Translate فتح الباري وتفسير بن كثير كيكي520.

الجمعة، 13 مايو 2022

مجلد 21. ومجلد 22فتح الباري أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ)

 مجلد 21. ومجلد 22فتح الباري أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ)

21.

مجلد 21. فتح الباري
المؤلف : أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ)
 إلى أبي طلحة فأخبرته، فدخل على أم سليم فقال: هل من شيء" الحديث. وفي رواية محمد بن كعب عن أنس عند أبي نعيم "جاء أبو طلحة إلى أم سليم فقال: أعندك شيء، فإني مررت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرئ أصحاب الصفة سورة النساء وقد ربط على بطنه حجرا من الجوع". قوله: "فأخرجت أقراصا من شعير" في رواية محمد بن سيرين عن أنس عند أحمد قال: "عمدت أم سليم إلى نصف مد من شعير فطحنته" وعند المصنف من هذا الوجه ومن غيره عن أنس أن أمه أم سليم "عمدت إلى مد من شعير جرشته ثم عملته" وفي رواية عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أنس عند أحمد ومسلم: "أتى أبو طلحة بمد من شعير فأمر به فصنع طعاما" ولا منافاة بين ذلك لاحتمال أن تكون القصة تعددت وأن بعض الرواة حفظ ما لم يحفظ الآخر، ويمكن الجمع بأن يكون الشعير في الأصل كان صاعا فأفردت بعضه لعيالهم وبعضه للنبي صلى الله عليه وسلم، ويدل على التعدد ما بين العصيدة والخبز المفتوت الملتوت بالسمن من المغايرة، وقد وقع لأم سليم في شيء صنعته للنبي صلى الله عليه وسلم لما تزوج زينب بنت جحش قريب من هذه القصة من تكثير الطعام وإدخال عشرة عشرة كما سيأتي في مكانه في الوليمة من كتاب النكاح. ووقع عند أحمد في رواية ابن سيرين عن أنس "عمدت أم سليم إلى نصف مد من شعير فطحنته، ثم عمدت إلى عكة فيها شيء من سمن فاتخذت منه خطيفة" الحديث والخطيفة هي العصيدة وزنا ومعنى، وهذا بعينه يأتي للمصنف في الأطعمة. قوله: "ولائتني ببعضه" أي لفتني به يقال لاث العمامة على رأسه أي عصبها، والمراد أنها لفت بعضه على رأسه وبعضه على إبطه. ووقع في الأطعمة للمصنف عن إسماعيل بن أبي أويس عن مالك في هذا الحديث: "فلفت الخبز ببعضه ودست الخبز تحت ثوبي وردتني ببعضه" تقول دس الشيء يدسه دسا إذا أدخله في الشيء بقهر وقوة. قوله: "فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم آرسلك أبو طلحة فقلت نعم قال بطعام قلت نعم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لمن معه قوموا" ظاهره أن النبي صلى الله عليه وسلم فهم أن أبا طلحة استدعاه إلى منزله فلذلك قال لمن عنده قوموا، وأول الكلام يقتضي أن أم سليم وأبا طلحة أرسلا الخبز مع أنس، فيجمع بأنهما أرادا بإرسال الخبز مع أنس أن يأخذه النبي صلى الله عليه وسلم فيأكله، فلما وصل أنس ورأى كثرة الناس حول النبي صلى الله عليه وسلم استحيى وظهر له أن يدعو النبي صلى الله عليه وسلم ليقوم معه وحده إلى المنزل فيحصل مقصودهم من إطعامه، ويحتمل أن يكون ذلك عن رأي من أرسله، عهد إليه إذا رأى كثرة الناس أن يستدعي النبي صلى الله عليه وسلم وحده خشية أن لا يكفيهم ذلك الشيء هو ومن معه، وقد عرفوا إيثار النبي صلى الله عليه وسلم وأنه لا يأكل وحده، وقد وجدت أن أكثر الروايات تقتضي أن أبا طلحة استدعى النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الواقعة، ففي رواية سعد بن سعيد عن أنس "بعثني أبو طلحة إلى النبي صلى الله عليه وسلم لأدعوه وقد جعل له طعاما" وفي رواية عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أنس "أمر أبو طلحة أم سليم أن تصنع للنبي صلى الله عليه وسلم لنفسه خاصة، ثم أرسلتني إليه" وفي رواية يعقوب بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس "فدخل أبو طلحة على أمي فقال: هل من شيء؟ فقالت: نعم، عندي كسر من خبز، فإن جاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده أشبعناه، وإن جاء أحد معه قل عنهم" وجميع ذلك عند مسلم. وفي رواية مبارك بن فضالة المذكورة أن أبا طلحة قال: "اعجنيه وأصلحيه عسى أن ندعو رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأكل عندنا، ففعلت، فقالت: ادع رسول الله صلى الله عليه وسلم" وفي رواية يعقوب بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس عند أبي نعيم وأصله عند مسلم: "فقال لي أبو طلحة: يا أنس اذهب فقم قريبا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا قام فدعه حتى يتفرق أصحابه، ثم ابتعه حتى إذا قام على عتبة بابه فقل له: إن أبي يدعوك". وفي رواية عمرو بن عبد الله بن أبي طلحة عند أبي يعلى عن أنس "قال لي أبو

(6/589)


طلحة: اذهب فادع رسول الله صلى الله عليه وسلم" وعند المصنف من رواية ابن سيرين في الأطعمة عن أنس "ثم بعثني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتيته وهو في أصحابه فدعوته" وعند أحمد من رواية النضر بن أنس عن أبيه "قالت لي أم سليم: اذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقل له إن رأيت أن تغدى عندنا فافعل" وفي رواية عمرو بن يحيى المازني عن أبيه عن أنس عند البغوي "فقال أبو طلحة اذهب يا بني إلى النبي صلى الله عليه وسلم فادعه. قال فجئته فقلت له: إن أبي يدعوك" الحديث. وفي رواية محمد بن كعب "فقال يا بني اذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فادعه، ولا تدع معه غيره ولا تفضحني". قوله: "آرسلك أبو طلحة" بهمزة ممدودة للاستفهام. وفي رواية محمد بن كعب "فقال للقوم انطلقوا فانطلقوا وهم ثمانون رجلا" وفي رواية يعقوب "فلما قلت له إن أبي يدعوك قال لأصحابه: يا هؤلاء تعالوا، ثم أخذ بيدي فشدها، ثم أقبل بأصحابه حتى إذا دنوا أرسل يدي فدخلت، وأنا حزين لكثرة من جاء معه". قوله: "فقال أبو طلحة يا أم سليم قد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس وليس عندنا ما نطعمهم" أي قدر ما يكفيهم "فقالت: الله ورسوله أعلم" كأنها عرفت أنه فعل ذلك عمدا ليظهر الكرامة في تكثير ذلك الطعام، ودل ذلك على فطنة أم سليم ورجحان عقلها. وفي رواية مبارك بن فضالة "فاستقبله أبو طلحة فقال: يا رسول الله ما عندنا إلا قرص عملته أم سليم" وفي رواية سعد بن سعيد "فقال أبو طلحة: "إنما صنعت لك شيئا" ونحوه في رواية ابن سيرين. وفي رواية عمرو بن عبد الله "فقال أبو طلحة: إنما هو قرص فقال: إن الله سيبارك فيه" ونحوه في رواية عمرو بن يحيى المازني. وفي رواية يعقوب "فقال أبو طلحة: يا رسول الله إنما أرسلت أنسا يدعوك وحدك، ولم يكن عندنا ما يشبع من أرى، فقال: ادخل فإن الله سيبارك فيما عندك" وفي رواية النضر بن أنس عن أبيه "فدخلت على أم سليم وأنا مندهش" وفي رواية عبد الرحمن بن أبي ليلى أن أبا طلحة قال: "يا أنس فضحتنا" وللطبراني في الأوسط "فجعل يرميني بالحجارة". قوله: "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هلمي يا أم سليم ما عندك" كذا لأبي ذر عن الكشميهني، ولغيره: "هلم" وهي لغة حجازية، هلم عندهم لا يؤنث ولا يثنى ولا يجمع، ومنه قوله تعالى: {وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا} والمراد بذلك طلب ما عندهما. قوله: "وعصرت أم سليم عكة فأدمته" أي صيرت ما خرج من العكة له إداما، والعكة بضم المهملة وتشديد الكاف إناء من جلد مستدير يجعل فيه السمن غالبا والعسل. وفي رواية مبارك بن فضالة "فقال هل من سمن؟ فقال أبو طلحة: قد كان في العكة سمن، فجاء بها فجعلا يعصرانها حتى خرج، ثم مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم به سبابته ثم مسح القرص فانتفخ وقال: بسم الله، فلم يزل يصنع ذلك والقرص ينتفخ حتى رأيت القرص في الجفنة يتميع" وفي رواية سعد بن سعيد "فمسها رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا فيها بالبركة" وفي رواية النضر بن أنس "فجئت بها ففتح رباطها ثم قال: بسم الله، اللهم أعظم فيها البركة " وعرف بهذا المراد بقوله: "وقال فيها ما شاء الله أن يقول". قوله: "ثم قال ائذن لعشرة فأذن لهم" ظاهره أنه صلى الله عليه وسلم دخل منزل أبي طلحة وحده وصرح بذلك في رواية عبد الرحمن بن أبي ليلى ولفظه: "فلما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الباب فقال لهم اقعدوا ودخل" وفي رواية يعقوب "أدخل علي ثمانية؛ فما زال حتى دخل عليه ثمانون رجلا ثم دعاني ودعا أمي وأبا طلحة فأكلنا حتى شبعنا" انتهى. وهذا يدل على تعدد القصة، فإن أكثر الروايات فيها أنه أدخلهم عشرة عشرة سوى هذه فقال إنه أدخلهم ثمانية ثمانية، فالله أعلم. قوله: "فأكلوا" في رواية مبارك بن فضالة "فوضع يده وسط القرص وقال: كلوا بسم الله، فأكلوا من حوالي القصعة حتى شبعوا" وفي رواية بكر بن عبد الله "فقال لهم كلوا من بين

(6/590)


أصابعي". قوله: "ثم خرجوا" في رواية عبد الرحمن بن أبي ليلى "ثم قال لهم قوموا وليدخل عشرة مكانكم". قوله: "والقوم سبعون أو ثمانون رجلا" كذا وقع بالشك، وفي غيرها بالجزم بالثمانين كما تقدم من رواية محمد بن كعب وغيره. وفي رواية مبارك بن فضالة "حتى أكل منه بضعة وثمانون رجلا" وفي رواية عبد الرحمن بن أبي ليلى "حتى فعل ذلك بثمانين رجلا، ثم أكل النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك وأهل البيت وتركوا سؤرا" أي فضلا. وفي روايته عند أحمد "قلت كم كانوا؟ قالوا: كانوا نيفا وثمانين قال: وأفضل لأهل البيت ما يشبعهم" ولا منافاة بينهما لاحتمال أن يكون ألغي الكسر، ولكن وقع في رواية ابن سيرين عند أحمد "حتى أكل منها أربعون رجلا وبقيت كما هي" وهذا يؤيد التغاير الذي أشرت إليه، وأن القصة التي رواها ابن سيرين غير القصة التي رواها غيره، وزاد مسلم في رواية عبد الله بن عبد الله بن أبي طلحة "وأفضل ما بلغوا جيرانهم" وفي رواية عمرو بن عبد الله "وفضلت فضلة فأهديناها لجيراننا" ونحوه عند أبي نعيم من رواية عمارة بن غزية عن ربيعة عن أنس بلفظ: "حتى أهدت أم سليم لجيراننا" ولمسلم في أواخر رواية سعد بن سعيد "حتى لم يبق منهم أحد إلا دخل فأكل حتى شبع" وفي رواية له من هذا الوجه "ثم أخذ ما بقي فجمعه، ثم دعا فيه بالبركة فعاد كما كان" وقد تقدم الكلام على شيء من فوائد هذا الحديث في أبواب المساجد من أوائل كتاب الصلاة. "تكملة": سئلت في مجلس الإملاء لما ذكرت حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى عن حكمة تبعيضهم، فقلت: يحتمل أن يكون عرف أن الطعام قليل وأنه في صحفة واحدة فلا يتصور أن يتحلق ذلك العدد الكثير، فقيل: لم لا دخل الكل وبعض لمن يسعه التحليق فكان أبلغ في اشتراك الجميع في الاطلاع على المعجزة، بخلاف التبعيض فإنه يطرقه احتمال تكرر وضع الطعام لصغر الصحفة؟ فقلت: يحتمل أن يكون ذلك لضيق البيت، والله أعلم. الحديث السابع: حديث عبد الله - وهو ابن مسعود - في نبع الماء أيضا وتسبيح الطعام. قوله: "كنا نعد الآيات" أي الأمور الخارقة للعادات. قوله: "بركة وأنتم تعدونها تخويفا" الذي يظهر أنه أنكر عليهم عد جميع الخوارق تخويفا، وإلا فليس جميع الخوارق بركة، فإن التحقيق يقتضي عد بعضها بركة من الله كشبع الخلق الكثير من الطعام القليل وبعضها بتخويف من الله ككسوف الشمس والقمر، كما قال صلى الله عليه وسلم: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يخوف الله بهما عباده" وكأن القوم الذين خاطبهم عبد الله بن مسعود بذلك تمسكوا بظاهر قوله تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً} ، ووقع عند الإسماعيلي من طريق الوليد بن القاسم عن إسرائيل في أول هذا الحديث: "سمع عبد الله بن مسعود بخسف فقال: كنا أصحاب محمد نعد الآيات بركة"، الحديث. قوله: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر" هذا السفر يشبه أن يكون غزوة الحديبية لثبوت نبع الماء فيها كما سيأتي. وقد وقع مثل ذلك في تبوك. ثم وجدت البيهقي في "الدلائل" جزم بالأول لكن لم يخرج ما يصح به. ثم وجدت في بعض طرق هذا الحديث عند أبي نعيم في "الدلائل" أن ذلك كان في غزوة خيبر، فأخرج من طريق يحيى بن سلمة بن كهيل عن أبيه عن إبراهيم في هذا الحديث قال: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة خيبر فأصاب الناس عطش شديد، فقال: يا عبد الله التمس لي ماء، فأتيته بفضل ماء في إداوة" الحديث، فهذا أولى، ودل على تكرر وقوع ذلك حضرا أو سفرا. قوله: "فقال اطلبوا فضلة من ماء فجاءوا بإناء فيه ماء قليل" ووقع عند أبي نعيم في "الدلائل" من طريق أبي الضحى ابن عباس قال: "دعا النبي صلى الله عليه وسلم بلالا بماء فطلبه فلم يجده، فأتاه بشن فيه ماء" الحديث وفي آخره: "فجعل ابن مسعود يشرب ويكثر" وهذا يشعر بأن ابن عباس حمله

(6/591)


عن ابن مسعود، وأن القصة واحدة، ويحتمل، أن يكون كل من ابن مسعود وبلال أحضر الإداوة، فإن الشن بفتح المعجمة وبالنون هو الإداوة اليابسة. قوله: "حي على الطهور المبارك" أي هلموا إلى الطهور، وهو بفتح الطاء، والمراد به الماء، ويجوز ضمها والمراد الفعل أي تطهروا. قوله: "والبركة من الله" البركة مبتدأ والخبر من الله، وهو إشارة إلى أن الإيجاد من الله. ووقع في حديث عمار بن زريق عن إبراهيم في هذا الحديث: "فجعلت أبادرهم إلى الماء أدخله في جوفي لقوله: "البركة من الله" وفي حديث ابن عباس "فبسط كفه فيه فنبعت تحت يده عين، فجعل ابن مسعود يشرب ويكثر" والحكمة في طلبه صلى الله عليه وسلم في هذه المواطن فضلة الماء لئلا يظن أنه الموجد للماء، ويحتمل أن يكون إشارة إلى أن الله أجرى العادة في الدنيا غالبا بالتوالد، وأن بعض الأشياء يقع بينها التوالد وبعضها لا يقع، ومن جملة ذلك ما نشاهده من فوران بعض المائعات إذا خمرت وتركت، ولم تجر العادة في الماء الصرف بذلك، فكانت المعجزة بذلك ظاهرة جدا. قوله: "ولقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل" أي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم غالبا، ووقع ذلك عند الإسماعيلي صريحا أخرجه عن الحسن بن سفيان عن بندار عن أبي أحمد الزبيري في هذا الحديث: "كنا نأكل مع النبي صلى الله عليه وسلم الطعام ونحن نسمع تسبيح الطعام" وله شاهد أورده البيهقي في "الدلائل" من طريق قيس بن أبي حازم قال: "كان أبو الدرداء وسليمان إذا كتب أحدهما إلى الآخر قال له: بآية الصحفة، وذلك أنهما بينا هما يأكلان في صحفة إذ سبحت وما فيها" وذكر عياض عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: "مرض النبي صلى الله عليه وسلم فأتاه جبريل بطبق فيه عنب ورطب فأكل منه فسبح". قلت وقد اشتهر تسبيح الحصى، ففي حديث أبي ذر قال: "تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع حصيات فسبحن في يده حتى سمعت لهن حنينا، ثم وضعهن في يد أبي بكر فسبحن، ثم وضعهن في يد عمر فسبحن، ثم وضعهن في يد عثمان فسبحن" أخرجه البزار والطبراني في "الأوسط" وفي رواية الطبراني "فسمع تسبيحهن من في الحلقة" وفيه: "ثم دفعهن إلينا فلم يسبحن مع أحد منا" قال البيهقي في "الدلائل" كذا رواه صالح بن أبي الأخضر - ولم يكن بالحافظ - عن الزهري عن سويد بن يزيد السلمي عن أبي ذر، والمحفوظ ما رواه شعيب بن أبي حمزة عن الزهري قال: "ذكر الوليد بن سويد أن رجلا من بني سليم كان كبير السن ممن أدرك أبا ذر بالربذة ذكر له عن أبي ذر بهذا". "فائدة": ذكر ابن الحاجب عن بعض الشيعة أن انشقاق القمر وتسبيح الحصى وحنين الجذع وتسليم الغزالة مما نقل آحادا مع توفر الدواعي على نقله، ومع ذلك لم يكذب رواتها. وأجاب بأنه استغنى عن نقلها تواترا بالقرآن. وأجاب غيره بمنع نقلها آحادا، وعلى تسليمه فمجموعها يفيد القطع كما تقدم في أول هذا الفصل(1) والذي أقول إنها كلها مشتهرة عند الناس، وأما من حيث الرواية فليست على حد سواء، فإن حنين الجذع وانشقاق القمر نقل كل منهما نقلا مستفيضا يفيد القطع عند من يطلع على طرق ذلك من أئمة الحديث دون غيرهم ممن لا ممارسة له في ذلك. وأما تسبيح الحصى فليست له إلا هذه الطريق الواحدة مع ضعفها، وأما تسليم الغزالة فلم نجد له إسنادا لا من وجه قوي ولا من وجه ضعيف، والله أعلم. الحديث الثامن: حديث جابر في قصة وفاء دين أبيه، أورده مختصرا وقد ذكره في مواضع أخرى مطولا. قوله: "حدثنا زكريا" هو ابن أبي زائدة،
ـــــــ
(1) العجيب أن يقول هذا شيعي، وهم في أوثق كتبهم ينقلون عن رواة معروفين بالكذب آيات عن غير المعصومين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم يكذب بعضها بعضا حتى لو لم يكن رواتها كذابين – محب الدين.

(6/592)


وعامر هو الشعبي. قوله: "أن أباه" هو عبد الله بن عمرو بن حرام بالمهملتين. وفي رواية مغيرة عن الشعبي في البيوع "توفي عبد الله بن عمرو بن حرام وعليه دين" وفي رواية فراس عن الشعبي في الوصايا "أن أباه استشهد يوم أحد وترك ست بنات وترك عليه دينا" وفي رواية وهب بن كيسان عن جابر "أن أباه توفي وترك عليه ثلاثين وسقا لرجل من اليهود، فاستنظره جابر فأبى أن ينظره، فكلم جابر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشفع له، فكلم اليهودي ليأخذ ثمر نخله بالذي له فأبى" وفي رواية ابن كعب بن مالك في الاستقراض والهبة عن جابر "أن أباه قتل يوم أحد شهيدا وعليه دين، فاشتد الغرماء في حقوقهم، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فكلمته، فسألهم أن يقبلوا تمر حائطي ويحللوا أبي فأبوا" ووقع عند أحمد من طريق نبيح العنزي عن جابر قال: "قال لي أبي: يا جابر لا عليك أن يكون في قطاري أهل المدينة حتى تعلم إلى ما يصير أمرنا - فذكر قصة قتل أبيه ودفنه قال - وترك أبي عليه دينا من التمر، فاشتد علي بعض غرمائه في التقاضي، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له وقلت: فأحب أن تعينني عليه لعله أن ينظرني طائفة من تمره إلى هذا الصرام المقبل، قال: نعم آتيك إن شاء الله قريبا من نصف النهار" فذكر الحديث في الضيافة وفيه: "ثم قال: ادع فلانا - لغريمي الذي اشتد في الطلب - فجاء فقال: أنظر جابرا طائفة من دينك الذي على أبيه إلى الصرام المقبل، فقال: ما أنا بفاعل، واعتل. وقال إنما هو مال يتامى". قوله: "وليس عندي إلا ما يخرج نخله" يعني أنه لم يترك مالا إلا البستان المذكور. قوله: "ولا يبلغ ما يخرج نخله سنين" أي في مدة سنين "ما عليه" أي من الدين. قوله: "فانطلق معي لكيلا يفحش علي الغرماء فمشى" فيه حذف تقديره: فقال نعم، فانطلق فوصل إلى الحائط فمشى. وقد تبين من الروايات الأخرى التصريح بما وقع من ذلك، ففي رواية مغيرة "فقال اذهب فصنف تمرك أصنافا، ثم أرسل إلي، ففعلت، فجاء فجلس على أعلاه" وفي رواية فراس في البيوع "اذهب فصنف تمرك أصنافا: العجوة على حدة، وعذق زيد على حدة" وقوله: عذق زيد بفتح المهملة، وزيد الذي نسب إليه اسم لشخص كأنه هو الذي كان ابتدأ غراسه فنسب إليه، والعجوة من أجود تمر المدينة. قوله: "بيدر" بفتح الموحدة وكسر المهملة وهو فعل أمر، أي اجعل التمر في البيادر كل صنف في بيدر، والبيدر بفتح الموحدة وسكون التحتانية وفتح الدال المهملة للتمر كالجرن للحب. قوله: "فدعا" في رواية ابن كعب بن مالك "فغدا علينا فطاف في النخل ودعا في تمره بالبركة" وفي رواية الديال بن حرملة عن جابر "فجاء هو وأبو بكر وعمر فاستقرأ النخل، يقوم تحت كل نخلة لا أدري ما يقول، حتى مر على آخرها" الحديث أخرجه أحمد. قوله: "ثم آخر" أي مشى حول بيدر آخر فدعا. وفي رواية فراس "فدخل النبي صلى الله عليه وسلم النخل فمشى فيها فقال أفرغوه" أي أفرغوه من البيدر. وفي رواية مغيرة "ثم قال: كل للقوم، فكلتهم حتى أوفيتهم" وفي رواية فراس "ثم قال لجابر: جد فأوف الذي له، فجده بعدما رجع النبي صلى الله عليه وسلم". قوله: "فأوفاهم الذي لهم وبقي مثل ما أعطاهم" في رواية مغيرة "وبقي تمري وكأنه لم ينقص منه شيء" وفي رواية ابن كعب "وبقي لنا من تمرها بقية" ووقع في رواية وهب بن كيسان "فأوفاه ثلاثين وسقا وفضلت له سبعة عشر وسقا"، ويجمع بالحمل على تعدد الغرماء، فكان أصل الدين كان منه ليهودي ثلاثون وسقا من صنف واحد فأوفاه وفضل من ذلك البيدر سبعة عشر وسقا، وكان منه لغير ذلك اليهودي أشياء أخر من أصناف أخرى فأوفاهم وفضل من المجموع قدر الذي أوفاه، ويؤيده قوله في رواية نبيح العنزي عن جابر "فكلت له من العجوة فأوفاه الله وفضل لنا من التمر كذا وكذا، وكلت له من أصناف التمر فأوفاه الله وفضل لنا

(6/593)


من التمر كذا وكذا" ووقع في رواية فراس عن الشعبي ما قد يخالف ذلك، فعنه "ثم دعوت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما نظروا إليه كأنما أغروا بي تلك الساعة" أي أنهم شددوا عليه في المطالبة لعداوتهم للنبي صلى الله عليه وسلم قال: "فلما رأى ما يصنعون طاف حول أعظمها بيدرا ثلاث مرات ثم جلس عليه ثم قال: ادعهم ، فما زال يكيل لهم حتى أدى الله أمانة والدي، وأنا راض أن يؤديها الله ولا أرجع إلى أخواتي بتمرة، فسلم الله البيادر كلها حتى أني أنظر إلى البيدر الذي عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه لم ينقص منه تمرة واحدة" ووجه المخالفة فيه أن ظاهره أن الكيل جميعه كان بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن التمر لم ينقص منه شيء البتة، والذي مضى ظاهره أن ذلك بعد رجوعه وأن بعض التمر نقص، ويجمع بأن ابتداء الكيل كان بحضرته صلى الله عليه وسلم وبقيته كان بعد انصرافه، وكان بعض البيادر التي أوفى منها بعض أصحاب الدين حيث كان بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينقص منه شيء البتة، ولما انصرف بقيت آثار بركته فلذلك أوفى من أحد البيادر ثلاثين وسقا وفضل سبعة عشر. وفي رواية نبيح ما يؤيد ذلك، ففي روايته قال: "كل له فإن الله سوف يوفيه" وفي حديثه "فإذا الشمس قد دلكت فقال: الصلاة يا أبا بكر، فاندفعوا إلى المسجد فقلت له - أي للغريم - قرب أوعيتك" وفيه: "فجئت أسعى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كأني شرارة، فوجدته قد صلى، فأخبرته فقال: أين عمر؟ فجاء يهرول. فقال: سل جابرا عن تمره وغريمه، فقال: ما أنا بسائله، قد علمت أن الله سيوفيه" الحديث. وقصة عمر قد وقعت في رواية ابن كعب ففيها "ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لعمر: اسمع يا عمر، قال: ألا نكون قد علمنا أنك رسول الله؟ والله إنك لرسول الله" وفي رواية وهب "فقال عمر: لقد علمت حين مشى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليباركن الله فيها" وقوله في رواية ابن كعب "ألا نكون" بفتح الهمزة وتشديد اللام في الروايات كلها، وأصلها أن الخفيفة ضمت إليها لا النافية، أي هذا السؤال إنما يحتاج إليه من لا يعلم أنك رسول الله فلذلك يشك في الخبر فيحتاج إلى الاستدلال، وأما من علم أن رسول الله فلا يحتاج إلى ذلك. وزعم بعض المتأخرين أن الرواية فيه بتخفيف اللام وأن الهمزة فيه للاستفهام التقريري فأنكر عمر عدم علمه بالرسالة فأنتج إنكاره ثبوت علمه بها، وهو كلام موجه، إلا أن الرواية إنما هي بالتشديد، وكذلك ضبطها عياض وغيره، وقيل: النكتة في اختصاص عمر بأعلامه بذلك أنه كان معتنيا بقصة جابر مهتما بشأنه مساعدا له على وفاء دين أبيه. وقيل لأنه كان حاضرا مع النبي صلى الله عليه وسلم لما مشى في النخل وتحقق أن التمر الذي فيه لا يفي ببعض الدين، فأراد إعلامه بذلك لكونه شاهد أول الأمر، بخلاف من لم يشاهد. ثم وجدت ذلك صريحا في بعض طرقه، ففي رواية أبي المتوكل عن جابر عند أبي نعيم فذكر الحديث وفيه: "فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمر فقال: انطلق بنا حتى نطوف بنخلك هذا" فذكر الحديث. وفي رواية أبي نضرة عن جابر عنده في هذه القصة قال: "فأتاه هو وعمر فقال: يا فلان خذ من جابر وأخر عنه، فأبى، فكاد عمر يبطش به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: مه يا عمر، هو حقه. ثم قال: اذهب بنا إلى نخلك" الحديث وفيه: "فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال: ائتني بعمر، فأتيته فقال: يا عمر سل جابرا عن نخله" فذكر القصة. ووقع في رواية الديال بن حرملة أن أبا بكر وعمر جميعا كانا مع النبي صلى الله عليه وسلم وقال في آخره: "قال فانطلق فأخبر أبا بكر وعمر، قال فانطلقت فأخبرتهما" الحديث، ونحوه في رواية وهب بن كيسان عن جابر، وجمع البيهقي بين مختلف الروايات في ذلك بأن اليهودي المذكور كان له دين من تمر، ولغيره من الغرماء ديون أخرى، فلما حضر الغرماء وطالبوا بحقوقهم وكال لهم جابر التمر ففضل تمر الحائط كأنه لم ينقص شيء فجاء اليهود بعدهم

(6/594)


فطالب بدينه فجد له جابر ما بقي على النخلات فأوفاه حقه منه وهو ثلاثون وسقا، وفضلت منه سبعة عشر، انتهى. وهذا الجمع يقتضي أنه لم يفضل من الذي في البيادر شيء وقد صرح في الرواية المتقدمة أنها فضلت كلها كأنه لم ينقص منها شيء، فما تقدم من الطريق التي جمعت به أولى، والله أعلم. وفي الحديث من الفوائد جواز الاستنظار في الدين الحال، وجواز تأخير الغريم لمصلحة المال الذي يوفى منه، وفيه مشى الإمام في حوائج رعيته، وشفاعته عند بعضهم في بعض. وفيه علم ظاهر من أعلام النبوة لتكثير القليل إلى أن حصل به وفاء الكثير وفضل منه. حديث عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق في قصة أضياف أبي بكر، والمراد منه تكثير الطعام القليل. قوله: "عن أبيه" هو سليمان بن طرخان التيمي أحد صغار التابعين. وفي رواية أبي النعمان عن معتمر "حدثنا أبي" كما تقدم في الصلاة. وأبو عثمان هو النهدي. قوله: "أن أصحاب الصفة كانوا أناسا فقراء" سيأتي ذكرهم في كتاب الرقاق، وأن الصفة مكان في مؤخر المسجد النبوي مظلل أعد لنزول الغرباء فيه ممن لا مأوى له ولا أهل، وكانوا يكثرون فيه ويقلون بحسب من يتزوج منهم أو يموت أو يسافر، وقد سرد أسماءهم أبو نعيم في "الحلية" فزادوا على المائة. قوله: "من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث" أي من أهل الصفة المذكورين. ووقع في رواية مسلم: "فليذهب بثلاثة" قال عياض: وهو غلط، والصواب رواية البخاري لموافقتها لسياق باقي الحديث. وقال القرطبي: إن حمل على ظاهره فسد المعنى، لأن الذي عنده طعام اثنين إذا ذهب معه بثلاثة لزم أن يأكله في خمسة وحينئذ لا يكفيهم ولا يسد رمقهم، بخلاف ما إذا ذهب بواحد فإنه يأكله في ثلاثة، ويؤيده قوله في الحديث الآخر "طعام الاثنين يكفي أربعة" أي القدر الذي يشبع الاثنين يسد رمق أربعة، ووجهها النووي بأن التقدير فليذهب بمن يتم من عنده ثلاثة، أو فليذهب بتمام ثلاثة. قوله: "ومن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس بسادس أو كما قال" أي فليذهب بخامس إن لم يكن عنده ما يقتضي أكثر من ذلك، وإلا فليذهب بسادس مع الخامس إن كان عنده أكثر من ذلك. والحكمة في كونه يزيد كل أحد واحدا فقط أن عيشهم في ذلك الوقت لم يكن متسعا، فمن كان عنده مثلا ثلاثة أنفس لا يضيق عليه أن يطعم الرابع من قوتهم، وكذلك الأربعة وما فوقها، بخلاف ما لو زيدت الأضياف بعدد العيال فإنما ذلك يحصل الاكتفاء فيه عند اتساع الحال. ووقع في رواية أبي النعمان "وإن أربع فخامس أو سادس" و "أو" فيه للتنويع أو للتخيير كما في الرواية الأخرى، ويحتمل أن يكون معنى "أو سادس" وإن كان عنده طعام خمس فليذهب بسادس، فيكون من عطف الجملة على الجملة. وقوله: "وإن أربع فخامس" بالجر فيهما، والتقدير فإن كان عنده طعام أربع فليذهب بخامس أو بسادس، فحذف عامل الجر وأبقى عمله، كما يقال مررت برجل صالح وإن لا صالح فطالح، أي إن لا أمر بصالح فقد مررت بطالح، ويجوز الرفع على حذف مضاف وإقامة المضاف إليه مقامه وهو أوجه، قال ابن مالك: تضمن هذا الحديث حذف فعلين وعاملي جر مع بقاء عملهما بعد إن وبعد الفاء، والتقدير من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث، وإن قام بأربعة فليذهب بخامس أو سادس اهـ. وهذا قاله في الرواية التي في الصلاة، وأما هذه الرواية وهي قوله: "بخامس بسادس" فيكون حذف منها شيء آخر والتقدير أو إن قام بخمسة فليذهب بسادس قوله: "وإن أبا بكر جاء بثلاثة وانطلق النبي صلى الله عليه وسلم بعشرة" عبر عن أبي بكر بلفظ المجيء لبعد منزله من المسجد، وعن النبي صلى الله عليه وسلم بالانطلاق لقربه. وقوله بعد ذلك "وأبو بكر ثلاثة" بالنصب للأكثر أي أخذ ثلاثة فلا يكون قوله قبل ذلك "جاء بثلاثة" تكرارا لأن هذا

(6/595)


بيان لابتداء ما جاء في نصيبه، والأول لبيان من أحضرهم إلى منزله. وأبعد من قال ثلاثة بالرفع وقدره وأبو بكر أهله ثلاثة أي عدد أضيافه، ودل ذلك على أن أبا بكر كان عنده طعام أربعة ومع ذلك فأخذ خامسا وسادسا وسابعا فكأن الحكمة في أخذه واحدا زائدا عما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنه أراد أن يؤثر السابع بنصيبه إذ ظهر له أنه لم يأكل أولا معهم. ووقع في رواية الكشميهني: "وأبو بكر بثلاثة، فيكون معطوفا على قوله: "وانطلق النبي" أي وانطلق أبو بكر بثلاثة وهي رواية مسلم، والأول أوجه، والله أعلم. قوله: "قال فهو أنا وأبي وأمي" القائل هو عبد الرحمن بن أبي بكر، قوله: "فهو" أي الشأن، وقوله: "أنا" مبتدأ وخبره محذوف يدل عليه السياق وتقديره في الدار. قوله: "ولا أدري هل قال امرأتي وخادمي" في رواية الكشميهني: "وخادم" بغير إضافة، والقائل "هل قال" هو أبو عثمان الراوي عن عبد الرحمن كأنه شك في ذلك، وقوله: "بين بيتنا" أي خدمتها مشتركة بين بيتنا وبيت أبي بكر، وهو ظرف للخادم، وأم عبد الرحمن هي أم رومان مشهورة بكنيتها، واسمها زينب وقيل: وعلة بنت عامر بن عويمر وقيل عميرة، من ذرية الحارث بن غنم بن مالك بن كنانة، كانت قبل أبي بكر عند الحارث بن سخبرة الأزدي فقدم مكة فمات وخلف منها ابنه الطفيل، فتزوجها أبو بكر فولدت له عبد الرحمن وعائشة، وأسلمت أم رومان قديما وهاجرت ومعها عائشة، أما عبد الرحمن فتأخر إسلامه وهجرته إلى هدنة الحديبية، فقدم في سنة سبع أو أول سنة ثمان، واسم امرأته - والدة أكبر أولاده أبي عتيق محمد - أميمة بنت عدي بن قيس السهمية والخادم لم أعرف اسمها. قوله: "وإن أبا بكر تعشى عند النبي صلى الله عليه وسلم ثم لبث حتى صلى العشاء ثم رجع" ووقع في الرواية التي في الصلاة "ثم لبث حتى صليت العشاء" وفي رواية: "حيث صليت ثم رجع" فشرحه الكرماني فقال: هذا يشعر بأن تعشي أبي بكر كان بعد الرجوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والذي تقدم بعكسه، والجواب أن الأول بيان حال أبي بكر في عدم احتياجه إلى الطعام عند أهله، والثاني فيه سياق القصة على الترتيب الواقع: الأول تعشي الصديق والثاني تعشي النبي صلى الله عليه وسلم. والأول من العشاء بفتحها أي الأكل، والثاني بكسرها أي الصلاة. فأحد هذه الاحتمالات أن أبا بكر لما جاء بالثلاثة إلى منزله لبث إلى وقت صلاة العشاء فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم حتى تعشى عنده، وهذا لا يصح لأنه يخالف صريح قوله في حديث الباب: "وإن أبا بكر تعشى عند النبي صلى الله عليه وسلم" ثم إن الذي وقع عند البخاري بلفظ: "ثم رجع" بالجيم ليس متفقا عليه من الرواة لما سأذكره، وظاهر قوله في هذه الرواية: "ثم رجع" أي إلى منزله، وعلى هذا ففي قوله: "فلبث حتى تعشى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء بعدما مضى من الليل ما شاء الله" تكرار وفائدته الإشارة إلى أن تأخره عند النبي صلى الله عليه وسلم كان بمقدار أن تعشى معه وصلى العشاء وما رجع إلى منزله إلا بعد أن مضى من الليل قطعة، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب أن يؤخر صلاة العشاء كما تقدم في حديث أبي برزة، ووقع عند الإسماعيلي: "ثم رجع" بالكاف أي صلى النافلة بعد العشاء، فعلى هذا فالتكرار في قوله: "فلبث حتى تعشى" فقط، وفائدته ما تقدم. ووقع في رواية مسلم والإسماعيلي أيضا: "فلبث حتى نعس"، بعين وسين مهملتين مفتوحتين من النعاس وهو أوجه. وقال عياض إنه الصواب، وبه ينتفي التكرار من المواضع كلها إلا في قوله: "لبث" وسببه اختلاف تعلق اللبث فالأول قال: "لبث حتى صلى العشاء" ثم قال: "فلبث حتى نعس" والحاصل أنه تأخر عند النبي صلى الله عليه وسلم حتى صلى العشاء ثم تأخر حتى نعس النبي صلى الله عليه وسلم وقام لينام فرجع أبو بكر حينئذ إلى بيته، وقد ترجم عليه المصنف في أبواب الصلاة قبيل الأذان "باب السمر مع الضيف والأهل" وأخذه من كون أبي بكر رجع إلى أهله

(6/596)


وضيفانه بعد أن صلى العشاء مع النبي صلى الله عليه وسلم فدار بينهم وبينه ما ذكر في الحديث. ووقع في رواية أبي داود من رواية الجريري عن أبي عثمان أو أبي السليل عن عبد الرحمن بن أبي بكر قال: "نزل بنا أضياف، وكان أبو بكر يتحدث عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لا أرجع إليك حتى تفرغ من ضيافة هؤلاء" ونحوه يأتي في الأدب من طريق أخرى عن الجريري عن أبي عثمان بلفظ: "أن أبا بكر تضيف رهطا، فقال لعبد الرحمن: دونك أضيافك، فإني منطلق إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأفرغ من قراهم قبل أن أجيء" وهذا يدل على أن أبا بكر أحضرهم إلى منزله وأمر أهله أن يضيفوهم ورجع هو إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ويدل عليه صريح قوله في حديث الباب: "وإن أبا بكر جاء بثلاثة". قوله: "قالت له امرأته ما حبسك من أضيافك؟" في رواية الكشميهني: "عن أضيافك" وكذا هو في الصلاة ورواية مسلم. قوله: "أو ضيفك" شك من الراوي، والمراد به الجنس لأنهم ثلاثة، واسم الضيف يطلق على الواحد وما فوقه. وقال الكرماني: أو هو مصدر يتناول المثنى والجمع، كذا قال وليس بواضح. قوله: "أو عشيتهم" في رواية الكشميهني: "أو ما عشيتهم" بزيادة ما النافية، وكذا في رواية مسلم والإسماعيلي، والهمزة للاستفهام والواو للعطف على مقدر بعد الهمزة، وفي بعضها عشيتهم بإشباع الكسرة. قوله: "قد عرضوا عليهم" بفتح العين والراء والفاعل محذوف أي الخدم أو الأهل أو نحو ذلك، "فغلبوهم" أي أن آل أبي بكر عرضوا على الأضياف العشاء فأبوا فعالجوهم فامتنعوا حتى غلبوهم. وفي الرواية التي في الصلاة "قد عرضوا" بضم أوله وتشديد الراء أي أطعموا من العراضة وهي الهدية، قاله عياض، قال وهو في الرواية بتخفيف الراء، وحكى ابن قرقول أن القياس بتشديد الراء وبه جزم الجوهري. وقال الكرمان موجها للتخفيف: أي عرض الطعام عليهم، فحذف الجار ووصل الفعل فهو من القلب كعرضت الناقة على الحوض. ووقع في الصلاة "قد عرضنا عليهم فامتنعوا" وحكى ابن التين أنه وقع في بعض الروايات عرصوا بصاد مهملة، قال ولا أعرف لها وجها ووجهها غيره أنها من قولهم عرص إذا نشط، فكأنه يريد أنهم نشطوا في العزيمة عليهم، ولا يخفى تكلفه. وفي رواية الجريري "فانطلق عبد الرحمن فأتاهم بما عنده فقال: اطعموا، قالوا: أين رب منزلنا؟ قال: اطعموا. قالوا: ما نحن بآكلين حتى يجيء. قال: اقبلوا عنا قراكم، فإنه إن جاء ولم تطعموا لنلقين منه - أي شرا - فأبوا" وفي رواية مسلم: "ألا تقبلوا عنا قراكم؟" ضبطه عياض عن الأكثر بتخفيف اللام على استفتاح الكلام، قال القرطبي: ويلزم عليه أن تثبت النون في "تقبلون" إذ لا موجب لحذفها، وضبطها ابن أبي جعفر بتشديد اللام وهو الوجه. قوله: "قال فذهبت فاختبأت" أي خوفا من خصام أبي بكر له وتغيظه عليه. وفي رواية الجريري "فعرفت أنه يجد علي" أي يغضب "فلما جاء تغيبت عنه، فقال: يا عبد الرحمن، فسكت. ثم قال: يا عبد الرحمن، فسكت". قوله: "فقال يا غنثر فجدع وسب" في رواية الجريري فقال: يا غنثر أقسمت عليك إن كنت تسمع صوتي لما جئت، قال فخرجت فقلت والله ما لي ذنب، هؤلاء أضيافك فسلهم. قالوا صدقك قد أتانا. وقوله: "فجدع وسب" أي دعا عليه بالجدع وهو قطع الأذن أو الأنف أو الشفة، وقيل: المراد به السب، والأول أصح. وفي رواية الجريري "فجزع" بالزاي بدل الدال أي نسبه إلى الجزع بفتحتين وهو الخوف، وقيل: المجازعة المخاصمة فالمعنى خاصم، قال القرطبي: ظن أبو بكر أن عبد الرحمن فرط في حق الأضياف، فلما تبين له الحال أدبهم بقوله كلوا لا هنيئا، وسب أي شتم. وحذف المفعول للعلم به. قوله: "غنثر" بضم المعجمة وسكون النون وفتح المثلثة، هذه الرواية المشهورة، وحكي ضم المثلثة، وحكى عياض عن

(6/597)


بعض شيوخه فتح أوله مع فتح المثلثة، وحكاه الخطابي بلفظ: "عنتر" بلفظ اسم الشاعر المشهور وهو المهملة والمثناة المفتوحتين بينهما النون الساكنة، وروى عن أبي عمر عن ثعلب أن معناه الذباب، وأنه سمي بذلك لصوته فشبهه به حيث أراد تحقيره وتصغيره. وقال غيره: معنى الرواية المشهورة الثقيل الوخم وقيل: الجاهل وقيل: السفيه وقيل اللئيم، وهو مأخوذ من الغثر ونونه زائدة، وقيل: هو ذباب أزرق شبهه به لتحقيره كما تقدم. قوله: "وقال كلوا" زاد في الصلاة "لا هنيئا" وكذا في رواية مسلم أي لا أكلتم هنيئا وهو دعاء عليهم، وقيل خبر أي لم تتهنئوا في أول نضجه، ويستفاد من ذلك جواز الدعاء على من لم يحصل منه الإنصاف ولا سيما عند الحرج والتغيظ، وذلك أنهم تحكموا على رب المنزل بالحضور معهم ولم يكتفوا بولده مع إذنه لهم في ذلك، وكأن الذي حملهم على ذلك رغبتهم في التبرك بمؤاكلته، ويقال إنه إنما خاطب بذلك أهله لا الأضياف، وقيل: لم يرد الدعاء وإنما أخبر أنهم فاتهم الهناء به إذا لم يأكلوه في وقته. قوله: "وقال لا أطعمه أبدا" في رواية مسلم وكذا هو في الصلاة "فقال: والله لا أطعمه أبدا" وفي رواية الجريري "فقال فإنما انتظرتموني، والله لا أطعمه أبدا، فقال الآخر والله لا نطعمه" وفي رواية أبي داود من هذا الوجه "فقال أبو بكر فما منعكم؟ قالوا: مكانك. قال والله لا أطعمه أبدا. ثم اتفقا فقال: لم أر في الشر كالليلة، ويلكم ما أنتم؟ لم تقبلون عنا قراكم. هات طعامك، فوضع فقال: بسم الله الأول من الشيطان فأكل وأكلوا" قال ابن التين: لم يخاطب أبو بكر أضيافه بذلك إنما خاطب أهله، والرواية التي ذكرتها ترد عليه. ووقع في رواية مسلم: "ألا تقبلون" وهو بتشديد اللام للأكثر، ولبعضهم بتخفيفها. قوله: "وايم الله" همزته همزة وصل عند الجمهور وقيل: يجوز القطع، وهو مبتدأ وخبره محذوف أي أيم الله قسمي، وأصله أيمن الله فالهمزة حينئذ همزة قطع لكنها لكثرة الاستعمال خففت فوصلت، وحكي فيها لغات: أيمن الله مثلثة النون، ومن الله مختصرة من الأولى مثلثة النون أيضا، وأيم الله كذلك، وم الله كذلك، بكسر الهمزة أيضا، وأم الله. قال ابن مالك: وليس الميم بدلا من الواو ولا أصلها من خلافا لمن زعم ذلك. ولا أيمن، جمع يمين خلافا للكوفيين، وسيأتي تمام هذا في كتاب الأيمان والنذور. قوله: "ألا ربا" أي زاد، وقوله: "من أسفلها" أي الموضع الذي أخذت منه. قوله: "فنظر أبو بكر فإذا شيء أو أكثر" والتقدير فإذا هي شيء أي قدر الذي كان، كذا عند والمصنف هنا، ووقع في الصلاة "فإذا هي - أي الجفنة - كما هي" أي كما كانت أولا أو أكثر، وكذلك في رواية مسلم والإسماعيلي وهو الصواب. قوله: "يا أخت بني فراس" زاد في الصلاة "ما هذا" وخاطب أبو بكر بذلك امرأته أم رومان، وبنو فراس بكسر الفاء وتخفيف الراء وآخره مهملة ابن غنم بن مالك بن كنانة. وقال النووي: التقدير ما من هي من بني فراس وفيه نظر، والعرب تطلق على من كان منتسبا إلى قبيلة أنه أخوهم كما تقدم في العلم "ضمام أخو بني سعد بن بكر" وقد تقدم أن أم رومان من ذرية الحارث بن غنم وهو أخو فراس بن غنم فلعل أبا بكر نسبها إلى بني فراس لكونهم أشهر من بني الحارث ويقع في النسب كثير من ذلك، وينسبون أحيانا إلى أخي جدهم، أو المعنى يا أخت القوم المنتسبين إلى بني فراس، ولا شك أن الحارث أخو فراس فأولاد كل منهما إخوة للآخرين لكونهم في درجتهم، وحكى عياض أنه قيل في أم رومان إنها من بني فراس بن غنم لا من بني الحارث وعلى هذا فلا حاجة إلى هذا التأويل، ولم أر في كتاب ابن سعد لها نسبا إلا إلى بني الحارث بن غنم ساق

(6/598)


لها نسبين مختلفين، فالله أعلم. قوله: "قالت لا وقرة عيني" قرة العين يعبر بها عن المسرة ورؤية ما يحبه الإنسان ويوافقه، يقال ذلك لأن عينه قرت أي سكنت حركتها من التلفت لحصول غرضها فلا تستشرف لشيء آخر، فكأنه مأخوذ من القرار، وقيل: معناه أنام الله عينك وهو يرجع إلى هذا، وقيل: بل هو مأخوذ من القر وهو البرد أي أن عينه باردة لسروره، ولهذا قيل دمعة الحزن حارة، ومن ثم قيل في ضده أسخن الله عينه، وإنما حلفت أم رومان بذلك لما وقع عندها من السرور بالكرامة التي حصلت لهم ببركة الصديق رضي الله عنه. وزعم الداودي أنها أرادت بقرة عينها النبي صلى الله عليه وسلم فأقسمت به، وفيه بعد. و"لا" في قولها: "لا وقرة عيني " زائدة أو نافية على حذف، تقديره لا شيء غير ما أقول. قوله: "لهي" أي الجفنة أو البقية "أكثر مما قبل" كذا هنا. وفي رواية مسلم: "أكثر منها قبل" وهو أوجه، و "أكثر" للأكثر بالمثلثة ولبعضهم بالموحدة. قوله: "فأكل منها أبو بكر وقال إنما كان الشيطان يعني يمينه" كذا هنا وفيه حذف تقدمها تقديره: وإنما كان الشيطان الحامل على ذلك، يعني الحامل على يمينه التي حلفها في قوله: "والله لا أطعمه" ووقع عند مسلم والإسماعيلي: "وإنما كان ذلك من الشيطان" يعني يمينه وهو أوجه. وأبعد من قال: الضمير في قوله: "هذه اللقمة" للتي أكل أي هذه اللقمة لقمع الشيطان وإرغامه. لأنه قصد بتزيينه له اليمين إيقاع الوحشة بينه وبين أضيافه، فأخزاه أبو بكر بالحنث الذي هو خير، وظاهر هذا السياق مخالف لرواية الجريري، فقال عياض: في هذا السياق خطأ وتقديم وتأخير، ثم ذكر ما حاصله أن الصواب ما في رواية الجريري، وهو أن رواية سليمان التيمي هذه تقتضي أن سبب أكل أبي بكر من الطعام ما رآه من البركة فيه فرغب في الأكل منه وأعرض عن يمينه التي حلف لما رجح عنده من التناول من البركة، ورواية الجريري تقتضي أن سبب أكله من الطعام لجاج الأضياف وحلفهم بأنهم لا يطعمون من الطعام حتى يأكل أبو بكر، ولا شك في كونها أوجه، لكن يمكن رد رواية سليمان التيمي إليها بأن يكون قوله: "فأكل منها أبو بكر" معطوفا على قوله: "والله لا أطعمه" لا على القصة التي دلت على بركة الطعام، وغايته أن حلف الأضياف أن لا يطعموه لم يقع في رواية سليمان والله أعلم. ثم ظهر لي أن ذلك من معتمر بن سليمان لا من أبيه، فقد وقع في الأدب عند المصنف من رواية ابن أبي عدي عن سليمان التيمي "فحلفت المرأة لا تطعمه حتى تطعموه، فقال أبو بكر كأن هذه من الشيطان، فدعا بالطعام فأكل وأكلوا، فجعلوا لا يرفعون اللقمة إلا ربا من أسفلها" ويحتمل أن يجمع بأن يكون أبو بكر أكل لأجل تحليل يمينهم شيئا، ثم لما رأى البركة الظاهرة عاد فأكل منها لتحصل له وقال كالمعتذر عن يمينه التي حلف "إنما كان ذلك من الشيطان" والحاصل أن الله أكرم أبا بكر فأزال ما حصل له من الحرج، فعاد مسرورا، وانفك الشيطان مدحورا. واستعمل الصديق مكارم الأخلاق فحنث نفسه زيادة في إكرام ضيفانه ليحصل مقصوده من أكلهم. ولكونه أكثر قدرة منهم على الكفارة. ووقع في رواية الجريري عند مسلم: "فقال أبو بكر: يا رسول الله بروا وحنثت، فقال: بل أنت أبرهم وخيرهم. قال: ولم يبلغني كفارة " وسقط ذلك من رواية الجريري عند المصنف، وكأن سبب حذفه لهذه الزيادة أن فيها إدراجا بينته رواية أبي داود حيث جاء فيها "فأخبرت - بضم الهمزة - أنه أصبح فغدا على النبي صلى الله عليه وسلم إلخ" وقوله: "أبرهم" أي أكثرهم برا أي طاعة، وقوله: "وخيرهم" أي لأنك حنثت في يمينك حنثا مندوبا إليه مطلوبا فأنت أفضل منهم بهذا الاعتبار، وقوله: "ولم يبلغني كفارة" استدل به على أنه لا تجب الكفارة في يمين اللجاج والغضب، ولا حجة فيه لأنه لا يلزم

(6/599)


من عدم الذكر عدم الوجود، فلمن أثبت الكفارة أن يتمسك بعموم قوله: "ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين" ويحتمل أن يكون ذلك وقع قبل مشروعية الكفارة في الأيمان، لكن يعكر عليه ما سيأتي من حديث عائشة أن أبا بكر لم يكن يحنث في يمين حتى نزلت الكفارة. وقال النووي: قوله: "ولم تبلغني كفارة" يعني أنه لم يكفر قبل الحنث، فأما وجوب الكفارة فلا خلاف فيه، كذا قال. وقال غيره: يحتمل أن يكون أبو بكر لما حلف أن لا يطعمه أضمر وقتا معينا أو صفة مخصوصة، أي لا أطعمه معكم أو عند الغضب، وهو مبني على أن اليمين هل تقبل التقييد في النفس أم لا؟ ولا يخفى ما فيه من التكلف. وقول أبي بكر "والله لا أطعمه أبدا" يمين مؤكدة ولا تحتمل أن تكون من لغو الكلام ولا من سبق اللسان. قوله: "ثم حملها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأصبحت عنده" أي الجفنة على حالها، وإنما لم يأكلوا منها في الليل لكون ذلك وقع بعد أن مضى من الليل مدة طويلة. قوله: "ففرقنا اثنا عشر رجلا من كل رجل منهم أناس" كذا هو هنا من التفريق أي جعلهم اثنتي عشرة فرقة، وحكى الكرماني أن في بعض الروايات "فقرينا" بقاف وتحتانية من القرى وهو الضيافة، ولم أقف على ذلك. قوله: "اثنا عشر رجلا" كذا للمصنف، وعند مسلم اثني عشر بالنصب وهو ظاهر، والأول على طريق من يجعل المثنى بالرفع في الأحوال الثلاثة ومنه قوله تعالى: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ}، ويحتمل أن يكون "ففرقنا" بضم أوله على البناء للمجهول، فارتفع اثنا عشر على أنه مبتدأ وخبره مع كل رجل منهم. قوله: "الله أعلم كم مع كل رجل غير أنه بعث معهم" يعني أنه تحقق أنه جعل عليهم اثنا عشر عريفا لكنه لا يدري كم كان تحت يد كل عريف منهم لأن ذلك يحتمل الكثرة والقلة، غير أنه يتحقق أنه بعث معهم - أي مع كل ناس - عريفا. قوله: "قال أكلوا منها أجمعون أو كما قال" هو شك من أبي عثمان في لفظ عبد الرحمن، وأما المعنى فالحاصل أن جميع الجيش أكلوا من تلك الجفنة التي أرسل بها أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وظهر بذلك أن تمام البركة في الطعام المذكور كانت عند النبي صلى الله عليه وسلم لأن الذي وقع فيها بيت أبي بكر ظهور أوائل البركة فيها، وأما انتهاؤها إلى أن تكفي الجيش كلهم فما كان إلا بعد أن صارت عند النبي صلى الله عليه وسلم على ظاهر الخبر، والله أعلم. وقد روى أحمد والترمذي والنسائي من حديث سمرة قال: "أتي النبي صلى الله عليه وسلم بقصعة فيها ثريد فأكل وأكل القوم، فما زالوا يتداولونها إلى قريب من الظهر يأكل قوم ثم يقومون ويجيء قوم فيتعاقبونه، فقال رجل: هل كانت تمد بطعام؟ قال: أما من الأرض فلا إلا أن تكون كانت تمد من السماء". قال بعض شيوخنا يحتمل أن تكون هذه القصعة هي التي وقع فيها في بيت أبي بكر ما وقع، والله أعلم. وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدم التجاء الفقراء إلى المساجد عند الاحتياج إلى المواساة إذا لم يكن في ذلك إلحاح ولا إلحاف ولا تشويش على المصلين، وفيه استحباب مواساتهم عند اجتماع هذه الشروط، وفيه التوظيف في المخمصة، وفيه جواز الغيبة عن الأهل والولد والضيف إذا أعدت لهم الكفاية، وفيه تصرف المرأة فيما تقدم للضيف والإطعام بغير إذن خاص من الرجل، وفيه جواز سب الوالد للولد على وجه التأديب والتمرين على أعمال الخير وتعاطيه، وفيه جواز الحلف على ترك المباح، وفيه توكيد الرجل الصادق لخبره بالقسم، وجواز الحنث بعد عقد اليمين، وفيه التبرك بطعام الأولياء والصلحاء، وفيه عرض الطعام الذي تظهر فيه البركة على الكبار وقبولهم ذلك، وفيه العمل بالظن الغالب لأن أبا بكر ظن أن عبد الرحمن فرط في أمر الأضياف فبادر إلى سبه وقوى القرينة عنده اختباؤه منه، وفيه ما يقع من لطف الله تعالى بأوليائه وذلك أن

(6/600)


خاطر أبي بكر تشوش وكذلك ولده وأهله وأضيافه بسبب امتناعهم من الأكل، وتكدر خاطر أبي بكر من ذلك حتى احتاج إلى ما تقدم ذكره من الحرج بالحلف وبالحنث وبغير ذلك، فتدارك الله ذلك ورفعه عنه بالكرامة التي أبداها له، فانقلب ذلك الكدر صفاء والنكد سرورا ولله الحمد والمنة. حديث أنس في الاستسقاء والمراد منه وقوع إجابة الدعاء في الحال، وقد تقدم شرحه في الاستسقاء، وأورده هنا من طريقين لحماد بن زيد، فقوله: "وعن يونس" هو ابن عبيد وهو معطوف على قوله: "عن عبد العزيز بن صهيب"، وحاصله أن حمادا سمعه عن أنس عاليا ونازلا، وذلك لأنه سمع من ثابت وحدث عنه هنا بواسطة، وذكر البزار أن حمادا تفرد بطريق يونس بن عبيد هذه قوله: "وغيره يقول فعرفنا" وهو من للعرافة، وكذا اختلفت الرواة عند مسلم هل قال فرقنا أو عرفنا. وفي رواية الإسماعيلي: "فعرفنا" من العرافة وجها واحدا، وسمي العريف عريفا لأنه يعرف الإمام أحوال العسكر. وزعم الكرماني أن فيه حذفا تقديره فرجعنا إلى المدينة فعرفنا، قلت: ولا يتعين ذلك لجواز أن يكون تعريفهم وإرسالهم قبل الرجوع إلى المدينة. قوله: "هلكت الكراع" بضم أوله وحكي عن رواية الأصيلي كسرها وخطئ، والمراد به الخيل، وقد يطلق على غيرها من الحيوان، لكن المراد به هنا الحقيقة لأنه عطف عليه بعد ذلك غيره. قوله: "كمثل الزجاجة" أي من شدة الصفاء ليس فيها شيء من السحاب. قوله: "فهاجت ريح أنشأت سحابا" قال بعض شراح البخاري: هذا فيه نظر، لأنه إنما يقال نشأ السحاب إذا ارتفع وأنشأ الله السحاب لقوله: {وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ}. قلت: المراد في حديث الباب الثاني، ونسبة الإنشاء إلى الريح مجازية وذلك بإذن الله، والأصل أن الكل بإنشاء الله وهو كقوله: {أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} وقد تقدم في بدء الخلق أن الريح تلقح السحاب. قوله: "عزاليها" بالزاي الخفيفة واللام المفتوحة بعدها تحتانية ساكنة تثنية عزلي، وقد تقدم ضبطها وتفسيرها قريبا. قوله: "فقام إليه ذلك الرجل أو غيره" تقدم في الاستسقاء ما يقرب أنه خارجة بن حصن الفزاري، وما يوضح أن الذي قام أولا هو الذي قام ثانيا، وأن أنسا جزم به تارة وشك فيه أخرى. قوله: "تصدع" في رواية الكشميهني تتصدع وهو الأصل. قوله: "إكليل" بكسر الهمزة وسكون الكاف هي العصابة التي تحيط بالرأس، وأكثر ما تستعمل فيما إذا كانت العصابة مكللة بالجوهر وهي من سمات ملوك الفرس، وقد قيل: إن أصله ما أحاط بالظفر من اللحم ثم أطلق على كل ما أحاط بشيء. والله أعلم.
3583- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ كَثِيرٍ أَبُو غَسَّانَ حَدَّثَنَا أَبُو حَفْصٍ وَاسْمُهُ عُمَرُ بْنُ الْعَلاَءِ أَخُو أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلاَءِ قَالَ سَمِعْتُ نَافِعًا عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ إِلَى جِذْعٍ فَلَمَّا اتَّخَذَ الْمِنْبَرَ تَحَوَّلَ إِلَيْهِ فَحَنَّ الْجِذْعُ فَأَتَاهُ فَمَسَحَ يَدَهُ عَلَيْهِ " وَقَالَ عَبْدُ الْحَمِيدِ أَخْبَرَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ أَخْبَرَنَا مُعَاذُ بْنُ الْعَلاَءِ عَنْ نَافِعٍ بِهَذَا وَرَوَاهُ أَبُو عَاصِمٍ عَنْ ابْنِ أَبِي رَوَّادٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
3584- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَيْمَنَ قَالَ سَمِعْتُ أَبِي عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُومُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِلَى شَجَرَةٍ أَوْ نَخْلَةٍ فَقَالَتْ امْرَأَةٌ مِنْ الأَنْصَارِ أَوْ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلاَ نَجْعَلُ لَكَ مِنْبَرًا قَالَ إِنْ شِئْتُمْ فَجَعَلُوا لَهُ مِنْبَرًا فَلَمَّا كَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ دُفِعَ إِلَى الْمِنْبَرِ فَصَاحَتْ

(6/601)


النَّخْلَةُ صِيَاحَ الصَّبِيِّ ثُمَّ نَزَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضَمَّهُ إِلَيْهِ تَئِنُّ أَنِينَ الصَّبِيِّ الَّذِي يُسَكَّنُ قَالَ كَانَتْ تَبْكِي عَلَى مَا كَانَتْ تَسْمَعُ مِنْ الذِّكْرِ عِنْدَهَا".
3585- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي أَخِي عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلاَلٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ أَخْبَرَنِي حَفْصُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ: "كَانَ الْمَسْجِدُ مَسْقُوفًا عَلَى جُذُوعٍ مِنْ نَخْلٍ فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا خَطَبَ يَقُومُ إِلَى جِذْعٍ مِنْهَا فَلَمَّا صُنِعَ لَهُ الْمِنْبَرُ وَكَانَ عَلَيْهِ فَسَمِعْنَا لِذَلِكَ الْجِذْعِ صَوْتًا كَصَوْتِ الْعِشَارِ حَتَّى جَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهَا فَسَكَنَتْ".
الحديث الحادي عشر والثاني عشر حديث ابن عمر فقوله في الطريق الأولى "حدثنا أبو حفص واسمه عمر بن العلاء أخو عمرو بن العلاء" تسمية أبي حفص لم أرها إلا في رواية البخاري، والظاهر أنه هو الذي سماه، وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق بندار عن يحيى بن كثير فقال: "حدثنا أبو حفص بن العلاء" فذكر الحديث ولم يسمه، وقد تردد الحاكم أبو أحمد في ذلك فذكر في ترجمة أبي حفص في الكنى هذا الحديث فساقه من طريق عبد الله بن رجاء الغداني "حدثنا أبو حفص بن العلاء" فذكر حديث الباب ولم يقل اسمه عمر، ثم ساقه من طريق عثمان بن عمر عن معاذ بن العلاء به، ثم أخرج من طريق معتمر بن سليمان "عن معاذ بن العلاء أبي غسان قال" وكذا ذكر البخاري في التاريخ أن معاذ بن العلاء يكنى أبا غسان، قال الحاكم: فالله أعلم أنهما أخوان أحدهما يسمى عمر والآخر يسمى معاذا وحدثا معا عن نافع بحديث الجذع أو أحد الطريقين غير محفوظ، لأن المشهور من أولاد العلاء أبو عمرو صاحب القراءات وأبو سفيان ومعاذ، فأما أبو حفص عمر فلا أعرفه إلا في الحديث المذكور، والله أعلم. قلت: وليس لمعاذ ولا لعمر في البخاري ذكر إلا في هذا الموضع، وأما أبو عمرو بن العلاء فهو أشهر الإخوة وأجلهم، وهو إمام القراءات بالبصرة، وشيخ العربية بها، وليس له أيضا في البخاري رواية ولا ذكر إلا في هذا الموضع، واختلف في اسمه اختلافا كثيرا والأظهر أن اسمه كنيته وأما أخوه أبو سفيان بن العلاء فأخرج حديثه الترمذي. قوله: "فأتاه فمسح يده عليه" في رواية الإسماعيلي من طريق يحيى بن السكن عن معاذ "فأتاه فاحتضنه فسكن فقال: لو لم أفعل لما سكن" ونحوه في حديث ابن عباس عند الدارمي بلفظ: "لو لم أحتضنه لحن إلى يوم القيامة" ولأبي عوانة وابن خزيمة وأبي نعيم في حديث أنس "والذي نفسي بيده لو لم ألتزمه لما زال هكذا إلى يوم القيامة حزنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أمر به فدفن" وأصله في الترمذي دون الزيادة، ووقع في حديث الحسن عن أنس: كان الحسن إذا حدث بهذا الحديث يقول: يا معشر المسلمين الخشبة تحن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شوقا إلى لقائه فأنتم أحق أن تشتاقوا إليه. وفي حديث أبي سعيد عند الدارمي "فأمر به أن يحفر له ويدفن" وفي حديث سهل بن سعد عند أبي نعيم "فقال: ألا تعجبون من حنين هذه الخشبة؟ فأقبل الناس عليها فسمعوا من حنينها حتى كثر بكاؤهم" قوله: "وقال عبد الحميد أخبرنا عثمان بن عمر" عبد الحميد هذا لم أر من ترجم له في رجال البخاري، إلا أن المزي ومن تبعه جزموا بأنه عبد بن حميد الحافظ المشهور وقالوا كان اسمه عبد الحميد وإنما قيل له عبد بغير إضافة تخفيفا، وقد راجعت الموجود من مسنده وتفسيره فلم أر هذا الحديث فيه، نعم وجدته من حديث رفيقه عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي أخرجه في مسنده المشهور عن عثمان بن عمر بهذا الإسناد. قوله: "أخبرنا معاذ بن العلاء" في رواية الإسماعيلي من طريق أبي عبيدة الحداد "عن معاذ بن العلاء" وهو أخو أبي عمرو بن العلاء القارئ. قوله: "عن نافع" في رواية الإسماعيلي وابن حبان: "سمعت نافعا". قوله: "ورواه أبو عاصم" هو النبيل من كبار شيوخ البخاري. قوله: "عن ابن أبي رواد" يعني عبد العزيز ورواد بفتح الراء المهملة وتشديد الواو اسمه ميمون، وطريق أبي عاصم هذه وصلها البيهقي من طريق سعيد بن عمر عن أبي عاصم مطولا، وأخرجه أبو داود عن الحسن بن علي عن أبي عاصم مختصرا. حديث جابر فقوله في الطريق الأولى: "كان يقوم إلى شجرة أو نخلة" هو شك من الراوي، وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق وكيع عن عبد الواحد "فقام إلى نخلة" ولم يشك. وقوله: "فقالت امرأة من الأنصار أو رجل" شك من الراوي والمعتمد الأول، وقد تقدم بيانه في كتاب الجمعة والخلاف في اسمها

(6/602)


والكلام على المتن مستوفى. قوله: "دفع" بضم أوله بالدال وللكشميهني بالراء. قوله: "فضمه إليه" أي الجذع، في رواية الكشميهني: "فضمها" أي الخشبة. قوله في الطريق الأخرى "حدثنا إسماعيل" هو ابن أبي أويس، وأخوه هو أبو بكر، ويحيى بن سعيد هو الأنصاري، وروايته عن حفص من رواية الأقران لأنه في طبقته. قوله: "كان المسجد مسقوفا على جذوع من نخل" أي أن الجذوع كانت له كالأعمدة. قوله: "فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم إلى جذع منها" أي حين يخطب، وبه صرح الإسماعيلي بلفظ: "كان إذا خطب يقوم إلى جذع". قوله: "كصوت العشار" بكسر المهملة بعدها معجمة خفيفة جمع عشراء تقدم شرحه في الجمعة، والعشراء الناقة التي انتهت في حملها إلى عشرة أشهر، ووقع في رواية عبد الواحد بن أيمن "فصاحت النخلة صياح الصبي" وفي حديث أبي الزبير عن جابر عند النسائي في الكبير "اضطربت تلك السارية كحنين الناقة الخلوج" انتهى. والخلوج بفتح الخاء المعجمة وضم اللام الخفيفة وآخره جيم الناقة التي انتزع منها ولدها، وفي حديث أنس عند ابن خزيمة: "فحنت الخشبة حنين الوالد"، وفي روايته الأخرى عن الدارمي "خار ذلك الجذع كخوار الثور" وفي حديث أبي بن كعب عند أحمد والدارمي وابن ماجه: "فلما خار الجذع حتى تصدع وانشق" وفي حديثه "فأخذ أبي بن كعب ذلك الجذع لما هدم المسجد فلم يزل عنده حتى بلي وعاد رفاتا" وهذا لا ينافي ما تقدم من أنه دفن، لاحتمال أن يكون ظهر بعد الهدم عند التنظيف فأخذه أبي بن كعب، وفي حديث بريدة عند الدارمي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "اختر أن أغرسك في المكان الذي كنت فيه فتكون كما كنت - يعني قبل أن تصير جذعا - وان شئت أن أغرسك في الجنة فتشرب من أنهارها فيحسن نبتك وتثمر فيأكل منك أولياء الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اختار أن أغرسه في الجنة " قال البيهقي: قصة حنين الجذع من الأمور الظاهرة التي حملها الخلف عن السلف، ورواية الأخبار الخاصة فيها كالتكلف. وفي الحديث دلالة على أن الجمادات قد يخلق الله لها إدراكا كالحيوان بل كأشرف الحيوان، وفيه تأييد لقول من يحمل {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} على ظاهره. وقد نقل ابن أبي حاتم في "مناقب الشافعي" عن أبيه عن عمرو بن سواد عن الشافعي قال: ما أعطى الله نبيا ما أعطى محمدا، فقلت: أعطى عيسى إحياء الموتى، قال: أعطى محمدا حنين الجذع حتى سمع صوته، فهذا أكبر من ذلك.
3586- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ شُعْبَةَ ح حَدَّثَنِي بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ سَمِعْتُ أَبَا وَائِلٍ يُحَدِّثُ عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ أَيُّكُمْ يَحْفَظُ

(6/603)


قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْفِتْنَةِ فَقَالَ حُذَيْفَةُ أَنَا أَحْفَظُ كَمَا قَالَ قَالَ هَاتِ إِنَّكَ لَجَرِيءٌ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَجَارِهِ تُكَفِّرُهَا الصَّلاَةُ وَالصَّدَقَةُ وَالأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ قَالَ لَيْسَتْ هَذِهِ وَلَكِنْ الَّتِي تَمُوجُ كَمَوْجِ الْبَحْرِ قَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لاَ بَأْسَ عَلَيْكَ مِنْهَا إِنَّ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا بَابًا مُغْلَقًا قَالَ يُفْتَحُ الْبَابُ أَوْ يُكْسَرُ قَالَ لاَ بَلْ يُكْسَرُ قَالَ ذَاكَ أَحْرَى أَنْ لاَ يُغْلَقَ قُلْنَا عَلِمَ عُمَرُ الْبَابَ قَالَ نَعَمْ كَمَا أَنَّ دُونَ غَدٍ اللَّيْلَةَ إِنِّي حَدَّثْتُهُ حَدِيثًا لَيْسَ بِالأَغَالِيطِ فَهِبْنَا أَنْ نَسْأَلَهُ وَأَمَرْنَا مَسْرُوقًا فَسَأَلَهُ فَقَالَ مَنْ الْبَابُ قَالَ عُمَرُ".
3587- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا قَوْمًا نِعَالُهُمْ الشَّعَرُ وَحَتَّى تُقَاتِلُوا التُّرْكَ صِغَارَ الأَعْيُنِ حُمْرَ الْوُجُوهِ ذُلْفَ الأُنُوفِ كَأَنَّ وُجُوهَهُمْ الْمَجَانُّ الْمُطْرَقَةُ".
3588- "وَتَجِدُونَ مِنْ خَيْرِ النَّاسِ أَشَدَّهُمْ كَرَاهِيَةً لِهَذَا الأَمْرِ حَتَّى يَقَعَ فِيهِ وَالنَّاسُ مَعَادِنُ خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الإِسْلاَمِ".
3589- "وَلَيَأْتِيَنَّ عَلَى أَحَدِكُمْ زَمَانٌ لاَنْ يَرَانِي أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ مِثْلُ أَهْلِهِ وَمَالِهِ".
3590- حَدَّثَنِي يَحْيَى حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا خُوزًا وَكَرْمَانَ مِنْ الأَعَاجِمِ حُمْرَ الْوُجُوهِ فُطْسَ الأُنُوفِ صِغَارَ الأَعْيُنِ وُجُوهُهُمْ الْمَجَانُّ الْمُطْرَقَةُ نِعَالُهُمْ الشَّعَرُ". تَابَعَهُ غَيْرُهُ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ.
3591- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ قَالَ إِسْمَاعِيلُ أَخْبَرَنِي قَيْسٌ قَالَ أَتَيْنَا أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ صَحِبْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلاَثَ سِنِينَ لَمْ أَكُنْ فِي سِنِيَّ أَحْرَصَ عَلَى أَنْ أَعِيَ الْحَدِيثَ مِنِّي فِيهِنَّ سَمِعْتُهُ يَقُولُ وَقَالَ هَكَذَا بِيَدِهِ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نِعَالُهُمْ الشَّعَرُ وَهُوَ هَذَا الْبَارِزُ وَقَالَ سُفْيَانُ مَرَّةً وَهُمْ أَهْلُ الْبَازِرِ".
3592- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ سَمِعْتُ الْحَسَنَ يَقُولُ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ تَغْلِبَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا يَنْتَعِلُونَ الشَّعَرَ وَتُقَاتِلُونَ قَوْمًا كَأَنَّ وُجُوهَهُمْ الْمَجَانُّ الْمُطْرَقَةُ".
3593- حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ

(6/604)


اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "تُقَاتِلُكُمْ الْيَهُودُ فَتُسَلَّطُونَ عَلَيْهِمْ ثُمَّ يَقُولُ الْحَجَرُ يَا مُسْلِمُ هَذَا يَهُودِيٌّ وَرَائِي فَاقْتُلْهُ".
الحديث الثالث عشر: حديث حذيفة في ذكر الفتنة: قوله: "حدثنا محمد" هو ابن جعفر الذي يقال له غندر. قوله: "عن سليمان" هو الأعمش، وقد وافقه على رواية أصل الحديث عن أبي وائل - وهو شقيق بن سلمة - جامع بن شداد أخرجه المصنف، في الصوم، ووافق شقيقا على روايته عن حذيفة ربعي بن خراش أخرجه أحمد ومسلم. قوله: "أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال أيكم يحفظ؟" في رواية يحيى القطان عن الأعمش في الصلاة "كنا جلوسا عند عمر فقال: أيكم" والمخاطب بذلك الصحابة، ففي رواية ربعي عن حذيفة "أنه قدم من عند عمر فقال سأل عمر أمس أصحاب محمد أيكم سمع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفتنة؟ قال أنا أحفظ كما قال" في رواية المصنف في الزكاة "أنا أحفظه كما قاله". قوله: "قال هات إنك لجريء" في الزكاة "إنك عليه لجريء، فكيف(1)". قوله: "فتنة الرجل في أهله وماله وجاره" زاد في الصلاة "وولده". قوله: "تكفرها الصلاة والصدقة" زاد في الصلاة "والصوم" قال بعض الشراح: يحتمل أن يكون كل واحدة من الصلاة وما معها مكفرة للمذكورات كلها لا لكل واحدة منها، وأن يكون من باب اللف والنشر بأن الصلاة مثلا مكفرة للفتنة في الأهل والصوم في الولد إلخ، والمراد بالفتنة ما يعرض للإنسان مع من ذكر من البشر؛ أو الالتهاء بهم أو أن يأتي لأجلهم بما لا يحل له أو يخل بما يجب عليه. واستشكل ابن أبي حمزة وقوع التفكير بالمذكورات للوقوع في المحرمات والإخلال بالواجب، لأن الطاعات لا تسقط ذلك، فإن حمل على الوقوع في المكروه والإخلال بالمستحب لم يناسب إطلاق التكفير، والجواب التزام الأول وأن الممتنع من تكفير الحرام والواجب ما كان كبيرة فهي التي فيها النزاع، وأما الصغائر فلا نزاع أنها تكفر لقوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} الآية، وقد مضى شيء من البحث في هذا في كتاب الصلاة. وقال الزين بن المنير: الفتنة بالأهل تقع بالميل إليهن أو عليهن في القسمة والإيثار حتى في أولادهن، ومن جهة التفريط في الحقوق الواجبة لهن، وبالمال يقع الاشتغال به عن العبادة أو بحبسه عن إخراج حق الله، والفتنة بالأولاد تقع بالميل الطبيعي إلى الولد وإيثاره على كل أحد، والفتنة بالجار تقع بالحسد والمفاخرة والمزاحمة في الحقوق وإهمال التعاهد، ثم قال: وأسباب الفتنة بمن ذكر غير منحصرة فيما ذكرت من الأمثلة، وأما تخصيص الصلاة وما ذكر معها بالتكفير دون سائر العبادات ففيه إشارة إلى تعظيم قدرها لا نفي أن غيرها من الحسنات ليس فيها صلاحية التكفير، ثم إن التكفير المذكور يحتمل أن يقع بنفس فعل الحسنات المذكورة، ويحتمل أن يقع بالموازنة، والأول أظهر، والله أعلم. وقال ابن أبي جمرة: خص الرجل بالذكر لأنه في الغالب صاحب الحكم في داره وأهله، وإلا فالنساء شقائق الرجال في الحكم. ثم أشار إلى أن التكفير لا يختص بالأربع المذكورات، بل نبه بها على ما عداها، والضابط أن كل ما يشغل صاحبه عن الله فهو فتنة له، وكذلك المكفرات لا تختص بما ذكر بل نبه به على ما عداها، فذكر من عبادة الأفعال الصلاة والصيام، ومن عبادة المال
ـــــــ
(1) هو في كتاب الزكاة برقم 1435، وقبله في كتاب الصلاة برقم 525، وانظر رقم 1895 ورقم 7096

(6/605)


الصدقة، ومن عبادة الأقوال الأمر بالمعروف. قوله: "ولكن التي تموج" أي الفتنة، وصرح بذلك في الرواية التي في الصلاة، والفتنة بالنصب بتقدير فعل أي أريد الفتنة، ويحتمل الرفع أي مرادي الفتنة. قوله: "تموج كموج البحر" أي تضطرب اضطراب البحر عند هيجانه، وكنى بذلك عن شدة المخاصمة وكثرة المنازعة وما ينشأ عن ذلك من المشاتمة والمقاتلة. قوله: "يا أمير المؤمنين لا بأس عليك منها" زاد في رواية ربعي "تعرض الفتن على القلوب فأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء حتى يصير أبيض مثل الصفاة لا تضره فتنة، وأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء حتى يصير أسود كالكوز منكوسا لا يعرفه معروفا ولا ينكر منكرا، وحدثته أن بينها وبينه بابا مغلقا". قوله: "إن بينك وبينها بابا مغلقا" أي لا يخرج منها شيء في حياتك، قال ابن المنير: آثر حذيفة الحرص على حفظ السر ولم يصرح لعمر بما سأل عنه، وإنما كنى عنه كناية، وكأنه كان مأذونا له في مثل ذلك. وقال النووي: يحتمل أن يكون حذيفة علم أن عمر يقتل، ولكنه كره أن يخاطبه بالقتل لأن عمر كان يعلم أنه الباب فأتى بعبارة يحصل بها المقصود بغير تصريح بالقتل انتهى. وفي لفظ طريق ربعي ما يعكر على ذلك على ما سأذكره، وكأنه مثل الفتن بدار، ومثل حياة عمر بباب لها مغلق، ومثل موته بفتح ذلك الباب، فما دامت حياة عمر موجودة فهي الباب المغلق لا يخرج مما هو داخل تلك الدار شيء، فإذا مات فقد انفتح ذلك الباب فخرج ما في تلك الدار. قوله: "قال يفتح الباب أو يكسر؟ قال: لا بل يكسر، قال: ذلك أحرى أن لا يغلق" زاد في الصيام "ذاك أجدر أن لا يغلق إلى يوم القيامة"، قال ابن بطال: إنما قال ذلك لأن العادة أن الغلق إنما يقع في الصحيح، فأما إذا انكسر فلا يتصور غلقه حتى يجبر انتهى. ويحتمل أن يكون كنى عن الموت بالفتح وعن القتل بالكسر ولهذا قال في رواية ربعي "فقال عمر كسرا لا أبالك" لكن بقية رواية ربعي تدل على ما قدمته، فإن فيه: "وحدثته أن ذلك الباب رجل يقتل، أو يموت" وإنما قال عمر ذلك اعتمادا على ما عنده من النصوص الصريحة في وقوع الفتن في هذه الأمة ووقوع البأس بينهم إلى يوم القيامة، وسيأتي في الاعتصام حديث جابر في قوله تعالى: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} الآية، وقد وافق حذيفة على معنى روايته هذه أبو ذر، فروى الطبراني بإسناد رجاله ثقات أنه "لقي عمر فأخذ بيده فغمزها، فقال له أبو ذر: أرسل يدي يا قفل الفتنة" الحديث. وفيه أن أبا ذر قال: "لا يصيبكم فتنة ما دام فيكم" وأشار إلى عمر. وروى البزار من حديث قدامة بن مظعون عن أخيه عثمان أنه قال لعمر يا غلق الفتنة، فسأله عن ذلك فقال: "مررت ونحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هذا غلق الفتنة، لا يزال بينكم وبين الفتنة باب شديد الغلق ما عاش". قوله: "قلنا علم عمر الباب" في رواية جامع بن شداد "فقلنا لمسروق: سله أكان عمر يعلم من الباب؟ فسأله فقال: نعم" وفي رواية أحمد عن وكيع عن الأعمش "فقال مسروق لحذيفة: يا أبا عبد الله كان عمر يعلم". قوله: "كما أن دون غد الليلة" أي أن ليلة غد أقرب إلى اليوم من غد. قوله: "إني حدثته" هو بقية كلام حذيفة، والأغاليط جمع أغلوطة وهو ما يغالط به، أي حدثته حديثا صدقا محققا من حديث النبي صلى الله عليه وسلم لا عن اجتهاد ولا رأي. وقال ابن بطال: إنما علم عمر أنه الباب لأنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم على حراء وأبو بكر وعثمان، فرجف، فقال: "أثبت؛ فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان" أو فهم ذلك من قول حذيفة "بل يكسر" انتهى. والذي يظهر أن عمر علم الباب بالنص كما قدمت عن عثمان بن مظعون وأبي ذر، فلعل حذيفة حضر ذلك، وقد تقدم في بدء الخلق حديث عمر أنه سمع خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يحدث عن بدء الخلق حتى دخل أهل الجنة منازلهم، وسيأتي في هذا الباب حديث حذيفة أنه

(6/606)


قال: "أنا أعلم الناس بكل فتنة هي كائنة فيما بيني وبين الساعة" وفيه أنه سمع ذلك معه من النبي صلى الله عليه وسلم جماعة ماتوا قبله، فإن قيل إذا كان عمر عارفا بذلك فلم شك فيه حتى سأل عنه؟ فالجواب أن ذلك يقع مثله عند شدة الخوف، أو لعله خشي أن يكون نسي فسأل من يذكره، وهذا هو المعتمد. قوله: "فهبنا" بكسر الهاء أي خفنا، ودل ذلك على حسن تأدبهم مع كبارهم. قوله: "وأمرنا مسروقا" هو ابن الأخدع من كبار التابعين، وكان من أخصاء أصحاب ابن مسعود وحذيفة وغيرهما من كبار الصحابة. قوله: "فسأله فقال من الباب قال عمر" قال الكرماني: تقدم قوله: "إن بين الفتنة وبين عمر بابا" فكيف يفسر الباب بعد ذلك أنه عمر؟ والجواب أن في الأول تجوزا والمراد بين الفتنة وبين حياة عمر، أو بين نفس عمر وبين الفتنة بدنه، لأن البدن غير النفس. "تنبيه": غالب الأحاديث المذكورة في هذا الباب من حديث حذيفة وهلم جرا يتعلق بإخباره صلى الله عليه وسلم عن الأمور الآتية بعده فوقعت على وفق ما أخبر به، واليسير منها وقع في زمانه، وليس في جميعها ما يخرج عن ذلك إلا حديث البراء في نزول السكينة، وحديثه عن أبي بكر في قصة سراقة، وحديث أنس في الذي ارتد فلم تقبله الأرض. حديث أبي هريرة وهو يشتمل على أربعة أحاديث: أحدها قتال الترك، وقد أورده من وجهين آخرين عن أبي هريرة كما سأتكلم عليه، ثانيها حديث: "تجدون من خير الناس أشدهم كراهية لهذا الشأن" وقد تقدم شرحه في أول المناقب، وقوله في هذا الموضع "وتجدون أشد الناس كراهية لهذا الأمر حتى يقع فيه" كذا وقع عند أبي ذر مختصرا إلا في روايته عن المستملي فأورده بتمامه وبه يتم المعنى. ثالثها حديث: "الناس معادن" وقد تقدم شرحه في المناقب أيضا. رابعها حديث: "يأتين على أحدكم زمان لأن يراني أحب إليه من أن يكون له مثل أهله وماله". قال عياض: وقد وقع للجميع "ليأتين على أحدكم" لكن وقع لأبي زيد المروزي في عرضة بغداد "أحدهم" بالهاء، والصواب بالكاف، كذا أخرجه مسلم انتهى. والأحاديث الأربعة تدخل في علامات النبوة لإخباره فيها عما لا يقع فوقع كما قال، لا سيما الحديث الأخير فإن كل أحد من الصحابة بعد موته صلى الله عليه وسلم كان يود لو كان رآه وفقد مثل أهله وماله، وإنما قلت ذلك لأن كل أحد ممن بعدهم إلى زماننا هذا يتمنى مثل ذلك فكيف بهم مع عظيم منزلته عندهم ومحبتهم فيه. حديث أبي هريرة أورده من طرق: قوله: "لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا خوزا" هو بضم الخاء المعجمة وسكون الواو بعدها زاي: قوم من العجم. وقال أحمد: وهم عبد الرزاق فقاله بالجيم بدل الخاء المعجمة. وقوله: "وكرمان" هو بكسر الكاف على المشهور. ويقال بفتحها وهو ما صححه ابن السمعاني، ثم قال: لكن اشتهر بالكسر. وقال الكرماني: نحن أعلم ببلدنا. قلت: جزم بالفتح ابن الجواليقي وقبله أبو عبيد البكري، وجزم بالكسر الأصيلي وعبدوس، وتبع ابن السمعاني ياقوت والصغاني، لكن نسب الكسر للعامة، وحكى النووي الوجهين والراء ساكنة على كل حال وتقدم في الرواية التي قبلها "تقاتلون الترك" واستشكل لأن خوزا وكرمان ليسا من بلاد الترك، أما خوز فمن بلاد الأهواز وهي من عراق العجم. وقيل الخوز صنف من الأعاجم، وأما كرمان فبلدة مشهورة من بلاد العجم أيضا بين خراسان وبحر الهند، ورواه بعضهم "خور كرمان" براء مهملة وبالإضافة والإشكال باق، ويمكن أن يجاب بأن هذا الحديث غير حديث قتال الترك، ويجتمع منهما الإنذار بخروج الطائفتين، وقد تقدم من الإشارة إلى شيء من ذلك في الجهاد، ووقع في رواية مسلم من طريق سهيل عن أبيه عن أبي هريرة "لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون الترك قوما كأن وجوههم المجان المطرقة، يلبسون الشعر

(6/607)


ويمشون في الشعر". قوله: "حمر الوجوه فطس الأنوف" الفطس الانفراش، وفي الرواية التي قبلها "دلف الأنوف" جمع أدلفة بالمهملة والمعجمة وهو الأشهر، قيل: معناه الصغر، وقيل: الدلف الاستواء في طرف الأنف ليس بحد غليظ، وقيل تشمير الأنف عن الشفة العليا، ودلف بسكون اللام جمع أدلف مثل حمر وأحمر، وقبل الدلف غلظ في الأرنبة وقيل تطامن فيها، وقيل ارتفاع طرفه مع صغر أرنبته، وقيل قصره مع انبطاحه، وقد تقدم بقية القول فيه في أثناء الجهاد. قوله: "وجوههم المجان المطرقة" في الرواية الماضية "كأن وجوههم المجان المطرقة" وقد تقدم ضبطه في أثناء الجهاد في "باب قتال الترك" قيل إن بلادهم ما بين مشارق خراسان إلى مغارب الصين وشمال الهند إلى أقصى المعمور، قال البيضاوي: شبه وجوههم بالترسة لبسطها وتدويرها وبالمطرقة لغلظها وكثيرة لحمها. قوله: "نعالهم الشعر" تقدم القول فيه في أثناء الجهاد في "باب قتال الترك" قيل المراد به طول شعورهم حتى تصير أطرافها في أرجلهم موضع النعال، وقيل: المراد أن نعالهم من الشعر بأن يجعلوا نعالهم من شعر مضفور، وقد تقدم التصريح بشيء من ذلك في "باب قتال الترك" من كتاب الجهاد ووقع في رواية لمسلم كما تقدم من طريق سهيل عن أبيه عن أبي هريرة "يلبسون الشعر" وزعم ابن دحية أن المراد به القندس الذي يلبسونه في الشرابيش، قال وهو جلد كلب الماء. قوله: "تابعه غيره عن عبد الرزاق" كذا في الأصول التي وقفت عليها وكذا ذكره المزي في "الأطراف" ووقع في بعض النسخ "تابعه عبدة" وهو تصحيف، وقد أخرجه الإمامان أحمد وإسحاق في مسنديهما عن عبد الرزاق، وجعله أحمد حديثين فصل آخره فقال: "وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا أقواما نعالهم الشعر". قوله في الرواية الأخرى "حدثنا سفيان" هو ابن عيينة، وإسماعيل هو ابن أبي خالد، وقيس هو ابن أبي حازم. قوله: "أتينا أبا هريرة" في رواية أحمد عن سفيان عن إسماعيل عن قيس قال: "نزل علينا أبو هريرة بالكوفة وكان بينه وبين مولانا قرابة قال سفيان: وهم - أي آل قيس بن أبي حازم - موالي لأحمس، فاجتمعت أحمس، قال قيس: فأتيناه نسلم عليه فقال له أبي: يا أبا هريرة هؤلاء أنسابك أتوك ليسلموا عليك وتحدثهم، قال: مرحبا بهم وأهلا صحبت" فذكره. قوله: "ثلاث سنين" كذا وقع وفيه شيء، لأنه قدم في خيبر سنة سبع وكانت خيبر في صفر ومات النبي صلى الله عليه وسلم في ربيع الأول سنة إحدى عشرة فتكون المدة أربع سنين وزيادة، وبذلك جزم حميد بن عبد الرحمن الحميري قال: "صحبت رجلا صحب النبي صلى الله عليه وسلم أربع سنين كما صحبه أبو هريرة" أخرجه أحمد وغيره، فكأن أبا هريرة اعتبر المدة التي لازم فيها النبي صلى الله عليه وسلم الملازمة الشديدة وذلك بعد قدومهم من خيبر، أو لم يعتبر الأوقات التي وقع فيها سفر النبي صلى الله عليه وسلم من غزوه وحجه وعمره، لأن ملازمته له فيها لم تكن كملازمته له في المدينة، أو المدة المذكورة بقيد الصفة التي ذكرها من الحرص، وما عداها لم يكن وقع له فيها الحرص المذكور، أو وقع له لكن كان حرصه فيها أقوى والله أعلم. قوله: "لم أكن في سني" بكسر المهملة والنون وتشديد التحتانية على الإضافة أي في سني عمري، ووقع في رواية الكشميهني: "في شيء" بفتح المعجمة وسكون التحتانية بعدها همزة واحد الأشياء، وقوله: "أحرص مني" أفعل تفضيل والمفضل عليه هو أبو هريرة، لكن باعتبارين، فالأفضل المدة التي هي ثلاث سنين والمفضول بقية عمره، ووقع في رواية أحمد عن يحيى القطان عن إسماعيل بلفظ: "ما كانت أعقل مني فيهن ولا أحب أن أعي ما يقول منها". قوله: "وهو هذا البارز وقال سفيان مرة وهم أهل البازر" وقع ضبط الأولى بفتح الراء بعدها زاي وفي الثانية بتقديم الزاي

(6/608)


على الراء والمعروف الأول، ووقع عند ابن السكن وعبدوس بكسر الزاي وتقديمها على الراء وبه جزم الأصيلي وابن السكن، ومنهم من ضبطه بكسر الراء. وقال القابسي معناه البارزين لقتال أهل الإسلام، أي الظاهرين في براز من الأرض كما جاء في وصف علي أنه بارز وظاهر، ويقال معناه أن القوم الذين يقاتلون، تقول العرب هذا البارز إذا أشارت إلى شيء ضار. وقال ابن كثير: قول سفيان المشهور في الرواية تقديم الراء على الزاي وعكسه تصحيف كأنه اشتبه على الراوي من البارز وهو السوق بلغتهم، وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق مروان بن معاوية وغيره عن إسماعيل وقال فيه أيضا: "وهم هذا البارز" وأخرجه أبو نعيم من طريق إبراهيم بن بشار عن سفيان وقال في آخره: "قال أبو هريرة وهم هذا البارز يعني الأكراد" وقال غيره: البارز الديلم لأن كلا منهما يسكنون في براز من الأرض أو الجبال وهي بارزة عن وجه الأرض، وقيل هي أرض فارس لأن منهم من يجعل الفاء موحدة والزاي سينا وقيل غير ذلك. وقال ابن الأثير: ذكره أبو موسى في الباء والزاي، وقيل البارز ناحية قريبة من كرمان بها جبال فيها أكراد فكأنهم سموا باسم بلادهم، أو هو على حذف أهل، والذي في البخاري بتقديم الراء على الزاي وهم أهل فارس، فكأنه أبدل السين زايا أي والفاء باء، وقد ظهر مصداق هذا الخبر، وقد كان مشهورا في زمن الصحابة حديث: "اتركوا الترك ما تركوكم" فروى الطبراني من حديث معاوية قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله" وروى أبو يعلى من وجه آخر عن معاوية بن خديج قال: "كنت عند معاوية فأتاه كتاب عامله أنه وقع بالترك وهزمهم، فغضب معاوية من ذلك ثم كتب إليه: لا تقاتلهم حتى يأتيك أمري، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الترك تجلي العرب حتى تلحقها بمنابت الشيخ، قال: فأنا أكره قتالهم لذلك" وقاتل المسلمون الترك في خلافة بني أمية، وكان ما بينهم وبين المسلمين، مسدودا إلى أن فتح ذلك شيئا بعد شيء وكثر السبي منهم وتنافس الملوك فيهم لما فيهم من الشدة والبأس حتى كان أكثر عسكر المعتصم منهم، ثم غلب الأتراك على الملك فقتلوا ابنة المتوكل ثم أولاده واحدا بعد واحد إلى أن خالط المملكة الديلم، ثم كان الملوك السامانية من الترك أيضا فملكوا بلاد العجم، ثم غلب على تلك الممالك آل سبكتكين ثم آل سلجوق وامتدت مملكتهم إلى العراق والشام والروم، ثم كان بقايا أتباعهم بالشام وهم آل زنكي وأتباع هؤلاء وهم بيت أيوب، واستكثر هؤلاء أيضا من الترك فغلبوهم على المملكة بالديار المصرية والشامية والحجازية، وخرج على آل سلجوق في المائة الخامسة الغز فخربوا البلاد وفتكوا في العباد، ثم جاءت الطامة الكبرى بالططر فكان خروج جنكز خان بعد الستمائة فأسعرت بهم الدنيا نارا خصوصا المشرق بأسره حتى لم يبق بلد منه حتى دخله شرهم، ثم كان خراب بغداد وقتل الخليفة المستعصم آخر خلفائهم على أيديهم في سنة ست وخمسين وستمائة، ثم لم تزل بقاياهم يخرجون إلى أن كان آخرهم اللنك ومعناه الأعرج وأمه تمر بفتح المثناة وضم الميم وربما أشبعت، فطرق الديار الشامية وعاث فيها، وحرق دمشق حتى صارت خاوية على عروشها، ودخل الروم والهند وما بين ذلك، وطالت مدته إلى أن أخذه الله وتفرق بنوه البلاد، وظهر بجميع ما أوردته مصداق قوله صلى الله عليه وسلم: "إن بني قنطورا أول من سلب أمتي ملكهم" وهو حديث أخرجه الطبراني من حديث معاوية، والمراد ببني قنطورا الترك، وقنطورا قيده ابن الجواليقي في المعرب بالمد وفي كتاب البارع بالقصر، قيل كانت جارية لإبراهيم الخليل عليه السلام فولدت له أولادا فانتشر منهم الترك حكاه ابن الأثير واستبعده، وأما شيخنا في القاموس فجزم به، وحكى قولا آخر أن المراد بهم السودان، وقد تقدم في "باب قتال الترك" من الجهاد

(6/609)


بقية ذلك، وكأنه يريد بقوله: "أمتي" أمة النسب لا أمة الدعوة يعني العرب والله أعلم. الحديث السادس عشر: حديث عمرو بن تغلب في معنى حديث أبي هريرة، وهو شاهد قوي، وقد تقدم شرحه بما فيه غنية، وتقدم ضبطه في أثناء كتاب الجهاد. الحديث الثامن عشر: حديث ابن عمر "تقاتلكم اليهود" الحديث تقدم من وجه آخر في الجهاد في "باب قتال اليهود". قوله: "تقاتلكم اليهود فتسلطون عليهم" في رواية أحمد من طريق أخرى عن سالم عن أبيه "ينزل الدجال هذه السبخة - أي خارج المدينة - ثم يسلط الله عليه المسلمين فيقتلون شيعته، حتى إن اليهودي ليختبئ تحت الشجرة والحجر فيقول الحجر والشجرة للمسلم: هذا يهودي فأقتله" وعلى هذا فالمراد بقتال اليهود وقوع ذلك إذا خرج الدجال ونزل عيسى، وكما وقع صريحا في حديث أبي أمامة في قصة خروج الدجال ونزول عيسى وفيه: "وراء الدجال سبعون ألف يهودي كلهم ذو سيف محلى. فيدركه عيسي عند باب لد فيقتله وينهزم اليهود، فلا يبقى شيء مما يتوارى به يهودي إلا أنطق الله ذلك الشيء فقال: يا عبد الله - للمسلم - هذا يهودي فتعال فاقتله، إلا الغرقد فإنها من شجرهم" أخرجه ابن ماجه مطولا وأصله عند أبي داود، ونحوه في حديث سمرة عند أحمد بإسناد حسن، وأخرجه ابن منده في كتاب الإيمان من حديث حذيفة بإسناد صحيح. وفي الحديث ظهور الآيات قرب قيام الساعة من كلام الجماد من شجرة وحجر، وظاهره أن ذلك ينطق حقيقة. ويحتمل المجاز بأن يكون المراد أنهم لا يفيدهم الاختباء والأول أولى. وفيه أن الإسلام يبقى إلى يوم القيامة. وفي قوله صلى الله عليه وسلم: "تقاتلكم اليهود" جواز مخاطبة الشخص والمراد من هو منه بسبيل، لأن الخطاب كان للصحابة والمراد من يأتي بعدهم بدهر طويل، لكن لما كانوا مشتركين معهم في أصل الإيمان ناسب أن يخاطبوا بذلك.
3594- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو عَنْ جَابِرٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَغْزُونَ فَيُقَالُ لَهُمْ فِيكُمْ مَنْ صَحِبَ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُولُونَ نَعَمْ فَيُفْتَحُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ يَغْزُونَ فَيُقَالُ لَهُمْ هَلْ فِيكُمْ مَنْ صَحِبَ مَنْ صَحِبَ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُولُونَ نَعَمْ فَيُفْتَحُ لَهُمْ".
3595- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحَكَمِ أَخْبَرَنَا النَّضْرُ أَخْبَرَنَا إِسْرَائِيلُ أَخْبَرَنَا سَعْدٌ الطَّائِيُّ أَخْبَرَنَا مُحِلُّ بْنُ خَلِيفَةَ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ بَيْنَا أَنَا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ أَتَاهُ رَجُلٌ فَشَكَا إِلَيْهِ الْفَاقَةَ ثُمَّ أَتَاهُ آخَرُ فَشَكَا إِلَيْهِ قَطْعَ السَّبِيلِ فَقَالَ يَا عَدِيُّ هَلْ رَأَيْتَ الْحِيرَةَ قُلْتُ لَمْ أَرَهَا وَقَدْ أُنْبِئْتُ عَنْهَا قَالَ فَإِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ لَتَرَيَنَّ الظَّعِينَةَ تَرْتَحِلُ مِنْ الْحِيرَةِ حَتَّى تَطُوفَ بِالْكَعْبَةِ لاَ تَخَافُ أَحَدًا إِلاَّ اللَّهَ قُلْتُ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَ نَفْسِي فَأَيْنَ دُعَّارُ طَيِّئ الَّذِينَ قَدْ سَعَّرُوا الْبِلاَدَ وَلَئِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ لَتُفْتَحَنَّ كُنُوزُ كِسْرَى قُلْتُ كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ قَالَ كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ وَلَئِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ لَتَرَيَنَّ الرَّجُلَ يُخْرِجُ مِلْءَ كَفِّهِ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ يَطْلُبُ مَنْ يَقْبَلُهُ مِنْهُ فَلاَ يَجِدُ أَحَدًا يَقْبَلُهُ مِنْهُ وَلَيَلْقَيَنَّ اللَّهَ أَحَدُكُمْ يَوْمَ يَلْقَاهُ وَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تَرْجُمَانٌ يُتَرْجِمُ لَهُ فَلَيَقُولَنَّ لَهُ أَلَمْ أَبْعَثْ إِلَيْكَ رَسُولًا فَيُبَلِّغَكَ فَيَقُولُ بَلَى فَيَقُولُ أَلَمْ أُعْطِكَ مَالًا وَأُفْضِلْ عَلَيْكَ؟

(6/610)


فَيَقُولُ بَلَى فَيَنْظُرُ عَنْ يَمِينِهِ فَلاَ يَرَى إِلاَّ جَهَنَّمَ وَيَنْظُرُ عَنْ يَسَارِهِ فَلاَ يَرَى إِلاَّ جَهَنَّمَ قَالَ عَدِيٌّ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقَّةِ تَمْرَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ شِقَّةَ تَمْرَةٍ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ قَالَ عَدِيٌّ فَرَأَيْتُ الظَّعِينَةَ تَرْتَحِلُ مِنْ الْحِيرَةِ حَتَّى تَطُوفَ بِالْكَعْبَةِ لاَ تَخَافُ إِلاَّ اللَّهَ وَكُنْتُ فِيمَنْ افْتَتَحَ كُنُوزَ كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ وَلَئِنْ طَالَتْ بِكُمْ حَيَاةٌ لَتَرَوُنَّ مَا قَالَ النَّبِيُّ أَبُو الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخْرِجُ مِلْءَ كَفِّهِ".
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ أَخْبَرَنَا سَعْدَانُ بْنُ بِشْرٍ حَدَّثَنَا أَبُو مُجَاهِدٍ حَدَّثَنَا مُحِلُّ بْنُ خَلِيفَةَ سَمِعْتُ عَدِيًّا: "كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
3596- حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ شُرَحْبِيلٍ حَدَّثَنَا لَيْثٌ عَنْ يَزِيدَ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ يَوْمًا فَصَلَّى عَلَى أَهْلِ أُحُدٍ صَلاَتَهُ عَلَى الْمَيِّتِ ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ إِنِّي فَرَطُكُمْ وَأَنَا شَهِيدٌ عَلَيْكُمْ إِنِّي وَاللَّهِ لاَنْظُرُ إِلَى حَوْضِي الْآنَ وَإِنِّي قَدْ أُعْطِيتُ خَزَائِنَ مَفَاتِيحِ الأَرْضِ وَإِنِّي وَاللَّهِ مَا أَخَافُ بَعْدِي أَنْ تُشْرِكُوا وَلَكِنْ أَخَافُ أَنْ تَنَافَسُوا فِيهَا".
3597- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ أُسَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "أَشْرَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أُطُمٍ مِنْ الْآطَامِ فَقَالَ هَلْ تَرَوْنَ مَا أَرَى إِنِّي أَرَى الْفِتَنَ تَقَعُ خِلاَلَ بُيُوتِكُمْ مَوَاقِعَ الْقَطْرِ".
3598- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ حَدَّثَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ حَدَّثَتْهُ أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ حَدَّثَتْهَا عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَيْهَا فَزِعًا يَقُولُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدْ اقْتَرَبَ فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمأْجُوجَ مِثْلُ هَذَا وَحَلَّقَ بِإِصْبَعِهِ وَبِالَّتِي تَلِيهَا فَقَالَتْ زَيْنَبُ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ قَالَ نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ".
3599- وَعَنْ الزُّهْرِيِّ حَدَّثَتْنِي هِنْدُ بِنْتُ الْحَارِثِ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ قَالَتْ: "اسْتَيْقَظَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ مَاذَا أُنْزِلَ مِنْ الْخَزَائِنِ وَمَاذَا أُنْزِلَ مِنْ الْفِتَنِ".
3600- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ الْمَاجِشُونِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "قَالَ لِي: إِنِّي أَرَاكَ تُحِبُّ الْغَنَمَ وَتَتَّخِذُهَا فَأَصْلِحْهَا وَأَصْلِحْ رُعَامَهَا فَإِنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ تَكُونُ الْغَنَمُ فِيهِ خَيْرَ مَالِ الْمُسْلِمِ يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ

(6/611)


الْجِبَالِ أَوْ سَعَفَ الْجِبَالِ فِي مَوَاقِعِ الْقَطْرِ يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنْ الْفِتَنِ
3601- حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ الأُوَيْسِيُّ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ ابْنِ الْمُسَيَّبِ وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سَتَكُونُ فِتَنٌ الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْقَائِمِ وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْمَاشِي وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنْ السَّاعِي وَمَنْ يُشْرِفْ لَهَا تَسْتَشْرِفْهُ وَمَنْ وَجَدَ مَلْجَأً أَوْ مَعَاذًا فَلْيَعُذْ بِهِ".
[الحديث 3601 – طرفاه في: 7081، 7082]
3602- وَعَنْ ابْنِ شِهَابٍ حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُطِيعِ بْنِ الأَسْوَدِ عَنْ نَوْفَلِ بْنِ مُعَاوِيَةَ مِثْلَ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ هَذَا إِلاَّ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ يَزِيدُ مِنْ الصَّلاَةِ صَلاَةٌ مَنْ فَاتَتْهُ فَكَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ".
3603- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "سَتَكُونُ أَثَرَةٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: تُؤَدُّونَ الْحَقَّ الَّذِي عَلَيْكُمْ وَتَسْأَلُونَ اللَّهَ الَّذِي لَكُمْ".
[الحديث 3603 – طرفه في: 7052]
3604- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يُهْلِكُ النَّاسَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ قُرَيْشٍ قَالُوا فَمَا تَأْمُرُنَا قَالَ لَوْ أَنَّ النَّاسَ اعْتَزَلُوهُمْ". قَالَ مَحْمُودٌ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ سَمِعْتُ أَبَا زُرْعَةَ.
[الحديث 3604 – طرفاه في: 3605، 7058]
3605- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَكِّيُّ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأُمَوِيُّ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: "كُنْتُ مَعَ مَرْوَانَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ فَسَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ سَمِعْتُ الصَّادِقَ الْمَصْدُوقُ يَقُولُ هَلاَكُ أُمَّتِي عَلَى يَدَيْ غِلْمَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ فَقَالَ مَرْوَانُ غِلْمَةٌ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ إِنْ شِئْتَ أَنْ أُسَمِّيَهُمْ بَنِي فُلاَنٍ وَبَنِي فُلاَنٍ".
الحديث الثامن عشر: حديث أبي سعيد "يأتي على الناس زمان يغزون فيه" الحديث يأتي في أول مناقب الصحابة بأتم من هذا السياق، وقد تقدم في "باب من استعان بالضعفاء" من كتاب الجهاد. حديث عدي بن حاتم أورده من وجهين: قوله: "أتاه رجل فشكا إليه الفاقة ثم أتاه آخر" لم أقف على اسم أحد

(6/612)


منهما. قوله: "الظعينة" بالمعجمة: المرأة في الهودج، وهو في الأصل اسم للهودج. قوله: "الحيرة" بكسر المهملة وسكون التحتانية وفتح الراء كانت بلد ملوك العرب الذين تحت حكم آل فارس، وكان ملكهم يومئذ إياس بن قبيصة الطائي وليها من تحت يد كسرى بعد قتل النعمان بن المنذر، ولهذا قال عدي بن حاتم "فأين دعار طيئ؟" ووقع في رواية لأحمد من طريق الشعبي عند عدي بن حاتم "قلت يا رسول الله فأين مقاتب طيئ ورجالها" ومقاتب بالقاف جمع مقتب وهو العسكر ويطلق على الفرسان. قوله: "حتى تطوف بالكعبة" زاد أحمد من طريق أخرى عن عدي "في غير جواز أحد". قوله: "فأين دعار طيئ" الدعار جمع داعر وهو بمهملتين وهو الشاطر الخبيث المفسد، وأصله عود داعر إذا كان كثير الدخان قال الجواليقي: والعامة تقوله بالذال المعجمة فكأنهم ذهبوا به إلى معنى الفزع والمعروف الأول والمراد قطاع الطريق. وطيئ قبيلة مشهورة، منها عدي بن حاتم المذكور، وبلادهم ما بين العراق والحجاز، وكانوا يقطعون الطريق على من مر عليهم بغير جواز، ولذلك تعجب عدي كيف تمر المرأة عليهم وهي غير خائفة. قوله: "قد سعروا البلاد" أي أوقدوا نار الفتنة، أي ملأوا الأرض شرا وفسادا، وهو مستعار من استعار النار وهو توقدها. قوله: "كنوز كسرى" وهو علم على من ملك الفرس، لكن كانت المقالة في زمن كسرى بن هرمز ولذلك استفهم عدي بن حاتم عنه، وإنما قال ذلك لعظمة كسرى في نفسه إذ ذاك. قوله: "فلا يجد أحدا يقبله منه" أي لعدم الفقراء في ذلك الزمان، تقدم في الزكاة قول من قال إن ذلك عنه نزول عيسى ابن مريم عليه السلام، ويحتمل أن يكون ذلك إشارة إلى ما وقع في زمن عمر بن عبد العزيز وبذلك جزم البيهقي وأخرج في "الدلائل" من طريق يعقوب بن سفيان بسنده إلى عمر بن أسيد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب قال: "إنما ولى عمر بن عبد العزيز ثلاثين شهرا، ألا والله ما مات حتى جعل الرجل يأتينا بالمال العظيم فيقول اجعلوا هذا حيث ترون في الفقراء، فما يبرح حتى يرجع بماله يتذكر من يضعه فيه فلا يجده" هذا الاحتمال على الأول لقوله في الحديث: "ولئن طالت بك حياة". قوله: "بشق تمرة" بكسر المعجمة أي نصفها. وفي رواية المستملي: "بشقة تمرة" وكذا اختلفوا في قوله بعده "فمن لم يجد شق تمرة" قال المستملي: "شقة" وقد تقدم الكلام على ذلك في كتاب الزكاة. قوله: "ولئن طالت بكم حياة لترون ما قال النبي صلى الله عليه وسلم" هو مقول عدي بن حاتم، وقوله: "يخرج ملء كفه - أي من المال - فلا يجد من يقبله" رواية أحمد المذكورة "والذي نفسي بيده لتكونن الثالثة لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد قالها" وقد وقع ذلك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "وآمن به عدي، وقد تقدم في أواخر كتاب الحج من استدل به على جواز سفر المرأة وحدها في الحج الواجب والبحث في ذلك وتوجيه الاستدلال به بما أغنى عن إعادته هنا، وبالله التوفيق. قوله: "حدثنا سعدان بن بشر" بكسر الموحدة وسكون المعجمة يقال اسمه سعيد وسعدان لقبه، وليس له في البخاري ولا لشيخه ولا لشيخ شيخه غير هذا الحديث الواحد. قوله: "حدثنا أبو مجاهد" هو سعد الطائي المذكور في الإسناد الذي قبله، ومحل بن خليفة في الإسنادين هو بضم الميم وكسر المعجمة بعدها لام، وقد قيل فيه بفتح المهملة، وتقدم سياق متن هذا الحديث في كتاب الزكاة وهو أخصر من سياق الذي قبله، وإطلاق المصنف قد يوهم أنهما سواء والله أعلم. حديث عقبة وهو ابن عامر الجهني: قوله: "عن يزيد" هو ابن أبي حبيب، وأبو الخير هو مرثد بن عبد الله، والإسناد كله بصريون. قوله: "عن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوما" هذا

(6/613)


مما حذف فيه لفظ: "أنه" وهي تحذف كثيرا من الخط ولا بد من النطق بها وقل من نبه على ذلك، فقد نبهوا على حذف "قال" خطا. وقال ابن الصلاح لا بد من النطق بها، وفيه بحث ذكرته في النكت، ووقع هنا لغير أبي ذر بلفظ: "أن" بدل "عن". قوله: "فصلى على أهل أحد" تقدم الكلام عليه مستوفي في الجنائز، وقوله: "ألا وإني قد أعطيت مفاتيح خزائن إلخ" هو موافق لحديث أبي هريرة والكلام عليه مستغن عن إعادته، ووقع هنا لأبي ذر عن المستملي والسرخسي "خزائن مفاتيح" على القلب، وقد تقدم في الجنائز والمغازي بلفظ: "مفاتيح خزائن" وكذا عند مسلم والنسائي. قوله: "ولكني أخاف أن تنافسوا فيها" فيه إنذار بما سيقع فوقع كما قال صلى الله عليه وسلم، وقد فتحت عليهم الفتوح بعده وآل الأمر إلى أن تحاسدوا وتقاتلوا ووقع ما هو المشاهد المحسوس لكل أحد مما يشهد بمصداق خبره صلى الله عليه وسلم، ووقع من ذلك في هذا الحديث إخباره بأنه فرطهم أي سابقهم وكان كذلك، وأن أصحابه لا يشركون بعده فكان كذلك، ووقع ما أنذر به من التنافس في الدنيا، وتقدم في معنى ذلك حديث عمرو بن عوف مرفوعا: "ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم" وحديث أبي سعيد في معناه فوقع كما أخبر وفتحت عليهم الفتوح الكثيرة وصبت عليهم الدنيا صبا، وسيأتي مزيد لذلك في كتاب الرقاق. حديث أسامة بن زيد، وقد تقدم شرح بعضه في أواخر الحج، ويأتي الكلام عليه في الفتن إن شاء الله تعالى. حديث زينب بنت جحش: "ويل للعرب من شر قد اقترب" وسيأتي شرحه مستوفى في آخر كتاب الفتن إن شاء الله تعالى. حديث أم سلمة قالت: "استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: سبحان الله، ما أنزل من الخزائن" أورده مختصرا، وسيأتي بتمامه في كتاب الفتن مع شرحه إن شاء الله تعالى. وقوله فيه: "وعن الزهري" هو معطوف على إسناد حديث زينب بنت جحش وهو "أبو اليمان عن شعيب عن الزهري" ووهم من زعم أنه معلق، فإنه أورده بتمامه في الفتن عن أبي اليمان بهذا الإسناد. حديث أبي سعيد "يأتي على الناس زمان تكون الغنم فيه خير مال المسلم" الحديث. وسيأتي الكلام عليه في الفتن إن شاء الله تعالى. وقوله في الإسناد "عن عبد الرحمن بن صعصعة" هو عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن الحارث بن أبي صعصعة، نسب إلى جده الأعلى، وروايته لهذا الحديث عن أبيه عبد الله لا عن أبي صعصعة ولا غيره من آبائه، وقد تقدم إيضاح ذلك في كتاب الإيمان، وقوله في هذه الرواية: "شعف الجبال أو سعف الجبال" بالعين المهملة فيهما وبالشين المعجمة في الأولى أو المهملة في الثانية، والتي بالشين المعجمة معناها رؤوس الجبال، والتي بالمهملة معناها جريد النخل، وقد أشار صاحب المطالع إلى توهيمها، لكن يمكن تخريجها على إرادة تشبيه أعلى الجبل بأعلى النخلة وجريد النخل يكون غالبا أعلى ما في النخلة لكونها قائمة، والله أعلم. حديث أبي هريرة "ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم" الحديث، وسيأتي الكلام عليه في كتاب الفتن. وحديث نوفل بن معاوية قال مثل حديث أبي هريرة، وسيأتي شرح المتن في الفتن، وقوله: "وعن الزهري" هو بإسناد حديث أبي هريرة إلى الزهري، ووهم من زعم أنه معلق، وقد أخرجه مسلم بالإسنادين معا من طريق صالح بن كيسان عن الزهري، وقوله: "إلا أن أبا بكر" يعني ابن عبد الرحمن شيخ الزهري. وقوله: "يزيد من الصلاة صلاة من فاتته فكأنما وتر أهله وماله" يحتمل أن يكون أبو بكر زاد هذا مرسلا، ويحتمل أن يكون زاده بالإسناد المذكور عن عبد الرحمن بن مطيع بن

(6/614)


الأسود عن نوفل بن معاوية، وعبد الرحمن هذا هو أخو عبد الله بن مطيع الذي ولي الكوفة، وهو مذكور في الصحابة، وأما عبد الرحمن فتابعي على الصحيح، وقد ذكره ابن حبان وابن منده في الصحابة، وليس له في البخاري غير هذا الحديث، وشيخه نوفل بن معاوية صحابي قليل الحديث من مسلمة الفتح، عاش إلى خلافة يزيد بن معاوية، ويقال إنه جاوز المائة، وليس له في البخاري أيضا غير هذا الحديث، وهو خال عبد الرحمن بن مطيع الراوي عنه. قال الزبير بن بكار: اسم أمه كلثوم، والمراد بالصلاة المذكورة صلاة العصر، كذا أخرجه النسائي مفسرا من طريق يزيد بن أبي حبيب "عن عراك بن مالك عن نوفل بن معاوية سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من الصلاة صلاة" فذكر مثل لفظ أبي بكر بن عبد الرحمن وزاد: "قال فقال ابن عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هي صلاة العصر" وقد تقدم في الصلاة في المواقيت حديث بريدة في ذلك مشروحا، وهو شاهد لصحة قول ابن عمر هذا والله أعلم. "تنبيه": ذكر البخاري هذه الزيادة هنا استطرادا لوقوعها في الحديث الذي أراد إيراده في هذا الباب، والله أعلم. حديث ابن مسعود "ستكون أثرة" يأتي الكلام عليه أيضا في الفتن إن شاء الله تعالى. حديث أبي هريرة في قريش، وسيأتي أيضا في الفتن. وقوله هنا في الطريق الأولى "قال محمود حدثنا أبو داود" أراد بذلك تصريح أبي التياح بسماعه له من أبي زرعة بن عمرو، وأبو داود هذا هو الطيالسي، ولم يخرج له المصنف إلا استشهادا، ومحمود هذا هو ابن غيلان أحد مشايخه المشهورين، وقد نزل المصنف في الإسناد الأول درجة بالنسبة إلى أبي أسامة، لأنه سمع من الجمع الكثير من أصحابه حتى من شيخ شيخه في هذا الحديث وهو أبو معمر إسماعيل بن إبراهيم الهذلي، وقد أخرجه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة والإسماعيلي من رواية أبي بكر وعثمان بن أبي شيبة عن أبي أسامة وهما ممن أكثر عنهما البخاري، وكأنه فاته عنهما. ونزل فيه أيضا بالنسبة لرواية شعبة درجتين لأنه سمع من جماعة من أصحابه، وهو من غرائب حديث شعبة. وقوله في الطريق الثانية "فقال مروان: غلمة" قال الكرماني تعجب مروان من وقوع ذلك من غلمة، فأجابه أبو هريرة "إن شئت صرحت بأسمائهم" انتهى، وكأنه غفل عن الطريق المذكورة في الفتن فإنها ظاهرة في أن مروان لم يوردها مورد التعجب، فإن لفظه هناك "فقال مروان: لعنة الله عليهم غلمة" فظهر أن في هذا الطريق اختصارا، ويحتمل أن يتعجب من فعلهم ويلعنهم مع ذلك، والله أعلم.
3606- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ جَابِرٍ قَالَ حَدَّثَنِي بُسْرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْحَضْرَمِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو إِدْرِيسَ الْخَوْلاَنِيُّ أَنَّهُ سَمِعَ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ يَقُولُ كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْخَيْرِ وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنْ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ فَجَاءَنَا اللَّهُ بِهَذَا الْخَيْرِ فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ قَالَ نَعَمْ قُلْتُ وَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ قَالَ نَعَمْ وَفِيهِ دَخَنٌ قُلْتُ وَمَا دَخَنُهُ قَالَ قَوْمٌ يَهْدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِي تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ قُلْتُ فَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ قَالَ نَعَمْ دُعَاةٌ إِلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ

