فإنه قال ح عن محمد وهو ابن سلام. قلت: ويؤيده أنه عبر بقوله: "أنبأنا أبو معاوية " ولو كان ابن المثنى لقال: "حدثنا " لما عرف من عادة كل منهما والله أعلم.
(13/360)
3 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {إِنَّ اللَّهَ هُوَ
الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ}
7378 - حَدَّثَنَا عَبْدَانُ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ سَعِيدِ
بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ عَنْ أَبِي مُوسَى
الأَشْعَرِيِّ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَا أَحَدٌ أَصْبَرُ
عَلَى أَذًى سَمِعَهُ مِنْ اللَّهِ يَدَّعُونَ لَهُ الْوَلَدَ ثُمَّ يُعَافِيهِمْ
وَيَرْزُقُهُمْ
قوله: "باب قول الله تعالى { إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين} كذا لأبي ذر
والأصيلي والحفصوي على وفق القراءة المشهورة، وكذا هو عند النسفي، وعليه جرى
الإسماعيلي، ووقع في رواية القابسي " إني أنا الرزاق " إلخ وعليه جرى
ابن بطال وتبعه ابن المنير والكرماني وجزم به الصغاني، وزعم أن الذي وقع عند أبي
ذر وغيره من تغييرهم لظنهم أنه خلاف القراءة، قال: وقد ثبت ذلك قراءة عن ابن
مسعود. قلت: وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرأه كذلك كما أخرجه أحمد وأصحاب
السنن وصححه الحاكم من طريق عبد الرحمن بن يريد النخعي، عن ابن مسعود قال: أقرأني
رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره قال أهل التفسير: المعنى في وصفه بالقوة أنه
القادر البليغ الاقتدار على كل شيء. قوله: "عن أبي حمزة" بالمهملة
والزاي هو السكري وفي السند ثلاثة من التابعين في نسق كلهم كوفيون. قوله: "ما
أحد أصبر على أذى سمعه من الله" الحديث وقد تقدم شرحه في " كتاب الأدب
" والغرض منه قوله هنا " ويرزقهم " وقوله: "يدعون "
بسكون الدال وجاء تشديدها، قال ابن بطال: تضمن هذا الباب صفتين لله تعالى: صفة
ذات، وصفة فعل، فالرزق فعل من أفعاله تعالى فهو من صفات فعله لأن رازقا يقتضي
مرزوقا، والله سبحانه وتعالى كان ولا مرزوق وكل ما لم يكن ثم كان فهو محدث والله
سبحانه موصوف بأنه الرزاق ووصف نفسه بذلك قبل خلق الخلق، بمعنى أنه سيرزق إذا خلق
المرزوقين، والقوة من صفات الذات وهي بمعنى القدرة، ولم يزل سبحانه وتعالى ذا قوة
وقدرة، ولم تزل قدرته موجودة قائمة به موجبة له حكم القادرين. والمتين بمعنى القوى
وهو في اللغة الثابت الصحيح وقال البيهقي: القوي التام القدرة لا ينسب إليه عجز في
حالة من الأحوال، ويرجع معناه إلى القدرة والقادر، هو الذي له القدرة الشاملة
والقدرة صفة له قائمة بذاته، والمقتدر هو التام القدرة الذي لا يمتنع عليه شيء. في
الحديث رد على من قال إنه قادر بنفسه لا بقدرة لأن القوة بمعنى القدرة، وقد قال
تعالى :{ذُو الْقُوَّةِ} وزعم المعتزلي أن المراد بقوله ذو القوة: الشديد القوة
والمعنى في وصفه بالقوة والمتانة أنه القادر البليغ الاقتدار، فجرى على طريقهم في
أن القدرة نفسية، خلافا لقول أهل السنة أنها صفة قائمة به متعلقة بكل مقدور وقال
غيره: كون القدرة قديمة
(13/360)
وإفاضة الرزق حادثة لا يتنافيان لأن الحادث هو التعلق وكونه رزق المخلوق بعد وجوده لا يستلزم التغير فيه لأن التغير في التعلق فإن قدرته لم تكن متعلقة بإعطاء الرزق بل بكونه سيقع، ثم لما وقع تعلقت به من غير أن تتغير الصفة في نفس الأمر، ومن ثم نشأ الاختلاف: هل القدرة من صفات الذات أو من صفات الأفعال؟ فمن نظر في القدرة إلى الاقتدار على إيجاد الرزق قال هي صفة ذات قديمة، ومن نظر إلى تعلق القدرة قال هي صفة فعل حادثة، ولا استحالة في ذلك في الصفات الفعلية والإضافية بخلاف الذاتية، وقوله في الحديث: "أصبر " أفعل تفضيل من الصبر ومن أسمائه الحسنى سبحانه وتعالى: الصبور ومعناه الذي لا يعاجل العصاة بالعقوبة، وهو قريب من معنى الحليم، والحليم أبلغ في السلامة من العقوبة، والمراد بالأذى أذى رسله وصالحي عباده لاستحالة تعلق أذى المخلوقين به لكونه صفة نقص وهو منزه عن كل نقص، ولا يؤخر النقمة قهرا بل تفضلا، وتكذيب الرسل في نفي الصاحبة والولد عن الله أذى لهم، فأضيف الأذى لله تعالى للمبالغة في الإنكار عليهم والاستعظام لمقالتهم، ومنه قوله تعالى :{إن الذين يؤذون الله ورسوبه لعنهم الله في الدنيا والآخرة} فإن معناه يؤذون أولياء الله وأولياء ورسوله، فأقيم المضاف مقام المضاف إليه، قال ابن المنير وجه مطابقة الآية للحديث اشتماله على صفتي الرزق والقوة الدالة على القدرة، أما الرزق فواضح من قوله: "ويرزقهم" وأما القوة فمن قوله: "أصبر" فإن فيه إشارة إلى القدرة على الإحسان إليهم مع إساءتهم، بخلاف طبع البشر فإنه لا يقدر على الإحسان إلى المسيء إلا من جهة تكلفه ذلك شرعا، وسبب ذلك أن خوف الفوت يحمله على المسارعة إلى المكافأة بالعقوبة، والله سبحانه وتعالى قادر على ذلك حالا ومالا لا يعجزه شيء ولا يفوته.
(13/361)
4 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ
يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا وَ إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَ
أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ
بِعِلْمِهِ إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ} قَالَ يَحْيَى الظَّاهِرُ عَلَى
كُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا وَالْبَاطِنُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا
7379 - حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلاَلٍ
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"مَفَاتِيحُ الْغَيْبِ خَمْسٌ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ اللَّهُ لاَ يَعْلَمُ
مَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ إِلاَّ اللَّهُ وَلاَ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ إِلاَّ اللَّهُ
وَلاَ يَعْلَمُ مَتَى يَأْتِي الْمَطَرُ أَحَدٌ إِلاَّ اللَّهُ وَلاَ تَدْرِي
نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِلاَّ اللَّهُ وَلاَ يَعْلَمُ مَتَى تَقُومُ
السَّاعَةُ إِلاَّ اللَّهُ
7380 - حدثنا محمد بن يوسف حدثنا سفيان عن إسماعيل عن الشعبي عن مسروق عن عائشة رضي
الله عنها قالت: من حدثك أن محمدا صلى الله عليه وسلم رأى ربه فقد كذب وهو يقول
{لا تدركه الأبصار} ومن حدثك أنه يعلم الغيب فقد كذب وهو يقول {لا يعلم الغيب إلا
الله}
قوله: "باب قول الله تعالى {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا - وإن الله
عنده علم الساعة - وأنزله بعلمه - وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه - إليه يرد
علم الساعة} أما الآية الأولى فسيأتي شيء من الكلام عليها في آخر
(13/361)
شرحه، وأما الآية الثانية فمضى الكلام عليها في تفسير سورة لقمان عند شرح ابن عمر المذكور هنا، وأما الآية الثالثة فمن الحجج البينة في إثبات العلم لله، وحرفه المعتزلي نصرة لمذهبه، فقال أنزله ملتبسا بعلمه الخاص، وهو تأليفه على نظم وأسلوب يعجز عنه كل بليغ، وتعقب بأن نظم العبارات ليس هو نفس العلم القديم بل دال عليه، ولا ضرورة تحوج إلى الحمل على غير الحقيقة التي هي الإخبار عن علم الله الحقيقي وهو من صفات ذاته. وقال المعتزلي أيضا أنزله بعلمه وهو عالم، فأول علمه بعالم فرارا من إثبات العلم له مع تصريح الآية به، وقد قال تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} وتقدم في قصة موسى والخضر " ما علمي وعلمك في علم الله " ووقع حديث الاستخارة الماضي في الدعوات " الهم إني أستخيرك بعلمك " وأما الآية الرابعة فهي كالأولى في إثبات العلم وأصرح. وقال المعتزلي قوله: "بعلمه " في موضع الحال أي لا معلومة بعلمه فتعسف فيما أول وعدل عن الظاهر بغير موجب، وأما الآية الخامسة فقال الطبري معناها: لا يعلم متى وقت قيامها غيره فعلى هذا فالتقدير إليه يرد علم وقت الساعة، قال ابن بطال: في هذه الآيات إثبات علم الله تعالى وهو من صفات ذاته، خلافا لمن قال إنه عالم بلا علم، ثم إذا ثبت أنه علمه قديم وجب تعلقه بكل معلوم على حقيقته بدلالة هذه الآيات، وبهذا التقرير يرد عليهم في القدرة والقوة والحياة وغيرها. وقال غيره ثبت أن الله مريد بدليل تخصيص الممكنات بوجود ما وجد منها بدلا من عدمه، وعدم المعدوم منها بدلا من وجوده، ثم إما أن يكون فعله لها بصفة يصح منه بها التخصيص والتقديم والتأخير أولا، والثاني لو كان فاعلا لها لا بالصفة المذكورة، لزم صدور الممكنات عنه صدورا واحدا بغير تقديم وتأخير ولا تطوير، ولكان يلزم قدمها ضرورة استحالة تخلف المقتضي على مقتضاه الذاتي، فيلزم كون الممكن واجبا، والحادث قديما وهو محال، فثبت أنه فاعل بصفة يصح منه بها التقديم والتأخير فهذا برهان المعقول وأما برهان المنقول فآي من القرآن كثيرة كقوله تعالى :{إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} ثم الفاعل للمصنوعات بخلقه بالاختيار يكون متصفا بالعلم والقدرة لأن الإرادة وهي الاختيار مشروطة بالعلم بالمراد، ووجود المشروط بدون شرطه محال ولأن المختار للشيء إن كان غيره قادرا عليه تعذر عليه صدور مختاره، ومراده ولما شوهدت المصنوعات صدرت عن فاعلها المختار من غير تعذر علم قطعنا أنه قادر على إيجادها، وسيأتي مزيد الكلام في الإرادة في باب " المشيئة والإرادة " بعد نيف وعشرين بابا. وقال البيهقي بعد أن ذكر الآيات المذكورة في الباب وغيرها مما هو في معناها، كان أبو إسحاق الإسفرايني يقول: معنى العليم يعلم المعلومات ومعنى الخبير يعلم ما كان قبل أن يكون؛ ومعنى الشهيد يعلم الغائب كما يعلم الحاضر ومعنى المحصي لا تشغله الكثرة عن العلم، وساق عن ابن عباس في قوله تعالى :{يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} قال يعلم ما أسر العبد نفسه وما أخفى عنه مما سيفعله قبل أن يفعله ومن وجه آخر عن ابن عباس قال: يعلم السر الذي في نفسك ويعلم ما ستعمل غدا. قوله: "قال الظاهر على كل شيء علما والباطن على كل شيء علما" " يحيى " هذا هو ابن زياد الفراء النحوي المشهور ذكر ذلك في " كتاب معاني القرآن " له. وقال غيره: معنى الظاهر الباطن العالم بظواهر الأشياء وبواطنها، وقيل الظاهر بالأدلة الباطن بذاته، وقيل الظاهر بالعقل الباطن بالحس، وقيل معنى الظاهر العالي على كل شيء لأن من غلب على شيء ظهر عليه وعلاه، والباطن الذي بطن في كل شيء أي علم باطنه وشمل قوله أي كل شيء علم ما كان وما سيكون على سبيل الإجمال والتفصيل، لأن خالق المخلوقات كلها بالاختيار متصف بالعلم بهم والاقتدار عليهم، أما أولا فلأن الاختيار مشروط بالعلم، ولا يوجد
(13/362)
المشروط دون شرطه، وأما ثانيا فلأن المختار للشيء لو كان غير قادر عليه لتعذر مراده وقد وجدت بغير تعذر فدل على أنه قادر على إيجادها، وإذا تقرر ذلك لم يتخصص علمه في تعلقه بمعلوم دون معلوم لوجوب قدمه المنافي لقبول التخصيص، فثبت أنه يعلم الكليات لأنها معلومات، والجزئيات لأنها معلومات أيضا، ولأنه مريد لإيجاد الجزئيات والإرادة للشيء المعين إثباتا ونفيا مشروطة بالعلم بذلك المراد الجزئي فيعلم المرئيات للرائين ورؤيتهم لها على الوجه الخاص، وكذا المسموعات وسائر المدركات لما علم ضرورة من وجوب الكمال له وأضداد هذه الصفات نقص، والنقص ممتنع عليه سبحانه وتعالى، وهذا القدر كاف من الأدلة العقلية، وضل من زعم من الفلاسفة أنه سبحانه وتعالى يعلم الجزئيات على الوجه الكلي لا الجزئي، واحتجوا بأمور فاسدة منها أن ذلك يؤدي إلى محال وهو تغير العلم فإن الجزئيات زمانية تتغير بتغير الزمان والأحوال، والعلم تابع للمعلومات في الثبات والتغير فيلزم تغير علمه، والعلم قائم بذاته فتكون محلا للحوادث وهو محال، والجواب أن التغير إنما وقع في الأحوال الإضافية، وهذا مثل رجل قام عن يمين الاسطوانة ثم عن يسارها ثم أمامها ثم خلفها، فالرجل هو الذي يتغير والاسطوانة بحالها، فالله سبحانه وتعالى عالم بما كنا عليه أمس وبما نحن عليه الآن وبما نكون عليه غدا، وليس هذا خبرا عن تغير علمه بل التغير جار على أحوالنا وهو عالم في جميع الأحوال على حد واحد، وأما السمعية فالقرآن العظيم طافح بما ذكرناه مثل قوله تعالى: {َأحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} وقال: "لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر" وقال تعالى :{إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ} وقوله تعالى :{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} ولهذه النكتة أورد المصنف حديث ابن عمر في مفاتيح الغيب وقد تقدم شرحه في " كتاب التفسير " ثم ذكر حديث عائشة مختصرا، وقوله فيه: "ومن حدثك أنه يعلم الغيب فقد كذب " وهو يقول: "لا يعلم الغيب إلا الله" كذا وقع في هذه الرواية عن " محمد بن يوسف " وهو الفريابي، وعن " سفيان " وهو الثوري، عن " إسماعيل " وهو ابن أبي خالد. وقد تقدم في تفسير سورة النجم من طريق وكيع إسماعيل بلفظ: "ومن حدثك أنه يعلم ما في غد فقد كذب " ثم قرأت {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً} وذكر هذه الآية أنسب في هذا الباب لموافقته حديث ابن عمر الذي قبله لكنه جرى على عادته التي أكثر منها من اختيار الإشارة على صريح العبارة، وتقدم شرح ما يتعلق بالرؤية في تفسير سورة النجم، وما يتعلق بعلم الغيب في سورة لقمان، وتقدم في تفسير سورة المائدة بهذا السند " من حدثك أن محمدا كتم شيئا " وأحلت بشرحه على " كتاب التوحيد " وسأذكره إن شاء الله تعالى في باب: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} ونقل ابن التين عن الداودي قال قوله في هذا الطريق " من حدثك أن محمدا يعلم الغيب " ما أظنه محفوظا وما أحد يدعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعلم من الغيب إلا ما علم انتهى. وليس في الطريق المذكورة هنا التصريح بذكر محمد صلى الله عليه وسلم وإنما وقع فيه بلفظ: "من حدثك أنه يعلم " وأظنه بني على أن الضمير في قول عائشة " من حدثك " أنه لمحمد صلى الله عليه وسلم لتقدم ذكره في الذي قبله حيث قالت: "من حدثك أن محمدا رأى ربه " ثم قالت: "ومن حدثك أنه يعلم ما في غد " ويعكر عليه أنه وقع في رواية إبراهيم النخعي عن مسروق عن عائشة قالت: "ثلاث من قال واحدة منهن فقد أعظم على الله الفرية: من زعم أنه يعلم ما في غد " الحديث
(13/363)
أخرجه النسائي وظاهر هذا السياق أن الضمير للزاعم، ولكن ورد التصريح بأنه لمحمد صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه ابن خزيمة وابن حبان من طريق عبد ربه بن سعيد عن داود بن أبي هند عن الشعبي بلفظ: "أعظم الفرية على الله من قال إن محمدا رأى ربه، وأن محمدا كتم شيئا من الوحي، وأن محمدا يعلم ما في غد " وهو عند مسلم من طريق إسماعيل بن إبراهيم عن داود وسياقه أتم، ولكن قال فيه: "ومن زعم أنه يخبر بما يكون في غد " هكذا بالضمير، كما في رواية إسماعيل معطوفا على " من زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتم شيئا " وما ادعاه من النفي متعقب، فإن بعض من لم يرسخ في الإيمان كان يظن ذلك حتى كان يرى أن صحة النبوة تستلزم إطلاع النبي صلى الله عليه وسلم على جميع المغيبات، كما وقع في المغازي لابن إسحاق أن ناقة النبي صلى الله عليه وسلم ضلت، فقال زيد بن الصيت بصاد مهملة وآخره مثناة وزن عظيم: يزعم محمد أنه نبي ويخبركم عن خبر السماء وهو لا يدري أين ناقته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن رجلا يقول كذا وكذا، وإني والله لا أعلم إلا ما علمني الله، وقد دلني الله عليها وهي في شعب كذا قد حبستها شجرة، فذهبوا فجاءوه بها " فأعلم النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يعلم من الغيب إلا ما علمه الله ، وهو مطابق لقوله تعالى :{فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} الآية، وقد اختلف في المراد بالغيب فيها فقيل هو على عمومه، وقيل ما يتعلق بالوحي خاصة، وقيل ما يتعلق بعلم الساعة وهو ضعيف لما تقدم في تفسير لقمان، أن علم الساعة مما استأثر الله بعلمه، إلا إن ذهب قائل ذلك، إلى أن الاستثناء منقطع، وقد تقدم ما يتعلق بالغيب هناك. قال الزمخشري: في هذه الآية إبطال الكرامات لأن الذين يضاف إليهم وإن كانوا أولياء مرتضين فليسوا برسل، وقد خص الله الرسل من بين المرتضين بالاطلاع على الغيب، وتعقب بما تقدم وقال الإمام فخر الدين: قوله على غيبه لفظ مفرد وليس فيه صيغة عموم، فيصح أن يقال إن الله لا يظهر على غيب واحد من غيوبه أحدا إلا الرسل، فيحمل على وقت وقوع القيامة ويقويه ذكرها عقب قوله: {أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ} وتعقب بأن الرسل لم يظهروا على ذلك. وقال أيضا يجوز أن يكون الاستثناء منقطعا، أي لا يظهر على غيبه المخصوص أحدا لكن من ارتضى من رسول فإنه يجعل له حفظه. وقال القاضي البيضاوي: يخصص الرسول بالملك في اطلاعه على الغيب، والأولياء يقع لهم ذلك بالإلهام. وقال ابن المنير دعوى الزمخشري عامة ودليله خاص، فالدعوى امتناع الكرامات كلها، والدليل يحتمل أن يقال ليس فيه إلا نفي الاطلاع على الغيب بخلاف سائر الكرامات انتهى. وتمامه أن يقال المراد بالاطلاع على الغيب " علم ما سيقع قبل أن يقع على تفصيله " فلا يدخل في هذا ما يكشف لهم من الأمور المغيبة عنهم وما لا يخرق لهم من العادة، كالمشي على الماء وقطع المسافة البعيدة في مدة لطيفة ونحو ذلك. وقال الطيبي الأقرب تخصيص الاطلاع بالظهور والخفاء، فإطلاع الله الأنبياء على المغيب أمكن، ويدل عليه حرف الاستعلاء في " على غيبه " فضمن " يظهر " معنى يطلع، فلا يظهر على غيبه إظهارا تاما وكشفا جليا إلا لرسول يوحى إليه مع ملك وحفظة، ولذلك قال: {فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً} وتعليله بقوله: { ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم} وأما الكرامات فهي من قبيل التلويح واللمحات، وليسوا في ذلك كالأنبياء. وقد جزم الأستاذ أبو إسحاق بأن كرامات الأولياء لا تضاهي ما هو معجزة للأنبياء. وقال أبو بكر بن فورك: الأنبياء مأمورون بإظهارها، والولي يجب عليه إخفاؤها؛ والنبي يدعي ذلك بما يقطع به بخلاف الولي فإنه لا يأمن الاستدراج. وفي الآية رد على المنجمين وعلى كل من يدعي أنه يطلع على ما سيكون من حياة أو موت أو غير
(13/364)
ذلك لأنه مكذب للقرآن وهم أبعد شيء من الارتضا مع سلب صفة الرسلية عنهم. وقوله في أول حديث ابن عمر " مفاتيح الغيب - إلى أن قال - لا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله " فوقع في معظم الروايات " لا يعلم ما في الأرحام إلا الله " واختلف في معنى الزيادة والنقصان على أقوال: فقيل ما ينقص من الخلقة وما يزداد فيها، وقيل ما ينقص من التسعة الأشهر في الحمل وما يزداد في النفاس إلى الستين، وقيل ما ينقص بظهور الحيض في الحبل بنقص الولد وما يزداد على التسعة الأشهر بقدر ما حاضت، وقيل ما ينقص في الحمل بانقطاع الحيض وما يزداد بدم النفاس من بعد الوضع، وقيل ما ينقص من الأولاد قبل وما يزداد من الأولاد بعد. وقال الشيخ أبو محمد ابن أبي جمرة نفع الله به استعار للغيب مفاتيح اقتداء بما نطق به الكتاب العزيز {وعنده مفاتح الغيب} وليقرب الأمر على السامع لأن أمور الغيب لا يحصيها إلا عالمها وأقرب الأشياء إلى الاطلاع على ما غاب الأبواب، والمفاتيح أيسر الأشياء لفتح الباب فإذا كان أيسر الأشياء لا يعرف موضعها فما فوقها أحرى أن لا يعرف قال والمراد بنفي العلم عن الغيب الحقيقي فإن لبعض الغيوب أسبابا قد يستدل بها عليها لكن ليس ذلك حقيقيا قال فلمان كان جميع ما في الوجود محصورا في علمه شبهه المصطفى بالمخازن واستعار لبابها المفتاح وهو كما قال تعالى :{وإن من شيء إلا عندنا خزائنه} قال والحكمة في جعلها خمسا الإشارة إلى حصر العوالم فيها ففي قوله: "وما تغيض الأرحام" إشارة إلى ما يزيد في النفس وينقص وخص الرحم بالذكر لكون الأكثر يعرفونها بالعادة ومع ذلك فنفى أن يعرف أحد حقيقتها فغيرها بطريق الأولى وفي قوله ولا يعلم متى يأتي المطر إشارة إلى أمور العالم العلوي وخص المطر مع أن له أسبابا قد تدل بجري العادة على وقوعه لكنه من غير تحقيق. وفي قوله: "ولا تدري نفس بأي أرض تموت " إشارة إلى أمور العالم السفلي مع أن عادة أكثر الناس أن يموت ببلده ولكن ليس ذلك حقيقة بل لو مات في بلده لا يعلم في أي بقعة يدفن منها ولو كان هناك مقبرة لأسلافه بل قبر أعده هو له وفي قوله: "ولا يعلم ما في غد إلا الله " إشارة إلى أنواع الزمان وما فيها من الحوادث وعبر بلفظ غد لتكون حقيقته أقرب الأزمنة وإذا كان مع قربة لا يعلم حقيقة ما يقع فيه مع إمكان الأمارة والعلامة فما بعد عنه أولى. وفي قوله: "ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله " إشارة إلى علوم الآخرة فإن يوم القيامة أولها وإذا نفى علم الأقرب انتفى علم ما بعده فجمعت الآية أنواع الغيوب وأزالت جميع الدعاوي الفاسدة وقد بين بقوله تعالى في الآية الأخرى وهي قوله تعالى :{فلا يظهر على غيبه أحدا، إلا من ارتضى من رسول} أن الاطلاع على شيء من هذه الأمور لا يكون إلا بتوفيق انتهى ملخصا.
(13/365)
5 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ}
7381 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا
مُغِيرَةُ حَدَّثَنَا شَقِيقُ بْنُ سَلَمَةَ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ كُنَّا
نُصَلِّي خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَقُولُ
السَّلاَمُ عَلَى اللَّهِ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللَّهَ
هُوَ السَّلاَمُ وَلَكِنْ قُولُوا التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ
وَالطَّيِّبَاتُ السَّلاَمُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ
وَبَرَكَاتُهُ السَّلاَمُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ
أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ
وَرَسُولُهُ
قوله: "باب قول الله تعالى { السلام المؤمن} كذا للجميع وزاد ابن بطال
المهيمن وقال غرضه بهذا الباب إثبات
(13/365)
أسماء من أسماء الله تعالى ثم ذكر بعض ما ورد في معانيها وفيما
ذكره نظر سلمنا لكن وظيفة الشارح بيان وجه تخصيص هذه الأسماء الثلاثة بالذكر دون
غيرها وإفرادها بترجمة ويمكن أن يكون أراد بهذا القدر جميع الآيات الثلاث المذكورة
في آخر سورة الحشر فإنها ختمت بقوله تعالى :{لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} وقد
قال في سورة الأعراف {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} فكأنه
بعد إثبات حقيقة القدرة والقوة والعلم أشار إلى أن الصفات السمعية ليست محصورة في
عدد معين بدليل الآية المذكورة أو أراد الإشارة إلى ذكر الأسماء التي تسمى الله
تعالى بها وأطلقت مع ذلك على المخلوقين فالسلام ثبت في القرآن وفي الحديث الصحيح
أنه من أسماء الله تعالى وقد أطلق على التحية الواقعة بين المؤمنين والمؤمن يطلق
على من اتصف بالإيمان وقد وقعا معا من غير تخلل بينهما في الآية المشار إليها
فناسب أن يذكرهما في ترجمة واحدة وقال أهل العلم معنى السلام في حقه سبحانه وتعالى
الذي سلم المؤمنون من عقوبته وكذا في تفسير المؤمن الذي أمن المؤمنون من عقوبته
وقيل السلام من سلم من كل نقص وبرئ من كل آفة وعيب فهي صفة سلبية وقيل المسلم على
عباده لقوله: {سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} فهي صفة كلامية وقيل الذي سلم
الخلق من ظلمه وقيل منه السلامة لعباده فهي صفة فعلية وقيل المؤمن الذي صدق نفسه
وصدق أولياءه وتصديقه علمه بأنه صادق وأنهم صادقون وقيل الموحد لنفسه وقيل خالق
الأمن وقيل واهب الأمن، وقيل خالق الطمأنينة في القلوب وأما " المهيمن "
فإن ثبت في الرواية فقد تقدم ما فيه في التفسير، ومما يستفاد أن ابن قتيبة ومن
تبعه كالخطابي زعموا أنه مفيعل من الأمن قلبت الهمز هاء، وقد تعقب ذلك إمام
الحرمين، ونقل إجماع العلماء على أن أسماء الله لا تصغر، ونقل البيهقي عن الحليمي
أن المهيمن معناه الذي لا ينقص الطائع من ثوابه شيئا ولو كثر، ولا يزيد العاصي
عقابا على ما يستحقه لأنه لا يجوز عليه الكذب، وقد سمي الثواب والعقاب جزاء وله أن
يتفضل بزيادة الثواب ويعفو عن كثير من العقاب قال البيهقي: هذا شرح قول أهل
التفسير في المهيمن أنه الأمين، ثم ساق من طريق التيمي عن ابن عباس في قوله:
"مهيمنا عليه " قال مؤتمنا ومن طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس:
المهيمن الأمين، ومن طريق مجاهد قال: المهيمن الشاهد، وقيل: المهيمن الرقيب على
الشيء والحافظ له، وقيل: الهيمنة القيام على الشيء، قال الشاعر:
ألا إن خير الناس بعد نبيه ... مهيمنه التاليه في العرف والنكر
يريد القائم على الناس بعده بالرعاية لهم انتهى. لاويصح أن يريد الأمين عليهم
فيوافق ما تقدم، ثم ذكر حديث ابن مسعود في " التشهد " وسنده كله كوفيون
" وأحمد بن يونس " هو ابن عبد الله بن يونس اليربوعي نسب لجده و "
زهير " هو ابن معاوية الجعفي و " مغيرة " هو ابن مقسم الضبي "
وشقيق بن سلمة " هو أبو وائل مشهور بكنيته وباسمه معا، وقد أخرجه أبو نعيم في
المستخرج من طريق أحمد بن يحيى الحلواني عن أحمد بن يونس فقال: "حدثنا زهير
بن معاوية حدثنا مغيرة الضبي " وساق المتن مثله سواء، وضاق على الإسماعيلي
مخرجه فاكتفى برواية: "عثمان بن أبي شيبة عن جرير بن عبد الحميد عن مغيرة
" وساقه نحوه من رواية زهير، وقد أخرجه النسائي من طريق شعبة عن مغيرة بسنده،
وقوله في المتن " فنقول السلام على الله " هكذا اختصره مغيرة، وزاد في
رواية الأعمش " من عباده " وفي لفظ مضي في الاستئذان " قبل عباده
السلام على جبريل " إلخ. وقد تقدم بيان ذلك مفصلا في " كتاب الصلاة
" في أواخر صفة الصلاة من قبل " كتاب الجمعة " ولله الحمد.
(13/366)
6 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {مَلِكِ النَّاسِ} فِيهِ ابْنُ
عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
7382 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي
يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدٍ هُوَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"يَقْبِضُ اللَّهُ الأَرْضَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَطْوِي السَّمَاءَ
بِيَمِينِهِ ثُمَّ يَقُولُ أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ مُلُوكُ الأَرْضِ وَقَالَ
شُعَيْبٌ وَالزُّبَيْدِيُّ وَابْنُ مُسَافِرٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ يَحْيَى عَنْ
الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ مِثْلَهُ
قوله: "باب قول الله تعالى {مَلِكِ النَّاسِ} قال البيهقي: الملك والمالك هو
الخاص الملك، ومعناه في حق الله تعالى القادر على الإيجاد، وهي صفة يستحقها لذاته.
وقال الراغب: الملك المتصف بالأمر والنهي وذلك يختص بالناطقين، ولهذا قال: {ملك
الناس} ولم يقل ملك الأشياء، قال: وأما قوله: {ملك يوم الدين} فتقديره الملك في
يوم الدين، لقوله: {لمن الملك اليوم} انتهى ويحتمل أن يكون خص الناس بالذكر في
قوله تعالى :{مَلِكِ النَّاسِ} لأن المخلوقات جماد ونام والنامي صامت وناطق
والناطق متكلم وغير متكلم فأشرف الجميع المتكلم وهم ثلاثة: الإنس والجن والملائكة،
وكل من عداهم جائز دخوله تحت قبضتهم وتصرفهم، وإذا كان المراد بالناس في الآية
المتكلم فمن ملكوه في ملك من ملكهم فكان في حكم ما لو قال ملك كل شيء مع التنويه
بذكر الأشرف؛ وهو المتكلم. قوله: "فيه ابن عمر عن النبي صلى الله عليه
وسلم" أي يدخل في هذا الباب حديث ابن عمر، ومراده حديثه الآتي بعد اثنى عشر
بابا في ترجمة قوله تعالى :{لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} وسيأتي شرحه هناك إن شاء
الله تعالى ثم ذكر حديث أبي هريرة " يقبض الله الأرض يوم القيامة ويطوي
السماء بيمينه، ثم يقول أنا الملك أين ملوك الأرض " أخرجه من رواية:
"يونس " وهو ابن يزيد عن ابن شهاب بسنده، ثم قال: وقال شعيب والزبيدي
وابن مسافر وإسحاق بن يحيى عن الزهري وعن أبي سلمة مثله، كذا وقع لأبي ذر وسقط
لغيره لفظ: "مثله " وليس المراد أن أبا سلمة أرسله بل مراده أنه اختلف
على " ابن شهاب " وهو الزهري في شيخه فقال يونس هو سعيد ابن المسيب وقال
الباقون أبو سلمة وكل منهما يرويه عن أبي هريرة، فأما رواية: "شعيب "
وهو ابن أبي حمزة الحمصي فستأتي في الباب المشار إليه في الحديث المعلق آنفا، فإنه
قال هناك " وقال أبو اليمان أنا شعيب " فذكر طرفا من المتن، وقد وصله
الدارمي قال: "حدثنا الحكم بن نافع " وهو أبو اليمان فذكره، وفيه:
"سمعت أبا سلمة يقول قال أبو هريرة " وكذا أخرجه ابن خزيمة في "
كتاب التوحيد " من صحيحه " عن محمد بن يحيى الذهلي عن أبي اليمان "
وأما رواية: "الزبيدي " بضم الزاي بعدها موحدة، وهو محمد بن الوليد
الحمصي فوصلها ابن خزيمة أيضا من طريق عبد الله بن سالم عنه عن الزهري عن أبي سلمة
عن أبي هريرة، وأما طريق " ابن مسافر " وهو عبد الرحمن بن خالد بن مسافر
الفهمي أمير مصر نسب لجده فتقدمت موصولة في تفسير سورة الزمر، من طريق الليث بن
سعد عنه كذلك، وأما رواية: "إسحاق بن يحيى " وهو الكلبي فوصلها الذهلي
في الزهريات، قال الإسماعيلي وافق الجماعة عبيد الله بن زياد الرصافي في أبي سلمة.
قلت: وأخرجه ابن أبي حاتم من طريق الصدفي عن الزهري كذلك، ونقل ابن خزيمة عن محمد
بن يحيى الذهلي أن الطريقين محفوظان انتهى. وصنيع البخاري يقتضي ذلك وإن كان الذي
تقتضيه القواعد ترجيح رواية شعيب
(13/367)
لكثرة من تابعه لكن يونس كان من خواص الزهري الملازمين له، قال ابن بطال: قوله تعالى :{مَلِكِ النَّاسِ} داخل في معنى التحيات لله أي الملك لله، وكأنه صلى الله عليه وسلم أمرهم بأن يقولوا التحيات لله امتثالا لأمر {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ} ووصفه بأنه {مَلِكِ النَّاسِ} يحتمل وجهين، أحدهما أن يكون بمعنى القدرة فيكون صفة ذات، وأن يكون بمعنى القهر والصرف عما يريدون فيكون صفة فعل، قال: وفي الحديث إثبات اليمين صفة لله تعالى من صفات ذاته وليست جارحة خلافا للمجسمة انتهى ملخصا. والكلام على اليمين يأتي في الباب المشار إليه ولم يعرج على التوفيق بين الحديث والترجمة، والذي يظهر لي أنه أشار إلى ما قاله شيخه نعيم بن حماد الخزاعي، قال ابن أبي حاتم في " كتاب الرد على الجهمية " وجدت في كتاب أبي عمر نعيم بن حماد قال: يقال للجهمية أخبرونا عن قول الله تعالى بعد فناء خلقه {لمن الملك اليوم} فلا يجيبه أحد فيرد على نفسه {لله الواحد القهار} وذلك بعد انقطاع ألفاظ خلقه بموتهم أفهذا مخلوق انتهى. وأشار بذلك إلى الرد على من زعم أن الله يخلق كلاما فيسمعه من شاء، بأن الوقت الذي يقول فيه "لمن الملك اليوم" لا يبقى حينئذ مخلوق حيا، فيجيب نفسه فيقول: "لله الواحد القهار" فثبت أنه يتكلم بذلك وكلامه صفة من صفات ذاته فهو غير مخلوق، وعن أحمد بن سلمة عن إسحاق بن راهويه، قال صح أن الله يقول بعد فناء خلقه {لمن الملك اليوم} فلا يجبيه أحد فيقول لنفسه {لله الواحد القهار} قال ووجدت في كتاب عند أبي عن هشام بن عبيد الله الرازي قال: "إذا مات الخلق ولم يبق إلا الله وقال: {لمن الملك اليوم} فلا يجيبه أحد فيرد على نفسه فيقول {لله الواحد القهار } قال فلا يشك أحد أن هذا كلام الله وليس بوحي إلى أحد لأنه لم تبق نفس فيها روح إلا وقد ذاقت الموت، والله هو القائل وهو المجيب لنفسه. قلت: وفي حديث الصور الطويل الذي تقدمت الإشارة إليه في أواخر " كتاب الرقاق " في صفة الحشر " فإذا لم يبق إلا الله كان آخرا كما كان أولا طوى السماء والأرض ثم دحاها ثم تلقفهما ثم قال أنا الجبار ثلاثا ثم قال لمن الملك اليوم ثلاثا ثم قال لنفسه لله الواحد القهار " قال الطبري في قوله تعالى :{يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ} يعني يقول الله لمن الملك فترك ذكر ذلك استغناء لدلالة الكلام عليه قال: وقوله: "لله الواحد القهار " ذكر أن الرب جل جلاله هو القائل ذلك مجيبا لنفسه، ثم ذكر الرواية بذلك من حديث أبي هريرة الذي أشرت إليه وبالله التوفيق.
(13/368)
7 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
- سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ - وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ
وَلِرَسُولِهِ} وَمَنْ حَلَفَ بِعِزَّةِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَقَالَ أَنَسٌ قال
النبي صلى الله عليه وسلم: "تَقُولُ جَهَنَّمُ قَطْ قَطْ وَعِزَّتِكَ وَقَالَ
أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَبْقَى
رَجُلٌ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ آخِرُ أَهْلِ النَّارِ دُخُولًا الْجَنَّةَ
فَيَقُولُ يَا رَبِّ اصْرِفْ وَجْهِي عَنْ النَّارِ لاَ وَعِزَّتِكَ لاَ
أَسْأَلُكَ غَيْرَهَا قَالَ أَبُو سَعِيدٍ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَكَ ذَلِكَ
وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ" وَقَالَ: أَيُّوبُ وَعِزَّتِكَ لاَ غِنَى بِي عَنْ
بَرَكَتِكَ
7383 - حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا
حُسَيْنٌ الْمُعَلِّمُ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ عَنْ يَحْيَى
بْنِ يَعْمَرَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ أَعُوذُ بِعِزَّتِكَ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ
الَّذِي لاَ يَمُوتُ
(13/368)
وَالْجِنُّ وَالإِنْسُ يَمُوتُونَ قوله:
7384 - حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي الأَسْوَدِ حَدَّثَنَا حَرَمِيٌّ حَدَّثَنَا
شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: "لاَ يَزَالُ يُلْقَى فِي النَّارِ ح و قَالَ لِي خَلِيفَةُ
حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ
وَعَنْ مُعْتَمِرٍ سَمِعْتُ أَبِي عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لاَ يَزَالُ يُلْقَى فِيهَا
وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ حَتَّى يَضَعَ فِيهَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَدَمَهُ
فَيَنْزَوِي بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ ثُمَّ تَقُولُ قَدْ قَدْ بِعِزَّتِكَ
وَكَرَمِكَ وَلاَ تَزَالُ الْجَنَّةُ تَفْضُلُ حَتَّى يُنْشِئَ اللَّهُ لَهَا
خَلْقًا فَيُسْكِنَهُمْ فَضْلَ الْجَنَّةِ
"باب قول الله تعالى وهو العزيز الحكيم سبحان ربك رب العزة عما يصفون ولله
العزة ولرسوله" أما الآية الأولى فوقعت في عدة سور وتكررت في بعضها، وأول
موضع وقع فيه {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} في سورة إبراهيم، وأما مطلق
{الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} فأول ما وقع في البقرة في دعاء إبراهيم عليه السلام لأهل
مكة {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ} الآية، وآخرها {إنك أنت
العزيز الحكيم} وتكرر {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} و {عَزِيزٌ حَكِيمٌ} بغير لام فيهما
في عدة من السور، وأما الآية الثانية ففي إضافة العزة إلى الربوبية إشارة إلى أن
المراد بها هنا القهر والغلبة، ويحتمل أن تكون الإضافة للاختصاص كأنه قيل ذو العزة
وأنها من صفات الذات، ويحتمل أن يكون المراد بالعزة هنا العزة الكائنة بين الخلق
وهي مخلوقة فيكون من صفات الفعل، فالرب على هذا بمعنى الخالق والتعريف في العزة
للجنس فإذا كانت العزة كلها لله فلا يصح أن يكون أحد معتزا إلا به ولا عزة لأحد
إلا وهو مالكها، وأما الآية الثالثة فيعرف حكمها من الثانية، وهي بمعنى الغلبة
لأنها جاءت جوابا لمن ادعى أنه الأعز وأن ضده الأذل فيرد عليه بأن العزة لله
ولرسوله وللمؤمنين، فهو كقوله: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي
إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِي} قوله: "ومن حلف بعزة الله وصفاته" كذا
للأكثر. وفي رواية المستملي: "وسلطانه " بدل وصفاته والأول أولى، وقد
تقدم في الأيمان والنذور باب الحلف بعزة الله وصفاته وكلامه، وتقدم توجيهه هناك،
قال ابن بطال العزيز يتضمن العزة والعزة يحتمل أن تكون صفة ذات بمعنى القدرة
والعظمة، وأن تكون صفة فعل بمعنى القهر لمخلوقاته والغلبة لهم ولذلك صحت إضافة
اسمه إليها، قال ويظهر الفرق بين الحالف بعزة الله التي هي صفة ذاته والحالف بعزة
الله التي صفة فعله، بأنه يحنث في الأولى دون الثانية، بل هو منهي عن الحلف بها
كما نهى عن الحلف بحق السماء وحق زيد. قلت: وإذا أطلق الحالف انصرف إلى صفة الذات
وانعقدت اليمين إلا أن قصد خلاف ذلك بدليل أحاديث الباب: وقال الراغب: العزيز الذي
يقهر ولا يقهر، فإن العزة التي لله هي الدائمة الباقية وهي العزة الحقيقية
الممدوحة وقد تستعار العزة للحمية والأنفة فيوصف بها الكافر والفاسق وهي صفة
مذمومة، ومنه قوله تعالى :{أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْأِثْمِ} وأما قوله تعالى
:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً} فمعناه من كان
يريد أن يعز فليكتسب العزة من الله فإنها له ولا تنال إلا بطاعته ومن ثم أثبتها
لرسوله وللمؤمنين فقال: في الآية الأخرى {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين} ، وقد ترد
العزة بمعنى الصعوبة كقوله تعالى :{عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} وبمعنى
الغلبة، ومنه وعزني في الخطاب، وبمعنى القلة: كقولهم شاة عزوز إذا قل لبنها،
وبمعنى الامتناع، ومنه قولهم أرض عزاز
(13/369)
بفتح أوله مخففا أي صلبة. وقال البيهقي: العزة تكون بمعنى القوة فترجع إلى معنى القدرة، ثم ذكر نحوا مما ذكره ابن بطال، والذي يظهر أن مراد البخاري بالترجمة إثبات العزة لله ردا على من قال إنه العزيز بلا عزة، كما قالوا: العليم بلا علم، ثم ذكر في الباب خمسة أحاديث. الحديث الأول: قوله: "وقال أنس قال النبي صلى الله عليه وسلم: "تقول جهنم قط قط وعزتك" هذا طرف من حديث تقدم موصولا في تفسير سورة ق مع شرحه، ويأتي مزيد كلام فيه في باب قوله: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} وقد ذكره موصولا هنا في آخر الباب، والمراد منه أن النبي صلى الله عليه وسلم نقل عن جهنم أنها تحلف بعزة الله وأقرها على ذلك، فيحصل المراد سواء كانت هي الناطقة حقيقة أم الناطق غيرها كالموكلين بها. الحديث الثاني: قوله: "وقال أبو هريرة إلخ" هو طرف من حديث طويل تقدم مع شرحه في آخر " كتاب الرقاق " والمراد منه قوله: "لا وعزتك " وتوجيهه كما في الذي قبله. الحديث الثالث: قوله: "قال أبو سعيد إلخ" هو طرف من حديث مذكور في آخر حديث أبي هريرة الذي قبله، ويستفاد منه أن أبا سعيد وافق أبا هريرة على رواية الحديث المذكور إلا ما ذكره من الزيادة في قوله: "عشرة أمثاله". الحديث الرابع: قوله: "وقال أيوب عليه السلام وعزتك لا غنى بي عن بركتك" كذا في رواية الأكثر وللمستملي: "لا غناء " وهو بفتح الغين المعجمة ممدودا، وكذا لأبي ذر عن السرخسي وتقدم بيانه في " كتاب الأيمان والنذور " وهو طرف من حديث لأبي هريرة وقد تقدم موصولا في " كتاب الطهارة " وأوله " بينا أيوب يغتسل " وتقدم أيضا في أحاديث الأنبياء مع شرحه، وتقدم توجيه الدلالة منه في الأيمان والنذور، ووقع في رواية الحاكم " لما عافى الله أيوب أمطر عليه جرادا من ذهب " الحديث. قوله: "أبو معمر" هو عبد الله بن عمرو المنقري بكسر الميم وسكون النون وفتح القاف، و " عبد الوارث " هو ابن سعيد، و " حسين المعلم " هو ابن ذكوان و " يحيى بن يعمر " بفتح أوله والميم وسكون المهملة بينهما ويجوز ضم ميمه. قوله: "كان يقول أعوذ بعزتك الذي لا إله إلا أنت" قال الكرماني العائد للموصول محذوف لأن المخاطب نفس المرجوع إليه فيحصل الارتباط. ومثله: "أنا الذي سمتني أمي حيدره". لأن نسق الكلام سمته أمه. قوله: "الذي لا يموت" بلفظ الغائب للأكثر وفي بعضها بلفظ الخطاب. قوله: "والجن والإنس يموتون" استدل به على أن الملائكة لا تموت ولا حجة فيه لأنه مفهوم لقب ولا اعتبار له، وعلى تقديره فيعارضه ما هو أقوى منه، وهو عموم قوله تعالى :{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} مع أنه لا مانع من دخولهم في مسمى الجن لجامع ما بينهم من الاستتار عن عيون الإنس، وقد تقدمت بقية الكلام عليه في الدعوات وفي الأيمان والنذور في الباب المشار إليه منه، ثم ذكر حديث أنس من ثلاثة أوجه عن قتادة، وقد تقدم لفظ شعبة في تفسير ق، وساقه هنا على لفظ: "خليفة " وهو ابن خياط البصري، ولقبه شباب بفتح المعجمة وتخفيف الموحدة وآخره موحدة، ووقع في رواية شعبة عنه " لا يزال يلقى في النار " وفي رواية: "سعيد " وهو ابن أبي عروبة، و " سليمان " هو التيمي والد معتمر كلاهما عن قتادة " لا يزال يلقى فيها " والضمير في هذه الرواية لغير مذكور قبله، وقد أخرجه أبو نعيم في المستخرج من طريق العباس بن الوليد عن يزيد بن زريع، ومن طريق أبي الأشعث عن المعتمر بهذين السندين، وفي أوله " لا تزال جهنم يلقى فيها". قوله: "حتى يضع فيها رب العالمين قدمه" في رواية أبي الأشعث " حتى يضع الله فيها قدمه " وفي رواية عبد الوهاب بن عطاء عن سعيد عند مسلم: "حتى يضع فيها رب العزة " ولم يقع في رواية شعبة بيان من يضع، وتقدم في تفسير سورة ق من حديث أبي هريرة " فيضع
(13/370)
الرب قدمه عليها " وذكر فيه شرحه، وذكر من رواه بلفظ الرجل وشرحه أيضا. قوله: "وتقول قد قد" بفتح القاف وسكون الدال وبكسرها أيضا بغير إشباع، وذكر ابن التين أنها رواية أبي ذر، وتقدم في تفسير سورة ق ذكر من رواه بلفظ: "قدني " ومن رواه بلفظ: "قط قط " وبيان الاختلاف فيها أيضا وشرح معانيها مع بقية الحديث. قوله: "بعزتك وكرمك" كذا ثبت عند الإسماعيلي في رواية يزيد بن زريع عن سعيد بن أبي عروبة، ووقع في رواية عبد الوهاب بن عطاء عن سعيد عند مسلم بدون قوله وكرمك، ويؤخذ منه مشروعية الحلف بكرم الله كما شرع الحلف بعزة الله. قوله: "ولا تزال الجنة تفضل" كذا لهم بصيغة الفعل المضارع، ووقع في رواية المستملي بموحدة مكسورة وفاء مفتوحة وضاد معجمة ساكنة وكأن الباء للمصاحبة. قال الكرماني روى البخاري هذا الحديث من ثلاث طرق الأولى: عن شيخه يعني " ابن أبي الأسود " واسمه عبد الله بن محمد بالتحديث، والثانية: بالقول يعني قوله: "وقال لي خليفة " وكان ينبغي أن يزيد فيه بالقول المصاحب لحرف الجر للفرق بينه وبين القول المجرد، قال والثالث: بالتعليق ينبغي قوله: "وعن معتمر"، لأن هذا الثالث ليس تعليقا بل هو موصول معطوف على قوله: "حدثنا يزيد بن زريع " فالتقدير وقال لي خليفة عن معتمر، وبهذا جزم أصحاب الأطراف، قال المزي: حديث: "لا تزال يلقى " الحديث ح في التوحيد، قال لي خليفة عن معتمر عن أبيه. وقال أبو نعيم في المستخرج بعد تخريجه " رواه البخاري عن خليفة عن يزيد بن زريع عن سعيد وعن المعتمر عن أبيه قال: "وحديث سليمان التيمي غير مرفوع. قلت: وكذا لم يصرح الإسماعيلي برفعه لما أخرجه من طريق أبي الأشعث عن المعتمر.