(6/615)


لَنَا فَقَالَ هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا قُلْتُ فَمَا تَأْمُرُنِي إِنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ قَالَ تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ قُلْتُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلاَ إِمَامٌ قَالَ فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ حَتَّى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ".
[الحديث 3606 – طرفاه في: 3607، 7084]
3607- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنِي قَيْسٌ عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "تَعَلَّمَ أَصْحَابِي الْخَيْرَ وَتَعَلَّمْتُ الشَّرَّ".
3608- حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَقْتَتِلَ فِئَتَانِ دَعْوَاهُمَا وَاحِدَةٌ".
3609- حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَقْتَتِلَ فِئَتَانِ فَيَكُونَ بَيْنَهُمَا مَقْتَلَةٌ عَظِيمَةٌ دَعْوَاهُمَا وَاحِدَةٌ وَلاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُبْعَثَ دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ قَرِيبًا مِنْ ثَلاَثِينَ كُلُّهُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ".
الحديث التاسع والعشرون: حديث حذيفة "كان الناس يسألون عن الخير" يأتي في الفتن مع شرحه مستوفى إن شاء الله تعالى. وقوله في الطريق الأخرى "تعلم أصحابي الخير وتعلمت الشر" هو طرف من الطريق الآخر وهو بمعناه، وقد أخرجه الإسماعيلي من هذا الوجه باللفظ الأول إلا أنه قال: "كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بدل قوله: "كان الناس". الحديث الثلاثون: حديث أبي هريرة "لا تقوم الساعة حتى تقتل فئتان" الحديث، أورده من طريقين، وفي الثانية ذكر الدجالين، وهو حديث آخر مستقل من "صحيفة همام"، وقد أفرده أحمد ومسلم والترمذي وغيرهم، وقوله: "فئتان" بكسر الفاء بعدها همزة مفتوحة تثنية فئة أي جماعة، ووصفهما في الرواية الأخرى بالعظم أي بالكثرة، والمراد بهما من كان مع علي ومعاوية لما تحاربا بصفين، وقوله: "دعواهما واحدة" أي دينهما واحد لأن كلا منهما كان يتسمى بالإسلام، أو المراد أن كلا منهما كان يدعي أنه المحق، وذلك أن عليا كان إذ ذاك إمام المسلمين وأفضلهم يومئذ باتفاق أهل السنة، ولأن أهل الحل والعقد بايعوه بعد قتل عثمان، وتخلف عن بيعته معاوية في أهل الشام، ثم خرج طلحة والزبير ومعهما عائشة إلى العراق فدعوا الناس إلى طلب قتلة عثمان لأن الكثير منهم انضموا إلى عسكر علي، فخرج علي إليهم فراسلوه في ذلك فأبى أن يدفعهم إليهم إلا بعد قيام دعوى من ولي الدم وثبوت ذلك على من باشره بنفسه، وكان بينهم ما سيأتي بسطه في كتاب الفتن إن شاء الله تعالى. ورحل علي بالعسكر طالبا الشام، داعيا لهم إلى الدخول في طاعته، مجيبا لهم عن شبههم في قتلة عثمان بما تقدم، فرحل معاوية بأهل الشام فالتقوا بصفين بين الشام والعراق فكانت بينهم مقتلة عظيمة كما أخبر به صلى الله عليه وسلم، وآل الأمر بمعاوية ومن معه عند ظهور علي عليهم إلى طلب التحكيم،

(6/616)


ثم رجع علي إلى العراق، فخرجت عليه الحرورية فقتلهم بالنهروان ومات بعد ذلك، وخرج ابنه الحسن بن علي بعده بالعساكر لقتال أهل الشام وخرج إليه معاوية فوقع بينهم الصلح كما أخبر به صلى الله عليه وسلم في حديث أبي بكرة الآتي في الفتن "إن الله يصلح به بين فئتين من المسلمين" وسيأتي بسط جميع ذلك هناك إن شاء الله تعالى. قوله: "حتى يبعث" بضم أوله أي يخرج، وليس المراد بالبعث معنى الإرسال المقارن للنبوة، بل هو كقوله تعالى: {أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ}. قوله: "دجالون كذابون" الدجل التغطية والتمويه، ويطلق على الكذب أيضا، فعلى هذا "كذابون" تأكيد. وقوله: "قريبا من ثلاثين" كذا وقع بالنصب وهو على الحال من النكرة الموصوفة، ووقع في رواية أحمد "قريب" بالرفع على الصفة، وقد أحرج مسلم من حديث جابر بن سمرة الجزم بالعدد المذكور بلفظ: "أن بين يدي الساعة ثلاثين كذابا رجالا كلهم يزعم أنه نبي" وروى أبو يعلى بإسناد حسن عن عبد الله بن الزبير تسمية بعض الكذابين المذكورين بلفظ: "لا تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون كذابا منهم مسيلمة والعنسي والمختار". قلت: وقد ظهر مصداق ذلك في آخر زمن النبي صلى الله عليه وسلم فخرج مسيلمة باليمامة، والأسود العنسي باليمن، ثم خرج في خلافة أبي بكر طليحة بن خويلد في بني أسد بن خزيمة، وسجاح التميمية في بني تميم، وفيها يقول شبيب بن ربعي وكان مؤدبها:
أضحت نبيتنا أنثى نطيف بها ... وأصبحت أنبياء الناس ذكرانا
وقتل الأسود قبل أن يموت النبي صلى الله عليه وسلم وقتل مسيلمة في خلافة أبي بكر، وتاب طليحة ومات على الإسلام على الصحيح في خلافة عمر، ونقل أن سجاح أيضا تابت، وأخبار هؤلاء مشهورة عند الأخباريين. ثم كان أول من خرج منهم المختار بن أبي عبيد الثقفي غلب على الكوفة في أول خلافة ابن الزبير فأظهر محبة أهل البيت ودعا الناس إلى طلب قتلة الحسين فتبعهم فقتل كثيرا ممن باشر ذلك أو أعان عليه فأحبه الناس، ثم زين له الشيطان أن ادعى النبوة وزعم أن جبريل يأتيه، فروى أبو داود الطيالسي بإسناد صحيح عن رفاعة بن شداد قال: "كنت أبطن شيء بالمختار فدخلت عليه يوما فقال: دخلت وقد قام جبريل قبل
aمن هذا الكرسي" وروى يعقوب بن سفيان بإسناد حسن عن الشعبي أن الأحنف بن قيس أراه كتاب المختار إليه يذكر أنه نبي، وروى أبو داود في "السنن" من طريق إبراهيم النخعي قال قلت لعبيدة بن عمرو: أترى المختار منهم؟ قال: أما إنه من الرؤوس. وقتل المختار سنة بضع وستين. ومنهم الحارث الكذاب خرج في خلافة عبد الملك بن مروان فقتل. وخرج في خلافة بني العباس جماعة. وليس المراد بالحديث من ادعى النبوة مطلقا فإنهم لا يحصون كثرة لكون غالبهم ينشأ لهم ذلك عن جنون أو سوداء وإنما المراد من قامت له شوكة وبدت له شبهة كمن وصفنا، وقد أهلك الله تعالى من وقع له ذلك منهم وبقي منهم من يلحقه بأصحابه وآخرهم الدجال الأكبر، وسيأتي بسط كثير من ذلك في كتاب الفتن إن شاء الله تعالى.
3610- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقْسِمُ قِسْمًا أَتَاهُ ذُو الْخُوَيْصِرَةِ وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ اعْدِلْ فَقَالَ وَيْلَكَ وَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَعْدِلْ قَدْ خِبْتَ وَخَسِرْتَ

(6/617)


إِنْ لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ فَقَالَ عُمَرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ لِي فِيهِ فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ فَقَالَ دَعْهُ فَإِنَّ لَهُ أَصْحَابًا يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلاَتَهُ مَعَ صَلاَتِهِمْ وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ يُنْظَرُ إِلَى نَصْلِهِ فَلاَ يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ ثُمَّ يُنْظَرُ إِلَى رِصَافِهِ فَمَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ ثُمَّ يُنْظَرُ إِلَى نَضِيِّهِ وَهُوَ قِدْحُهُ فَلاَ يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ ثُمَّ يُنْظَرُ إِلَى قُذَذِهِ فَلاَ يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ قَدْ سَبَقَ الْفَرْثَ وَالدَّمَ آيَتُهُمْ رَجُلٌ أَسْوَدُ إِحْدَى عَضُدَيْهِ مِثْلُ ثَدْيِ الْمَرْأَةِ أَوْ مِثْلُ الْبَضْعَةِ تَدَرْدَرُ وَيَخْرُجُونَ عَلَى حِينِ فُرْقَةٍ مِنْ النَّاسِ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ فَأَشْهَدُ أَنِّي سَمِعْتُ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَشْهَدُ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَاتَلَهُمْ وَأَنَا مَعَهُ فَأَمَرَ بِذَلِكَ الرَّجُلِ فَالْتُمِسَ فَأُتِيَ بِهِ حَتَّى نَظَرْتُ إِلَيْهِ عَلَى نَعْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي نَعَتَهُ".
3611- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ خَيْثَمَةَ عَنْ سُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ قَالَ قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلاَنْ أَخِرَّ مِنْ السَّمَاءِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَكْذِبَ عَلَيْهِ وَإِذَا حَدَّثْتُكُمْ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ فَإِنَّ الْحَرْبَ خَدْعَةٌ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "يَأْتِي فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ حُدَثَاءُ الأَسْنَانِ سُفَهَاءُ الأَحْلاَمِ يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ يَمْرُقُونَ مِنْ الإِسْلاَمِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ لاَ يُجَاوِزُ إِيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ فَإِنَّ قَتْلَهُمْ أَجْرٌ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ".
[الحديث 3611 – أطرافه في: 5057، 6930]
الحديث الثاني والثلاثون: حديث أبي سعيد في ذكر ذي الخويصرة، وقد تقدم طرف منه في قصة عاد من أحاديث الأنبياء، وأحلت على شرحه في المغازي وهو في أواخرها من وجه آخر مطولا، وقوله في هذه الرواية: "فقال عمر ائذن لي أضرب عنقه" لا ينافي قوله في تلك الرواية: "فقال خالد" لاحتمال أن يكون كل منهما سأل في ذلك. وقوله هنا "دعه فإن له أصحابا" ليست الفاء للتعليل وإنما هي لتعقيب الأخبار، والحجة لذلك ظاهرة في الرواية الآتية. وقوله: "لا يجاوز" ويحتمل أنه لكونه لا تفقهه قلوبهم ويحملونه على غير المراد به، ويحتمل أن يكون المراد أن تلاوتهم لا ترتفع إلى الله، وقوله: "يمرقون من الدين" إن كان المراد به الإسلام فهو حجة لمن يكفر الخوارج، ويحتمل أن يكون المراد بالدين الطاعة فلا يكون فيه حجة وإليه جنح الخطابي، وقوله: "الرمية" بوزن فعيلة بمعنى مفعولة وهو الصيد المرمي، شبه مروقهم من الدين بالسهم الذي يصيب الصيد فيدخل فيه ويخرج منه، ومن شدة سرعة خروجه لقوة الرامي لا يعلق من جسد الصيد شيء. وقوله: "ينظر في نصله" أي حديدة السهم و"رصافه" بكسر الراء ثم مهملة ثم فاء عصبه الذي يكون فوق مدخل النصل، والرصاف جمع واحده رصفة بحركات و"نضيه" بفتح النون وحكي ضمها وبكسر المعجمة بعدها تحتانية ثقيلة قد فسره في الحديث بالقدح بكسر القاف وسكون الدال أي عود السهم قبل أن يراش وينصل، وقيل هو ما بين الريش والنصل قاله الخطابي، قال ابن فارس: سمي بذلك

(6/618)


لأنه بري حتى عاد نضوا أي هزيلا. وحكى الجوهري عن بعض أهل اللغة أن النضي النصل، والأول أولى، و"القذذ" بضم القاف ومعجمتين الأولى مفتوحة جمع قذة وهي ريش السهم يقال لكل واحدة قذة، ويقال هو أشبه به من القذة بالقذة لأنها تجعل على مثال واحد. وقوله: "آيتهم" أي علامتهم، وقوله: "بضعة" بفتح الموحدة أي قطعة لحم، وقوله: "تدردر" بدالين وراءين مهملات أي تضطرب، والدردرة صوت إذا اندفع سمع له اختلاط، وقوله: "على حين فرقة" أي زمان فرقة، وهو بضم الفاء أي افتراق. وفي رواية الكشميهني: "على خير" بخاء معجمة وراء أي أفضل، وفرقة بكسر الفاء أي طائفة وهي رواية الإسماعيلي، ويؤيد الأول حديث مسلم من وجه آخر عن أبي سعيد "تمرق مارقة عند فرقة من المسلمين تقتلها أولى الطائفتين بالحق" أخرجه هكذا مختصرا من وجهين، وفي هذا وفي قوله صلى الله عليه وسلم: "تقتل عمارا الفئة الباغية" دلالة واضحة على أن عليا ومن معه كانوا على الحق وأن من قاتلهم كانوا مخطئين في تأويلهم، والله أعلم. وقوله في آخر الحديث: "فأتي به" أي بذي الخويصرة "حتى نظرت إليه على نعت النبي صلى الله عليه وسلم الذي نعته" يريد ما تقدم من كونه أسود إحدى عضديه مثل ثدي المرأة إلخ، قال بعض أهل اللغة: النعت يختص بالمعاني كالطول والقصر والعمى والخرس، والصفة بالفعل كالضرب والجروح. وقال غيره: النعت للشيء الخاص والصفة أعم. حديث علي في الخوارج وسيأتي شرحه في استتابة المرتدين. وقوله: "سويد بن غفلة" بفتح المعجمة والفاء، قال حمزة الكناني صاحب النسائي: ليس يصح لسويد عن علي غيره. وقوله: "الحرب خدعة" تقدم ضبطه وشرحه في الجهاد. وقوله: "حدثاء الأسنان" أي صغارها، و"سفهاء الأحلام" أي ضعفاء العقول. وقوله: "يقولون من قول خير البرية" أي من القرآن كما في حديث أبي سعيد الذي قبله "يقرءون القرآن" وكان أول كلمة خرجوا بها قولهم: لا حكم إلا الله، وانتزعوها من القرآن وحملوها على غير محملها. وقوله: "فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم" في رواية الكشميهني: "فإن قتلهم".
3612- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا قَيْسٌ عَنْ خَبَّابِ بْنِ الأَرَتِّ قَالَ شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ قُلْنَا لَهُ أَلاَ تَسْتَنْصِرُ لَنَا أَلاَ تَدْعُو اللَّهَ لَنَا قَالَ كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهِ فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لاَ يَخَافُ إِلاَّ اللَّهَ أَوْ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ".
[الحديث 3612 – طرفاه في: 3852، 6643]
الحديث الرابع والثلاثون: حديث خباب، وسيأتي شرحه قريبا في "باب ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بمكة" وقوله فيه: "فيجاء" كذا للأكثر بالجيم. وقال عياض وقع في رواية الأصيلي بالحاء والمهملة وهو تصحيف، والفيح الباب الواسع ولا معنى له هنا. قوله: "حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت" يحتمل أن يريد صنعاء اليمن، وبينها وبين حضرموت من اليمن أيضا مسافة بعيدة نحو خمسة أيام، ويحتمل أن يريد صنعاء الشام والمسافة بينهما

(6/619)


أبعد بكثير، والأول أقرب، قال ياقوت: هي قرية على باب دمشق عند باب الفراديس تتصل بالعقيبة. قلت: وسميت باسم من نزلها من أهل صنعاء اليمن.
3613- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا أَزْهَرُ بْنُ سَعْدٍ حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ قَالَ أَنْبَأَنِي مُوسَى بْنُ أَنَسٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ افْتَقَدَ ثَابِتَ بْنَ قَيْسٍ فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا أَعْلَمُ لَكَ عِلْمَهُ فَأَتَاهُ فَوَجَدَهُ جَالِسًا فِي بَيْتِهِ مُنَكِّسًا رَأْسَهُ فَقَالَ مَا شَأْنُكَ فَقَالَ شَرٌّ كَانَ يَرْفَعُ صَوْتَهُ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ فَأَتَى الرَّجُلُ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ قَالَ كَذَا وَكَذَا فَقَالَ مُوسَى بْنُ أَنَسٍ فَرَجَعَ الْمَرَّةَ الْآخِرَةَ بِبِشَارَةٍ عَظِيمَةٍ فَقَالَ اذْهَبْ إِلَيْهِ فَقُلْ لَهُ إِنَّكَ لَسْتَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ وَلَكِنْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ".
[الحديث 3613 – طرفه في: 4846]
الحديث الخامس والثلاثون: حديث أنس في قصة ثابت بن قيس بن شماس. قوله: "أنبأني موسى بن أنس" كذا رواه من طريق أزهر عن ابن عون، وأخرجه أبو عوانة عن يحيى بن أبي طالب عن أزهر، وكذا أخرجه الإسماعيلي من رواية يحيى بن أبي طالب، ورواه عبد الله بن أحمد بن حنبل عن يحيى بن معين عن أزهر فقال: "عن ابن عون عن ثمامة بن عبد الله بن أنس" بدل موسى بن أنس، أخرجه أبو نعيم عن الطبراني عنه وقال: لا أدري ممن الوهم قلت: لم أره في مسند أحمد، وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق ابن المبارك عن ابن عون عن موسى بن أنس قال: "لما نزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ} قعد ثابت بن قيس في بيته" الحديث، وهذا صورته مرسل إلا أنه يقوي أن الحديث لابن عون عن موسى لا عن ثمامة. قوله: "افتقد ثابت بن قيس" أي ابن شماس خطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووقع عند مسلم من وجه آخر عن أنس قال: "كان ثابت بن قيس بن شماس خطيب الأنصار". قوله: "فقال رجل" وقع في رواية لمسلم من طريق حماد عن ثابت عن أنس "فسأل النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ فقال: يا أبا عمرو ما شأن ثابت اشتكى؟ فقال سعد: إنه كان لجاري وما علمت له بشكوى" واستشكل ذلك الحفاظ بأن نزول الآية المذكورة كان في زمن الوقود بسبب الأقرع بن حابس وغيره وكان ذلك في سنة تسع كما سيأتي في التفسير وسعد بن معاذ مات قبل ذلك في بني قريظة سنة خمس، ويمكن الجمع بأن الذي نزل في قصة ثابت مجرد رفع الصوت والذي نزل في قصة الأقرع أول السورة وهو قوله: {لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} وقد نزل من هذه السورة سابقا أيضا قوله: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} فقد تقدم في كتاب الصلح من حديث أنس وفي آخره أنها نزلت في قصة عبد الله بن أبي ابن سلول. وفي السياق "وذلك قبل أن يسلم عبد الله" وكان إسلام عبد الله بعد وقعة بدر، وقد روى الطبري وابن مردويه من طريق زيد بن الحباب "حدثني أبو ثابت بن ثابت بن قيس قال: لما نزلت هذه الآية قعد ثابت يبكي، فمر به عاصم بن عدي فقال: ما يبكيك؟ قال: أتخوف أن تكون هذه الآية نزلت في، فقال له رسول الله: أما ترضى أن تعيش حميدا" الحديث، وهذا لا يغاير أن يكون الرسول إليه من النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ. وروى ابن المنذر في تفسيره من طريق سعيد بن

(6/620)


بشير عن قتادة عن أنس في هذه القصة "فقال سعد بن عبادة يا رسول الله هو جاري" الحديث، وهذا أشبه بالصواب لأن سعد بن عبادة من قبيلة ثابت بن قيس فهو أشبه أن يكون جاره من سعد بن معاذ لأنه من قبيلة أخرى. قوله: "أنا أعلم لك علمه" كذا للأكثر. وفي رواية حكاها الكرماني "ألا" بلام بدل النون وهي للتنبيه، وقوله: "أعلم لك" أي لأجلك وقوله: "علمه" أي خبره. قوله: "كان يرفع صوته" كذا ذكره بلفظ الغيبة وهو التفات، وكان السياق يقتضي أن يقول: كنت ارفع صوتي. قوله: "فأتى الرجل فأخبره أنه قال كذا وكذا" أي مثل ما قال ثابت أنه لما نزلت: {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} جلس في بيته وقال: أنا من أهل النار. وفي رواية لمسلم: "فقال ثابت: أنزلت هذه الآية ولقد علمتم أني من أرفعكم صوتا". قوله: "فقال موسى بن أنس" هو متصل بالإسناد المذكور إلى موسى، لكن ظاهره أن باقي الحديث مرسل، وقد أخرجه مسلم متصلا بلفظ: "قال فذكر ذلك سعد للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: بل هو من أهل الجنة". قوله: "ببشارة عظيمة" هي بكسر الموحدة وحكي ضمها. قوله: "ولكن من أهل الجنة" قال الإسماعيلي: إنما يتم الغرض بهذا الحديث أي من إيراده في "باب علامة النبوة" بالحديث الآخر أي الذي مضى في كتاب الجهاد في "باب التحنط عند القتال" فإن فيه أنه قتل باليمامة شهيدا يعني وظهر بذلك مصداق قوله صلى الله عليه وسلم أنه من أهل الجنة لكونه استشهد. قلت: ولعل البخاري أشار إلى ذلك إشارة لأن مخرج الحديثين واحد والله أعلم. ثم ظهر لي أن البخاري، أشار إلى ما في بعض طرق حديث نزول الآية المذكورة وذلك فيما رواه ابن شهاب عن إسماعيل ابن محمد بن ثابت قال: "قال ثابت بن قيس بن شماس: يا رسول الله إني أخشى أن أكون قد هلكت، فقال: وما ذاك؟ قال نهانا الله أن نرفع أصواتنا فوق صوتك وأنا جهير" الحديث، وفيه: "فقال له عليه الصلاة والسلام: أما ترضى أن تعيش سعيدا وتقتل شهيدا وتدخل الجنة" وهذا مرسل قوي الإسناد أخرجه ابن سعد عن معن بن عيسى عن مالك عنه، وأخرجه الدار قطني في "الغرائب" من طريق إسماعيل بن أبي أويس عن مالك كذلك، ومن طريق سعيد بن كثير عن مالك فقال فيه: "عن إسماعيل عن ثابت بن قيس" وهو مع ذلك مرسل لأن إسماعيل لم يلحق ثابتا، وأخرجه ابن مردويه من طريق صالح بن أبي الأخضر عن الزهري فقال: "عن محمد بن ثابت بن قيس أن ثابتا" فذكر نحوه، وأخرجه ابن جرير من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري معضلا ولم يذكر فوقه أحدا وقال في آخره: "فعاش حميدا وقتل شهيدا يوم مسيلمة" وأصرح من ذلك ما روى ابن سعد بإسناد صحيح أيضا من مرسل عكرمة قال: "لما نزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ} الآية قال ثابت بن قيس: كنت أرفع صوتي فأنا من أهل النار، فقعد في بيته" فذكر الحديث نحو حديث أنس وفي آخره: "بل هو من أهل الجنة. فلما كان يوم اليمامة انهزم المسلمون فقال ثابت: أف لهؤلاء ولما يعبدون، وأف لهؤلاء ولما يصنعون، قال ورجل قائم على ثلمة فقتله وقتل" وروى ابن أبي حاتم في تفسيره من طريق سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس في قصة ثابت بن قيس فقال في آخرها "قال أنس: فكنا نراه يمشي بين أظهرنا ونحن نعلم أنه من أهل الجنة، فلما كان يوم اليمامة كان في بعضنا بعض الانكشاف، فأقبل وقد تكفن وتحنط فقاتل حتى قتل" وروى ابن المنذر في تفسيره من طريق عطاء الخراساني قال: "حدثتني بنت ثابت بن قيس قالت: لما أنزل الله هذه الآية دخل ثابت بيته فأغلق بابه - فذكر القصة مطولة وفيها قول النبي صلى الله عليه وسلم: "تعيش حميدا وتموت شهيدا" وفيها "فلما كان يوم اليمامة ثبت حتى قتل".

(6/621)


3614- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ سَمِعْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَرَأَ رَجُلٌ الْكَهْفَ وَفِي الدَّارِ الدَّابَّةُ فَجَعَلَتْ تَنْفِرُ فَسَلَّمَ فَإِذَا ضَبَابَةٌ أَوْ سَحَابَةٌ غَشِيَتْهُ فَذَكَرَهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ اقْرَأْ فُلاَنُ فَإِنَّهَا السَّكِينَةُ نَزَلَتْ لِلْقُرْآنِ أَوْ تَنَزَّلَتْ لِلْقُرْآنِ".
[الحديث 3614 – طرفاه في: 4839، 5011]
الحديث السادس والثلاثون: حديث البراء "قرأ رجل الكهف" هو أسيد بن حضير كما سيأتي بيان ذلك في فضائل القرآن بأتم منه.
3615- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ أَبُو الْحَسَنِ الْحَرَّانِيُّ حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ سَمِعْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ يَقُولُ جَاءَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى أَبِي فِي مَنْزِلِهِ فَاشْتَرَى مِنْهُ رَحْلًا فَقَالَ لِعَازِبٍ ابْعَثْ ابْنَكَ يَحْمِلْهُ مَعِي قَالَ فَحَمَلْتُهُ مَعَهُ وَخَرَجَ أَبِي يَنْتَقِدُ ثَمَنَهُ فَقَالَ لَهُ أَبِي يَا أَبَا بَكْرٍ حَدِّثْنِي كَيْفَ صَنَعْتُمَا حِينَ سَرَيْتَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ نَعَمْ أَسْرَيْنَا لَيْلَتَنَا وَمِنْ الْغَدِ حَتَّى قَامَ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ وَخَلاَ الطَّرِيقُ لاَ يَمُرُّ فِيهِ أَحَدٌ فَرُفِعَتْ لَنَا صَخْرَةٌ طَوِيلَةٌ لَهَا ظِلٌّ لَمْ تَأْتِ عَلَيْهِ الشَّمْسُ فَنَزَلْنَا عِنْدَهُ وَسَوَّيْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَانًا بِيَدِي يَنَامُ عَلَيْهِ وَبَسَطْتُ فِيهِ فَرْوَةً وَقُلْتُ نَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَنَا أَنْفُضُ لَكَ مَا حَوْلَكَ فَنَامَ وَخَرَجْتُ أَنْفُضُ مَا حَوْلَهُ فَإِذَا أَنَا بِرَاعٍ مُقْبِلٍ بِغَنَمِهِ إِلَى الصَّخْرَةِ يُرِيدُ مِنْهَا مِثْلَ الَّذِي أَرَدْنَا فَقُلْتُ لَهُ لِمَنْ أَنْتَ يَا غُلاَمُ فَقَالَ لِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَوْ مَكَّةَ قُلْتُ أَفِي غَنَمِكَ لَبَنٌ قَالَ نَعَمْ قُلْتُ أَفَتَحْلُبُ قَالَ نَعَمْ فَأَخَذَ شَاةً فَقُلْتُ انْفُضْ الضَّرْعَ مِنْ التُّرَابِ وَالشَّعَرِ وَالْقَذَى قَالَ فَرَأَيْتُ الْبَرَاءَ يَضْرِبُ إِحْدَى يَدَيْهِ عَلَى الأُخْرَى يَنْفُضُ فَحَلَبَ فِي قَعْبٍ كُثْبَةً مِنْ لَبَنٍ وَمَعِي إِدَاوَةٌ حَمَلْتُهَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْتَوِي مِنْهَا يَشْرَبُ وَيَتَوَضَّأُ فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَرِهْتُ أَنْ أُوقِظَهُ فَوَافَقْتُهُ حِينَ اسْتَيْقَظَ فَصَبَبْتُ مِنْ الْمَاءِ عَلَى اللَّبَنِ حَتَّى بَرَدَ أَسْفَلُهُ فَقُلْتُ اشْرَبْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ فَشَرِبَ حَتَّى رَضِيتُ ثُمَّ قَالَ أَلَمْ يَأْنِ لِلرَّحِيلِ قُلْتُ بَلَى قَالَ فَارْتَحَلْنَا بَعْدَمَا مَالَتْ الشَّمْسُ وَاتَّبَعَنَا سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكٍ فَقُلْتُ أُتِينَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَدَعَا عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَارْتَطَمَتْ بِهِ فَرَسُهُ إِلَى بَطْنِهَا أُرَى فِي جَلَدٍ مِنْ الأَرْضِ شَكَّ زُهَيْرٌ فَقَالَ إِنِّي أُرَاكُمَا قَدْ دَعَوْتُمَا عَلَيَّ فَادْعُوَا لِي فَاللَّهُ لَكُمَا أَنْ أَرُدَّ عَنْكُمَا الطَّلَبَ فَدَعَا لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَجَا فَجَعَلَ لاَ يَلْقَى أَحَدًا إِلاَّ قَالَ قَدْ كَفَيْتُكُمْ مَا هُنَا فَلاَ يَلْقَى أَحَدًا إِلاَّ رَدَّهُ قَالَ وَوَفَى لَنَا".

(6/622)


الحديث السابع والثلاثون: حديث البراء عن أبي بكر في قصة الهجرة، وقد تقدم شرح بعضه في آخر اللقطة، وقوله هنا في أوله "حدثنا محمد بن يوسف" هو البيكندي وهو من صغار شيوخه، وشيخه الآخر محمد بن يوسف الفريابي أكبر من هذا وأقدم سماعا وقد أكثر البخاري عنه، وأحمد بن يزيد يعرف بالورتنيسي، بفتح الواو وسكون الراء وفتح المثناة وتشديد النون المكسورة بعدها تحتانية ساكنة ثم مهملة، وزهير بن معاوية هو أبو خيثمة الجعفي قال البزار: لم يرو هذا الحديث تاما عن أبي إسحاق إلا زهير وأخوه خديج وإسرائيل، وروى شعبة منه قصة اللبن خاصة، انتهى. وقد رواه عن إسحاق مطولا أيضا حفيده يوسف بن إسحاق بن أبي إسحاق وهو في "باب الهجرة إلى المدينة" لكنه لم يذكر فيه قصة سراقة وزاد فيه قصة غيرها كما سيأتي. قوله: "جاء أبو بكر" أي الصديق "إلى أبي" هو عازب بن الحارث بن عدي الأوسي من قدماء الأنصار. قوله: "فاشترى منه رحلا" بفتح الراء وسكون المهملة هو للناقة كالسرج للفرس. قوله: "ابعث ابنك يحمله معي، قال فحملته وخرج أبي ينتقد ثمنه، فقال له أبي: يا أبا بكر حدثني كيف صنعتما" ووقع في رواية إسرائيل الآتية في فضل أبي بكر "إن عازبا امتنع من إرسال ابنه مع أبي بكر حتى يحدثه أبو بكر بالحديث" وهي زيادة ثقة مقبولة لا تنافي هذه الرواية، بل يحتمل قوله: "فقال له أبي" أي من قبل أن أحمله معه، أو أعاد عازب سؤال أبي بكر عن التحديث بعد أن شرطه عليه أولا وأجابه إليه. قوله: "حين سريت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فعم أسرينا" هكذا استعمل كل منهما إحدى اللغتين، فإنه يقال سريت وأسريت في سير الليل. قوله: "ليلتنا" أي بعضها، وذلك حين خرجوا من الغار كما سيأتي بيانه في حديث عائشة في الهجرة إلى المدينة، ففيها أنهما لبثا في الغار ثلاث ليال ثم خرجا، وقوله: "ومن الغد" فيه تجوز لأن السير الذي عطف عليه سير الليل. قوله: "حتى قام قائم الظهيرة" أي نصف النهار، وسمي قائما لأن الظل لا يظهر حينئذ فكأنه واقف، ووقع في رواية إسرائيل "أسرينا ليلتنا ويومنا حتى أظهرنا" أي دخلنا في وقت الظهر. قوله: "فرفعت لنا صخرة" أي ظهرت. قوله: "لم تأت عليها" أي على الصخرة، وللكشميهني: "لم تأت عليه" أي على الظل. قوله: "وبسطت عليه فروة" هي معروفة، ويحتمل أن يكون المراد شيء من الحشيش اليابس، لكن يقوي الأول أن في رواية يوسف بن إسحاق "ففرشت له فروة معي" وفي رواية خديج في جزء لوين "فروة كانت معي". قوله: "وأنا أنفض لك ما حولك" يعني من الغبار ونحو ذلك حتى لا يثيره عليه الريح، وقيل: معنى النفض هنا الحراسة يقال نفضت المكان إذا نظرت جميع ما فيه، ويؤيده قوله في رواية إسرائيل "ثم انطلقت أنظر ما حولي هل أرى من الطلب أحدا". قوله: "لرجل من أهل المدينة أو مكة" هو شك من الراوي أي اللفظين قال، وكأن الشك من أحمد بن يزيد فإن مسلما أخرجه من طريق الحسن بن محمد بن أعين عن زهير فقال فيه: "لرجل من أهل المدينة" ولم يشك، ووقع في رواية خديج "فسمى رجلا من أهل مكة" ولم يشك، والمراد بالمدينة مكة ولم يرد بالمدينة المدينة النبوية لأنها حينئذ لم تكن تسمى المدينة وإنما كان يقال لها يثرب، وأيضا فلم تجر العادة للرعاة أن يبعدوا في المراعي هذه المسافة البعيدة، ووقع في رواية إسرائيل "فقال لرجل من قريش سماه فعرفته" وهذا يؤيد ما قررته لأن قريشا لم يكونوا يسكنون المدينة النبوية إذ ذاك. قوله: "أفي غنمك لبن" بفتح اللام والموحدة، وحكى عياض أن في رواية: "لب" بضم اللام وتشديد الموحدة جمع "لابن" أي ذوات لبن. قوله: "أفتحلب؟ قال: نعم" الظاهر أن مراده بهذا الاستفهام أمعك إذن في

(6/623)


الحلب لمن يمر بك على سبيل الضيافة؟ وبهذا التقرير يندفع الإشكال الماضي في أواخر اللقطة وهو كيف استجاز أبو بكر أخذ اللبن من الراعي بغير إذن مالك الغنم؟ ويحتمل أن يكون أبو بكر لما عرفه عرف رضاه بذلك بصداقته له أو إذنه العام لذلك، وقد تقدم باقي ما يتعلق بذلك هنا. قوله: "فقلت انفض الضرع" أي ثدي الشاة. وفي رواية إسرائيل الآتية "وأمرته فاعتقل شاة" أي وضع رجلها بين فخذيه أو ساقيه يمنعها من الحركة. قوله: "فأخذت قدحا فحلبت(1)" في رواية: "فأمرت الراعي فحلب" ويجمع بأنه تجوز في قوله: "فحلبت" ومراده أمرت بالحلب. قوله: "كثبة" بضم الكاف وسكون المثلثة وفتح الموحدة أي قدر قدح وقيل حلبة خفيفة، ويطلق على القليل من الماء واللبن وعلى الجرعة تبقى في الإناء وعلى القليل من الطعام والشراب وغيرهما من كل مجتمع. قوله: "واتبعنا سراقة بن مالك" في رواية إسرائيل "فارتحلنا والقوم يطلبوننا فلم يدركنا غير سراقة بن مالك بن جعشم". قوله: "فارتطمت" بالطاء المهملة أي غاصت قوائمها. قوله: "أرى" بضم الهمزة "في جلد من الأرض شك زهير" أي الراوي هل قال هذه اللفظة أم لا، والجلد بفتحتين الأرض الصلبة. وفي رواية مسلم أن الشك من زهير في قول سراقة "قد علمت أنكما قد دعوتما علي" ووقع في رواية خديج بن معاوية وهو أخو زهير "ونحن في أرض شديدة كأنها مجصصة، فإذا بوقع من خلفي فالتفت فإذا سراقة، فبكى أبو بكر فقال: أتينا يا رسول الله، قال: كلا، ثم دعا بدعوات" وستأتي قصة سراقة في أبواب الهجرة إلى المدينة من حديث سراقة نفسه بأتم من سياق البراء فلذلك أخرت شرحها إلى مكانها. وفي الحديث معجزة ظاهرة، وفيه فوائد أخرى يأتي ذكرها في مناقب أبي بكر الصديق.
3616- حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُخْتَارٍ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَى أَعْرَابِيٍّ يَعُودُهُ قَالَ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ عَلَى مَرِيضٍ يَعُودُهُ قَالَ لاَ بَأْسَ طَهُورٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَقَالَ لَهُ لاَ بَأْسَ طَهُورٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ قَالَ قُلْتُ طَهُورٌ كَلاَ بَلْ هِيَ حُمَّى تَفُورُ أَوْ تَثُورُ عَلَى شَيْخٍ كَبِيرٍ تُزِيرُهُ الْقُبُورَ". فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "فَنَعَمْ إِذًا".
[الحديث 3616 – أطرافه في: 5656، 5662، 7470]
3617- حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كَانَ رَجُلٌ نَصْرَانِيًّا فَأَسْلَمَ وَقَرَأَ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ فَكَانَ يَكْتُبُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَادَ نَصْرَانِيًّا فَكَانَ يَقُولُ مَا يَدْرِي مُحَمَّدٌ إِلاَّ مَا كَتَبْتُ لَهُ فَأَمَاتَهُ اللَّهُ فَدَفَنُوهُ فَأَصْبَحَ وَقَدْ لَفَظَتْهُ الأَرْضُ فَقَالُوا هَذَا فِعْلُ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ لَمَّا هَرَبَ مِنْهُمْ نَبَشُوا عَنْ صَاحِبِنَا فَأَلْقَوْهُ فَحَفَرُوا لَهُ فَأَعْمَقُوا فَأَصْبَحَ وَقَدْ لَفَظَتْهُ الأَرْضُ فَقَالُوا هَذَا فِعْلُ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ نَبَشُوا عَنْ صَاحِبِنَا لَمَّا هَرَبَ مِنْهُمْ فَأَلْقَوْهُ فَحَفَرُوا لَهُ وَأَعْمَقُوا لَهُ فِي الأَرْضِ مَا اسْتَطَاعُوا فَأَصْبَحَ وَقَدْ لَفَظَتْهُ الأَرْضُ فَعَلِمُوا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ النَّاسِ فَأَلْقَوْهُ".
ـــــــ
(1) في المتن "فحلب" ولعل ما وقع في الشرح رواية للمؤلف.

(6/624)


الحديث الثامن والثلاثون: حديث ابن عباس في قصة الأعرابي الذي أصابته الحمى فقال: "حمى تفور على شيخ كبير" الحديث، وسيأتي شرحه في كتاب الطب، ووجه دخوله في هذا الباب أن في بعض طرقه زيادة تقتضي إيراده في علامات النبوة، أخرجه الطبراني وغيره من رواية شرحبيل والد عبد الرحمن فذكر نحو حديث ابن عباس، وفي آخره: "فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما إذا أبيت فهي كما تقول قضاء الله كائن، فما أمسى من الغد إلا ميتا" وبهذه الزيادة يظهر دخول هذا الحديث في هذا الباب. وعجبت للإسماعيلي كيف نبه على مثل ذلك في قصة ثابت بن قيس وأغفله هنا. ووقع في "ربيع الأبرار" أن اسم هذا الأعرابي قيس، فقال في "باب الأمراض والعلل" دخل النبي صلى الله عليه وسلم على قيس بن أبي حازم يعوده، فذكر القصة. ولم أر تسميته لغيره، فهذا إن كان محفوظا فهو غير قيس بن أبي حازم أحد المخضرمين، لأن صاحب القصة مات في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وقيس لم ير النبي صلى الله عليه وسلم في حال إسلامه فلا صحبة له، ولكن أسلم في حياته، ولأبيه صحبة وعاش بعده دهرا طويلا. حديث أنس في الذي أسلم ثم ارتد فدفن فلفظته الأرض. قوله: "كان رجل نصرانيا" لم أقف على اسمه، لكن في رواية مسلم من طريق ثابت عن أنس "كان منا رجل من بني النجار". قوله: "فعاد نصرانيا" في رواية ثابت: "فانطلق هاربا حتى لحق بأهل الكتاب فرفعوه". قوله: "ما يدري محمد إلا ما كتبت له" في رواية الإسماعيلي: "كان يقول ما أرى يحسن محمد إلا ما كنت أكتب له" وروى ابن حبان من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة نحوه. قوله: "فأماته الله" في رواية ثابت "فما لبث أن قصم الله عنقه فيهم". قوله: "لما هرب منهم" في رواية الإسماعيلي: "لما لم يرض دينهم". قوله: "لفظته الأرض" بكسر الفاء أي طرحته ورمته، وحكي فتح الفاء. قوله: في آخره "فألقوه" في رواية ثابت "فتركوه منبوذا".
3618- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ وَأَخْبَرَنِي ابْنُ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا هَلَكَ كِسْرَى فَلاَ كِسْرَى بَعْدَهُ وَإِذَا هَلَكَ قَيْصَرُ فَلاَ قَيْصَرَ بَعْدَهُ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَتُنْفِقُنَّ كُنُوزَهُمَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ".
3619- حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رَفَعَهُ قَالَ: "إِذَا هَلَكَ كِسْرَى فَلاَ كِسْرَى بَعْدَهُ وَذَكَرَ وَقَالَ لَتُنْفَقَنَّ كُنُوزُهُمَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ".
الحديث الأربعون: حديث أبي هريرة "إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده". قوله: "كسرى" بكسر الكاف ويجوز الفتح، وهو لقب لكل من ولي مملكة الفرس، وقيصر لقب لكل من ولي مملكة الروم، قال ابن الأعرابي: الكسر أفصح في كسرى، وكان أبو حاتم يختاره، وأنكر الزجاج الكسر على ثعلب واحتج بأن النسبة إليه كسروي بالفتح، ورد عليه ابن فارس بأن النسبة قد يفتح فيها ما هو في الأصل مكسور أو مضموم كما قالوا في بني تغلب بكسر اللام تغلبي بفتحها، وفي سلمة كذلك، فليس فيه حجة على تخطئة الكسر، والله أعلم. وقد استشكل هذا مع بقاء مملكة الفرس لأن آخرهم قتل في زمان عثمان، واستشكل أيضا مع بقاء مملكة الروم وأجيب عن ذلك بأن المراد لا يبقى كسرى بالعراق ولا قيصر بالشام، وهذا منقول عن الشافعي قال: وسبب

(6/625)


الحديث أن قريشا كانوا يأتون الشام والعراق تجارا، فلما أسلموا خافوا انقطاع سفرهم إليهما لدخولهم في الإسلام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لهم تطييبا لقلوبهم وتبشيرا لهم بأن ملكهما سيزول عن الإقليمين المذكورين. وقيل: الحكمة في أن قيصر بقي ملكه وإنما ارتفع من الشام وما والاها وكسرى ذهب ملكه أصلا ورأسا أن قيصر لما جاءه كتاب النبي صلى الله عليه وسلم قبله وكاد أن يسلم كما مضى بسط ذلك في أول الكتاب، وكسرى لما أتاه كتاب النبي صلى الله عليه وسلم مزقه فدعا النبي صلى الله عليه وسلم أن يمزق ملكه كل ممزق فكان كذلك. قال الخطابي: معناه فلا قيصر بعده يملك مثل ما يملك، وذلك أنه كان بالشام وبها بيت المقدس الذي لا يتم للنصارى نسك إلا به، ولا يملك على الروم أحد إلا كان قد دخله إما سرا وإما جهرا، فانجلى عنها قيصر واستفتحت خزائنه ولم يخلفه أحد من القياصرة في تلك البلاد بعد، ووقع في الرواية التي في "باب الحرب خدعة" من كتاب الجهاد "هلك كسرى ثم لا يكون كسرى بعده، وليهلكن قيصر" قيل: والحكمة فيه أنه قال ذلك لما هلك كسرى بن هرمز كما سيأتي في حديث أبي بكرة في كتاب الأحكام قال: "بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن أهل فارس ملكوا عليهم امرأة" الحديث، وكان ذلك لما مات شيرويه بن كسرى فأمروا عليهم بنته بوران، وأما قيصر فعاش إلى زمن عمر سنة عشرين على الصحيح، وقيل مات في زمن النبي صلى الله عليه وسلم والذي حارب المسلمين بالشام ولده وكان يلقب أيضا قيصر، وعلى كل تقدير فالمراد من الحديث وقع لا محالة لأنهما لم تبق مملكتهما على الوجه الذي كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كما قررته. قال القرطبي في الكلام على الرواية التي لفظها "إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده" وعلى الرواية التي لفظها "هلك كسرى ثم لا يكون كسرى بعده" بين اللفظين بون، ويمكن الجمع بأن يكون أبو هريرة سمع أحد اللفظين قبل أن يموت كسرى والآخر بعد ذلك، قال: ويحتمل أن يقع التغاير بالموت والهلاك، فقوله: "إذا هلك كسرى" أي هلك ملكه وارتفع، وأما قوله: "مات كسرى ثم لا يكون كسرى بعده" فالمراد به كسرى حقيقة اهـ. ويحتمل أن يكون المراد بقوله: "هلك كسرى" تحقق وقوع ذلك حتى عبر عنه بلفظ الماضي وإن كان لم يقع بعد للمبالغة في ذلك كما قال تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} وهذا الجمع أولى لأن مخرج الروايتين متحد فحمله على التعدد على خلاف الأصل فلا يصار إليه مع إمكان هذا الجمع، والله أعلم. حديث جابر بن سمرة. قوله: "رفعه" تقدم في الجهاد، ووقع في رواية الإسماعيلي التي سأذكرها عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكذا تقدم في فرض الخمس من رواية جرير عن عبد الملك بن عمير. قوله: "وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده" كذا ثبت لأبي ذر وسقط لغيره، ووقع في رواية الإسماعيلي من وجه آخر عن قبيصة شيخ البخاري فيه، ومن وجه آخر عن سفيان وهو الثوري مثل رواية الجماعة، قال: وكذا قال لم يذكر قيصر وقال كنوزهما. قوله: "وذكر وقال لتنفقن كنوزهما في سبيل الله" وقع في رواية النسفي "وذكره" وهو متجه كأنه يقول: وذكر الحديث، أي مثل الذي قبله، وأما على رواية الباقين ففيه حذف تقديره: وذكر كلاما أو حديثا، ولم تقع هذه الزيادة في رواية الإسماعيلي المذكورة.
3620- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ حَدَّثَنَا نَافِعُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "قَدِمَ مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَلَ يَقُولُ إِنْ جَعَلَ لِي مُحَمَّدٌ الأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ تَبِعْتُهُ وَقَدِمَهَا فِي بَشَرٍ كَثِيرٍ مِنْ قَوْمِهِ فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ

(6/626)


شَمَّاسٍ وَفِي يَدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِطْعَةُ جَرِيدٍ حَتَّى وَقَفَ عَلَى مُسَيْلِمَةَ فِي أَصْحَابِهِ فَقَالَ لَوْ سَأَلْتَنِي هَذِهِ الْقِطْعَةَ مَا أَعْطَيْتُكَهَا وَلَنْ تَعْدُوَ أَمْرَ اللَّهِ فِيكَ وَلَئِنْ أَدْبَرْتَ ليَعْقِرَنَّكَ اللَّهُ وَإِنِّي لاَرَاكَ الَّذِي أُرِيتُ فِيكَ مَا رَأَيْتُ".
[الحديث 3620 – أطرافه في: 4373، 4378، 7033، 7461]
3621- فَأَخْبَرَنِي أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "بَيْنَمَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُ فِي يَدَيَّ سِوَارَيْنِ مِنْ ذَهَبٍ فَأَهَمَّنِي شَأْنُهُمَا فَأُوحِيَ إِلَيَّ فِي الْمَنَامِ أَنْ انْفُخْهُمَا فَنَفَخْتُهُمَا فَطَارَا فَأَوَّلْتُهُمَا كَذَّابَيْنِ يَخْرُجَانِ بَعْدِي فَكَانَ أَحَدُهُمَا الْعَنْسِيَّ وَالْآخَرُ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابَ صَاحِبَ الْيَمَامَةِ".
[الحديث 3621 – أطرافه في: 4374، 4375، 4379، 7034، 7037]
3622- حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ جَدِّهِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى أُرَاهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أُهَاجِرُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى أَرْضٍ بِهَا نَخْلٌ فَذَهَبَ وَهَلِي إِلَى أَنَّهَا الْيَمَامَةُ أَوْ هَجَرُ فَإِذَا هِيَ الْمَدِينَةُ يَثْرِبُ وَرَأَيْتُ فِي رُؤْيَايَ هَذِهِ أَنِّي هَزَزْتُ سَيْفًا فَانْقَطَعَ صَدْرُهُ فَإِذَا هُوَ مَا أُصِيبَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ أُحُدٍ ثُمَّ هَزَزْتُهُ بِأُخْرَى فَعَادَ أَحْسَنَ مَا كَانَ فَإِذَا هُوَ مَا جَاءَ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْفَتْحِ وَاجْتِمَاعِ الْمُؤْمِنِينَ وَرَأَيْتُ فِيهَا بَقَرًا وَاللَّهُ خَيْرٌ فَإِذَا هُمْ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ أُحُدٍ وَإِذَا الْخَيْرُ مَا جَاءَ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْخَيْرِ وَثَوَابِ الصِّدْقِ الَّذِي آتَانَا اللَّهُ بَعْدَ يَوْمِ بَدْرٍ".
[الحديث 3622 – أطرافه في: 3987، 4081، 7035، 7041]
الحديث الثاني والأربعون: حديث ابن عباس في قدوم مسيلمة، وفيه قول ابن عباس "فأخبرني أبو هريرة" فذكر المنام، وسيأتي شرح ذلك كله مبسوطا في أواخر المغازي، وقد ذكر هناك بالإسناد المذكور. الحديث الثالث والأربعون: حديث أبي موسى في رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بالهجرة وبأحد وسيأتي في ذكر غزوة أحد بهذا الإسناد بعينه وأذكر هناك شرحه إن شاء الله تعالى، وقد أفرد ما يتعلق منه بغزوة بدر في "باب فضل من شهد بدرا" وشرحته هناك، وعلق في "باب الهجرة إلى المدينة" أوله عن أبي موسى، وذكرت شرحه أيضا هناك.
3623- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ عَنْ فِرَاسٍ عَنْ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ أَقْبَلَتْ فَاطِمَةُ تَمْشِي كَأَنَّ مِشْيَتَهَا مَشْيُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَرْحَبًا بِابْنَتِي ثُمَّ أَجْلَسَهَا عَنْ يَمِينِهِ أَوْ عَنْ شِمَالِهِ ثُمَّ أَسَرَّ إِلَيْهَا حَدِيثً ا فَبَكَتْ فَقُلْتُ لَهَا لِمَ تَبْكِينَ ثُمَّ أَسَرَّ إِلَيْهَا حَدِيثًا فَضَحِكَتْ فَقُلْتُ مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ فَرَحًا أَقْرَبَ مِنْ حُزْنٍ فَسَأَلْتُهَا عَمَّا قَالَ فَقَالَتْ مَا كُنْتُ لِأُفْشِيَ سِرَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى قُبِضَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلْتُهَا".
[الحديث 3623 – أطرافه في: 3625، 3715، 4433، 6285]

(6/627)


3624- "فَقَالَتْ: أَسَرَّ إِلَيَّ إِنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُعَارِضُنِي الْقُرْآنَ كُلَّ سَنَةٍ مَرَّةً وَإِنَّهُ عَارَضَنِي الْعَامَ مَرَّتَيْنِ وَلاَ أُرَاهُ إِلاَّ حَضَرَ أَجَلِي وَإِنَّكِ أَوَّلُ أَهْلِ بَيْتِي لَحَاقًا بِي فَبَكَيْتُ فَقَالَ أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ تَكُونِي سَيِّدَةَ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَوْ نِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ فَضَحِكْتُ لِذَلِكَ".
[الحديث 3624 – أطرافه في: 3626، 3716، 4434، 6286]
3625- حدثني يحيى بن قزعة حدثنا إبراهيم بن سعد عن أبيه عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: "دعا النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة ابنته في شكواه التي قبض فيها فسارها بشيء فبكت، ثم دعاها فسارها فضحكت، قالت: فسألتها عن ذلك".
3626- "فقالت: سارني النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرني أنه يقبض في وجعه الذي توفي فيه فبكيت، ثم سارني فأخبرني أني أول أهل بيته أتبعه فضحكت".
3627- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَرْعَرَةَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُدْنِي ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ إِنَّ لَنَا أَبْنَاءً مِثْلَهُ فَقَالَ إِنَّهُ مِنْ حَيْثُ تَعْلَمُ فَسَأَلَ عُمَرُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} فَقَالَ: أَجَلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَمَهُ إِيَّاهُ قَالَ مَا أَعْلَمُ مِنْهَا إِلاَّ مَا تَعْلَمُ".
[الحديث 3627 – أطرافه في: 4294، 4430، 4969، 4970]
3628- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ حَنْظَلَةَ بْنِ الْغَسِيلِ حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ بِمِلْحَفَةٍ قَدْ عَصَّبَ بِعِصَابَةٍ دَسْمَاءَ حَتَّى جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ النَّاسَ يَكْثُرُونَ وَيَقِلُّ الأَنْصَارُ حَتَّى يَكُونُوا فِي النَّاسِ بِمَنْزِلَةِ الْمِلْحِ فِي الطَّعَامِ فَمَنْ وَلِيَ مِنْكُمْ شَيْئًا يَضُرُّ فِيهِ قَوْمًا وَيَنْفَعُ فِيهِ آخَرِينَ فَلْيَقْبَلْ مِنْ مُحْسِنِهِمْ وَيَتَجَاوَزْ عَنْ مُسِيئِهِمْ فَكَانَ آخِرَ مَجْلِسٍ جَلَسَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
3629- حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ الْجُعْفِيُّ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَخْرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ الْحَسَنَ فَصَعِدَ بِهِ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ".
3630- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلاَلٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَعَى جَعْفَرًا وَزَيْدًا قَبْلَ أَنْ يَجِيءَ خَبَرُهُمْ وَعَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ".

(6/628)


3631- حَدَّثَنا عَمْرُو بْنُ عَبَّاسٍ حَدَّثَنَا ابْنُ مَهْدِيٍّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "هَلْ لَكُمْ مِنْ أَنْمَاطٍ قُلْتُ وَأَنَّى يَكُونُ لَنَا الأَنْمَاطُ قَالَ أَمَا إِنَّهُ سَيَكُونُ لَكُمْ الأَنْمَاطُ فَأَنَا أَقُولُ لَهَا يَعْنِي امْرَأَتَهُ أَخِّرِي عَنِّي أَنْمَاطَكِ فَتَقُولُ أَلَمْ يَقُلْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّهَا سَتَكُونُ لَكُمْ الأَنْمَاطُ فَأَدَعُهَا".
[الحديث 3631 – طرفه في: 5161]
3632- حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ انْطَلَقَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ مُعْتَمِرًا قَالَ فَنَزَلَ عَلَى أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ أَبِي صَفْوَانَ وَكَانَ أُمَيَّةُ إِذَا انْطَلَقَ إِلَى الشَّأْمِ فَمَرَّ بِالْمَدِينَةِ نَزَلَ عَلَى سَعْدٍ فَقَالَ أُمَيَّةُ لِسَعْدٍ انْتَظِرْ حَتَّى إِذَا انْتَصَفَ النَّهَارُ وَغَفَلَ النَّاسُ انْطَلَقْتُ فَطُفْتُ فَبَيْنَا سَعْدٌ يَطُوفُ إِذَا أَبُو جَهْلٍ فَقَالَ مَنْ هَذَا الَّذِي يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ فَقَالَ سَعْدٌ أَنَا سَعْدٌ فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ تَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ آمِنًا وَقَدْ آوَيْتُمْ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ فَقَالَ نَعَمْ فَتَلاَحَيَا بَيْنَهُمَا فَقَالَ أُمَيَّةُ لسَعْدٍ لاَ تَرْفَعْ صَوْتَكَ عَلَى أَبِي الْحَكَمِ فَإِنَّهُ سَيِّدُ أَهْلِ الْوَادِي ثُمَّ قَالَ سَعْدٌ وَاللَّهِ لَئِنْ مَنَعْتَنِي أَنْ أَطُوفَ بِالْبَيْتِ لاَقْطَعَنَّ مَتْجَرَكَ بِالشَّامِ قَالَ فَجَعَلَ أُمَيَّةُ يَقُولُ لِسَعْدٍ لاَ تَرْفَعْ صَوْتَكَ وَجَعَلَ يُمْسِكُهُ فَغَضِبَ سَعْدٌ فَقَالَ دَعْنَا عَنْكَ فَإِنِّي سَمِعْتُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَزْعُمُ أَنَّهُ قَاتِلُكَ قَالَ إِيَّايَ قَالَ نَعَمْ قَالَ وَاللَّهِ مَا يَكْذِبُ مُحَمَّدٌ إِذَا حَدَّثَ فَرَجَعَ إِلَى امْرَأَتِهِ فَقَالَ أَمَا تَعْلَمِينَ مَا قَالَ لِي أَخِي الْيَثْرِبِيُّ قَالَتْ وَمَا قَالَ قَالَ زَعَمَ أَنَّه سَمِعَ مُحَمَّدًا يَزْعُمُ أَنَّهُ قَاتِلِي قَالَتْ فَوَاللَّهِ مَا يَكْذِبُ مُحَمَّدٌ قَالَ فَلَمَّا خَرَجُوا إِلَى بَدْرٍ وَجَاءَ الصَّرِيخُ قَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ أَمَا ذَكَرْتَ مَا قَالَ لَكَ أَخُوكَ الْيَثْرِبِيُّ قَالَ فَأَرَادَ أَنْ لاَ يَخْرُجَ فَقَالَ لَهُ أَبُو جَهْلٍ إِنَّكَ مِنْ أَشْرَافِ الْوَادِي فَسِرْ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ فَسَارَ مَعَهُمْ فَقَتَلَهُ اللَّهُ".
[الحديث 3632 – طرفه في: 3950]
3633- حَدَّثَنِي عَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ النَّرْسِيُّ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ قَالَ سَمِعْتُ أَبِي حَدَّثَنَا أَبُو عُثْمَانَ قَالَ أُنْبِئْتُ أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلاَم أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ أُمُّ سَلَمَةَ فَجَعَلَ يُحَدِّثُ ثُمَّ قَامَ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لِأُمِّ سَلَمَةَ مَنْ هَذَا أَوْ كَمَا قَالَ قَالَ قَالَتْ هَذَا دِحْيَةُ قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ ايْمُ اللَّهِ مَا حَسِبْتُهُ إِلاَّ إِيَّاهُ حَتَّى سَمِعْتُ خُطْبَةَ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخْبِرُ جِبْرِيلَ أَوْ كَمَا قَالَ قَالَ فَقُلْتُ لِأَبِي عُثْمَانَ مِمَّنْ سَمِعْتَ هَذَا قَالَ مِنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ".
3634- حَدَّثَنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ شَيْبَةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْمُغِيرَةِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ

(6/629)


سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال : "رَأَيْتُ النَّاسَ مُجْتَمِعِينَ فِي صَعِيدٍ فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ فَنَزَعَ ذَنُوبًا أَوْ ذَنُوبَيْنِ وَفِي بَعْضِ نَزْعِهِ ضَعْفٌ وَاللَّهُ يَغْفِرُ لَهُ ثُمَّ أَخَذَهَا عُمَرُ فَاسْتَحَالَتْ بِيَدِهِ غَرْبًا فَلَمْ أَرَ عَبْقَرِيًّا فِي النَّاسِ يَفْرِي فَرِيَّهُ حَتَّى ضَرَبَ النَّاسُ بِعَطَنٍ".
وَقَالَ هَمَّامٌ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَنَزَعَ أَبُو بَكْرٍ ذَنُوبًا أَوْ ذَنُوبَيْنِ ".
[الحديث 3634 – أطرافه في: 3676، 3682، 7019، 7020]
الحديث الرابع والأربعون: حديث عائشة "أقبلت فاطمة عليها السلام" الحديث في ذكر وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وإعلامه لها بأنها أول أهله لحوقا به، أخرجه من وجهين، وسيأتي في أواخر المغازي في الوفاة مشروحا وأذكر فيه وجه التوفيق بين الروايتين إن شاء الله تعالى. الحديث الخامس والأربعون: حديث ابن عباس "كان عمر يدني ابن عباس" الحديث في معنى هذه الآية {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} وسيأتي شرحه في تفسير سورة النصر. الحديث السادس والأربعون: حديث ابن عباس أيضا في خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في آخر عمره، وفيه وصيته بالأنصار، وسيأتي شرحه في مناقب الأنصار إن شاء الله تعالى. الحديث السابع والأربعون: حديث أبي بكر في أن الحسن سيد، وسيأتي شرحه في كتاب الفتن إن شاء الله تعالى. الحديث الثامن والأربعون: حديث أنس في قتل زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب، أورده مختصرا، وسيأتي شرحه في شرح غزوة مؤتة إن شاء الله تعالى. الحديث التاسع والأربعون: حديث جابر في ذكر الأنماط، وهي جمع نمط بفتحات مثل خبر وأخبار، والنمط بساط له خمل رقيق، وسيأتي شرحه في النكاح، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له ذلك لما تزوج، وقوله هنا: "فأنا أقول لها" يعني امرأته كذا في الأصل، وسيأتي تسمية امرأته هناك. وفي استدلالها على جواز اتخاذ الأنماط بإخباره صلى الله عليه وسلم بأنها ستكون نظر، لأن الإخبار بأن الشيء سيكون لا يقتضي إباحته إلا إن استدل المستدل به على التقرير فيقول أخبر الشارع بأنه سيكون ولم ينه عنه فكأنه أقره، وقد وقع قريب من هذا في حديث عدي بن حاتم الماضي في هذا الباب في خروج الظعينة من الحيرة إلى مكة بغير خفير، فاستدل به بعض الناس على جواز سفر المرأة بغير محرم، وفيه من البحث ما ذكر. الحديث الخمسون: حديث عبد الله بن مسعود في إخبار سعد بن معاذ لأمية بن خلف أنه سيقتل، وسيأتي شرحه مستوفى في أول المغازي إن شاء الله تعالى، وقد شرحه الكرماني على أن المراد بقول سعد بن معاذ لأمية بن خلف أنه قاتلك أي أبو جهل، ثم استشكل ذلك بكون أبي جهل على دين أميه، ثم أجاب بأنه كان السبب في خروجه وقتله فنسب قتله إليه، وهو فهم عجيب، وإنما أراد سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم يقتل أمية، وسيأتي التصريح بذلك في مكانه بما يشفي الغليل إن شاء الله تعالى. الحديث الحادي والخمسون: حديث أسامة بن زيد في ذكر جبريل، وسيأتي شرحه في غزوة قريظة إن شاء الله تعالى. الحديث الثاني والخمسون: حديث ابن عمر في رؤيا أبي بكر ينزع ذنوبا أو ذنوبين الحديث، وسيأتي شرحه في تعبير الرؤيا إن شاء الله تعالى. الحديث الثالث والخمسون: حديث أبي هريرة في ذلك، أورد منه طرفا معلقا، وهو موصول في التعبير أيضا من هذا الوجه ومن غيره، والله أعلم.

(6/630)


باب قول الله تعالى { يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ، و إن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون }
...
26 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى [146 البقرة]: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}
3635- حدثنا عبد الله بن يوسف أخبرنا مالك بن أنس عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما "أن اليهود جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له أن رجلا منهم وامرأة زنيا فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟ فقالوا: نفضحهم ويجلدون. فقال عبد الله بن سلام: كذبتم إن فيها الرجم، فأتوا بالتوراة فنشروها فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقرأ ما قبلها وما بعدها. فقال له عبد الله بن سلام: ارفع يدك فرفع يده فإذا فيها آية الرجم، فقالوا: صدق يا محمد فيها آية الرجم فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما. قال عبد الله: فرأيت الرجل يجنأ على المرأة يقيها الحجارة".
قوله: "باب قول الله تعالى: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ}" أورد فيه حديث ابن عمر في قصة اليهوديين اللذين زنيا، وسيأتي شرحه مستوفى في كتاب الحدود إن شاء تعالى، ونذكر هناك تسمية من أبهم في هذا الخبر، وقوله في آخره: "قال عبد الله فرأيت الرجل" عبد الله المذكور هو ابن عمر راوي الحديث، وقد وقع في الحديث ذكر عبد الله بن سلام وذكر عبد الله بن صوريا الأعور وليس واحد منهما مرادا بقوله: "قال عبد الله" ووجه دخول هذه الترجمة في أبواب علامات النبوة من جهة أنه أشار في الحديث إلى حكم التوراة وهو أمي لم يقرأ التوراة قبل ذلك فكان الأمر كما أشار إليه.

(6/631)


باب سؤال المشركين أن يريهم النبي صلى الله عليه و سلم آية ، فأراهم انشقاق القمر
...
27 - باب سُؤَالِ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُرِيَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آيَةً فَأَرَاهُمْ انْشِقَاقَ الْقَمَرِ
3636- حدثنا صدقة بن الفضل أخبرنا بن عيينة عن بن أبي نجيح عن مجاهد عن أبي معمر عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم شقتين فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اشهدوا".
[الحديث 3636 – أطرافه في: 3869، 3871، 4864، 4865]
3637- حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا يونس حدثنا شيبان عن قتادة عن أنس بن مالك وقال لي خليفة حدثنا يزيد بن زريع حدثنا سعيد عن قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه حدثهم "أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية فأراهم انشقاق القمر".
[الحديث 3637 – أطرافه في: 3868، 4867، 4868]
3638- حدثني خلف بن خالد القرشي حدثنا بكر بن مضر عن جعفر بن ربيعة عن عراك بن مالك عن عبيد الله بن عبد الله بن مسعود عن بن عباس رضي الله عنهما "أن القمر انشق في زمان النبي صلى الله عليه وسلم".
[الحديث 3638 – طرفاه في: 3870، 4866]

(6/631)


قوله: "باب سؤال المشركين أن يريهم النبي صلى الله عليه وسلم آية فأراهم انشقاق القمر" فذكر فيه حديث ابن مسعود وأنس وابن عباس في ذلك، وقد ورد انشقاق القمر أيضا من حديث علي وحذيفة وجبير بن مطعم وابن عمر وغيرهم، فأما أنس وابن عباس فلم يحضرا ذلك لأنه كان بمكة قبل الهجرة بنحو خمس سنين، وكان ابن عباس إذ ذاك لم يولد، وأما أنس فكان ابن أربع أو خمس بالمدينة، وأما غيرهما فيمكن أن يكون شاهد ذلك، وممن صرح برؤية ذلك ابن مسعود، وقد أورد المصنف حديثه هنا مختصرا وليس فيه التصريح بحضور ذلك، وأورده في التفسير من طريق إبراهيم عن أبي معمر بتمامه وفيه: "فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اشهدوا" وبين في رواية معلقة تأتي قبل هجرة الحبشة أن ذلك كان بمكة، ووقع في رواية لأبي نعيم في الدلائل من طريق عتبة بن عبد الله بن عتبة عن عم أبيه ابن مسعود "فلقد رأيت أحد شقيه على الجبل الذي بمنى ونحن بمكة" وسيأتي بقية الكلام عليه إن شاء الله تعالى.

(6/632)


28 - باب
3639- حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا مُعَاذٌ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ قَتَادَةَ حَدَّثَنَا أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَا مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ وَمَعَهُمَا مِثْلُ الْمِصْبَاحَيْنِ يُضِيئَانِ بَيْنَ أَيْدِيهِمَا فَلَمَّا افْتَرَقَا صَارَ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَاحِدٌ حَتَّى أَتَى أَهْلَهُ".
3640- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الأَسْوَدِ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا قَيْسٌ سَمِعْتُ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لاَ يَزَالُ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ ".
[الحديث 3640 – طرفاه في: 7311، 7459]
3641- حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ جَابِرٍ قَالَ حَدَّثَنِي عُمَيْرُ بْنُ هَانِئٍ أَنَّهُ سَمِعَ مُعَاوِيَةَ يَقُولُ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لاَ يَزَالُ مِنْ أُمَّتِي أُمَّةٌ قَائِمَةٌ بِأَمْرِ اللَّهِ لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ وَلاَ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ ". قَالَ عُمَيْرٌ فَقَالَ مَالِكُ بْنُ يُخَامِرَ قَالَ مُعَاذٌ: "وَهُمْ بِالشَّأْمِ" فَقَالَ مُعَاوِيَةُ هَذَا مَالِكٌ يَزْعُمُ أَنَّهُ سَمِعَ مُعَاذًا يَقُولُ: "وَهُمْ بِالشَّأْمِ".
3642- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا شَبِيبُ بْنُ غَرْقَدَةَ قَالَ سَمِعْتُ الْحَيَّ يُحَدِّثُونَ عَنْ عُرْوَةَ "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَاهُ دِينَارًا يَشْتَرِي لَهُ بِهِ شَاةً فَاشْتَرَى لَهُ بِهِ شَاتَيْنِ فَبَاعَ إِحْدَاهُمَا بِدِينَارٍ وَجَاءَهُ بِدِينَارٍ وَشَاةٍ فَدَعَا لَهُ بِالْبَرَكَةِ فِي بَيْعِهِ وَكَانَ لَوْ اشْتَرَى التُّرَابَ لَرَبِحَ فِيهِ".
قَالَ سُفْيَانُ: كَانَ الْحَسَنُ بْنُ عُمَارَةَ جَاءَنَا بِهَذَا الْحَدِيثِ عَنْهُ قَالَ سَمِعَهُ شَبِيبٌ مِنْ عُرْوَةَ فَأَتَيْتُهُ فَقَالَ شَبِيبٌ إِنِّي لَمْ أَسْمَعْهُ مِنْ عُرْوَةَ قَالَ سَمِعْتُ الْحَيَّ يُخْبِرُونَهُ عَنْهُ".
3643- "وَلَكِنْ سَمِعْتُهُ يَقُولُ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "الْخَيْرُ مَعْقُودٌ بِنَوَاصِي الْخَيْلِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ". قَالَ: وَقَدْ رَأَيْتُ فِي دَارِهِ سَبْعِينَ فَرَسًا. قَالَ سُفْيَانُ: "يَشْتَرِي لَهُ شَاةً كَأَنَّهَا أُضْحِيَّةٌ".

(6/632)


3644- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ أَخْبَرَنِي نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "الْخَيْلُ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ".
3645- حَدَّثَنَا قَيْسُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ".
3646- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْخَيْلُ لِثَلاَثَةٍ لِرَجُلٍ أَجْرٌ وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ وَعَلَى رَجُلٍ وِزْرٌ فَأَمَّا الَّذِي لَهُ أَجْرٌ فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأَطَالَ لَهَا فِي مَرْجٍ أَوْ رَوْضَةٍ وَمَا أَصَابَتْ فِي طِيَلِهَا مِنْ الْمَرْجِ أَوْ الرَّوْضَةِ كَانَتْ لَهُ حَسَنَاتٍ وَلَوْ أَنَّهَا قَطَعَتْ طِيَلَهَا فَاسْتَنَّتْ شَرَفًا أَوْ شَرَفَيْنِ كَانَتْ أَرْوَاثُهَا حَسَنَاتٍ لَهُ وَلَوْ أَنَّهَا مَرَّتْ بِنَهَرٍ فَشَرِبَتْ وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَسْقِيَهَا كَانَ ذَلِكَ لَهُ حَسَنَاتٍ وَرَجُلٌ رَبَطَهَا تَغَنِّيًا وَسِتْرًا وَتَعَفُّفًا وَلَمْ يَنْسَ حَقَّ اللَّهِ فِي رِقَابِهَا وَظُهُورِهَا فَهِيَ لَهُ كَذَلِكَ سِتْرٌ وَرَجُلٌ رَبَطَهَا فَخْرًا وَرِيَاءً وَنِوَاءً لِأَهْلِ الإِسْلاَمِ فَهِيَ وِزْرٌ وَسُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْحُمُرِ فَقَالَ مَا أُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهَا إِلاَّ هَذِهِ الْآيَةُ الْجَامِعَةُ الْفَاذَّةُ [7-8 الزلزلة]: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}".
3647- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ مُحَمَّدٍ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: "صَبَّحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ بُكْرَةً وَقَدْ خَرَجُوا بِالْمَسَاحِي فَلَمَّا رَأَوْهُ قَالُوا مُحَمَّدٌ وَالْخَمِيسُ وَأَحَالُوا إِلَى الْحِصْنِ يَسْعَوْنَ فَرَفَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَيْهِ وَقَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ خَرِبَتْ خَيْبَرُ إِنَّا إِذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ".
3648- حَدَّثَنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي الْفُدَيْكِ عَنْ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي سَمِعْتُ مِنْكَ حَدِيثًا كَثِيرًا فَأَنْسَاهُ قَالَ ابْسُطْ رِدَاءَكَ فَبَسَطْتُ فَغَرَفَ بِيَدِهِ فِيهِ ثُمَّ قَالَ ضُمَّهُ فَضَمَمْتُهُ فَمَا نَسِيتُ حَدِيثًا بَعْدُ".
قوله: "باب" كذا في الأصول بغير ترجمة، وكان من حقه أن يكون قبل البابين اللذين قبله لأنه ملحق بعلامات النبوة وهو كالفصل منها، لكن لما كان كل من البابين راجعا إلى الذي قبله وهو علامات النبوة سهل الأمر في ذلك وذكر فيه أحاديث: الحديث الأول: حديث أنس. قوله: "أن رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم" هما أسيد بن حضير وعباد بن بشر، وسيأتي بيان ذلك في فضائل الصحابة قريبا إن شاء الله تعالى. الحديث الثاني: حديث المغيرة بن شعبة

(6/633)


"لا يزال ناس من أمتي ظاهرين" الحديث، وسيأتي الكلام عليه في الاعتصام إن شاء الله تعالى. الحديث الثالث والرابع: حديث معاوية ومعاذ في المعنى، والوليد في الإسناد هو ابن مسلم، وابن جابر هو عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، ومالك بن يخامر بضم التحتانية بعدها معجمة خفيفة والميم مكسورة وهو السكسكي نزل حمص، وما له في البخاري سوى هذا الحديث، وقد أعاده بإسناد. ومتنه في التوحيد، وهو من كبار التابعين، وقد قيل إن له صحبة ولا يصح ويأتي البحث في المراد بالذين لا يزالون ظاهرين قائمين بأمر الدين إلى يوم القيامة في كتاب الاعتصام إن شاء الله تعالى. الحديث الخامس: حديث عروة وهو البارقي. قوله: "حدثنا شبيب بن غرقدة" هو بفتح المعجمة وموحدتين وزن سعيد، وغرقدة بفتح المعجمة وسكون الراء بعدها قاف، تابعي صغير ثقة عندهم، ما له في البخاري سوى هذا الحديث. قوله: "سمعت الحي يتحدثون" أي قبيلته، وهم منسوبون إلى بارق جبل باليمن نزله بنو سعد بن عدي بن حارثة بن عمرو بن عامر مزيقيا فنسبوا إليه، وهذا يقتضي أن يكون سمعه من جماعة أقلهم ثلاثة. قوله: "عن عروة" هو ابن الجعد أو ابن أبي الجعد، وقد تقدم بيان الصواب من ذلك في ذكر الخيل من كتاب الجهاد. قوله: "أعطاه دينارا يشتري له به شاة" في رواية أبي لبيد عند أحمد وغيره: "عن عروة بن أبي الجعد قال: عرض للنبي صلى الله عليه وسلم جلب، فأعطاني دينارا فقال: أي عروة ائت الجلب فاشتر لنا شاة، قال: فأتيت الجلب فساومت صاحبه فاشتريت منه شاتين بدينار". قوله: "فباع إحداهما بدينار" أي وبقي معه دينار. وفي رواية أبي لبيد فلقيني رجل فساومني فبعته شاة بدينار، وجئت بالدينار والشاة. قوله: "فدعا له بالبركة في بيعه" في رواية أبي لبيد عن عروة "فقال: اللهم بارك له في صفقة يمينه" وفيه أنه أمضى له ذلك وارتضاه، واستدل به على جواز بيع الفضولي، وتوقف الشافعي فيه فتارة قال: لا يصح لأن هذا الحديث غير ثابت، وهذه رواية المزني عنه، وتارة قال: إن صح الحديث قلت به، وهذه رواية البويطي. وقد أجاب من لم يأخذ بها بأنها واقعة عين، فيحتمل أن يكون عروة كان وكيلا في البيع والشراء معا، وهذا بحث قوي يقف به الاستدلال بهذا الحديث على تصرف الفضولي والله أعلم. وأما قول الخطابي والبيهقي وغيرهما: أنه غير متصل لأن الحي لم يسم أحد منهم فهو على طريقة بعض أهل الحديث يسمون ما في إسناده مبهم مرسلا أو منقطعا، والتحقيق إذا وقع التصريح بالسماع أنه متصل في إسناده مبهم، إذ لا فرق فيما يتعلق بالاتصال والانقطاع بين رواية المجهول والمعروف، فالمبهم نظير المجهول في ذلك، ومع ذلك فلا يقال في إسناد صرح كل من فيه بالسماع من شيخه إنه منقطع وإن كانوا أو بعضهم غير معروف. قوله: "وكان لو اشترى التراب لربح فيه" في رواية أبي لبيد المذكورة قال: "فلقد رأيتني أقف بكناسة الكوفة فأربح أربعين ألفا قبل أن أصل إلى أهلي" قال وكان يشتري الجواري ويبيع. قوله: "قال سفيان" هو ابن عيينة، وهو موصول بالإسناد المذكور. قوله: "كان الحسن بن عمارة" هو الكوفي أحد الفقهاء المتفق على ضعف حديثهم، وكان قاضي بغداد في زمن المنصور ثاني خلفاء بني العباس، ومات في خلافته سنة ثلاث أو أربع وخمسين ومائة. وقال ابن المبارك: جرحه عندي شعبة وسفيان كلاهما. وقال ابن حبان: كان يدلس عن الثقات ما سمعه من الضعفاء عنهم فالتصقت به تلك الموضوعات. قلت: وما له في البخاري إلا هذا الموضع. قوله: "جاءنا بهذا الحديث عنه" أي عن شبيب بن غرقدة. قوله: "قال" أي الحسن "سمعه شبيب عن عروة فأتيته" القائل سفيان والضمير لشبيب، وأراد البخاري بذلك بيان ضعف رواية الحسن بن عمارة وأن شبيبا لم يسمع الخبر من عروة وإنما سمعه من الحي ولم يسمعه عن عروة

(6/634)


فالحديث بهذا ضعيف للجهل بحالهم، لكن وجد له متابع عند أحمد وأبي داود والترمذي وابن ماجه من طريق سعيد بن زيد عن الزبير بن الخريت عن أبي لبيد قال حدثني عروة البارقي فذكر الحديث بمعناه، وقد قدمت ما في روايته من الفائدة، وله شاهد من حديث حكيم بن حزام وقد أخرجه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة عن سفيان عن شبيب عن عروة ولم يذكر بينهما أحدا، ورواية علي بن عبد الله وهو ابن المديني شيخ البخاري فيه تدل على أنه وقعت في هذه الرواية تسوية، وقد وافق عليا على إدخاله الواسطة بين شبيب وعروة أحمد والحميدي في مسنديهما وكذا مسدد عند أبي داود وابن أبو عمر والعباس بن الوليد عند الإسماعيلي، وهذا هو المعتمد. قوله: "قال سفيان يشتري له شاة كأنها أضحية" هو موصول أيضا، ولم أر في شيء من طرقه أنه أراد أضحية، وحديث الخيل تقدم الكلام عليه في الجهاد مستوفى، وزعم ابن القطان أن البخاري لم يرد بسياق هذا الحديث إلا حديث الخيل ولم يرد حديث الشاة وبالغ في الرد على من زعم أن البخاري أخرج حديث الشاة محتجا به لأنه ليس على شرطه لإبهام الواسطة فيه بين شبيب وعروة، وهو كما قال لكن ليس بذلك ما يمنع تخريجه ولا ما يحطه عن شرطه، لأن الحي يمتنع في العادة تواطؤهم على الكذب، ويضاف إلى ذلك ورود الحديث من الطريق التي هي الشاهد لصحة الحديث، ولأن المقصود منه الذي يدخل في علامات النبوة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لعروة فاستجيب له حتى كان لو اشترى التراب لربح فيه. وأما مسألة بيع الفضولي فلم يردها إذ لو أرادها لأوردها في البيوع، كذا قرره المنذري، وفيه نظر لأنه لم يطرد له في ذلك عمل، فقد يكون الحديث على شرطه ويعارضه عنده ما هو أولى بالعمل به من حديث آخر فلا يخرج ذلك الحديث في بابه ويخرجه في باب آخر أخفى لينبه بذلك على أنه صحيح إلا أن ما دل ظاهره عليه غير معمول به عنده والله أعلم. الحديث السادس والسابع: حديث ابن عمر في الخيل أيضا، وقد تقدم في الجهاد أيضا. الحديث الثامن: حديث أنس في الخيل أيضا، وقد تقدم في الجهاد أيضا. حديث أبي هريرة "الخيل لثلاثة" وقد تقدم الكلام عليه مستوفى في الجهاد، ولم يظهر لي وجه إيراد هذه الأحاديث في أبواب علامات النبوة إلا أن يكون من جملة ما أخبر به فوقع كما أخبر، وقد تقدم تقرير هذا التوجيه في أوائل الجهاد في "باب الجهاد ماض مع البر والفاجر". الحديث التاسع: حديث أنس في قوله: "الله أكبر خربت خيبر" وسيأتي شرحه مستوفى في المغازي، ووجه إيراده هنا من جهة أنه فهم من قوله: "خربت خيبر" الإخبار بذلك قبل وقوعه فوقع كذلك. الحديث العاشر: حديث أبي هريرة في سبب عدم نسيانه الحديث، وقد تقدم شرحه مستوفى في كتاب العلم، والله أعلم.
"خاتمة": اشتملت المناقب النبوية من أول المناقب إلى هنا من الأحاديث المرفوعة وما لها حكم المرفوع على مائة وتسعة وتسعين حديثا، المعلق منها سبعة عشر طريقا والبقية موصولة، المكرر منها فيها وفيما مضى ثمانية وسبعون حديثا والخالص مائة حديث وحديث، وافقه مسلم على تخريجها سوى ثمانية وعشرين حديثا وهي حديث ابن عباس في الشعوب، وحديث زينب بنت أبي سلمة "من مضر" وفي النبيد، وحديث ابن عباس في تفسير {الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} وحديث معاوية "إن هذا الأمر في قريش" وحديث عائشة والمسور في النذر، وحديث واثلة "من أعظم الفرى" وحديث أبي هريرة "أسلم وغفار خير من أسد وتميم" وحديث أبي هريرة في عمرو بن لحي، وحديث ابن عباس "إن سرك أن تعلم جهل العرب" وحديث أبي هريرة "ألا تعجبون كيف يصرف الله

(6/635)


عني شتم قريش" وحديث أبي بكر الصديق في قوله: "وا بأبي شبيه بالنبي" وحديث عبد الله بن بسر في صفة شيب النبي صلى الله عليه وسلم، وحديث البراء "كان وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل القمر" وحديث أبي هريرة "بعثت من خير قرون بني آدم"، وحديث جابر "كان النبي صلى الله عليه وسلم تنام عيناه ولا ينام قلبه" أورده معلقا، وحديث ابن مسعود "كنا نعد الآيات بركة" وحديث البراء "كنا بالحديبية أربع عشرة مائة والحديبية بئر فنزحناها" الحديث، وحديث جابر في حنين الجذع، وحديث ابن عمر فيه، وحديث عمرو بن تغلب في قتال الترك، وحديث خباب "ألا تستنصر لنا" وحديث ابن عباس في الذي قال: "شيخ كبير، وبه حمى تفور" وحديث ابن عباس في تفسير {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ} وحديثه في الوصية بالأنصار، وحديث سعد بن معاذ في قتل أمية بن خلف، وحديث معاذ في الذين لا يزالون ظاهرين بالشام، وفيه من الآثار عن الصحابة فمن بعدهم سبعة آثار، والله أعلم بالصواب.

(6/636)


المجلد السابع
كتاب فضائل الصحابة
باب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم
...
بسم الله الرحمن الرحيم
62- كتاب فضائل أصحاب النبي صلي الله علية وسلم
1- باب فَضَائِلِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ صَحِبَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ رَآهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ مِنْ أَصْحَابِهِ
3649- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو قَالَ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ فَيَغْزُو فِئَامٌ مِنْ النَّاسِ فَيَقُولُونَ فِيكُمْ مَنْ صَاحَبَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُولُونَ نَعَمْ فَيُفْتَحُ لَهُمْ ثُمَّ يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ فَيَغْزُو فِئَامٌ مِنْ النَّاسِ فَيُقَالُ هَلْ فِيكُمْ مَنْ صَاحَبَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُولُونَ نَعَمْ فَيُفْتَحُ لَهُمْ ثُمَّ يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ فَيَغْزُو فِئَامٌ مِنْ النَّاسِ فَيُقَالُ هَلْ فِيكُمْ مَنْ صَاحَبَ مَنْ صَاحَبَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُولُونَ نَعَمْ فَيُفْتَحُ لَهُمْ"
3650- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ حَدَّثَنَا النَّضْرُ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي جَمْرَةَ سَمِعْتُ زَهْدَمَ بْنَ مُضَرِّبٍ سَمِعْتُ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خَيْرُ أُمَّتِي قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ قَالَ عِمْرَانُ فَلاَ أَدْرِي أَذَكَرَ بَعْدَ قَرْنِهِ قَرْنَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا ثُمَّ إِنَّ بَعْدَكُمْ قَوْمًا يَشْهَدُونَ وَلاَ يُسْتَشْهَدُونَ وَيَخُونُونَ وَلاَ يُؤْتَمَنُونَ وَيَنْذُرُونَ وَلاَ يَفُونَ وَيَظْهَرُ فِيهِمْ السِّمَنُ "
3651- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَبِيدَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ "خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ يَجِيءُ قَوْمٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ وَكَانُوا يَضْرِبُونَنَا عَلَى الشَّهَادَةِ وَالْعَهْدِ وَنَحْنُ صِغَارٌ "
قوله: "باب فضائل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي بطريق الإجمال ثم التفصيل. أما الإجمال فيشمل جميعهم، لكنه اقتصر فيه على شيء مما يوافق شرطه. وأما التفصيل فلمن ورد فيه شيء بخصوصه على شرطه. وسقط لفظ: "باب" من رواية أبي ذر وحده. قوله: "ومن صحب النبي صلى الله عليه وسلم أو رآه من المسلمين فهو من أصحابه" يعني أن اسم صحبة النبي صلى الله عليه وسلم مستحق لمن صحبه أقل ما يطلق عليه اسم صحبة لغة وإن كان العرف يخص ذلك ببعض الملازمة. ويطلق أيضا على من رآه رؤية ولو على بعد. يميز ما رآه أو يكتفي بمجرد حصول الرؤية؟ محل نظر، وعمل من صنف في الصحابة يدل على الثاني، فإنهم ذكروا مثل محمد بن أبي بكر الصديق، وإنما ولد قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بثلاثة أشهر وأيام، كما ثبت في الصحيح أن

(7/3)


أمه أسماء بنت عميس ولدته في حجة الوداع قبل أن يدخلوا مكة، وذلك في أواخر ذي القعدة سنة عشر من الهجرة، ومع ذلك فأحاديث هذا الضرب مراسيل، والخلاف الجاري بين الجمهور وبين أبي إسحاق الإسفرايني ومن وافقه على رد المراسيل مطلقا حتى مراسيل الصحابة لا يجري في أحاديث هؤلاء لأن أحاديثهم لا من قبيل مراسيل كبار التابعين ولا من قبيل مراسيل الصحابة الذين سمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم وهذا مما يلغز به فيقال: صحابي حديثه مرسل لا يقبله من يقبل مراسيل الصحابة. ومنهم من بالغ فكان لا يعد في الصحابة إلا من صحب الصحبة العرفية، كما جاء عن عاصم الأحول قال: "رأى عبد الله بن سرجس رسول الله صلى الله عليه وسلم، غير أنه لم يكن له صحبة" أخرجه أحمد، هذا مع كون عاصم قد روى عن عبد الله بن سرجس هذا عدة أحاديث، وهي عند مسلم وأصحاب السنن، وأكثرها من رواية عاصم عنه، ومن جملتها قوله: إن النبي صلى الله عليه وسلم استغفر له. فهذا رأي عاصم أن الصحابي من يكون صحب الصحبة العرفية؛ وكذا روي عن سعيد بن المسيب أنه كان لا يعد في الصحابة إلا من أقام مع النبي صلى الله عليه وسلم سنة فصاعدا أو غزا غزوة فصاعدا، والعمل على خلاف هذا القول لأنهم اتفقوا على عد جمع جم في الصحابة لم يجتمعوا بالنبي صلى الله عليه وسلم إلا في حجة الوداع، ومن اشترط الصحبة العرفية أخرج من له رؤية أو من اجتمع به لكن فارقه عن قرب، كما جاء عن أنس أنه قيل له: هل بقي من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم غيرك؟ قال: لا، مع أنه كان في ذلك الوقت عدد كثير ممن لقيه من الأعراب. ومنهم من اشترط في ذلك أن يكون حين اجتماعه به بالغا، وهو مردود أيضا لأنه يخرج مثل الحسن بن علي ونحوه من أحداث الصحابة، والذي جزم به البخاري هو قول أحمد والجمهور من المحدثين وقول البخاري"من المسلمين" قيد يخرج به من صحبه أو من رآه من الكفار، فأما من أسلم بعد موته منهم فإن كان قوله: "من المسلمين" حالا خرج من هذه صفته وهو المعتمد. ويرد على التعريف من صحبه أو رآه مؤمنا به ثم ارتد بعد ذلك ولم يعد إلى الإسلام فإنه ليس صحابيا اتفاقا، فينبغي أن يزاد فيه: "ومات على ذلك". وقد وقع في مسند أحمد حديث ربيعة بن أمية بن خلف الجمحي وهو ممن أسلم في الفتح وشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع وحدث عنه بعد موته ثم لحقه الخذلان فلحق في خلافة عمر بالروم وتنصر بسبب شيء أغضبه، وإخراج حديث مثل هذا مشكل، ولعل من أخرجه لم يقف على قصة ارتداده والله أعلم. فلو ارتد ثم عاد إلى الإسلام لكن لم يره ثانيا بعد عوده فالصحيح أنه معدود في الصحابة لإطباق المحدثين على عد الأشعث بن قيس ونحوه ممن وقع له ذلك، وإخراجهم أحاديثهم في المسانيد، وهل يختص جميع ذلك ببني آدم أو يعم غيرهم من العقلاء؟ محل نظر، أما الجن فالراجح دخولهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إليهم قطعا، وهم مكلفون، فيهم العصاة والطائعون، فمن عرف اسمه منهم لا ينبغي التردد في ذكره في الصحابة وإن كان ابن الأثير عاب ذلك على أبي موسى فلم يستند في ذلك إلى حجة. وأما الملائكة فيتوقف عدهم فيهم على ثبوت بعثته إليهم، فإن فيه خلافا بين الأصوليين، حتى نقل بعضهم الإجماع على ثبوته، وعكس بعضهم، وهذا كله فيمن رآه وهو في قيد الحياة الدنيوية، أما من رآه بعد موته وقبل دفنه فالراجح أنه ليس بصحابي وإلا لعد من اتفق أن يرى جسده المكرم وهو في قبره المعظم ولو في هذه الأعصار، وكذلك من كشف له عنه من الأولياء فرآه كذلك على طريق الكرامة، إذ حجة من أثبت الصحبة لمن رآه قبل دفنه أنه مستمر الحياة، وهذه الحياة ليست دنيوية وإنما هي أخروية لا تتعلق بها أحكام الدنيا، فإن الشهداء أحياء ومع ذلك فإن الأحكام المتعلقة بهم بعد القتل جارية على أحكام غيرهم من الموتى، والله أعلم. وكذلك المراد بهذه الرؤية من اتفقت له ممن تقدم

(7/4)


شرحه وهو يقظان، أما من رآه في المنام وإن كان قد رآه حقا فذلك مما يرجع إلى الأمور المعنوية لا الأحكام الدنيوية فلذلك لا يعد صحابيا ولا يجب عليه أن يعمل بما أمره به في تلك الحالة والله أعلم. وقد وجدت ما جزم به البخاري من تعريف الصحابي في كلام شيخه علي بن المديني، فقرأت في"المستخرج لأبي القاسم بن منده" بسنده إلى أحمد بن سيار الحافظ المروزي قال: سمعت أحمد بن عتيك يقول قال علي بن المديني: من صحب النبي صلى الله عليه وسلم أو رآه ولو ساعة من نهار فهو من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وقد بسطت هذه المسألة فيما جمعته من علوم الحديث، وهذا القدر في هذا المكان كاف. حديث جابر بن عبد الله عن أبي سعيد، وهو من رواية صحابي عن صحابي. قوله: "يأتي على الناس زمان فيغزو فئام" بكسر الفاء ثم تحتانية بهمزة وحكي فيه ترك الهمزة أي جماعة، وقد تقدم ضبطه في"باب من استعان بالضعفاء" في أوائل الجهاد، ويستفاد منه بطلان قول من ادعى في هذه الأعصار المتأخرة الصحبة لأن الخبر يتضمن استمرار الجهاد والبعوث إلى بلاد الكفار وأنهم يسألون: هل فيكم أحد من أصحابه؟ فيقولون لا، وكذلك في التابعين وفي أتباع التابعين، وقد وقع كل ذلك فيما مضى وانقطعت البعوث عن بلاد الكفار في هذه الأعصار، بل انعكس الحال في ذلك على ما هو معلوم مشاهد من مدة متطاولة ولا سيما في بلاد الأندلس، وضبط أهل الحديث آخر من مات من الصحابة، وهو على الإطلاق، أبو الطفيل عامر بن واثلة الليثي كما جزم بن مسلم في صحيحه، وكان موته سنة مائة وقيل: سنة سبع ومائة وقيل: سنة عشر ومائة، وهو مطابق لقوله صلى الله عليه وسلم قبل وفاته بشهر: "على رأس مائة سنة لا يبقى على وجه الأرض ممن هو عليها اليوم أحد" ووقع في رواية أبي الزبير عن جابر عند مسلم ذكر طبقة رابعة ولفظه: "يأتي على الناس زمان يبعث منهم البعث فيقولون انظروا هل تجدون فيكم أحدا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ فيوجد الرجل فيفتح لهم، ثم يبعث البعث الثاني فيقولون انظروا - إلى أن قال - ثم يكون البعث الرابع"وهذه الرواية شاذة، وأكثر الروايات مقتصر على الثلاثة كما سأوضح ذلك في الحديث الذي بعده. ومثله حديث واثلة رفعه: "لا تزالون بخير ما دام فيكم من رآني وصاحبني، والله لا تزالون بخير ما دام فيكم من رأى من رآني وصاحبني" الحديث أخرجه ابن أبي شيبة وإسناده حسن. قوله: "حدثنا إسحاق" هو ابن راهويه وبذلك جزم ابن السكن وأبو نعيم في"المستخرج" والنضر هو ابن شميل، وأبو جمرة بالجيم والراء صاحب ابن عباس وحدث هنا عن تابعي مثله. قوله: "خير أمتي قرني" أي أهل قرني، والقرن أهل زمان واحد متقارب اشتركوا في أمر من الأمور المقصودة، ويقال إن ذلك مخصوص بما إذا اجتمعوا في زمن نبي أو رئيس يجمعهم على ملة أو مذهب أو عمل، ويطلق القرن على مدة من الزمان، واختلفوا في تحديدها من عشرة أعوام إلى مائة وعشرين لكن لم أر من صرح بالسبعين ولا بمائة وعشرة، وما عدا ذلك فقد قال به قائل. وذكر الجوهري بين الثلاثين والثمانين، وقد وقع في حديث عبد الله بن بسر عند مسلم ما يدل على أن القرن مائة وهو المشهور. وقال صاحب المطالع: القرن أمة هلكت فلم يبق منهم أحد، وثبتت المائة في حديث عبد الله بن بسر وهي ما عند أكثر أهل العراق، ولم يذكر صاحب"المحكم" الخمسين وذكر من عشر إلى سبعين ثم قال: هذا هو القدر المتوسط من أعمار أهل كل زمن، وهذا أعدل الأقوال وبه صرح ابن الأعرابي وقال: إنه مأخوذ من الأقران، ويمكن أن يحمل عليه المختلف من الأقوال المتقدمة ممن قال إن القرن أربعون فصاعدا، أما من قال إنه دون ذلك فلا يلتئم على هذا القول والله أعلم. والمراد بقرن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث

(7/5)


الصحابة، وقد سبق في صفة النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "وبعثت في خير قرون بني آدم" وفي رواية بريدة عند أحمد "خير هذه الأمة القرن الذين بعثت فيهم" وقد ظهر أن الذي بين البعثة وآخر من مات من الصحابة مائة سنة وعشرون سنة أو دونها أو فوقها بقليل على الاختلاف في وفاة أبي الطفيل، وإن اعتبر ذلك من بعد وفاته صلى الله عليه وسلم فيكون مائة سنة أو تسعين أو سبعا وتسعين، وأما قرن التابعين فإن اعتبر من سنة مائة كان نحو سبعين أو ثمانين، وأما الذين بعدهم فإن اعتبر منها كان نحوا من خمسين، فظهر بذلك أن مدة القرن تختلف باختلاف أعمار أهل كل زمان والله أعلم. واتفقوا أن آخر من كان من أتباع التابعين ممن يقبل قوله من عاش إلى حدود العشرين ومائتين، وفي هذا الوقت ظهرت البدع ظهورا فاشيا، وأطلقت المعتزلة ألسنتها، ورفعت الفلاسفة رءوسها، وامتحن أهل العلم ليقولوا بخلق القرآن، وتغيرت الأحوال تغيرا شديدا، ولم يزل الأمر في نقص إلى الآن. وظهر قوله صلى الله عليه وسلم: "ثم يفشو الكذب" ظهورا بينا حتى يشمل الأقوال والأفعال والمعتقدات والله المستعان. قوله: "ثم الذين يلونهم" أي القرن الذي بعدهم وهم التابعون "ثم الذين يلونهم" وهم أتباع التابعين، واقتضى هذا الحديث أن تكون الصحابة أفضل من التابعين والتابعون أفضل من أتباع التابعين، لكن هل هذه الأفضلية بالنسبة إلى المجموع أو الأفراد؟ محل بحث، وإلى الثاني نحا الجمهور، والأول قول ابن عبد البر، والذي يظهر أن من قاتل مع النبي صلى الله عليه وسلم أو في زمانه بأمره أو أنفق شيئا من ماله بسببه لا يعدله في الفضل أحد بعده كائنا من كان، وأما من لم يقع له ذلك فهو محل البحث، والأصل في ذلك قوله تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} الآية. واحتج ابن عبد البر بحديث: "مثل أمتي مثل المطر لا يدرى أوله خير أم آخره: " وهو حديث حسن له طرق قد يرتقى بها إلى الصحة، وأغرب النووي فعزاه في فتاويه إلى مسند أبي يعلى من حديث أنس بإسناد ضعيف، مع أنه عند الترمذي بإسناد أقوى منه من حديث أنس، وصححه ابن حبان من حديث عمار، وأجاب عنه النووي بما حاصله: أن المراد من يشتبه عليه الحال في ذلك من أهل الزمان الذين يدركون عيسى ابن مريم عليه السلام ويرون في زمانه من الخير والبركة وانتظام كلمة الإسلام ودحض كلمة الكفر، فيشتبه الحال على من شاهد ذلك أي الزمانين خير، وهذا الاشتباه مندفع بصريح قوله صلى الله عليه وسلم: "خير القرون قرني" والله أعلم. وقد روى ابن أبي شيبة من حديث عبد الرحمن بن جبير بن نفير أحد التابعين بإسناد حسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليدركن المسيح أقواما إنهم لمثلكم أو خير - ثلاثا - ولن يخزي الله أمة أنا أولها والمسيح آخرها" وروى أبو داود والترمذي من حديث أبي ثعلبة رفعه: "تأتي أيام للعامل فيهن أجر خمسين"، قيل: منهم أو منا يا رسول الله؟ قال: "بل منكم" وهو شاهد لحديث: "مثل أمتي مثل المطر" ، واحتج ابن عبد البر أيضا بحديث عمر رفعه: "أفضل الخلق إيمانا قوم في أصلاب الرجال يؤمنون بي ولم يروني" الحديث أخرجه الطيالسي وغيره، لكن إسناده ضعيف فلا حجة فيه. وروى أحمد والدارمي والطبراني من حديث أبي جمعة قال: "قال أبو عبيدة: يا رسول الله، أأحد خير منا؟ أسلمنا معك، وجاهدنا معك. قال: "قوم يكونون من بعدكم يؤمنون بي ولم يروني" وإسناده حسن وقد صححه الحاكم. واحتج بأن السبب في كون القرن الأول خير القرون أنهم كانوا غرباء في إيمانهم لكثرة الكفار حينئذ وصبرهم على أذاهم وتمسكهم بدينهم، قال: فكذلك أواخرهم إذا أقاموا الدين وتمسكوا به

(7/6)


وصبروا على الطاعة حين ظهور المعاصي والفتن كانوا أيضا عند ذلك غرباء، وزكت أعمالهم في ذلك الزمان كما زكت أعمال أولئك. ويشهد له ما رواه مسلم عن أبي هريرة رفعه: "بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء" وقد تعقب كلام ابن عبد البر بأن مقتضى كلامه أن يكون فيمن يأتي بعد الصحابة من يكون أفضل من بعض الصحابة، وبذلك صرح القرطبي، لكن كلام ابن عبد البر ليس على الإطلاق في حق جميع الصحابة، فإنه صرح في كلامه باستثناء أهل بدر والحديبية. نعم والذي ذهب إليه الجمهور أن فضيلة الصحبة لا يعدلها عمل لمشاهدة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما من اتفق له الذب عنه والسبق إليه بالهجرة أو النصرة وضبط الشرع المتلقى عنه وتبليغه لمن بعده فإنه لا يعدله أحد ممن يأتي بعده، لأنه ما من خصلة من الخصال المذكورة إلا وللذي سبق بها مثل أجر من عمل بها من بعده، فظهر فضلهم. ومحصل النزاع يتمحض فيمن لم يحصل له إلا مجرد المشاهدة كما تقدم، فإن جمع بين مختلف الأحاديث المذكورة كان متجها، على أن حديث: "للعامل منهم أجر خمسين منكم" لا يدل على أفضلية غير الصحابة على الصحابة، لأن مجرد زيادة الأجر لا يستلزم ثبوت الأفضلية المطلقة، وأيضا فالأجر إنما يقع تفاضله بالنسبة إلى ما يماثله في ذلك العمل فأما ما فاز به من شاهد النبي صلى الله عليه وسلم من زيادة فضيلة المشاهدة فلا يعدله فيها أحد، فبهذه الطريق يمكن تأويل الأحاديث المتقدمة، وأما حديث أبي جمعة فلم تتفق الرواة على لفظه، فقد رواه بعضهم بلفظ الخيرية كما تقدم، ورواه بعضهم بلفظ: "قلنا يا رسول الله هل من قوم أعظم منا أجرا "؟ الحديث أخرجه الطبراني وإسناد هذه الرواية أقوى من إسناد الرواية المتقدمة، وهي توافق حديث أبي ثعلبة، وقد تقدم الجواب عنه والله أعلم. قوله: "فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة" وقع مثل هذا الشك في حديث ابن مسعود وأبي هريرة عند مسلم، وفي حديث بريدة عند أحمد، وجاء في أكثر الطرق بغير شك، منها عن النعمان بن بشير عند أحمد، وعن مالك عند مسلم عن عائشة"قال رجل: يا رسول الله أي الناس خير؟ قال: "القرن الذي أنا فيه، ثم الثاني، ثم الثالث" ووقع في رواية الطبراني وسمويه ما يفسر به هذا السؤال، وهو ما أخرجاه من طريق بلال بن سعد بن تميم عن أبيه قال قلت: يا رسول الله أي الناس خير؟ فقال: "أنا وقرني" فذكر مثله. وللطيالسي من حديث عمر رفعه: "خير أمتي القرن الذي أنا منهم، ثم الثاني، ثم الثالث " ووقع في حديث جعدة بن هبيرة عند ابن أبي شيبة والطبراني إثبات القرن الرابع ولفظه: "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الآخرون أردأ" ورجاله ثقات، إلا أن جعدة مختلف في صحبته والله أعلم. قوله: "ثم إن بعدهم(1) قوما" كذا للأكثر، ولبعضهم"قوم" فيحتمل أن يكون من الناسخ على طريقة من لا يكتب الألف في المنصوب، ويحتمل أن تكون"إن" تقريرية بمعنى نعم وفيه بعد وتكلف. واستدل بهذا الحديث على تعديل أهل القرون الثلاثة وإن تفاوتت منازلهم في الفضل، وهذا محمول على الغالب والأكثرية، فقد وجد فيمن بعد الصحابة من القرنين من وجدت فيه الصفات المذكورة المذمومة لكن بقلة، بخلاف من بعد القرون الثلاثة فإن ذلك كثر فيهم واشتهر، وفيه بيان من ترد شهادتهم وهم من اتصف بالصفات المذكورة، وإلى ذلك الإشارة بقوله: "ثم يفشو الكذب" أي يكثر. واستدل به على جواز المفاضلة بين الصحابة قاله المازري، وقد تقدم باقي شرحه في الشهادات. حديث ابن مسعود في المعنى وفد تقدم في الشهادات سندا ومتنا، وتقدم من شرحه هناك ما يتعلق بالشهادات، والله أعلم.
ـــــــ
(1) في نسخ المتن "بعدكم"وعليها شرح القسطلاني وقال : بالكاف

(7/7)


2- باب مَنَاقِبِ الْمُهَاجِرِينَ وَفَضْلِهِمْ
مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي قُحَافَةَ التَّيْمِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى [الحشر 8]: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}
وَقَالَ [التوبة 40]: {إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} إِلَى قَوْلِهِ {إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}
قَالَتْ عَائِشَةُ وَأَبُو سَعِيدٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ "وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْغَارِ"
3652- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْبَرَاءِ قَالَ اشْتَرَى أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ عَازِبٍ رَحْلًا بِثَلاَثَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لِعَازِبٍ مُرْ الْبَرَاءَ فَلْيَحْمِلْ إِلَيَّ رَحْلِي فَقَالَ عَازِبٌ لاَ حَتَّى تُحَدِّثَنَا كَيْفَ صَنَعْتَ أَنْتَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ خَرَجْتُمَا مِنْ مَكَّةَ وَالْمُشْرِكُونَ يَطْلُبُونَكُمْ قَالَ ارْتَحَلْنَا مِنْ مَكَّةَ فَأَحْيَيْنَا أَوْ سَرَيْنَا لَيْلَتَنَا وَيَوْمَنَا حَتَّى أَظْهَرْنَا وَقَامَ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ فَرَمَيْتُ بِبَصَرِي هَلْ أَرَى مِنْ ظِلٍّ فَآوِيَ إِلَيْهِ فَإِذَا صَخْرَةٌ أَتَيْتُهَا فَنَظَرْتُ بَقِيَّةَ ظِلٍّ لَهَا فَسَوَّيْتُهُ ثُمَّ فَرَشْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ ثُمَّ قُلْتُ لَهُ اضْطَجِعْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ فَاضْطَجَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ انْطَلَقْتُ أَنْظُرُ مَا حَوْلِي هَلْ أَرَى مِنْ الطَّلَبِ أَحَدًا فَإِذَا أَنَا بِرَاعِي غَنَمٍ يَسُوقُ غَنَمَهُ إِلَى الصَّخْرَةِ يُرِيدُ مِنْهَا الَّذِي أَرَدْنَا فَسَأَلْتُهُ فَقُلْتُ لَهُ لِمَنْ أَنْتَ يَا غُلاَمُ قَالَ لِرَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ سَمَّاهُ فَعَرَفْتُهُ فَقُلْتُ هَلْ فِي غَنَمِكَ مِنْ لَبَنٍ قَالَ نَعَمْ قُلْتُ فَهَلْ أَنْتَ حَالِبٌ لَنَا قَالَ نَعَمْ فَأَمَرْتُهُ فَاعْتَقَلَ شَاةً مِنْ غَنَمِهِ ثُمَّ أَمَرْتُهُ أَنْ يَنْفُضَ ضَرْعَهَا مِنْ الْغُبَارِ ثُمَّ أَمَرْتُهُ أَنْ يَنْفُضَ كَفَّيْهِ فَقَالَ هَكَذَا ضَرَبَ إِحْدَى كَفَّيْهِ بِالأُخْرَى فَحَلَبَ لِي كُثْبَةً مِنْ لَبَنٍ وَقَدْ جَعَلْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِدَاوَةً عَلَى فَمِهَا خِرْقَةٌ فَصَبَبْتُ عَلَى اللَّبَنِ حَتَّى بَرَدَ أَسْفَلُهُ فَانْطَلَقْتُ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَافَقْتُهُ قَدْ اسْتَيْقَظَ فَقُلْتُ اشْرَبْ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَشَرِبَ حَتَّى رَضِيتُ ثُمَّ قُلْتُ قَدْ آنَ الرَّحِيلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ بَلَى فَارْتَحَلْنَا وَالْقَوْمُ يَطْلُبُونَنَا فَلَمْ يُدْرِكْنَا أَحَدٌ مِنْهُمْ غَيْرُ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ عَلَى فَرَسٍ لَهُ فَقُلْتُ هَذَا الطَّلَبُ قَدْ لَحِقَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ "لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا" {تريحون } بالعشي، {تشرحون} بالغداة.
3653- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قُلْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا فِي الْغَارِ لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ تَحْتَ قَدَمَيْهِ لاَبْصَرَنَا فَقَالَ "مَا ظَنُّكَ يَا أَبَا بَكْرٍ بِاثْنَيْنِ

(7/8)


اللَّهُ ثَالِثُهُمَا"
[الحديث 3653- طرفاه في : 3922، 4663 ]
قوله: "باب مناقب المهاجرين وفضلهم" سقط لفظ: "باب" من رواية أبي ذر، والمراد بالمهاجرين من عدا الأنصار ومن أسلم يوم الفتح وهلم جرا، فالصحابة من هذه الحيثية ثلاثة أصناف، والأنصار هم الأوس والخزرج وحلفاؤهم ومواليهم. قوله: "منهم أبو بكر عبد الله بن أبي قحافة التيمي" هكذا جزم بأن اسم أبي بكر عبد الله وهو المشهور، ويقال كان اسمه قبل الإسلام عبد الكعبة وكان يسمى أيضا عتيقا، واختلف هل هو اسم له أصلي أو قيل له ذلك لأنه ليس في نسبه ما يعاب به أو لقدمه في الخير وسبقه إلى الإسلام أو قيل له ذلك لحسنه أو لأن أمه كان لا يعيش لها ولد فلما ولد استقبلت به البيت فقالت اللهم هذا عتيقك من الموت أو لأن النبي صلى الله عليه وسلم بشره بأن الله أعتقه من النار، وقد ورد في هذا الأخير حديث عن عائشة عند الترمذي، وآخر عن عبد الله بن الزبير عند البزار، وصححه ابن حبان وزاد فيه: "وكان اسمه قبل ذلك عبد الله بن عثمان" وعثمان اسم أبي قحافة لم يختلف في ذلك كما لم يختلف في كنية الصديق ولقب الصديق لسبقه إلى تصديق النبي صلى الله عليه وسلم وقيل: كان ابتداء تسميته بذلك صبيحة الإسراء. وروى الطبراني من حديث علي"أنه كان يحلف أن الله أنزل اسم أبي بكر من السماء الصديق" رجاله ثقات. وأما نسبه فهو عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب، يجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في مرة بن كعب، وعدد آبائهما إلى مرة سواء، وأم أبي بكر سلمى وتكنى أم الخير بنت صخر بن مالك بن عامر بن عمرو المذكور، أسلمت وهاجرت، وذلك معدود من مناقبه، لأنه انتظم إسلام أبويه وجميع أولاده. قوله: "وقول الله عز وجل: { لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} الآية" ساقها الأصيلي وكريمة إلى قوله: {هُمُ الصَّادِقُونَ} وأشار المصنف بهذه الآية إلى ثبوت فضل المهاجرين لما اشتملت عليه من أوصافهم الجميلة وشهادة الله تعالى لهم بالصدق.قوله: "وقال الله تعالى: {إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} الآية" ساق في رواية الأصيلي وكريمة إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} وأشار المصنف بها إلى ثبوت فضل الأنصار فإنهم امتثلوا الأمر في نصره، وكان نصر الله له في حال التوجه إلى المدينة بحفظه من أذى المشركين الذين اتبعوه ليردوه عن مقصده. وفي الآية أيضا فضل أبي بكر الصديق لأنه انفرد بهذه المنقبة حيث صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك السفرة ووقاه بنفسه كما سيأتي، وشهد الله له فيها بأنه صاحب نبيه. قوله: "وقالت عائشة وأبو سعيد وابن عباس: كان أبو بكر مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغار" أي لما خرجا من مكة إلى المدينة، حديث عائشة سيأتي مطولا في"باب الهجرة إلى المدينة" وفيه: "ثم لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بغار في جبل ثور" الحديث. وحديث أبي سعيد أخرجه ابن حبان من طريق أبي عوانة عن الأعمش عن أبي صالح عنه في قصة بعث أبي بكر إلى الحج، وفيه: "فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنت أخي وصاحبي في الغار" الحديث. وحديث ابن عباس في تفسير براءة في قصة ابن عباس مع ابن الزبير، وفيها قول ابن عباس"وأما جده فصاحب الغار" يريد أبا بكر، ولابن عباس حديث آخر لعله أمس بالمراد، أخرجه أحمد والحاكم من طريق عمرو بن ميمون عنه قال: "كان المشركون يرمون عليا وهم يظنون أنه النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء أبو بكر فقال: يا رسول الله، فقال له علي: إنه انطلق نحو بئر ميمون فأدركه، قال فانطلق أبو بكر فدخل معه الغار" الحديث. وأصله في الترمذي والنسائي دون المقصود منه هنا. وروى الحاكم من طريق سعيد بن جبير عن ابن

(7/9)


عباس في قوله تعالى {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} قال: "على أبي بكر "وروى عبد الله بن أحمد في "زيادات المسند" من وجه آخر عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أبو بكر صاحبي ومؤنسي في الغار " الحديث" ورجاله ثقات. قوله: "حدثنا عبد الله بن رجاء" هو الغداني بضم المعجمة وتخفيف الدال المهملة وبعد الألف نون بصري ثقة، وكذا بقية رجال الإسناد. قوله: "فقال عازب: لا حتى تحدثنا" كذا وقع في رواية إسرائيل عن أبي إسحاق، وقد تقدم في"علامات النبوة" من رواية زهير عن أبي إسحاق بلفظ: "فقال لعازب: ابعث ابنك يحمله معي، قال: فحملته معه وخرج أبي ينتقد ثمنه، فقال له أبي: يا أبا بكر حدثني" وظاهرهما التخالف، فإن مقتضى رواية إسرائيل أن عازبا امتنع من إرسال ولده مع أبي بكر حتى يحدثهم، ومقتضى رواية زهير أنه لم يعلق التحديث على شرط، ويمكن الجمع بين الروايتين بأن عازبا اشترط أولا وأجابه أبو بكر إلى سؤاله، فلما شرعوا في التوجه استنجز عازب منه ما وعده به من التحديث ففعل، قال الخطابي: تمسك بهذا الحديث من استجاز أخذ الأجرة على التحديث؛ وهو تمسك باطل، لأن هؤلاء اتخذوا التحديث بضاعة، وأما الذي وقع بين عازب وأبي بكر فإنما هو على مقتضى العادة الجارية بين التجار بأن أتباعهم يحملون السلعة مع المشتري سواء أعطاهم أجرة أم لا، كذا قال، ولا ريب أن في الاستدلال للجواز بذلك بعدا، لتوقفه على أن عازبا لو استمر على الامتناع من إرسال ابنه لاستمر أبو بكر على الامتناع من التحديث، والله أعلم. قوله: "فإذا أنا براع" لم أقف على تسميته ولا على تسمية صاحب الغنم، إلا أنه جاء في حديث عبد الله بن مسعود شيء تمسك به من زعم أنه الراعي، وذلك فيما أخرجه أحمد وابن حبان من طريق عاصم، عن زر عن ابن مسعود قال: "كنت أرعى غنما لعقبة بن أبي معيط، فمر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر فقال: يا غلام هل من لبن؟ قلت: نعم، ولكني مؤتمن" الحديث وهذا لا يصلح أن يفسر به الراعي في حديث البراء لأن ذاك قيل له: "هل أنت حالب؟ فقال: نعم" وهذا أشار بأنه غير حالب، وذاك حلب من شاة حافل وهذا من شاة لم تطرق ولم تحمل، ثم إن في بقية هذا الحديث ما يدل على أن قصته كانت قبل الهجرة لقوله فيه: "ثم أتيته بعد هذا فقلت: يا رسول الله علمني من هذا القول" فإن هذا يشعر بأنها كانت قبل إسلام ابن مسعود، وإسلام ابن مسعود كان قديما قبل الهجرة بزمان، فبطل أن يكون هو صاحب القصة في الهجرة، والله أعلم. قوله: "فشرب حتى رضيت" وقع في رواية أوس عن خديج عن أبي إسحاق"قال أبو إسحاق فتكلم بكلمة والله ما سمعتها من غيره: "كأنه يعني قوله: "حتى رضيت" فإنها مشعرة بأنه أمعن في الشرب، وعادته المألوفة كانت عدم الإمعان. قوله: "قد آن الرحيل يا رسول الله" أي دخل وقته، وتقدم في علامات النبوة"فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ألم يأن للرحيل؟ قلت: بلى" فيجمع بينهما بأن يكون النبي صلى الله عليه وسلم بدأ فسأل، فقال له أبو بكر بلى، ثم أعاد عليه بقوله: "قد آن الرحيل" قال المهلب بن أبي صفرة: إنما شرب النبي صلى الله عليه وسلم من لبن تلك الغنم لأنه كان حينئذ في زمن المكارمة، ولا يعارضه حديثه"لا يحلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه" لأن ذلك وقع في زمن التشاح، أو الثاني محمول على التسور والاختلاس والأول لم يقع فيه ذلك بل قدم أبو بكر سؤال الراعي هل أنت حالب؟ فقال: نعم، كأنه سأله هل أذن لك صاحب الغنم في حلبها لمن يرد عليك؟ فقال: نعم أو جرى على العادة المألوفة للعرب في إباحة ذلك والإذن في الحلب على المار ولابن السبيل، فكان كل راع مأذونا له في ذلك. وقال الداودي: إنما شرب من ذلك على أنه ابن سبيل وله شرب ذلك إذا احتاج، ولا سيما النبي صلى الله عليه وسلم: "وأبعد من قال: إنما استجازه لأنه مال العربي، لأن

(7/10)


القتال لم يكن فرض بعد ولا أبيحت الغنائم. وقد تقدم شيء من هذه المباحث في هذه المسألة في آخر اللقطة، وفيها الكلام على إباحة ذلك للمسافر مطلقا. وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدم: خدمة التابع الحر للمتبوع في يقظته والذب عنه عند نومه، وشدة محبة أبي بكر للنبي صلى الله عليه وسلم وأدبه معه وإيثاره له على نفسه، وفيه أدب الأكل والشرب واستحباب التنظيف لما يؤكل ويشرب، وفيه استصحاب آلة السفر كالإداوة والسفرة ولا يقدح ذلك في التوكل، وستأتي قصة سراقة في الهجرة مستوفاة إن شاء الله تعالى، وأوردها هنا مختصرة جدا وفي علامات النبوة أتم "تنبيه": أورد الإسماعيلي هذا الحديث عن أبي خليفة عن عبد الله بن رجاء شيخ البخاري فيه فزاد في آخره: "ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا معه حتى أتينا المدينة ليلا، فتنازعه القوم أيهم ينزل عليه" فذكر القصة مطولة، وسأذكر ما فيها من الفوائد في"باب الهجرة" إن شاء الله تعالى. قوله: "تريحون بالعشي، تسرحون بالغداة" هو تفسير قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} وهو تفسير أبي عبيدة في"المجاز" وثبت هذا في رواية الكشميهني وحده، والصواب أن يثبت في حديث عائشة في قصة الهجرة فإن فيه: "ويرعى عليها عامر بن فهيرة ويريحهما عليهما" فهذا هو محل شرح هذه اللفظة بخلاف حديث البراء فلم يجر فيه لهذه اللفظة ذكر، والله تعالى أعلم. قوله: "عن ثابت" في رواية حبان بن هلال في التفسير عن همام"حدثنا ثابت". قوله: "عن أنس عن أبي بكر" في رواية حبان المذكورة"حدثنا أنس حدثني أبو بكر". قوله: "قلت للنبي صلى الله عليه وسلم وأنا في الغار"زاد في رواية حبان المذكورة" فرأيت آثار المشركين" وفي رواية موسى بن إسماعيل عن همام في الهجرة"فرفعت رأسي فإذا أنا بأقدام القوم". قوله: "لو أن أحدهم نظر تحت قدميه" فيه مجيء"لو" الشرطية للاستقبال خلافا للأكثر واستدل من جوزه بمجيء الفعل المضارع بعدها كقوله تعالى: {لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} ، وعلى هذا فيكون قاله حالة وقوفهم على الغار، وعلى القول الأكثر يكون قاله بعد مضيهم شكرا لله تعالى على صيانتهما منهم. قوله: "لو أن أحدهم نظر تحت قدميه" في رواية موسى"لو أن بعضهم طأطأ بصره" وفي رواية حبان: "رفع قدميه" ووقع مثله في حديث حبشي بن جنادة أخرجه ابن عساكر، وهي مشكلة فإن ظاهرها أن باب الغار استتر بأقدامهم، وليس كذلك إلا أن يحمل على أن المراد أنه استتر بثيابهم، وقد أخرجه مسلم من رواية حبان المذكورة بلفظ: "لو أن أحدهم نظر إلى قدميه أبصرنا تحت قدميه" وكذا أخرجه أحمد عن عفان عن همام، ووقع في مغازي عروة بن الزبير في قصة الهجرة قال: "وأتى المشركون على الجبل الذي فيه الغار الذي فيه النبي صلى الله عليه وسلم حتى طلعوا فوقه، وسمع أبو بكر أصواتهم فأقبل عليه الهم والخوف، فعند ذلك يقول له النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تحزن إن الله معنا" ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت عليه السكينة، وفي ذلك يقول الله عز وجل: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} الآية وهذا يقوي أنه قال ما في حديث الباب حينئذ، ولذلك أجابه بقوله: {لا تَحْزَنْ} . قوله: "ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما" في رواية موسى "فقال اسكت يا أبا بكر، اثنان الله ثالثهما" وقوله اثنان خبر مبتدأ محذوف تقديره نحن اثنان، ومعنى ثالثهما ناصرهما ومعينهما، وإلا فالله ثالث كل اثنين بعلمه، وستأتي الإشارة إلى ذلك في تفسير براءة. وفي الحديث منقبة ظاهرة لأبي بكر، وفيه أن باب الغار كان منخفضا إلا أنه كان ضيقا، فقد جاء في"السير للواقدي" أن رجلا كشف عن فرجه وجلس يبول فقال أبو بكر"قد رآنا يا رسول الله. قال: "لو رآنا لم يكشف عن فرجه" وسيأتي مزيد لذلك في قصة الهجرة إن شاء الله تعالى. "تنبيه": اشتهر أن حديث الباب تفرد به همام

(7/11)


عن ثابت، وممن صرح بذلك الترمذي والبزار، وقد أخرجه ابن شاهين في"الأفراد" من طريق جعفر بن سليمان عن ثابت بمتابعة همام، وقد قدمت له شاهدا من حديث حبشي بن جنادة، ووجدت له آخر عن ابن عباس أخرجه الحاكم في "الإكليل "

(7/12)


باب سدوا الأبواب إلا باب أبي بكر
...
3-باب قول النبي صلى الله عليه وسلم "سدوا الأبواب، إلا باب أبي بكر" ، قاله ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم"
3654- حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ قَالَ حَدَّثَنِي سَالِمٌ أَبُو النَّضْرِ عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ وَقَالَ "إِنَّ اللَّهَ خَيَّرَ عَبْدًا بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ فَاخْتَارَ ذَلِكَ الْعَبْدُ مَا عِنْدَ اللَّهِ" قَالَ فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ فَعَجِبْنَا لِبُكَائِهِ أَنْ يُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ عَبْدٍ خُيِّرَ فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْمُخَيَّرَ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ أَعْلَمَنَا فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ مِنْ أَمَنِّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أَبَا بَكْرٍ وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا غَيْرَ رَبِّي لاَتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ وَلَكِنْ أُخُوَّةُ الإِسْلاَمِ وَمَوَدَّتُهُ لاَ يَبْقَيَنَّ فِي الْمَسْجِدِ بَابٌ إِلاَّ سُدَّ، إِلاَّ بَابَ أَبِي بَكْرٍ"
قوله باب "قال النبي صلى الله عليه وسلم: "سدوا لأبواب ،أبي بكر"، قال ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم وصله المصنف في الصلاة بلفظ: "سدوا عني كل خوخة" فكأنه ذكره بالمعنى. الحديث: "حدثنا أبو عامر" هو العقدي و "فليح" هو ابن سليمان، وهو ومن فوقه مدنيون. قوله: "عن عبيد بن حنين(1)" تقدم بيان الاختلاف في إسناده في"باب الخوخة في المسجد" في أوائل الصلاة. قوله: "خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم"في رواية مالك عن أبي النضر الآتية في الهجرة إلى المدينة" جلس على المنبر فقال: "وفي حديث ابن عباس الماضي تلو حديث أبي سعيد في "باب الخوخة" من أوائل الصلاة"في مرضه الذي مات فيه:"ولمسلم من حديث جندب"سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول قبل أن يموت بخمس ليال" وفي حديث أبي بن كعب الذي سأنبه عليه قريبا"إن أحدث عهدي بنبيكم قبل وفاته بثلاث" فذكر الحديث في خطبة أبي بكر، وهو طرف من هذا، وكأن أبا بكر رضي الله عنه فهم الرمز الذي أشار به النبي صلى الله عليه وسلم من قرينة ذكره ذلك في مرض موته، فاستشعر منه أنه أراد نفسه فلذلك بكى. قوله: "بين الدنيا وبين ما عنده" في رواية مالك المذكورة"بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء وبين ما عنده". قوله: "فعجبنا لبكائه" وقع في رواية محمد بن سنان في"باب الخوخة" المذكورة"فقلت في نفسي" وفي رواية مالك"فقال الناس انظروا إلى هذا الشيخ يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد، وهو يقول فديناك" ويجمع بأن أبا سعيد حدث نفسه بذلك فوافق تحديث غيره بذلك فنقل جميع ذلك. قوله: "وكان أبو بكر أعلمنا" في رواية مالك"وكان أبو بكر هو أعلمنا به" أي بالنبي صلى الله عليه وسلم، أو بالمراد من الكلام المذكور، زاد في رواية محمد بن سنان"فقال: يا أبا بكر لا تبك". قوله: "إن أمن الناس علي في صحبته وماله أبو بكر" في رواية مالك كذلك. وفي رواية محمد بن سنان"إن من أمن الناس علي" بزيادة من. وقال فيها"أبا بكر" بالنصب للأكثر، ولبعضهم"أبو بكر" بالرفع، وقد قيل إن الرفع خطأ
ـــــــ
(1) في هامش طبعة بولاق: كذا في النسخ التي بأيدينا وهو غير مذكور في سند الصحيح بأيدينا

(7/12)


والصواب النصب لأنه اسم إن، ووجه الرفع بتقدير ضمير الشأن أي إنه، والجار والمجرور بعده خبر مقدم وأبو بكر مبتدأ مؤخر، أو على أن مجموع الكنية اسم فلا يعرب ما وقع فيها من الأداة أو"إن" بمعنى نعم أو إن"من"زائدة على رأي الكسائي،وقال ابن بري: يجوز الرفع إذا جعلت من صفة لشيء محذوف تقديره إن رجلا أو إنسانا من أمن الناس فيكون اسم إن محذوفا والجار والمجرور في موضع الصفة، وقوله: "أبو بكر" الخبر، وقوله: "أمن" أفعل تفضيل من المن بمعنى العطاء والبذل، بمعنى إن أبذل الناس لنفسه وماله، لا من المنة التي تفسد الصنيعة، وقد تقدم تقرير ذلك في"باب الخوخة" وأغرب الداودي فشرحه على أنه من المنة وقال: تقديره لو كان يتوجه لأحد الامتنان على نبي الله صلى الله عليه وسلم لتوجه له، والأول أولى. وقوله: "أمن الناس" في رواية الباب ما يوافق حديث ابن عباس بلفظ: "ليس أحد من الناس أمن علي في نفسه وماله من أبي بكر" وأما الرواية التي فيها"من" فإن قلنا زائدة فلا تخالف، وإلا فتحمل على أن المراد أن لغيره مشاركة ما في الأفضلية إلا أنه مقدم في ذلك بدليل ما تقدم من السياق وما تأخر، ويؤيده ما رواه الترمذي من حديث أبي هريرة بلفظ: "ما لأحد له عندنا يد إلا كافأناه عليها؛ ما خلا أبا بكر فإن له عندنا يدا يكافئه الله بها يوم القيامة" فإن ذلك يدل على ثبوت يد لغيره، إلا أن لأبي بكر رجحانا. فالحاصل أنه حيث أطلق أراد أنه أرجحهم في ذلك، وحيث لم يطلق أراد الإشارة إلى من شاركه في شيء من ذلك، ووقع بيان ذلك في حديث آخر لابن عباس رفعه نحو حديث الترمذي وزاد: "منة أعتق بلالا ومنة هاجر بنبيه" أخرجه الطبراني، وعنه في طريق أخرى"ما أحد أعظم عندي يدا من أبي بكر: واساني بنفسه وماله، وأنكحني ابنته" أخرجه الطبراني، وفي حديث مالك بن دينار عن أنس رفعه: "إن أعظم الناس علينا منا أبو بكر، زوجني ابنته، وواساني بنفسه. وإن خير المسلمين مالا أبو بكر، أعتق منه بلالا، وحملني إلى دار الهجرة" أخرجه ابن عساكر، وأخرج من رواية ابن حبان التيمي عن أبيه عن علي نحوه، وجاء عن عائشة مقدار المال الذي أنفقه أبو بكر، فروى ابن حبان من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها قالت: "أنفق أبو بكر على النبي صلى الله عليه وسلم أربعين ألف درهم" وروى الزبير بن بكار عن عروة عن عائشة"أنه لما مات ما ترك دينارا ولا درهما". قوله: "لو كنت متخذا خليلا" يأتي الكلام عليه بعد باب، قال الداودي: لا ينافي هذا قول أبي هريرة وأبي ذر وغيرهما: "أخبرني خليلي صلى الله عليه وسلم، لأن ذلك جائز لهم، ولا يجوز للواحد منهم أن يقول أنا خليل النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا يقال إبراهيم خليل الله ولا يقال الله خليل إبراهيم. قلت: ولا يخفى ما فيه. قوله: "ولكن أخوة الإسلام ومودته" أي حاصلة، ووقع في حديث ابن عباس الآتي بعد باب"أفضل" وكذا أخرجه الطبراني من طريق عبيد الله بن تمام عن خالد الحذاء بلفظ: "ولكن أخوة الإيمان والإسلام أفضل" وأخرجه أبو يعلى من طريق يعلى بن حكيم عن عكرمة بلفظ: "ولكن خلة الإسلام أفضل" وفيه إشكال، فإن الخلة أفضل من أخوة الإسلام لأنها تستلزم ذلك وزيادة، فقيل المراد أن مودة الإسلام مع النبي صلى الله عليه وسلم يفضل من مودته مع غيره، وقيل: أفضل بمعنى فاضل، ولا يعكر على ذلك اشتراك جميع الصحابة في هذه الفضيلة لأن رجحان أبي بكر عرف من غير ذلك، وأخوة الإسلام ومودته متفاوتة بين المسلمين في نصر الدين وإعلاء كلمة الحق وتحصيل كثرة الثواب، ولأبي بكر من ذلك أعظمه وأكثره، والله أعلم. ووقع في بعض الروايات"ولكن خوة الإسلام" بغير ألف فقال ابن بطال: لا أعرف معنى هذه الكلمة ولم أجد خوة بمعنى خلة في كلام العرب، وقد وجدت في بعض الروايات

(7/13)


"ولكن خلة الإسلام" وهو الصواب: وقال ابن التين: لعل الألف سقطت من الرواية فإنها ثابتة في سائر الروايات، ووجه ابن مالك بأنه نقلت حركة الهمزة إلى النون فحذف الألف، وجوز مع حذفها ضم نون لكن وسكونها، قال: ولا يجوز مع إثبات الهمزة إلا سكون النون فقط. وفي قوله: "ولو كنت متخذا خليلا إلخ" منقبة عظيمة لأبي بكر لم يشاركه فيها أحد. ونقل ابن التين عن بعضهم أن معنى قوله: "ولو كنت متخذا خليلا" لو كنت أخص أحدا بشيء من أمر الدين لخصصت أبا بكر، قال: وفيه دلالة على كذب الشيعة في دعواهم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان خص عليا بأشياء من القرآن وأمور الدين لم يخص بها غيره. قلت: والاستدلال بذلك متوقف على صحة التأويل المذكور وما بعدها. قوله: "لا يبقين" بفتح أوله وبنون التأكيد، وفي إضافة النهي إلى الباب تجوز لأن عدم بقائه لازم للنهي عن إبقائه، فكأنه قال: لا تبقوه حتى لا يبقى. وقد رواه بعضهم بضم أوله وهو واضح. قوله: "إلا سد" بضم المهملة. وفي رواية مالك "خوخة" بدل "باب" والخوخة طاقة في الجدار تفتح لأجل الضوء ولا يشترط علوها، وحيث تكون سفلى يمكن الاستطراق منها لاستقراب الوصول إلى مكان مطلوب، وهو المقصود هنا، ولهذا أطلق عليها باب، وقيل: لا يطلق عليها باب إلا إذا كانت تغلق. قوله: "إلا باب أبي بكر" هو استثناء مفرغ، والمعنى لا تبقوا بابا غير مسدود إلا باب أبي بكر فاتركوه بغير سد، قال الخطابي وابن بطال وغيرهما: في هذا الحديث اختصاص ظاهر لأبي بكر، وفيه إشارة قوية إلى استحقاقه للخلافة، ولا سيما وقد ثبت أن ذلك كان في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم في الوقت الذي أمرهم فيه أن لا يؤمهم إلا أبو بكر. وقد ادعى بعضهم أن الباب كناية عن الخلافة والأمر بالسد كناية عن طلبها كأنه قال: لا يطلبن أحد الخلافة إلا أبا بكر فإنه لا حرج عليه في طلبها، وإلى هذا جنح ابن حبان فقال بعد أن أخرج هذا الحديث: في هذا دليل على أنه الخليفة بعد النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه حسم بقوله: "سدوا عني كل خوخة في المسجد" أطماع الناس كلهم عن أن يكونوا خلفاء بعده. وقوى بعضهم ذلك بأن منزلا أبي بكر كان بالسنح من عوالي المدينة كما سيأتي قريبا بعد باب فلا يكون له خوخة إلى المسجد، وهذا الإسناد ضعيف لأنه لا يلزم من كون منزله كان بالسنح أن لا يكون له دار مجاورة للمسجد، ومنزله الذي كان بالسنح هو منزل أصهاره من الأنصار، وقد كان له إذ ذاك زوجة أخرى وهي أسماء بنت عميس بالاتفاق وأم رومان على القول بأنها كانت باقية يومئذ. وقد تعقب المحب الطبري كلام ابن حبان فقال: وقد ذكر عمر بن شبة في"أخبار المدينة" أن دار أبي بكر التي أذن له في إبقاء الخوخة منها إلى المسجد كانت ملاصقة للمسجد ولم تزل بيد أبي بكر حتى احتاج إلى شيء يعطيه لبعض من وفد عليه فباعها فاشترتها منه حفصة أم المؤمنين بأربعة آلاف درهم فلم تزل بيدها إلى أن أرادوا توسيع المسجد في خلافة عثمان فطلبوها منها ليوسعوا بها المسجد فامتنعت وقالت: كيف بطريقي إلى المسجد؟ فقيل لها نعطيك دارا أوسع منها ونجعل لك طريقا مثلها، فسلمت ورضيت. قوله: "إلا باب أبي بكر" زاد الطبراني من حديث معاوية في آخر هذا الحديث بمعناه"فإني رأيت عليه نورا". "تنبيه": جاء في سد الأبواب التي حول المسجد أحاديث يخالف ظاهرها حديث الباب، منها حديث سعد بن أبي وقاص قال: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسد الأبواب الشارعة في المسجد وترك باب علي" أخرجه أحمد والنسائي وإسناده قوي. وفي رواية للطبراني في "الأوسط" رجالها ثقات من الزيادة "فقالوا يا رسول الله سددت أبوابنا، فقال: "ما أنا سددتها ولكن الله سدها" وعن زيد بن أرقم قال: "كان لنفر من الصحابة أبواب شارعة في المسجد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سدوا هذه الأبواب إلا باب علي" ،

(7/14)


فتكلم ناس في ذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني والله ما سددت شيئا ولا فتحته ولكن أمرت بشيء فاتبعته" أخرجه أحمد والنسائي والحاكم ورجاله ثقات، وعن ابن عباس قال: "أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبواب المسجد فسدت إلا باب علي"وفي رواية: "وأمر بسد الأبواب غير باب علي فكان يدخل المسجد وهو جنب ليس له طريق غيره: "أخرجهما أحمد والنسائي ورجالهما ثقات. وعن جابر بن سمرة قال: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسد الأبواب كلها غير باب علي، فربما مر فيه وهو جنب" أخرجه الطبراني. وعن ابن عمر قال: "كنا نقول في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم: رسول الله صلى الله عليه وسلم خير الناس ثم أبو بكر ثم عمر، ولقد أعطي علي بن أبي طالب ثلاث خصال لأن يكون لي واحدة منهن أحب إلي من حمر النعم: زوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنته وولدت له، وسد الأبواب إلا بابه في المسجد، وأعطاه الراية يوم خيبر" أخرجه أحمد وإسناده حسن. وأخرج النسائي من طريق العلاء بن عرار بمهملات قال: "فقلت لابن عمر: أخبرني عن علي وعثمان - فذكر الحديث وفيه - وأما علي فلا تسأل عنه أحدا وانظر إلى منزلته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد سد أبوابنا في المسجد وأقر بابه" ورجاله رجال الصحيح إلا العلاء وقد وثقه يحيى بن معين وغيره. وهذه الأحاديث يقوي بعضها بعضا وكل طريق منها صالح للاحتجاج فضلا عن مجموعها. وقد أورد ابن الجوزي هذا الحديث في الموضوعات، أخرجه من حديث سعد بن أبي وقاص وزيد بن أرقم وابن عمر مقتصرا على بعض طرقه عنهم، وأعله ببعض من تكلم فيه من رواته، وليس ذلك بقادح لما ذكرت من كثرة الطرق، وأعله أيضا بأنه مخالف للأحاديث الصحيحة الثابتة في باب أبي بكر وزعم أنه من وضع الرافضة قابلوا به الحديث الصحيح في باب أبي بكر انتهى، وأخطأ في ذلك خطأ شنيعا فإنه سلك في ذلك رد الأحاديث الصحيحة بتوهمه المعارضة، مع أن الجمع بين القصتين ممكن، وقد أشار إلى ذلك البزار في مسنده فقال: ورد من روايات أهل الكوفة بأسانيد حسان في قصة علي، وورد من روايات أهل المدينة في قصة أبي بكر، فإن ثبتت روايات أهل الكوفة فالجمع بينهما بما دل عليه حديث أبي سعيد الخدري يعني الذي أخرجه الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل لأحد أن يطرق هذا المسجد جنبا غيري وغيرك" والمعنى أن باب علي كان إلى جهة المسجد ولم يكن لبيته باب غيره فلذلك لم يؤمر بسده، ويؤيد ذلك ما أخرجه إسماعيل القاضي في"أحكام القرآن" من طريق المطلب بن عبد الله بن حنطب "أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأذن لأحد أن يمر في المسجد وهو جنب إلا لعلي بن أبي طالب لأن بيته كان في المسجد" ومحصل الجمع أن الأمر بسد الأبواب وقع مرتين، ففي الأولى استثني علي لما ذكره، وفي الأخرى استثني أبو بكر، ولكن لا يتم ذلك إلا بأن يحمل ما في قصة علي على الباب الحقيقي وما في قصة أبي بكر على الباب المجازي والمراد به الخوخة كما صرح به في بعض طرقه، وكأنهم لما أمروا بسد الأبواب سدوها وأحدثوا خوخا يستقربون الدخول إلى المسجد منها فأمروا بعد ذلك بسدها، فهذه طريقة لا بأس بها في الجمع بين الحديثين، وبها جمع بين الحديثين المذكورين أبو جعفر الطحاوي في مشكل الآثار، وهو في أوائل الثلث الثالث منه، وأبو بكر الكلاباذي في"معاني الأخبار" وصرح بأن بيت أبي بكر كان له باب من خارج المسجد وخوخة إلى داخل المسجد، وبيت علي لم يكن له باب إلا من داخل المسجد، والله أعلم. وفي حديث الباب من الفوائد غير ما تقدم فضيلة ظاهرة لأبي بكر الصديق وأنه كان متأهلا لأن يتخذه النبي صلى الله عليه وسلم خليلا لولا المانع المتقدم ذكره، ويؤخذ منه أن للخليل صفه خاصة تقتضي عدم المشاركة فيها، وأن المساجد تصان عن التطرق إليها لغير ضرورة مهمة، والإشارة بالعلم الخاص دون التصريح لإثارة أفهام

(7/15)


السامعين وتفاوت العلماء في الفهم وأن من كان أرفع في الفهم استحق أن يطلق عليه أعلم، وفيه الترغيب في اختيار ما في الآخرة على ما في الدنيا، وقيه شكر المحسن والتنويه بفضله والثناء عليه. وقال ابن بطال: فيه أن المرشح للإمامة يخص بكرامة تدل عليه كما وقع في حق الصديق في هذه القصة.

(7/16)


4 - باب فَضْلِ أَبِي بَكْرٍ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
3655- حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ كُنَّا نُخَيِّرُ بَيْنَ النَّاسِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنُخَيِّرُ أَبَا بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ثُمَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
[الحديث: 3655- طرفه في: 3697]
قوله: "باب فضل أبي بكر - بعد النبي صلى الله عليه وسلم" أي في رتبة الفضل، وليس المراد البعدية الزمانية فإن فضل أبي بكر كان ثابتا في حياته صلى الله عليه وسلم كما دل عليه حديث الباب. الحديث: قوله: "حدثنا سليمان" هو ابن بلال، ويحيى بن سعيد هو الأنصاري، والإسناد كله مدنيون. قوله: "كنا نخير بين الناس في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي نقول: فلان خير من فلان إلخ. وفي رواية عبيد الله بن عمر عن نافع الآتية في مناقب عثمان"كنا لا نعدل بأبي بكر أحدا ثم عمر ثم عثمان، ثم نترك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا نفاضل بينهم" وقوله: "لا نعدل بأبي بكر" أي لا نجعل له مثلا، وقوله: "ثم نترك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي الكلام فيه ولأبي داود من طريق سالم عن ابن عمر"كنا نقول ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي: أفضل أمة النبي صلى الله عليه وسلم بعده أبو بكر ثم عمر ثم عثمان" زاد الطبراني في رواية: "فيسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك فلا ينكره" وروى خيثمة بن سليمان في فضائل الصحابة من طريق سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن ابن عمر كنا نقول: "إذا ذهب أبو بكر وعمر وعثمان استوى الناس، فيسمع النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فلا ينكره" وهكذا أخرجه الإسماعيلي من طريق ابن أبي أويس عن سليمان بن بلال في حديث الباب دون آخره. وفي الحديث تقديم عثمان بعد أبي بكر وعمر، كما هو المشهور عند جمهور أهل السنة، وذهب بعض السلف إلى تقديم علي على عثمان، وممن قال به سفيان الثوري ويقال إنه رجع عنه. وقال به ابن خزيمة، وطائفة قبله وبعده، وقيل لا يفضل أحدهما على الآخر قاله مالك في"المدونة" وتبعه جماعة منهم يحيى القطان، ومن المتأخرين ابن حزم، وحديث الباب حجة للجمهور، وقد طعن فيه ابن عبد البر واستند إلى ما حكاه عن هارون بن إسحاق قال: سمعت ابن معين يقول: من قال أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعرف لعلي سابقيته وفضله فهو صاحب سنة، قال فذكرت له من يقول أبو بكر وعمر وعثمان ويسكتون فتكلم فيهم بكلام غليظ، وتعقب بأن ابن معين أنكر رأي قوم وهم العثمانية الذين يغالون في حب عثمان وينتقصون عليا، ولا شك في أن من اقتصر على ذلك ولم يعرف لعلي بن أبي طالب فضله فهو مذموم، وادعى ابن عبد البر أيضا أن هذا الحديث خلاف قول أهل السنة إن عليا أفضل الناس بعد الثلاثة، فإنهم أجمعوا على أن عليا أفضل الخلق بعد الثلاثة، ودل هذا الإجماع على أن حديث ابن عمر غلط وإن كان السند إليه صحيحا، وتعقب أيضا بأنه لا يلزم من سكوتهم إذ ذاك عن تفضيله عدم تفضيله على الدوام، وبأن الإجماع المذكور إنما حدث بعد الزمن الذي قيده ابن عمر فيخرج حديثه عن أن يكون غلطا، والذي أظن أن ابن عبد البر إنما أنكر الزيادة التي

(7/16)


وقعت في رواية عبيد الله بن عمر وهي قول ابن عمر"ثم نترك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلخ" لكن لم ينفرد بها نافع فقد تابعه ابن الماجشون أخرجه خيثمة من طريق يوسف بن الماجشون عن أبيه عن ابن عمر"كنا نقول في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر وعثمان، ثم ندع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا نفاضل بينهم" ومع ذلك فلا يلزم من تركهم التفاضل إذ ذاك أن لا يكونوا اعتقدوا بعد ذلك تفضيل علي على من سواه والله أعلم. وقد اعترف ابن عمر بتقديم علي على غيره كما تقدم في حديثه الذي أوردته في الباب الذي قبله، وقد جاء في بعض الطرق في حديث ابن عمر تقييد الخيرية المذكورة والأفضلية بما يتعلق بالخلافة، وذلك فيما أخرجه ابن عساكر عن عبد الله بن يسار عن سالم عن ابن عمر قال: "إنكم لتعلمون أنا كنا نقول على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبو بكر وعمر وعثمان، يعني في الخلافة" كذا في أصل الحديث. ومن طريق عبيد الله عن نافع عن ابن عمر"كنا نقول في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يكون أولى الناس بهذا الأمر؟ فنقول: أبو بكر ثم عمر". وذهب قوم إلى أن أفضل الصحابة من استشهد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وعين بعضهم منهم جعفر بن أبي طالب. ومنهم من ذهب إلى العباس وهو قول مرغوب عنه ليس قائله من أهل السنة بل ولا من أهل الإيمان، ومنهم من قال: أفضلهم مطلقا عمر متمسكا بالحديث الآتي في ترجمته في المنام الذي فيه في حق أبي بكر"وفي نزعه ضعف" وهو تمسك واه. ونقل البيهقي في"الاعتقاد" بسنده إلى أبي ثور عن الشافعي أنه قال: أجمع الصحابة وأتباعهم على أفضلية أبي بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي.

(7/17)


باب لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا
...
5- باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا" قَالَهُ أَبُو سَعِيدٍ
3656-حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أُمَّتِي خَلِيلًا لاَتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ وَلَكِنْ أَخِي وَصَاحِبِي"
3657-حدثنا معلي بن أسد وموسى بن إسماعيل التبوذكى قالا حدثنا وهيب عن أيوب وقال "لو كنت متخذاَ خليلاً لاتخخذته خليلا،ولكن أخوة الاسلام أفضل"
حدثنا قتيبة حدثنا عبد الوهاب عن أيوب مثله
3658- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ أَخْبَرَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ كَتَبَ أَهْلُ الْكُوفَةِ إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ فِي الْجَدِّ فَقَالَ أَمَّا الَّذِي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ خَلِيلًا لاَتَّخَذْتُهُ أَنْزَلَهُ أَبًا يَعْنِي أَبَا بَكْرٍ"
3659-حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالاَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ أَتَتْ امْرَأَةٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَهَا أَنْ تَرْجِعَ إِلَيْهِ قَالَتْ أَرَأَيْتَ إِنْ جِئْتُ وَلَمْ أَجِدْكَ كَأَنَّهَا تَقُولُ الْمَوْتَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "إِنْ لَمْ تَجِدِينِي فَأْتِي أَبَا بَكْر"
[الحديث 3659-طرفاه في:7220،7360]

(7/17)


3660- حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الطَّيِّبِ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُجَالِدٍ حَدَّثَنَا بَيَانُ بْنُ بِشْرٍ عَنْ وَبَرَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ هَمَّامٍ قَالَ سَمِعْتُ عَمَّارًا يَقُولُ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا مَعَهُ إِلاَّ خَمْسَةُ أَعْبُدٍ وَامْرَأَتَانِ وَأَبُو بَكْرٍ"
[الحديث 3660- طرفاه في: 3857]
3661- حَدَّثَنِي هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ وَاقِدٍ عَنْ بُسْرِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ عَائِذِ اللَّهِ أَبِي إِدْرِيسَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ أَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ آخِذًا بِطَرَفِ ثَوْبِهِ حَتَّى أَبْدَى عَنْ رُكْبَتِهِ، فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَمَّا صَاحِبُكُمْ فَقَدْ غَامَرَ" فَسَلَّمَ وَقَالَ إِنِّي كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ ابْنِ الْخَطَّابِ شَيْءٌ فَأَسْرَعْتُ إِلَيْهِ ثُمَّ نَدِمْتُ فَسَأَلْتُهُ أَنْ يَغْفِرَ لِي فَأَبَى عَلَيَّ فَأَقْبَلْتُ إِلَيْكَ فَقَالَ "يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ" ثَلاَثًا ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ نَدِمَ فَأَتَى مَنْزِلَ أَبِي بَكْرٍ فَسَأَلَ أَثَّمَ أَبُو بَكْرٍ فَقَالُوا لاَ فَأَتَى إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلَّمَ فَجَعَلَ وَجْهُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَمَعَّرُ حَتَّى أَشْفَقَ أَبُو بَكْرٍ فَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاللَّهِ أَنَا كُنْتُ أَظْلَمَ "مَرَّتَيْنِ" فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ فَقُلْتُمْ كَذَبْتَ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ صَدَقَ وَوَاسَانِي بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُوا لِي صَاحِبِي" مَرَّتَيْنِ. فَمَا أُوذِيَ بَعْدَهَا"
[الحديث3661-طرفه في:4640 ]
3662- حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْمُخْتَارِ قَالَ خَالِدٌ الْحَذَّاءُ حَدَّثَنَا عَنْ أَبِي عُثْمَانَ قَالَ حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَهُ عَلَى جَيْشِ ذَاتِ السُّلاَسِلِ فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيْكَ قَالَ عَائِشَةُ فَقُلْتُ مِنْ الرِّجَالِ فَقَالَ أَبُوهَا قُلْتُ ثُمَّ مَنْ قَالَ ثُمَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَعَدَّ رِجَالًا
[الحديث 3662-طرفة في:4358]
3663- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "بَيْنَمَا رَاعٍ فِي غَنَمِهِ عَدَا عَلَيْهِ الذِّئْبُ فَأَخَذَ مِنْهَا شَاةً فَطَلَبَهُ الرَّاعِي فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ الذِّئْبُ فَقَالَ مَنْ لَهَا يَوْمَ السَّبُعِ يَوْمَ لَيْسَ لَهَا رَاعٍ غَيْرِي وَبَيْنَمَا رَجُلٌ يَسُوقُ بَقَرَةً قَدْ حَمَلَ عَلَيْهَا فَالْتَفَتَتْ إِلَيْهِ فَكَلَّمَتْهُ فَقَالَتْ إِنِّي لَمْ أُخْلَقْ لِهَذَا وَلَكِنِّي خُلِقْتُ لِلْحَرْثِ" قَالَ النَّاسُ سُبْحَانَ اللَّهِ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فَإِنِّي أُومِنُ بِذَلِكَ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا"
3664- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ عَنْ يُونُسَ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي ابْنُ الْمُسَيَّبِ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ

(7/18)


رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ "بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُنِي عَلَى قَلِيبٍ عَلَيْهَا دَلْوٌ فَنَزَعْتُ مِنْهَا مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ أَخَذَهَا ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ فَنَزَعَ بِهَا ذَنُوبًا أَوْ ذَنُوبَيْنِ وَفِي نَزْعِهِ ضَعْفٌ وَاللَّهُ يَغْفِرُ لَهُ ضَعْفَهُ ثُمَّ اسْتَحَالَتْ غَرْبًا فَأَخَذَهَا ابْنُ الْخَطَّابِ فَلَمْ أَرَ عَبْقَرِيًّا مِنْ النَّاسِ يَنْزِعُ نَزْعَ عُمَرَ حَتَّى ضَرَبَ النَّاسُ بِعَطَنٍ"
[الحديث 3664- أطرافه في: 7021، 7022، 7475]
3665-حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلاَءَ لَمْ يَنْظُرْ اللَّهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ إِنَّ أَحَدَ شِقَّيْ ثَوْبِي يَسْتَرْخِي إِلاَّ أَنْ أَتَعَاهَدَ ذَلِكَ مِنْهُ
فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّكَ لَسْتَ تَصْنَعُ ذَلِكَ خُيَلاَءَ" قَالَ مُوسَى فَقُلْتُ لِسَالِمٍ أَذَكَرَ عَبْدُ اللَّهِ مَنْ جَرَّ إِزَارَهُ قَالَ لَمْ أَسْمَعْهُ ذَكَرَ إِلاَّ ثَوْبَهُ"
[الحديث3665- أطرافه في: 5783، 5784، 5791، 6062، ]
3666-حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ مِنْ شَيْءٍ مِنْ الأَشْيَاءِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ دُعِيَ مِنْ أَبْوَابِ يَعْنِي الْجَنَّةَ يَا عَبْدَ اللَّهِ هَذَا خَيْرٌ فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلاَةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّلاَةِ وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الْجِهَادِ وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّدَقَةِ وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصِّيَامِ وَبَابِ الرَّيَّانِ" فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ مَا عَلَى هَذَا الَّذِي يُدْعَى مِنْ تِلْكَ الأَبْوَابِ مِنْ ضَرُورَةٍ وَقَالَ هَلْ يُدْعَى مِنْهَا كُلِّهَا أَحَدٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ "نَعَمْ وَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ يَا أَبَا بَكْرٍ"
3667- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلاَلٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاتَ وَأَبُو بَكْرٍ بِالسُّنْحِ قَالَ إِسْمَاعِيلُ يَعْنِي بِالْعَالِيَةِ فَقَامَ عُمَرُ يَقُولُ وَاللَّهِ مَا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ وَقَالَ عُمَرُ وَاللَّهِ مَا كَانَ يَقَعُ فِي نَفْسِي إِلاَّ ذَاكَ وَلَيَبْعَثَنَّهُ اللَّهُ فَلَيَقْطَعَنَّ أَيْدِيَ رِجَالٍ وَأَرْجُلَهُمْ فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ فَكَشَفَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَبَّلَهُ قَالَ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي طِبْتَ حَيًّا وَمَيِّتًا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ يُذِيقُكَ اللَّهُ الْمَوْتَتَيْنِ أَبَدًا ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ أَيُّهَا الْحَالِفُ عَلَى رِسْلِكَ فَلَمَّا تَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ جَلَسَ عُمَرُ "
3668-"فَحَمِدَ اللَّهَ أَبُو بَكْرٍ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ أَلاَ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لاَ يَمُوتُ وَقَالَ[30الزمر]: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} .وقال[144 آل

(7/19)


عمران] {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} قَالَ فَنَشَجَ النَّاسُ يَبْكُونَ قَالَ وَاجْتَمَعَتْ الأَنْصَارُ إِلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ فَقَالُوا مِنَّا أَمِيرٌ وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ فَذَهَبَ إِلَيْهِمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ فَذَهَبَ عُمَرُ يَتَكَلَّمُ فَأَسْكَتَهُ أَبُو بَكْرٍ وَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ وَاللَّهِ مَا أَرَدْتُ بِذَلِكَ إِلاَّ أَنِّي قَدْ هَيَّأْتُ كَلاَمًا قَدْ أَعْجَبَنِي خَشِيتُ أَنْ لاَ يَبْلُغَهُ أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ تَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ فَتَكَلَّمَ أَبْلَغَ النَّاسِ فَقَالَ فِي كَلاَمِهِ نَحْنُ الأُمَرَاءُ وَأَنْتُمْ الْوُزَرَاءُ فَقَالَ حُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ لاَ وَاللَّهِ لاَ نَفْعَلُ مِنَّا أَمِيرٌ وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لاَ وَلَكِنَّا الأُمَرَاءُ وَأَنْتُمْ الْوُزَرَاءُ هُمْ أَوْسَطُ الْعَرَبِ دَارًا وَأَعْرَبُهُمْ أَحْسَابًا فَبَايِعُوا عُمَرَ أَوْ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ فَقَالَ عُمَرُ بَلْ نُبَايِعُكَ أَنْتَ فَأَنْتَ سَيِّدُنَا وَخَيْرُنَا وَأَحَبُّنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخَذَ عُمَرُ بِيَدِهِ فَبَايَعَهُ وَبَايَعَهُ النَّاسُ فَقَالَ قَائِلٌ: قَتَلْتُمْ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ فَقَالَ عُمَرُ قَتَلَهُ اللَّهُ"
3669-وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَالِمٍ عَنْ الزُّبَيْدِيِّ قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ أَخْبَرَنِي الْقَاسِمُ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ" شَخَصَ بَصَرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ :فِي الرَّفِيقِ الأَعْلَى (ثَلاَثًا) وَقَصَّ الْحَدِيثَ قَالَتْ فَمَا كَانَتْ مِنْ خُطْبَتِهِمَا مِنْ خُطْبَةٍ إِلاَّ نَفَعَ اللَّهُ بِهَا لَقَدْ خَوَّفَ عُمَرُ النَّاسَ وَإِنَّ فِيهِمْ لَنِفَاقًا فَرَدَّهُمْ اللَّهُ بِذَلِكَ"
3670-" ثُمَّ لَقَدْ بَصَّرَ أَبُو بَكْرٍ النَّاسَ الْهُدَى وَعَرَّفَهُمْ الْحَقَّ الَّذِي عَلَيْهِمْ وَخَرَجُوا بِهِ يَتْلُونَ {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} إِلَى {الشَّاكِرِينَ} "
3671-حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا جَامِعُ بْنُ أَبِي رَاشِدٍ حَدَّثَنَا أَبُو يَعْلَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ قَالَ "قُلْتُ لِأَبِي أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟قَالَ: أَبُو بَكْرٍ قُلْتُ ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ ثُمَّ عُمَرُ وَخَشِيتُ أَنْ يَقُولَ عُثْمَانُ قُلْتُ ثُمَّ أَنْتَ قَالَ:مَا أَنَا إِلاَّ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ"
3672-حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْبَيْدَاءِ أَوْ بِذَاتِ الْجَيْشِ انْقَطَعَ عِقْدٌ لِي فَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْتِمَاسِهِ وَأَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ فَأَتَى النَّاسُ أَبَا بَكْرٍ فَقَالُوا أَلاَ تَرَى مَا صَنَعَتْ عَائِشَةُ أَقَامَتْ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِالنَّاسِ مَعَهُ وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاضِعٌ رَأْسَهُ عَلَى فَخِذِي قَدْ نَامَ فَقَالَ حَبَسْتِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّاسَ وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ قَالَتْ فَعَاتَبَنِي وَقَالَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ وَجَعَلَ يَطْعُنُنِي بِيَدِهِ فِي خَاصِرَتِي فَلاَ

(7/20)


يَمْنَعُنِي مِنْ التَّحَرُّكِ إِلاَّ مَكَانُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى فَخِذِي فَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَصْبَحَ عَلَى غَيْرِ مَاءٍ فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ التَّيَمُّمِ {فَتَيَمَّمُوا} [43النساء]، فَقَالَ أُسَيْدُ بْنُ الْحُضَيْرِ مَا هِيَ بِأَوَّلِ بَرَكَتِكُمْ يَا آلَ أَبِي بَكْرٍ فَقَالَتْ عَائِشَةُ فَبَعَثْنَا الْبَعِيرَ الَّذِي كُنْتُ عَلَيْهِ فَوَجَدْنَا الْعِقْدَ تَحْتَهُ"
3673-حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الأَعْمَشِ قَالَ سَمِعْتُ ذَكْوَانَ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلاَ نَصِيفَهُ" تَابَعَهُ جَرِيرٌ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ دَاوُدَ وَأَبُو مُعَاوِيَةَ وَمُحَاضِرٌ عَنْ الأَعْمَشِ
3674-حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مِسْكِينٍ أَبُو الْحَسَنِ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَسَّانَ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ عَنْ شَرِيكِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو مُوسَى الأَشْعَرِيُّ أَنَّهُ تَوَضَّأَ فِي بَيْتِهِ ثُمَّ خَرَجَ فَقُلْتُ :لاَلْزَمَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلاَكُونَنَّ مَعَهُ يَوْمِي هَذَا قَالَ فَجَاءَ الْمَسْجِدَ فَسَأَلَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: خَرَجَ وَوَجَّهَ هَا هُنَا، فَخَرَجْتُ عَلَى إِثْرِهِ أَسْأَلُ عَنْهُ حَتَّى دَخَلَ بِئْرَ أَرِيسٍ، فَجَلَسْتُ عِنْدَ الْبَابِ- وَبَابُهَا مِنْ جَرِيدٍ- حَتَّى قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَاجَتَهُ فَتَوَضَّأَ فَقُمْتُ إِلَيْهِ فَإِذَا هُوَ جَالِسٌ عَلَى بِئْرِ أَرِيسٍ وَتَوَسَّطَ قُفَّهَا وَكَشَفَ عَنْ سَاقَيْهِ وَدَلاَهُمَا فِي الْبِئْرِ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ ثُمَّ انْصَرَفْتُ فَجَلَسْتُ عِنْدَ الْبَابِ فَقُلْتُ لاَكُونَنَّ بَوَّابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْيَوْمَ فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ فَدَفَعَ الْبَابَ فَقُلْتُ مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ:أَبُو بَكْرٍ فَقُلْتُ عَلَى رِسْلِكَ ثُمَّ ذَهَبْتُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا أَبُو بَكْرٍ يَسْتَأْذِنُ فَقَالَ: "ائْذَنْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّة"ِ فَأَقْبَلْتُ حَتَّى قُلْتُ لِأَبِي بَكْرٍ ادْخُلْ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبَشِّرُكَ بِالْجَنَّةِ فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ فَجَلَسَ عَنْ يَمِينِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُ فِي الْقُفِّ وَدَلَّى رِجْلَيْهِ فِي الْبِئْرِ كَمَا صَنَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَشَفَ عَنْ سَاقَيْهِ ثُمَّ رَجَعْتُ فَجَلَسْتُ وَقَدْ تَرَكْتُ أَخِي يَتَوَضَّأُ وَيَلْحَقُنِي فَقُلْتُ إِنْ يُرِدْ اللَّهُ بِفُلاَنٍ خَيْرًا يُرِيدُ- أَخَاهُ يَأْتِ بِهِ فَإِذَا إِنْسَانٌ يُحَرِّكُ الْبَابَ فَقُلْتُ مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَقُلْتُ: عَلَى رِسْلِكَ ثُمَّ جِئْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَقُلْتُ هَذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَسْتَأْذِنُ فَقَالَ: "ائْذَنْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ" فَجِئْتُ فَقُلْتُ ادْخُلْ وَبَشَّرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجَنَّةِ فَدَخَلَ فَجَلَسَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْقُفِّ عَنْ يَسَارِهِ وَدَلَّى رِجْلَيْهِ فِي الْبِئْرِ ثُمَّ رَجَعْتُ فَجَلَسْتُ فَقُلْتُ إِنْ يُرِدْ اللَّهُ بِفُلاَنٍ خَيْرًا يَأْتِ بِهِ فَجَاءَ إِنْسَانٌ يُحَرِّكُ الْبَابَ فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ فَقُلْتُ عَلَى رِسْلِكَ فَجِئْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ "ائْذَنْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ عَلَى بَلْوَى تُصِيبُهُ" فَجِئْتُهُ فَقُلْتُ لَهُ ادْخُلْ وَبَشَّرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجَنَّةِ عَلَى بَلْوَى تُصِيبُكَ فَدَخَلَ فَوَجَدَ الْقُفَّ قَدْ مُلِئَ فَجَلَسَ وِجَاهَهُ مِنْ الشَّقِّ الْآخَرِ قَالَ شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ

(7/21)


سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ فَأَوَّلْتُهَا قُبُورَهُمْ"
[الحديث 3674- أطرافه في: 3693، 3695، 6216، 7097، 7262، ]
3675-حدثني محمد بن بشار حدثنا يحيى عن سعيد عن قتادة أن أنس بن مالك رضي الله عنه حدثهم "أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد أحدا وأبو بكر وعمر وعثمان فرجف بهم فقال: "اثبت أحد فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان"
[الحديث3675، طرفاه في:3686، 3699، ]
3676-حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ حَدَّثَنَا صَخْرٌ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بَيْنَمَا أَنَا عَلَى بِئْرٍ أَنْزِعُ مِنْهَا جَاءَنِي أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَأَخَذَ أَبُو بَكْرٍ الدَّلْوَ فَنَزَعَ ذَنُوبًا أَوْ ذَنُوبَيْنِ وَفِي نَزْعِهِ ضَعْفٌ وَاللَّهُ يَغْفِرُ لَهُ ثُمَّ أَخَذَهَا ابْنُ الْخَطَّابِ مِنْ يَدِ أَبِي بَكْرٍ فَاسْتَحَالَتْ فِي يَدِهِ غَرْبًا فَلَمْ أَرَ عَبْقَرِيًّا مِنْ النَّاسِ يَفْرِي فَرِيَّهُ فَنَزَعَ حَتَّى ضَرَبَ النَّاسُ بِعَطَنٍ" قَالَ وَهْبٌ: الْعَطَنُ مَبْرَكُ الإِبِلِ يَقُولُ: حَتَّى رَوِيَتْ الإِبِلُ، فَأَنَاخَتْ "
3677-حَدَّثَنِي الْوَلِيدُ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ أَبِي الْحُسَيْنِ الْمَكِّيُّ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ إِنِّي لَوَاقِفٌ فِي قَوْمٍ فَدَعَوْا اللَّهَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَقَدْ وُضِعَ عَلَى سَرِيرِهِ إِذَا رَجُلٌ مِنْ خَلْفِي قَدْ وَضَعَ مِرْفَقَهُ عَلَى مَنْكِبِي يَقُولُ رَحِمَكَ اللَّهُ إِنْ كُنْتُ لاَرْجُو أَنْ يَجْعَلَكَ اللَّهُ مَعَ صَاحِبَيْكَ لِأَنِّي كَثِيرًا مَا كُنْتُ أَسْمَعُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "كُنْتُ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَفَعَلْتُ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَانْطَلَقْتُ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ" فَإِنْ كُنْتُ لاَرْجُو أَنْ يَجْعَلَكَ اللَّهُ مَعَهُمَا فَالْتَفَتُّ فَإِذَا هُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ"
[الحديث 3677-طرفه في: 3685]
3678-حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ الْكُوفِيُّ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ عَنْ الأَوْزَاعِيِّ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو عَنْ أَشَدِّ مَا صَنَعَ الْمُشْرِكُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ رَأَيْتُ عُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُصَلِّي فَوَضَعَ رِدَاءَهُ فِي عُنُقِهِ فَخَنَقَهُ بِهِ خَنْقًا شَدِيدًا فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى دَفَعَهُ عَنْهُ فَقَالَ {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} [غافر28]
[الحديث 3678-طرفاه في: 3856، 4815]

(7/22)


قوله( باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لو كنت متخذا خليلا قاله أبو سعيد يشير الى حديثه السابق قبل بباب ثم ذكر المصنف في الباب أحاديث الحديث الأول حديث أبي سعيد المذكور الحديث الثاني حديث ابن عباس أخرجه من طرق ثلاثة: الأولى: قوله: "لو كنت متخذا خليلا" زاد في حديث أبي سعيد "غير ربي" وفي حديث ابن مسعود عند مسلم: "وقد اتخذ الله صاحبكم خليلا" . وقد تواردت هذه الأحاديث على نفي الخلة من النبي صلى الله عليه وسلم لأحد من الناس، وأما ما روي عن أبي بن كعب قال: "إن أحدث عهدي بنبيكم قبل موته بخمس، دخلت عليه وهو يقول: "إنه لم يكن نبي إلا وقد اتخذ من أمته خليلا، وإن خليلي أبو بكر. ألا وإن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا" أخرجه أبو الحسن الحربي في فوائده، وهذا يعارضه ما في رواية جندب عند مسلم كما قدمته أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول قبل أن يموت بخمس "إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل" فإن ثبت حديث أبي أمكن أن يجمع بينهما بأنه لما برئ من ذلك تواضعا لربه وإعظاما له أذن الله تعالى له فيه من ذلك اليوم لما رأى من تشوفه إليه وإكراما لأبي بكر بذلك، فلا يتنافى الخبران، أشار إلى ذلك المحب الطبري. وقد روى من حديث أبي أمامة نحو حديث أبي بن كعب دون التقييد بالخمس، أخرجه الواحدي في تفسيره، والخبران واهيان، والله أعلم. قوله: "ولكن أخي وصاحبي" في رواية خيثمة في"فضائل الصحابة" عن أحمد بن الأسود عن مسلم بن إبراهيم وهو شيخ البخاري فيه: "ولكنه أخي وصاحبي في الله تعالى" وفي الرواية التي بعدها " ولكن أخوة الإسلام أفضل" وقد تقدم توجيهها قبل باب. وقوله: في الرواية الثانية"حدثنا معلى بن أسد وموسى بن إسماعيل التبوذكي" كذا للأكثر وهو الصواب، ووقع في رواية أبي ذر وحده"التنوخي" وهو تصحيف، وقد تقدم تفسير الخليل في ترجمة إبراهيم عليه السلام من أحاديث الأنبياء، واختلف في المودة والخلة والمحبة والصداقة هي مترادفة أو مختلفة، قال أهل اللغة: الخلة أرفع رتبة، وهو الذي يشعر به حديث الباب، وكذا قوله عليه السلام "لو كنت متخذا خليلا غير ربي" فإنه يشعر بأنه لم يكن له خليل من بني آدم، وقد ثبتت محبته لجماعة من أصحابه كأبي بكر وفاطمة وعائشة والحسنين وغيرهم، ولا يعكر على هذا اتصاف إبراهيم عليه السلام بالخلة ومحمد صلى الله عليه وسلم بالمحبة فتكون المحبة أرفع رتبة من الخلة، لأنه يجاب عن ذلك بأن محمدا صلى الله عليه وسلم قد ثبت له الأمران معا فيكون رجحانه من الجهتين، والله أعلم. وقال الزمخشري: الخليل هو الذي يوافقك في خلالك ويسايرك في طريقك، أو الذي يسد خللك وتسد خلله، أو يداخلك خلال منزلك انتهى. وكأنه جوز أن يكون اشتقاقه مما ذكر. وقيل: أصل الخلة انقطاع الخليل إلى خليله، وقيل: الخليل من يتخلله سرك، وقيل: من لا يسع قلبه غيرك، وقيل: أصل الخلة الاستصفاء، وقيل: المختص بالمودة، وقيل: اشتقاق الخليل من الخلة بفتح الخاء وهي الحاجة، فعلى هذا فهو المحتاج إلى من يخاله، وهذا كله بالنسبة إلى الإنسان، أما خلة الله للعبد فبمعنى نصره له ومعاونته. الحديث: حديث ابن الزبير في المعنى، وسيأتي الكلام على ما يتعلق منه بالجد في كتاب الفرائض إن شاء الله تعالى. والمراد بقوله: "كتب أهل الكوفة" بعض أهلها وهو عبد الله بن عتبة بن مسعود، وكان ابن الزبير جعله على قضاء الكوفة، أخرجه أحمد من طريق سعيد بن جبير قال: "كنت عند عبد الله بن عتبة، وكان ابن الزبير جعله على القضاء فجاءه كتابه: كتبت تسألني عن الجد" فذكره نحوه وزاد بعد قوله: "لاتخذت أبا بكر: ولكنه أخي في الدين، وصاحبي في الغار" ووقع في رواية أحمد من طريق ابن جريج عن ابن أبي مليكة في هذا

(7/23)


الحديث: "لو كنت متخذا خليلا سوى الله حتى ألقاه." الحديث الرابع: حديث محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه. قوله: "أتت امرأة" لم أقف على اسمها. قوله: "أرأيت" أي أخبرني. قوله: "إن جئت ولم أجدك، كأنها تقول الموت" في رواية يزيد بن هارون عن إبراهيم بن سعد عند البلاذري "قالت فإن رجعت فلم أجدك، تعرض بالموت"، وكذا عند الإسماعيلي من طريق ابن معمر عن إبراهيم، وهو يقوي جزم القاضي عياض أنه كلام جيد. وفي رواية الحميدي الآتي ذكرها في الأحكام "كأنها تعني الموت" ومرادها إن جئت فوجدتك قد مت ماذا أعمل؟ واختلف في تعيين قائل "كأنها" فجزم عياض بأنه جبير بن مطعم راوي الحديث وهو الظاهر، ويحتمل من دونه. وروى الطبراني من حديث عصمة بن مالك قال: "قلنا يا رسول الله إلى من ندفع صدقات أموالنا بعدك؟ قال: "إلى أبي بكر الصديق" وهو لو ثبت كان أصرح في حديث الباب من الإشارة إلى أنه الخليفة بعده، لكن إسناده ضعيف. وروى الإسماعيلي في معجمه من حديث سهل بن أبي خيثمة قال: "بايع النبي صلى الله عليه وسلم أعرابيا فسأله إن أتى عليه أجله من يقضيه؟ فقال: أبو بكر. ثم سأله من يقضيه بعده؟ قال: عمر" الحديث. وأخرجه الطبراني في "الأوسط" من هذا الوجه مختصرا. وفي الحديث أن مواعيد النبي صلى الله عليه وسلم كانت على من يتولى الخلافة بعده تنجيزها. وفيه رد على الشيعة في زعمهم أنه نص على استخلاف علي والعباس، وسيأتي شيء من ذلك في "باب الاستخلاف" من كتاب الأحكام إن شاء الله تعالى. الحديث: قوله: "حدثنا أحمد بن أبي الطيب" هو المروزي، بغدادي الأصل يكنى أبا سليمان واسم أبيه سليمان، وصفه أبو زرعة بالحفظ، وضعفه أبو حاتم؛ وليس له في البخاري غير هذا الحديث. وقد أخرجه من رواية غيره كما سيأتي في "باب إسلام أبي بكر". قوله: "حدثنا إسماعيل بن مجالد" بالجيم هو الكوفي، قواه يحيى بن معين وجماعة، ولينه بعضهم، وليس له عند البخاري أيضا غير هذا الحديث. ووبرة بفتح الواو والموحدة تابعي صغير. قوله: "عن همام" هو ابن الحارث، وعند الإسماعيلي من طريق جهور بن منصور عن إسماعيل "سمعت همام بن الحارث" وهو من كبار التابعين، وعمار هو ابن ياسر، والإسناد من إسماعيل فصاعدا كوفيون. قوله: "وما معه" أي ممن أسلم. قوله: "إلا خمسة أعبد وامرأتان وأبو بكر" أما الأعبد فهم بلال وزيد بن حارثة وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر، فإنه أسلم قديما مع أبي بكر، وروى الطبراني من طريق عروة أنه كان ممن كان يعذب في الله فاشتراه أبو بكر وأعتقه، وأبو فكيهة مولى صفوان بن أمية بن خلف ذكر ابن إسحاق أنه أسلم حين أسلم بلال فعذبه أمية فاشتراه أبو بكر فأعتقه. وأما الخامس فيحتمل أن يفسر بشقران، فقد ذكر ابن السكن في "كتاب الصحابة" عن عبد الله بن داود أن النبي صلى الله عليه وسلم ورثه من أبيه هو وأم أيمن، وذكر بعض شيوخنا بدل أبي فكيهة عمار بن ياسر وهو محتمل، وكان ينبغي أن يكون منهم أبوه فإن الثلاثة كانوا ممن يعذب في الله وأمه أول من استشهدت في الإسلام طعنها أبو جهل في قلبها بحربة فماتت، وأما المرأتان فخديجة والأخرى أم أيمن أو سمية، وذكر بعض شيوخنا تبعا للدمياطي أنها أم الفضل زوج العباس، وليس بواضح لأنها وإن كانت قديمة الإسلام إلا أنها لم تذكر في السابقين، ولو كان كما قال لعد أبو رافع مولى العباس لأنه أسلم حين أسلمت أم الفضل. كذا عند ابن إسحاق. وفي هذا الحديث أن أبا بكر أول من أسلم من الأحرار مطلقا، ولكن مراد عمار بذلك ممن أظهر إسلامه، وإلا فقد كان حينئذ جماعة ممن أسلم لكنهم كانوا يخفونه من أقاربهم، وسيأتي قول سعد إنه كان ثلث الإسلام، وذلك بالنسبة إلى من اطلع على إسلامه ممن سبق إسلامه. قوله: "حدثنا زيد بن واقد"

(7/24)


هو الدمشقي، ثقة قليل الحديث، وليس له في البخاري غير هذا الحديث الواحد، وكلهم دمشقيون، وبسر بضم الموحدة وبالمهملة. قوله: "عن بسر بن عبيد الله" في رواية عبد الله بن العلاء بن زيد عند المصنف في التفسير "حدثني بسر بن عبيد الله حدثني أبو إدريس سألت أبا الدرداء". قوله: "أما صاحبكم" في رواية الكشميهني: "أما صاحبك" بالإفراد. قوله: "فقد غامر" بالغين المعجمة أي خاصم، والمعنى دخل في غمرة الخصومة، والغامر الذي يرمي بنفسه في الأمر العظيم كالحرب وغيره. وقيل هو من الغمر بكسر المعجمة وهو الحقد، أي صنع أمرا اقتضى له أن يحقد على من صنعه معه ويحقد الآخر عليه، ووقع في تفسير الأعراف في رواية أبي ذر وحده "قال أبو عبد الله هو المصنف: غامر أي سبق أي سبق بالخير" وذكر عياض أنه في رواية المستملي وحده عن أبي ذر، وهو تفسير مستغرب والأول أظهر، وقد عزاه المحب الطبري لأبي عبيدة بن المثنى أيضا، فهو سلف البخاري فيه، وقسيم قوله: "أما صاحبكم" محذوف أي وأما غيره فلا. قوله: "فسلم" بتشديد اللام من السلام، ووقع في رواية محمد بن المبارك عن صدقة بن خالد عند أبي نعيم في الحلية "حتى سلم على النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقع في الحديث ذكر الرد وهو مما يحذف للعلم به. قوله: "كان بيني وبين ابن الخطاب شيء" في الرواية التي في التفسير "محاورة" وهو بالحاء المهملة أي مراجعة، وفي حديث أبي أمامة عند أبي يعلى "معاتبة" وفي لفظ: "مقاولة". قوله: "فأسرعت إليه" في التفسير "فأغضب أبو بكر عمر فانصرف عنه مغضبا فاتبعه أبو بكر". قوله: "ثم ندمت" زاد محمد بن المبارك "على ما كان". قوله: "فسألته أن يغفر لي" في الرواية التي في التفسير "أن يستغفر لي فلم يفعل حتى أغلق بابه في وجهه". قوله: "فأبى علي" زاد محمد بن المبارك "فتبعته إلى البقيع حتى خرج من داره" وللإسماعيلي عن الهسنجاني عن هشام بن عمار "وتحرز مني بداره" وفي حديث أبي أمامة "فاعتذر أبو بكر إلى عمر فلم يقبل منه". قوله: "يغفر الله لك يا أبا بكر ثلاثا" أي أعاد هذه الكلمة ثلاث مرات. قوله: "يتمعر" بالعين المهملة المشددة أي تذهب نضارته من الغضب، وأصله من العر وهو الجرب يقال أمعر المكان إذا أجرب، وفي بعض النسخ "يتمغر" بالغين المعجمة أي يحمر من الغضب فصار كالذي صبغ بالمغرة، وللمؤلف في التفسير "وغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وفي حديث أبي أمامة عند أبي يعلى في نحو هذه القصة" فجلس عمر فأعرض عنه - أي النبي صلى الله عليه وسلم - ثم تحول فجلس إلى الجانب الآخر فأعرض عنه، ثم قام فجلس بين يديه فأعرض عنه، فقال: يا رسول الله ما أرى إعراضك إلا لشيء بلغك عني، فما خير حياتي وأنت معرض عني؟ فقال: أنت الذي اعتذر إليك أبو بكر فلم تقبل منه، ووقع في حديث ابن عمر عند الطبراني في نحو هذه القصة "يسألك أخوك أن تستغفر له فلا تفعل" فقال: والذي بعثك بالحق ما من مرة يسألني إلا وأنا أستغفر له، وما خلق الله من أحد أحب إلي منه بعدك. فقال أبو بكر: وأنا والذي بعثك بالحق كذلك. قوله: "حتى أشفق أبو بكر" زاد محمد بن المبارك "أن يكون من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمر ما يكره". قوله: "فجثا" بالجيم والمثلثة أي برك. قوله: "والله أنا كنت أظلم" في القصة المذكورة "وإنما قال ذلك لأنه الذي بدأ" كما تقدم في أول القصة. قوله: "مرتين" أي قال ذلك القول مرتين، ويحتمل أنه من قول أبي بكر فيكون معلقا بقوله: "كنت أظلم". قوله: "وواساني" في رواية الكشميهني وحده "واساني" والأول أوجه، وهو من المواساة وهي بلفظ المفاعلة من الجانبين، والمراد به أن صاحب المال يجعل يده ويد صاحبه في ماله سواء. قوله: "تاركو ليصاحبي" في التفسير "تاركون لي صاحبي" وهي الموجهة حتى قال أبوالبقاء: إن حذف النون من خطأ الرواة، لأن الكلمة

(7/25)


ليست مضافة ولا فيها ألف ولام، وإنما يجوز الحذف في هذين الموضعين. ووجهها غيره بوجهين: أحدهما: أن يكون "صاحبي" مضافا وفصل بين المضاف إليه بالجار والمجرور عناية بتقديم لفظ الإضافة، وفي ذلك جمع بين إضافتين إلى نفسه تعظيما للصديق، ونظيره قراءة ابن عامر "وكذلك زين للكثير من المشركين قتل أولادهم شركائهم" بنصب أولادهم وخفض شركائهم وفصل بين المضافين بالمفعول، والثاني أن يكون استطال الكلام فحذف النون كما يحذف من الموصول المطول، ومنه ما ذكروه في قوله تعالى: {وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} . قوله: "مرتين" أي قال ذلك القول مرتين. وفي رواية محمد بن المبارك "ثلاث مرات". قوله: "فما أوذي بعدها" أي لما أظهره النبي صلى الله عليه وسلم لهم من تعظيمه، ولم أر هذه الزيادة من غير رواية هشام بن عمار، ووقع لأبي بكر مع ربيعة بن جعفر قصة نحو هذه: فأخرج أحمد من حديث ربيعة "أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه أرضا وأعطى أبا بكر أرضا، قال: فاختلفا في عذق نخلة، فقلت أنا: هي في حدي. وقال أبو بكر: هي في حدي، فكان بيننا كلام، فقال له أبو بكر كلمة ثم ندم فقال: رد على مثلها حتى يكون قصاصا، فأبيت. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما لك وللصديق - فذكر القصة - فقال: أجل فلا ترد عليه، ولكن قل: غفر الله لك يا أبا بكر، فقلت. فولى أبو بكر وهو يبكي". وفي الحديث من الفوائد فضل أبي بكر على جميع الصحابة، وأن الفاضل لا ينبغي له أن يغاضب من هو أفضل منه، وفيه جواز مدح المرء في وجهه، ومحله إذا أمن عليه الافتتان والاغترار. وفيه ما طبع عليه الإنسان من البشرية حتى يحمله الغضب على ارتكاب خلاف الأولى، لكن الفاضل في الدين يسرع الرجوع إلى الأولى كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا} وفيه أن غير النبي ولو بلغ من الفضل الغاية ليس بمعصوم. وفيه استحباب سؤال الاستغفار والتحلل من المظلوم، وفيه أن من غضب على صاحبه نسبه إلى أبيه أو جده ولم يسمه باسمه وذلك من قول أبي بكر لما جاء وهو غضبان من عمر "كان بيني وبين ابن الخطاب" فلم يذكره باسمه، ونظيره قوله صلى الله عليه وسلم: "إلا إن كان ابن أبي طالب يريد أن ينكح ابنتهم"، وفيه أن الركبة ليست عورة. الحديث: قوله: "خالد الحذاء حدثنا" هو من تقديم الاسم على الصفة وقد استعملوه كثيرا، والإسناد كله بصريون إلا الصحابي، وأبو عثمان هو النهدي. قوله: "بعثه على جيش ذات السلاسل" بالمهملتين والمشهور أنها بفتح الأولى على لفظ جمع السلسلة، وضبطه كذلك أبو عبيد البكري، قيل سمي المكان بذلك لأنه كان به رمل بعضه على بعض كالسلسلة، وضبطها ابن الأثير بالضم. وقال هو بمعنى السلسال أي السهل، وسيأتي شرحها وتسميتها في المغازي إن شاء الله تعالى. قوله: "أي الناس أحب إليك" زاد في رواية قيس بن أبي حازم عن عمرو بن العاص "يا رسول الله فأحبه" أخرجه ابن عساكر من طريق علي بن مسهر عن إسماعيل عن قيس، وقع عند ابن سعد سبب هذا السؤال وأنه وقع في نفس عمرو لما أمره النبي صلى الله عليه وسلم على الجيش وفيهم أبو بكر وعمر أنه مقدم عنده في المنزلة عليهم فسأله لذلك. قوله: "فقلت من الرجال" في رواية قيس بن أبي حازم عن عمرو عند ابن خزيمة وابن حبان: "قلت إني لست أعني النساء إني أعني الرجال" وفي حديث أنس عند ابن حبان أيضا: "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحب الناس إليك؟ قال: عائشة، قيل له ليس عن أهلك نسألك" وعرف بحديث عمر اسم السائل في حديث أنس. قوله: "فقلت: ثم من؟ قال: ثم عمر بن الخطاب، فعد رجالا" زاد في المغازي من وجه آخر" فسكت مخافة أن يجعلني في آخرهم" ووقع في حديث عبد الله بن شقيق قال: "قلت لعائشة: أي أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كان أحب إليه؟ قالت: أبو بكر، قلت: ثم

(7/26)


من؟ قالت: عمر، قلت: ثم من؟ قالت: أبو عبيدة بن الجراح، قلت: ثم من؟ فسكتت" أخرجه الترمذي وصححه فيمكن أن يفسر بعض الرجال الذي أبهموا في حديث الباب بأبي عبيدة. وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي بسند صحيح عن النعمان بن بشير قال: "استأذن أبو بكر على النبي صلى الله عليه وسلم، فسمع صوت عائشة عاليا وهي تقول: والله لقد علمت أن عليا أحب إليك من أبي" الحديث، فيكون علي ممن أبهمه عمرو بن العاص، وهو أيضا وإن كان في الظاهر يعارض حديث عمرو لكن يرجح حديث عمرو أنه من قول النبي صلى الله عليه وسلم وهذا من تقريره، ويمكن الجمع باختلاف جهة المحبة: فيكون في حق أبي بكر على عمومه بخلاف علي، ويصح حينئذ دخوله فيمن أبهمه عمرو، ومعاذ الله أن نقول كما تقول الرافضة من إبهام عمرو فيما روى لما كان بينه وبين علي رضي الله عنهما، فقد كان النعمان مع معاوية على علي ولم يمنعه ذلك من التحديث بمنقبة علي، ولا ارتياب في أن عمرا أفضل من النعمان، والله أعلم. الحديث: حديث أبي هريرة في قصة الذئب الذي كلم الراعي، وفي قصة البقرة التي كلمت من حملها، وقد تقدم الكلام على ما في إسناده في ذكر بني إسرائيل. قوله: "بينما راع في غنمه عدا عليه الذئب" الحديث لم أقف على اسم هذا الراعي، وقد أورد المصنف الحديث في ذكر بني إسرائيل، وهو مشعر بأنه عنده ممن كان قبل الإسلام، وقد وقع كلام الذئب لبعض الصحابة في نحو هذه القصة، فروى أبو نعيم في"الدلائل" من طريق ربيعة بن أوس عن أنيس بن عمرو عن أهبان بن أوس قال: "كنت في غنم لي، فشد الذئب على شاة منها، فصحت عليه فأقعى الذئب على ذنبه يخاطبني وقال: من لها يوم تشتغل عنها؟ تمنعني رزقا رزقنيه الله تعالى، فصفقت بيدي وقلت: والله ما رأيت شيئا أعجب من هذا، فقال: أعجب من هذا، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين هذه النخلات يدعو إلى الله، قال فأتى أهبان إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره وأسلم" فيحتمل أن يكون أهبان لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك كان أبو بكر وعمر حاضرين، ثم أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك وأبو بكر وعمر غائبين، فلذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فإني أومن بذلك وأبو بكر وعمر" وقد تقدمت هذه الزيادة في هذه القصة من وجه آخر عن أبي سلمة في المزارعة وفيه: "قال أبو سلمة: وما هما يومئذ في القوم" أي عند حكاية النبي صلى الله عليه وسلم ذلك. ويحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم قال ذلك لما اطلع عليه من غلبة صدق إيمانهما وقوة يقينهما، وهذا أليق بدخوله في مناقبهما. قوله: "يوم السبع" قال عياض: يجوز ضم الموحدة وسكونها، إلا أن الرواية بالضم. وقال الحربي: هو بالضم والسكون وجزم بأن المراد به الحيوان المعروف. وقال ابن العربي: هو بالإسكان والضم تصحيف، كذا قال. وقال ابن الجوزي: هو بالسكون والمحدثون يروونه بالضم وعلى هذا - أي الضم - فالمعنى إذا أخذها السبع لم يقدر على خلاصها منه فلا يرعاها حينئذ غيري، أي إنك تهرب منه وأكون أنا قريبا منه أرعى ما يفضل لي منها. وقال الداودي: معناه من لها يوم يطرقها السبع - أي الأسد - فتفر أنت منه فيأخذ منها حاجته وأتخلف أنا لا راعي لها حينئذ غيري، وقيل: إنما يكون ذلك عند الاشتغال بالفتن فتصير الغنم هملا فتنهبها السباع فيصير الذئب كالراعي لها لانفراده بها. وأما بالسكون فاختلف في المراد به فقيل: هو اسم الموضع الذي يقع فيه الحشر يوم القيامة، وهذا نقله الأزهري في"تهذيب اللغة" عن ابن الأعرابي، ويؤيده أنه وقع في بعض طرقه عن محمد بن عمرو بن علقمة عن أبي سلمة عن أبي هريرة "يوم القيامة" وقد تعقب هذا بأن الذئب حينئذ لا يكون راعيا للغنم ولا تعلق له بها، وقيل: هو اسم يوم عيد كان لهم في الجاهلية يشتغلون فيه باللهو واللعب فيغفل الراعي عن غنمه فيتمكن الذئب من الغنم، وإنما قال: "ليس لها راع غيري" مبالغة في تمكنه منها، وهذا

(7/27)


نقله الإسماعيلي عن أبي عبيدة، وقيل: هو من سبعت الرجل إذا ذعرته، أي من لها يوم الفزع؟ أو من أسبعته إذا أهملته، أي من لها يوم الإهمال. قال الأصمعي: السبع الهمل، وأسبع الرجل أغنامه إذا تركها تصنع ما تشاء، ورجح هذا القول النووي. وقيل: يوم الأكل، يقال سبع الذئب الشاة إذا أكلها. وحكى صاحب "المطالع" أنه روي بسكون التحتانية آخر الحروف وفسره بيوم الضياع، يقال أسبعت وأضيعت بمعنى، وهذا نقله ابن دحية عن إسماعيل القاضي عن علي بن المديني عن معمر بن المثنى، وقيل: المراد بيوم السبع يوم الشدة كما روي عن ابن عباس أنه سئل عن مسألة فقال: أجرأ من سبع، يريد أنها من المسائل الشداد التي يشتد فيها الخطب على المفتي، والله أعلم. قوله: "وبينما رجل يسوق بقرة" تقدم الكلام عليه في المزارعة، ووقع عند ابن حبان من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة في آخره في القصتين" فقال الناس آمنا بما آمن به رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وفي الحديث جواز التعجب من خوارق العادات، وتفاوت الناس في المعارف. حديث أبي هريرة في رؤيا النزع من القليب، وسيأتي شرحه في التعبير إن شاء الله تعالى. الحديث: حديث ابن عمر في الزجر عن جر الثوب خيلاء، وسيأتي شرحه في كتاب اللباس، وفيه فضيلة ظاهرة لأبي بكر لشحه على دينه، ولشهادة النبي صلى الله عليه وسلم بما ينافي ما يكره. قوله: "فقلت لسالم" هو مقولة موسى بن عقبة، وسيأتي هناك الإشارة إلى تسوية ابن عمر بين الثوب والإزار في الحكم. الحديث: حديث أبي هريرة فيمن أنفق زوجين أي شيئين. قوله: "من شيء من الأشياء" أي من أصناف المال. قوله: "في سبيل الله" أي في طلب ثواب الله، وهو أعم من الجهاد وغيره من العبادات. قوله: "دعي من أبواب يعني الجنة" كذا وقع هنا وكأن لفظة "الجنة" سقطت من بعض الرواة فلأجل مراعاة المحافظة على اللفظ زاد: "يعني"، وقد تقدم في الصيام من وجه آخر عن الزهري بلفظ: "من أبواب الجنة" بغير تردد. ومعنى الحديث أن كل عامل يدعى من باب ذلك العمل، وقد جاء ذلك صريحا من وجه آخر عن أبي هريرة "لكل عامل باب من أبواب الجنة يدعى منه بذلك العمل" أخرجه أحمد وابن شيبة بإسناد صحيح. قوله: "يا عبد الله هذا خير" لفظ: "خير" بمعنى فاضل لا بمعنى أفضل وإن كان اللفظ قد يوهم ذلك، ففائدته زيادة ترغيب السامع في طلب الدخول من ذلك الباب، وتقدم في أوائل الجهاد بيان الداعي من وجه آخر عن أبي هريرة ولفظه: "دعاه خزنة الجنة كل خزنة باب" أي خزنة كل باب "أي فل هلم"، ولفظة "فل" لغة في فلان، وهي بالضم، وكذا ثبت في الرواية، وقيل إنها ترخيمها فعلى هذا فتفتح اللام. قوله: "فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة" وقع في الحديث ذكر أربعة أبواب من أبواب الجنة، وتقدم في أوائل الجهاد" وإن أبواب الجنة ثمانية" وبقي من الأركان الحج فله باب بلا شك، وأما الثلاثة الأخرى فمنها باب الكاظمين الغيظ والعافين عن الناس رواه أحمد بن حنبل عن روح بن عبادة عن أشعث عن الحسن مرسلا "إن لله بابا في الجنة لا يدخله إلا من عفا عن مظلمة" ومنها الباب الأيمن وهو باب المتوكلين الذي يدخل منه من لا حساب عليه ولا عذاب، وأما الثالث فلعله باب الذكر فإن عند الترمذي ما يومئ إليه، ويحتمل أن يكون باب العلم والله أعلم، ويحتمل أن يكون بالأبواب التي يدعى منها أبواب من داخل أبواب الجنة الأصلية لأن الأعمال الصالحة أكثر عددا من ثمانية، والله أعلم. قوله: "فقال أبو بكر ما على هذا الذي يدعى من تلك الأبواب من ضرورة" زاد في الصيام "فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها" وفي الحديث إشعار بقلة من يدعى من تلك الأبواب كلها، وفيه إشارة إلى أن المراد ما يتطوع به من الأعمال المذكورة

(7/28)


لا واجباتها لكثرة من يجتمع له العمل بالواجبات كلها، بخلاف التطوعات فقل من يجتمع له العمل بجميع أنواع التطوعات، ثم من يجتمع له ذلك إنما يدعى من جميع الأبواب على سبيل التكريم له، وإلا فدخوله إنما يكون من باب واحد، ولعله باب العمل الذي يكون أغلب عليه والله أعلم. وأما ما أخرجه مسلم عن عمر "من توضأ ثم قال أشهد أن لا إله إلا الله" الحديث وفيه: "فتحت له أبواب الجنة يدخل من أيها شاء" فلا ينافي ما تقدم وإن كان ظاهره أنه يعارضه، لأنه يحمل على أنها تفتح له على سبيل التكريم، ثم عند دخوله لا يدخل إلا من باب العلم الذي يكون أغلب عليه كما تقدم، والله أعلم. "تنبيه": الإنفاق في الصلاة والجهاد والعلم والحج ظاهر، وأما الإنفاق في غيرها فمشكل، ويمكن أن يكون المراد بالإنفاق في الصلاة فيما يتعلق بوسائلها من تحصيل آلاتها من طهارة وتطهير ثوب وبدن ومكان، والإنفاق في الصيام بما يقويه على فعله وخلوص القصد فيه، والإنفاق في العفو عن الناس يمكن أن يقع بترك ما يجب له من حق، والإنفاق في التوكل بما ينفقه على نفسه في مرضه المانع له من التصرف في طلب المعاش مع الصبر على المصيبة، أو ينفق على من أصابه مثل ذلك طلبا للثواب، والإنفاق في الذكر على نحو من ذلك، والله أعلم. وقيل المراد بالإنفاق في الصلاة والصيام بذل النفس فيهما، فإن العرب تسمي ما يبذله المرء من نفسه نفقة كما يقال أنفقت في طلب العلم عمري وبذلت فيه نفسي، وهذا معنى حسن. وأبعد من قال المراد بقوله: زوجين النفس والمال لأن المال في الصلاة والصيام ونحوهما ليس بظاهر إلا بالتأويل المتقدم، وكذلك من قال النفقة في الصيام تقع بتفطير الصائم والإنفاق عليه، لأن ذلك يرجع إلى باب الصدقة. قوله: "وأرجو أن تكون منهم" قال العلماء:الرجاء من الله ومن نبيه واقع، وبهذا التقرير يدخل الحديث في فضائل أبي بكر.ووقع في حديث ابن عباس عند ابن حبان في نحو هذا الحديث التصريح بالوقوع لأبي بكر ولفظه: "قال أجل وأنت هو يا أبا بكر" وفي الحديث من الفوائد أن من أكثر من شيء عرف به، وأن أعمال البر قل أن تجتمع جميعها لشخص واحد على السواء، وأن الملائكة يحبون صالحي بني آدم ويفرحون بهم، فإن الإنفاق كلما كان أكثر كان أفضل، وأن تمني الخير في الدنيا والآخرة مطلوب. حديث عائشة في الوفاة وقصة السقيفة، وسيأتي ما يتعلق بالوفاة في مكانها في أواخر المغازي، وأما السقيفة فتتضمن بيعة أبي بكر بالخلافة، وقد أوردها المصنف أيضا من طريق ابن عباس عن عمر في الحدود، وذكر شيئا منها في الأحكام من طريق أنس عن عمر أيضا، وأتمها رواية ابن عباس، وسأذكر هنا ما فيها من فائدة زائدة. قوله: "مات النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بالسنح" تقدم ضبطه في أول الجنائز وأنه بسكون النون، وضبطه أبو عبيد البكري بضمها وقال: إنه منازل بني الحارث من الخزرج بالعوالي، وبينه وبين المسجد النبوي ميل. قوله: "قال إسماعيل" هو شيخ المصنف فيه وهو ابن أبي أويس، وقوله: "يعني بالعالية" أراد تفسير قول عائشة بالسنح. قوله: "ما كان يقع في نفسي إلا ذاك" يعني عدم موته صلى الله عليه وسلم حينئذ، وقد ذكر عمر مستنده في ذلك كما سأبينه في موضعه. قوله: "لا يذيقك الله الموتتين" تقدم شرحه في أوائل الجنائز، وقد تمسك به من أنكر الحياة في القبر، وأجيب عن أهل السنة المثبتين لذلك بأن المراد نفي الموت اللازم من الذي أثبته عمر بقوله: "وليبعثه الله في الدنيا ليقطع أيدي القائلين بموته" وليس فيه تعرض لما يقع في البرزخ، وأحسن من هذا الجواب أن يقال: إن حياته صلى الله عليه وسلم في القبر لا يعقبها موت بل يستمر حيا، والأنبياء أحياء في قبورهم، ولعل هذا هو الحكمة في تعريف الموتتين حيث قال لا يذيقك الله الموتتين أي المعروفتين المشهورتين الواقعتين لكل أحد غير الأنبياء،

(7/29)


وأما وقوع الحلف من عمر على ما ذكره فبناه على ظنه الذي أداه إليه اجتهاده، وفيه بيان رجحان علم أبي بكر على عمر فمن دونه، وكذلك رجحانه عليهم لثباته في مثل ذلك الأمر العظيم. قوله: "أيها الحالف على رسلك" بكسر الراء أي هينتك ولا تستعجل، وتقدم في الطريق الذي بالجنائز أن أبا بكر خرج وعمر يكلم الناس فقال: اجلس، فأبى، فتشهد أبو بكر، فمال الناس إليه وتركوا عمر. وقد اعتذر عمر عن ذلك كما سيأتي في "باب الاستخلاف" من كتاب الأحكام. قوله: "فنشج الناس" بفتح النون وكسر المعجمة بعدها جيم أي بكوا بغير انتحاب، والنشج ما يعرض في حلق الباكي من الغصة، وقيل: هو صوت معه ترجيع كما يردد الصبي بكاءه في صدره. قوله: "واجتمعت الأنصار إلى سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة" هو سعد بن عبادة بن دليم بن حارثة الخزرجي ثم الساعدي، وكان كبير الخزرج في ذلك الوقت. وذكر ابن إسحاق في آخر السيرة أن أسيد بن حضير في بني عبد الأشهل انحازوا إلى أبي بكر ومن معه وهؤلاء من الأوس. وفي حديث ابن عباس عن عمر "تخلفت عنا الأنصار بأجمعها في سقيفة بني ساعدة" فيجمع بأنهم اجتمعوا أولا ثم افترقوا، وذلك أن الخزرج والأوس كانوا فريقين، وكان بينهم في الجاهلية من الحروب ما هو مشهور، فزال ذلك بالإسلام وبقي من ذلك شيء في النفوس، فكأنهم اجتمعوا أولا، فلما رأى أسيد ومن معه من الأوس أبا بكر ومن معه افترقوا من الخزرج إيثارا لتأمير المهاجرين عليهم دون الخزرج. وفيه أن عليا والزبير ومن كان معهما تخلفوا في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر. قوله: "فذهب إليهم أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وأبو عبيدة" في رواية ابن عباس المذكورة" فقلت له: يا أبا بكر انطلق بنا إلى إخواننا من الأنصار" وزاد أبو يعلى من رواية مالك عن الزهري فيه: "فبينما نحن في منزل رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رجل ينادي من وراء الجدار أن اخرج إلي يا ابن الخطاب، فقلت: إليك عني فإنا عنك مشاغيل يعني بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: إنه قد حدث أمر، فإن الأنصار اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة فأدركوهم قبل أن يحدثوا أمرا يكون فيه حرب. فقلت لأبي بكر: انطلق - فذكره - قال فانطلقنا نؤمهم حتى لقينا رجلان صالحان فقالا: لا عليكم ألا تقربوهم، واقضوا أمركم. قال فقلت: والله لنأتينهم. فانطلقنا، فإذا بين ظهرانيهم رجل مزمل، فقلت: من هذا؟ قالوا: "سعد بن عبادة" وذكر في آخر الحديث عن عروة أن الرجلين الذين لقياهم هما عويم بن ساعدة بن عباس بن قيس بن النعمان من بني مالك بن عوف، ومعن بن عدي بن الجعد بن العجلان حليفهم وهما من الأوس أيضا وكذا وقعت تسميتهما في رواية ابن عيينة عن الزهري، أخرجه الزبير بن بكار. قوله: "فذهب عمر يتكلم، فأسكته أبو بكر إلخ" وفي رواية ابن عباس "قال عمر: أردت أن أتكلم، وقد كنت زورت - أي هيأت وحسنت - مقالة أعجبتني أريد أن أقدمها بين يدي أبي بكر، وكنت أداري صنه بعض الحد - أي الحدة - فقال: على رسلك، فكرهت أن أغضبه". قوله: "ثم تكلم أبو بكر فتكلم أبلغ الناس" بنصب أبلغ على الحال، ويجوز الرفع على الفاعلية، أي تكلم رجل هذه صفته. وقال السهيلي النصب أوجه ليكون تأكيدا لمدحه وصرف الوهم عن أن يكون أحد موصوفا بذلك غيره. وفي رواية ابن عباس قال: "قال عمر: والله ما ترك كلمة أعجبتني في تزويري إلا قالها في بديهته وأفضل حتى سكت". قوله: "فقال في كلامه" وقع في رواية حميد بن عبد الرحمن بيان ما قال في روايته: "فتكلم أبو بكر فلم يترك شيئا أنزل في الأنصار ولا ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم من شأنهم إلا ذكره" ووقع في رواية ابن عباس بيان بعض ذلك الكلام وهو" أما بعد فما ذكرتم من خير فأنتم أهله، ولن تعرف العرب

(7/30)


هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش، وهم أوسط العرب نسبا ودارا" وعرف المراد بقوله بعد في هذه الرواية: "هم أوسط العرب دارا وأعربهم أحسابا" والمراد بالدار مكة. وقال الخطابي أراد بالدار أهل الدار ومنه قوله: "خير دور الأنصار بنو النجار" وقوله: "أحسابا" الحسب الفعال الحسان مأخوذ من الحساب إذا عدوا مناقبهم، فمن كان أكثر كان أعظم حسبا، ويقال النسب للآباء والحسب للأفعال. قوله: "فقال حباب" بضم المهملة وموحدتين الأولى خفيفة "ابن المنذر" أي ابن عمرو بن الجموح الخزرجي ثم السلمي بفتحتين، وكان يقال له ذو الرأي. قوله: "لا والله لا نفعل، منا أمير ومنكم أمير" زاد في رواية ابن عباس أنه قال: "أنا جديلها المحكك، وعذيقها المرجب" وشرح هاتين الكلمتين أن العذيق بالذال المعجمة تصغير عذق وهو النخلة، والمرجب بالجيم والموحدة أي يدعم النخلة إذا كثر حملها، والجديل بالتصغير أيضا وبالجيم، والجدل عود ينصب للإبل الجرباء لتحتك قيه، والمحكك بكافين الأولى مفتوحة فأراد أنه يستشفى برأيه. ووقع عند ابن سعد من رواية يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد" فقام حباب بن المنذر وكان بدريا فقال: منا أمير ومنكم أمير، فإنا والله ما ننفس عليكم هذا الأمر، ولكنا نخاف أن يليه أقوام قتلنا آباءهم وإخوتهم. قال فقال له عمر: إذا كان ذلك فمت إن استطعت. قال فتكلم أبو بكر فقال: نحن الأمراء وأنتم الوزراء، وهذا الأمر بيننا وبينكم. قال فبايع الناس وأولهم بشير بن سعد والد النعمان" وعند أحمد من طريق أبي نضرة عن أبي سعيد "فقام خطيب الأنصار فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا استعمل رجلا منكم قرنه برجل منا، فتبايعوا على ذلك. فقام زيد بن ثابت فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من المهاجرين وإنما الإمام من المهاجرين، فنحن أنصار الله كما كنا أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال أبو بكر: جزاكم الله خيرا. فبايعوه" ووقع في آخر المغازي لموسى بن عقبة عن ابن شهاب أن أبا بكر قال في خطبته "وكنا معشر المهاجرين أول الناس إسلاما ونحن عشيرته وأقاربه وذوو رحمه، ولن تصلح العرب إلا برجل من قريش، فالناس لقريش تبع، وأنتم إخواننا في كتاب الله، وشركاؤنا في دين الله، وأحب الناس إلينا، وأنتم أحق الناس بالرضا بقضاء الله، والتسليم لفضيلة إخوانكم، وأن لا تحسدوهم على خير" وقال فيه: "إن الأنصار قالوا أولا نختار رجلا من المهاجرين وإذا مات اخترنا رجلا من الأنصار، فإذا مات اخترنا رجلا من المهاجرين كذلك أبدا فيكون أجدر أن يشفق القرشي إذا زاغ أن ينقض عليه الأنصاري وكذلك الأنصاري. قال فقال عمر: لا والله لا يخالفنا أحد إلا قتلناه، فقام حباب بن المنذر فقال كما تقدم وزاد: وإن شئتم كررناها خدعة" أي أعدنا الحرب. قال فكثر القول حتى كاد أن يكون بينهم حرب فوثب عمر فأخذ بيد أبي بكر"، وعند أحمد من طريق حميد بن عبد الرحمن بن عوف قال: "توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر في طائفة من المدينة - فذكر الحديث قال - فتكلم أبو بكر فقال: "والله لقد علمت يا سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وأنت قاعد: قريش ولاة هذا الأمر، فقال له سعد: صدقت". قوله: "هم أوسط العرب" أي قريش. قوله: "فبايعوا عمر بن الخطاب أو أبا عبيدة" في رواية ابن عباس عن عمر" وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين وأخذ بيدي ويد أبي عبيدة، فلم أكره مما قال غيرها" وقد استشكل قول أبي بكر هذا مع معرفته بأنه الأحق بالخلافة بقرينة تقديمه في الصلاة وغير ذلك، والجواب أنه استحي أن يزكي نفسه فيقول مثلا رضيت لكم نفسي، وانضم إلى ذلك أنه علم أن كلا منهما لا يقبل ذلك، وقد أفصح عمر بذلك في القصة، وأبو عبيدة بطريق الأولى لأنه دون عمر في الفضل باتفاق أهل السنة، ويكفي أبا بكر كونه جعل الاختيار في ذلك لنفسه فلم ينكر ذلك عليه أحد، ففيه إيماء

(7/31)


إلى أنه الأحق، فظهر أنه ليس في كلامه تصريح بتخليه من الأمر. قوله: "فقال عمر: بل نبايعك أنت، فأنت سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم" قد أفرد بعض الرواة هذا القدر من هذا الحديث، فأخرجه الترمذي عن إبراهيم بن سعيد الجوهري عن إسماعيل بن أبي أويس شيخ المصنف فيه بهذا الإسناد" إن عمر قال لأبي بكر أنت سيدنا إلخ" وأخرجه ابن حبان من هذا الوجه، وهو أوضح ما يدخل في هذا الباب من هذا الحديث. قوله: "فأخذ عمر بيده فبايعه" في رواية ابن عباس عن عمر" قال فكثر اللغط وارتفعت الأصوات حتى خشينا الاختلاف، فقلت ابسط يدك يا أبا بكر، فبسط يده فبايعته وبايعه المهاجرون ثم الأنصار" وفي مغازي موسى بن عقبة عن ابن شهاب" قال فقام أسيد بن الحضير وبشير بن سعد وغيرهما من الأنصار فبايعوا أبا بكر، ثم وثب أهل السقيفة يبتدرون البيعة" ووقع في حديث سالم بن عبيد عند البزار في قصة الوفاة" فقالت الأنصار: منا أمير ومنكم أمير، فقال عمر - وأخذ بيد أبي بكر - أسيفان في غمد واحد؟ لا يصطلحان، وأخذ بيد أبي بكر فقال: من له هذه الثلاثة؟ {إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} من هما؟ {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ} من صاحبه؟ {إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} مع من؟ ثم بسط يده فبايعه ثم قال: بايعوه، فبايعه الناس". قوله: "فقال قائل: قتلتم سعد بن عبادة" أي كدتم تقتلونه، وقيل: هو كناية عن الإعراض والخذلان، ويرده ما وقع في رواية موسى بن عقبة عن ابن شهاب" فقال قائل من الأنصار: أبقوا سعد بن عبادة لا تطئوه، فقال عمر: اقتلوه قتله الله". نعم لم يرد عمر الأمر بقتله حقيقة، وأما قوله: "قتله الله" فهو دعاء عليه، وعلى الأول هو إخبار عن إهماله والإعراض عنه، وفي حديث مالك "فقلت وأنا مغضب قتل الله سعدا فإنه صاحب شر وفتنة" قال ابن التين: إنما قالت الأنصار "منا أمير ومنكم أمير" على ما عرفوه من عادة العرب أن لا يتأمر على القبيلة إلا من يكون منا، فلما سمعوا حديث: "الأئمة من قريش" رجعوا عن ذلك وأذعنوا. قلت حديث: "الأئمة من قريش" سيأتي ذكر من أخرجه بهذا اللفظ في كتاب الأحكام،(1) ولم يقع في هذه القصة إلا بمعناه، وقد جمعت طرقه عن نحو أربعين صحابيا لما بلغني أن بعض فضلاء العصر ذكر أنه لم يرو إلا عن أبي بكر الصديق. واستدل به الداودي على أن إقامة الخليفة سنة مؤكدة لأنهم أقاموا مدة لم يكن لهم إمام حتى بويع أبو بكر، وتعقب بالاتفاق على فرضيتها وبأنهم تركوا لأجل إقامتها أعظم المهمات وهو التشاغل بدفن النبي صلى الله عليه وسلم حتى فرغوا منها، والمدة المذكورة زمن يسير في بعض يوم يغتفر مثله لاجتماع الكلمة، واستدل بقول الأنصار "منا أمير ومنكم أمير" على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستخلف، وبذلك صرح عمر كما سيأتي؛ ووجه الدلالة أنهم قالوا ذلك في مقام من لا يخاف شيئا ولا يتقيه، وكذلك ما أخرجه مسلم عن ابن أبي مليكة "سألت عائشة: من كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخلفا؟ قالت: أبو بكر. قيل: ثم من؟ قالت: عمر. قيل: ثم من؟ قالت: أبو عبيدة بن الجراح" ووجدت في الترمذي من طريق عبد الله بن شقيق ما يدل على أنه هو الذي سأل عائشة عن ذلك. قال القرطبي في "المفهم": لو كان عند أحد من المهاجرين والأنصار نص من النبي صلى الله عليه وسلم على تعيين أحد بعينه للخلافة لما اختلفوا في ذلك ولا تفاوضوا فيه، قال: وهذا قول جمهور أهل السنة، واستند من قال إنه نص على خلافة أبي بكر بأصول كلية وقرائن حالية تقتضي أنه أحق بالإمامة وأولى بالخلافة. قلت: وقد تقدم بعضها
ـــــــ
(1)فى هامش طبعة بولاتى: في نسخة "فى كتاب الاعتصام"

(7/32)


في ترجمته، وسيأتي بعضها في الوفاة النبوية آخر المغازي إن شاء الله تعالى. قوله: "قال عبد الله بن سالم" هو الحمصي الأشعري، تقدم ذكره في المزارعة، والزبيدي هو محمد بن الوليد صاحب الزهري، وعبد الرحمن بن القاسم أي ابن أبي بكر الصديق. وهذه الطريق لم يوردها البخاري إلا معلقة ولم يسقها بتمامها، وقد وصلها الطبراني في مسند الشاميين، وقوله: "شخص" بفتح المعجمتين ثم مهملة أي ارتفع، وقوله: "وقص الحديث: "يعني فيما يتعلق بالوفاة، وقوله عمر: "إنه لم يمت ولن يموت حتى يقطع أيدي رجال من المنافقين وأرجلهم" وقول أبي بكر: "إنه مات" وتلاوته الآيتين كما تقدم. قوله: "قالت عائشة فما كانت من خطبتهما من خطبة إلا نفع الله بها" أي من خطبتي أبي بكر وعمر، و"من" الأولى تبعيضية أو بيانية، والثانية زائدة، ثم شرحت ذلك فقالت: "لقد خوف عمر الناس" أي بقوله المذكور، ووقع في رواية الأصيلي: "لقد خوف أبو بكر الناس" وهو غلط، وقولها: "وإن فيهم لنفاقا" أي أن في بعضهم منافقين، وهم الذين عرض بهم عمر في قوله المتقدم. ووقع في رواية الحميدي في الجمع بين الصحيحين" وإن فيهم لتقى" فقيل إنه من إصلاحه، وإنه ظن أن قوله: "وإن فيهم لنفاقا" تصحيف فصيره "لتقى" كأنه استعظم أن يكون في المذكورين نفاقا. وقال عياض: لا أدري هو إصلاح منه أو رواية؟ وعلى الأول فلا استعظام، فقد ظهر في أهل الردة ذلك، ولا سيما عند الحادث العظيم الذي أذهل عقول الأكابر فكيف بضعفاء الإيمان، فالصواب ما في النسخ انتهى. وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق البخاري وقال فيه: "إن فيهم لنفاقا". الحديث: قوله: "حدثنا أبو يعلى" هو منذر بن يعلى الكوفي الثوري، وهو ممن وافقت كنيته اسم أبيه، والإسناد كله كوفيون، ومحمد ابن الحنفية هو ابن علي بن أبي طالب، واسم الحنفية خولة بنت جعفر كما تقدم. قوله: "قلت لأبي: أي الناس خير؟" في رواية محمد بن سوقة عن منذر عن محمد بن علي" قلت لأبي: يا أبتي من خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أو ما تعلم يا بني؟ قلت: لا، قال: أبو بكر" أخرجه الدار قطني. وفي رواية الحسن بن محمد ابن الحنفية عن أبيه قال: "سبحان الله يا بني، أبو بكر". وفي رواية أبي جحيفة عند أحمد" قال لي علي: يا أبا جحيفة ألا أخبرك بأفضل هذه الأمة بعد نبيها؟ قلت: بلى، قال: ولم أكن أرى أن أحدا أفضل منه" وقال في آخره: "وبعدهما آخر ثالث لم يسمه". وفي رواية للدار قطني في الفضائل من طريق أبي الضحى عن أبي جحيفة "وإن شئتم أخبرتكم بخير الناس بعد عمر" فلا أدري أستحي أن يذكر نفسه أو شغله الحديث. قوله: "وخشيت أن يقول عثمان قلت: ثم أنت، قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين" في رواية محمد بن سوقة "ثم عجلت للحداثة فقلت: ثم أنت يا أبتي، فقال: أبوك رجل من المسلمين" زاد في رواية الحسن بن محمد "لي ما لهم وعلي ما عليهم" وهذا قاله علي تواضعا مع معرفته حين المسألة المذكورة أنه خير الناس يومئذ لأن ذلك كان بعد قتل عثمان، وأما خشية محمد ابن الحنفية أن يقول عثمان فلأن محمدا كان يعتقد أن أباه أفضل، فخشي أن عليا يقول عثمان على سبيل التواضع منه والهضم لنفسه فيضطرب حال اعتقاده ولا سيما وهو في سن الحداثة كما أشار إليه في الرواية المذكورة. وروى خيثمة في "فضائل الصحابة" من طريق عبيد بن أبي الجعد عن أبيه أن عليا قال، فذكر هذا الحديث وزاد: "ثم قال: ألا أخبركم بخير أمتكم بعد عمر؟ ثم سكت، فظننا أنه يعني نفسه" وفي رواية عبيد خبر عن علي أنه قال ذلك بعد وقعة النهروان وكانت في سنة ثمان وثلاثين، وزاد في آخر حديثه "أحدثنا أمورا يفعل الله فيها ما يشاء" وأخرج ابن عساكر في ترجمة عثمان من طريق ضعيفة في هذا الحديث أن عليا قال: "إن الثالث

(7/33)


عثمان" ومن طريق أخرى أن أبا جحيفة قال: "فرجعت الموالي يقولون: كنى عن عثمان، والعرب تقول: كنى عن نفسه" وهذا يبين أنه لم يصرح بأحد، وقد سبق بيان الاختلاف في أي الرجلين أفضل بعد أبي بكر وعمر: عثمان أو علي؟ وأن الإجماع انعقد بآخره بين أهل السنة أن ترتيبهم في الفضل كترتيبهم في الخلافة، رضي الله عنهم أجمعين. قال القرطبي في "المفهم" ما ملخصه: الفضائل جمع فضيلة، وهي الخصلة الجميلة التي يحصل لصاحبها بسببها شرف وعلو منزلة إما عند الحق وإما عند الخلق، والثاني لا عبرة به إلا إن أوصل إلى الأول، فإذا قلنا فلان فاضل فمعناه أن له منزلة عند الله، وهذا لا توصل إليه إلا بالنقل عن الرسول، فإذا جاء ذلك عنه إن كان قطعيا قطعنا به أو ظنيا عملنا به، وإذا لم نجد الخبر فلا خفاء أنا إذا رأينا من أعانه الله على الخير ويسر له أسبابه أنا نرجو حصول تلك المنزلة له لما جاء في الشريعة من ذلك، قال: وإذا تقرر ذلك فالمقطوع به بين أهل السنة بأفضلية أبي بكر ثم عمر، ثم اختلفوا فيمن بعدهما: فالجمهور على تقديم عثمان، وعن مالك التوقف، والمسألة اجتهادية، ومستندها أن هؤلاء الأربعة اختارهم الله تعالى لخلافة نبيه وإقامة دينه فمنزلتهم عنده بحسب ترتيبهم في الخلافة والله أعلم. الحديث: حديث عائشة في نزول آية التيمم، وقد تقدم شرحه مستوفى في كتاب التيمم، والغرض منه قول أسيد بن الحضير في آخره: "ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر" وقد تقدم هناك ذكر ألفاظ أخرى تدل على فضلهم. الحديث: حديث أبي سعيد. قوله: "سمعت ذكوان" هو أبو صالح السمان. قوله: "عن أبي سعيد" في رواية أخرى سأبينها "عن أبي هريرة" والأول أولى كما سيأتي. قوله: "لا تسبوا أصحابي" وقع في رواية جرير ومحاضر عن الأعمش - وكذا في رواية عاصم عن أبي صالح - ذكر سبب لهذا الحديث، وهو ما وقع في أوله قال: "كان بين خالد بن الوليد وعبد الرحمن بن عوف شيء، فسبه خالد"، فذكر الحديث وسيأتي بيان من أخرجه. قوله: "فلو أن أحدكم" فيه إشعار بأن المراد بقوله أولا "أصحابي" أصحاب مخصوصون، وإلا فالخطاب كان للصحابة، وقد قال: "لو أن أحدكم أنفق" وهذا كقوله تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} الآية، ومع ذلك فنهي بعض من أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وخاطبه بذلك عن سب من سبقه يقتضي زجر من لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يخاطبه عن سب من سبقه من باب الأولى، وغفل من قال إن الخطاب بذلك لغير الصحابة وإنما المراد من سيوجد من المسلمين المفروضين في العقل تنزيلا لمن سيوجد منزلة الموجود للقطع بوقوعه، ووجه التعقب عليه وقوع التصريح في نفس الخبر بأن المخاطب بذلك خالد بن الوليد وهو من الصحابة الموجودين إذ ذاك بالاتفاق. قوله: "أنفق مثل أحد ذهبا" زاد البرقاني في "المصافحة" من طريق أبي بكر بن عياش عن الأعمش "كل يوم" قال: وهي زيادة حسنة. قوله: "مد أحدهم ولا نصيفه" أي المد من كل شيء، والنصيف بوزن رغيف هو النصف كما يقال عشر وعشير وثمن وثمين، وقيل النصيف مكيال دون المد، والمد بضم الميم مكيال معروف ضبط قدره في كتاب الطهارة، وحكى الخطابي أنه روي بفتح الميم قال: والمراد به الفضل والطول، وقد تقدم في أول "باب فضائل الصحابة" تقرير أفضلية الصحابة عمن بعدهم، وهذا الحديث دال لما وقع الاختيار له مما تقدم من الاختلاف والله أعلم. قال البيضاوي: معنى الحديث لا ينال أحدكم بإنفاق مثل أحد ذهبا من الفضل والأجر ما ينال أحدهم بإنفاق مد طعام أو نصيفه. وسبب التفاوت ما يقارن الأفضل من مزيد الإخلاص وصدق النية. قلت: وأعظم من ذلك في سبب الأفضلية عظم موقع ذلك لشدة الاحتياج إليه، وأشار بالأفضلية بسبب الإنفاق إلى الأفضلية بسبب القتال كما وقع في الآية {مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ

(7/34)


الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} فإن فيها إشارة إلى موقع السبب الذي ذكرته، وذلك أن الإنفاق والقتال كان قبل فتح مكة عظيما لشدة الحاجة إليه وقلة المعتنى به بخلاف ما وقع بعد ذلك لأن المسلمين كثروا بعد الفتح ودخل الناس في دين الله أفواجا، فإنه لا يقع ذلك الموقع المتقدم. والله أعلم. قوله: "تابعه جرير" هو ابن عبد الحميد، وعبد الله بن داود هو الخريبي بالمعجمة والموحدة مصغر، وأبو معاوية هو الضرير، ومحاضر بمهملة ثم معجمة بوزن مجاهد، عن الأعمش أي عن أبي صالح عن أبي سعيد، فأما رواية جرير فوصلها مسلم وابن ماجه وأبو يعلى وغيرهم، وأما رواية محاضر فرويناها موصولة في "فوائد أبي الفتح الحداد" من طريق أحمد بن يونس الضبي عن محاضر المذكور فذكره مثل رواية جرير، لكن قال بين خالد بن الوليد وبين أبي بكر بدل عبد الرحمن بن عوف وقول جرير أصح، وقد وقع كذلك في رواية عاصم عن أبي صالح الآتي ذكرها، وأما رواية عبد الله بن داود فوصلها مسدد في مسنده عنه وليس فيه القصة، وكذا أخرجها أبو داود عن مسدد، وأما رواية أبي معاوية فوصلها أحمد عند هكذا، وقد أخرجه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة وأبي كريب ويحيى بن يحيى ثلاثتهم عن أبي معاوية لكن قال فيه: "عن أبي هريرة" بدل أبي سعيد وهو وهم كما جزم به خلف وأبو مسعود وأبو علي الجياني وغيرهم، قال المزي: كأن مسلما وهم في حال كتابته فإنه بدأ بطريق أبي معاوية، ثم ثنى بحديث جرير فساقه بإسناده ومتنه، ثم ثلث بحديث وكيع وربع بحديث شعبة ولم يسق إسنادهما بل قال بإسناد جرير وأبي معاوية، فلولا أن إسناد جرير وأبي معاوية عنده واحد لما أحال عليهما معا فإن طريق وكيع وشعبة جميعا تنتهي إلى أبي سعيد دون أبي هريرة اتفاقا، انتهى كلامه. وقد أخرجه أبو بكر بن أبي شيبة أحد شيوخ مسلم فيه في مسنده ومصنفه عن أبي معاوية فقال: "عن أبي سعيد" كما قال أحمد، وكذا رويناه من طريق أبي نعيم في "المستخرج" من رواية عبيد بن غنام عن أبي بكر بن أبي شيبة، وأخرجه أبو نعيم أيضا من رواية أحمد ويحيى بن عبد الحميد وأبي خيثمة وأحمد بن جواس كلهم عن أبي معاوية فقال: "عن أبي سعيد "وقال بعده "أخرجه مسلم عن أبي بكر وأبي كريب ويحيى بن يحيى" فدل على أن الوهم وقع فيه ممن دون مسلم إذ لو كان عنده عن أبي هريرة لبينه أبو نعيم، ويقوي ذلك أيضا أن الدار قطني مع جزمه في "العلل" بأن الصواب أنه من حديث أبي سعيد لم يتعرض في تتبعه أوهام الشيخين إلى رواية أبي معاوية هذه، وقد أخرجه أبو عبيدة في "غريب الحديث: "والجوزقي من طريق عبد الله بن هاشم وخيثمة من طريق سعيد بن يحيى والإسماعيلي وابن حبان من طريق علي بن الجعد كلهم عن أبي معاوية فقالوا: "عن أبي سعيد" وأخرجه ابن ماجه عن أبي كريب أحد شيوخ مسلم فيه أيضا عن أبي معاوية فقال: "عن أبي سعيد" كما قال الجماعة، إلا أنه وقع في بعض النسخ عن ابن ماجه اختلاف: ففي بعضها عن أبي هريرة وفي بعضها عن أبي سعيد، والصواب عن أبي سعيد لأن ابن ماجه جمع في سياقه بين جرير ووكيع وأبي معاوية ولم يقل أحد في رواية وكيع وجرير إنها عن أبي هريرة، وكل من أخرجها من المصنفين والمخرجين أورده عنهما من حديث أبي سعيد، وقد وجدته في نسخة قديمة جدا من ابن ماجه قرئت في سنة بضع وسبعين وثلاثمائة وهي في غاية الإتقان وفيها "عن أبي سعيد" واحتمال كون الحديث عند أبي معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد وأبي هريرة جميعا مستبعد، إذ لو كان كذلك لجمعهما ولو مرة، فلما كان غالب ما وجد عنه ذكر أبي سعيد دون ذكر أبي هريرة دل على أن في قول من قال عنه "عن أبي هريرة" شذوذا والله أعلم، وقد جمعهما أبو عوانة عن الأعمش ذكره الدار قطني وقال في العلل رواه مسدد وأبو كامل وشيبان عن أبي عوانة كذلك، ورواه عفان ويحيى بن حماد عن أبي عوانة فلم

(7/35)


يذكرا فيه أبا سعيد، قال: ورواه زيد بن أبي أنيسة عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة، وكذلك قال نصر بن علي عن عبد الله بن داود، قال والصواب من روايات الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد لا عن أبي هريرة، قال: وقد رواه عاصم عن أبي صالح فقال عن أبي هريرة والصحيح عن أبي صالح عن أبي سعيد انتهى، وقد سبق إلى ذلك علي ابن المديني فقال في "العلل": رواه الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد، ورواه عاصم عن أبي صالح عن أبي هريرة، قال والأعمش أثبت في أبي صالح من عاصم، فعرف من كلامه أن من قال فيه عن أبي صالح عن أبي هريرة فقد شذ، وكأن سبب ذلك شهرة أبي صالح بالرواية عن أبي هريرة فيسبق إليه الوهم ممن ليس بحافظ، وأما الحفاظ فيميزون ذلك. ورواية زيد بن أبي أنيسة التي أشار إليها الدار قطني أخرجها الطبراني في "الأوسط" قال: ولم يروه عن الأعمش إلا زيد بن أبي أنيسة، ورواه شعبة وغيره عن الأعمش فقالوا: "عن أبي سعيد" انتهى. وأما رواية عاصم فأخرجها النسائي في "الكبرى" والبزار في مسنده وقال: ولم يروه عن عاصم إلا زائدة، وممن رواه عن الأعمش فقال: "عن أبي سعيد" أبو بكر بن عياش عند عبد بن حميد، ويحيى بن عيسى الرملي عند أبي عوانة، وأبو الأحوص عند ابن أبي خيثمة، وإسرائيل عند تمام الرازي. وأما ما حكاه الدار قطني عن رواية أبي عوانة فقد وقع لي من رواية مسدد وأبي كامل وشيبان عنه على الشك، قال في روايته: "عن أبي سعيد أو أبي هريرة" وأبو عوانة كان يحدث من حفظه فربما وهم، وحديثه من كتابه أثبت، ومن لم يشك أحق بالتقديم ممن شك، والله أعلم. وقد أمليت على هذا الموضع جزءا مفردا لخصت مقاصده هنا بعون الله تعالى. "تكملة": اختلف في ساب الصحابي، فقال عياض: ذهب الجمهور إلى أنه يعزر، وعن بعض المالكية يقتل، وخص بعض الشافعية ذلك بالشيخين والحسنين فحكى القاضي حسين في ذلك وجهين، وقواه السبكي في حق من كفر الشيخين، وكذا من كفر من صرح النبي صلى الله عليه وسلم بإيمانه أو تبشيره بالجنة إذا تواتر الخبر بذلك عنه لما تضمن من تكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم. الحديث: قوله: "عن شريك بن أبي نمر" هو ابن عبد الله، وأبو نمر جده. قوله: "خرج ووجه ها هنا" كذا للأكثر بفتح الواو وتشديد الجيم أي توجه أو وجه نفسه. وفي رواية الكشميهني بسكون الجيم بلفظ الاسم مضافا إلى الظرف أي جهة كذا. قوله: "حتى دخل بئر أريس" بفتح الألف وكسر الراء بعدها تحتانية ساكنة ثم مهملة: بستان بالمدينة معروف يجوز فيه الصرف وعدمه، وهو بالقرب من قباء. وفي بئرها سقط خاتم النبي صلى الله عليه وسلم من إصبع عثمان رضي الله عنه. قوله: "وتوسط قفها" بضم القاف وتشديد الفاء هو الداكة التي تجعل حول البئر، وأصله ما غلظ من الأرض وارتفع، والجمع قفاف. ووقع في رواية عثمان بن غياث عن أبي عثمان عند مسلم: "بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حائط من حوائط المدينة وهو متكئ ينكت بعود معه بين الماء والطين". قوله: "فقلت لأكونن بوابا للنبي صلى الله عليه وسلم اليوم" ظاهره أنه اختار ذلك وفعله من تلقاء نفسه، وقد صرح بذلك في رواية محمد بن جعفر عن شريك في الأدب فزاد فيه: "ولم يأمرني" قال ابن التين: فيه أن المرء يكون بوابا للإمام وإن لم يأمره، كذا قال. وقد وقع في رواية أبي عثمان الآتية في مناقب عثمان عن أبي موسى "أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل حائطا وأمره بحفظ باب الحائط" ووقع في رواية عبد الرحمن بن حرملة عن سعيد بن المسيب في هذا الحديث: "فقال: يا أبا موسى املك علي الباب، فانطلق فقضى حاجته وتوضأ، ثم جاء فقعد على قف البئر" أخرجه أبو عوانة في صحيحه والروياني في مسنده. وفي رواية الترمذي من طريق أبي عثمان عن أبي موسى "فقال لي: يا أبا موسى املك علي الباب فلا يدخلن علي أحد"

(7/36)


فيجمع بينهما بأنه لما حدث نفسه بذلك صادف أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يحفظ عليه الباب، وأما قوله: "ولم يأمرني" فيريد أنه لم يأمره أن يستمر بوابا، وإنما أمره بذلك قدر ما يقضي حاجته ويتوضأ ثم استمر هو من قبل نفسه، وسيأتي له توجيه آخر في خبر الواحد، فبطل أن يستدل به لما قاله ابن التين، والعجب أنه نقل ذلك بعد عن الداودي وهذا من مختلف الحديث، وكأنه خفي عليه وجه الجمع الذي قررته. ثم إن قول أبي موسى هذا لا يعارض قول أنس أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن له بواب كما سبق في كتاب الجنائز لأن مراد أنس أنه لم يكن له بواب مرتب لذلك على الدوام. قوله: "فدفع الباب" في رواية أبي بكر "فجاء رجل يستأذن". قوله: "يبشرك بالجنة" زاد أبو عثمان في روايته: "فحمد الله" وكذا قال في عمر. قوله: "وقد تركت أخي يتوضأ ويلحقني" كان لأبي موسى أخوان أبو رهم وأبو بردة، وقيل إن له أخا آخر اسمه محمد، وأشهرهم أبو بردة واسمه عامر، وقد خرج عنه أحمد في مسنده حديثا. قوله: "فإذا إنسان يحرك الباب" فيه حسن الأدب في الاستئذان، قال ابن التين. ويحتمل أن يكون هذا قبل نزول قوله: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} . قلت: وما أبعد ما قال، فقد وقع في رواية عبد الرحمن بن حرملة" فجاء رجل فاستأذن" وسيأتي في آخر مناقب عمر من طريق أبي عثمان النهدي عن أبي موسى بلفظ: "فجاء رجل فاستفتح" فعرف أن قوله: "يحرك الباب": إنما حركه مستأذنا لا دافعا له ليدخل بغير إذن. قوله: "فقال: عثمان، فقلت: على رسلك، فجئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال: ائذن له" في رواية أبي عثمان "ثم جاء آخر يستأذن فسكت هنية ثم قال ائذن له". قوله: "وبشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة على بلوى تصيبك" في رواية أبي عثمان "فحمد الله ثم قال: الله المستعان" وفي رواية عند أحمد "فجعل يقول: اللهم صبرا، حتى جلس" وفي رواية عبد الرحمن بن حرملة "فدخل وهو يحمد الله ويقول: اللهم صبرا" ووقع في حديث زيد بن أرقم عند البيهقي في" الدلائل" قال: "بعثني النبي صلى الله عليه وسلم فقال: انطلق حتى تأتي أبا بكر فقل له: إن النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ عليك السلام ويقول لك: أبشر بالجنة. ثم انطلق إلى عمر كذلك، ثم انطلق إلى عثمان كذلك وزاد: بعد بلاء شديد. قال فانطلق فذكر أنه وجدهم على الصفة التي قال له وقال: أين نبي الله؟ قلت في مكان كذا وكذا، فانطلق إليه. وقال في عثمان فأخذ بيدي حتى أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن زيدا قال لي كذا، والذي بعثك بالحق ما تغنيت ولا تمنيت ولا مسست ذكري بيميني منذ بايعتك، فأي بلاء يصيبني؟ قال هو ذاك" قال البيهقي إسناده ضعيف، فإن كان محفوظا احتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أرسل زيد بن أرقم قبل أن يجيء أبو موسى، فلما جاءوا كان أبو موسى قد قعد على الباب فراسلهم على لسانه بنحو ما أرسل به إليهم زيد بن أرقم والله أعلم. قلت: ووقع نحو قصة أبي موسى لبلال وذلك فيما أخرجه أبو داود من طريق إسماعيل بن جعفر عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن نافع بن عبد الحارث الخزاعي قال: "دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم حائطا من حوائط المدينة فقال لبلال: أمسك علي الباب، فجاء أبو بكر يستأذن" فذكر نحوه. وأخرجه الطبراني في" الأوسط" من حديث أبي سعيد نحوه. وهذا إن صح حمل على التعدد. ثم ظهر لي أن فيه وهما من بعض رواته، فقد أخرجه أحمد عن يزيد بن هارون عن محمد بن عمرو وفي حديثه أن نافع بن عبد الحارث هو الذي كان يستأذن، وهو وهم أيضا، فقد رواه أحمد من طريق موسى بن عقبة عن أبي سلمة عن نافع فذكره وفيه: "فجاء أبو بكر فاستأذن فقال لأبي موسى فيما أعلم ائذن له" وأخرجه النسائي من طريق أبي الزناد عن أبي سلمة عن نافع بن عبد الحارث عن أبي موسى وهو الصواب، فرجع الحديث إلى أبي

(7/37)


موسى واتحدت القصة والله أعلم. وأشار صلى الله عليه وسلم بالبلوى المذكورة إلى ما أصاب عثمان في آخر خلافته من الشهادة يوم الدار، وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أصرح من هذا فروى أحمد من طريق كليب بن وائل عن ابن عمر قال: "ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنة، فمر رجل فقال: يقتل فيها هذا يومئذ ظلما. قال فنظرت فإذا هو عثمان" إسناده صحيح. قوله: "فجلس وجاهه" بضم الواو وبكسرها أي مقابله. قوله: "قال شريك" هو موصول بالإسناد الماضي. قوله: "قال سعيد بن المسيب: فأولتها قبورهم" فيه وقوع التأويل في اليقظة وهو الذي يسمى الفراسة والمراد اجتماع الصاحبين مع النبي صلى الله عليه وسلم في الدفن وانفراد عثمان عنهم في البقيع، وليس المراد خصوص صورة الجلوس الواقعة. وقد وقع في رواية عبد الرحمن بن حرملة عن سعيد بن المسيب "قال سعيد: فأولت ذلك انتباذ قبره من قبورهم" وسيأتي في الفتن بلفظ: "اجتمعت هاهنا وانفرد عثمان" ولو ثبت الخبر الذي أخرجه أبو نعيم عن عائشة في صفة القبور الثلاثة أبو بكر عن يمينه وعمر عن يساره لكان فيه تمام التشبيه، ولكن سنده ضعيف، وعارضه ما هو أصح منه. وأخرج أبو داود والحاكم من طريق القاسم بن محمد قال: "قلت لعائشة: يا أماه اكشفي لي عن قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، فكشفت لي" الحديث وفيه: "فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا أبو بكر رأسه بين كتفيه، وعمر رأسه عند رجلي النبي صلى الله عليه وسلم". الحديث الثامن عشر: قوله: "حدثنا يحيى" هو ابن سعيد القطان وسعيد هو ابن أبي عروبة. قوله: "صعد أحدا" هو الجبل المعروف بالمدينة، ووقع في رواية لمسلم ولأبي يعلى من وجه آخر عن سعيد "حراء" والأول أصح، ولولا اتحاد المخرج لجوزت تعدد القصة، ثم ظهر لي أن الاختلاف فيه من سعيد. فإني وجدته في مسند الحارث بن أبي أسامة عن روح بن عبادة عن سعيد فقال فيه: "أحدا أو حراء" بالشك، وقد أخرجه أحمد من حديث بريدة بلفظ: "حراء" وإسناده صحيح، وأخرجه أبو يعلى من حديث سهل بن سعد بلفظ: "أحد" وإسناده صحيح، فقوى احتمال تعدد القصة، وتقدم في أواخر الوقف من حديث عثمان أيضا نحوه وفيه: "حراء". وأخرج مسلم من حديث أبي هريرة ما يؤيد تعدد القصة فذكر أنه كان على حراء ومعه المذكورون هنا وزاد معهم غيرهم، والله أعلم. قوله: "وأبو بكر وعمر" قال ابن التين: إنما رفع أبو بكر عطفا على الضمير المرفوع الذي في"صعد" وهو جائز اتفاقا لوجود الحائل وهو قوله: "أحدا" وهو بخلاف قوله الآتي في آخر الباب: "كنت وأبو بكر وعمر. وقوله: "اثبت" وقع في مناقب عمر "فضربه برجله وقال اثبت" بلفظ الأمر من الثبات وهو الاستقرار، وأحد منادى ونداؤه وخطابه يحتمل المجاز، وحمله على الحقيقة أولى. وقد تقدم شيء منه في قوله: "أحد جبل يحبنا ونحبه" ويؤيده ما وقع في مناقب عمر أنه ضربه برجله وقال اثبت. قوله: "فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان" في رواية يزيد بن زريع عن سعيد الآتية في مناقب عمر "فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد" و"أو" فيها للتنويع و"شهيد" للجنس. الحديث: قوله: "حدثنا أحمد بن سعيد أبو عبد الله" هو الرباطي واسم جده إبراهيم، وأما السرخسي فكنيته أبو جعفر، واسم جده صخر. قوله: "حدثنا صخر" هو ابن جويرية. قوله: "بينا أنا على بئر" أي في المنام كما تقدم التصريح به في هذا الباب من حديث أبي هريرة "بينا أنا نائم" وسبق من وجه آخر عن ابن عمر قبل مناقب الصحابة بباب "رأيت الناس مجتمعين في صعيد واحد" ويأتي في مناقب عمر بلفظ: "رأيت في المنام". قوله: "أنزع منها" أي أملأ الماء بالدلو. قوله: "فنزع ذنوبا أو ذنوبين" بفتح المعجمة وبالنون وآخره موحدة: الدلو الكبيرة إذا كان فيها الماء واتفق من شرح هذا الحديث على أن ذكر الذنوب إشارة إلى مدة

(7/38)


خلافته، وفيه نظر لأنه ولي سنتين وبعض سنة، فلو كان ذلك المراد لقال ذنوبين أو ثلاثة، والذي يظهر لي أن ذلك إشارة إلى ما فتح في زمانه من الفتوح الكبار وهي ثلاثة، ولذلك لم يتعرض في ذكر عمر إلى عدد ما نزعه من الدلاء وإنما وصف نزعه بالعظمة إشارة إلى كثرة ما وقع في خلافته من الفتوحات والله أعلم. وقد ذكر الشافعي تفسير هذا الحديث في"الأم" فقال بعد أن ساقه: ومعنى قوله: "وفي نزعه ضعف" قصر مدته وعجلة موته وشغله بالحرب لأهل الرد عن الافتتاح والازدياد الذي بلغه عمر في طول مدته، انتهى. فجمع في كلامه ما تفرق في كلام غيره، ويؤيد ذلك ما وقع في حديث ابن مسعود في نحو هذه القصة فقال: "قال النبي صلى الله عليه وسلم: فاعبرها يا أبا بكر، فقال إلي الأمر من بعدك، ثم يليه عمر، قال: كذلك عبرها الملك" أخرجه الطبراني لكن في إسناده أيوب بن جابر وهو ضعيف. قوله: "وفي نزعه ضعف" أي أنه على مهل ورفق. قوله: "والله يغفر له" قال النووي: هذا دعاء من المتكلم، أي أنه لا مفهوم له. وقال غيره: فيه إشارة إلى قرب وفاة أبي بكر، وهو نظير قوله تعالى لنبيه عليه السلام {فسبح بحمد ربك واستغفره، إنه كان توابا} فإنها إشارة إلى قرب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. قلت: ويحتمل أن يكون فيه إشارة إلى أن قلة الفتوح في زمانه لا صنع له فيه، لأن سببه قصر مدته، فمعنى المغفرة له رفع الملامة عنه. قوله: "فاستحالت في يده غربا" بفتح المعجمة وسكون الراء بعدها موحدة، أي دلوا عظيمة. قوله: "فلم أر عبقريا" بفتح المهملة وسكون الموحدة بعدها قاف مفتوحة وراء مكسورة وتحتانية ثقيلة، والمراد به كل شيء بلغ النهاية، وأصله أرض يسكنها الجن ضرب بها العرب المثل في كل شيء عظيم، قيل: قرية يعمل فيها الثياب البالغة في الحسن، وسيأتي بقية ما فيه في مناقب عمر. قوله: "يفري" بفتح أوله وسكون الفاء وكسر الراء وسكون التحتانية، وقوله: "فريه" بفتح الفاء وكسر الراء وتشديد التحتانية المفتوحة، وروي بسكون الراء وخطأه الخليل، ومعناه يعمل عمله البالغ، ووقع في حديث أبي عمر ينزع نزع عمر. قوله: "حتى ضرب الناس بعطن" بفتح المهملتين وآخره نون، هو مناخ الإبل إذا شربت ثم صدرت، وسيأتي في مناقب عمر بلفظ: "حتى روي الناس وضربوا بعطن" ووقع في حديث أبي الطفيل بإسناد حسن عند البزار والطبراني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بينا أنا أنزع الليلة إذ وردت علي غنم سود وعفر، فجاء أبو بكر فنزع" فذكره وقال في عمر "فملأ الحياض وأروى الواردة" وقال فيه: "فأولت السود العرب والعفر العجم" .وله: "قال وهب" هو ابن جرير شيخ شيخه في هذا الحديث، وكلامه هذا موصول بالسند المذكور، وقوله: "يقول حتى رويت الإبل فأناخت" هو مقول وهب المذكور، وسيأتي شيء من مباحثه في كتاب التعبير إن شاء الله تعالى. قال البيضاوي: أشار بالبئر إلى الدين الذي هو منبع ماؤه حياة النفوس وتمام أمر المعاش والمعاد، والنزع منه إخراج الماء، وفيه إشارة إلى إشاعة أمره وإجراء أحكامه. وقوله: "يغفر الله له" إشارة إلى أن ضعفه - المراد به الرفق - غير قادح فيه، أو المراد بالضعف ما وقع في أيامه من أمر الردة واختلاف الكلمة إلى أن اجتمع ذلك في آخر أيامه وتكمل في زمان عمر، وإليه الإشارة بالقوة. وقد وقع عند أحمد من حديث سمرة "أن رجلا قال: يا رسول الله رأيت كأن دلوا من السماء دليت، فجاء أبو بكر فشرب شربا ضعيفا. ثم جاء عمر فشرب حتى تضلع" الحديث، ففي هذا إشارة إلى بيان المراد بالنزع الضعيف والنزع القوي، والله أعلم. الحديث: قوله: "حدثنا الوليد بن صالح" هو أبو محمد الضبي الحزري النخاس بالنون والخاء المعجمة، وثقه أبو حاتم وغيره، ولم يكتب عنه أحمد لأنه كان من أصحاب الرأي فرآه يصلي فلم تعجبه صلاته، وليس له في البخاري إلا هذا

(7/39)


الحديث الواحد، وسيأتي من وجه آخر في مناقب عمر عن ابن أبي حسين، فظهر أن البخاري لم يحتج به. قوله: "كنت وأبو بكر وعمر" قال ابن التين الأحسن عند النحاة أن لا يعطف على الضمير المرفوع إلا بعد تأكيده، حتى قال بعضهم إنه قبيح، لكن يرد عليهم قوله تعالى: {مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا} وأجيب بأنه قد وقع الحائل وهو قوله: "لا" وتعقب بأن العطف قد حصل قبل "لا" قال: ويرد عليهم أيضا هذا الحديث انتهى. والتعقيب مردود، فإنه وجد فاصل في الجملة، وأما هذا الحديث فلم تتفق الرواة على لفظه، وسيأتي في مناقب عمر من وجه آخر بلفظ: "ذهبت أنا وأبو بكر وعمر" فعطف مع التأكيد مع اتحاد المخرج، فدل على أنه من تصرف الرواة، وسيأتي شرح هذا الحديث قريبا في مناقب عمر إن شاء تعالى. الحديث: قوله: "حدثنا محمد بن يزيد الكوفي" قيل: هو أبو هشام الرفاعي وهو مشهور بكنيته. وقال الحاكم والكلاباذي: هو غيره، ووقع في رواية ابن السكن عن الفربري "محمد بن كثير" وهو وهم نبه عليه أبو علي الجياني، لأن محمد بن كثير لا تعرف له رواية عن الوليد، والوليد هو ابن مسلم، وسيأتي الحديث في "باب ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المشركين بمكة" من وجه آخر عن الوليد وفيه تصريحه وتصريح الأوزاعي بالتحديث، ويأتي شرحه هناك إن شاء الله تعالى. "فائدة": مات أبو بكر رضي الله عنه بمرض السل على ما قاله الزبير بن بكار، وعن الواقدي أنه اغتسل في يوم بارد فحم خمسة عشر يوما، وقيل: بل سمته اليهود في حريرة أو غيرها وذلك على الصحيح لثمان بقين من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة من الهجرة، فكانت مدة خلافته سنتين وثلاثة أشهر وأياما، وقيل غير ذلك، ولم يختلفوا أنه استكمل سن النبي صلى الله عليه وسلم فمات وهو ابن ثلاث وستين، والله أعلم.