(13/371)
8 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ
السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ}
7385 - حدثنا قبيصة حدثنا سفيان عن بن جريج عن سليمان عن طاوس عن بن عباس رضي الله
عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو من الليل اللهم لك الحمد أنت رب
السماوات والأرض لك الحمد أنت قيم السماوات والأرض ومن فيهن لك الحمد أنت نور
السماوات والأرض قولك الحق ووعدك الحق ولقاؤك حق والجنة حق والنار حق والساعة حق
اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت وإليك حاكمت فاغفر لي
ما قدمت وما أخرت وأسررت وأعلنت أنت إلهي لا إله لي غيرك" حدثنا ثابت بن محمد
حدثنا سفيان بهذا وقال ثم أنت الحق وقولك الحق"
قوله: "باب قول الله تعالى وهو الذي خلق السموات والأرض بالحق" كأنه
أشار بهذه الترجمة إلى ما ورد في تفسير هذه الآية أن معنى قوله: "بالحق"
أي بكلمة الحق وهو قوله: "كن" ووقع في أول حديث الباب قولك الحق، فكأنه
أشار إلى أن المراد بالقول الكلمة، وهي كن والله أعلم. ونقل ابن التين عن الداودي
أن الباء هنا بمعنى اللام أي لأجل الحق. وقال ابن بطال المراد بالحق هنا ضد الهزل،
والمراد بالحق في الأسماء الحسنى الموجود الثابت الذي لا يزول ولا يتغير. وقال
الراغب: الحق في الأسماء الحسنى الموجد بحسب ما تقتضيه الحكمة، قال: ويقال
(13/371)
لكل موجود من فعله بمقتضى الحكمة حق ويطلق على الاعتقاد في الشيء المطابق لما دل ذلك الشيء عليه في نفس الأمر وعلى الفعل الواقع بحسب ما يجب قدرا وزمانا وكذا القول، ويطلق على الواجب واللازم والثابت والجائز، ونقل البيهقي في " كتاب الأسماء والصفات " عن الحليمي قال: الحق ما لا يسيغ إنكاره ويلزم إثباته والاعتراف به ووجود الباري أولى ما يجب الاعتراف به، ولا يسيغ جحوده إذ لا مثبت تظاهرت عليه البينة الباهرة ما تظاهرت على وجوده سبحانه وتعالى، وذكر البخاري فيه حديث ابن عباس في الدعاء عند قيام الليل وفيه: "اللهم لك الحمد أنت رب السموات والأرض " وقد تقدم شرحه وبيان اختلاف ألفاظه في " كتاب التهجد " قبيل " كتاب الجنائز " وذكر في " كتاب الدعوات " أيضا قال ابن بطال: قوله: "رب السموات والأرض " يعني خالق السموات والأرض وقوله: "بالحق " أي أنشأهما بحق، وهو كقوله تعالى :{رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً} أي عبثا، وقوله في السند " سفيان " هو الثوري و " ابن جريج " هو عبد الملك بن عبد العزيز المكي وقوله: "عن سليمان " هو ابن أبي مسلم الأحول المكي وفي رواية عبد الرزاق عن ابن جريج " أخبرني سليمان " وسيأتي، وقوله في آخره: "حدثنا ثابت بن محمد حدثنا سفيان بهذا " يعني بالسند المذكور والمتن، وقوله: "وقال أنت الحق، وقولك الحق " يشير إلى أن رواية قبيصة سقط منها قوله: "أنت الحق " فإن أولها " قولك الحق " وثبت قوله في أوله " أنت الحق " في رواية ثابت بن محمد كما سيأتي سياقه بتمامه في باب قوله الله تعالى :{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} وكذا في رواية عبد الرزاق المشار إليها، وكذا وقع في رواية يحيى بن آدم عن سفيان الثوري عند النسائي والله أعلم.
(13/372)
9 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا
بَصِيرًا}
وَقَالَ الأَعْمَشُ عَنْ تَمِيمٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي وَسِعَ سَمْعُهُ الأَصْوَاتَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ
الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا}
7386 - حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ
أَيُّوبَ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فَكُنَّا إِذَا عَلَوْنَا
كَبَّرْنَا فَقَالَ ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَإِنَّكُمْ لاَ تَدْعُونَ
أَصَمَّ وَلاَ غَائِبًا تَدْعُونَ سَمِيعًا بَصِيرًا قَرِيبًا ثُمَّ أَتَى عَلَيَّ
وَأَنَا أَقُولُ فِي نَفْسِي لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ فَقَالَ
لِي يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ قُلْ لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ
فَإِنَّهَا كَنْزٌ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ أَوْ قَالَ أَلاَ أَدُلُّكَ بِهِ
7387, 7388 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ
أَخْبَرَنِي عَمْرٌو عَنْ يَزِيدَ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ
بْنَ عَمْرٍو أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ
لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي
دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلاَتِي قَالَ قُلْ اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي
ظُلْمًا كَثِيرًا وَلاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ فَاغْفِرْ لِي مِنْ
عِنْدِكَ مَغْفِرَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ
7389 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ
أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ حَدَّثَنِي عُرْوَةُ
(13/372)
أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا حَدَّثَتْهُ قال النبي
صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلاَم نَادَانِي قَالَ
إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ
قوله: "باب: وكان الله سميعا بصيرا" قال ابن بطال: غرض البخاري في هذا
الباب الرد على من قال إن معنى " سميع بصير " عليم قال ويلزم من قال ذلك
أن يسويه بالأعمى الذي يعلم أن السماء خضراء ولا يراها، والأصم الذي يعلم أن في
الناس أصواتا ولا يسمعها، ولا شك أن من سمع وأبصر أدخل في صفة الكمال ممن انفرد
بأحدهما دون الآخر، فصح أن كونه سميعا بصيرا يفيد قدرا زائدا على كونه عليما،
وكونه سميعا بصيرا يتضمن أنه يسمع بسمع ويبصر ببصر، كما تضمن كونه عليما أنه يعلم
بعلم ولا فرق بين إثبات كونه سميعا بصيرا وبين كونه ذا سمع وبصر، قال وهذا قول أهل
السنة قاطبة انتهى: واحتج المعتزلي بأن السمع ينشأ عن وصول الهواء المسموع إلى العصب
المفروش في أصل الصماخ والله منزه عن الجوارح، وأجيب بأنها عادة أجراها الله تعالى
فيمن يكون حيا فيخلقه الله عند وصول الهواء إلى المحل المذكور، والله سبحانه
وتعالى يسمع المسموعات بدون الوسائط وكذا يرى المرئيات بدون المقابلة وخروج
الشعاع، فذات الباري مع كونه حيا موجودا لا تشبه الذوات، فكذلك صفات ذاته لا تشبه
الصفات. وسيأتي مزيد لهذا في باب {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} وقال البيهقي
في الأسماء والصفات: السميع من له سمع يدرك به المسموعات، والبصير: من له بصر يدرك
به المرئيات، وكل منهما في حق الباري صفة قائمة بذاته، وقد أفادت الآية، وأحاديث
الباب الرد على من زعم أنه سميع بصير، بمعنى عليم، ثم ساق حديث أبي هريرة الذي
أخرجه أبو داود بسند قوي على شرط مسلم من رواية أبي يونس " عن أبي هريرة رأيت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها " يعني قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ
أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا - إلى قوله تعالى - إن الله كان
سميعا بصيرا} ويضع إصبعيه قال أبو يونس وضع أبو هريرة إبهامه على أذنه والتي تليها
على عينه، قال البيهقي وأراد هذه الإشارة تحقيق إثبات السمع والبصر لله ببيان
محلهما من الإنسان، يريد أن له سمعا وبصرا لا أن المراد به العلم فلو كان كذلك
لأشار إلى القلب لأنه محل العلم، ولم يرد بذلك الجارحة فإن الله تعالى منزه عن
مشابهة المخلوقين، ثم ذكر لحديث أبي هريرة شاهدا من حديث عقبة بن عامر " سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر إن ربنا سميع بصير وأشار إلى عينيه
" وسنده حسن وسيأتي في باب {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} حديث: "إن الله
ليس بأعور " وأشار بيده إلى عينه، وسيأتي شرح ذاك هناك، وفي صحيح مسلم عن أبي
هريرة رفعه: "إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم
" وفي حديث أبي جري الهجيمي رفعه: "أن رجلا ممن كان قبلكم لبس بردتين
يتبختر فيهما فنظر الله إليه فمقته" ، الحديث. وقد مضى في اللباس حديث ابن
عمر رفعه: "لا ينظر الله إلى من جر ثوبه خيلاء " وفي الكتاب العزيز
{وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ} وورد في السمع قول المصلي " سمع الله لمن حمده
" وسنده صحيح متفق عليه بل مقطوع بمشروعيته في الصلاة، ثم ذكر المصنف في
الباب أربعة أحاديث: أحدها. قوله: "قال الأعمش عن تميم" هو ابن سلمة
الكوفي تابعي صغير وثقه يحيى بن معين، ووصل حديثه المذكور أحمد والنسائي وابن ماجه
باللفظ المذكور هنا، وأخرجه ابن ماجه أيضا من رواية أبي عبيدة بن معن عن الأعمش
بلفظ: "تبارك " وسياقه أتم، وليس لتميم المذكور عن عروة في الصحيحين سوى
هذا الحديث
(13/373)
وآخر عند مسلم، قال ابن التين قول البخاري " قال الأعمش " مرسل لأنه لم يلقه، قال الشيخ أبو الحسن ولهذا لم يذكره في تفسير سورة المجادلة انتهى، وتسمية هذا مرسلا مخالف للاصطلاح، والتعليل ليس بمستقيم فإن في الصحيح عدة أحاديث معلقة لم تذكر في تفسير الآية التي تتعلق بها. قوله: "وسع سمعه الأصوات" في رواية أبي عبيدة بن معن " كل شيء " بدل " الأصوات " قال ابن بطال: معنى قولها " وسع " أدرك لأن الذي وصف بالاتساع يصح وصفه بالضيق وذلك من صفات الأجسام فيجب صرف قولها عن ظاهره والحديث ما يقتضي التصريح بأن له سمعا، وكذا جاء ذكر البصر في الحديث الذي أخرجه مسلم عن أبي موسى مرفوعا: "حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما أدركه بصره". قوله: "فأنزل الله تعالى على نبيه: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} هكذا أخرجه وتمامه عند أحمد وغيره: "ممن ذكرت " بعد قوله: "الأصوات " لقد جاءت المجادلة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تكلمه في جانب البيت ما أسمع ما تقول فأنزل الله الآية ومرادها بهذا النفي مجموع القول لأن في رواية أبي عبيدة ابن معن: إني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة، ويخفي علي بعضه وهي تشتكي زوجها وهي تقول " أكل شبابي ونثرت له بطني حتى إذا كبرت سني وانقطع ولدي ظاهر مني " الحديث فما برحت حتى نزل جبريل بهذه الآيات {قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله} وهذا أصح ما ورد في قصة المجادلة وتسميتها وقد أخرج أبو داود وصححه ابن حيان من طريق يوسف بن عبد الله بن سلام عن خويلة بنت مالك بن ثعلبة قالت: "ظاهر مني زوجي أوس بن الصامت " الحديث. وهذا يحمل على أن اسمها كان ربما صغر وإن كان محظوظا فتكون نسبت في الرواية الأخرى لجدها وقد تظاهرت الروايات بالأول ففي مرسل محمد بن كعب القرظي عند الطبراني كانت خولة بنت ثعلبة تحت أوس بن الصامت فقال لها أنت علي كظهر أمي، وعند ابن مردويه من طريق سعيد بن بشير عن قتادة عن أنس أن أوس بن الصامت تظاهر من امرأته خولة بنت ثعلبة، وعنده أيضا من مرسل أبي العالية " كانت خولة بنت دليح تحت رجل من الأنصار سيئ الخلق فنازعته في شيء فقال: أنت علي كظهر أمي " ودليح بمهملتين مصغر لعله من أجدادها. وأخرج أبو داود من رواية حماد بن سلمة عن هشام بن عروة عن أبيه أن جميلة كانت تحت أوس بن الصامت، ووصله من وجه آخر عن عائشة، والرواية المرسلة أقوى، وأخرجه ابن مردويه من رواية إسماعيل بن عياش عن هشام عن أبيه عن أوس بن الصامت وهو الذي ظاهر من امرأته، ورواية إسماعيل عن الحجازيين ضعيفة وهذا منها، فإن كان حفظه فالمراد بقوله: "عن أوس بن الصامت " أي عن قصة أوس لا أن عروة حمله عن أوس فيكون مرسلا كالرواية المحفوظة وإن كان الراوي حفظها أنها جميلة فلعله كان لقبها وأما ما أخرجه النقاش في تفسيره بسند ضعيف إلى الشعبي قال: المرأة التي جادلت في زوجها هي خولة بنت الصامت وأمها معاذة أمة عبد الله بن أبي التي نزل فيها {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ} وقوله: "بنت الصامت " خطأ فإن الصامت والد زوجها كما تقدم فلعله سقط منه شيء، وتسمية أمها غريب، وقد مضى ما يتعلق بالظهار في النكاح. قوله: "عن أبي عثمان" هو عبد الرحمن بن مل النهدي والسند كله بصريون وقد مضى شرح المتن في: "كتاب الدعوات " وقوله اربعوا بفتح الموحدة أي ارفقوا بضم الفاء وحكى ابن التين أنه وقع في روايته بكسر الموحدة وأنه في كتب أهل اللغة وبعض كتب الحديث بفتحها، وقوله: "فإنكم لا تدعون أصم " إلخ قال الكرماني لو جاءت الرواية: "لا تدعون أصم ولا أعمى " لكان أظهر في المناسبة لكنه الغائب كالأعمى في عدم الرؤية نفي لازمه ليكون أبلغ وأشمل، وزاد: "قريبا " لأن البعيد وإن كان
(13/374)
ممن يسمع ويبصر لكنه لبعده قد لا يسمع ولا يبصر، وليس المراد قرب المسافة لأنه منزه عن الحلول كما لا يخفى ومناسبة الغائب ظاهرة من أجل النهي عن رفع الصوت، قال ابن بطال: في هذا الحديث نفي الآفة المانعة من السمع والآفة المانعة من النظر، وإثبات كونه سميعا بصيرا قريبا، يستلزم أن لا تصح أضداد هذه الصفات عليه وقوله في آخره: "أو قال ألا أدلك " شك من الراوي هل قال يا عبد الله بن قيس " قل لا حول ولا قوة إلا بالله، فإنها كنز من كنوز الجنة " أو قال يا عبد الله بن قيس " ألا أدلك " وقوله بعد قوله ألا أدلك به، أي ببقية الخبر وقد ذكره في الدعوات في باب الدعاء " إذا علا عقبة " فساق الحديث بهذا الإسناد بعينه وقال: بعد قوله: "ألا أدلك على كلمة هي كنز من كنوز الجنة، لا حول ولا قوة إلا بالله". حديث عبد الله بن عمرو أن أبا بكر يعني الصديق قال: "يا رسول الله علمني دعاء " الحديث وقد تقدم في أواخر صفة الصلاة وفي الدعوات مع شرحه وبيان من جعله من رواية عبد الله بن عمرو عن أبي بكر الصديق فجعله من مسند أبي بكر، وأشار ابن بطال إلى أن مناسبته للترجمة أن دعاء أبي بكر لما علمه النبي صلى الله عليه وسلم يقتضي أن الله سميع لدعائه ومجازيه عليه. وقال غيره حديث أبي بكر ليس مطابقا للترجمة إذ ليس فيه ذكر صفتي السمع والبصر لكنه ذكر لازمهما من جهة أن فائدة الدعاء إجابة الداعي لمطلوبه فلولا أن سمعه سبحانه يتعلق بالسر كما يتعلق بالجهر لما حصلت فائدة الدعاء أو كان يقيده بمن يجهر بدعائه. انتهى من كلام ابن المنير ملخصا وقال الكرماني: لما كان بعض الذنوب مما يسمع وبعضها مما يبصر لم تقع مغفرته إلا بعد الإسماع والإبصار. تنبيه: المشهور في الروايات ظلما كثيرا. بالمثلثة ووقع هنا للقابسي بالموحدة. قوله: "إن جبريل عليه السلام أتاني فقال :{ إن الله قد سمع قول قومك وما ردوا عليك} هكذا ذكر هذا القدر منه مقتصرا عليه، وساقه بتمامه في بدء الخلق وتقدم شرحه هناك، والمراد منه هنا قوله: {إن الله قد سمع } وقوله: {ما ردوا عليك } أي أجابوك ويحتمل أن يكون أراد ردهم ما دعاهم إليه من التوحيد بعدم قبولهم. وقال الكرماني المقصود من هؤلاء الأحاديث إثبات صفتي السمع والبصر وهما صفتان قديمتان من الصفات الذاتية وعند حدوث المسموع والمبصر يقع التعلق، وأما المعتزلة فقالوا إنه سميع يسمع كل مسموع وبصير يبصر كل مبصر فادعوا أنهما صفتان حادثتان، وظواهر الآيات والأحاديث ترد عليهم وبالله التوفيق.
(13/375)
10 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ}
7390 - حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا مَعْنُ بْنُ عِيسَى
حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الْمَوَالِي قَالَ سَمِعْتُ مُحَمَّدَ
بْنَ الْمُنْكَدِرِ يُحَدِّثُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْحَسَنِ يَقُولُ أَخْبَرَنِي
جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ السَّلَمِيُّ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُ أَصْحَابَهُ الِاسْتِخَارَةَ فِي الأُمُورِ
كُلِّهَا كَمَا يُعَلِّمُهُمْ السُّورَةَ مِنْ الْقُرْآنِ يَقُولُ إِذَا هَمَّ
أَحَدُكُمْ بِالأَمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ ثُمَّ
لِيَقُلْ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ وَأَسْتَقْدِرُكَ
بِقُدْرَتِكَ وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلاَ أَقْدِرُ
وَتَعْلَمُ وَلاَ أَعْلَمُ وَأَنْتَ عَلاَمُ الْغُيُوبِ اللَّهُمَّ فَإِنْ كُنْتَ
تَعْلَمُ هَذَا الأَمْرَ ثُمَّ تُسَمِّيهِ بِعَيْنِهِ خَيْرًا لِي فِي عَاجِلِ
أَمْرِي وَآجِلِهِ قَالَ أَوْ فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي
فَاقْدُرْهُ لِي وَيَسِّرْهُ لِي ثُمَّ بَارِكْ لِي
(13/375)
فِيهِ اللَّهُمَّ وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ شَرٌّ لِي فِي
دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي أَوْ قَالَ فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ
فَاصْرِفْنِي عَنْهُ وَاقْدُرْ لِي الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ ثُمَّ رَضِّنِي بِهِ
قوله: "باب قول الله تعالى قل هو القادر" قال ابن بطال القدرة من صفات
الذات وقد تقدم في باب قوله تعالى :{إني أنا الرزاق} أن القوة والقدرة بمعنى واحد
وتقدم نقل الأقوال في ذلك والبحث فيها. قوله: "سمعت محمد بن المنكدر يحدث عبد
الله بن الحسن" أي ابن الحسن بن علي بن أبي طالب وكان عبد الله كبير بني هاشم
في وقته قال ابن سعد كان من العباد وله عارضة وهيئة. وقال مصعب الزبيدي: ما كان
علماء المدينة يكرمون أحدا ما يكرمونه، ووثقه ابن معين والنسائي وغيرهما، وهو من
صغار التابعين، روى عن عم جده عبد الله بن جعفر بن أبي طالب؛ وله رواية عن أمه
فاطمة بنت الحسين وعن غيرها، ومات في حبس المنصور سنة ثلاث وأربعين ومائة وله خمس
وسبعون سنة، وليس له ذكر في البخاري إلا في هذا الموضع، وقد أفصح عبد الرحمن بن
أبي الموالي بالواقع في حال تحمله، ولم يتصرف فيه بأن يقول حدثني ولا أخبرني لكن
أخرجه أبو داود من وجه آخر عنه فقال: "حدثني محمد بن المنكدر " وعليه في
ذلك اعتراض لاحتمال أن يكون محمد بن المنكدر لم يقصده بالتحديث، وقد سلك في ذلك
النسائي والبرقاني مسلك التحري، فكان النسائي فيما سمعه في الحالة التي لم يقصده
المحدث فيها بالتحديث، لا يقول حدثنا ولا أخبرنا ولا سمعت بل يقول فلان قرأه عليه
وأنا أسمع، وكان البرقاني يقول سمعت فلانا يقول، وجوز الأكثر إطلاق التحديث
والإخبار لكون المقصود بالتحديث من جنس من سمع ولو لم يكن مقصودا فيجوز ذلك عندهم
لكن بصيغة الجمع فيقول حدثنا أي حدث قوما أنا فيهم فسمعت ذلك منه حين حدوث ولو لم
يقصدني بالتحديث وعلى هذا فيمتنع بالإفراد بأن يقول مثلا " حدثني " بل
ويمتنع في الاصطلاح أيضا لأنه مخصوص بمن سمع وحده من لفظ الشيخ، ومن ثم كان
التعبير بالسماع أصرح الصيغ لكونه أدل على الواقع، وقد تقدم حديث الباب في صلاة
الليل وفي الدعوات من وجهين آخرين عن عبد الرحمن بن أبي الموالي ذكره في كل منهما
بالعنعنة، قال: "عن محمد بن المنكدر " ولم يقل سمعت ولا حدثنا، وكذا
أخرجه الترمذي والنسائي وهو جائز، لأنها صيغة محتملة فأفادت هذه الرواية تعين أحد
الاحتمالين، وهو التصريح بسماعه، ولهذا نزل فيه البخاري درجة لأنه عنده في
الموضعين المذكورين بواسطة واحد عن عبد الرحمن؛ وهنا وقع بينه وبين عبد الرحمن
اثنان، لكن سهل عليه النزول تحصيل فائدة الاطلاع على الواقع وفيها تصريح عبد
الرحمن بالسماع في موضع العنعنة، فأما من يخشى من الانقطاع الذي تحتمله العنعنة،
وقد وقع لي من رواية خالد بن مخلد عن عبد الرحمن قال: سمعت محمد بن المنكدر يحدث
عن جابر أخرجه ابن ماجه وخالد من شيوخ البخاري، فيحتمل أن لا يكون سمع منه هذا
الحديث مع أنه لم يصرح بما صرحت به الرواية النازلة من تسمية المقصود بالتحديث وهو
عبد الله بن الحسن، وقوله في الخبر " وأستقدرك بقدرتك " الباء للاستعانة
أو للقسم أو للاستعطاف، ومعناه أطلب منك أن تجعل لي قدرة على المطلوب، وقوله: "فاقدره
" بضم الدال ويجوز كسرها أي نجزه لي " ورضني " بتشديد المعجمة أي
اجعلني بذلك راضيا فلا أندم على طلبه ولا على وقوعه لأني لا أعلم عاقبته وإن كنت
حال طلبه راضيا به وقوله: "ويسميه بعينه " في رواية خالد بن مخلد "
فيسميه ما كان من شيء " يعني أي شيء كان وقوله: "ثم ليقل " ظاهر في
أن الدعاء المذكور يكون بعد الفراغ من الصلاة ويحتمل أن يكون الترتيب فيه
(13/376)
بالنسبة لأذكار الصلاة ودعائها فيقوله بعد الفراغ وقبل السلام، وقد تقدم سائر فوائده في " كتاب الدعوات"
(13/377)
11 - باب مُقَلِّبِ الْقُلُوبِ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى
{وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ}
7391 - حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ مُوسَى
بْنِ عُقْبَةَ عَنْ سَالِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ أَكْثَرُ مَا كَانَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْلِفُ لاَ وَمُقَلِّبِ
الْقُلُوبِ
قوله: "باب مقلب القلوب وقول الله تعالى { ونقلب أفئدتهم وأبصارهم} قال
الراغب: تقليب الشيء تغييره من حال إلى حال والتقليب التصرف وتقليب الله القلوب
والبصائر صرفها من رأي إلى رأي. وقال الكرماني ما معناه كان يحتمل أن يكون المعنى
بقوله: "مقلب " أنه يجعل القلب قلبا لكن مظان استعماله تنشأ عنه ويستفاد
منه أن إعراض القلب كالإرادة وغيرها بخلق الله تعالى وهي من الصفات الفعلية
ومرجعها إلى القدرة. قوله: "حدثنا سعيد بن سليمان" هو الواسطي نزيل
بغداد يكنى أبا عثمان، ويلقب سعدويه وكان أحد الحفاظ " وابن المبارك "
هو عبد الله الإمام المشهور وقد تقدم شرح حديث ابن عمر المذكور في هذا الباب في
" كتاب الأيمان والنذور " وكذا الآية ويستفاد منهما أن أعراض القلوب من
إرادة وغيرها تقع بخلق الله تعالى، وفيه حجة لمن أجاز تسمية الله تعالى بما ثبت في
الخبر، ولو لم يتواتر، وجواز اشتقاق الاسم له تعالى من الفعل الثابت، وقد تقدم
البحث في ذلك عند ذكر الأسماء الحسنى من " كتاب الدعوات " ومعنى قوله:
{وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ} " نصرفها بما شئنا كما تقدم تقريره. وقال
المعتزلي معناه نطبع عليها فلا يؤمنون والطبع عندهم الترك، فالمعنى على هذا "
نتركهم وما اختاروا لأنفسهم " وليس هذا معنى التقليب في لغة العرب، ولأن الله
تمدح بالانفراد بذلك، ولا مشاركة له فيه، فلا يصح تفسير الطبع بالترك فالطبع عند
أهل السنة خلق الكفر في قلب الكافر واستمراره عليه إلى أن يموت فمعنى الحديث: أن
الله يتصرف في قلوب عباده بما شاء لا يمتنع عليه شيء منها ولا تفوته إرادة وقال
البيضاوي في نسبة تقلب القلوب إلى الله إشعار بأنه يتولى قلوب عباده ولا يكلها إلى
أحد من خلقه، وفي دعائه صلى الله عليه وسلم: "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على
دينك " إشارة إلى شمول ذلك للعباد حتى الأنبياء ورفع توهم من يتوهم أنهم
يستثنون من ذلك، وخص نفسه بالذكر إعلاما بأن نفسه الزكية إذا كانت مفتقرة إلى أن
تلجأ إلى الله سبحانه فافتقار غيرها ممن هو دونه أحق بذلك.
(13/377)
12 - باب إِنَّ لِلَّهِ مِائَةَ اسْمٍ إِلاَّ وَاحِدًا
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ذُو الْجَلاَلِ الْعَظَمَةِ الْبَرُّ اللَّطِيفُ
7392 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو
الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا
مِائَةً إِلاَّ وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ أَحْصَيْنَاهُ
حَفِظْنَاهُ
قوله: "باب إن لله مائة اسم إلا واحدا" ذكر فيه حديث أبي هريرة أن لله
تسعة وتسعين اسما، وقد تقدم شرحه في " كتاب الدعوات " وبيان من رواه
باللفظ المذكور في هذه الترجمة، ووقع هنا في رواية الكشميهني مائة إلا واحدا
بالتذكير، ومائة في الحديث بدل من قوله تسعة وتسعين، فعدل في الترجمة من البدل إلى
المبدل وهو فصيح
(13/277)
13 - باب السُّؤَالِ بِأَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى
وَالِاسْتِعَاذَةِ بِهَا
7393 - حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ
سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ فِرَاشَهُ
فَلْيَنْفُضْهُ بِصَنِفَةِ ثَوْبِهِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ وَلْيَقُلْ بِاسْمِكَ رَبِّ
وَضَعْتُ جَنْبِي وَبِكَ أَرْفَعُهُ إِنْ أَمْسَكْتَ نَفْسِي فَاغْفِرْ لَهَا
وَإِنْ أَرْسَلْتَهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ
تَابَعَهُ يَحْيَى وَبِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ سَعِيدٍ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَزَادَ
زُهَيْرٌ وَأَبُو ضَمْرَةَ وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ عَنْ عُبَيْدِ
اللَّهِ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَوَاهُ ابْنُ عَجْلاَنَ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. تابعه محمد بن عبد
الرحمن والداروردي وأسامة بن حفص
7394 - حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ عَنْ
رِبْعِيٍّ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ قَالَ اللَّهُمَّ بِاسْمِكَ أَحْيَا
وَأَمُوتُ وَإِذَا أَصْبَحَ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَانَا بَعْدَ
مَا أَمَاتَنَا وَإِلَيْهِ النُّشُورُ
حديث حذيفة وأبي ذر في القول عند النوم أيضا وفيه: "اللهم باسمك أحيا وأموت
" وقد تقدم شرحهما في الدعوات.
7395 - حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ
رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ عَنْ خَرَشَةَ بْنِ الحُرِّ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ مِنْ اللَّيْلِ قَالَ
بِاسْمِكَ نَمُوتُ وَنَحْيَا فَإِذَا اسْتَيْقَظَ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي
أَحْيَانَا بَعْدَ مَا أَمَاتَنَا
(13/378)
وَإِلَيْهِ النُّشُورُ
7396 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ
عَنْ سَالِمٍ عَنْ كُرَيْبٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا أَرَادَ
أَنْ يَأْتِيَ أَهْلَهُ فَقَالَ بِاسْمِ اللَّهِ اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا
الشَّيْطَانَ وَجَنِّبْ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا فَإِنَّهُ إِنْ يُقَدَّرْ
بَيْنَهُمَا وَلَدٌ فِي ذَلِكَ لَمْ يَضُرُّهُ شَيْطَانٌ أَبَدًا
7397 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ حَدَّثَنَا فُضَيْلٌ عَنْ
مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ
سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْتُ أُرْسِلُ كِلاَبِي
الْمُعَلَّمَةَ قَالَ إِذَا أَرْسَلْتَ كِلاَبَكَ الْمُعَلَّمَةَ وَذَكَرْتَ اسْمَ
اللَّهِ فَأَمْسَكْنَ فَكُلْ وَإِذَا رَمَيْتَ بِالْمِعْرَاضِ فَخَزَقَ فَكُلْ
7398 - حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ الأَحْمَرُ قَالَ
سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ عُرْوَةَ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ
قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ هَا هُنَا أَقْوَامًا حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ
بِشِرْكٍ يَأْتُونَا بِلُحْمَانٍ لاَ نَدْرِي يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا
أَمْ لاَ قَالَ اذْكُرُوا أَنْتُمْ اسْمَ اللَّهِ وَكُلُوا تَابَعَهُ مُحَمَّدُ
بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَالدَّرَاوَرْدِيُّ وَأُسَامَةُ بْنُ حَفْصٍ
7399 - حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ
أَنَسٍ قَالَ ضَحَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَبْشَيْنِ
يُسَمِّي وَيُكَبِّرُ
7400 - حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الأَسْوَدِ بْنِ
قَيْسٍ عَنْ جُنْدَبٍ أَنَّهُ شَهِدَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَوْمَ النَّحْرِ صَلَّى ثُمَّ خَطَبَ فَقَالَ مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ أَنْ
يُصَلِّيَ فَلْيَذْبَحْ مَكَانَهَا أُخْرَى وَمَنْ لَمْ يَذْبَحْ فَلْيَذْبَحْ
بِاسْمِ اللَّهِ
7401 - حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا وَرْقَاءُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قال النبي صلى الله
عليه وسلم: "لاَ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ وَمَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ
بِاللَّهِ
قوله: "باب السؤال بأسماء الله والاستعاذة بها" قال ابن بطال: مقصوده
بهذه الترجمة تصحيح القول بأن الاسم هو المسمى، فلذلك صحت الاستعاذة بالاسم كما
تصح بالذات، وأما شبهة القدرية التي أوردوها على تعدد الأسماء،
(13/379)
فالجواب عنها أن الاسم يطلق ويراد به المسمى كما قررناه، ويطلق ويراد به التسمية وهو المراد بحديث الأسماء. وذكر في الباب تسعة أحاديث كلها في التبرك باسم الله والسؤال به والاستعاذة. حديث أبي هريرة في القول عند النوم وقد تقدم شرحه مستوفى في الدعوات وفيه: "باسمك ربي وضعت جنبي، وبك أرفعه: "قال ابن بطال: أضاف الوضع إلى الاسم، والرفع إلى الذات فدل على أن المراد بالاسم الذات وبالذات يستعان في الرفع والوضع لا باللفظ. قوله: "عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة" قال الدار قطني في غرائب مالك بعد أن أخرجه من طرق إلى " عبد العزيز بن عبد الله " وهو الأويسي شيخ البخاري فيه: "لا أعلم أحدا أسنده عن مالك إلا الأويسي " ورواه إبراهيم بن طهمان عن مالك عن سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا. قوله: "فلينفضه بصنفة ثوبه" الصنفة: بفتح المهملة وكسر النون بعدها فاء طرته، وقيل طرفه، وقيل جانبه، وقيل حاشيته التي فيها هدبه. وقال في النهاية طرفه: الذي يلي طرته. قلت: وتقدم في الدعوات بلفظ: "داخلة إزاره " وتقدم هناك معناها، فالأولى هنا أن يقال المراد طرفه الذي من الداخل جمعا بين الروايتين. قوله: "ثلاث مرات" هكذا زادها مالك في الروايتين الموصولة والمرسلة وتابعه عبد الله بن عمر بسكون الموحدة، وقد فرق بينهما الدار قطني في روايته المذكورة عن الأويسي عنهما، وحذف البخاري عبد الله بن عمر العمري لضعفه واقتصر على مالك، وقد تقدم البحث في جواز حذف الضعيف، والاقتصار على الثقة إذا اشتركا في الرواية في " كتاب الاعتصام"، وصنيع البخاري يقتضي الجواز لكن لم يطرد له في ذلك عمل فإنه حذفه تارة كما هنا، وأثبته أخرى لكن كنى عنه ابن فلان كما مضى التنبيه عليه هناك، ويمكن الجمع بأنه حيث حذفه كان اللفظ الذي ساقه للذي اقتصر عليه بخلاف الآخر. قوله: "فاغفر لها" تقدم في الدعوات بلفظ: "فارحمها " وجمع بينهما إسماعيل بن أمية عن سعيد المقبري، أخرجه المخلص في أواخر الأول من فوائده. قوله عقبه "تابعه يحيى" يريد ابن سعيد القطان و " عبيد الله " هو ابن عمر العمري، و " سعيد " هو المقبري، و " زهير " هو ابن معاوية، و " أبو ضمرة " هو أنس بن عياض، والمراد بإيراد هذه التعاليق بيان الاختلاف على سعيد المقبري هل روى الحديث عن أبي هريرة بلا واسطة أو بواسطة أبيه، وقد تقدم بيان من وصلها كلها في " كتاب الدعوات". حديث حذيفة وأبي ذر في القول عند النوم أيضا وفيه: "اللهم باسمك أحيا وأموت " وقد تقدم شرحهما في الدعوات. حديث ابن عباس في القول عند الجماع وقد تقدم شرحه في " كتاب النكاح " وقوله: "فإنه إن يقدر بينهما ولد " المراد إن كان قدر لأن التقدير أزلي لكن عبر بصيغة المضارعة بالنسبة للتعلق. حديث عدي في الصيد، قد تقدم شرحه في الذبائح. حديث عائشة في الأمر بالتسمية عند الأكل، وقد تقدم في الذبائح أيضا، وقوله فيه: "تابعه محمد بن عبد الرحمن " هو الطفاوي، و " عبد العزيز بن محمد " هو الدراوردي، و " أسامة بن حفص " هو المدني، وتقدم في الذبائح بيان من وصلها، وطريق الدراوردي وصلها محمد بن أبي عمر العدني في مسنده عنه، وتقدم القول في هذا السند بأشبع من هذا هناك. "تنبيهان": أحدهما وقع قوله: "تابعه " إلخ. هنا عقب حديث أبي هريرة المبدأ بذكره في هذا الباب عند كريمة والأصلي وغيرهما والصواب ما وقع عند أبي ذر وغيره أن محل ذلك عقب حديث عائشة وهو سادس أحاديث الباب. ثانيهما: وقع في هذه الرواية: "أن هنا أقواما حديثا عهدهم بالشرك يأتونا " كذا فيه بنون واحدة وهي لغة من يحذف النون مع الرفع، وجوز الكرماني أن يكون بتشديد النون مراعاة للغة المشهورة،
(13/380)
لكن التشديد في مثل هذا قليل. حديث أنس في الأضحية بكبشين، وفيه: "فسمى وكبر " وقد تقدم شرحه في الأضاحي. حديث جندب في منع الذبح في العيد قبل الصلاة، وفيه قوله: "فليذبح بسم الله " وقد تقدم شرحه في الضحايا أيضا. حديث ابن عمر " لا تحلفوا بآبائكم " تقدم شرحه في الأيمان والنذور، قال نعيم بن حماد في الرد على الجهمية: دلت هذه الأحاديث. يعني الواردة في الاستعاذة بأسماء الله وكلماته، والسؤال بها مثل أحاديث الباب، وحديث عائشة، وأبي سعيد " بسم الله أرقيك " وكلاهما عند مسلم، وفي الباب عن عبادة وميمونة وأبي هريرة وغيرهم عند النسائي وغيره بأسانيد جياد، على أن القرآن غير مخلوق إذ لو كان مخلوقا لم يستعذ بها إذ لا يستعاذ بمخلوق، قال الله تعالى :{فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وإذا استعذت فاستعذ بالله " وقال الإمام أحمد في " كتاب السنة " قالت الجهمية لمن قال إن الله لم يزل بأسمائه وصفاته، قلتم بقول النصارى حيث جعلوا معه غيره، فأجابوا بأنا نقول إنه واحد بأسمائه وصفاته، فلا نصف إلا واحدا بصفاته كما قال تعالى :{ذرني ومن خلقت وحيدا} وصفه بالوحدة مع أنه كان له لسان وعينان وأذنان وسمع وبصر ولم يخرج بهذه الصفات عن كونه واحدا ولله المثل الأعلى.
(13/381)
14 - باب مَا يُذْكَرُ فِي الذَّاتِ وَالنُّعُوتِ وَأَسَامِي
اللَّهِ
وَقَالَ خُبَيْبٌ وَذَلِكَ فِي ذَاتِ الإِلَهِ فَذَكَرَ الذَّاتَ بِاسْمِهِ
تَعَالَى
7402 - حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري أخبرني عمرو بن أبي سفيان بن أسيد
بن جارية الثقفي حليف لبني زهرة وكان من أصحاب أبي هريرة أن أبا هريرة قال ثم بعث
رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة منهم خبيب الأنصاري فأخبرني عبيد الله بن عياض
أن ابنة الحارث أخبرته أنهم حين اجتمعوا استعار منها موسى يستحد بها فلما خرجوا من
الحرم ليقتلوه قال خبيب الأنصاري
ولست أبالي حين أقتل مسلما ... على أي شق كان لله مصرعي
على أي شق كان لله مصرعي ... يبارك على أوصال شلو ممزع
فقتله بن الحارث, فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه خبرهم يوم أصيبوا"
قوله: "باب ما يذكر في الذات والنعوت وأسامي الله عز وجل" أي ما يذكر في
ذات الله ونعوته من تجويز إطلاق ذلك كأسمائه، أو منعه لعدم ورود النص به فأما
الذات فقال الراغب: هي تأنيث ذو، وهي كلمة يتوصل بها إلى الوصف بأسماء الأجناس والأنواع
وتضاف إلى الظاهر دون المضمر وتثنى وتجمع ولا يستعمل شيء منها إلا مضافا، وقد
استعاروا لفظ الذات لعين الشيء واستعملوها مفردة ومضافة وأدخلوا عليها الألف
واللام وأجروها مجرى النفس والخاصة، وليس ذلك من كلام العرب انتهى. وقال عياض ذات
الشيء نفسه وحقيقته، وقد استعمل أهل الكلام الذات بالألف واللام، وغلطهم أكثر
النحاة وجوزه بعضهم لأنها ترد بمعنى النفس
(13/381)
وحقيقة الشيء، وجاء في الشعر لكنه شاذ، واستعمال البخاري لها
دال على ما تقدم من أن المراد بها نفس الشيء على طريقة المتكلمين في حق الله تعالى
ففرق بين النعوت والذات. وقال ابن برهان: إطلاق المتكلمين الذات في حق الله تعالى
من جهلهم، لأن ذات تأنيث ذو، وهو جلت عظمته لا يصح له إلحاق تاء التأنيث، ولهذا
امتنع أن يقال علامة وإن كان أعلم العالمين. قال: وقولهم الصفات الذاتية جهل منهم
أيضا لأن النسب إلى ذات: ذوي. وقال التاج الكندي في الرد على الخطيب بن نباتة في
قوله كنه ذاته ذات، بمعنى صاحبة تأنيث ذو وليس لها في اللغة مدلول غير ذلك، وإطلاق
المتكلمين وغيرهم الذات بمعنى النفس خطأ عند المحققين، وتعقب بأن الممتنع
استعمالها بمعنى صاحبة، أما إذا قطعت عن هذا المعنى واستعملت بمعنى الاسمية فلا
محذور لقوله تعالى :{إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُو} أي بنفس الصدور، وقد حكى
المطرزي كل ذات شيء وليس كل شيء ذاتا، وأنشد أبو الحسين فارس:
فنعم ابن عم القوم في ذات ماله ... إذا كان بعض القوم في ماله وفر
ويحتمل أن تكون " ذات " هنا مقحمة كما في قولهم ذات ليلة، وقد ذكرت ما
فيه في " كتاب العلم " في باب العظة بالليل. وقال النووي في تهذيبه:
وأما قولهم - أي الفقهاء - في باب الأيمان فإن حلف بصفة من صفات الذات، وقول
المهذب اللون كالسواد والبياض أعراض تحل الذات فمرادها بالذات الحقيقة وهو اصطلاح
المتكلمين وقد أنكره بعض الأدباء وقال لا يعرف في لغة العرب ذات بمعنى حقيقة، قال
وهذا الإنكار منكر فقد قال الواحدي في قوله تعالى :{فاتقوا الله وأصلحوا ذات
بينكم} قال ثعلب أي الحالة التي بينكم فالتأنيث عنده لحالة. وقال: الزجاج معنى ذات
حقيقة والمراد بالبين الوصل، فالتقدير: فأصلحوا حقيقة وصلكم، قال فذات عنده بمعنى
النفس. وقال غيره ذات هنا كناية عن المنازعة فأمروا بالموافقة، وتقدم في أواخر
النفقات شيء آخر في معنى ذات يده، وأما " النعوت " فإنها جمع نعت وهو
الوصف، يقال نعت فلان نعتا مثل وصفه وصفا وزنه ومعناه، وقد تقدم البحث في إطلاق
الصفة في أوائل " كتاب التوحيد " وأما " الأسامي " فهي جمع
اسم وتجمع أيضا على أسماء قال ابن بطال أسماء الله تعالى على ثلاثة أضرب أحدها
يرجع إلى ذاته وهو الله، والثاني يرجع إلى صفة قائمة به كالحي، والثالث يرجع إلى
فعله كالخالق؛ وطريق إثباتها السمع، والفرق بين صفات الذات وصفات الفعل أن صفات
الذات قائمة به وصفات الفعل ثابتة له بالقدرة ووجود المفعول بإرادته جل وعلا.
قوله: "وقال خبيب" بالمعجمة والموحدة مصغر هو ابن عدي الأنصاري. قوله:
"وذلك في ذات الإله" يشير إلى البيت المذكور في الحديث المساق في الباب،
وقد تقدم شرحه مستوفى في المغازي، وتقدم في " كتاب الجهاد " في باب هل
يستأسر الرجل.قوله: "فذكر الذات باسمه تعالى" أي ذكر الذات متلبسا باسم
الله، أو ذكر حقيقة الله بلفظ الذات قاله الكرماني. قلت: وظاهر لفظه أن مراده أضاف
لفظ الذات إلى اسم الله تعالى، وسمعه النبي صلى الله عليه وسلم فلم ينكره فكان
جائزا. وقال الكرماني " قيل ليس فيه: "يعني قوله ذات الإله دلالة على
الترجمة لأنه لم يرد بالذات الحقيقة التي هي مراد البخاري وإنما مراده وذلك في
طاعة الله أو في سبيل الله، وقد يجاب بأن غرضه جواز إطلاق الذات في الجملة انتهى.