(7/40)


باب مناقب عمر بن الخطاب القرشي العدوي
...
6- باب مَنَاقِبِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَبِي حَفْصٍ الْقُرَشِيِّ الْعَدَوِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
3679-حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْمَاجِشُونِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "رَأَيْتُنِي دَخَلْتُ الْجَنَّةَ فَإِذَا أَنَا بِالرُّمَيْصَاءِ امْرَأَةِ أَبِي طَلْحَةَ وَسَمِعْتُ خَشَفَةً فَقُلْتُ مَنْ هَذَا فَقَالَ هَذَا بِلاَلٌ وَرَأَيْتُ قَصْرًا بِفِنَائِهِ جَارِيَةٌ فَقُلْتُ لِمَنْ هَذَا فَقَالَ لِعُمَرَ فَأَرَدْتُ أَنْ أَدْخُلَهُ فَأَنْظُرَ إِلَيْهِ فَذَكَرْتُ غَيْرَتَكَ" فَقَالَ عُمَرُ بِأَبِي وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعَلَيْكَ أَغَارُ"؟
[الحديث3679، طرفاه في: 5226، 7024، ]
3680-حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ قَالَ حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ قَالَ: "بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُنِي فِي الْجَنَّةِ فَإِذَا امْرَأَةٌ تَتَوَضَّأُ إِلَى جَانِبِ قَصْرٍ فَقُلْتُ لِمَنْ هَذَا الْقَصْرُ قَالُوا لِعُمَرَ فَذَكَرْتُ غَيْرَتَهُ فَوَلَّيْتُ مُدْبِرًا" فَبَكَى عُمَرُ وَقَالَ أَعَلَيْكَ: أَغَارُ يَا رَسُولَ اللَّهِ"؟
3681-حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الصَّلْتِ أَبُو جَعْفَرٍ الْكُوفِيُّ حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ يُونُسَ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي حَمْزَةُ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ شَرِبْتُ يَعْنِي اللَّبَنَ حَتَّى أَنْظُرَ إِلَى الرِّيِّ

(7/40)


يَجْرِي فِي ظُفُرِي أَوْ فِي أَظْفَارِي ثُمَّ نَاوَلْتُ عُمَرَ" فَقَالُوا فَمَا أَوَّلْتَهُ يارسول الله, قَالَ "الْعِلْم" َ
3682-حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ سَالِمٍ عَنْ سَالِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ "أُرِيتُ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَنْزِعُ بِدَلْوِ بَكْرَةٍ عَلَى قَلِيبٍ فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ فَنَزَعَ ذَنُوبًا أَوْ ذَنُوبَيْنِ نَزْعًا ضَعِيفًا وَاللَّهُ يَغْفِرُ لَهُ ثُمَّ جَاءَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَاسْتَحَالَتْ غَرْبًا فَلَمْ أَرَ عَبْقَرِيًّا يَفْرِي فَرِيَّهُ حَتَّى رَوِيَ النَّاسُ وَضَرَبُوا بِعَطَنٍ" قَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ الْعَبْقَرِيُّ عِتَاقُ الزَّرَابِيِّ وَقَالَ يَحْيَى: الزَّرَابِيُّ الطَّنَافِسُ لَهَا خَمْلٌ رَقِيقٌ .{مَبْثُوثَةٌ} كَثِيرَةٌ
3683-حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي عَبْدُ الْحَمِيدِ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ سَعْدٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَاهُ قَالَ ح حَدَّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ اسْتَأْذَنَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ نِسْوَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ يُكَلِّمْنَهُ وَيَسْتَكْثِرْنَهُ عَالِيَةً أَصْوَاتُهُنَّ عَلَى صَوْتِهِ فَلَمَّا اسْتَأْذَنَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قُمْنَ فَبَادَرْنَ الْحِجَابَ فَأَذِنَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلَ عُمَرُ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَضْحَكُ فَقَالَ عُمَرُ أَضْحَكَ اللَّهُ سِنَّكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "عَجِبْتُ مِنْ هَؤُلاَءِ اللاَتِي كُنَّ عِنْدِي فَلَمَّا سَمِعْنَ صَوْتَكَ ابْتَدَرْنَ الْحِجَاب" َ فَقَالَ عُمَرُ فَأَنْتَ أَحَقُّ أَنْ يَهَبْنَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ثُمَّ قَالَ عُمَرُ يَا عَدُوَّاتِ أَنْفُسِهِنَّ أَتَهَبْنَنِي وَلاَ تَهَبْنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقُلْنَ نَعَمْ، أَنْتَ أَفَظُّ وَأَغْلَظُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِيهًا يَا ابْنَ الْخَطَّابِ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا لَقِيَكَ الشَّيْطَانُ سَالِكًا فَجًّا قَطُّ إِلاَّ سَلَكَ فَجًّا غَيْرَ فَجِّكَ"
3684-حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا قَيْسٌ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ "مَازِلْنَا أَعِزَّةً مُنْذُ أَسْلَمَ عُمَرُ"
[الحديث 3684طرفه في: 3863]
3685-حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُول "ُوُضِعَ عُمَرُ عَلَى سَرِيرِهِ فَتَكَنَّفَهُ النَّاسُ يَدْعُونَ وَيُصَلُّونَ قَبْلَ أَنْ يُرْفَعَ- وَأَنَا فِيهِمْ فَلَمْ يَرُعْنِي إِلاَّ رَجُلٌ آخِذٌ مَنْكِبِي، فَإِذَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَتَرَحَّمَ عَلَى عُمَرَ وَقَالَ مَا خَلَّفْتَ أَحَدًا أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ أَلْقَى اللَّهَ بِمِثْلِ عَمَلِهِ مِنْكَ وَايْمُ اللَّهِ إِنْ كُنْتُ لاَظُنُّ أَنْ يَجْعَلَكَ اللَّهُ مَعَ صَاحِبَيْكَ وَحَسِبْتُ إِنِّي كُنْتُ كَثِيرًا أَسْمَعُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

(7/41)


يَقُولُ: " ذَهَبْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَدَخَلْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ،وَخَرَجْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ"
3686-حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ ح و قَالَ لِي خَلِيفَةُ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَوَاءٍ وَكَهْمَسُ بْنُ الْمِنْهَالِ قَالاَ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "صَعِدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أُحُدٍ وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ فَرَجَفَ بِهِمْ فَضَرَبَهُ بِرِجْلِهِ قَالَ "اثْبُتْ أُحُدُ فَمَا عَلَيْكَ إِلاَّ نَبِيٌّ أَوْ صِدِّيقٌ أَوْ شَهِيدَانِ"
3687-حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ قَالَ حَدَّثَنِي عُمَرُ هُوَ ابْنُ مُحَمَّدٍ أَنَّ زَيْدَ بْنَ أَسْلَمَ حَدَّثَهُ عَنْ أَبِيهِ قَالَ "سَأَلَنِي ابْنُ عُمَرَ عَنْ بَعْضِ شَأْنِهِ يَعْنِي عُمَرَ فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ مَا رَأَيْتُ أَحَدًا قَطُّ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حِينَ قُبِضَ كَانَ أَجَدَّ وَأَجْوَدَ حَتَّى انْتَهَى مِنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ"
3688-حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ السَّاعَةِ؟ فَقَالَ مَتَى السَّاعَةُ قَالَ "وَمَاذَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟" قَالَ لاَ شَيْءَ إِلاَّ أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ "أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْت" َ قَالَ أَنَسٌ فَمَا فَرِحْنَا بِشَيْءٍ فَرَحَنَا بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْت" َ قَالَ أَنَسٌ فَأَنَا أُحِبُّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ بِحُبِّي إِيَّاهُمْ وَإِنْ لَمْ أَعْمَلْ بِمِثْلِ أَعْمَالِهِمْ"
[الحديث3688- أطرافه في:6167، 6171، 7153، ]
3687-حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ قَزَعَةَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَقَدْ كَانَ فِيمَا قَبْلَكُمْ مِنْ الأُمَمِ مُحَدَّثُونَ فَإِنْ يَكُ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ فَإِنَّهُ عُمَرُ" زَادَ زَكَرِيَّاءُ بْنُ أَبِي زَائِدَةَ عَنْ سَعْدٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لَقَدْ كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ رِجَالٌ يُكَلَّمُونَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونُوا أَنْبِيَاءَ فَإِنْ يَكُنْ مِنْ أُمَّتِي مِنْهُمْ أَحَدٌ فَعُمَرُ"
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مِنْ نَبِيٍّ وَلاَ مُحَدَّثٍ"
3690-حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ حَدَّثَنَا عُقَيْلٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالاَ سَمِعْنَا أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بَيْنَمَا رَاعٍ فِي غَنَمِهِ عَدَا الذِّئْبُ فَأَخَذَ مِنْهَا شَاةً فَطَلَبَهَا حَتَّى اسْتَنْقَذَهَا فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ الذِّئْبُ فَقَالَ لَهُ مَنْ لَهَا يَوْمَ السَّبُعِ لَيْسَ لَهَا رَاعٍ" غَيْرِي فَقَالَ النَّاسُ: سُبْحَانَ اللَّهِ، فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "فَإِنِّي أُومِنُ بِهِ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَمَا ثَمَّ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَر"

(7/42)


3691-حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو أُمَامَةَ بْنُ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ" سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُ النَّاسَ عُرِضُوا عَلَيَّ وَعَلَيْهِمْ قُمُصٌ فَمِنْهَا مَا يَبْلُغُ الثَّدْيَ وَمِنْهَا مَا يَبْلُغُ دُونَ ذَلِكَ وَعُرِضَ عَلَيَّ عُمَرُ وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ اجْتَرَّهُ" : قَالُوا فَمَا أَوَّلْتَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: "الدِّينَ"
3692-حَدَّثَنَا الصَّلْتُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ قَالَ "لَمَّا طُعِنَ عُمَرُ جَعَلَ يَأْلَمُ فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَكَأَنَّهُ يُجَزِّعُهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَلَئِنْ كَانَ ذَاكَ لَقَدْ صَحِبْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَحْسَنْتَ صُحْبَتَهُ ثُمَّ فَارَقْتَهُ وَهُوَ عَنْكَ رَاضٍ ثُمَّ صَحِبْتَ أَبَا بَكْرٍ فَأَحْسَنْتَ صُحْبَتَهُ ثُمَّ فَارَقْتَهُ وَهُوَ عَنْكَ رَاضٍ ثُمَّ صَحِبْتَ صَحَبَتَهُمْ فَأَحْسَنْتَ صُحْبَتَهُمْ وَلَئِنْ فَارَقْتَهُمْ لَتُفَارِقَنَّهُمْ وَهُمْ عَنْكَ رَاضُونَ قَالَ أَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ صُحْبَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرِضَاهُ فَإِنَّمَا ذَاكَ مَنٌّ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى مَنَّ بِهِ عَلَيَّ وَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ صُحْبَةِ أَبِي بَكْرٍ وَرِضَاهُ فَإِنَّمَا ذَاكَ مَنٌّ مِنْ اللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ مَنَّ بِهِ عَلَيَّ وَأَمَّا مَا تَرَى مِنْ جَزَعِي فَهُوَ مِنْ أَجْلِكَ وَأَجْلِ أَصْحَابِكَ وَاللَّهِ لَوْ أَنَّ لِي طِلاَعَ الأَرْضِ ذَهَبًا لاَفْتَدَيْتُ بِهِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَبْلَ أَنْ أَرَاهُ"
قَالَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ "دَخَلْتُ عَلَى عُمَرَ" بِهَذَا
3693-حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ قَالَ حَدَّثَنِي عُثْمَانُ بْنُ غِيَاثٍ حَدَّثَنَا أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَائِطٍ مِنْ حِيطَانِ الْمَدِينَةِ فَجَاءَ رَجُلٌ فَاسْتَفْتَحَ َقال النبي صلى الله عليه وسلم: : "افْتَحْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّة" ِ فَفَتَحْتُ لَهُ فَإِذَا أَبُو بَكْرٍ فَبَشَّرْتُهُ بِمَا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فَحَمِدَ اللَّهَ ثُمَّ جَاءَ رَجُلٌ فَاسْتَفْتَح فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "افْتَحْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ" فَفَتَحْتُ لَهُ فَإِذَا هُوَ عُمَرُ فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فَحَمِدَ اللَّهَ ثُمَّ اسْتَفْتَحَ رَجُلٌ فَقَالَ لِي "افْتَحْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ عَلَى بَلْوَى تُصِيبُهُ" فَإِذَا عُثْمَانُ فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم،"فَحَمِدَ اللَّهَ ثُمَّ قَالَ اللَّهُ الْمُسْتَعَانُ"
3694-حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي حَيْوَةُ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو عَقِيلٍ زُهْرَةُ بْنُ مَعْبَدٍ أَنَّهُ سَمِعَ جَدَّهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ هِشَامٍ قَالَ "كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ"
[الحديث 3694-طرفاه، 6632]

(7/43)


قوله: "باب مناقب عمر بن الخطاب" أي ابن نفيل بنون وفاء مصغر ابن عبد العزى بن رياح بكسر الراء بعدها تحتانية وآخره مهملة ابن عبد الله بن قرط بن رزاح بفتح الراء بعدها زاي وآخره مهملة ابن عدي بن كعب بن لؤي بن غالب، يجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في كعب، وعدد ما بينهما من الآباء إلى كعب متفاوت بواحد، بخلاف أبي بكر فبين النبي صلى الله عليه وسلم وكعب سبعة آباء، وبين عمر وبين كعب ثمانية، وأم عمر حنتمة بنت هاشم بن المغيرة ابنة عم أبي جهل والحارث ابني هشام بن المغيرة، ووقع عند ابن منده أنها بنت هشام أخت أبي جهل وهو تصحيف نبه عليه ابن عبد البر وغيره. قوله: "أبي حفص القرشي العدوي" أما كنيته فجاء في السيرة لابن إسحاق أن النبي صلى الله عليه وسلم كناه بها، وكانت حفصة أكبر أولاده، وأما لقبه فهو الفاروق باتفاق، فقيل أول من لقبه به النبي صلى الله عليه وسلم رواه أبو جعفر بن أبي شيبة في تاريخه عن طريق ابن عباس عن عمر، ورواه ابن سعد من حديث عائشة، وقيل أهل الكتاب أخرجه ابن سعد عن الزهري، وقيل جبريل رواه البغوي. قوله: "حدثنا عبد العزيز بن الماجشون" كذا لأبي ذر، وسقط لفظ: "ابن" من رواية غيره، وهو عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة المدني، والماجشون لقب جده وتلقب به أولاده. قوله: "حدثنا محمد بن المنكدر" هكذا رواه الأكثر عن ابن الماجشون، ورواه صالح بن مالك عنه" عن حميد عن أنس" أخرجه البغوي في فوائده فلعل لعبد العزيز فيه شيخين، ويؤيده اقتصاره في حديث حميد على قصة القصر فقط، وقد أخرجه الترمذي والنسائي وابن حبان من وجه آخر "عن حميد" كذلك. قوله: "رأيتني دخلت الجنة، فإذا أنا بالرميصاء امرأة أبي طلحة" هي أم سليم، والرميصاء بالتصغير صفة لها لرمص كان بعينها، واسمها سهلة، وقيل رميلة، وقيل غير ذلك، وقيل هو اسمها، ويقال فيه بالغين المعجمة بدل الراء وقيل هو اسم أختها أم حرام. وقال أبو داود هو اسم أخت أم سليم من الرضاعة، وجوز ابن التين أن يكون المراد امرأة أخرى لأبي طلحة. وقوله: "رأيتني" بضم المثناة والضمير من المتكلم، وهو من خصائص أفعال القلوب. قوله: "وسمعت خشفة" بفتح المعجمتين والفاء أي حركة، وزنا ومعنى، ووقع لأحمد "سمعت خشفا" يعني صوتا، قال أبو عبيد: الخشفة الصوت ليس بالشديد، قيل وأصله صوت دبيب الحية، ومعنى الحديث هنا ما يسمع من حس وقع القدم. قوله: "فقلت: من هذا؟ فقال: هذا بلال" وهذا قد تقدم في صلاة الليل من حديث أبي هريرة مطولا، وتقدم من شرحه هناك ما يتعلق به، وتقدم بعض الكلام عليه في صفة الجنة حيث أورد هناك من حديث أبي هريرة. قوله: "ورأيت قصرا بفنائه جارية" في حديث أبي هريرة الذي بعده "تتوضأ إلى جانب قصر" وفي حديث أنس عند الترمذي "قصر من ذهب" والفناء بكسر الفاء وتخفيف النون مع المد: جانب الدار. قوله: "فقلت لمن هذا؟ فقال" في رواية الكشميهني: "فقالوا" والظاهر أن المخاطب له بذلك جبريل أو غيره من الملائكة، وقد أفرد هذه القصة في النكاح وفي التعبير من وجه آخر عن ابن المنكدر. قوله: "فذكرت غيرتك" في الرواية التي في النكاح "فأردت أن أدخله فلم يمنعني إلا علمي بغيرتك" ووقع في رواية ابن عيينة عن ابن المنكدر وعمرو بن دينار جميعا عن جابر في هذه القصة الأخيرة "دخلت الجنة فرأيت فيها قصرا يسمع في ضوضاء، فقلت: لمن هذا؟ فقيل: لعمر" والضوضاء بمعجمتين مفتوحتين بينهما واو وبالمد، ووقع في حديث أبي هريرة "أن عمر بكى" ويأتي في النكاح بلفظ: "فبكى عمر، وهو في المجلس" وقوله: "بأبي وأمي" أي أفديك بهما، وقوله: "أعليك أغار" معدود

(7/44)


من القلب، والأصل أعليها أغار منك؟ قال ابن بطال: فيه الحكم لكل رجل بما يعلم من خلقه، قال وبكاء عمر يحتمل أن يكون سرورا، ويحتمل أن يكون تشوقا أو خشوعا. ووقع في رواية أبي بكر بن عياش عن حميد من الزيادة "فقال عمر: وهل رفعني الله إلا بك؟ وهل هداني الله إلا بك "؟ رويناه في" فوائد عبد العزيز الحربي" من هذا الوجه وهي زيادة غريبة. حديث أبي هريرة في المعنى، ذكره مقتصرا على قصة رؤيا المرأة إلى جانب القصر وزاد فيه: "قالوا: لعمر، فذكرت غيرته فوليت مدبرا" وفيه ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من مراعاة الصحبة، وفيه فضيلة ظاهرة لعمر. وقوله فيه: "تتوضأ" يحتمل أن يكون على ظاهره ولا ينكر كونها تتوضأ حقيقة لأن الرؤيا وقعت في زمن التكليف، والجنة وإن كان لا تكليف فيها فذاك في زمن الاستقرار بل ظاهر قوله: "تتوضأ إلى جانب قصر" أنها تتوضأ خارجة منه، أو هو على غير الحقيقة. ورؤيا المنام لا تحمل دائما على الحقيقة بل تحتمل التأويل، فيكون معنى كونها تتوضأ أنها تحافظ في الدنيا على العبادة، أو المراد بقوله تتوضأ أي تستعمل الماء لأجل الوضاءة على مدلوله اللغوي وفيه بعد. وأغرب ابن قتيبة وتبعه الخطابي فزعم أن قوله تتوضأ تصحيف وتغيير من الناسخ، وإنما الصواب امرأة شوهاء، ولم يستند في هذه الدعوى إلا إلى استبعاد أن يقع في الجنة وضوء لأنه لا عمل فيها، وعدم الاطلاع على المراد من الخبر لا يقتضي تغليط الحفاظ. ثم أخذ الخطابي في نقل كلام أهل اللغة في تفسير الشوهاء فقيل هي الحسناء ونقله عن أبي عبيدة، وإنما تكون حسناء إذا وصفت بها الفرس، قال الجوهري: فرس شوهاء صفة محمودة و "الشوهاء" الواسعة الفم وهو مستحسن في الخيل والشوهاء من النساء القبيحة كما جزم به ابن الأعرابي وغيره، وقد تعقب القرطبي كلام الخطابي لكن نسبه إلى ابن قتيبة فقط، قال ابن قتيبة: بدل تتوضأ شوهاء ثم نقل أن الشوهاء تطلق على القبيحة والحسناء، قال القرطبي: والوضوء هنا لطلب زيادة الحسن لا للنظافة لأن الجنة منزهة عن الأوساخ والأقذار، وقد ترجم عليه البخاري في كتاب التعبير "باب الوضوء في المنام" فبطل ما تخيله الخطابي، وفي الحديث فضيلة الرميصاء وأنها كانت مواظبة على العبادة، كذا نقله ابنالتين عن غيره وفيه نظر. قوله: "حدثنا محمد بن الصلت أبو جعفر" هو الأسيدي، وليس له في البخاري سوى هذا الحديث، وله شيخ آخر يقال له محمد بن الصلت يكنى أبا يعلى وهو بصري؛ وأبو جعفر أكبر من أبي يعلى وأقدم سماعا. قوله: "شربت يعني اللبن" كذا أورده مختصرا، وسيأتي في التعبير عن عبدان عن ابن المبارك بلفظ: "بينا أنا نائم أتيت بقدح لبن فشربت منه" أي من ذلك اللبن. قوله: "حتى أنظر إلى الري" في رواية عبدان"حتى أني" ويجوز فتح همزة أني وكسرها ورؤية الري على سبيل الاستعارة كأنه لما جعل الري جسما أضاف إليه ما هو من خواص الجسم، وهو كونه مرئيا، وأما قوله: "أنظر" فإنما أتى به بصيغة المضارعة والأصل أنه ماض استحضارا لصورة الحال، وقوله: "أنظر" يؤيد أن قوله: "أرى" في الرواية التي في العلم من رؤية البصر لا من العلم، والري بكسر الراء ويجوز فتحها. قوله: "يجري" أي اللبن أو الري وهو حال. قوله: "في ظفري أو أظفاري" شك من الراوي. وفي رواية عبدان "من أظفاري" ولم يشك، وكذا في رواية عقيل في العلم لكن قال: "في أظفاري". قوله: "ثم ناولت عمر" في رواية عبدان "ثم ناولت فضلي" يعني عمر. وفي رواية عقيل في العلم "ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب". قوله: "قالوا فما أولته" أي عبرته "قال العلم" بالنصب أي أولته العلم، وبالرفع أي المؤول به هو العلم، ووقع في "جزء الحسين بن عرفة" من وجه آخر عن

(7/45)


ابن عمر "قال فقالوا: هذا العلم الذي آتاكه الله، حتى امتلأت فضلت منه فضلة فأخذها عمر، قال: أصبتم" وإسناده ضعيف فإن كان محفوظا احتمل أن يكون بعضهم أول وبعضهم سأل، ووجه التعبير بذلك من جهة اشتراك اللبن والعلم في كثرة النفع، وكونهما سببا للصلاح، فاللبن للغذاء البدني والعلم للغذاء المعنوي. وفي الحديث فضيلة عمر وأن الرؤيا من شأنها أن لا تحمل على ظاهرها وإن كانت رؤيا الأنبياء من الوحي، لكن منها ما يحتاج إلى تعبير ومنها ما يحمل على ظاهره، وسيأتي تقرير ذلك في كتاب التعبير إن شاء الله تعالى. والمراد بالعلم هنا العلم بسياسة الناس بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، واختص عمر بذلك لطول مدته بالنسبة إلى أبي بكر، وباتفاق الناس على طاعته بالنسبة إلى عثمان، فإن مدة أبي بكر كانت قصيرة فلم يكثر فيها الفتوح التي هي أعظم الأسباب في الاختلاف، ومع ذلك فساس عمر فيها - مع طول مدته - الناس بحيث لم يخالفه أحد، ثم ازدادت اتساعا في خلافة عثمان فانتشرت الأقوال واختلفت الآراء ولم يتفق له ما اتفق لعمر من طواعية الخلق له فنشأت من ثم الفتن، إلى أن أفضى الأمر إلى قتله، واستخلف علي فما ازداد الأمر إلا اختلافا والفتن إلا انتشارا. قوله: "حدثنا عبيد الله" هو ابن عمر العمري. قوله: "حدثني أبو بكر بن سالم" أي ابن عبد الله بن عمر، وهو من أقران الراوي عنه، وهما مدنيان من صغار التابعين، وأما أبو سالم فمعدود من كبارهم، وهو أحد الفقهاء السبعة، وليس لأبي بكر بن سالم في البخاري غير هذا الموضع، ووثقه العجلي. ولا يعرف له راو إلا عبيد الله بن عمر المذكور، وإنما أخرج له البخاري في المتابعات. وقد مضى الحديث من طريق الزهري عن سالم. قوله: "بدلو بكرة" بفتح الموحدة والكاف على المشهور وحكى بعضهم تثليث أوله، ويجوز إسكانها على أن المراد نسبة الدلو إلى الأنثى من الإبل وهي الشابة، أي الدلو التي يسقى بها، وأما بالتحريك فالمراد الخشبة المستديرة التي يعلق فيها الدلو. قوله: "قال ابن جبير: العبقري عتاق الزرابي" وصله عبد بن حميد من طريقه، وكذا رويناه في "صفة الجنة لأبي نعيم" من طريق أبي بشر عن سعيد بن جبير قال في قوله تعالى: {مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ} قال: الرفرف رياض الجنة، والعبقري الزرابي. ووقع في رواية الأصيلي وكريمة وبعض النسخ عن أبي ذر هنا "قال ابن نمير" وقيل المراد محمد بن عبد الله بن نمير شيخ المصنف فيه، ويأتي بسط القول في كتاب التعبير، والمراد بالعتاق الحسان، والزرابي جمع زريبة وهي البساط العريض الفاخر، قال في المشارق: العبقري النافذ الماضي الذي لا شيء يفوقه، قال أبو عمر: وعبقري القوم سيدهم وقيمهم وكبيرهم. وقال الفراء: العبقري السيد والفاخر من الحيوان والجوهر والبساط المنقوش، وقيل هو منسوب إلى عبقر موضع بالبادية، وقيل قرية يعمل فيها الثياب البالغة الحسن والبسط، وقيل نسبة إلى أرض تسكنها الجن، تضرب بها العرب المثل في كل شيء عظيم قاله أبو عبيدة، قال ابن الأثير: فصاروا كلما رأوا شيئا غريبا مما يصعب عمله ويدق أو شيئا عظيما في نفسه نسبوه إليها فقالوا عبقري، ثم اتسع فيه حتى سمي به السيد الكبير. ثم استطرد المصنف كعادته فذكر معنى صفة الزرابي الواردة في القرآن في قوله تعالى: {وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} . قوله: "وقال يحيى" هو ابن زياد الفراء، ذكر ذلك في "كتاب معاني القرآن" له، وظن الكرماني أنه يحيى بن سعيد القطان فجزم بذلك واستند إلى كون الحديث ورد من روايته كما تقدم في مناقب أبي بكر. قوله: "الطنافس" هي جمع طنفسة وهي البساط.قوله: "لها خمل" بفتح المعجمة والميم بعدها لام أي أهداب، وقوله

(7/46)


"رقيق" أي غير غليظة. قوله: "مبثوثة كثيرة" هو بقية كلام يحيى بن زياد المذكور. قوله: "عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد" أي ابن الخطاب، وفي الإسناد أربعة من التابعين على نسق: قرينان وهما صالح وهو ابن كيسان وابن شهاب، وقريبان وهما عبد الحميد ومحمد بن سعد وكلهم مدنيون. قوله: "استأذن عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده نسوة من قريش" هن من أزواجه، ويحتمل أن يكون معهن من غيرهن لكن قرينة قوله: "يستكثرنه" يؤيد الأول، والمراد أنهن يطلبن منه مما يعطيهن. وزعم الداودي أن المراد أنهن يكثرن الكلام عنده، وهو مردود بما وقع التصريح به في حديث جابر عند مسلم أنهن يطلبن النفقة. قوله: "عالية" بالرفع على الصفة وبالنصب على الحال، وقوله: "أصواتهن على صوته" قال ابن التين: يحتمل أن يكون ذلك قبل نزول النهي عن رفع الصوت على صوته، أو كان ذلك طبعهن انتهى. وقال غيره: يحتمل أن يكون الرفع حصل من مجموعهن لا أن كل واحدة منهن كان صوتها أرفع من صوته، وفيه نظر. قيل ويحتمل أن يكون فيهن جهيرة، أو النهي خاص بالرجال وقيل في حقهن للتنزيه، أو كن في حال المخاصمة فلم يتعمدن، أو وثقن بعفوه. ويحتمل في الخلوة ما لا يحتمل في غيرها. قوله: "أضحك الله سنك" لم يرد به الدعاء بكثرة الضحك بل لازمه وهو السرور، أو نفي لازمه وهو الحزن. قوله: "أتهبنني" من الهيبة أي توقرنني. قوله: "أنت أفظ وأغلظ" بالمعجمتين بصيغة أفعل التفضيل من الفظاظة والغلظة وهو يقتضي الشركة في أصل الفعل، ويعارضه قوله تعالى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} فإنه يقتضي أنه لم يكن فظا ولا غليظا، والجواب أن الذي في الآية يقتضي نفي وجود ذلك له صفة لازمة فلا يستلزم ما في الحديث ذلك، بل مجرد وجود الصفة له في بعض الأحوال وهو عند إنكار المنكر مثلا والله أعلم. وجوز بعضهم أن الأفظ هنا بمعنى الفظ، وفيه نظر للتصريح بالترجيح المقتضي لحمل أفعل على بابه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يواجه أحدا بما يكره إلا في حق من حقوق الله، وكان عمر يبالغ في الزجر عن المكروهات مطلقا وطلب المندوبات، فلهذا قال النسوة له ذلك. قوله: "إيها ابن الخطاب" قال أهل اللغة "أيها" بالفتح والتنوين معناها لا تبتدئنا بحديث، وبغير تنوين كف من حديث عهدناه، و"إيه" بالكسر والتنوين معناها حدثنا ما شئت وبغير التنوين زدنا مما حدثتنا. ووقع في روايتنا بالنصب والتنوين. وحكى ابن التين أنه وقع له بغير تنوين وقال معناه كف عن لومهن. وقال الطيبي: الأمر بتوقير رسول الله صلى الله عليه وسلم مطلوب لذاته تحمد الزيادة منه، فكأن قوله صلى الله عليه وسلم: "إيه" استزادة منه في طلب توقيره وتعظيم جانبه، ولذلك عقبه بقوله: "والذي نفسي بيده إلخ" فإنه يشعر بأنه رضي مقالته وحمد فعاله، والله أعلم. قوله: "فجا" أي طريقا واسعا، وقوله: "قط" تأكيد للنفي. قوله: "إلا سلك فجا غير فجك" فيه فضيلة عظيمة لعمر تقتضي أن الشيطان لا سبيل له عليه، لا أن ذلك يقتضي وجود العصمة إذ ليس فيه إلا فرار الشيطان منه أن يشاركه في طريق يسلكها، ولا يمنع ذلك من وسوسته له بحسب ما تصل إليه قدرته. فإن قيل عدم تسليطه عليه بالوسوسة يؤخذ بطريق مفهوم الموافقة لأنه إذا منع من السلوك في طريق فأولى أن لا يلابسه بحيث يتمكن من وسوسته له فيمكن أن يكون حفظ من الشيطان، ولا يلزم من ذلك ثبوت العصمة له لأنها في حق النبي واجبة وفي حق غيره ممكنة، ووقع في حديث حفصة عند الطبراني في "الأوسط" بلفظ: "أن الشيطان لا يلقى عمر منذ أسلم إلا خر لوجهه" وهذا دال على صلابته في الدين، واستمرار حاله على الجد الصرف والحق المحض. وقال النووي: هذا الحديث محمول على ظاهره وأن الشيطان يهرب إذا رآه وقال عياض: يحتمل

(7/47)


أن يكون ذاك على سبيل ضرب المثل، وأن عمر فارق سبيل الشيطان وسلك طريق السداد فخالف كل ما يحبه الشيطان، والأول أولى، انتهى. قوله: "حدثنا يحيى" ابن سعيد القطان، وإسماعيل هو ابن أبي خالد، وقيس هو ابن أبي حازم، وعبد الله هو ابن مسعود. ووقع في رواية ابن عيينة عن إسماعيل كما سيأتي في" باب إسلام عمر" التصريح بذلك. قوله: "ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر" أي لما كان فيه من الجلد والقوة في أمر الله. وروى ابن أبي شيبة والطبراني من طريق القاسم بن عبد الرحمن قال: قال عبد الله بن مسعود "كان إسلام عمر عزا، وهجرته نصرا، وإمارته رحمة. والله ما استطعنا أن نصلي حول البيت ظاهرين حتى أسلم عمر" وقد ورد سبب إسلامه مطولا فيما أخرجه الدار قطني من طريق القاسم بن عثمان عن أنس قال: "خرج عمر متقلدا السيف، فلقيه رجل من بني زهرة - فذكر قصة دخول عمر على أخته وإنكاره إسلامها وإسلام زوجها سعيد بن زيد وقراءته سورة طه ورغبته في الإسلام - فخرج خباب فقال: أبشر يا عمر، فإني أرجو أن تكون دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم لك، قال: " اللهم أعز الإسلام بعمر أو بعمرو بن هشام" وروى أبو جعفر بن أبي شيبة نحوه في تاريخه من حديث ابن عباس، وفي آخره: "فقلت يا رسول الله ففيم الاختفاء؟ فخرجنا في صنفين: أنا في أحدهما، وحمزة في الآخر، فنظرت قريش إلينا فأصابتهم كآبة لم يصبهم مثلها" وأخرجه البزار من طريق أسلم مولى عمر عن عمر مطولا، وروى ابن أبي خيثمة من حديث عمر نفسه قال: "لقد رأيتني وما أسلم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تسعة وثلاثون رجلا فكملتهم أربعين، فأظهر الله دينه، وأعز الإسلام" وروى البزار نحوه من حديث ابن عباس وقال فيه: "فنزل جبريل فقال: يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين" وفي" فضائل الصحابة" لخيثمة من طريق أبي وائل عن ابن مسعود قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم أيد الإسلام بعمر" ومن حديث علي مثله بلفظ: "أعز" وفي حديث عائشة مثله أخرجه الحاكم بإسناد صحيح، وأخرجه الترمذي من حديث ابن عمر بلفظ: "اللهم أعز الإسلام بأحب الرجلين إليك: بأبي جهل أو بعمر" ، قال فكان أحبهما إليه عمر" قال الترمذي: حسن صحيح. قلت: وصححه ابن حبان أيضا، وفي إسناده خارجة بن عبد الله صدوق فيه مقال، لكن له شاهد من حديث ابن عباس أخرجه الترمذي أيضا، ومن حديث أنس كما قدمته في القصة المطولة، ومن طريق أسلم مولى عمر عن خباب، وله شاهد مرسل أخرجه ابن سعد من طريق سعيد بن المسيب والإسناد صحيح إليه، وروى ابن سعد أيضا من حديث صهيب قال: "لما أسلم عمر قال المشركون انتصف القوم منا" وروى البزار والطبراني من حديث ابن عباس نحوه. قوله في السند "أخبرنا عمر بن سعيد" أي ابن أبي حسين، ووقع في رواية القابسي"سعد" بسكون العين وهو وهم. حديث ابن عباس قال: "وضع عمر على سريره، فتكنفه الناس" بنون وفاء أي أحاطوا به من جميع جوانبه، والأكناف النواحي. قوله: "وضع عمر على سريره" تقدم في آخر مناقب أبي بكر بلفظ: "إني لواقف مع قوم وقد وضع عمر على سريره" أي لما مات، وهي جملة حالية من عمر. قوله: "فلم يرعني" أي لم يفزعني، والمراد أنه رآه بغتة. قوله: "إلا رجل آخذ" بوزن فاعل. وفي رواية الكشميهني: "أخذ" بلفظ الفعل الماضي. قوله: "فترحم على عمر" تقدم في مناقب أبي بكر بلفظ: "فقال يرحمك الله". قوله: "أحب" يجوز نصبه ورفعه، و"أني" يجوز فيه الفتح والكسر. وفي هذا الكلام أن عليا كان لا يعتقد أن لأحد عملا في ذلك الوقت أفضل من عمل عمر. وقد أخرج ابن أبي شيبة ومسدد من طريق جعفر بن محمد عن أبيه عن علي نحو هذا الكلام وسنده صحيح، وهو شاهد جيد لحديث

(7/48)


ابن عباس لكون مخرجه عن آل علي رضي الله عنهم. قوله: "مع صاحبيك" يحتمل أن يريد ما وقع وهو دفنه عندهما، ويحتمل أن يريد بالمعية ما يئول إليه الأمر بعد الموت من دخول الجنة ونحو ذلك، والمراد بصاحبيه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، وقوله: "وحسبت أني" يجوز فتح الهمزة وكسرها، وتقدم في مناقب أبي بكر بلفظ: "لأني كثيرا ما كنت أسمع" واللام للتعليل، وما إبهامية مؤكدة، وكثيرا ظرف زمان وعامله كان قدم عليه، وهو كقوله تعالى: {قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ} ووقع للأكثر "كثيرا مما كنت أسمع" بزيادة "من" ووجهت بأن التقدير أني أجد كثيرا مما كنت أسمع. حديث: "اثبت أحد" تقدم شرحه في مناقب أبي بكر. قوله: "وقال لي خليفة" هو ابن خياط، ومحمد بن سواء بمهملة وتخفيف ومد هو السدوسي البصري، أخرج له هنا وفي الأدب، وكهمس بمهملة وزن جعفر هو ابن المنهال سدوسي أيضا بصري ما له في البخاري غير هذا الموضع، وسعيد هو ابن أبي عروبة، وسقط جميع ذلك من رواية أبي ذر في بعض النسخ واقتصر على طريق يزيد بن زريع. قوله: "فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد" تقدم في مناقب أبي بكر بلفظ: "فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان" فتكون "أو" في حديث الباب بمعنى الواو، ويكون لفظ شهيد للجنس، ووقع لبعضهم بلفظ: "نبي وصديق أو شهيد" فقيل أو بمعنى الواو، وقيل تغيير الأسلوب للإشعار بمغايرة الحال لأن صفتي النبوة والصديقية كانتا حاصلتين حينئذ بخلاف صفة الشهادة فإنها لم تكن وقعت حينئذ. قوله: "حدثني عمر هو ابن محمد" ووقع في رواية حرملة عن ابن وهب" حدثني عمر بن محمد بن زيد" أي ابن عبد الله بن عمر. قوله: "سألني ابن عمر عن بعض شأنه يعني عمر" يريد أن ابن عمر سأل أسلم مولى عمر عن بعض شأن عمر. قوله: "فقال ما رأيت" هو مقول ابن عمر. قوله: "أجد" بفتح الجيم والتشديد أفعل من جد إذا اجتهد، وأجود أفعل من الجود. قوله: "بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم" يحتمل أن يكون المراد بالبعدية في الصفات ولا يتعرض فيه للزمان فيتناول زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وما بعده، فيشكل بأبي بكر الصديق وبغيره من الصحابة ممن كان يتصف بالجود المفرط، أو بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم فيشكل بأبي بكر الصديق أيضا، ويمكن تأويله بزمان خلافته، وأجود أفعل من الجود أي لم يكن أحد أجد منه في الأمور ولا أجود بالأموال، وهو محمول على وقت مخصوص وهو مدة خلافته ليخرج النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر من ذلك. قوله: "حتى انتهى" أي إلى عمل آخر عمره، وهذا بناء على أن فاعل انتهى عمر، وقائل ذلك ابن عمر، ويحتمل أن يكون فاعل انتهى ابن عمر أي انتهى في الإنصاف بعد أجد وأجود حتى فرغ مما عنده، وقائل ذلك نافع، والله أعلم. حديث أنس "أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة" هو ذو الخويصرة اليماني، وزعم ابن بشكوال أنه أبو موسى الأشعري أو أبو ذر. ثم ساق من حديث أبي موسى "قلت يا رسول الله المرء يحب القوم ولما يلحق بهم" ومن حديث أبي ذر "فقلت يا رسول الله المرء يحب القوم ولا يستطيع أن يعمل بعملهم" وسؤال هذين إنما وقع عن العمل، والسؤال في حديث الباب إنما وقع عن الساعة، فدل على التعدد. وسيأتي في الأدب من طريق آخر عن أنس أن السائل عن الساعة أعرابي، وكذا وقع عند الدار قطني من حديث أبي مسعود أن الأعرابي الذي بال في المسجد قال: "يا محمد متى الساعة؟ قال: وما أعددت لها" فدل على أن السائل في حديث أنس هو الأعرابي الذي بال في المسجد، وتقدم في الطهارة أنه ذو الخويصرة اليماني كما أخرجه أبو موسى المديني في دلائل معرفة الصحابة، وسيأتي شرح هذا الحديث في كتاب الأدب، والمراد منه ذكر أبي بكر وعمر في حديث أنس

(7/49)


هذا وأنه قرنهما في العمل بالنبي صلى الله عليه وسلم، والله أعلم. قوله: "عن أبي هريرة" كذا قال أصحاب إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه عن أبي سلمة وخالفهم ابن وهب فقال: "عن إبراهيم بن سعد بهذا الإسناد عن أبي سلمة عن عائشة" قال أبو مسعود: لا أعلم أحدا تابع ابن وهب على هذا، والمعروف عن إبراهيم بن سعد أنه عن أبي هريرة لا عن عائشة، وتابعه زكريا بن أبي زائدة عن إبراهيم بن سعد يعني كما ذكره المصنف معلقا هنا. وقال محمد بن عجلان: "عن سعد بن إبراهيم عن أبي سلمة عن عائشة" أخرجه مسلم والترمذي والنسائي، قال أبو مسعود: وهو مشهور عن ابن عجلان، فكأن أبا سلمة سمعه من عائشة ومن أبي هريرة جميعا. قلت: وله أصل من حديث عائشة أخرجه ابن سعد من طريق ابن أبي عتيق عنها، وأخرجه من حديث خفاف بن أيماء أنه كان يصلي مع عبد الرحمن بن عوف فإذا خطب عمر سمعه يقول أشهد أنك مكلم. قوله: "محدثون" بفتح الدال جمع محدث، واختلف في تأويله فقيل: ملهم، قاله الأكثر قالوا: المحدث بالفتح هو الرجل الصادق الظن، وهو من ألقي في روعه شيء من قبل الملأ الأعلى فيكون كالذي حدثه غيره به، وبهذا جزم أبو أحمد العسكري. وقيل من يجري الصواب على لسانه من غير قصد، وقيل مكلم أي تكلمه الملائكة بغير نبوة، وهذا ورد من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعا ولفظه: "قيل يا رسول الله وكيف يحدث؟ "قال تتكلم الملائكة على لسانه" رويناه في"فوائد الجوهري" وحكاه القابسي وآخرون، ويؤيده ما ثبت في الرواية المعلقة. ويحتمل رده إلى المعنى الأول أي تكلمه في نفسه وإن لم ير مكلما في الحقيقة فيرجع إلى الإلهام، وفسره ابن التين بالتفرس، ووقع في مسند "الحميدي" عقب حديث عائشة "المحدث الملهم بالصواب الذي يلقى على فيه": وعند مسلم من رواية ابن وهب "ملهمون، وهي الإصابة بغير نبوة" وفي رواية الترمذي عن بعض أصحاب ابن عيينة "محدثون يعني مفهمون" وفي رواية الإسماعيلي: "قال إبراهيم - يعني ابن سعد رواية - قوله محدث أي يلقى في روعه" انتهى، ويؤيده حديث: "إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه" أخرجه الترمذي من حديث ابن عمر، وأحمد من حديث أبي هريرة، والطبراني من حديث بلال، وأخرجه في "الأوسط" من حديث معاوية وفي حديث أبي ذر عند أحمد وأبي داود "يقول به" بدل قوله: "وقلبه" وصححه الحاكم، وكذا أخرجه الطبراني في "الأوسط" من حديث عمر نفسه. قوله: "زاد زكريا بن أبي زائدة عن سعد" هو ابن إبراهيم المذكور، وفي روايته زيادتان: إحداهما بيان كونهم من بني إسرائيل، والثانية تفسير المراد بالمحدث في رواية غيره فإنه قال بدلها "يكلمون من غير أن يكونوا أنبياء". قوله: "منهم أحد" في رواية الكشميهني: "من أحد" ورواية زكريا وصلها الإسماعيلي وأبو نعيم في مستخرجيهما، وقوله: "وإن يك في أمتي" قيل لم يورد هذا القول مورد الترديد فإن أمته أفضل الأمم، وإذا ثبت أن ذلك وجد في غيرهم فإمكان وجوده فيهم أولى، وإنما أورده مورد التأكيد كما يقول الرجل: إن يكن لي صديق فإنه فلان، يريد اختصاصه بكمال الصداقة لا نفي الأصدقاء، ونحوه قول الأجير: إن كنت عملت لك فوفني حقي، وكلاهما عالم بالعمل لكن مراد القائل أن تأخيرك حقي عمل من عنده شك في كوني عملت. وقيل الحكمة فيه أن وجودهم في بني إسرائيل كان قد تحقق وقوعه، وسبب ذلك احتياجهم حيث لا يكون حينئذ فيهم نبي، واحتمل عنده صلى الله عليه وسلم أن لا تحتاج هذه الأمة إلى ذلك لاستغنائها بالقرآن عن حدوث نبي، وقد

(7/50)


وقع الأمر كذلك حتى إن المحدث منهم إذا تحقق وجوده لا يحكم بما وقع له بل لا بد له من عرضه على القرآن، فإن وافقه أو وافق السنة عمل به وإلا تركه، وهذا وإن جاز أن يقع لكنه نادر ممن يكون أمره منهم مبنيا على اتباع الكتاب والسنة، وتمحضت الحكمة في وجودهم وكثرتهم بعد العصر الأول في زيادة شرف هذه الأمة بوجود أمثالهم فيه، وقد تكون الحكمة في تكثيرهم مضاهاة بني إسرائيل في كثرة الأنبياء فيهم، فلما فات هذه الأمة كثرة الأنبياء فيها لكون نبيها خاتم الأنبياء عوضوا بكثرة الملهمين. وقال الطيبي: المراد بالمحدث الملهم البالغ في ذلك مبلغ النبي صلى الله عليه وسلم في الصدق، والمعنى لقد كان فيما قبلكم من الأمم أنبياء ملهمون، فإن يك في أمتي أحد هذا شأنه فهو عمر، فكأنه جعله في انقطاع قرينه في ذلك هل نبي أم لا(1) فلذلك أتى بلفظ: "إن" ويؤيده حديث: "لو كان بعدي نبي لكان عمر" فلو فيه بمنزلة إن في الآخر على سبيل الفرض والتقدير، انتهى. والحديث المشار إليه أخرجه أحمد والترمذي وحسنه وابن حبان والحاكم من حديث عقبة بن عامر، وأخرجه الطبراني في "الأوسط" من حديث أبي سعيد، ولكن في تقرير الطيبي نظر لأنه وقع في نفس الحديث: "من غير أن يكونوا أنبياء" ولا يتم مراده إلا بفرض أنهم كانوا أنبياء. قوله: "قال ابن عباس من نبي ولا يحدث" أي في قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى} الآية، كأن ابن عباس زاد فيها ولا محدث أخرجه سفيان بن عيينة في أواخر جامعه وأخرجه عبد بن حميد من طريقه وإسناده إلى ابن عباس صحيح ولفظه عن عمرو بن دينار قال: "كان ابن عباس يقرأ: وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ولا محدث". والسبب في تخصيص عمر بالذكر لكثرة ما وقع له في زمن النبي صلى الله عليه وسلم من الموافقات التي نزل القرآن مطابقا لها، ووقع له بعد النبي صلى الله عليه وسلم عدة إصابات. حديث أبي هريرة في الذي كلمه الذئب، أورده مختصرا بدون قصة البقرة، وقد تقدم شرحه في مناقب أبي بكر. قوله: "عن أبي سعيد الخدري" كذا رواه أكثر أصحاب الزهري، ورواه معمر عن الزهري عن أبي أمامة بن سهل عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فأبهمه أخرجه أحمد، وقد تقدم في الإيمان من رواية صالح بن كيسان عن الزهري فصرح بذكر أبي سعيد، ووقع في التعبير من هذا الوجه عن أبي أمامة بن سهل أنه سمع أبا سعيد. قوله: "رأيت الناس عرضوا علي" الحديث وفيه: "عرض علي عمر وعليه قميص اجتره" أي لطوله، وقد تقدم من رواية صالح بلفظ: "يجره". قوله: "قالوا فما أولت ذلك" سيأتي في التعبير أن السائل عن ذلك أبو بكر، ويأتي بقية شرحه هناك إن شاء الله تعالى. وقد استشكل هذا الحديث بأنه يلزم منه أن عمر أفضل من أبي بكر الصديق، والجواب عنه تخصيص أبي بكر من عموم قوله: "عرض علي الناس" فلعل الذين عرضوا إذ ذاك لم يكن فيهم أبو بكر، وأن كون عمر عليه قميص يجره لا يستلزم أن لا يكون على أبي بكر قميص أطول منه وأسبغ، فلعله كان كذلك إلا أن المراد كان حينئذ بيان فضيلة عمر فاقتصر عليها، والله أعلم. قوله: "حدثنا إسماعيل بن إبراهيم" هو الذي يقال له ابن علية. قوله: "عن المسور بن مخرمة" كذا رواه ابن علية ورواه حماد بن زيد كما علقه المصنف بعد فقال: "عن ابن عباس" وأخرجه الإسماعيلي من رواية القواريري عن حماد بن زيد موصولا، ويحتمل أن يكون محفوظا عن الاثنين. قوله: "لما طعن عمر" سيأتي بيان
ـــــــ
(1)قال مصحح طبعة بولاق: لعل فيه سسقطا والاصل "جعله انقطاع قرينه في ذلك في شك هل هو نبي الخ"

(7/51)


ذلك بعد في أواخر مناقب عثمان. قوله: "وكأنه يجزعه" بالجيم والزاي الثقيلة أي ينسبه إلى الجزع ويلومه عليه، أو معنى يجزعه يزيل عنه الجزع، وهو كقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} أي أزيل عنهم الفزع، ومثله مرضه إذا عانى إزالة مرضه، ووقع في رواية الجرجاني "وكأنه جزع" هذا يرجع الضمير فيه إلى عمر بخلاف رواية الجماعة فإن الضمير فيها لابن عباس. ووقع في رواية حماد بن زيد "وقال ابن عباس مسست جلد عمر فقلت جلد لا تمسه النار أبدا، قال فنظر إلي نظرة كنت أرثي له من تلك النظرة". قوله: "ولئن كان ذاك" كذا في رواية الأكثر. وفي رواية الكشميهني: "ولا كل ذلك" أي لا تبالغ في الجزع فيما أنت فيه، ولبعضهم: ولا كان ذلك، وكأنه دعاء، أي لا يكون ما تخافه، أو لا يكون الموت بتلك الطعنة. قوله: "ثم فارقت" كذا بحذف المفعول، وللكشميهني: "ثم فارقته". قوله: "ثم صحبتهم فأحسنت صحبتهم، ولئن فارقتهم" يعني المسلمين. وفي رواية بعضهم "ثم صحبت صحبتهم" بفتح الصاد والحاء والموحدة، أي أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، وفيه نظر للإتيان بصيغة الجمع موضع التثنية، قال عياض: يحتمل أن يكون "صحبت" زائدة وإنما هو ثم صحبتهم أي المسلمين، قال: والرواية الأولى هي الوجه، ورويناها في أمالي أبي الحسن بن رزقويه من حديث ابن عمر قال: "لماطعن عمر قال له ابن عباس" فذكر حديثا قال فيه: "ولما أسلمت كان إسلامك عزا". قوله: "فإن ذلك من" أي عطاء؛ وفي رواية الكشميهني: "فإنما ذلك". قوله: "فهو من أجلك ومن أجل أصحابك" في رواية أبي ذر عن الحموي المستملي: "أصيحابك" بالتصغير، أي من جهة فكرته فيمن يستخلف عليهم، أو من أجل فكرته في سيرته التي سارها فيهم، وكأنه غلب عليه الخوف في تلك الحالة مع هضم نفسه وتواضعه لربه. قوله: "طلاع الأرض" بكسر الطاء المهملة والتخفيف أي ملأها، وأصل الطلاع ما طلعت عليه الشمس، والمراد هنا ما يطلع عليها ويشرف فوقها من المال. قوله: "قبل أن أراه" أي العذاب، وإنما قال ذلك لغلبة الخوف الذي وقع له في ذلك الوقت من خشية التقصير فيما يجب عليه من حقوق الرعية، أو من الفتنة بمدحهم. قوله: "قال حماد بن زيد" وصله الإسماعيلي كما تقدم والله أعلم، وسيأتي مزيد في الكلام على هذا الحديث في قصة قتل عمر آخر مناقب عثمان. وأخرج ابن سعد من طريق أبي عبيد مولى ابن عباس عن ابن عباس فذكر شيئا من قصة قتل عمر. حديث أبي موسى، تقدم مبسوطا مع شرحه في مناقب أبي بكر بما يغني عن الإعادة. قوله: "أخبرني حيوة" بفتح المهملة والواو بينهما تحتانية ساكنة هو ابن شريح المصري. قوله: "عبد الله بن هشام" أي ابن زهرة بن عثمان التيمي ابن عم طلحة بن عبيد الله. قوله: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب" هو طرف من حديث يأتي تمامه في الأيمان والنذور، وبقيته"فقال له عمر يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء" الحديث وقد ذكرت شيئا من مباحثه في كتاب الإيمان، وسيأتي بيان الوقت الذي قتل فيه عمر في آخر ترجمة عثمان إن شاء الله تعالى

(7/52)


7 - باب مَنَاقِبِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ أبي عمرو القرشى رضى الله عنه
وَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ يَحْفِرْ بِئْرَ رُومَةَ فَلَهُ الْجَنَّةُ فَحَفَرَهَا عُثْمَانُ
وَقَالَ "مَنْ جَهَّزَ جَيْشَ الْعُسْرَةِ فَلَهُ الْجَنَّةُ فَجَهَّزَهُ عُثْمَانُ"

(7/52)


3695 -حدثناسُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ حَائِطًا، وَأَمَرَنِي بِحِفْظِ بَابِ الْحَائِطِ فَجَاءَ رَجُلٌ يَسْتَأْذِنُ فَقَالَ: ائْذَنْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ ، فَإِذَا أَبُو بَكْرٍ. ثُمَّ جَاءَ آخَرُ يَسْتَأْذِنُ فَقَالَ ائْذَنْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ فَإِذَا عُمَرُ ثُمَّ جَاءَ آخَرُ يَسْتَأْذِنُ ،فَسَكَتَ هُنَيْهَةً ثُمَّ قَالَ ائْذَنْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ عَلَى بَلْوَى سَتُصِيبُهُ فَإِذَا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ"
قَالَ حَمَّادٌ وَحَدَّثَنَا عَاصِمٌ الأَحْوَلُ وَعَلِيُّ بْنُ الْحَكَمِ سَمِعَا أَبَا عُثْمَانَ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي مُوسَى بِنَحْوِهِ وَزَادَ فِيهِ عَاصِمٌ "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قَاعِدًا فِي مَكَانٍ فِيهِ مَاءٌ قَدْ انْكَشَفَ عَنْ رُكْبَتَيْهِ- أَوْ رُكْبَتِهِ- فَلَمَّا دَخَلَ عُثْمَانُ غَطَّاهَا"
3696-حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ شَبِيبِ بْنِ سَعِيدٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ يُونُسَ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ أَخْبَرَهُ أَنَّ الْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ قَالاَ مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تُكَلِّمَ عُثْمَانَ لِأَخِيهِ الْوَلِيدِ فَقَدْ أَكْثَرَ النَّاسُ فِيهِ؟ فَقَصَدْتُ لِعُثْمَانَ حَتَّى خَرَجَ إِلَى الصَّلاَةِ قُلْتُ: إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً، وَهِيَ نَصِيحَةٌ لَكَ قَالَ: يَا أَيُّهَا الْمَرْءُ قَالَ مَعْمَرٌ أُرَاهُ قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ فَانْصَرَفْتُ فَرَجَعْتُ إِلَيْهِمْ إِذْ جَاءَ رَسُولُ عُثْمَانَ فَأَتَيْتُهُ فَقَالَ مَا نَصِيحَتُكَ؟ فَقُلْتُ: إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَقِّ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ وَكُنْتَ مِمَّنْ اسْتَجَابَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهَاجَرْتَ الْهِجْرَتَيْنِ وَصَحِبْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَأَيْتَ هَدْيَهُ وَقَدْ أَكْثَرَ النَّاسُ فِي شَأْنِ الْوَلِيدِ قَالَ أَدْرَكْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قُلْتُ: لاَ وَلَكِنْ خَلَصَ إِلَيَّ مِنْ عِلْمِهِ مَا يَخْلُصُ إِلَى الْعَذْرَاءِ فِي سِتْرِهَا قَالَ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَقِّ فَكُنْتُ مِمَّنْ اسْتَجَابَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَآمَنْتُ بِمَا بُعِثَ بِهِ وَهَاجَرْتُ الْهِجْرَتَيْنِ كَمَا قُلْتَ وَصَحِبْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَايَعْتُهُ فَوَاللَّهِ مَا عَصَيْتُهُ وَلاَ غَشَشْتُهُ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ أَبُو بَكْرٍ مِثْلُهُ ثُمَّ عُمَرُ مِثْلُهُ ثُمَّ اسْتُخْلِفْتُ، أَفَلَيْسَ لِي مِنْ الْحَقِّ مِثْلُ الَّذِي لَهُمْ؟ قُلْتُ: بَلَى قَالَ فَمَا هَذِهِ الأَحَادِيثُ الَّتِي تَبْلُغُنِي عَنْكُمْ؟ أَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ شَأْنِ الْوَلِيدِ فَسَنَأْخُذُ فِيهِ بِالْحَقِّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ دَعَا عَلِيًّا فَأَمَرَهُ أَنْ يَجْلِدَهُ فَجَلَدَهُ ثَمَانِينَ"
[الحديث 3696- طرفاه في: 3872، 3927 ]
3699-حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ أَنَسًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَدَّثَهُمْ قَالَ "صَعِدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُحُدًا وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ فَرَجَفَ وَقَالَ اسْكُنْ أُحُدُ أَظُنُّهُ ضَرَبَهُ بِرِجْلِهِ فَلَيْسَ عَلَيْكَ إِلاَّ نَبِيٌّ وَصِدِّيقٌ وَشَهِيدَانِ "
3697-حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ بْنِ بَزِيعٍ حَدَّثَنَا شَاذَانُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ الْمَاجِشُونُ عَنْ عُبَيْدِ

(7/53)


اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ كُنَّا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ نَعْدِلُ بِأَبِي بَكْرٍ أَحَدًا، ثُمَّ عُمَرَ ثُمَّ عُثْمَانَ، ثُمَّ نَتْرُكُ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ نُفَاضِلُ بَيْنَهُمْ" تَابَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ
3698-حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ هُوَ ابْنُ مَوْهَبٍ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ حَجَّ الْبَيْتَ فَرَأَى قَوْمًا جُلُوسًا فَقَالَ مَنْ هَؤُلاَءِ الْقَوْمُ فَقَالُوا هَؤُلاَءِ قُرَيْشٌ قَالَ فَمَنْ الشَّيْخُ فِيهِمْ قَالُوا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ قَالَ يَا ابْنَ عُمَرَ إِنِّي سَائِلُكَ عَنْ شَيْءٍ فَحَدِّثْنِي هَلْ تَعْلَمُ أَنَّ عُثْمَانَ فَرَّ يَوْمَ أُحُدٍ قَالَ نَعَمْ قَالَ تَعْلَمُ أَنَّهُ تَغَيَّبَ عَنْ بَدْرٍ وَلَمْ يَشْهَدْ قَالَ نَعَمْ قَالَ تَعْلَمُ أَنَّهُ تَغَيَّبَ عَنْ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ فَلَمْ يَشْهَدْهَا قَالَ نَعَمْ قَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ قَالَ ابْنُ عُمَرَ تَعَالَ أُبَيِّنْ لَكَ أَمَّا فِرَارُهُ يَوْمَ أُحُدٍ فَأَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ عَفَا عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ وَأَمَّا تَغَيُّبُهُ عَنْ بَدْرٍ فَإِنَّهُ كَانَتْ تَحْتَهُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَتْ مَرِيضَةً فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ لَكَ أَجْرَ رَجُلٍ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا وَسَهْمَهُ وَأَمَّا تَغَيُّبُهُ عَنْ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ فَلَوْ كَانَ أَحَدٌ أَعَزَّ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ عُثْمَانَ لَبَعَثَهُ مَكَانَهُ فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُثْمَانَ وَكَانَتْ بَيْعَةُ الرِّضْوَانِ بَعْدَ مَا ذَهَبَ عُثْمَانُ إِلَى مَكَّةَ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بِيَدِهِ الْيُمْنَى هَذِهِ يَدُ عُثْمَانَ فَضَرَبَ بِهَا عَلَى يَدِهِ فَقَالَ هَذِهِ لِعُثْمَان َ فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ اذْهَبْ بِهَا الْآنَ مَعَكَ
قوله: "باب مناقب عثمان بن عفان أبي عمرو القرشي" هو عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف يجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في عبد مناف. وعدد ما بينهما من الآباء متفاوت، فالنبي صلى الله عليه وسلم من حيث العدد في درجة عفان كما وقع لعمر سواء، وأما كنيته فهو الذي استقر عليه الأمر، وقد نقل يعقوب بن سفيان عن الزهري أنه كان يكنى أبا عبد الله بابنه عبد الله الذي رزقه من رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومات عبد الله المذكور صغيرا وله ست سنين، وحكى ابن سعد أن موته كان سنة أربع من الهجرة، وماتت أمه رقية قبل ذلك سنة اثنتين والنبي صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر، وكان بعض من ينتقصه يكنيه أبا ليلى يشير إلى لين جانبه، حكاه ابن قتيبة. وقد اشتهر أن لقبه ذو النورين. وروى خيثمة في "الفضائل" والدار قطني في "الأفراد" من حديث علي أنه ذكر عثمان فقال: "ذاك امرؤ يدعى في السماء ذا النورين" وسأذكر اسم أمه ونسبها في الكلام على الحديث الثاني من ترجمته. قوله: "وقال النبي صلى الله عليه وسلم: من يحفر بئر رومة فله الجنة، فحفرها عثمان. وقاله النبي صلى الله عليه وسلم: من جهز جيش العسرة فله الجنة فجهزه عثمان" هذا التعليق تقدم ذكر من وصله في أواخر كتاب الوقف وبسطت هناك الكلام عليه، وفيه من مناقب عثمان أشياء كثيرة استوعبتها هناك فأغنى عن إعادتها، والمراد بجيش العسرة تبوك كما سيأتي في المغازي. وأخرج أحمد والترمذي من حديث عبد الرحمن بن حباب السلمي أن عثمان أعان فيها بثلاثمائة بعير، ومن حديث عبد الرحمن بن سمرة أن عثمان أتى فيها بألف دينار فصبها في حجر النبي صلى الله عليه وسلم، وقد مضى في الوقف بقية طرقه، وفي حديث حذيفة عند ابن عدي "فجاء عثمان بعشرة آلاف دينار" وسنده واه، ولعلها كانت بعشرة آلاف درهم فتوافق رواية ألف

(7/54)


دينار. ثم ذكر المصنف في هذا الباب خمسة أحاديث الأول حديث أبي موسى في قصة القف أوردها مختصرة من طريق أبي عثمان عن أبي موسى، وقد تقدم شرحها في مناقب أبي بكر الصديق. قوله: "فسكت هنيهة" بالتصغير أي قليلا. قوله: "قال حماد وحدثنا عاصم" كذا للأكثر، وهو بقية الإسناد المتقدم، وحماد هو ابن زيد، ووقع في رواية أبي ذر وحده "وقال حماد بن سلمة حدثنا عاصم إلخ" والأول أصوب، فقد أخرجه الطبراني عن يوسف القاضي عن سليمان بن حرب" حدثنا حماد بن زيد عن أيوب" فذكر الحديث وفي آخره: "قال حماد فحدثني علي بن الحكم وعاصم أنهما سمعا أبا عثمان يحدث عن أبي موسى نحوا من هذا، غير أن عاصما زاد، فذكر الزيادة. وقد وقع لي من حديث حماد بن سلمة لكن عن علي بن الحكم وحده أخرجه ابن أبي خيثمة في تاريخه عن موسى بن إسماعيل، والطبراني من طريق حجاج بن منهال وهدبة بن خالد كلهم عن حماد بن سلمة عن علي بن الحكم وحده به وليست فيه الزيادة، ثم وجدته في نسخة الصغاني مثل رواية أبي ذر، والله أعلم. قوله: "وزاد فيه عاصم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قاعدا في مكان فيه ماء قد كشف عن ركبته، فلما دخل عثمان غطاها" قال ابن التين: أنكر الداودي هذه الرواية وقال: هذه الزيادة ليست من هذا الحديث بل دخل لرواتها حديث في حديث، وإنما ذلك الحديث أن أبا بكر أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في بيته قد انكشف فخذه فجلس أبو بكر، ثم دخل عمر، ثم دخل عثمان فغطاها قلت: يشير إلى حديث عائشة "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطجعا في بيته كاشفا عن فخذيه أو ساقيه، فاستأذن أبو بكر فأذن له وهو على تلك الحالة" الحديث، وفيه: "ثم دخل عثمان فجلست وسويت ثيابك، فقال: ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة " وفي رواية لمسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال في جواب عائشة "إن عثمان رجل حيي، وإني خشيت إن أذنت له على تلك الحالة لا يبلغ إلي في حاجته انتهى، وهذا لا يلزم منه تغليط رواية عاصم، إذ لا مانع أن يتفق للنبي صلى الله عليه وسلم أن يغطي ذلك مرتين حين دخل عثمان، وأن يقع ذلك في موطنين، ولا سيما مع اختلاف مخرج الحديثين وإنما يقال ما قاله الداودي حيث تتفق المخارج فيمكن أن يدخل حديث في حديث لا مع افتراق المخارج كما في هذا، والله أعلم. قوله: "ما يمنعك أن تكلم عثمان" في رواية معمر عن الزهري الآتية في هجرة الحبشة "أن تكلم خالك"، ووجه كون عثمان خاله أن أم عبيد الله هذا هي أم قتال بنت أسيد بن أبي العاص بن أمية وهي بنت عم عثمان، وأقارب الأم يطلق عليهم أخوال وأما أم عثمان فهي أروى بنت كريز بالتصغير ابن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس، وأمها أم حكيم البيضاء بنت عبد المطلب، وهي شقيقة عبد الله والد النبي صلى الله عليه وسلم، ويقال إنهما ولدا توأما حكاه الزبير بن بكار، فكان ابن بنت عمة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم ابن خال والدته، وقد أسلمت أم عثمان كما بينت ذلك في كتاب الصحابة. وروى محمد بن الحسين المخزومي في كتاب المدينة أنها ماتت في خلافة ابنها عثمان وأنه كان ممن حملها إلى قبرها. وأما أبوه فهلك في الجاهلية. قوله: "لأخيه" اللام للتعليل أي لأجل أخيه، ويحتمل أن تكون بمعنى عن، ووقع في رواية الكشميهني: "في أخيه". قوله: "الوليد" أي ابن عقبة، وصرح بذلك في رواية معمر، وعقبة هو ابن أبي معيط بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس وكان أخا عثمان لأمه، وكان عثمان ولاه الكوفة بعد عزل سعد بن أبي وقاص، فإن عثمان كان ولاه الكوفة لما ولي الخلافة بوصية من عمر كما سيأتي في آخر ترجمة عثمان في قصة مقتل عمر، ثم عزله بالوليد وذلك سنة خمس وعشرين، وكان سبب ذلك أن سعدا كان أميرها وكان عبد الله بن مسعود على بيت المال فاقترض سعد

(7/55)


منه مالا، فجاءه يتقاضاه فاختصما، فبلغ عثمان فغضب عليهما وعزل سعدا، واستحضر الوليد وكان عاملا بالجزيرة على عسر بها فولاه الكوفة، وذكر ذلك الطبري في تاريخه. قوله: "فقد أكثر الناس فيه" أي في شأن الوليد أي من القول ووقع في رواية معمر وكان أكثر الناس فيما فعل به، أي من تركه إقامة الحد عليه، وإنكارهم عليه عزل سعد بن أبي وقاص به مع كون سعد أحد العشرة ومن أهل الشورى واجتمع له من الفضل والسنن والعلم والدين والسبق إلى الإسلام ما لم يتفق شيء منه للوليد بن عقبة، والعذر لعثمان في ذلك أن عمر كان عزل سعدا كما تقدم بيانه في الصلاة وأوصى عمر من يلي الخلافة بعده أن يولي سعدا قال: "لأني لم أعزله عن خيانة ولا عجز" كما سيأتي ذلك في حديث مقتل عمر قريبا، فولاه عثمان امتثالا لوصية عمر، ثم عزله للسبب الذي تقدم ذكره وولى الوليد لما ظهر له من كفايته لذلك وليصل رحمه، فلما ظهر له سوء سيرته عزله، وإنما أخر إقامة الحد عليه ليكشف عن حال من شهد عليه بذلك، فلما وضح له الأمر أمر بإقامة الحد عليه. وروى المدائني من طريق الشعبي أن عثمان لما شهدوا عنده على الوليد حبسه. قوله: "فقصدت لعثمان حتى خرج" أي أنه جعل غاية القصد خروج عثمان. وفي رواية الكشميهني: "حين خرج" وهي تشعر بأن القصد صادف وقت خروجه، بخلاف الرواية الأخرى فإنها تشعر بأنه قصد إليه ثم انتظره حتى خرج، يؤيد الأول رواية معمر "فانتصبت لعثمان حين خرج". قوله: "إن لي إليك حاجة، وهي نصيحة لك، فقال: يا أيها المرء منك" كذا في رواية يونس. قوله: "قال معمر أعوذ بالله منك" هذا تعليق أراد به المصنف بيان الخلاف بين الروايتين، ورواية معمر قد وصلها في هجرة الحبشة كما قدمته ولفظه هناك" فقال يا أيها المرء أعوذ بالله منك" قال ابن التين: إنما استعاذ منه خشية أن يكلمه بشيء يقتضي الإنكار عليه وهو في ذلك معذور فيضيق بذلك صدره. قوله: "فانصرفت فرجعت إليهما" زاد في رواية معمر"فحدثتهما بالذي قلت لعثمان وقال لي، فقالا: قد قضيت الذي كان عليك". قوله: "إذ جاء رسول عثمان" في رواية معمر "فبينما أنا جالس معهما إذ جاءني رسول عثمان فقالا لي: قد ابتلاك الله، فانطلقت" ولم أقف في شيء من الطرق على اسم هذا الرسول. قوله: "وكنت ممن استجاب" هو بفتح كنت على المخاطبة وكذا هاجرت وصحبت، وأراد بالهجرتين الهجرة إلى الحبشة والهجرة إلى المدينة، وسيأتي ذكرهما قريبا، وزاد في رواية معمر "ورأيت هديه" أي هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وهو بفتح الهاء وسكون الدال الطريقة. وفي رواية شعيب عن الزهري الآتية في هجرة الحبشة" وكنت صهر رسول الله صلى الله عليه وسلم". قوله: "وقد أكثر الناس في شأن الوليد" زاد معمر "ابن عقبة" فحق عليك أن تقيم عليه الحد. قوله: "قال أدركت رسول الله؟ فقلت لا" في رواية معمر "فقال لي: يا ابن أختي" وفي رواية صالح بن أبي الأخضر عن الزهري عن عمر بن شبة" قال هل رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فال لا" ومراده بالإدراك إدراك السماع منه والأخذ عنه، وبالرؤية رؤية المميز له، ولم يرد هنا الإدراك بالسن فإنه ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فسيأتي في المغازي في قصة مقتل حمزة من حديث وحشي بن حرب ما يدل على ذلك، ولم يثبت أن أباه عدي بن الخيار قتل كافرا وإن ذكر ذلك ابن ماكولا وغيره، فإن ابن سعد ذكره في طبقة الفتحيين، وذكر المدائني وعمر بن شبة في "أخبار المدينة" أن هذه القصة المحكية هنا وقعت لعدي بن الخيار نفسه مع عثمان فالله أعلم. قال ابن التين: إنما استثبت عثمان في ذلك لينبهه على أن الذي ظنه من مخالفة عثمان ليس كما ظنه. قلت: ويفسر المراد من ذلك ما رواه أحمد من طريق سماك بن حرب عن عبادة بن زاهر "سمعت عثمان خطب فقال: إنا والله قد صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم

(7/56)


في السفر والحضر إن ناسا يعلموني سنته عسى أن لا يكون أحدهم رآه قط". قوله: "خلص" بفتح المعجمة وضم اللام ويجوز فتحها بعدها مهملة أي وصل، وأراد ابن عدي بذلك أن علم النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن مكتوما ولا خاصا بل كان شائعا حتى وصل إلى العذراء المستترة، فوصوله إليه مع حرصه عليه أولى. قوله: "ثم أبو بكر مثله ثم عمر مثله" يعني قال في كل منهما فما عصيته ولا غششته. وصرح بذلك في رواية معمر. قوله: "ثم استخلفت" بضم التاء الأولى والثانية. قوله: "أفليس لي من الحق مثل الذي لهم" في رواية معمر "أفليس لي عليكم من الحق مثل الذي كان لهم علي" ووقع في رواية الأصيلي وهم يأتي بيانه هناك إن شاء الله تعالى. قوله: "فما هذه الأحاديث التي تبلغني عنكم" كأنهم كانوا يتكلمون في سبب تأخيره إقامة الحد على الوليد، وقد ذكرنا عذره في ذلك. قوله: "فأمره أن يجلد" في رواية الكشميهني: "أن يجلده". قوله: "فجلده ثمانين" في رواية معمر "فجلد الوليد أربعين جلدة" وهذه الرواية أصح من رواية يونس، والوهم فيه من الراوي عنه شبيب بن سعيد، ويرجح رواية معمر ما أخرجه مسلم من طريق أبي ساسان قال: "شهدت عثمان أتى بالوليد وقد صلى الصبح ركعتين ثم قال أزيدكم، فشهد عليه رجلان أحدهما حمران يعني مولى عثمان أنه قد شرب الخمر، فقال عثمان يا علي قم فاجلده، فقال علي قم يا حسن فاجلده، فقال الحسن ول حارها من تولى قارها، فكأنه وجد عليه فقال: يا عبد الله بن جعفر قم فاجلده، فجلده، وعلي يعد، حتى بلغ أربعين فقال: أمسك. ثم قال: جلد النبي صلى الله عليه وسلم أربعين وأبو بكر أربعين وعمر ثمانين وكل ذلك سنة، وهذا أحب إلي" انتهى والشاهد الآخر الذي لم يسم في هذه الرواية قيل هو الصعب بن جثامة الصحابي المشهور رواه يعقوب بن سفيان في تاريخه، وعند الطبري من طريق سيف في الفتوح أن الذي شهد عليه ولد الصعب واسمه جثامة كاسم جده. وفي رواية أخرى أن ممن شهد عليه أبا زينب بن عوف الأسدي وأبا مورع الأسدي، وكذلك روى عمر بن شبة في "أخبار المدينة" بإسناد حسن إلى أبي الضحى وقال: "لما بلغ عثمان قصة الوليد استشار عليا فقال: أرى أن تستحضره فإن شهدوا عليه بمحضر منه حددته، ففعل فشهد عليه أبو زينب وأبو مورع وجندب بن زهير الأزدي وسعد بن مالك الأشعري" فذكر نحو رواية أبي ساسان وفيه: "فضربه بمخصرة لها رأسان، فلما بلغ أربعين قال له: أمسك".
وأخرج من طريق الشعبي قال: قال الحطيئة في ذلك:
شهد الحطيئة يوم يلقى ربه ... أن الوليد أحق بالعذر
نادى وقد تمت صلاتهم ... أأزيدكم سفها وما يدري
فأتوا أبا وهب ولو أذنوا ... لقرنت بين الشفع والوتر
كفوا عنانك إذ جريت ولو ... تركوا عنانك لم تزل تجري
وذكر المسعودي في "المروج" أن عثمان قال للذين شهدوا: وما يدريكم أنه شرب الخمر؟ قالوا: هي التي كنا نشربها في الجاهلية.وذكر الطبري أن الوليد ولي الكوفة خمس سنين، قالوا وكان جوادا، فولى عثمان بعده سعيد بن العاص فسار فيهم سيرة عادلة فكان بعض الموالي يقول:
ويلنا قد عزل الوليد ... وجاءنا مجوعا سعيد
ينقص في الصاع ولا يزيد
لحديث الثالث حديث أنس اسكن أحد بضم الدال على انه منادى مفرد وحذف منه حرف النداء وقد

(7/57)


قدم الكلام عليه في مناقب أبي بكر ومن رواه بلفظ حراء وانه يمكن الجمع بالحمل على التعدد ثم وجدت مايؤيده فعند مسلم من حديث أبي هريرة قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم على حراء هو وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير فتحركت الصخرة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره وفي رواية له وسعد وله شاهد من حديث سعيد بن زيد ثم الترمذي واخر عن علي ثم الدارقطني قوله: "حدثنا شاذان" هو الأسود بن عامر، وعبيد الله هو ابن عمر. قوله: "ثم نترك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نفاضل بينهم" تقدم الكلام عليه في مناقب أبي بكر، قال الخطابي: إنما لم يذكر ابن عمر عليا لأنه أراد الشيوخ وذوي الأسنان الذين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر شاورهم، وكان علي في زمانه صلى الله عليه وسلم حديث السن. قال ولم يرد ابن عمر الازدراء به ولا تأخيره عن الفضيلة بعد عثمان انتهى. وما اعتذر به من جهة السن بعيد لا أثر له في التفضيل المذكور، وقد اتفق العلماء على تأويل كلام ابن عمر هذا لما تقرر عند أهل السنة قاطبة من تقديم علي بعد عثمان ومن تقديم بقية العشرة المبشرة على غيرهم ومن تقديم أهل بدر على من لم يشهدها وغير ذلك، فالظاهر أن ابن عمر إنما أراد بهذا النفي أنهم كانوا يجتهدون في التفضيل، فيظهر لهم فضائل الثلاثة ظهورا بينا فيجزمون به ولم يكونوا حينئذ اطلعوا على التنصيص، ويؤيده ما روى البزار عن ابن مسعود قال: "كنا نتحدث أن أفضل أهل المدينة علي بن أبي طالب" رجاله موثقون، وهو محمول على أن ذلك قاله ابن مسعود بعد قتل عمر، وقد حمل حديث ابن عمر على ما يتعلق بالترتيب في التفضيل، واحتج في التربيع بعلي بحديث سفينة مرفوعا: "الخلافة ثلاثون سنة ثم تصير ملكا" أخرجه أصحاب السنن وصححه ابن حبان وغيره.وقال الكرماني: لا حجة في قوله: "كنا نترك" لأن الأصوليين اختلفوا في صيغة "كنا نفعل" لا في صيغة كنا لا نفعل لتصور تقرير الرسول في الأول دون الثاني، وعلى تقدير أن يكون حجة فما هو من العمليات حتى يكفي فيه الظن، ولو سلمنا فقد عارضه ما هو أقوى منه. ثم قال: ويحتمل أن يكون ابن عمر أراد أن ذلك كان وقع لهم في بعض أزمنة النبي صلى الله عليه وسلم فلا يمنع ذلك أن يظهر بعد ذلك لهم، وقد مضت تتمة هذا في مناقب أبي بكر، والله أعلم. قوله: "تابعه عبد الله بن صالح عن عبد العزيز" أي ابن أبي سلمة بإسناده المذكور، وابن صالح هذا هو الجهني كاتب الليث، وقيل هو العجلي والد أحمد صاحب" كتاب الثقات" والله أعلم. وكأن البخاري أراد بهذه المتابعة إثبات الطريق إلى عبد العزيز بن أبي سلمة لأن عباسا الدوري روى هذا الحديث عن شاذان فقال: "عن الفرج بن فضالة عن يحيى بن سعيد عن نافع" فكأن لشاذان فيه شيخين، والله أعلم وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق أبي عمار والرمادي وعثمان بن أبي شيبة وغير واحد عن أسود بن عامر المذكور، وكذلك رواه عن عبد العزيز عبدة أبو سلمة الخزاعي وحجين بن المثنى. قوله: "حدثنا موسى" هو ابن إسماعيل. قوله: "عثمان هو ابن موهب" نسبه إلى جده وهو عثمان بن عبد الله بن موهب بفتح الميم وسكون الواو وفتح الهاء بعدها موحدة مولى بني تيم، بصري تابعي وسط من طبقة الحسن البصري وهو ثقة باتفاقهم، وفي الرواة آخر يقال له عثمان بن موهب بصري أيضا لكنه أصغر من هذا، روى عن أنس، روى عنه زيد بن الحباب وحده أخرج له النسائي. قوله: "جاء رجل من أهل مصر وحج البيت" لم أقف على اسمه ولا على اسم من أجابه من القوم ولا على أسماء القوم، وسيأتي في تفسير قوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} من سورة البقرة ما قد يقرب أنه العلاء بن عيزار، وهو بمهملات، وكذا في مناقب علي بعد هذا، ويأتي في سورة الأنفال

(7/58)


أن الذي باشر السؤال اسمه حكيم، وعليه اقتصر شيخنا ابن الملقن، وهذا كله بناء على أن الحديثين في قصة واحدة. قوله: "قال فمن الشيخ" أي الكبير "فيهم" الذي يرجعون إلى قوله. قوله: "هل تعلم أن عثمان فر يوم أحد إلخ" الذي يظهر من سياقه أن السائل كان ممن يتعصب على عثمان فأراد بالمسائل الثلاث أن يقرر معتقده فيه، ولذلك كبر مستحسنا لما أجابه به ابن عمر. قوله: "قال ابن عمر: تعال أبين لك" كأن ابن عمر فهم منه مراده لما كبر، وإلا لو فهم ذلك من أول سؤاله لقرن العذر بالجواب، وحاصله أنه عابه بثلاثة أشياء فأظهر له ابن عمر العذر عن جميعها: أما الفرار فبالعفو، وأما التخلف فبالأمر، وقد حصل له مقصود من شهد من ترتب الأمرين الدنيوي وهو السهم والأخروي وهو الأجر، وأما البيعة فكان مأذونا له في ذلك أيضا، ويد رسول الله صلى الله عليه وسلم خير لعثمان من يده كما ثبت ذلك أيضا عن عثمان نفسه فيما رواه البزار بإسناد جيد أنه عاتب عبد الرحمن بن عوف فقال له: لم ترفع صوتك علي؟ فذكر الأمور الثلاثة، فأجابه بمثل ما أجاب به ابن عمر. قال في هذه: فشمال رسول الله صلى الله عليه وسلم خير لي من يميني. قوله: "فأشهد أن الله عفا عنه وغفر له" يريد قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} . قوله: "وأما تغيبه عن بدر فإنه كان تحته بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم" هي رقية، فروى الحاكم في"المستدرك" من طريق حماد بن سلمة عن هشام بن عروة عن أبيه قال: "خلف النبي صلى الله عليه وسلم عثمان وأسامة بن زيد على رقية في مرضها لما خرج إلى بدر، فماتت رقية حين وصل زيد بن حارثة بالبشارة، وكان عمر رقية لما ماتت عشرين سنة، قال ابن إسحاق: ويقال إن ابنها عبد الله بن عثمان مات بعدها سنة أربع من الهجرة وله ست سنين. قوله: "فلو كان أحد ببطن مكة أعز من عثمان" أي على من بها "لبعثه" أي النبي صلى الله عليه وسلم "مكانه" أي بدل عثمان. قوله: "فبعث النبي صلى الله عليه وسلم عثمان وكانت بيعة الرضوان" أي بعد أن بعثه والسبب في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عثمان ليعلم قريشا أنه إنما جاء معتمرا لا محاربا، ففي غيبة عثمان شاع عندهم أن المشركين تعرضوا لحرب المسلمين، فاستعد المسلمون للقتال وبايعهم النبي صلى الله عليه وسلم حينئذ تحت الشجرة على أن لا يفروا وذلك في غيبة عثمان. وقيل بل جاء الخبر بأن عثمان قتل، فكان ذلك سبب السعة، وسيأتي إيضاح ذلك في عمرة الحديبية من المغازي. قوله: "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بيده اليمنى" أي أشار بها. قوله: "هذه يد عثمان" أي بدلها، فضرب بها على يده اليسرى فقال: "هذه - أي البيعة - لعثمان" أي عن عثمان. قوله: "فقال له ابن عمر: اذهب بها الآن معك" أي اقرن هذا العذر بالجواب حتى لا يبقى لك فيما أجبتك به حجة على ما كنت تعتقده من غيبة عثمان. وقال الطيبي. قال له ابن عمر تهكما به، أي توجه بما تمسكت به فإنه لا ينفعك بعدما بينت لك، وسيأتي بقية لما دار بينهما في ذلك في مناقب علي إن شاء الله تعالى. "تنبيه": وقع هنا عند الأكثر حديث أنس المذكور قبل بحديثين، والذي أوردناه هو ترتيب ما وقع في رواية أبي ذر، والخطب في ذلك سهل.

(7/59)


8 - باب قِصَّةِ الْبَيْعَةِ وَالِاتِّفَاقِ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رضى الله عنه
وَفِيهِ مَقْتَلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
3700- حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا أبو عوانة عن حصين عن عمرو بن ميمون قال "رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبل أن يصاب بأيام بالمدينة وقف على حذيفة بن اليمان وعثمان بن حنيف

(7/59)


قال كيف فعلتما أتخافان أن تكونا قد حملتما الأرض ما لا تطيق قالا حملناها أمرا هي له مطيقة ما فيها كبير فضل قال انظرا أن تكوناحملتما الأرض ما لا تطيق قال قالا لا فقال عمر لئن سلمني الله لأدعن أرامل أهل العراق لا يحتجن إلى رجل بعدي أبدا قال فما أتت عليه إلا رابعة حتى أصيب قال إني لقائم ما بيني بينه إلا عبد الله بن عباس غداة أصيب وكان إذا مر بين الصفين قال استووا حتى إذا لم ير فيهم خللا تقدم فكبر وربما قرأ سورة يوسف أو النحل أو نحو ذلك في الركعة الأولى حتى يجتمع الناس فما هو إلا أن كبر فسمعته يقول قتلني أو أكلني الكلب حين طعنه فطار العلج بسكين ذات طرفين لا يمر على أحد يمينا ولا شمالا إلا طعنه حتى طعن ثلاثة عشر رجلا مات منهم سبعة فلما رأى ذلك رجل من المسلمين طرح عليه برنسا فلما ظن العلج أنه مأخوذ نحر نفسه وتناول عمر يد عبد الرحمن بن عوف فقدمه فمن يلي عمر فقد رأى الذي أرى وأما نواحي المسجد فإنهم لا أنهم قد عمر وهم يقولون سبحان الله سبحان الله فصلى بهم عبد الرحمن صلاة خفيفة فلما انصرفوا قال يا بن عباس انظر من قتلني فجال ساعة ثم جاء فقال غلام المغيرة قال الصنع قال نعم قال قاتله الله لقد أمرت به معروفا الحمد لله الذي لم يجعل ميتتي بيد رجل يدعي الإسلام قد كنت أنت وأبوك تحبان أن تكثر العلوج بالمدينة وكان العباس أكثرهم رقيقا فقال إن شئت فعلت أي إن شئت قتلنا قال كذبت بعد ما تكلموا بلسانكم وصلوا قبلتكم وحجوا حجكم فاحتمل إلى بيته فانطلقنا معه وكأن الناس لم تصبهم مصيبة قبل يومئذ فقائل يقول لا بأس وقائل يقول أخاف عليه فأتي بنبيذ فشربه فخرج من جوفه ثم أتي بلبن فشربه فخرج من جرحه فعلموا أنه ميت فدخلنا عليه وجاء الناس فجعلوا يثنون عليه وجاء رجل شاب فقال أبشر يا أمير المؤمنين ببشرى الله لك من البغوي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقدم في الإسلام ما قد علمت ثم وليت فعدلت ثم شهادة قال وددت أن ذلك كفافلا علي ولا لي فلما أدبر إذا إزاره يمس الأرض قال ردوا علي الغلام قال بن أخي ارفع ثوبك فإنه أنقى لثوبك وأتقى لربك يا عبد الله بن عمر انظر ما علي من الدين فحسبوه فوجدوه ستة وثمانين ألفا أو نحوه قال إن وفي له مال آل عمر فأده من أموالهم وإلا فسل في بني عدي بن كعب فإن لم تف أموالهم فسل في قريش ولا تعدهم إلى غيرهم فأد عني هذا المال انطلق إلى عائشة أم المؤمنين فقل يقرأ عليك عمر السلام ولا تقل أمير المؤمنين فإني لست اليوم للمؤمنين أميرا وقل يستأذن عمر بن الخطاب أن يدفن مع صاحبه فسلم

(7/60)


واستأذن ثم دخل عليها فوجدها قاعدة تبكي فقال يقرأ عليك عمر بن الخطاب السلام ويستأذن أن يدفن مع صاحبيه فقالت كنت أريده لنفسي ولأوثرن به اليوم على نفسي فلما أقبل قيل هذا عبد الله بن عمر قد جاء قال ارفعوني فأسنده رجل إليه فقال ما لديك قال الذي تحب يا أمير المؤمنين أذنت قال الحمد لله ما كان من شيء أهم إلي من ذلك فإذا أنا قضيت فاحملوني ثم سلم فقل يستأذن عمر بن الخطاب فإن أذنت لي فأدخلوني وإن ردتني ردوني إلى مقابر المسلمين وجاءت أم المؤمنين حفصة والنساء تسير معها فلما رأيناها قمنا فولجت عليه فبكت عنده ساعة واستأذن الرجال فولجت داخلا لهم فسمعنا بكاءها من الداخل فقالوا أوص يا أمير المؤمنين استخلف قال ما أجد أحدا أحق بهذا الأمر من هؤلاء النفر أو الرهط الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض فسمى عليا وعثمان والزبير وطلحة وسعدا وعبد الرحمن وقال يشهدكم عبد الله بن عمر وليس له من الأمر شيء كهيئة التعزية له فإن أصابت الإمرة سعدا فهو ذاك وإلا فليستعن به أيكم ما أمر فإني لم أعزله عن عجز ولا خيانة وقال أوصي الخليفة من بعدي بالمهاجرين الأولين أن يعرف لهم حقهم ويحفظ لهم حرمتهم وأوصيه بالأنصار خيرا الذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم أن يقبل من محسنهم وأن يعفى عن مسيئهم وأوصيه بأهل الأمصار خيرا فإنهم ردء الإسلام وجباة المال وغيظ العدو وأن لا يؤخذ منهم إلا فضلهم عن رضاهم وأوصيه بالأعراب خيرا فإنهم أصل العرب ومادة الإسلام أن يؤخذ من حواشي أموالهم ويرد على فقرائهم وأوصيه بذمة الله تعالى وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم أن يوفى لهم بعهدهم وأن يقاتل من ورائهم ولا يكلفوا إلا طاقتهم فلما قبض خرجنا به فانطلقنا عبد الله بن عمر قال يستأذن عمر بن الخطاب قالت أدخلوه فأدخل فوضع هنالك مع صاحبيه فلما فرغ من دفنه اجتمع هؤلاء الرهط فقال عبد الرحمن اجعلوا أمركم إلى ثلاثة منكم فقال الزبير قد جعلت أمري إلى علي فقال طلحة قد جعلت أمري إلى عثمان وقال سعد قد جعلت أمري إلى عبد الرحمن بن عوف فقال عبد الرحمن أيكما تبرأ من هذا الأمر فنجعله إليه والله عليه والإسلام لينظرن أفضلهم في نفسه فأسكت الشيخان فقال عبد الرحمن أفتجعلونه إلي والله علي أن لا آلو عن أفضلكم قالا نعم فأخذ بيد أحدهما فقال لك قرابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم والقدم في الإسلام ما قد علمت فالله عليك لئن أمرتك لتعدلن ولئن أمرت عثمان لتسمع

(7/61)


ولتطيعن ثم خلا وصله فقال له مثل ذلك فلما أخذ الميثاق قال ارفع يدك يا عثمان فبايعه فبايع له علي وولج أهل الدار فبايعوه"
قوله "باب قصة البيعة" أي بعد عمر قوله "والاتفاق على عثمان" زاد السرخسي في روايته ومقتل عمر بن الخطاب قوله عن عمرو بن ميمون هو الأزدي وهذا الحديث بطوله قد رواه عن عمرو بن ميمون أيضا أبو إسحاق السبيعي وروايته ثم بن أبي شيبة والحارث وابن سعد وفي روايته زوائد ليست في رواية حصين وروى بعض قصة مقتل عمر أيضا أبو رافع وروايته ثم أبي يعلى وابن حبان وجابر وروايته ثم بن أبي عمر وعبد الله بن عمر وروايته في الأوسط للطبراني ومعدان بن أبي طلحة وروايته ثم مسلم وعند كل منهم ما ليس ثم الاخر وساذكر ما فيها وفي غيرها من فائدة زائدة ان شاء الله تعالى قوله رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبل ان يصاب أي قبل ان يقتل بأيام أي أربعة كما سيأتي قوله بالمدينة أي بعد ان صدر من الحج وقد تقدم في الجنائز من حديث بن عباس ان ذلك كان لما رجع من الحج وفيه قصة صهيب ويأتي في الاحكام بنحو ذلك وكان ذلك سنة ثلاث وعشرين بالاتفاق قوله ووقف على حذيفة بن اليمان وعثمان بن حنيف قال كيف فعلتما أتخافان ان تكونا قد حملتما الأرض ما لا تطيق الأرض المشار إليها هي وكان عمر بعثهما يضربان عليها الخراج وعلى أهلها الجزية بين ذلك أبو عبيد في كتاب الأموال من رواية عمرو بن ميمون المذكور وقوله انظرا أي في التحميل أو هو كناية عن الحذر لأنه يستلزم النظر قوله قالا حملناها أمرا هي له مطيقة في رواية بن أبي شيبة عن محمد بن فضيل عن حصين بهذا الإسناد فقال حذيفة لو شئت لأضعفت ارضي أي جعلت خراجها ضعفين وقال عثمان بن حنيف لقد حملت ارضي أمرا هي له مطيقة وله من طريق الحكم عن عمرو بن ميمون ان عمر قال لعثمان بن حنيف لئن زدت على كل رأس درهمين وعلى كل جريب درهما وقفيزا من طعام لأطاقوا ذلك قال نعم قوله اني لقائم أي في الصف ننتظر صلاة الصبح قوله مابيني وبينه أي عمر الا عبد الله بن عباس في رواية أبي إسحاق الا رجلان قوله وكان إذا مر بين الصفين قال استووا حتى إذا لم ير فيهن أي في الصفوف وفي رواية الكشميهني فيهم أي في أهلها خللا تقدم فكبر وفي رواية الإسماعيلي من طريق جرير عن حصين وكان إذا دخل المسجد واقيمت الصلاة تأخر بين كل صفين فقال استووا حتى لا يرى خللا ثم يتقدم ويكبر وفي رواية أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون شهدت عمر يوم طعن فما منعني ان اكون في الصف الا هيبته وكان رجلا مهيبا وكنت في الصف الذي يليه وكان عمر لا يكبر حتى يستقبل الصف المقدم بوجهه فإن رأى رجلا متقدما من الصف أو متأخرا ضربه بالدرة فذلك الذي منعني منه قوله قتلني أو أكلني الكلب حين طعنه في رواية جرير فتقدم فما هو الا ان كبر فطعنه أبو لؤلؤة فقال قتلني الكلب في رواية أبي إسحاق المذكورة فعرض له أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة فتأخر بعيد ثم طعنه ثلاث طعنات فرأيت عمر قائلا بيده هكذا يقول دونكم الكلب فقد قتلني واسم أبي لؤلؤة فيروز كما سيأتي فروى بن سعد بإسناد صحيح الى الزهري قال كان عمر لا يأذن لسبي قد احتلم في دخول المدينة حتى كتب المغيرة بن شعبة وهو على الكوفة يذكر له غلاما عنده

(7/62)


صانعا ويستأذنه ان يدخله المدينة ويقول ان عنده اعمالا تنفع الناس انه حداد نقاش نجار فأذن له فضرب عليه المغيرة كل شهر مائة فشكى الى عمر شدة الخراج فقال له ما خراجك بكثير في جنب ما تعمل فانصرف ساخطا فلبث عمر ليالي فمر به العبد فقال الم أحدث انك تقول لو أشاء لصنعت رحى تطحن بالريح فالتفت اليه عابسا فقال لاصنعن لك رحى يتحدث الناس بها فاقبل عمر على من معه فقال توعدني العبد فلبث ليالي ثم اشتمل على خنجر ذي رأسين نصابه وسطه فكمن في زاوية من زوايا المسجد في الغلس حتى خرج عمر يوقظ الناس الصلاة الصلاة وكان عمر يفعل ذلك فلما دنا منه عمر وثب اليه فطعنه ثلاث طعنات إحداهن تحت السرة قد خرقت الصفاق وهي التي قتلته وفي حديث أبي رافع كان أبو لؤلؤة عبدا للمغيرة وكان يستغله أربعة دراهم أي كل يوم فلقي عمر فقال ان المغيرة اثقل علي فقال اتق الله واحسن اليه ومن نية عمر ان يلقى المغيرة فيكلمه فيخفف عنه فقال العبد وسع الناس عدله غيري واضمر على قتله فاصطنع له خنجرا له رأسان وسمه فتحرى صلاة الغداة حتى قام عمر فقال اقيموا صفوفكم فلما كبر طعنه في كتفه وفي خاصرته فسقط وعند مسلم من طريق معدان بن أبي طلحة ان عمر خطب فقال رأيت ديكا نقرني ثلاث نقرات الا حضور اجلي وفي رواية جويرية بن قدامة عن عمر نحوه وزاد فما مر الا تلك الجمعة حتى طعن وعند بن سعد من رواية سعيد بن أبي هلال قال بلغني ان عمر ذكر نحوه وزاد فحدثتها أسماء بنت عميس فحدثتني انه يقتلني رجل من الأعاجم وروى عمر بن شبة في كتاب المدينة من حديث بن عمر بإسناد حسن ان عمر دخل بأبي لؤلؤة البيت ليصلح له ضبة له فقال له مر المغيرة ان يضع عني من خراجي قال انك لتكسب كسبا كثيرا فاصبر الحديث وللطبراني في الأوسط بسند صحيح عن المبارك بن فضالة عن عبيد الله عن نافع عن بن عمر طعن أبو لؤلؤة عمر طعنتين ويحمل على انه لم يذكر الثالثة التي قتلته قوله حتى طعن ثلاثة عشر رجلا في رواية أبي إسحاق اثني عشر رجلا معه وهو ثالث عشر زاد بن سعد من رواية إبراهيم التيمي عن عمرو بن ميمون وعلى عمر ازار اصفر قد رفعه على صدره فلما طعن قال وكان أمر الله قدرا مقدورا قوله مات منهم سبعة أي وعاش الباقون ووقفت من اسمائهم على كليب بن البكير الليثي وله ولأخوته عاقل وعامر وإياس صحبة، فروينا في "جزء أبي الجهم" بالإسناد الصحيح إلى ابن عمر أنه "كان مع عمر صادرا من الحج، فمر بامرأة فدفنها كليب الليثي فشكر له ذلك عمر وقال: أرجو أن يدخله الله الجنة، قال فطعنه أبو لؤلؤة لما طعن عمر فمات" وروى عبد الرزاق من طريق نافع نحوه ومن طريق الزهري "طعن أبو لؤلؤة اثني عشر رجلا فمات منهم عمر وكليب" وروى ابن أبي شيبة من طريق أبي سلمة ويحيى بن عبد الرحمن في قصة قتل عمر" فطعن أبو لؤلؤة كليب بن البكير فأجهز عليه". قوله: "فلما رأى ذلك رجل من المسلمين طرح عليه برنسا" وقع في ذيل الاستيعاب لابن فتحون من طريق سعيد بن يحيى الأموي قال: "حدثنا أبي حدثني من سمع حصين بن عبد الرحمن في هذه القصة قال: فلما رأى ذلك رجل من المهاجرين يقال له حطان التميمي اليربوعي طرح عليه برنسا" وهذا أصح مما رواه ابن سعد بإسناد ضعيف منقطع قال: "طعن أبو لؤلؤة نفرا فأخذ أبا لؤلؤة رهط من قريش منهم عبد الله بن عوف وهاشم بن عتبة الزهريان ورجل من بني سهم، وطرح عليه عبد الله بن عوف خميصة كانت عليه" فإن ثبت هذا حمل أن الكل اشتركوا في ذلك. وروى سعد عن الواقدي بإسناد آخر" أن عبد الله بن عوف المذكور احتز رأس أبي لؤلؤة". قوله: "وتناول عمر يد

(7/63)


عبد الرحمن بن عوف فقدمه" أي للصلاة بالناس. قوله: "فصلى بهم عبد الرحمن صلاة خفيفة" في رواية أبي إسحاق" بأقصر سورتين في القرآن: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} ، و {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} وزاد في رواية ابن شهاب المذكور" ثم غلب عمر النزف حتى غشي عليه، فاحتملته في رهط حتى أدخلته بيته فلم يزل في غشيته حتى أسفر فنظر في وجوهنا فقال: أصلى الناس؟ فقلت نعم، قال: لا إسلام لمن ترك الصلاة. ثم توضأ وصلى" وفي رواية ابن سعد من طريق ابن عمر قال: "فتوضأ وصلى فقرأ في الأولى والعصر وفي الثانية يا أيها الكافرون، قال: وتساند إلي وجرحه يثغب دما، إني لأضع أصبعي الوسطى فما تسد الفتق". قوله: "فلما انصرفوا قال: يا ابن عباس انظر من قتلني" في رواية أبي إسحاق "فقال عمر يا عبد الله بن عباس اخرج فناد في الناس: أعن ملأ منكم كان هذا؟ فقالوا: معاذ الله، ما علمنا ولا اطلعنا" وزاد مبارك بن فضالة "فظن عمر أن له ذنبا إلى الناس لا يعلمه فدعا ابن عباس - وكان يحبه ويدنيه - فقال: أحب أن تعلم عن ملأ من الناس كان هذا؟ فخرج لا يمر بملأ من الناس إلا وهم يبكون، فكأنما فقدوا أبكار أولادهم، قال ابن عباس: فرأيت البشر في وجهه. قوله: "الصنع" بفتح المهملة والنون. وفي رواية ابن فضيل عن حصين عند ابن أبي شيبة وابن سعد "الصناع" بتخفيف النون، قال أهل اللغة رجل صنع اليد واللسان وامرأة صناع اليد، وحكى أبو زيد الصناع والصنع يقعان معا على الرجل والمرأة. قوله: "لم يجعل ميتتي" بكسر الميم وسكون التحتانية بعدها مثناة أي قتلتي. وفي رواية الكشميهني: "منيتي" بفتح الميم وكسر النون وتشديد التحتانية. قوله: "رجل يدعي الإسلام" في رواية ابن شهاب "فقال الحمد لله الذي لم يجعل قاتلي يحاجني عند الله بسجدة سجدها له قط" وفي رواية مبارك بن فضالة "يحاجني بقول لا إله إلا الله"، ويستفاد من هذا أن المسلم إذا قتل متعمدا ترجى له المغفرة خلافا لمن قال إنه لا يغفر له أبدا، وسيأتي بسط ذلك في تفسير سورة النساء. وفي رواية ابن أبي شيبة: "قاتله الله، لقد أمرت به معروفا" أي أنه لم يخف عليه فيما أمره به، وفي حديث جابر" فقال عمر: لا تعجلوا على الذي قتلني، فقيل: إنه قتل نفسه، فاسترجع عمر، فقيل له إنه أبو لؤلؤة، فقال الله أكبر". قوله: "قد كنت أنت وأبوك تحبان أن تكثر العلوج بالمدينة" في رواية ابن سعد من طريق محمد بن سيرين عن ابن عباس" فقال عمر: هذا من عمل أصحابك، كنت أريد أن لا يدخلها علج من السبي فغلبتموني" وله من طريق أسلم مولى عمر قال: "قال عمر من أصابني؟ قالوا أبو لؤلؤة واسمه فيروز، قال قد نهيتكم أن تجلبوا عليها من علوجهم أحدا فعصيتموني" ونحوه في رواية مبارك بن فضالة، وروى عمر بن شبة من طريق ابن سيرين قال: "بلغني أن العباس قال لعمر لما قال لا تدخلوا علينا من السبي إلا الوصفاء: إن عمل المدينة شديد لا يستقيم إلا بالعلوج". قوله: "إن شئت فعلت" قال ابن التين: إنما قال له ذلك لعلمه بأن عمر لا يأمر بقتلهم. قوله: "كذبت" هو على ما ألف من شدة عمر في الدين، لأنه فهم من ابن عباس من قوله: "إن شئت فعلنا" أي قتلناهم فأجابه بذلك، وأهل الحجاز يقولون "كذبت" في موضع أخطأت، وإنما قال له "بعد أن صلوا" لعلمه أن المسلم لا يحل قتله، ولعل ابن عباس إنما أراد قتل من لم يسلم منهم. قوله: "فأتي بنبيذ فشربه" زاد في حديث أبي رافع "لينظر ما قدر جرحه" وفي رواية أبي إسحاق "فلما أصبح دخل عليه الطبيب فقال: أي الشراب أحب إليك؟ قال: النبيذ، فدعا بنبيذ فشرب فخرج من جرحه، فقال: هذا صديد ائتوني بلبن، فأتي بلبن فشربه فخرج من جرحه، فقال الطبيب: أوص فإني لا أظنك إلا ميتا من يومك أو من غد".قوله: "فخرج من جوفه" في رواية الكشميهنيمن

(7/64)


"من مجرحه" وهي أصوب. وفي رواية أبي رافع" فخرج النبيذ فلم يدر أهو نبيذ أم دم" وفي روايته: "فقالوا لا بأس عليك يا أمير المؤمنين، فقال: إن يكن القتل بأسا فقد قتلت" وفي رواية ابن شهاب قال: "فأخبرني سالم قال: سمعت ابن عمر يقول: فقال عمر: أرسلوا إلي طبيب ينظر إلى جرحي، قال: فأرسلوا إلى طبيب من العرب فسقاه نبيذا فشبه النبيذ بالدم حين خرج من الطعنة التي تحت السرة، قال فدعوت طبيبا آخر من الأنصار فسقاه لبنا فخرج اللبن من الطعنة أبيض فقال: اعهد يا أمير المؤمنين. فقال عمر: صدقني، ولو قال غير ذلك لكذبته" وفي رواية مبارك بن فضالة "ثم دعا بشربة من لبن فشربها فخرج مشاش اللبن من الجرحين فعرف أنه الموت فقال: الآن لو أن لي الدنيا كلها لافتديت به من هول المطلع، وما ذاك والحمد لله أن أكون رأيت إلا خيرا". "تنبيه": المراد بالنبيذ المذكور تمرات نبذت في ماء أي نقعت فيه، كانوا يصنعون ذلك لاستعذاب الماء، وسيأتي بسط القول فيه في الأشربة. قوله: "وجاء الناس يثنون عليه" في رواية الكشميهني: "فجعلوا يثنون عليه" ووقع في حديث جابر عند ابن سعد من تسمية من أثنى عليه عبد الرحمن بن عوف. وأنه أجابه بما أجاب به غيره. وروى عمر بن شبة من طريق سليمان بن يسار أن المغيرة أثنى عليه وقال له هنيئا لك الجنة وأجابه بنحو ذلك. وروى ابن أبي شيبة من طريق المسور بن مخرمة أنه ممن دخل على عمر حين طعن. وعند ابن سعد من طريق جويرية بن قدامة "فدخل عليه الصحابة ثم أهل المدينة ثم أهل الشام ثم أهل العراق، فكلما دخل عليه قوم بكوا وأثنوا عليه" وقد تقدم طرف منه من هذا الوجه في الجزية، ووقع في رواية أبي إسحاق عند ابن مسعد" وأتاه كعب - أي كعب الأحبار - فقال: ألم أقل لك إنك لا تموت إلا شهيدا، وإنك تقول من أين وإني في جزيرة العرب". قوله: "وجاء رجل شاب" في رواية جرير عن حصين السابقة في الجنائز" وولج عليه شاب من الأنصار" وقد وقع في رواية سماك الحنفي عن ابن عباس عند ابن سعد أنه أثنى على عمر فقال له نحوا مما قال هنا للشاب، فلو [لا أنه] قال في هذه الرواية إنه من الأنصار لساغ أن يفسر المبهم بابن عباس، لكن لا مانع من تعدد المثنين مع اتحاد جوابه كما تقدم. ويؤيده أيضا أن في قصة هذا الشام أنه لما ذهب رأى عمر إزاره يصل إلى الأرض فأنكر عليه، ولم يقع ذلك في قصة ابن عباس، وفي إنكاره على ابن عباس ما كان عليه من الصلابة في الدين، وأنه لم يشغله ما هو فيه من الموت عن الأمر بالمعروف، وقوله: "ما قد علمت" مبتدأ وخبره "لك" وقد أشار إلى ذلك ابن مسعود فروى عمر بن شبة من حديثه نحو هذه القصة وزاد: "قال عبد الله يرحم الله عمر، لم يمنعه ما كان فيه من قول الحق". قوله: "وقدم" بفتح القاف وكسرها فالأول بمعنى الفضل والثاني بمعنى السبق. قوله: "ثم شهادة" بالرفع عطفا على ما قد علمت، وبالجر عطفا على صحبة، ويجوز النصب على أنه مفعول مطلق لفعل محذوف والأول أقوى، وقد وقع في رواية ابن جرير "ثم الشهادة بعد هذا كله". قوله: "لا علي ولا لي" أي سواء بسواء. قوله: "أنقى لثوبك" بالنون ثم القاف للأكثر، وبالموحدة بدل النون للكشميهني، ووقع في رواية المبارك بن فضالة قال ابن عباس: وإن قلت ذلك فجزاك خيرا، أليس قد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعز الله بك الدين والمسلمين إذ يخافون بمكة، فلما أسلمت كان إسلامك عزا، وظهر بك الإسلام، وهاجرت فكانت هجرتك فتحا، ثم لم تغب عن مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم من قتال المشركين، ثم قبض وهو عنك راض، ووازرت الخليفة بعده على منهاج النبي صلى الله عليه وسلم فضربت من أدبر بمن أقبل، ثم قبض الخليفة وهو عنك راض، ثم وليت بخير ما ولى الناس: مصر الله بك الأمصار، وجيا بك الأموال، ونفى بك العدو، وأدخل بك على أهل

(7/65)


بيت من سيوسعهم في دينهم وأرزاقهم، ثم ختم لك بالشهادة، فهنيئا لك. فقال: والله إن المغرور من تغرونه. ثم قال: أتشهد لي يا عبد الله عند الله يوم القيامة، فقال: نعم. فقال: اللهم لك الحمد" وفي رواية مبارك بن فضالة أيضا: "قال الحسن البصري - وذكر له فعل عمر عند موته وخشيته من ربه فقال -: هكذا المؤمن جمع إحسانا وشفقة، والمنافق جمع إساءة وعزة. والله ما وجدت إنسانا ازداد إحسانا إلا وجدته ازداد مخافة وشفقة، ولا ازداد إساءة إلا ازداد عزة". قوله: "يا عبد الله بن عمر، انظر ماذا علي من الدين. فحسبوه فوجدوه ستة وثمانين ألفا أو نحوه" في حديث جابر "ثم قال: يا عبد الله، أقسمت عليك بحق الله وحق عمر إذا مت فدفنتني أن لا تغسل رأسك حتى تبيع من رباع آل عمر بثمانين ألفا فتضعها في بيت مال المسلمين، فسأله عبد الرحمن بن عوف، فقال: أنفقتها في حجج حججتها، وفي نوائب كانت تنوبني" وعرف بهذا جهة دين عمر. قال ابن التين: قد علم عمر أنه لا يلزمه غرامة ذلك، إلا أنه أراد أن لا يتعجل من عمله شيء في الدنيا. ووقع في "أخبار المدينة لمحمد بن الحسن بن زبالة" أن دين عمر كان ستة وعشرين ألفا، وبه جزم عياض، الأول هو المعتمد. قوله: "إن وفى له مال آل عمر" كأنه يريد نفسه، ومثله يقع في كلامهم كثيرا، ويحتمل أن يريد رهطه. وقوله: "وإلا فسل في بني عدي بن كعب" هم البطن الذي هو منهم، وقريش قبيلته، وقوله: "لا تعدهم" بسكون العين أي لا تتجاوزهم، وقد أنكر نافع مولى ابن عمر أن يكون على عمر دين، فروى عمر بن شبة في "كتاب المدينة" بإسناد صحيح أن نافعا قال: من أين يكون على عمر دين وقد باع رجل من ورثته ميراثه بمائة ألف؟ انتهى. وهذا لا ينفي أن يكون عند موته عليه دين. فقد يكون الشخص كثير المال ولا يستلزم نفي الدين عنه، فلعل نافعا أنكر أن يكون دينه لم يقض. قوله: "فإني لست اليوم للمؤمنين أميرا" قال ابن التين: إنما قال ذلك عندما أيقن بالموت، إشارة بذلك إلى عائشة حتى لا تحابيه لكونه أمير المؤمنين، وسيأتي في كتاب الأحكام ما يخالف ظاهره ذلك، فيحمل هذا النفي على ما أشار إليه ابن التين أنه أراد أن يعلم أن سؤاله لها بطريق الطلب لا بطريق الأمر. قوله: "ولأوثرنه به اليوم على نفسي" استدل به وباستئذان عمر لها على ذلك أنها كانت تملك البيت، وفيه نظر، بل الواقع أنها كانت تملك منفعته بالسكنى فيه والإسكان ولا يورث عنها، وحكم أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كالمعتدات لأنهن لا يتزوجن بعده صلى الله عليه وسلم وقد تقدم شيء من هذا في أواخر الجسر، وتقدم فيه وجه الجمع بين قول عائشة" لأوثرنه على نفسي" وبين قولها لابن الزبير "لا تدفني عندهم" باحتمال أن تكون ظنت أنه لم يبق هناك وسع ثم تبين لها إمكان ذلك بعد دفن عمر، ويحتمل أن يكون مرادها بقولها "لأوثرنه على نفسي" الإشارة إلى أنها لو أذنت في ذلك لامتنع عليها الدفن هناك لمكان عمر لكونه أجنبيا منها بخلاف أبيها وزوجها، ولا يستلزم ذلك أن لا يكون في المكان سعة أم لا، ولهذا كانت تقول بعد أن دفن عمر" لم أضع ثيابي عني منذ دفن عمر في بيتي" أخرجه ابن سعد وغيره، وروى عنها في حديث لا يثبت أنها استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم إن عاشت بعده أن تدفن إلى جانبه فقال لها: "وأنى لك بذلك وليس في ذلك الموضع إلا قبري وقبر أبي بكر وعمر وعيسى ابن مريم" وفي "أخبار المدينة" من وجه ضعيف عن سعيد بن المسيب قال: "إن قبور الثلاثة في صفة بيت عائشة، وهناك موضع قبر يدفن فيه عيسى عليه السلام". قوله: "ارفعوني" أي من الأرض، كأنه كان مضطجعا فأمرهم أن يقعدوه. قوله: "فأسنده رجل إليه" لم أقف على اسمه، ويحتمل أنه ابن عباس ويؤيده ما في رواية المبارك أن ابن عباس لما فرغ من الثناء عليه قال: "فقال له

(7/66)


عمر: ألصق خدي بالأرض يا عبد الله بن عمر، قال ابن عباس: فوضعته من فخذي على ساقي فقال: ألصق خدي بالأرض، فوضعته حتى وضع لحيته وخده بالأرض فقال: ويلك عمر إن لم يغفر الله لك". قوله: "ما كان شيء أهم إلي من ذلك" وقوله: "إذا مت فاستأذن"(1) ذكر ابن سعد عن معن بن عيسى عن مالك أن عمر كان يخشى أن تكون أذنت في حياته حياء منه وأن ترجع عن ذلك بعد موته، فأراد أن لا يكرهها على ذلك، وقد تقدم ما فيه في أواخر الجنائز. قوله: "وجاءت أم المؤمنين حفصة" أي بنت عمر. قوله: "فولجت عليه" أي دخلت على عمر فمكثت. وفي رواية الكشميهني: "فبكت" وذكر ابن سعد بإسناد صحيح عن المقدام بن معد يكرب أنها قالت: "يا صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يا صهر رسول الله، يا أمير المؤمنين. فقال عمر: لا صبر لي على ما أسمع، أحرج عليك بمالي عليك من الحق أن تندبينني بعد مجلسك هذا، فأما عينيك فلن أملكهما". قوله: "فولجت داخلا لهم" أي مدخلا كان في الدار. قوله: "فقالوا: أوص يا أمير المؤمنين، استخلف" سيأتي في الأحكام ما يدل على أن الذي قال له ذلك هو عبد الله بن عمر، وروى ابن شبة بإسناد فيه انقطاع أن أسلم مولى عمر قال لعمر حين وقف لم يول أحدا بعده "يا أمير المؤمنين، ما يمنعك أن تصنع كما صنع أبو بكر" ويحتمل أن يكون ذلك قبل أن يطعنه أبو لؤلؤة، فقد روى مسلم من طريق معدان بن أبي طلحة أن عمر قال في خطبته قبل أن يطعن "إن أقواما يأمرونني أن أستخلف". قوله: "من هؤلاء النفر أو الرهط" شك من الراوي. قوله: "فسمى عليا وعثمان إلخ" وقع عند ابن سعد من رواية ابن عمر أنه ذكر عبد الرحمن بن عوف وعثمان وعليا، وفيه: "قلت لسالم أبدأ بعبد الرحمن بن عوف قبلهما؟ قال: نعم" فدل هذا على أن الرواة تصرفوا لأن الواو لا ترتب، واقتصار عمر على الستة من العشرة لا إشكال فيه لأنه منهم، وكذلك أبو بكر ومنهم أبو عبيدة وقد مات قبل ذلك، أما سعيد بن زيد فهو ابن عم عمر فلم يسمه عمر فيهم مبالغة في التبري من الأمر، وقد صرح في رواية المدايني بأسانيده أن عمر عد سعيد بن زيد فيمن توفي النبي صلى الله عليه وسلم وهو عنه راض، إلا أنه استثناه من أهل الشورى لقرابته منه، وقد صرح بذلك المدايني بأسانيده قال: "فقال عمر: لا أرب لي في أموركم فأرغب فيها لأحد من أهلي". قوله: "وقال: يشهدكم عبد الله بن عمر" ووقع في رواية الطبري من طريق المدايني بأسانيده قال: "فقال له رجل: استخلف عبد الله بن عمر، قال: والله ما أردت الله بهذا" وأخرج ابن سعد بسند صحيح من مرسل إبراهيم النخعي نحوه قال: "فقال عمر: قاتلك الله، والله ما أردت الله بهذا، أستخلف من لم يحسن أن يطلق امرأته". قوله: "كهيئة التعزية له" أي لابن عمر، لأنه لما أخرجه من أهل الشورى في الخلافة أراد جبر خاطره بأن جعله من أهل المشاورة في ذلك. وزعم الكرماني أن قوله: "كهيئة التعزية له" من كلام الراوي لا من كلام عمر، فلم أعرف من أين تهيأ له الجزم بذلك مع الاحتمال. وذكر المدايني أن عمر قال لهم: "إذا اجتمع ثلاثة على رأي فحكموا عبد الله بن عمر، فإن لم ترضوا بحكمه فقدموا من معه عبد الرحمن بن عوف". قوله: "فإن أصابت الإمرة" بكسر الهمزة، وللكشميهني الإمارة "سعدا" يعني ابن أبي وقاص، وزاد المدايني" وما أظن أن يلي هذا الأمر إلا علي أو عثمان فإن ولي عثمان فرجل فيه لين، وإن ولي علي فستختلف عليه الناس، وإن ولي سعد وإلا فليستعن
ـــــــ
(1) في هامش طبعة بولاق" هكذا في نسخ الصرح، ولعله رواية له". والذى تقدم في المتن" فاذا أنا قضيت فاحملونى،ثم سلم: يستاذن عمر"

(7/67)


به الوالي". ثم قال لأبي طلحة: إن الله قد نصر بكم الإسلام، فاختر خمسين رجلا من الأنصار، واستحث هؤلاء الرهط حتى يختاروا رجلا منهم. قوله: "وقال: أوصي الخليفة من بعدي" في رواية أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون" فقال ادعوا لي عليا وعثمان وعبد الرحمن وسعدا والزبير، وكان طلحة غائبا" قال فلم يكلم أحدا منهم غير عثمان وعلي فقال: "يا علي، لعل هؤلاء القوم يعلمون لك حقك وقرابتك من رسول الله وصهرك وما آتاك الله من الفقه والعلم فإن وليت هذا الأمر فاتق الله فيه". ثم دعا عثمان فقال: يا عثمان" فذكر له نحو ذلك. ووقع في رواية إسرائيل عن أبي إسحاق في قصة عثمان" فإن ولوك هذا الأمر فاتق الله فيه ولا تحملن بني أبي معيط على رقاب الناس" ثم قال: "ادعوا لي صهيبا" فدعي له فقال: "صل بالناس ثلاث. وليحل هؤلاء القوم في بيت، فإذا اجتمعوا على رجل فمن خالف فاضربوا عنقه" فلما خرجوا من عنه قال: "إن تولوها الأجلح يسلك بهم الطريق. فقال له ابنه: ما يمنعك يا أمير المؤمنين منه؟ قال: أكره أن أتحملها حيا وميتا" وقد اشتمل هذا الفصل على فوائد عديدة، وله شاهد من حديث ابن عمر أخرجه ابن سعد بإسناد صحيح قال: "دخل الرهط على عمر، فنظر إليهم فقال: إني قد نظرت في أمر الناس فلم أجد عند الناس شقاقا، فإن كان فهو فيكم، وإنما الأمر إليكم - وكان طلحة يومئذ غائبا في أمواله - قال: فإن كان قومكم لا يؤمرون إلا لأحد الثلاثة عبد الرحمن بن عوف وعثمان وعلي فمن ولي منكم فلا يحمل قرابته على رقاب الناس، قوموا فتشاوروا" ثم قال عمر: "أمهلوا فإن حدث لي حدث فليصل لكم صهيب ثلاثا فمن تأمر منكم على غير مشورة من المسلمين فاضربوا عنقه". قوله: "بالمهاجرين الأولين" هم من صلى إلى القبلتين، وقيل: من شهد بيعة الرضوان، والأنصار سيأتي ذكرهم في باب مفرد. وقوله: {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ} أي سكنوا المدينة قبل الهجرة، وقوله: {وَالْأِيمَانَ} ادعى بعضهم أنه من أسماء المدينة وهو بعيد، والراجح أنه ضمن"تبوءوا" معنى لزم أو عامل نصبه محذوف وتقديره واعتقدوا، أو أن الإيمان لشدة ثبوته في قلوبهم كأنه أحاط بهم وكأنهم نزلوه، والله أعلم. قوله: "فإنهم ردء الإسلام" أي عون الإسلام الذي يدفع عنه "وغيظ العدو" أي يغيظون العدو بكثرتهم وقوتهم. قوله: "وأن لا يؤخذ منهم إلا فضلهم عن رضاهم" أي إلا ما فضل عنهم، في رواية الكشميهني: "ويؤخذ منهم" والأول هو الصواب. قوله: "من حواشي أموالهم" أي التي ليست بخيار، والمراد بذمة الله أهل الذمة، والمراد بالقتال من ورائهم أي إذا قصدهم عدو لهم. وقد استوفى عمر في وصيته جميع الطوائف لأن الناس إما مسلم وإما كافر، فالكافر إما حربي ولا يوصى به وإما ذمي وقد ذكره، والمسلم إما مهاجري وإما أنصاري أو غيرهما، وكلهم إما بدوي وإما حضري، وقد بين الجميع. ووقع في رواية المدايني من الزيادة "وأحسنوا مؤازرة من يلي أمركم وأعينوه وأدوا إليه الأمانة". وقوله: "ولا يكلفوا إلا طاقتهم" أي من الجزية. قوله: "فانطلقنا" في رواية الكشميهني: "فانقلبنا أي رجعنا". قوله: "فوضع هنالك مع صاحبيه" اختلف في صفة القبور المكرمة الثلاثة، فالأكثر على أن قبر أبي بكر وراء قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقبر عمر وراء قبر أبي بكر. وقيل: إن قبره صلى الله عليه وسلم مقدم إلى القبلة، وقبر أبي بكر حذاء منكبيه. وقبر عمر حذاء منكبي أبي بكر. وقيل: قبر أبي بكر عند رأس النبي صلى الله عليه وسلم وقبر عمر عند رجليه. وقيل: قبر أبي بكر عند رجلي النبي صلى الله عليه وسلم، وقبر عمر عند رجلي أبي بكر. وقيل: غير ذلك كما تقدم بيانه وذكر أدلته في أواخر كتاب الجنائز. قوله: "فقال عبد الرحمن" هو ابن عوف.قوله: "اجعلوا أمركم إلى ثلاثة" أي في الاختيار ليقل الاختلاف، كذا قال ابن التين وفيه نظر، وصرح المدايني في روايته بخلاف ما قاله.

(7/68)


قوله: "فقال طلحة: قد جعلت أمري" فيه دلالة على أنه حضر، وقد تقدم أنه كان غائبا عند وصية عمر، ويحتمل أنه حضر بعد أن مات وقيل أن يتم أمر الشورى، وهذا أصح مما رواه المدايني أنه لم يحضر إلا بعد أن بويع عثمان. قوله: "والله عليه والإسلام(1)" بالرفع فيهما والخبر محذوف أي عليه رقيب أو نحو ذلك. قوله: "لينظرن أفضلهم في نفسه" أي معتقده، زاد المدايني في رواية: "فقال عثمان: أنا أول من رضي. وقال علي: أعطني موثقا لتؤثرن الحق ولا تخصن ذا رحم، قال نعم. ثم قال أعطوني مواثيقكم أن تكونوا معي على من خالف". قوله: "فأسكت" بضم الهمزة وكسر الكاف كأن مسكتا أسكتهما، ويجوز فتح الهمزة والكاف وهو بمعنى سكت، والمراد بالشيخين علي وعثمان. قوله: "فأخذ بيد أحدهما" هو علي وبقية الكلام يدل عليه، ووقع مصرحا به في رواية ابن فضيل عن حصين. قوله: "والقدم" بكسر القاف وفتحها وقد تقدم، زاد المدايني أنه قال له "أرأيت لو صرف هذا الأمر عنك فلم تحضر من كنت ترى أحق بها من هؤلاء الرهط؟ قال: عثمان". قوله: "ما قد علمت" صفة أو بدل عن القدم. قوله: "ثم خلا بالآخر فقال له مثل ذلك" زاد المدايني أنه قال له كما قال لعلي فقال علي وزاد فيه أن سعدا أشار عليه بعثمان، وأنه دار تلك الليالي كلها على الصحابة ومن وافى المدينة من أشراف الناس لا يخلو برجل منهم إلا أمره بعثمان. وقد أورد المصنف قصة الشورى في كتاب الأحكام من رواية حميد بن عوف عن المسور بن مخرمة وساقها نحو هذا وأتم مما هنا، وسأذكر شرح ما فيها هناك إن شاء الله تعالى. وفي قصة عمر هذه من الفوائد شفقته على المسلمين، ونصيحته لهم، وإقامته السنة فيهم، وشدة خوفه من ربه، واهتمامه بأمر الدين أكثر من اهتمامه بأمر نفسه، وأن النهي عن المدح في الوجه مخصوص بما إذا كان غلو مفرط أو كذب ظاهر، ومن ثم لم ينه عمر الشاب عن مدحه له مع كونه أمره بتشمير إزاره، والوصية بأداء الدين، والاعتناء بالدفن عند أهل الخير والمشورة في نصب الإمام وتقديم الأفضل، وأن الإمامة تنعقد بالبيعة وغير ذلك مما هو ظاهر بالتأمل، والله الموفق. وقال ابن بطال: فيه دليل على جواز تولية المفضول على الأفضل منه لأن ذلك لو لم يجز لم يجعل الأمر شورى إلى ستة أنفس مع علمه أن بعضهم أفضل من بعض، قال: ويدل على ذلك أيضا قول أبي بكر: "قد رضيت لكم أحد الرجلين عمر وأبي عبيدة" مع علمه بأنه أفضل منهما. وقد استشكل جعل عمر الخلافة في ستة ووكل ذلك إلى اجتهادهم، ولم يصنع ما صنع أبو بكر في اجتهاده فيه، لأنه إن كان لا يرى جواز ولاية المفضول على الفاضل فصنيعه يدل على أن من عدا الستة كان عنده مفضولا بالنسبة إليهم، وإذا عرف ذلك فلم يخف عليه أفضلية بعض الستة على بعض، وإن كان يرى جواز ولاية المفضول على الفاضل فمن ولاه منهم أو من غيرهم كان ممكنا، والجواب عن الأول يدخل فيه الجواب عن الثاني وهو أنه تعارض عنده صنيع النبي صلى الله عليه وسلم حيث لم يصرح باستخلاف شخص بعينه وصنيع أبي بكر حيث صرح، فتلك طريق تجمع التنصيص وعدم التعيين، وإن شئت قل تجمع الاستخلاف وترك تعيين الخليفة وقد أشار بذلك إلى قوله: "لا أتقلدها حيا وميتا" لأن الذي يقع ممن يستخلف بهذه الكيفية إنما ينسب إليه بطريق الإجمال لا بطريق التفصيل، فعينهم ومكنهم من المشاورة في ذلك والمناظرة فيه لتقع ولاية من يتولى بعده عن اتفاق من معظم الموجودين حينئذ ببلده التي هي دار الهجرة وبها معظم الصحابة، وكل من كان ساكنا غيرهم في بلد غيرها كان تبعا لهم فيما يتفقون عليه.
ـــــــ
(1)الذى تقدم في المتن "والله عليه وكذا الاسلام"

(7/69)


9-باب مَنَاقِبِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ الْقُرَشِيِّ الْهَاشِمِيِّ أَبِي الْحَسَنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
وقال النبي صلي الله عليه وسلم لعلي "أنت مني وأنا منك" وقال عمر "توفي رسول الله صلي الله عليه وسلم وهو عنه راض"
3701-حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لاَعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلًا يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ قَالَ فَبَاتَ النَّاسُ يَدُوكُونَ لَيْلَتَهُمْ أَيُّهُمْ يُعْطَاهَا فَلَمَّا أَصْبَحَ النَّاسُ غَدَوْا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّهُمْ يَرْجُو أَنْ يُعْطَاهَا فَقَالَ أَيْنَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَقَالُوا يَشْتَكِي عَيْنَيْهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ فَأَرْسِلُوا إِلَيْهِ فَأْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَ بَصَقَ فِي عَيْنَيْهِ وَدَعَا لَهُ فَبَرَأَ حَتَّى كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ وَجَعٌ فَأَعْطَاهُ الرَّايَةَ فَقَالَ عَلِيٌّ يَا رَسُولَ اللَّهِ أُقَاتِلُهُمْ حَتَّى يَكُونُوا مِثْلَنَا فَقَالَ انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإِسْلاَمِ وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ حَقِّ اللَّهِ فِيهِ فَوَاللَّهِ لاَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ"
3702-حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا حَاتِمٌ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ قَالَ كَانَ عَلِيٌّ قَدْ تَخَلَّفَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خَيْبَرَ وَكَانَ بِهِ رَمَدٌ فَقَالَ أَنَا أَتَخَلَّفُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَخَرَجَ عَلِيٌّ فَلَحِقَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا كَانَ مَسَاءُ اللَّيْلَةِ الَّتِي فَتَحَهَا اللَّهُ فِي صَبَاحِهَا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لاَعْطِيَنَّ الرَّايَةَ أَوْ لَيَأْخُذَنَّ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلًا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَوْ قَالَ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَيْهِ فَإِذَا نَحْنُ بِعَلِيٍّ وَمَا نَرْجُوهُ فَقَالُوا هَذَا عَلِيٌّ فَأَعْطَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّايَةَ فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ"
3703-حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِيهِ "أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ فَقَالَ هَذَا فُلاَنٌ لِأَمِيرِ الْمَدِينَةِ يَدْعُو عَلِيًّا عِنْدَ الْمِنْبَرِ قَالَ فَيَقُولُ مَاذَا قَالَ يَقُولُ لَهُ أَبُو تُرَابٍ" فَضَحِكَ قَالَ وَاللَّهِ مَا سَمَّاهُ إِلاَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا كَانَ لَهُ اسْمٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْهُ فَاسْتَطْعَمْتُ الْحَدِيثَ سَهْلًا وَقُلْتُ يَا أَبَا عَبَّاسٍ كَيْفَ ذَلِكَ" قَالَ دَخَلَ عَلِيٌّ عَلَى فَاطِمَةَ ثُمَّ خَرَجَ فَاضْطَجَعَ فِي الْمَسْجِدِ، فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَيْنَ ابْنُ عَمِّكِ قَالَتْ فِي الْمَسْجِدِ فَخَرَجَ إِلَيْهِ فَوَجَدَ رِدَاءَهُ قَدْ سَقَطَ عَنْ ظَهْرِهِ وَخَلَصَ التُّرَابُ إِلَى ظَهْرِهِ فَجَعَلَ يَمْسَحُ التُّرَابَ عَنْ ظَهْرِهِ فَيَقُولُ: اجْلِسْ يَا أَبَا تُرَابٍ مَرَّتَيْنِ"
3704-حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ عَنْ زَائِدَةَ عَنْ أَبِي حَصِينٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ عُمَرَ فَسَأَلَهُ عَنْ عُثْمَانَ فَذَكَرَ عَنْ مَحَاسِنِ عَمَلِهِ قَالَ لَعَلَّ ذَاكَ يَسُوءُكَ؟ قَالَ نَعَمْ قَال: فَأَرْغَمَ

(7/70)


اللَّهُ بِأَنْفِكَ ثُمَّ سَأَلَهُ عَنْ عَلِيٍّ فَذَكَرَ مَحَاسِنَ عَمَلِهِ قَالَ: هُوَ ذَاكَ، بَيْتُهُ أَوْسَطُ بُيُوتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ لَعَلَّ ذَاكَ يَسُوءُكَ؟ قَالَ أَجَلْ قَالَ فَأَرْغَمَ اللَّهُ بِأَنْفِكَ انْطَلِقْ فَاجْهَدْ عَلَيَّ جَهْدَكَ"
3705-حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الْحَكَمِ سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي لَيْلَى قَالَ حَدَّثَنَا عَلِيٌّ أَنَّ فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلاَم شَكَتْ مَا تَلْقَى مِنْ أَثَرِ الرَّحَا فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْيٌ فَانْطَلَقَتْ فَلَمْ تَجِدْهُ فَوَجَدَتْ عَائِشَةَ فَأَخْبَرَتْهَا فَلَمَّا جَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَتْهُ عَائِشَةُ بِمَجِيءِ فَاطِمَةَ فَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْنَا وَقَدْ أَخَذْنَا مَضَاجِعَنَا فَذَهَبْتُ لِأَقُومَ فَقَالَ عَلَى مَكَانِكُمَا فَقَعَدَ بَيْنَنَا حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ قَدَمَيْهِ عَلَى صَدْرِي وَقَالَ: أَلاَ أُعَلِّمُكُمَا خَيْرًا مِمَّا سَأَلْتُمَانِي إِذَا أَخَذْتُمَا مَضَاجِعَكُمَا تُكَبِّرَا أَرْبَعًا وَثَلاَثِينَ، وَتُسَبِّحَا ثَلاَثًا ،وَثَلاَثِينَ، وَتَحْمَدَا ثَلاَثً،ا وَثَلاَثِينَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمَا مِنْ خَادِمٍ"
3706-حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سَعْدٍ قَالَ: سَمِعْتُ إِبْرَاهِيمَ بْنَ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لِعَلِيٍّ: أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى" ؟
[الحديث 3706-طرفه في 4416]
3707-حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ عَبِيدَةَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "اقْضُوا كَمَا كُنْتُمْ تَقْضُونَ فَإِنِّي أَكْرَهُ الِاخْتِلاَفَ، حَتَّى يَكُونَ لِلنَّاسِ جَمَاعَةٌ أَوْ أَمُوتَ كَمَا مَاتَ أَصْحَابِي. فَكَانَ ابْنُ سِيرِينَ يَرَى أَنَّ عَامَّةَ مَا يُرْوَى عَنْ عَلِيٍّ الْكَذِبُ"
(قوله: "باب مناقب علي بن أبي طالب) أي ابن عبد المطلب (القرشي الهاشمي أبي الحسن)وهو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم شقيق أبيه واسمه عبد مناف على الصحيح.ولد قبل البعثة بعشر سنين على الراجح وكان قد رباه النبي صلى الله عليه وسلم من صغره لقصة مذكورة في السيرة النبوية، فلازمه من صغره فلم يفارقه إلى أن مات.وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم، وكانت ابنة عمة أبيه وهي أول هاشمية ولدت لهاشمي، وقد أسلمت وصحبت وماتت في حياة النبي صلى الله عليه وسلم قال أحمد وإسماعيل القاضي والنسائي وأبو علي النيسابوري لم يرد في حق أحد من الصحابة بالأسانيد الجياد أكثر مما جاء في علي وكأن السبب في ذلك أنه تأخر، ووقع الاختلاف في زمانه وخروج من خرج عليه، فكان ذلك سببا لانتشار مناقبه من كثرة من كان بينها من الصحابة ردا على من خالفه، فكان الناس طائفتين، لكن المبتدعة قليلة جدا.ثم كان من أمر علي ما كان فنجمت طائفة أخرى حاربوه، ثم اشتد الخطب فتنقصوه واتخذوا لعنه على المنابر سنة، ووافقهم الخوارج على بغضه وزادوا حتى كفروه، مضموما ذلك منهم إلى عثمان، فصار الناس في حق علي ثلاثة: أهل السنة والمبتدعة من الخوارج والمحاربين له من بني أمية وأتباعهم، فاحتاج أهل السنة إلى بث فضائله فكثر الناقل لذلك لكثرة من يخالف ذلك، وإلا فالذي في نفس الأمر أن لكل من الأربعة من الفضائل إذا حرر بميزان العدل لا يخرج عن قول أهل السنة والجماعة أصلا.وروى يعقوب بن سفيان بإسناد صحيح عن عروة قال: "أسلم

(7/71)


علي وهو ابن ثمان سنين" وقال ابن إسحاق "عشر سنين" وهذا أرجحها، وقيل غير ذلك.وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أنت مني وأنا منك" هو طرف من حديث البراء بن عازب في قصة بنت حمزة، وقد وصله المصنف في الصلح وفي عمرة القضاء مطولا، ويأتي شرحه في المغازي مستوفى إن شاء الله تعالى.وقال عمر: "توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنه راض" تقدم ذلك في الحديث الذي قبله موصولا، وكانت بيعة علي بالخلافة عقب قتل عثمان في أوائل ذي الحجة سنة خمس وثلاثين، فبايعه المهاجرون والأنصار وكل من حضر، وكتب بيعته إلى الآفاق فأذعنوا كلهم إلا معاوية في أهل الشام فكان بينهم بعدما حديث سلمة بن الأكوع في المعنى سيأتي شرحه في المغازي.
وقوله: في الحديثين: "إن عليا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله" أراد بذلك وجود حقيقة المحبة، وإلا فكل مسلم يشترك مع علي في مطلق هذه الصفة.وفي الحديث تلميح بقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} فكأنه أشار إلى أن عليا تام الاتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اتصف بصفة محبة الله له، ولهذا كانت محبته علامة الإيمان وبغضه علامة النفاق كما أخرجه مسلم من حديث علي نفسه قال: "والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إنه لعهد النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق" وله شاهد من حديث أم سلمة عند أحمد.قوله: "عن أبيه" هو أبو حازم سلمة بن دينار.قوله: "إن رجلا جاء إلى سهل بن سعد" لم أقف على اسمه.قوله: "هذا فلان لأمير المدينة" أي عنى أمير المدينة، وفلان المذكور لم أقف على اسمه صريحا، ووقع عند الإسماعيلي: "هذا فكان فلان ابن فلان".قوله: "يدعو عليا عند المنبر، قال فيقول ماذا" في رواية الطبراني من وجه آخر عن عبد العزيز بن أبي حازم" يدعوك لتسب عليا".قوله: "والله ما سماه إلا النبي صلى الله عليه وسلم" يعني أبا تراب. قوله: "فاستطعمت الحديث سهلا" أي سألته أن يحدثني، واستعار الاستطعام للكلام لجامع ما بينهما من الذوق للطعام الذوق الحسي وللكلام الذوق المعنوي.وفي رواية الإسماعيلي: "فقلت يا أبا عباس كيف كان أمره".قوله: "أين ابن عمك؟ قالت: في المسجد" في رواية الطبراني كان بيني وبينه شيء فغاضبني. قوله: "وخلص التراب إلى ظهره" أي وصل، في رواية الإسماعيلي: "حتى تخلص ظهره إلى التراب" وكان نام أولا على مكان لا تراب فيه ثم تقلب فصار ظهره على التراب أو سفى عليه التراب.قوله: "اجلس يا أبا تراب.مرتين" ظاهره أن ذلك أول ما قال له ذلك، وروى ابن إسحاق من طريقه وأحمد من حديث عمار بن ياسر قال: "نمت أنا وعلي في غزوة العسيرة في نخل فما أفقنا إلا بالنبي صلى الله عليه وسلم يحركنا برجله يقول لعلي: قم يا أبا تراب لما يرى عليه من التراب" وهذا إن ثبت حمل على أنه خاطبه بذلك في هذه الكائنة الأخرى.ويروى من حديث ابن عباس أن سبب غضب علي كان لما آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه ولم يؤاخ بينه وبين أحد فذهب إلى المسجد، فذكر القصة وقال في آخرها" قم فأنت أخي" أخرجه الطبراني، وعند ابن عساكر نحوه من حديث جابر بن سمرة، وحديث الباب أصح، ويمتنع الجمع بينهما لأن قصة المؤاخاة كانت أول ما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وتزويج علي بفاطمة ودخوله عليها كان بعد ذلك بمدة والله أعلم.حديث ابن عمر.قوله: "حدثنا حسين" هو ابن علي الجعفي، وأبو حصين بفتح أوله والمهملتين، وسعد بن عبيدة بضم العين.قوله: "جاء رجل إلى ابن عمر" تقدم في مناقب عثمان.قوله: "فذكر عن محاسن عمله" كأنه ضمن ذكر معنى أخبر فعداها بعن.وفي رواية الإسماعيلي: "فذكر أحسن عمله" وكأنه ذكر له إنفاقه في جيش

(7/72)


أي ابن أبي وقاص.قوله: "قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لعلي" بين سعد سبب ذلك من وجه آخر أخرجه المصنف في غزوة تبوك من آخر المغازي، وسيأتي بيان ذلك هناك إن شاء الله تعالى.قوله: "أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى" أي نازلا مني منزلة هارون من موسى، والباء زائدة.وفي رواية سعيد بن المسيب عن سعد فقال علي: "رضيت رضيت" أخرجه أحمد، ولابن سعد من حديث البراء وزيد بن أرقم في نحو هذه القصة" قال: بلى يا رسول الله، قال: فإنه كذلك" وفي أول حديثهما أنه عليه الصلاة والسلام قال لعلي" لا بد أن أقيم أو تقيم، فأقام علي فسمع ناسا يقولون: إنما خلفه لشيء كرهه منه، فاتبعه فذكر له ذلك، فقال له الحديث، وإسناده قوي.ووقع في رواية عامر بن سعد بن أبي وقاص عند مسلم والترمذي قال: قال معاوية لسعد: "ما منعك أن تسب أبا تراب؟ قال أما ما ذكرت ثلاثا قالهن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فلن أسبه" فذكر هذا الحديث وقوله: "لأعطين الراية رجلا يحبه الله ورسوله وقوله: "لما نزلت: {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ} دعا عليا وفاطمة والحسن والحسين فقال: اللهم هؤلاء أهلي" وعند أبي يعلى عن سعد من وجه آخر لا بأس به قال لو وضع المنشار على مفرقي على أن أسب عليا ما سببته أبدا وهذا الحديث أعني حديث الباب دون الزيادة روي عن النبي صلى الله عليه وسلم عن غير سعد من حديث عمر وعلي نفسه وأبي هريرة وابن عباس وجابر بن عبد الله والبراء وزيد بن أرقم وأبي سعيد وأنس وجابر بن سمرة وحبشي بن جنادة ومعاوية وأسماء بنت عميس وغيرهم، وقد استوعب طرقه ابن عساكر في ترجمة علي.وقريب من هذا الحديث في المعنى حديث جابر بن سمرة قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لعلي: من أشقى الأولين؟ قال: عاقر الناقة، قال: فمن أشقى الآخرين؟ قال: الله ورسوله أعلم.قال: قاتلك" أخرجه الطبراني وله شاهد من حديث عمار بن ياسر عند أحمد، ومن حديث صهيب عند الطبراني، وعن علي نفسه عند أبي يعلى بإسناد لين، وعند البزار بإسناد جيد، واستدل بحديث الباب على استحقاق علي للخلافة دون غيره من الصحابة، فإن هارون كان خليفة موسى، وأجيب بأن هارون لم يكن خليفة موسى إلا في حياته لا بعد موته لأنه مات قبل موسى باتفاق، أشار إلى ذلك الخطابي وقال الطيبي: معنى الحديث أنه متصل بي نازل مني منزلة هارون من موسى، وفيه تشبيه مبهم بينه بقوله: "إلا أنه لا نبي بعدي" فعرف أن الاتصال المذكور بينهما ليس من جهة النبوة بل من جهة ما دونها وهو الخلافة، ولما كان هارون المشبه به إنما كان خليفة في حياة موسى دل ذلك على تخصيص خلافة علي للنبي صلى الله عليه وسلم بحياته والله أعلم وقد أخرج المصنف من مناقب علي أشياء في غير هذا الموضع، منها حديث عمر "علي أقضانا" وسيأتي في تفسير البقرة.وله شاهد صحيح من حديث ابن مسعود عند الحاكم، ومنها حديث قتاله البغاة وهو حديث أبي سعيد "تقتل عمارا الفئة الباغية" وكان عمار مع علي، وقد تقدمت الإشارة إلى الحديث المذكور في الصلاة.ومنها حديث قتاله الخوارج وقد تقدم من حديث أبي سعيد في علامات النبوة، وغير ذلك مما يعرف بالتتبع، وأوعب من جمع مناقبه من الأحاديث الجياد النسائي في كتاب "الخصائص" وأما حديث: "من كنت مولاه فعلي مولاه" فقد أخرجه الترمذي والنسائي، وهو كثير الطرق جدا، وقد استوعبها ابن عقدة في كتاب مفرد، وكثير من أسانيدها صحاح وحسان، وقد روينا عن الإمام أحمد قال: ما بلغنا عن أحد من الصحابة ما بلغنا عن علي بن أبي طالب."تنبيه": وقع حديث سعد مؤخرا عن حديث علي في رواية أبي ذر ومقدما عليه في رواية الباقين، والخطب في ذلك قريب، والله أعلم.

(7/74)


10- - باب مَنَاقِبِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ الْهَاشِمِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
وَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَشْبَهْتَ خَلْقِي وَخُلُقِي"
3708-حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ دِينَارٍ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْجُهَنِيُّ عَنْ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ" أَنَّ النَّاسَ كَانُوا يَقُولُونَ: أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَإِنِّي كُنْتُ أَلْزَمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشِبَعِ بَطْنِي حَتَّى لاَ آكُلُ الْخَمِيرَ وَلاَ أَلْبَسُ الْحَبِيرَ وَلاَ يَخْدُمُنِي فُلاَنٌ وَلاَ فُلاَنَةُ وَكُنْتُ أُلْصِقُ بَطْنِي بِالْحَصْبَاءِ مِنْ الْجُوعِ وَإِنْ كُنْتُ لاَسْتَقْرِئُ الرَّجُلَ الْآيَةَ هِيَ مَعِي كَيْ يَنْقَلِبَ بِي فَيُطْعِمَنِي وَكَانَ أَخْيَرَ النَّاسِ لِلْمِسْكِينِ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: كَانَ يَنْقَلِبُ بِنَا فَيُطْعِمُنَا مَا كَانَ فِي بَيْتِهِ حَتَّى إِنْ كَانَ لَيُخْرِجُ إِلَيْنَا الْعُكَّةَ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ، فَنَشُقُّهَا فَنَلْعَقُ مَا فِيهَا"
[الحديث 3708- طرفه في: 5432]
3709حدثنا- عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ" أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانَ إِذَا سَلَّمَ عَلَى ابْنِ جَعْفَرٍ :قَالَ السَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا ابْنَ ذِي الْجَنَاحَيْنِ"
قال أبو عبد الله : الجناحان كل ناحيتين
[الحديث3709-طرفه في: 4264]
قوله (باب مناقب جعفر بن أبى طالب الهاشمى )سقطت الأبواب كلها من رواية أب ذر، وأبقى التراجم بغير لفظ"باب" وثبت ذلك في رواية الباقين. وجعفر هو أخو علي شقيقه، وكان أسن منه بعشر سنين، واستشهد بمؤتة كما سيأتي بيان ذلك في المغازي وقد جاوز الأربعين. قوله: "وقال له النبي صلى الله عليه وسلم أشبهت خلقي وخلقي " هو من حديث البراء الذي ذكره في أول مناقب علي، وسيأتي بتمامه مع الكلام عليه في عمرة الحديبية. قوله: "حدثنا أحمد بن أبي بكر" هو أبو مصعب الزهري، والإسناد كله مدنيون، وقد تقدم في كتاب العلم بهذا الإسناد حديث آخر غير هذا فيما يتعلق بسبب كثرة حديث أبي هريرة أيضا. قوله: "أن الناس كانوا يقولون أكثر أبو هريرة" أي من الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد تقدم مثله في العلم عن أبي هريرة من طريق أخرى لكنه أجاب بأنه "لولا آية من كتاب الله ما حدثت" وأشار بذلك إلى مثل قول ابن عمر لما ذكر له أنه يروى في حديث: "من صلى على جنازة فله قيراط ": أكثر أبو هريرة، وقد تقدم بيان ذلك في كتاب الجنائز، واعتراف ابن عمر بعد ذلك له بالحفظ. وروى البخاري في"التاريخ" وأبو يعلى بإسناد حسن من طريق مالك بن أبي عامر قال: "كنت عند طلحة بن عبيد الله، فقيل له: ما ندري هذا اليماني أعلم برسول الله منكم، أو هو يقول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل؟ قال فقال: والله ما نشك أنه سمع ما لم نسمع، وعلم ما لم نعلم، إنا كنا أقواما لنا بيوتات وأهلون، وكنا نأتي النبي صلى الله عليه وسلم طرفي النهار ثم نرجع، وكان أبو هريرة مسكينا لا مال له ولا أهل، إنما كانت يده مع يد النبي صلى الله عليه وسلم، فكان يدور معه حيثما دار،

(7/75)


فما نشك أنه قد سمع ما لم نسمع" وروى البيهقي في مدخله من طريق أشعث عن مولى لطلحة قال: "كان أبو هريرة جالسا، فمر رجل بطلحة فقال له: لقد أكثر أبو هريرة، فقال طلحة: قد سمعنا كما سمع، ولكنه حفظ ونسينا".وأخرج ابن سعد في "باب أهل العلم والفتوى من الصحابة" في طبقاته بإسناد صحيح عن سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص قال: "قالت عائشة لأبي هريرة: إنك لتحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثا ما سمعته منه، قال: شغلك عنه يا أمه المرآة والمكحلة، وما كان يشغلني عنه شيء".قوله: "بشبع بطني" في رواية الكشميهني: "شبع" أي لأجل الشبع.قوله: "حين لا آكل" في رواية الكشميهني: "حتى" والأول أوجه.قوله: "ولا ألبس الحبير" بالموحدة قبلها مهملة مفتوحة، وللكشميهني: "الحرير" والأول أرجح، والحبير من البرد ما كان موشى مخططا، يقال برد حبير وبرد حبرة بوزن عنبة على الوصف والإضافة.قوله: "لأستقرئ الرجل" أي أطلب منه القرى فيظن أني أطلب منه القراءة، ووقع بيان ذلك في رواية لأبي نعيم في "الحلية" عن أبي هريرة أنه وجد عمر فقال أقريني، فظن أنه من القراءة فأخذ يقرئه القرآن ولم يطعمه، قال: وإنما أردت منه الطعام.قوله: "كي ينقلب بي" أي يرجع بي إلى منزله، وللترمذي من طريق ضعيفة عن أبي هريرة" إن كنت لأسأل الرجل عن الآية أنا أعلم بها منه، ما أسأله إلا ليطعمني شيئا" وفي رواية الترمذي "وكنت إذا سألت جعفر بن أبي طالب لم يجبني حتى يذهب بي إلى منزله".قوله: "وكان أخير" بوزن أفضل ومعناه، وللكشميهني خير.قوله: "للمساكين" في رواية الكشميهني بالإفراد والمراد الجنس، وهذا التقييد يحمل عليه المطلق الذي جاء عن عكرمة عن أبي هريرة وقال: "ما احتذى النعال ولا ركب المطايا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من جعفر بن أبي طالب" أخرجه الترمذي والحاكم بإسناد صحيح.قوله: "العكة" بضم المهملة وتشديد الكاف: ظرف السمن، وقوله: "ليس فيها شيء" مع قوله: "فنلعق ما فيها" لا تنافي بينهما، لأنه أراد بالنفي أي لا شيء فيها يمكن إخراجه منها بغير قطعها، وبالإثبات ما يبقى في جوانبها.وفي رواية الترمذي "ليقول لامرأته أسماء بنت عميس: أطعمينا، فإذا أطعمتنا أجابني، وكان جعفر يحب المساكين ويسكن إليهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكنيه بأبي المساكين" انتهى.وإنما كان يجيبه عن سؤاله مع معرفته بأنه إنما سأله ليطعمه ليجمع بين المصلحتين، ولاحتمال أن يكون السؤال الذي وقع حينئذ وقع منه على الحقيقة. قوله: "أن ابن عمر كان إذا سلم على ابن جعفر" يعني عبد الله بن جعفر بن أبي طالب وقع في رواية الإسماعيلي من طريق هشيم عن إسماعيل بن أبي خالد قال: قلنا للشعبي كان ابن جعفر يقال له: ابن ذي الجناحين؟ قال: نعم، رأيت ابن عمر أتاه يوما أو لقيه فقال: السلام عليك يا ابن ذي الجناحين: "السلام عليك يا ابن ذي الجناحين" كأنه يشير إلى حديث عبد الله بن جعفر قال: "قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم هنيئا لك أبوك يطير مع الملائكة في السماء " أخرجه الطبراني بإسناد حسن، وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "رأيت جعفر بن أبي طالب يطير مع الملائكة" أخرجه الترمذي والحاكم وفي إسناده ضعف، لكن له شاهد من حديث علي عند ابن سعد، وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مر بي جعفر الليلة في ملأ من الملائكة وهو مخضب الجناحين بالدم" أخرجه الترمذي والحاكم بإسناد على شرط مسلم.وأخرج أيضا هو والطبراني عن ابن عباس مرفوعا: "دخلت البارحة الجنة فرأيت فيها جعفرا يطير مع الملائكة" وفي طريق أخرى عنه "أن جعفرا يطير مع جبريل وميكائيل له جناحان عوضه الله من يديه" وإسناد هذه جيد، وطريق أبي هريرة في الثانية قوي إسناده على شرط مسلم، وقد ادعى السهيلي أن الذي يتبادر من ذكر

(7/76)


الجناحين والطيران أنهما كجناحي الطائر لهما ريش، وليس كذلك، وسيأتي بقية القول في ذلك في غزوة مؤتة إن شاء الله تعالى."تنبيه": وقع في رواية النسفي وحده في هذا الموضع" قال أبو عبد الله يعني المصنف: يقال لكل ذي ناحيتين جناحان" ولعله أراد بهذا حمل الجناحين في قول ابن عمر" يا ابن ذي الجناحين" على المعنوي دون الحسي، والله أعلم.

(7/77)


11- باب ذِكْرِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
3710-حدثنا الحسن بن محمد حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري حدثني أبي عبد الله بن المثنى عن ثمامة بن عبد الله بن أنس عن أنس رضي الله عنه "أن عمر بن الخطاب كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب فقال اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا صلى الله عليه وسلم فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم رآه فاسقنا قال فيسقون"
[الحديث 3710-طرفه في:1010]
قوله: "باب ذكر العباس بن عبد المطلب" ذكر فيه حديث أنس "إن عمر كانوا إذا قحطوا استسقى بالعباس" وهذه الترجمة وحديثها سقطا من رواية أبي ذر والنسفي، وقد تقدم الحديث المذكور مع شرحه في الاستسقاء، وكان العباس أسن من النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين أو بثلاث، وكان إسلامه على المشهور قبل فتح مكة، قيل: قبل ذلك، وليس ببعيد، فإن في حديث أنس في قصة الحجاج بن علاط ما يؤيد ذلك.وأما قول أبي رافع في قصة بدر" كأن الإسلام دخل علينا أهل البيت" فلا يدل على إسلام العباس حينئذ فإنه كان ممن أسر يوم بدر وفدى نفسه وعقيلا ابن أخيه أبي طالب كما سيأتي، ولأجل أنه لم يهاجر قبل الفتح لم يدخله عمر في أهل الشورى مع معرفته بفضله واستسقائه به، وسيأتي حديث عائشة في إجلال النبي صلى الله عليه وسلم عمه العباس في آخر المغازي في الوفاة النبوية.وكنية العباس أبو الفضل، ومات العباس في خلافة عثمان سنة اثنتين وثلاثين وله بضع وثمانون سنة.

(7/77)


12- - باب مَنَاقِبِ قَرَابَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَمَنْقَبَةِ فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلاَم بِنْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "فَاطِمَةُ سَيِّدَةُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ"
3711-حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ حَدَّثَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلاَم أَرْسَلَتْ إِلَى أَبِي بَكْرٍ تَسْأَلُهُ مِيرَاثَهَا مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَطْلُبُ صَدَقَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي بِالْمَدِينَةِ وَفَدَكٍ وَمَا بَقِيَ مِنْ خُمُسِ خَيْبَرَ"
3712 فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لاَ نُورَثُ مَا تَرَكْنَا فَهُوَ صَدَقَةٌ إِنَّمَا يَأْكُلُ آلُ مُحَمَّدٍ مِنْ هَذَا الْمَالِ يَعْنِي مَالَ اللَّهِ لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَزِيدُوا عَلَى الْمَأْكَلِ وَإِنِّي وَاللَّهِ لاَ أُغَيِّرُ شَيْئًا مِنْ صَدَقَاتِ رسول

(7/77)


13- باب مَنَاقِبِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ "هُوَ حَوَارِيُّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" وَسُمِّيَ الْحَوَارِيُّونَ لِبَيَاضِ ثِيَابِهِمْ
3717-حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ أَخْبَرَنِي مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ قَالَ "أَصَابَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رُعَافٌ شَدِيدٌ سَنَةَ الرُّعَافِ حَتَّى حَبَسَهُ عَنْ الْحَجِّ وَأَوْصَى فَدَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ قَالَ اسْتَخْلِفْ قَالَ: وَقَالُوهُ قَالَ نَعَمْ قَالَ: وَمَنْ؟ فَسَكَتَ فَدَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ آخَرُ أَحْسِبُهُ الْحَارِثَ فَقَالَ اسْتَخْلِفْ فَقَالَ عُثْمَانُ وَقَالُوا؟ فَقَالَ: نَعَمْ قَالَ وَمَنْ هُوَ فَسَكَتَ قَالَ فَلَعَلَّهُمْ قَالُوا الزُّبَيْرَ قَالَ نَعَمْ قَالَ: أَمَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهُ لَخَيْرُهُمْ مَا عَلِمْتُ، وَإِنْ كَانَ لاَحَبَّهُمْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
[الحديث 3717-طرفة في: 3718]
3718-حدثنا عبيد بن إسماعيل حدثنا أبو أسمامة عن هاشم أخبرني أبي سمعت مروان بن الحكم "كمنت عند عثمان أتاه رجل فقال :أستخلف .قال: وقيل ذلك؟ قال: نعم، الزبيرقال:أما والله إنكم لتعلمون أنه خيركم ثلاثاً"
3719-حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ هُوَ ابْنُ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ

(7/79)


رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيًّا وَإِنَّ حَوَارِيَّ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ"
3720-حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ أنبأنا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ" كُنْتُ يَوْمَ الأَحْزَابِ جُعِلْتُ أَنَا وَعُمَرُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ فِي النِّسَاءِ فَنَظَرْتُ فَإِذَا أَنَا بِالزُّبَيْرِ عَلَى فَرَسِهِ يَخْتَلِفُ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا فَلَمَّا رَجَعْتُ قُلْتُ يَا أَبَتِ رَأَيْتُكَ تَخْتَلِفُ قَالَ أَوَهَلْ رَأَيْتَنِي يَا بُنَيَّ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال:َ مَنْ يَأْتِ بَنِي قُرَيْظَةَ فَيَأْتِينِي بِخَبَرِهِمْ؟ فَانْطَلَقْتُ فَلَمَّا رَجَعْتُ جَمَعَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَوَيْهِ فَقَالَ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي "
3721-حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا لِلزُّبَيْرِ يَوْمَ الْيَرْمُوكِ أَلاَ تَشُدُّ فَنَشُدَّ مَعَكَ فَحَمَلَ عَلَيْهِمْ فَضَرَبُوهُ ضَرْبَتَيْنِ عَلَى عَاتِقِهِ بَيْنَهُمَا ضَرْبَةٌ ضُرِبَهَا يَوْمَ بَدْرٍ قَالَ عُرْوَةُ فَكُنْتُ أُدْخِلُ أَصَابِعِي فِي تِلْكَ الضَّرَبَاتِ أَلْعَبُ وَأَنَا صَغِيرٌ"
[الحديث 3721-طرفاه في :3973، 3975 ]
قوله: "باب مناقب الزبير بن العوام" أي ابن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي، يجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في قصي، وعدد ما بينهما من الآباء سواء، وأمه صفية بنت عبد المطلب عمة النبي صلى الله عليه وسلم وكان يكنى أبا عبد الله، وروى الحاكم بإسناد صحيح عن عروة قال أسلم الزبير وهو ابن ثمان سين.قوله: "وقال ابن عباس: هو حواري النبي صلى الله عليه وسلم" هو طرف من حديث سيأتي في تفسير براءة من طريق ابن أبي مليكة عن ابن عباس، ولهذا الحديث طرق من أغربها ما أخرجه الزبير بن بكار من مرسل أبي الخير مرثد بن اليزني بلفظ: "حواري من الرجال الزبير ومن النساء عائشة" ورجاله موثقون لكنه مرسل.قوله: "وسمي الحواريون لبياض ثيابهم" وصله ابن أبي حاتم من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس به وزاد: "إنهم كانوا صيادين" وإسناده صحيح إليه.وأخرج عن الضحاك أن الحواري هو الغسال بالنبطية، لكنهم يجعلون الحاء هاء.وعن قتادة: الحواري هو الذي يصلح للخلافة وعنه: هو الوزير.وعن ابن عيينة: هو الناصر، أخرجه الترمذي وغيره عنه.وعند الزبير بن بكار من طريق مسلمة بن عبد الله بن عروة مثله.وهذه الثلاثة الأخيرة متقاربة.وقال الزبير عن محمد بن سلام: سألت يونس بن حبيب عن الحواري، قال: الخالص.وعن ابن الكلبي الحواري الخليل.قوله: "سنة الرعاف" كان ذلك سنة إحدى وثلاثين أشار إلى ذلك عمر بن شبة في "كتاب المدينة" وأفاد أن عثمان كتب العهد بعده لعبد الرحمن بن عوف واستكتم ذلك حمران كاتبه، فوشى حمران بذلك إلى عبد الرحمن، فعاتب عثمان على ذلك، فغضب عثمان على حمران فنفاه من المدينة إلى البصرة، ومات عبد الرحمن بعد ستة أشهر، وكانت وفاته سنه اثنتين وثلاثين.قوله: "فدخل عليه رجل من قريش" لم أقف على اسمه.قوله: "فدخل عليه رجل آخر أحسبه الحارث" أي ابن الحكم وهو أخو مروان راوي الخبر، ووقع منسوبا كذلك في "مشيخة يوسف بن خليل الحافظ" من طريق سويد بن

(7/80)


سعيد عن علي بن مسهر بسند حديث الباب، وقد شهد الحارث بن الحكم المذكور حصار عثمان، وعاش بعد ذلك إلى خلافة معاوية.وفي "نسب قريش للزبير" أنه تحاكم مع خصم له إلى أبي هريرة.قوله: "فلعلهم قالوا إنه الزبير" لم أقف على اسم من قال ذلك.قوله: "إنه ما علمت" سيأتي ما فيه.قوله: "إنه كان لخيرهم ما علمت" ما مصدرية أي في علمي، ويحتمل أن تكون موصولة وهو خبر مبتدأ محذوف، قال الداودي: يحتمل أن يكون المراد الخيرية في شيء مخصوص كحسن الخلق، وإن حمل على ظاهره ففيه ما يبين أن قول ابن عمر" ثم نترك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نفاضل بينهم" لم يرد به جميع الصحابة، فإن بعضهم قد وقع منه تفضيل بعضهم على بعض وهو عثمان في حق الزبير.قلت: قول ابن عمر قيده بحياة النبي صلى الله عليه وسلم فلا يعارض ما وقع منهم بعد ذلك.قوله: "وإن حواري الزبير" بتشديد الياء وفتحها كقوله: {وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} ويجوز كسرها.وقد مضى تفسير الحواري، وتقدم سبب هذا الحديث في "باب الطليعة" في أوائل الجهاد.قوله: "أنبأنا عبد الله" هو ابن المبارك.قوله: "كنت يوم الأحزاب" أي لما حاصرت قريش ومن معها المسلمين بالمدينة وحفر الخندق بسبب ذلك، وسيأتي شرح ذلك في المغازي.قوله: "وعمر بن أبي سلمة" أي ابن عبد الأسد ربيب النبي صلى الله عليه وسلم وأمه أم سلمة.قوله: "في النساء" في رواية علي بن مسهر عن هشام بن عروة عند مسلم: "في أطم حسان" وله في رواية أبي أسامة عن هشام" في الأطم الذي فيه النسوة "يعني نسوة النبي صلى الله عليه وسلم، وعنده في رواية علي بن مسهر المذكورة" وكان يطأطئ لي مرة فأنظر، وأطأطئ له مرة فينظر، فكنت أعرف أبي إذا مر على فرسه في السلاح".قوله: "يختلف إلى بني قريظة" أي يذهب ويجيء.وفي رواية أبي أسامة عند الإسماعيلي: "مرتين أو ثلاثا".قوله: "فلما رجعت، قلت: يا أبت رأيتك" بين مسلم أن في هذه الرواية إدراجا، فإنه ساقه من رواية علي بن مسهر عن هشام إلى قوله: "إلى بني قريظة.قال هشام: وأخبرني عبد الله بن عروة عن عبد الله بن الزبير قال: فذكرت ذلك لأبي" إلى آخر ثم ساقه من طريق أبي أسامة عن هشام قال: "فساق الحديث نحوه، ولم يذكر عبد الله بن عروة ولكن أدرج القصة في حديث هشام عن أبيه" انتهى.ويؤيده أن النسائي أخرج القصة الأخيرة من طريق عبدة عن هشام عن أخيه عبد الله بن عروة عن عبد الله بن الزبير عن أبيه، والله أعلم.قوله: "قال أو هل رأيتني يا بني؟ قلت نعم" فيه صحة سماع الصغير، وأنه لا يتوقف على أربع أو خمس، لأن ابن الزبير كان يومئذ ابن سنتين وأشهر أو ثلاث وأشهر بحسب الاختلاف في وقت مولده وفي تاريخ الخندق، فإن قلنا إنه ولد في أول سنة من الهجرة وكانت الخندق سنة خمس فيكون ابن أربع وأشهر، وإن قلنا ولد سنة اثنتين وكانت الخندق سنة أربع فيكون ابن سنتين وأشهر، إن عجلنا إحداهما وأخرنا الأخرى فيكون ابن ثلاث سنين وأشهر، وسأبين الأصح من ذلك في كتاب المغازي إن شاء الله تعالى، وعلى كل حال فقد حفظ من ذلك ما يستغرب حفظ مثله، وقد تقدم البحث في ذلك في "باب متى يصح سماع الصغير" من كتاب العلم.قوله: "جمع لي رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أبويه فقال: فداك أبي وأمي" وسيأتي ما يعارضه في ترجمة سعد قريبا ووجه الجمع بينهما.قوله: "حدثنا علي بن حفص" هو المروزي، وقد تقدم ذكره في الجهاد "أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أي الذين شهدوا وقعة اليرموك "قالوا للزبير" لم أقف على تسمية أحد منهم.قوله: "يوم وقعة اليرموك" هو بفتح التحتانية وسكون الراء وضم الميم وآخره كاف: موضع بالشام، وكانت فيه وقعة في أول خلافة عمر، وكان النصر للمسلمين على الروم، واستشهد من المسلمين جماعة.قوله: "ألا تشد" بضم المعجمة أي على

(7/81)


المشركين.قوله: "إن شددت كذبتم"(1) أي تتأخرون عما أقدم عليه فيختلف موعدكم هذا، وأهل الحجاز يطلقون الكذب على ما يذكر على خلاف الواقع.قوله: "فضربوه ضربتين على عاتقه بينهما ضربة ضربها يوم بدر" كذا في هذه الرواية، وسيأتي في غزوة بدر في المغازي ما يغاير ذلك ويأتي شرحه، ووجه الجمع بين الروايتين هناك إن شاء الله تعالى، وكان قتل الزبير في شهر رجب سنة ست وثلاثين، انصرف من وقعة الجمل تاركا للقتال فقتله عمرو بن جرموز - بضم الجيم والميم بينهما راء ساكنة وآخره زاي - التميمي غيلة، وجاء إلى علي متقربا إليه بذلك فبشره بالنار، أخرجه أحمد والترمذي وغيرهما وصححه الحاكم من طرق بعضها مرفوع."تنبيه": تقدم الكلام على تركة الزبير وما وقع فيها من البركة بعده في كتاب الخمس.
ـــــــ
(1)الذي في المتن (ألا تشد فتشد معك ) وليس فيه هذه الزيادة

(7/82)


14-- باب ذِكْرِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ وَقَالَ عُمَرُ تُوُفِّيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَنْهُ رَاضٍ
3723،3722-حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ قَالَ لَمْ يَبْقَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ تِلْكَ الأَيَّامِ الَّتِي قَاتَلَ فِيهِنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرُ طَلْحَةَ وَسَعْدٍ عَنْ حَدِيثِهِمَا"
[الحديث3722-طرفه في:4060]
[الحديث3723-طرفه في:4061]
3724-حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا خَالِدٌ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي خَالِدٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ قَالَ"رَأَيْتُ يَدَ طَلْحَةَ الَّتِي وَقَى بِهَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ شَلَّتْ"
[الحديث3724-طرفه في:4063]
قوله: "ذكر طلحة بن عبيد الله" أي ابن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب، يجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في مرة بن كعب ومع أبي بكر الصديق في تيم بن مرة، وعدد ما بينهم من الآباء سواء. يكنى أبا محمد، وأمه الصعبة بنت الحضرمي أخت العلاء، أسلمت وهاجرت وعاشت بعد أبيها قليلا، وروى الطبراني من حديث ابن عباس قال: "أسلمت أم أبي بكر وأم عثمان وأم طلحة وأم عبد الرحمن بن عوف" وقتل طلحة يوم الجمل سنة ست وثلاثين، رمي بسهم، جاء من طرق كثيرة أن مروان بن الحكم رماه فأصاب ركبته فلم يزل ينزف الدم منها حتى مات، وكان يومئذ أول قتيل، واختلف في سنه على أقوال: أكثرها أنه خمس وسبعون، وأقلها ثمان وخمسون. قوله: "معتمر عن أبيه" هو سليمان التيمي، وأبو عثمان هو النهدي. قوله: "في بعض تلك الأيام" يريد يوم أحد، وقوله: "عن حديثهما" يعني أنهما حدثا بذلك، ووقع في فوائد أبي بكر بن المقرئ من وجه آخر عن معتمر بن سليمان عن أبيه" فقلت لأبي عثمان: وما علمك بذلك؟ قال هما أخبراني بذلك". قوله: "حدثنا خالد" هو ابن عبد الله الواسطي، وابن أبي خالد هو إسماعيل. قوله: "التي وقى بها" أي يوم أحد، وصرح بذلك علي بن مسهر عن إسماعيل عند الإسماعيلي، وعند الطبراني من طريق موسى بن طلحة عن أبيه أنه أصابه في يده سهم، حديث أنس "وقى رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد بعض المشركين أن يضربه" وفي مسند الطيالسي من حديث عائشة عن

(7/82)


أبي بكر الصديق قال: "ثم أتينا طلحة - يعني يوم أحد - وجدنا به بضعا وسبعين جراحة، وإذا قد قطعت إصبعه" وفي الجهاد لابن المبارك من طريق موسى بن طلحة أن إصبعه التي أصيبت هي التي تلي الإبهام، وجاء عن يعقوب بن إبراهيم بن محمد بن طلحة عن أبيه قال: "أصيبت إصبع طلحة البنصر من اليسرى من مفصلها الأسفل فشلت، ترس بها على النبي صلى الله عليه وسلم". قوله: "قد شلت" بفتح المعجمة ويجوز ضمها في لغة ذكرها اللحياني. وقال ابن درستويه: هي خطأ. والشلل نقص في الكف وبطلان لعملها، وليس معناه القطع كما زعم بعضهم، زاد الإسماعيلي في روايته من طريق علي بن مسهر وغيره عن إسماعيل" قال قيس: كان يقال إن طلحة من حكماء قريش" وروى الحميدي في الفوائد من وجه أخرجه عن قيس بن أبي حازم قال: "صحبت طلحة بن عبيد الله فما رأيت رجلا أعطى لجزيل مال عن غير مسألة منه".

(7/83)


15- باب مَنَاقِبِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ الزُّهْرِيِّ
وَبَنُو زُهْرَةَ أَخْوَالُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ سَعْدُ بْنُ مَالِكٍ
3725-حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ قَالَ سَمِعْتُ يَحْيَى قَالَ سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ قَالَ سَمِعْتُ سَعْدًا يَقُولُ جَمَعَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَوَيْهِ يَوْمَ أُحُدٍ"
[الحديث 3725-أطرافه في: 4055، 4056، 4057 ]
3726-حدثنا مكى بن إبراهيم حدثنا هاشم بن هاشم عن عامر بن سعدٍ عن أبيه قال"لقد رأيتني وأنا ثلث الإسلام"
[الحديث:3726- طرفاه في: 3727، 3808]
3727-ثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ هَاشِمِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ يَقُولُ سَمِعْتُ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ يَقُولُ مَا أَسْلَمَ أَحَدٌ إِلاَّ فِي الْيَوْمِ الَّذِي أَسْلَمْتُ فِيهِ وَلَقَدْ مَكَثْتُ سَبْعَةَ أَيَّامٍ وَإِنِّي لَثُلُثُ الإِسْلاَمِ تَابَعَهُ أَبُو أُسَامَةَ حَدَّثَنَا هَاشِمٌ
3728-حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ إِسْمَاعِيلَ عَنْ قَيْسٍ قَالَ: سَمِعْتُ سَعْدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ "إِنِّي لاَوَّلُ الْعَرَبِ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَكُنَّا نَغْزُو مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا لَنَا طَعَامٌ إِلاَّ وَرَقُ الشَّجَرِ حَتَّى إِنَّ أَحَدَنَا لَيَضَعُ كَمَا يَضَعُ الْبَعِيرُ أَوْ الشَّاةُ مَا لَهُ خِلْطٌ ثُمَّ أَصْبَحَتْ بَنُو أَسَدٍ تُعَزِّرُنِي عَلَى الإِسْلاَمِ لَقَدْ خِبْتُ إِذًا وَضَلَّ عَمَلِي وَكَانُوا وَشَوْا بِهِ إِلَى عُمَرَ قَالُوا: لاَ يُحْسِنُ يُصَلِّي"
[الحديث 3728- طرفاه في:5412، 6453]
قوله: "مناقب سعد بن أبي وقاص الزهري" أي أحد العشرة يكنى أبا إسحاق. قوله: "وبنو زهرة أخوال النبي صلى الله عليه وسلم أي لأن أمه آمنة منهم، وأقارب الأم أخوال.قوله: "وهو سعد بن مالك" أي اسم أبي وقاص مالك بن

(7/83)


وهيب - ويقال أهيب - ابن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة، يجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في كلاب بن مرة، وعدد ما بينهما من الآباء متقارب. وأمه حمنة بنت سفيان بن أمية بن عبد شمس لم تسلم، مات بالعقيق سنة خمس وخمسين وقيل: بند ذلك إلى ثمانية وخمسين، وعاش نحوا من ثمانين سنة. أي في التفدية، وهي قوله: "فداك أبي وأمي" وبينه حديث علي "ما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أبويه لأحد غير سعد بن مالك، فإنه جعل يقول له يوم أحد: ارم فداك أبي وأمي" وقد تقدم في الجهاد. وفي هذا الحصر نظر لما تقدم في ترجمة الزبير أنه صلى الله عليه وسلم جمع له أبويه يوم الخندق ويجمع بينهما بأن عليا رضي الله عنه لم يطلع على ذلك، أو مراده بذلك بقيد يوم أحد، والله أعلم. قوله: "ما أسلم أحد إلا في اليوم الذي أسلمت فيه" ظاهره أنه لم يسلم أحد قبله لكن اختلف في هذه اللفظة كما سأذكره. قوله: "ولقد مكثت سبعة أيام وإني لثلث الإسلام" سيأتي القول فيه. قوله: "وإني لثلث الإسلام" قال ذلك بحسب اطلاعه، والسب فيه أن من كان أسلم في ابتداء الأمر كان يخفي إسلامه، ولعله أراد بالاثنين الآخرين خديجة وأبا بكر، أو النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر، وقد كانت خديجة أسلمت قطعا فلعله خصن الرجال، وقد تقدم في ترجمة الصديق حديث عمار "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وما معه إلا خمسة أعبد وأبو بكر" وهو يعارض حديث سعد، والجمع بينهما ما أشرت إليه، أو يحمل قول سعد على الأحرار البالغين ليخرج الأعبد المذكورون وعلي رضي الله عنه، أو لم يكن اطلع على أولئك، ويدل على هذا الأخير أنه وقع عند الإسماعيلي من رواية يحيى بن سعيد الأموي عن هاشم بلفظ: "ما أسلم أحد قبلي" ومثله عند ابن سعد من وجه آخر عن عامر بن سعد عن أبيه، وهذا مقتضى رواية الأصيلي، وهي مشكله؛ لأنه قد أسلم قبله جماعة، لكن يحمل ذلك على مقتضى ما كان اتصل بعلمه حينئذ وقد رأيت في" المعرفة لابن منده" من طريق أبي بدر عن هاشم بلفظ: "ما أسلم أحد في اليوم الذي أسلمت فيه: "وهذا لا إشكال فيه إذ لا مانع أن لا يشاركه أحد في الإسلام يوم أسلم، لكن أخرجه الخطيب من الوجه الذي أخرجه ابن منده فأثبت فيه: "إلا" كبقية الروايات فتعين الحمل على ما قلته.قوله: "تابعه أبو أسامة حدثنا هاشم" وصله المؤلف في" باب إسلام سعد" من السيرة النبوية وهو مثل رواية ابن أبي زائدة هذه. قوله: "إني لأول العرب رمى" كان ذلك في سرية عبيدة بن الحارث بن المطلب، وكان القتال فيها أول حرب وقعت بين المشركين والمسلمين، وهي أول سرية بعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم في السنة الأولى من الهجرة، بعث ناسا من المسلمين إلى رابغ ليلقوا عيرا لقريش فتراموا بالسهام ولم يكن بينهم مسايفة، فكان سعد أول من رمى، ذكر ذلك الزبير بن بكار بسند له وقال فيه عن سعد أنه أنشد يومئذ:
ألا هل أتى رسول الله أني ... حميت صحابتي بصدور نبلي
وذكرها يونس بن بكير في زيادة المغازي من طريق الزهري نحوه، وابن سعد من وجه آخر عن سعد "أنا أول من رمى بسهم ثم خرجنا مع عبيدة بن الحارث ستين راكبا". قوله: "ماله خلط" بكسر المعجمة أي لا يختلط بعضه ببعض من شدة جفافه وتفتته.ى قوله: "ثم أصبحت بنو أسد" أي ابن خزيمة بن مدركة، وكانوا ممن شكاه لعمر في القصة التي تقدم بيانها في صفة الصلاة، ووقع عند ابن بطال أنه عرض في ذلك بعمر بن الخطاب وليس بصواب، فإن عمر من بني عدي بن كعب بن لؤي ليس من بني أسد.ووقع عند النووي" أسد بن عبد

(7/84)


العزى" يعني رهط الزبير بن العوام، وهو وهم أيضا. قوله: "تعزرني على الإسلام" أي تؤدبني، والمعنى تعلمني الصلاة، أو تعيرني بأني لا أحسنها. قوله: "خبت" أي إن كنت محتاجا إلى تعليمهم، وقد تقدمت قصته مع الذي زعموا أنه لا يحسن يصلي في صفة الصلاة. قوله: "وضل عملي" في رواية ابن سعد عن يعلى بن عبيد عن إسماعيل" وضل عمليه" بزيادة هاء السكت.

(7/85)


16- باب ذِكْرِ أَصْهَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ أَبُو الْعَاصِ بْنُ الرَّبِيعِ
3729-حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ حُسَيْنٍ أَنَّ الْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ
قَالَ "إِنَّ عَلِيًّا خَطَبَ بِنْتَ أَبِي جَهْلٍ فَسَمِعَتْ بِذَلِكَ فَاطِمَةُ فَأَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ يَزْعُمُ قَوْمُكَ أَنَّكَ لاَ تَغْضَبُ لِبَنَاتِكَ وَهَذَا عَلِيٌّ نَاكِحٌ بِنْتَ أَبِي جَهْلٍ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَمِعْتُهُ حِينَ تَشَهَّدَ يَقُولُ أَمَّا بَعْدُ أَنْكَحْتُ أَبَا الْعَاصِ بْنَ الرَّبِيعِ فَحَدَّثَنِي وَصَدَقَنِي وَإِنَّ فَاطِمَةَ بَضْعَةٌ مِنِّي وَإِنِّي أَكْرَهُ أَنْ يَسُوءَهَا وَاللَّهِ لاَ تَجْتَمِعُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِنْتُ عَدُوِّ اللَّهِ عِنْدَ رَجُلٍ وَاحِدٍ فَتَرَكَ عَلِيٌّ الْخِطْبَةَ"
وَزَادَ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَلْحَلَةَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ عَنْ مِسْوَرٍ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرَ صِهْرًا لَهُ مِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ فَأَثْنَى عَلَيْهِ فِي مُصَاهَرَتِهِ إِيَّاهُ فَأَحْسَنَ قَالَ حَدَّثَنِي فَصَدَقَنِي وَوَعَدَنِي فَوَفَى لِي"
قوله: "ذكر أصهار النبي صلى الله عليه وسلم" أي الذين تزوجوا إليه، والصهر يطلق على جميع أقارب المرأة والرجل، ومنهم من يخصه بأقارب المرأة.قوله: "منهم أبو العاص بن الربيع" أي ابن ربيعة بن عبد العزى بن عبد شمس بن عبد مناف، ويقال بإسقاط ربيعة، وهو مشهور بكنيته، واختلف في اسمه على أقوال أثبتها عند الزبير مقسم.وأمه هالة بنت خويلد أخت خديجة فكان ابن أختها، وأصل المصاهرة المقاربة.وقال الراغب: الصهر الختن، وأهل بيت المرأة يقال لهم الأصهار قاله الخليل.وقال ابن الأعرابي: الأصهار ما يتحرم بجوار أو نسب أو تزوج، وكأنه لمح بالترجمة إلى ما جاء عن عبد الله بن أبي أوفى رفعه: "سألت ربي أن لا أتزوج أحدا من أمتي ولا أتزوج إليه إلا كان معي في الجنة، فأعطاني" أخرجه الحاكم في مناقب علي.وله شاهد عن عبد الله بن عمر وعند الطبراني في"الأوسط" بسند واه.وقال النووي الصهر يطلق على أقارب الزوجين، والمصاهرة مقاربة بين المتباعدين، وعلى هذا عمل البخاري فإن أبا العاص بن الربيع ليس من أقارب نساء النبي صلى الله عليه وسلم إلا من جهة كونه ابن أخت خديجة، وليس المراد هنا نسبته إليها بل إلى تزوجه بابنتها، وتزوج زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل البعثة وهي أكبر بنات النبي صلى الله عليه وسلم وقد أسر أبو العاص ببدر مع المشركين وفدته زينب فشرط عليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يرسلها إليه فوفى له بذلك، فهذا معنى قوله في آخر الحديث: "ووعدني فوفى لي" ، ثم أسر أبو العاص مرة أخرى فأجارته زينب فأسلم، فردها النبي صلى الله عليه وسلم إلى نكاحه، وولدت أمامة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يحملها وهو يصلي كما تقدم في الصلاة، وولدت له أيضا ابنا اسمه علي كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم مراهقا، فيقال إنه مات قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وأما أبو العاص فمات سنة اثنتي عشرة وأشار المصنف بقوله: "منهم" إلى من لم يذكره ممن تزوج إلى النبي كعثمان وعلي، وقد تقدت ترجمة كل منهما،

(7/85)


ولم يتزوج أحد من بنات النبي صلى الله عليه وسلم غير هؤلاء الثلاثة، إلا ابن أبي لهب فإنه كان تزوج رقية قبل عثمان ولم يدخل بها، فأمره أبوه بمفارقتها ففارقها، فتزوجها عثمان.وأما من تزوج النبي صلى الله عليه وسلم إليه فلم يقصده البخاري بالذكر هنا، والله أعلم.قوله: "إن عليا خطب بنت أبي جهل" اسمها جويرية كما سيأتي، ويقال العوراء ويقال جميلة، وكان علي قد أخذ بعموم الجواز، فلما أنكر النبي صلى الله عليه وسلم أعرض علي عن الخطبة، فيقال تزوجها عتاب بن أسيد، وإنما خطب النبي صلى الله عليه وسلم ليشيع الحكم المذكور بين الناس ويأخذوا به إما على سبيل الإيجاب وإما على سبيل الأولوية.
وغفل الشريف المرتضى عن هذه النكتة(1) فزعم أن هذا الحديث موضوع لأنه من رواية المسور وكان فيه انحراف عن علي، وجاء من رواية ابن الزبير وهو أشد في ذلك، ورد كلامه بأطباق أصحاب الصحيح على تخريجه، وسيأتي بسط ما يتعلق بذلك في كتاب النكاح إن شاء الله تعالى.قوله: "وهذا علي ناكح بنت أبي جهل" في رواية الطبراني عن أبي اليمان "وهذا علي ناكحا" بالنصب، وكذا عند مسلم من هذا الوجه، أطلقت عليه اسم ناكح مجازا باعتبار ما كان قصد يفعل، واختلف في اسم ابنة أبي جهل فروى الحاكم في "الإكليل" جويرية وهو الأشهر، وفي بعض الطرق اسمها العوراء أخرجه ابن طاهر في "المبهمات"، وقيل اسمها الحنفاء ذكره ابن جرير الطبري، وقيل: جرهمة حكاه السهيلي، وقيل: اسمها جميلة ذكره شيخنا ابن الملقن في شرحه.وكان لأبي جهل بنت تسمى صفية تزوجها سهل بن عمرو سماها ابن السكيت وغيره وقال هي الحيفاء المذكورة.قوله: "حدثني فصدقني" لعله كان شرط على نفسه أن لا يتزوج على زينب، وكذلك علي، فإن لم يكن كذلك فهو محمول على أن عليا نسي ذلك الشرط فلذلك أقدم على الخطبة، أو لم يقع عليه شرط إذ لم يصرح بالشرط لكن كان ينبغي له أن يراعي هذا القدر فلذلك وقعت المعاتبة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قل أن يواجه أحدا بما يعاب به، ولعله إنما جهر بمعاتبة علي مبالغة في رضا فاطمة عليها السلام، وكانت هذه الواقعة بعد فتح مكة، ولم يكن حينئذ تأخر من بنات النبي صلى الله عليه وسلم غيرها، وكانت أصيبت بعد أمها بإخوتها فكان إدخال الغيرة عليها مما يزيد حزنها، وزاد محمد بن عمرو بن حلحلة - بمهملتين مفتوحتين ولامين الأولى ساكنة - وقد تقدم هذا الحديث من روايته موصولا في أوائل فرض الخمس مطولا وفيه ذكر بعض ما يتعلق به.
ـــــــ
(1)المرتضى شعبي من خاصة دعاهم، ومقايسه في الجرح والتعديل تختلف عن مقايس أهل السنة

(7/86)


17- - باب مَنَاقِبِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ مَوْلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَقَالَ الْبَرَاءُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أَنْتَ أَخُونَا وَمَوْلاَنَا"
3730-حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْثًا وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ فَطَعَنَ بَعْضُ النَّاسِ فِي إِمَارَتِهِ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَنْ تَطْعُنُوا فِي إِمَارَتِهِ فَقَدْ كُنْتُمْ تَطْعُنُونَ فِي إِمَارَةِ أَبِيهِ مِنْ قَبْلُ وَايْمُ اللَّهِ إِنْ كَانَ لَخَلِيقًا لِلْإِمَارَةِ وَإِنْ كَانَ لَمِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ وَإِنَّ هَذَا لَمِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ بَعْدَهُ"
[الحديث 3730- أطرافه في :4250، 4468، 4469، 6627، 7187]

(7/86)


3731-حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ قَزَعَةَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
قَالَتْ دَخَلَ عَلَيَّ قَائِفٌ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاهِدٌ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ مُضْطَجِعَانِ فَقَالَ إِنَّ هَذِهِ الأَقْدَامَ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ قَالَ فَسُرَّ بِذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَعْجَبَهُ، فَأَخْبَرَ بِهِ عَائِشَةَ"
قوله: "مناقب زيد بن حارثه مولى النبي صلى الله عليه وسلم" وهو من بني كلب، أسر في الجاهلية فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة فاستوهبه النبي صلى الله عليه وسلم منها، ذكر قصته محمد بن إسحاق في السيرة وأن أباه وعمته أتيا مكة فوجداه فطلبا أن يفدياه فخيره النبي صلى الله عليه وسلم بين أن يدفعه إليهما أو يثبت عنده فاختار أن يبقى عنده، وقد أخرج ابن منده في "معرفة الصحابة" وتمام فوائده بإسناد مستغرب عن آل بيت زيد بن حارثة أن حارثة أسلم يومئذ، وهو حارثة بن شرحبيل بن كعب بن عبد العزى الكلبي.وأخرج الترمذي من طريق جبلة بن حارثة قال: قلت: يا رسول الله، ابعث معي أخي زيدا قال: إن انطلق منك لم أمنعه، فقال زيد: يا رسول الله والله لا أختار عليك أحدا.واستشهد زيد بن حارثة في غزوة مؤتة، ومات أسامة بن زيد بالمدينة أو بوادي القرى سنة أربع وخمسين وقيل قبل ذلك، وكان قد سكن المزة من عمل دمشق مدة.قوله: "وقال البراء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنت أخونا ومولانا" هو طرف من الحديث المشار إليه في ترجمة جعفر بن أبي طالب.قوله: "حدثنا سليمان" هو ابن بلال.قوله: "بعث النبي صلى الله عليه وسلم بعثا" هو البعث الذي أمر بتجهيز في مرض وفاته وقال: "أنفذوا بعث أسامة" فأنفذه أبو بكر رضي الله عنه بعده، وسيأتي بيانه في أواخر الوفاة النبوية إن شاء الله تعالى.قوله: "فطعن بعض الناس في إمارته" سمى ممن طعن في ذلك عياش بن أبي ربيعة المخزومي كما سيأتي بسط ذلك في آخر المغازي.قوله: "تطعنون" بفتح العين يقال طعن يطعن بالفتح في العرض والنسب، وبالضم بالرمح واليد، ويقال هما لغتان فيهما.قوله: "فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل" يشير إلى إمارة زيد بن حارثة في غزوة مؤتة، وعند النسائي عن عائشة قالت: "ما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة في جيش قط إلا أمره عليهم" وفيه جواز إمارة المولى وتولية الصغار على الكبار والمفضول على الفاضل.لأنه كان في الجيش - الذي كان عليهم أسامة - أبو بكر وعمر.حديث عائشة في قصة القائف سيأتي شرحه مستوفى في كتاب الفرائض وفيه تسمية القائف المذكور.

(7/87)


18- باب ذِكْرِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ
3732-حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا ليث عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أن قريشا
أهمهم شأن المخزومي فقالوا من يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم "
3733- وحدثنا علي حدثنا سفيان قال ثم ذهبت أسأل الزهري عن حديث المخزومية فصاح بي قلت لسفيان فلم تحتمله عن أحد قال وجدته في كتاب كان كتبه أيوب بن موسى عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أن امرأة من بني مخزوم سرقت فقالوا من يكلم فيها النبي صلى الله عليه وسلم فلم يجترئ أحد أن يكلمه فكلمه أسامة بن زيد فقال إن بني إسرائيل كان إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا

(7/87)


سرق فيهم الضعيف قطعوه لو كانت فاطمة لقطعت يدها"
3734- حدثني الحسن بن محمد حدثنا أبو عباد يحيى بن عباد حدثنا الماجشون أخبرنا عبد الله بن دينار قال ثم نظر بن عمر يوما وهو في المسجد إلى رجل يسحب ثيابه في ناحية من المسجد فقال انظر من هذا ليت هذا عندي قال له إنسان أما تعرف هذا يا أبا عبد الرحمن هذا محمد بن أسامة قال فطأطأ بن عمر رأسه ونقر بيديه في الأرض ثم قال لو رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحبه"
3735- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ قَالَ سَمِعْتُ أَبِي حَدَّثَنَا أَبُو عُثْمَانَ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا حَدَّثَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُهُ وَالْحَسَنَ فَيَقُولُ اللَّهُمَّ أَحِبَّهُمَا فَإِنِّي أُحِبُّهُمَا"
[الحديث 3735- طرفه في: 6003]
3736- وَقَالَ نُعَيْمٌ عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي مَوْلًى لِأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ الْحَجَّاجَ بْنَ أَيْمَنَ بْنِ أُمِّ أَيْمَنَ وَكَانَ أَيْمَنُ بْنُ أُمِّ أَيْمَنَ أَخَا أُسَامَةَ لِأُمِّهِ-وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ فَرَآهُ ابْنُ عُمَرَ لَمْ يُتِمَّ رُكُوعَهُ وَلاَ سُجُودَهُ فَقَالَ أَعِدْ"
[الحديث3736-طرفه في: 3737]
3737-قالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ و حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ نَمِرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ حَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ مَوْلَى أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ بَيْنَمَا هُوَ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ إِذْ دَخَلَ الْحَجَّاجُ بْنُ أَيْمَنَ فَلَمْ يُتِمَّ رُكُوعَهُ وَلاَ سُجُودَهُ فَقَالَ أَعِدْ فَلَمَّا وَلَّى قَالَ لِي ابْنُ عُمَرَ مَنْ هَذَا قُلْتُ الْحَجَّاجُ بْنُ أَيْمَنَ بْنِ أُمِّ أَيْمَنَ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ لَوْ رَأَى هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَحَبَّهُ فَذَكَرَ حُبَّهُ وَمَا وَلَدَتْهُ أُمُّ أَيْمَنَ" قَالَ: و حَدَّثَنِي بَعْضُ أَصْحَابِي عَنْ سُلَيْمَانَ وَكَانَتْ حَاضِنَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم".
قوله: "ذكر أسامة بن زيد" ذكر فيه حديث المخزومية التي سرقت، وسيأتي شرحه مستوفى في الحدود، والغرض منه قوله في بعض طرقه: "ومن يجترئ أن يكلمه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وكانوا يسمون أسامة حب رسول الله صلى الله عليه وسلم بكسر المهملة أي محبوبه لما يعرفون من منزلته عنده، لأنه كان يحب أباه قله حتى تبناه فكان يقال له زيد ابن محمد.وأمه أم أيمن حاضنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "هي أمي بعد أمي" وكان يجلسه على فخذه بعد أن كبر كما سيأتي في مناقب الحسن عن قريب. "حدثنا الحسن بن محمد" هو الزعفراني وأبو عباد هو يحيى بن عباد الضبعي البصري، والمراد بالماجشون عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة. قوله: قوله: "ليت هذا عندي" أي قريبا مني حتى أنصحه وأعظه، وقد روي بالباء الموحدة من العبودية، وكأنه على ما قيل كان أسود اللون.قوله: "قال له إنسان" لم أقف على اسمه.قوله: "لو رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحبه" إنما جزم ابن

(7/88)


عمر بذلك لما رأى من محبة النبي صلى الله عليه وسلم لزيد بن حارثة وأم أيمن وذريتهما فقاس ابن أسامة على ذلك.قوله: "اللهم أحبهما فإني أحبهما" هذا يشعر بأنه صلى الله عليه وسلم ما كان يحب إلا لله وفي الله، ولذلك رتب محبة الله على محبته، وفي ذلك أعظم منقبة لأسامة والحسن.قوله: "وقال نعيم" هو ابن حماد.قوله: "أخبرني مولى لأسامة" في رواية ابن أبي الدنيا" أخبرني ابن حرملة مولى أسامة" وابن حرملة هو إياس، ويقال إنه حرملة بن إياس في الرواية التي بعده.قوله: "وهو رجل من الأنصار" أي أيمن ابن أم أيمن، وأبوه هو عبيد بن عمرو بن هلال من بني الحبلي من الخزرج، ويقال إنه كان حبشيا من موالي الخزرج وتزوج أم أيمن زيد بن حارثة فولدت له أيمن، واستشهد أيمن يوم حنين مع النبي صلى الله عليه وسلم، ونسب أيمن إلى أمه لشرفها على أبيه وشهرتها عند أهل البيت النبوي، وتزوج زيد بن حارثة أم أيمن، وكانت حاضنة النبي صلى الله عليه وسلم ورثها من أبيه فولدت له أسامة بن زيد وعاشت أم أيمن بعد النبي صلى الله عليه وسلم قليلا.قوله: "فرآه ابن عمر" هو معطوف على شيء مقدر تقديره أن الحجاج بن أيمن دخل المسجد فصلى فرآه ابن عمر، يوضح ذلك الرواية التي بعد هذه.قوله: "فقاله أعد" أي أعد صلاتك.وفي رواية الإسماعيلي: "فقال أي ابن أخي، تحسب أنك قد صليت؟ إنك لم تصل، فأعد صلاتك".قوله: "بينما هو" فيه تجريد، كأن حرملة قال: بينما أنا، فجرد من نفسه شخصا فقال: بينما هو.قوله: "فذكر حبه وما ولدته أم أيمن" كذا ثبت بواو العطف في رواية أبي ذر، والضمير على هذا لأسامة في قوله: "فذكر حبه" أي ميله.وفي رواية غير أبي ذر "فذكر حبه ما ولدته أم أيمن" فعلى هذا فالضمير للنبي صلى الله عليه وسلم، و "ما ولدته إلخ" هو المفعول، والمراد بما ولدته أم أيمن ما ولدته من ذكر وأنثى.قوله: "وزادني بعض أصحابي" هو إما يعقوب بن سفيان فإنه رواه في تاريخه عن سليمان بن عبد الرحمن بالإسناد المذكور وزاد فيه: "وكانت أم أيمن حاضنة النبي صلى الله عليه وسلم: "وأما الذهلي فإنه أخرجه في الزهريات عن سليمان أيضا، وأخرجه الطبراني في "مسند الشاميين" عن أبي عامر محمد بن إبراهيم الصوري عن سليمان كذلك، وأخرجه الإسماعيلي وأبو نعيم من طريق إبراهيم الزهري عن سليمان كذلك، وكأن هذا القدر لم يسمعه البخاري من سليمان فحمله عن بعض أصحابه فبين ما سمعه مما لم يسمعه.

(7/89)


باب مناقب عبدالله بن عمر بن الخطاب
...
19- باب مناقب عبد الله بن عمر بن الخطاب رضى الله عنهما
3738-حَدَّثَنَامحمد إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ كَانَ الرَّجُلُ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا رَأَى رُؤْيَا قَصَّهَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَمَنَّيْتُ أَنْ أَرَى رُؤْيَا أَقُصُّهَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكُنْتُ غُلاَمًا شَابًّا أَعْزَبَ وَكُنْتُ أَنَامُ فِي الْمَسْجِدِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ كَأَنَّ مَلَكَيْنِ أَخَذَانِي فَذَهَبَا بِي إِلَى النَّارِ فَإِذَا هِيَ مَطْوِيَّةٌ كَطَيِّ الْبِئْرِ وَإِذَا لَهَا قَرْنَانِ كَقَرْنَيْ الْبِئْرِ وَإِذَا فِيهَا نَاسٌ قَدْ عَرَفْتُهُمْ فَجَعَلْتُ أَقُولُ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ النَّارِ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ النَّارِ فَلَقِيَهُمَا مَلَكٌ آخَرُ فَقَالَ لِي لَنْ تُرَاعَ فَقَصَصْتُهَا عَلَى حَفْصَةَ"
3739-"فَقَصَّتْهَا حَفْصَةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ نِعْمَ الرَّجُلُ عَبْدُ اللَّهِ لَوْ كَانَ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ قَالَ

(7/89)


سَالِمٌ فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ لاَ يَنَامُ مِنْ اللَّيْلِ إِلاَّ قَلِيلاً
03740، 3741 -حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ أُخْتِهِ حَفْصَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهَا إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ رَجُلٌ صَالِحٌ "
قوله مناقب عبد الله بن عمر بن الخطاب وهو أحد العبادلة وفقهاء الصحابة والمكثرين منهم وأمه زينب ويقال رائطة بنت مظعون أخت عثمان وقدامة ابني مظعون للجميع البغوي وكان مولده في السنة الثانية أو الثالثة من المبعث لأنه ثبت انه كان يوم بدر بن ثلاث عشرة سنة وكانت بدر بعد البعثة بخمس عشرة سنة وقد تقدم تاريخ وفاته في الصلاة وانها كانت بسبب من دسه عليه الحجاج فمس رجله بحربة مسمومة فمرض بها الى ان مات أوائل سنة أربع وسبعين ثم ذكر المصنف حديث ابن عمر في رؤياه وفيه: "نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل" وقد تقدم توجيهه في"باب قيام الليل" وقوله في أوله: "حدثنا محمد حدثنا إسحاق بن نصر" كذا لأبي ذر وحده، وبين أن محمدا هو المصنف. ووقع عند ابن السكن وحده" حدثنا إسحاق بن منصور" وقوله: "لن ترع" كذا للقابسي، قال ابن التين: هي لغة قليلة، يعني الجزم بلن، قال القزاز: ولا أحفظ لها شاهدا. وروى الأكثر بلفظ: "لن تراع" وهو الوجه. أورد المصنف من طريق يونس عن الزهري عن سالم عن ابن عمر عن أخته حفصة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: "إن عبد الله رجل صالح" وهو طرف من الحديث الذي قبله، وهذا القدر هو الذي يتعلق منه بمسند حفصة، وسيأتي في التعبير من طريق نافع عن ابن عمر عن حفصة مثله وزاد: "لو كان يصلي من الليل" وتقدمت الإشارة إلى ذلك أيضا في قيام الليل، ويأتي بقية ذلك في التعبير إن شاء الله تعالى.

(7/90)


20 - باب مَنَاقِبِ عَمَّارٍ وَحُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
3742حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ الْمُغِيرَةِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ قَدِمْتُ الشَّأْمَ فَصَلَّيْتُ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قُلْتُ اللَّهُمَّ يَسِّرْ لِي جَلِيسًا صَالِحًا فَأَتَيْتُ قَوْمًا فَجَلَسْتُ إِلَيْهِمْ فَإِذَا شَيْخٌ قَدْ جَاءَ حَتَّى جَلَسَ إِلَى جَنْبِي قُلْتُ مَنْ هَذَا قَالُوا أَبُو الدَّرْدَاءِ فَقُلْتُ إِنِّي دَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يُيَسِّرَ لِي جَلِيسًا صَالِحًا فَيَسَّرَكَ لِي قَالَ مِمَّنْ أَنْتَ قُلْتُ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ قَالَ أَوَلَيْسَ عِنْدَكُمْ ابْنُ أُمِّ عَبْدٍ صَاحِبُ النَّعْلَيْنِ وَالْوِسَادِ وَالْمِطْهَرَةِ وَفِيكُمْ الَّذِي أَجَارَهُ اللَّهُ مِنْ الشَّيْطَانِ يَعْنِي عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَلَيْسَ فِيكُمْ صَاحِبُ سِرِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي لاَ يَعْلَمُهُ أَحَدٌ غَيْرُهُ ثُمَّ قَالَ كَيْفَ يَقْرَأُ عَبْدُ اللَّهِ {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى وَالذَّكَرِ وَالأُنْثَى} قَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ أَقْرَأَنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ فِيهِ إِلَى فِيَّ"
3743-حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مُغِيرَةَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ "ذَهَبَ عَلْقَمَةُ إِلَى الشَّأْمِ،

(7/90)


فَلَمَّا دَخَلَ الْمَسْجِدَ قَالَ اللَّهُمَّ يَسِّرْ لِي جَلِيسًا صَالِحًا فَجَلَسَ إِلَى أَبِي الدَّرْدَاءِ فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ مِمَّنْ أَنْتَ قَالَ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ قَالَ أَلَيْسَ فِيكُمْ أَوْ مِنْكُمْ صَاحِبُ السِّرِّ الَّذِي لاَ يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ يَعْنِي حُذَيْفَةَ قَالَ قُلْتُ بَلَى قَالَ أَلَيْسَ فِيكُمْ أَوْ مِنْكُمْ الَّذِي أَجَارَهُ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْنِي مِنْ الشَّيْطَانِ يَعْنِي عَمَّارًا قُلْتُ بَلَى قَالَ أَلَيْسَ فِيكُمْ أَوْ مِنْكُمْ صَاحِبُ السِّوَاكِ وَالْوِسَادِ أَوْ السِّرَارِ قَالَ بَلَى قَالَ كَيْفَ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ يَقْرَأُ {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} قُلْتُ "وَالذَّكَرِ وَالأُنْثَى" قَالَ مَا زَالَ بِي هَؤُلاَءِ حَتَّى كَادُوا يَسْتَنْزِلُونِي عَنْ شَيْءٍ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
قوله: "باب مناقب عمار وحذيفة" أما عمار فهو ابن ياسر، يكنى أبا اليقظان العنسي بالنون، وأمه سمية بالمهملة مصغر، أسلم هو وأبوه قديما، وعذبوا لأجل الإسلام، وقتل أبو جهل أمه فكانت أول شهيد في الإسلام ومات أبوه قديما، وعاش هو إلى أن قتل بصفين مع علي رضي الله عنهم، وكان قد ولي شيئا من أمور الكوفة لعمر فلهذا نسبه أبو الدرداء إليها. وأما حذيفة فهو ابن اليمان بن جابر بن عمرو العبسي بالموحدة حليف بني عبد الأشهل من الأنصار، وأسلم هو وأبوه اليمان كما سيأتي، وولي حذيفة بعض أمور الكوفة لعمر، وولي إمرة المدائن، ومات بعد قتل عثمان بيسير بها، وكان عمار من السابقين الأولين، وحذيفة من القدماء في الإسلام أيضا إلا أنه متأخر فيه عن عمار، وإنما جمع المصنف بينهما في الترجمة لوقوع الثناء عليهما من أبي الدرداء في حديث واحد وقد أفرد ذكر ابن مسعود، وإن كان ذكر معهما لوجوده ما يوافق شرطه غير ذلك من مناقبه، وقد أفرد ذكر حذيفة في أواخر المناقب، وهو مما يؤيد ما سنذكره أنه لم يهذب ترتيب من ذكره من أصحاب هذه المناقب، ويحتمل أن يكون إفراده بالذكر لأنه أراد ذكر ترجمة والده اليمان.قوله: "عن إبراهيم عن علقمة مال: قدمت الشام" في رواية شعبة التي بعد هذه عن إبراهيم قال: "ذهب علقمة إلى الشام" وهذا الثاني صورته مرسل، لكن قال في أثنائه" قال: قلت: بلى" فاقتضى أنه موصول، ووقع في التفسير من وجه آخر عن إبراهيم عن علقمة قال: "قدمت الشام في نفر من أصحاب ابن مسعود، فسمع بنا أبو الدرداء فأتانا".قوله: "حتى يجلس إلى جنبي" أي يجعل غاية مجيئه جلوسه، وعبر بلفظ المضارع مبالغة، زاد الإسماعيلي في روايته: "فقلت: الحمد لله، إني لأرجو أن يكون الله استجاب دعوتي". قوله: "قالوا أبو الدرداء" لم أقف على اسم القائل. قوله: "قال أو ليس عندكم ابن أم عبد" يعني عبد الله بن مسعود، ومراد أبي الدرداء بذلك أنه فهم منهم أنهم قدموا في طلب العلم، فبين لهم أن عندهم من العلماء من لا يحتاجون معهم إلى غيرهم، ويستفاد منه أن المحدث لا يرحل عن بلده حتى يستوعب ما عند مشايخها. قوله: "صاحب النعلين" أي نعلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ابن مسعود يحملهما ويتعاهدهما. قوله: "والوساد" في رواية شعبة" صاحب السواك - بالكاف - أو السواد" بالدال ووقع في رواية الكشميهني هنا" الوساد" ورواية غيره أوجه، والسواد السرار براءين يقال ساودته سوادا أي ساررته سرارا، وأصله أدنى السواد وهو الشخص من السواد. قوله: "والمطهرة" في رواية السرخسي "والمطهر" بغير هاء، وأغرب الداودي فقال: معناه أنه لم يكن يملك من الجهاز غير هذه الأشياء الثلاثة، كذا قال، وتعقب ابن التين كلامه فأصاب، وقد روى مسلم عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له

(7/91)


"إذنك علي أن ترفع الحجاب وتسمع سوادي" أي سراري، وهي خصوصية لابن مسعود، وسيأتي في مناقبه قريبا حديث أبي موسى" قدمت أنا وأختي من اليمن، فمكثنا حينا لا نرى إلا أن عبد الله بن مسعود رجل من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، لما نرى من دخوله ودخول أمه" والصواب ما قال غير الداودي أن المراد الثناء عليه بخدمة النبي صلى الله عليه وسلم وأنه لشدة ملازمته له لأجل هذه الأمور ينبغي أن يكون عنده من العلم ما يستغني طالبه به عن غيره. قوله: "أفيكم" بهمزة الاستفهام. وفي رواية الكشميهني: "وفيكم" بواو العطف. وفي رواية شعبة "أليس فيكم أو منكم" بالشك في الموضعين. قوله: "الذي أجاره الله من الشيطان، يعني على لسان نبيه" في رواية شعبة" أجاره الله على لسان نبيه يعني من الشيطان" وزاد في رواية شعبة" يعني عمارا" وزعم ابن التين أن المراد بقوله: "على لسان نبيه" قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ويح عمار يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار" وهو محتمل، ويحتمل أن يكون المراد بذلك حديث عائشة مرفوعا: "ما خير عمار بين أمرين إلا اختار أرشدهما" أخرجه الترمذي، ولأحمد من حديث ابن مسعود مثله أخرجهما الحاكم، فكونه يختار أرشد الأمرين دائما يقتضي أنه قد أجبر من الشيطان الذي من شأنه الأمر بالغي، وروى البزار من حديث عائشة "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: مليء إيمانا إلى مشاشه " يعني عمارا وإسناده صحيح، ولابن سعد في"الطبقات" من طريق الحسن قال: "قال عمار: نزلنا منزلا فأخذت قربتي ودلوي لأستقي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سيأتيك من يمنعك من الماء، فلما كنت على رأس الماء إذا رجل أسود كأنه مرس، فصرعته" فذكر الحديث، وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ذاك الشيطان" فلعل ابن مسعود أشار إلى هذه القصة، ويحتمل أن تكون الإشارة بالإجازة المذكورة إلى ثباته على الإيمان لما أكرهه المشركون على النطق بكلمة الكفر، فنزلت فيه: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ} وقد جاء في حديث آخر" إن عمارا مليء إيمانا إلى مشاشه" أخرجه النسائي بسند صحيح، والمشاش بضم الميم ومعجمتين الأولى خفيفة، وهذه الصفة لا تقع إلا ممن أجاره الله من الشيطان، وقد تقدم شرح الحديث الذي أشار إليه ابن التين في "باب التعاون في بناء المسجد" مستوفى ولله الحمد. قوله: "أو ليس فيكم صاحب سر النبي صلى الله عليه وسلم الذي لا يعلم أحد غيره" كذا فيه بحذف المفعول. وفي رواية الكشميهني: "الذي لا يعلمه" والمراد بالسر ما أعلمه به النبي صلى الله عليه وسلم من أحوال المنافقين. قوله: "ثم قال: كيف يقرأ عبد الله" يعني ابن مسعود، وسيأتي الكلام على ما يتعلق بهذا القدر من القراءة في تفسير {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} إن شاء الله تعالى حيث أورده المصنف وفيه زيادة فيما يتعلق به على ما هنا. "تنبيه": توارد أبو هريرة في وصف المذكورين مع أبي الدرداء بما وصفهم به وزاد عليه، فروى الترمذي من طريق خيثمة بن عبد الرحمن قال: "أتيت المدينة فسألت الله أن يسر لي جليسا صالحا، فيسر لي أبا هريرة فقال: ممن أنت؟ قلت: من الكوفة، جئت ألتمس الخير، قال: أليس منكم سعد بن مالك مجاب الدعوة، وابن مسعود صاحب طهور رسول الله صلى الله عليه وسلم ونعليه، وحذيفة صاحب سره، وعمار الذي أجاره الله من الشيطان على لسان نبيه، وسلمان صاحب الكتابين".

(7/92)


باب مناقب أبي عبيدة بن الجراح وباب ذكر مصعب بن عمير
...
21 - باب مَنَاقِبِ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
3744-حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ قَالَ حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ

(7/92)


أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينًا وَإِنَّ أَمِينَنَا أَيَّتُهَا الأُمَّةُ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ"
[الحديث 4744-طرفاه في:4382، 7255 ]
3745-حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ صِلَةَ عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لِأَهْلِ نَجْرَانَ لاَبْعَثَنَّ يَعْنِي عَلَيْكُمْ يَعْنِي أَمِينًا حَقَّ أَمِينٍ فَأَشْرَفَ أَصْحَابُهُ فَبَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ"
قوله: "باب مناقب أبي عبيدة بن الجراح" كذا أخر ذ كره عن إخوانه من العشرة، ولم أقف في شيء من نسخ البخاري على ترجمة لمناقب عبد الرحمن بن عوف، ولا لسعيد بن زيد، وهما من العشرة، وإن كان قد أفرد ذكر إسلام سعيد بن زيد بترجمة في أوائل السيرة النبوية، وأظن ذلك من تصرف الناقلين لكتاب البخاري، كما تقدم مرارا أنه ترك الكتاب مسودة، فإن أسماء من ذكرهم هنا لم يقع فيهم مراعاة الأفضلية ولا السابقية ولا الأسنية، وهذه جهات التقديم في الترتيب، فلما لم يراع واحدا منها دل على أنه كتب كل ترجمة على حدة فضم بعض النقلة بعضها إلى بعض حسبما اتفق.وأبو عبيدة اسمه عامر بن عبد الله بن الجراح بن هلال بن أهيب بن ضبة بن الحارث بن فهر، يجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في فهر بن مالك، وعدد ما بينهما من الآباء متفاوت جدا بخمسة آباء، فيكون أبو عبيدة من حيث العدد في درجة عبد مناف، ومنهم من أدخل في نسبه بين الجراح وهلال ربيعة فيكون على هذا في درجة هاشم، وبذلك جزم أبو الحسن بن سميع ولم يذكره غيره، وأم أبي عبيدة هي من بنات عم أبيه، ذكر أبو أحمد الحاكم أنها أسلمت وقتل أبوه كافرا يوم بدر، ويقال إنه هو الذي قتله، ورواه الطبراني وغيره من طريق عبد الله بن شوذب مرسلا، ومات أبو عبيدة وهو أمير على الشام من قبل عمر بالطاعون سنه ثمان عشرة باتفاق.قوله: "حدثنا عبد الأعلى" هو ابن عبد الأعلى البصري السامي بالمهملة من بني سامة بن لؤي، وخالد شيخه هو الحذاء.قوله: "إن لكل أمة أمينا إن أميننا أيتها الأمة" صورته صورة النداء، لكن المراد فيه الاختصاص أي أمتنا مخصوصون من بين الأمم، وعلى هذا فهو بالنصب على الاختصاص، ويجوز الرفع، والأمين هو الثقة الرضي وهذه الصفة وإن كانت مشتركة بينه وبين غيره لكن السياق يشعر بأن له مزيدا في ذلك، لكن خص النبي صلى الله عليه وسلم كل واحد من الكبار بفضيلة ووصفه بها، فأشعر بقدر زائد فيها على غيره، كالحياء لعثمان، والقضاء لعلي ونحو ذلك."تنبيه": أورد الترمذي وابن حبان هذا الحديث من طريق عبد الوهاب الثقفي عن خالد الحذاء بهذا الإسناد مطولا وأوله " أرحم أمتي بأمي أبو بكر، وأشدهم في أمر الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأقرأهم لكتاب الله أبي، وأفرضهم زيد، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ، ألا وإن لكل أمة أمينا" الحديث وإسناده صحيح، إلا أن الحفاظ قالوا: إن الصواب في أوله الإرسال والموصول منه ما اقتصر عليه البخاري، والله أعلم.قوله: "عن صلة" بكسر المهملة وتخفيف اللام هو ابن زفر وذكر الجياني أنه وقع هنا في رواية القابسي صلة بن حذيفة وهو تحريف.قوله: "عن حذيفة" وقع في رواية النسائي: "عن صلة عن ابن مسعود" وسيأتي بيان ذلك في المغازي.قوله: "لأهل نجران" هم أهل بلد قريب من اليمن، وهم العاقب واسمه عبد المسيح والسيد

(7/93)


ومن معهما، ذكر ابن سعد أنهم وفدوا على النبي صلى الله عليه وسلم في سنة تسع وسماهم، وسيأتي شرح ذلك مطولا في أواخر المغازي حيث ذكره المصنف إن شاء الله تعالى.ووقع في حديث أنس عند مسلم: "أن أهل اليمن قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ابعث معنا رجلا يعلمنا السنة والإسلام، فأخذ بيد أبي عبيدة وقال: هذا أمين هذه الأمة " فإن كان الراوي تجوز عن أهل نجران بقوله: "أهل اليمن" لقرب نجران من اليمن وإلا فهما واقعتان، والأول أرجح، والله أعلم.قوله: "لأبعثن حق أمين" في رواية غير أبي ذر" لأبعثن - يعني عليكم - أمينا حق أمين" ولمسلم: "لأبعثن إليكم رجلا أمينا حق أمين".قوله: "فأشرف أصحابه" في رواية مسلم والإسماعيلي: "فاستشرف لها أصحاب رسولا الله صلى الله عليه وسلم والله أعلم.قوله: "فبعث أبا عبيدة" في رواية أبي يعلى "قم يا أبا عبيدة، فأرسله معهم" ووقع في رواية لأبي يعلى من طريق سالم عن أبيه "سمعت عمر يقول: ما أحببت الإمارة قط إلا مرة واحدة" فذكر القصة.وقال في الحديث: "فتعرضت أن تصيبني، فقال: قم يا أبا عبيدة".
باب ذكر مصعب بن عمير
قوله "ذكر مصعب بن عمير"أى ابن هاشم بن عبد الدار بن عبد مناف، وقع كذلك في رواية أبى ذر الهروى، وكأنه بيض له، وقد تقدم من فضائله في كتاب الجنائز أنه لما استشهد لم يوجد له ما يكفن فيه

(7/94)


22-- باب مَنَاقِبِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
قَالَ نَافِعُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَانَقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَسَنَ"
3746-حَدَّثَنَا صَدَقَةُ حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ حَدَّثَنَا أَبُو مُوسَى عَنْ الْحَسَنِ سَمِعَ أَبَا بَكْرَةَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَالْحَسَنُ إِلَى جَنْبِهِ يَنْظُرُ إِلَى النَّاسِ مَرَّةً وَإِلَيْهِ مَرَّةً وَيَقُولُ: ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ "
3747- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ قَالَ سَمِعْتُ أَبِي قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عُثْمَانَ "عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُهُ وَالْحَسَنَ وَيَقُولُ اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُمَا فَأَحِبَّهُمَا أَوْ كَمَا قَالَ"
3748-حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ قَالَ حَدَّثَنِي حُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أُتِيَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ بِرَأْسِ الْحُسَيْنِ عَلَيْهِ السَّلاَم فَجُعِلَ فِي طَسْتٍ فَجَعَلَ يَنْكُتُ وَقَالَ فِي حُسْنِهِ شَيْئًا فَقَالَ أَنَسٌ: كَانَ أَشْبَهَهُمْ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ مَخْضُوبًا بِالْوَسْمَةِ"
3749-حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبَرَنِي عَدِيٌّ قَالَ سَمِعْتُ الْبَرَاءَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ عَلَى عَاتِقِهِ يَقُولُ اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُ فَأَحِبَّهُ "

(7/94)


3750-حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ أَخْبَرَنِي عُمَرُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ رَأَيْتُ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَحَمَلَ الْحَسَنَ وَهُوَ يَقُولُ بِأَبِي شَبِيهٌ بِالنَّبِيِّ لَيْسَ شَبِيهٌ بِعَلِيٍّ وَعَلِيٌّ يَضْحَكُ"
3751-حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ وَصَدَقَةُ قَالاَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ وَاقِدِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ "قَالَ أَبُو بَكْرٍ ارْقُبُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَهْلِ بَيْتِهِ"
3752-حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَنَسٍ وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي أَنَسٌ قَالَ "لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَشْبَهَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ"
3753-حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي يَعْقُوبَ سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي نُعْمٍ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ وَسَأَلَهُ عَنْ الْمُحْرِمِ قَالَ شُعْبَةُ أَحْسِبُهُ يَقْتُلُ الذُّبَابَ فَقَالَ أَهْلُ الْعِرَاقِ يَسْأَلُونَ عَنْ الذُّبَابِ وَقَدْ قَتَلُوا ابْنَ ابْنَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هُمَا رَيْحَانَتَايَ مِنْ الدُّنْيَا"
[الحديث 3753-طرفه في: 5994]
قوله: "باب مناقب الحسن والحسين" كأنه جمعهما لما وقع لهما من الاشتراك في كثير من المناقب. وكان مولد الحسن في رمضان سنة ثلاث من الهجرة عند الأكثر، وقيل بعد ذلك، ومات بالمدينة مسموما سنة خمسين ويقال قبلها ويقال بعدها. وكان مولد الحسين في شعبان سنة أربع في قول الأكثر وقتل يوم عاشوراء سنة إحدى وستين بكربلاء من أرض العراق، وكان أهل الكوفة لما مات معاوية واستخلف يزيد كاتبوا الحسين بأنهم في طاعته، فخرج الحسين إليهم، فسبقه عبيد الله بن زياد إلى الكوفة فخذل غالب الناس عنه فتأخروا رغبة ورهبة، وقتل ابن عمه مسلم بن عقيل، وكان الحسين قد قدمه قبله ليبايع له الناس، ثم جهز إليه عسكرا فقاتلوه إلى أن قتل هو وجماعة من أهل بيته، والقصة مشهورة فلا نطيل بشرحها، وعسى أن يقع لنا إلمام بها في كتاب الفتن. قوله: "وقال نافع بن جبير" أي ابن مطعم، وحديثه المذكور طرف من حديث تقدم موصولا في البيوع. حديث أبي بكرة" إن ابني هذا سيد" وسيأتي شرحه مستوفى في كتاب الفتن، وزاد أبو ذر هنا: أبو موسى اسمه إسرائيل بن موسى من أهل البصرة نزل الهند، لم يروه عن الحسن غيره. قوله: "سمعت أبي" هو سليمان التيمي. قوله: "حدثنا أبو عثمان" وقع في رواية الأدب من وجه آخر عن معتمر عن أبيه سمعت أبا تميمة يحدث عن أبي عثمان، قال الإسماعيلي: كأن سليمان سمعه من أبي تميمة عن أبي عثمان، ثم لقي أبا عثمان فسمعه منه. قلت: بل هما حديثان، فإن لفظ سليمان عن أبي عثمان " اللهم إني أحبهما" ولفظ سليمان عن أبي تميمة" إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأخذني فيضعني على فخذه ويضع على الفخذ الأخر الحسن بن

(7/95)


علي ثم يضمهما ثم يقول: اللهم ارحمهما فإني أرحمهما ". قوله: "حدثني محمد بن الحسين بن إبراهيم" هو ابن أشكاب أخو علي. قوله: "حدثنا جرير" هو ابن أبي حازم "عن محمد" هو ابن سيرين. قوله: "أتى عبيد الله بن زياد" هو بالتصغير، وزياد هو الذي يقال له ابن أبي سفيان وكان أمير الكوفة عن يزيد بن معاوية وقتل الحسين في إمارته كما تقدم فأتي برأسه. قوله: "فجعل ينكت" في رواية الترمذي وابن حبان من طريق حفصة بنت سيرين عن أنس: فجعل يقول بقضيب له في أنفه، وللطبراني من حديث زيد بن أرقم: فجعل قضيبا في يده في عينه وأنفه، فقلت ارفع قضيبك فقد رأيت فم رسول الله صلى الله عليه وسلم في موضعه. وله من وجه آخر عن أنس نحوه وسيأتي. قوله: "كان أشبههم برسول الله صلى الله عليه وسلم" أي أشبه أهل البيت، وزاد البزار من وجه آخر عن أنس قال: "فقلت له إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلثم حيث تضع قضيبك، قال: "فانقبض". قوله: "وكان مخضوبا" أي الحسين "بالوسمة" بفتح الواو - وأخطأ من ضمها - وبسكون المهملة ويجوز فتحها: نبت يختضب به يميل إلى سواد، وسيأتي البحث في ذلك في كتاب اللباس إن شاء الله تعالى.الحديث الرابع قوله: "والحسن بن علي" وقع عند الإسماعيلي من طريق عمرو بن مرزوق عن شعبة "الحسن أو الحسين" بالشك، ثم ذكر أن أكثر أصحاب شعبة رووه فقالوا "الحسن" بغير شك، ثم عد منهم ثمانية.قوله: "عن ابن أبي مليكة عن عقبة بن الحارث" هذا هو الصحيح.وقال زمعة بن صالح عن ابن أبي مليكة" كانت فاطمة تنقز - بالقاف والزاي أي ترقص - الحسن بن علي" فذكر هذا الحديث، وأخرجه أحمد، ويحتمل إن كان حفظه أن يكون كل من أبي بكر وفاطمة توافقا على ذلك، أو يكون أبو بكر عرف أن فاطمة كانت تقول ذلك فتابعها على تلك المقالة.قوله: "بأبي شبيه بالنبي" تقدم في أول صفة النبي صلى الله عليه وسلم، ووقع عند أحمد من وجه آخر عن ابن أبي مليكة قال: "وكانت فاطمة عليها السلام ترقص الحسن وتقول: ابني شبيه بالنبي ليس شبيها بعلي" وفيه إرسال، فإن كان محفوظا فلعلها تواردت في ذلك مع أبي بكر أو تلقي ذلك أحدهما من الآخر.قوله: "ليس شبيه بعلي" قال ابن مالك كذا وقع برفع "شبيه" على أن ليس حرف عطف وهو مذهب كوفي، قال: ويجوز أن يكون "شبيه" اسم ليس، ويكون خبرها ضميرا متصلا حذف استغناء عن لفظه بنيته، ونحوه قوله في خطبة يوم النحر "أليس ذو الحجة" وقال الطيبي في قوله: "بأبي شبيه بالنبي" يحتمل أن يكون التقدير هو مفدى بأبي شبيه فيكون خبرا بعد خبر أو أفديه بأبي وشبيه بالنبي خبر مبتدأ محذوف.وفيه إشعار بعلية الشبه للتفدية.وفي قوله: "شبيه بالنبي" ما قد يعارض قول علي في صفة النبي صلى الله عليه وسلم -"لم أر قبله ولا بعده مثله" أخرجه الترمذي في الشمائل، والجواب أن يحمل المنفي على عموم الشبه والمثبت على معظمه، والله أعلم.حديث ابن عمر عن أبي بكر، تقدم متنا وسندا وشرحا قريبا في مناقب قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.قوله: "وقال عبد الرزاق إلخ" وصله أحمد وعبد بن حميد جميعا عن عبد الرزاق، وأخرجه الترمذي من روايته، وقصد البخاري بهذا التعليق بيان سماع الزهري له من أنس. حديث ابن عمر. قوله: "لم يكن أحد أشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم من الحسن بن علي" هذا يعارض رواية ابن سيرين الماضية في الحديث الثالث، فإنه قال في حق الحسين بن علي" كان أشبههم بالنبي صلى الله عليه وسلم ويمكن الجمع بأن يكون أنس قال ما وقع في رواية الزهري في حياة الحسن لأنه يومئذ كان أشد شبها بالنبي صلى الله عليه وسلم من أخيه الحسين، وأما ما وقع في رواية ابن سيرين فكان بعد ذلك كما

(7/96)


هو ظاهر من سياقه، أو المراد بمن فضل الحسين عليه في الشبه من عدا الحسن، ويحتمل أن يكون كل منهما كان أشد شبها به في بعض أعضائه؛ فقد روى الترمذي وابن حبان من طريق هانئ بن هانئ عن علي قال: "الحسن أشبه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين الرأس إلى الصدر، والحسين أشبه النبي صلى الله عليه وسلم ما كان أسفل من ذلك" ووقع في رواية عبد الأعلى عن معمر عند الإسماعيلي في رواية الزهري هذه" وكان أشبههم وجها بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو يؤيد حديث علي هذا والله أعلم. والذين كانوا يشبهون بالنبي صلى الله عليه وسلم غير الحسن والحسين جعفر بن أبي طالب وابنه عبد الله بن جعفر وقثم - بالقاف - ابن العباس بن عبد المطلب وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ومسلم بن عقيل بن أبى طالب، ومن غير بني هاشم السائب بن يزيد المطلبي الجد الأعلى للإمام الشافعي وعبد الله بن عامر بن كريز العبشمي وكابس بن ربيعة بن عدي، فهؤلاء عشرة نظم منهم أبو الفتح بن سيد الناس خمسة، أنشدنا محمد بن الحسن المقري عنه:
بخمسة أشبهوا المختار من مضر ... يا حسن ما خولوا من شبهه الحسن
بجعفر وابن عم المصطفى قثم ... وسائب وأبي سفيان والحسن
وزادهم شيخنا أبو الفضل بن الحسين الحافظ اثنين، وهما الحسين وعبد الله بن عامر بن كريز، ونظم ذلك في بيتين وأنشدناهما وهما:
وسبعة شبهوا بالمصطفى فما ... لهم بذلك قدر قد زكا ونما
سبطا النبي أبو سفيان سائبهم ... وجعفر وابنه ذو الجود مع قثما
وزاد فيهم بعض أصحابنا ثامنا وهو عبد الله بن جعفر، ونظم ذلك في بيتين أيضا، وقد زدت فيهما مسلم بن عقيل وكابس بن ربيعة فصاروا عشرة، ونظمت ذلك في بيتين وهما:
شبه النبي لعشر سائب وأبي ... سفيان والحسنين الطاهرين هما
وجعفر وابنه ثم ابن عامر هم ... ومسلم كابس يتلوه مع قثما
وقد وجدت بعد ذلك أن فاطمة ابنته عليها السلام كانت تشبهه، فيمكن أن يغير من البيت الأول قوله: "لعشر" فيجعل"لياء" وهو بالحساب أحد عشر ويغير "الطاهرين هما" فيجعل "ثم أمهما". ثم وجدت أن إبراهيم ولده عليه السلام كان يشبهه فيغير قوله لياء فيجعل "ليب" وبدل الطاهرين هما" الخال أمهما" ثم وجدت في قصة جعفر بن أبي طالب أن ولديه عبد الله وعوفا كانا يشبهانه فيجعل أول البيت "شبه النبي ليج" والبيت الثاني" وجعفر ولداه وابن عامرهم" إلخ، ووجدت من نظم الإمام أبي الوليد بن الشحنة قاضي حلب ولم أسمعه منه:
وخمس عشر لهم بالمصطفى شبه
سبطاه وابنا عقيل سائب قثم
وجعفر وابنه عبدان مسلم أبو
سفيان كابس عثم ابن النجادهم
فزاد ابن عقيل الثاني وعثمان وابن النجاد، وأخل ممن ذكرته بابن جعفر الثاني، وأراد هو بقوله: "عبدان" تثنية عبد وهما عبد الله بن جعفر وعبد الله بن الحارث، ولو كان أراد اسما مفردا لم يتم له خمسة عشرة. وقد تعقب قوله

(7/97)


"ابنا عقيل" بالتثنية مع قوله: "ومسلم: "لأن مسلما هو ابن عقيل، ثم وجدت الجواب عنه يؤخذ مما ذكره أبو جعفر بن حبيب أن مسلم بن معتب بن أبي لهب ممن كان يشبه، ومسلم بن عقيل ذكره ابن حبان في ثقاته. ومحمد بن عقيل ذكره المزي في تهذيبه، وذكر ف"المحبر" أن عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب الملقب ببه كان يشبه، وذكر ذلك ابن عبد البر في "الاستيعاب" أيضا، وأراد ابن الشحنة بقوله: "عثم" ترخيم عثمان، واعتمد على ما جاء في حديث عائشة "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لابنته أم كلثوم لما زوجها عثمان: إنه أشبه الناس بجدك إبراهيم وأبيك محمد " وهو حديث موضوع كما قاله الذهبي في ترجمة عمرو بن الأزهر أحد رواته. وهو وشيخه خالد بن عمر وكذبهما الأئمة، وانفرد بهذا الحديث، والمعروف في صفة عثمان خلاف ذلك، وأراد بابن النجاد علي بن علي بن النجاد بن رفاعة، واعتمد على ما ذكره ابن سعد عن عثمان أنه كان يشبه، وهذا تابعي صغير متأخر عن الذين تقدم ذكرهم فلذلك لم أعول عليه، وعلى تقدير اعتباره يكون قد فاته ممن وصف بذلك القاسم بن عبد الله بن محمد بن عقيل، وإبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي ويحيى بن القاسم بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي، فكل من هؤلاء مذكور في كتب الأنساب أنه كان يشبه، حتى إن يحيى المذكور كان يقال له "الشبيه" لأجل ذلك، والمهدي الذي يخرج في آخر الزمان جاء أنه يشبه وواطأ اسمه واسم أبيه اسم النبي صلى الله عليه وسلم واسم أبيه، وذكر ابن حبيب أيضا محمد بن جعفر بن أبي طالب، وهو غلط لأنه وقع في الخبر الذي تقدم في جعفر أنه قال في حق محمد بن جعفر شبيه عمه أبي طالب، وقد سلم ابن الشحنة منه، وقد غيرت بيتي هكذا:
شبه النبي ليه سائب وأبي ... سفيان والحسنين الخال أمهما
وجعفر ولديه وابن عامر كا ... بس ونجلي عقيل ببة قثما
فاقتصرت على ثلاثة عشر ممن ذكرهم ابن الشحنة، وأبدلتهما باثنين فوفيت عدته مع السلامة مما تعقب عليه، والله الموفق. وذكر ابن يونس في "تاريخ مصر" عبد الله بن أبي طلحة الخولاني وأنه شهد فتح مصر وأمره عمر بأن لا يمشي إلا مقنعا لأنه كان يشبه النبي صلى الله عليه وسلم، قال: وكان له عبادة وفضل، وفي قصة الكاهنة مع أويس أنها قالت لهم أشبه الناس بصاحب المقام - أي إبراهيم الخليل - هذا، تشير إلى محمد صلى الله عليه وسلم. قوله: "عن محمد بن أبي يعقوب" هو محمد بن عبد الله البصري الضبي، ويقال إنه تميمي. وقال شعبة مرة "حدثني محمد بن أبي يعقوب وكان سيد بني تميم" وهو ثقة باتفاق. قوله: "سمعت ابن أبي نعم" بضم النون وسكون المهملة وهو عبد الرحمن يكنى أبا الحكم البجلي. قوله: "وسأله عن المحرم" في رواية مهدي بن ميمون عن ابن أبي يعقوب كما سيأتي في الأدب "وسأله رجل" ورأيت في بعض النسخ من رواية أبي ذر الهروي "وسألته" فإن كانت محفوظة فقد عرف اسم السائل، لكن يبعده أن في رواية جرير بن حازم عن محمد بن أبي يعقوب عند الترمذي" أن رجلا من أهل العراق سأل" وفي رواية لأحمد "وأنا جالس عنده" ونحوها في رواية مهدي المذكورة في الأدب. قوله: "قال شعبة: أحسبه يقتل الذباب" وقع عند أبي داود الطيالسي عن شعبة بغير شك. وفي رواية جرير بن حازم المذكورة" سئل ابن عمر عن دم البعوض يصيب الثوب" وكذا هو في رواية مهدي بن ميمون المذكورة، يحتمل أن يكون السؤال وقع عن الأمرين، والله أعلم. قوله: "فقال: أهل العراق يسألون عن الذباب" في رواية أبي داود" فقال: يا أهل العراق، تسألونني

(7/98)


عن الذباب" أورد ابن عمر هذا متعجبا من حرص أهل العراق على السؤال عن الشيء اليسير وتفريطهم في الشيء الجليل. قوله: "ريحانتاي" كذا للأكثر بالتثنية، ولأبي ذر "ريحاني" بالإفراد والتذكير، وشبههما بذلك لأن الولد يشم ويقبل، ووقع في رواية جرير بن حازم" أن الحسن والحسين هما ريحانتي" وعند الترمذي من حديث أنس" أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو الحسن والحسين فيشمهما ويضمهما إليه" وفي رواية الطبراني في "الأوسط" من طريق أبي أيوب قال: "دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم والحسن والحسين يلعبن بين يديه، فقلت: أتحبهما يا رسول الله؟ قال: "وكيف لا وهما ريحانتاي من الدنيا أشمهما"

(7/99)


23- باب مَنَاقِبِ بِلاَلِ بْنِ رَبَاحٍ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
وَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "سَمِعْتُ دَفَّ نَعْلَيْكَ بَيْنَ يَدَيَّ فِي الْجَنَّةِ"
3754-حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ أَخْبَرَنَا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ "كَانَ عُمَرُ يَقُولُ أَبُو بَكْرٍ سَيِّدُنَا وَأَعْتَقَ سَيِّدَنَا يَعْنِي بِلاَلًا"
3755-حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدٍ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ عَنْ قَيْسٍ أَنَّ بِلاَلًا قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ إِنْ كُنْتَ إِنَّمَا اشْتَرَيْتَنِي لِنَفْسِكَ فَأَمْسِكْنِي وَإِنْ كُنْتَ إِنَّمَا اشْتَرَيْتَنِي لِلَّهِ فَدَعْنِي وَعَمَلَ اللَّهِ"
قوله: "مناقب بلال بن رباح" بفتح الراء والموحدة وآخره مهملة، وقد تقدم في "باب البيع والشراء مع المشركين" من البيوع بيان الاختلاف في كيفية شرائه، وذكر ابن سعد أنه كان من مولدي السراة، واسم أمه حمامة وكانت لبعض بني جمح، وجاء عن أنس عند الطبراني وغيره إنه حبشي وهو المشهور، وقيل نوبي. قوله: "مولى أبي بكر" روى أبو بكر بن أبي شيبة بإسناد صحيح عن قيس بن أبي حازم قال: "اشترى أبو بكر بلالا بخمس أواق، وهو مدفون بالحجارة". قوله: "وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "سمعت دف نعليك في الجنة" هو طرف من حديث أورده في صلاة الليل، وقد تقدم شرحه. قوله: "كان عمر يقول: أبو بكر سيدنا، وأعتق سيدنا، يعني بلالا" قال ابن التين: يعني أن بلالا من السادة، ولم يرد أنه أفضل من عمر. وقال غيره: السيد الأول حقيقة والثاني قاله تواضعا على سبيل المجاز، أو أن السيادة لا تثبت الأفضلية، فقال ابن عمر "ما رأيت أسود من معاوية" مع أنه رأى أبا بكر وعمر. قوله: "حدثنا إسماعيل" هو ابن أبي خالد "عن قيس" هو ابن أبي حازم. قوله: "أن بلالا قال لأبي بكر" كأن قوله ذلك لأبي بكر في خلافة أبي بكر، وقد وقع ذلك صريحا في رواية أحمد عن أبي أسامة عن إسماعيل بلفظ: "قال بلال لأبي بكر حين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم". قوله: "فدعني وعمل الله" في رواية الكشميهني: "وعملي لله" وفي رواية أبي أسامة "فذرني أعمل لله" وذكر ابن سعد في" الطبقات" في هذه القصة من الزيادة" أنه قال رأيت أفضل عمل المؤمن الجهاد، فأردت أن أرابط في سبيل الله، وأن أبا بكر قال لبلال: أنشدك الله وحقي، فأقام معه بلال حتى توفي، فلما مات أذن له عمر فتوجه إلى الشام مجاهدا فمات بها في طاعون عمواس سنة ثمان عشرة، وقيل: سنة عشرين" والله أعلم. وكانت وفاته بدمشق ودفن بباب الصغير وبهذا جزم النووي، وقيل: دفن بباب كيسان، وقيل: بداريا، وقيل: بحلب، ورده المنذري وقال: الذي مات بحلب أخوه خالد، وزعم ابن السمعاني

(7/99)


أن بلالا مات بالمدينة، وغلطوه.