والاعتراض أقوى من الجواب وأصل الاعتراض للشيخ تقي الدين السبكي فيما أخبرني به
عنه شيخنا أبو الفضل الحافظ، وقد ترجم البيهقي في الأسماء والصفات ما جاء في
الذات، وأورد حديث أبي هريرة المتفق عليه في ذكر إبراهيم عليه
(13/382)
السلام " إلا ثلاث كذبا اثنتين في ذات الله " وتقدم
شرحه في ترجمة إبراهيم من أحاديث الأنبياء، وحديث أبي هريرة المذكور في الباب،
وحديث ابن عباس " تفكروا في كل شيء ولا تفكروا في ذات الله " موقوف
وسنده جيد، وحديث أبي الدرداء " لا تفقه كل الفقه حتى تمقت الناس في ذات الله
" ورجاله ثقات إلا أنه منقطع، ولفظ ذات في الأحاديث المذكورة بمعنى من أجل أو
بمعنى حق، ومثله قول حسان:
وإن أخا الأحقاف إذ قام فيهم ... يجاهد في ذات الإله ويعدل
وهي كقوله تعالى حكاية عن قول القائل: يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله، فالذي
يظهر أن المراد جواز إطلاق لفظ ذات لا بالمعنى الذي أحدثه المتكلمون ولكنه غير
مردود إذا عرف أن المراد به النفس لثبوت لفظ النفس في الكتاب العزيز، ولهذه النكتة
عقب المصنف بترجمة النفس، وسيأتي في باب الوجه أنه ورد بمعنى الرضا وقال ابن دقيق
العيد في العقيدة: تقول في الصفات المشكلة أنها حق وصدق على المعنى الذي أراده
الله، ومن تأولها نظرنا فإن كان تأويله قريبا على مقتضى لسان العرب لم ننكر عليه،
وإن كان بعيدا توقفنا عنه ورجعنا إلى التصديق مع التنزيه. وما كان منها معناه
ظاهرا مفهوما من تخاطب العرب حملناه عليه لقوله: "على ما فرطت في جنب الله "
فإن المراد به في استعمالهم الشائع حق الله فلا يتوقف في حمله عليه، وكذا قوله:
"إن قلب ابن آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن " فإن المراد به إرادة قلب
ابن آدم مصرفة بقدرة الله وما يوقعه فيه، وكذا قوله تعالى :{فأتى الله بنيانهم من
القواعد} معناه خرب الله بنيانهم، وقوله: {إنما نطعمكم لوجه الله} معناه لأجل
الله، وقس على ذلك وهو تفصيل بالغ قل من تيقظ له. وقال غيره اتفق المحققون على أن
حقيقة الله مخالفة لسائر الحقائق، وذهب بعض أهل الكلام إلى أنها من حيث إنها ذات
مساوية لسائر الذوات، وإنما تمتاز عنها بالصفات التي تختص بها كوجوب الوجود،
والقدرة التامة، والعلم التام، وتعقب بأن الأشياء المتساوية في تمام الحقيقة يجب
أن يصح على كل واحد منها ما يصح على الآخر " فيلزم من دعوى التساوي المحال،
وبأن أصل ما ذكروه قياس الغائب على الشاهد وهو أصل كل خبط، والصواب الإمساك عن
أمثال هذه المباحث والتفويض إلى الله في جميعها والاكتفاء بالإيمان بكل ما أوجب
الله في كتابه أو على لسان نبيه إثباته له أو تنزيهه عنه على طريق الإجمال وبالله
التوفيق، ولو لم يكن في ترجيح التفويض على التأويل إلا أن صاحب التأويل ليس جازما
بتأويله بخلاف صاحب التفويض.
(13/383)
15 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ
نَفْسَهُ}
وَقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي
نَفْسِكَ}
7403 - حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا
الأَعْمَشُ عَنْ شَقِيقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَا مِنْ أَحَدٍ أَغْيَرُ مِنْ اللَّهِ مِنْ
أَجْلِ ذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ وَمَا أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ الْمَدْحُ مِنْ
اللَّهِ"
(13/383)
7404 - حَدَّثَنَا عَبْدَانُ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ
الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ كَتَبَ
فِي كِتَابِهِ وَهُوَ يَكْتُبُ عَلَى نَفْسِهِ وَهُوَ وَضْعٌ عِنْدَهُ عَلَى
الْعَرْشِ إِنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي
وقال ابن التين معنى العندية في هذا الحديث العلم بأنه موضوع على العرش، وأما كتبه
فليس للاستعانة لئلا ينساه فإنه منزه عن ذلك لا يخفى عنه شيء وإنما كتبه من أجل
الملائكة الموكلين بالمكلفين.
7405 - حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ
سَمِعْتُ أَبَا صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال
النبي صلى الله عليه وسلم: "يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَا عِنْدَ ظَنِّ
عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ
فِي نَفْسِي وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلاَ ذَكَرْتُهُ فِي مَلاَ خَيْرٍ مِنْهُمْ
وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا وَإِنْ
تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي
أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً
[الحديث: 7405 – طرفاه في: 7505, 7537]
قوله: "باب قول الله تعالى ويحذركم الله نفسه، وقول الله تعالى تعلم ما في
نفسي ولا أعلم ما في نفسك" قال الراغب نفسه: ذاته، وهذا وإن كان يقتضي
المغايرة من حيث أنه مضاف ومضاف إليه فلا شيء من حيث المعنى سوى واحد سبحانه وتعالى
عن الأثنينية من كل وجه، وقيل إن إضاقة النفس هنا إضافة ملك، والمراد بالنفس نفوس
عباده انتهى ملخصا، ولا يخفى بعد الأخير وتكلفه. وترجم البيهقي في الأسماء والصفات
النفس وذكر هاتين الآيتين، وقوله تعالى :{كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ
الرَّحْمَةَ} وقوله تعالى :{وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} ومن الأحاديث الحديث الذي
فيه: "أنت كما أثنيت على نفسك " والحديث الذي فيه: "إني حرمت الظلم
على نفسي " وهما في صحيح مسلم. قلت: وفيه أيضا الحديث الذي فيه: "سبحان
الله رضا نفسه " ثم قال: والنفس في كلام العرب على أوجه منها الحقيقة كما
يقولون في نفس الأمر وليس للأمر نفس منفوسة، ومنها الذات قال وقد قيل في قوله
تعالى :{تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} أن معناه تعلم
ما أكنه وما أسره ولا أعلم ما تسره عني، وقيل ذكر النفس هنا للمقابلة والمشاكلة
وتعقب بالآية التي في أول الباب فليس فيها مقابلة. وقال أبو إسحاق الزجاج في قوله
تعالى :{وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} أس إياه وحكى صاحب المطالع في قوله
تعالى :{وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} ثلاثة أقوال أحدها: لا أعلم ذاتك،
ثانيها: لا أعلم ما في غيبك، ثالثها: لا أعلم ما عندك، وهو بمعنى قول غيره لا أعلم
معلومك أو إرادتك أو سرك أو ما يكون منك، ثم ذكر البخاري في الباب ثلاثة أحاديث.
حديث: "عبد الله " وهو ابن مسعود " ما من أحد أغير من الله - وفيه
- وما أحد أحب إليه المدح من الله " كذا وقع هنا مختصرا، وتقدم في تفسير سورة
الأنعام من طريق " أبي وائل " وهو شقيق بن سلمة المذكور هنا أتم منه،
وهذا الحديث مداره في الصحيحين على أبي وائل، وأخرجه مسلم في رواية عبد الرحمن بن
يزيد النخعي عن ابن مسعود نحوه، وزاد فيه: "ولا أحد أحب إليه العذر من الله
من أجل ذلك أنزل الكتب وأرسل الرسل " وهذه الزيادة عند المصنف في حديث
المغيرة الآتي في باب " لا شخص أغير من الله " قال ابن بطال في هذه
الآيات والأحاديث إثبات النفس لله، وللنفس معان، والمراد ينفس الله ذاته وليس بأمر
مزيد عليه فوجب أن يكون هو، وأما قوله: "أغير من الله " فسبق الكلام
عليه في " كتاب الكسوف " وقيل غيرة الله كراهة إتيان الفواحش، أي عدم
رضاه بها لا التقدير، وقيل الغضب
(13/384)
لازم الغيرة ولازم الغضب إرادة إيصال العقوبة وقال الكرماني: ليس في حديث ابن مسعود هذا ذكر النفس، ولعله أقام استعمال أحد مقام النفس لتلازمهما في صحة استعمال كل واحد منهما مقام الآخر، ثم قال والظاهر أن هذا الحديث كان قبل هذا الباب فنقله الناسخ إلى هذا الباب انتهى، وكل هذا غفلة عن مراد البخاري، فإن ذكر النفس ثابت في هذا الحديث الذي أورده، وإن كان لم يقع في هذه الطريق لكنه أشار إلى ذلك كعادته، فقد أورده في تفسير سورة الأنعام بلفظ: "لا شيء " وفي تفسير سورة الأعراف بلفظ: "ولا أحد " ثم اتفقا على " أحب إليه المدح من الله " ولذلك مدح نفسه، وهذا القدر هو المطابق للترجمة وقد كثر منه أن يترجم ببعض ما ورد في طرق الحديث الذي يورده ولو لم يكن ذلك القدر موجودا في تلك الترجمة. وقد سبق الكرماني إلى نحو ذلك ابن المنير فقال: ترجم على ذكر النفس في حق الباري وليس في الحديث الأول للنفس ذكر، فوجه مطابقته أنه صدر الكلام بأحد، وأحد الواقع في النفي عبارة عن النفس على وجه مخصوص بخلاف أحد الواقع في قوله تعالى :{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} انتهى، وخفي عليه ما خفي على الكرماني مع أنه تفطن لمثل ذلك في بعض المواضع، ثم قال ابن المنير قول القائل ما في الدار أحد لا يفهم منه إلا نفي الأناسي، ولهذا كان قولهم ما في الدار أحد إلا زيدا استثناء من الجنس ومقتضى الحديث إطلاقه على الله لأنه لولا صحة الإطلاق ما انتظم الكلام كما ينتظم: ما أحد أعلم من زيد فإن زيدا من الأحدين بخلاف ما أحد أحسن من ثوبي فإنه ليس منتظما لأن الثوب ليس من الأحدين. قوله: "كتب في كتابه وهو يكتب على نفسه" كذا لأبي ذر وسقطت الواو لغيره، وعلى الأول فالجملة حالية، وعلى الثاني فيكتب على نفسه بيان لقوله: "كتب " والمكتوب هو قوله: "إن رحمتي " إلخ، وقوله: "وهو " أي المكتوب وضع بفتح فسكون أي موضوع، ووقع كذلك في الجمع للحميدي بلفظ موضوع وهي رواية الإسماعيلي فيما أخرجه من وجه آخر عن أبي حمزة المذكور في السند وهو بالمهملة والزاي واسمه محمد بن ميمون السكري، وحكى عياض عن رواية أبي ذر وضع بالفتح على أنه فعل ماض مبني للفاعل، ورأيته في نسخة معتمدة بكسر الضاد مع التنوين، وقد مضى شرح هذا الحديث في أوائل بدء الخلق، ويأتي شيء من الكلام عليه في باب {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} وفي باب {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} أواخر الكتاب إن شاء الله تعالى، وأما قوله: "عنده " فقال ابن بطال عند في اللغة للمكان، والله منزه عن الحلول في المواضع لأن الحلول عرض يفنى وهو حادث والحادث لا يليق بالله، فعلى هذا قيل معناه أنه سبق علمه بإثابة من يعمل بطاعته وعقوبة من يعمل بمعصيته، ويؤيده قوله في الحديث الذي بعده " أنا عند ظن عبدي بي " ولا مكان هناك قطعا. وقال الراغب عند لفظ موضوع للقرب ويستعمل في المكان وهو الأصل، ويستعمل في الاعتقاد: تقول عندي في كذا كذا أي أعتقده، ويستعمل في المرتبة ومنه {أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} وأما قوله: "إن كان هذا هو الحق من عندك" فمعناه من حكمك, حكمك وقال بن التين معنى العندية في هذا الحديث العلم بأنه موضوع على العرش وأما كتبه فليس للاستعانة لئلا ينساه فإنه منزه عن ذلك لا يخفى عنه شيء وانما كتبه من أجل الملائكة الموكلين بالمكلفين. الحديث الثالث: قوله "يقول الله تعالى أنا عند ظن عبدي بي" أي قادر على أن أعمل به ما ظن أني عامل به. وقال الكرماني وفي السياق إشارة إلى ترجيح جان الرجاء على الخوف وكأنه أخذه من جهة التسوية فإن العاقل إذا سمع ذلك لا يعدل إلى ظن إيقاع الوعيد وهو جانب الخوف لأنه لا يختاره لنفسه بل يعدل إلى ظن وقوع الوعد وهو جانب الرجاء وهو كما قال أهل التحقيق مقيد بالمحتضر ويؤيد ذلك حديث: "لا يموتن
(13/385)
أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله " وهو عند مسلم من حديث جابر. وأما قبل ذلك ففي الأول أقوال ثالثها الاعتدال وقال ابن أبي جمرة المراد بالظن هنا العلم وهو كقوله: "وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه" وقال القرطبي في المفهم قيل معنى ظن عبدي بي ظن الإجابة عند الدعاء وظن القبول عند التوبة وظن المغفرة عند الاستغفار وظن المجازاة عند فعل العبادة بشروطها تمسكا بصادق وعده. وقال ويؤيده قوله في الحديث الآخر ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة قال ولذلك ينبغي للمرء أن يجتهد في القيام بما عليه موقنا بأن الله يقبله ويغفر له لأنه وعد بذلك وهو لا يخلف الميعاد فإن اعتقد أو ظن أن الله لا يقبلها وأنها لا تنفعه فهذا هو اليأس من رحمة الله وهو من الكبائر، ومن مات على ذلك وكل إلى ما ظن كما في بعض طرق الحديث المذكور " فليظن بي عبدي ما شاء " قال: وأما ظن المغفرة مع الإصرار فذلك محض الجهل والغرة وهو يجر إلى مذهب المرجئة. قوله: "وأنا معه إذا ذكرني" أي بعلمي وهو كقوله: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} والمعية المذكورة أخص من المعية التي في قوله تعالى :{مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ - إلى قوله - إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} وقال ابن أبي جمرة معناه فأنا معه حسب ما قصد من ذكره لي قال: ثم يحتمل أن يكون الذكر باللسان فقط أو بالقلب فقط أو بهما أو بامتثال الأمر واجتناب النهي، قال والذي يدل عليه الإخبار أن الذكر على نوعين أحدهما مقطوع لصاحبه بما تضمنه هذا الخبر والثاني على خطر، قال والأول يستفاد من قوله تعالى :{فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره} والثاني من الحديث الذي فيه: "من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعدا " لكن إن كان في حال المعصية يذكر الله بخوف ووجل مما هو فيه فإنه يرجى له. قوله: "فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي" أي إن ذكرني بالتنزيه والتقديس سرا ذكرته بالثواب والرحمة سرا. وقال ابن أبي جمرة يحتمل أن يكون مثل قوله تعالى :{فاذكروني أذكركم} ومعناه اذكروني بالتعظيم أذكركم بالإنعام وقال تعالى :{وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} أي أكبر العبادات فمن ذكره وهو خائف آمنه أو مستوحش آنسه قال تعالى: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}. قوله: "وإن ذكرني في ملأ" بفتح الميم واللام مهموز أي جماعة "ذكرته في ملأ خير منهم" قال بعض أهل العلم يستفاد منه أن الذكر الخفي أفضل من الذكر الجهري والتقدير إن ذكرني في نفسه ذكرته بثواب لا أطلع عليه أحدا وإن ذكرني جهرا ذكرته بثواب أطلع عليه الملأ الأعلى وقال ابن بطال هذا نص في أن الملائكة أفضل من بني آدم وهو مذهب جمهور أهل العلم وعلى ذلك شواهد من القرآن مثل {إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} والخالد أفضل من الفاني فالملائكة أفضل من بني آدم وتعقب بأن المعروف عن جمهور أهل السنة أن صالحي بني آدم أفضل من سائر الأجناس والذين ذهبوا إلى تفضيل الملائكة الفلاسفة ثم المعتزلة وقليل من أهل السنة من أهل التصوف وبعض أهل الظاهر فمنهم من فاضل بين الجنسين فقالوا حقيقة الملك أفضل من حقيقة الإنسان لأنها نورانية وخيرة ولطيفة مع سعة العلم والقوة وصفاء الجوهر وهذا لا يستلزم تفضيل كل فرد على كل فرد لجواز أن يكون في بعض الأناسي ما في ذلك وزيادة ومنهم من خص الخلاف بصالحي البشر والملائكة ومنهم من خصه بالأنبياء ثم منهم من فضل الملائكة على غير الأنبياء ومنهم من فضلهم على الأنبياء أيضا إلا على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ومن أدلة تفضيل النبي على الملك أن الله أمر الملائكة بالسجود لآدم على سبيل التكريم له حتى قال إبليس {أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ} ومنها قوله تعالى :{لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} لما فيه من الإشارة إلى العناية به ولم يثبت ذلك للملائكة، ومنها قوله تعالى :{إنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} ومنها قوله تعالى :{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} فدخل في
(13/386)
عمومه الملائكة، والمسخر له أفضل من المسخر، ولأن طاعة الملائكة بأصل الخلقة وطاعة البشر غالبا مع المجاهدة للنفس لما طبعت عليه من الشهوة والحرص والهوى والغضب؛ فكانت عبادتهم أشق، وأيضا فطاعة الملائكة بالأمر الوارد عليهم وطاعة البشر بالنص تارة وبالاجتهاد تارة والاستنباط تارة فكانت أشق ولأن الملائكة سلمت من وسوسة الشياطين وإلقاء الشبه والإغواء الجائزة على البشر ولأن الملائكة تشاهد حقائق الملكوت والبشر لا يعرفون ذلك إلا بالإعلام فلا يسلم منهم من إدخال الشبهة من جهة تدبير الكواكب وحركة الأفلاك إلا الثابت على دينه ولا يتم ذلك إلا بمشقة شديدة ومجاهدات كثيرة، وأما أدلة الآخرين فقد قيل إن حديث الباب أقوى ما استدل به لذلك للتصريح بقوله فيه في ملأ خير منهم والمراد بهم الملائكة، حتى قال بعض الغلاة في ذلك وكم من ذاكر لله في ملأ فيهم محمد صلى الله عليه وسلم ذكرهم الله في ملأ خير منهم، وأجاب بعض أهل السنة بأن الخبر المذكور ليس نصا ولا صريحا في المراد بل يطرقه احتمال أن يكون المراد بالملأ الذين هم خير من الملأ الذاكر الأنبياء والشهداء فإنهم أحياء عند ربهم فلم ينحصر ذلك في الملائكة، وأجاب آخر وهو أقوى من الأول بأن الخيرية إنما حصلت بالذاكر والملأ معا فالجانب الذي فيه رب العزة خير من الجانب الذي ليس هو فيه بلا ارتياب فالخيرية حصلت بالنسبة للمجموع على المجموع وهذا الجواب ظهر لي وظننت أنه مبتكر. ثم رأيته في كلام القاضي كمال الدين بن الزملكاني في الجزء الذي جمعه في الرفيق الأعلى فقال إن الله قابل ذكر العبد في نفسه بذكره له في نفسه، وقابل ذكر العبد في الملأ بذكره له في الملأ فإنما صار الذكر في الملأ الثاني خيرا من الذكر في الأول لأن الله وهو الذاكر فيهم والملأ الذين يذكرون والله فيهم أفضل من الملأ الذين يذكرون وليس الله فيهم، ومن أدلة المعتزلة تقديم الملائكة في الذكر في قوله تعالى :{مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ - شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ - اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ} وتعقب بأن مجرد التقديم في الذكر لا يستلزم التفضيل لأنه لم ينحصر فيه بل له أسباب أخرى كالتقديم بالزمان} في مثل قوله: {وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ} فقدم نوحا على إبراهيم لتقدم زمان نوح مع أن إبراهيم أفضل ومنها قوله تعالى :{لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} وبالغ الزمخشري فادعى أن دلالتها لهذا المطلوب قطعية بالنسبة لعلم المعاني فقال في قوله تعالى :{وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} أي ولا من هو أعلى قدرا من المسيح، وهم الملائكة الكروبيون الذين حول العرش، كجبريل وميكائيل وإسرافيل، قال: ولا يقتضي علم المعاني غير هذا من حيث إن الكلام إنما سيق للرد على النصارى لغلوهم في المسيح، فقيل لهم لن يترفع فيه المسيح عن العبودية ولا من هو أرفع درجة منه انتهى ملخصا، وأجيب بأن الترقي لا يستلزم التفضيل المتنازع فيه وإنما هو بحسب المقام، وذلك أن كلا من الملائكة والمسيح عبد من دون الله، فرد عليهم بأن المسيح الذي تشاهدونه لم يتكبر عن عبادة الله، وكذلك من غاب عنكم من الملائكة لا تكبر، والنفوس لما غاب عنها أهيب ممن تشاهده، ولأن الصفات التي عبدوا المسيح لأجلها من الزهد في الدنيا والاطلاع على المغيبات وإحياء الموتى بإذن الله موجودة في الملائكة، فإن كانت توجب عبادته فهي موجبة لعبادتهم بطريق الأولى، وهم مع ذلك لا يستنكفون عن عبادة الله تعالى، ولا يلزم من هذا الترقي ثبوت الأفضلية المتنازع فيها. وقال البيضاوي احتج بهذا العطف من زعم أن الملائكة أفضل من الأنبياء. وقال هي مساقة للرد على النصارى في رفع المسيح عن مقام العبودية، وذلك يقتضي أن يكون المعطوف عليه أعلى درجة منه حتى يكون عدم استنكافهم كالدليل على عدم استنكافه، وجوابه أن الآية سيقت للرد على عبدة المسيح والملائكة، فأريد بالعطف المبالغة
(13/387)
باعتبار الكثرة دون التفضيل، كقول القائل أصبح الأمير لا يخالفه رئيس ولا مرءوس، وعلى تقدير إرادة التفضيل فغايته تفضيل المقربين ممن حول العرش، بل من هو أعلى رتبة منهم على المسيح، وذلك لا يستلزم فضل أحد الجنسين على الآخر مطلقا. وقال الطيبي لا تتم لهم الدلالة إلا إن سلم أن الآية سيقت للرد على النصارى فقط فيصح: لن يترفع المسيح عن العبودية ولا من هو أرفع منه، والذي يدعي ذلك يحتاج إلى إثبات أن النصارى تعتقد تفضيل الملائكة على المسيح، وهم لا يعتقدون ذلك بل يعتقدون فيه الإلهية فلا يتم استدلال من استدل به، قال وسياقه الآية من أسلوب التتميم والمبالغة لا للترقي، وذلك أنه قدم قوله: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ - إلى قوله: وَكِيلاً} فقرر الوحدانية والمالكية والقدرة التامة، ثم أتبعه بعدم الاستنكاف، فالتقدير لا يستحق من اتصف بذلك أن يستكبر عليه الذي تتخذونه أيها النصارى إلها لاعتقادكم فيه الكمال ولا الملائكة الذين اتخذها غيركم آلهة لاعتقادهم فيهم الكمال. قلت: وقد ذكر ذلك البغوي ملخصا، ولفظه لم يقل ذلك رفعا لمقامهم على مقام عيسى بل ردا على الذين يدعون أن الملائكة آلهة فرد عليهم كما رد على النصارى الذين يدعون التثليث، ومنها قوله تعالى :{قل لا أقول لكم عندي خزائن الله، ولا أعلم الغيب، لا أقول لكم إني ملك} ففي أن يكون ملكا، فدل على أنهم أفضل، وتعقب بأنه إنما نفى ذلك لكونهم طلبوا منه الخزائن وعلم الغيب؛ وأن يكون بصفة الملك من ترك الأكل والشرب والجماع، وهو من نمط إنكارهم أن يرسل الله بشرا مثلهم فنفى عنه أنه ملك، ولا يستلزم ذلك التفضيل، ومنها أنه سبحانه لما وصف جبريل ومحمدا، قال في جبريل {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} وقال في حق النبي صلى الله عليه وسلم {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} وبين الوصفين بون بعيد، وتعقب بأن ذلك إنما سيق للرد على من زعم أن الذي يأتيه شيطان فكان وصف جبريل بذلك تعظيما للنبي صلى الله عليه وسلم فقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم في غير هذا الموضع بمثل ما وصف به جبريل هنا وأعظم منه، وقد أفرط الزمخشري في سوء الأدب هنا. وقال كلاما يستلزم تنقيص المقام المحمدي، وبالغ الأئمة في الرد عليه في ذلك وهو من زلاته الشنيعة. قوله: "وإن تقرب إلي شبرا" في رواية المستملي والسرخسي " بشبر " بزيادة موحدة في أوله، وسيأتي شرحه في أواخر " كتاب التوحيد " في باب ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وروايته عن ربه.
(13/388)
16 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ
وَجْهَهُ}
7406 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ
عَمْرٍو عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ
{قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ}
قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَعُوذُ بِوَجْهِكَ فَقَالَ {أَوْ مِنْ
تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هَذَا أَيْسَرُ
قوله: "باب قول الله عز وجل:كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ" ذكر
في حديث جابر في نزول قوله تعالى :{قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ
عَلَيْكُمْ عَذَاباً} الآية، وقد تقدم شرحه في تفسير سورة الأنعام، وقوله في آخره:
"هذا أيسر " في رواية ابن السكن " هذه " وسقط لفظ الإشارة من
رواية الأصيلي والمراد منه قوله فيه: "أعوذ بوجهك " قال ابن بطال: في
هذه الآية والحديث دلالة على أن لله وجها وهو من صفة ذاته، وليس بجارحة ولا
كالوجوه التي
(13/388)
نشاهدها من المخلوقين، كما نقول إنه عالم ولا نقول إنه كالعلماء الذين نشاهدهم. وقال غيره دلت الآية على أن المراد بالترجمة الذات المقدسة، ولو كانت صفة من صفات الفعل لشملها الهلاك كما شمل غيرها من الصفات وهو محال. وقال الراغب أصل الوجه: الجارحة المعروفة، ولما كان الوجه أول ما يستقبل وهو أشرف ما في ظاهر البدن، استعمل في مستقبل كل شيء وفي مبدئه وفي إشراقه، فقيل وجه النهار، وقيل وجه كذا أي ظاهره، وربما أطلق الوجه على الذات كقولهم كرم الله وجهه، وكذا قوله تعالى :{وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} وقوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} وقيل إن لفظ الوجه صلة، والمعنى كل شيء هالك إلا هو وكذا {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} وقيل المراد بالوجه القصد، أي يبقى ما أريد به وجهه. قلت: وهذا الأخير نقل عن سفيان وغيره وقد تقدم ما ورد فيه في أول تفسير سورة القصص وقال الكرماني قيل المراد بالوجه في الآية والحديث الذات أو الوجود أو لفظه زائد أو الوجه الذي لا كالوجوه، لاستحالة حمله على العضو المعروف، فتعين التأويل أو التفويض. وقال البيهقي: تكرر ذكر الوجه في القرآن والسنة الصحيحة، وهو في بعضها صفة ذات كقوله: إلا رداء الكبرياء على وجهه وهو ما في صحيح البخاري عن أبي موسى، وفي بعضها بمعنى من أجل كقوله: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} وفي بعضها بمعنى الرضا كقوله: {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} ، {إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} وليس المراد الجارحة جزما والله أعلم.
(13/389)
17 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي}
تُغَذَّى وَقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا}
7407 - حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا وهيب حدثنا أيوب عن نافع عن بن عن النبي صلى
الله عليه وسلم قال: أعور عين اليمنى كأنها عنبة طافية"
7408 - حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة أخبرنا قتادة قال سمعت أنسا رضي الله عنه عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال "ما بعث الله من نبي إلا أنذر قومه الأعور
الكذاب إنه أعور وإن ربكم ليس بأعور مكتوب بين عينيه كافر"
قوله: "باب قول الله تعالى ولتصنع على عيني: تغذي" كذا وقع في رواية
المستملي والأصيلي بضم التاء وفتح الغين المعجمة بعدها معجمة ثقيلة من التغذية،
ووقع في نسخة الصغاني بالدال المهملة وليس بفتح أوله على حذف إحدى التاءين فإنه
تفسير تصنع، وقد تقدم في تفسير سورة طه قال ابن التين هذا التفسير لقتادة، ويقال
صنعت الفرس إذا أحسنت القيام عليه. قوله: "وقوله تعالى { تجري بأعيننا} أي
بعلمنا وذكر فيه حديثي ابن عمر ثم أنس في ذكر الدجال، وقد تقدما مشروحين في "
كتاب الفتن " وفيهما أن الله ليس بأعور، وقوله هنا وأشار بيده إلى عينه كذا
للأكثر عن موسى ابن إسماعيل عن جويرية، وذكره أبو مسعود في الأطراف عن مسدد بدل
موسى والأول هو الصواب، وقد أخرجه عثمان الدارمي في كتاب الرد على بشر المريسي عن
موسى بن إسماعيل مثله. ورواه عبد الله بن محمد بن أسماء عن عمه جويرية بدون الزيادة
التي في آخره، أخرجه أبو يعلى والحسن بن سفيان في مسنديهما عنه، وأخرجه الإسماعيلي
عنهما قال الراغب: العين الجارحة، ويقال للحافظ للشيء المراعى له: عين، ومنه فلان
(13/389)
بعيني أي أحفظه، ومنه قوله تعالى :{وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} أي نحن نراك ونحفظك، ومثله {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} وقوله: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} أي بحفظي، قال وتستعار العين لمعان أخرى كثيرة. وقال ابن بطال احتجت المجسمة بهذا الحديث. وقالوا في قوله وأشار بيده إلى عينه دلالة على أن عينه كسائر الأعين، وتعقب باستحالة الجسمية عليه لأن الجسم حادث وهو قديم؛ فدل على أن المراد نفي النقص عنه انتهى، وقد تقدم شيء من هذا في باب قوله تعالى :{وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً} وقال البيهقي: منهم من قال العين صفة ذات كما تقدم في الوجه، ومنهم من قال: المراد بالعين الرؤية، فعلى هذا قوله: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} أي لتكون بمرأى مني، وكذا قوله: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} أي بمرأى منا والنون للتعظيم، ومال إلى ترجيح الأول لأنه مذهب السلف، ويتأيد بما وقع في الحديث وأشار بيده فإن فيه إيماء إلى الرد على من يقول معناها القدرة، صرح بذلك قول من قال إنها صفة ذات وقال ابن المنير وجه الاستدلال على إثبات العين لله من حديث الدجال من قوله: "إن الله ليس بأعور" من جهة أن العور عرفا عدم العين وضد العور ثبوت العين، فلما نزعت هذه النقيصة لزم ثبوت الكمال بضدها وهو وجود العين، وهو على سبيل التمثيل والتقريب للفهم لا على معنى إثبات الجارحة، قال ولأهل الكلام في هذه الصفات كالعين والوجه واليد ثلاثة أقوال: أحدها أنها صفات ذات أثبتها السمع ولا يهتدي إليها العقل، والثاني أن العين كناية عن صفة البصر، واليد كناية عن صفة القدرة، والوجه كناية عن صفة الوجود، والثالث إمرارها على ما جاءت مفوضا معناها إلى الله تعالى. وقال الشيخ شهاب الدين السهروردي في كتاب العقيدة له، أخبر الله في كتابه وثبت عن رسوله الاستواء والنزول والنفس واليد والعين، فلا يتصرف فيها بتشبيه ولا تعطيل، إذ لولا إخبار الله ورسوله ما تجاسر عقل أن يحوم حول ذلك الحمى، قال الطيبي: هذا هو المذهب المعتمد وبه يقول السلف الصالح. وقال غيره لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه من طريق صحيح التصريح بوجوب تأويل شيء من ذلك ولا المنع من ذكره، ومن المحال أن يأمر الله نبيه بتبليغ ما أنزل إليه من ربه وينزل عليه {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} ثم يترك هذا الباب فلا يميز ما يجوز نسبته إليه مما لا يجوز مع حضه على التبليغ عنه بقوله: "ليبلغ الشاهد الغائب " حتى نقلوا أقواله وأفعاله وأحوله وصفاته وما فعل بحضرته، فدل على أنهم اتفقوا على الإيمان بها على الوجه الذي أراده الله منها، ووجب تنزيهه عن مشابهة المخلوقات بقوله تعالى :{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} فمن أوجب خلاف ذلك بعدهم فقد خالف سبيلهم وبالله التوفيق. وقد سئلت هل يجوز لقارئ هذا الحديث أن يصنع كما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجبت وبالله التوفيق أنه إن حضر عنده من يوافقه على معتقده وكان يعتقد تنزيه الله تعالى عن صفات الحدوث وأراد التأسي محضا جاز، والأولى به الترك خشية أن يدخل على من يراه شبهة التشبيه تعالى الله عن ذلك، ولم أر في كلام أحد من الشراح في حمل هذا الحديث على معنى خطر لي فيه إثبات التنزيه، وحسم مادة التشبيه عنه، وهو أن الإشارة إلى عينه صلى الله عليه وسلم إنما هي بالنسبة إلى عين الدجال فإنها كانت صحيحة مثل هذه ثم طرأ عليها العور لزيادة كذبه في دعوى الإلهية، وهو أنه كان صحيح العين مثل هذه فطرأ عليها النقص ولم يستطع دفع ذلك عن نفسه.
(13/390)
18 - باب قَوْلِ اللَّهِ {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ
الْمُصَوِّرُ}
7408 - حدثنا إسحاق حدثنا عفان حدثنا وهيب حدثنا موسى هو بن عقبة حدثني محمد بن
(13/390)
يحيى بن حبان عن بن محيريز عن أبي سعيد الخدري "في غزوة
بني المصطلق أنهم أصابوا سبايا فأرادوا أن يستمتعوا بهن ولا يحملن فسألوا النبي
صلى الله عليه وسلم عن العزل فقال ما عليكم أن لا تفعلوا فإن الله قد كتب من هو
خالق إلى يوم القيامة وقال مجاهد عن قزعة سمعت أبا سعيد فقال قال النبي صلى الله
عليه وسلم ليست نفس مخلوقة إلا الله خالقها"
قوله: "باب قول الله تعالى هو الخالق البارئ المصور" كذا للأكثر
والتلاوة {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ} إلخ، وثبت كذلك في بعض النسخ من رواية كريمة
قال الطيبي: قيل إن الألفاظ الثلاثة مترادفة، وهو وهم فإن " الخالق " من
الخلق، وأصله التقدير المستقيم ويطلق على الإبداع وهو إيجاد الشيء على غير مثال
كقوله تعالى:{خلق السموات والأرض" وعلى التكوين كقوله تعالى :{خَلَقَ
الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ} و" البارئ " من البرء، وأصله خلوص الشيء عن
غيره إما على سبيل التقصي منه، وعليه قولهم برأ فلان من مرضه، والمديون من دينه،
ومنه استبرأت الجارية، وإما على سبيل الإنشاء، ومنه برأ الله النسمة، وقيل البارئ
الخالق البرئ من التفاوت والتنافر المخلين بالنظام، و " المصور " مبدع
صور المخترعات ومرتبها بحسب مقتضى الحكمة، فالله خالق كل شيء بمعنى أنه موجده من
أصل ومن غير أصل، وبارئه بحسب ما اقتضته الحكمة من غير تفاوت ولا اختلال، ومصوره
في صورة يترتب عليها خواصه ويتم بها كماله، والثلاثة من صفات الفعل إلا إذا أريد
بالخالق المقدر فيكون من صفات الذات، لأن مرجع التقدير إلى الإرادة، وعلى هذا
فالتقدير يقع أولا، ثم الإحداث على الوجه المقدر يقع ثانيا، ثم التصوير بالتسوية
يقع ثالثا انتهى. وقال الحليمي " الخالق " معناه الذي جعل المبدعات
أصنافا وجعل لكل صنف منها قدرا، و " البارئ " معناه الموجد لما كان في
معلومه، وإليه الإشارة بقوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} قال ويحتمل أن
المراد به قالب الأعيان لأنه أبدع الماء والتراب والنار والهواء لا من شيء ثم خلق
منها الأجسام المختلفة، و " المصور " معناه المهيئ للأشياء على ما أراده
من تشابه وتخالف. وقال الراغب ليس الخلق بمعنى الإبداع إلا لله وإلى ذلك أشار
بقوله تعالى: َ{فَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا} وأما الذي يوجد
بالاستحالة فقد وقع لغيره بتقديره سبحانه وتعالى، مثل قوله لعيسى {وَإِذْ تَخْلُقُ
مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي} والخلق في حق غير الله يقع بمعنى
التقدير وبمعنى الكذب، و " البارئ " أخص بوصف الله تعالى والبرية الخلق،
قيل أصله الهمز فهو من برأ وقيل أصله البري من بريت العود، وقيل البرية من البري
بالقصر وهو التراب فيحتمل أن يكون معناه موجد الخلق من البري وهو التراب، و "
المصور " معناه المهيئ قال تعالى :{يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ
يَشَاءُ} والصورة في الأصل ما يتميز به الشيء عن غيره، ومنه محسوس كصورة الإنسان
والفرس، ومنه معقول كالذي اختص به الإنسان من العقل والرؤية وإلى كل منهما الإشارة
بقوله تعالى :{خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} - وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ
صُوَرَكُمْ - هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ}. قوله "حدثنا
إسحاق" قال "أبو علي الجياني" هو بن منصور قلت ويؤيد ذلك وان كان
قد يظن انه بن راهويه لكونه أيضا روى عن عفان ان بن راهويه لا يقول الا أخبرنا هنا
ثبت في النسخ حدثنا فتأيد انه بن منصور وقد تقدم شرح حديث بن سعيد المذكور هنا في
العزل في كتاب النكاح مستوفي قوله "وقال مجاهد عن قزعة" هو بن يحيى وهو
من رواية الأقران لأن مجاهدا وهو
(13/391)
بن جبر المفسر المشهور المكي في طبقة قزعة قوله "سألت أبا سعيد فقال قال النبي صلى الله عليه وسلم" كذا وقع هنا بحذف المسئول عنه ووقع لغير أبي ذر سمعت بدل سألت وقد وصله مسلم وأصحاب السنن الثلاثة من رواية سفيان بن عيينة عن عبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد بلفظ ذكر العزل ثم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ولم يفعل ذلك أحدكم ولم يقل فلا يفعل ذلك ثم ذكر بقية الحديث وهو القدر المذكور منه هنا قال بن بطال الخالق في هذا الباب يراد به المبدع المنشىء لأعيان المخلوقين وهو معنى لا يشارك الله فيه أحد قال ولم يزل الله مسميا نفسه خالقا على معنى انه سيخلق لاستحالة قدم الخلق وقال الكرماني معنى قوله في الحديث الا وهي مخلوقة أي مقدرة الخلق أو معلومة الخلق ثم الله لا بد من ابرازها الى الوجود والله سبحانه وتعالى اعلم بالصواب
(13/392)
19 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}
7410 - حَدَّثَنِي مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ
أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَجْمَعُ اللَّهُ
الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ فَيَقُولُونَ لَوْ اسْتَشْفَعْنَا
إِلَى رَبِّنَا حَتَّى يُرِيحَنَا مِنْ مَكَانِنَا هَذَا فَيَأْتُونَ آدَمَ
فَيَقُولُونَ يَا آدَمُ أَمَا تَرَى النَّاسَ خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ
وَأَسْجَدَ لَكَ مَلاَئِكَتَهُ وَعَلَّمَكَ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ اشْفَعْ لَنَا
إِلَى رَبِّنَا حَتَّى يُرِيحَنَا مِنْ مَكَانِنَا هَذَا فَيَقُولُ لَسْتُ هُنَاكَ
وَيَذْكُرُ لَهُمْ خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَهَا وَلَكِنْ ائْتُوا نُوحًا
فَإِنَّهُ أَوَّلُ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ فَيَأْتُونَ
نُوحًا فَيَقُولُ لَسْتُ هُنَاكُمْ وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَ
وَلَكِنْ ائْتُوا إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَ الرَّحْمَنِ فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ
فَيَقُولُ لَسْتُ هُنَاكُمْ وَيَذْكُرُ لَهُمْ خَطَايَاهُ الَّتِي أَصَابَهَا
وَلَكِنْ ائْتُوا مُوسَى عَبْدًا آتَاهُ اللَّهُ التَّوْرَاةَ وَكَلَّمَهُ
تَكْلِيمًا فَيَأْتُونَ مُوسَى فَيَقُولُ لَسْتُ هُنَاكُمْ وَيَذْكُرُ لَهُمْ
خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَ وَلَكِنْ ائْتُوا عِيسَى عَبْدَ اللَّهِ وَرَسُولَهُ
وَكَلِمَتَهُ وَرُوحَهُ فَيَأْتُونَ عِيسَى فَيَقُولُ لَسْتُ هُنَاكُمْ وَلَكِنْ
ائْتُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدًا غُفِرَ لَهُ مَا
تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبهِ وَمَا تَأَخَّرَ فَيَأْتُونِي فَأَنْطَلِقُ فَأَسْتَأْذِنُ
عَلَى رَبِّي فَيُؤْذَنُ لِي عَلَيْهِ فَإِذَا رَأَيْتُ رَبِّي وَقَعْتُ لَهُ
سَاجِدًا فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدَعَنِي ثُمَّ يُقَالُ لِي ارْفَعْ
مُحَمَّدُ وَقُلْ يُسْمَعْ وَسَلْ تُعْطَهْ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ فَأَحْمَدُ رَبِّي
بِمَحَامِدَ عَلَّمَنِيهَا ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا فَأُدْخِلُهُمْ
الْجَنَّةَ ثُمَّ أَرْجِعُ فَإِذَا رَأَيْتُ رَبِّي وَقَعْتُ سَاجِدًا فَيَدَعُنِي
مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدَعَنِي ثُمَّ يُقَالُ ارْفَعْ مُحَمَّدُ وَقُلْ
يُسْمَعْ وَسَلْ تُعْطَهْ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ فَأَحْمَدُ رَبِّي بِمَحَامِدَ
عَلَّمَنِيهَا رَبِّي ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا فَأُدْخِلُهُمْ
الْجَنَّةَ ثُمَّ أَرْجِعُ فَإِذَا رَأَيْتُ رَبِّي وَقَعْتُ سَاجِدًا فَيَدَعُنِي
مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدَعَنِي ثُمَّ يُقَالُ ارْفَعْ مُحَمَّدُ قُلْ يُسْمَعْ
وَسَلْ تُعْطَهْ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ فَأَحْمَدُ رَبِّي بِمَحَامِدَ عَلَّمَنِيهَا
ثُمَّ أَشْفَعْ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا فَأُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ ثُمَّ أَرْجِعُ
فَأَقُولُ يَا رَبِّ مَا بَقِيَ فِي النَّارِ إِلاَّ مَنْ حَبَسَهُ الْقُرْآنُ
وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْخُلُودُ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يَخْرُجُ مِنْ
النَّارِ مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَكَانَ فِي قَلْبِهِ
(13/392)
مِنْ الْخَيْرِ مَا يَزِنُ شَعِيرَةً ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْ
النَّارِ مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَكَانَ فِي قَلْبِهِ مِنْ
الْخَيْرِ مَا يَزِنُ بُرَّةً ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ
إِلاَّ اللَّهُ وَكَانَ فِي قَلْبِهِ مَا يَزِنُ مِنْ الْخَيْرِ ذَرَّةً
7411 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو
الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "يَدُ اللَّهِ مَلْأَى لاَ يَغِيضُهَا
نَفَقَةٌ سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَقَالَ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ
مُنْذُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِي يَدِهِ
وَقَالَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ وَبِيَدِهِ الأُخْرَى الْمِيزَانُ يَخْفِضُ
وَيَرْفَعُ
7412 - حَدَّثَنَا مُقَدَّمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى قَالَ حَدَّثَنِي عَمِّي
الْقَاسِمُ بْنُ يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ قَالَ إِنَّ اللَّهَ يَقْبِضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الأَرْضَ وَتَكُونُ
السَّمَوَاتُ بِيَمِينِهِ ثُمَّ يَقُولُ أَنَا الْمَلِكُ رَوَاهُ سَعِيدٌ عَنْ
مَالِكٍ
7413 - وَقَالَ عُمَرُ بْنُ حَمْزَةَ سَمِعْتُ سَالِمًا سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ
عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا وَقَالَ أَبُو
الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ
أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَقْبِضُ
اللَّهُ الأَرْضَ
7414 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ سَمِعَ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ عَنْ سُفْيَانَ
حَدَّثَنِي مَنْصُورٌ وَسُلَيْمَانُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَبِيدَةَ عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ أَنَّ يَهُودِيًّا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ عَلَى
إِصْبَعٍ وَالأَرَضِينَ عَلَى إِصْبَعٍ وَالْجِبَالَ عَلَى إِصْبَعٍ وَالشَّجَرَ
عَلَى إِصْبَعٍ وَالْخَلاَئِقَ عَلَى إِصْبَعٍ ثُمَّ يَقُولُ أَنَا الْمَلِكُ
فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَدَتْ
نَوَاجِذُهُ ثُمَّ قَرَأَ {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} قَالَ يَحْيَى
بْنُ سَعِيدٍ وَزَادَ فِيهِ فُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ
إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَبِيدَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعَجُّبًا وَتَصْدِيقًا لَهُ
7415 - حدثنا عمر بن حفص بن غياث حدثنا أبي حدثنا الأعمش سمعت إبراهيم قال سمعت
علقمة يقول قال عبد الله "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم من أهل
الكتاب فقال يا أبا القاسم إن الله يمسك السماوات على إصبع والأرضين على إصبع
والشجر والثرى على إصبع والخلائق على إصبع ثم يقول أنا الملك أنا الملك فرأيت
النبي صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه ثم قرأ {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ
حَقَّ قَدْرِهِ}
قوله: "مقدم بن محمد" تقدم ذكره وذكر عمه في تفسير سورة النور.