(7/100)


24 - باب ذِكْرِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
3756-حدثنا مسدد حدثنا عبد الوارث عن خالد عن عكرمة عن ابن عباس قال"ضمنى النبي صلي الله علية وسلم إلى صدرهِ وقال: اللهم علمه الحكمة .وحدثنا عبد الوارث"وقال: اللهم علمه الكتاب ":
حدثنا موسى حدثنا وهيب عن خالد ... مثله. والحكمة الإصابة في غير النبوة
قوله: "ذكر ابن عباس" أي عبد الله بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، يكنى أبا العباس، ولد قبل الهجرة بثلاث سنين. ومات بالطائف سنة ثمان وستين، وكان من علماء الصحابة حتى كان عمر يقدمه مع الأشياخ وهو شاب، أورد فيه حديثه قال: "ضمني النبي صلى الله عليه وسلم إليه وقال اللهم علمه الحكمة ، وفي لفظ علمه الكتاب " وهو يؤيد من فسر الحكمة هنا بالقرآن، وقد استوعبت ما قيل في تفسيرها في أوائل كتاب العلم، وقد تقدم هذا الحديث في كتاب العلم وفي الطهارة مع بيان سببه وبيان من زاد فيه: "وعلمه التأويل" وهذه الفظة اشتهرت على الألسنة "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل" حتى نسبها بعضهم للصحيحين ولم يصب، والحديث عند أحمد بهذا اللفظ من طريق ابن خيثم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، وعند الطبراني من وجهين آخرين، وأوله في هذا الصحيح من طريق عبيد الله بن أبي يزيد عن ابن عباس دون قوله: "وعلمه التأويل" وأخرجها البزار من طريق شعيب بن بشر عن عكرمة بلفظ: "اللهم علمه تأويل القرآن" وعند أحمد من وجه آخر عن عكرمة "اللهم أعط ابن عباس الحكمة وعلمه التأويل" واختلف في المراد بالحكمة هنا فقيل: الإصابة في القول، وقيل: الفهم عن الله، وقيل: ما يشهد العقل بصحته، وقيل: نور يفرق به بين الإلهام والوسواس، وقيل: سرعة الجواب بالصواب، وقيل غير ذلك. وكان ابن عباس من أعلم الصحابة بتفسير القرآن. وروى يعقوب بن سفيان في تاريخه بإسناد صحيح عن ابن مسعود قال: "لو أدرك ابن عباس أسناننا ما عاشره منا رجل" وكان يقول: "نعم ترجمان القرآن ابن عباس" وروى هذه الزيادة ابن سعد من وجه آخر بن عبد الله بن مسعود، وروى أبو زرعة الدمشقي في تاريخه عن ابن عمر قال: "هو أعلم الناس بما أنزل الله على محمد" وأخرج ابن أبي خيثمة نحوه بإسناد حسن، وروى يعقوب أيضا بإسناد صحيح عن أبي وائل قال: "قرأ ابن عباس سورة النور ثم جعل يفسرها، فقال رجل: لو سمعت هذا الديلم لأسلمت" ورواه أبو نعيم في "الحلية" من وجه آخر بلفظ: "سورة البقرة" وزاد أنه" كان على الموسم" يعني سنة خمس وثلاثين، كان عثمان أرسله لما حضر

(7/100)


25- باب مَنَاقِبِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
3757-حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ وَاقِدٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلاَلٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَعَى زَيْدًا وَجَعْفَرًا وَابْنَ رَوَاحَةَ لِلنَّاسِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهُمْ خَبَرُهُمْ فَقَالَ أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ ثُمَّ أَخَذَ جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ ثُمَّ أَخَذَ ابْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ وَعَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ حَتَّى أَخَذَ الرَّايَةَ سَيْفٌ

(7/100)


26 - باب مَنَاقِبِ سَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
3758-حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ ذُكِرَ عَبْدُ اللَّهِ عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو فَقَالَ ذَاكَ رَجُلٌ لاَ أَزَالُ أُحِبُّهُ بَعْدَ مَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "اسْتَقْرِئُوا الْقُرْآنَ مِنْ أَرْبَعَةٍ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فَبَدَأَ بِهِ وَسَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ لاَ أَدْرِي بَدَأَ بِأُبَيٍّ أَوْ بِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ.قال: لا أدرى،بدأ بأبي أو بمعاذ"
[الحديث 3758-أطرفه في: 3760، 3806، 3808، 4999]
قوله: "باب مناقب سالم مولى أبي حذيفة" أي ابن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، وكان مولاه أبو حذيفة بن عتبة من أكابر الصحابة وشهد بدرا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وقتل أبو يومئذ كافرا فساءه ذلك فقال: "كنت أرجو أن يسلم، لما كنت أرى من عقله" واستشهد أبو حذيفة باليمامة، وأما سالم فكان من السابقين الأولين، وقد أشير في هذا الحديث إلى أنه كان عارفا بالقرآن، وسبق في كتاب الصلاة أنه كان يؤم المهاجرين بقباء لما قدموا من مكة،

(7/101)


وشهد سالم بدرا وما بعدها، ويقال إن اسم أبيه معقل، وكان مولى لامرأة من الأنصار فتبناه أبو حذيفة لما تزوجها فنسب إليه، وسيأتي بيان ذلك في الرضاع، واستشهد سالم باليمامة أيضا. قوله: "ذكر" بالضم ولم أعرف اسم فاعله. قوله: "عبد الله" أي ابن مسعود، وعبد الله بن عمرو أي ابن العاص. قوله: "فبدأ به" فيه أن التقديم يفيد الاهتمام، وقوله: "لا أدري بدأ بأبي أو بمعاذ" فيه أن الواو تقتضي الترتيب ظاهرا، وتخصيص هؤلاء الأربعة بأخذ القرآن عنهم إما لأنهم كانوا أكثر ضبطا له وأتقن لأدائه، أو لأنهم تفرغوا لأخذه منه مشافهة وتصدوا لأدائه من بعده، فلذلك ندب إلى الأخذ عنهم، لا أنه لم يجمعه غيرهم.

(7/102)


باب مناقب عبدالله بن مسعود
...
27- باب مَنَاقِبِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
3759-حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة عن سليمان قال سمعت أبا وائل قال سمعت مسروقاً قال قال عبد الله بن عمرو"إن رسول الله صلى لله علية وسلم لم يكن فاحشاً ولا متفحشاً.وقال: إن من احبكم إلىً أحسنكم أخلاقا "
3760-"وقال: ا ستقرئوا القرآن من أربعة: من عبد الله بن مسعود،وسالم ومولى أبى حذيفة، وأبي ابن كعب، ومعاذ بن جبل "
3761-حدثنا موسى عن أبي عوانة عن مغيرة عن إبراهيم عن علقمة ثم دخلت الشام فصليت ركعتين فقلت اللهم يسر لي جليسا صالحا فرأيت شيخا مقبلا فلما دنا قلت أرجو أن يكون استجاب قال من أين أنت قلت من أهل الكوفة قال أفلم يكن فيكم صاحب النعلين والوساد والمطهرة أو لم الذي أجير من الشيطان أو لم صاحب السر الذي لا يعلمه غيره كيف قرأ بن أم عبد والليل إذا يغشى فقرأت والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى والذكر والأنثى قال أقرأنيها النبي صلى الله عليه وسلم فاه إلي في فما زال هؤلاء حتى كادوا يردونني"
3762-حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ سَأَلْنَا حُذَيْفَةَ عَنْ رَجُلٍ قَرِيبِ السَّمْتِ وَالْهَدْيِ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى نَأْخُذَ عَنْهُ فَقَالَ مَا أَعْرِفُ أَحَدًا أَقْرَبَ سَمْتًا وَهَدْيًا وَدَلًّا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ"
[الحديث 3762-طرفه في:6097]
3763-حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُوسُفَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ حَدَّثَنِي الأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا مُوسَى الأَشْعَرِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ قَدِمْتُ أَنَا وَأَخِي

(7/102)


مِنْ الْيَمَنِ فَمَكُثْنَا حِينًا مَا نُرَى إِلاَّ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا نَرَى مِنْ دُخُولِهِ وَدُخُولِ أُمِّهِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
[الحديث 3763-طرفه في: 4384]
قوله: "باب مناقب عبد الله بن مسعود" وهو ابن مسعود بن غافل بن حبيب بن شمخ بن هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر، مات أبوه في الجاهلية وأسلمت أمه وصحبت، فلذلك نسب إليها أحيانا، وكان هو من السابقين. وقد روى ابن حبان من طريقه أنه كان سادس ستة في الإسلام، وهاجر الهجرتين، وسيأتي في غزوة بدر شهوده إياها، وولي بيت المال بالكوفة لعمر وعثمان، وقدم في أواخر عمره المدينة، ومات في خلافة عثمان سنة اثنتين وثلاثين، وقد جاوز الستين، وكان من علماء الصحابة، وممن انتشر علمه بكثرة أصحابه والآخذين عنه. حديث حذيفة "ما أعلم أقرب أحدا سمتا" أي خشوعا "وهديا" أي طريقة "ودلا" بفتح المهملة والتشديد أي سيرة وحالة وهيئة وكأنه مأخوذ مما يدل ظاهر حاله على حسن فعاله. قوله: "من ابن أم عبد" هو عبد الله بن مسعود، وكانت أمه تكنى أم عبد، وقد ذكرت في الحديث الذي بعده حديث أبي موسى وتقدم التنبيه عليه في مناقب عمار، وقد روى الحاكم وغيره من طريق أبي وائل عن حذيفة قال: "لقد علم المحفظون من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن ابن أم عبد من أقربهم إلى الله وسيلة يوم القيامة". قوله: "في حديث أبي موسى: قدمت أنا وأخي" تقدم بيان اسمه في مناقب أبي بكر الصديق، وقوله: "ما نرى" حال من فاعل مكثنا أو صفة لقوله حينا، والحديث دال على ملازمته للنبي صلى الله عليه وسلم وهو يستلزم ثبوت فضله.

(7/103)


28-- باب ذِكْرِ مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
3764-حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ بِشْرٍ حَدَّثَنَا الْمُعَافَى عَنْ عُثْمَانَ بْنِ الأَسْوَدِ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ أَوْتَرَ مُعَاوِيَةُ بَعْدَ الْعِشَاءِ بِرَكْعَةٍ وَعِنْدَهُ مَوْلًى لِابْنِ عَبَّاسٍ فَأَتَى ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ دَعْهُ فَإِنَّهُ قَدْ صَحِبَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
[الحديث 3764-طرفه فى:3765]
3765-حدثنا ابن مريم حدثنا نافع بن عمر حدثنى ابن أبي ملكية "قيل لابن عباسٍ:هل لك في أمير المؤمنين معاوية فانه ما أوتر إلا بواحدة، قال: إنه فقيه"
3766-حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ عَبَّاسٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ قَالَ سَمِعْتُ حُمْرَانَ بْنَ أَبَانَ عَنْ مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ إِنَّكُمْ لَتُصَلُّونَ صَلاَةً لَقَدْ صَحِبْنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا رَأَيْنَاهُ يُصَلِّيهَا وَلَقَدْ نَهَى عَنْهُمَا يَعْنِي الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ"

(7/103)


قوله: "باب ذكر معاوية" أي ابن أبي سفيان واسمه صخر ويكنى أيضا أبا حنظلة بن حرب بن أمية بن عبد شمس، أسلم قبل الفتح، وأسلم أبواه بعده، وصحب النبي صلى الله عليه وسلم وكتب له، وولي إمرة دمشق عن عمر بعد موت أخيه يزيد بن أبي سفيان سنة تسع عشرة واستمر عليها بعد ذلك إلى خلافة عثمان، ثم زمان محاربته لعلي وللحسن، ثم اجتمع عليه الناس في سنة إحدى وأربعين إلى أن مات سنة ستين، فكانت ولايته بين إمارة ومحاربة ومملكة أكثر من أربعين سنة متوالية.قوله: "حدثنا المعافى" هو ابن عمران الأزدي الموصلي يكنى أبا مسعود، وكان من الثقات النبلاء، وقد لقي بعض التابعين، وتلمذ لسفيان الثوري، وكان يلقب ياقوتة العلماء، وكان الثوري شديد التعظيم له، مات سنة خمس أو ست وثمانين ومائة، وليس له في البخاري سوى هذا الموضع وموضع آخر تقدم في الاستسقاء، وفي الرواة آخر يقال له المعافى بن سليمان أصغر من هذا، ووهم من عكس ذلك على ما يظهر من كلام ابن التين، ومات المعافى بن سليمان سنة مائتين وأربع وثلاثين، أخرج له النسائي وحده وأخرج للمعافى بن عمران مع البخاري أبو داود والنسائي.قوله: "وعنده مولى لابن عباس" هو كريب، روي ذلك محمد بن نصر المروزي في "كتاب الوتر" له من طريق ابن عيينة عن عبيد الله بن أبي يزيد عن كريب.وأخرج من طريق علي بن عبد الله بن عباس قال: "بت مع أبي عند معاوية، فرأيته أوتر بركعة، فذكرت ذلك لأبي فقال: يا بني، هو أعلم".قوله: "فقال دعه" فيه حذف يدل عليه السياق تقديره: فأتى ابن عباس فحكى له ذلك فقال له: دعه، وقوله: "دعه" أي اترك القول فيه والإنكار عليه "فإنه قد صحت" أي فلم يفعل شيئا إلا بمستند.وفي قوله في الرواية الأخرى "أصاب، إنه فقيه" ما يؤيد ذلك، ولا التفات إلى قول ابن التين: إن الوتر بركعة لم يقل به الفقهاء، لأن الذي نفاه قول الأكثر، وثبت فيه عدة أحاديث، نعم الأفضل أن يتقدمها شفع وأقله ركعتان، واختلف أيما الأفضل وصلهما بها ثم اورد حديث معاوية في النهي عن الصلاة بعد العصر، والغرض منه قوله: "لقد صحبنا النبي صلى الله عليه وسلم": والكلام على الصلاة بعد صلاة العصر تقدم في مكانه في كتاب الصلاة."تنبيه": عير البخاري في هذه الترجمة بقوله ذكر ولم يقل فضيلة ولا منقبة لكون الفضيلة لا تؤخذ من حديث الباب، لأن ظاهر شهادة ابن عباس له بالفقه والصحبة دالة على الفضل الكثير، وقد صنف ابن أبي عاصم جزءا في مناقبه، وكذلك أبو عمر غلام ثعلب، وأبو بكر النقاش وأورد ابن الجوزي في الموضوعات بعض الأحاديث التي ذكروها ثم ساق عن إسحاق بن راهويه أنه قال لم يصح في فضائل معاوية شيء، فهذه النكتة في عدول البخاري عن التصريح بلفظ منقبة اعتمادا على قول شيخه، لكن بدقيق نظره استنبط ما يدفع به رءوس الروافض، وقصة النسائي في ذلك مشهورة، وكأنه اعتمد أيضا على قول شيخه إسحاق، وكذلك في قصة الحاكم.وأخرج ابن الجوزي أيضا من طريق عبد الله بن أحمد بن حنبل: سألت أبي ما تقول في علي ومعاوية؟ فأطرق ثم قال: اعلم أن عليا كان كثير الأعداء ففتش أعداؤه له عيبا فلم يجدوا، فعمدوا إلى رجل قد حاربه فأطروه كيادا منهم لعلي، فأشار بهذا إلى ما اختلقوه لمعاوية من الفضائل مما لا أصل له وقد ورد في فضائل معاوية أحاديث كثيرة لكن ليس فيها ما يصح من طريق الإسناد، وبذلك جزم إسحاق بن راهويه والنسائي وغيرهما، والله أعلم

(7/104)


29-- باب مَنَاقِبِ فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلاَم
وَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "فَاطِمَةُ سَيِّدَةُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ"
حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "فَاطِمَةُ بِضْعَةٌ مِنِّي فَمَنْ أَغْضَبَهَا أَغْضَبَنِي"
قوله: "باب مناقب فاطمة" أي بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمها خديجة عليها السلام، ولدت فاطمة في الإسلام، وقيل: قبل البعثة، وتزوجها علي رضي الله عنه بعد بدر في السنة الثانية، وولدت له وماتت سنة إحدى عشرة بعد النبي صلى الله عليه وسلم بستة أشهر وقد ثبت في الصحيح من حديث عائشة، وقيل: بل عاشت بعده ثمانية وقيل: ثلاثة وقيل: شهرين وقيل: شهرا واحدا، ولها أربع وعشرون سنة وقيل: غير ذلك فقيل إحدى وقيل: خمس وقيل: تسع وقيل: عاشت ثلاثين سنة وسيأتي من مناقب فاطمة في ذكر أمها خديجة في أول السيرة النبوية.وأقوى ما يستدل به على تقديم فاطمة على غيرها من نساء عصرها ومن بعدهن ما ذكر من قوله صلى الله عليه وسلم أنها سيدة نساء العالمين إلا مريم وأنها رزئت بالنبي صلى الله عليه وسلم دون غيرها من بناته فإنهن متن في حياته فكن في صحيفته ومات هو في حياتها فكان في صحيفتها، وكنت أقول ذلك استنباطا إلى أن وجدته منصوصا: قال أبو جعفر الطبري في تفسير آل عمران من التفسير الكبير من طريق فاطمة بنت الحسين بن علي: إن جدتها فاطمة قالت: "دخل رسول صلى الله عليه وسلم يوما وأنا عند عائشة فناجاني فبكيت، ثم ناجاني فضحكت، فسألتني عائشة عن ذلك فقلت: لقد علمت أأخبرك بسر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فتركتني.فلما توفي سألت فقلت: "ناجاني" فذكر الحديث في معارضة جبريل له بالقرآن مرتين وأنه قال: "أحسب أني ميت في عامي هذا؛ وأنه لم ترزأ امرأة من نساء العالمين مثل ما رزئت، فلا تكوني دون امرأة منهن صبرا ، فبكيت، فقال: أنت سيدة نساء أهل الجنة إلا مريم فضحكت" .قلت: وأصل الحديث في الصحيح دون هذه الزيادة.قوله: "وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "فاطمة سيدة نساء أهل الجنة" هو طرف من حديث وصله المؤلف في "علامات النبوة" وعند الحاكم من حديث حذيفة بسند جيد "أتى النبي صلى الله عليه وسلم ملك وقال إن فاطمة سيدة نساء أهل الجنة" وقد تقدم في آخر أحاديث الأنبياء ما ورد في بعض طرقه من ذكر مريم عليها السلام وغيرها مشاركة لها في ذلك.قوله: "عن ابن أبي مليكة عن المسور بن مخرمة" كذا رواه عنه عمرو بن دينار، وتابعه الليث وابن لهيعة وغيرهما رواه أيوب عن ابن أبي مليكة فقال: عن عبد الله بن الزبير، أخرجه الترمذي وصححه وقال:يحتمل أن يكون ابن أبي مليكة سمعه منهما جميعا، ورجح الدار قطني وغيره طريق المسور، والأول أثبت بلا ريب لأن المسور قد روى هذا الحديث قصة مطولة قد تقدمت في "باب أصهار النبي صلى الله عليه وسلم".نعم يحتمل أن يكون ابن الزبير سمع هذه القطعة فقط أو سمعها من المسور فأرسلها.قوله: "بضعة" بفتح الموحدة وحكي ضمها وكسرها أيضا وسكون المعجمة أي قطعة لحم.قوله: "فمن أغضبها أغضبني" استدل به السهيلي على أن من سبها فإنه يكفر، وتوجيهه أنها تغضب ممن سبها، وقد سوى بين غضبها وغضبه ومن أغضبه صلى الله عليه وسلم يكفر، وفي هذا التوجيه نظر لا يخفى، وسيأتي بقية ما يتعلق بفضلها في ترجمة والدتها خديجة إن شاء الله تعالى، وفيه أنها أفضل بنات النبي صلى الله عليه وسلم، وأما ما أخرجه الطحاوي وغيره من حديث عائشة في قصة مجيء زيد بن حارثة بزينب بنت رسول صلى الله عليه وسلم من مكة وفي آخره: "قال النبي صلى الله عليه وسلم: "هي أفضل

(7/105)


بناتي أصيبت في" فقد أجاب عنه بعض الأئمة بتقدير ثبوته بأن ذلك كان متقدما، ثم وهب الله لفاطمة من الأحوال السنية والكمال ما لم يشاركها أحد من نساء هذه الأمة مطلقا والله أعلم.وقد مضى تقرير أفضليتها في ترجمة مريم من حديث الأنبياء، ويأتي أيضا في ترجمة خديجة إن شاء الله تعالى.

(7/106)


30 - باب فَضْلِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
3768-حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَبُو سَلَمَةَ إِنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَوْمًا يَا عَائِشَ هَذَا جِبْرِيلُ يُقْرِئُكِ السَّلاَمَ فَقُلْتُ وَعَلَيْهِ السَّلاَمُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ تَرَى مَا لاَ أَرَى تُرِيدُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
3769-حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ و حَدَّثَنَا عَمْرٌو أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ مُرَّةَ عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كَمَلَ مِنْ الرِّجَالِ كَثِيرٌ وَلَمْ يَكْمُلْ مِنْ النِّسَاءِ إِلاَّ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ وَفَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ"
3770-حدثنا عبد العزيز بن عبد الله قال حدثني محمد بن جعفر عن عبد الله بن عبد الرحمن أنه سمع أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام"
[الحديث 3770-طرفاه في:5416، 5428]
3771-حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَنَّ عَائِشَةَ اشْتَكَتْ فَجَاءَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَالَ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ تَقْدَمِينَ عَلَى فَرَطِ صِدْقٍ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى أَبِي بَكْرٍ"
[الحديث 3771- طرفاه فيك4753، 4754 ]
3772-حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الْحَكَمِ سَمِعْتُ أَبَا وَائِلٍ قَالَ لَمَّا بَعَثَ عَلِيٌّ عَمَّارًا وَالْحَسَنَ إِلَى الْكُوفَةِ لِيَسْتَنْفِرَهُمْ خَطَبَ عَمَّارٌ فَقَالَ إِنِّي لاَعْلَمُ أَنَّهَا زَوْجَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَكِنَّ اللَّهَ ابْتَلاَكُمْ لِتَتَّبِعُوهُ أَوْ إِيَّاهَا"
[الحديث 3772- طرفاه في: 7100، 7101 ]
3773-حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا اسْتَعَارَتْ مِنْ أَسْمَاءَ قِلاَدَةً فَهَلَكَتْ فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِهِ فِي طَلَبِهَا فَأَدْرَكَتْهُمْ الصَّلاَةُ فَصَلَّوْا بِغَيْرِ وُضُوءٍ فَلَمَّا أَتَوْا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَكَوْا ذَلِكَ إِلَيْهِ فَنَزَلَتْ آيَةُ التَّيَمُّمِ فَقَالَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ جَزَاكِ

(7/106)


اللَّهُ خَيْرًا فَوَاللَّهِ مَا نَزَلَ بِكِ أَمْرٌ قَطُّ إِلاَّ جَعَلَ اللَّهُ لَكِ مِنْهُ مَخْرَجًا وَجَعَلَ لِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ بَرَكَةً"
3774--"حَدَّثَنِي عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا كَانَ فِي مَرَضِهِ جَعَلَ يَدُورُ فِي نِسَائِهِ وَيَقُولُ أَيْنَ أَنَا غَدًا أَيْنَ أَنَا غَدًا حِرْصًا عَلَى بَيْتِ عَائِشَةَ قَالَتْ عَائِشَةُ فَلَمَّا كَانَ يَوْمِي سَكَنَ"
3775-حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ قَالَ كَانَ النَّاسُ يَتَحَرَّوْنَ بِهَدَايَاهُمْ يَوْمَ عَائِشَةَ قَالَتْ عَائِشَةُ فَاجْتَمَعَ صَوَاحِبِي إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ فَقُلْنَ يَا أُمَّ سَلَمَةَ وَاللَّهِ إِنَّ النَّاسَ يَتَحَرَّوْنَ بِهَدَايَاهُمْ يَوْمَ عَائِشَةَ وَإِنَّا نُرِيدُ الْخَيْرَ كَمَا تُرِيدُهُ عَائِشَةُ فَمُرِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْمُرَ النَّاسَ أَنْ يُهْدُوا إِلَيْهِ حَيْثُ مَا كَانَ أَوْ حَيْثُ مَا دَارَ قَالَتْ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ أُمُّ سَلَمَةَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ فَأَعْرَضَ عَنِّي فَلَمَّا عَادَ إِلَيَّ ذَكَرْتُ لَهُ ذَاكَ فَأَعْرَضَ عَنِّي فَلَمَّا كَانَ فِي الثَّالِثَةِ ذَكَرْتُ لَهُ فَقَالَ يَا أُمَّ سَلَمَةَ لاَ تُؤْ ذِينِي فِي عَائِشَةَ فَإِنَّهُ وَاللَّهِ مَا نَزَلَ عَلَيَّ الْوَحْيُ وَأَنَا فِي لِحَافِ امْرَأَةٍ مِنْكُنَّ غَيْرِهَا "
قوله "باب فضل عائشة رضي الله عنها" هي الصديقة بنت الصديق وأمها أم رومان تقدم ذكرها في علامات النبوة وكان مولدها في الإسلام قبل الهجرة بثمان سنين أو نحوها ومات النبي صلى الله عليه وسلم ولها نحو ثمانية عشر عاما وقد حفظت عنه شيئا كثيرا وعاشت بعده قريبا من خمسين سنة فأكثر الناس الاخذ عنها ونقلوا عنها من الاحكام والاداب شيئا كثيرا حتى قيل ان ربع الاحكام الشرعية منقول عنها رضي الله عنها وكان موتها في خلافة معاوية سنة ثمان وخمسين وقيل في التي بعدها ولم تلد للنبي صلى الله عليه وسلم شيئا على الصواب وسألته ان تكتني فقال اكتني بابن اختك فاكتنت أم عبد الله واخرج بن حبان في صحيحه من حديث عائشة انه كناها بذلك لما احضر اليه بن الزبير ليحنكه فقال هو عبد الله وأنت أم عبد الله قالت فلم ازل اكنى بها ثم ذكر فيه المصنف ثمانية أحاديث الأول، قوله "ياعائش" بضم الشين ويجوز فتحها وكذلك يجوز في كل اسم مرخم قوله "ترى ما لاارى" تريد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو من قول عائشة وقد استنبط بعضهم من هذا الحديث فضل خديجة على عائشة لان الذي ورد في حق خديجة ان النبي صلى الله عليه وسلم قال لها "ان جبريل يقرئك السلام من ربك" وأطلق هنا السلام من جبريل نفسه وسيأتي تقرير ذلك في مناقب خديجة الحديث الثاني حديث أبي موس ى كمل بتثليث الميم من الرجال كثير وتقدم الكلام عليه في قصة موسى عليه السلام ثم الكلام على هذا الحديث في ذكر اسية امرأة فرعون وتقرير ان قوله "وفضل عائشة الخ" لا يستلزم ثبوت الأفضلية المطلقة وقد أشار بن حبان الى ان افضليتها التي يدل عليها هذا الحديث وغيره مقيدة بنساء النبي صلى الله عليه وسلم حتى لايدخل فيها مثل فاطمة عليها السلام جمعا بين هذا الحديث وبين حديث "أفضل نساء أهل الجنة خديجة وفاطمة" الحديث وقد أخرجه الحاكم بهذا اللفظ من حديث بن عباس وسيأتي في مناقب خديجة من حديث علي مرفوعا خير نسائها خديجة ويأتي بقية الكلام عليه هناك ان شاء الله تعالى وقوله "كفضل الثريد" زاد معمر من وجه اخر مرثد باللحم وهو اسم الثريد الكامل وعليه قول الشاعر:

(7/107)


ذا ما الخبز تأدمه بلحم ... فذاك امانة الله الثريد
الحديث الثالث حديث أنس" فضل عائشة على النساء كفضل الثريد وهو طرف من الحديث الذي قبله وكأن المصنف اخذ منه لفظ الترجمة فقال فضل عائششة ولم يقل مناقب ولا ذكر كما قال في غيرها الحديث الرابع حديث بن عباس، قوله "ان عائشة اشتكت" أي ضعفت قوله "تقدمين" بفتح الدال "على فرط" بفتح الفاء والراء بعدها مهملة وهو المتقدم من كل شيء قال بن التين فيه انه قطع لها بدخول الجنة إذ لا يقول ذلك الا بتوقيف وقوله على رسول الله بدل بتكرير العامل وسيأتي بقية الكلام على هذا الحديث في تفسير سورة النور الحديث الخامس حديث عمار "اني لأعلم انها زوجته" أي زوجة النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة وعند بن حبان من طريق سعيد بن كثير عن أبيه حدثتنا عائشة ان النبي صلى الله عليه وسلم قال لها اما ترضين ان تكوني زوجتي في الدنيا والآخرة فلعل عمارا كان سمع هذا الحديث من النبي صلى الله عليه وسلم وقوله في الحديث لتتبعوه أو إياها قيل الضمير لعلي لأنه الذي كان عمارا يدعو اليه والذي يظهر انه لله والمراد باتباع حكمه الشرعي في طاعة الامام وعدم الخروج عليه ولعله أشار الى قوله تعالى {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} فإنه أمر حقيقي خوطب به أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا كانت أم سلمة تقول لا يحركني ظهر بعير حتى ألقى النبي صلى الله عليه وسلم والعذر في ذلك عن عائشة انها كانت متأولة هي وطلحة والزبير وكان مرادهم إيقاع الإصلاح بين الناس وأخذ القصاص من قتلة عثمان رضي الله عنهم أجمعين وكان رأي علي على الإجماع على الطاعة وطلب أولياء المقتول القصاص ممن يثبت عليه القتل بشروطه الحديث السادس حديث عائشة في قصة القلادة وقد تقدم شرحه مستوفى في أول كتاب التيمم قال بن التين ليست هذه اللفظة محفوظة يعني انهم اتوا بالعقد أي ان المحفوظ قولها فأثرنا البعير فوجدنا العقد تحته الحديث السابع، قوله عن هشام عن أبيه "ان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان في مرضه جعل يدور الحديث" وهذا صورته مرسل ولكن تبين انه موصول عن عائشة في اخر الحديث حيث قال فقالت عائشة فلما كان يومي سكن وسيأتي في الوفاة من وجه اخر موصولا كله ويأتي سائر شرحه هناك ان شاء الله تعالى قال الكرماني قولها سكن أي مات أو سكت عن ذلك القول قلت الثاني هو الصحيح والأول خطأ صريح قال بن التين في الرواية الأخرى انهن اذن له ان يقيم ثم عائشة فظاهره يخالف هذا ويجمع باحتمال ان يكن اذن له بعد ان صار الى يومها يعني فيتعلق الإذن بالمستقبل وهو جمع حسن الحديث الثامن حديثها في ان الناس كانوا يتحرون بهداياهم يوم عائشة وفيه "والله مانزل علي الوحي وانا في لحاف امرأة منكن غيرها" وقد تقدم الكلام عليه مستوفى في كتاب الهبة وقوله في أوله حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب كذا للأكثر ووقع في رواية القابسي وعبدوس عن أبي زيد المروزي عبيد الله بالتصغير والصواب بالتكبير وقوله في هذه الرواية فقال "يا أم سلمة لاتؤذيني في عائشة فإنه والله مانزل علي الوحي وانا في لحاف امرأة منكن غيرها" وقع في الهبة "فان الوحي لم يأتني وانا في ثوب امرأة الا عائشة" فقلت اتوب الى الله تعالى وفي هذا الحديث منقبة عظيمة لعائشة وقد استدل به على فضل عائشة على خديجة وليس ذلك بلازم لأمرين أحدهما احتمال ان لا يكون أراد إدخال خديجة في هذا وان المراد بقوله منكن المخاطبة وهي أم سلمة ومن ارسلها أو من كان موجودا حينئذ من النساء والثاني على تقدير إرادة الدخول فلا يلزم من ثبوت خصوصية شيء من الفضائل ثبوت الفضل المطلق كحديث "اقرؤكم أبي وافرضكم زيد" ونحو

(7/108)


ذلك ومما يسأل عنه الحكمة في اختصاص عائشة بذلك فقيل لمكان أبيها وانه لم يكن يفارق النبي صلى الله عليه وسلم في اغلب أحواله فسرى سره لابنته مع ما كان لها من مزيد حبه صلى الله عليه وسلم وقيل انها كانت تبالغ في تنظيف ثيابها التي تنام فيها مع النبي صلى الله عليه وسلم والعلم ثم الله تعالى وسيأتي مزيد لهذا في ترجمة خديجة ان شاء الله تعالى قال السبكي الكبير الذي لدين الله به ان قاطمة أفضل ثم خديجة ثم عائشة والخلاف شهير ولكن الحق أحق ان يتبع وقال بن تيمية جهات الفضل بين خديجة وعائشة متقاربة وكأنه رأى التوقف وقال بن القيم ان أريد بالتفضيل كثرة الثواب ثم الله فذاك أمر لا يطلع عليه فان عمل القلوب أفضل من عمل الجوارح وان أريد كثرة العلم فعائشة لا محالة وان أريد شرف الأصل ففاطمة لا محالة وهي فضيلة لا يشاركها اخواتها وان أريد شرف السيادة فقد ثبت النص لفاطمة وحدها قلت امتازت فاطمة عن اخواتها بانهن متن في حياة النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم واما ما امتازت به عائشة من فضل العلم فان لخديجة ما يقابله وهي انها أول من أجاب الى الإسلام ودعا اليه واعان على ثبوته بالنفس والمال والتوجه التام فيها مثل أجر من جاء بعدها ولا يقدر قدر ذلك الا الله وقيل انعقد الإجماع على أفضلية فاطمة وبقي الخلاف بين عائشة وخديجة فرع ذكر الرافعي ان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أفضل نساء هذه الأمة فان استثنيت فاطمة لكونها بضعة فاخواتها شاركها وقد اخرج الطحاوي والحاكم بسند جيد عن عائشة ان النبي صلى الله عليه وسلم قال في حق زينب ابنته لما اوذيت ثم خروجها من مكة "هي أفضل بناتي اصيبت في" وقد وقع في حديث خطبة عثمان زيادة في مسند أبي يعلى تزوج عثمان خيرا من حفصة وتزوج حفصة خير من عثمان والجواب عن قصة زينب تقدم ويحتمل ان يقدر من وان يقال كان ذلك قبل ان يحصل لفاطمة جهة التفضيل التي امتازت بها عن غيرها من اخواتها كما تقدم قال بن التين فيه ان الزوج لايلزمه التسوية في النفقة بل يفضل من شاء بعد ان يقوم للاخرى بما يلزمه لها قال ويمكن ان لا يكون فيها دليل لاحتمال ان يكون من خصائصه كما قيل ان القسم لم يكن واجبا وانما كان يتبرع به

(7/109)


كتاب مناقب الأنصار
باب مناقب الأنصار
...
بسم الله الرحمن الرحيم
63-كتاب مناقب الانصار
1-باب مناقب الأنصار[9 الحشر]:
{وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا}
3776--حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا مهدي بن ميمون حدثنا غيلان بن جرير قال ثم قلت لأنس أرأيت اسم الأنصار كنتم تسمون به أم سماكم الله قال بل سمانا الله كنا ندخل على أنس فيحدثنا مناقب الأنصار ومشاهدهم ويقبل علي أو على رجل من الأزد فيقول فعل قومك يوم كذا وكذا كذا وكذا"
[الحديث 3776-طرفه فى:3844]
3777--حَدَّثَنِا- عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ "كَانَ يَوْمُ بُعَاثَ يَوْمًا قَدَّمَهُ اللَّهُ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ افْتَرَقَ مَلَؤُهُمْ وَقُتِلَتْ سَرَوَاتُهُمْ وَجُرِّحُوا فَقَدَّمَهُ اللَّهُ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دُخُولِهِمْ فِي الإِسْلاَمِ"
[الحديث3777- طرفاه في: 3846، 3930 ]
3778-حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ "قَالَتْ الأَنْصَارُ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ وَأَعْطَى قُرَيْشًا وَاللَّهِ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْعَجَبُ إِنَّ سُيُوفَنَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَاءِ قُرَيْشٍ وَغَنَائِمُنَا تُرَدُّ عَلَيْهِمْ فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَا الأَنْصَارَ قَالَ فَقَالَ: مَا الَّذِي بَلَغَنِي عَنْكُمْ؟ وَكَانُوا لاَ يَكْذِبُونَ فَقَالُوا هُوَ الَّذِي بَلَغَكَ قَالَ أَوَلاَ تَرْضَوْنَ أَنْ يَرْجِعَ النَّاسُ بِالْغَنَائِمِ إِلَى بُيُوتِهِمْ وَتَرْجِعُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بُيُوتِكُمْ لَوْ سَلَكَتْ الأَنْصَارُ وَادِيًا أَوْ شِعْبًا لَسَلَكْتُ وَادِيَ الأَنْصَارِ أَوْ شِعْبَهُمْ "
قوله: "باب مناقب الأنصار" هو اسم إسلامي، سمى به النبي صلى الله عليه وسلم الأوس والخزرج وحلفاءهم كما في حديث أنس. والأوس ينسبون إلى أوس بن حارثة، والخزرج ينسبون إلى الخزرج بن حارثة، وهما ابنا قيلة، وهو اسم أمهم وأبوهم هو حارثة بن عمرو بن عامر الذي يجتمع إليه أنساب الأزد. وقوله: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ} الآية تقدم شرحه في أول مناقب عثمان. وزعم محمد بن الحسن بن زبالة أن الإيمان اسم من أسماء المدينة، واحتج بالآية ولا حجة له فيها. قوله: "حدثنا مهدي" هو ابن ميمون. قوله: "غيلان بن جرير" هو المعولي يكسر الميم وسكون العين المهملة وفتح الواو بعدها لام، ومعول بطن من الأزد، ونسبه ابن حبان حبيا وهو وهم، وهو تابعي ثقة قليل الحديث ليس له عن أنس شيء إلا في البخاري، وتقدم له حديث في الصلاة ويأتي له في آخر الرقاق.

(7/110)


قوله: "قلت لأنس أرأيت اسم الأنصار" يعني أخبرني عن تسمية الأوس والخزرج الأنصار. قوله: "كنا ندخل" كذا في هذه الرواية بغير أداة العطف، وهو من كلام غيلان لا من كلام أنس، وسيأتي بعد قليل قبل "باب القسامة في الجاهلية" من وجه آخر عن مهدي بن ميمون عن غيلان قال: "كنا نأتي أنس بن مالك" الحديث ولم يذكر ما قبله. قوله: "كنا ندخل على أنس" أي بالبصرة. قوله: "ويقبل علي" أي مخاطبا لي. قوله: "فعل قومك كذا"(1) أي يحكي ما كان من مآثرهم في المغازي ونصر الإسلام. قوله: "كان يوم بعاث" بضم الموحدة وتخفيف المهملة وآخره مثلثة وحكى العسكري أن بعضهم رواه عن الخليل بن أحمد وصحفه بالغين المعجمة، وذكر الأزهري أن الذي صحفه الليث الراوي عن الخليل، وحكى القزاز في "الجامع" أنه يقال بفتح أوله أيضا، وذكر عياض أن الأصيلي رواه بالوجهين أي بالعين والمعجمة. وأن الذي وقع في رواية أبي ذر بالغين المعجمة وجها واحدا. ويقال إن أبا عبيدة ذكره بالمعجمة أيضا، وهو مكان - ويقال حصن وقيل مزرعة - عند بني قريظة على ميلين من المدينة، كانت به وقعه بين الأوس والخزرج، فقتل فيها كثير منهم. وكان رئيس الأوس فيه حضير والد أسيد بن حضير وكان يقال له حضير الكتائب وبه قتل، وكان رئيس الخزرج يومئذ عمرو بن النعمان البياضي فقتل فيها أيضا، وكان النصر فيها أولا للخزرج ثم ثبتهم حضير فرجعوا وانتصرت الأوس وجرح حضير يومئذ فمات فيها، وذلك قبل الهجرة بخمس سنين وقيل: بأربع وقيل: بأكثر والأول أصح، وذكر أبو الفرج الأصبهاني أن سبب ذلك أنه كان من قاعدتهم أن الأصيل لا يقتل بالحليف، فقتل رجل من الأوس حليفا للخزرج، فأرادوا أن يقيدوه فامتنعوا، فوقعت عليهم الحرب لأجل ذلك، فقتل فيها من أكابرهم من كان لا يؤمن، أي يتكبر ويأنف أن يدخل في الإسلام حتى لا يكون تحت حكم غيره، وقد كان بقي منهم من هذا النحو عبد الله بن أبي ابن سلول وقصته في ذلك مشهورة مذكورة في هذا الكتاب وغيره. قوله: "سرواتهم" بفتح المهملة والراء والواو أي خيارهم، والسروات جمع سراة بفتح المهملة وتخفيف الراء، والسراة جمع سري وهو الشريف. قوله: "وجرحوا" كذا للأكثر بضم الجيم والراء المكسورة مثقلا ومخففا ثم مهملة، وللأصيلي بجيمين مخففا أي اضطراب قولهم من قولهم، جرج الخاتم إذا جال في الكف، وعند ابن أبي صفرة بفتح المهملة ثم جيم من الحرج وهو ضيق الصدر، وللمستملي وعبدوس والقابسي" وخرجوا" بفتح الخاء والراء من الخروج، وصوب ابن الأثير الأول وصوب غيره الثالث، والله أعلم. قوله: "يوم فتح مكة" أي عام فتح مكة، لأن الغنائم المشار إليها كانت غنائم حنين، وكان ذلك بعد الفتح بشهرين. قوله: "وأعطى قريشا" هي جملة حالية، وقوله: "وسيوفنا تقطر من دمائهم" هو من القلب والأصل ودماؤهم تقطر من سيوفنا، ويحتمل أن يكون "من" بمعنى الباء الموحدة، وبالغ في جعل الدم قطر السيوف، وسيأتي شرح هذا الحديث في غزوة حنين
ـــــــ
(1) الذي فى المتن "فصل قومك يوم كذا وكذا كذا وكذا"

(7/111)


باب قول النبي صلى الله عليه وسلم "لولا الهجرة لكنت إمرءا من الأنصار"
...
2 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "لَوْلاَ الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنْ الأَنْصَارِ"
قَالَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

(7/111)


3779-حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ أَنَّ الأَنْصَارَ سَلَكُوا وَادِيًا أَوْ شِعْبًا لَسَلَكْتُ فِي وَادِي الأَنْصَارِ وَلَوْلاَ الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنْ الأَنْصَ ارِ فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ مَا ظَلَمَ بِأَبِي وَأُمِّي آوَوْهُ وَنَصَرُوهُ أَوْ كَلِمَةً أُخْرَى"
[الحديث 3779-طرفه في: 7344]
قوله باب قول النبي صلى الله عليه وسلم "لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار" قاله عبد الله بن زيد هو طرف من حديث سيأتي شرحه في غزوة حنين قال الخطابي أراد صلى الله عليه وسلم بذلك استطابة قلوب الأنصار حيث رضي ان يكون واحدا منهم لولا ما منعه من سمة الهجرة وأطال بذلك بما لا طائل فيه قوله" فقال أبو هريرة ما ظلم" أي ما تعدى في القول المذكور ولا اعطاهم فوق حقهم ثم بين ذلك بقوله آووه ونصروه قوله أو "كلمة أخرى" لعل المراد وواسوه وواسوا اصحابه باموالهم وقوله لسلكت في وادي الأنصار أراد بذلك حسن موافقتهم له لما شاهده من حسن الجوار والوفاء بالعهد وليس المراد انه يصير تابعا لهم بل هو المتبوع المطاع المفترض الطاعة على كل مؤمن

(7/112)


3 - باب إِخَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ
3780-حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ لَمَّا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ آخَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَسَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ قَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ إِنِّي أَكْثَرُ الأَنْصَارِ مَالًا فَأَقْسِمُ مَالِي نِصْفَيْنِ وَلِي امْرَأَتَانِ فَانْظُرْ أَعْجَبَهُمَا إِلَيْكَ فَسَمِّهَا لِي أُطَلِّقْهَا فَإِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَتَزَوَّجْهَا قَالَ بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ أَيْنَ سُوقُكُمْ؟ فَدَلُّوهُ عَلَى سُوقِ بَنِي قَيْنُقَاعَ فَمَا انْقَلَبَ إِلاَّ وَمَعَهُ فَضْلٌ مِنْ أَقِطٍ وَسَمْنٍ ثُمَّ تَابَعَ الْغُدُوَّ ثُمَّ جَاءَ يَوْمًا وَبِهِ أَثَرُ صُفْرَةٍ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَهْيَمْ؟ قَالَ تَزَوَّجْتُ قَالَ كَمْ سُقْتَ إِلَيْهَا؟ قَالَ نَوَاةً مِنْ ذَهَبٍ أَوْ وَزْنَ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ شَكَّ إِبْرَاهِيمُ"
3781-حدثنا قتيبة حدثنا إسماعيل بن جعفر عن حميد عن أنس رضي الله عنه أنه قال ثم قدم علينا عبد الرحمن بن عوف وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع وكان كثير المال فقال سعد قد علمت الأنصار أني من أكثرها مالا سأقسم مالي بيني وبينك شطرين ولي امرأتان فانظر أعجبهما إليك فأطلقها حتى إذا حلت تزوجتها فقال عبد الرحمن بارك الله لك في أهلك فلم يرجع يومئذ حتى أفضل شيئا من سمن وأقط فلم يلبث إلا يسيرا حتى جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه وضر من صفرة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم مهيم ؟ قال تزوجت امرأة من الأنصار فقال ما سقت إليها قال وزن نواة من ذهب-أو نواة من ذهب-فقال:

(7/112)


أولم ولو بشاة"
3782- حدثنا الصلت بن محمد أبو همام قال سمعت المغيرة بن عبد الرحمن حدثنا أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه قال ثم قالت الأنصار اقسم بيننا وبينهم النخل قال لا قال تكفوننا المئونة وتشركوننا في التمر قالوا: سمعنا وأطعنا"
قوله: "باب إخاء النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار" سيأتي بسط القول فيه في أبواب الهجرة قبيل المغازي. قوله: "عن جده" هو إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، وهذا صورته مرسل، وقد تقدم في أوائل البيع من طريق ظاهره الاتصال. قوله: "لما قدموا المدينة آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع" أي ابن عمرو بن أبي زهير الأنصاري الخزرجي، أحد النقباء، استشهد بأحد، وسيأتي بيان ذلك في المغازي، وسيأتي شرح قصة تزويج عبد الرحمن بن عوف في الوليمة من كتاب النكاح، وكذا حديث أنس الذي بعده في المعنى إن شاء الله تعالى. قوله: "قالت الأنصار: اقسم بيننا وبينهم النخل" أي المهاجرين، وقد سبق الكلام عليه في المزارعة، وفيه فضيلة ظاهرة للأنصار. قوله: "ويشركوننا في الثمر" في رواية الكشميهني: "في الأمر" أي الحاصل من ذلك، وهو من قولهم أمر ماله - بكسر الميم - أي كثر.

(7/113)


4-باب حب الأنصار من الإيمان
3783-حدثنا حجاج بن منهال حدثنا شعبة قال أخبرني عدي بن ثابت قال سمعت البراء رضي الله عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم أو قال قال النبي صلى الله عليه وسلم "الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق فمن أحبهم أحبه الله ومن أبغضهم أبغضه الله"
3784-حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا شعبة عن عبد الرحمن بن عبد الله بن جبر عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "آية الإيمان حب الأنصار وآية النفاق بغض الأنصار"
قوله "باب حب" الأنصار أي فضله ذكر فيه حديث البراء لا يحبهم الا مؤمن وحديث أنس اية الإيمان حب الأنصار قال بن التين المراد حب جميعهم وبغض جميعهم لان ذلك انما يكون للدين ومن ابغض بعضهم لمعنى يسوغ البعض له فليس داخلا في ذلك وهو تقرير حسن وقد سبق الكلام على شرح الحديث في كتاب الإيمان

(7/113)


باب قوله صلى الله عليه وسلم للأنصار أنتم أحب الناس إلي
...
5-باب قول النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار "أنتم أحب الناس إلي"
3785-حدثنا أبو معمر حدثنا عبد الوارث حدثنا عبد العزيز عن أنس رضي الله عنه قال ثم رأى النبي صلى الله عليه وسلم النساء والصبيان مقبلين قال حسبت أنه قال من عرس فقام النبي صلى الله عليه وسلم ممثلا فقال "اللهم أنتم

(7/113)


6- باب أَتْبَاعِ الأَنْصَارِ
3787-حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَمْرٍو سَمِعْتُ أَبَا حَمْزَةَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَتْ الأَنْصَارُ يَا رَسُولَ اللَّهِ لِكُلِّ نَبِيٍّ أَتْبَاعٌ وَإِنَّا قَدْ اتَّبَعْنَاكَ فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَ أَتْبَاعَنَا مِنَّا فَدَعَا بِهِ فَنَمَيْتُ ذَلِكَ إِلَى ابْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ قَدْ زَعَمَ ذَلِكَ زَيْدٌ"
[الحديث 3787- طرفه في: 3788]
3788-حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا حَمْزَةَ رَجُلًا مِنْ الأَنْصَارِ قَالَتْ الأَنْصَارُ إِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ أَتْبَاعًا وَإِنَّا قَدْ اتَّبَعْنَاكَ فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَ أَتْبَاعَنَا مِنَّا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ اجْعَلْ أَتْبَاعَهُمْ مِنْهُمْ قَالَ عَمْرٌو فَذَكَرْتُهُ لِابْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ قَدْ زَعَمَ ذَاكَ زَيْدٌ قَالَ شُعْبَةُ أَظُنُّهُ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ
" قوله" باب أتباع الأنصار" أى من الخلفاء والموالى. قوله: "عن عمرو" هو ابن مرة كما في الرواية التي تليها. قوله: "سمعت أبا حمزة" بالمهملة والزاي اسمه طلحة بن يزيد مولى قرظة بن كعب الأنصاري، وقرظة بفتح القاف والراء والظاء المعجمة صحابي معروف، وهو ابن كعب بن ثعلبة بن عمرو بن كعب أو عامر بن زيد، أنصاري خزرجي، مات في ولاية المغيرة على الكوفة لمعاوية وذلك في حدود سنة خمسين. قوله: "أن يجعل أتباعنا منا" أي

(7/114)


يقال لهم الأنصار حتى تتناولهم الوصية بهم بالإحسان إليهم ونحو ذلك. قوله: "فدعا به" أي بما سألوا، وبين ذلك في الرواية التي تليها بلفظ: "فقال اللهم اجعل أتباعهم منهم". قوله: "فنميت ذلك" أي نقلته، وهو بالتخفيف، وأما بتشديد الميم فمعناه أبلغته على جهة الإفساد، وقائل ذلك هو عمرو بن مرة كما في الرواية التي تليها، وابن أبي ليلى هو عبد الرحمن. قوله: "قد زعم ذلك زيد" زاد في الرواية التي تليها" قال شعبة أظنه زيد بن أرقم" وكأنه احتمل عنده أن يكون ابن أبي ليلى أراد بقوله: "قد زعم ذلك زيد" أي زيد آخر غير ابن أرقم كزيد بن ثابت، لكن الذي ظنه شعبة صحيح، فغد رواه أبو نعيم في" المستخرج" من طريق علي بن الجعد جازما به. وقوله: "زعم" أي قال كما قدمنا. مرارا أن لغة أهل الحجار تطلق الزعم على القول.

(7/115)


3 - باب فَضْلِ دُورِ الأَنْصَارِ
3789-حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ سَمِعْتُ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِي أُسَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "خَيْرُ دُورِ الأَنْصَارِ بَنُو النَّجَّارِ ثُمَّ بَنُو عَبْدِ الأَشْهَلِ ثُمَّ بَنُو الْحَارِثِ بْنِ خَزْرَجٍ ثُمَّ بَنُو سَاعِدَةَ وَفِي كُلِّ دُورِ الأَنْصَارِ خَيْر ٌ فَقَالَ سَعْدٌ مَا أَرَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلاَّ قَدْ فَضَّلَ عَلَيْنَا فَقِيلَ قَدْ فَضَّلَكُمْ عَلَى كَثِيرٍ وَقَالَ عَبْدُ الصَّمَدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ سَمِعْتُ أَنَسًا قَالَ أَبُو أُسَيْدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا وَقَالَ"سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ"
[الحديث 3789-أطرافه في:3790، 3807، 6053 ]
3790-ثَنَا سَعْدُ بْنُ حَفْصٍ الطَّلْحِيُّ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيَى قَالَ أَبُو سَلَمَةَ أَخْبَرَنِي أَبُو أُسَيْدٍ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ "خَيْرُ الأَنْصَارِ أَوْ قَالَ خَيْرُ دُورِ الأَنْصَارِ بَنُو النَّجَّارِ وَبَنُو عَبْدِ الأَشْهَلِ وَبَنُو الْحَارِثِ وَبَنُو سَاعِدَةَ"
3791-حدثنا خالد بْنُ مَخْلَدٍ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ قَالَ حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ يَحْيَى عَنْ عَبَّاسِ بْنِ سَهْلٍ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ خَيْرَ دُورِ الأَنْصَارِ دَارُ بَنِي النَّجَّارِ ثُمَّ عَبْدِ الأَشْهَلِ ثُمَّ دَارُ بَنِي الْحَارِثِ ثُمَّ بَنِي سَاعِدَةَ وَفِي كُلِّ دُورِ الأَنْصَارِ خَيْرٌ فَلَحِقَنَا سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ فَقَالَ أَبَا أُسَيْدٍ أَلَمْ تَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيَّرَ الأَنْصَارَ فَجَعَلَنَا أَخِيرًا فَأَدْرَكَ سَعْدٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ خُيِّرَ دُورُ الأَنْصَارِ فَجُعِلْنَا آخِرًا فَقَالَ أَوَلَيْسَ بِحَسْبِكُمْ أَنْ تَكُونُوا مِنْ الْخِيَارِ" ؟
قوله "باب فضل دور الأنصار" أى منازلهم" قوله: "عن أنس" في رواية عبد الصمد المعلقة هنا" سمعت أنسا" وسأذكر من وصلها. وله: "عن أبي أسيد" بالتصغير وهو الساعدي، وهو مشهور بكنيته، ويقال اسمه مالك. وله: "خير دور الأنصار بنو النجار" هم من الخزرج، والنجار هم تيم الله، وسمي بذلك لأنه ضرب رجلا

(7/115)


فنجره فقيل له النجار، وهو ابن ثعلبة بن عمرو من الخزرج.قوله: "ثم بنو عبد الأشهل" هم من الأوس، وهو عبد الأشهل بن جشم بن الحارث بن الخزرج الأصغر بن عمرو بن مالك بن الأوس بن حارثة، كذا وقع في هذه الطريق، ولكن وقع في رواية معمر عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة وأبي سلمه عن أبي هريرة" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا أخبركم بخير دور الأنصار؟ قالوا: بلى.قال: بنو عبد الأشهل - وهم رهط سعد بن معاذ - قالوا: ثم من يا رسول الله؟ قال: ثم بنو النجار" فذكر الحديث وفي آخره: "قال معمر: وأخبرني ثابت وقتادة أنهما سمعا أنس بن مالك يذكر هذا الحديث، إلا أنه قال بنو النجار ثم بنو عبد الأشهل" أخرجه أحمد، وأخرجه مسلم من طريق صالح بن كيسان عن الزهري دون ما بعده من رواية معمر عن ثابت وقتادة.وأخرج مسلم أيضا من طريق أبي الزناد عن أبي سلمة عن أبي أسيد مثل رواية أنس عن أبي أسيد، فقد اختلف على أبي سلمة في إسناده هل شيخه فيه أبو أسيد أو أبو هريرة، ومتنه هل قدم عبد الأشهل على بني النجار أو بالعكس؟ وأما رواية أنس في تقديم بني النجار فلم يختلف عليه فيها، ويؤيدها رواية إبراهيم بن محمد بن طلحة عن أبي أسيد، وهي عند مسلم أيضا وفيها تقديم بني النجار على بني عبد الأشهل.وبنو النجار هم أخوال جد رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن والدة عبد المطلب منهم، وعليهم نزل لما قدم المدينة، فلهم مزية على غيرهم، وكان أنس منهم فله مزيد عناية بحفظ فضائلهم.قوله: "ثم بنو الحارث بن الخزرج" أي الأكبر أي ابن عمرو بن مالك بن الأوس المذكور ابن حارثة.قوله: "ثم بنو ساعدة" هم الخزرج أيضا، وساعدة هو ابن كعب بن الخزرج الأكبر.قوله: "خير دور الأنصار وفي كل دور الأنصار خير" خير الأولى بمعنى أفضل والثانية اسم أي الفضل حاصل في جميع الأنصار وإن تفاوتت مراتبه.قوله: "فقال سعد" أي ابن عبادة كما في الرواية المعلقة التي بعد هذا، وهو من بني ساعدة أيضا، وكان كبيرهم يومئذ.قوله: "ما أرى" بفتح الهمزة من الرؤية وهي من إطلاقها على المسموع، ويحتمل أن يكون من الاعتقاد، ويجوز ضمها بمعنى الظن، ووقع في رواية أبي الزناد المذكورة "فوجد سعد بن عبادة في نفسه فقال: خلفنا فكنا آخر الأربعة، وأراد كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك - فقال له ابن أخيه سهل: أتذهب لترد على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره ورسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم، أو ليس حسبك أن تكون رابع أربعة؟ فرجع".قوله: "فقيل قد فضلكم" لم أقف على اسم الذي قال له ذلك، ويحتمل أن يكون هو ابن أخيه المذكور قبل.قوله: "وقال عبد الصمد إلخ" يأتي موصولا في مناقب سعد بن عبادة.قوله في رواية أبي سلمة هو ابن عبد الرحمن بن عوف "بنو النجار وبنو عبد الأشهل" كذا ذكره بالواو ورواية أنس بثم، وكذا رواية ابن حميد المذكورة بعدها، وفيه إشعار بأن الواو قد يفهم منها الترتيب، وإنما فهم الترتيب من جهة التقديم لا بمجرد الواو.قوله: "حدثنا سليمان" هو ابن بلال، وعمرو بن يحيى أي ابن عمارة، وعباس بن سهل أي ابن سعد.قوله: "عن أبي حميد" هو الساعدي وهو مشهور بكنيته، ويقال إن اسمه عبد الرحمن، ووقع في رواية الأصيلي: "عن أبي أسيد أو أبي حميد".بالشك، والصواب عن أبي حميد وحده، وسيأتي في آخر غزوة تبوك.قوله: "فلحقنا سعد بن عبادة" قائل ذلك هو أبو حميد.قوله: "فقال: أبا أسيد" هو منادى حذف منه حرف النداء.قوله: "ألم تر أن الله" في رواية الكشميهني: "ألم تر أن رسول الله" وهو أوجه.قوله: "خير الأنصار" أي فضل بين الأنصار بعضها على بعض.قوله: "خير" بضم أوله وكذا قوله: "فجعلنا".قوله: "أو ليس بحسبكم" بإسكان السين المهملة أي كافيكم، وهذا يعارض ظاهر رواية مسلم المتقدمة

(7/116)


فإن فيها أن سعدا رجع عن إرادة مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك لما قال له ابن أخيه، ويمكن الجمع بأنه رجع حينئذ عن قصد رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك خاصة ثم إنه لما لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم في وقت آخر ذكر له ذلك، أو الذي رجع عنه أنه أراد أن يورده مورد الإنكار والذي صدر منه ورد مورد المعاتبة المتلطفة ولهذا قال له ابن أخيه في الأول "أترد على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره".قوله: "من الخيار" أي الأفاضل لأنهم بالنسبة إلى من دونهم أفضل، وكأن المفاضلة بينهم وقعت بحسب السبق إلى الإسلام، ويحسب مساعيهم في إعلاء كلمة الله، ونحو ذلك.

(7/117)


8-باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْأَنْصَارِ "اصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ"
قَالَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
3792-ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ سَمِعْتُ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّ رَجُلًا مِنْ الأَنْصَارِ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلاَ تَسْتَعْمِلُنِي كَمَا اسْتَعْمَلْتَ فُلاَنًا قَالَ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أُثْرَةً فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ "
[الحديث 3792 طرفه في: 7057]
3793-ثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ هِشَامٍ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ "ال النبي صلى الله عليه وسلم: "لِلْأَنْصَارِ: إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي وَمَوْعِدُكُمْ الْحَوْضُ "
3794-ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ خَرَجَ مَعَهُ إِلَى الْوَلِيدِ قَالَ دَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأَنْصَارَ إِلَى أَنْ يُقْطِعَ لَهُمْ الْبَحْرَيْنِ فَقَالُوا لاَ إِلاَّ أَنْ تُقْطِعَ لِإِخْوَانِنَا مِنْ الْمُهَاجِرِينَ مِثْلَهَا قَالَ إِمَّا لاَ فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي فَإِنَّهُ سَيُصِيبُكُمْ بَعْدِي أَثَرَةٌ "
قوله: "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم اصبروا حتى تلقوني على الحوض " أي مخاطبا للأنصار بذلك.
قوله: "قاله عبد الله بن زيد" أي ابن عاصم المازني، وحديثه هذا وصله المؤلف بأتم من هذا في غزوة حنين كما سيأتي إن شاء الله تعالى.قوله: "عن أنس عن أسيد" مصغر "ابن حضير" بمهملة ثم معجمة مصغر أيضا، وهو من رواية صحابي عن صحابي، زاد مسلم: "وقد رواه يحيى بن سعيد وهشام بن زيد عن أنس" بدون ذكر أسيد بن حضير، لكن باختصار القصة التي هنا وذكر كل منهما قصة أخرى غير هذه، فحديث يحيى بن سعيد تقدم في الجزية، وحديث هشام يأتي في المغازي.ووقع لهذا الحديث قصة أخرى من وجه آخر: فأخرج الشافعي من رواية محمد بن إبراهيم التيمي إلى أسيد بن حضير" طلب من النبي صلى الله عليه وسلم لأهل بيتين من الأنصار، فأمر لكل بيت بوسق من تمر وشطر من شعير، فقال أسيد: "يا رسول الله، جزاك الله عنا خيرا.فقال: وأنتم فجزاكم الله خيرا يا معشر الأنصار، وإنكم لأعفة صبر، وإنكم ستلقون بعدي أثرة " الحديث.وقوله: "إنكم لأعفة صبر" أخرجه الترمذي والحاكم من وجه آخر عن أنس عن أبي طلحة وسنده ضعيف.قوله: "أن رجلا من الأنصار" لم أقف على اسمه، زاد مسلم في روايته"فخلا

(7/117)


برسول الله صلى الله عليه وسلم".قوله: "ألا تستعملني" أي تجعلني عاملا على الصدقة أو على بلد.قوله: "كما استعملت فلانا" لم أقف على اسمه، لكن ذكرت في المقدمة أن السائل أسيد بن حضير والمستعمل عمرو بن العاص، ولا أدري الآن من أين نقلته.قوله: "ستلقون بعدي أثرة" بفتح الهمزة والمثلثة، ولغير الكشميهني بضم الهمزة وسكون المثلثة وأشار بذلك إلى أن الأمر يصير في غيرهم فيختصون دونهم بالأموال، وكان الأمر كما وصف صلى الله عليه وسلم، وهو معدود فيما أخبر به من الأمور الآتية فوقع كما قال، وسيأتي مزيد في الكلام عليه في الفتن.قوله: "عن هشام" هو ابن زيد بن أنس بن مالك.قوله: "وموعدكم الحوض" أي حوض النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة.قوله: "حدثنا سفيان" هو ابن عيينة، ويحيى بن سعيد هو الأنصاري.قوله: "حين خرج معه" أي سافر.قوله: "إلى الوليد" أي ابن عبد الملك بن مروان، وكان أنس قد توجه من البصرة حين آذاه الحجاج إلى دمشق يشكوه إلى الوليد بن عبد الملك فأنصفه منه.قوله: "إما لا" أصله إن مكسورة الهمزة مخففة النون وهي الشرطية وما زائدة ولا نافية فأدغمت النون في الميم وحذف فعل الشرط وتقديره يقبلوا أو تفعلوا، ورواه بعضهم بفتح همزة إما وهو خطأ إلا على لغة لبعض بني تميم فإنهم يفتحون الهمزة من إما حيث وردت، قال عياض: واللام من قوله: "أما لا" مفتوحة عند الجمهور، ووقع عند الأصيلي في البيوع من الموطأ وعند الطبري في مسلم بكسر اللام والمعروف فتحها، وقد منع من كسرها أبو حاتم وغيره ونسبوه إلى تغيير العامة، لكن هو جار على مذهبهم في الإمالة وأن يجعل الكلام كأنه كلمة واحدة.قوله: "فإنه" الهاء ضمير الشأن، وأبعد من قال يعود على الإقطاع.

(7/118)


باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم "أصلح الأنصار والمهاجرين"
...
9- باب دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أَصْلِحْ الأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَةَ"
3795-حدثنا آدم حدثنا شعبة حدثنا أبو إياس معاوية بن قرة عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا عيش إلا عيش الآخرة فأصلح الأنصار والمهاجرة" وعن قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله وقال "فاغفر للأنصار"
3796- حدثنا آدم حدثنا شعبة عن حميد الطويل سمعت أنس بن مالك رضي الله عنه قال ثم كانت الأنصار يوم الخندق تقول
نحن الذين بايعوا محمدا ... على الجهاد ما حيينا أبدا
فأجابهم : اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فأكرم الأنصار والمهاجرة"
3797-حدثني محمد بن عبيد الله حدثنا بن أبي حازم عن أبيه عن سهل قال ثم جاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نحفر الخندق وننقل التراب على أكتادنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم عيش إلا عيش الآخرة فاغفر للمهاجرين والأنصار"
[الحديث3797-طرفاه فى: 4098، 6414 ]

(7/118)


10-باب قول الله عز وجل [9الحشر]: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}
3798- مسدد حدثنا عبد الله بن داود عن فضيل بن غزوان عن أبي حازم عن أبي هريرة رضي الله عنه ثم أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فبعث إلى نسائه فقلن إلا الماء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من يضم أو يضيف هذا فقال رجل من الأنصار أنا فانطلق به إلى امرأته فقال أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت ما عندنا إلا قوت صبياني فقال هيئي طعامك وأصبحي سراجك ونومي صبيانك إذا أرادوا عشاء فهيأت طعامها وأصبحت سراجها ونومت صبيانها ثم قامت كأنها تصلح سراجها فأطفأته فجعلا يريانه أنهما يأكلان فباتا طاويين فلما أصبح غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ضحك الله الليلة أو عجب من فعالكما فأنزل الله {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}
[الحديث 3798-طرفه في:4889]
قوله: "باب قول الله عز وجل: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} هو مصير منه إلى أن الآية نزلت في الأنصار وهو ظاهر سياقها.وحديث الباب ظاهر في أنها نزلت في قصة الأنصار فيطابق الترجمة، وقد قيل: إنها نزلت في قصة أخرى، ويمكن الجمع. قوله: "أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم" لم أقف على اسمه وسيأتي أنه أنصاري زاد في رواية أبي أسامة عن فضيل بن غزوان في التفسير" فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابني الجهد" أي المشقة من الجوع. في رواية جرير عن فضيل بن غزوان عند مسلم: "إني مجهود". وله: "فبعث إلى نسائه" أي يطلب منهن ما يضيفه به. وله: "فقلن ما معنا" أي ما عندنا "إلا الماء" وفي رواية جرير" ما عندي" وفيه ما يشعر بأن ذلك كان في أول الحال قبل أن يفتح الله لهم خيبر وغيرها. وله: "من يضم أو يضيف" أي من يؤوي هذا فيضيفه، وكأن" أو" للشك. في رواية أبي أسامة" ألا رجل يضيفه هذه الليلة يرحمه الله". وله: "فقال رجل من الأنصار" زعم ابن التين أنه ثابت بن قيس بن شماس، وقد أورد ذلك ابن بشكوال من طريق أبي جعفر بن النحاس بسنده له عن أبي المتوكل الناجي مرسلا، ورواه إسماعيل القاضي في "أحكام القرآن" ولكن سياقه يشعر بأنها قصة أخرى لأن لفظه: "أن رجلا من الأنصار عبر عليه ثلاثة أيام لا يجد ما يفطر عليه ويصبح صائما حتى فطن له رجل من الأنصار

(7/119)


11-باب قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "اقْبَلُوا مِنْ مُحْسِنِهِمْ وَتَجَاوَزُوا عَنْ مُسِيئِهِمْ"
3799-حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى أَبُو عَلِيٍّ حَدَّثَنَا شَاذَانُ أَخُو عَبْدَانَ حَدَّثَنَا أَبِي أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ بْنُ الْحَجَّاجِ عَنْ هِشَامِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ مَرَّ أَبُو بَكْرٍ وَالْعَبَّاسُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بِمَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ

(7/120)


الأَنْصَارِ وَهُمْ يَبْكُونَ فَقَالَ مَا يُبْكِيكُمْ قَالُوا ذَكَرْنَا مَجْلِسَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَّا فَدَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ قَالَ فَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ عَصَبَ عَلَى رَأْسِهِ حَاشِيَةَ بُرْدٍ قَالَ فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ وَلَمْ يَصْعَدْهُ بَعْدَ ذَلِكَ الْيَوْمِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ "أُوصِيكُمْ بِالأَنْصَارِ فَإِنَّهُمْ كَرِشِي وَعَيْبَتِي وَقَدْ قَضَوْا الَّذِي عَلَيْهِمْ وَبَقِيَ الَّذِي لَهُمْ فَاقْبَلُوا مِنْ مُحْسِنِهِمْ وَتَجَاوَزُوا عَنْ مُسِيئِهِمْ"
[الحديث: 3799-طرفه في: 3801]
3800-حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يَعْقُوبَ حَدَّثَنَا ابْنُ الْغَسِيلِ سَمِعْتُ عِكْرِمَةَ يَقُولُ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِ مِلْحَفَةٌ مُتَعَطِّفًا بِهَا عَلَى مَنْكِبَيْهِ وَعَلَيْهِ عِصَابَةٌ دَسْمَاءُ حَتَّى جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ "أَمَّا بَعْدُ أَيُّهَا النَّاسُ فَإِنَّ النَّاسَ يَكْثُرُونَ وَتَقِلُّ الأَنْصَارُ حَتَّى يَكُونُوا كَالْمِلْحِ فِي الطَّعَامِ فَمَنْ وَلِيَ مِنْكُمْ أَمْرًا يَضُرُّ فِيهِ أَحَدًا أَوْ يَنْفَعُهُ فَلْيَقْبَلْ مِنْ مُحْسِنِهِمْ وَيَتَجَاوَزْ عَنْ مُسِيئِهِمْ"
3801-حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ سَمِعْتُ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الأَنْصَارُ كَرِشِي وَعَيْبَتِي وَالنَّاسُ سَيَكْثُرُونَ وَيَقِلُّونَ فَاقْبَلُوا مِنْ مُحْسِنِهِمْ وَتَجَاوَزُوا عَنْ مُسِيئِهِمْ"
قوله: "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: اقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم " يعني الأنصار. قوله: "حدثني محمد بن يحيى أبو علي" هو اليشكري المروزي الصائغ كان أحد الحفاظ، مات قبل البخاري بأربع سنين.قوله: "حدثنا شاذان أخو عبدان" هو عبد العزيز بن عثمان بن جبلة، وهو أصغر من أخيه عبدان، وقد أكثر البخاري عن عبدان وأدرك شاذان.قوله: "مر أبو بكر" أي الصديق "والعباس" أي ابن عبد المطلب، وكان ذلك في مرض النبي صلى الله عليه وسلم وهم يبكون.قوله: "فقال ما يبكيكم"؟ لم أقف على اسم الذي خاطبهم بذلك هل هو أبو بكر أو العباس، ويظهر لي أنه العباس.قوله: "ذكرنا مجلس النبي صلى الله عليه وسلم" أي الذي كانوا يجلسونه معه، وكان ذلك في مرض النبي صلى الله عليه وسلم فخشوا أن يموت من مرضه فيفقدوا مجلسه، فبكوا حزنا على فوات ذلك.قوله: "فدخل" كذا أفرد بعد أن ثنى، والمراد به من خاطبهم، وقد قدمت رجحان أنه العباس لكون الحديث من رواية ابنه وكأنه إنما سمع ذلك منه.قوله: "حاشية برد" في رواية المستملي حاشية بردة بزيادة هاء التأنيث.قوله: "أوصيكم بالأنصار" استنبط منه بعض الأئمة أن الخلافة لا تكون في الأنصار لأن من فيهم الخلافة يوصون ولا يوصى بهم، ولا دلالة فيه إذ لا مانع من ذلك.قوله: "كرشي وعيبتي" أي بطانتي وخاصتي قال القزاز: ضرب المثل بالكرش لأنه مستقر غذاء الحيوان الذي يكون فيه نماؤه، ويقال: لفلان كرش منثورة أي عيال كثيرة، والعيبة بفتح المهملة وسكون المثناة بعدها موحدة ما يحرز فيه الرجل نفيس ما عنده، يريد أنهم موضع سره وأمانته قال ابن دريد: هذا من كلامه صلى الله عليه وسلم الموجز الذي لم يسبق إليه.وقال غيره: الكرش بمنزلة المعدة للإنسان، والعيبة

(7/121)


مستودع الثياب والأول أمر باطن والثاني أمر ظاهر، فكأنه ضرب المثل بهما في إرادة اختصاصهم بأموره الباطنة والظاهرة، والأول أولى، وكل من الأمرين مستودع لما يخفى فيه.قوله: "وقد قضوا الذي عليهم وبقي الذي لهم" يشير إلى ما وقع لهم ليلة العقبة من المبايعة، فإنهم بايعوا على أن يوءووا النبي صلى الله عليه وسلم وينصروه على أن لهم الجنة، فوفوا بذلك.قوله: "حدثنا ابن الغسيل" هو عبد الرحمن بن سليمان بن عبد الله بن حنظلة الأنصاري، وحنظلة هو غسيل الملائكة، وعبد الرحمن المذكور يكنى أبا سليمان.قوله: "ملحفة" بكسر أوله.قوله: "متعطفا بها" أي متوشحا مرتديا، والعطاف الرداء سمي بذلك لوضعه على العطفين وهما ناحيتا العنق، ويطلق على الأردية معاطف.قوله: "وعليه عصابة" بكسر أوله وهي ما يشد به الرأس وغيرها، وقيل في الرأس بالتاء وفي غير الرأس يقال عصاب فقط، وهذا يرده قوله في الحديث الذي أخرجه مسلم: "عصب بطنه بعصابة".قوله: "دسماء" أي لكونها كلون الدسم وهو الدهن، وقيل: المراد أنها سوداء لكن ليست خالصة السواد، ويحتمل أن تكون اسودت من العرق أو من الطيب كالغالية.ووقع في الجمعة "دسمة" بكسر السين، وقد تبين من حديث أنس الذي قبله أنها كانت حاشية البرد، والحاشية غالبا تكون من لون غير لون الأصل، وقيل: المراد بالعصابة العمامة ومنه حديث المسح على العصائب.قوله: "حتى جلس على المنبر" تبين من حديث أنس الذي قبله سبب ذلك، وعرف أن ذلك كان في مرض موته صلى الله عليه وسلم وصرح به في علامات النبوة، وتقدم في الجمعة من هذا الوجه وزاد: "وكان آخر مجلس جلسه".قوله في حديث أنس "وإن الناس سيكثرن ويقلون" أي أن الأنصار يقلون، وفيه إشارة إلى دخول قبائل العرب والعجم في الإسلام وهم أضعاف أضعاف قبيلة الأنصار، فمهما فرض في الأنصار من الكثرة كالتناسل فرض في كل طائفة من أولئك، فهم أبدا بالنسبة إلى غيرهم قليل، ويحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم اطلع على أنهم يقلون مطلقا فأخبر بذلك فكان كما أخبر لأن الموجودين الآن من ذرية علي بن أبي طالب ممن يتحقق نسبه إليه أضعاف من يوجد من قبيلتي الأوس والخزرج ممن يتحقق نسبه وقس على ذلك، ولا التفات إلى كثرة من يدعي أنه منهم بغير برهان.وقوله: "حتى يكونوا كالملح في الطعام" في علامات النبوة "بمنزلة الملح في الطعام" أي في القلة، لأنه جعل غاية قلتهم الانتهاء إلى ذلك، والملح بالنسبة إلى جملة الطعام جزء يسير منه والمراد بذلك المعتدل. .قوله: "فمن ولي منكم أمرا يضر فيه أحدا أو ينفعه" قيل: فيه إشارة إلى أن الخلافة لا تكون في الأنصار.قلت: وليس صريحا في ذلك إذ لا يمتنع التوصية على تقدير أن يقع الجور، ولا التوصية للمتبوع سواء كان منهم أو من غيرهم.قوله: "ويتجاوزون عن مسيئهم" أي في غير الحدود وحقوق الناس

(7/122)


12 - باب مَنَاقِبُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
3802-حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ سَمِعْتُ الْبَرَاءَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ أُهْدِيَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُلَّةُ حَرِيرٍ فَجَعَلَ أَصْحَابُهُ يَمَسُّونَهَا وَيَعْجَبُونَ مِنْ لِينِهَا فَقَالَ أَتَعْجَبُونَ مِنْ لِينِ هَذِهِ لَمَنَادِيلُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ خَيْرٌ مِنْهَا أَوْ أَلْيَنُ " رَوَاهُ قَتَادَةُ وَالزُّهْرِيُّ سَمِعَا أَنَسًا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
3803-حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا فَضْلُ بْنُ مُسَاوِرٍ خَتَنُ أَبِي عَوَانَةَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ =

22.

مجلد 22فتح الباري أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ)
 =الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ "اهْتَزَّ الْعَرْشُ لِمَوْتِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ" وَعَنْ الأَعْمَشِ حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ فَقَالَ رَجُلٌ لِجَابِرٍ فَإِنَّ الْبَرَاءَ يَقُولُ اهْتَزَّ السَّرِيرُ فَقَالَ إِنَّهُ كَانَ بَيْنَ هَذَيْنِ الْحَيَّيْنِ ضَغَائِنُ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ "اهْتَزَّ عَرْشُ الرَّحْمَنِ لِمَوْتِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ"
3804-حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَرْعَرَةَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ أُنَاسًا نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ فَجَاءَ عَلَى حِمَارٍ فَلَمَّا بَلَغَ قَرِيبًا مِنْ الْمَسْجِدِ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "قُومُوا إِلَى خَيْرِكُمْ أَوْ سَيِّدِكُمْ فَقَالَ يَا سَعْدُ إِنَّ هَؤُلاَءِ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِكَ قَالَ فَإِنِّي أَحْكُمُ فِيهِمْ أَنْ تُقْتَلَ مُقَاتِلَتُهُمْ وَتُسْبَى ذَرَارِيُّهُمْ قَالَ حَكَمْتَ بِحُكْمِ اللَّهِ أَوْ بِحُكْمِ الْمَلِكِ"
قوله: "باب مناقب سعد بن معاذ" أي ابن النعمان بن امرئ القيس بن عبد الأشهل، وهو كبير الأوس، كما أن سعد بن عبادة كبير الخزرج، وإياهما أراد الشاعر بقوله:
فإن يسلم السعدان يصبح محمد ... بمكة لا يخشى خلاف المخالف
قوله: "أهديت للنبي صلى الله عليه وسلم حلة حرير" الذي أهداها له أكيدر دومة، كما بينه أنس في حديثه المتقدم في كتاب الهبة.قوله: "رواه قتادة والزهري سمعا أنسا عن النبي صلى الله عليه وسلم" أما رواية قتادة فوصلها المؤلف في الهبة، وأما رواية الزهري فوصلها في اللباس، ويأتي ما يتعلق بها هناك إن شاء الله تعالى.قوله: "حدثنا فضل بن مساور "بضم الميم وتخفيف المهملة، هو بصري يكنى أبا المساور، وكان ختن أبي عوانة، وليس له في البخاري إلا هذا الموضع.قوله: "ختن أبي عوانة" بفتح المعجمة والمثناة أي صهره زوج ابنته، والختن يطلق على كل من كان من أقارب المرأة.قوله: "وعن الأعمش" هو معطوف على الإسناد الذي قبله، وهذا من شأن البخاري في حديث أبي سفيان طلحة بن نافع صاحب جابر لا يخرج له إلا مقرونا بغيره أو استشهادا.قوله: "فقال رجل لجابر" لم أقف على اسمه.قوله: "فإن البراء يقول: اهتز السرير" أي الذي حمل عليه.قوله: "إنه كان بين هذين الحيين" أي الأوس والخزرج. قوله: "ضغائن" بالضاد والغين المعجمتين جمع ضغينة وهي الحقد، قال الخطابي: إنما قال جابر ذلك لأن سعدا كان من الأوس والبراء خزرجي والخزرج لا تقر للأوس بفضل، كذا قال وهو خطأ فاحش، فإن البراء أيضا أوسي لأنه ابن عازب بن الحارث بن عدي بن مجدعة بن حارثة بن الحارث بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الأوس، يجتمع مع سعد بن معاذ في الحارث بن الخزرج، والخزرج والد الحارث بن الخزرج، وليس هو الخزرج الذي يقابل الأوس وإنما هي على اسمه.نعم الذي من الخزرج الذين هم مقابلو الأوس جابر؛ وإنما قال جابر ذلك إظهارا للحق واعترافا بالفضل لأهله، فكأنه تعجب من البراء كيف قال ذلك مع أنه أوسي، ثم قال: أنا وإن كنت خزرجيا وكان بين الأوس والخزرج ما كان، لا يمنعني ذلك أن أقول الحق، فذكر الحديث.والعذر للبراء أنه لم يقصد تغطية فضل سعد بن معاذ، وإنما فهم ذلك فجزم به، هذا الذي يليق أن يظن به، وهو دال على عدم تعصبه.ولما جزم الخطابي بما تقدم احتاج هو ومن تبعه إلى الاعتذار عما صدر من جابر في حق البراء وقالوا في ذلك ما محصله: إن البراء معذور لأنه لم يقل ذلك على سبيل العداوة لسعد، وإنما فهم شيئا محتملا فحمل الحديث عليه، والعذر لجابر أنه ظن أن

(7/123)


البراء أراد الغض من سعد فساغ له أن ينتصر له، والله أعلم. وقد أنكر ابن عمر ما أنكره البراء فقال: إن العرش لا يهتز لأحد، ثم رجع عن ذلك وجزم بأنه اهتز له عرش الرحمن، أخرج ذلك ابن حبان من طريق مجاهد عنه، والراد باهتزاز العرش استبشاره وسروره بقدوم روحه، يقال لكل من فرح بقدوم قادم عليه اهتز له، ومنه اهتزت الأرض بالنبات إذا اخضرت وحسنت، ووقع ذلك من حديث ابن عمر عند الحاكم بلفظ: "اهتز العرش فرحا به" لكنه تأوله كما تأوله البراء بن عازب فقال: اهتز العرش فرحا بلقاء الله سعدا حتى تفسخت أعواده على عواتقنا، قال ابن عمر: يعني عرش سعد الذي حمل عليه، وهذا من رواية عطاء بن السائب عن مجاهد عن ابن عمر، وفي حديث عطاء مقال لأنه ممن اختلط في آخر عمره، ويعارض روايته أيضا ما صححه الترمذي من حديث أنس قال: "لما حملت جنازة سعد بن معاذ قال المنافقون: ما أخف جنازته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الملائكة كانت تحمله " قال الحاكم: الأحاديث التي تصرح باهتزاز عرش الرحمن مخرجة في الصحيحين. وليس لمعارضها في الصحيح ذكر، انتهى. وقيل: المراد باهتزاز العرش اهتزاز حملة العرش، ويؤيده حديث: "إن جبريل قال: من هذا الميت الذي فتحت له أبواب السماء واستبشر به أهلها" أخرجه الحاكم، وقيل: هي علامة نصبها الله لموت من يموت من أوليائه ليشعر ملائكته بفضله. وقال الحربي: إذا عظموا الأمر نسبوه إلى عظيم كما يقولون قامت لموت فلان القيامة وأظلمت الدنيا ونحو ذلك، وفي هذه منقبة عظيمة لسعد، وأما تأويل البراء على أنه أراد بالعرش السرير الذي حمله عليه فلا يستلزم ذلك فضلا له لأنه يشركه في ذلك كل ميت، إلا أنه يريد اهتز حملة السرير فرحا بقدومه على ربه فيتجه. ووقع لمالك نحو ما وقع لابن عمر أولا، فذكر صاحب "العتبية" فيها أن مالكا سئل عن هذا الحديث فقال: أنهاك أن تقوله، وما يدعو المرء أن يتكلم بهذا وما يدري ما فيه من الغرور. قال أبو الوليد بن رشد في "شرح العتبية" إنما نهى مالك لئلا يسبق إلى وهم الجاهل أن العرش إذا تحرك يتحرك الله بحركته كما يقع للجالس منا على كرسيه، وليس العرش بموضع استقرار الله، تبارك الله وتنزه عن مشابهة خلقه. انتهى ملخصا. والذي يظهر أن مالكا ما نهى عنه لهذا، إذ لو خشي من هذا لما أسند في "الموطأ" حديث: "ينزل الله إلى سماء الدنيا" لأنه أصرح في الحركة من اهتزاز العرش، ومع ذلك فمعتقد سلف الأئمة وعلماء السنة من الخلف أن الله منزه عن الحركة والتحول والحلول ليس كمثله شيء، ويحتمل الفرق بأن حديث سعد ما ثبت عنده فأمر بالكف عن التحدث به بخلاف حديث النزول فإنه ثابت فرواه ووكل أمره إلى فهم أولي العلم الذين يسمعون في القرآن استوى على العرش، ونحو ذلك. وقد جاء حديث اهتزاز العرش لسعد بن معاذ عن عشرة من الصحابة أو أكثر وثبت في الصحيحين، فلا معنى لإنكاره. قوله: "أن أناسا نزلوا على حكم سعد" هم بنو قريظة، وسيأتي شرح ذلك في المغازي. وقوله في هذه الرواية: "فلما بلغ قريبا من المسجد" أي الذي أعده النبي صلى الله عليه وسلم أيام محاصرته لبني قريظة للصلاة فيه. وأخطأ من زعم أنه غلط من الراوي لظنه أنه أراد بالمسجد المسجد النبوي بالمدينة وقال إن الصواب ما وقع عند أبي داود من طريق شعبة أيضا بهذا الإسناد بلفظ: "فلما دنا من النبي صلى الله عليه وسلم: "انتهى، وإذا حمل على ما قررته لم يكن بين اللفظين تناف وقد أخرجه مسلم كما أخرجه البخاري كذلك.

(7/124)


13 - باب مَنْقَبَةُ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ وَعَبَّادِ بْنِ بِشْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
2805-حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا حَبَّانُ بْنُ هِلاَلٍ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ أَخْبَرَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ

(7/124)


أَنَّ رَجُلَيْنِ خَرَجَا مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ وَإِذَا نُورٌ بَيْنَ أَيْدِيهِمَا حَتَّى تَفَرَّقَا فَتَفَرَّقَ النُّورُ مَعَهُمَا وَقَالَ مَعْمَرٌ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ "إِنَّ أُسَيْدَ بْنَ حُضَيْرٍ وَرَجُلًا مِنْ الأَنْصَارِ" وَقَالَ حَمَّادٌ أَخْبَرَنَا ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ "كَانَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ وَعَبَّادُ بْنُ بِشْرٍ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
قوله: "باب منقبة أسيد بن حضير وعباد بن بشر" هو أسيد بن حضير بن سماك بن عتيك بن رافع بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشهل الأنصاري الأوسي الأشهلي، يكنى أبا يحيى وقيل: غير ذلك، ومات في سنة عشرين في خلافة عمر على الأصح. وعباد بن بشر هو ابن وقش كما سأبينه، وفي تاريخ البخاري ومسند أبي يعلى وصححه الحاكم من طريق ابن إسحاق عن يحيى بن عباد عن أبيه عن عائشة قالت: "ثلاثة من الأنصار لم يكن أحد يعتد عليهم فضلا كلهم من بني عبد الأشهل: سعد بن معاذ وأسيد بن حضير وعباد بن بشر". قوله: "أن رجلين" ظهر من رواية معمر أن أسيد بن حضير أحدهما، ومن رواية حماد أن الثاني عباد بن بشر ولذلك جزم به المؤلف في الترجمة وأشار إلى حديثهما، فأما رواية معمر فوصلها عبد الرزاق في مصنفه عنه، ومن طريقه الإسماعيلي بلفظ: "أن أسيد بن حضير ورجلا من الأنصار تحدثا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ذهب من الليل ساعة في ليلة شديدة الظلمة، ثم خرجا وبيد كل منهما عصية، فأضاءت عصا أحدهما حتى مشيا في ضوئها، حتى إذا افترقت بهما الطريق أضاءت عصا الآخر فمشى كل منهما في ضوء عصاه حتى بلغ أهله" وأما رواية حماد بن سلمة فوصلها أحمد والحاكم في "المستدرك" بلفظ: "أن أسيد بن حضير وعباد بن بشر كانا عند النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة ظلماء حندس، فلما خرجا أضاءت عصا أحدهما فمشيا في ضوئها، فلما افترقت بهما الطريق أضاءت عصا الآخر". قوله: "عباد بن بشر" كذا للأكثر بكسر الموحدة وسكون المعجمة. وفي رواية أبي الحسن القابسي "بشير" بفتح أوله وكسر ثانيه وزيادة تحتانية وهو غلط، وفي الصحابة عباد بن بشر بن قيظي، وعباد بن بشر بن نهيك، وعباد بن بشر بن وقش، وصاحب هذه القصة هو هذا الثالث، ووهم من زعم خلاف ذلك.

(7/125)


3 - باب مَنَاقِبُ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
3806-حدثنا محمد بن بشار حدثنا غندر حدثنا شعبة عن عمرو عن أبراهيم عن مسروق عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول "استقرئو القرآن من أربعة: من ابن مسعود, وسالم مولى أبي حذيفة وأبي, ومعاذ بن جبل"
قوله: "مناقب معاذ بن جبل" أي ابن عمرو بن أوس، من بني أسد بن شاردة بن يزيد بفتح المثناة الفوقانية ابن جشم بن الخزرج الخزرجي، يكنى أبا عبد الرحمن، شهد بدرا والعقبة، وكان أميرا للنبي صلى الله عليه وسلم على اليمن، ورجع بعده إلى المدينة، ثم خرج إلى الشام مجاهدا فمات في طاعون عمواس سنة ثماني عشرة. ذكر فيه حديث عبد الله بن عمرو"استقرئوا القرآن" وقد تقدم شرحه قريبا، وقد أخرج ابن حبان والترمذي من حديث أبي هريرة رفعه: "نعم الرجل معاذ بن جبل" كان عقبيا بدريا من فقهاء الصحابة، وقد أخرج الترمذي وابن ماجه عن أنس رفعه:

(7/125)


"أرحم أمتي أبو بكر - وفيه - وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ" ورجاله ثقات، وصح عن عمر أنه قال: "من أراد الفقه فليأت معاذا"، وسيأتي له ذكر في تفسير سورة النحل، وعاش معاذ ثلاثا وثلاثين سنة على الصحيح.

(7/126)


15 - باب مَنْقَبَةُ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
وَقَالَتْ عَائِشَةُ وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ رَجُلًا صَالِحًا
3807- حدثنا إسحاق حدثنا عبد الصمد حدثنا شعبة حدثنا قتادة قال سمعت أنس بن مالك رضي الله عنه قال أبو أسيد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "خير دور الأنصار بنو النجار, ثم بنو عبد الأشهل ثم بنو الحارث بن الخزرج, ثم بنو ساعدة, وفي كل دور الأنصار خير" . فقال سعد بن عبادة- وكان ذا قدم في الإسلام -:أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فضل علينا. فقيل له: قد فضلكم على ناس كثير"
قوله: "منقبة سعد بن عبادة" أي ابن دليم بن حارثة بن أبي خزيمة بن ثعلبة بن طريف بن الخزرج بن ساعدة يكنى أبا ثابت، وهو والد قيس بن سعد أحد مشاهير الصحابة، وكان سعد كبير الخزرج وأحد المشهورين بالجود، ومات بحوران من أرض الشام سنة أربع عشرة أو خمس عشرة في خلافة عمر. ثم ذكر فيه حديث أبي أسيد في دور الأنصار وقد تقدم قريبا، وأورده هنا لقوله في هذه الطريق" وكان ذا قدم في الإسلام".قوله: "وقالت عائشة: وكان قبل ذلك رجلا صالحا" هذا طرف من حديث الإفك الطويل، وسيأتي بتمامه في تفسير سورة النور إن شاء الله تعالى، وذكرت عائشة فيه ما دار بين سعد بن عبادة وأسيد بن حضير حيث قال: "وإن كان من إخواننا من الخزرج فمرنا بأمرك، فقال له سعد بن عبادة: لا تستطيع قتله" فثار بينهم الكلام إلى أن أسكتهم النبي صلى الله عليه وسلم، فأشارت عائشة إلى أن سعد بن عبادة كان قبل أن يقول تلك المقالة رجلا صالحا، ولا يلزم من ذلك أن يكون خرج عن هذه الصفة إذ ليس في الخبر تعرض لما بعد تلك المقالة، والظاهر استمرار ثبوت تلك الصفة له لأنه معذور في تلك المقالة لأنه كان فيها متأولا، فلذلك أوردها المصنف في مناقبه، ولم يبد منه ما يعاب به قبل هذه المقالة، وعذر سعد فيها ظاهر، لأنه تخيل أن الأوسي أراد الغض من قبيلة الخزرج لما كان بين الطائفتين فرد عليه، ثم لم يقع من سعد بعد ذلك شيء يعاب به إلا أنه امتنع من بيعة أبي بكر فيما يقال وتوجه إلى الشام فمات بها، والعذر له في ذلك أنه تأول أن للأنصار في الخلافة استحقاقا فبنى على ذلك، وهو معذور وإن كان ما اعتقده من ذلك خطأ.

(7/126)


16 - باب مَنَاقِبُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
3808- حدثنا أبو الوليد حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة عن إبراهيمعن مسروق قال "ذكر عبد الله بن مسعود عند عبد الله بن عمرو فقال: ذاك رجل لاأزال أحبه, سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "خذو القرآن من أربعة,من عبد الله بن مسعود –فبدأ به- وسالم مولى أبي حذيفة,ومعاذ بن جبل, وأبي بن كعب" .

(7/126)


17- باب مَنَاقِبُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
3810- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَمَعَ الْقُرْآنَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعَةٌ كُلُّهُمْ مِنْ الأَنْصَارِ أُبَيٌّ وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَأَبُو زَيْدٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ قُلْتُ لِأَنَسٍ مَنْ أَبُو زَيْدٍ قَالَ أَحَدُ عُمُومَتِي"
[الحديث 3810- أطرافه في 5004,5003,3996]
قوله: "باب مناقب زيد بن ثابت" أي ابن الضحاك بن زيد بن لوذان، من بني مالك بن النجار، كاتب الوحي وأحد فقهاء الصحابة.مات سنة خمس وأربعين.قوله: "جمع القرآن" أي استظهره حفظا. قوله: "وأبو زيد. ثم قال أنس: هو أحد عمومتي" ذكر علي بن المديني أن اسمه أوس، وعن يحيى بن معين هو ثابت بن زيد، وقيل

(7/127)


هو سعد بن عبيد بن النعمان وبذلك جزم الطبراني عن شيخه أبي بكر بن صدقة قال: وهو الذي كان يقال له القارئ وكان على القادسية واستشهد بها، وهو والد عمير بن سعد. وعن الواقدي: هو قيس بن السكن بن قيس بن زعور بن حرام الأنصاري النجاري، ويرجحه قول أنس" أحد عمومتي" فإنه من قبيلة بني حرام، وليس في هذا ما يعارض حديث عبد الله بن عمرو "استقرئوا القرآن من أربعة" فذكر اثنين من الأربعة ولم يذكر اثنين، لأنه إما أن يقال لا يلزم من الأمر بأخذ القراءة عنهم أن يكونوا كلهم استظهروه جميعه، وإما أن لا يؤخذ بمفهوم حديث أنس لأنه لا يلزم من قوله: "جمعه أربعة" أن لا يكون جمعه غيرهم، فلعله أراد أنه لم يقع جمعه لأربعة من قبيلة واحدة إلا لهذه القبيلة وهي الأنصار، وسيأتي الكلام على جمع القرآن في كتاب فضائل القرآن.

(7/128)


3 - باب مَنَاقِبُ أَبِي طَلْحَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
3811- حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ انْهَزَمَ النَّاسُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو طَلْحَةَ بَيْنَ يَدَيْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُجَوِّبٌ بِهِ عَلَيْهِ بِحَجَفَةٍ لَهُ وَكَانَ أَبُو طَلْحَةَ رَجُلًا رَامِيًا شَدِيدَ الْقِدِّ يَكْسِرُ يَوْمَئِذٍ قَوْسَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا وَكَانَ الرَّجُلُ يَمُرُّ مَعَهُ الْجَعْبَةُ مِنْ النَّبْلِ فَيَقُولُ انْشُرْهَا لِأَبِي طَلْحَةَ فَأَشْرَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْظُرُ إِلَى الْقَوْمِ فَيَقُولُ أَبُو طَلْحَةَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي لاَ تُشْرِفْ يُصِيبُكَ سَهْمٌ مِنْ سِهَامِ الْقَوْمِ نَحْرِي دُونَ نَحْرِكَ وَلَقَدْ رَأَيْتُ عَائِشَةَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ وَأُمَّ سُلَيْمٍ وَإِنَّهُمَا لَمُشَمِّرَتَانِ أَرَى خَدَمَ سُوقِهِمَا تُنْقِزَانِ الْقِرَبَ عَلَى مُتُونِهِمَا تُفْرِغَانِهِ فِي أَفْوَاهِ الْقَوْمِ ثُمَّ تَرْجِعَانِ فَتَمْلاَنِهَا ثُمَّ تَجِيئَانِ فَتُفْرِغَانِهِ فِي أَفْوَاهِ الْقَوْمِ وَلَقَدْ وَقَعَ السَّيْفُ مِنْ يَدَيْ أَبِي طَلْحَةَ إِمَّا مَرَّتَيْنِ وَإِمَّا ثَلاَثًا
قوله: "باب مناقب أبي طلحة" هو زيد بن سهل بن الأسود بن حرام الأنصاري الخزرجي النجاري، هو زوج أم سليم والدة أنس، وقد تقدم بيان وفاته وتاريخها في الجهاد. قوله: "مجوب" بفتح الجيم وكسر الواو المشددة أي مترس عليه يقيه بها، ويقال للترس جوبة، والحجفة بمهملة ثم جيم مفتوحتين الترس. قوله: "شديد القد يكسر" كذا للأكثر بنصب"شديدا" وبعدها "لقد" بلام ثم قد، ولبعضهم بالإضافة "شديد القد" بسكون اللام وكسر القاف، والقد سير من جلد غير مدبوغ، ويريد أنه شديد وتر القوس، وبهذا جزم الخطابي وتبعه ابن التين، وقد روي بالميم المفتوحة بدل القاف. وسيأتي بقية ما يتعلق بهذا الحديث في المغازي إن شاء الله تعالى.

(7/128)


باب مناقب عبدالله بن سلام رضي الله عنه
...
19 - باب مَنَاقِبُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلاَمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
3812- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ سَمِعْتُ مَالِكًا يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ مَا سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لِأَحَدٍ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِلاَّ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلاَمٍ قَالَ وَفِيهِ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ} الْآيَةَ قَالَ لاَ أَدْرِي قَالَ مَالِكٌ الْآيَةَ أَوْ فِي الحديث".

(7/128)


20 - باب تَزْوِيجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَدِيجَةَ وَفَضْلِهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
3815- حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ قَالَ سَمِعْتُ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
"حَدَّثَنِي صَدَقَةُ أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "خَيْرُ نِسَائِهَا مَرْيَمُ وَخَيْرُ نِسَائِهَا خَدِيجَةُ" .
3816- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ كَتَبَ إِلَيَّ هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ مَا غِرْتُ عَلَى امْرَأَةٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ هَلَكَتْ قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَنِي لِمَا كُنْتُ أَسْمَعُهُ يَذْكُرُهَا وَأَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يُبَشِّرَهَا بِبَيْتٍ مِنْ قَصَبٍ وَإِنْ كَانَ لَيَذْبَحُ الشَّاةَ فَيُهْدِي فِي خَلاَئِلِهَا مِنْهَا مَا يَسَعُهُنَّ".
[الحديث 3816- أطرافه في: 7484,6004,5229,3818,3817]
3817- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ "مَا غِرْتُ عَلَى امْرَأَةٍ مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ مِنْ كَثْرَةِ ذِكْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهَا قَالَتْ وَتَزَوَّجَنِي بَعْدَهَا بِثَلاَثِ سِنِينَ وَأَمَرَهُ رَبُّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَوْ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَم أَنْ يُبَشِّرَهَا بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ"
3818- حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَسَنٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا حَفْصٌ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ مَا غِرْتُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ نِسَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ وَمَا رَأَيْتُهَا وَلَكِنْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ ذِكْرَهَا وَرُبَّمَا ذَبَحَ الشَّاةَ ثُمَّ يُقَطِّعُهَا أَعْضَاءً ثُمَّ يَبْعَثُهَا فِي صَدَائِقِ خَدِيجَةَ فَرُبَّمَا قُلْتُ لَهُ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الدُّنْيَا امْرَأَةٌ إِلاَّ خَدِيجَةُ فَيَقُولُ إِنَّهَا كَانَتْ وَكَانَتْ وَكَانَ لِي مِنْهَا وَلَدٌ "
3819- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ إِسْمَاعِيلَ قَالَ قُلْتُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بَشَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَدِيجَةَ "قَالَ نَعَمْ بِبَيْتٍ مِنْ قَصَبٍ لاَ صَخَبَ فِيهِ وَلاَ نَصَبَ"
3820- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ عَنْ عُمَارَةَ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ

(7/133)


عَنْهُ قَالَ "أَتَى جِبْرِيلُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذِهِ خَدِيجَةُ قَدْ أَتَتْ مَعَهَا إِنَاءٌ فِيهِ إِدَامٌ أَوْ طَعَامٌ أَوْ شَرَابٌ فَإِذَا هِيَ أَتَتْكَ فَاقْرَأْ عَلَيْهَا السَّلاَمَ مِنْ رَبِّهَا وَمِنِّي وَبَشِّرْهَا بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ لاَ صَخَبَ فِيهِ وَلاَ نَصَبَ"
[الحديث 3820- طرفه في 7497]
3821- وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ خَلِيلٍ أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ اسْتَأْذَنَتْ هَالَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ أُخْتُ خَدِيجَةَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَرَفَ اسْتِئْذَانَ خَدِيجَةَ فَارْتَاعَ لِذَلِكَ فَقَالَ اللَّهُمَّ هَالَةَ قَالَتْ فَغِرْتُ فَقُلْتُ مَا تَذْكُرُ مِنْ عَجُوزٍ مِنْ عَجَائِزِ قُرَيْشٍ حَمْرَاءِ الشِّدْقَيْنِ هَلَكَتْ فِي الدَّهْرِ قَدْ أَبْدَلَكَ اللَّهُ خَيْرًا مِنْهَا"
قوله: "باب تزويج النبي صلى الله عليه وسلم خديجة وفضلها" كذا في النسخ" تزويج" وتفعيل قد يجيء بمعنى تفعل وهو المراد هنا، أو فيه حذف تقديره تزويجه من نفسه. قوله: "خديجة" هي أول من تزوجها صلى الله عليه وسلم، وهي بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي، تجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في قصي، وهي من أقرب نسائه إليه في النسب؛ ولم يتزوج من ذرية قصي غيرها إلا أم حبيبة، وتزوجها سنة خمس وعشرين من مولده في قول الجمهور، زوجه إياها أبوها خويلد ذكره البيهقي من حديث الزهري بإسناده عن عمار بن ياسر، وقيل: عمها عمرو بن أسد ذكره الكلبي، وقيل: أخوها عمرو بن خويلد ذكره ابن إسحاق، وكانت قبله عند أبي هالة بن النباش بن زرارة التميمي حليف بني عبد الدار، واختلف في اسم هالة فقيل مالك قاله الزبير، وقيل: زرارة حكاه ابن منده، وقيل: هند جزم به العسكري، وقيل: اسمه النباش جزم به أبو عبيد، وابنه هند روى عنه الحسن بن علي فقال: "حدثني خالي" لأنه أخو فاطمة لأمها، ولهند هذا ولد اسمه هند ذكره الدولابي وغيره، فعلى قول العسكري فهو ممن اشترك مع أبيه وجده في الاسم، ومات أبو هالة في الجاهلية، وكانت خديجة قبله عند عتيق بن عائذ المخزومي. وكان النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يتزوج خديجة قد سافر في مالها مقارضا إلى الشام، فرأى منه ميسرة غلامها ما رغبها في تزوجه، قال الزبير: وكانت خديجة تدعى في الجاهلية الطاهرة، وماتت على الصحيح بعد المبعث بعشر سنين في شهر رمضان، وقيل: بثمان، وقيل: بسبع، فأقامت معه صلى الله عليه وسلم خمسا وعشرين سنة على الصحيح. وقال ابن عبد البر أربعا وعشرين سنة وأربعة أشهر، وسيأتي من حديث عائشة ما يؤيد الصحيح في أن موتها قبل الهجرة بثلاث سنين، وذلك بعد المبعث على الصواب بعشر سنين، وقد تقدم في أبواب بدء الوحي بيان تصديقها للنبي صلى الله عليه وسلم في أول وهلة، ومن ثباتها في الأمر ما يدل على قوة يقينها ووفور عقلها وصحة عزمها، لا جرم كانت أفضل نسائه على الراجح، وقد تقدم في ذكر مريم من أحاديث الأنبياء بيان شيء من هذا. وروى الفاكهي في "كتاب مكة" عن أنس" أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عند أبي طالب، فاستأذنه أن يتوجه إلى خديجة فأذن له، وبعث بعده جارية له يقال لها نبعة فقال لها: انظري ما تقول له خديجة؟ قالت نبعة: فرأيت عجبا، ما هو إلا أن سمعت به خديجة فخرجت إلى الباب فأخذت بيدها فضمتها إلى صدرها ونحرها ثم قالت: بأبي وأمي، والله ما أفعل هذا لشيء، ولكني أرجو أن تكون أنت النبي الذي ستبعث، فإن

(7/134)


تكن هو فاعرف حقي ومنزلتي وادع الإله الذي يبعثك لي. قالت: فقال لها: والله لئن كنت أنا هو قد اصطنعت عندي ما لا أضيعه أبدا، وإن يكن غيري فإن الإله الذي تصنعين هذا لأجله لا يضيعك أبدا " ثم ذكر المصنف في الباب أحاديث لا تصريح فيها بما في الترجمة، إلا أن ذلك يؤخذ بطريق اللزوم من قول عائشة" ما غرت على امرأة" من قوله صلى الله عليه وسلم: "وكان لي منها ولد" وغير ذلك. قوله: "حدثني محمد" هو ابن سلام كما جزم به ابن السكن، وعبدة هو ابن سليمان. قوله: "سمعت عبد الله بن جعفر" هو ابن أبي طالب، ووقع عند عبد الرزاق عن ابن جريج" عن هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن الزبير عن عبد الله بن جعفر" وهو من المزيد في متصل الأسانيد لتصريح عبدة في هذه الرواية بسماع عروة عن عبد الله بن جعفر: "سمعت علي بن أبي طالب" زاد مسلم من رواية أبي أسامة عن هشام" بالكوفة" واتفق أصحاب هشام على ذكر علي فيه"، وقصر به محمد بن إسحاق فرواه عن هشام عن أبيه عن عبد الله بن جعفر عن النبي صلى الله عليه وسلم أخرجه أحمد وابن حبان والحاكم لكن بلفظ مغاير لهذا اللفظ، فالظاهر أنهما حديثان، وفي الإسناد رواية تابعي عن تابعي هشام عن أبيه وصحابي عن صحابي عبد الله بن جعفر عن عمه. قوله: "خير نسائها مريم وخير نسائها خديجة" قال القرطبي: الضمير عائد على غير مذكور، لكنه يفسره الحال والمشاهدة، يعني به الدنيا. وقال الطيبي: الضمير الأول يعود على الأمة التي كانت فيها مريم والثاني على هذه الأمة. قال ولهذا كرر الكلام تنبيها على أن حكم كل واحدة منها غير حكم الأخرى. قلت: ووقع عند مسلم من رواية وكيع عن هشام في هذا الحديث: "وأشار وكيع إلى السماء والأرض" فكأنه أراد أن يبين أن المراد نساء الدنيا، وأن الضميرين يرجعان إلى الدنيا. وبهذا جزم القرطبي أيضا. وقال الطيبي: أراد أنهما خير من تحت السماء وفوق الأرض من النساء، قال: ولا يستقيم أن يكون تفسيرا لقوله نسائها لأن هذا الضمير لا يصلح أن يعود إلى السماء. كذا قال. ويحتمل أن يريد أن الضمير الأول يرجع إلى السماء والثاني إلى الأرض إن ثبت أن ذلك صدر في حياة خديجة وتكون النكتة في ذلك أن مريم ماتت فعرج بروحها إلى السماء، فلما ذكرها أشار إلى السماء، وكانت خديجة إذ ذاك في الحياة فكانت في الأرض فلما ذكرها أشار إلى الأرض، وعلى تقدير أن يكون بعد موت خديجة فالمراد أنهما خير من صعد بروحهن إلى السماء وخير من دفن جسدهن في الأرض، وتكون الإشارة عند ذكر كل واحدة منهما. والذي يظهر لي أن قوله: "خير نسائها" خبر مقدم والضمير لمريم فكأنه قال مريم خير نسائها أي نساء زمانها، وكذا في خديجة. وقد جزم كثير من الشراح أن المراد نساء زمانها لما تقدم في أحاديث الأنبياء في قصة موسى وذكر آسية من حديث أبي موسى رفعه: "كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم وآسية" فقد أثبت في هذا الحديث الكمال لآسية كما أثبته لمريم، فامتنع حمل الخيرية في حديث الباب على الإطلاق، وجاء ما يفسر المراد صريحا، فروى البزار والطبراني من حديث عمار بن ياسر رفعه: "لقد فضلت خديجة على نساء أمتي كما فضلت مريم على نساء العالمين" وهو حديث حسن الإسناد، واستدل بهذا الحديث على أن خديجة أفضل من عائشة. قال ابن التين: ويحتمل أن لا تكون عائشة دخلت في ذلك لأنها كان لها عند موت خديجة ثلاث سنين، فلعل المراد النساء البوالغ. كذا قال، وهو ضعيف، فإن المراد بلفظ النساء أعم من البوالغ، ومن لم تبلغ أعم ممن كان موجودة وممن ستوجد. وقد أخرج النسائي بإسناد صحيح وأخرج الحاكم من حديث ابن عباس مرفوعا: "أفضل نساء أهل الجنة خديجة وفاطمة ومريم وآسية" وهذا نص صريح لا يحتمل التأويل، قال القرطبي:

(7/135)


لم يثبت في حق واحدة من الأربع أنها نبية إلا مريم. وقد أورد ابن عبد البر من وجه آخر عن ابن عباس رفعه: "سيدة نساء العالمين مريم ثم فاطمة ثم خديجة ثم آسية" قال: وهذا حديث حسن يرفع الإشكال، قال: ومن قال إن مريم ليست بنبية أول هذا الحديث وغيره بأن" من" وإن لم تذكر في الخبر فهي مرادة. قلت الحديث الثاني الدال على الترتيب ليس بثابت، وأصله عند أبي داود والحاكم بغير صيغة ترتيب، وقد يتمسك بحديث الباب من يقول إن مريم ليست بنبية لتسويتها في حديث الباب بخديجة، وليست خديجة بنبية بالاتفاق. والجواب أنه لا يلزم من التسوية في الخيرية التسوية في جميع الصفات، وقد تقدم ما قيل في مريم في ترجمتها من أحاديث الأنبياء والله أعلم. قوله: "حدثنا الليث قال: كتب إلى هشام بن عروة" وقع عند الإسماعيلي من وجه آخر عن الليث" حدثني هشام بن عروة" فلعل الليث لقي هشام بعد أن كتب به إليه فحدثه به، أو كان من مذهبه إطلاق" حدثنا" في الكتابة، وقد نقل الخطيب ذلك عنه في علوم الحديث. قوله: "ما غرت على امرأة للنبي صلى الله عليه وسلم" فيه ثبوت الغيرة وأنها غير مستنكر وقوعها من فاضلات النساء فضلا عمن دونهن، وأن عائشة كانت تغار من نساء النبي صلى الله عليه وسلم لكن كانت تغار من خديجة أكثر، وقد بينت سبب ذلك وأنه لكثرة ذكر النبي صلى الله عليه وسلم إياها. ووقع في الرواية التي تلي هذه بأبين من هذا حيث قال فيها: "من كثرة ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها" وأصل غيرة المرأة من تخيل محبة غيرها أكثر منها، وكثرة الذكر تدل على كثرة المحبة. وقال القرطبي: مرادها بالذكر لها مدحها والثناء عليها. قلت: وقع عند النسائي من رواية النضر بن شميل عن هشام" من كثرة ذكره إياها وثنائه عليها" فعطف الثناء على الذكر من عطف الخاص على العام، وهو يقتضي حمل الحديث على أعم مما قاله القرطبي. قوله: "هلكت قبل أن يتزوجني" ذكر في الحديث الذي بعده قدر المدة، وسيأتي البحث فيه، وأشارت بذلك إلى أنها لو كانت موجودة في زمانها لكانت غيرتها منها أشد. قوله: "وأمره الله أن يبشرها إلخ" سيأتي شرحه بعد هذا، وهو أيضا من جملة أسباب الغيرة، لأن اختصاص خديجة بهذه البشرى مشعر بمزيد محبة من النبي صلى الله عليه وسلم فيها. ووقع عند الإسماعيلي من رواية الفضل بن موسى عن هشام بن عروة بلفظ: "ما حسدت امرأة قط ما حسدت خديجة حين بشرها النبي صلى الله عليه وسلم ببيت من قصب" قوله: "وإن كان ليذبح الشاة إلخ" إن مخففة من الثقيلة ويراد بها تأكيد الكلام، ولهذا أتت باللام في قولها" ليذبح". قوله: "في خلائلها" بالخاء المعجمة جمع خليلة أي صديقة، وهي أيضا من أسباب الغيرة لما فيه من الإشعار باستمرار حبه لها حتى كان يتعاهد صواحباتها.قوله: "منها" أي من الشاة. قوله: "ما يسعهن" أي ما يكفيهن كذا للأكثر.وفي رواية المستملي والحموي" ما يتسعهن" أي يتسع لهن. وفي رواية النسفي" يشبعهن" من الشبع بكسر المعجمة وفتح الموحدة وليس في روايته: "ما". قوله: "حدثنا حميد بن عبد الرحمن" هو الرؤاسي بضم الراء وعلى الواو همزة وبعد الألف مهملة. ثقة باتفاق، وليس له في البخاري سوى هذا الحديث وآخر في الحدود. قوله: "وتزوجني بعدها بثلاث سنين" قال النووي: أرادت بذلك زمن دخولها عليه، وأما العقد فتقدم على ذلك بمدة سنة ونصف أو نحو ذلك، كذا قال، وسيأتي في "باب تزويج عائشة" ما يوضح أن المدة بين العقد عليها والدخول كان أكثر من ذلك. قوله: "وأمره ربه عز وجل أو جبريل" هو شك من الراوي، وسيأتي في حديث أبي هريرة في هذا الباب أن البشارة بذلك من الله كانت على لسان جبريل عليه السلام. قوله: "حدثني عمر بن محمد بن الحسن حدثنا أبي" هو الأسدي الذي يعرف بالتل بالمثناة وتشديد اللام، واسم والد الحسن الزبير، وعمر كوفي

(7/136)


ما له في البخاري سوى هذا الحديث وآخر في الزكاة، وهو من صغار شيوخه. وقد نزل البخاري في هذا الإسناد بالنسبة لحديث حفص بن غياث درجة، فإنه يروي الكثير عن ولده عمر بن حفص وغيره من أصحاب حفص، وهنا لم يصل لحفص إلا باثنين، وبالنسبة لرواية هشام بن عروة درجتين فإنه قد سمع من بعض أصحابه وأخرج هذا في الصحيح في كتاب العتق منه" حدثنا عبيد بن موسى عن هشام بن عروة من مسند أبي ذر"، والسبب في اختياره إيراد هذه الطريق النازلة ما اشتملت عليه من الزيادة على رواية غيره كما سأنبه عليه. قوله: "وما رأيتها" في رواية مسلم من هذا الوجه"ولم أدركها" ولم أر هذه اللفظة إلا في هذه الطريق، نعم أخرجها مسلم من طريق الزهري عن عروة عن عائشة بلفظ: "وما رأيتها قط" ورؤية عائشة لخديجة كانت ممكنة، وأما إدراكها لها فلا نزاع فيه لأنه كان لها عند موتها ست سنين، كأنها أرادت بنفي الرؤية والإدراك النفي بقيد اجتماعهما عند النبي صلى الله عليه وسلم، أي لم أرها وأنا عنده ولا أدركتها كذلك. وقد وقع في بعض طرقه عند أبي عوانة "ولقد هلكت قبل أن يتزوجني". قوله: "ولكن كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر ذكرها" في رواية عبد الله البهي عن عائشة عند الطبراني "وكان إذا ذكر خديجة لم يسأم من ثناء عليها واستغفار لها". قوله: "فربما قلت إلخ" هذا كله زائد في هذه الرواية، فقد أخرج الحديث مسلم وأبو عوانة والإسماعيلي وأبو نعيم من طريق سهل بن عثمان والترمذي عن أبي هشام الرفاعي كلهم عن حفص بن غياث بدونها. قوله: "كأنه لم يكن" في رواية الكشميهني: "كأن لم" بحذف الهاء من كأنه. قوله: "إنها كانت وكانت" أي كانت فاضلة وكانت عاقلة ونحو ذلك، وعند أحمد من حديث مسروق عن عائشة "آمنت بي إذ كفر بي الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله ولدها إذ حرمني أولاد النساء". قوله: "وكان لي منها ولد" وكان جميع أولاد النبي صلى الله عليه وسلم من خديجة، إلا إبراهيم فإنه كان من جاريته مارية، والمتفق علبه من أولاده منها القاسم وبه كان يكنى، مات صغيرا قبل المبعث أو بعده، وبناته الأربع: زينب ثم رقية ثم أم كلثوم ثم فاطمة، وقيل: كانت أم كلثوم أصغر من فاطمة، وعبد الله ولد بعد المبعث فكان يقال له الطاهر والطيب، ويقال هما أخوان له، وماتت الذكور صغارا باتفاق، ووقع عند مسلم من طريق حفص بن غياث هذه في آخر الحديث: "قالت عائشة: فأغضبته يوما فقلت خديجة، فقال: إني رزقت حبها" قال القرطبي كان حبه صلى الله عليه وسلم لها لما تقدم ذكره من الأسباب، وهي كثيرة كل منها كان سببا في إيجاد المحبة. ومما كافأ النبي صلى الله عليه وسلم به خديجة في الدنيا أنه لم يتزوج في حياتها غيرها، فروى مسلم من طريق الزهري عن عروة عن عائشة قالت: "لم يتزوج النبي صلى الله عليه وسلم على خديجة حتى ماتت" وهذا مما لا اختلاف فيه بين أهل العلم بالأخبار، وفيه دليل على عظم قدرها عنده وعلى مزيد فضلها لأنها أغنته عن غيرها واختصت به بقدر ما اشترك فيه غيرها مرتين، لأنه صلى الله عليه وسلم عاش بعد أن تزوجها ثمانية وثلاثين عاما انفردت خديجة منها بخمسة وعشرين عاما وهي نحو الثلثين من المجموع، ومع طول المدة فصان قلبها فيها من الغيرة ومن نكد الضرائر الذي ربما حصل له هو منه ما يشوش عليه بذلك، وهي فضيلة لم يشاركها فيها غيرها. ومما اختصت به سبقها نساء هذه الأمة إلى الإيمان، فسنت ذلك لكل من آمنت بعدها، فيكون لها مثل أجرهن، لما ثبت" أن من سن سنة حسنة" وقد شاركها في ذلك أبو بكر الصديق بالنسبة إلى الرجال، ولا يعرف قدر ما لكل منهما من الثواب بسبب ذلك إلا الله عز وجل. وقال النووي: في هذه الأحاديث دلالة لحسن العهد، وحفظ الود، ورعاية حرمة الصاحب والمعاشر حيا وميتا، وإكرام معارف ذلك

(7/137)


الصاحب. الحديث الخامس قوله: "عن إسماعيل" هو ابن أبي خالد. قوله: "قلت لعبد الله بن أبي أوفى إلخ" هذا مما حمله التابعي عن الصحابي عرضا، وليس هذا من التلقين، لأن التلقين لا استفهام فيه وإنما يقول الطالب للشيخ قل حدثنا فلان بكذا فيحدث به من غير أن يكون عارفا به حديثه ولا بعدالة الطالب فلا يؤمن أن لا يكون ذلك الطالب ضابطا لذلك القدر فيدل على تساهل الشيخ، فلذلك عابوه على من فعله. قوله: "بشر النبي صلى الله عليه وسلم" هو استفهام محذوف الأداة. قوله: "قال نعم" في رواية مسلم: "بشر خديجة ببيت من قصب، قال نعم إلخ" ووقع في رواية جرير عن إسماعيل أنهم قالوا لعبد الله بن أبي أوفى" حدثنا ما قال لخديجة: قال: قال: بشروا خديجة" فذكر الحديث، هكذا تقدم في أبواب العمرة من البخاري. قوله: "من قصب" بفتح القاف والمهملة بعدها موحدة، قال ابن التين: المراد به لؤلؤة مجوفة واسعة كالقصر المنيف. قلت: عند الطبراني في"الأوسط" من طريق أخرى عن ابن أبي أوفى "يعني قصب اللؤلؤ"، وعنده في" الكبير" من حديث أبي هريرة"بيت من لؤلؤة مجوفة" وأصله في مسلم، وعنده في الأوسط" من حديث فاطمة قالت: قلت يا رسول الله أين أمي خديجة؟ قال: في بيت من قصب، قلت أمن هذا القصب؟ قال: لا من القصب المنظوم بالدر واللؤلؤ والياقوت" قال السهيلي: النكتة في قوله: "من قصب" ولم يقل من لؤلؤ أن في لفظ القصب مناسبة لكونها أحرزت قصب السبق بمبادرتها إلى الإيمان دون غيرها، ولذا وقعت هذه المناسبة في جميع هذا الحديث انتهى. وفي القصب مناسبة أخرى من جهة استواء أكثر أنابيبه، وكذا كان لخديجة من الاستواء ما ليس لغيرها، إذ كانت حريصة على رضاه بكل ممكن، ولم يصدر منها ما يغضبه قط كما وقع لغيرها. وأما قوله: "ببيت" فقال أبو بكر الإسكاف في"فوائد الأخبار": المراد به بيت زائد على ما أعد الله لها من ثواب عملها، ولهذا قال: "لا نصب فيه": أي لم تتعب بسببه. قال السهيلي: لذكر البيت معنى لطيف لأنها كانت ربة بيت قبل المبعث ثم صارت ربة بيت في الإسلام منفردة به، فلم يكن على وجه الأرض في أول يوم بعث النبي صلى الله عليه وسلم بيت إسلام إلا بيتها، وهي فضيلة ما شاركها فيها أيضا غيرها. قال: وجزاء الفعل يذكر غالبا بلفظه وإن كان أشرف منه، فلهذا جاء في الحديث بلفظ البيت دون لفظ القصر انتهى. وفي ذكر البيت معنى آخر، لأن مرجع أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم إليها، لما ثبت في تفسير قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} قالت أم سلمة"لما نزلت دعا النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة وعليا والحسن والحسين فجللهم بكساء فقال: اللهم هؤلاء أهل بيتي" الحديث أخرجه الترمذي وغيره، ومرجع أهل البيت هؤلاء إلى خديجة، لأن الحسنين من فاطمة وفاطمة بنتها، وعلي نشأ في بيت خديجة وهو صغير ثم تزوج بنتها بعدها، فظهر رجوع أهل البيت النبوي إلى خديجة دون غيرها.
قوله: "لا صخب فيه ولا نصب" الصخب بفتح المهملة والمعجمة بعدها موحدة: الصياح والمنازعة برفع الصوت، والنصب بفتح النون والمهملة بعدها موحدة التعب. وأغرب الداودي فقال: الصخب العيب، والنصب العوج. وهو تفسير لا تساعد عليه اللغة. وقال السهيلي: مناسبة نفي هاتين الصفتين - أعني المنازعة والتعب - أنه صلى الله عليه وسلم لما دعا إلى الإسلام أجابت خديجة طوعا فلم تحوجه إلى رفع صوت ولا منازعة ولا تعب في ذلك، بل أزالت عنه كل نصب، وآنسته من كل وحشة، وهونت عليه كل عسير، فناسب أن يكون منزلها الذي بشرها به ربها بالصفة المقابلة لفعلها. قوله: "عن عمارة" هو ابن القعقاع. قوله: "عن أبي هريرة" في رواية مسلم عن ابن نمير عن ابن فضيل بهذا الإسناد" سمعت أبا هريرة". قوله: "أتى جبريل" في رواية سعيد بن كثير عند الطبراني

(7/138)


أن ذلك كان وهو بحراء. قوله: "هذه خديجة قد أتت" في رواية مسلم: "قد أتتك" ومعناه توجهت إليك، وأما قوله ثانيا،"فإذا هي أتتك" فمعناه وصلت إليك. قوله: "إناء فيه إدام أو طعام أو شراب" شك من الراوي، وكذا عند مسلم. وفي رواية الإسماعيلي: "فيه إدام أو طعام وشراب" وفي رواية سعيد بن كثير المذكور عند الطبراني أنه كان حيسا. قوله: "فاقرأ عليها السلام من ربها ومني" زاد الطبراني في الرواية المذكورة" فقالت: هو السلام ومنه والسلام وعلى جبريل السلام" وللنسائي من حديث أنس قال: "قال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم إن الله يقرئ خديجة السلام" يعني فأخبرها" فقالت: إن الله هو السلام، وعلى جبريل السلام وعليك يا رسول الله السلام ورحمة الله وبركاته" زاد ابن السني من وجه آخر "وعلى من سمع السلام، إلا الشيطان"، قال العلماء في هذا القصة دليل على وفور فقهها، لأنها لم تقل "وعليه السلام" كما وقع لبعض الصحابة حيث كانوا يقولون في التشهد" السلام على الله فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إن الله هو السلام، فقولوا التحيات لله" فعرفت خديجة لصحة فهمها أن الله لا يرد عليه السلام كما يرد على المخلوقين، لأن السلام اسم من أسماء الله، وهو أيضا دعاء بالسلامة، وكلاها لا يصلح أن يرد به على الله فكأنها قالت: كيف أقول عليه السلام والسلام اسمه، ومنه يطلب، ومنه يحصل. فيستفاد منه أنه لا يليق بالله إلا الثناء عليه فجعلت مكان رد السلام عليه الثناء عليه، ثم غايرت بين ما يليق بالله وما يليق بغيره فقالت: "وعلى جبريل السلام" ثم قالت: "وعليك السلام" ويستفاد منه رد السلام على من أرسل السلام وعلى من بلغه. والذي يظهر أن جبريل كان حاضرا عند جوابها فردت عليه وعلى النبي صلى الله عليه وسلم مرتين: مرة بالتخصيص ومرة بالتعميم، ثم أخرجت الشيطان ممن سمع لأنه لا يستحق الدعاء بذلك. قيل: إنما بلغها جبريل عليه السلام من ربها بواسطة النبي صلى الله عليه وسلم احتراما للنبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك وقع له لما سلم على عائشة لم يواجهها بالسلام بل راسلها مع النبي صلى الله عليه وسلم. وقد واجه مريم بالخطاب، فقيل لأنها نبية، وقيل: لأنها لم يكن معها زوج يحترم معه مخاطبتها. قال السهيلي: استدل بهذه القصة أبو بكر بن داود على أن خديجة أفضل من عائشة لأن عائشة سلم عليها جبريل من قبل نفسه، وخديجة أبلغها السلام من ربها. وزعم ابن العربي أنه لا خلاف في أن خديجة أفضل من عائشة، ورد بأن الخلاف ثابت قديما وإن كان الراجح أفضلية خديجة بهذا وبما تقدم. قلت: ومن صريح ما جاء في تفضيل خديجة ما أخرجه أبو داود والنسائي وصححه الحاكم من حديث ابن عباس رفعه: "أفضل نساء أهل الجنة خديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد" قال السبكي الكبير كما تقدم: لعائشة من الفضائل ما لا يحصى، ولكن الذي نختاره وندين الله به أن فاطمة أفضل ثم خديجة ثم عائشة. واستدل لفضل فاطمة بما تقدم في ترجمتها أنها سيدة نساء المؤمنين. قلت: وقال بعض من أدركناه: الذي يظهر أن الجمع بين الحديثين أولى، وأن لا نفضل إحداهما على الأخرى. وسئل السبكي: هل قال أحد إن أحدا من نساء النبي صلى الله عليه وسلم غير خديجة وعائشة أفضل من فاطمة؟ فقال: قال به من لا يعتد بقوله: وهو من فضل نساء النبي صلى الله عليه وسلم على جميع الصحابة لأنهن في درجته في الجنة. قال: وهو قول ساقط مردود انتهى. وقائله هو أبو محمد بن حزم وفساده ظاهر. قال السبكي: ونساء النبي صلى الله عليه وسلم بعد خديجة وعائشة متساويات في الفضل، وهن أفضل النساء لقول الله تعالى: {لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ} الآية، ولا يستثنى من ذلك إلا من قيل إنها نبية كمريم، والله أعلم. ومما نبه عليه أنه وقع عند الطبراني من رواية أبي يونس عن عائشة أنها وقع لها نظير ما وقع لخديجة من السلام والجواب، وهي رواية شاذة، والعلم عند الله تعالى. قوله: "وقال إسماعيل بن

(7/139)


خليل" كذا في جميع النسخ التي اتصلت إلينا بصيغة التعليق، لكن صنيع المزي يقتضي أنه أخرجه موصولا، وقد أخرجه أبو عوانة عن محمد بن يحيى الذهلي عن إسماعيل المذكور، وأخرجه مسلم عن سويد بن سعيد والإسماعيلي من طريق الوليد بن شجاع كلاهما عن علي بن مسهر. قوله: "استأذنت هالة بنت خويلد" هي أخت خديجة، وكانت زوج الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس والد أبي العاص بن الربيع زوج زينب بنت النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ذكروها في الصحابة وهو ظاهر هذا الحديث، وقد هاجرت إلى المدينة لأن دخولها كان بها أي بالمدينة، ويحتمل أن تكون دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم بمكة حيث كانت عائشة معه في بعض سفراته، ووقع عند المستغفري من طريق حماد بن سلمة عن هشام بهذا السند" قدم ابن لخديجة يقال له هالة، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم في قائلته كلام هالة، فانتبه وقال: هالة هالة" قال المستغفري: الصواب هالة أخت خديجة انتهى. وروى الطبراني في "الأوسط" من طريق تميم بن زيد بن هالة عن أبي هالة عن أبيه أنه دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو راقد فاستيقظ فضمه إلى صدره وقال: "هالة هالة" وذكر ابن حبان وابن عبد البر في الصحابة هالة بن أبي هالة التميمي، فلعله كان لخديجة أيضا ابن اسمه هالة والله أعلم. قوله: "فعرف استئذان خديجة" أي صفته لشبه صوتها بصوت أختها فتذكر خديجة بذلك، وقوله: "ارتاع" من الروع بفتح الراء أي فزع، والمراد من الفزع لازمه وهو التغير. ووقع في بعض الروايات "ارتاح" بالحاء المهملة أي اهتز لذلك سرورا، وقوله: "اللهم هالة" فيه حذف تقديره اجعلها هالة، فعلى هذا فهو منصوب، ويحتمل أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هذه هالة وعلى هذا هو مرفوع، وفي الحديث أن من أحب شيئا أحب محبوباته وما يشبهه وما يتعلق به. قوله: "حمراء الشدقين" بالجر، قال أبو البقاء: يجوز في حمراء الرفع على القطع والنصب على الصفة أو الحال، ثم الموجود في جميع النسخ وفي مسلم: "حمراء" بالمهملتين، وحكى ابن التين أنه روي بالجيم والزاي ولم يذكر له معنى، وهو تصحيف والله أعلم. قال القرطبي: قيل: معنى حمراء الشدقين بيضاء الشدقين، والعرب تطلق على الأبيض الأحمر كراهة اسم البياض لكونه يشبه البرص، ولهذا كان صلى الله عليه وسلم يقول لعائشة يا حميراء. ثم استبعد القرطبي هذا لكون عائشة أوردت هذه المقالة مورد التنقيص، فلو كان الأمر كما قيل لنصت على البياض لأنه كان يكون أبلغ في مرادها. قال: والذي عندي أن المراد بذلك نسبتها إلى كبر السن، لأن من دخل في سن الشيخوخة مع قوة في بدنه يغلب على لونه غالبا الحمرة المائلة إلى السمرة، كذا قال، والذي يتبادر أن المراد بالشدقين ما في باطن الفم فكنت بذلك عن سقوط أسنانها حتى لا يبقى داخل فمها إلا اللحم الأحمر من اللثة وغيرها، وبهذا جزم النووي وغيره. قوله: "قد أبدلك الله خيرا منها" قال ابن التين: في سكوت النبي صلى الله عليه وسلم على هذه المقالة دليل على أفضلية عائشة على خديجة إلا أن يكون المراد بالخيرية هنا حسن الصورة وصغر السن انتهى. ولا يلزم من كونه لم ينقل في هذه الطريق أنه صلى الله عليه وسلم رد عليها عدم ذلك، بل الواقع أنه صدر منه رد لهذه المقالة، ففي رواية أبي نجيح عن عائشة عند أحمد والطبراني في هذه القصة" قالت عائشة فقلت أبدلك الله بكبيرة السن حديثة السن، فغضب حتى قلت: والذي بعثك بالحق لا أذكرها بعد هذا إلا بخير" وهذا يؤيد ما تأوله ابن التين في الخيرية المذكورة، والحديث يفسر بعضه بعضا. وروى أحمد أيضا والطبراني من طريق مسروق عن عائشة في نحو هذه القصة" فقال صلى الله عليه وسلم: ما أبدلني الله خيرا منها آمنت بي إذ كفر بي الناس" الحديث، قال عياض قال الطبري وغيره من العلماء الغيرة مسامح للنساء ما يقع فيها ولا عقوبة عليهن في تلك الحالة لما جبلن عليه منها، ولهذا لم يزجر النبي صلى الله عليه وسلم

(7/140)


عائشة عن ذلك. وتعقبه عياض بأن ذلك جرى من عائشة لصغر سنها وأول شبيبتها، فلعلها لم تكن بلغت حينئذ. قلت: وهو محتمل مع ما فيه من نظر، قال القرطبي: لا تدل قصة عائشة هذه على أن الغيرة لا تؤاخذ بما يصدر منها، لأن الغيرة هنا جزء سبب، وذلك أن عائشة اجتمع فيها حينئذ الغيرة وصغر السن والإدلال، قال فإحالة الصفح عنها على الغيرة وحدها تحكم، نعم الحامل لها على ما قالت الغيرة لأنها هي التي نصت عليها بقولها "فغرت" وأما الصفح فيحتمل أن يكون لأجل الغيرة وحدها، ويحتمل أن يكون لها ولغيرها من الشباب والإدلال. قلت: الغيرة محققة بتنصيصها، والشباب محتاج إلى دليل، فإنه صلى الله عليه وسلم دخل عليها وهي بنت تسع وذلك في أول زمن البلوغ، فمن أين له أن ذلك القول وقع في أوائل دخوله عليها وهي بنت تسع. وأما إدلال المحبة فليس موجبا للصفح عن حق الغير، بخلاف الغيرة فإنما يقع الصفح بها لأن من يحصل لها الغيرة لا تكون في كمال عقلها، فلهذا تصدر منها أمور لا تصدر منها في حال عدم الغيرة، والله أعلم.

(7/141)


باب ذكر جرير بن عبدالله البجلي رضي الله عنه
...
21- باب ذِكْرُ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
3822- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ الْوَاسِطِيُّ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ بَيَانٍ عَنْ قَيْسٍ قَالَ سَمِعْتُهُ يَقُولُ قَالَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا حَجَبَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْذُ أَسْلَمْتُ وَلاَ رَآنِي إِلاَّ ضَحِكَ"
3823- وَعَنْ قَيْسٍ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بَيْتٌ يُقَالُ لَهُ ذُو الْخَلَصَةِ وَكَانَ يُقَالُ لَهُ الْكَعْبَةُ الْيَمَانِيَةُ أَوْ الْكَعْبَةُ الشَّأْمِيَّةُ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ أَنْتَ مُرِيحِي مِنْ ذِي الْخَلَصَةِ قَالَ فَنَفَرْتُ إِلَيْهِ فِي خَمْسِينَ وَمِائَةِ فَارِسٍ مِنْ أَحْمَسَ قَالَ فَكَسَرْنَا وَقَتَلْنَا مَنْ وَجَدْنَا عِنْدَهُ فَأَتَيْنَاهُ فَأَخْبَرْنَاهُ فَدَعَا لَنَا وَلِأَحْمَسَ"

(7/131)


قوله: "باب ذكر جرير بن عبد الله البجلي" أي ابن جابر بن مالك من بني أنمار بن أراش، نسبوا إلى أمهم بجيلة، يكنى أبا عمرو على المشهور، واختلف في إسلامه والصحيح أنه في سنة الوفود سنة تسع، ووهم من قال إنه أسلم قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بأربعين يوما لما ثبت في الصحيح" إن النبي صلى الله عليه وسلم قال له استنصت الناس "في حجة الوداع وذلك قبل موته صلى الله عليه وسلم بأكثر من ثمانين يوما، وكان موت جرير سنة خمسين وقيل: بعدها. قوله: "ما حجبني رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي ما منعني من الدخول إليه إذا كان في بيته فاستأذنت عليه، وليس كما حمله بعضهم على إطلاقه فقال كيف جاز له أن يدخل على محرم بغير حجاب؟ ثم تكلف في الجواب أن المراد مجلسه المختص بالرجال، أو أن المراد بالحجاب منع ما يطلبه منه. قلت: وقوله: "ما حجبني" يتناول الجميع مع بعد إرادة الأخير. قوله: "ولا رآني إلا ضحك" في رواية الحميدي عن إسماعيل "إلا تبسم في وجهي" وروى أحمد وابن حبان من طريق المغيرة بن شبيل عن جرير قال: "لما دنوت من المدينة أنخت ثم لبست حلتي فدخلت، فرماني الناس بالحدق، فقلت: هل ذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: نعم، ذكرك بأحسن ذكر فقال: يدخل عليكم رجل من خير ذي يمن، على وجهه مسحة ملك". قوله: "وعن قيس" هو موصول بالإسناد المذكور. قوله: "ذو الخلصة" بفتح المعجمة واللام والصاد المهملة وحكي إسكان اللام. وقوله: "اليمانية" بتخفيف الياء وحكي تشديدها، وقوله: "أو الكعبة الشامية" استشكل الجمع بين هذين الوصفين، وسيأتي جوابه مع شرح هذه القصة في أواخر المغازي مع الكلام على قوله الكعبة اليمانية أو الكعبة الشامية إن شاء الله تعالى.

(7/132)


22 - باب ذِكْرُ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ الْعَبْسِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
3724-حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ خَلِيلٍ أَخْبَرَنَا سَلَمَةُ بْنُ رَجَاءٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ هُزِمَ الْمُشْرِكُونَ هَزِيمَةً بَيِّنَةً فَصَاحَ إِبْلِيسُ أَيْ عِبَادَ اللَّهِ أُخْرَاكُمْ فَرَجَعَتْ أُولاَهُمْ عَلَى أُخْرَاهُمْ فَاجْتَلَدَتْ أُخْرَاهُمْ فَنَظَرَ حُذَيْفَةُ فَإِذَا هُوَ بِأَبِيهِ فَنَادَى أَيْ عِبَادَ اللَّهِ أَبِي أَبِي فَقَالَتْ فَوَاللَّهِ مَا احْتَجَزُوا حَتَّى قَتَلُوهُ فَقَالَ حُذَيْفَةُ غَفَرَ اللَّهُ لَكُمْ قَالَ أَبِي فَوَاللَّهِ مَا زَالَتْ فِي حُذَيْفَةَ مِنْهَا بَقِيَّةُ خَيْرٍ حَتَّى لَقِيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ"
قوله: "باب ذكر حذيفة بن اليمان العبسي" بالموحدة، واسم اليمان حسل بمهملتين وكسر أوله وسكون ثانيه ثم لام ابن جابر له ولأبيه صحبة. قوله: "لما هزم"1 بضم أوله، وقوله: "وأخراكم" أي اقبلوا أخراكم أو احذروا أخراكم أو انصروا أخراكم، وقوله: "احتجزوا" أي انفصلوا من القتال وامتنع بعضهم من بعض، وسيأتي بقية شرح هذه القصة في كتاب المغازي. قوله: "قال أبي" القائل هو هشام بن عروة، نقله عن أبيه عروة وفصله من حديث عائشة فصار مرسلا، وقوله: "ما زالت في حذيفة منها" أي من هذه الكلمة أي بسببها، وقوله: "بقية خير" يؤخذ منه أن فعل الخير تعود بركته على صاحبه في طول حياته. "تنبيه": وقع ذكر جرير وحذيفة مؤخرا عن
ـــــــ
1 قال مصحح طبعة بولاق: هكذا بالنسخ, ورواية الصحيح الذي بايدينا "لما كان يوم احد هزم الخ"

(7/132)


ذكر خديجة عليها السلام، وفي بعضها مقدما وهو أليق، فإن الذي يظهر أنه أخر ذكر خديجة عمدا لكون غالب أحوالها متعلقة بأحوال النبي صلى الله عليه وسلم قبل المبعث فوقع له في ذلك حسن التخلص من المناقب التي استطرد من ذكر النبي صلى الله عليه وسلم إليها، فلما فرغ منها رجع إلى بقية سيرته ومغازيه، والله أعلم.

(7/133)


23 - باب ذِكْرُ هِنْدٍ بِنْتِ عُتْبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
3825- وَقَالَ عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ حَدَّثَنِي عُرْوَةُ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ جَاءَتْ هِنْدٌ بِنْتُ عُتْبَةَ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا كَانَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ مِنْ أَهْلِ خِبَاءٍ أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يَذِلُّوا مِنْ أَهْلِ خِبَائِكَ ثُمَّ مَا أَصْبَحَ الْيَوْمَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ أَهْلُ خِبَاءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ يَعِزُّوا مِنْ أَهْلِ خِبَائِكَ قَالَتْ وَأَيْضًا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ مِسِّيكٌ فَهَلْ عَلَيَّ حَرَجٌ أَنْ أُطْعِمَ مِنْ الَّذِي لَهُ عِيَالَنَا قَالَ لاَ أُرَاهُ إِلاَّ بِالْمَعْرُوفِ".
قوله: "باب ذكر هند بنت عتبة بن ربيعة" أي ابن عبد شمس، وهي والدة معاوية، قتل أبوها ببدر كما سيأتي في المغازي، وشهدت مع زوجها أبي سفيان أحدا، وحرضت على قتل حمزة عم النبي صلى الله عليه وسلم لكونه قتل عمها شيبة وشرك في قتل أبيها عتبة فقتله وحشي بن حرب كما سيأتي بيان ذلك في حديث وحشي، ثم أسلمت هند يوم الفتح، وكانت من عقلاء النساء، وكانت قبل أبي سفيان عند الفاكه بن المغيرة المخزومي ثم طلقها في قصة جرت، فتزوجها أبو سفيان فأنتجت عنده، وهي القائلة للنبي صلى الله عليه وسلم لما شرط على النساء المبايعة ولا يسرقن ولا يزنين" وهل تزني الحرة "؟ وماتت هند في خلافة عمر. قوله: "وقال عبدان" كذا للجميع بصيغة التعليق، وكلام أبي نعيم في "المستخرج" يقتضي أن البخاري أخرجه موصولا عن عبدان، وقد وصله البيهقي أيضا من طريق أبي الموجه عن عبدان. قوله: "خباء" بكسر المعجمة وتخفيف الموحدة مع المد هي خيمة من وبر أو صوف، ثم أطلقت على البيت كيف ما كان. قوله: "قال وأيضا والذي نفسي بيده" قال ابن التين: فيه تصديق لها فيما ذكرته، كأنه رأى أن المعنى: وأنا أيضا بالنسبة إليك مثل ذلك. تعقب من جهة طرفي البغض والحب، فقد كان في المشركين من كان أشد أذى للنبي صلى الله عليه وسلم من هند وأهلها، وكان في المسلمين بعد أن أسلمت من هو أحب إلى النبي صلى الله عليه وسلم منها ومن أهلها، فلا يمكن حمل الخبر على ظاهره. وقال غيره: المعنى بقوله: "وأيضا"ستزيدين في المحبة كلما تمكن الإيمان من قلبك وترجعين عن البغض المذكور حتى لا يبقى له أثر، فأيضا خاص بما يتعلق بها لا أن المراد بها أني كنت في حقك كما

(7/141)


ذكرت في البغض ثم صرت على خلافه في الحب بل ساكت عن ذلك، ولا يعكر على هذا قوله في بعض الروايات"وأنا" إن ثبتت الرواية بذلك. قوله: "إن أبا سفيان رجل مسيك" سيأتي شرحه في كتاب النفقات إن شاء الله تعالى، وفي الحديث دلالة على وفور عقل هند وحسن تأتيها في المخاطبة، ويؤخذ منه أن صاحب الحاجة يستحب له أن يقدم بين يدي نحواه اعتذارا إذا كان في نفس الذي يخاطبه عليه موجدة، وأن المعتذر يستحب له أن يقدم ما يتأكد به صدقه عند من يعتذر إليه، لأن هندا قدمت الاعتراف بذكر ما كانت عليه من البغض ليعلم صدقها فيما ادعته من المحبة، وقد كانت هند في منزلة أمهات نساء النبي صلى الله عليه وسلم لأن أم حبيبة إحدى زوجاته بنت زوجها أبي سفيان.

(7/142)


24 - باب حَدِيثُ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ
3826- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ حَدَّثَنَا سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقِيَ زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ بِأَسْفَلِ بَلْدَحٍ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَحْيُ فَقُدِّمَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُفْرَةٌ فَأَبَى أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا ثُمَّ قَالَ زَيْدٌ إِنِّي لَسْتُ آكُلُ مِمَّا تَذْبَحُونَ عَلَى أَنْصَابِكُمْ وَلاَ آكُلُ إِلاَّ مَا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَأَنَّ زَيْدَ بْنَ عَمْرٍو كَانَ يَعِيبُ عَلَى قُرَيْشٍ ذَبَائِحَهُمْ وَيَقُولُ الشَّاةُ خَلَقَهَا اللَّهُ وَأَنْزَلَ لَهَا مِنْ السَّمَاءِ الْمَاءَ وَأَنْبَتَ لَهَا مِنْ الأَرْضِ ثُمَّ تَذْبَحُونَهَا عَلَى غَيْرِ اسْمِ اللَّهِ إِنْكَارًا لِذَلِكَ وَإِعْظَامًا لَهُ".
[الحديث 3826- طرفه في: 5499]
3827- قَالَ مُوسَى حَدَّثَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَلاَ أَعْلَمُهُ إِلاَّ تَحَدَّثَ بِهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ "أَنَّ زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ خَرَجَ إِلَى الشَّأْمِ يَسْأَلُ عَنْ الدِّينِ وَيَتْبَعُهُ فَلَقِيَ عَالِمًا مِنْ الْيَهُودِ فَسَأَلَهُ عَنْ دِينِهِمْ فَقَالَ إِنِّي لَعَلِّي أَنْ أَدِينَ دِينَكُمْ فَأَخْبِرْنِي فَقَالَ لاَ تَكُونُ عَلَى دِينِنَا حَتَّى تَأْخُذَ بِنَصِيبِكَ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ قَالَ زَيْدٌ مَا أَفِرُّ إِلاَّ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ وَلاَ أَحْمِلُ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ شَيْئًا أَبَدًا وَأَنَّى أَسْتَطِيعُهُ فَهَلْ تَدُلُّنِي عَلَى غَيْرِهِ قَالَ مَا أَعْلَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ حَنِيفًا قَالَ زَيْدٌ وَمَا الْحَنِيفُ قَالَ دِينُ إِبْرَاهِيمَ لَمْ يَكُنْ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلاَ يَعْبُدُ إِلاَّ اللَّهَ فَخَرَجَ زَيْدٌ فَلَقِيَ عَالِمًا مِنْ النَّصَارَى فَذَكَرَ مِثْلَهُ فَقَالَ لَنْ تَكُونَ عَلَى دِينِنَا حَتَّى تَأْخُذَ بِنَصِيبِكَ مِنْ لَعْنَةِ اللَّهِ قَالَ مَا أَفِرُّ إِلاَّ مِنْ لَعْنَةِ اللَّهِ وَلاَ أَحْمِلُ مِنْ لَعْنَةِ اللَّهِ وَلاَ مِنْ غَضَبِهِ شَيْئًا أَبَدًا وَأَنَّى أَسْتَطِيعُ فَهَلْ تَدُلُّنِي عَلَى غَيْرِهِ قَالَ مَا أَعْلَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ حَنِيفًا قَالَ وَمَا الْحَنِيفُ قَالَ دِينُ إِبْرَاهِيمَ لَمْ يَكُنْ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلاَ يَعْبُدُ إِلاَّ اللَّهَ فَلَمَّا رَأَى زَيْدٌ قَوْلَهُمْ فِي إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلاَم خَرَجَ فَلَمَّا بَرَزَ رَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ اللَّهُمَّ إِنِّي أَشْهَدُ أَنِّي عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ"

(7/142)


3828- وَقَالَ اللَّيْثُ كَتَبَ إِلَيَّ هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَتْ "رَأَيْتُ
زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ قَائِمًا مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إِلَى الْكَعْبَةِ يَقُولُ يَا مَعَاشِرَ قُرَيْشٍ وَاللَّهِ مَا مِنْكُمْ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ غَيْرِي وَكَانَ يُحْيِي الْمَوْءُودَةَ يَقُولُ لِلرَّجُلِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَقْتُلَ ابْنَتَهُ لاَ تَقْتُلْهَا أَنَا أَكْفِيكَهَا مَئُونَتَهَا فَيَأْخُذُهَا فَإِذَا تَرَعْرَعَتْ قَالَ لِأَبِيهَا إِنْ شِئْتَ دَفَعْتُهَا إِلَيْكَ وَإِنْ شِئْتَ كَفَيْتُكَ مَئُونَتَهَا"
"باب حديث زيد بن عمرو بن نفيل" هو ابن عم عمر بن الخطاب بن نفيل، وقد تقدم نسبه في ترجمته.
وهو والد سعيد بن زيد أحد العشرة؛ وكان ممن طلب التوحيد وخلع الأوثان وجانب الشرك، لكنه مات قبل المبعث، فروى محمد بن سعد والفاكهي من حديث عامر بن ربيعة حليف بني عدي بن كعب قال: "قال لي زيد بن عمرو: إني خالفت قومي، واتبعت ملة إبراهيم وإسماعيل وما كانا يعبدان، وكانا يصليان إلى هذه القبلة، وأنا أنتظر نبيا من بني إسماعيل يبعث، ولا أراني أدركه، وأنا أومن به وأصدقه وأشهد أنه نبي، وإن طالت بك حياة فأقره مني السلام. قال عامر: فلما أسلمت أعلمت النبي صلى الله عليه وسلم بخبره قال: فرد عليه السلام وترحم عليه، قال: ولقد رأيته في الجنة يسحب ذيولا" وروى البزار والطبراني من حديث سعيد بن زيد قال: "خرج زيد بن عمرو وورقة بن نوفل يطلبان الدين، حتى أتيا الشام، فتنصر ورقة وامتنع زيد، فأتى الموصل فلقي راهبا فعرض عليه النصرانية فامتنع" وذكر الحديث نحو حديث ابن عمر الآتي في ترجمته وفيه: "قال سعيد بن زيد فسألت أنا وعمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن زيد فقال: غفر الله له ورحمه، فإنه مات على دين إبراهيم"، وروى الزبير بن بكار من طريق هشام بن عروة قال: "بلغنا أن زيدا كان بالشام، فبلغه مخرج النبي صلى الله عليه وسلم؛ فأقبل يريده فقتل بمضيعة من أرض البلقاء" وقال ابن إسحاق: لما توسط بلاد لخم قتلوه، وقيل: إنه مات قبل المبعث بخمس سنين عند بناء قريش الكعبة. قوله: "بأسفل بلدح" هو مكان في طريق التنعيم بفتح الموحدة والمهملة بينهما لام ساكنة وآخره مهملة، ويقال هو واد. قوله: "فقدمت" بضم القاف. قوله: "إلى النبي صلى الله عليه وسلم" كذا للأكثر. وفي رواية الجرجاني" فقدم إليه النبي صلى الله عليه وسلم سفرة" قال عياض: الصواب الأول، قلت: رواية الإسماعيلي توافق رواية الجرجاني، وكذا أخرجه الزبير بن بكار والفاكهي وغيرهما. وقال ابن بطال: كانت السفرة لقريش قدموها للنبي صلى الله عليه وسلم فأبى أن يأكل منها فقدمها النبي صلى الله عليه وسلم لزيد بن عمرو فأبى أن يأكل منها وقال مخاطبا لقريش الذين قدموها أولا: "إنا لا نأكل ما ذبح على أنصابكم" انتهى. وما قاله محتمل، لكن لا أدري من أين له الجزم بذلك، فإني لم أقف عليه في رواية أحد. وقد تبعه ابن المنير في ذلك وفيه ما فيه. قوله: "على أنصابكم" بالمهملة جمع نصب بضمتين وهي أحجار كانت حول الكعبة يذبحون عليها للأصنام، قال الخطابي: كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يأكل مما يذبحون عليها للأصنام، ويأكل ما عدا ذلك وإن كانوا لا يذكرون اسم الله عليه، لأن الشرع لم يكن نزل بعد، بل لم ينزل الشرع بمنع أكل ما لم يذكر اسم الله عليه إلا بعد المبعث بمدة طويلة. قلت: وهذا الجواب أولى مما ارتكبه ابن بطال، وعلى تقدير أن يكون حارثة ذبح على الحجر المذكور فإنما يحمل على أنه إنما ذبح عليه لغير الأصنام، وأما قوله تعالى: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} فالمراد به ما ذبح عليها للأصنام، ثم قال الخطابي: وقيل: لم ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم في تحريم ذلك شيء. قلت: وفيه نظر، لأنه كان قبل المبعث فهو من تحصيل الحاصل: وقد وقع في حديث سعيد بن زيد الذي قدمته وهو عند أحمد" وكان ابن

(7/143)


زيد يقول: عذت بما عاذ به إبراهيم، ثم يخر ساجدا للكعبة، قال: فمر بالنبي صلى الله عليه وسلم وزيد بن حارثة وهما يأكلان من سفرة لهما فدعياه فقال: يا ابن أخي لا آكل مما ذبح على النصب، قال: فما رؤي النبي صلى الله عليه وسلم يأكل مما ذبح على النصب من يومه ذلك". وفي حديث زيد بن حارثة عند أبي يعلى والبزار وغيرهما قال: "خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما من مكة وهو مردفي، فذبحنا شاة على بعض الأنصاب فأنضجناها، فلقينا زيد بن عمرو" فذكر الحديث مطولا وفيه: "فقال زيد: إني لا آكل مما لم يذكر اسم الله عليه" قال الداودي: كان النبي صلى الله عليه وسلم قبل المبعث يجانب المشركين في عاداتهم، لكن لم يكن يعلم ما يتعلق بأمر الذبح، وكان زيد قد علم ذلك من أهل الكتاب الذين لقيهم. وقال السهيلي: فإن قيل فالنبي صلى الله عليه وسلم كان أولى من زيد بهذه الفضيلة، فالجواب أنه ليس في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم أكل منها، وعلى تقدير أن يكون أكل فزيد إنما كان يفعل ذلك برأي يراه لا بشرع بلغه، وإنما كان عند أهل الجاهلية بقايا من دين إبراهيم، وكان في شرع إبراهيم تحريم الميتة لا تحريم ما لم يذكر اسم الله عليه، وإنما نزل تحريم ذلك في الإسلام، والأصح أن الأشياء قبل الشرع لا توصف بحل ولا بحرمة، مع أن الذبائح لها أصل في تحليل الشرع، واستمر ذلك إلى نزول القرآن، ولم ينقل أن أحدا بعد المبعث كف عن الذبائح حتى نزلت الآية. قلت: وقوله إن زيدا فعل ذلك برأيه أولى من قول الداودي إنه تلقاه عن أهل الكتاب، فإن حديث الباب بين فيما قال السهيلي، وإن ذلك قاله زيد باجتهاد لا بنقل عن غيره، ولا سيما وزيد يصرح عن نفسه بأنه لم يتبع أحدا من أهل الكتابين. وقد قال القاضي عياض في الملة المشهورة في عصمة الأنبياء قبل النبوة إنها كالممتنع لأن النواهي إنما تكون بعد تقرير الشرع، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن متعبدا قبل أن يوحى إليه بشرع من قبله على الصحيح، فعلى هذا فالنواهي إذا لم تكن موجودة فهي معتبرة في حقه والله أعلم. فإن فرعنا على القول الآخر فالجواب عن قوله: "ذبحنا شاة على بعض الأنصاب" يعني الحجارة التي ليست بأصنام ولا معبودة، إنما هي من آلات الجزار التي يذبح عليها، لأن النصب في الأصل حجر كبير، فمنها ما يكون عندهم من جملة الأصنام فيذبحون له وعلى اسمه، ومنها ما لا يعبد بل يكون من آلات الذبح فيذبح الذابح عليه لا للصنم، أو كان امتناع زيد منها حسما للمادة. قوله: "فإن زيد بن عمرو" هو موصول بالإسناد المذكور. قوله: "قال موسى" هو ابن عقبة، والخبر موصول بالإسناد المذكور إليه، وقد شك فيه الإسماعيلي فقال: ما أدري هذه القصة الثانية من رواية الفضيل بن موسى أم لا.ثم ساقها مطولة من طريق عبد العزيز بن المختار عن موسى بن عقبة، وكذا أوردها الزبير بن بكار والفاكهي بالإسنادين معا. قوله: "لا أعلمه إلا يحدث به عن ابن عمر" قد ساق البخاري الحديث الأول في الذبائح من طريق عبد العزيز بن المختار عن موسى بغير شك، وساق الإسماعيلي هذا الثاني من رواية عبد العزيز المذكور بالشك أيضا فكان الشك فيه من موسى بن عقبة. قوله: "يسأل عن الدين" أي دين التوحيد. قوله: "ويتبعه" بتشديد المثناة بعدها موحدة. وللكشميهني بسكون الموحدة بعدها مثناة مفتوحة ثم عين معجمة أي يطلبه. قوله: "فلقي عالما من اليهود" لم أقف على اسمه، وفي حديث زيد بن حارثة المذكور" إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لزيد بن عمرو: ما لي أرى قومك قد شنفوا عليك" أي أبغضوك، وهو بفتح الشين المعجمة وكسر النون بعدها فاء" قال خرجت أبتغي الدين فقدمت على الأحبار فوجدتهم يعبدون الله ويشركون به". قوله: "فلقي عالما من النصارى" لم أقف على اسمه أيضا، ووقع في حديث زيد بن حارثة" قال لي شيخ من أحبار الشام: إنك لتسألني عن دين ما أعلم أحدا

(7/144)


يعبد الله به إلا شيخا بالجزيرة. قال فقدمت عليه فقال: إن الذي تطلب قد ظهر ببلادك، وجميع من رأيتهم في ضلال" وفي رواية الطبراني من هذا الوجه" وقد خرج في أرضك نبي، أو هو خارج، فارجع وصدقه وآمن به. قال زيد: فلم أحس بشيء بعد". قلت: وهذا مع ما تقدم يدل على أن زيدا رجع إلى الشام فبعث النبي صلى الله عليه وسلم به فرجع ومات، والله أعلم. قوله: "وأنا أستطيع" أي والحال أن لي قدرة على عدم حمل ذلك، كذا للأكثر بتخفيف النون ضمير القائل. وفي رواية بتشديد النون بمعنى الاستبعاد، والمراد بغضب الله إرادة إيصال العقاب كما أن المراد بلعنة الله الإبعاد عن رحمته. قوله: "فلما برز" أي خارج أرضهم. قوله: "اللهم إني أشهدك أني على دين إبراهيم" بكسر الهمزة الأولى وفتح الثانية. وفي حديث سعيد بن زيد" فانطلق زيد وهو يقول: لبيك حقا حقا، تعبدا ورقا.ثم يخر فيسجد لله". قوله: "وقال الليث: كتب إلى هشام" أي ابن عروة، وهذا التعليق رويناه موصولا في حديث زغبة من رواية أبي بكر بن أبي داود عن عيسى بن حماد وهو المعروف بزغبة عن الليث. وأخرج ابن إسحاق عن هشام بن عروة هذا الحديث بتمامه، وأخرجه الفاكهي من طريق عبد الرحمن بن أبي الزناد والنسائي وأبو نعيم في "المستخرج" من طريق أبي أسامة كلهم عن هشام بن عروة. قوله: "ما منكم على دين إبراهيم غيري" زاد أبو أسامة في روايته: "وكان يقول: إلهي إله إبراهيم، وديني دين إبراهيم" وفي رواية ابن أبي الزناد" وكان قد ترك عبادة الأوثان، وترك أكل ما يذبح على النصب" في رواية ابن إسحاق" وكان يقول: اللهم لو أعلم أحب الوجوه إليك لعبدتك به، ولكني لا أعلمه. ثم يسجد على الأرض براحته". قوله: "وكان يحيي الموءودة" هو مجاز، والمراد بإحيائها إبقاؤها. وقد فسره في الحديث. ووقع في رواية ابن أبي الزناد" وكان يفتدي الموءودة أن تقتل" والموءودة مفعولة من وأد الشيء إذا أثقل، وأطلق عليها اسم الوأد اعتبارا بما أريد بها وإن لم يقع. وكان أهل الجاهلية يدفنون البنات وهن بالحياة، ويقال كان أصلها من الغيرة عليهن لما وقع لبعض العرب حيث سبى بنت آخر فاستفرشها، فأراد أبوها أن يفتديها منه فخيرها فاختارت الذي سباها، فحلف أبوها ليقتلن كل بنت تولد له، فتبع على ذلك. وقد شرحت ذلك مطولا في كتابي في"الأوائل" وأكثر من كان يفعل ذلك منهم من الإملاق كما قال الله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} وقصة زيد هذه تدل على هذا المعنى الثاني، فيحتمل أن يكون كل واحد من الأمرين كان سببا. قوله: "أكفيك مؤنتها" كذا لأبي ذر، ولغيره: "أكفيكها مؤنتها" زاد أبو أسامة في روايته: "وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن زيد فقال: يبعث يوم القيامة أمة وحده بيني وبين عيسى ابن مريم" وروى البغوي في "الصحابة" من حديث جابر نحو هذه الزيادة، وساق له ابن إسحاق أشعارا قالها في مجانبة الأوثان لا نطيل بذكرها.

(7/145)


25 - باب بُنْيَانُ الْكَعْبَةِ
3829- حَدَّثَنِي مَحْمُودٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ أَخْبَرَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ "لَمَّا بُنِيَتْ الْكَعْبَةُ ذَهَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَبَّاسٌ يَنْقُلاَنِ الْحِجَارَةَ فَقَالَ عَبَّاسٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اجْعَلْ إِزَارَكَ عَلَى رَقَبَتِكَ يَقِيكَ مِنْ الْحِجَارَةِ فَخَرَّ إِلَى الأَرْضِ وَطَمَحَتْ عَيْنَاهُ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ

(7/145)


أَفَاقَ فَقَالَ إِزَارِي إِزَارِي فَشَدَّ عَلَيْهِ إِزَارَهُ".
3830- حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ قَالاَ "لَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَوْلَ الْبَيْتِ حَائِطٌ كَانُوا يُصَلُّونَ حَوْلَ الْبَيْتِ حَتَّى كَانَ عُمَرُ فَبَنَى حَوْلَهُ حَائِطًا قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ جَدْرُهُ قَصِيرٌ فَبَنَاهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ"
قوله: "باب بنيان الكعبة" أي على يد قريش في حياة النبي صلى الله عليه وسلم قبل بعثته، وقد تقدم ما يتعلق ببناء إبراهيم عليه السلام قبل بناء قريش، وما يتعلق ببناء عبد الله بن الزبير في الإسلام. وروى الفاكهي من طريق ابن جريج عن عبد الله بن عبيد الله بن عمير قال: "كانت الكعبة فوق القامة، فأرادت قريش رفعها وتسقيفها" وسيأتي بيان ذلك في الباب الذي يليه. وروى يعقوب بن سفيان بإسناد صحيح عن الزهري" أن امرأة جمرت الكعبة، فطارت شرارة في ثياب الكعبة فأحرقتها" فذكر قصة بناء قريش لها، وسيأتي في الحديث الثالث من الباب الذي يليه تتمة هذه القصة. وذكر ابن إسحاق وغيره أن قريشا لما بنت الكعبة كان عمر النبي صلى الله عليه وسلم خمسا وعشرين سنة. وروى إسحاق بن راهويه من طريق خالد بن عرعرة عن علي في قصة بناء إبراهيم البيت قال: "فمر عليه الدهر فانهدم، فبنته العمالقة، فمر عليه الدهر فانهدم فبنته جرهم، فمر عليه الدهر فانهدم فبنته قريش، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ شاب، فلما أرادوا أن يضعوا الحجر الأسود اختصموا فيه فقالوا: نحكم بيننا أول من يخرج من هذه السكة، فكان النبي صلى الله عليه وسلم أول من خرج منها، فحكم بينهم أن يجعلوه في ثوب ثم يرفعه من كل قبيلة رجل" وذكر أبو داود الطيالسي في هذا الحديث أنهم قالوا نحكم أول من يدخل من باب بني شيبة، فكان النبي صلى الله عليه وسلم أول من دخل منه، فأخبروه، فأمر بثوب فوضع الحجر في وسطه، وأمر كل فخذ أن يأخذوا بطائفة من الثوب فرفعوه، ثم أخذه فوضعه بيده" وروى الفاكهي أن الذي أشار عليهم أن يحكموا أول داخل أبو أمية بن المغيرة المخزومي أخو الوليد، وقد تقدم في أوائل الحج من حديث أبي الطفيل قصة بناء قريش الكعبة مطولا فأغنى عن إعادته هنا. وعند موسى بن عقبة أن الذي أشار عليهم بذلك هو الوليد بن المغيرة المخزومي، وأنه قال لهم "لا تجعلوا فيها مالا أخذ غصبا، ولا قطعت فيه رحم، ولا انتهكت فيه ذمة" وعند ابن إسحاق أن الذي أشار عليهم أن لا يبنوها إلا من مال طيب هو أبو وهب بن عمرو بن عامر بن عمران بن مخزوم. قوله: في حديث جابر "لما بنيت الكعبة" هو من مراسيل الصحابة، ولعل جابرا سمعه من العباس بن عبد المطلب، وتقدم بيان ذلك واضحا في كتاب الحج. وقوله: "يقك من الحجارة فخر إلى الأرض" فيه حذف تقديره: ففعل ذلك فخر. وفي حديث أبي الطفيل المذكور آنفا" فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل الحجارة معهم إذ انكشفت عورته، فنودي يا محمد غط عورتك، فذلك في أول ما نودي، فما رؤيت له عورة قبل ولا بعد" وقوله: "طمحت عيناه إلى السماء" أي ارتفعت. وذكر ابن إسحاق في المبعث "وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ذكر لي يحدث عما كان الله يحفظه في صغره أنه قال: لقد رأيتني في غلمان من قريش ننقل حجارة لبعض مما تلعب به الغلمان، كلنا قد تعرى وأخذ إزاره فجعله على رقبته يحمل عليه الحجارة، إذ لكمني لاكم ما أراه، ثم قال: شد عليك إزارك، قال فشددته علي، ثم جعلت أحمل وإزاري علي من بين أصحابي" قال السهيلي: إنما وردت هذه القصة في بنيان الكعبة، فإن صح أن ذلك كان في صغره فهي قصة أخرى: مرة في الصغر ومرة في حال الاكتهال. قلت: وقد يطلق على الكبير

(7/146)


غلام إذا فعل فعل الغلمان فلا يستحيل اتحاد القصة اعتمادا على التصريح بالأولية في حديث أبي الطفيل. قوله: "قالا: لم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم حول البيت حائط" هذا مرسل، وقيل: منقطع، لأن عمرو بن دينار وعبيد الله بن أبي يزيد من أصاغر التابعين. وأما قوله: "حتى كان عمر" فمنقطع فإنهما لم يدركا عمر أيضا. وأما قوله: "قال عبيد الله جدره قصير" هو بفتح الجيم، والجدر والجدار بمعنى. وقوله: "فبناه ابن الزبير" هذا القدر هو الموصول من هذا الحديث، وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق حماد بن زيد عن عبيد الله بن أبي يزيد بتمامه وقال فيه: "وكان أول من جعل الحائط على البيت عمر" قال عبيد الله وكان جدره قصيرا حتى كان زمن ابن الزبير فزاد فيه: "وذكر الفاكهي أن المسجد كان محاطا بالدور على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، فضاق على الناس، فوسعه عمر واشترى دورا فهدمها، وأعطى من أبى أن يبيع ثمن داره، ثم أحاط عليه بجدار قصير دون القامة، ورفع المصابيح على الجدر" قال: "ثم كان عثمان فزاد في سعته من جهات أخر، ثم وسعه عبد الله بن الزبير، ثم أبو جعفر المنصور، ثم ولده المهدي" قال: "ويقال إن ابن الزبير سقفه أو سقف بعضه، ثم رفع عبد الملك بن مروان جدرانه وسقفه بالساج، وقيل: بل الذي صنع ذلك ولده الوليد وهو أثبت، وكان ذلك سنة ثمان وثمانين".

(7/147)


26 - باب أَيَّامُ الْجَاهِلِيَّةِ
3832- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا هِشَامٌ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ "كَانَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ يَوْمًا تَصُومُهُ قُرَيْشٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُهُ فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ صَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ فَلَمَّا نَزَلَ رَمَضَانُ كَانَ مَنْ شَاءَ صَامَهُ وَمَنْ شَاءَ لاَ يَصُومُهُ"
3832- حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا ابْنُ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ "كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ الْفُجُورِ فِي الأَرْضِ وَكَانُوا يُسَمُّونَ الْمُحَرَّمَ صَفَرًا وَيَقُولُونَ إِذَا بَرَا الدَّبَرْ وَعَفَا الأَثَرْ حَلَّتْ الْعُمْرَةُ لِمَنْ اعْتَمَرْ قَالَ فَقَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ رَابِعَةً مُهِلِّينَ بِالْحَجِّ وَأَمَرَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْحِلِّ قَالَ الْحِلُّ كُلُّهُ"
3833- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ كَانَ عَمْرٌو يَقُولُ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ "جَاءَ سَيْلٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَكَسَا مَا بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ قَالَ سُفْيَانُ وَيَقُولُ إِنَّ هَذَا لَحَدِيثٌ لَهُ شَأْنٌ"
3834- حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ بَيَانٍ أَبِي بِشْرٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ قَالَ دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى امْرَأَةٍ مِنْ أَحْمَسَ يُقَالُ لَهَا زَيْنَبُ فَرَآهَا لاَ تَكَلَّمُ فَقَالَ مَا لَهَا لاَ تَكَلَّمُ قَالُوا حَجَّتْ مُصْمِتَةً قَالَ لَهَا تَكَلَّمِي فَإِنَّ هَذَا لاَ يَحِلُّ هَذَا مِنْ عَمَلِ الْجَاهِلِيَّةِ فَتَكَلَّمَتْ فَقَالَتْ مَنْ أَنْتَ قَالَ امْرُؤٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ قَالَتْ أَيُّ الْمُهَاجِرِينَ قَالَ مِنْ قُرَيْشٍ قَالَتْ مِنْ أَيِّ قُرَيْشٍ أَنْتَ قَالَ إِنَّكِ لَسَئُولٌ أَنَا

(7/147)


أَبُو بَكْرٍ قَالَتْ مَا بَقَاؤُنَا عَلَى هَذَا الأَمْرِ الصَّالِحِ الَّذِي جَاءَ اللَّهُ بِهِ بَعْدَ الْجَاهِلِيَّةِ قَالَ بَقَاؤُكُمْ عَلَيْهِ مَا اسْتَقَامَتْ بِكُمْ أَئِمَّتُكُمْ قَالَتْ وَمَا الأَئِمَّةُ قَالَ أَمَا كَانَ لِقَوْمِكِ رُءُوسٌ وَأَشْرَافٌ يَأْمُرُونَهُمْ فَيُطِيعُونَهُمْ قَالَتْ بَلَى قَالَ فَهُمْ أُولَئِكِ عَلَى النَّاسِ"
3835- حَدَّثَنِي فَرْوَةُ بْنُ أَبِي الْمَغْرَاءِ أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ أَسْلَمَتْ امْرَأَةٌ سَوْدَاءُ لِبَعْضِ الْعَرَبِ وَكَانَ لَهَا حِفْشٌ فِي الْمَسْجِدِ قَالَتْ فَكَانَتْ تَأْتِينَا فَتَحَدَّثُ عِنْدَنَا فَإِذَا فَرَغَتْ مِنْ حَدِيثِهَا قَالَتْ:
وَيَوْمُ الْوِشَاحِ مِنْ تَعَاجِيبِ رَبِّنَا ... أَلاَ إِنَّهُ مِنْ بَلْدَةِ الْكُفْرِ أَنْجَانِي
فَلَمَّا أَكْثَرَتْ قَالَتْ لَهَا عَائِشَةُ وَمَا يَوْمُ الْوِشَاحِ قَالَتْ خَرَجَتْ جُوَيْرِيَةٌ لِبَعْضِ أَهْلِي وَعَلَيْهَا وِشَاحٌ مِنْ أَدَمٍ فَسَقَطَ مِنْهَا فَانْحَطَّتْ عَلَيْهِ الْحُدَيَّا وَهِيَ تَحْسِبُهُ لَحْمًا فَأَخَذَتْهُ فَاتَّهَمُونِي بِهِ فَعَذَّبُونِي حَتَّى بَلَغَ مِنْ أَمْرِي أَنَّهُمْ طَلَبُوا فِي قُبُلِي فَبَيْنَاهُمْ حَوْلِي وَأَنَا فِي كَرْبِي إِذْ أَقْبَلَتْ الْحُدَيَّا حَتَّى وَازَتْ بِرُءُوسِنَا ثُمَّ أَلْقَتْهُ فَأَخَذُوهُ فَقُلْتُ لَهُمْ هَذَا الَّذِي اتَّهَمْتُمُونِي بِهِ وَأَنَا مِنْهُ بَرِيئَةٌ"
3836- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَلاَ مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلاَ يَحْلِفْ إِلاَّ بِاللَّهِ فَكَانَتْ قُرَيْشٌ تَحْلِفُ بِآبَائِهَا فَقَالَ لاَ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ"
3837- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَمْرٌو أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْقَاسِمِ حَدَّثَهُ أَنَّ الْقَاسِمَ كَانَ يَمْشِي بَيْنَ يَدَيْ الْجَنَازَةِ وَلاَ يَقُومُ لَهَا وَيُخْبِرُ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ "كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُومُونَ لَهَا يَقُولُونَ إِذَا رَأَوْهَا كُنْتِ فِي أَهْلِكِ مَا أَنْتِ مَرَّتَيْنِ"
3838- حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ عَبَّاسٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ قَالَ قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "إِنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا لاَ يُفِيضُونَ مِنْ جَمْعٍ حَتَّى تَشْرُقَ الشَّمْسُ عَلَى ثَبِيرٍ فَخَالَفَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَفَاضَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ"
3839- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ قُلْتُ لِأَبِي أُسَامَةَ حَدَّثَكُمْ يَحْيَى بْنُ الْمُهَلَّبِ حَدَّثَنَا حُصَيْنٌ عَنْ عِكْرِمَةَ {وَكَأْسًا دِهَاقًا} قَالَ: مَلْأَى مُتَتَابِعَةً"

(7/148)


3840- قَالَ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ "اسْقِنَا كَأْسًا دِهَاقًا"
3841- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا الشَّاعِرُ كَلِمَةُ لَبِيدٍ أَلاَ كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلاَ اللَّهَ بَاطِلٌ وَكَادَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ أَنْ يُسْلِمَ"
[الحديث 3841- طرفاه في: 6489,6147]
3842- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي أَخِي عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلاَلٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ "كَانَ لِأَبِي بَكْرٍ غُلاَمٌ يُخْرِجُ لَهُ الْخَرَاجَ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَأْكُلُ مِنْ خَرَاجِهِ فَجَاءَ يَوْمًا بِشَيْءٍ فَأَكَلَ مِنْهُ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ لَهُ الْغُلاَمُ أَتَدْرِي مَا هَذَا فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَمَا هُوَ قَالَ كُنْتُ تَكَهَّنْتُ لِإِنْسَانٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَمَا أُحْسِنُ الْكِهَانَةَ إِلاَّ أَنِّي خَدَعْتُهُ فَلَقِيَنِي فَأَعْطَانِي بِذَلِكَ فَهَذَا الَّذِي أَكَلْتَ مِنْهُ فَأَدْخَلَ أَبُو بَكْرٍ يَدَهُ فَقَاءَ كُلَّ شَيْءٍ فِي بَطْنِهِ".
3843- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ أَخْبَرَنِي نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ "كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَتَبَايَعُونَ لُحُومَ الْجَزُورِ إِلَى حَبَلِ الْحَبَلَةِ قَالَ وَحَبَلُ الْحَبَلَةِ أَنْ تُنْتَجَ النَّاقَةُ مَا فِي بَطْنِهَا ثُمَّ تَحْمِلَ الَّتِي نُتِجَتْ فَنَهَاهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ"
3844- حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا مَهْدِيٌّ قَالَ غَيْلاَنُ بْنُ جَرِيرٍ "كُنَّا نَأْتِي أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ فَيُحَدِّثُنَا عَنْ الأَنْصَارِ وَكَانَ يَقُولُ لِي فَعَلَ قَوْمُكَ كَذَا وَكَذَا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا وَفَعَلَ قَوْمُكَ كَذَا وَكَذَا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا"
قوله: "باب أيام الجاهلية" أي مما كان بين المولد النبوي والمبعث، هذا هو المراد به هنا، ويطلق غالبا على ما قبل البعثة ومنه {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} وقوله: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} ومنه أكثر أحاديث الباب، وأما جزم النووي في عدة مواضع من شرح مسلم أن هذا هو المراد حيث أتى ففيه نظر فإن هذا اللفظ وهو "الجاهلية" يطلق على ما مضى والمراد ما قبل إسلامه، وضابط آخره غالبا فتح مكة، ومنه قول مسلم في مقدمة صحيحه "أن أبا عثمان وأبا رافع أدركا الجاهلية" وقول أبي رجاء العطاردي" رأيت في الجاهلية قردة زنت" وقول ابن عباس "سمعت أبي يقول في الجاهلية: اسقنا كأسا دهاقا" وابن عباس إنما ولد بعد البعثة، وأما قول عمر "نذرت في الجاهلية" فمحتمل، وقد نبه على ذلك شيخنا العراقي في الكلام على المخضرمين من علوم الحديث. وذكر فيه أحاديث: قوله: "كان عاشوراء" تقدم شرحه في كتاب الصيام، وذكرت هناك احتمالا أنهم أخذوا ذلك عن أهل الكتاب، ثم وجدت في بعض الأخبار أنهم كانوا أصابهم قحط ثم رفع عنهم

(7/149)


فصاموه شكرا.الثاني حديث ابن عباس قوله: "كانوا يرون" أي يعتقدون أن أشهر الحج لا ينسك فيها إلا بالحج وأن غيرها من الأشهر للعمرة، وقد تقدم بيان ذلك في كتاب الحج. قوله: "كان عمرو" هو ابن دينار. وفي رواية الإسماعيلي من طريق عبد الرحمن بن بشر عن سفيان "حدثنا عمرو بن دينار". قوله: "عن جده" هو حزن بفتح المهملة وسكون الزاي وهو ابن أبي وهب الذي قدمنا أنه أشار على قريش بأن تكون النفقة في بناء الكعبة من مال طيب. قوله: "جاء سيل في الجاهلية فطبق ما بين الجبلين" أي ملأ ما بين الجبلين اللذين في جانبي الكعبة. قوله: "قال سفيان ويقول إن هذا الحديث له شأن" أي قصة، وذكر موسى بن عقبة أن السيل كان يأتي من فوق الردم الذي بأعلى مكة فيجريه، فتخوفوا أن يدخل الماء الكعبة فأرادوا تشييد بنيانها، وكان أول من طلعها وهدم منها شيئا الوليد بن المغيرة، وذكر القصة في بنيان الكعبة قبل المبعث النبوي. وأخرج الشافعي في "الأم" بسند له عن عبد الله بن الزبير أن كعبا قال له وهو يعمل بناء مكة اشدده وأوثقه، فإنا نجد في الكتب أن السيول ستعظم في آخر الزمان ا هـ. فكان الشأن المشار إليه أنهم استشعروا من ذلك السيل الذي لم يعهدوا مثله أنه مبدأ السيول المشار إليها. قوله: "دخل" أي أبو بكر الصديق. قوله: "على امرأة من أحمس" بمهملتين وزن أحمد، وهي قبيلة من بجيلة. وأغرب ابن التين فقال: المراد امرأة من الحمس وهي من قريش. قوله: "يقال لها زينب بنت المهاجر" روى حديثها محمد بن سعد في الطبقات من طريق عبد الله بن جابر الأحمسي عن عمته زينب بنت المهاجر قالت: "خرجت حاجة" فذكر الحديث، وذكر أبو موسى المديني في "ذيل الصحابة" أن ابن مندة ذكر في "تاريخ النساء" له أن زينب بنت جابر أدركت النبي صلى الله عليه وسلم وروت عن أبي بكر، وروى عنها عبد الله بن جابر وهي عمته قال: وقيل: هي بنت المهاجر بن جابر، وذكر الدار قطني في "العلل" أن في رواية شريك وغيره عن إسماعيل بن أبي خالد في حديث الباب أنها زينب بنت عوف، قال: وذكر ابن عيينة عن إسماعيل أنها جدة إبراهيم بن المهاجر، والجمع بين هذه الأقوال ممكن بأن من قال بنت المهاجر نسبها إلى أبيها أو بنت جابر نسبها إلى جدها الأدنى أو بنت عوف نسبها إلى جد لها أعلى، والله أعلم. قوله: "مصمتة" بضم الميم وسكون المهملة أي ساكته يقال أصمت وصمت بمعنى. قوله: "فإن هذا لا يحل" يعني ترك الكلام. ووقع عند الإسماعيلي من وجه آخر عن أبي بكر الصديق أن المرأة قالت له: "كان بيننا وبين قومك في الجاهلية شر، فحلفت إن الله عافانا من ذلك أن لا أكلم أحدا حتى أحج، فقال: إن الإسلام يهدم ذلك، فتكلمي" وللفاكهي من طريق زيد بن وهب عن أبي بكر نحوه، وقد استدل بقول أبي بكر هذا من قال بأن من حلف أن لا يتكلم استحب له أن يتكلم ولا كفارة عليه، لأن أبا بكر لم يأمرها بالكفارة، وقياسه أن من نذر أن لا يتكلم لم ينعقد نذره، لأن أبا بكر أطلق أن ذلك لا يحل وأنه من فعل الجاهلية وأن الإسلام هدم ذلك ولا يقول أبو بكر مثل هذا إلا عن توقيف فيكون في حكم المرفوع، ويؤيد ذلك حديث ابن عباس في قصة أبي إسرائيل الذي نذر أن يمشي ولا يركب ولا يستظل ولا يتكلم فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يركب ويستظل ويتكلم، وحديث علي رفعه: "لا يتم بعد احتلام ولا صمت يوم إلى الليل" أخرجه أبو داود، قال الخطابي في شرحه: كان من نسك أهل الجاهلية الصمت، فكان أحدهم يعتكف اليوم والليلة ويصمت، فنهوا عن ذلك وأمروا بالنطق بالخير، وقد تقدمت الإشارة إلى حديث ابن عباس في كتاب الحج، ويأتي الكلام عليه في كتاب الأيمان والنذور إن شاء الله تعالى. وقال ابن قدامة في "المغني": ليس من شريعة الإسلام الصمت عن الكلام، وظاهر الأخبار تحريمه، واحتج

(7/150)


بحديث أبي بكر وبحديث علي المذكور قال: فإن نذر ذلك لم يلزمه الوفاء به، وبهذا قال الشافعي وأصحاب الرأي ولا نعلم فيه مخالفا ا هـ. وكلام الشافعية يقتضي أن مسألة النذر ليست منقولة، فإن الرافعي ذكر في كتاب النذر أن في تفسير أبي نصر القشيري عن القفال قال من نذر أن لا يكلم الآدميين يحتمل أن يقال يلزمه لأنه مما يتقرب به. ويحتمل أن يقال لا، لما فيه من التضييق والتشديد وليس ذلك من شرعنا، كما لو نذر الوقوف في الشمس، قال أبو نصر: فعلى هذا يكون نذر الصمت في تلك الشريعة لا في شريعتنا، ذكره في تفسير سورة مريم عند قولها {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً} وفي "التتمة" لأبي سعيد المتولي: من قال شرع من قبلنا شرع لنا جعل ذلك قربة. وقال ابن الرفعة في قول الشيخ أبي إسحاق في"التنبيه": ويكره له صمت يوم إلى الليل، قال في شرحه: إذ لم يؤثر ذلك بل جاء في حديث ابن عباس النهي عنه. ثم قال: نعم، قد ورد في شرع من قبلنا، فإن قلنا إنه شرع لنا لم يكره، إلا أنه لا يستحب قاله ابن يونس، قال: وفيه نظر، لأن الماوردي قال: روي عن ابن عمر مرفوعا صمت الصائم تسبيح، قال؛ فإن صح دل على مشروعية الصمت، وإلا فحديث ابن عباس أقل درجاته الكراهة. قال: وحيث قلنا إن شرع من قبلنا شرع لنا، فذاك إذا لم يرد في شرعنا ما يخالفه انتهى. وهو كما قال. وقد ورد النهي. والحديث المذكور لا يثبت. وقد أورده صاحب"مسند الفردوس" من حديث ابن عمر وفي إسناده الربيع بن بدر وهو ساقط، ولو ثبت لما أفاد المقصود لأن لفظه: "صمت الصائم تسبيح، ونومه عبادة، ودعاؤه مستجاب" فالحديث مساق في أن أفعال الصائم كلها محبوبة، لا أن الصمت بخصوصه مطلوب. وقد قال الروياني في"البحر" في آخر الصيام: فرع جرت عادة الناس بترك الكلام في رمضان، وليس له أصل في شرعنا بل في شرع من قبلنا، فيخرج جواز ذلك على الخلاف في المسألة انتهى. وليتعجب ممن نسب تخريج مسألة النذر إلى نفسه من المتأخرين، وأما الأحاديث الواردة في الصمت وفضله كحديث: "من صمت نجا" أخرجه الترمذي من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، وحديث: "أيسر العبادة الصمت" أخرجه ابن أبي الدنيا بسند مرسل رجاله ثقات، إلى غير ذلك، فلا يعارض ما جزم به الشيخ أبو إسحاق من الكراهة لاختلاف المقاصد في ذلك، فالصمت المرغب فيه ترك الكلام الباطل، وكذا المباح إن جر إلى شيء من ذلك، والصمت المنهي عنه ترك الكلام في الحق لمن يستطيعه، وكذا المباح المستوي الطرفين والله أعلم. قوله: "إنك" بكسر الكاف. قوله: "لسئول" أي كثيرة السؤال، وهذه الصيغة يستوي فيها المذكر والمؤنث. قوله: "ما بقاؤنا على هذا الأمر الصالح" أي دين الإسلام وما اشتمل عليه من العدل واجتماع الكلمة ونصر المظلوم ووضع كل شيء في محله. قوله: "ما استقامت بكم" في رواية الكشميهني: "لكم". قوله: "أئمتكم" أي لأن الناس على دين ملوكهم، فمن حاد من الأئمة عن الحال مال وأمال. حديث عائشة في قصة المرأة السوداء، لم أقف على اسمها، وذكر عمر بن شبة في طريق له أنها كانت بمكة وأنه لما وقع لها ذلك هاجرت إلى المدينة. قوله: "وكان لها حفش" بكسر المهملة وسكون الفاء بعدها معجمة هو البيت الضيق الصغير. وقال أبو عبيدة: الحفش هو الدرج في الأصل ثم سمي به البيت الصغير لشبهه به في الضيق. قوله: "وازت" أي قابلت، وقد تقدم شرح هذه القصة في أبواب المساجد من كتاب الصلاة، ووجه دخولها هنا من جهة ما كان عليه أهل الجاهلية من الجفاء في الفعل والقول. حديث ابن عمر في النهي عن الحلف بالآباء، وسيأتي شرحه في كتاب الأيمان والنذور. قوله: "أن القاسم" هو ابن محمد بن أبي بكر الصديق. قوله: "ولا يقوم لها" أي الجنازة. قوله: "كان أهل الجاهلية يقومون لها" ظاهره أن عائشة

(7/151)


لم يبلغها أمر الشارع بالقيام لها، فرأت أن ذلك من الأمور التي كانت في الجاهلية وقد جاء الإسلام بمخالفتهم، وقد قدمت في الجنائز بيان الاختلاف في المسألة وهل نسخ هذا الحكم أم لا؟ وعلى القول بأنه نسخ هل نسخ الوجوب ويقي الاستحباب أم لا؟ أو مطلق الجواز؟ واختار بعض الشافعية الأخير، وأكثر الشافعية الكراهة، وادعى المحاملي فيه الاتفاق، وخالف المتولي فقال: يستحب، واختاره النووي وقال: هذا من جملة الأحكام التي استدركتها عائشة على الصحابة لكن كان جانبهم فيها أرجح. قوله: "كنت في أهلك ما أنت مرتين" أي يقولون ذلك مرتين وما موصولة وبعض الصلة محذوف والتقدير: كنت في أهلك الذي كنت فيه أي الذي أنت فيه الآن كنت في الحياة مثله، لأنهم كانوا لا يؤمنون بالبعث بل كانوا يعتقدون أن الروح إذا خرجت تطير طيرا فإن كان ذلك من أهل الخير كان روحه من صالحي الطير إلا فبالعكس، ويحتمل أن يكون قولهم هذا دعاء للميت، ويحتمل أن تكون"ما" نافية ولفظ: "مرتين" من تمام الكلام أي لا تكوني في أهلك مرتين: المرة الواحد التي كنت فيهم انقضت وليست بعائدة إليهم مرة أخرى. ويحتمل أن تكون "ما" استفهامية أي كنت في أهلك شريفة فأي شيء أنت الآن؟ يقولون ذلك حزنا وتأسفا عليه. حديث عمر في قولهم "أشرق ثبير" وقد تقدم شرحه في كتاب الحج مستوفى، وقوله: "حتى تشرق الشمس" قال ابن التين: ضبط بفتح أوله وضم الراء، والمعروف بضم أوله وكسرها. قوله: "حدثكم يحيى بن المهلب" هو البجلي يكنى أبا كدينة بالتصغير والنون، وهو كوفي موثق ماله في البخاري سوى هذا الموضع. قوله: "ملأى متتابعة" كذا جمع بينهما، وهما قولان لأهل اللغة تقول: أدهقت الكأس إذا ملأتها، وأدهقت له إذا تابعت له السقي، وقيل: أصل الدهق الضغط، والمعنى أنه ملأ اليد بالكأس حتى لم يبق فيها متسع لغيرها. قوله: "قال وقال ابن عباس" القائل هو عكرمة، وهو موصول بالإسناد المذكور. قوله: "سمعت أبي" هو العباس بن عبد المطلب. قوله: "في الجاهلية" أي وقع سماعي لذلك منه في الجاهلية، والمراد بها جاهلية نسبية لا المطلقة لأن ابن عباس لم يدرك ما قبل البعثة، بل لم يولد إلا بعد البعث بنحو عشر سنين، فكأنه أراد أنه سمع العباس يقول ذلك قبل أن يسلم. قوله: "اسقنا كأسا دهاقا" في رواية الإسماعيلي من وجه آخر عن حصين عن عكرمة عن ابن عباس"سمعت أبي يقول لغلامه: ادهق لنا، أي املأ لنا، أو تابع لنا" انتهى. وهو بمعنى ما ساقه البخاري. قوله: "سفيان" هو الثوري. قوله: "عن عبد الملك" هو ابن عمير، ولأحمد عن عبد الرحمن بن مهدي عن الثوري "حدثنا عبد الملك بن عمير". ولمسلم من هذا الوجه عن عبد الملك "حدثنا أبو سلمة"، وله من طريق إسرائيل عن عبد الملك عن أبي سلمة بن عبد الرحمن "سمعت أبا هريرة". قوله: "أصدق كلمة قالها الشاعر" يحتمل أن يريد بالكلمة البيت الذي ذكر شطره، ويحتمل أن يريد القصيدة كلها، ويؤيد الأول رواية مسلم من طريق شعبة وزائدة فرقهما عن عبد الملك بلفظ: "إن أصدق بيت قاله الشاعر" وليس في رواية شعبة "إن" ووقع عنده في رواية شريك عن عبد الملك بلفظ: "أشعر كلمة تكلمت بها العرب" فلولا أن في حفظ شريك مقالا لرفع هذا اللفظ الإشكال الذي أبداه السهيلي على لفظ رواية الصحيح بلفظ: "أصدق" إذ لا يلزم من لفظ: "أشعر" أن يكون أصدق، نعم السؤال باق في التعبير بوصف كل شيء بالبطلان مع اندراج الطاعات والعبادات في ذلك وهي حق لا محالة، وكذا قوله صلى الله عليه وسلم في دعائه بالليل "أنت الحق وقولك الحق والجنة حق والنار حق إلخ" وأجيب عن ذلك بأن المراد بقول الشاعر ما عدا الله أي ما عداه وعدا صفاته الذاتية

(7/152)


والفعلية من رحمته وعذابه وغير ذلك، فلذلك ذكر الجنة والنار، أو المراد في البيت بالبطلان الفناء لا الفساد، فكل شيء سوى الله جائز عليه الفناء لذاته حتى الجنة والنار، وإنما يبقيان بإبقاء الله لهما وخلق الدوام لأهلهما، والحق على الحقيقة من لا يجوز عليه الزوال، ولعل هذا هو السر في إثبات الألف واللام في قوله: "أنت الحق وقولك الحق ووعدك الحق" وحذفهما عند ذكر غيرهما والله أعلم. وفي إيراد البخاري هذا الحديث في هذا الباب تلميح بما وقع لعثمان بن مظعون بسبب هذا البيت مع ناظمه لبيد بن ربيعة قبل إسلامه، والنبي صلى الله عليه وسلم يومئذ بمكة وقريش في غاية الأذية للمسلمين، فذكر ابن إسحاق عن صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عمن حدثه عن عثمان بن مظعون أنه "لما رجع من الهجرة الأولى إلى الحبشة دخل مكة في جوار الوليد بن المغيرة، فلما رأى المشركين يؤذون المسلمين وهو آمن رد على الوليد جواره، فبينما هو في مجلس لقريش وقد وفد عليهم لبيد بن ربيعة فقعد ينشدهم من شعره فقال لبيد" ألا كل شيء ما خلا الله باطل"فقال عثمان بن مظعون: صدقت، فقال لبيد" وكل نعيم لا محالة زائل" فقال عثمان: كذبت، نعيم الجنة لا يزول. فقال لبيد: متى كان يؤذي جليسكم يا معشر قريش؟ فقام رجل منهم فلطم عثمان فاخضرت عينه، فلامه الوليد على رد جواره فقال: قد كنت في ذمة منيعة، فقال عثمان: إن عيني الأخرى لما أصاب أختها لفقيرة، فقال له الوليد: فعد إلى جوارك، فقال: بل أرضي بجوار الله تعالى. قلت: وقد أسلم لبيد بعد ذلك، وهو ابن ربيعة بن عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر العامري ثم الكلابي ثم الجعفري، يكنى أبا عقيل. وذكره في الصحابة البخاري وابن أبي خيثمة وغيرهما. وقال لعمر لما سأله عما قاله من الشعر في الإسلام: قد أبدلني الله بالشعر سورة البقرة. ثم سكن الكوفة ومات بها في خلافة عثمان، وعاش مائة وخمسين سنة وقيل: أكثر، وهو القائل:
ولقد سئمت من الحياة وطولها ... وسؤال هذا الناس: كيف لبيد؟
وهذا يعكر على من قال إنه لم يقل شعرا منذ أسلم، إلا أن يريد القطع المطولة لا البيت والبيتين. والله أعلم. قوله: "وكاد أمية بن أبي الصلت أن يسلم" اسم أبي الصلت ربيعة بن عوف بن عقدة بن غيرة - بكسر المعجمة وفتح التحتانية - ابن عوف بن ثقيف الثقفي، وقيل في نسبه غير ذلك، أبو عثمان. كان ممن طلب الدين ونظر في الكتب ويقال إنه ممن دخل في النصرانية، وأكثر في شعره من ذكر التوحيد والبعث يوم القيامة، وزعم الكلاباذي أنه كان يهوديا. وروى الطبراني من حديث معاوية بن أبي سفيان عن أبيه أنه سافر مع أمية، فذكر قصته وأنه سأله عن عتبة بن ربيعة وعن سنه ورياسته فأعلمه أنه متصف بذلك فقال: أزرى به ذلك، فغضب أبو سفيان، فأخبره أمية أنه نظر في الكتب أن نبيا يبعث من العرب أظل زمانه، قال: فرجوت أن أكونه قال: ثم نظرت فإذا هو من بني عبد مناف، فنظرت فيهم فلم أر مثل عتبة، فلما قلت لي إنه رئيس وإنه جاوز الأربعين عرفت أنه ليس هو، قال أبو سفيان: فما مضت الأيام حتى ظهر محمد صلى الله عليه وسلم فقلت لأمية، قال: نعم إنه لهو، قلت أفلا نتبعه؟ قال: أستحيي من نسيات ثقيف، إني كنت أقول لهن إنني أنا هو ثم أصير تابعا لغلام من بني عبد مناف. وذكر أبو الفرج الأصبهاني أنه قال عند موته: أنا أعلم أن الحنيفية حق، ولكن الشك يداخلني في محمد. وروى الفاكهي وابن منده من حديث ابن عباس "أن الفارعة بنت أبي الصلت أخت أمية أتت النبي صلى الله عليه وسلم فأنشدته من شعره فقال:

(7/153)


آمن شعره وكفر قلبه" وروى مسلم من حديث عمرو بن الشريد عن أبيه قال: "ردفت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هل معك من شعر أمية؟ قلت: نعم، فأنشدته مائة بيت، فقال: لقد كاد أن يسلم في شعره " وروى ابن مردويه بإسناد قوي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال في قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا} قال: نزلت في أمية بن أم الصلت. وروي من أوجه أخرى أنها نزلت في بلعام الإسرائيلي وهو المشهور. وعاش أمية حتى أدرك وقعة بدر ورثى من قتل بها من الكفار كما سيأتي من ذلك في أبواب الهجرة، ومات أمية بعد ذلك سنة تسع، وقيل: مات سنة اثنتين ذكره سبط ابن الجوزي، واعتمد في ذلك ما نقله عن ابن هشام: أن أمية قدم من الشام على أن يأخذ ماله من الطائف ويهاجر إلى المدينة، فنزل في طريقه ببدر، قيل له: أتدري من في القليب؟ قال لا، قيل: فيه عتبة وشيبة وهما ابنا خالك وفلان وفلان، فشق ثيابه وجدع ناقته وبكى ورجع إلى الطائف فمات بها. قلت: ولا يلزم من قوله فمات بها أن يكون مات في تلك السنة. وأغرب الكلاباذي فقال: إنه مات في حصار الطائف. فإن كان محفوظا فذلك سنة ثمان، ولموته قصة طويلة أخرجها البخاري في تاريخه والطبراني وغيرهما. قوله: "حدثنا إسماعيل" هو ابن أبي أويس، وأخوه أبو بكر عبد الحميد، ويحيى بن سعيد هو الأنصاري، والإسناد كله مدنيون، وفيه رواية القرين عن القرين ورواية الأكبر سنا عن الأصغر منه يحيى بن سعيد عن عبد الرحمن بن القاسم، وقد أخرجه البيهقي في "الشعب" من طريق جعفر الفريابي عن أحمد بن محمد المقدمي عن إسماعيل بن أبي أويس بهذا السند، لكن قال فيه عن عبيد بن عمر بدل عبد الرحمن بن القاسم، فلعل ليحيى بن سعيد فيه شيخين. قوله: "كان لأبي بكر غلام" لم أقف على اسمه، ووقع لأبي بكر مع النعيمان بن عمرو أحد الأحرار من الصحابة قصة ذكرها عبد الرزاق بإسناد صحيح" أنهم نزلوا بماء، فجعل النعيمان يقول لهم: يكون كذا، فيأتونه بالطعام فيرسله إلى أصحابه. فبلغ أبا بكر فقال: أراني آكل كهانة النعيمان منذ اليوم، ثم أدخل يده في حلقه فاستقاءه "وفي" الورع لأحمد "عن إسماعيل عن أيوب عن ابن سيرين" لم أعلم أحدا استقاء من طعام غير أبي بكر فإنه أتي بطعام فأكل ثم قيل له جاء به ابن النعيمان، قال فأطعمتموني كهانة ابن النعيمان، ثم استقاء" ورجاله ثقات لكنه مرسل، ولأبي بكر قصة أخرى في نحو هذا أخرجها يعقوب بن أبي شيبة في مسنده من طريق نبيح العنزي عن أبي سعيد قال: "كنا ننزل رفاقا، فنزلت في رفقه فيها أبو بكر على أهل أبيات فيهن امرأة حبلى ومعنا رجل، فقال لها: أبشرك أن تلدي ذكرا، قالت نعم، فسجع لها أسجاعا. فأعطته شاة فذبحها وجلسنا نأكل، فلما علم أبو بكر بالقصة قام فتقايأ كل شيء أكله". قوله: "يخرج له الخراج" أي يأتيه بما يكسبه، والخراج ما يقرره السيد على عبده من مال يحضره له من كسبه. قوله: "يأكل من خراجه" في رواية الإسماعيلي من وجه آخر من طريق إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم"كان لأبي بكر غلام، فكان يجيء بكسبه فلا يأكل منه حتى يسأله، فأتاه ليلة بكسبه فأكل منه ولم يسأله، ثم سأله". قوله: "كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية" لم أعرف اسمه ويحتمل أن يكون المرأة المذكورة في حديث أبي سعيد. قوله: "فأعطاني بذلك" أي عوض تكهني له، قال ابن التين: إنما استقاء أبو بكر تنزها لأن أمر الجاهلية وضع ولو كان في الإسلام لغرم مثل ما أكل أو قيمته ولم يكفه القيء، كذا قال، والذي يظهر أن أبا بكر إنما قاء لما ثبت عنده من النهي عن حلوان الكاهن، وحلوان الكاهن ما يأخذه على كهانته، والكاهن من يخبر بما سيكون عن غير دليل شرعي، وكان ذلك قد كثر في الجاهلية خصوصا قبل ظهور

(7/154)


النبي صلى الله عليه وسلم.الحديث الثاني عشر حديث ابن عمر في حبل الحبلة، وقد تقدم شرحه مستوفى في البيوع، والغرض منه قوله: "إنهم كانوا يتبايعونه في الجاهلية". حديث أنس الذي تقدم في أول مناقب الأنصار، وأدخله هنا لقوله: "فعل قومك كذا يوم كذا" لأنه يحتمل أن يشير به إلى وقائعهم في الجاهلية كما يحتمل أن يشير به إلى وقائعهم في الإسلام أو لما هو أعم من ذلك، وخاطب أنس غيلان بأن الأنصار قومه، وليس هو من الأنصار، لكن ذلك باعتبار النسبية الأعمية إلى الأزد فإنها تجمعهم، والله أعلم.

(7/155)


27- باب الْقَسَامَةُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ
3845- حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا قَطَنٌ أَبُو الْهَيْثَمِ حَدَّثَنَا أَبُو يَزِيدَ الْمَدَنِيُّ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ إِنَّ أَوَّلَ قَسَامَةٍ كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَفِينَا بَنِي هَاشِمٍ كَانَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ اسْتَأْجَرَهُ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ فَخِذٍ أُخْرَى فَانْطَلَقَ مَعَهُ فِي إِبِلِهِ فَمَرَّ رَجُلٌ بِهِ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ قَدْ انْقَطَعَتْ عُرْوَةُ جُوَالِقِهِ فَقَالَ أَغِثْنِي بِعِقَالٍ أَشُدُّ بِهِ عُرْوَةَ جُوَالِقِي لاَ تَنْفِرُ الإِبِلُ فَأَعْطَاهُ عِقَالًا فَشَدَّ بِهِ عُرْوَةَ جُوَالِقِهِ فَلَمَّا نَزَلُوا عُقِلَتْ الإِبِلُ إِلاَّ بَعِيرًا وَاحِدًا فَقَالَ الَّذِي اسْتَأْجَرَهُ مَا شَأْنُ هَذَا الْبَعِيرِ لَمْ يُعْقَلْ مِنْ بَيْنِ الإِبِلِ قَالَ لَيْسَ لَهُ عِقَالٌ قَالَ فَأَيْنَ عِقَالُهُ قَالَ فَحَذَفَهُ بِعَصًا كَانَ فِيهَا أَجَلُهُ فَمَرَّ بِهِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ فَقَالَ أَتَشْهَدُ الْمَوْسِمَ قَالَ مَا أَشْهَدُ وَرُبَّمَا شَهِدْتُهُ قَالَ هَلْ أَنْتَ مُبْلِغٌ عَنِّي رِسَالَةً مَرَّةً مِنْ الدَّهْرِ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَكَتَبَ إِذَا أَنْتَ شَهِدْتَ الْمَوْسِمَ فَنَادِ يَا آلَ قُرَيْشٍ فَإِذَا أَجَابُوكَ فَنَادِ يَا آلَ بَنِي هَاشِمٍ فَإِنْ أَجَابُوكَ فَسَلْ عَنْ أَبِي طَالِبٍ فَأَخْبِرْهُ أَنَّ فُلاَنًا قَتَلَنِي فِي عِقَالٍ وَمَاتَ الْمُسْتَأْجَرُ فَلَمَّا قَدِمَ الَّذِي اسْتَأْجَرَهُ أَتَاهُ أَبُو طَالِبٍ فَقَالَ مَا فَعَلَ صَاحِبُنَا قَالَ مَرِضَ فَأَحْسَنْتُ الْقِيَامَ عَلَيْهِ فَوَلِيتُ دَفْنَهُ قَالَ قَدْ كَانَ أَهْلَ ذَاكَ مِنْكَ فَمَكُثَ حِينًا ثُمَّ إِنَّ الرَّجُلَ الَّذِي أَوْصَى إِلَيْهِ أَنْ يُبْلِغَ عَنْهُ وَافَى الْمَوْسِمَ فَقَالَ يَا آلَ قُرَيْشٍ قَالُوا هَذِهِ قُرَيْشٌ قَالَ يَا آلَ بَنِي هَاشِمٍ قَالُوا هَذِهِ بَنُو هَاشِمٍ قَالَ أَيْنَ أَبُو طَالِبٍ قَالُوا هَذَا أَبُو طَالِبٍ قَالَ أَمَرَنِي فُلاَنٌ أَنْ أُبْلِغَكَ رِسَالَةً أَنَّ فُلاَنًا قَتَلَهُ فِي عِقَالٍ فَأَتَاهُ أَبُو طَالِبٍ فَقَالَ لَهُ اخْتَرْ مِنَّا إِحْدَى ثَلاَثٍ إِنْ شِئْتَ أَنْ تُؤَدِّيَ مِائَةً مِنْ الإِبِلِ فَإِنَّكَ قَتَلْتَ صَاحِبَنَا وَإِنْ شِئْتَ حَلَفَ خَمْسُونَ مِنْ قَوْمِكَ إِنَّكَ لَمْ تَقْتُلْهُ فَإِنْ أَبَيْتَ قَتَلْنَاكَ بِهِ فَأَتَى قَوْمَهُ فَقَالُوا نَحْلِفُ فَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ كَانَتْ تَحْتَ رَجُلٍ مِنْهُمْ قَدْ وَلَدَتْ لَهُ فَقَالَتْ يَا أَبَا طَالِبٍ أُحِبُّ أَنْ تُجِيزَ ابْنِي هَذَا بِرَجُلٍ مِنْ الْخَمْسِينَ وَلاَ تُصْبِرْ يَمِينَهُ حَيْثُ تُصْبَرُ الأَيْمَانُ فَفَعَلَ فَأَتَاهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَقَالَ يَا أَبَا طَالِبٍ أَرَدْتَ خَمْسِينَ رَجُلًا أَنْ يَحْلِفُوا مَكَانَ مِائَةٍ مِنْ الإِبِلِ يُصِيبُ كُلَّ رَجُلٍ بَعِيرَانِ هَذَانِ بَعِيرَانِ فَاقْبَلْهُمَا عَنِّي

(7/155)


وَلاَ تُصْبِرْ يَمِينِي حَيْثُ تُصْبَرُ الأَيْمَانُ فَقَبِلَهُمَا وَجَاءَ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ فَحَلَفُوا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا حَالَ الْحَوْلُ وَمِنْ الثَّمَانِيَةِ وَأَرْبَعِينَ عَيْنٌ تَطْرِفُ"
3846- حَدَّثَنِي عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ "كَانَ يَوْمُ بُعَاثٍ يَوْمًا قَدَّمَهُ اللَّهُ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ افْتَرَقَ مَلَؤُهُمْ وَقُتِّلَتْ سَرَوَاتُهُمْ وَجُرِّحُوا قَدَّمَهُ اللَّهُ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دُخُولِهِمْ فِي الإِسْلاَمِ"
3847- وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنَا عَمْرٌو عَنْ بُكَيْرِ بْنِ الأَشَجِّ أَنَّ كُرَيْبًا مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ حَدَّثَهُ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ "لَيْسَ السَّعْيُ بِبَطْنِ الْوَادِي بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سُنَّةً إِنَّمَا كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَسْعَوْنَهَا وَيَقُولُونَ لاَ نُجِيزُ الْبَطْحَاءَ إِلاَّ شَدًّا"
3848- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجُعْفِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ أَخْبَرَنَا مُطَرِّفٌ سَمِعْتُ أَبَا السَّفَرِ يَقُولُ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ "يَا أَيُّهَا النَّاسُ اسْمَعُوا مِنِّي مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأَسْمِعُونِي مَا تَقُولُونَ وَلاَ تَذْهَبُوا فَتَقُولُوا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ فَلْيَطُفْ مِنْ وَرَاءِ الْحِجْرِ وَلاَ تَقُولُوا الْحَطِيمُ فَإِنَّ الرَّجُلَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ يَحْلِفُ فَيُلْقِي سَوْطَهُ أَوْ نَعْلَهُ أَوْ قَوْسَهُ"
3849- حَدَّثَنَا نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ عَنْ حُصَيْنٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ قَالَ "رَأَيْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قِرْدَةً اجْتَمَعَ عَلَيْهَا قِرَدَةٌ قَدْ زَنَتْ فَرَجَمُوهَا فَرَجَمْتُهَا مَعَهُمْ"
3850- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ "خِلاَلٌ مِنْ خِلاَلِ الْجَاهِلِيَّةِ الطَّعْنُ فِي الأَنْسَابِ وَالنِّيَاحَةُ وَنَسِيَ الثَّالِثَةَ قَالَ سُفْيَانُ وَيَقُولُونَ إِنَّهَا الِاسْتِسْقَاءُ بِالأَنْوَاءِ"
الحديث الرابع عشر حديث القسامة في الجاهلية بطوله، وثبت عند أكثر الرواة عن الفربري هنا ترجمة "القسامة في الجاهلية"، ولم يقع عند النسفي وهو أوجه، لأن الجميع من ترجمة أيام الجاهلية، ويظهر ذلك من الأحاديث التي أوردها تلو هذا الحديث. قوله: "حدثنا قطن" بفتح القاف والمهملة ثم نون هو ابن كعب القطعي بضم القاف البصري، ثقة عندهم، وشيخه أبو يزيد المدني بصري أيضا ويقال له المديني بزيادة تحتانية، ولعل أصله كان من المدينة، ولكن لم يرو عنه أحد من أهل المدينة، وسئل عنه مالك فلم يعرفه ولا يعرف اسمه وقد وثقه ابن معين وغيره، ولا له ولا للراوي عنه في البخاري إلا هذا الموضع. قوله: "إن أول قسامة" بفتح القاف وتخفيف المهملة اليمين، وهي في عرف الشرع حلف معين عند التهمة بالقتل على الإثبات أو النفي. وقيل: هي مأخوذة من قسمة الأيمان على الحالفين.

(7/156)


وسيأتي بيان الاختلاف في حكمها في كتاب الديات إن شاء الله تعالى. وقوله: "لفينا بني هاشم" اللام للتأكيد وبني هاشم مجرور على البدل من الضمير المجرور. ويحتمل أن يكون نصبا على التمييز، أو على النداء بحذف الأداة. قوله: "كان رجل من بني هاشم" هو عمرو بن علقمة بن المطلب بن عبد مناف، جزم بذلك الزبير بن بكار في هذه القصة فكأنه نسب هذه الرواية إلى بني هاشم مجازا لما كان بين بني هاشم وبني المطلب من المودة والمؤاخاة والمناصرة، وسماه ابن الكلبي عامرا. قوله: "استأجره رجل من قريش من فخذ أخرى" كذا في رواية الأصيلي وأبي ذر، وكذا أخرجه الفاكهي من وجه آخر عن أبي معمر شيخ البخاري فيه. وفي رواية كريمة وغيرها "استأجر رجلا من قريش" وهو مقلوب، والأول هو الصواب. والفخذ بكسر المعجمة وقد تسكن. وجزم الزبير بن بكار بأن استأجر المذكور هو خداش - بمعجمتين ودال مهملة - ابن عبد الله بن أبي قيس العامري. قوله: "فمر به" أي بالأجير "رجل من بني هاشم" لم أقف على اسمه. وقوله: "عروة جوالقه" بضم الجيم وفتح اللام الوعاء من جلود وثياب وغيرها، فارسي معرب، وأصله كواله: وجمعه جواليق وحكي جوالق بحذف التحتانية، والعقال الحبل. قوله: "فأين عقاله؟ قال فحذفه" كذا في النسخ وفيه حذف يدل عليه سياق الكلام، وقد بينته رواية الفاكهي" فقال مر بي رجل من بني هاشم قد انقطع عروة: جوالقه، واستغاث بي فأعطيته، فحذفه" أي رماه. قوله: "كان فيها أجله" أي أصاب مقتله. وقوله: "فمات" أي أشرف على الموت، بدليل قوله: "فمر به رجل من أهل اليمن قبل أن يقضي1 ولم أقف على اسم هذا المار أيضا. قوله: "أتشهد الموسم" أي موسم الحج. قوله: "فكتب" بالمثناة ثم الموحدة ولغير أبي ذر والأصيلي بضم الكاف وسكون النون ثم المثناة والأول أوجه. وفي رواية الزبير بن بكار" فكتب إلى أبي طالب يخبره بذلك ومات منها" وفي ذلك يقول أبو طالب:
أفي فضل حبل لا أبالك ضربه ... بمنسأة، قد جاء حبل أو أحبل
قوله: "يا آل قريش" بإثبات الهمزة وبحذفها على الاستغاثة. قوله: "قتلني في عقال" أي بسبب عقال. قوله: "ومات المستأجر" بفتح الجيم أي بعد أن أوصى اليماني بما أوصاه به. قوله: "فوليت" بكسر اللام. وفي رواية ابن الكلبي" فقال أصابه قدره، فصدقوه ولم يظنوا به غير ذلك" وقوله: "وافى الموسم أي أتاه". قوله: "يا بني هاشم" في رواية الكشميهني: "يا آل بني هاشم". قوله: "من أبو طالب" في رواية الكشميهني: "أين أبو طالب" زاد ابن الكلبي" فأخبره بالقصة وخداش يطوف بالبيت لا يعلم بما كان، فقام رجال من بني هاشم إلى خداش فضربوه وقالوا: قتلت صاحبنا، فجحد". قوله: "اختر منا إحدى ثلاث" يحتمل أن تكون هذه الثلاث كانت معروفة بينهم، ويحتمل أن تكون شيئا اخترعه أبو طالب. وقال ابن التين: لم ينقل أنهم تشاوروا في ذلك ولا تدافعوا فدل على أنهم كانوا يعرفون القسامة قبل ذلك. كذا قال، وفيه نظر، لقول ابن عباس راوي الحديث: "أنها أول قسامة" ويمكن أن يكون مراد ابن عباس الوقوع وإن كانوا يعرفون الحكم قبل ذلك. وحكى الزبير بن بكار أنهم تحاكموا في ذلك إلى الوليد بن المغيرة فقضى أن يحلف خمسون رجلا من بني عامر عند البيت ما قتله خداش، وهذا
ـــــــ
1 قوله "فمات" ثم قوله "قبل أن يقضى" ليس في نسخ الصحيح.

(7/157)


يشعر بالأولية مطلقا. قوله: "فأتته امرأة من بني هاشم" هي زينب بنت علقمة أخت المقتول "كانت تحت رجل منهم" هو عبد العزى بن أبي قيس العامري، واسم ولدها منه حويطب بمهملتين مصغر، وذكر ذلك الزبير. وقد عاش حويطب بعد هذا دهرا طويلا، وله صحبة، وسيأتي حديثه في كتاب الأحكام. ونسبتها إلى بني هاشم مجازية والتقدير كانت زوجا لرجل من بني هاشم. ويحتمل قولها فولدت له ولدا أي غير حويطب. قوله: "أن تجيز ابني" بالجيم والزاي، أي تهبه ما يلزمه من اليمين. وقولها: "ولا تصبر يمينه" بالمهملة ثم الموحدة، أصل الصبر الحبس والمنع، ومعناه في الأيمان الإلزام، تقول صبرته أي ألزمته أن يحلف بأعظم الأيمان حتى لا يسعه أن لا يحلف. قوله: "حيث تصبر الأيمان" أي بين الركن والمقام، قاله ابن التين. قال: ومن هنا استدل الشافعي على أنه لا يحلف بين الركن والمقام على أقل من عشرين دينارا نصاب الزكاة، كذا قال، ولا أدري كيف يستقيم هذا الاستدلال، ولم يذكر أحد من أصحاب الشافعي أن الشافعي استدل لذلك بهذه القصة. قوله: "فأتاه رجل منهم" لم أقف على اسمه ولا على اسم أحد من سائر الخمسين إلا من تقدم، وزاد ابن الكلبي" ثم حلفوا عند الركن أن خداشا بريء من دم للمقتول". قوله: "فو الذي نفسي بيده" قال ابن التين: كأن الذي أخبر ابن عباس بذلك جماعة اطمأنت نفسه إلى صدقهم حتى وسعه أن يحلف على ذلك. قلت: يعني أنه كان حين القسامة لم يولد، ويحتمل أن يكون الذي أخبره بذلك هو النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أمكن في دخول هذا الحديث في الصحيح. قوله: "فما حال الحول" أي من يوم حلفوا. قوله: "ومن الثمانية وأربعين" في رواية أبي ذر "وفي الثمانية" وعند الأصيلي: "والأربعين" قوله: "عين تطرف" بكسر الراء أي تتحرك. زاد ابن الكلبي "وصارت رباع الجميع لحويطب، فبذلك كان أكثر من بمكة رباعا". وروى الفاكهي من طريق ابن أبي نجيح عن أبيه قال: "حلف ناس عند البيت قسامة على باطل، ثم خرجوا فنزلوا تحت صخرة فانهدمت عليهم" ومن طريق طاوس قال: "كان أهل الجاهلية لا يصيبون في الحرم شيئا إلا عجلت لهم عقوبته" ومن طريق حويطب إن أمة في الجاهلية عاذت بالبيت. فجاءتها سيدتها فجبذتها فشلت يدها" وروينا في" كتاب مجابي الدعوة لابن أبي الدنيا" في قصة طويلة في معنى سرعة الإجابة بالحرم للمظلوم فيمن ظلمه قال: "فقال عمر: كان يفعل بهم ذلك في الجاهلية ليتناهوا عن الظلم لأنهم كانوا لا يعرفون البعث، فلما جاء الإسلام أخر القصاص إلى يوم القيامة" وروى الفاكهي من وجه آخر عن طاوس قال: "يوشك أن لا يصيب أحد في الحرم شيئا إلا عجلت له العقوبة" فكأنه أشار إلى أن ذلك يكون في آخر الزمان عند قبض العلم وتناسى أهل ذلك الزمان أمور الشريعة فيعود الأمر غريبا كما بدأ، والله أعلم. قوله: "عن هشام" هو ابن عروة. قوله: "يوم بعاث" تقدم شرحه في أول مناقب الأنصار وأنه كان قبل البعث على الراجح، وقوله فيه: "وجرحوا" بالجيم المضمومة ثم الحاء المهملة، ولبعضهم" وخرجوا" بفتح المعجمة وتخفيف الراء بعدها جيم، والأول أرجح، وقد تقدم من تسمية من جرح منهم في تلك الوقعة حضير الكتائب والد أسيد فمات منها. قوله: "قال ابن وهب إلخ" وصله أبو نعيم في "المستخرج" من طريق حرملة بن يحيى عن عبد الله بن وهب. قوله: "ليس السعي" أي شدة المشي. قوله: "سنة" في رواية الكشميهني: "بسنة" قال ابن التين خولف ابن عباس في ذلك بل قالوا إنه فريضة. قلت: لم يرد ابن عباس أصل السعي، وإنما أراد شدة العدو، وليس ذلك فريضة. وقد تقدم في أحاديث الأنبياء في ترجمة إبراهيم عليه السلام في قصة هاجر أن مبدأ السعي بين الصفا والمروة كان من

(7/158)


هاجر، وهو من رواية ابن عباس أيضا، فظهر أن الذي أراد أن مبدأه من أهل الجاهلية هي شدة العدو. نعم قوله: "ليس بسنة" إن أراد به أنه لا يستحب فهو يخالف ما عليه الجمهور، وهو نظير إنكاره استحباب الرمل في الطواف. ويحتمل أن يريد بالسنة الطريقة الشرعية وهي تطلق كثيرا على المفروض، ولم يرد السنة باصطلاح أهل الأصول، وهو ما ثبت دليل مطلوبيته من غير تأثيم تاركه. قوله: "لا نجيز" بضم أوله أي لا نقطع. والبطحاء مسيل الوادي، تقول جزت الموضع إذا سرت فيه، وأجزته إذا خلفته وراءك. وقيل: هما بمعنى. وقوله: إلا شدا أي لا نقطعها إلا بالعدو الشديد. قوله: "أخبرنا مطرف" بالمهملة وتشديد الراء هو ابن طريف بالمهملة أيضا الكوفي، وأبو السفر بفتح المهملة والفاء هو سعيد بن يحمد بالتحتانية المضمومة والمهملة الساكنة كوفي أيضا. قوله: "يا أيها الناس اسمعوا مني ما أقول لكم وأسمعوني" بهمزة قطع أي أعيدوا علي قولي لأعرف أنكم حفظتموه، كأنه خشي أن لا يفهموا ما أراد فيخبروا عنه بخلاف ما قال، فكأنه قال: اسمعوا مني سماع ضبط وإتقان، ولا تقولوا" قال: "من قبل أن تضبطوا. قوله: "من طاف بالبيت فليطف من وراء الحجر" في رواية ابن أبي عمر عن سفيان" وراء الجدر" والمراد به الحجر، والسبب فيه أن الذي يلي البيت إلى جهة الحجر من البيت، وقد تقدم بيانه وما قيل في مقداره في أوائل كتاب الحج. قوله: "ولا تقولوا الحطيم" في رواية سعيد بن منصور عن خديج بن معاوية عن أبي إسحاق عن أبي السفر في هذه القصة" فقال رجل: ما الحطيم؟ فقال ابن عباس: إنه لا حطيم، كان الرجل إلخ" زاد أبو نعيم في "المستخرج" من طريق خالد الطحان عن مطرف" فإن أهل الجاهلية كانوا يسمونه - أي الحجر - الحطيم، كانت فيه أصنام قريش" وللفاكهي من طريق يونس بن أبي إسحاق عن أبي السفر نحوه وقال: "كان أحدهم إذا أراد أن يحلف وضع محجنه ثم حلف، فمن طاف فليطف من ورائه". قوله: "كان يحلف" بالحاء المهملة الساكنة وتخفيف اللام المكسورة. وفي رواية خالد الطحان المذكورة" كان إذا حلف" بضم المهملة وتشديد اللام والأول أوجه، والمعنى أنهم كانوا إذا حالف بعضهم بعضا ألقى الحليف في الحجر نعلا أو سوطا أو قوسا أو عصا علامة لقصد حلفهم فسموه الحطيم لذلك، لكونه يحطم أمتعتهم، وهو فعيل بمعنى فاعل، ويحتمل أن يكون ذلك كان شأنهم إذا أرادوا أن يحلفوا على نفي شيء، وقيل: إنما سمي الحطيم لأن بعضهم كان إذا دعا على من ظلمه في ذلك الموضع هلك. وقال ابن الكلبي: سمي الحجر حطيما لما تحجر عليه، أو لأنه قصر به عن ارتفاع البيت وأخرج عنه، فعلى هذا فعيل بمعنى مفعول، أو لأن الناس يحطم فيه بعضهم بعضا من الزحام عند الدعاء فيه. وقال غيره: الحطيم هو بئر الكعبة التي كان يلقى فيها ما يهدى لها. وقيل: بين الركن الأسود والمقام. وقيل: من أول الركن الأسود إلى أول الحجر يسمى الحطيم. وحديث ابن عباس حجة في رد أكثر هذه الأقوال، زاد في رواية خديج" ولكنه الجدر" بفتح الجيم وسكون المهملة، وهو من البيت. ووقع عند الإسماعيلي والبرقاني في آخر الحديث عن ابن عباس "وأيما صبي حج به أهله فقد قضى حجه ما دام صغيرا، فإذا بلغ فعليه حجة أخرى، وأيما عبد حج به أهله" الحديث، وهذه الزيادة عند البخاري أيضا في غير الصحيح، وحذفها منه عمدا لعدم تعلقها بالترجمة ولكونها موقوفة، وأما أول الحديث فهو وإن كان موقوفا من حديث ابن عباس إلا أن الغرض منه حاصل بالنسب لنقل ابن عباس ما كان في الجاهلية مما رآه النبي صلى الله عليه وسلم فأقره أو أزاله، فمهما لم ينكره واستمرت مشروعيته فيكون له حكم المرفوع، ومهما أنكره فالشرع بخلافه.الحديث الثامن عشر

(7/159)


قوله: "حدثنا نعيم بن حماد" في رواية بعضهم حدثنا نعيم غير منسوب، وهو المروزي نزيل مصر، وقل أن يخرج له البخاري موصولا بل عادته أن يذكر عنه بصيغة التعليق. ووقع في رواية القابسي "حدثنا أبو نعيم" وصوبه بعضهم وهو غلط. قوله: "عن حصين" في رواية البخاري في"التاريخ" في هذا الحديث: "حدثنا حصين" فأمن بذلك ما يخشى من تدليس هشيم الراوي عنه، وقرن فيه أيضا مع حصين أبا المليح. قوله: "رأيت في الجاهلية قردة" بكسر القاف وسكون الراء واحدة القرود، وقوله: "اجتمع عليها قردة" بفتح الراء جمع قرد، وقد ساق الإسماعيلي هذه القصة من وجه آخر مطولة من طريق عيسى بن حطان عن عمرو بن ميمون قال: "كنت في اليمن في غنم لأهلي وأنا على شرف، فجاء قرد من قردة فتوسد يدها، فجاء قرد أصغر منه فغمزها، فسلت يدها من تحت رأس القرد الأول سلا رفيقا وتبعته، فوقع عليها وأنا أنظر، ثم رجعت فجعلت تدخل يدها تحت خد الأول برفق، فاستيقظ فزعا، فشمها فصاح، فاجتمعت القرود، فجعل يصيح ويومئ إليها بيده، فذهب القرود يمنة ويسرة، فجاءوا بذلك القرد أعرفه، فحفروا لهما حفرة فرجموهما، فلقد رأيت الرجم في غير بني آدم" قال ابن التين: لعل هؤلاء كانوا من نسل الذين مسخوا فبقي فيهم ذلك الحكم. ثم قال: أن الممسوخ لا ينسل قلت: وهذا هو المعتمد، لما ثبت في صحيح مسلم: "أن الممسوخ لا نسل له" وعنده من حديث ابن مسعود مرفوعا: "إن الله لم يهلك قوما فيجعل لهم نسلا" وقد ذهب أبو إسحاق الزجاج وأبو بكر بن العربي إلى أن الموجود من القردة من نسل الممسوخ، وهو مذهب شاذ اعتمد من ذهب إليه ما ثبت أيضا في صحيح مسلم: "أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أتي بالضب قال: لعله من القرون التي مسخت " وقال في الفأر" فقدت أمة من بني إسرائيل لا أراها إلا الفأر " وأجاب الجمهور عن ذلك بأنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك قبل أن يوحى إليه بحقيقة الأمر في ذلك، ولذلك لم يأت الجزم عنه بشيء من ذلك، بخلاف النفي فإنه جزم به كما في حديث ابن مسعود، ولكن لا يلزم أن تكون القرود المذكورة من النسل، فيحتمل أن يكون الذين مسخوا لما صاروا على هيئة القردة مع بقاء أفهامهم عاشرتهم القردة الأصلية للمشابهة في الشكل فتلقوا عنهم بعض ما شاهدوه من أفعالهم فحفظوها وصارت فيهم، واختص القرد بذلك لما فيه من الفطنة الزائدة على غيره من الحيوان وقابلية التعليم لكل صناعة مما ليس لأكثر الحيوان، ومن خصاله أنه يضحك ويطرب ويحكي ما يراه، وفيه من شدة الغيرة ما يوازي الآدمي ولا يتعدى أحدهم إلى غير زوجته، فلا يدع في الغالب أن يحملها ما ركب فيها من غيرة على عقوبة من اعتدى إلى ما لم يختص به من الأنثى، ومن خصائصه أن الأنثى تحمل أولادها كهيئة الآدمية، وربما مشى القرد على رجليه لكن لا يستمر على ذلك، ويتناول الشيء بيده ويأكل بيده، وله أصابع مفصلة إلى أنامل وأظفار، ولشفر عينيه أهداب. وقد استنكر ابن عبد البر قصة عمرو بن ميمون هذه وقال: فيها إضافة الزنا إلى غير مكلف وإقامة الحد على البهائم وهذا منكر عند أهل العلم، قال: فإن كانت الطريق صحيحة فلعل هؤلاء كانوا من الجن لأنهم من جملة المكلفين، وإنما قال ذلك لأنه تكلم على الطريق التي أخرجها الإسماعيلي حسب، وأجيب بأنه لا يلزم من كون صورة الواقعة صورة الزنا والرجم أن يكون ذلك زنا حقيقة ولا حدا، وإنما أطلق ذلك عليه لشبهه به، فلا يستلزم ذلك إيقاع التكليف على الحيوان. وأغرب الحميدي في الجمع بين الصحيحين فزعم أن هذا الحديث وقع في بعض نسخ البخاري، وأن أبا مسعود وحده ذكره في "الأطراف" قال: وليس في نسخ البخاري أصلا فلعله من الأحاديث المقحمة في كتاب البخاري. وما قاله مردود، فإن الحديث المذكور في معظم الأصول التي وقفنا عليها،

(7/160)


وكفى بإيراد أبي ذر الحافظ له عن شيوخه الثلاثة الأئمة المتقنين عن الفربري حجة، وكذا إيراد الإسماعيلي وأبي نعيم في مستخرجيهما وأبي مسعود له في أطرافه، نعم سقط من رواية النسفي وكذا الحديث الذي بعده، ولا يلزم من ذلك أن لا يكون في رواية الفربري، فإن روايته تزيد على رواية النسفي عدة أحاديث قد نبهت على كثير منها فيما مضى وفيما سيأتي إن شاء الله تعالى، وأما تجويزه أن يزاد في صحيح البخاري ما ليس منه فهذا ينافي ما عليه العلماء من الحكم بتصحيح جميع ما أورده البخاري في كتابه، ومن اتفاقهم على أنه مقطوع بنسبته إليه، وهذا الذي قاله تخيل فاسد يتطرق منه عدم الوثوق بجميع ما في الصحيح، لأنه إذا جاز في واحد لا بعينه جاز في كل فرد فرد، فلا يبقى لأحد الوثوق بما في الكتاب المذكور، واتفاق العلماء ينافي ذلك، والطريق التي أخرجها البخاري دافعة لتضعيف ابن عبد البر للطريق التي أخرجها الإسماعيلي، وقد أطنبت في هذا الموضع لئلا يغتر ضعيف بكلام الحميدي فيعتمده، وهو ظاهر الفساد، وقد ذكر أبو عبيدة معمر بن المثنى في "كتاب الخيل" له من طريق الأوزاعي أن مهرا أنزي على أمه فامتنع، فأدخلت في بيت وجللت بكساء وأنزي عليها فنزى، فلما شم ريح أمه عمد إلى ذكره فقطعه بأسنانه من أصله، فإذا كان هذا الفهم في الخيل مع كونها أبعد في الفطنة من القرد فجوازها في القرد أولى. قوله: "عن عبيد الله" بالتصغير وهو ابن أبي يزيد المكي. قوله: "عن ابن عباس"1 في نسخة أنس وهو غلط. قوله: "خلال من خلال الجاهلية" أي من خصال. قوله: "الطعن في الأنساب" أي القدح من بعض الناس في نسب بعض بغير علم. قوله: "والنياحة" أي على الميت، وقد تقدم ذكر حكمها في كتاب الجنائز في" باب ما يكره من النياحة على الميت" وقد تقدم هناك الكلام على حديث أنس" ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية". قوله: "ونسي الثالثة" وقع في رواية ابن أبي عمر عن سفيان" ونسي عبيد الله الثالثة" فعين الناسي أخرجه الإسماعيلي. قوله: "ويقولون إنها الاستسقاء بالأنواء" أي يقولون: مطرنا بنوء كذا، وقد تقدم شرح ذلك في كتاب الاستسقاء، ووقع عند أبي نعيم من رواية شريح بن يونس عن سفيان مدرجا ولفظه: "والأنواء" ولم يقل" ونسي إلخ" ومن رواية عبد الجبار بن العلاء عن سفيان بدل قوله: ونسي الثالثة" والتفاخر بالأحساب" وهو وهم منهما، لما بينته رواية ابن أبي عمر، وعلي شيخ البخاري فيه هو ابن المديني، وقد جاء من حديث أنس ذكر هذه الثلاثة، وهي الطعن والنياحة والاستسقاء أخرجه أبو يعلى بإسناد قوي، وجاء عن ابن عباس من وجه آخر ذكر فيه الخصال الأربع أخرجه ابن عدي من طريق عمر بن راشد عن يحيى بن أبي كثير عن عكرمة عنه، والمحفوظ في هذا ما أخرجه مسلم وابن حبان وغيرهما من طريق أبان بن يزيد وغيره عن يحيى بن أبي كثير عن زيد بن سلام عن أبي سلام عن أبي مالك الأشعري مرفوعا بلفظ: "أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالأنواء؛ والنياحة".
"خاتمة": اشتملت أحاديث المناقب وما اتصل بها من ذكر بعض ما وقع قبل البعث من الأحاديث المرفوعة على مائتي حديث وثلاثة وثلاثين حديثا، المعلق منها ثلاثة وثلاثون طريقا والبقية موصولة، المكرر منها فيه وفيما مضى
ـــــــ
1 الذي في نسخ الصحيح سمع بن عباس

(7/161)


مائة وثمانية وثلاثون حديثا والخالص خمسة وتسعون حديثا، وافقه مسلم على تخريجها سوى حديث عائشة" كان أبو بكر في الغار" وحديث ابن عباس فيه، وحديث أبي سعيد فيه، وحديث ابن عمر "كنا نخير" وحديث ابن الزبير "لو كنت متخذا خليلا" وحديث ابن عمار "وما معه إلا خمسة" وحديث أبي الدرداء" قد غامر"، وحديث عائشة في طرف من حديث السقيفة، وحديث علي "خير الناس"، وحديث عبد الله بن عمرو "أشد ما صنع المشركون"، وحديث ابن مسعود "ما زلنا أعزة" وحديث ابن عمر في شأن عمر، وحديث عبد الله بن هشام فيه، وحديث عثمان "ما بايعت"، وحديث علي "اقضوا كما كنتم تقضون"، وحديث أبي هريرة في جعفر، وحديث ابن عمر فيه، وحديث أبي بكر "ارقبوا" وحديثه "لقرابة رسول الله أحب إلي"، وحديث عثمان في الزبير، وحديث ابن عباس فيه، وحديث الزبير في اليرموك، وحديث طلحة وسعد، وحديث مس يد طلحة، وحديث سعد في إسلامه، وحديث ابن عمر في ابن أسامة، وحديث أسامة"إني أحبهما"، وحديث أنس في الحسين، وحديثه في الحسن، وحديث ابن عمر فيهما، وحديث عمر في بلال، وحديث حذيفة في ابن مسعود، وحديث معاوية في الوتر، وحديث ابن عباس في عائشة، وحديث عمار فيها، وحديث أنس في الأنصار، وحديث زيد بن أرقم فيهم، وحديث سعد في عبد الله بن سلام، وحديث ابن سلام مع أبي بردة، وحديث ابن عمر، وحديث ابن عمر في زيد بن عمرو، وحديث أسماء فيه، وحديث ابن الزبير في بناء المسجد الحرام، وحديث جد سعيد بن المسيب، وحديث أبي بكر مع امرأة من أحمس، وحديث عائشة في القيام للجنازة، وحديث ابن عباس في كأسا دهاقا، وحديث أبي بكر مع الذي تكهن، وحديث ابن عباس في القسامة، وحديثه في السعي، وحديثه في الحطيم، وحديث عمرو بن ميمون في القردة، وحديث ابن عباس" ثلاث من خلال الجاهلية" فجملة ذلك اثنان وخمسون حديثا ما بين معلق وموصول، فوافقه منها على ثلاثة وأربعين حديثا فقط، والسبب في ذلك أن الكثير منها صورته أنه موقوف وإن كان قد يتمحل له حكم المرفوع، ومسلم في الغالب يحرص على تخريج الأحاديث الصريحة في الرفع. وفيه من الآثار عن الصحابة فمن بعدهم سبعة عشر أثرا، والله سبحانه وتعالى أعلم.