قوله: "باب قول الله تعالى لما خلقت بيدي" قال ابن بطال: في هذه الآية
إثبات يدين لله، وهما صفتان من صفات ذاته وليستا بجارحتين خلافا للمشبهة من
المثبتة، وللجهمية من المعطلة، ويكفي في الرد على من زعم أنهما بمعنى القدرة، أنهم
أجمعوا على أن له قدرة واحدة في قول المثبتة ولا قدرة في قول النفاة، لأنهم يقولون
إنه قادر لذاته ويدل على أن اليدين ليستا بمعنى القدرة أن في قوله تعالى لإبليس
{مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}
(13/393)
إشارة إلى المعنى الذي أوجب السجود فلو كانت اليد بمعنى القدرة لم يكن بين آدم وإبليس فرق لتشاركهما فيما خلق منهما به وهي قدرته، ولقال إبليس وأي فضيلة له علي وأنا خلقتني بقدرتك كما خلقته بقدرتك، فلما قال: {خلقتني من نار وخلقته من طين} دل على اختصاص آدم بأن الله خلقه بيديه، قال ولا جائز أن يراد باليدين النعمتان، لاستحالة خلق المخلوق بمخلوق، لأن النعم مخلوقة ولا يلزم من كونهما صفتي ذات أن يكونا جارحتين. وقال ابن التين قوله: "وبيده الأخرى الميزان". يدفع تأويل اليد هنا بالقدرة، وكذا قوله في حديث ابن عباس رفعه: "أول ما خلق الله القلم، فأخذه بيمينه وكلتا يديه يمين " الحديث. وقال ابن فورك: قيل اليد بمعنى الذات وهذا يستقيم في مثل قوله تعالى:ِ {مَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} بخلاف قوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} فإنه سيق للرد على إبليس؛ فلو حمل على الذات لما اتجه الرد. وقال غيره هذا يساق مساق التمثيل للتقريب لأنه عهد أن من اعتنى بشيء واهتم به باشره بيديه، فيستفاد من ذلك أن العناية بخلق آدم كانت أتم من العناية بخلق غيره، واليد في اللغة تطلق لمعان كثيرة اجتمع لنا منها خمسة وعشرون معنى ما بين حقيقة ومجاز: الأول الجارحة، الثاني القوة نحو " {دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ} الثالث الملك {إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ} الرابع العهد {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} ومنه قوله: "هذي يدي لك بالوفاء " الخامس الاستسلام والانقياد قال الشاعر " أطاع يدا بالقول فهو ذلول " السادس النعمة قال: "وكم لظلام الليل عندي من يد " السابع الملك {قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ} " الثامن الذل {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ} التاسع "أو يعفوا الذي بيده عقدة النكاح"، العاشر السلطان، الحادي عشر الطاعة، الثاني عشر الجماعة، الثالث عشر الطريق، يقال أخذتهم يد الساحل، والرابع عشر التفرق " تفرقوا أيدى سبأ " الخامس عشر الحفظ، السادس عشر يد القوس أعلاها، السابع عشر يد السيف مقبضه، الثامن عشر يد الرحى عود القابض، التاسع عشر جناح الطائر، العشرون المدة، يقال لا ألقاه يد الدهر، الحادي والعشرون الابتداء يقال لقيته أول ذات يدي، وأعطاه عن ظهر يد، الثاني والعشرون يد الثوب ما فضل منه، الثالث والعشرون يد الشيء أمامه، الرابع والعشرون الطاقة، الخامس والعشرون النقد نحو: بعته يدا بيد. ثم ذكر في الباب أربعة أحاديث للثالث منها أربعة طرق، وللرابع طريقان. حديث أنس في الشفاعة وقد تقدم شرحه مستوفى في أواخر " كتاب الرقاق " والغرض منه هنا قول أهل الموقف لآدم " خلقك الله بيده". قوله: "حدثنا معاذ بن فضالة" بفتح الفاء والضاد المعجمة، وحكى بعضهم ضم الفاء و " هشام " شيخه هو الدستوائي، وقوله: "عن أنس " تقدمت الإشارة في الرقاق إلى ما وقع في بعض طرقه بلفظ: "حدثنا أنس". قوله: "يجمع المؤمنون يوم القيامة كذلك" هكذا للجميع وأظن أول هذه الكلمة لام، والإشارة ليوم القيامة أو لما يذكر بعد، وقد وقع عند مسلم من رواية معاذ بن هشام عن أبيه " يجمع الله المؤمنين يوم القيامة فيهتمون لذلك " وفي رواية سعيد بن أبي عروبة عن قتادة " يهتمون - أو - يلهمون لذلك " بالشك وسيأتي في باب {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} من رواية همام عن قتادة " حتى يهموا بذلك " وقوله هنا " اشفع لنا إلى ربك " كذا للأكثر وهو المذكور في غير هذه الطريق، ووقع لأبي ذر عن غير الكشميهني: "شفع " بكسر الفاء الثقيلة. قال الكرماني هو من التشفيع، ومعناه قبول الشفاعة ليس هو المراد هنا، فيحتمل أن يكون التثقيل للتكثير أو للمبالغة. وقوله: "لست هناك " كذا للأكثر في الموضعين، ولأبي ذر عن السرخسي " هناكم " وقوله: "فيؤذن لي " في رواية أبي ذر عن الكشميهني: "ويؤذن لي " بالواو وقوله: "قل
(13/394)
يسمع " كذا للأكثر بالتحتانية ولأبي ذر عن السرخسي والكشميهني بالفوقانية الموضعين، وقوله: "سل تعطه " لأبي ذر عن المستملي: "تعط " في الموضعين بلا هاء. حديث أبي هريرة من طريق أبي الزناد عن الأعرج. قوله: "يد الله" تقدم في تفسير سورة هود في أول هذا الحديث من الزيادة " أنفق أنفق عليك " ووقعت هذه الزيادة أيضا في رواية همام لكن ساقها فيه مسلم وأقودها البخاري كما سيأتي في باب {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} ووقع فيها بدل يد الله " يمين الله " ويتعقب بها على من فسر اليد هنا بالنعمة، وأبعد منه من فسرها بالخزائن وقال أطلق اليد على الخزائن لتصرفها فيها. قوله: "ملأى" بفتح الميم وسكون اللام وهمزة مع القصر تأنيث ملآن ووقع بلفظ: "ملآن " في رواية لمسلم وقيل هي غلط ووجهها بعضهم بإرادة اليمين فإنها تذكر وتؤنث، وكذلك الكف، والمراد من قوله ملأى أو ملآن لازمه وهو أنه في غاية الغنى وعنده من الرزق ما لا نهاية له في علم الخلائق. قوله: "لا يغيضها" بالمعجمتين بفتح أوله أي لا ينقصها، يقال غاض الماء يغيض إذا نقص. قوله: "سحاء" بفتح المهملتين مثقل ممدود أي دائمة الصب، يقال سح بفتح أوله مثقل يسح بكسر السين في المضارع ويجوز ضمها، وضبط في مسلم: "سحا " بلفظ المصدر. قوله: "الليل والنهار" بالنصب على الظرف أي فيهما ويجوز الرفع، ووقع في رواية لمسلم: "سح الليل والنهار " بالإضافة وفتح الحاء ويجوز ضمها. قوله: "أرأيتم ما أنفق" تنبيه على وضوح ذلك لمن له بصيرة. قوله: "منذ خلق الله السموات والأرض" سقط لفظ الجلالة لغير ذر وهو رواية همام. قوله: "فإنه لم يغض" أي ينقص، ووقع في رواية همام " لم ينقص ما في يمينه " قال الطيبي يجوز أن تكون ملأى ولا يغيضها " وسحاء وأرأيت " أخبارا مترادفة ليد الله، ويجوز أن تكون الثلاثة أوصافا لملأى ويجوز أن يكون " أرأيتم " استئنافا فيه معنى الترقي، كأنه لما قيل ملأى أوهم جواز النقصان فأزيل بقوله لا يغيضها شيء، وقد يمتلئ الشيء ولا يغيض، فقيل سحاء إشارة إلى الغيض وقرنه بما يدل على الاستمرار من ذكر الليل والنهار ثم أتبعه بما يدل على أن ذلك ظاهر غير خاف على ذي بصر وبصيرة بعد أن اشتمل من ذكر الليل والنهار بقوله أرأيتم على تطاول المدة لأنه خطاب عام والهمزة فيه للتقرير، قال وهذا الكلام إذا أخذته بجملته من غير نظر إلى مفرداته أبان زيادة الغنى وكمال السعة والنهاية في الجود والبسط في العطاء. قوله: "وقال عرشه على الماء" سقط لفظ: "قال: "من رواية همام، ومناسبة ذكر العرش هنا أن السامع يتطلع من قوله: "خلق السموات والأرض " ما كان قبل ذلك، فذكر ما يدل على أن عرشه قبل خلق السموات والأرض على الماء كما وقع في حديث عمران بن حصين الماضي في بدء الخلق بلفظ: "كان الله ولم يكن شيء قبله وكان عرشه على الماء ثم خلق السموات والأرض". قوله: "وبيده الأخرى الميزان يخفض ويرفع" أي يخفض الميزان ويرفعها، قال الخطابي الميزان مثل، والمراد القسمة بين الخلق، وإليه الإشارة بقوله يخفض ويرفع. وقال الداودي معنى الميزان أنه قدر الأشياء ووقتها وحددها فلا يملك أحد نفعا ولا ضرا إلا منه وبه، ووقع في رواية همام " وبيده الأخرى الفيض أو القبض " الأولى بفاء وتحتانية والثانية بقاف وموحدة، كذا للبخاري بالشك ولمسلم بالقاف والموحدة بلا شك، وعن بعض رواته فيما حكاه عياض بالفاء والتحتانية والأول أشهر، قال عياض المراد بالقبض قبض الأرواح بالموت، وبالفيض الإحسان بالعطاء وقد يكون بمعنى الموت، يقال فاضت نفسه إذا مات، ويقال بالضاد وبالظاء ا هـ، والأولى أن يفسر بمعنى الميزان ليوافق رواية الأعرج التي في هذا الباب فإن الذي يوزن بالميزان يخف ويرجح، فكذلك ما يقبض، ويحتمل أن
(13/395)
يكون المراد بالقبض المنع لأن الإعطاء قد ذكر في قوله قبل ذلك سحاء الليل والنهار، فيكون مثل قوله تعالى :{وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ} ووقع في حديث النواس بن سمعان عند مسلم وسيأتي التنبيه عليه في أواخر الباب: "الميزان بيد الرحمن يرفع أقواما ويضع آخرين " وفي حديث أبي موسى عند مسلم وابن حبان: "إن الله لا ينام ولا ينبغي أن ينام يخفض القسط ويرفعه: " وظاهره أن المراد بالقسط الميزان، وهو مما يؤيد أن الضمير المستتر في قوله يخفض ويرفع للميزان كما بدأت الكلام به، قال المازري ذكر القبض والبسط وإن كانت القدرة واحدة لتفهيم العباد أنه يفعل بها المختلفات، وأشار بقوله: "بيده الأخرى " إلى أن عادة المخاطبين تعاطي الأشياء باليدين معا، فعبر عن قدرته على التصرف بذكر اليدين لتفهيم المعنى المراد بما اعتادوه، وتعقب بأن لفظ البسط لم يقع في الحديث، وأجيب بأنه فهمه من مقابله كما تقدم والله أعلم. قوله: "إن الله يقبض يوم القيامة الأرض" في حديث أبي هريرة الماضي في باب قوله ملك الناس " يقبض الله الأرض ويطوي السموات بيمينه " وفي رواية عمر بن حمزة التي يأتي التنبيه على من وصلها " يطوي الله السموات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى، ويطوي الأرض ثم يأخذهن بشماله " وعند أبي داود بدل قوله بشماله " بيده الأخرى " وزاد في رواية ابن وهب عن أسامة بن زيد عن نافع وأبي حازم عن ابن عمر " فيجعلهما في كفه ثم يرمي بهما كما يرمي الغلام بالكرة". قوله: "ويقول أنا الملك" زاد في رواية عمر بن حمزة " أين الجبارون أين المتكبرون". قوله: "رواه سعيد عن مالك" يعني عن نافع وصله الدار قطني في غرائب مالك وأبو القاسم اللالكائي في السنة من طريق أبي بكر الشافعي عن محمد بن خالد الآجري عن سعيد وهو ابن داود بن أبي زنبر بفتح الزاي وسكون النون بعدها موحدة مفتوحة ثم راء، وهو مدني سكن بغداد وحدث بالري، وكنيته أبوه عثمان وما له في البخاري إلا هذا الموضع، وقد حدث عنه في " كتاب الأدب المفرد " وتكلم فيه جماعة. وقال في روايته إن نافعا حدثه أن عبد الله بن عمر أخبره، وقد روى عن مالك ممن اسمه سعيد أيضا سعيد بن كثير بن عفير وهو من شيوخ البخاري، ولكن لم نجد هذا الحديث من روايته، وصرح المزي وجماعة بأن الذي علق له البخاري هنا هو الزبيري. قوله: "وقال عمر بن حمزة" يعني ابن عبد الله بن عمر الذي تقدم ذكره في الاستسقاء، وشيخه سالم هو ابن عبد الله بن عمر عم عمر المذكور، وحديثه هذا وصله مسلم وأبو داود وغيرهما من رواية أبي أسامة عنه، قال البيهقي تفرد بذكر الشمال فيه عمر بن حمزة، وقد رواه عن ابن عمر أيضا نافع وعبيد الله بن مقسم بدونها، ورواه أبو هريرة وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم كذلك، وثبت عند مسلم من حديث عبد الله بن عمرو رفعه: "المقسطون يوم القيامة على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين " وكذا في حديث أبي هريرة " قال آدم اخترت يمين ربي، وكلتا يدي ربي يمين " وساق من طريق أبي يحيى القتات بقاف ومثناة ثقيلة وبعد الألف مثناة أيضا عن مجاهد في تفسير قوله تعالى :{وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} قال: "وكلتا يديه يمين " وفي حديث ابن عباس رفعه: "أول ما خلق الله القلم فأخذه بيمينه وكلتا يديه يمين " وقال القرطبي في المفهم كذا جاءت هذه الرواية بإطلاق لفظ الشمال على يد الله تعالى على المقابلة المتعارفة وفي حقنا وفي أكثر الروايات وقع التحرز عن إطلاقها على الله حتى قال وكلتا يديه يمين لئلا يتوهم نقص في صفته سبحانه وتعالى لأن الشمال في حقنا أضعف من اليمين، قال البيهقي ذهب بعض أهل النظر إلى أن اليد صفة ليست جارحة، وكل موضع جاء ذكرها في الكتاب أو السنة الصحيحة
(13/396)
فالمراد تعلقها بالكائن المذكور معها كالطي والأخذ والقبض والبسط والقبول والشح والإنفاق وغير ذلك تعلق الصفة بمقتضاها من غير مماسة، وليس في ذلك تشبيه بحال، وذهب آخرون إلى تأويل ذلك بما يليق به انتهى. وسيأتي كلام الخطابي في ذلك في باب قوله تعالى :{تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} قوله: "وقال أبو اليمان أخبرنا شعيب إلخ" تقدم الكلام عليه في باب قوله تعالى :{مَلِكِ النَّاسِ}. قوله: "سفيان" هو الثوري و " منصور " هو ابن المعتمر، " وسليمان " هو الأعمش و " إبراهيم " هو النخعي و " عبيدة " بفتح أوله هو ابن عمرو وقد تابع سفيان الثوري عن منصور على قوله عبيدة شيبان بن عبد الرحمن عن منصور كما مضى في تفسير سورة الزمر، وفضيل بن عياض المذكور بعده، وجرير بن عبد الحميد عند مسلم، وخالفه عن الأعمش في قوله عبيدة حفص بن غياث المذكور في الباب، وجرير وأبو معاوية وعيسى بن يونس عند مسلم ومحمد بن فضيل عند الإسماعيلي، فقالوا كلهم عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة بدل عبيدة، وتصرف الشيخين يقتضي أنه عند الأعمش على الوجهين، وأما ابن خزيمة فقال هو في رواية الأعمش عن إبراهيم عن علقمة. وفي رواية منصور عن إبراهيم عن عبيدة وهما صحيحان. قوله: "قال يحيى" هو ابن سعيد القطان راويه عن الثوري. قوله: "وزد فيه فضيل بن عياض" هو موصول، ووهم من زعم أنه معلق، وقد وصله مسلم عن أحمد بن يونس عن فضيل. قوله: "أن يهوديا جاء" في رواية علقمة " جاء رجل من أهل الكتاب " وفي رواية فضيل بن عياض عند مسلم: "جاء حبر " بمهملة وموحدة، زاد شيبان في روايته: "من الأحبار". قوله: "فقال يا محمد" في رواية علقمة " يا أبا القاسم " وجمع بينهما في رواية فضيل. قوله: "إن الله يمسك السموات" في رواية شيبان " يجعل " بدل يمسك وزاد فضيل " يوم القيامة " وفي رواية أبي معاوية عند الإسماعيلي: "أبلغك يا أبا القاسم أن الله يحمل الخلائق". قوله: "والشجر على إصبع" زاد في رواية علقمة " والثرى " وفي رواية شيبان " الماء والثرى " وفي رواية فضيل بن عياض " الجبال والشجر على إصبع، والماء والثرى على إصبع". قوله: "والخلائق" أي من لم يتقدم له ذكر، ووقع في رواية فضيل وشيبان " وسائر الخلق " وزاد ابن خزيمة عن محمد بن خلاد عن يحيى بن سعيد القطان عن الأعمش فذكر الحديث، قال محمد عدها علينا يحيى بإصبعه وكذا أخرجه أحمد بن حنبل في " كتاب السنة " عن يحيى بن سعيد وقال: وجعل يحيى يشير بإصبعه يضع إصبعا على إصبع حتى أتى على آخرها، ورواه أبو بكر الخلال في " كتاب السنة " عن أبي بكر المروزي عن أحمد. وقال: رأيت أبا عبد الله يشير بإصبع إصبع، ووقع في حديث ابن عباس عند الترمذي " مر يهودي بالنبي صلى الله عليه وسلم فقال يا يهودي حدثنا فقال كيف تقول: يا أبا القاسم إذا وضع الله السموات على ذه والأرضين على ذه والماء على ذه والجبال على ذه وسائر الخلق على ذه " وأشار " أبو جعفر " يعني أحد رواته بخنصر أولا ثم تابع حتى بلغ الإبهام، قال الترمذي حديث حسن غريب صحيح ووقع في مرسل مسروق عند الهروي مرفوعا نحو هذه الزيادة. قوله: "ثم يقول أنا الملك" كررها علقمة في روايته وزاد فضيل في روايته: "قبلها ثم يهزهن". قوله: "فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم" في رواية علقمة " فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم ضحك " ومثله في رواية جرير ولفظه: "ولقد رأيت". قوله: "حتى بدت نواجذه" جمع ناجذ بنون وجيم مكسورة ثم ذال معجمة وهو ما يظهر عند الضحك من الأسنان وقيل هي الأنياب وقيل الأضراس وقيل الدواخل من الأضراس التي في أقصى الحلق، زاد شيبان بن عبد الرحمن " تصديقا لقول الحبر " وفي رواية فضيل المذكورة هنا " تعجبا وتصديقا له " وعند مسلم: "تعجبا مما قال
(13/397)
الحبر تصديقا له " وفي رواية جرير عنده " وتصديقا له " بزيادة واو، وأخرجه ابن خزيمة من رواية إسرائيل عن منصور " حتى بدت نواجذه تصديقا لقوله: "وقال ابن بطال لا يحمل ذكر الإصبع على الجارحة بل يحمل على أنه صفة من صفات الذات لا تكيف ولا تحدد " وهذا ينسب للأشعري " وعن ابن فورك يجوز أن يكون الإصبع خلقا يخلقه الله فيحمله الله ما يحمل الإصبع، ويحتمل أن يراد به القدرة والسلطان، كقول القائل ما فلان إلا بين إصبعي إذا أراد الإخبار عن قدرته عليه، وأيد ابن التين الأول بأنه قال على إصبع ولم يقل على إصبعيه، قال ابن بطال: وحاصل الخبر أنه ذكر المخلوقات وأخبر عن قدرة الله على جميعها فضحك النبي صلى الله عليه وسلم تصديقا له وتعجبا من كونه يستعظم ذلك في قدرة الله تعالى، وأن ذلك ليس في جنب ما يقدر عليه بعظيم، ولذلك قرأ قوله تعالى :{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} الآية أي ليس قدره في القدرة على ما يخلق على الحد الذي ينتهي إليه الوهم، ويحيط به الحصر لأنه تعالى يقدر على إمساك مخلوقاته على غير شيء كما هي اليوم، قال تعالى :{إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا} وقال: {رفع السموات بغير عمد ترونها} وقال الخطابي لم يقع ذكر الإصبع في القرآن ولا في حديث مقطوع به، وقد تقرر أن اليد ليست بجارحة حتى يتوهم من ثبوتها ثبوت الأصابع بل هو توقيف أطلقه الشارع فلا يكيف ولا يشبه، ولعل ذكر الأصابع من تخليط اليهودي، فإن اليهود مشبهة وفيما يدعونه من التوراة ألفاظ تدخل في باب التشبيه ولا تدخل في مذاهب المسلمين، وأما ضحكه صلى الله عليه وسلم من قول الحبر فيحتمل الرضا والإنكار، وأما قول الراوي " تصديقا " له فظن منه وحسبان، وقد جاء الحديث من عدة طرق ليس فيها هذه الزيادة، وعلى تقدير صحتها فقد يستدل بحمرة الوجه على الخجل، وبصفرته على الوجل، ويكون الأمر بخلاف ذلك، فقد تكون الحمرة لأمر حدث في البدن كثوران الدم، والصفرة لثوران خلط من مرار وغيره، وعلى تقدير أن يكون ذلك محفوظا فهو محمول على تأويل قوله تعالى :{وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} أي قدرته على طيها، وسهولة الأمر عليه في جمعها بمنزلة من جمع شيئا في كفه واستقل بحمله من غير أن يجمع كفه عليه بل يقله ببعض أصابعه، وقد جرى في أمثالهم فلان يقل - كذا - بإصبعه ويعمله بخنصره انتهى ملخصا، وقد تعقب بعضهم إنكار ورود الأصابع لوروده في عدة أحاديث كالحديث الذي أخرجه مسلم: "إن قلب ابن آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن " ولا يرد عليه لأنه إنما نفى القطع، قال القرطبي في المفهم قوله: "إن الله يمسك " إلى آخر الحديث، هذا كله قول اليهودي وهم يعتقدون التجسيم وأن الله شخص ذو جوارح كما يعتقده غلاة المشبهة من هذه الأمة، وضحك النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو للتعجب من جهل اليهودي، ولهذا قرأ عند ذلك {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} أي ما عرفوه حق معرفته ولا عظموه حق تعظيمه فهذه الرواية هي الصحيحة المحققة، وأما من زاد: "وتصديقا له " فليست بشيء فإنها من قول الراوي وهي باطلة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يصدق المحال وهذه الأوصاف في حق الله محال؛ إذ لو كان ذا يد وأصابع وجوارح كان كواحد منا فكان يجب له من الافتقار والحدوث والنقص والعجز ما يجب لنا، ولو كان كذلك لاستحال أن يكون إلها إذ لو جازت الإلهية لمن هذه صفته لصحت للدجال وهو محال، فالمفضى إليه كذب فقول اليهودي كذب ومحال، ولذلك أنزل الله في الرد عليه {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} وإنما تعجب النبي صلى الله عليه وسلم من جهله فظن الراوي أن ذلك التعجب تصديق وليس كذلك، فإن قيل قد صح حديث: "إن قلوب بني آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن " فالجواب أنه إذا جاءنا مثل هذا في الكلام الصادق تأولناه أو توقفنا فيه إلى أن يتبين وجهه مع القطع باستحالة ظاهره
(13/398)
لضرورة صدق من دلت المعجزة على صدقه، وأما إذا جاء على لسان من يجوز عليه الكذب بل على لسان من أخبر الصادق عن نوعه بالكذب والتحريف كذبناه وقبحناه، ثم لو سلمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم صرح بتصديقه لم يكن ذلك تصديقا له في المعنى بل في اللفظ الذي نقله من كتابه عن نبيه، ونقطع بأن ظاهره غير مراد انتهى ملخصا. وهذا الذي نحا إليه أخيرا أولى مما ابتدأ به لما فيه من الطعن على ثقات الرواة ورد الأخبار الثابتة، ولو كان الأمر على خلاف ما فهمه الراوي بالظن للزم منه تقرير النبي صلى الله عليه وسلم على الباطل وسكوته عن الإنكار وحاشا لله من ذلك، وقد اشتد إنكار ابن خزيمة على من ادعى أن الضحك المذكور كان على سبيل الإنكار، فقال بعد أن أورد هذا الحديث في " كتاب التوحيد " من صحيحه بطريقه، قد أجل الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم عن أن يوصف ربه بحضرته بما ليس هو من صفاته فيجعل بدل الإنكار والغضب على الواصف ضحكا، بل لا يوصف النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الوصف من يؤمن بنبوته، وقد وقع الحديث الماضي في الرقاق عن أبي سعيد - رفعه: "تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يتكفؤها الجبار بيده كما يتكفؤ أحدكم خبزته " الحديث، وفيه أن يهوديا دخل فأخبر بمثل ذلك فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه ثم ضحك.
(13/399)
20 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لاَ شَخْصَ أَغْيَرُ مِنْ اللَّهِ
وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ لاَ شَخْصَ أَغْيَرُ
مِنْ اللَّهِ
7416 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ التَّبُوذَكِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو
عَوَانَةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ عَنْ وَرَّادٍ كَاتِبِ الْمُغِيرَةِ عَنْ
الْمُغِيرَةِ قَالَ قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ لَوْ رَأَيْتُ رَجُلًا مَعَ
امْرَأَتِي لَضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ غَيْرَ مُصْفَحٍ فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ
سَعْدٍ وَاللَّهِ لاَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ وَاللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّي وَمِنْ أَجْلِ
غَيْرَةِ اللَّهِ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ
أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعُذْرُ مِنْ اللَّهِ وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ بَعَثَ
الْمُبَشِّرِينَ وَالْمُنْذِرِينَ وَلاَ أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْمِدْحَةُ مِنْ
اللَّهِ وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ وَعَدَ اللَّهُ الْجَنَّةَ
قوله: "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لا شخص أغير من الله" كذا لهم
ووقع عند ابن بطال بلفظ: "أحد " بدل شخص وكأنه من تغييره. قوله:
"عبد الملك" هو ابن عمير " والمغيرة " هو ابن شعبة كما تقدم
التنبيه عليه في أواخر الحدود والمحاربين، فإنه ساق من الحديث هناك بهذا السند إلى
قوله: "والله أغير مني " وتقدم شرح القول المذكور هناك، وتقدم الكلام
على غيرة الله في شرح حديث ابن مسعود، وأن الكلام عليه تقدم في شرح حديث أسماء بنت
أبي بكر في " كتاب الكسوف " قال ابن دقيق العيد المنزهون لله إما ساكت
عن التأويل وإما مؤول، والثاني يقول المراد بالغيرة المنع من الشيء والحماية وهما
من لوازم الغيرة فأطلقت على سبيل كالملازمة، وغيرها من الأوجه الشائعة في لسان
العرب. قوله: "ولا أحد أحب إليه العذر من الله ومن أجل ذلك بعث المنذرين
والمبشرين" يعني الرسل، وقد وقع في رواية مسلم: "بعث المرسلين مبشرين
ومنذرين " وهي أوضح، وله من حديث ابن مسعود " ولذلك أنزل الكتب والرسل
" أي وأرسل الرسل، قال ابن بطال هو من قوله تعالى :{وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ
التَّوبَةَ عَنْ
(13/399)
عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ} فالعذر في هذا الحديث التوبة والإنابة كذا قال. وقال عياض: المعنى بعث المرسلين للإعذار والإنذار لخلقه قبل أخذهم بالعقوبة، وهو كقوله تعالى :{لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} وحكى القرطبي في المفهم عن بعض أهل المعاني قال: إنما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا أحد أحب إليه العذر من الله " عقب قوله: "لا أحد أغير من الله " منبها لسعد بن عبادة على أن الصواب خلاف ما ذهب إليه، ورادعا له على الإقدام على قتل من يجده مع امرأته، فكأنه قال إذا كان الله مع كونه أشد غيرة منك يحب الإعذار، ولا يؤاخذ إلا بعد الحجة، فكيف تقدم أنت على القتل في تلك الحالة؟. قوله: "ولا أحد أحب إليه" يجوز في " أحب " الرفع والنصب كما تقدم في الحدود. قوله: "المدحة من الله" بكسر الميم مع هاء التأنيث وبفتحها مع حذف الهاء، والمدح الثناء بذكر أوصاف الكمال والأفضال، قال القرطبي. قوله: "ومن أجل ذلك وعد الله الجنة" كذا فيه بحذف أحد المفعولين للعلم به، والمراد به من أطاعه وفي رواية مسلم: "وعد الجنة " بإضمار الفاعل وهو الله، قال ابن بطال: أراد به المدح من عباده بطاعته وتنزيهه عما لا يليق به والثناء عليه بنعمه ليجازيهم على ذلك. وقال القرطبي ذكر المدح مقرونا بالغيرة، والعذر تنبيها لسعد على أن لا يعمل بمقتضى غيرته، ولا يعجل بل يتأنى ويترفق ويثبت، حتى يحصل على وجه الصواب فينال كمال الثناء والمدح والثواب لإيثاره الحق وقمع نفسه وغلبتها عند هيجانها، وهو نحو قوله: "الشديد من يملك نفسه عند الغضب " وهو حديث صحيح متفق عليه. وقال عياض: معنى قوله: "وعد الجنة " أنه لما وعد بها ورغب فيها كثر السؤال له والطلب إليه والثناء عليه، قال ولا يحتج بهذا على جواز استجلاب الإنسان الثناء على نفسه فإنه مذموم ومنهي عنه بخلاف حبه له في قلبه إذا لم يجد من ذلك بدأ فإنه لا يذم بذلك، فالله سبحانه وتعالى مستحق للمدح بكماله؛ والنقص للعبد لازم ولو استحق المدح من جهة ما لكن المدح يفسد قلبه ويعظمه في نفسه حتى يحتقر غيره، ولهذا جاء " احثوا في وجوه المداحين التراب " وهو حديث صحيح أخرجه مسلم. قوله: "وقال عبيد الله بن عمرو" هو الرقي الأسدي "عن عبد الملك" هو ابن عمير. قوله: "ولا شخص أغير من الله" يعني أن عبيد الله بن عمرو روى الحديث المذكور عن عبد الملك بالسند المذكور أولا فقال: "لا شخص " بدل قوله لا أحد، وقد وصله الدارمي عن زكريا بن عدي عن عبيد الله ابن عمرو عن عبد الملك بن عمير عن وراد مولى المغيرة قال: "بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن سعد بن عبادة يقول: "فذكره بطوله، وساقه أبو عوانة يعقوب الإسفرايني في صحيحه عن محمد بن عيسى العطار عن زكريا بتمامه وقال في المواضع الثلاثة لا شخص، قال الإسماعيلي بعد أن أخرجه من طريق عبيد الله بن عمر القواريري، وأبي كامل فضيل بن حسين الجحدري، ومحمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، ثلاثتهم عن أبي عوانة الوضاح البصري بالسند الذي أخرجه البخاري، لكن قال في المواضع الثلاثة لا شخص بدل لا أحد، ثم ساقه من طريق زائدة بن قدامة عن عبد الملك كذلك، فكأن هذه اللفظة لم تقع في رواية البخاري في حديث أبي عوانة عن عبد الملك، فلذلك علقها عن عبيد الله بن عمرو. قلت: وقد أخرجه مسلم عن القواريري وأبي كامل كذلك، ومن طريق زائدة أيضا قال ابن بطال: أجمعت الأمة على أن الله تعالى لا يجوز أن يوصف بأنه شخص لأن التوقيف لم يرد به، وقد منعت منه المجسمة مع قولهم بأنه جسم لا كالأجسام كذا قال، والمنقول عنهم خلاف ما قال. وقال الإسماعيلي ليس في قوله لا شخص أغير من الله إثبات أن الله شخص بل هو كما جاء " ما خلق الله أعظم من آية الكرسي " فإنه ليس فيه إثبات أن آية
(13/400)
الكرسي مخلوقة، بل المراد أنها أعظم من المخلوقات، وهو كما يقول من يصف امرأة كاملة الفضل حسنة الخلق ما في الناس رجل يشبهها، يريد تفضيلها على الرجال لا أنها رجل. وقال ابن بطال: اختلفت ألفاظ هذا الحديث فلم يختلف في حديث ابن مسعود أنه بلفظ لا أحد، فظهر أن لفظ شخص جاء موضع أحد فكأنه من تصرف الراوي، ثم قال على أنه من باب المستثنى من غير جنسه كقوله تعالى :{وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} وليس الظن من نوع العلم. قلت: وهذا هو المعتمد وقد قرره ابن فورك ومنه أخذه ابن بطال فقال بعدما تقدم من التمثيل بقوله: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} فالتقدير أن الأشخاص الموصوفة بالغيرة لا تبلغ غيرتها وإن تناهت غيرة الله تعالى، وإن لم يكن شخصا بوجه، وأما الخطابي فبنى على أن هذا التركيب يقتضي إثبات هذا الوصف لله تعالى فبالغ في الإنكار وتخطئة الراوي، فقال: إطلاق الشخص في صفات الله تعالى غير جائز لأن الشخص لا يكون إلا جسما مؤلفا فخليق أن لا تكون هذه اللفظة صحيحة، وأن تكون تصحيفا من الراوي ودليل ذلك أن أبا عوانة روى هذا الخبر عن عبد الملك فلم يذكرها، ووقع في حديث أبي هريرة وأسماء بنت أبي بكر بلفظ: "شيء " والشيء والشخص في الوزن سواء، فمن لم يمعن في الاستماع لم يأمن الوهم وليس كل من الرواة يراعى لفظ الحديث حتى لا يتعداه، بل كثير منهم يحدث بالمعنى وليس كلهم فهما بل في كلام بعضهم جفاء وتعجرف، فلعل لفظ شخص جرى على هذا السبيل إن لم يكن غلطا من قبيل التصحيف يعني السمعي قال ثم إن عبيد الله بن عمرو انفرد عن عبد الملك فلم يتابع عليه واعتوره الفساد من هذه الأوجه " وقد تلقى هذا عن الخطابي أبو بكر بن فورك فقال لفظ الشخص غير ثابت من طريق السند فإن صح فبيانه في الحديث الآخر؛ وهو قوله: "لا أحد " فاستعمل الراوي لفظ شخص موضع أحد ثم ذكر نحو ما تقدم عن ابن بطال ومنه أخذ ابن بطال، ثم قال ابن فورك وإنما منعنا من إطلاق لفظ الشخص أمور أحدها أن اللفظ لم يثبت من طريق السمع، والثاني الإجماع على المنع منه، والثالث أن معناه الجسم المؤلف المركب، ثم قال ومعنى الغيرة الزجر والتحريم، فالمعنى أن سعدا الزجور عن المحارم وأنا أشد زجرا منه، والله أزجر من الجميع انتهى، وطعن الخطابي ومن تبعه في السند مبني على تفرد عبيد الله بن عمرو به وليس كذلك، كما تقدم وكلامه ظاهر في أنه لم يراجع صحيح مسلم ولا غيره من الكتب التي وقع فيها هذا اللفظ من غير رواية عبيد الله بن عمرو، ورد الروايات الصحيحة والطعن في أئمة الحديث الضابطين مع إمكان توجيه ما رووا من الأمور التي أقدم عليها كثير من غير أهل الحديث، وهو يقتضي قصور فهم من فعل ذلك منهم، ومن ثم قال الكرماني لا حاجة لتخطئة الرواة الثقاة بل حكم هذا حكم سائر المتشابهات، إما التفويض وإما التأويل. وقال عياض بعد أن ذكر معنى قوله: "لا أحد أحب إليه العذر من الله " أنه قدم الإعذار والإنذار قبل أخذهم بالعقوبة، وعلى هذا لا يكون في ذكر الشخص ما يشكل كذا قال، ولم يتجه أخذ نفي الإشكال مما ذكر، ثم قال ويجوز أن يكون لفظ الشخص وقع تجوزا من شيء أو أحد، كما يجوز إطلاق الشخص على غير الله تعالى، وقد يكون المراد بالشخص المرتفع لأن الشخص هو ما ظهر وشخص وارتفع، فيكون المعنى لا مرتفع أرفع من الله، كقوله لا متعالي أعلى من الله، قال ويحتمل أن يكون المعنى لا ينبغي لشخص أن يكون أغير من الله تعالى، وهو مع ذلك لم يعجل ولا بادر بعقوبة عبده لارتكابه ما نهاه عنه، بل حذره وأنذره وأعذر إليه وأمهله، فينبغي أن يتأدب بأدبه ويقف عند أمره ونهيه، وبهذا تظهر مناسبة تعقيبه بقوله، ولا أحد أحب إليه العذر من الله. وقال القرطبي أصل وضع
(13/401)
الشخص يعني في اللغة لجرم الإنسان وجسمه، يقال شخص فلان وجثمانه، واستعمل في كل شيء ظاهر، يقال شخص الشيء إذا ظهر، وهذا المعنى محال على الله تعالى فوجب تأويله، فقيل معناه لا مرتفع، وقيل لا شيء، وهو أشبه من الأول، وأوضح منه لا موجود أو لا أحد وهو أحسنها، وقد ثبت في الرواية الأخرى، وكأن لفظ الشخص أطلق مبالغة في إثبات إيمان من يتعذر على فهمه موجود لا يشبه شيئا من الموجودات، لئلا يفضي به ذلك إلى النفي والتعطيل، وهو نحو قوله صلى الله عليه وسلم للجارية " أين الله؟ قالت في السماء " فحكم بإيمانها مخافة أن تقع في التعطيل لقصور فهمها عما ينبغي له من تنزيهه مما يقتضي التشبيه، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. "تنبيه" لم يفصح المصنف بإطلاق الشخص على الله، بل أورد ذلك على طريق الاحتمال، وقد جزم في الذي بعده فتسميته شيئا لظهور ذلك فيما ذكره من الآيتين.
(13/402)
21 - باب قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلْ اللَّهُ
فَسَمَّى اللَّهُ تَعَالَى نَفْسَهُ شَيْئًا وَسَمَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنَ شَيْئًا وَهُوَ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ
وَقَالَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ
7417 - حدثنا عبد الله بن يوسف أخبرنا مالك عن أبي حازم عن سهل بن سعد قال النبي
صلى الله عليه وسلم لرجل "أمعك من القرآن شيء قال نعم سورة كذا وسورة كذا
لسور سماها"
قوله: "باب" بالتنوين "قل أي شيء أكبر شهادة؟ قل الله. فسمى الله
تعالى نفسه شيئا" كذا لأبي ذر والقابسي وسقط لفظ: "باب " لغيرهما
من رواية الفربري، وسقطت الترجمة من رواية النسفي وذكر قوله: "قل أي شيء أكبر
شهادة " وحديث سهل بن سعد بعد أثرى أبي العالية ومجاهد في تفسير "استوى
على العرش" ووقع عند الأصيلي وكريم " قل أي شيء أكبر شهادة؟ - سمى الله
نفسه شيئا - قل الله " والأول أولى وتوجيه الترجمة أن لفظ: "أي "
إذا جاءت استفهامية اقتضى الظاهر أن يكون سمى باسم ما أضيف إليه، فعلى هذا يصح أن
يسمى الله شيئا وتكون الجلالة خبر مبتدأ محذوف أي ذلك الشيء هو الله، ويجوز أن
يكون مبتدأ محذوف الخبر، والتقدير الله أكبر شهادة والله أعلم. قوله: "وسمى
النبي صلى الله عليه وسلم القرآن شيئا وهو صفة من صفات الله" يشير إلى الحديث
الذي أورده من حديث سهل بن سعد وفيه: "أمعك من القرآن شيء " وهو مختصر
من حديث طويل في قصة الواهبة تقدم بطوله مشروحا في " كتاب النكاح "
وتوجيهه أن بعض القرآن قرآن وقد سماه الله شيئا. قوله: {وقال كل شيء هالك إلا
وجهه} الاستدلال بهذه الآية للمطلوب ينبني على أن الاستثناء فيها متصل، فإنه يقتضي
اندراج المستثنى في المستثنى منه وهو الراجح، على أن لفظ شيء يطلق على الله تعالى
وهو الراجح أيضا، والمراد بالوجه الذات وتوجيهه أنه عبر عن الجملة بأشهر ما فيها،
ويحتمل أن يراد بالوجه ما يعمل لأجل الله أو الجاه، وقيل إن الاستثناء منقطع
والتقدير: لكن هو سبحانه لا يهلك، والشيء يساوي الموجود لغة وعرفا، وأما قولهم
فلان ليس بشيء فهو على طريق المبالغة في الذم، فلذلك وصفه بصفة المعدوم، وأشار ابن
بطال إلى أن البخاري انتزع هذه الترجمة من كلام عبد العزيز بن يحيى المكي فإنه قال
في " كتاب الحيدة " سمى الله تعالى نفسه شيئا إثباتا لوجوده ونفيا للعدم
عنه، وكذا أجرى على
(13/402)
كلامه ما أجراه على نفسه ولم يجعل لفظ شيء من أسمائه بل دل على نفسه أنه شيء تكذيبا للدهرية ومنكري الإلهية من الأمم، وسبق في علمه أنه سيكون من يلحد في أسمائه ويلبس على خلقه ويدخل كلامه في الأشياء المخلوقة، فقال: {ليس كمثله شيء} فأخرج نفسه وكلامه من الأشياء المخلوقة ثم وصف كلامه بما وصف به نفسه فقال: {وما قدروا الله حق قدره، إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء} وقال تعالى :{أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ} فدل على كلامه بما دل على نفسه ليعلم أن كلامه صفة من صفات ذاته فكل صفة تسمى شيئا بمعنى أنها موجودة وحكى ابن بطال أيضا أن في هذه الآيات والآثار ردا على من زعم أنه لا يجوز أن يطلق على الله شيء، كما صرح به عبد الله الناشئ المتكلم وغيره، وردا على من زعم أن المعدوم شيء، وقد أطبق العقلاء على أن لفظ شيء يقتضي إثبات موجود، وعلى أن لفظ لا شيء يقتضي نفي موجود إلا ما تقدم من إطلاقهم ليس بشيء في الذم فإنه بطريق المجاز.
(13/403)
22 - باب وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ وَهُوَ رَبُّ
الْعَرْشِ الْعَظِيمِ
قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ ارْتَفَعَ فَسَوَّاهُنَّ
خَلَقَهُنَّ وَقَالَ مُجَاهِدٌ اسْتَوَى عَلاَ عَلَى الْعَرْشِ وَقَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ الْمَجِيدُ الْكَرِيمُ وَ الْوَدُودُ الْحَبِيبُ يُقَالُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ
كَأَنَّهُ فَعِيلٌ مِنْ مَاجِدٍ مَحْمُودٌ مِنْ حَمِدَ
7418 - حَدَّثَنَا عَبْدَانُ قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو حَمْزَةَ عَنْ الأَعْمَشِ
عَنْ جَامِعِ بْنِ شَدَّادٍ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ
حُصَيْنٍ قَالَ إِنِّي عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ
جَاءَهُ قَوْمٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ فَقَالَ اقْبَلُوا الْبُشْرَى يَا بَنِي
تَمِيمٍ قَالُوا بَشَّرْتَنَا فَأَعْطِنَا فَدَخَلَ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ
فَقَالَ اقْبَلُوا الْبُشْرَى يَا أَهْلَ الْيَمَنِ إِذْ لَمْ يَقْبَلْهَا بَنُو
تَمِيمٍ قَالُوا قَبِلْنَا جِئْنَاكَ لِنَتَفَقَّهَ فِي الدِّينِ وَلِنَسْأَلَكَ عَنْ
أَوَّلِ هَذَا الأَمْرِ مَا كَانَ قَالَ كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ
قَبْلَهُ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ ثُمَّ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ
وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ ثُمَّ أَتَانِي رَجُلٌ فَقَالَ يَا عِمْرَانُ
أَدْرِكْ نَاقَتَكَ فَقَدْ ذَهَبَتْ فَانْطَلَقْتُ أَطْلُبُهَا فَإِذَا السَّرَابُ
يَنْقَطِعُ دُونَهَا وَايْمُ اللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنَّهَا قَدْ ذَهَبَتْ وَلَمْ
أَقُمْ
7419 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ
أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامٍ حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ يَمِينَ اللَّهِ مَلْأَى
لاَ يَغِيضُهَا نَفَقَةٌ سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ أَرَأَيْتُمْ مَا
أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فَإِنَّهُ لَمْ يَنْقُصْ مَا فِي
يَمِينِهِ وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ وَبِيَدِهِ الأُخْرَى الْفَيْضُ أَوْ
الْقَبْضُ يَرْفَعُ وَيَخْفِضُ
7420 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ
الْمُقَدَّمِيُّ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ
جَاءَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ يَشْكُو فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقُولُ اتَّقِ اللَّهَ وَأَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ قَالَ أَنَسٌ لَوْ
كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَاتِمًا شَيْئًا
لَكَتَمَ هَذِهِ قَالَ فَكَانَتْ زَيْنَبُ تَفْخَرُ عَلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَقُولُ زَوَّجَكُنَّ أَهَالِيكُنَّ
(13/403)
وَزَوَّجَنِي اللَّهُ تَعَالَى مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ
وَعَنْ ثَابِتٍ {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى
النَّاسَ} نَزَلَتْ فِي شَأْنِ زَيْنَبَ وَزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ
7421 - حدثنا خلاد بن يحيى حدثنا عيسى بن طهمان قال سمعت أنس بن مالك رضي الله عنه
يقول "نزلت آية الحجاب في زينب بنت جحش وأطعم عليها يومئذ خبزا ولحما وكانت
تفخر على نساء النبي صلى الله عليه وسلم وكانت تقول إن الله أنكحني في
السماء"
7422 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو
الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ لَمَّا قَضَى الْخَلْقَ كَتَبَ
عِنْدَهُ فَوْقَ عَرْشِهِ إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي
7423 - حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ
فُلَيْحٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي حَدَّثَنِي هِلاَلٌ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَصَامَ رَمَضَانَ
كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ هَاجَرَ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ أَوْ جَلَسَ فِي أَرْضِهِ الَّتِي وُلِدَ فِيهَا قَالُوا يَا رَسُولَ
اللَّهِ أَفَلاَ نُنَبِّئُ النَّاسَ بِذَلِكَ قَالَ إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ
دَرَجَةٍ أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِهِ كُلُّ دَرَجَتَيْنِ
مَا بَيْنَهُمَا كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ
فَسَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَأَعْلَى الْجَنَّةِ
وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ
7424 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ
الأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ التَّيْمِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ
قَالَ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
جَالِسٌ فَلَمَّا غَرَبَتْ الشَّمْسُ قَالَ يَا أَبَا ذَرٍّ هَلْ تَدْرِي أَيْنَ
تَذْهَبُ هَذِهِ قَالَ قُلْتُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ فَإِنَّهَا
تَذْهَبُ تَسْتَأْذِنُ فِي السُّجُودِ فَيُؤْذَنُ لَهَا وَكَأَنَّهَا قَدْ قِيلَ
لَهَا ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ فَتَطْلُعُ مِنْ مَغْرِبِهَا ثُمَّ قَرَأَ
ذَلِكَ مُسْتَقَرٌّ لَهَا فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ
7425 - حَدَّثَنَا مُوسَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ
عُبَيْدِ بْنِ السَّبَّاقِ أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ وَقَالَ اللَّيْثُ
حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ ابْنِ
السَّبَّاقِ أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ حَدَّثَهُ قَالَ أَرْسَلَ إِلَيَّ أَبُو
بَكْرٍ فَتَتَبَّعْتُ الْقُرْآنَ حَتَّى وَجَدْتُ آخِرَ سُورَةِ التَّوْبَةِ مَعَ
أَبِي خُزَيْمَةَ الأَنْصَارِيِّ لَمْ أَجِدْهَا مَعَ أَحَدٍ غَيْرِهِ لَقَدْ
جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ حَتَّى خَاتِمَةِ بَرَاءَةٌ
7426 - حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ
قَتَادَةَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
(13/404)
عَنْهُمَا قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقُولُ عِنْدَ الْكَرْبِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ الْعَلِيمُ
الْحَلِيمُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ لاَ إِلَهَ
إِلاَّ اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَرَبُّ الأَرْضِ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ
7427 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرِو بْنِ
يَحْيَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " يَصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى آخِذٌ بِقَائِمَةٍ مِنْ قَوَائِمِ الْعَرْشِ"
7428 - وَقَالَ الْمَاجِشُونُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَضْلِ عَنْ أَبِي
سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: "فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ بُعِثَ فَإِذَا مُوسَى آخِذٌ
بِالْعَرْشِ
قوله: "باب وكان عرشه على الماء وهو رب العرش العظيم" كذا ذكر قطعتين من
آيتين، وتلطف في ذكر الثانية عقب الأولى، لرد من توهم من قوله في الحديث:
"كان الله ولم يكن شيء قبلة، وكان عرشه على الماء " أن العرش لم يزل مع
الله تعالى وهو مذهب باطل، وكذا من زعم من الفلاسفة أن العرش هو الخالق الصانع،
وربما تمسك بعضهم وهو أبو إسحاق الهروي بما أخرجه من طريق سفيان الثوري "
حدثنا أبو هشام " هو الرماني بالراء والتشديد عن مجاهد عن ابن عباس قال:
"إن الله كان على عرشه قبل أن يخلق شيئا فأول ما خلق الله القلم " وهذه
الأولية محمولة على خلق السموات والأرض وما فيهما، فقد أخرج عبد الرزاق في تفسيره
عن معمر عن قتادة في قوله تعالى :{وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} قال هذا بدء
خلقه قبل أن يخلق السماء وعرشه من ياقوتة حمراء فأردف المصنف بقوله: {رَبُّ
الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} إشارة إلى أن العرش مربوب وكل مربوب مخلوق، وختم الباب
بالحديث الذي فيه: "فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش " فإن في
إثبات القوائم للعرش دلالة على أنه جسم مركب له أبعاض وأجزاء، والجسم المؤلف محدث
مخلوق. وقال البيهقي في " الأسماء والصفات " اتفقت أقاويل هذا التفسير
على أن العرش هو السرير وأنه جسم خلقه الله وأمر ملائكته بحمله وتعبدهم بتعظيمه
والطواف به كما خلق في الأرض بيتا وأمر بني آدم بالطواف به واستقباله في الصلاة،
وفي الآيات - أي التي ذكرها - والأحاديث والآثار دلالة على صحة ما ذهبوا إليه.
قوله: "قال أبو العالية استوى إلا السماء ارتفع فسوى خلق" في رواية
الكشميهني: "فسواهن خلقهن " وهو الموافق للمنقول عن أبي العالية لكن
بلفظ: "فقضاهن " كما أخرجه الطبري من طريق أبي جعفر الرازي عنه في قوله
تعالى :{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} قال ارتفع. وفي قوله: {فَقَضَاهُنَّ}:
خلقهن وهذا هو المعتمد والذي وقع {فَسَوَّاهُنَّ} تغيير، ووقع لفظ سوى أيضا في
سورة النازعات في قوله تعالى :{رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا} وليس المراد هنا وقد
تقدم في تفسير سورة فصلت في حديث ابن عباس الذي أجاب به عن الأسئلة التي قال
السائل إنها اختلفت عليه في القرآن فإن فيها " أنه خلق الأرض قبل خلق السماء
ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات ثم دحا الأرض " ثم إن في تفسير سوى بخلق
نظرا لأن في التسوية قدرا زائدا على الخلق كما في قوله تعالى :{الَّذِي خَلَقَ
فَسَوَّى} قوله: "وقال مجاهد استوى: علا على العرش" وصله الفريابي عن
ورقاء عن ابن أبي نجيح عنه قال ابن بطال اختلف الناس في الاستواء المذكور هنا
فقالت المعتزلة معناه الاستيلاء بالقهر والغلبة واحتجوا بقول الشاعر:
قد استوى بشر على العراق ... من غير سيف ودم مهراق
(13/405)
وقالت الجسمية معناه الاستقرار. وقال بعض أهل السنة معناه ارتفع، وبعضهم معناه علا، وبعضهم معناه الملك والقدرة ومنه استوت له الممالك، يقال لمن أطاعه أهل البلاد، وقيل معنى الاستواء التمام والفراغ من فعل الشيء، ومنه قوله تعالى :{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى} فعلى هذا فمعنى استوى على العرش أتم الخلق، وخص لفظ العرش لكونه أعظم الأشياء وقيل إن " على " في قوله على العرش بمعنى: إلى، فالمراد على هذا انتهى إلى العرش أي فيما يتعلق بالعرش لأنه خلق الخلق شيئا بعد شيء، ثم قال ابن بطال: فأما قول المعتزلة فإنه فاسد لأنه لم يزل قاهرا غالبا مستوليا، وقوله: "ثم استوى " يقتضي افتتاح هذا الوصف بعد أن لم يكن، ولازم تأويلهم أنه كان مغالبا فيه فاستولى عليه بقهر من غالبه، وهذا منتف عن الله سبحانه، وأما قول المجسمة ففاسد أيضا، لأن الاستقرار من صفات الأجسام ويلزم منه الحلول والتناهي، وهو محال في حق الله تعالى، ولائق بالمخلوقات لقوله تعالى :{فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} وقوله: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِْ} قال وأما تفسير استوى: علا فهو صحيح وهو المذهب الحق، وقول أهل السنة لأن الله سبحانه وصف نفسه بالعلي. وقال: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} وهي صفة من صفات الذات، وأما من فسره: ارتفع ففيه نظر لأنه لم يصف به نفسه، قال واختلف أهل السنة هل الاستواء صفة ذات أو صفة فعل، فمن قال معناه علا قال هي صفة ذات، ومن قال غير ذلك قال هي صفة فعل، وإن الله فعل فعلا سماه استوى على عرشه، لا أن ذلك قائم بذاته لاستحالة قيام الحوادث به انتهى ملخصا. وقد ألزمه من فسره بالاستيلاء بمثل ما ألزم هو به من أنه صار قاهرا بعد أن لم يكن، فيلزم أنه صار غالبا بعد أن لم يكن؛ والانفصال عن ذلك للفريقين بالتمسك بقوله تعالى :{وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} فإن أهل العلم بالتفسير قالوا معناه لم يزل كذلك، كما تقدم بيانه عن ابن عباس في تفسير فصلت، وبقي من معاني استوى ما نقل عن ثعلب استوى الوجه اتصل، واستوى القمر امتلأ واستوى فلان وفلان تماثلا، واستوى إلى المكان أقبل، واستوى القاعد قائما والنائم قاعدا، ويمكن رد بعض هذه المعاني إلى بعض، وكذا ما تقدم عن ابن بطال، وقد نقل أبو إسماعيل الهروي في كتاب الفاروق بسنده إلى داود بن علي بن خلف قال: كنا عند أبي عبد الله بن الأعرابي يعني محمد بن زياد اللغوي فقال له رجل {الرحمن على العرش استوى} فقال هو على العرش كما أخبر، قال يا أبا عبد الله إنما معناه استولى، فقال اسكت لا يقال استولى على الشيء إلا أن يكون له مضاد، ومن طريق محمد بن أحمد بن النضر الأزدي سمعت ابن الأعرابي يقول أرادني أحمد بن أبي داود أن أجد له في لغة العرب {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} بمعنى استولى فقلت والله ما أصبت هذا. وقال غيره لو كان بمعنى استولى لم يختص بالعرش، لأنه غالب على جميع المخلوقات، ونقل محيي السنة البغوي في تفسيره عن ابن عباس وأكثر المفسرين أن معناه ارتفع وقال أبو عبيدة والفراء وغيرهما بنحوه. وأخرج أبو القاسم اللالكائي في كتاب السنة من طريق الحسن البصري عن أمه عن أم سلمة أنها قالت: "الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإقرار به إيمان، والجحود به كفر " ومن طريق ربيعة بن أبي عبد الرحمن أنه سئل كيف استوى على العرش؟ فقال: "الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، وعلى الله الرسالة، وعلى رسوله البلاغ، وعلينا التسليم " وأخرج البيهقي بسند جيد عن الأوزاعي قال كنا والتابعون متوافرون نقول إن الله على عرشه، ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته. وأخرج الثعلبي من وجه آخر عن الأوزاعي أنه سئل عن قوله تعالى :{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} فقال: هو كما وصف نفسه. وأخرج البيهقي
(13/406)
بسند جيد عن عبد الله بن وهب قال كنا عند مالك فدخل رجل فقال يا أبا عبد الله " الرحمن على العرش استوى، كيف استوى؟ فأطرق مالك فأخذته الرحضاء ثم رفع رأسه فقال: الرحمن على العرش استوى وصف به نفسه ولا يقال كيف، وكيف عنه مرفوع، وما أراك إلا صاحب بدعة أخرجوه " ومن طريق يحيى بن يحيى عن مالك نحو المنقول عن أم سلمة لكن قال فيه: "والإقرار به واجب، والسؤال عنه بدعة " وأخرج البيهقي من طريق أبي داود الطيالسي قال: كان سفيان الثوري وشعبة وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وشريك وأبو عوانة لا يحددون لا يشبهون ويروون هذه الأحاديث ولا يقولون كيف، قال أبو داود وهو قولنا، قال البيهقي وعلى هذا مضى أكابرنا وأسند اللالكائي عن محمد بن الحسن الشيباني قال: اتفق الفقهاء كلهم من المشرق إلى المغرب على الإيمان بالقرآن وبالأحاديث التي جاء بها الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة الرب من غير تشبيه ولا تفسير، فمن فسر شيئا منها وقال بقول جهم فقد خرج عما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وفارق الجماعة، لأنه وصف الرب بصفة لا شيء، ومن طريق الوليد بن مسلم سألت الأوزاعي ومالكا والثوري والليث بن سعد عن الأحاديث التي فيها الصفة فقالوا: أمروها كما جاءت بلا كيف " وأخرج ابن أبي حاتم في مناقب الشافعي عن يونس بن عبد الأعلى سمعت الشافعي يقول: لله أسماء وصفات لا يسع أحدا ردها، ومن خالف بعد ثبوت الحجة عليه فقد كفر، وأما قبل قيام الحجة فإنه يعذر بالجهل لأن علم ذلك لا يدرك بالعقل ولا الرؤية والفكر، فثبت هذه الصفات وننفي عنه التشبيه كما نفى عن نفسه، فقال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وأسند البيهقي بسند صحيح عن أحمد بن أبي الحواري عن سفيان بن عيينة قال: "كل ما وصف الله به نفسه في كتابه فتفسيره تلاوته والسكوت عنه " ومن طريق أبي بكر الضبعي قال: مذهب أهل السنة في قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} قال بلا كيف والآثار فيه عن السلف كثيرة، وهذه طريقة الشافعي وأحمد بن حنبل. وقال الترمذي في الجامع عقب حديث أبي هريرة في النزول وهو على العرش كما وصف به نفسه في كتابه، كذا قال غير واحد من أهل العلم في هذا الحديث وما يشبهه من الصفات. وقال في باب فضل الصدقة قد ثبتت هذه الروايات فنؤمن بها ولا نتوهم ولا يقال كيف، كذا جاء عن مالك وابن عيينة وابن المبارك أنهم أمروها بلا كيف، وهذا قول أهل العلم من أهل السنة والجماعة، وأما الجهمية فأنكروها وقالوا هذا تشبيه. وقال إسحاق بن راهويه إنما يكون التشبيه لو قيل: يد كيد وسمع كسمع. وقال في تفسير المائدة قال الأئمة نؤمن بهذه الأحاديث من غير تفسير، منهم الثوري ومالك وابن عيينة وابن المبارك وقال ابن عبد البر أهل السنة مجمعون على الإقرار بهذه الصفات الواردة في الكتاب والسنة، ولم يكيفوا شيئا منها؛ وأما الجهمية والمعتزلة والخوارج فقالوا من أقر بها فهو مشبه فسماهم من أقر بها معطلة. وقال إمام الحرمين في الرسالة النظامية اختلفت مسالك العلماء في هذه الظواهر فرأى بعضهم تأويلها والتزم ذلك في آي الكتاب وما يصح من السنن، وذهب أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل وإجراء الظواهر على مواردها وتفويض معانيها إلى الله تعالى والذي نرتضيه رأيا وندين الله به عقيدة اتباع سلف الأمة للدليل القاطع على أن إجماع الأمة حجة فلو كان تأويل هذه الظواهر حتما لأوشك أن يكون اهتمامهم به فوق اهتمامهم بفروع الشريعة، وإذا انصرم عصر الصحابة والتابعين على الإضراب عن التأويل كان ذلك هو الوجه المتبع انتهى. وقد تقدم النقل عن أهل العصر الثالث وهم فقهاء الأمصار كالثوري والأوزاعي ومالك والليث ومن عاصرهم، وكذا من أخذ عنهم من الأئمة، فكيف لا يوثق بما اتفق عليه أهل القرون
(13/407)
الثلاثة، وهم خير القرون بشهادة صاحب الشريعة، وقسم بعضهم أقوال الناس، في هذا الباب إلى ستة أقوال قولان لمن يجريها على ظاهرها أحدهما من يعتقد أنها من جنس صفات المخلوقين وهم المشبهة ويتفرع من قولهم عدة آراء، والثاني من ينفي عنها شبه صفة المخلوقين لأن ذات الله لا تشبه الذوات فصفاته لا تشبه الصفات فإن صفات كل موصوف تناسب ذاته وتلائم حقيقته، وقولان لمن يثبت كونها صفة ولكن لا يجريها على ظاهرها، أحدهما يقول لا نؤول شيئا منها بل نقول الله أعلم بمراده، والآخر يؤول فيقول مثلا معنى الاستواء الاستيلاء، واليد القدرة ونحو ذلك، وقولان لمن لا يجزم بأنها صفة أحدهما يقول يجوز أن تكون صفة وظاهرها غير مراد، ويجوز أن لا تكون صفة، والآخر يقول لا يخاض في شيء من هذا بل يجب الإيمان به لأنه من المتشابه الذي لا يدرك معناه. قوله: "وقال ابن عباس المجيد الكريم، والودود الحبيب" وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى :{ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} قال المجيد الكريم، وبه عن ابن عباس في قوله تعالى :{وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} قال الودود الحبيب وإنما وقع تقديم المجيد قبل الودود هنا لأن المراد تفسير لفظ المجيد الواقع في قوله: "ذو العرش المجيد" فلما فسره استطرد لتفسير الاسم الذي قبله إشارة إلى أنه قرئ مرفوعا بالاتفاق، وذو العرش بالرفع صفة له واختلفت القراء في المجيد بالرفع، فيكون من صفات الله، وبالكسر فيكون صفة العرش، قال ابن المنير جميع ما ذكره البخاري في هذا الباب يشتمل على ذكر العرش إلا أثر ابن عباس، لكنه نبه به على لطيفة وهي أن المجيد في الآية على قراءة الكسر ليس صفة للعرش، حتى لا يتخيل أنه قديم بل هي صفة الله، بدليل قراءة الرفع، وبدليل اقترانه بالودود فيكون الكسر على المجاورة لتجتمع القراءتان على معنى واحد انتهى. ويؤيد أنها عند البخاري صفة الله تعالى ما أردفه به، وهو يقال حميد مجيد إلخ، ويؤيده حديث أبي هريرة الذي أخرجه الدار قطني بلفظ: "إذا قال العبد بسم الله الرحمن الرحيم قال الله تعالى مجدني عبدي " ذكره ابن التين قال ويقال المجد في كلام العرب: الشرف الواسع، فالماجد من له آباء متقدمون في الشرف، وأما الحسب والكرم فيكونان في الرجل وإن لم يكن له آباء شرفاء، فالمجيد صيغة مبالغة من المجد وهو الشرف القديم. وقال الراغب المجد السعة في الكرم والجلالة، وأصله قولهم مجدت الإبل أي وقعت في مرعى كثير واسع وأمجدها الراعي، ووصف القرآن بالمجيد لما يتضمن من المكارم الدنيوية والأخروية انتهى. ومع ذلك كله فلا يمتنع وصف العرش بذلك لجلالته وعظيم قدره كما أشار إليه الراغب، ولذلك وصف بالكريم في سورة قد أفلح، وأما تفسير الودود بالحبيب فإنه يأتي بمعنى المحب والمحبوب لأن أصل الود محبة الشيء، قال الراغب الودود يتضمن ما دخل في قوله تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} وقد تقدم معنى محبة الله تعالى لعباده ومحبتهم له. قوله: "يقال حميد مجيد كأنه فعيل من ماجد محمود من حمد" كذا لهم بغير ياء فعلا ماضيا ولغير أبي ذر عن الكشميهني محمود من حميد، وأصل هذا قول أبي عبيدة في " كتاب المجاز " في قوله: "عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد" أي محمود ماجد. وقال الكرماني غرضه منه أن مجيدا بمعنى فاعل كقدير بمعنى قادر وحميدا بمعنى مفعول، فلذلك قال مجيد من ماجد وحميد من محمود، قال وفي بعض النسخ محمود من حميد، وفي أخرى من حمد مبني للفاعل والمفعول أيضا، وذلك لاحتمال أن يكون حميد بمعنى حامد ومجيد بمعنى ممجد، ثم قال وفي عبارة البخاري تعقيد. قلت: وهو في قوله محمود من حمد، وقد اختلف الرواة فيه والأولى فيه ما وجد في أصله وهو كلام أبي عبيدة، ثم ذكر في الباب تسعة أحاديث لبعضها طريق، أخرى. حديث عمران بن حصين وقوله في السند
(13/408)
" أنبأنا أبو حمزة " هو السكري، وقد تقدم قريبا في باب: ويحذركم الله نفسه ووقع في رواية الكشميهني عن أبي حمزة، وقوله عن جامع بن شداد تقدم في بدء الخلق في رواية حفص بن غياث عن الأعمش " حدثنا جامع " وجامع هذا يكنى أبا صخرة. قوله: "إني عند النبي صلى الله عليه وسلم" في رواية حفص " دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وعقلت ناقتي بالباب فأتاه ناس من بني تميم " وهذا ظاهر في أن هذه القصة كانت بالمدينة، ففيه تعقب على من وحد بين هذه القصة وبين القصة التي تقدمت في المغازي من حديث أبي بردة بن أبي موسى عن أبيه قال: "كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالجعرانة بين مكة والمدينة ومعه بلال، فأتاه أعرابي فقال ألا تنجز لي ما وعدتني؟ فقال له أبشر، فقال: قد أكثرت علي من أبشر فأقبل على أبي موسى وبلال كهيئة الغضبان فقال: رد البشرى، فاقبلا أنتما، قالا قبلنا " الحديث ففسر القائل مع بني تميم " بشرتنا " فأعطنا بهذا الأعرابي، وفسر أهل اليمن بأبي موسى ووجه التعقب التصريح في قصة أبي موسى بأن القصة كانت بالجعرانة، وظاهر قصة عمران أنها كانت بالمدينة فافترقا وزعم ابن الجوزي أن القائل " أعطنا " هو الأقرع بن حابس التميمي. قوله: "إذ جاءه قوم من بني تميم" في رواية أبي عاصم عن الثوري في المغازي " جاءت بنو تميم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وهو محمول على إرادة بعضهم وفي رواية محمد بن كثير عنه في بدء الخلق " جاء نفر من بني تميم " والمراد وقد تميم جاء صريحا عند ابن حبان من طريق مؤمل بن إسماعيل عن سفيان " جاء وفد بني تميم". قوله: "اقبلوا البشرى يا بني تميم" في رواية أبي عاصم " أبشروا يا بني تميم " والمراد بهذه البشارة أن من أسلم نجا من الخلود في النار، ثم بعد ذلك يترتب جزاؤه على وفق عمله إلا أن يعفو الله. وقال الكرماني بشرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يقتضى دخول الجنة حيث عرفهم أصول العقائد التي هي المبدأ والمعاد وما بينهما كذا قال، وإنما وقع التعريف هنا لأهل اليمن وذلك ظاهر من سياق الحديث، ونقل ابن التين عن الداودي قال في قول بني تميم جئناك لنتفقه في الدين دليل على أن إجماع الصحابة لا ينعقد بأهل المدينة وحدها، وتعقبه بأن الصواب أنه قول أهل اليمن لا بني تميم، وهو كما قال ابن التين لكن وقع عند ابن حبان من طريق أبي عبيدة بن معن عن الأعمش بهذا السند ما نصه: "دخل عليه نفر من بني تميم فقالوا: يا رسول الله جئناك لنتفقه في الدين ونسألك عن أول هذا الأمر " ولم يذكر أهل اليمن وهو خطأ من هذا الراوي كأنه اختصر الحديث فوقع في هذا الوهم. قوله: "قالوا بشرتنا فأعطنا" زاد في رواية حفص " مرتين " وزاد في رواية الثوري عن جامع في المغازي " فقالوا أما إذا بشرتنا فأعطنا " وفيها " فتغير وجهه " وفي رواية أبي عوانة عن الأعمش عند أبي نعيم في المستخرج " فكأن النبي صلى الله عليه وسلم كره ذلك " وفي أخرى في المغازي من طريق سفيان أيضا: "فرؤي ذلك في وجهه " وفيها " فقالوا يا رسول الله بشرتنا " وهو دال على إسلامهم وإنما راموا العاجل، وسبب غضبه صلى الله عليه وسلم استشعاره بقلة علمهم لكونهم علقوا آمالهم بعاجل الدنيا الفانية وقدموا ذلك على التفقه في الدين الذي يحصل لهم ثواب الآخرة الباقية. قال الكرماني دل قولهم " بشرتنا " على أنهم قبلوا في الجملة لكن طلبوا مع ذلك شيئا من الدنيا، وإنما نفى عنهم القبول المطلوب لا مطلق القبول، وغضب حيث لم يهتموا بالسؤال عن حقائق كلمة التوحيد والمبدأ والمعاد ولم يعتنوا بضبطها ولم يسألوا عن موجباتها والموصلات إليها، قال الطيبي لما لم يكن جل اهتمامهم إلا بشأن الدنيا، قالوا " بشرتنا فأعطنا " فمن ثم قال إذ لم يقبلها بنو تميم. قوله: "فدخل ناس من أهل اليمن" في رواية حفص " ثم دخل عليه " وفي رواية أبي عاصم " فجاءه ناس من أهل اليمن". قوله: "قالوا قبلنا" زاد أبو عاصم وأبو نعيم " يا رسول الله " وكذا عند ابن حبان من رواية شيبان بن عبد الرحمن
(13/409)
عن جامع. قوله: "جئناك لنتفقه في الدين ولنسألك عن أول هذا الأمر ما كان" هذه الرواية أتم الروايات الواقعة عند المصنف، وحذف ذلك كله في بعضها أو بعضه، ووقع في رواية أبي معاوية عن الأعمش عند الإسماعيلي: "قالوا قد بشرتنا فأخبرنا عن أول هذا الأمر كيف كان " ولم أعرف اسم قائل ذلك من أهل اليمن، والمراد بالأمر في قولهم " هذا الأمر " تقدم بيانه في بدء الخلق. قوله: "كان الله ولم يكن شيء قبله" تقدم في بدء الخلق بلفظ: "ولم يكن شيء غيره: " وفي رواية أبي معاوية " كان الله قبل كل شيء " وهو بمعنى " كان الله ولا شيء معه " وهي أصرح في الرد على من أثبت حوادث لا أول لها من رواية الباب، وهي من مستشنع المسائل المنسوبة لابن تيمية، ووقفت في كلام له على هذا الحديث يرجح الرواية التي في هذا الباب على غيرها، مع أن قضية الجمع بين الروايتين تقتضي حمل هذه على التي في بدء الخلق لا العكس، والجمع يقدم على الترجيح بالاتفاق، قال الطيبي: قوله ولم يكن شيء قبله حال، وفي المذهب الكوفي خبر، والمعنى يساعده إذ التقدير كان الله منفردا، وقد جوز الأخفش دخول الواو في خبر كان وأخواتها نحو: كان زيد وأبوه قائم، على جعل الجملة خبرا مع الواو تشبيها للخبر بالحال، ومال التوربشتي إلى أنهما جملتان مستقلتان، وقد تقدم تقريره في بدء الخلق. وقال الطيبي لفظة " كان " في الموضعين بحسب حال مدخولها، فالمراد بالأول الأزلية والقدم، وبالثاني الحدوث بعد العدم، ثم قال فالحاصل أن عطف قوله: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} على قوله: "كان الله " من باب الإخبار عن حصول الجملتين في الوجود وتفويض الترتيب إلى الذهن قالوا وفيه بمنزلة ثم. وقال الكرماني قوله: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} معطوف على قوله كان الله ولا يلزم منه المعية إذ اللازم من الواو العاطفة الاجتماع في أصل الثبوت وإن كان هناك تقديم وتأخير، قال غيره ومن ثم جاء شيء غيره ومن ثم جاء قوله: "ولم يكن شيء غيره: " لنفي توهم المعية قال الراغب كان عبارة عما مضى من الزمان، لكنها في كثير من وصف الله تعالى تنبئ عن معنى الأزلية كقوله تعالى :{كَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} قال وما استعمل منه في وصف شيء متعلقا بوصف له هو موجود فيه فللتنبيه على أن ذلك الوصف لازم له أو قليل الانفكاك عنه، كقوله تعالى :{وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً} وقوله: {وَكَانَ الْأِنْسَانُ كَفُوراً} وإذا استعمل في الزمن الماضي جاز أن يكون المستعمل على حاله، وجاز أن يكون قد تغير، نحو: كان فلان كذا ثم صار كذا، واستدل به على أن العالم حادث لأن قوله: "ولم يكن شيء غيره: " ظاهر في ذلك فإن كل شيء سوى الله وجد بعد أن لم يكن موجودا. قوله: "أدرك ناقتك فقد ذهبت" في رواية أبي معاوية " انحلت ناقتك من عقالها " وزاد في آخر الحديث: "فلا أدري ما كان بعد ذلك " أي مما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم تكملة لذلك الحديث. قلت: ولم أقف في شيء من المسانيد عن أحد من الصحابة على نظير هذه القصة التي ذكرها عمران، ولو وجد ذلك لأمكن أن يعرف منه ما أشار إليه عمران، ويحتمل أن يكون اتفق أن الحديث انتهى عند قيامه. قوله: "وأيم الله" تقدم شرحها في " كتاب الأيمان والنذور". قوله: "لوددت أنها قد ذهبت ولم أقم" الود المذكور تسلط على مجموع ذهابها وعدم قيامه لا على أحدهما فقط، لأن ذهابها كان قد تحقق بانفلاتها، والمراد بالذهاب الفقد الكلي. حديث أبي هريرة " إن يمين الله ملأى " وقد تقدم شرحه قبل بابين، وقوله هنا " وعرشه على الماء " وقع في رواية إسحاق بن راهويه " والعرش على الماء " وظاهره أنه كذلك حين التحديث بذلك؛ وظاهر الحديث الذي قبله أن العرش كان على الماء قبل خلق السموات والأرض، ويجمع بأنه لم يزل على الماء وليس المراد بالماء ماء البحر بل هو ماء تحت العرش كما شاء الله
(13/410)
تعالى، وقد جاء بيان ذلك في حديث ذكرته في أوائل الباب، ويحتمل أن يكون على البحر، بمعنى أن أرجل حملته في البحر كما ورد في بعض الآثار، مما أخرجه الطبري والبيهقي من طريق السدي عن أبي مالك في قوله تعالى:َ {سِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} قال إن الصخرة التي الأرض السابعة عليها وهي منتهى الخلق على أرجائها أربعة من الملائكة، لكل أحد منهم أربعة أوجه وجه إنسان وأسد وثور ونسر، فهم قيام عليها قد أحاطوا بالأرضين والسموات رءوسهم تحت الكرسي والكرسي تحت العرش، وفي حديث أبي ذر الطويل الذي صححه ابن حبان: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يا أبا ذر ما السموات السبع مع الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على الحلقة " وله شاهد عن مجاهد أخرجه سعيد بن منصور في التفسير بسند صحيح عنه. قوله: "حدثنا أحمد" كذا للجميع غير منسوب وذكر أبو نصر الكلاباذي أنه أحمد بن يسار المروزي. وقال الحاكم هو أحمد بن نصر النيسابوري، يعني المذكور في سورة الأنفال وشيخه فيه محمد بن أبي بكر المقدمي قد أخرج عنه البخاري في " كتاب الصلاة " بغير واسطة، وجزم أبو نعيم في المستخرج بأن البخاري أخرج هذا الحديث عن محمد بن أبي بكر المقدمي ولم يذكر واسطة، والأول هو المعتمد، وقد أخرج البخاري طرفا منه في تفسير سورة الأحزاب من وجه آخر عن حماد بن زيد، وتقدم الكلام على قصة زينب بنت جحش وزيد بن حارثة هناك مبسوطا. قوله: "قال أنس لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتما شيئا لكتم هذه" ظاهره أنه موصول بالسند المذكور، لكن أخرجه الترمذي والنسائي وابن خزيمة والإسماعيلي عنه نزلت: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} في شأن زينب بنت جحش وكان زيد يشكو وهم بطلاقها يستأمر النبي صلى الله عليه وسلم فقال له "أمسك عليك زوجك واتق الله" وهذا القدر هو المذكور في آخر الحديث هنا بلفظ: "وعن ثابت وتخفي في نفسك " إلخ، ويستفاد منه موصول أنه بالسند المذكور وليس بمعلق، وأما قوله: "لو كان كاتما " إلخ، فلم أره في غير هذا الموضع موصولا عن أنس، وذكر ابن التين عن الداودي أنه نسب قوله: "لو كان كاتما لكتم قصة زينب " إلى عائشة، قال وعن غيرها " لكتم عبس وتولى"، قلت: قد ذكرت في تفسير سورة الأحزاب حديث عائشة قالت: "لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتما شيئا من الوحي " الحديث، وأنه أخرجه مسلم والترمذي ثم وجدته في مسند الفردوس من وجه آخر عن عائشة من لفظه صلى الله عليه وسلم: "لو كنت كاتما شيئا من الوحي " الحديث، واقتصر عياض في الشفاء على نسبتها إلى عائشة والحسن البصري وأغفل حديث أنس هذا وهو عند البخاري، وقد قال الترمذي بعد تخريج حديث عائشة، وفي الباب عن ابن عباس، وأشار إلى ما أخرجه وأما الرواية الأخرى في عبس وتولى فلم أرها إلا عند عبد الرحمن بن زيد بن أسلم أحد الضعفاء، أخرجه الطبري وابن أبي حاتم عنه قال: "كان يقال لو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتم شيئا من الوحي لكتم هذا عن نفسه " وذكر قصة ابن أم مكتوم ونزول عبس وتولى انتهى، وقد أخرج القصة الترمذي وأبو يعلى والطبري والحاكم موصولة عن عائشة وليس فيها هذه الزيادة، وأخرجها مالك في الموطأ عن هشام بن عروة عن أبيه مرسلة وهو المحفوظ عن هشام، وتفرد يحيى بن سعيد الأموي بوصله عن هشام، وأخرجها ابن مردويه من وجه آخر عن عائشة كذلك بدونها، وكذا من حديث أبي أمامة، وأوردها عبد بن حميد والطبراني وابن أبي حاتم من مرسل قتادة ومجاهد وعكرمة وأبي مالك الغفاري والضحاك والحكم وغيرهم، وليس في رواية أحد منهم هذه الزيادة، والله تعالى أعلم. قوله: "قال فكانت زينب تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم - إلى قولها - وزوجني الله عز وجل من فوق
(13/411)
سبع سماوات" أخرجه الإسماعيلي من طريق عارم بن الفضل عن حماد بهذا السند بلفظ: "نزلت في زينب بنت جحش: فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها الآية؛ وكانت تفخر " إلخ ثم ذكر رواية عيسى بن طهمان عن أنس في ذلك وهو آخر ما وقع في الصحيح من ثلاثيات البخاري، وقد تقدم لعيسى حديث آخر في اللباس لكنه ليس ثلاثيا ولفظه هنا " وكانت تفخر على نساء النبي صلى الله عليه وسلم وكانت تقول إن الله أنكحني في السماء " وزاد الإسماعيلي من طريق الفريابي وأبي قتيبة عن عيسى " أنتن أنكحكن آباؤكن " وهذا الإطلاق محمول على البعض، وإلا فالمحقق أن التي زوجها أبوها منهن عائشة وحفصة فقط، وفي سودة وزينب بنت خزيمة وجويرية احتمال، وأما أم سلمة وأم حبيبة وصفية وميمونة فلم يزوج واحدة منهن أبوها، ووقع عند ابن سعد من وجه آخر عن أنس بلفظ: "قالت زينب يا رسول الله إني لست كأحد من نسائك، ليست منهن امرأة إلا زوجها أبوها أو أخوها أو أهلها غيري " وسنده ضعيف من وجه آخر موصول عن أم سلمة " قالت زينب ما أنا كأحد من نساء النبي صلى الله عليه وسلم إنهن زوجهن بالمهور زوجهن الأولياء، وأنا زوجني الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وأنزل الله في الكتاب " وفي مرسل الشعبي " قالت زينب يا رسول الله أنا أعظم نسائك عليك حقا، أنا خيرهن منكحا وأكرمهن سفيرا وأقربهن رحما فزوجنيك الرحمن من فوق عرشه، وكان جبريل هو السفير بذلك، وأنا ابنة عمتك وليس لك من نسائك قريبة غيري " أخرجه الطبري وأبو القاسم الطحاوي في " كتاب الحجة والتبيان " له. قوله: "من فوق سبع سماوات" في رواية عيسى بن طهمان عن أنس المذكورة عقب هذا " وكانت تقول إن الله عز وجل أنكحني في السماء " وسنده هذه آخر الثلاثيات التي ذكرت في البخاري، وتقدم لعيسى بن طهمان حديث آخر غير ثلاثي تكلم فيه ابن حبان بكلام لم يقبلوه منه، وقوله في هذه الرواية: "وأطعم عليها يومئذ خبزا ولحما " يعني في وليمتها، وقد تقدم بيانه واضحا في تفسير سورة الأحزاب. قوله: "في رواية حماد بن زيد، بعد قوله سبع سماوات، وعن ثابت وتخفي في نفسك إلخ" كذا وقع مرسلا ليس فيه أنس، وقد تقدم من رواية يعلى بن منصور عن حماد بن زيد موصولا بذكر أنس فيه، وكذلك وقع في رواية أحمد بن عبدة موصولا، وأخرجه الإسماعيلي من رواية محمد بن سليمان لوين عن حماد موصولا أيضا وقد بين سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس كيفية تزويج زينب " قال: لما انقضت عدة زينب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لزيد أذكرها علي " فذكر الحديث، وقد أورده في تفسير سورة الأحزاب. قال الكرماني قوله: "في السماء " ظاهره غير مراد، إذ الله منزه عن الحلول في المكان، لكن لما كانت جهة العلو أشرف من غيرها أضافها إليه إشارة إلى علو الذات والصفات، وبنحو هذا أجاب غيره عن الألفاظ الواردة من الفوقية ونحوها، قال الراغب " فوق " يستعمل في المكان والزمان والجسم والعدد والمنزلة والقهر، فالأول: باعتبار العلو ويقابله تحت نحو {قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم} والثاني: باعتبار الصعود والانحدار، نحو {إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم} ، والثالث: في العدد نحو {فإن كن نساء فوق اثنتين} ، الرابع في الكبر والصغر، كقوله: {بعوضة فما فوقها} ، والخامس: يقع تارة باعتبار الفضيلة الدنيوية، نحو {ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات} ، أو الأخروية نحو {والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة} ، والسادس: نحو قوله: {وهو القاهر فوق عباده - يخافون ربهم من فوقهم} انتهى ملخصا. حديث أبي هريرة " إن الله تعالى لما قضى الخلق كتب عنده فوق عرشه إن رحمتي غلبت غضبي " وقد تقدم في باب {ويحذركم الله نفسه} ويأتي بعض
(13/412)
الكلام عليه في باب قوله تعالى :{في لوح محفوظ} قال الخطابي المراد بالكتاب أحد شيئين: إما القضاء الذي قضاه كقوله تعالى :{كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} أي قضى ذلك، قال ويكون معنى قوله: "فوق العرش " أي عنده علم ذلك فهو لا ينساه ولا يبدله، كقوله تعالى :{فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى}. وإما اللوح المحفوظ الذي فيه ذكر أصناف الخلق وبيان أمورهم وآجالهم وأرزاقهم وأحوالهم، ويكون معنى " فهو عنده فوق العرش " أي ذكره وعلمه وكل ذلك جائز في التخريج، على أن العرش خلق مخلوق تحمله الملائكة، فلا يستحيل أن يماسوا العرش إذا حملوه، وإن كان حامل العرش وحامل حملته هو الله، وليس قولنا إن الله على العرش أي مماس له أو متمكن فيه أو متحيز في جهة من جهاته بل هو خبر جاء به التوقيف، فقلنا له به ونفينا عنه التكييف إذ ليس كمثله شيء وبالله التوفيق. وقوله: "فوق عرشه " صفة الكتاب، وقيل إن فوق هنا بمعنى دون، كما جاء في قوله تعالى :{بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} وهو بعيد. وقال ابن أبي جمرة يؤخذ من كون الكتاب المذكور فوق العرش أن الحكمة اقتضت أن يكون العرش حاملا لما شاء الله من أثر حكمة الله وقدرته وغامض غيبه ليستأثر هو بذلك من طريق العلم والإحاطة، فيكون من أكبر الأدلة على انفراده بعلم الغيب، قال: وقد يكون ذلك تفسيرا لقوله: {الرحمن على العرش استوى} أي ما شاءه من قدرته وهو كتابه الذي وضعه فوق العرش. حديث أبي هريرة الذي فيه: "إن في الجنة مائه درجة أعدها الله للمجاهدين " وقد تقدم شرحه في الجهاد مع الكلام على قوله: {كان حقا على الله} وأن معناه معنى قوله تعالى :{كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} وليس معناه أن ذلك لازم له لأنه لا آمر له ولا ناهي يوجب عليه ما يلزمه المطالبة به، وإنما معناه إنجاز ما وعد به من الثواب، وهو لا يخلف الميعاد، وأما قوله: "مائة درجة " فليس في سياقه التصريح بأن العدد المذكور هو جميع درج الجنة من غير زيادة إذ ليس فيه ما ينفيها ويؤيد ذلك أن في حديث أبي سعيد المرفوع الذي أخرجه أبو داود وصححه الترمذي وابن حبان، ويقال لصاحب القرآن اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلك عند آخر آية تقرؤها وعدد أي القرآن أكثر من ستة آلاف ومائتين، والحلف فيما زاد على ذلك من الكسور، وقوله فيه: "كل درجتين ما بينهما كما بين السماء والأرض " اختلف الخبر الوارد في قدر مسافة ما بين السماء والأرض، وذكر هناك ما ورد في الترمذي أنها مائة عام وفي الطبراني خمسمائة، ويزاد هنا ما أخرجه ابن خزيمة في التوحيد من صحيحه وابن أبي عاصم في " كتاب السنة " عن ابن مسعود قال: بين السماء الدنيا والتي تليها خمسمائة عام، وبين كل سماء خمسمائة عام. وفي رواية: "وغلظ كل سماء مسيرة خمسمائة عام، وبين السابعة وبين الكرسي خمسمائة عام، وبين الكرسي وبين الماء خمسمائة عام، والعرش فوق الماء والله فوق العرش ولا يخفى عليه شيء من أعمالكم " وأخرجه البيهقي من حديث أبي ذر مرفوعا نحوه دون قوله، وبين السابعة والكرسي إلخ، وزاد فيه: "وما بين السماء السابعة إلى العرش مثل جميع ذلك " وفي حديث العباس بن عبد المطلب عند أبي داود وصححه ابن خزيمة والحاكم مرفوعا: "هل تدرون بعدما بين السماء والأرض؟ قلنا لا، قال: إحدى أو اثنتان أو ثلاث وسبعون، قال وما فوقها مثل ذلك حتى عد سبع سموات، ثم فوق السماء السابعة البحر أسفله من أعلاه مثل ما بين سماء إلى سماء، ثم فوقه ثمانية أو عال ما بين أظلافهن وركبهن مثل ما بين سماء إلى سماء ثم العرش فوق ذلك بين أسفله وأعلاه مثل ما بين سماء إلى سماء ثم الله فوق ذلك " والجمع بين اختلاف هذا العدد في هاتين الروايتين أن تحمل الخمسمائة على السير البطيء كسير الماشي على هينته، وتحمل السبعين على السير السريع
(13/413)
كسير السعاة، ولولا التحديد بالزيادة على السبعين لحملنا السبعين على المبالغة، فلا تنافي الخمسمائة، وقد تقدم الجواب عن الفوقية في الذي قبله. وقوله فيه وفوقه عرش الرحمن كذا للأكثر بنصب فوق على الظرفية، ويؤيده الأحاديث التي قبل هذا، وحكى في المشارق أن الأصيلي ضبطه بالرفع بمعنى أعلاه وأنكر ذلك في المطالع. وقال إنما قيده الأصيلي بالنصب كغيره، والضمير في قوله فوقه للفردوس. وقال ابن التين بل هو راجع إلى الجنة كلها، وتعقب بما في آخر الحديث هنا ومنه " تفجر أنهار الجنة " فإن الضمير للفردوس جزما ولا يستقيم أن يكون للجنان كلها وإن كان وقع في رواية الكشميهني: "ومنها تفجر " لأنها خطأ فقد أخرج الإسماعيلي عن الحسن وسفيان عن إبراهيم بن المنذر شيخ البخاري فيه بلفظ: "ومنه " بالضمير المذكر. حديث أبي ذر وقد تقدم شرحه في بدء الخلق وفي تفسير سورة يس، والمراد منه هنا إثبات أن العرش مخلوق لأنه ثبت أن له فوقا وتحتا وهما من صفات المخلوقات وقد تقدم صفة طلوع الشمس من المغرب في باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "بعثت أنا والساعة كهاتين " من كتاب الرقاق قال ابن بطال استئذان الشمس معناه أن الله يخلق فيها حياة يوجد القول عندها لأن الله قادر على إحياء الجماد والموات. وقال غيره يحتمل أن يكون الاستئذان أسند إليها مجازا، والمراد من هو موكل بها من الملائكة. حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يُونُسَ بِهَذَا وَقَالَ مَعَ أَبِي خُزَيْمَةَ الأَنْصَارِيِّ حديث زيد بن ثابت في جمع القرآن وقد تقدم شرحه في فضائل القرآن، والمراد منه آخر سورة براءة المشار إليه بقوله تعالى :{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ - إلى قوله - وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} لأنه أثبت أن للعرش ربا فهو مربوب وكل مربوب مخلوق، وموسى شيخه فيه هو ابن إسماعيل وإبراهيم شيخ شيخه في السند الأول هو ابن سعد، ورواية الليث المعلقة تقدم ذكر من وصلها في تفسير سورة براءة، وروايته المسندة تقدم سياقها في فضائل القرآن مع شرح الحديث. حديث ابن عباس في دعاء الكرب وقد تقدم شرحه في " كتاب الدعوات"، و " سعيد " في سنده هو ابن أبي عروبة " وأبو العالية " هو الرياحي بكسر ثم تحتانية خفيفة واسمه رفيع بفاء مصغر، وأما " أبو العالية البراء " بفتح الموحدة وتشديد الراء فاسمه زياد بن فيروز، وروايته عن ابن عباس في أبواب تقصير الصلاة. حديث أبي سعيد ذكره مختصرا، وتقدم بهذا السند الذي هنا تاما في " كتاب الأشخاص " وقوله: "وقال الماجشون " بكسر الجيم وضم المعجمة، هو عبد العزيز بن أبي سلمة " وعبد الله بن الفضل " أي ابن العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب الهاشمي. قوله: "عن أبي سلمة" هو ابن عبد الرحمن بن عوف قال أبو مسعود الدمشقي في الأطراف وتبعه جماعة من المحدثين، إنما روى الماجشون هذا عن عبد الله ابن الفضل عن الأعرج لا عن أبي سلمة، وحكموا على البخاري بالوهم في قوله عن أبي سلمة، وحديث الأعرج الذي أشير إليه تقدم في أحاديث الأنبياء من رواية عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون كما قالوا، وكذا أخرجه مسلم في الفضائل والنسائي في التفسير من طريقه، ولكن تحرر لي أن لعبد الله بن الفضل في هذا الحديث شيخين، فقد أخرج أبو داود الطيالسي في مسنده عن عبد العزيز بن أبي سلمة عن عبد الله بن الفضل عن أبي سلمة طرفا من هذا الحديث، وظهر لي أن قول من قال: "عن الماجشون عن عبد الله بن الفضل عن الأعرج " أرجح، ومن ثم وصلها البخاري وعلق الأخرى، فإن سلكنا سبيل الجمع استغنى عن الترجيح وإلا فلا استدراك على البخاري في الحالين، وكذا لا تعقب على ابن الصلاح في تفرقته بين ما يقول فيه البخاري: قال فلان جازما، فيكون محكوما بصحته بخلاف ما لا يجزم به فإنه لا يكون جازما بصحته، وقد تمسك بعض من أعترض عليه بهذا المثال فقال: جزم بهذه الرواية وهي وهم، وقد
(13/414)
عرف مما حررته الجواب عن هذا الاعتراض، وتقدم شرح المتن في أحاديث الأنبياء في قصة موسى، وقد ساقه هناك بتمامه بسند الحديث هنا. تكملة: وقع في مرسل قتادة أن العرش من ياقوتة حمراء، أخرجه عبد الرزاق عن معمر عنه في قوله: "وكان عرشه على الماء" قال هذا بدء خلقه قبل أن يخلق السماء وعرشه من ياقوتة حمراء، وله شاهد عن سهل بن سعد مرفوع لكن سنده ضعيف.
(13/415)
23 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {تَعْرُجُ الْمَلاَئِكَةُ
وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} وَقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ
الطَّيِّبُ} وَقَالَ أَبُو جَمْرَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ بَلَغَ أَبَا ذَرٍّ
مَبْعَثُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِأَخِيهِ اعْلَمْ
لِي عِلْمَ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ يَأْتِيهِ الْخَبَرُ مِنْ
السَّمَاءِ وَقَالَ مُجَاهِدٌ الْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُ الْكَلِمَ الطَّيِّبَ
يُقَالُ ذِي الْمَعَارِجِ الْمَلاَئِكَةُ تَعْرُجُ إِلَى اللَّهِ
7429 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ
الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلاَئِكَةٌ
بِاللَّيْلِ وَمَلاَئِكَةٌ بِالنَّهَارِ وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلاَةِ الْعَصْرِ
وَصَلاَةِ الْفَجْرِ ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ فَيَسْأَلُهُمْ
وَهُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ فَيَقُولُ كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي فَيَقُولُونَ
تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ
7430 - وَقَالَ خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ حَدَّثَنِي عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ
وَلاَ يَصْعَدُ إِلَى اللَّهِ إِلاَّ الطَّيِّبُ فَإِنَّ اللَّهَ يَتَقَبَّلُهَا
بِيَمِينِهِ ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهِ كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فُلُوَّهُ
حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ وَرَوَاهُ وَرْقَاءُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
دِينَارٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلاَ يَصْعَدُ إِلَى اللَّهِ إِلاَّ الطَّيِّبُ
7431 - حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى بْنُ حَمَّادٍ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ
زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ عَنْ ابْنِ
عَبَّاسٍ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَدْعُو
بِهِنَّ عِنْدَ الْكَرْبِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ لاَ
إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ
رَبُّ السَّمَوَاتِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ
7432 - حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ أَبِي
نُعْمٍ أَوْ أَبِي نُعْمٍ شَكَّ قَبِيصَةُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ
بُعِثَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذُهَيْبَةٍ
فَقَسَمَهَا بَيْنَ أَرْبَعَةٍ و حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ حَدَّثَنَا
عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ أَبِي نُعْمٍ
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ بَعَثَ عَلِيٌّ وَهُوَ بِالْيَمَنِ إِلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذُهَيْبَةٍ فِي تُرْبَتِهَا
فَقَسَمَهَا بَيْنَ الأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ الْحَنْظَلِيِّ ثُمَّ أَحَدِ بَنِي
مُجَاشِعٍ وَبَيْنَ عُيَيْنَةَ بْنِ بَدْرٍ الْفَزَارِيِّ وَبَيْنَ عَلْقَمَةَ
(13/415)
ابْنِ عُلاَثَةَ الْعَامِرِيِّ ثُمَّ أَحَدِ بَنِي كِلاَبٍ
وَبَيْنَ زَيْدِ الْخَيْلِ الطَّائِيِّ ثُمَّ أَحَدِ بَنِي نَبْهَانَ
فَتَغَيَّظَتْ قُرَيْشٌ وَالأَنْصَارُ فَقَالُوا يُعْطِيهِ صَنَادِيدَ أَهْلِ
نَجْدٍ وَيَدَعُنَا قَالَ إِنَّمَا أَتَأَلَّفُهُمْ فَأَقْبَلَ رَجُلٌ غَائِرُ
الْعَيْنَيْنِ نَاتِئُ الْجَبِينِ كَثُّ اللِّحْيَةِ مُشْرِفُ الْوَجْنَتَيْنِ
مَحْلُوقُ الرَّأْسِ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ اتَّقِ اللَّهَ فَقال النبي صلى الله
عليه وسلم: "فَمَنْ يُطِيعُ اللَّهَ إِذَا عَصَيْتُهُ فَيَأْمَنُنِي عَلَى
أَهْلِ الأَرْضِ وَلاَ تَأْمَنُونِي فَسَأَلَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ قَتْلَهُ
أُرَاهُ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ فَمَنَعَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَلَمَّا وَلَّى قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ مِنْ
ضِئْضِئِ هَذَا قَوْمًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ
يَمْرُقُونَ مِنْ الإِسْلاَمِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنْ الرَّمِيَّةِ يَقْتُلُونَ
أَهْلَ الإِسْلاَمِ وَيَدَعُونَ أَهْلَ الأَوْثَانِ لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ
لاَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ
7433 - حَدَّثَنَا عَيَّاشُ بْنُ الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ الأَعْمَشِ
عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ سَأَلْتُ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْلِهِ {وَالشَّمْسُ تَجْرِي
لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} قَالَ مُسْتَقَرُّهَا تَحْتَ الْعَرْشِ
قوله: "باب قول الله تعالى تعرج الملائكة والروح إليه، وقوله تعالى:إليه يصعد
الكلم الطيب. وقال أبو جمرة" بالجيم والراء "عن ابن عباس بلغ أبا ذر
مبعث النبي صلى الله عليه وسلم" الحديث، "وقال مجاهد العمل الصالح يرفع
الكلم الطيب يقال ذي المعارج الملائكة تعرج إلى الله" أما الآية الأولى فأشار
إلى ما جاء في تفسيرها في الكلام الأخير، وهو قول الفراء " والمعارج "
من نعت الله تعالى وصف بذلك نفسه لأن الملائكة تعرج إليه، وحكى غيره أن معنى قوله:
"ذي المعارج " أي الفواضل العالية، وأما الآية الثانية فأشار إلى تفسير
مجاهد لها في الأثر الذي قبله، وقد وصله الفريابي من رواية ابن أبي نجيح عن مجاهد.
وأخرج البيهقي من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في تفسيرها " الكلم الطيب
" ذكر الله، و " العمل الصالح " أداء فرائض الله، فمن ذكر الله ولم
يؤد فرائضه رد كلامه. وقال الفراء معناه أن العمل الصالح يرفع الكلام الطيب أي
يتقبل الكلام الطيب إذا كان معه عمل صالح، وأما التعليق عن أبي جمرة فمضى موصولا
في باب إسلام أبي ذر وساقه هناك بطوله، والغرض منه قول أبي ذر لأخيه: اعلم لي علم
هذا الذي يأتيه الخبر من السماء، وتقدم شرحه ثمة، قال الراغب: العروج ذهاب في
صعود. وقال أبو علي القالي في كتابه البارع: المعارج جمع معرج بفتحتين كالمصاعد
جمع مصعد والعروج الارتقاء، يقال عرج بفتح الراء يعرج بضمها عروجا ومعرجا والمعرج
المصعد، والطريق التي تعرج فيها الملائكة إلى السماء، والمعراج شبيه السلم أو درج
تعرج فيه الأرواح إذا قبضت، وحيث تصعد أعمال بني آدم وقال ابن دريد هو الذي يعانيه
المريض عند الموت فيشخص فيما زعم أهل التفسير، ويقال إنه بالغ في الحسن بحيث إن
النفس إذا رأته لا تتمالك أن تخرج، قال البيهقي: صعود الكلام الطيب والصدقة الطيبة
عبارة عن القبول، وعروج الملائكة هو إلى منازلهم في السماء، وأما ما وقع من
التعبير في ذلك بقوله: "إلى الله " فهو على ما تقدم عن السلف في
التفويض، وعن الأئمة بعدهم في التأويل. وقال ابن بطال: غرض البخاري في هذا الباب
الرد على الجهمية المجسمة في تعلقها بهذه الظواهر، وقد تقرر أن الله ليس بجسم فلا
يحتاج إلى مكان يستقر فيه فقد كان ولا مكان، وإنما أضاف المعارج إليه إضافة تشريف،
ومعنى الارتفاع إليه اعتلاؤه مع تنزيهه عن المكان انتهى. وخلطه المجسمة بالجهمية
من أعجب ما يسمع، ثم ذكر
(13/416)
فيه أربعة أحاديث لبعضها زيادة على الطريق الواحدة. عن أبي هريرة " يتعاقبون فيكم ملائكة " وقد تقدم شرحه في أوائل " كتاب الصلاة " " إسماعيل " شيخه هو ابن أبي أويس، والمراد منه قوله فيه ثم يعرج الذين باتوا فيكم، وقد تمسك بظواهر أحاديث الباب من زعم أن الحق سبحانه وتعالى في جهة العلو، وقد ذكرت معنى العلو في حقه جل وعلا في الباب الذي قبله. قوله: "وقال خالد بن مخلد" كذا للجميع، ووقع عند الخطابي في شرحه قال أبو عبد الله البخاري " حدثنا خالد بن مخلد". قوله: "حدثنا سليمان" هو ابن بلال المدني المشهور، وقد وصله أبو بكر الجوزقي في الجمع بين الصحيحين، قال: "حدثنا أبو العباس الدغولي حدثنا محمد بن معاذ السلمي قال حدثنا خالد بن مخلد " فذكره مثل رواية البخاري سواء وكذا أخرجه أبو عوانة في صحيحه عن محمد بن معاذ وبيض له أبو نعيم في المستخرج، ثم قال: "رواه " فقال: "وقال خالد بن مخلد " وأخرجه مسلم عن أحمد بن عثمان عن خالد بن مخلد عن سليمان ابن بلال، لكن خالف في شيخ سليمان فقال: "عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه " كما أوضحت ذلك في أوائل الزكاة، وقد ضاق مخرجه عن الإسماعيلي وأبي نعيم مستخرجيهما فأخرجاه من طريق عبد الرحمن بن عبد الله ابن دينار عن أبيه عن أبي صالح، وهذه الرواية هي التي تقدمت للبخاري في " كتاب الزكاة " ودلت الرواية المعلقة وموافقة الجوزقي لها على أن لخالد فيه شيخين، كما أن لعبد الله بن دينار فيه شيخين على ما دل عليه التعليق الذي بعده. قوله: "وقال ورقاء" يعني ابن عمر "عن عبد الله بن دينار عن سعيد بن يسار عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا يصعد إلى الله إلا الطيب" يريد أن رواية ورقاء موافقة لرواية سليمان إلا في شيخ شيخهما، فعند سليمان أنه عن أبي صالح وعند ورقاء أنه عن سعيد بن يسار هذا في السند، وأما في المتن فظاهره أنهما سواء، إلا في قوله: "الطيب " فإنه في رواية ورقاء " طيب " بغير ألف ولام وقد وصلها البيهقي من طريق أبي النضر هاشم بن القاسم عن ورقاء فوقع عنده الطيب. وقال في آخره: "مثل أحد " عوض قوله في الرواية المعلقة " مثل الجبل " وقوله في الرواية المعلقة " يتقبلها " وقع في رواية الكشميهني: "يقبلها " مخففا بغير مثناة وهي رواية البيهقي، وقوله: "يربيها لصاحبه " وقع في رواية المستملي: "يربيها لصاحبها " وهي رواية البيهقي والباقي سواء، وقد ذكرت في الزكاة أني لم أقف على رواية ورقاء هذه المعلقة ثم وجدتها بعد ذلك عند كتابتي هنا وقد تقدم شرح المتن له " كتاب الزكاة " وله الحمد، قال الخطابي ذكر اليمين في هذا الحديث معناه حسن القبول فإن العادة قد جرت من ذوي الأدب بأن تصان اليمين عن مس الأشياء الدنيئة وإنما تباشر بها الأشياء التي لها قدر ومزية وليس فيما يضاف إلى الله تعالى من صفة اليدين شمال لأن الشمال لمحل النقص في الضعيف وقد روى " كلتا يديه يمين " وليس اليد عندنا الجارحة إنما هي صفة جاء بها التوقيف فنحن نطلقها على ما جاءت ولا نكيفها وهذا مذهب أهل السنة والجماعة انتهى. وقد مضى بعض ما يتعقب به كلامه في باب " قوله لما خلقت بيدي". حديث ابن عباس في دعاء الكرب. وقد تقدمت الإشارة إليه في الباب الذي قبله. حديث أبي سعيد ذكره من وجهين، عن سفيان وهو الثوري وأبوه هو سعيد بن مسروق وابن أبي نعم هو بضم النون وسكون المهملة، اسمه عبد الرحمن والذي وقع عند قبيصة شيخ البخاري فيه من الشك، هل هو أبو نعم أو ابن أبي نعم؟ لم يتابع عليه قبيصة وإنما أورد طريق عبد الرزاق عقب رواية قبيصة مع نزولها وعلو رواية قبيصة لخلو رواية عبد الرزاق من الشك، وقد مضى في أحاديث الأنبياء عن محمد بن كثير عن سفيان بالجزم، ومضى شرح الحديث مستوفى في " كتاب الفتن " وقوله: "بعث إلى
(13/417)
النبي صلى الله عليه وسلم بذهيبة " كذا فيه: "بعث " على البناء للمجهول، وبينه في رواية عبد الرزاق بقوله بعث علي وهو ابن أبي طالب "وهو في اليمن" وفي رواية الكشميهني: "باليمن". وقوله: "فقسمها بين الأقرع بن حابس الحنظلي ثم أحد بني مجاشع " بجيم خفيفة وشين معجمة مكسورة "وبين عيينة" بمهملة ونون مصغر، ابن بدر الفزاري وبين علقمة بن علاثة بضم المهملة وتخفيف اللام بعدها مثلثة "العامري ثم أحد بني كلاب وبين زيد الخيل الطائي ثم أحد بني نبهان" وهؤلاء الأربعة كانوا من المؤلفة، وكل منهم رئيس قومه " فأما الأقرع " فهو ابن حابس بمهملتين وبموحدة، ابن عقال بكسر المهملة وقاف خفيفة، وقد تقدم نسبه في تفسير سورة الحجرات وله ذكر في قسم الغنيمة يوم حنين قال المبرد كان في صدر الإسلام رئيس خندف وكان محله فيها محل عيينة بن حصن في قيس وقال المرزباني، هو أول من حرم القمار وقيل كان سنوطا أعرج مع قرعه وعوره وكان يحكم في المواسم وهو آخر الحكام من بني تميم ويقال إنه كان ممن دخل من العرب في المجوسية، ثم أسلم وشهد الفتوح واستشهد باليرموك، وقيل بل عاش إلى خلافة عثمان فأصيب بالجوزجان. وأما " عيينة بن بدر " فنسب إلى جد أبيه، وهو عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر ابن عمرو بن لوذان بن ثعلبة بن عدي بن فزارة وكان رئيس قيس في أول الإسلام وكنيته أبو مالك، وقد مضى له ذكر في أوائل الاعتصام وسماه النبي صلى الله عليه وسلم الأحمق المطاع، وارتد مع طليحة ثم عاد إلى الإسلام، وأما علقمة فهو ابن علاثة بن عوف بن الأحوص بن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، وكان رئيس بني كلاب مع عامر بن الطفيل، وكانا يتنازعان الشرف فيهم ويتفاخران، ولهما في ذلك أخبار شهيرة، وقد مضى في باب بعث علي رضي الله عنه على اليمن من كتاب المغازي بلفظ: "والرابع " إما قال علقمة بن علاثة وإما قال عامر بن الطفيل، وكان علقمة حليما عاقلا، لكن كان عامر أكثر من عطاء، وارتد علقمة مع من ارتد ثم عاد ومات في خلافة عمر بحوران، ومات عامر بن الطفيل على شركه في الحياة النبوية. وأما زيد الخيل فهو ابن مهلهل بن زيد بن منهب بن عبد بن رضا بضم الراء وتخفيف المعجمة وقيل له زيد الخيل لعنايته بها، ويقال لم يكن في العرب أكثر خيلا منه، وكان شاعرا خطيبا شجاعا جوادا، وسماه النبي صلى الله عليه وسلم زيد الخير بالراء بدل اللام لما كان فيه من الخير، وقد ظهر أثر ذلك، فإنه مات على الإسلام في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ويقال بل توفي في خلافة عمر، قال ابن دريد كان من الخطاطين يعني من طوله، وكان على صدقات بني أسد فلم يرتد مع من ارتد. قوله: "فتغيظت قريش" كذا للأكثر من الغيظ. وفي رواية أبي ذر عن الحموي " فتغضبت " بضاد معجمة بغير ألف بعدها موحدة من الغضب وكذا للنسفي، وقد مضى في قصة عاد من وجه آخر عن سفيان بلفظ: "فغضبت قريش والأنصار". قوله: "إنما أتألفهم" في الرواية التي في المغازي " ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء " وبهذا تظهر مناسبة هذا الحديث للترجمة، لكنه جرى على عادته في إدخال الحديث في الباب للفظة " تكون " في بعض طرقه هي المناسبة لذلك الباب يشير إليها ويريد بذلك شحذ الأذهان والبعث على كثرة الاستحضار، وقد حكى البيهقي عن أبي بكر الضبعي قال: العرب تضع " في " موضع " على " كقوله: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ} وقوله: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} فكذلك قوله: {مَنْ فِي السَّمَاءِ} أي على العرش فوق السماء كما صحت الأخبار بذلك. حديث أبي ذر في قوله تعالى :{وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} أورده مختصرا وقد تقدمت الإشارة إليه في الباب الذي قبله، قال ابن المنير جميع الأحاديث في هذه الترجمة مطابقة لها إلا حديث ابن عباس فليس فيه
(13/418)
إلا قوله: "رب العرش " ومطابقته والله أعلم من جهة أنه نبه على بطلان قول من أثبت الجهة أخذا من قوله: {ذي المعارج} ففهم أن العلو الفوقي مضاف إلى الله تعالى، فبين المصنف أن الجهة التي يصدق عليها أنها سماء والجهة التي يصدق عليها أنها عرش كل منهما مخلوق مربوب محدث، وقد كان الله قبل ذلك وغيره، فحدثت هذه الأمكنة، وقدمه يحيل وصفه بالتحيز فيها والله أعلم.
(13/419)
24 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ
نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}
7434 - حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ حَدَّثَنَا خَالِدٌ وَهُشَيْمٌ عَنْ
إِسْمَاعِيلَ عَنْ قَيْسٍ عَنْ جَرِيرٍ قَالَ كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ نَظَرَ إِلَى الْقَمَرِ لَيْلَةَ
الْبَدْرِ قَالَ إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ
لاَ تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ فَإِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لاَ تُغْلَبُوا عَلَى
صَلاَةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَصَلاَةٍ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَافْعَلُوا
7435 - حدثنا يوسف بن موسى حدثنا عاصم بن يوسف اليربوعي حدثنا أبو شهاب عن إسماعيل
بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن جرير بن عبد الله قال قال النبي صلى الله عليه
وسلم "إنكم سترون ربكم عيانا"
7436 - حدثنا عبدة بن عبد الله حدثنا حسين الجعفي عن زائدة حدثنا بيان بن بشر عن
قيس بن أبي حازم حدثنا جرير قال خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة
البدر فقال إنكم سترون ربكم يوم القيامة كما ترون هذا لا تضامون في رؤيته
7437 - حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ
بْنُ سَعْدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيِّ عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّاسَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نَرَى رَبَّنَا
يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هَلْ تُضَارُّونَ
فِي الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ؟ قَالُوا لاَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ فَهَلْ
تُضَارُّونَ فِي الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ قَالُوا لاَ يَا رَسُولَ
اللَّهِ قَالَ فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ كَذَلِكَ يَجْمَعُ اللَّهُ النَّاسَ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ شَيْئًا فَلْيَتْبَعْهُ فَيَتْبَعُ
مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الشَّمْسَ الشَّمْسَ وَيَتْبَعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ
الْقَمَرَ الْقَمَرَ وَيَتْبَعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الطَّوَاغِيتَ الطَّوَاغِيتَ
وَتَبْقَى هَذِهِ الأُمَّةُ فِيهَا شَافِعُوهَا أَوْ مُنَافِقُوهَا شَكَّ
إِبْرَاهِيمُ فَيَأْتِيهِمْ اللَّهُ فَيَقُولُ أَنَا رَبُّكُمْ فَيَقُولُونَ هَذَا
مَكَانُنَا حَتَّى يَأْتِيَنَا رَبُّنَا فَإِذَا جَاءَنَا رَبُّنَا عَرَفْنَاهُ
فَيَأْتِيهِمْ اللَّهُ فِي صُورَتِهِ الَّتِي يَعْرِفُونَ فَيَقُولُ أَنَا
رَبُّكُمْ فَيَقُولُونَ أَنْتَ رَبُّنَا فَيَتْبَعُونَهُ وَيُضْرَبُ الصِّرَاطُ
بَيْنَ ظَهْرَيْ جَهَنَّمَ فَأَكُونُ أَنَا وَأُمَّتِي أَوَّلَ مَنْ يُجِيزُهَا
وَلاَ يَتَكَلَّمُ يَوْمَئِذٍ إِلاَّ الرُّسُلُ وَدَعْوَى الرُّسُلِ يَوْمَئِذٍ
اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ وَفِي جَهَنَّمَ كَلاَلِيبُ مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ
هَلْ رَأَيْتُمْ السَّعْدَانَ قَالُوا نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ
فَإِنَّهَا مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ غَيْرَ أَنَّهُ لاَ يَعْلَمُ مَا قَدْرُ
عِظَمِهَا إِلاَّ اللَّهُ تَخْطَفُ النَّاسَ
(13/419)
بِأَعْمَالِهِمْ فَمِنْهُمْ الْمُوبَقُ بَقِيَ بِعَمَلِهِ أَوْ
الْمُوثَقُ بِعَمَلِهِ وَمِنْهُمْ الْمُخَرْدَلُ أَوْ الْمُجَازَى أَوْ نَحْوُهُ
ثُمَّ يَتَجَلَّى حَتَّى إِذَا فَرَغَ اللَّهُ مِنْ الْقَضَاءِ بَيْنَ الْعِبَادِ
وَأَرَادَ أَنْ يُخْرِجَ بِرَحْمَتِهِ مَنْ أَرَادَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ أَمَرَ
الْمَلاَئِكَةَ أَنْ يُخْرِجُوا مِنْ النَّارِ مَنْ كَانَ لاَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ
شَيْئًا مِمَّنْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَرْحَمَهُ مِمَّنْ يَشْهَدُ أَنْ لاَ
إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ فَيَعْرِفُونَهُمْ فِي النَّارِ بِأَثَرِ السُّجُودِ
تَأْكُلُ النَّارُ ابْنَ آدَمَ إِلاَّ أَثَرَ السُّجُودِ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَى
النَّارِ أَنْ تَأْكُلَ أَثَرَ السُّجُودِ فَيَخْرُجُونَ مِنْ النَّارِ قَدْ
امْتُحِشُوا فَيُصَبُّ عَلَيْهِمْ مَاءُ الْحَيَاةِ فَيَنْبُتُونَ تَحْتَهُ كَمَا
تَنْبُتُ الْحِبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ ثُمَّ يَفْرُغُ اللَّهُ مِنْ
الْقَضَاءِ بَيْنَ الْعِبَادِ وَيَبْقَى رَجُلٌ مِنْهُمْ مُقْبِلٌ بِوَجْهِهِ
عَلَى النَّارِ هُوَ آخِرُ أَهْلِ النَّارِ دُخُولًا الْجَنَّةَ فَيَقُولُ أَيْ
رَبِّ اصْرِفْ وَجْهِي عَنْ النَّارِ فَإِنَّهُ قَدْ قَشَبَنِي رِيحُهَا
وَأَحْرَقَنِي ذَكَاؤُهَا فَيَدْعُو اللَّهَ بِمَا شَاءَ أَنْ يَدْعُوَهُ ثُمَّ
يَقُولُ اللَّهُ هَلْ عَسَيْتَ إِنْ أَعْطَيْتُكَ ذَلِكَ أَنْ تَسْأَلَنِي
غَيْرَهُ فَيَقُولُ لاَ وَعِزَّتِكَ لاَ أَسْأَلُكَ غَيْرَهُ وَيُعْطِي رَبَّهُ
مِنْ عُهُودٍ وَمَوَاثِيقَ مَا شَاءَ فَيَصْرِفُ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنْ النَّارِ
فَإِذَا أَقْبَلَ عَلَى الْجَنَّةِ وَرَآهَا سَكَتَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ
يَسْكُتَ ثُمَّ يَقُولُ أَيْ رَبِّ قَدِّمْنِي إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ فَيَقُولُ
اللَّهُ لَهُ أَلَسْتَ قَدْ أَعْطَيْتَ عُهُودَكَ وَمَوَاثِيقَكَ أَنْ لاَ
تَسْأَلَنِي غَيْرَ الَّذِي أُعْطِيتَ أَبَدًا وَيْلَكَ يَا ابْنَ آدَمَ مَا
أَغْدَرَكَ فَيَقُولُ أَيْ رَبِّ وَيَدْعُو اللَّهَ حَتَّى يَقُولَ هَلْ عَسَيْتَ
إِنْ أُعْطِيتَ ذَلِكَ أَنْ تَسْأَلَ غَيْرَهُ فَيَقُولُ لاَ وَعِزَّتِكَ لاَ
أَسْأَلُكَ غَيْرَهُ وَيُعْطِي مَا شَاءَ مِنْ عُهُودٍ وَمَوَاثِيقَ فَيُقَدِّمُهُ
إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ فَإِذَا قَامَ إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ انْفَهَقَتْ لَهُ
الْجَنَّةُ فَرَأَى مَا فِيهَا مِنْ الْحَبْرَةِ وَالسُّرُورِ فَيَسْكُتُ مَا
شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَسْكُتَ ثُمَّ يَقُولُ أَيْ رَبِّ أَدْخِلْنِي الْجَنَّةَ
فَيَقُولُ اللَّهُ أَلَسْتَ قَدْ أَعْطَيْتَ عُهُودَكَ وَمَوَاثِيقَكَ أَنْ لاَ
تَسْأَلَ غَيْرَ مَا أُعْطِيتَ فَيَقُولُ وَيْلَكَ يَا ابْنَ آدَمَ مَا أَغْدَرَكَ
فَيَقُولُ أَيْ رَبِّ لاَ أَكُونَنَّ أَشْقَى خَلْقِكَ فَلاَ يَزَالُ يَدْعُو
حَتَّى يَضْحَكَ اللَّهُ مِنْهُ فَإِذَا ضَحِكَ مِنْهُ قَالَ لَهُ ادْخُلْ
الْجَنَّةَ فَإِذَا دَخَلَهَا قَالَ اللَّهُ لَهُ تَمَنَّهْ فَسَأَلَ رَبَّهُ
وَتَمَنَّى حَتَّى إِنَّ اللَّهَ لَيُذَكِّرُهُ يَقُولُ كَذَا وَكَذَا حَتَّى
انْقَطَعَتْ بِهِ الأَمَانِيُّ قَالَ اللَّهُ ذَلِكَ لَكَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ
7438 - قَالَ عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ مَعَ أَبِي
هُرَيْرَةَ لاَ يَرُدُّ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِهِ شَيْئًا حَتَّى إِذَا حَدَّثَ
أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَالَ ذَلِكَ لَكَ
وَمِثْلُهُ مَعَهُ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ
مَعَهُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ مَا حَفِظْتُ إِلاَّ قَوْلَهُ
ذَلِكَ لَكَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ أَشْهَدُ أَنِّي
حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلَهُ ذَلِكَ
لَكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَذَلِكَ الرَّجُلُ آخِرُ
أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولًا الْجَنَّةَ
7439 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ
خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلاَلٍ عَنْ زَيْدٍ عَنْ عَطَاءِ
بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ
هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ هَلْ تُضَارُونَ فِي
(13/420)
رُؤْيَةِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ إِذَا كَانَتْ صَحْوًا قُلْنَا لاَ قَالَ فَإِنَّكُمْ لاَ تُضَارُونَ فِي رُؤْيَةِ رَبِّكُمْ يَوْمَئِذٍ إِلاَّ كَمَا تُضَارُونَ فِي رُؤْيَتِهِمَا ثُمَّ قَالَ يُنَادِي مُنَادٍ لِيَذْهَبْ كُلُّ قَوْمٍ إِلَى مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ فَيَذْهَبُ أَصْحَابُ الصَّلِيبِ مَعَ صَلِيبِهِمْ وَأَصْحَابُ الأَوْثَانِ مَعَ أَوْثَانِهِمْ وَأَصْحَابُ كُلِّ آلِهَةٍ مَعَ آلِهَتِهِمْ حَتَّى يَبْقَى مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ مِنْ بَرٍّ أَوْ فَاجِرٍ وَغُبَّرَاتٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ثُمَّ يُؤْتَى بِجَهَنَّمَ تُعْرَضُ كَأَنَّهَا سَرَابٌ فَيُقَالُ لِلْيَهُودِ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ قَالُوا كُنَّا نَعْبُدُ عُزَيْرَ ابْنَ اللَّهِ فَيُقَالُ كَذَبْتُمْ لَمْ يَكُنْ لِلَّهِ صَاحِبَةٌ وَلاَ وَلَدٌ فَمَا تُرِيدُونَ قَالُوا نُرِيدُ أَنْ تَسْقِيَنَا فَيُقَالُ اشْرَبُوا فَيَتَسَاقَطُونَ فِي جَهَنَّمَ ثُمَّ يُقَالُ لِلنَّصَارَى مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ فَيَقُولُونَ كُنَّا نَعْبُدُ الْمَسِيحَ ابْنَ اللَّهِ فَيُقَالُ كَذَبْتُمْ لَمْ يَكُنْ لِلَّهِ صَاحِبَةٌ وَلاَ وَلَدٌ فَمَا تُرِيدُونَ فَيَقُولُونَ نُرِيدُ أَنْ تَسْقِيَنَا فَيُقَالُ اشْرَبُوا فَيَتَسَاقَطُونَ فِي جَهَنَّمَ حَتَّى يَبْقَى مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ مِنْ بَرٍّ أَوْ فَاجِرٍ فَيُقَالُ لَهُمْ مَا يَحْبِسُكُمْ وَقَدْ ذَهَبَ النَّاسُ فَيَقُولُونَ فَارَقْنَاهُمْ وَنَحْنُ أَحْوَجُ مِنَّا إِلَيْهِ الْيَوْمَ وَإِنَّا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِيَلْحَقْ كُلُّ قَوْمٍ بِمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ وَإِنَّمَا نَنْتَظِرُ رَبَّنَا قَالَ فَيَأْتِيهِمْ الْجَبَّارُ فِي صُورَةٍ غَيْرِ صُورَتِهِ الَّتِي رَأَوْهُ فِيهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ فَيَقُولُ أَنَا رَبُّكُمْ فَيَقُولُونَ أَنْتَ رَبُّنَا فَلاَ يُكَلِّمُهُ إِلاَّ الأَنْبِيَاءُ فَيَقُولُ هَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ آيَةٌ تَعْرِفُونَهُ فَيَقُولُونَ السَّاقُ فَيَكْشِفُ عَنْ سَاقِهِ فَيَسْجُدُ لَهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ وَيَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ لِلَّهِ رِيَاءً وَسُمْعَةً فَيَذْهَبُ كَيْمَا يَسْجُدَ فَيَعُودُ ظَهْرُهُ طَبَقًا وَاحِدًا ثُمَّ يُؤْتَى بِالْجَسْرِ فَيُجْعَلُ بَيْنَ ظَهْرَيْ جَهَنَّمَ قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْجَسْرُ قَالَ مَدْحَضَةٌ مَزِلَّةٌ عَلَيْهِ خَطَاطِيفُ وَكَلاَلِيبُ وَحَسَكَةٌ مُفَلْطَحَةٌ لَهَا شَوْكَةٌ عُقَيْفَاءُ تَكُونُ بِنَجْدٍ يُقَالُ لَهَا السَّعْدَانُ الْمُؤْمِنُ عَلَيْهَا كَالطَّرْفِ وَكَالْبَرْقِ وَكَالرِّيحِ وَكَأَجَاوِيدِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ فَنَاجٍ مُسَلَّمٌ وَنَاجٍ مَخْدُوشٌ وَمَكْدُوسٌ فِي نَارِ جَهَنَّمَ حَتَّى يَمُرَّ آخِرُهُمْ يُسْحَبُ سَحْبًا فَمَا أَنْتُمْ بِأَشَدَّ لِي مُنَاشَدَةً فِي الْحَقِّ قَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ الْمُؤْمِنِ يَوْمَئِذٍ لِلْجَبَّارِ وَإِذَا رَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ نَجَوْا فِي إِخْوَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِخْوَانُنَا كَانُوا يُصَلُّونَ مَعَنَا وَيَصُومُونَ مَعَنَا وَيَعْمَلُونَ مَعَنَا فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى اذْهَبُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ دِينَارٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجُوهُ وَيُحَرِّمُ اللَّهُ صُوَرَهُمْ عَلَى النَّارِ فَيَأْتُونَهُمْ وَبَعْضُهُمْ قَدْ غَابَ فِي النَّارِ إِلَى قَدَمِهِ وَإِلَى أَنْصَافِ سَاقَيْهِ فَيُخْرِجُونَ مَنْ عَرَفُوا ثُمَّ يَعُودُونَ فَيَقُولُ اذْهَبُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ نِصْفِ دِينَارٍ فَأَخْرِجُوهُ فَيُخْرِجُونَ مَنْ عَرَفُوا ثُمَّ يَعُودُونَ فَيَقُولُ اذْهَبُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجُوهُ فَيُخْرِجُونَ مَنْ عَرَفُوا قَالَ أَبُو سَعِيدٍ فَإِنْ لَمْ تُصَدِّقُونِي فَاقْرَءُوا {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} فَيَشْفَعُ النَّبِيُّونَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَالْمُؤْمِنُونَ فَيَقُولُ الْجَبَّارُ بَقِيَتْ شَفَاعَتِي فَيَقْبِضُ قَبْضَةً مِنْ النَّارِ فَيُخْرِجُ أَقْوَامًا قَدْ امْتُحِشُوا فَيُلْقَوْنَ فِي نَهَرٍ بِأَفْوَاهِ الْجَنَّةِ يُقَالُ لَهُ مَاءُ الْحَيَاةِ فَيَنْبُتُونَ فِي حَافَتَيْهِ كَمَا تَنْبُتُ الْحِبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ قَدْ رَأَيْتُمُوهَا إِلَى جَانِبِ الصَّخْرَةِ وَإِلَى جَانِبِ الشَّجَرَةِ فَمَا كَانَ إِلَى الشَّمْسِ مِنْهَا كَانَ أَخْضَرَ وَمَا كَانَ مِنْهَا إِلَى الظِّلِّ كَانَ أَبْيَضَ فَيَخْرُجُونَ
(13/421)
كَأَنَّهُمْ اللُّؤْلُؤُ فَيُجْعَلُ فِي رِقَابِهِمْ الْخَوَاتِيمُ
فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ فَيَقُولُ أَهْلُ الْجَنَّةِ هَؤُلاَءِ عُتَقَاءُ
الرَّحْمَنِ أَدْخَلَهُمْ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ عَمَلٍ عَمِلُوهُ وَلاَ خَيْرٍ
قَدَّمُوهُ فَيُقَالُ لَهُمْ لَكُمْ مَا رَأَيْتُمْ وَمِثْلَهُ مَعَهُ
7440 - وَقَالَ حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى
حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يُحْبَسُ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
حَتَّى يُهِمُّوا بِذَلِكَ فَيَقُولُونَ لَوْ اسْتَشْفَعْنَا إِلَى رَبِّنَا
فَيُرِيحُنَا مِنْ مَكَانِنَا فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ أَنْتَ آدَمُ أَبُو
النَّاسِ خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ وَأَسْكَنَكَ جَنَّتَهُ وَأَسْجَدَ لَكَ
مَلاَئِكَتَهُ وَعَلَّمَكَ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ لِتَشْفَعْ لَنَا عِنْدَ
رَبِّكَ حَتَّى يُرِيحَنَا مِنْ مَكَانِنَا هَذَا قَالَ فَيَقُولُ لَسْتُ
هُنَاكُمْ قَالَ وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَ أَكْلَهُ مِنْ
الشَّجَرَةِ وَقَدْ نُهِيَ عَنْهَا وَلَكِنْ ائْتُوا نُوحًا أَوَّلَ نَبِيٍّ
بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ فَيَأْتُونَ نُوحًا فَيَقُولُ لَسْتُ
هُنَاكُمْ وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَ سُؤَالَهُ رَبَّهُ بِغَيْرِ
عِلْمٍ وَلَكِنْ ائْتُوا إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَ الرَّحْمَنِ قَالَ فَيَأْتُونَ
إِبْرَاهِيمَ فَيَقُولُ إِنِّي لَسْتُ هُنَاكُمْ وَيَذْكُرُ ثَلاَثَ كَلِمَاتٍ
كَذَبَهُنَّ وَلَكِنْ ائْتُوا مُوسَى عَبْدًا آتَاهُ اللَّهُ التَّوْرَاةَ
وَكَلَّمَهُ وَقَرَّبَهُ نَجِيًّا قَالَ فَيَأْتُونَ مُوسَى فَيَقُولُ إِنِّي
لَسْتُ هُنَاكُمْ وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَ قَتْلَهُ النَّفْسَ
وَلَكِنْ ائْتُوا عِيسَى عَبْدَ اللَّهِ وَرَسُولَهُ وَرُوحَ اللَّهِ وَكَلِمَتَهُ
قَالَ فَيَأْتُونَ عِيسَى فَيَقُولُ لَسْتُ هُنَاكُمْ وَلَكِنْ ائْتُوا مُحَمَّدًا
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدًا غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ
مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ فَيَأْتُونِي فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي فِي
دَارِهِ فَيُؤْذَنُ لِي عَلَيْهِ فَإِذَا رَأَيْتُهُ وَقَعْتُ سَاجِدًا
فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدَعَنِي فَيَقُولُ ارْفَعْ مُحَمَّدُ وَقُلْ
يُسْمَعْ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ وَسَلْ تُعْطَ قَالَ فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأُثْنِي
عَلَى رَبِّي بِثَنَاءٍ وَتَحْمِيدٍ يُعَلِّمُنِيهِ ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي
حَدًّا فَأَخْرُجُ فَأُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ قَالَ قَتَادَةُ وَسَمِعْتُهُ
أَيْضًا يَقُولُ فَأَخْرُجُ فَأُخْرِجُهُمْ مِنْ النَّارِ وَأُدْخِلُهُمْ
الْجَنَّةَ ثُمَّ أَعُودُ الثَّانِيَةَ فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي فِي دَارِهِ
فَيُؤْذَنُ لِي عَلَيْهِ فَإِذَا رَأَيْتُهُ وَقَعْتُ سَاجِدًا فَيَدَعُنِي مَا
شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدَعَنِي ثُمَّ يَقُولُ ارْفَعْ مُحَمَّدُ وَقُلْ يُسْمَعْ
وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ وَسَلْ تُعْطَ قَالَ فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأُثْنِي عَلَى
رَبِّي بِثَنَاءٍ وَتَحْمِيدٍ يُعَلِّمُنِيهِ قَالَ ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي
حَدًّا فَأَخْرُجُ فَأُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ قَالَ قَتَادَةُ وَسَمِعْتُهُ
يَقُولُ فَأَخْرُجُ فَأُخْرِجُهُمْ مِنْ النَّارِ وَأُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ ثُمَّ
أَعُودُ الثَّالِثَةَ فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي فِي دَارِهِ فَيُؤْذَنُ لِي
عَلَيْهِ فَإِذَا رَأَيْتُهُ وَقَعْتُ سَاجِدًا فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللَّهُ
أَنْ يَدَعَنِي ثُمَّ يَقُولُ ارْفَعْ مُحَمَّدُ وَقُلْ يُسْمَعْ وَاشْفَعْ
تُشَفَّعْ وَسَلْ تُعْطَهْ قَالَ فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأُثْنِي عَلَى رَبِّي
بِثَنَاءٍ وَتَحْمِيدٍ يُعَلِّمُنِيهِ قَالَ ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا
فَأَخْرُجُ فَأُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ قَا لَ قَتَادَةُ وَقَدْ سَمِعْتُهُ يَقُولُ
فَأَخْرُجُ فَأُخْرِجُهُمْ مِنْ النَّارِ وَأُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ حَتَّى مَا
يَبْقَى فِي النَّارِ إِلاَّ مَنْ حَبَسَهُ الْقُرْآنُ أَيْ وَجَبَ عَلَيْهِ
الْخُلُودُ قَالَ ثُمَّ تَلاَ هَذِهِ الْآيَةَ {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ
مَقَامًا مَحْمُودًا} قَالَ وَهَذَا الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ الَّذِي وُعِدَهُ
نَبِيُّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(13/422)
7441 - حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ
إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنِي عَمِّي حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ
قَالَ حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسَلَ إِلَى الأَنْصَارِ فَجَمَعَهُمْ فِي قُبَّةٍ وَقَالَ
لَهُمْ اصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْا اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنِّي عَلَى الْحَوْضِ
7442 - حَدَّثَنِي ثَابِتُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ ابْنِ
جُرَيْجٍ عَنْ سُلَيْمَانَ الأَحْوَلِ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إِذَا تَهَجَّدَ مِنْ اللَّيْلِ قَالَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ
قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ رَبُّ السَّمَوَاتِ
وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ
وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ أَنْتَ الْحَقُّ وَقَوْلُكَ الْحَقُّ وَوَعْدُكَ
الْحَقُّ وَلِقَاؤُكَ الْحَقُّ وَالْجَنَّةُ حَقٌّ وَالنَّارُ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ
حَقٌّ اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ وَبِكَ آمَنْتُ وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ
وَإِلَيْكَ خَاصَمْتُ وَبِكَ حَاكَمْتُ فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا
أَخَّرْتُ وَأَسْرَرْتُ وَأَعْلَنْتُ وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي لاَ
إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ"
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ قَالَ قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ وَأَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ
طَاوُسٍ قَيَّامُ وَقَالَ مُجَاهِدٌ الْقَيُّومُ الْقَائِمُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
وَقَرَأَ عُمَرُ الْقَيَّامُ وَكِلاَهُمَا مَدْحٌ
7443 - حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ حَدَّثَنِي
الأَعْمَشُ عَنْ خَيْثَمَةَ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ
لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ وَلاَ حِجَابٌ يَحْجُبُهُ
7444 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ
عَبْدِ الصَّمَدِ عَنْ أَبِي عِمْرَانَ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ قَيْسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ: "جَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا وَجَنَّتَانِ
مِنْ ذَهَبٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا وَمَا بَيْنَ الْقَوْمِ وَبَيْنَ أَنْ
يَنْظُرُوا إِلَى رَبِّهِمْ إِلاَّ رِدَاءُ الْكِبْرِ عَلَى وَجْهِهِ فِي جَنَّةِ
عَدْنٍ
7445 - حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا عَبْدُ
الْمَلِكِ بْنُ أَعْيَنَ وَجَامِعُ بْنُ أَبِي رَاشِدٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"مَنْ اقْتَطَعَ مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينٍ كَاذِبَةٍ لَقِيَ اللَّهَ
وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِصْدَاقَهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ جَلَّ
ذِكْرُهُ {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا
قَلِيلًا أُولَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمْ
اللَّهُ} الْآيَةَ
7446 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ
عَمْرٍو عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ رَجُلٌ حَلَفَ عَلَى سِلْعَةٍ لَقَدْ
أَعْطَى بِهَا أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَى
(13/423)
وَهُوَ كَاذِبٌ وَرَجُلٌ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ كَاذِبَةٍ بَعْدَ
الْعَصْرِ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ وَرَجُلٌ مَنَعَ فَضْلَ
مَاءٍ فَيَقُولُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْيَوْمَ أَمْنَعُكَ فَضْلِي كَمَا
مَنَعْتَ فَضْلَ مَا لَمْ تَعْمَلْ يَدَاكَ
7447 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ
حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ ابْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِي
بَكْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"الزَّمَانُ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ
السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا أَرْبَعَةٌ
حُرُمٌ ثَلاَثٌ مُتَوَالِيَاتٌ ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحَجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ
وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ أَيُّ شَهْرٍ هَذَا قُلْنَا
اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ يُسَمِّيهِ
بِغَيْرِ اسْمِهِ قَالَ أَلَيْسَ ذَا الْحَجَّةِ قُلْنَا بَلَى قَالَ أَيُّ بَلَدٍ
هَذَا قُلْنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ
سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ قَالَ أَلَيْسَ الْبَلْدَةَ قُلْنَا بَلَى قَالَ
فَأَيُّ يَوْمٍ هَذَا قُلْنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ فَسَكَتَ حَتَّى
ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ قَالَ أَلَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ
قُلْنَا بَلَى قَالَ فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ قَالَ مُحَمَّدٌ
وَأَحْسِبُهُ قَالَ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ
هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا وَسَتَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ فَيَسْأَلُكُمْ
عَنْ أَعْمَالِكُمْ أَلاَ فَلاَ تَرْجِعُوا بَعْدِي ضُلاَلًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ
رِقَابَ بَعْضٍ أَلاَ لِيُبْلِغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ فَلَعَلَّ بَعْضَ مَنْ
يَبْلُغُهُ أَنْ يَكُونَ أَوْعَى لَهُ مِنْ بَعْضِ مَنْ سَمِعَهُ"
فَكَانَ مُحَمَّدٌ إِذَا ذَكَرَهُ قَالَ صَدَقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ
قوله: "باب قول الله تعالى { وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة} كأنه يشير إلى
ما أخرجه عبد بن حميد والترمذي والطبري وغيرهم وصححه الحاكم من طريق يؤثر بن أبي
فاختة " عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن أدنى أهل الجنة منزلة
لمن ينظر في ملكه ألف سنة، وإن أفضلهم منزلة لمن ينظر في وجه ربه عز وجل في كل يوم
مرتين " قال: ثم تلا: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} قال بالبياض والصفاء إِلَى
{رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} قال تنظر كل يوم في وجه الله، لفظه الطبري من طريق مصعب بن
المقدام عن إسرائيل عن ثوير، وأخرجه عبد عن شبابة عن إسرائيل ولفظه: لمن ينظر إلى
جنانه وأزواجه وخدمه ونعيمه وسرره مسيرة ألف سنة، وأكرمهم على الله تعالى من ينظر
إلى وجهه غدوة وعشية، وكذا أخرجه الترمذي عن عبد. وقال غريب، رواه غير واحد عن
إسرائيل مرفوعا، ورواه عبد الملك بن أبجر عن ثوير عن ابن عمر موقوفا، ورواه الثوري
عن ثوير عن مجاهد عن ابن عمر موقوفا أيضا، قال: ولا نعلم أحدا ذكر فيه مجاهدا غير
الثوري بالعنعنة. قلت: أخرجه ابن مردويه من أربعة طرق عن إسرائيل عن ثوير قال:
"سمعت ابن عمر " ومن طريق عبد الملك بن أبجر عن ثوير مرفوعا. وقال
الحاكم بعد تخريجه ثوير لم ينقم عليه إلا التشيع. قلت: لا أعلم أحدا صرح بتوثيقه،
بل أطبقوا على تضعيفه. وقال ابن عدي: الضعف على أحاديثه بين وأقوى ما رأيت فيه قول
أحمد بن حنبل فيه، وفي ليث بن أبي سليم ويزيد بن أبي زيد: ما أقرب بعضهم من بعض.
وأخرج الطبري من طريق أبي الصهباء موقوفا نحو حديث ابن عمر. وأخرج بسند صحيح إلى
يزيد
(13/424)
النحوي عن عكرمة في هذه الآية قال: "تنظر إلى ربها نظرا " وأخرج عن البخاري عن آدم عن مبارك عن الحسن قال: "تنظر إلى الخالق وحق لها أن تنظر " وأخرج عبد بن حميد عن إبراهيم بن الحكم بن أبان عن أبيه عن عكرمة: انظروا ماذا أعطى الله عبده من النور في عينه من النظر إلى وجه ربه الكريم عيانا - يعني في الجنة - ثم قال: لو جعل نور جميع الخلق في عيني عبد ثم كشف عن الشمس ستر واحد ودونها سبعون سترا ما قدر على أن ينظر إليها، ونور الشمس جزء من سبعين جزءا من نور الكرسي، ونور الكرسي جزء من سبعين جزءا من نور العرش، ونور العرش جزء من سبعين جزءا من نور الستر، وإبراهيم فيه ضعف، وقد أخرج عبد بن حميد عن عكرمة من وجه آخر إنكار الرؤية، ويمكن الجمع بالحمل على غير أهل الجنة. وأخرج بسند صحيح عن مجاهد: ناظرة تنظر الثواب، وعن أبي صالح نحوه، وأورد الطبري الاختلاف فقال الأول عندي بالصواب ما ذكرناه عن الحسن البصري وعكرمة وهو ثبوت الرؤية لموافقته الأحاديث الصحيحة، وبالغ ابن عبد البر في رد الذي نقل عن مجاهد وقال هو شذوذ، وقد تمسك به بعض المعتزلة وتمسكوا أيضا بقوله صلى الله عليه وسلم في حديث سؤال جبريل عن الإسلام والإيمان والإحسان، وفيه: "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك " قال بعضهم فيه إشارة إلى انتفاء الرؤية، وتعقب بأن المنفي فيه رؤيته في الدنيا لأن العبادة خاصة بها، فلو قال قائل إن فيه إشارة إلى جواز الرؤية في الآخرة لما أبعد، وزعمت طائفة من المتكلمين كالسالمية من أهل البصرة أن في الخبر دليلا على أن الكفار يرون الله في القيامة من عموم اللقاء والخطاب. وقال بعضهم يراه بعض دون بعض، واحتجوا بحديث أبي سعيد حيث جاء فيه أن الكفار يتساقطون في النار إذا قيل لهم ألا تردون، ويبقى المؤمنون، وفيهم المنافقون فيرونه لما ينصب الجسر ويتبعونه، ويعطي كل إنسان منهم نوره ثم يطفأ نور المنافقين، وأجابوا عن قوله: {إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} أنه بعد دخول الجنة وهو احتجاج مردود، فإن بعد هذه الآية {ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ} فدل على أن الحجب وقع قبل ذلك، وأجاب بعضهم بأن الحجب يقع عند إطفاء النور، ولا يلزم من كونه يتجلى للمؤمنين ومن معهم ممن أدخل نفسه فيهم أن تعمهم الرؤية لأنه أعلم بهم، فينعم على المؤمنين برؤيته دون المنافقين كما يمنعهم من السجود، والعلم عند الله تعالى قال البيهقي وجه الدليل من الآية أن لفظ: "ناضرة ": الأول بالضاد المعجمة الساقطة من النضرة بمعنى السرور، ولفظ: "ناظرة " بالظاء المعجمة المشالة يحتمل في كلام العرب أربعة أشياء: نظر التفكر والاعتبار كقوله تعالى :{أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} ونظر الانتظار كقوله تعالى :{مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً} ونظر التعطف والرحمة كقوله تعالى :{لا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ} ونظر الرؤية كقوله تعالى :{يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} والثلاثة الأول غير مرادة، وأما الأول فلأن الآخرة ليست بدار استدلال، وأما الثاني فلأن في الانتظار تنغيصا وتكديرا، والآية خرجت مخرج الامتنان والبشارة، وأهل الجنة لا ينتظرون شيئا لأنه مهما خطر لهم أتوابه، وأما الثالث فلا يجوز لأن المخلوق لا يتعطف على خالقه، فلم يبق إلا نظر الرؤية، وانضم إلى ذلك أن النظر إذا ذكر مع الوجه انصرف العينين اللتين في الوجه، ولأنه هو الذي يتعدى بإلى كقوله تعالى :{يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ} وإذا ثبت أن " ناظرة " هنا بمعنى رائية اندفع قول من زعم أن المعنى ناظرة إلى ثواب ربها لأن الأصل عدم التقدير وأيد منطوق الآية " حق المؤمنين " بمفهوم الآية الأخرى " في حق الكافرين " أنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون، وقيدها بالقيامة في الآيتين إشارة إلى أن الرؤية تحصل للمؤمنين
(13/425)
في الآخرة دون الدنيا انتهى ملخصا موضحا. وقد أخرج أبو العباس السراج في تاريخه عن الحسن بن عبد العزيز الجروي وهو من شيوخ البخاري، سمعت عمرو بن أبي سلمة يقول، سمعت مالك بن أنس وقيل له يا أبا عبد الله قول الله تعالى :{إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} يقول قوم إلى ثوابه، فقال كذبوا فأين هم عن قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} ومن حيث النظر أن كل موجود يصح أن يرى، وهذا على سبيل التنزل وإلا فصفات الخالق لا تقاس على صفات المخلوقين، وأدلة السمع طافحة بوقوع ذلك في الآخرة لأهل الإيمان دون غيرهم، ومنع ذلك في الدنيا إلا أنه اختلف في نبينا صلى الله عليه وسلم وما ذكروه من الفرق بين الدنيا والآخرة أن أبصار أهل الدنيا فانية وأبصارهم في الآخرة باقية جيد، ولكن لا يمنع تخصيص ذلك بمن ثبت وقوعه له، ومنع جمهور المعتزلة من الرؤية متمسكين بأن من شرط المرئي أن يكون في جهة والله منزه عن الجهة، واتفقوا على أنه يرى عباده، فهو راء لا من جهة، واختلف من أثبت الرؤية في معناها فقال قوم: يحصل للرائي العلم بالله تعالى برؤية العين كما في غيره من المرئيات، وهو على وفق قوله في حديث الباب: "كما ترون القمر " إلا أنه منزه عن الجهة والكيفية، وذلك أمر زائد على العلم وقال بعضهم: إن المراد بالرؤية العلم وعبر عنها بعضهم بأنها حصول حالة في الإنسان نسبتها إلى ذاته المخصوصة نسبة الإبصار إلى المرئيات. وقال بعضهم رؤية المؤمن لله نوع كشف وعلم، إلا أنه أتم وأوضح من العلم وهذا أقرب إلى الصواب من الأول وتعقب الأول بأنه حينئذ لا اختصاص لبعض دون بعض لأن العلم لا يتفاوت، وتعقبه ابن التين بأن الرؤية بمعنى العلم تتعدى لمفعولين تقول: رأيت زيدا فقيها أي علمته، فإن قلت رأيت زيدا منطلقا لم يفهم منه إلا رؤية البصر، ويزيده تحقيقا قوله في الخبر إنكم سترون ربكم عيانا، لأن اقتران الرؤية بالعيان لا يحتمل أن يكون بمعنى العلم. وقال ابن بطال ذهب أهل السنة وجمهور الأمة إلى جواز رؤية الله في الآخرة ومنع الخوارج والمعتزلة وبعض المرجئة، وتمسكوا بأن الرؤية توجب كون المرئي محدثا وحالا في مكان، وأولوا قوله: "ناظرة " بمنتظرة وهو خطأ لأنه لا يتعدى بإلى، ثم ذكر نحو ما تقدم ثم قال وما تمسكوا به فاسد لقيام الأدلة على أن الله تعالى موجود، والرؤية في تعلقها بالمرئي بمنزلة العلم في تعلقه بالمعلوم فإذا كان تعلق العلم بالمعلوم لا يوجب حدوثه فكذلك المرئي. قال وتعلقوا بقوله تعالى :{لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} وبقوله تعالى لموسى {لَنْ تَرَانِي} والجواب عن الأول أنه لا تدركه الأبصار في الدنيا جمعا بين دليلي الآيتين، وبأن نفي الإدراك لا يستلزم نفي الرؤية لإمكان رؤية الشيء من غير إحاطة بحقيقته، وعن الثاني المراد لن تراني في الدنيا جمعا أيضا، ولأن نفي الشيء لا يقتضي إحالته مع ما جاء من الأحاديث الثابتة على وفق الآية، وقد تلقاها المسلمون بالقبول من لدن الصحابة والتابعين حتى حدث من أنكر الرؤية وخالف السلف. وقال القرطبي اشترط النفاة في الرؤية شروطا عقلية كالبنية المخصوصة والمقابلة واتصال الأشعة وزوال الموانع كالبعد والحجب في خبط لهم وتحكم، وأهل السنة لا يشترطون شيئا من ذلك سوى وجود المرئي، وأن الرؤية إدراك يخلقه الله تعالى للرائي فيرى المرئي وتقترن بها أحوال يجوز تبدلها والعلم عند الله تعالى. ثم ذكر المؤلف في الباب أحد عشر حديثا. حديث جرير ذكره مطولا ومختصرا من ثلاثة أوجه. قوله: "خالد أو هشيم" كذا في نسخة من رواية أبي ذر عن المستملي بالشك وفي أخرى بالواو وكذا للباقين. قوله: "عن إسماعيل" هو ابن أبي خالد. قوله: "عن قيس" هو ابن أبي حازم ونسب في رواية مروان بن معاوية عن إسماعيل المشار إليها. قوله: "عن جرير" في رواية مروان المذكورة " سمعت
(13/426)
جرير بن عبد الله " وفي رواية بيان في الباب عن قيس " حدثنا جرير". قوله: "كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم" في رواية جرير عن إسماعيل في تفسير سورة ق " كنا جلوسا ليلة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم". قوله: "ليلة البدر" في رواية إسحاق " ليلة أربع عشرة " ووقع في رواية بيان المذكورة " خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة البدر فقال: "ويجمع بينهما بأن القول لهم صدر منه بعد أن جلسوا عنده. قوله: "إنكم سترون ربكم" في رواية عبد الله بن نمير وأبي أسامة ووكيع عن إسماعيل عند مسلم: "إنكم ستعرضون على ربكم فترونه " وفي رواية أبي شهاب " إنكم سترون ربكم عيانا " هكذا اقتصر أبو شهاب على هذا القدر من الحديث للأكثر ووقع في رواية المستملي في أوله " خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة البدر فقال: "وأخرجه الإسماعيلي من طريق خلف بن هشام عن أبي شهاب كالأكثر، ومن طريق محمد بن زياد البلدي عن أبي شهاب مطولا، واسم " أبي شهاب " هذا عبد ربه بن نافع الحناط بالحاء المهملة والنون، واسم الراوي عنه عاصم بن يوسف كان خياطا بالخاء المعجمة والتحتانية، قال الطبري تفرد أبو شهاب عن إسماعيل بن أبي خالد بقوله عيانا وهو حافظ متقن من ثقات المسلمين انتهى. وذكر شيخ الإسلام الهروي في كتابه الفاروق أن زيد ابن أبي أنيسة رواه أيضا عن إسماعيل بهذا اللفظ وساقه من رواية: "أكثر من ستين نفسا " عن إسماعيل بلفظ واحد كالأول. قوله: "لا تضامون" بضم أوله وتخفيف الميم للأكثر وفيه روايات أخرى تقدم بيانها في باب الصراط جسر جهنم من " كتاب الرقاق " وقال البيهقي الشيخ الإمام أبا الطيب سهل بن محمد الصعلوكي يقول في إملائه في قوله: "لا تضامون في رؤيته " بالضم والتشديد معناه لا تجتمعون لرؤيته في جهة ولا يضم بعضكم إلى بعض، ومعناه بفتح التاء كذلك والأصل لا تتضامون في رؤيته باجتماع في جهة وبالتخفيف من الضيم، ومعناه لا تظلمون فيه برؤية بعضكم دون بعض فإنكم ترونه في جهاتكم كلها وهو متعال عن الجهة والتشبيه برؤية القمر للرؤية دون تشبيه المرئي تعالى الله عن ذلك. حديث أبي هريرة " إن الناس قالوا يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة فقال: هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب " الحديث بطوله وقد مضى شرحه مستوفى في " كتاب الرقاق " ووقع هنا في قوله: "فإذا جاء ربنا عرفناه " في رواية أبي ذر عن الكشميهني: "فإذا جاءنا " ويحتاج إلى تأمل. وفي قوله: "أول من يجيز " في رواية المستملي: "يجيء " من المجيء وفي قوله: "ويعطى ربه " في رواية الكشميهني: "ويعطى الله " وفي قوله: "أي رب لا أكون " في رواية المستملي: "لا أكونن " وقد تقدمت الإشارة لذلك وغيره في شرح الحديث. حديث أبي سعيد في معنى حديث أبي هريرة بطوله، وتقدم شرحه أيضا هناك، وقوله في سنده عن زيد هو ابن أسلم، " وعطاء " هو ابن يسار، وقوله فيه: "وأصحاب آلهة مع آلهتهم " في رواية الكشميهني: "إلههم " بالإفراد وقوله: "ما يجلسكم " بالجيم واللام من الجلوس أي يقعدكم عن الذهاب. وفي رواية الكشميهني: "ما يحبسكم " بالحاء والموحدة من الحبس أي يمنعكم وهو بمعناه، وقوله فيه: "فيأتيهم الله في صورة " استدل ابن قتيبة بذكر الصورة على أن لله صورة لا كالصور كما ثبت أنه شيء لا كالأشياء وتعقبوه. وقال ابن بطال تمسك به المجسمة فأثبتوا لله صورة، ولا حجة لهم فيه لاحتمال أن يكون بمعنى العلامة وضعها الله لهم دليلا على معرفته كما يسمى الدليل والعلامة صورة وكما تقول صورة حديثك كذا وصورة الأمر كذا والحديث والأمر لا صورة لهما حقيقة، وأجاز غيره أن المراد بالصورة الصفة، وإليه ميل البيهقي، ونقل ابن التين أن معناه صورة الاعتقاد، وأجاز الخطابي أن يكون الكلام خرج على وجه المشاكلة لما تقدم من
(13/427)
ذكر الشمس والقمر والطواغيت، وقد تقدم بسط هذا هناك، وكذا قوله:
"نعوذ بك " وقال غيره في قوله في الصورة التي يعرفونها يحتمل أن يشير
بذلك إلى ما عرفوه حين أخرج ذرية آدم من صلبه ثم أنساهم ذلك في الدنيا ثم يذكرهم
بها في الآخرة، وقوله: "فإذا رأينا ربنا عرفناه " قال ابن بطال عن
المهلب إن الله يبعث لهم ملكا ليختبرهم في اعتقاد صفات ربهم الذي ليس كمثله شيء
فإذا قال لهم أنا ربكم ردوا عليه لما رأوا عليه من صفة المخلوق، فقوله فإذا جاء ربنا
عرفناه أي إذا ظهر لنا في ملك لا ينبغي لغيره وعظمة لا تشبه شيئا من مخلوقاته
فحينئذ يقولون أنت ربنا، قال: وأما قوله: "هل بينكم وبينه علامة تعرفونها،
فيقولون الساق " فهذا يحتمل أن الله عرفهم على ألسنة الرسل من الملائكة أو
الأنبياء أن الله جعل لهم علامة تجليه الساق، وذلك أنه يمتحنهم بإرسال من يقول لهم
أنا ربكم وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى :{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا
بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} وهي وإن ورد أنها في عذاب القبر فلا يبعد أن تتناول يوم
الموقف أيضا، قال: وأما الساق فجاء عن ابن عباس في قوله تعالى :{وْمَ يُكْشَفُ
عَنْ سَاقٍ} قال عن شدة من الأمر، والعرب تقول قامت الحرب على ساق إذا اشتدت،
ومنه:
قد سن أصحابك ضرب الأعناق ... وقامت الحرب بنا على ساق
وجاء عن أبي موسى الأشعري في تفسيرها عن نور عظيم قال ابن فورك: معناه ما يتجدد
للمؤمنين من الفوائد والألطاف. وقال المهلب كشف الساق للمؤمنين رحمة ولغيرهم نقمة.
وقال الخطابي تهيب كثير من الشيوخ الخوض في معنى الساق، ومعنى قول ابن عباس أن
الله يكشف عن قدرته التي تظهر بها الشدة، وأسند البيهقي الأثر المذكور عن ابن عباس
بسندين كل منهما حسن، وزاد: إذا خفي عليكم شيء من القرآن فأتبعوه من الشعر وذكر
الرجز المشار إليه، وأنشد الخطابي في إطلاق الساق على الأمر الشديد " في سنة
قد كشفت عن ساقها " وأسند البيهقي من وجه آخر صحيح عن ابن عباس قال: يريد يوم
القيامة، قال الخطابي وقد يطلق ويراد النفس، وقوله فيه: "ويبقى من كان يسجد
لله رياء وسمعة فيذهب كيما يسجد فيعود ظهره طبقا واحدا " ذكر العلامة جمال
الدين بن هشام في المغني أنه وقع في البخاري في هذا الموضع " كيما "
مجردة وليس بعدها لفظ يسجد فقال بعد أن حكى عن الكوفيين: إن كي ناصبة دائما، قال
ويرده قولهم كيمه كما يقولون لمه، وأجابوا بأن التقدير كي تفعل ماذا، ويلزمهم كثرة
الحذف وإخراج ما الاستفهامية عن الصدر وحذف ألفها في غير الجر، وحذف الفعل المنصوب
مع بقاء عامل النصب وكل ذلك لم يثبت، نعم وقع في صحيح البخاري في تفسير {وُجُوهٌ
يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} فيذهب كيما فيعود ظهره طبقا واحدا، أي كيما يسجد، وهو غريب
جدا لا يحتمل القياس عليه انتهى كلامه، وكأنه وقعت له نسخة سقطت منها هذه اللفظة،
لكنها ثابتة في جميع النسخ التي وقفت عليها حتى أن ابن بطال ذكرها بلفظ: "كي
يسجد " بحذف ما، وكلام ابن هشام يوهم أن البخاري أورده في التفسير، وليس كذلك
بل ذكرها هنا فقط، وقوله فيه: "فيعود ظهره طبقا واحدا " قال ابن بطال
تمسك به من أجاز تكليف ما لا يطاق من الأشاعرة واحتجوا أيضا بقصة أبي لهب، وأن
الله كلفه الإيمان به مع إعلامه بأنه يموت على الكفر ويصلى نارا ذات لهب، قال ومنع
الفقهاء من ذلك وتمسكوا بقوله تعالى :{لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا
وُسْعَهَا} وأجابوا عن السجود بأنهم يدعون إليه تبكيتا إذ أدخلوا أنفسهم في
المؤمنين الساجدين في الدنيا فدعوا مع المؤمنين إلى السجود فتعذر عليهم فأظهر الله
بذلك نفاقهم وأخزاهم، قال
(13/428)
ومثله من التبكيت ما يقال لهم بعد ذلك {ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً} وليس في هذا تكليف ما لا يطاق بل إظهار خزيهم، ومثله كلف أن يعقد شعيرة فإنها للزيادة في التوبيخ والعقوبة انتهى. ولم يجب عن قصة أبي لهب وقد ادعى بعضهم أن مسألة تكليف ما لا يطاق لم تقع إلا بالإيمان فقط، وهي مسألة طويلة الذيل ليس هذا موضع ذكرها، وقوله: "قال مدحضة مزلة " بفتح الميم وكسر الزاي ويجوز فتحها وتشديد اللام، قال أي موضع الزلل ويقال بالكسر في المكان وبالفتح في المقال، ووقع في رواية أبي ذر عن الكشميهني هنا الدحض الزلق، ليدحضوا ليزلقوا زلقا لا يثبت فيه قدم، وهذا قد تقدم لهم في تفسير سورة الكهف، وتقدم هناك الكلام عليه، وقوله: "عليه خطاطيف وكلاليب " تقدم بيانه، وقوله: "وحسكة " بفتح الحاء والسين المهملتين قال صاحب التهذيب وغيره الحسك نبات له ثمر خشن يتعلق بأصواف الغنم وربما اتخذ مثله من حديد وهو من آلات الحرب، وقوله: "مفلطحة " بضم الميم وفتح الفاء وسكون اللام بعدها طاء ثم حاء مهملتان كذا وقع عند الأكثر. وفي رواية الكشميهني: "مطلفحة " بتقديم الطاء وتأخير الفاء واللام قبلها ولبعضهم كالأول لكن بتقديم الحاء على الطاء والأول هو المعروف في اللغة وهو الذي فيه اتساع وهو عريض، يقال فلطح القرص بسطه وعرضه، وقوله شوكة عقيفة بالقاف ثم الفاء وزن عظيمة، ولبعضهم عقيفاء بصيغة التصغير ممدود. "تنبيه": قرأت في تنقيح الزركشي وقع هنا في حديث أبي سعيد بعد شفاعة الأنبياء فيقول الله: بقيت شفاعتي فيخرج من النار من لم يعمل خيرا، وتمسك به بعضهم في تجويز إخراج غير المؤمنين من النار ورد بوجهين أحدهما أن هذه الزيادة ضعيفة لأنها غير متصلة كما قال عبد الحق في الجمع، والثاني أن المراد بالخير المنفي ما زاد على أصل الإقرار بالشهادتين، كما تدل عليه بقية الأحاديث هكذا قال، والوجه الأول غلط منه فإن الرواية متصلة هنا، وأما نسبة ذلك لعبد الحق فغلط على غلط لأنه لم يقله إلا في طريق أخرى وقع فيها، أخرجوا من كان في قلبه مثقال حبه خردل من خير. قال: هذه الرواية غير متصلة، ولما ساق حديث أبي سعيد الذي في هذا الباب ساقه بلفظ البخاري ولم يتعقبه بأنه غير متصل ولو قال ذلك لتعقبناه عليه فإنه لا انقطاع في السند أصلا، ثم إن لفظ حديث أبي سعيد هنا ليس كما ساقه الزركشي وإنما فيه: فيقول الجبار بقيت شفاعتي فيخرج أقواما قد امتحشوا، ثم قال في آخره: فيقول أهل الجنة هؤلاء عتقاء الرحمن أدخلهم الجنة بغير عمل عملوه ولا خير قدموه، فيجوز أن يكون الزركشي ذكره بالمعنى. حديث أنس في الشفاعة وقد مضى شرحه مستوفى في باب صفة الجنة والنار من " كتاب الرقاق " وقوله هنا " وقال حجاج بن منهال حدثنا همام " كذا عند الجميع إلا في رواية أبي زيد المروزي عن الفربري، فقال فيها " حدثنا حجاج " وقد وصله الإسماعيلي من طريق إسحاق بن إبراهيم وأبو نعيم من طريق محمد ابن أسلم الطوسي قالا " حدثنا حجاج بن منهال " فذكره بطوله وساقوا الحديث كله إلا النسفي فساق منه إلى قوله: "خلقك الله بيده " ثم قال: "فذكر الحديث: "ووقع لأبي ذر عن الحموي نحوه لكن قال: "وذكر الحديث بطوله " بعد قوله: "حتى يهموا بذلك " ونحوه للكشميهني. وقوله فيه: "ثلاث كذبات " في رواية المستملي "ثلاث كلمات " وقوله: "فأستأذن على ربي في داره فيؤذن لي عليه " قال الخطابي هذا يوهم المكان والله منزه عن ذلك، وإنما معناه في داره الذي اتخذها لأوليائه وهي الجنة وهي دار السلام، وأضيفت إليه إضافة تشريف مثل بيت الله وحرم الله، وقوله فيه: "قال قتادة سمعته يقول فأخرجهم " هو موصول بالسند المذكور، ووقع للكشميهني: "وسمعته أيضا يقول: "وللمستملي "وسمعته
(13/429)
يقول: فأخرج فأخرجهم " الأول بفتح الهمزة وضم الراء والثاني بضم الهمزة وكسر الراء. حديث أنس: اصبروا حتى تلقوا الله ورسوله فإني على الحوض . قوله في السند "حدثني عمي" هو يعقوب بن إبراهيم بن سعد وأبوه هو إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، وليعقوب فيه شيخ آخر أخرجه مسلم من طريقه أيضا عن ابن أخي ابن شهاب عن عمه وهي أعلى من روايته إياه عن أبيه عن " صالح " وهو ابن كيسان عن ابن شهاب الزهري. قوله: "أرسل إلى الأنصار فجمعهم في قبة" كذا أورده مختصرا، وقد أخرجه مسلم من هذا الوجه وقال في أوله " لما أفاء الله على رسوله ما أفاء من أموال هوازن " ثم أحال ببقيته على الرواية التي قبلها من طريق يونس عن الزهري " فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي رجالا من قريش " فذكر الحديث في معاتبتهم، وفي آخره: "فقالوا بلى يا رسول الله رضينا، قال فإنكم ستجدون بعدي أثرة شديدة فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله، فإني على الحوض " وقد تقدم من وجه آخر في غزوة حنين وساقه من حديث عبد الله بن زيد بن عاصم أتم منه، وتقدم شرحه مستوفى هناك بحمد الله تعالى. والغرض منه هنا قوله: "حتى تلقوا الله ورسوله " فإنها زيادة لم تقع في بقية الطرق، وقد تقدم في أوائل الفتن من رواية أنس عن أسيد بن الحضير في قصة فيها " فسترون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني " وترجم له في مناقب الأنصار: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم يعني للأنصار " اصبروا حتى تلقوني على الحوض " قال الراغب: اللقاء مقابلة الشيء ومصادفته، لقيه يلقاه ويقال أيضا في الإدراك بالحسن وبالبصيرة، ومنه {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ} وملاقاة الله يعبر بها عن الموت وعن يوم القيامة، وقيل ليوم القيامة يوم التلاقي لالتقاء الأولين والآخرين فيه. عن ابن عباس في الدعاء عند قيام الليل وقد تقدم شرحه في أوائل " كتاب التهجد " مستوفى، والغرض منه قوله: "ولقاءك حق " وقد ذكرت ما يتعلق باللقاء في الذي قبله " وسفيان " في سنده هو الثوري، " وسليمان " هو ابن أبي مسلم، وقوله فيه: "وقال قيس بن سعد وأبو الزبير عن طاوس قيام " يريد أن قيس بن سعد روي هذا الحديث عن طاوس عن ابن عباس، فوقع عنده بدل قوله: أنت قيم السموات والأرض: "أنت قيام السموات والأرض " وكذلك أبو الزبير عن طاوس وطريق قيس وصلها مسلم وأبو داود من طريق عمران ابن مسلم عن قيس ولم يسوقا لفظه وساقها النسائي كذلك وأبو نعيم في المستخرج، ورواية أبي الزبير وصلها مالك في الموطأ عنه وأخرجها مسلم من طريقه ولفظه: "قيام السموات والأرض". قوله: "وقال مجاهد: القيوم: القائم على شيء" وصله الفريابي في تفسيره عن ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد بهذا، قال الحليمي القيوم القائم على كل شيء من خلقه يدبره بما يريد. وقال أبو عبيدة بن المثنى القيوم فيعول وهو القائم الذي لا يزول. وقال الخطابي القيوم نعت للمبالغة في القيام على كل شيء فهو القيم على كل شيء بالرعاية له. قوله: "وقرأ عمر القيام" قلت تقدم ذكر من وصله عن عمر في تفسير سورة نوح. قوله: "وكلاهما مدح" أي القيوم والقيام لأنهما من صيغ المبالغة. حديث عدي بن حاتم " ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان " وقوله في سنده عن خيثمة في رواية حفص بن غياث عن الأعمش: حدثني خيثمة بن عبد الرحمن كما تقدم في " كتاب الرقاق " وسياقه هناك أتم، وسيأتي أيضا من وجه آخر عن الأعمش وقوله: "ولا حجاب يحجبه " في رواية الكشميهني: "ولا حاجب " قال ابن بطال معنى رفع الحجاب إزالة الآفة من أبصار المؤمنين المانعة لهم من الرؤية فيرونه لارتفاعها عنهم بخلق ضدها فيهم، ويشير
(13/430)
إليه قوله تعالى في حق الكفار {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} وقال الحافظ صلاح الدين العلائي في شرح قوله في قصة معاذ " واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب " المراد بالحاجب والحجاب نفي المانع من الرؤية كما نفى عدم إجابة دعاء المظلوم ثم استعار الحجاب للرد فكان نفيه دليلا على ثبوت الإجابة والتعبير بنفي الحجاب أبلغ من التعبير بالقبول، لأن الحجاب من شأنه المنع من الوصول إلى المقصود فاستعير نفيه لعدم المنع، ويتخرج كثير من أحاديث الصفات على الاستعارة التخييلية، وهي أن يشترك شيئان في وصف ثم يعتمد لوازم أحدهما حيث تكون جهة الاشتراك وصفا فيثبت كماله في المستعار بواسطة شيء آخر فيثبت ذلك للمستعار مبالغة في إثبات المشترك، قال وبالحمل على هذه الاستعارة التخييلية يحصل التخلص من مهاوي التجسم، قال: ويحتمل أن يراد بالحجاب استعارة محسوس لمعقول لأن الحجاب حسي والمنع عقلي، قال: وقد ورد ذكر الحجاب في عدة أحاديث صحيحة والله سبحانه وتعالى منزه عما يحجبه إذ الحجاب إنما يحيط بمقدر محسوس. ولكن المراد بحجابه منعه أبصار خلقه وبصائرهم بما شاء متى شاء كيف شاء، وإذا شاء كشف ذلك عنهم، ويؤيده قوله في الحديث الذي بعده " وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه " فإن ظاهره ليس مرادا قطعا فهي استعارة جزما وقد يكون المراد بالحجاب في بعض الأحاديث الحجاب الحسي لكنه بالنسبة للمخلوقين والعلم عند الله تعالى، ونقل الطيبي في شرح حديث أبي موسى عند مسلم: "حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما أدركه بصره " أن فيه إشارة إلى أن حجابه خلاف الحجب المعهودة فهو محتجب عن الخلق بأنوار عزه وجلاله وأشعة عظمته وكبريائه، وذلك هو الحجاب الذي تدهش دونه العقول وتبهت الأبصار وتتحير البصائر، فلو كشفه فتجلى لما وراءه بحقائق الصدفات وعظمة الذات لم يبق مخلوق إلا احترق، ولا منظور إلا اضمحل، وأصل الحجاب الستر الحائل بين الرائي والمرئي، والمراد به هنا منع الأبصار من الرؤية له بما ذكر فقام ذلك المنع مقام الستر الحائل فعبر به عنه، وقد ظهر من نصوص الكتاب والسنة أن الحالة المشار إليها في هذا الحديث هي في دار الدنيا المعدة للفناء دون دار الآخرة المعدة للبقاء، والحجاب في هذا الحديث وغيره يرجع إلى الخلق لأنهم هم المحجوبون عنه. وقال النووي: أصل الحجاب المنع من الرؤية، والحجاب في حقيقة اللغة الستر، وإنما يكون في الأجسام والله سبحانه منزه عن ذلك، فعرف أن المراد المنع من رؤيته وذكر النور لأنه يمنع من الإدراك في العادة لشعاعه، والمراد بالوجه الذات وبما انتهى إليه بصره جميع المخلوقات لأنه سبحانه محيط بجميع الكائنات. حديث أبي موسى " وعبد العزيز بن عبد الصمد " هو ابن عبد الصمد العمي بفتح المهملة وتشديد الميم، " وأبو عمران " هو عبد الملك بن حبيب الجوني، " وأبو بكر " هو ابن أبي موسى الأشعري، وقد تقدم ذلك في تفسير سورة الرحمن. قوله: "جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما" في رواية حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن أبي بكر بن أبي موسى عن أبيه قال حماد لا أعلمه إلا قد رفعه قال: "جنتان من ذهب للمقربين ومن دونهما جنتان من ورق لأصحاب اليمين " أخرجه الطبري وابن أبي حاتم ورجاله ثقات وفيه رد على ما حكيته على الترمذي الحكيم أن المراد بقوله تعالى :{وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} الدنو بمعنى القرب لا أنهما دون الجنتين المذكورتين قبلهما، وصرح جماعة بأن الأوليين أفضل من الأخريين، وعكس بعض المفسرين، والحديث حجة للأولين، قال الطبري اختلف في قوله: :{وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} فقال بعضهم معناه في الدرجة. وقال آخرون
(13/431)
معناه في الفضل، وقوله جنتان إشارة إلى قوله تعالى :{وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} وتفسير له، وهو خبر مبتدأ محذوف أي هما جنتان، وآنيتهما مبتدأ، ومن فضة خبره، قاله الكرماني قال: ويحتمل أن يكون فاعل فضة كما قال ابن مالك مررت بواد إبل كله، أن كله فاعل أي جنتان مفضض آنيتهما انتهى. ويحتمل أن يكون بدل اشتمال، وظاهر الأول أن الجنتين من ذهب لا فضة فيهما وبالعكس، ويعارضه حديث أبي هريرة: قلنا يا رسول الله حدثنا عن الجنة ما بناؤها؟ قال: لبنة من ذهب ولبنة من فضة، الحديث أخرجه أحمد والترمذي وصححه ابن حبان، وله شاهد عن ابن عمر أخرجه الطبراني وسنده حسن وآخر عن أبي سعيد أخرجه البزار ولفظه: "خلق الله الجنة لبنة من ذهب ولبنة من فضة " الحديث، ويجمع بأن الأول صفة ما في كل جنة من آنية وغيرها، والثاني صفة حوائط الجنان كلها، ويؤيده أنه وقع عند البيهقي في البعث في حديث أبي سعيد " أن الله أحاط حائط الجنة لبنة من ذهب ولبنة من فضة " وعلى هذا فقوله: "آنيتهما وما فيهما " بدل من قوله: "من ذهب " ويترجح الاحتمال الثاني. قوله: "وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه" قال المازري: كان النبي صلى الله عليه وسلم يخاطب العرب بما تفهم ويخرج لهم الأشياء المعنوية إلى الحس ليقرب تناولهم لها، فعبر عن زوال الموانع ورفعه عن الأبصار بذلك. وقال عياض كانت العرب تستعمل الاستعارة كثيرا، وهو أرفع أدوات بديع فصاحتها وإيجازها، ومنه قوله تعالى :{جَنَاحَ الذُّلِّ} فمخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم لهم برداء الكبرياء على وجهه ونحو ذلك من هذا المعنى، ومن لم يفهم ذلك تاه فمن أجرى الكلام على ظاهره أفضى به الأمر إلى التجسيم ومن لم يتضح له وعلم أن الله منزه عن الذي يقتضيه ظاهرها إما أن يكذب نقلتها وإما أن يؤولها كأن يقول استعار لعظيم سلطان الله وكبريائه وعظمته وهيبته وجلاله المانع إدراك أبصار البشر مع ضعفها لذلك رداء الكبرياء، فإذا شاء تقوية أبصارهم وقلوبهم كشف عنهم حجاب هيبته وموانع عظمته انتهى ملخصا. وقال الطيبي قوله: "على وجهه " حال من رداء الكبرياء. وقال الكرماني هذا الحديث من المتشابهات فإما مفوض وإما متأول بأن المراد بالوجه الذات، والرداء صفة من صفة الذات اللازمة المنزهة عما يشبه المخلوقات، ثم استشكل ظاهره بأنه يقتضي أن رؤية الله غير واقعة، وأجاب بأن مفهومه بيان قرب النظر إذ رداء الكبرياء لا يكون مانعا من الرؤية فعبر عن زوال المانع عن الإبصار بإزالة المراد انتهى. وحاصله أن رداء الكبرياء مانع عن الرؤية فكأن في الكلام حذفا تقديره بعد قوله إلا رداء الكبرياء: فإنه يمن عليهم برفعه فيحصل لهم الفوز بالنظر إليه، فكأن المراد أن المؤمنين إذا تبوؤوا مقاعدهم من الجنة لولا ما عندهم من هيبة ذي الجلال لما حال بينهم وبين الرؤية حائل، فإذا أراد إكرامهم حفهم برأفته وتفضل عليهم بتقويتهم على النظر إليه سبحانه، ثم وجدت في حديث صهيب في تفسير قوله تعالى :{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} ما يدل على أن المراد برداء الكبرياء في حديث أبي موسى الحجاب المذكور في حديث صهيب، وأنه سبحانه يكشف لأهل الجنة إكراما لهم، والحديث عند مسلم والترمذي والنسائي وابن خزيمة وابن حبان ولفظ مسلم: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا دخل أهل الجنة الجنة، يقول الله عز وجل: تريدون شيئا أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا وتدخلنا الجنة؟ قال: فيكشف لهم الحجاب فما أعطوا شيئا أحب إليهم منه، ثم تلا هذه الآية {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} أخرجه مسلم عقب حديث أبي موسى، ولعله أشار إلى تأويله به. وقال القرطبي في المفهم الرداء استعارة كنى بها عن العظمة كما في الحديث الآخر " الكبرياء ردائي والعظمة إزاري " وليس المراد الثياب المحسوسة لكن المناسبة أن الرداء
(13/432)
والإزار لما كانا متلازمين للمخاطب من العرب عبر عن العظمة والكبرياء
بهما، ومعنى حديث الباب أن مقتضى عزة الله واستغنائه أن لا يراه أحد لكن رحمته
للمؤمنين اقتضت أن يريهم وجهه كما لا للنعمة، فإذا زال المانع فعل معهم خلاف مقتضى
الكبرياء فكأنه رفع عنهم حجابا كان يمنعهم، ونقل الطبري عن علي وغيره في قوله
تعالى :{وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} قال هو النظر إلى وجه الله. قوله: {في جنة عدن} قال
ابن بطال: لا تعلق للمجسمة في إثبات المكان لما ثبت من استحالة أن يكون سبحانه
جسما أو حالا في مكان، فيكون تأويل الرداء: الآفة الموجودة لأبصارهم المانعة لهم
من رؤيته، وإزالتها فعل، من أفعاله يفعله في محل رؤيتهم فلا يرونه ما دام ذلك
المانع موجودا، فإذا فعل الرؤية زال ذلك المانع وسماه رداء لتنزله في المنع منزلة
الرداء الذي يحجب الوجه عن رؤيته فأطلق عليه الرداء مجازا، وقوله: {في جنة عدن }
راجع إلى القوم. وقال عياض معناه راجع إلى النظرين أي وهم في جنة عدن لا إلى الله
فإنه لا تحويه الأمكنة سبحانه. وقال القرطبي يتعلق بمحذوف في موضع الحال من القوم
مثل كائنين، في جنة عدن. وقال الطيبي قوله: "في جنة عدن متعلق بمعنى
الاستقرار في الظرف فيقيد بالمفهوم انتفاء هذا الحصر في غير الجنة، وإليه أشار
التوربشتي بقوله: يشير إلى أن المؤمن إذا تبوأ مقعده والحجب مرتفعة والموانع التي
تحجب عن النظر إلى ربه مضمحلة إلا ما يصدهم من الهيبة كما قيل:
أشتاقه فإذا بدا ... أطرقت من إجلاله
فإذا حفهم برأفته ورحمته رفع ذلك عنهم تفضلا منه عليهم. عن " عبد الله "
وهو ابن مسعود. قوله: "قال عبد الله" وهو ابن مسعود راويه، وهو موصول
بالسند المذكور. قوله: "مصداقه" أي الحديث، ومصداق بكسر أوله مفعال من
الصدق بمعنى الموافقة. قوله: "إن الذين يشترون - إلى أن قال - ولا يكلمهم
الله الآية" كذا لأبي ذر وغيره والمراد هنا من هذه الآية قوله بعده {وَلا
يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ} ويؤخذ منه تفسير قوله: {لقي الله وهو عليه غضبان } ومقتضاه
أن الغضب سبب لمنع الكلام، والرؤية والرضا سبب لوجودهما، وقد تقدم شرح هذا الحديث
في " كتاب الأيمان والنذور". حديث أبي هريرة. قوله: "عن عمرو"
هو ابن دينار المكي، وقد تقدم هذا الحديث سندا ومتنا في " كتاب الشرب "
وتقدم شرحه مستوفى في أواخر الأحكام. حديث أبي بكرة " وعبد الوهاب " في
سنده هو ابن عبد المجيد الثقفي، " وأيوب " هو السختياني، " ومحمد
" هو ابن سيرين، " وابن أبي بكرة " هو عبد الرحمن كما وقع التصريح
به في " كتاب الحج " والسند كله بصريون، وقد تقدم بعينه في بدء الخلق
وفي المغازي، وأغفل المزي ذكر هذا السند في التوحيد وفي المغازي وهو ثابت فيهما،
وزعم أنه أخرجه في التفسير عن أبي موسى ولم أره في التفسير مع أنه لم يذكر منه في
بدء الخلق إلا قطعة يسيرة إلى قوله: "وشعبان " وساقه بتمامه في المغازي،
" وهنا " إلا أنه سقط من وسطه هنا عند أبي ذر عن السرخسي، قوله قال:
"فأي يوم هذا - إلى قوله - قال فإن دماءكم " وقد تقدم شرحه مفرقا، أما
ما يتعلق بأوله وهو " أن الزمان قد استدار كهيئته " ففي تفسير سورة
براءة، وأما ما يتعلق بالشهر الحرام والبلد الحرام. ففي باب الخطبة أيام مني من
" كتاب الحج " وأما ما يتعلق بالنهي عن ضرب بعضهم رقاب بعض ففي "
كتاب الفتن"، وأما ما يتعلق بالحث على التبليغ ففي " كتاب العلم "
والمراد منه هنا قوله: "وستلقون ربكم فيسألكم
(13/433)
عن أعمالكم " وقد ذكرت ما فسر به اللقاء في الحديث الخامس، وبالله التوفيق. "تكملة": جمع الدار قطني طرق الأحاديث الواردة في رؤية الله تعالى في الآخرة فزادت على العشرين، وتبعها ابن القيم في حادي الأرواح فبلغت الثلاثين وأكثرها جياد، وأسند الدار قطني عن يحيى بن معين قال عندي سبعة عشر حديثا في الرؤية صحاح.
(13/434)
25 - باب مَا جَاءَ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {إِنَّ
رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ}
7448 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ
حَدَّثَنَا عَاصِمٌ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ عَنْ أُسَامَةَ قَالَ كَانَ ابْنٌ
لِبَعْضِ بَنَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْضِي
فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَهَا فَأَرْسَلَ إِنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ
وَلَهُ مَا أَعْطَى وَكُلٌّ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ
فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ فَأَقْسَمَتْ عَلَيْهِ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقُمْتُ مَعَهُ وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَأُبَيُّ بْنُ
كَعْبٍ وَعُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ فَلَمَّا دَخَلْنَا نَاوَلُوا رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّبِيَّ وَنَفْسُهُ تَقَلْقَلُ فِي صَدْرِهِ
حَسِبْتُهُ قَالَ كَأَنَّهَا شَنَّةٌ فَبَكَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ أَتَبْكِي فَقَالَ إِنَّمَا
يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ
7449 - حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا
يَعْقُوبُ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"اخْتَصَمَتْ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ إِلَى رَبّهِمَا فَقَالَتْ الْجَنَّةُ يَا
رَبِّ مَا لَهَا لاَ يَدْخُلُهَا إِلاَّ ضُعَفَاءُ النَّاسِ وَسَقَطُهُمْ
وَقَالَتْ النَّارُ يَعْنِي أُوثِرْتُ بِالْمُتَكَبِّرِينَ فَقَالَ اللَّهُ
تَعَالَى لِلْجَنَّةِ أَنْتِ رَحْمَتِي وَقَالَ لِلنَّارِ أَنْتِ عَذَابِي أُصِيبُ
بِكِ مَنْ أَشَاءُ وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا مِلْؤُهَا قَالَ فَأَمَّا
الْجَنَّةُ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِنْ خَلْقِهِ أَحَدًا وَإِنَّهُ
يُنْشِئُ لِلنَّارِ(1) مَنْ يَشَاءُ فَيُلْقَوْنَ فِيهَا فَ تَقُولُ هَلْ مِنْ
مَزِيدٍ ثَلاَثًا حَتَّى يَضَعَ فِيهَا قَدَمَهُ فَتَمْتَلِئُ وَيُرَدُّ بَعْضُهَا
إِلَى بَعْضٍ وَتَقُولُ قَطْ قَطْ قَطْ
7450 - حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ
أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ: "لَيُصِيبَنَّ أَقْوَامًا سَفْعٌ مِنْ النَّارِ بِذُنُوبٍ أَصَابُوهَا
عُقُوبَةً ثُمَّ يُدْخِلُهُمْ اللَّهُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ يُقَالُ
لَهُمْ الْجَهَنَّمِيُّونَ
وَقَالَ هَمَّامٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ حَدَّثَنَا أَنَسٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
ـــــــ
(1) جزم ابن القيم بأن هذا غلط من الراوي, صوابه "ينشيء للجنة" كما تقدم
برقم 4850 من طريق عبد الرزاق عن همام عن أبي هريرة, وكما في رقم 7384 من طريق
قتادة عن أنس , فتبين منهما أن الراوي هنا سبق لفظه من الجنة إلى النار, يسمونه في
مصطلح الحديث "المنقلب"
(13/434)
قوله: "باب ما جاء في قول الله تعالى :{إن رحمة الله قريب
من المحسنين} قال ابن بطال الرحمة تنقسم إلى صفة ذات وإلى صفة فعل، وهنا يحتمل أن
تكون صفة ذات، فيكون معناها إرادة إثابة الطائعين، ويحتمل أن تكون صفة فعل فيكون
معناها أن فضل الله بسوق السحاب وإنزال المطر قريب من المحسنين فكان ذلك رحمة لهم
لكونه بقدرته وإرادته، ونحو تسمية الجنة رحمة لكونها فعلا من أفعاله حادثة بقدرته.
وقال البيهقي في " كتاب الأسماء والصفات " باب الأسماء التي تتبع إثبات
التدبير لله دون من سواه فمن ذلك " الرحمن الرحيم " قال الخطابي: معنى
الرحمن ذو الرحمة الشاملة التي وسعت الخلق في أرزاقهم وأسباب معايشهم ومصالحهم،
قال: والرحيم خاص بالمؤمنين كما قال سبحانه {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً}
وقال غيره: الرحمن خاص في التسمية عام في الفعل، والرحيم عام في التسمية خاص في
الفعل انتهى. وقد تقدم شيء من هذا في أوائل التوحيد في باب "قل ادعوا الله أو
ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى" وتكلم أهل العربية على الحكمة
في تذكير قريب مع أنه وصف الرحمة فقال الفراء: قريبة وبعيدة إن أريد بها النسب
ثبوتا ونفيا فتؤنث جزما فتقول فلانة قريبة أو ليست قريبة لي، فإن أريد المكان جاز
الوجهان لأنه صفة المكان فتقول فلانة قريبة وقريب إذا كانت في مكان غير بعيد، ومنه
قوله:
عشية لا عفراء منك قريبة ... فتدنوا ولا عفراء منك بعيد
ومنه قول امرئ القيس: "له الويل إن أمسى ولا أم سالم " قريب البيت وأما
قول بعضهم سبيل المذكر والمؤنث أن يجريا على أفعالهما فمردود لأنه رد الجائز
بالمشهور. وقال تعالى :{مَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً} وقال
أبو عبيدة قريب في قوله تعالى :{قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} ليس وصفا للرحمة
إنما هو ظرف لها فجاز فيه التأنيث والتذكير ويصلح للجمع والمثنى والمفرد، ولو أريد
بها الصفة لوجبت المطابقة، وتعقبه الأخفش بأنها لو كانت ظرفا لنصبت، وأجيب بأنه
يتسع في الظرف ووراء ذلك أجوبة أخرى متقاربة، ويقال إن أقواها قول أبي عبيدة فقيل:
هي صفة لموصوف محذوف أي شيء قريب، وقيل: لما كانت بمعنى الغفران أو العفو أو المطر
أو الإحسان حملت عليه، وقيل: الرحم بالضمة والرحمة بمعنى واحد فذكر باعتبار الرحم،
وقيل المعنى أنها ذات قرب كقولهم حائض لأنها ذات حيص، وقيل: هو مصدر جاء على فعيل
كنقيق لصوت الضفدع، وقيل: لما كان وزنه وزن المصدر نحو زفير وشهيق أعطى حكمه في
استواء التذكير والتأنيث، وقيل: إن الرحمة بمعنى مفعلة فتكون بمعنى مفعول وفعيل
بمعنى مفعول كثير، وقيل: أعطى فعيل بمعنى فاعل حكم فعيل بمعنى مفعول، وقيل: هو من
التأنيث المجازي كطلع الشمس وبهذا جزم ابن التين، وتعقبوه بأن شرطه تقدم الفعل
وهنا جاء الفعل متأخرا فلا يجوز إلا في ضرورة الشعر، وأجيب بأن بعضهم حكى الجواز
مطلقا والله أعلم. ثم ذكر في الباب ثلاثة أحاديث. حديث أسامة بن زيد وقد تقدم
التنبيه عليه في أوائل " كتاب التوحيد " وقوله: "إنما يرحم الله
" فيه إثبات صفة الرحمة له وهو مقصود الترجمة. حديث أبي هريرة " اختصمت
الجنة والنار " و " يعقوب " في سنده هو ابن إبراهيم بن سعد الذي
تقدم في الحديث الخامس من الباب قبله، " والأعرج " هو عبد الرحمن بن
هرمز، وليس لصالح بن كيسان عنه في الصحيحين إلا هذا الحديث. قوله:
"اختصمت" في رواية همام عن أبي هريرة المتقدمة في سورة ق " تحاجت
" ولمسلم من طريق أبي الزناد عن الأعرج " احتجت " وكذا له من طريق
ابن سيرين عن
(13/435)
أبي هريرة، وكذا في حديث أبي سعيد عنده قال الطيبي: تحاجت أصله تحاججت وهو مفاعلة من الحجاج وهو الخصام وزنه ومعناه، يقال: حاججته محاججة ومحاجة وحجاجا أي غالبته بالحجة ومنه " فحج آدم موسى " لكن حديث الباب لم يظهر فيه غلبة واحد منهما. قلت: إنما وزان " فحج آدم موسى " لو جاء تحاجت الجنة والنار فحاجت الجنة النار، وإلا فلا يلزم من وقوع الخصام الغلبة، قال ابن بطال عن المهلب: يجوز أن يكون هذا الخصام حقيقة بأن يخلق الله فيهما حياة وفهما وكلاما والله قادر على كل شيء، ويجوز أن يكون هذا مجازا كقولهم " امتلأ الحوض وقال قطني " والحوض لا يتكلم وإنما ذلك عبارة عن امتلائه وأنه لو كان ممن ينطق لقال ذلك، وكذا في قول النار "هل من مزيد" قال وحاصل اختصاصهما افتخار أحدهما على الأخرى بمن يسكنها فتظن النار أنها بمن ألقى فيها من عظماء الدنيا أبر عند الله من الجنة، وتظن الجنة أنها بمن أسكنها من أولياء الله تعالى أبر عند الله، فأجيبتا بأنه لا فضل لإحدهما على الأخرى من طريق من يسكنهما، وفي كلاهما شائبة شكاية إلى ربهما إذ لم تذكر كل واحدة منهما إلا ما اختصت به، وقد رد الله الأمر في ذلك إلى مشيئته، وقد تقدم كلام النووي في هذا في تفسير ق. وقال صاحب المفهم: يجوز أن يخلق الله ذلك القوم فيما شاء من أجزاء الجنة والنار، لأنه لا يشترط عقلا في الأصوات أن يكون محلها حيا على الراجح ولو سلمنا الشرط لجاز أن يخلق الله في بعض أجزائهما الجمادية حياة لا سيما وقد قال بعض المفسرين في قوله تعالى: {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} إن كل ما في الجنة حي، ويحتمل أن يكون ذلك بلسان الحال والأول أولى. قوله: "فقالت الجنة يا رب ما لها" فيه التفات لأن نسق الكلام أن تقول مالي، وقد وقع كذلك في رواية همام مالي، وكذا لمسلم عن أبي الزناد. قوله: "إلا ضعفاء الناس وسقطهم" زاد مسلم: "وعجزهم " وفي رواية له " وغرثهم " وقد تقدم بيان المراد بالضعفاء في تفسير ق، وسقطهم بفتحتين جمع ساقط وهو النازل القدر الذي لا يؤبه له، وسقط المتاع رديئه وعجزهم بفتحتين أيضا جمع عاجز ضبطه عياض، وتعقبه القرطبي بأنه يلزم أن يكون بتاء التأنيث ككاتب وكتبة وسقوط التاء في هذا الجمع نادر، قال والصواب بضم أوله وتشديد الجيم مثل: شاهد وشهد، وأما " غرثهم " فهو بمعجمة ومثلثة جمع غرثان أي جيعان، ووقع في رواية الطبري بكسر أوله وتشديد الراء ثم مثناة أي غفلتهم، والمراد به أهل الإيمان الذين لم يتفطنوا للشبه، ولم توسوس لهم الشياطين بشيء من ذلك فهم أهل عقائد صحيحة وإيمان ثابت وهم الجمهور، وأما أهل العلم والمعرفة فهم بالنسبة إليهم قليل. قوله: "وقالت النار فقال للجنة" كذا وقع هنا مختصرا قال ابن بطال سقط قول النار هنا من جميع النسخ وهو محفوظ في الحديث، رواه ابن وهب عن مالك بلفظ أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين. قلت: هو في غرائب مالك للدار قطني وكذا هو عند مسلم من رواية ورقاء عن أبي الزناد وله من رواية سفيان عن أبي الزناد " يدخلني الجبارون والمتكبرون " وفي رواية محمد بن سيرين عن أبي هريرة " مالي لا يدخلني إلا " أخرجه النسائي، وفي حديث أبي سعيد " فقالت النار في " أخرجه أبو يعلى وساق مسلم سنده. قوله: "فقال الله تعالى للجنة أنت رحمتي" زاد أبو الزناد في روايته: "أرحم بك من أشاء من عبادي " وكذا لهمام. قوله: "وقال للنار أنت عذابي أصيب بك من أشاء" زاد أبو الزناد " من عبادي". قوله: "ملؤها" بكسر أوله وسكون اللام بعدها همزة. قوله: "فأما الجنة فإن الله لا يظلم من خلقه أحدا وأنه ينشئ للنار من يشاء" قال أبو الحسن القابسي المعروف في هذا الموضع أن الله ينشئ للجنة خلقا وأما النار فيضع فيها قدمه قال: ولا أعلم في شيء من الأحاديث أنه ينشئ للنار
(13/436)
خلقا إلا هذا انتهى. وقد مضى في تفسير سورة ق من طريق محمد بن سرين عن أبي هريرة " يقال لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد فيضع الرب عليها قدمه فتقول قط قط " ومن طريق همام بلفظ: "فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع رجله فتقول قط قط فهناك تمتلئ ويزوي بعضها إلى بعض ولا يظلم الله من خلقه أحدا " وتقدم هناك بيان اختلافهم في المراد بالقدم مستوفى، وأجاب عياض بأن أحد ما قيل في تأويل القدم أنهم قوم تقدم في علم الله أنه يخلقهم قال: فهذا مطابق للإنشاء، وذكر القدم بعد الإنشاء يرجح أن يكونا متغايرين، وعن المهلب قال في هذه الزيادة حجة لأهل السنة في قولهم إن لله أن يعذب من لم يكلفه لعبادته في الدنيا لأن كل شيء ملكه فلو عذبهم لكان غير ظالم انتهى. وأهل السنة إنما تمسكوا في ذلك بقوله تعالى :{لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} و يَفْعَلُ {مَا يَشَاءُ} وغير ذلك، وهو عندهم من جهة الجواز، وأما الوقوع ففيه نظر، وليس في الحديث حجة للاختلاف في لفظه ولقبوله التأويل، وقد قال جماعة من الأئمة إن هذا الموضع مقلوب، وجزم ابن القيم بأنه غلط واحتج بأن الله تعالى أخبر بأن جهنم تمتلئ من إبليس وأتباعه وكذا أنكر الرواية شيخنا البلقيني واحتج بقوله: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} ثم قال وحمله على أحجار تلقى في النار أقرب من حمله على ذي روح يعذب بغير ذنب انتهى، ويمكن التزام أن يكونوا من ذوي الأرواح ولكن لا يعذبون كما في الخزنة، ويحتمل أن يراد بالإنشاء ابتداء إدخال الكفار النار، وعبر عن ابتداء الإدخال بالإنشاء فهو إنشاء الإدخال لا الإنشاء بمعنى ابتداء الخلق بدليل قوله: "فيلقون فيها وتقول هل من مزيد " وأعادها ثلاث مرات ثم قال: "حتى يضع فيها قدمه فحينئذ تمتلئ " فالذي يملؤها حتى تقول حسبي هو القدم كما هو صريح الخبر وتأويل القدم قد تقدم والله أعلم، وقد أيد ابن أبي جمرة حمله على غير ظاهره بقوله تعالى :{كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} إذ لو كان على ظاهره لكان أهل النار في نعيم المشاهدة كما يتنعم أهل الجنة برؤية ربهم لأن مشاهدة الحق لا يكون معها عذاب. وقال عياض يحتمل أن يكون معنى قوله عند ذكر الجنة فإن الله لا يظلم من خلقه أحدا أنه يعذب من يشاء غير ظالم له كما قال أعذب بك من أشاء، ويحتمل أن يكون راجعا إلى تخاصم أهل الجنة والنار، فإن الذي جعل لكل منهما عدل وحكمة وباستحقاق كل منهم من غير أن يظلم أحدا. وقال غيره: يحتمل أن يكون ذلك على سبيل التلميح بقوله تعالى :{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} فعبر عن ترك تضييع الأجر بترك الظلم، والمراد أنه يدخل من أحسن الجنة التي وعد المتقين برحمته، وقد قال للجنة أنت رحمتي وقال: {إن رحمة الله قريب من المحسنين} وبهذا تظهر مناسبة الحديث للترجمة والعلم عند الله تعالى، وفي الحديث دلالة على اتساع الجنة والنار بحيث تسع كل من كان ومن يكون إلى يوم القيامة وتحتاج إلى زيادة، وقد تقدم في آخر الرقاق أن آخر من يدخل الجنة يعطى مثل الدنيا عشرة أمثالها. وقال الداودي يؤخذ من الحديث أن الأشياء توصف بغالبها لأن الجنة قد يدخلها غير الضعفاء والنار قد يدخلها غير المتكبرين، وفيه رد على من حمل قول النار "هل من مزيد" على أنه استفهام إنكار وأنها لا تحتاج إلى زيادة. قوله: "سفع" بفتح المهملة وسكون الفاء ثم مهملة هو أثر تغير البشرة فيبقى فيها بعض سواد. قوله: "وقال همام حدثنا قتادة حدثنا أنس" تقدم موصولا في " كتاب الرقاق " مع شرحه وأراد به هنا أن العنعنة التي في طريق هشام محمولة على السماع بدليل رواية همام والله أعلم.
(13/437)
26- باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ
السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولاَ}
7451 - حَدَّثَنَا مُوسَى حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ
إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ جَاءَ حَبْرٌ إِلَى
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ إِنَّ
اللَّهَ يَضَعُ السَّمَاءَ عَلَى إِصْبَعٍ وَالأَرْضَ عَلَى إِصْبَعٍ وَالْجِبَالَ
عَلَى إِصْبَعٍ وَالشَّجَرَ وَالأَنْهَارَ عَلَى إِصْبَعٍ وَسَائِرَ الْخَلْقِ
عَلَى إِصْبَعٍ ثُمَّ يَقُولُ بِيَدِهِ أَنَا الْمَلِكُ فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ
قَدْرِهِ}
قوله: "باب قول الله تعالى:{إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا" وقع
لبعضهم " يمسك السموات على إصبع " وهو خطأ ذكر فيه حديث. ابن مسعود قال
المهلب: الآية تقتضي أنهما ممسكتان بغير آلة، والحديث يقتضي أنهما ممسكتان
بالإصبع، والجواب أن الإمساك بالإصبع محال لأنه يفتقر إلى ممسك، وأجاب غيره بأن
الإمساك في الآية يتعلق بالدنيا، وفي الحديث بيوم القيامة وقد مضى توجيه الإصبع من
كلام أهل السنة مع شرحه في باب قوله: لما خلفت بيدي، قال الراغب إمساك الشيء
التعلق به وحفظه، ومن الثاني قوله تعالى :{وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ
عَلَى الْأَرْضِ} الآية، ويقال أمسكت عن كذا امتنعت عنه ومنه {هَلْ هُنَّ
مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ} قوله: "إن الله يضع السموات على إصبع الحديث"
ومضى هناك بلفظ: "إن الله يمسك " وهو المطابق للترجمة لكن جرى على عادته
في الإشارة وذكر فيه من وجه آخر عن الأعمش، وفيه تصريحه بسماعه له من "
إبراهيم " وهو النخعي، " وموسى " شيخ البخاري فيه هو ابن إسماعيل
كما جزم به أبو نعيم في المستخرج، وقوله جاء حبر بفتح المهملة ويجوز كسرها، بعدها
موحدة ساكنة ثم راء واحد الأحبار، وذكر صاحب المشارق أنه وقع في بعض الروايات
" جاء جبريل " قال وهو تصحيف فاحش، وهو كما قال فقد مضى في الباب المشار
إليه " جاء رجل " وفي الرواية التي قبلها " أن يهوديا جاء "
ولمسلم: "جاء حبر من اليهود " فعرف أن من قال جبريل فقد صحف.
(13/438)
27 - باب مَا جَاءَ فِي تَخْلِيقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ
وَغَيْرِهَا مِنْ الْخَلاَئِقِ وَهُوَ فِعْلُ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى
وَأَمْرُهُ فَالرَّبُّ بِصِفَاتِهِ وَفِعْلِهِ وَأَمْرِهِ وَكَلاَمِهِ وَهُوَ
الْخَالِقُ الْمُكَوِّنُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَمَا كَانَ بِفِعْلِهِ وَأَمْرِهِ
وَتَخْلِيقِهِ وَتَكْوِينِهِ فَهُوَ مَفْعُولٌ مَخْلُوقٌ مُكَوَّنٌ
7452 - حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
جَعْفَرٍ أَخْبَرَنِي شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ عَنْ
كُرَيْبٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ بِتُّ فِي بَيْتِ مَيْمُونَةَ لَيْلَةً
وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَهَا لِأَنْظُرَ كَيْفَ
صَلاَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاللَّيْلِ
فَتَحَدَّثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَهْلِهِ
سَاعَةً ثُمَّ رَقَدَ فَلَمَّا كَانَ ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ أَوْ بَعْضُهُ
قَعَدَ فَنَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ فَقَرَأَ { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ
وَالأَرْضِ _إِلَى قَوْلِهِ لِأُولِي _ الأَلْبَابِ} ثُمَّ قَامَ فَتَوَضَّأَ
وَاسْتَنَّ ثُمَّ صَلَّى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً ثُمَّ أَذَّنَ بِلاَلٌ
بِالصَّلاَةِ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى لِلنَّاسِ الصُّبْحَ
(13/438)
قوله: "باب ما جاء في تخليق السموات والأرض وغيرها من الخلائق" كذا للأكثر " تخليق " وفي رواية الكشميهني: "خلق السموات " وعليها شرح ابن بطال وهو المطابق للآية، وأما التخليق فإنه من خلق بالتشديد، وقد استعمل في مثل قوله تعالى :{مخلقة وغير مخلقة} وتقدمت الإشارة إلى تفسيره في " كتاب الحيض". قوله: "وهو فعل الرب وأمره" المراد بالأمر هنا قوله كن، والأمر يطلق بإزاء معان منها صيغة أفعل ومنها الصفة والشأن، والأول المراد هنا. قوله: "فالرب بصفاته وفعله وأمره" كذا ثبت للجميع وزاد أبو ذر " في روايته وكلامه". قوله: "وهو الخالق المكون غير مخلوق" المكون بتشديد الواو المكسورة لم يرد في الأسماء الحسنى، ولكن ورد معناه " وهو المصور " وقوله وكلامه بعد قوله: وأمره من عطف الخاص على العام لأن المراد بالأمر هنا قوله كن وهو من جملة كلامه وسقط قوله من هذا الموضع وفعله في بعض النسخ قال الكرماني: وهو أولى ليصح لفظ غير مخلوق كذا قال وسياق المصنف، يقتضي التفرقة بين الفعل وما ينشأ عن الفعل فالأول من صفة الفاعل، والباري غير مخلوق فصفاته غير مخلوقة وأما مفعوله وهو ما ينشأ عن فعله فهو مخلوق ومن ثم عقبه بقوله: وما كان بفعله وأمره وتخليقه وتكوينه فهو مفعول مخلوق مكون بفتح الواو والمراد بالأمر هنا المأمور به وهو المراد بقوله تعالى :{وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً} ، وبقوله تعالى :{اللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} إن قلنا الضمير لله، وبقوله تعالى :{لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً}، بقوله تعالى :{قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} وفي الحديث الصحيح " أن الله يحدث من أمره ما يشاء " وفيه: "سبوح قدوس رب الملائكة والروح " وأما قوله تعالى :{أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} فسيأتي في آخر " كتاب التوحيد " احتجاج ابن عيينة وغيره به على أن القرآن غير مخلوق لأن المراد بالأمر قوله تعالى: {كُنْ} وقد عطف على الخلق، والعطف يقتضي المغايرة وكن من كلامه فصح الاستدلال ووهم من ظن أن المراد بالأمر هنا هو المراد بقوله تعالى :{وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً} لأن المراد به في هذه الآية المأمور فهو الذي يوجد بكن، وكن صيغة الأمر وهي من كلام الله وهو غير مخلوق، والذي يوجد بها هو المخلوق وأطلق عليه الأمر لأنه نشأ عنه، ثم وجدت بيان مراده في كتابه الذي أفرده في خلق أفعال العباد فقال: اختلف الناس في الفاعل والفعل والمفعول فقالت القدرية الأفاعيل كلها من البشر. وقالت الجبرية الأفاعيل كلها من الله. وقالت الجهمية الفعل والمفعول واحد ولذلك قالوا كن مخلوق. وقال السلف: التخليق فعل الله وأفاعيلنا مخلوقة، ففعل الله صفة الله والمفعول من سواه من المخلوقات انتهى. ومسألة التكوين مشهورة بين المتكلمين وأصلها: إنهم اختلفوا هل صفة الفعل قديمة أو حادثة؟ فقال جمع من السلف منهم أبو حنيفة: هي قديمة. وقال آخرون منهم ابن كلاب والأشعري: هي حادثة لئلا يلزم أن يكون المخلوق قديما، وأجاب الأول بأنه يوجد في الأزل صفة الخلق ولا مخلوق، وأجاب الأشعري بأنه لا يكون خلق ولا مخلوق كما لا يكون ضارب ولا مضروب فألزموه بحدوث صفات فيلزم حلول الحوادث بالله، فأجاب بأن هذه الصفات لا تحدث في الذات شيئا جديدا فتعقبوه بأنه يلزم أن لا يسمى في الأزل خالقا ولا رازقا، وكلام الله قديم وقد ثبت أنه فيه الخالق الرزاق فانفصل بعض الأشعرية بأن إطلاق ذلك إنما هو بطريق المجاز وليس المراد بعدم التسمية عدمها بطريق الحقيقة، ولم يرتض هذا بعضهم بل قال وهو المنقول عن الأشعري نفسه: إن الأسامي جارية مجرى الأعلام والعلم ليس بحقيقة ولا مجاز في اللغة، وأما في الشرع فلفظ الخالق الرازق صادق عليه تعالى بالحقيقة الشرعية والبحث إنما هو فيها لا في الحقيقة اللغوية فألزموه بتجويز إطلاق اسم الفاعل على من لم يقم به الفعل، فأجاب أن
(13/439)
28 - باب قَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا
لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ}
7453 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ
الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لَمَّا قَضَى اللَّهُ الْخَلْقَ
كَتَبَ عِنْدَهُ فَوْقَ عَرْشِهِ إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي
7454 - حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ سَمِعْتُ
زَيْدَ بْنَ وَهْبٍ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الصَّادِقُ
الْمَصْدُوقُ أَنَّ خَلْقَ أَحَدِكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ
يَوْمًا أَوْ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَهُ ثُمَّ يَكُونُ
مُضْغَةً مِثْلَهُ ثُمَّ يُبْعَثُ إِلَيْهِ الْمَلَكُ فَيُؤْذَنُ بِأَرْبَعِ
كَلِمَاتٍ فَيَكْتُبُ رِزْقَهُ وَأَجَلَهُ وَعَمَلَهُ وَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ
ثُمَّ يَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ
الْجَنَّةِ حَتَّى لاَ يَكُونُ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ إِلاَّ ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ
عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُ النَّارَ
وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ
بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ إِلاَّ ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ
عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا
7455 - حَدَّثَنَا خَلاَدُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ ذَرٍّ سَمِعْتُ
أَبِي يُحَدِّثُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَا
جِبْرِيلُ مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَزُورَنَا أَكْثَرَ مِمَّا تَزُورُنَا فَنَزَلَتْ
{ وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا
خَلْفَنَا} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ قَالَ كَانَ هَذَا الْجَوَابَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
7456 - حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ
عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَرْثٍ بِالْمَدِينَةِ وَهُوَ مُتَّكِئٌ
عَلَى عَسِيبٍ فَمَرَّ بِقَوْمٍ مِنْ الْيَهُودِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ
سَلُوهُ عَنْ الرُّوحِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ لاَ تَسْأَلُوهُ عَنْ الرُّوحِ
فَسَأَلُوهُ فَقَامَ مُتَوَكِّئًا عَلَى الْعَسِيبِ وَأَنَا خَلْفَهُ فَظَنَنْتُ
أَنَّهُ
(13/440)
29 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ
إِذَا أَرَدْنَاهُ}
7459 - حَدَّثَنَا شِهَابُ بْنُ عَبَّادٍ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ حُمَيْدٍ
عَنْ إِسْمَاعِيلَ عَنْ قَيْسٍ عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ سَمِعْتُ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لاَ يَزَالُ مِنْ أُمَّتِي
قَوْمٌ ظَاهِرِينَ عَلَى النَّاسِ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ
7460 - حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا
ابْنُ جَابِرٍ حَدَّثَنِي عُمَيْرُ بْنُ هَانِئٍ أَنَّهُ سَمِعَ مُعَاوِيَةَ قَالَ
سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لاَ يَزَالُ مِنْ
أُمَّتِي أُمَّةٌ قَائِمَةٌ بِأَمْرِ اللَّهِ مَا يَضُرُّهُمْ مَنْ كَذَّبَهُمْ
وَلاَ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ
فَقَالَ مَالِكُ بْنُ يُخَامِرَ سَمِعْتُ مُعَاذًا يَقُولُ وَهُمْ بِالشَّأْمِ
فَقَالَ مُعَاوِيَةُ هَذَا مَالِكٌ يَزْعُمُ أَنَّهُ سَمِعَ مُعَاذًا يَقُولُ
وَهُمْ بِالشَّأْمِ
7461 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ حَدَّثَنَا نَافِعُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ
وَقَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مُسَيْلِمَةَ فِي
أَصْحَابِهِ فَقَالَ لَوْ سَأَلْتَنِي هَذِهِ الْقِطْعَةَ مَا أَعْطَيْتُكَهَا
وَلَنْ تَعْدُوَ أَمْرَ اللَّهِ فِيكَ وَلَئِنْ أَدْبَرْتَ لَيَعْقِرَنَّكَ
اللَّهُ
حديث ابن عباس في شأن مسيلمة ذكر منه طرفا، وقد تقدم بتمامه في أواخر المغازي مع
شرحه، والغرض منه قوله ولن يعدو أمر الله فيك أي ما قدره عليك من الشقاء أو
السعادة.
7462 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ عَنْ
الأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ بَيْنَا
أَنَا أَمْشِي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ
حَرْثِ الْمَدِينَةِ وَهُوَ يَتَوَكَّأُ عَلَى عَسِيبٍ مَعَهُ فَمَرَرْنَا عَلَى
نَفَرٍ مِنْ الْيَهُودِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ سَلُوهُ عَنْ الرُّوحِ
فَقَالَ بَعْضُهُمْ لاَ تَسْأَلُوهُ أَنْ يَجِيءَ فِيهِ بِشَيْءٍ تَكْرَهُونَهُ
فَقَالَ بَعْضُهُمْ لَنَسْأَلَنَّهُ فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَقَالَ يَا
أَبَا الْقَاسِمِ مَا الرُّوحُ فَسَكَتَ عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلِمْتُ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ فَقَالَ { وَيَسْأَلُونَكَ
عَنْ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتُوا مِنْ الْعِلْمِ
إِلاَّ قَلِيلًا} قَالَ الأَعْمَشُ هَكَذَا فِي قِرَاءَتِنَا
(13/442)
قوله: "باب قول الله تعالى :{إنما أمرنا لشيء إذا أردناه} زاد غير أبي ذر " أن نقول له كن فيكون " ونقص " إذا أردناه " من رواية أبي زيد المروزي قال عياض: كذا وقع لجميع الرواة عن الفربري من طريق أبي ذر والأصيلي والقابسي وغيرهم، وكذا وقع في رواية النسفي وصواب التلاوة " إنما قولنا " وكأنه أراد أن يترجم بالآية الأخرى {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} وسبق القلم إلى هذه. قلت: وقع في نسخة معتمدة من رواية أبي ذر " إنما قولنا " على وفق التلاوة وعليها شرح ابن التين فإن لم يكن من إصلاح من تأخر عنه وإلا فالقول ما قاله القاضي عياض: قال ابن أبي حاتم في كتاب الرد على الجهمية حدثنا أبي قال قال أحمد بن حنبل: دل على أن القرآن غير مخلوق حديث عبادة " أول ما خلق الله القلم فقال اكتب " الحديث قال: وإنما نطق القلم بكلامه لقوله {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} قال فكلام الله سابق على أول خلقه فهو غير مخلوق، وعن الربيع بن سليمان سمعت البويطي يقول خلق الله الخلق كله بقوله: {كُنْ} فلو كان كن مخلوقا لكان قد خلق الخلق بمخلوق ليس كذلك، ثم ذكر فيه خمسة أحاديث.الأول: حديث المغيرة وقوله فيه عن " إسماعيل " هو ابن أبي خالد " وقيس " هو ابن أبي حازم، والغرض منه ومن الذي بعده قوله: "حتى يأتيهم أمر الله " وقد تقدم بيان المراد به عند شرحه في " كتاب الاعتصام " وقال ابن بطال المراد بأمر الله في هذا الحديث الساعة والصواب أمر الله بقيام الساعة فيرجع إلى حكمه وقضائه. الثاني والثالث حديث معاوية في ذلك وفيه رواية مالك بن يخامر بضم التحتانية وتخفيف الخاء المعجمة وكسر الميم عن معاذ وهم بالشام، وذكر معاوية عنه ذلك وقوله فيه: "ولا من خذلهم " وقع في رواية الأصيلي: "حذاهم " بكسر المهملة ثم ذال معجمة بعدها ألف لينة، قال: ولها وجه، يعني من جاورهم ممن لا يوافقهم، قال: ولكن الصواب بفتح الحاء المعجمة وباللام من الخذلان، و " ابن جابر " المذكور فيه هو عبد الرحمن بن يزيد بن جابر نسب لجده. حديث ابن مسعود في سؤال اليهود عن الروح، و قوله: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} تمسك به من زعم أن الروح قديمة زعما أن المراد بالأمر هنا الأمر الذي في قوله تعالى :{أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} وهو فاسد فإن الأمر ورد في القرآن لمعان يتبين المراد بكل منها من سياق الكلام وسيأتي في باب {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} ما يتعلق بالأمر الذي في قوله تعالى :{أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} وأنه بمعنى الطلب الذي هو أحد أنواع الكلام، وأما الأمر في حديث ابن مسعود هذا فإن المراد به المأمور كما يقال الخلق ويراد به المخلوق وقد وقع التصريح في بعض طرق الحديث ففي تفسير السدي عن أبي مالك عن ابن عباس وعن غيره في قوله تعالى :{قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} يقول هو خلق من خلق الله ليس هو شيء من أمر الله، وقد اختلف في المراد بالروح المسئول عنها هل هي الروح التي تقوم بها الحياة أو الروح المذكور في قوله تعالى :{يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً} وفي قوله تعالى :{تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا} وتمسك من قال بالثاني بأن السؤال إنما يقع في العادة عما لا يعرف إلا بالوحي، والروح التي بها الحياة قد تكلم الناس فيها قديما وحديثا، بخلاف الروح المذكور فإن أكثر الناس لا علم لهم به بل هي من علم الغيب بخلاف الأولى، وقد أطلق الله لفظ الروح على الوحي في قوله تعالى :{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا} وفي قوله: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى
(13/443)
مَنْ يَشَاءُ} وعلى القوة والثبات والنصر في قوله تعالى :{وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} وعلى جبريل في عدة آيات وعلى عيسى بن مريم ولم يقع في القرآن تسمية روح بني آدم روحا بل سماها نفسا في قوله: النفس المطمئنة، والنفس الأمارة بالسوء، والنفس اللوامة، وأخرجوا أنفسكم، ونفس وما سواها، كل نفس ذائقة الموت، وتمسك من زعم بأنها قديمة بإضافتها إلى الله تعالى في قوله تعالى :{وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} ولا حجة فيه لأن الإضافة تقع على صفة تقوم بالموصوف كالعلم والقدرة، وعلى ما ينفصل عنه كبيت الله وناقة الله فقوله: روح الله، من هذا القبيل. الثاني: وهي إضافة تخصيص وتشريف وهي فوق الإضافة العامة التي بمعنى الإيجاد فالإضافة على ثلاث مراتب: إضافة إيجاد وإضافة تشريف وإضافة صفة، والذي يدل على أن الروح مخلوقة عموم قوله تعالى:الله خالق كل شيء، وهو رب كل شيء، ربكم ورب آبائكم الأولين، والأرواح مربوبة وكل مربوب مخلوق، رب العالمين، وقوله تعالى لزكريا: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً} وهذا الخطاب لجسده وروحه معا، ومنه قوله: {هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا} وقوله تعالى :{وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} سواء قلنا إن قوله خلقنا يتناول الأرواح والأجساد معا أو الأرواح فقط، ومن الأحاديث الصحيحة حديث عمران بن حصين " كان الله ولم يكن شيء غيره: " وقد تقدم التنبيه عليه في " كتاب بدء الخلق " وقد وقع الاتفاق على أن الملائكة مخلوقون وهم أرواح، وحديث: "الأرواح جنود مجندة " والجنود المجندة لا تكون إلا مخلوقة، وقد تقدم هذا الحديث وشرحه في " كتاب الأدب " وحديث أبي قتادة أن بلالا قال لما ناموا في الوادي: يا رسول الله أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك، والمراد بالنفس الروح قطعا لقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: "إن الله قبض أرواحكم حين شاء " الحديث، كما في قوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} الآية، وقد تقدم الكلام على بقية فوائد هذا الحديث في سورة سبحان، وقوله في آخره {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} كذا للأكثر، ووقع في رواية الكشميهني: "وما أوتيتم " على وفق القراءة المشهورة ويؤيد الأول قوله في بقيته: قال الأعمش هكذا في قراءتنا، قال ابن بطال غرضه الرد على المعتزلة في زعمهم أن أمر الله مخلوق، فتبين أن الأمر هو قوله تعالى للشيء كن فيكون بأمره له وأن أمره وقوله بمعنى واحد، وأنه يقول كن حقيقة، وأن الأمر غير الخلق لعطفه عليه بالواو انتهى. وسيأتي مزيد لهذا في باب: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}
(13/444)
30- باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ
مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ
رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} , {وَلَوْ أَنَّ مَا فِي الأَرْضِ مِنْ
شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا
نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّه} ,{إِنَّ رَبَّكُمْ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ
السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ
يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ
وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ
اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} سَخَّرَ ذَلَّلَ
7463 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي
الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "تَكَفَّلَ اللَّهُ لِمَنْ جَاهَدَ فِي
سَبِيلِهِ لاَ يُخْرِجُهُ مِنْ بَيْتِهِ إِلاَّ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ
وَتَصْدِيقُ كَلِمَتِهِ أَنْ
(13/444)
يدْخِلَهُ الْجَنَّةَ أَوْ يَرُدَّهُ إِلَى مَسْكَنِهِ بِمَا
نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ
قوله: "باب قول الله تعالى :{قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي - إلى قوله -
جئنا بمثله مددا} في رواية أبي زيد المروزي " إلى آخر الآية " وساق في
رواية كريمة الآية كلها. قوله: "وقوله ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام
والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله" جاء في سبب نزولها ما
أخرجه ابن أبي حاتم بسند صحيح عن ابن عباس في قصة سؤال اليهود عن الروح ونزول قوله
تعالى :{قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا
قَلِيلاً} قالوا كيف وقد أوتينا التوراة فنزلت: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ
مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي} الآية فأخرج عبد الرزاق في تفسيره من طريق أبي
الجوزاء قال: لو كان كل شجرة في الأرض أقلاما والبحر مدادا لنفد الماء وتكسرت
الأقلام قبل أن تنفد كلمات الله، وعن معمر عن قتادة أن المشركين قالوا في هذا
القرآن يوشك أن ينفد فنزلت. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق سعيد بن أبي عروبة عن
قتادة نحوه وفيه فأنزل الله: لو كان شجر الأرض أقلاما ومع البحر سبعة أبحر مدادا
لتكسرت الأقلام ونفد ماء البحار قبل أن تنفد، قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي سمعت أهل
العلم يقول قول الله عز وجل :{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} وقوله:
{قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر} الآية يدل على أن القرآن غير مخلوق
لأنه لو كان مخلوقا لكان له قدر وكانت له عناية ولنفذ كنفاد المخلوقين، وتلا قوله
تعالى :{قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي} إلى آخر الآية. قوله: {إن ربكم الله
الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشى الليل النهار سخر
ذلل} كذا لأبي ذر عن المستملي وحده. وفي رواية أبي زيد المروزي وقوله :{ إِنَّ
رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي} وساق إلى أن قال، بعد قوله: {على العرش} إلى قوله:
{تبارك الله رب العالمين} وساق في رواية كريمة الآية كلها، وذكر فيه حديث أبي
هريرة المشار إليه قريبا " تكفل الله لمن جاهد في سبيله " والمراد منه
قوله: "وتصديق كلمته " ووقع في نسخة من طريق أبي ذر " وكلمات
" بصيغة الجمع قال ابن التين. يحتمل أن يكون المراد بكلماته الأوامر الواردة
بالجهاد وما وعد عليه من الثواب، ويحتمل أن يراد بها ألفاظ الشهادتين وأن تصديقه
بها يثبت في نفسه عداوة من كذبهما والحرص على قتله وقوله: {خلق السموات والأرض في
ستة أيام} تقدم بيان الستة في الكلام على حديث ابن عباس في تفسير حم فصلت، وقوله:
{يغشى الليل النهار} أي ويغشى النهار الليل فحذف لدلالة السياق عليه وهو قوله:
{يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل} والغرض من الآية قوله: {ألا له
الخلق والأمر} وسيأتي بسط القول فيه في أواخر هذا الكتاب في باب والله خلقكم وما
تعملون إن شاء الله تعالى. وحذف ابن بطال هذا الباب وما فيه.
(13/445)
31 - باب فِي الْمَشِيئَةِ وَالإِرَادَةِ
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ - وَمَا تَشَاءُونَ
إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ - وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ
غَدًا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ - إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ
وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}
قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِيهِ نَزَلَتْ فِي أَبِي طَالِبٍ
{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ}
7464 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ
عَنْ أَنَسٍ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا
(13/445)
دَعَوْتُمْ اللَّهَ فَاعْزِمُوا فِي الدُّعَاءِ وَلاَ
يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ إِنْ شِئْتَ فَأَعْطِنِي فَإِنَّ اللَّهَ لاَ مُسْتَكْرِهَ
لَهُ
7465 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ ح و
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي أَخِي عَبْدُ الْحَمِيدِ عَنْ سُلَيْمَانَ
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عَتِيقٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ
أَنَّ حُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ عَلَيْهِمَا السَّلاَم أَخْبَرَهُ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ
أَبِي طَالِبٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ طَرَقَهُ وَفَاطِمَةَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَيْلَةً فَقَالَ لَهُمْ أَلاَ تُصَلُّونَ قَالَ عَلِيٌّ فَقُلْتُ يَا
رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا أَنْفُسُنَا بِيَدِ اللَّهِ فَإِذَا شَاءَ أَنْ
يَبْعَثَنَا بَعَثَنَا فَانْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ حِينَ قُلْتُ ذَلِكَ وَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيَّ شَيْئًا ثُمَّ سَمِعْتُهُ
وَهُوَ مُدْبِرٌ يَضْرِبُ فَخِذَهُ وَيَقُولُ وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ
جَدَلًا
7466 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ حَدَّثَنَا هِلاَلُ
بْنُ عَلِيٍّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "مَثَلُ
الْمُؤْمِنِ كَمَثَلِ خَامَةِ الزَّرْعِ يَفِيءُ وَرَقُهُ مِنْ حَيْثُ أَتَتْهَا
الرِّيحُ تُكَفِّئُهَا فَإِذَا سَكَنَتْ اعْتَدَلَتْ وَكَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ
يُكَفَّأُ بِالْبَلاَءِ وَمَثَلُ الْكَافِرِ كَمَثَلِ الأَرْزَةِ صَمَّاءَ
مُعْتَدِلَةً حَتَّى يَقْصِمَهَا اللَّهُ إِذَا شَاءَ
حديث أبي هريرة " مثل المؤمن كمثل خامة الزرع " وقد تقدم شرحه في
الرقاق، والمراد منه قوله في آخره: "يقصمها الله إذا شاء " أي في الوقت
الذي سبقت إرادته أن يقصمه فيه.
7467 - حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ
أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَهُوَ قَائِمٌ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولَ إِنَّمَا بَقَاؤُكُمْ فِيمَا
سَلَفَ قَبْلَكُمْ مِنْ الأُمَمِ كَمَا بَيْنَ صَلاَةِ الْعَصْرِ إِلَى غُرُوبِ
الشَّمْسِ أُعْطِيَ أَهْلُ التَّوْرَاةِ التَّوْرَاةَ فَعَمِلُوا بِهَا حَتَّى
انْتَصَفَ النَّهَارُ ثُمَّ عَجَزُوا فَأُعْطُوا قِيرَاطًا قِيرَاطًا ثُمَّ
أُعْطِيَ أَهْلُ الإِنْجِيلِ الإِنْجِيلَ فَعَمِلُوا بِهِ حَتَّى صَلاَةِ
الْعَصْرِ ثُمَّ عَجَزُوا فَأُعْطُوا قِيرَاطًا قِيرَاطًا ثُمَّ أُعْطِيتُمْ
الْقُرْآنَ فَعَمِلْتُمْ بِهِ حَتَّى غُرُوبِ الشَّمْسِ فَأُعْطِيتُمْ
قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ قَالَ أَهْلُ التَّوْرَاةِ رَبَّنَا هَؤُلاَءِ أَقَلُّ
عَمَلًا وَأَكْثَرُ أَجْرًا قَالَ هَلْ ظَلَمْتُكُمْ مِنْ أَجْرِكُمْ مِنْ شَيْءٍ
قَالُوا لاَ فَقَالَ فَذَلِكَ فَضْلِي أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ
7468 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ الْمُسْنَدِيُّ حَدَّثَنَا هِشَامٌ أَخْبَرَنَا
مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ
قَالَ بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَهْطٍ
فَقَالَ أُبَايِعُكُمْ عَلَى أَنْ لاَ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا وَلاَ
تَسْرِقُوا وَلاَ تَزْنُوا وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ وَلاَ تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ
تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ وَلاَ تَعْصُونِي فِي مَعْرُوفٍ
فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ
شَيْئًا فَأُخِذَ بِهِ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ لَهُ كَفَّارَةٌ وَطَهُورٌ وَمَنْ
سَتَرَهُ اللَّهُ فَذَلِكَ إِلَى اللَّهِ إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ
غَفَرَ لَهُ
حديث عبادة بن الصامت في المبايعة، وقد تقدم شرحه في " كتاب الإيمان "
أوائل الكتاب والمراد منه هنا قوله: "ومن ستره الله فذلك إلى الله إن شاء
عذبه وإن شاء غفر له".
7469 - حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ
مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ
السَّلاَم كَانَ لَهُ سِتُّونَ امْرَأَةً فَقَالَ لاَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى
نِسَائِي فَلْتَحْمِلْنَ كُلُّ امْرَأَةٍ وَلْتَلِدْنَ فَارِسًا يُقَاتِلُ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ فَطَافَ عَلَى نِسَائِهِ فَمَا وَلَدَتْ مِنْهُنَّ إِلاَّ
امْرَأَةٌ وَلَدَتْ شِقَّ غُلاَمٍ قَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَوْ كَانَ
(13/446)
سُلَيْمَانُ اسْتَثْنَى لَحَمَلَتْ كُلُّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ
فَوَلَدَتْ فَارِسًا يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
7470 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ
حَدَّثَنَا خَالِدٌ الْحَذَّاءُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
دَخَلَ عَلَى أَعْرَابِيٍّ يَعُودُهُ فَقَالَ لاَ بَأْسَ عَلَيْكَ طَهُورٌ إِنْ
شَاءَ اللَّهُ قَالَ قَالَ الأَعْرَابِيُّ طَهُورٌ بَلْ هِيَ حُمَّى تَفُورُ عَلَى
شَيْخٍ كَبِيرٍ تُزِيرُهُ الْقُبُورَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فَنَعَمْ
إِذًا
7471 - حَدَّثَنَا ابْنُ سَلاَمٍ أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ عَنْ حُصَيْنٍ عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ حِينَ نَامُوا عَنْ الصَّلاَةِ قال
النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللَّهَ قَبَضَ أَرْوَاحَكُمْ حِينَ شَاءَ
وَرَدَّهَا حِينَ شَاءَ فَقَضَوْا حَوَائِجَهُمْ وَتَوَضَّئُوا إِلَى أَنْ
طَلَعَتْ الشَّمْسُ وَابْيَضَّتْ فَقَامَ فَصَلَّى
7472 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ قَزَعَةَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ عَنْ ابْنِ
شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ وَالأَعْرَجِ ح و حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي
أَخِي عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عَتِيقٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ
عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ
أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ اسْتَبَّ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَرَجُلٌ مِنْ
الْيَهُودِ فَقَالَ الْمُسْلِمُ وَالَّذِي اصْطَفَى مُحَمَّدًا عَلَى
الْعَالَمِينَ فِي قَسَمٍ يُقْسِمُ بِهِ فَقَالَ الْيَهُودِيُّ وَالَّذِي اصْطَفَى
مُوسَى عَلَى الْعَالَمِينَ فَرَفَعَ الْمُسْلِمُ يَدَهُ عِنْدَ ذَلِكَ فَلَطَمَ
الْيَهُودِيَّ فَذَهَبَ الْيَهُودِيُّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ بِالَّذِي كَانَ مِنْ أَمْرِهِ وَأَمْرِ
الْمُسْلِمِ
فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لاَ تُخَيِّرُونِي عَلَى مُوسَى فَإِنَّ
النَّاسَ يَصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ فَإِذَا
مُوسَى بَاطِشٌ بِجَانِبِ الْعَرْشِ فَلاَ أَدْرِي أَكَانَ فِيمَنْ صَعِقَ
فَأَفَاقَ قَبْلِي أَوْ كَانَ مِمَّنْ اسْتَثْنَى اللَّهُ
7473 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ أَبِي عِيسَى أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ
أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الْمَدِينَةُ يَأْتِيهَا
الدَّجَّالُ فَيَجِدُ الْمَلاَئِكَةَ يَحْرُسُونَهَا فَلاَ يَقْرَبُهَا
الدَّجَّالُ وَلاَ الطَّاعُونُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ
حديث أنس في المدينة وفيه: ولا الطاعون إن شاء الله، وقد تقدم شرحه في " كتاب
الفتن " وشيخه إسحاق بن أبي عيسى ليس له إلا هذه الرواية.
7474 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ
حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ فَأُرِيدُ إِنْ
شَاءَ اللَّهُ أَنْ أَخْتَبِيَ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي يَوْمَ
الْقِيَامَةِ
حديث أبي هريرة لكل نبي دعوة، وقد تقدم شرحه في أوائل " كتاب الدعوات".
7475 - حَدَّثَنَا يَسَرَةُ بْنُ صَفْوَانَ بْنِ جَمِيلٍ اللَّخْمِيُّ حَدَّثَنَا
إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بَيْنَا أَنَا
نَائِمٌ رَأَيْتُنِي عَلَى قَلِيبٍ فَنَزَعْتُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ أَنْزِعَ
ثُمَّ أَخَذَهَا ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ فَنَزَعَ ذَنُوبًا أَوْ ذَنُوبَيْنِ وَفِي
نَزْعِهِ ضَعْفٌ وَاللَّهُ يَغْفِرُ لَهُ ثُمَّ أَخَذَهَا عُمَرُ فَاسْتَحَالَتْ
غَرْبًا فَلَمْ أَرَ عَبْقَرِيًّا مِنْ النَّاسِ يَفْرِي فَرِيَّهُ حَتَّى ضَرَبَ
النَّاسُ حَوْلَهُ بِعَطَنٍ
(13/447)
7476 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ حَدَّثَنَا أَبُو
أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدٍ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ كَانَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَتَاهُ السَّائِلُ
وَرُبَّمَا قَالَ جَاءَهُ السَّائِلُ أَوْ صَاحِبُ الْحَاجَةِ قَالَ اشْفَعُوا
فَلْتُؤْجَرُوا وَيَقْضِي اللَّهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ مَا شَاءَ
حديث أبي موسى: اشفعوا فلتؤجروا، وقد تقدم بهذا السند والمتن في " كتاب الأدب
" وشرح هناك، والغرض منه قوله: "ويقضي الله على لسان رسوله ما شاء أي يظهر
الله على لسان رسوله بالوحي أو الإلهام ما قدره في علمه بأنه سيقع".
7477 - حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ
هَمَّامٍ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: "لاَ يَقُلْ أَحَدُكُمْ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ
ارْحَمْنِي إِنْ شِئْتَ ارْزُقْنِي إِنْ شِئْتَ وَليَعْزِمْ مَسْأَلَتَهُ إِنَّهُ
يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ لاَ مُكْرِهُ لَهُ
7478 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا أَبُو حَفْصٍ عَمْرٌو
حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ حَدَّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا أَنَّهُ تَمَارَى هُوَ وَالْحُرُّ بْنُ قَيْسِ بْنِ حِصْنٍ
الْفَزَارِيُّ فِي صَاحِبِ مُوسَى أَهُوَ خَضِرٌ فَمَرَّ بِهِمَا أُبَيُّ بْنُ
كَعْبٍ الأَنْصَارِيُّ فَدَعَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَالَ إِنِّي تَمَارَيْتُ أَنَا
وَصَاحِبِي هَذَا فِي صَاحِبِ مُوسَى الَّذِي سَأَلَ السَّبِيلَ إِلَى لُقِيِّهِ
هَلْ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ شَأْنَهُ
قَالَ نَعَمْ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَقُولُ: {بَيْنَا مُوسَى فِي مَلاَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ
فَقَالَ هَلْ تَعْلَمُ أَحَدًا أَعْلَمَ مِنْكَ فَقَالَ مُوسَى لاَ فَأُوحِيَ
إِلَى مُوسَى بَلَى عَبْدُنَا خَضِرٌ فَسَأَلَ مُوسَى السَّبِيلَ إِلَى لُقِيِّهِ
فَجَعَلَ اللَّهُ لَهُ الْحُوتَ آيَةً وَقِيلَ لَهُ إِذَا فَقَدْتَ الْحُوتَ
فَارْجِعْ فَإِنَّكَ سَتَلْقَاهُ فَكَانَ مُوسَى يَتْبَعُ أَثَرَ الْحُوتِ فِي
الْبَحْرِ فَقَالَ فَتَى مُوسَى لِمُوسَى أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى
الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهِ إِلاَّ الشَّيْطَانُ
أَنْ أَذْكُرَهُ قَالَ مُوسَى ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِي فَارْتَدَّا عَلَى
آثَارِهِمَا قَصَصًا فَوَجَدَا خَضِرًا وَكَانَ مِنْ شَأْنِهِمَا مَا قَصَّ اللَّهُ}
7479 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنْ
ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ نَنْزِلُ غَدًا
إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِخَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ حَيْثُ تَقَاسَمُوا عَلَى الْكُفْرِ
يُرِيدُ الْمُحَصَّبَ
7480 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ
عَنْ عَمْرٍو عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ
حَاصَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ الطَّائِفِ فَلَمْ
يَفْتَحْهَا فَقَالَ إِنَّا قَافِلُونَ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَقَالَ
الْمُسْلِمُونَ نَقْفُلُ وَلَمْ نَفْتَحْ قَالَ فَاغْدُوا عَلَى الْقِتَالِ
فَغَدَوْا فَأَصَابَتْهُمْ جِرَاحَاتٌ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّا
قَافِلُونَ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَكَأَنَّ ذَلِكَ أَعْجَبَهُمْ فَتَبَسَّمَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قوله: "باب في المشيئة والإرادة" قال الراغب: المشيئة عند الأكثر سواء
وعند بعضهم أن المشيئة في الأصل إيجاد الشيء وإصابته فمن الله الإيجاد ومن الناس
الإصابة، وفي العرف تستعمل موضع الإرادة.
(13/448)
قوله: "وقول الله تعالى :{تؤتي الملك من تشاء} ، وقوله:
{وما تشاءون إلا أن يشاء الله} ، وقوله :{ ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن
يشاء الله} ، وقوله: {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء} قال البيهقي
بعد أن ساق بسنده إلى الربيع بن سليمان قال الشافعي " المشيئة " إرادة
الله وقد أعلم الله خلقه أن المشيئة له دونهم فقال: {وما تشاءون إلا أن يشاء الله}
فليست للخلق مشيئة إلا أن يشاء الله، وبه إلى الربيع قال سئل الشافعي عن القدر
فقال:
ما شئت كان وإن لم أشأ ... وما شئت إن لم تشأ لم يكن
الأبيات، ثم ساق مما تكرر من ذكر المشيئة في الكتاب العزيز أكثر من أربعين موضعا
منها غير ما ذكر في الترجمة قوله تعالى في البقرة {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ
بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} وقوله: {خْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} وقوله:
{َلَوْ شَاءَ اللَّهُ لاعْنَتَكُمْ} وقوله: {وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ} وقوله في
آل عمران {قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} وقوله:
{َجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ} وقوله في النساء {إِنَّ اللَّهَ لا
يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} وأما
قوله في الأنعام {سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا} الآية فقد
تمسك بها المعتزلة. وقالوا إن فيها ردا على أهل السنة، والجواب أن أهل السنة
تمسكوا بأصل قامت عليه البراهين وهو أن الله خالق كل مخلوق ويستحيل أن يخلق
المخلوق شيئا، والإرادة شرط في الخلق ويستحيل ثبوت المشروط بدون شرطه، فلما عاند
المشركون المعقول وكذبوا المنقول الذي جاءتهم به الرسل وألزموا الحجة بذلك تمسكوا
بالمشيئة والقدر السابق، وهي حجة مردودة لأن القدر لا تبطل به الشريعة وجريان
الأحكام على العباد بأكسابهم فمن قدر عليه بالمعصية كان ذلك علامة على أنه قدر
عليه العقاب إلا أن يشاء أن يغفر له من غير المشركين، ومن قدر عليه بالطاعة