(7/162)


28 - باب مَبْعَثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيِّ بْنِ كِلاَبِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعبِ بْنِ لؤَيِّ بْنِ غالِبِ بْنِ فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ مُدْرِكَةَ بْنِ إِلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعَدِّ بْنِ عَدْنَانَ
3851- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ ابْنُ أَبِي رَجَاءٍ حَدَّثَنَا النَّضْرُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ "أُنْزِلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعِينَ فَمَكَثَ بِمَكَّةَ ثَلاَثَ عَشْرَةَ سَنَةً ثُمَّ أُمِرَ بِالْهِجْرَةِ فَهَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَمَكَثَ بِهَا عَشْرَ سِنِينَ ثُمَّ تُوُفِّيَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
[الحديث 3851- أطرافه في 4979,4465,3903,3902]

(7/162)


قوله: "باب مبعث النبي صلى الله عليه وسلم" المبعث من البعث، وأصله الإثارة، ويطلق على التوجيه في أمر ما، رسالة أو حاجة، ومنه: بعثت البعير إذا أثرته من مكانه، وبعثت العسكر إذا وجهتهم للقتال، وبعثت النائم من نومه إذا أيقظته. قد تقدم في أول الكتاب في الكلام على حديث عائشة كثير مما يتعلق بهذه الترجمة، وساق المصنف هنا النسب الشريف. قوله: "محمد" ذكر البيهقي في "الدلائل" بإسناد مرسل" أن عبد المطلب لما ولد النبي صلى الله عليه وسلم عمل له مأدبة، فلما أكلوا سألوا ما سميته؟ قال محمدا، قالوا فما رغبت به عن أسماء أهل بيته؟ قال: أردت أن يحمده الله في السماء وخلقه في الأرض". قوله: "ابن عبد الله" لم يختلف في اسمه، واختلف متى مات؟ فقيل مات قبل أن يولد النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل بعد أن ولد، والأول أثبت. واختلف في مقدار عمره صلى الله عليه وسلم لما مات أبوه، والراجح أنه دون السنة. قوله: "ابن عبد المطلب" اسمه شيبة الحمد عند الجمهور، وزعم ابن قتيبة أن اسمه عامر، وسمي عبد المطلب واشتهر بها لأن أباه لما مات بغزة كان خرج إليها تاجرا فترك أم عبد المطلب بالمدينة، فأقامت عند أهلها من الخزرج فكبر عبد المطلب، فجاء عمه المطلب فأخذه ودخل به مكة فرآه الناس مردفه فقالوا: هذا عبد المطلب، فغلبت عليه في قصة طويلة ذكرها ابن إسحاق وغيره. قوله: "ابن هاشم" اسمه عمرو، وقيل له هاشم لأنه أول من هشم الثريد لأهل الموسم ولقومه أولا في سنة المجاعة، وفيه يقول الشاعر:
عمرو العلا هشم الثريد لقومه ... ورجال مكة مسنتون عجاف
قوله: "ابن عبد مناف" اسمه المغيرة، روى السراج في تاريخه من طريق أحمد بن حنبل "سمعت الشافعي يقول: اسم عبد المطلب شيبة الحمد، واسم هاشم عمرو، واسم عبد مناف المغيرة، واسم قصي زيد".
قوله: "ابن قصي" بصيغة التصغير، تلقب بذلك لأنه بعد عن ديار قومه في بلاد قضاعة في قصة طويل ذكرها ابن إسحاق. قوله: "ابن كلاب" بكسر أوله وتخفيف اللام، قال السهيلي: هو منقول من المصدر الذي في معنى المكالبة، تقول: كالبت فلانا مكالبة وكلابا، أو هو بلفظ جمع كلب كما تسمت العرب بسباع وأنمار وغير ذلك انتهى. وذكر ابن سعد أن اسمه المهذب، وزعم محمد بن سعد أن اسمه حكيم، وقيل عروة وأنه لقب كلابا لمحبته كلاب الصيد وكان يجمعها فمن مرت به فسأل عنها قيل له هذه كلاب ابن مرة فلقب كلابا. قوله: "ابن مرة" قال السهيلي: منقول من وصف الحنظلة، أو الهاء للمبالغة والمراد أنه قوي. قوله: "ابن كعب" قال السهيلي: قيل بذلك لستره على قومه ولين جانبه لهم، منقول من كعب القدم. وقال ابن دريد: من كعب القناة، وكذا قال غيره سمي بذلك لارتفاعه على قومه وشرفه فيهم فلذلك كانوا يخضعون له حتى أرخوا بموته، وهو أول من جمع قومه يوم الجمعة، وكانوا يسمونه يوم العروبة حتى جاء الإسلام. قوله: "ابن لؤي" قال ابن الأنباري: هو تصغير لأي بوزن عصا، واللأي هو الثور. وقال السهيلي: هو عندي لأي بوزن عبد وهو البطء، ويؤيده قول الشاعر:
فدونكم بني لأي أخاكم ... ودونك مالكا يا أم عمر
انتهى. وهذا قد ذكره ابن الأنباري أيضا احتمالا. وقد قال الأصمعي: هو تصغير لواء الجيش زيدت فيه همزة. قوله: "ابن غالب" لا إشكال فيه كما لا إشكال في مالك والنضر. قوله: "ابن فهر" قيل هو قريش، نقل الزبير عن الزهري أن أمه سمته به، وسماه أبوه فهرا، وقيل فهر لقبه، وقيل بالعكس، والفهر الحجر الصغير. قوله: "ابن

(7/163)


كنانة" هو بلفظ وعاء السهام إذا كانت من جلود قاله ابن دريد، عن أبي عامر العدواني أنه قال: رأيت كنانة بن خزيمة شيخا مسنا عظيم القدر تحج إليه العرب لعلمه وفضله بينهم. قوله: "ابن خزيمة" تصغير خزمة بمعجمتين مفتوحتين وهي مرة واحدة من الخزم وهو شد الشيء وإصلاحه. وقال الزجاجي: يجوز أن يكون من الجزم بفتح ثم سكون تقول خزمته فهو مخزوم إذا أدخلت في أنفه الخزام. قوله: "ابن مدركة" اسمه عمرو عند الجمهور. وقال ابن إسحاق: عامر. قوله: "ابن إلياس" بكسر الهمزة عند ابن الأنباري، قال وهو إفعال من قولهم أليس الشجاع الذي لا يفر، قال الشاعر أليس كالنشوان وهو صاحي وقال غيره: هو بهمزة وصل وهو ضد الرجاء واللام فيه للمح الصفة، قاله قاسم بن ثابت وأنشد قول قصي: أمهتي خندف واليأس أبي قوله: "ابن مضر" قيل سمي بذلك لأنه كان يحب شرب اللبن الماضر وهو الحامض، وقيل سمي بذلك لبياضه، وقيل لأنه كان يمضر القلوب لحسنه وجماله. قوله: "ابن نزار" هو من النزر أي القليل، قال أبو الفرج الأصبهاني: سمي بذلك لأنه كان فريد عصره. قوله: "ابن معد" بفتح الميم والمهملة وتشديد الدال، قال ابن الأنباري: يحتمل أن يكون مفعلا من العد، أو هو من معد في الأرض إذا أفسد، قال الشاعر: وخاربين خربا فمعدا وقيل غير ذلك. قوله: "ابن عدنان" بوزن فعلان من العدن تقول عدن أقام، وقد روى أبو جعفر بن حبيب في تاريخه" المحبر" من حديث ابن عباس قال: "كان عدنان ومعد وربيعة ومضر وخزيمة وأسد على ملة إبراهيم، فلا تذكروهم إلا بخير" وروى الزبير بن بكار من وجه آخر مرفوعا: "لا تسبوا مضر ولا ربيعة فأنهما كانا مسلمين" وله شاهد عند ابن حبيب من مرسل سعيد بن المسيب. "تنبيه": اقتصر البخاري من النسب الشريف على عدنان، وقد أخرج في التاريخ عن عبيد بن يعيش عن يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق مثل هذا النسب، وزاد بعد عدنان" ابن أدد بن المقوم بن تارح بن يشجب بن يعرب بن نابت بن إسماعيل بن إبراهيم" وقد قدمت في أول الترجمة النبوية الاختلاف فيمن بين عدنان وإبراهيم وفيمن بين إبراهيم وآدم بما يغني عن الإعادة. وأخرج ابن سعد من حديث ابن عباس" أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا انتسب لم يجاوز في نسبه معد بن عدنان". قوله: "حدثنا النضر" هر ابن شميل. قوله: "عن هشام" هو ابن حسان. قوله: "عن عكرمة" في رواية روح عن هشام الآتية في الهجرة "حدثنا عكرمة". قوله: "أنزله على رسوله الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن أربعين" هذا هو المقصود من هذا الحديث في هذا الباب، وهو متفق عليه، وقد مضى في صفة النبي صلى الله عليه وسلم حديث أنس" أنه صلى الله عليه وسلم بعث على رأس أربعين" وتقدم في بدء الوحي أنه أنزل عليه في شهر رمضان، فعلى الصحيح المشهور أن مولده في شهر ربيع الأول يكون حين أنزل عليه ابن أربعين سنة وستة أشهر، وكلام ابن الكلبي يؤذن بأنه ولد في رمضان فإنه قال: مات وله اثنتان وستون سنة ونصف سنة، وقد أجمعوا على أنه مات في ربيع الأول فيستلزم ذلك أن يكون ولد في رمضان، وبه جزم الزبير بن بكار وهو شاذ، وفي مولده أقوال أخرى أشد شذوذا من هذا. قوله: "بمكة ثلاث عشرة سنة" هذا أصح مما رواه مسلم من طريق عمار بن أبي عمار عن ابن عباس" أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام بمكة خمس عشرة سنة" وسيأتي البحث في ذلك في أبواب الهجرة إن شاء الله تعالى.

(7/164)


باب مالقى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المشركين بمكه
...
29 - باب مَا لَقِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ بِمكَّةَ
3852- حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا بَيَانٌ وَإِسْمَاعِيلُ قَالاَ سَمِعْنَا قَيْسًا يَقُولُ سَمِعْتُ خَبَّابًا يَقُولُ

(7/164)


"أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً وَهُوَ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ وَقَدْ لَقِينَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ شِدَّةً فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلاَ تَدْعُو اللَّهَ فَقَعَدَ وَهُوَ مُحْمَرٌّ وَجْهُهُ فَقَالَ "لَقَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ لَيُمْشَطُ بِمِشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ عِظَامِهِ مِنْ لَحْمٍ أَوْ عَصَبٍ مَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ وَيُوضَعُ الْمِنْشَارُ عَلَى مَفْرِقِ رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَيْنِ مَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ وَلَيُتِمَّنَّ اللَّهُ هَذَا الأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ مَا يَخَافُ إلاَّ اللَّهَ" زَادَ بَيَانٌ "وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ"
3854- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الأَسْوَدِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "قَرَأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّجْمَ فَسَجَدَ فَمَا بَقِيَ أَحَدٌ إِلاَّ سَجَدَ إِلاَّ رَجُلٌ رَأَيْتُهُ أَخَذَ كَفًّا مِنْ حَصًا فَرَفَعَهُ فَسَجَدَ عَلَيْهِ وَقَالَ هَذَا يَكْفِينِي فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ بَعْدُ قُتِلَ كَافِرًا بِاللَّهِ"
3854- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "بَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاجِدٌ وَحَوْلَهُ نَاسٌ مِنْ قُرَيْشٍ جَاءَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ بِسَلَى جَزُورٍ فَقَذَفَهُ عَلَى ظَهْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَرْفَعْ رَأْسَهُ فَجَاءَتْ فَاطِمَةُ عَلَيْهَا السَّلاَم فَأَخَذَتْهُ مِنْ ظَهْرِهِ وَدَعَتْ عَلَى مَنْ صَنَعَ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ عَلَيْكَ الْمَلاَ مِنْ قُرَيْشٍ أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ وَعُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ وَشَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ وَأُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ أَوْ أُبَيَّ بْنَ خَلَفٍ شُعْبَةُ الشَّاكُّ فَرَأَيْتُهُمْ قُتِلُوا يَوْمَ بَدْرٍ فَأُلْقُوا فِي بِئْرٍ غَيْرَ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ أَوْ أُبَيٍّ تَقَطَّعَتْ أَوْصَالُهُ فَلَمْ يُلْقَ فِي الْبِئْرِ"
3855- حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ أَوْ قَالَ حَدَّثَنِي الْحَكَمُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ أَمَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبْزَى قَالَ سَلْ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مَا أَمْرُهُمَا [الأنعام 151,الإسراء 33]: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ} [93 النساء]: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً} فَسَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ لَمَّا أُنْزِلَتْ الَّتِي فِي الْفُرْقَانِ قَالَ مُشْرِكُو أَهْلِ مَكَّةَ فَقَدْ قَتَلْنَا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ وَدَعَوْنَا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَقَدْ أَتَيْنَا الْفَوَاحِشَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ [الفرقان 70] {إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ} الْآيَةَ فَهَذِهِ لِأُولَئِكَ وَأَمَّا الَّتِي فِي النِّسَاءِ[93] الرَّجُلُ إِذَا عَرَفَ الإِسْلاَمَ وَشَرَائِعَهُ ثُمَّ قَتَلَ فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ فَذَكَرْتُهُ لِمُجَاهِدٍ فَقَالَ إِلاَّ مَنْ نَدِمَ"
[الحديث 3855- أطرافه في: 4766,4765,4764,4763,4762,4590]
3856- حَدَّثَنَا عَيَّاشُ بْنُ الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنِي الأَوْزَاعِيُّ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ قَالَ حَدَّثَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ قَالَ سَأَلْتُ ابْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَخْبِرْنِي بِأَشَدِّ شَيْءٍ

(7/165)


صَنَعَهُ الْمُشْرِكُونَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "بَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي فِي حِجْرِ الْكَعْبَةِ إِذْ أَقْبَلَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ فَوَضَعَ ثَوْبَهُ فِي عُنُقِهِ فَخَنَقَهُ خَنْقًا شَدِيدًا فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى أَخَذَ بِمَنْكِبِهِ وَدَفَعَهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} الْآيَةَ [28 غافر] تَابَعَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عُرْوَةَ عَنْ عُرْوَةَ قُلْتُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَقَالَ عَبْدَةُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ قِيلَ لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ أَبِي سَلَمَةَ حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ"
قوله: "باب ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المشركين بمكة" أي من وجه الأذى، وذكر فيه أحاديث في المعنى، وقد تقدم في "ذكر الملائكة" من بدء الخلق حديث عائشة أنها" قالت للنبي صلى الله عليه وسلم هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ قال: لقد لقيت من قومك، وكان أشد ما لقيت: منهم " فذكر قصته بالطائف. وروى أحمد والترمذي وابن حبان من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد أوذيت في الله وما يؤذي أحد، وأخفت في الله وما يخاف أحد" الحديث. وأخرج ابن عدي من حديث جابر رفعه: "ما أوذي أحد ما أوذيت" ذكره في ترجمة يوسف بن محمد بن المنكدر عن أبيه عن جابر، ويوسف ضعيف، وقد استشكل بما جاء من صفات ما أوذي به الصحابة كما سيأتي لو ثبت، وهو محمول على معنى حديث أنس، وقيل معناه أنه أوحي إليه ما أوذي به من قبله فتأذى بذلك زيادة على ما آذاه قومه به، وروى ابن إسحاق من حديث ابن عباس وذكر الصحابة فقال: "والله كانوا ليضربون أحدهم ويجيعونه ويعطشونه حتى ما يقدر أن يستوي جالسا من شدة الضر، حتى يقولوا له: اللات والعزى إلهك من دون الله، فيقول: نعم" وروى ابن ماجه وابن حبان من طريق زر بن مسعود قال أول من أظهر إسلامه سبعة: رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمار، وأمه سمية، وصهيب، وبلال، والمقداد. فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعه الله بعمه، وأما أبو بكر فمنعه الله بقومه، وأما سائرهم فأخذهم المشركون فألبسوهم أدراع الحديد وأوقفوهم في الشمس" الحديث. وأجيب بأن جميع ما أوذي به أصحابه كان يتأذى هو به لكونه بسببه. واستشكل أيضا بما أوذي به الأنبياء من القتل كما في قصة زكريا وولده يحيى. ويجاب بأن المراد هنا غر إزهاق الروح. قوله: "حدثنا بيان" هو ابن بشر، وإسماعيل هو ابن أبي خالد، وقيس هو ابن أبي حازم، وخباب بالمعجمة والموحدتين الأولى ثقيلة. قوله: "بردة" كذا للأكثر بالتنوين، وللكشميهني بالهاء والأول أرجح فقد تقدم في" علامات النبوة" من وجه آخر بلفظ: "بردة له". قوله: "ألا تدعو الله لنا" زاد في الرواية التي في المبعث "ألا تستنصر لنا". قوله: "فقعد وهو محمر وجهه" أي من أثر النوم، ويحتمل أن يكون من الغضب وبه جزم ابن التين. قوله: "لقد كان من قبلكم ليمشط بمشاط الحديد" كذا للأكثر بكسر الميم، وللكشميهني: "أمشاط" هو جمع مشط بكسر الميم وبضمها، يقال مشاط وأمشاط كرماح وأرماح، وأنكر ابن دريد الكسر في المفرد، والأشهر في الجمع مشاط ورماح. قوله: "ما دون عظامه من لحم أو عصب" في الرواية الماضية ما دون لحمه من عظم أو عصب. قوله: "ويوضع الميشار" بكسر الميم وسكون التحتانية بهمز وبغير همز، تقول وشرت الخشبة وأشرتها، ويقال فيه بالنون وهي أشهر في الاستعمال

(7/166)


ووقع في الرواية الماضية" يحفر له في الأرض فيجعل فيها فيجاء بالمنشار" قال ابن التين: كان هؤلاء الذين فعل بهم ذلك أنبياء أو أتباعهم، قال: وكان في الصحابة من لو فعل به ذلك لصبر، إلى أن قال: وما زال خلق من الصحابة وأتباعهم فمن بعدهم يؤذون في الله، ولو أخذوا بالرخصة لساغ لهم. قوله: "وليتمن الله هذا الأمر" بالنصب، وفي الرواية الماضية "والله ليتمن هذا الأمر" بالرفع، والمراد بالأمر الإسلام. قوله: "زاد بيان: والذئب على غنمه" هذا يشعر بأن في الرواية الماضية إدراجا، فإنه أخرجها من طريق يحيى القطان عن إسماعيل وحده وقال في آخرها "ما يخاف إلا الله والذئب على غنمه"، وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق محمد بن الصباح بن أسلم وعبدة بن عبد الرحيم كلهم عن ابن عيينة به مدرجا، وطريق الحميدي أصح، وقد وافقه ابن أبي عمر أخرجه الإسماعيلي من طريقه مفصلا أيضا. "تنبيه": قوله: "والذئب" هو بالنصب عطفا على المستثنى منه لا المستثنى، كذا جزم به الكرماني، ولا يمتنع أن يكون عطفا على المستثنى، والتقدير: ولا يخاف إلا الذئب على غنمه، لأن مساق الحديث إنما هو للأمن من عدوان بعض الناس على بعض كما كانوا في الجاهلية، لا للأمن من عدوان الذئب فإن ذلك إنما يكون في آخر الزمان عند نزول عيسى. حديث ابن مسعود قرأ النبي صلى الله عليه وسلم النجم فسجد" سبق الكلام عليه في سجود القرآن من كتاب الصلاة، ويأتي بقيته في تفسير سورة النجم، وقد تقدم هناك تسمية الذي لم يسجد، وزعم الواقدي أن ذلك كان في رمضان سنة خمس من المبعث. "تنبيه": كان حق هذا الحديث أن يذكر في "باب الهجرة إلى الحبشة" المذكور بعد قليل فسيأتي فيها أن سجود المشركين المذكور فيه سبب رجوع من هاجر الهجرة الأولى إلى الحبشة لظنهم أن المشركين كلهم أسلموا، فلما ظهر لهم خلاف ذلك هاجروا الهجرة الثانية. حديث ابن مسعود في قصة عقبة بن أبي معيط وإلقائه سلا الجزور على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم وهو ساجد، وقد سبق الكلام عليه مستوفى في أواخر كتاب الوضوء. "تنبيه": كانت هذه القصة بعد الهجرة الثانية إلى الحبشة، لأن من جملة من دعى عليه عمارة بن الوليد أخو أبي جهل، وقد ذكر ابن إسحاق وغيره أن قريشا بعثوه مع عمرو بن العاص إلى النجاشي ليرد إليهم من هاجر إليه فلم يفعل، واستمر عمارة بالحبشة إلى أن مات. "تنبيه آخر": أغرب الشيخ عماد الدين بن كثير فزعم أن الحديث الوارد عن خباب عند مسلم وأصحاب السنن" شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حر الرمضاء فلم يشكنا" طرف من حديث الباب، وأن المراد أنهم شكوا ما يلقونه من المشركين من تعذيبهم بحر الرمضاء وغيره، فسألوه أن يدعو على المشركين فلم يشكهم، أي لم يزل شكواهم، وعدل إلى تسليتهم بمن مضى ممن قبلهم، ولكن وعدهم بالنصر انتهى. ويبعد هذا الحمل أن في بعض طرق حديث مسلم عند ابن ماجه: "الصلاة في الرمضاء" وعند أحمد "يعني الظهر وقال: إذا زالت الشمس فصلوا" وبهذا تمسك من قال إنه ورد في تعجيل الظهر، وذلك قبل مشروعية الإيراد، وهو المعتمد، والله أعلم. "تنبيه آخر": عبد الله المذكور هو ابن مسعود جزما، وذكر ابن التين أن الداودي قال: الظاهر أنه عبد الله بن مسعود لأنهم في الأكثر إنما يطلقون عبد الله غير منسوب عليه. قلت: وليس ذلك مطردا، وإنما يعرف ذلك من جهة الرواة، وبسط ذلك مقرر في علوم الحديث، وقد صنف فيه الخطيب كتابا حافلا سماه "المجمل لبيان المهمل" ووقع في شرح شيخنا ابن الملقن أن الداودي قال: لعله عبد الله بن عمرو لا ابن عمر، ثم تعقبه بأن البخاري صرح في كتاب الصلاة بأنه ابن مسعود،

(7/167)


قلت: ولم أر ما نسبه إلى الداودي في كلام غيره فالله أعلم. حديث ابن عباس في توبة القاتل، وسيأتي شرحه في تفسير سورة النساء إن شاء الله تعالى، والغرض منه الإشارة إلى أن صنع المشركين بالمسلمين من قتل وتعذيب وغير ذلك سقط عنهم بالإسلام. "تنبيه": قوله هنا" ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق" كذا وقع في الرواية، والذي في التلاوة {وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} هكذا في سورة الفرقان [68] وهي التي ذكرت في بقية الحديث، فتعين أنها المراد في أوله، ويمكن الجواب عن ذلك والله أعلم. حديث عبد الله بن عمرو بن العاص وأبيه عمرو بن العاص على الاختلاف في ذلك. قوله: "حدثنا عياش ابن الوليد حدثنا الوليد بن مسلم" عياش شيخه بالتحتانية والمعجمة هو الرقام، وله شيخ آخر لا ينسبه في غالب ما يخرج عنه، قال الجياني: وقع هنا عند الأصيلي غير مقيد، وزعم بعضهم أنه العباس بن الوليد بن مربد وهو بالموحدة والمهملة، ثم نقل عن أبي زفر1 أن البخاري ومسلما ما أخرجا لابن مربد شيئا، قال: ولا أعلم له رواية عن الوليد بن مسلم. قوله: "حدثني يحيى بن أبي كثير عن محمد بن إبراهيم" في رواية علي بن المديني الآتية في تفسير غافر" حدثني محمد بن إبراهيم". قوله: "حدثني عروة" كذا قال الوليد بن مسلم، وخالفه أيوب بن خالد الحراني فقال: "عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير حدثني أبو سلمة قال: قلت لعبد الله بن عمرو" أخرجه الإسماعيلي، وقول الوليد أرجح. قوله: "سألت ابن عمرو" في رواية علي المذكورة"قلت لعبد الله بن عمرو". قوله: "بأشد شيء صنعه إلخ" هذا الذي أجاب به عبد الله بن عمرو ويخالف ما تقدم في "ذكر الملائكة" من حديث عائشة أنه صلى الله عليه وسلم قال لها " وكان أشد ما لقيت من قومك" فذكر قصته بالطائف مع ثقيف. والجمع بينهما أن عبد الله بن عمرو استند إلى ما رواه، ولم يكن حاضرا للقصة التي وقعت بالطائف. وقد روى الزبير بن بكار والدار قطني في "الأفراد" من طريق عبد الله بن عروة عن عروة" حدثني عمرو بن عثمان عن أبيه عثمان قال: أكثر ما نالت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم أني رأيته يوما، قال: وذرفت عينا عثمان فذكر قصة يخالف سياقها حديث عبد الله بن عمرو هذا، فهذا الاختلاف ثابت على عروة في السند، لكن سنده ضعيف، فإن كان محفوظا حمل على التعدد، وليس ببعيد لما سأبينه. قوله: "يصلي في حجر الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فوضع ثوبه في عنقه فخنقه" في حديث عثمان المذكور "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت ويده في يد أبي بكر، وفي الحجر عقبة بن أبي معيط وأبو جهل وأمية بن خلف فمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسمعوه بعض ما يكره ثلاث مرات، فلما كان في الشوط الرابع ناهضوه، وأراد أبو جهل أن يأخذ بمجامع ثوبه فدفعته، ودفع أبو بكر أمية بن خلف، ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم عقبة" فهذا السياق مغاير لحديث عبد الله بن عمرو، وفي حديث عبد الله قول أبي بكر" أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله؟" وفي حديث عثمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم " أما والله لا تنتهون حتى يحل بكم العقاب عاجلا، فأخذتهم الرعدة" الحديث، وهذا يقوي التعدد. قوله: "تابعه ابن إسحاق" قال: "حدثني يحيى بن عروة إلخ" وصله أحمد من طريق إبراهيم بن سعد والبزار من طريق بكر بن سليمان كلاهما عن ابن إسحاق بهذا السند، وفي أول سياقه من الزيادة قال: "حضرتهم وقد اجتمع أشرافهم في الحجر فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ما رأينا مثل صبرنا عليه، سفه أحلامنا، وشتم آباءنا، وغير
ـــــــ
1 في هامش طبعة بولاق: في نسخة "عن أبي ذر"

(7/168)


ديننا، وفرق جماعتنا. فبينما هم في ذلك إذ أقبل، فاستلم الركن، فلما مر بهم غمزوه، وذكر أنه قال لهم في الثالثة" لقد جئتكم بالذبح" وأنهم قالوا له" يا أبا القاسم ما كنت جاهلا، فانصرف راشدا، فانصرف. فلما كان من الغد اجتمعوا فقالوا: ذكرتم ما بلغ منكم حتى إذا أتاكم بما تكرهون تركتموه، فبينما هم كذلك إذ طلع فقالوا: قوموا إليه وثبة رجل واحد، قال: فلقد رأيت رجلا منهم أخذ بمجامع ثيابه، وقام أبو بكر دونه وهو يبكي فقال: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله؟ ثم انصرفوا عنه". قوله: "وقال عبدة عن هشام" أي ابن عروة "عن أبيه قيل لعمرو بن العاص" هكذا خالف هشام بن عروة أخاه يحيى بن عروة في الصحابي، فقال يحيى: "عبد الله بن عمرو" وقال هشام: "عمرو بن العاص" ويرجح رواية يحيى موافقة محمد بن إبراهيم التيمي عن عروة، على أن قول هشام غير مدفوع، لأن له أصلا من حديث عمرو بن العاص، بدليل رواية أبي سلمة عن عمرو الآتية عقب هذا، فيحتمل أن يكون عروة سأله مرة وسأل أباه أخرى، ويؤيده اختلاف السياقين، وقد ذكرت أن عبد الله بن عروة رواه عن أبيه بإسناد آخر عن عثمان فلا مانع من التعدد، نعم لم تتفق الرواة عن هشام على قوله: "عمرو بن العاص" فإن سليمان بن بلال وافق عبدة على ذلك، وخالفهما محمد بن فليح فقال: "عن هشام عن أبيه عن عبد الله بن عمرو" ذكره البيهقي. قوله: "وقال محمد بن عمرو عن أبي سلمة: حدثني عمرو بن العاص" وصله البخاري في "خلق أفعال العباد" من طريقه، وأخرجه أبو يعلى وابن حبان عنه من وجه آخر عن محمد بن عمرو ولفظه: "ما رأيت قريشا أرادوا قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا يوما أغروا به وهم في ظل الكعبة جلوس وهو يصلي عند المقام، فقام إليه عقبة فجعل رداءه في عنقه ثم جذبه لركبتيه وتصايح الناس، وأقبل أبو بكر يشتد حتى أخذ بضبع رسول الله صلى الله عليه وسلم من ورائه وهو يقول: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله؟ ثم انصرفوا عنه، فلما قضى صلاته مر بهم فقال: والذي بيده ما أرسلت إليكم إلا بالذبح، فقال له أبو جهل: يا محمد ما كنت جهولا، فقال: أنت منهم". ويدل على التعدد أيضا ما أخرجه البيهقي في "الدلائل" من حديث ابن عباس عن فاطمة عليها السلام قالت: "اجتمع المشركون في الحجر فقالوا: إذا مر محمد ضربه كل رجل منا ضربة، فسمعت ذلك فأخبرته فقال: اسكتي يا بنية. ثم خرج فدخل عليهم، فرفعوا رءوسهم ثم نكسوا، قالت فأخذ قبضة من تراب فرمى بها نحوهم ثم قال: شاهت الوجوه، فما أصاب رجلا منهم إلا قتل يوم بدر كافرا" وقد أخرج أبو يعلى والبزار بإسناد صحيح عن أنس قال: "لقد ضربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة حتى غشي عليه، فقام أبو بكر فجعل ينادي: ويلكم أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله؟ فتركوه وأقبلوا على أبي بكر" وهذا من مراسيل الصحابة، وقد أخرجه أبو يعلى بإسناد حسن مطولا من حديث أسماء بنت أبي بكر أنهم" قالوا لها ما أشد ما رأيت المشركين بلغوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم: "؟ فذكر نحو سياق ابن إسحاق المتقدم قريبا وفيه: "فأتى الصريخ إلى أبي بكر فقال: أدرك صاحك، فخرج من عندنا وله غدائر أربع وهو يقول: ويلكم، أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله؟ فلهوا عنه، وأقبلوا إلى أبي بكر، فرجع إلينا أبو بكر فجعل لا يمس شيئا من غدائره إلا رجع معه". ولقصة أبي بكر هذه شاهد من حديث علي أخرجه البزار من رواية محمد بن علي عن أبيه أنه خطب فقال: "من أشجع الناس؟ فقالوا: أنت قال: أما أني ما بارزني أحد إلا أنصفت منه، ولكنه أبو بكر، لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذته قريش فهذا يجؤه وهذا يتلقاه ويقولون له أنت تجعل الآلهة إلها واحدا، فو الله ما دنا منا أحد إلا أبو بكر يضرب هذا ويدفع هذا ويقول: ويلكم أتقتلون

(7/169)


رجلا أن يقول ربي الله؟، ثم بكى علي ثم قال. أنشدكم الله أمؤمن آل فرعون أفضل أم أبو بكر؟ فسكت القوم، فقال علي: والله لساعة من أبي بكر خير منه، ذاك رجل يكتم إيمانه، وهذا يعلن بإيمانه".

(7/170)


30 - باب إِسْلاَمُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
3857- حدثني عبد الله بن حماد الآملي قال حدثني يحيى بن معين حدثنا اسماعيل بن مجالد عن بيان بن وبرة عن همام بن الحارث قال"قال عمار بن ياسر: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومامعه إلآ خمسة أعبد وامرأتان وأبوبكر"
قوله: "باب إسلام أبي بكر الصديق رضي الله عنه" ذكر فيه حديث عمار، وقد تقدم شرحه في" مناقب أبي بكر رضي الله عنه" وعبد الله شيخه قال ابن السكن في روايته: "حدثني عبد الله بن محمد" فتوهم أبو علي الجياني أنه أراد المسندي فقال: لم يصنع شيئا. قلت: وفي كلامه نظر، فقد وقع في تفسير التوبة "حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا يحيى بن معين" لكن عمدة الجياني هنا أن أبا نصر الكلاباذي جزم بأن عبد الله هنا هو ابن حماد الآملي، وكذا وقع في رواية أبي ذر الهروي منسوبا، وهو عبد الله بن حماد، وهو من أقران البخاري، بل هو أصغر منه، فلقد لقي البخاري يحيى بن معين وهو أقدم من ابن معين، وبيان هو ابن بشر، ووبرة بفتح الواو والموحدة واكتفى بهذا الحديث لأنه لم يجد شيئا على شرطه غيره، وفيه دلالة على قدم إسلام أبي بكر إذ لم يذكر عمار أنه رأى مع النبي صلى الله عليه وسلم من الرجال غيره، وقد اتفق الجمهور على أن أبا بكر أول من أسلم من الرجال، وذكر ابن إسحاق أنه كان يتحقق أنه سيبعث، لما كان يسمعه ويرى من أدلة ذلك، فلما دعاه بادر إلى تصديقه من أول وهلة. "تنبيه": كان حق هذا الباب أن يكون متقدما جدا، إما في "باب المبعث" أو عقبه لكن وجهه هنا ما وقع في حديث عمرو بن العاص الذي قبله أنه قام بنصر النبي صلى الله عليه وسلم وتلا الآية المذكورة، فدل ذلك على أن إسلامه متقدم على غيره، بحيث أن عمارا مع تقدم إسلامه لم ير مع النبي صلى الله عليه وسلم غير أبي بكر وبلال، وعنى بذلك الرجال، وبلال إنما اشتراه أبو بكر لينقذه من تعذيب المشركين لكونه أسلم.

(7/170)


31 - باب إِسْلاَمُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
3858- حدثني إسحاق أخبرني أبو سلمة حدثنا هاشم قال سمعت سعيد بن المسيب قال سمعت أبا إسحاق سعد بن ابي وقاص يقول"ماأسلم أحد إلا في اليوم الذي أسلمت فيه, ولقد مكثت سبعة أيام وإني لثلث الإسلام".
قوله: "باب إسلام سعد" ذكر فيه حديثه، وقد تقدم شرحه في مناقبه مستوفى، ومناسبته لما قبله، واجتماعهما في أن كلا منهما يقتضي سبق من ذكر فيه إلى الإسلام خاصة، لكنه محمول على ما أطلع عليه، وإلا فقد أسلم قبل إسلام بلال وسعد خديجة وسعد بن حارثة وعلي بن أبي طالب وغيرهم.

(7/170)


32 - باب ذِكْرُ الْجِنِّ
وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنْ الْجِنِّ}
3859- حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ عَنْ مَعْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ سَمِعْتُ أَبِي قَالَ: "سَأَلْتُ مَسْرُوقًا مَنْ آذَنَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجِنِّ لَيْلَةَ اسْتَمَعُوا الْقُرْآنَ فَقَالَ حَدَّثَنِي أَبُوكَ يَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ أَنَّهُ آذَنَتْ بِهِمْ شَجَرَةٌ".
3860- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ أَخْبَرَنِي جَدِّي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّهُ كَانَ يَحْمِلُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِدَاوَةً لِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ فَبَيْنَمَا هُوَ يَتْبَعُهُ بِهَا فَقَالَ مَنْ هَذَا فَقَالَ أَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ فَقَالَ ابْغِنِي أَحْجَارًا أَسْتَنْفِضْ بِهَا وَلاَ تَأْتِنِي بِعَظْمٍ وَلاَ بِرَوْثَةٍ فَأَتَيْتُهُ بِأَحْجَارٍ أَحْمِلُهَا فِي طَرَفِ ثَوْبِي حَتَّى وَضَعْتُهَا إِلَى جَنْبِهِ ثُمَّ انْصَرَفْتُ حَتَّى إِذَا فَرَغَ مَشَيْتُ فَقُلْتُ مَا بَالُ الْعَظْمِ وَالرَّوْثَةِ قَالَ هُمَا مِنْ طَعَامِ الْجِنِّ وَإِنَّهُ أَتَانِي وَفْدُ جِنِّ نَصِيبِينَ وَنِعْمَ الْجِنُّ فَسَأَلُونِي الزَّادَ فَدَعَوْتُ اللَّهَ لَهُمْ أَنْ لاَ يَمُرُّوا بِعَظْمٍ وَلاَ بِرَوْثَةٍ إِلاَّ وَجَدُوا عَلَيْهَا طَعَمًا ".
قوله: "باب ذكر الجن" تقدم الكلام على الجن في أوائل بدء الخلق بما يغني عن إعادته. قوله: "وقول الله عز وجل: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ} الآية" يريد تفسير هذه الآية، وقد أنكر ابن عباس أنهم اجتمعوا بالنبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم في الصلاة من طريق أبي يشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: "ما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم على الجن ولا رآهم" الحديث، وحديث أبي هريرة في هذا الباب وإن كان ظاهرا في اجتماع النبي صلى الله عليه وسلم بالجن وحديثه معهم، لكنه ليس فيه أنه قرأ عليهم، ولا أنهم الجن الذين استمعوا القرآن. لأن في حديث أبي هريرة أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلتئذ، وأبو هريرة إنما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم في السنة السابعة المدينة، وقصة استماع الجن للقرآن كان بمكة قبل الهجرة، وحديث ابن عباس صريح في ذلك، فيجمع بين ما نفاه وما أثبته غيره بتعدد وفود الجن على النبي صلى الله عليه وسلم، فأما ما وقع في مكة فكان لاستماع القرآن والرجوع إلى قومهم منذرين كما وقع في القرآن، وأما في المدينة فللسؤال عن الأحكام، وذلك بين في الحديثين المذكورين، ويحتمل أن يكون القدوم الثاني كان أيضا بمكة، وهو الذي يدل عليه حديث ابن مسعود كما سنذكره، وأما حديث أبى هريرة فليس فيه تصريح بأن ذلك وقع بالمدينة، ويحتمل تعدد القدوم بمكة مرتين وبالمدينة أيضا، قال البيهقي: حديث ابن عباس حكى ما وقع في أول الأمر عندما علم الجن بحاله صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك الوقت لم يقرأ عليهم ولم يرهم، ثم أتاه داعي الجن مرة أخرى فذهب منه وقرأ عليهم القرآن كما حكاه عبد الله بن مسعود انتهى، وأشار بذلك إلى ما أخرجه أحمد والحاكم من طريق زر بن حبيش عن عبد الله بن مسعود قال: "هبطوا على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن ببطن نخل، فلما سمعوه قالوا: أنصتوا، وكانوا سبعة أحدهم زوبعة". قلت: وهذا يوافق حديث ابن عباس.وأخرج مسلم من طريق داود بن أبي هند عن الشعبي عن علقمة قال: "قلت لعبد الله بن مسعود: هل صحب أحد منكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن؟ قال: لا.

(7/171)


ولكنا فقدناه ذات ليلة فقلنا: اغتيل، استطير. فبتنا شر ليلة. فلما كان عند السحر إذا نحن به يجيء من قبل حراء، فذكرنا له، فقال: أتاني داعي الجن، فأتيتهم فقرأت عليهم ، فانطلق فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم" وقول ابن مسعود في هذا الحديث إنه لم يكن مع النبي صلى الله عليه وسلم أصح مما رواه الزهري" أخبرني أبو عثمان بن شيبة الخزاعي أنه سمع ابن مسعود يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه وهو بمكة: من أحب منكم أن ينظر الليلة أثر الجن فليفعل ، قال: فلم يحضر منهم أحد غيري، فلما كنا بأعلى مكة خط لي برجله خطا ثم أمرني أن أجلس فيه، ثم انطلق، ثم قرأ القرآن، فغشيته أسودة كثيرة حالت بيني وبينه حتى ما أسمع صوته، ثم انطلقوا وفرغ منهم مع الفجر فانطلق" الحديث، قال البيهقي: يحتمل أن يكون قوله في الصحيح "ما صحبه منا أحد" أراد به في حال إقرائه القرآن لكن قوله في الصحيح: إنهم فقدوه يدل على أنهم لم يعلموا بخروجه، إلا أن يحمل على أن الذي فقده غير الذي خرج معه، فالله أعلم. ولرواية الزهري متابع من طريق موسى بن علي بن رباح عن أبيه عن ابن مسعود قال: "استتبعني النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن نفرا من الجن خمسة عشر بني إخوة وبني عم يأتونني الليلة فأقرأ عليهم القرآن ، فانطلقت معه إلى المكان الذي أراد، فخط لي خطا" فذكر الحديث نحوه أخرجه الدار قطني وابن مردويه وغيرهما. وأخرج ابن مردويه من طريق أبي الجوزاء عن ابن مسعود نحوه مختصرا، وذكر ابن إسحاق أن استماع الجن كان بعد رجوع النبي صلى الله عليه وسلم من الطائف لما خرج إليها يدعو ثقيفا إلى نصره، وذلك بعد موت أبي طالب، وكان ذلك في سنة عشر من المبعث، كما جزم ابن سعد بأن خروجه إلى الطائف كان في شوال، وسوق عكاظ التي أشار إليها ابن عباس كانت تقام في ذي القعدة. وقول ابن عباس في حديثه "وهو يصلي بأصحابه" لم يضبط ممن كان معه في تلك السفرة غير زيد بن حارثة، فلعل بعض الصحابة تلقاه لما رجع، والله أعلم. وقول من قال إن وفود الجن كان بعد رجوعه صلى الله عليه وسلم من الطائف ليس صريحا في أولية قدوم بعضهم. والذي يظهر من سياق الحديث الذي فيه المبالغة في رمي الشهب لحراسة السماء من استراق الجن السمع دال على أن ذلك كان قبل المبعث النبوي وإنزال الوحي إلى الأرض، فكشفوا ذلك إلى أن وقفوا على السبب، ولذلك لم يقيد الترجمة بقدوم ولا وفادة، ثم لما انتشرت الدعوة وأسلم من أسلم قدموا فسمعوا فأسلموا وكان ذلك بين الهجرتين، ثم تعدد مجيئهم حتى في المدينة. قوله: "حدثني عبيد الله بن سعيد" هو أبو قدامة السرخسي، وهو بالتصغير مشهور بكنيته، وفي طبقته عبد الله بن سعيد مكبر وهو أبو سعيد الأشج. قوله: "عن معن بن عبد الرحمن" أي ابن عبد الله بن مسعود، وهو كوفي ثقة ما له في البخاري إلا هذا الموضع. قوله: "من آذن" بالمد أي أعلم. قوله: "أنه آذنت بهم شجرة" في رواية إسحاق بن راهويه في مسنده عن أبي أسامة بهذا الإسناد" آذنت بهم سمرة" بفتح المهملة وضم الميم. قوله: في حديث أبي هريرة "أخبرني جدي" هو سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص. قوله: "ابغني" قال ابن التين: هو موصول من الثلاثي تقول: بغيت الشيء طلبته وأبغيتك الشيء أعنتك على طلبه. قوله: "أحجارا استنفض بها" تقدم شرح ذلك في كتاب الطهارة. قوله: "وإنه أتاني وفد جن نصيبين" يحتمل أن يكون خبرا عما وقع في تلك الليلة، ويحتمل أن يكون خبرا عما مضى قبل ذلك. ونصيبين بلدة مشهورة بالجزيرة. ووقع في كلام ابن التين أنها بالشام وفيه تجوز، فإن الجزيرة بين الشام والعراق، ويجوز صرف نصيبين وتركه. قوله: "فسألوني الزاد" أي مما يفضل عن الأنس، وقد يتعلق به من يقول إن الأشياء قبل الشرع على الحظر حتى ترد الإباحة، ويجاب عنه بمنع الدلالة على ذلك، بل لا حكم قبل الشرع على الصحيح. قوله:

(7/172)


"فدعوت الله لهم أن لا يمروا بعظم ولا روثة إلا وجدوا عليها طعما" في رواية السرخسي " إلا وجدوا عليها طعاما" قال ابن التين: يحتمل أن يجعل الله ذلك عليها، ويحتمل أن يذيقهم منها طعاما. الطعام فيه على طعام الدواب.

(7/173)


33 - باب إِسْلاَمُ أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
3861- حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ عَبَّاسٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى عَنْ أَبِي جَمْرَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ لَمَّا بَلَغَ أَبَا ذَرٍّ مَبْعَثُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لِأَخِيهِ "ارْكَبْ إِلَى هَذَا الْوَادِي فَاعْلَمْ لِي عِلْمَ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ يَأْتِيهِ الْخَبَرُ مِنْ السَّمَاءِ وَاسْمَعْ مِنْ قَوْلِهِ ثُمَّ ائْتِنِي" فَانْطَلَقَ الأَخُ حَتَّى قَدِمَهُ وَسَمِعَ مِنْ قَوْلِهِ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى أَبِي ذَرٍّ فَقَالَ لَهُ رَأَيْتُهُ يَأْمُرُ بِمَكَارِمِ الأَخْلاَقِ وَكَلاَمًا مَا هُوَ بِالشِّعْرِ فَقَالَ مَا شَفَيْتَنِي مِمَّا أَرَدْتُ فَتَزَوَّدَ وَحَمَلَ شَنَّةً لَهُ فِيهَا مَاءٌ حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ فَأَتَى الْمَسْجِدَ فَالْتَمَسَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلاَ يَعْرِفُهُ وَكَرِهَ أَنْ يَسْأَلَ عَنْهُ حَتَّى أَدْرَكَهُ بَعْضُ اللَّيْلِ فَاضْطَجَعَ فَرَآهُ عَلِيٌّ فَعَرَفَ أَنَّهُ غَرِيبٌ فَلَمَّا رَآهُ تَبِعَهُ فَلَمْ يَسْأَلْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أَصْبَحَ ثُمَّ احْتَمَلَ قِرْبَتَهُ وَزَادَهُ إِلَى الْمَسْجِدِ وَظَلَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ وَلاَ يَرَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَمْسَى فَعَادَ إِلَى مَضْجَعِهِ فَمَرَّ بِهِ عَلِيٌّ فَقَالَ أَمَا نَالَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَعْلَمَ مَنْزِلَهُ فَأَقَامَهُ فَذَهَبَ بِهِ مَعَهُ لاَ يَسْأَلُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ عَنْ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ الثَّالِثِ فَعَادَ عَلِيٌّ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ فَأَقَامَ مَعَهُ ثُمَّ قَالَ أَلاَ تُحَدِّثُنِي مَا الَّذِي أَقْدَمَكَ قَالَ إِنْ أَعْطَيْتَنِي عَهْدًا وَمِيثَاقًا لَتُرْشِدَنِّي فَعَلْتُ فَفَعَلَ فَأَخْبَرَهُ قَالَ فَإِنَّهُ حَقٌّ وَهُوَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا أَصْبَحْتَ فَاتْبَعْنِي فَإِنِّي إِنْ رَأَيْتُ شَيْئًا أَخَافُ عَلَيْكَ قُمْتُ كَأَنِّي أُرِيقُ الْمَاءَ فَإِنْ مَضَيْتُ فَاتْبَعْنِي حَتَّى تَدْخُلَ مَدْخَلِي فَفَعَلَ فَانْطَلَقَ يَقْفُوهُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَخَلَ مَعَهُ فَسَمِعَ مِنْ قَوْلِهِ وَأَسْلَمَ مَكَانَهُ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ارْجِعْ إِلَى قَوْمِكَ فَأَخْبِرْهُمْ حَتَّى يَأْتِيَكَ أَمْرِي قَالَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَصْرُخَنَّ بِهَا بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ فَخَرَجَ حَتَّى أَتَى الْمَسْجِدَ فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ثُمَّ قَامَ الْقَوْمُ فَضَرَبُوهُ حَتَّى أَضْجَعُوهُ وَأَتَى الْعَبَّاسُ فَأَكَبَّ عَلَيْهِ قَالَ وَيْلَكُمْ أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ مِنْ غِفَارٍ وَأَنَّ طَرِيقَ تِجَارِكُمْ إِلَى الشَّأْمِ فَأَنْقَذَهُ مِنْهُمْ ثُمَّ عَادَ مِنْ الْغَدِ لِمِثْلِهَا فَضَرَبُوهُ وَثَارُوا إِلَيْهِ فَأَكَبَّ الْعَبَّاسُ عَلَيْهِ"
قوله: "باب إسلام أبي ذر الغفاري" هو جندب - وقيل بريد - ابن جنادة بضم الجيم والنون الخفيفة ابن سفيان - وقيل سفير - ابن عبيد بن حرام بالمهملتين ابن غفار، وغفار من بني كنانة. قوله: "حدثنا المثنى" هو ابن سعيد الضبعي، له في البخاري حديثان: هذا وآخر تقدم في ذكر بني إسرائيل، وأبو جمرة هو بالجيم نصر بن

(7/173)


عمران. قوله: "إن أبا ذر قال لأخيه" هو أنيس. قوله: "اركب إلى هذا الوادي" أي وادي مكة، وفي أول رواية أبي قتيبة الماضية في مناقب قريش" قال لنا ابن عباس: "ألا أخبركم بإسلام أبي ذر؟ قال: قلنا: بلى. قال: قال أبو ذر: كنت رجلا من غفار" وهذا السياق يقتضي أن ابن عباس تلقاه من أبي ذر، وقد أخرج مسلم قصة إسلام أبي ذر من طريق عبد الله بن الصامت عنه وفيها مغايرة كثيرة لسياق ابن عباس، ولكن الجمع بينهما ممكن وأول حديثه" خرجنا من قومنا غفار وكانوا يحلون الشهر الحرام، فخرجت أنا وأخي أنيس وأمنا، فنزلنا على خال لنا، فحسدنا قومه فقالوا له: إنك إذا خرجت عن أهلك خالف إليهم أنيس، فذكر لنا ذلك فقلنا له: أما ما مضى لنا من معروفك فقد كدرته، فتحملنا عليه، وجلس يبكي، فانطلقنا نحو مكة، فنافر أخي أنيس رجلا إلى الكاهن، فخير أنيسا، فأتانا بصرمتنا ومثلها معها، قال وقد صليت يا ابن أخي قبل أن ألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث سنين، قلت: لمن؟ قال: لله. قلت: فأين توجه؟ قال: حيث يوجهني ربي. قال: فقال لي أنيس: إن لي حاجة بمكة فانطلق، ثم جاء فقلت: ما صنعت؟ قال: لقيت رجلا بمكة على دينك، يزعم أن الله أرسله. قلت فما يقول الناس؟ قال يقولون: شاعر كاهن ساحر. وكان أنيس شاعرا، فقال: لقد سمعت كلام الكهنة فما هو بقولهم، ولقد وضعت قوله على أقراء الشعر فما يلتئم عليها، والله إنه لصادق. قلت: وهذا الظاهر مغاير لقوله في حديث الباب: "إن أبا ذر قال لأخيه ما شفيتني" ويمكن الجمع بأنه كان أراد منه أن يأتيه بتفاصيل من كلامه وأخباره فلم يأته إلا بمجمل. قوله: "فانطلق الأخ" في رواية الكشميهني: "فانطلق الآخر" أي أنيس، قال عياض: وقع عند بعضهم" فانطلق الأخ الآخر" والصواب الاقتصار على أحدهما لأنه لا يعرف لأبي ذر إلا أخ واحد وهو أنيس. قلت: وعند مسلم من طريق عبد الرحمن بن مهدي - أي عن المثنى -" فانطلق الآخر" حسب. قوله: "حتى قدمه" أي الوادي وادي مكة. وفي رواية ابن مهدي "فانطلق الآخر حتى قدم مكة". قوله: "رأيته يأمر بمكارم الأخلاق، وكلاما ما هو بالشعر" كذا في هذه الرواية، ووافقها عبد الرحمن بن مهدي عند مسلم، وقوله: "وكلاما" منصوب بالعطف على الضمير المنصوب، وفيه إشكال لأن الكلام لا يرى. ويجاب عنه بأنه من قبيل "علفتها تبنا وماء باردا" وفيه الوجهان: الإضمار أي وسقيتها، أو ضمن العلف معنى الإعطاء. وهنا يمكن أن يقال: التقدير رأيته يأمر بمكارم الأخلاق، وسمعته يقول كلاما ما هو بالشعر. أو ضمن الرؤية معنى الأخذ عنه. ووقع في رواية أبي قتيبة" رأيته يأمر بالخير وينهى عن الشر" ولا إشكال فيها. قوله: "وكره أن يسأل عنه" لأنه عرف أن قومه يؤذون من يقصده أو يؤذونه بسبب قصد من يقصده، أو لكراهتهم في ظهور أمره لا يدلون من يسأل عنه عليه، أو يمنعونه من الاجتماع به، أو يخدعونه حتى يرجع عنه. قوله: "فرآه علي بن أبي طالب" وهذا يدل على أن قصة أبي ذر وقعت بعد المبعث بأكثر من سنتين بحيث يتهيأ لعلي أن يستقل بمخاطبة الغريب ويضيفه، فإن الأصح في سن علي حين المبعث كان عشر سنين وقيل: أقل من ذلك، هذا الخبر يقوي القول الصحيح في سنه. قوله: "فعرف أنه غريب" في رواية: أبي قتيبة" فقال، كأن الرجل غريب.قلت: نعم".قوله: "فلما رآه تبعه" في رواية أبي قتيبة" قال فانطلق إلى المنزل، فانطلقت معه".قوله: "أما نال للرجل" أي أما حان، يقال نال له بمعنى آن له، ويروى "أما آن" بمد الهمزة و "أني" بالقصر وبفتح النون وكلها بمعنى، وقد تقدم في قصة الهجرة في قول أبي بكر الصديق "أما آن للرحيل" مثله وقوله: "أن يعلم منزله" أي مقصده، ويحتمل أن يكون علي أشار بذلك إلى دعوته إلى بيته لضيافته ثانيا، وتكون

(7/174)


إضافة المنزل إليه مجازية لكونه قد نزل به مرة، ويؤيد الأول قول أبي ذر في جوابه" قلت لا" كما في رواية أبي قتيبة. قوله: "يوم الثالث" كذا فيه، وهو كقولهم مسجد الجامع، وليس من إضافة الشيء إلى نفسه عند التحقيق. قوله: "فعاد علي على مثل ذلك" في رواية الكشميهني: "فغدا على مثل ذلك" وفي رواية أبي قتيبة" فقال فانطلق معي". قوله: "لترشدنني" كذا للأكثر بنونين. وفي رواية الكشميهني بواحدة مدغمة. قوله: "فأخبرته" كذا للأكثر وفيه التفات. وفي رواية الكشميهني: "فأخبره" على نسق ما تقدم". قوله: "قمت كأني أريق الماء" في رواية أبي قتيبة "كأني أصلح نعلي" ويحمل على أنه قالهما جميعا. قوله: "فانطلق يقفوه" أي يتبعه. قوله: "ودخل منه" قال الداودي: فيه الدخول بدخول المتقدم، وكأن هذا قبل آية الاستئذان، وتعقبه ابن التين فقال: لا تؤخذ الأحكام من مثل هذا. قلت: وفي كلام كل منهما من النظر ما لا يخفى. قوله: "فسمع من قوله وأسلم مكانه" كأنه كان يعرف علامات النبي، فلما تحققها لم يتردد في الإسلام، هكذا في هذه الرواية، ومقتضاها أن التقاء أبي ذر بالنبي صلى الله عليه وسلم كان بدلالة علي. وفي رواية عبد الله بن الصامت" أن أبا ذر لقي النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر في الطواف بالليل، قال: فلما قضى صلاته قلت: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، قال: فكنت أول من حياه بالسلام، قال: من أين أنت؟ قلت من بني غفار، قال: فوضع يده على جبهته، فقلت كره أن انتميت إلى غفار" فذكر الحديث في شأن زمزم، وأنه استغنى بها عن الطعام والشراب ثلاثين من بين يوم وليلة، وفيه: "فقال أبو بكر: ائذن لي يا رسول الله في طعامه الليلة، وأنه أطعمه من زبيب الطائف" الحديث وأكثره مغاير لما في حديث ابن عباس هذا عن أبي ذر، ويمكن التوفيق بينهما بأنه لقيه أولا مع علي ثم لقيه في الطواف أو بالعكس، وحفظ كل منهما عنه ما لم يحفظ الآخر، كما في رواية عبد الله بن الصامت من الزيادة ما ذكرناه ففي رواية ابن عباس أيضا من الزيادة قصته مع علي وقصته مع العباس وغير ذلك. وقال القرطبي: في التوفيق بين الروايتين تكلف شديد، ولا سيما أن في حديث عبد الله بن الصامت أن أبا ذر أقام ثلاثين لا زاد له، وفي حديث ابن عباس أنه كان معه زاد وقربة ماء إلى غير ذلك. قلت: ويحتمل الجمع بأن المراد بالزاد في حديث ابن عباس ما تزوده لما خرج من قومه ففرغ لما أقام بمكة، والقربة التي كانت معه كان فيها الماء حال السفر فلما أقام بمكة لم يحتج إلى ملئها ولم يطرحها، ويؤيده أنه وقع في رواية أبي قتيبة المذكورة" فجعلت لا أعرفه، وأكره أن أسأل عنه، وأشرب من ماء زمزم، وأكون في المسجد" الحديث. قوله: "ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري" في رواية أبي قتيبة" اكتم هذا الأمر، وارجع إلى قومك فأخبرهم، فإذا بلغك ظهورنا فأقبل" وفي رواية عبد الله بن الصامت" إنه قد وجهت لي أرض ذات نخل، فهل أنت مبلغ عني قومك عسى الله أن ينفعهم بك" فذكر قصة إسلام أخيه أنيس وأمه وأنهم توجهوا إلى قومهم غفار فأسلم نصفهم، الحديث. قوله: "لأصرخن بها" أي بكلمة التوحيد، والمراد أنه يرفع صوته جهارا بين المشركين، وكأنه فهم أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم له بالكتمان ليس على الإيجاب بل على سبيل الشفقة عليه، فأعلمه أن به قوة على ذلك، ولهذا أقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، يؤخذ منه جواز قول الحق عند من يخشى منه الأذية لمن قاله وإن كان السكوت جائزا، والتحقيق أن ذلك مختلف باختلاف الأحوال والمقاصد، وبحسب ذلك مترتب وجود الأجر وعدمه. قوله: "ثم قام القوم" في رواية أبي قتيبة" فقالوا قوموا إلى هذا الصابي" بالياء اللينة" فقاموا"

(7/175)


وكانوا يسمون من أسلم صابيا لأنه من صبا يصبو إذا انتقل من شيء إلى شيء. قوله: "فضربوه حتى أوجعوه" في رواية أبي قتيبة" فضربت لأموت" أي ضربت ضربا لا يبالي من ضربني أن لو أموت منه. قوله: "فأقلعوا عني"1 أي كفوا. قوله: "فأكب العباس عليه" في رواية أبي قتيبة" فقال مثل مقالته بالأمس" وفي الحديث ما يدل على حسن تأتي العباس وجودة فطنته حيث توصل إلى تخليصه منهم بتخويفهم من قومه أن يقاصوهم بأن يقطعوا طرق متجرهم، وكان عيشهم من التجارة. فلذلك بادروا إلى الكف عنه. وفي الحديث دلالة على تقدم إسلام أبي ذر، لكن الظاهر أن ذلك كان بعد المبعث بمده طويلة لما فيه من الحكاية عن علي كما قدمناه، ومن قوله أيضا في رواية عبد الله بن الصامت" إني وجهت إلى أرض ذات نخل"، فإن ذلك يشعر بأن وقوع ذلك كان قرب الهجرة والله أعلم.
ـــــــ
1 هذه الجملة ليست في رواية الباب هنا, وإنما هي في رواية أب قتيبة التي تقدمت برقم 3522

(7/176)


34 - باب إِسْلاَمُ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
3862- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ إِسْمَاعِيلَ عَنْ قَيْسٍ قَالَ سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ فِي مَسْجِدِ الْكُوفَةِ يَقُولُ وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُنِي وَإِنَّ عُمَرَ لَمُوثِقِي عَلَى الإِسْلاَمِ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ عُمَرُ وَلَوْ أَنَّ أُحُدًا ارْفَضَّ لِلَّذِي صَنَعْتُمْ بِعُثْمَانَ لَكَانَ محقوقا أن يرفض".
[الحديث 3862- طرفاه في: 6942,3867]
قوله: "باب إسلام سعيد بن زيد" أي ابن عمرو بن نفيل، وأبو تقدم ذكره وأنه ابن ابن عم عمر بن الخطاب.قوله: "حدثنا سفيان" هو ابن عيينة، وإسماعيل هو ابن أبي خالد؛ وقيل هو ابن أبي حازم. قوله: "لقد رأيتني" بضم المثناة، والمعنى رأيت نفسي "وإن عمر لموثقي على الإسلام" أي ربطه بسبب إسلامه إهانة له وإلزاما بالرجوع عن الإسلام. وقال الكرماني في معناه: كان يثبتني على الإسلام ويسددني، كذا قال، وكأنه ذهل عن قوله هنا" قبل أن يسلم"، فإن وقوع التثبيت منه وهو كافر لضمره على الإسلام بعيد جدا، مع أنه خلاف الواقع، وسيأتي في كتاب الإكراه" باب من اختار الضرب والقتل والهوان على الكفر" وكأن السبب في ذلك أنه كان زوج فاطمة بنت الخطاب أخت عمر، ولهذا ذكر في آخر باب إسلام عمر" رأيتني موثقي عمر على الإسلام أنا وأخته" وكان إسلام عمر متأخرا عن إسلام أخته وزوجها، لأن أول الباعث له على دخوله في الإسلام ما سمع في بيتها من القرآن في قصة طويلة ذكرها الدار قطني وغيره. قوله: "ولو أن أحدا ارفض" أي زال من مكانه، في الرواية الآتية"انقض" بالنون والقاف بدل الراء والفاء أي سقط، وزعم ابن التين أنه أرجح الروايات. وفي رواية الكشميهني بالنون والفاء وهو بمعنى الأول. قوله: "لكان" في الرواية الآتية" لكان محقوقا أن ينقض" وفي رواية الإسماعيلي: "لكان حقيقا" أي واجبا تقول حق عليك أن تفعل كذا وأنت حقيق أن تفعله، وإنما قال ذلك سعيد لعظم قتل عثمان، وهو مأخوذ من قوله تعالى: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً} قال ابن التين: قال سعيد ذلك على سبيل التمثيل. وقال الداودي: معناه لو تحركت القبائل وطلبت بثار عثمان لكان أهلا لذلك، وهذا بعيد من التأويل.

(7/176)


35 - باب إِسْلاَمُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
3863- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ مَا زِلْنَا أَعِزَّةً مُنْذُ أَسْلَمَ عُمَرُ
3864- حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ قَالَ حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ فَأَخْبَرَنِي جَدِّي زَيْدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ "بَيْنَمَا هُوَ فِي الدَّارِ خَائِفًا إِذْ جَاءَهُ الْعَاصِ بْنُ وَائِلٍ السَّهْمِيُّ أَبُو عَمْرٍو عَلَيْهِ حُلَّةُ حِبَرَةٍ وَقَمِيصٌ مَكْفُوفٌ بِحَرِيرٍ وَهُوَ مِنْ بَنِي سَهْمٍ وَهُمْ حُلَفَاؤُنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَقَالَ لَهُ مَا بَالُكَ قَالَ زَعَمَ قَوْمُكَ أَنَّهُمْ سَيَقْتُلُونِي إِنْ أَسْلَمْتُ قَالَ لاَ سَبِيلَ إِلَيْكَ بَعْدَ أَنْ قَالَهَا أَمِنْتُ فَخَرَجَ الْعَاصِ فَلَقِيَ النَّاسَ قَدْ سَالَ بِهِمْ الْوَادِي فَقَالَ أَيْنَ تُرِيدُونَ فَقَالُوا نُرِيدُ هَذَا ابْنَ الْخَطَّابِ الَّذِي صَبَا قَالَ لاَ سَبِيلَ إِلَيْهِ فَكَرَّ النَّاسُ"
[الحديث 3864- طرفه في: 3865]
3865- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ سَمِعْتُهُ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "لَمَّا أَسْلَمَ عُمَرُ اجْتَمَعَ النَّاسُ عِنْدَ دَارِهِ وَقَالُوا صَبَا عُمَرُ وَأَنَا غُلاَمٌ فَوْقَ ظَهْرِ بَيْتِي فَجَاءَ رَجُلٌ عَلَيْهِ قَبَاءٌ مِنْ دِيبَاجٍ فَقَالَ قَدْ صَبَا عُمَرُ فَمَا ذَاكَ فَأَنَا لَهُ جَارٌ قَالَ فَرَأَيْتُ النَّاسَ تَصَدَّعُوا عَنْهُ فَقُلْتُ مَنْ هَذَا قَالُوا الْعَاصِ بْنُ وَائِلٍ"
3866- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ قَالَ حَدَّثَنِي عُمَرُ أَنَّ سَالِمًا حَدَّثَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ "مَا سَمِعْتُ عُمَرَ لِشَيْءٍ قَطُّ يَقُولُ إِنِّي لاَظُنُّهُ كَذَا إِلاَّ كَانَ كَمَا يَظُنُّ بَيْنَمَا عُمَرُ جَالِسٌ إِذْ مَرَّ بِهِ رَجُلٌ جَمِيلٌ فَقَالَ لَقَدْ أَخْطَأَ ظَنِّي أَوْ إِنَّ هَذَا عَلَى دِينِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَوْ لَقَدْ كَانَ كَاهِنَهُمْ عَلَيَّ الرَّجُلَ فَدُعِيَ لَهُ فَقَالَ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ اسْتُقْبِلَ بِهِ رَجُلٌ مُسْلِمٌ قَالَ فَإِنِّي أَعْزِمُ عَلَيْكَ إِلاَّ مَا أَخْبَرْتَنِي قَالَ كُنْتُ كَاهِنَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَالَ فَمَا أَعْجَبُ مَا جَاءَتْكَ بِهِ جِنِّيَّتُكَ قَالَ بَيْنَمَا أَنَا يَوْمًا فِي السُّوقِ جَاءَتْنِي أَعْرِفُ فِيهَا الْفَزَعَ فَقَالَتْ أَلَمْ تَرَ الْجِنَّ وَإِبْلاَسَهَا وَيَأْسَهَا مِنْ بَعْدِ إِنْكَاسِهَا وَلُحُوقَهَا بِالْقِلاَصِ وَأَحْلاَسِهَا قَالَ عُمَرُ صَدَقَ بَيْنَمَا أَنَا نَائِمٌ عِنْدَ آلِهَتِهِمْ إِذْ جَاءَ رَجُلٌ بِعِجْلٍ فَذَبَحَهُ فَصَرَخَ بِهِ صَارِخٌ لَمْ أَسْمَعْ صَارِخًا قَطُّ أَشَدَّ صَوْتًا مِنْهُ يَقُولُ يَا جَلِيحْ أَمْرٌ نَجِيحْ رَجُلٌ فَصِيحْ يَقُولُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ فَوَثَبَ الْقَوْمُ قُلْتُ لاَ أَبْرَحُ حَتَّى أَعْلَمَ مَا وَرَاءَ هَذَا ثُمَّ نَادَى يَا جَلِيحْ أَمْرٌ نَجِيحْ رَجُلٌ فَصِيحْ يَقُولُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ فَقُمْتُ فَمَا نَشِبْنَا أَنْ قِيلَ هَذَا نَبِيٌّ"

(7/177)


3867- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنَا قَيْسٌ قَالَ سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ زَيْدٍ
يَقُولُ لِلْقَوْمِ "لَوْ رَأَيْتُنِي مُوثِقِي عُمَرُ عَلَى الإِسْلاَمِ أَنَا وَأُخْتُهُ وَمَا أَسْلَمَ وَلَوْ أَنَّ أُحُدًا انْقَضَّ لِمَا صَنَعْتُمْ بِعُثْمَانَ لَكَانَ مَحْقُوقًا أَنْ يَنْقَضَّ"
قوله: "باب إسلام عمر بن الخطاب" قد تقدم نسبه في مناقبه. قوله: "أنبأنا سفيان" هو الثوري. قوله: "ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر" زاد الإسماعيلي من طريق أبي داود الحفري عن سفيان في حديث ذكره أي من كلام ابن مسعود، وقد تقدم في مناقب عمر الإلمام بشيء من ذلك. قوله: "فأخبرني جدي" ظاهر السياق أنه معطوف على شيء تقدم، وقد رواه الإسماعيلي من طريق ابن وهب هذه فقال فيها عن ابن وهب" أخبرني عمر بن محمد". قوله: "وعليه حلة حبر" بكسر المهملة وفتح الموحدة وهو برد مخطط بالوشي. وفي رواية حبرة بزيادة هاء. قوله: "أن أسلمت" بفتح الألف وتخفيف النون أي لأجل إسلامي. قوله: "لا سبيل عليك بعد أن قالها" أي الكلمة المذكورة، وهي قوله: "لا سبيل عليك". قوله: "أمنت" بفتح الهمزة وكسر الميم وسكون النون وضم المثناة أي حصل الأمان في نفسي بقوله ذلك، ووقع في رواية الأصيلي بمد الهمزة، وهو خطأ فإنه كان قد أسلم قبل ذلك، ذكر عياض أن في رواية الحميدي بالقصر أيضا لكنه بفتح المثناة، وهو خطأ أيضا لأنه يصير من كلام العاص بن وائل، وليس كذلك بل هو من كلام عمر، يريد أنه أمن لما قال له العاص بن وائل تلك المقالة، ويؤيده الحديث الذي بعده. قوله: "اجتمع الناس عند داره" في رواية الكشميهني: "اجتمع الناس إليه". قوله: "وأنا غلام"في رواية أخرى أنه" كان ابن خمس سنين" وإذا كان كذلك خرج منه أن إسلام عمر كان بعد المبعث بست سنين أو بسبع، لأن ابن عمر كما سيأتي في المغازي كان يوم أحد ابن أربع عشرة سنة وذلك بعد المبعث بست عشرة سنة فيكون مولده بعد المبعث بسنتين. قوله: "على ظهر بيتي" قال الداودي هو غلط والمحفوظ "ظهر بيتنا" وتعقبه ابن التين بأن ابن عمر أراد أنه الآن بيته أي عند مقالته تلك، وكان قبل ذلك لأبيه. ولا يخفى عدم الاحتياج إلى هذا التأويل، وإنما نسب ابن عمر البيت إلى نفسه مجازا، أو مراده المكان الذي كان يأوي فيه سواء كان ملكه أم لا، وأيضا فإنه إن أراد نسبته إليه حال مقالته تلك لم يصح، لأن بني عدي بن كعب رهط عمر لما هاجروا استولى غيرهم على بيوتهم كما ذكره ابن إسحاق وغيره فلم يرجعوا فيها، وأيضا فإن ابن عمر لم ينفرد بالإرث من عمر فتحتاج دعوى أن يكون اشترى حصص غيره إلى نقل، فيتعين الذي قلته. قوله: "فما ذاك" أي فلا بأس، أو لا قتل أو لا يعترض له. وقوله: "أنا له جار" أي أجرته من أن يظلمه ظالم، وقوله: "تصدعوا" أي تفرقوا عنه. فقوله: "قالوا العاص بن وائل" زاد ابن أبي عمر في روايته عن سفيان قال: "فعجبت من عزته" وكذا عند الإسماعيلي من وجهين عن سفيان. وفي رواية عبد الله بن داود عن عمر بن محمد عند الإسماعيلي: "فقلت لعمر: من الذي ردهم عنك يوم أسلمت؟ قال: يا بني، ذاك العاص بن وائل" أي ابن هاشم بن سعيد بالتصغير بن سهم القرشي السهمي، مات على كفره قبل الهجرة بمدة، والعاص بمهملتين من العوص لا من العصيان، والصاد مرفوعة ويجوز كسرها، وقيل: إنه من العصيان فهو بالكسر جزما، ويجوز إثبات الياء كالقاضي، ويؤيده كتاب عمر إلى عمرو وهو عامله على مصر "إلى العاصي ابن العاصي" وأطلق عليه ذلك لكونه خالف شيئا مما كان أمره به في ولايته على مصر لما ظهر له

(7/178)


من المصلحة. الحديث الرابع, قوله: "حدثني عمر" هو ابن محمد بن زيد، وهو شيخ ابن وهب في الحديث الثاني، ووهم من زعم أنه عمر بن الحارث كالكلاباذي فقد وقع في رواية الإسماعيلي عن عمر بن محمد. قوله: "ما سمعت عمر يقول لشيء إني لأظنه كذا إلا كان" أي عن شيء، واللام قد تأتي بمعنى عن كقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْراً مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} . قوله: "إلا كان كما يظن" هو موافق لما تقدم في مناقبه أنه كان محدثا بفتح الدال، وتقدم شرحه. قوله: "إذ مر به رجل جميل" هو سواد - بفتح المهملة وتخفيف الواو وآخره مهملة - ابن قارب بالقاف والموحدة، وهو سدوسي أو دوسي. وقد أخرج ابن أبي خيثمة وغيره من طريق أبي جعفر الباقر قال: "دخل رجل يقال له سواد بن قارب السدوسي على عمر، فقال. يا سواد أنشدك الله، هل تحسن من كهانتك شيئا" فذكر القصة. وأخرج الطبراني والحاكم وغيرهما من طريق محمد بن كعب القرظي قال: "بينما عمر قاعد في المسجد" فذكر مثل سياق أبي جعفر وأتم منه، وهما طريقان مرسلان يعضد أحدهما الآخر. وأخرج البخاري في تاريخه والطبراني من طريق عباد بن عبد الصمد عن سعيد بن جبير قال: "أخبرني سواد بن قارب قال: كنت نائما" فذكر قصته الأولى دون قصته مع عمر. وهذا إن ثبت ذلك على تأخر وفاته، لكن عبادا ضعيف. ولابن شاهين من طريق أخرى ضعيفة عن أنس قال: "دخل رجل من دوس يقال له سواد بن قارب على النبي صلى الله عليه وسلم: "فذكر قصته أيضا، وهذه الطرق يقوى بعضها ببعض، وله طرق أخرى سأذكر ما فيها من فائدة. قوله: "لقد أخطأ ظني" في رواية ابن عمر عند البيهقي" لقد كنت ذا فراسة، وليس لي الآن رأي إن لم يكن هذا الرجل ينظر في الكهانة". قوله: "أو" بسكون الواو "على دين قومه في الجاهلية"1 أي مستمر على عبادة ما كانوا يعبدون. قوله: "أو" بسكون الواو أيضا "لقد كان كاهنهم" أي كان كاهن قومه. وحاصله أن عمر ظن شيئا مترددا بين شيئين أحدهما يتردد بين شيئين كأنه قال: هذا الظن إما خطأ أو صواب فإن كان صوابا فهذا الآن إما باق على كفره وإما كان كاهنا. وقد أظهر الحال القسم الأخير، وكأنه ظهرت له من صفة مشيه أو غير ذلك قرينة أثرت له ذلك الظن، فالله أعلم. قوله: "علي" بالتشديد "الرجل" بالنصب أي أحضروه إلي وقربوه مني. قوله: "فقال له ذلك" أي ما قاله في غيبته من التردد. وفي رواية محمد بن كعب" فقال له فأنت على ما كنت عليه من كهانتك" فغضب، وهذا من تلطف عمر، لأنه اقتصر على أحسن الأمرين. قوله: "ما رأيت كاليوم" أي رأيت شيئا مثل ما رأيت اليوم. قوله: "استقبل" بضم التاء على البناء للمجهول. قوله: "رجل مسلم" في رواية النسفي وأبي ذر "رجلا مسلما" ورأيته مجودا بفتح تاء "استقبل" على البناء للفاعل وهو محذوف تقديره أحد، وضبطه الكرماني استقبل بضم التاء وأعرب رجلا مسلما على أنه مفعول رأيت، وعلى هذا فالضمير في قوله: "به" يعود على الكلام، ويدل عليه السياق، وبينه البيهقي في رواية مرسلة" قد جاء الله بالإسلام، فما لنا ولذكر الجاهلية". قوله: "فإني أعزم عليك" أي ألزمك. وفي رواية محمد بن كعب" ما كنا عليه من الشرك أعظم مما كنت عليه من كهانتك". قوله: "إلا أخبرتني" أي ما أطلب منك إلا الإخبار. قوله: "كنت كاهنهم في الجاهلية" الكاهن الذي يتعاطى الخبر من الأمور المغيبة، وكانوا في الجاهلية كثيرا، فمعظمهم كان يعتمد على تابعة من الجن، وبعضهم كان يدعي معرفة ذلك بمقدمات أسباب يستدل بها على
ـــــــ
1 الذي في المتن "على دينه في الجاهلية

(7/179)


مواقعها من كلام من يسأله، وهذا الأخير يسمى العراف بالمهملتين، وسيأتي حكم ذلك واضحا في كتاب الطب، وتقدم طرف منه في آخر البيوع. ولقد تلطف سواد في الجواب إذ كان سؤال عمر عن حاله في كهانته إذ كان من أمر الشرك، فلما ألزمه أخبره بآخر شيء وقع له لما تضمن من الإعلام بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وكان سببا لإسلامه. قوله: "ما أعجب" بالضم و "ما" استفهامية. قوله: "جنيتك" بكسر الجيم والنون الثقيلة أي الواحدة من الجن كأنه أنت تحقيرا، ويحتمل أن يكون عرف أن تابع سواد منهم كان أنثى، أو هو كما يقال تابع الذكر يكون أنثى وبالعكس. قوله: "أعرف فيها الفزع" بفتح الفاء والزاي أي الخوف. وفي رواية محمد بن كعب" إن ذلك كان وهو بين النائم واليقظان". قوله: "ألم تر الجن وإبلاسها" بالموحدة والمهملة والمراد به اليأس ضد الرجاء. وفي رواية أبي جعفر "عجبت للجن وإبلاسها" وهو أشبه بإعراب بقية الشعر، ومثله لمحمد بن كعب لكن قال:"وتحساسها" بفتح المثناة وبمهملات، أي أنها فقدت أمرا فشرعت تفتش عليه. قوله: "ويأسها من بعد إنكاسها" اليأس بالتحتانية ضد الرجاء والإنكاس الانقلاب، قال ابن قارس: معناه أنها يئست من استراق السمع بعد أن كانت قد ألفته، فانقلبت عن الاستراق قد يئست من السمع. ووقع في شرح الداودي بتقديم السين على الكاف، وفسره بأنه المكان الذي ألفته، قال: ووقع في رواية: "من بعد إيناسها" أي أنها كانت أنست بالاستراق، ولم أر ما قاله في شيء من الروايات، وقد شرح الكرماني على اللفظ الأول الذي ذكره الداودي وقال: الإنساك جمع نسك، والمراد به العبادة، ولم أر هذا القسيم في غير الطريق التي أخرجها البخاري. وزاد في رواية الباقر ومحمد بن كعب وكذا عند البيهقي موصولا من حديث البراء بن عازب بعد قوله: "وأحلاسها ":
تهوي إلى مكة تبغي الهدى ... ما مؤمنوها مثل أرجاسها
فاسم إلى الصفوة من هاشم ... واسم بعينيك إلى رأسها
وفي روايتهم أن الجني عاوده ثلاث ليال ينشده هذه الأبيات مع تغير قوافيها، فجعل بدل قوله إبلاسها "تطلابها" أوله مثناة، وتارة" تجآرها" بجيم وهمزة، وبدل قوله أحلاسها "أقتابها" بقاف ومثناة جمع قتب، وتارة" أكوارها" وبدل قوله. ما مؤمنوها مثل أرجاسها" ليس قداماها كأذنابها" وتارة" ليس ذوو الشر كأخيارها" وبدل قوله: رأسها" نابها" وتارة قال: "ما مؤمنو الجن ككفارها". وعندهم من الزيادة أيضا أنه في كل مرة يقول له" قد بعث محمد، فانهض إليه ترشد"، وفي الرواية المرسلة قال: "فارتعدت فرائصي حتى وقعت"، وعندهم جميعا أنه لما أصبح توجه إلى مكة فوجد النبي صلى الله عليه وسلم قد هاجر، فأتاه فأنشده أبياتا يقول فيها:
أتاني رئى بعد ليل وهجعة ... ولم يك فيما قد بلوت بكاذب
ثلاث ليال قوله كل ليلة ... أتاك نبي من لؤي بن غالب
يقول في آخرها:
فكن لي شفيعا يوم لا ذو شفاعة ... سواك بمغن عن سواد بن قارب
وفي آخر الرواية المرسلة" فالتزمه عمر وقال: لقد كنت أحب أن أسمع هذا منك". قوله: "ولحوقها بالقلاص وأحلاسها" القلاص بكسر القاف وبالمهملة جمع قلص بضمتين وهو جمع قلوص وهي الفتية من النياق، والأحلاس جمع حلس بكسر أوله وسكون ثانيه وبالمهملتين وهو ما يوضع على ظهور الإبل تحت الرحل. ووقع هذا القسيم

(7/180)


غير موزون. وفي رواية الباقر" ورحلها العيس بأحلاسها" وهذا موزون، والعيس بكسر أوله وسكون التحتانية وبالمهملتين: الإبل. قوله: "قال عمر: صدق، بينما أنا عند آلهتهم" ظاهر هذا أن الذي قص القصة الثانية هو عمر. وفي رواية ابن عمر وغيره أن الذي قصها هو سواد بن قارب، ولفظ ابن عمر عند البيهقي قال: "لقد رأى عمر رجلا - فذكر القصة - قال فأخبرني عن بعض ما رأيت، قال: إني ذات ليلة بواد إذ سمعت صائحا يقول: يا جليح، خبر نجيح، رجل فصيح، يقول لا إله إلا الله. عجبت للجن وإبلاسها" فذكر القصة، ثم ساق من طريق أخرى مرسلة قال: "مر عمر برجل فقال: لقد كان هذا كاهنا" الحديث وفيه: "فقال عمر أخبرني، فقال: نعم، بينا أنا جالس إذ قالت لي: ألم تر إلى الشياطين وإبلاسها" الحديث: "قال عمر: الله أكبر، فقال: أتيت مكة فإذا برجل عند تلك الأنصاب" فذكر قصة العجل، وهذا يحتمل فيه ما احتمل في حديث الصحيح أن يكون القائل" أتيت مكة" هو عمر أو صاحب القصة. قوله: "عند آلهتهم" أي أصنامهم. قوله: "إذ جاء رجل" لم أقف على اسمه" لكن عند أحمد من وجه آخر أنه ابن عبس، فأخرج من طريق مجاهد عن شيخ أدرك الجاهلية يقال له ابن عبس قال: "كنت أسوق بقرة لنا، فسمعت من جوفها" فذكر الرجز قال: "فقدمنا فوجدنا النبي صلى الله عليه وسلم قد بعث" ورجاله ثقات، وهو شاهد قوي لما في رواية ابن عمر وأن الذي حدث بذلك هو سواد بن قارب، وسأذكر بعد هذا ما يقوي أن الذي سمع ذلك هو عمر فيمكن أن يجمع بينهما بتعدد ذلك لهما. قوله: "يا جليح" بالجيم والمهملة بوزن عظيم ومعناه الوقح المكافح بالعداوة، قال ابن التين: يحتمل أن يكون نادى رجلا بعينه، ويحتمل أن يكون أراد من كان بتلك الصفة قلت: ووقع في معظم الروايات التي أشرت إليها "يا آل ذريح" بالذال المعجمة والراء وآخره مهملة، وهم بطن مشهور في العرب. قوله: "رجل فصيح" من الفصاحة. وفي رواية الكشميهني بتحتانية أوله بدل الفاء من الصياح ووقع في حديث ابن عبس "قول فصيح رجل يصيح". قوله: "يقول لا إله إلا أنت" وفي رواية الكشميهني: "لا إله إلا الله" وهو الذي في بقية الروايات. قوله: "فما نشبنا" بكسر المعجمة وسكون الموحدة أي لم نتعلق بشيء من الأشياء حتى سمعنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد خرج، يريد أن ذلك كان بقرب مبعث النبي صلى الله عليه وسلم. "تنبيهان": أحدهما: ذكر ابن التين أن الذي سمعه سواد بن قارب من الجني كان من أثر استراق السمع، وفي جزمه بذلك نظر، والذي يظهر أن ذلك كان من أثر منع الجن من استراق السمع، ويبين ذلك ما أخرجه المصنف في الصلاة ويأتي في تفسير سورة الجن عن ابن عباس" أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث منع الجن من استراق السمع، فضربوا المشارق والمغارب يبحثون عن سبب ذلك، حتى رأوا النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه صلاة الفجر" الحديث. "التنبيه الثاني": لمح المصنف بإيراد هذه القصة في" باب إسلام عمر" بما جاء عن عائشة وطلحة عن عمر من أن هذه القصة كانت سبب إسلامه، فروى أبو نعيم في "الدلائل" أن أبا جهل" جعل لمن يقتل محمدا مائة ناقة، قال عمر: فقلت له: يا أبا الحكم آلضمان صحيح؟ قال: نعم. قال فتقلدت سيفي أريده، فمررت على عجل وهم يريدون أن يذبحوه، فقمت أنظر إليهم، فإذا صائح يصيح من جوف العجل: يا آل ذريح، أمر نجيح، رجل يصيح بلسان فصيح. قال عمر: فقلت في نفسي إن هذا الأمر ما يراد به إلا أنا، قال فدخلت على أختي فإذا عندها سعيد بن زيد" فذكر القصة في سبب إسلامه بطولها. وتأمل ما في إيراده حديث سعيد بن زيد الذي بعد هذا. قوله: "انقض" بنون وقاف، وللكشميهني بفاء بدل القاف في الموضعين، ولأبي نعيم في "المستخرج" بالفاء والراء

(7/181)


ومعانيها متقاربة، والله أعلم. "تنبيه": جعل ابن إسحاق إسلام عمر بعد هجرة الحبشة، ولم يذكر انشقاق القمر، فاقتضى صنيع المصنف أنه وقع في تلك الأيام. وقد ذكر ابن إسحاق من وجه آخر أن إسلام عمر كان عقب هجرة الحبشة الأولى.

(7/182)


36 - باب انْشِقَاقُ الْقَمَرِ
3868- حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُرِيَهُمْ آيَةً فَأَرَاهُمْ الْقَمَرَ شِقَّتَيْنِ حَتَّى رَأَوْا حِرَاءً بَيْنَهُمَا"
3869- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "انْشَقَّ الْقَمَرُ وَنَحْنُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِنًى فَقَالَ اشْهَدُوا وَذَهَبَتْ فِرْقَةٌ نَحْوَ الْجَبَلِ" وَقَالَ أَبُو الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ "انْشَقَّ بِمَكَّةَ"
وَتَابَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
3870- حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ مُضَرَ قَالَ حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ عَنْ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "أَنَّ الْقَمَرَ انْشَقَّ عَلَى زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
3871- حدثنا عمر بن حفص حدثنا أبي حدثنا الأعمش حدثنا إبراهيم عن أبي معمر عن عبد الله رضي الله عنه قال "انشق القمر"
قوله: "باب انشقاق القمر" أي في زمن النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل المعجزة له، وقد ترجم بمعنى ذلك في علامات النبوة. قوله: "عن أنس" زاد في الرواية التي في علامات النبوة أنه حدثهم. قوله: "أن أهل مكة" هذا من مراسيل الصحابة، لأن أنسا لم يدرك هذه القصة، وقد جاءت هذه القصة من حديث ابن عباس وهو أيضا ممن لم يشاهدها، ومن حديث ابن مسعود وجبير بن مطعم وحذيفة وهؤلاء شاهدوها، ولم أر في شيء من طرقه أن ذلك كان عقب سؤال المشركين إلا في حديث أنس، فلعله سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم. ثم وجدت في بعض طرق حديث ابن عباس بيان صورة السؤال، وهو وإن كان لم يدرك القصة لكن في بعض طرقه ما يشعر بأنه حمل الحديث عن ابن مسعود كما سأذكره، فأخرج أبو نعيم في" الدلائل" من وجه ضعيف عن ابن عباس قال: "اجتمع المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم الوليد بن المغيرة وأبو جهل بن هشام والعاص بن وائل والأسود بن المطلب والنضر بن الحارث ونظراؤهم فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم إن كنت صادقا فشق لنا القمر فرقتين، فسأل ربه فانشق". قوله: "شقتين" بكسر المعجمة أي

(7/182)


نصفين، وتقدم في العلامات من طريق سعيد وشيبان عن قتادة بدون هذه اللفظة. وأخرجه مسلم من الوجه الذي أخرجه منه البخاري من حديث سعيد عن قتادة بلفظ: "فأراهم انشقاق القمر مرتين" وأخرجه من طريق معمر عن قتادة قال بمعنى حديث شيبان. قلت: وهو في مصنف عبد الرزاق عن معمر بلفظ: "مرتين" أيضا، وكذلك أخرجه الإمامان أحمد وإسحاق في مسنديهما عن عبد الرزاق، وقد اتفق الشيخان عليه من رواية شعبة عن قتادة بلفظ: "فرقتين" قال البيهقي: قد حفظ ثلاثة من أصحاب قتادة عنه" مرتين". قلت: لكن اختلف عن كل منهم في هذه اللفظة ولم يختلف على شعبة وهو أحفظهم، ولم يقع في شيء من طرق حديث ابن مسعود بلفظ: "مرتين" إنما فيه: "فرقتين أو فلقتين" بالراء أو اللام وكذا في حديث ابن عمر "فلقتين" وفي حديث جبير بن مطعم "فرقتين" وفي لفظ عنه "فانشق باثنتين" وفي رواية عن ابن عباس عند أبي نعيم في الدلائل "فصار قمرين" وفي لفظ: "شقتين" وعند الطبراني من حديثه" حتى رأوا شقيه" ووقع في نظم السيرة لشيخنا الحافظ أبي الفضل: وانشق مرتين بالإجماع. ولا أعرف من جزم من علماء الحديث بتعدد الانشقاق في زمنه صلى الله عليه وسلم، ولم يتعرض لذلك أحد من شراح الصحيحين وتكلم ابن القيم على هذه الرواية فقال: المرات يراد بها الأفعال تارة والأعيان أخرى، والأول أكثر. ومن الثاني "انشق القمر مرتين" وقد خفي على بعض الناس فادعى أن انشقاق القمر وقع مرتين، وهذا مما يعلم أهل الحديث والسير أنه غلط فإنه لم يقع إلا مرة واحدة. وقد قال العماد بن كثير: في الرواية التي فيها "مرتين" نظر، ولعل قائلها أراد فرقتين. قلت: وهذا الذي لا يتجه غيره جمعا بين الروايات.
ثم راجعت نظم شيخنا فوجدته يحتمل التأويل المذكور، ولفظه:
فصار فرقتين فرقة علت ... وفرقة للطود منه نزلت
وذاك مرتين بالإجماع ... والنص والتواتر السماع
فجمع بين قوله: "فرقتين" وبين قوله: "مرتين" فيمكن أن يتعلق قوله بالإجماع بأصل الانشقاق لا بالتعدد، مع أن في نقل الإجماع في نفس الانشقاق نظرا سيأتي بيانه. قوله: "حتى رأوا حراء بينهما" أي بين الفرقتين، وحراء تقدم ضبطه في بدء الوحي وهو على يسار السائر من مكة إلى منى. قوله: "عن أبي حمزة" بالمهملة والزاي هو محمد بن ميمون السكري المروزي. قوله: "عن الأعمش عن إبراهيم" وقع في رواية السرخسي والكشميهني في آخر الباب من وجه آخر عن الأعمش "حدثنا إبراهيم". قوله: "عن أبي معمر" هذا هو المحفوظ. ووقع في رواية سعدان بن يحيى ويحيى بن عيسى الرملي" عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة" أخرجه ابن مردويه، ولأبي نعيم نحوه من طريق غريبة عن شعبة "عن الأعمش" والمحفوظ عن شعبة كما سيأتي في التفسير" عن الأعمش عن إبراهيم عن أبي عمر" وهو المشهور، وقد أخرجه مسلم من طريق أخرى عن شعبة" عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عمر" وسيأتي للمصنف معلقا أن مجاهدا رواه" عن أبي معمر عن ابن مسعود" فالله أعلم هل عند مجاهد فيه إسنادان أو قول من قال ابن عمر وهم من أبي معمر. قوله: "عن عبد الله" هو ابن مسعود قوله: "انشق القمر ونحن مع النبي صلى الله عليه وسلم بمنى" في رواية مسلم من طريق علي بن مسهر عن الأعمش "بينما نحن مع النبي صلى الله عليه وسلم بمنى إذ انفلق القمر" وهذا لا يعارض قول أنس أن ذلك كان بمكة، لأنه لم يصرح بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان ليلتئذ بمكة، وعلى تقدير تصريحه فمنى

(7/183)


من جملة مكة فلا تعارض، وقد وقع عند الطبراني من طريق زر بن حبيش عن ابن مسعود قال: "انشق القمر بمكة فرأيته فرقتين" وهو محمول على ما ذكرته، وكذا وقع في غير هذه الرواية، وقد وقع عند ابن مردويه بيان المراد فأخرجه من وجه آخر عن ابن مسعود قال: "انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بمكة قبل أن نصير إلى المدينة" فوضح أن مراده بذكر مكة الإشارة إلى أن ذلك وقع قبل الهجرة، ويجوز أن ذلك وقع وهم ليلتئذ بمنى. قوله: "فقال اشهدوا" أي اضبطوا هذا القدر بالمشاهدة. قوله: "وقال أبو الضحى إلخ" يحتمل أن يكون معطوفا على قوله: "عن إبراهيم" فإن أبا الضحى من شيوخ الأعمش فيكون للأعمش فيه إسنادان، ويحتمل أن يكون معلقا وهو المعتمد، فقد وصله أبو داود الطيالسي عن أبي عوانة، ورويناه في "فوائد أبي طاهر الذهلي" من وجه آخر عن أبي عوانة، وأخرجه أبو نعيم في "الدلائل" من طريق هشيم كلاهما عن مغيرة عن أبي الضحى بهذا الإسناد بلفظ: "انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت كفار قريش: هذا سحر سحركم ابن أبي كبشة، فانظروا إلى السفار، فإن أخبروكم أنهم رأوا مثل ما رأيتم فقد صدق، قال: فما قدم عليهم أحد إلا أخبرهم بذلك" لفظ هشيم، وعند أبي عوانة" انشق القمر بمكة - نحوه وفيه - فإن محمدا لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم". قوله: "وتابعه محمد بن مسلم" هو الطائفي، وابن أبي نجيح اسمه عبد الله، واسم أبيه يسار بتحتانية ثم مهملة خفيفة، ومراده أنه تابع إبراهيم في روايته عن أبي معمر في قوله إن ذلك كان بمكة لا في جميع سياق الحديث، والجمع بين قول ابن مسعود "تارة بمنى وتارة بمكة" إما باعتبار التعدد إن ثبت، وإما بالحمل على أنه كان بمنى، ومن قال كان بمكة لا ينافيه لأن من كان بمنى كان بمكة من غير عكس، ويؤيده أن الرواية التي فيها بمنى قال فيها: "ونحن بمنى" والرواية التي فيها بمكة لم يقل فيها "ونحن" وإنما قال: "انشق القمر بمكة" يعني أن الانشقاق كان وهم بمكة قبل أن يهاجروا إلى المدينة، وبهذا يندفع دعوى الداودي أن بين الخبرين تضادا، والله أعلم. وابن أبي نجيح رواه عن مجاهد عن أبي معمر، وهذه الطريق وصلها عبد الرزاق في مصنفه، ومن طريقه البيهقي في "الدلائل" عن ابن عيينة ومحمد بن مسلم جميعا عن ابن أبي نجيح بهذا الإسناد بلفظ: "رأيت القمر منشقا شقتين: شقة على أبي قبيس وشقة على السويداء" والسويداء بالمهملة والتصغير ناحية خارجة مكة عندها جبل، وقول ابن مسعود "على أبي قبيس" يحتمل أن يكون رآه كذلك وهو بمنى كأن يكون على مكان مرتفع بحيث رأى طرف جبل أبي قبيس، ويحتمل أن يكون القمر استمر منشقا حتى رجع ابن مسعود من منى إلى مكة فرآه كذلك وفيه بعد، والذي يقتضيه غالب الروايات أن الانشقاق كان قرب غروبه، ويؤيد ذلك إسنادهم الرؤية إلى جهة الجبل، ويحتمل أن يكون الانشقاق وقع أول طلوعه فإن في بعض الروايات أن ذلك كان ليلة البدر، أو التعبير بأبي قبيس من تغيير بعض الرواة، لأن الغرض ثبوت رؤيته منشقا إحدى الشقتين على جبل والأخرى على جبل آخر، ولا يغاير ذلك قول الراوي الآخر رأيت الجبل بينهما أي بين الفرقتين لأنه إذا ذهبت فرقة عن يمين الجبل وفرقة عن يساره مثلا صدق أنه بينهما، وأي جبل آخر كان من جهة يمينه أو يساره صدق أنها عليه أيضا، وسيأتي في تفسير سورة القمر من وجه آخر عن مجاهد بلفظ آخر وهو قوله: "انشق القمر ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال اشهدوا اشهدوا" وليس فيه تعيين مكان. وأخرجه ابن مردويه من رواية ابن جريج عن مجاهد بلفظ آخر وهو قوله: "انشق القمر، قال الله تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} يقول: كما شققت القمر كذلك أقيم الساعة". قوله: "أن القمر انشق على زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم" هكذا أورده مختصرا،

(7/184)


وعند أبي نعيم من وجه آخر" انشق القمر فلقتين، قال ابن مسعود لقد رأيت جبل حراء من بين فلقتي القمر" وهذا يوافق الرواية الأولى في ذكر حراء. وقد أنكر جمهور الفلاسفة انشقاق القمر متمسكين بأن الآيات العلوية لا يتهيأ فيها الانخراق والالتئام؛ وكذا قالوا في فتح أبواب السماء ليلة الإسراء إلى غير ذلك من إنكارهم ما يكون يوم القيامة من تكوير الشمس وغير ذلك، وجواب هؤلاء إن كانوا كفارا أن يناظروا أولا على ثبوت دين الإسلام ثم يشركوا مع غيرهم ممن أنكر ذلك من المسلمين، ومتى سلم المسلم بعض ذلك دون بعض ألزم التناقض، ولا سبيل إلى إنكار ما ثبت في القرآن من الانخراق والالتئام في القيامة فيستلزم جواز وقوع ذلك معجزة لنبي الله صلى الله عليه وسلم وقد أجاب القدماء عن ذلك، قال أبو إسحاق الزجاج في "معاني القرآن": أنكر بعض المبتدعة الموافقين لمخالفي الملة انشقاق القمر ولا إنكار للعقل فيه، لأن القمر مخلوق لله يفعل فبه ما يشاء كما يكوره يوم البعث ويفنيه، وأما قول بعضهم: لو وقع لجاء متواترا واشترك أهل الأرض في معرفته ولما اختص بها أهل مكة، فجوابه أن ذلك وقع ليلا وأكثر الناس نيام والأبواب مغلقة وقل من يراصد السماء إلا النادر، وقد يقع بالمشاهدة في العادة أن ينكسف القمر، وتبدو الكواكب العظام وغير ذلك في الليل ولا يشاهدها إلا الآحاد، فكذلك الانشقاق كان آية وقعت في الليل لقوم سألوا واقترحوا فلم يتأهب غيرهم لها، ويحتمل أن يكون القمر ليلتئذ كان في بعض المنازل التي تظهر لبعض أهل الآفاق دون بعض كما يظهر الكسوف لقوم دون قوم. وقال الخطابي. انشقاق القمر آية عظيمة لا يكاد يعدلها شيء من آيات الأنبياء، وذلك أنه ظهر في ملكوت السماء خارجا من جملة طباع ما في هذا العالم المركب من الطبائع، فليس مما يطمع في الوصول إليه بحيلة، فلذلك صار البرهان به أظهر. وقد أنكر ذلك بعضهم فقال: لو وقع ذلك لم يحز أن يخفى أمره على عوام الناس لأنه أمر صدر عن حس ومشاهدة فالناس فيه شركاء والدواعي متوفرة على رؤية كل غريب ونقل ما لم يعهد، فلو كان لذلك أصل لخلد في كتب أهل التسيير والتنجيم، إذ لا يجوز إطباقهم على تركه وإغفاله مع جلاله شأنه ووضوح أمره. والجواب عن ذلك أن هذه القصة خرجت عن بقية الأمور التي ذكروها لأنه شيء طلبه خاص من الناس فوقع ليلا لأن القمر لا سلطان له بالنهار ومن شأن الليل أن يكون أكثر الناس فيه نياما ومستكنين بالأبنية، والبارز بالصحراء منهم إذا كان يقظان يحتمل أنه كان في ذلك الوقت مشغولا بما يلهيه من سمر وغيره، ومن المستبعد أن يقصدوا إلى مراصد مركز القمر ناظرين إليه لا يغفلون عنه، فقد يجوز أنه وقع ولم يشعر به أكثر الناس، وإنما رآه من تصدى لرؤيته ممن اقترح وقوعه، ولعل ذلك إنما كان في قدر اللحظة التي هي مدرك البصر. ثم أبدى حكمة بالغة في كون المعجزات المحمدية لم يبلغ شيء منها مبلغ التواتر الذي لا نزاع فيه إلا القرآن بما حاصله: إن معجزة كل نبي كانت إذا وقعت عامة أعقبت هلاك من كذب به من قومه للاشتراك في إدراكها بالحس، والنبي صلى الله عليه وسلم بعث رحمة فكانت معجزته التي تحدى بها عقلية، فاختص بها القوم الذين بعث منهم لما أوتوه من فضل العقول وزيادة الأفهام، ولو كان إدراكها عاما لعوجل من كذب به كما عوجل من قبلهم. وذكر أبو نعيم في "الدلائل" نحو ما ذكره الخطابي وزاد: ولا سيما إذا وقعت الآية في بلدة كان عامة أهلها يومئذ الكفار الذين يعتقدون أنها سحر ويجتهدون في إطفاء نور الله. قلت: وهو جيد بالنسبة إلى من سأل عن الحكمة في قلة من نقل ذلك من"الصحابة" وأما من سأل عن السبب في كون أهل التنجيم لم يذكروه فجوابه أنه لم ينقل عن أحد منهم أنه نفاه، وهذا كاف، فإن الحجة فيمن أثبت لا فيمن يوجد عنه صريح النفي، حتى

(7/185)


إن من وجد عنه صريح النفي يقدم عليه من وجد منه صريح الإثبات. وقال ابن عبد البر: قد روى هذا الحديث جماعة كثيرة من الصحابة، وروى ذلك عنهم أمثالهم من التابعين. ثم نقله عنهم الجم الغفير إلى أن انتهى إلينا، ويؤيد ذلك بالآية الكريمة، فلم يبق لاستبعاد من استبعد وقوعه عذر. ثم أجاب بنحو جواب الخطابي وقال: وقد يطلع على قوم قبل طلوعه على آخرين، وأيضا فإن زمن الانشقاق لم يطل ولم تتوفر الدواعي على الاعتناء بالنظر إليه، ومع ذلك فقد بعث أهل مكة إلى آفاق مكة يسألون عن ذلك فجاءت السفار وأخبروا بأنهم عاينوا ذلك، وذلك لأن المسافرين في الليل غالبا يكونون سائرين في ضوء القمر ولا يخفى عليهم ذلك. وقال القرطبي: الموانع من مشاهدة ذلك إذا لم يحصل القصد إليه غير منحصرة، ويحتمل أن يكون الله صرف جميع أهل الأرض غير أهل مكة وما حولها عن الالتفات إلى القمر في تلك الساعة ليختص بمشاهدته أهل مكة كما اختصوا بمشاهدة أكثر الآيات ونقلوها إلى غيرهم ا ه. وفي كلامه نظر لأن أحدا لم ينقل أن أحدا من أهل الآفاق غير أهل مكة ذكروا أنهم رصدوا القمر في تلك الليلة المعينة فلم يشاهدوا انشقاقه، فلو نقل ذلك لكان الجواب الذي أبداه القرطبي جيدا، ولكن لم ينقل عن أحد من أهل الأرض شيء من ذلك، فالاقتصار حينئذ على أن الجواب الذي ذكره الخطابي ومن تبعه أوضح، والله أعلم. وأما الآية فالمراد بها قوله تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} لكن ذهب بعض أهل العلم من القدماء أن المراد بقوله: {وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} أي سينشق كما قال تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} أي سيأتي، والنكتة في ذلك إرادة المبالغة في تحقق وقوع ذلك، فنزل منزلة الواقع. والذي ذهب إليه الجمهور أصح كما جزم به ابن مسعود وحذيفة وغيرهما، ويؤيده قوله تعالى: بعد ذلك: {وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} فإن ذلك ظاهر في أن المراد بقوله: {وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} وقوع انشقاقه، لأن الكفار لا يقولون ذلك يوم القيامة، وإذا تبين أن قولهم ذلك إنما هو في الدنيا تبين وقوع الانشقاق وأنه المراد بالآية التي زعموا أنها سحر، ووقع ذلك صريحا في حديث ابن مسعود كما بيناه قبل، ونقل البيهقي في أوائل البعث والنشور عن الحليمي أن من الناس من يقول: إن المراد بقوله تعالى: {وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} أي سينشق، قال الحليمي: فإن كان كذلك فقد وقع في عصرنا، فشاهدت الهلال ببخارى في الليلة الثالثة منشقا نصفين عرض كل واحد منهما كعرض القمر ليلة أربع أو خمس، ثم اتصلا فصار في شكل أترجة إلى أن غاب. قال: وأخبرني بعض من أثق به أنه شاهد ذلك في ليلة أخرى أ ه. ولقد عجبت من البيهقي كيف أقر هذا مع إيراده حديث ابن مسعود المصرح بأن المراد بقوله تعالى: {وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} أن ذلك وقع في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه ساقه هكذا من طريق ابن مسعود في هذه الآية {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} قال: لقد انشق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ساق حديث ابن مسعود" لقد مضت آية الدخان والروم والبطشة وانشقاق القمر" وسيأتي الكلام على هذا الحديث الأخير في تفسير سورة الدخان إن شاء الله تعالى.

(7/186)


37 - باب هِجْرَةِ الْحَبَشَةِ
وَقَالَتْ عَائِشَةُ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أُرِيتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ ذَاتَ نَخْلٍ بَيْنَ لاَبَتَيْنِ"
فَهَاجَرَ مَنْ هَاجَرَ قِبَلَ الْمَدِينَةِ وَرَجَعَ عَامَّةُ مَنْ كَانَ هَاجَرَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ

(7/186)


فِيهِ عَنْ أَبِي مُوسَى وَأَسْمَاءَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
3872- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجُعْفِيُّ حَدَّثَنَا هِشَامٌ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ حَدَّثَنَا عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ أَخْبَرَهُ أَنَّ الْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ قَالاَ لَهُ مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تُكَلِّمَ خَالَكَ عُثْمَانَ فِي أَخِيهِ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ وَكَانَ أَكْثَرَ النَّاسُ فِيمَا فَعَلَ بِهِ قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ فَانْتَصَبْتُ لِعُثْمَانَ حِينَ خَرَجَ إِلَى الصَّلاَةِ فَقُلْتُ لَهُ إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً وَهِيَ نَصِيحَةٌ فَقَالَ أَيُّهَا الْمَرْءُ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ فَانْصَرَفْتُ فَلَمَّا قَضَيْتُ الصَّلاَةَ جَلَسْتُ إِلَى الْمِسْوَرِ وَإِلَى ابْنِ عَبْدِ يَغُوثَ فَحَدَّثْتُهُمَا بِالَّذِي قُلْتُ لِعُثْمَانَ وَقَالَ لِي فَقَالاَ قَدْ قَضَيْتَ الَّذِي كَانَ عَلَيْكَ فَبَيْنَمَا أَنَا جَالِسٌ مَعَهُمَا إِذْ جَاءَنِي رَسُولُ عُثْمَانَ فَقَالاَ لِي قَدْ ابْتَلاَكَ اللَّهُ فَانْطَلَقْتُ حَتَّى دَخَلْتُ عَلَيْهِ فَقَالَ مَا نَصِيحَتُكَ الَّتِي ذَكَرْتَ آنِفًا قَالَ فَتَشَهَّدْتُ ثُمَّ قُلْتُ إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ وَكُنْتَ مِمَّنْ اسْتَجَابَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآمَنْتَ بِهِ وَهَاجَرْتَ الْهِجْرَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ وَصَحِبْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَأَيْتَ هَدْيَهُ وَقَدْ أَكْثَرَ النَّاسُ فِي شَأْنِ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ فَحَقٌّ عَلَيْكَ أَنْ تُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدَّ فَقَالَ لِي يَا ابْنَ أَخِي آدْرَكْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "قُلْتُ لاَ وَلَكِنْ قَدْ خَلَصَ إِلَيَّ مِنْ عِلْمِهِ مَا خَلَصَ إِلَى الْعَذْرَاءِ فِي سِتْرِهَا قَالَ فَتَشَهَّدَ عُثْمَانُ فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَقِّ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ وَكُنْتُ مِمَّنْ اسْتَجَابَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآمَنْتُ بِمَا بُعِثَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَاجَرْتُ الْهِجْرَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ كَمَا قُلْتَ وَصَحِبْتُ رَسُولَ اللَّهِ وَبَايَعْتُهُ وَاللَّهِ مَا عَصَيْتُهُ وَلاَ غَشَشْتُهُ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ ثُمَّ اسْتَخْلَفَ اللَّهُ أَبَا بَكْرٍ فَوَاللَّهِ مَا عَصَيْتُهُ وَلاَ غَشَشْتُهُ ثُمَّ اسْتُخْلِفَ عُمَرُ فَوَاللَّهِ مَا عَصَيْتُهُ وَلاَ غَشَشْتُهُ ثُمَّ اسْتُخْلِفْتُ أَفَلَيْسَ لِي عَلَيْكُمْ مِثْلُ الَّذِي كَانَ لَهُمْ عَلَيَّ قَالَ بَلَى قَالَ فَمَا هَذِهِ الأَحَادِيثُ الَّتِي تَبْلُغُنِي عَنْكُمْ فَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ شَأْنِ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ فَسَنَأْخُذُ فِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِالْحَقِّ قَالَ فَجَلَدَ الْوَلِيدَ أَرْبَعِينَ جَلْدَةً وَأَمَرَ عَلِيًّا أَنْ يَجْلِدَهُ وَكَانَ هُوَ يَجْلِدُهُ"
وَقَالَ يُونُسُ وَابْنُ أَخِي الزُّهْرِيِّ عَنْ الزُّهْرِيِّ "أَفَلَيْسَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ الْحَقِّ مِثْلُ الَّذِي كَانَ لَهُمْ"
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ {بَلاَءٌ مِنْ رَبِّكُمْ} مَا ابْتُلِيتُمْ بِهِ مِنْ شِدَّةٍ وَفِي مَوْضِعٍ الْبَلاَءُ الِابْتِلاَءُ وَالتَّمْحِيصُ مَنْ بَلَوْتُهُ وَمَحَّصْتُهُ أَيْ اسْتَخْرَجْتُ مَا عِنْدَهُ يَبْلُو يَخْتَبِرُ مُبْتَلِيكُمْ مُخْتَبِرُكُمْ وَأَمَّا قَوْلُهُ {بَلاَءٌ عَظِيمٌ} النِّعَمُ وَهِيَ مِنْ أَبْلَيْتُهُ وَتِلْكَ مِنْ ابْتَلَيْتُهُ.
3873- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ هِشَامٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا "أَنَّ

(7/187)


أُمَّ حَبِيبَةَ وَأُمَّ سَلَمَةَ ذَكَرَتَا كَنِيسَةً رَأَيْنَهَا بِالْحَبَشَةِ فِيهَا تَصَاوِيرُ فَذَكَرَتَا للنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ "إِنَّ أُولَئِكَ إِذَا كَانَ فِيهِمْ الرَّجُلُ الصَّالِحُ فَمَاتَ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا وَصَوَّرُوا فِيهِ تِيكَ الصُّوَرَ أُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"
3874- حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ سَعِيدٍ السَّعِيدِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أُمِّ خَالِدٍ بِنْتِ خَالِدٍ قَالَتْ: "قَدِمْتُ مِنْ أَرْضِ الْحَبَشَةِ وَأَنَا جُوَيْرِيَةٌ فَكَسَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمِيصَةً لَهَا أَعْلاَمٌ فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْسَحُ الأَعْلاَمَ بِيَدِهِ وَيَقُولُ سَنَاهْ سَنَاهْ قَالَ الْحُمَيْدِيُّ يَعْنِي حَسَنٌ حَسَنٌ".
3875- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمَّادٍ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "كُنَّا نُسَلِّمُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُصَلِّي فَيَرُدُّ عَلَيْنَا فَلَمَّا رَجَعْنَا مِنْ عِنْدِ النَّجَاشِيِّ سَلَّمْنَا عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْنَا فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا كُنَّا نُسَلِّمُ عَلَيْكَ فَتَرُدُّ عَلَيْنَا قَالَ إِنَّ فِي الصَّلاَةِ شُغْلًا فَقُلْتُ لِإِبْرَاهِيمَ كَيْفَ تَصْنَعُ أَنْتَ قَالَ: أَرُدُّ فِي نَفْسِي"
3876- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ حَدَّثَنَا بُرَيْدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "بَلَغَنَا مَخْرَجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ بِالْيَمَنِ فَرَكِبْنَا سَفِينَةً فَأَلْقَتْنَا سَفِينَتُنَا إِلَى النَّجَاشِيِّ بِالْحَبَشَةِ فَوَافَقْنَا جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ فَأَقَمْنَا مَعَهُ حَتَّى قَدِمْنَا فَوَافَقْنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ افْتَتَحَ خَيْبَرَ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لَكُمْ أَنْتُمْ يَا أَهْلَ السَّفِينَةِ هِجْرَتَانِ"
قوله: "باب هجرة الحبشة" أي هجرة المسلمين من مكة إلى أرض الحبشة، وكان وقوع ذلك مرتين، وذكر أهل السير أن الأولى كانت في شهر رجب من سنة خمس من المبعث، وأن أول من هاجر منهم أحد عشر رجلا وأربع نسوة، وقيل: وامرأتان، وقيل: كانوا اثني عشر رجلا وقيل: عشرة، وأنهم خرجوا مشاة إلى البحر فاستأجروا سفينة بنصف دينار، وذكر ابن إسحاق أن السبب في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه لما رأى المشركين يؤذونهم ولا يستطيع أن يكفهم عنهم " إن بالحبشة ملكا لا يظلم عنده أحد، فلو خرجتم إليه حتى يجعل الله لكم فرجا" ، فكان أول من خرج منهم عثمان بن عفان ومعه زوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وأخرج يعقوب بن سفيان بسند موصول إلى أنس قال."أبطأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرهما، فقدمت امرأة فقالت له.لقد رأيتهما وقد حمل عثمان امرأته على حمار، فقال: صحبهما الله، إن عثمان لأول من هاجر بأهله بعد لوط". قلت: وبهذا تظهر النكتة في تصدير البخاري الباب بحديث عثمان، وقد سرد ابن إسحاق أسماءهم، فأما الرجال فهم عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام وأبو حذيفة بن عتبة ومصعب بن عمير وأبو سلمة بن عبد الأسود وعثمان بن مظعون وعامر بن ربيعة وسهيل بن بيضاء وأبو سبرة بن أبي رهم العامري، قال ويقال بدله حاطب بن عمرو العامري، قال: فهؤلاء العشرة أول من

(7/188)


خرج من المسلمين إلى الحبشة. قال ابن هشام. وبلغني أنه كان عليهم عثمان بن مظعون، وأما النسوة فهن رقية بنت النبي صلى الله عليه وسلم وسهلة بنت سهل امرأة أبي حذيفة وأم سلمة بنت أبي أمية امرأة أبي سلمة وليلى بنت أبي حثمة امرأة عامر بن ربيعة، ووافقه الواقدي في سردهن وزاد اثنين عبد الله بن مسعود وحاطب بن عمرو، مع أنه ذكر في أول كلامه أنهم كانوا أحد عشر رجلا فالصواب ما قال ابن إسحاق أنه اختلف في الحادي عشر هل هو أبو سبرة أو حاطب، وأما ابن مسعود فجزم ابن إسحاق بأنه إنما كان في الهجرة الثانية، ويؤيده ما روى أحمد بإسناد حسن عن ابن مسعود قال: "بعثنا النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي ونحن نحو من ثمانين رجلا فيهم عبد الله بن مسعود وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن عرفطة وعثمان بن مظعون وأبو موسى الأشعري" فذكر الحديث. وقد استشكل ذكر أبي موسى فيهم، لأن المذكور في الصحيح أن أبا موسى خرج من بلاده هو وجماعة قاصدا النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة فألقتهم السفينة بأرض الحبشة فحضروا مع جعفر إلى النبي صلى الله عليه وسلم بخيبر، ويمكن الجمع بأن يكون أبو موسى هاجر أولا إلى مكة فأسلم فبعثه النبي صلى الله عليه وسلم مع من بعث إلى الحبشة فتوجه إلى بلاد قومه وهم مقابل الحبشة من الجانب الشرقي، فلما تحقق استقرار النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالمدينة هاجر هو ومن أسلم من قومه إلى المدينة فألقتهم السفينة لأجل هيجان الريح إلى الحبشة، فهذا محتمل، وفيه جمع بين الأخبار فليعتمد، والله أعلم. وعلى هذا فقول أبي موسى" بلغنا مخرج النبي صلى الله عليه وسلم" أي إلى المدينة، وليس المراد بلغنا مبعثه، ويؤيده أنه يبعد كل البعد أن يتأخر علم مبعثه إلى مضي نحو عشرين سنة، ومع الحمل على مخرجه إلى المدينة فلا بد فيه من زيادة استقراره بها وانتصافه ممن عاداه ونحو ذلك، وإلا فبعيد أيضا أن يخفى عنهم خبر خروجه إلى المدينة ست سنين، ويحتمل أن إقامة أبي موسى بأرض الحبشة طالت لأجل تأخر جعفر عن الحضور إلى المدينة حتى يأتيه الإذن من النبي صلى الله عليه وسلم بالقدوم، وأما عثمان بن مظعون فذكر فيهم وإن كان مذكورا في الأول، لأن ابن إسحاق وموسى بن عقبة وغيرهما من أهل السير ذكروا أن المسلمين بلغهم وهم بأرض الحبشة أن أهل مكة أسلموا، فرجع ناس منهم عثمان بن مظعون إلى مكة فلم يجدوا ما أخبروا به من ذلك صحيحا، فرجعوا، وسار معهم جماعة إلى الحبشة، وهي الهجرة الثانية. وسرد ابن إسحاق أسماء أهل الهجرة الثانية وهم زيادة على ثمانين رجلا. وقال ابن جرير الطبري: كانوا اثنين وثمانين رجلا سوى نسائهم وأبنائهم، وشك في عمار بن ياسر هل كان فيهم وبه تتكمل العدة ثلاثة وثمانين، وقيل: إن عدة نسائهم كانت ثماني عشرة امرأة. قوله: "وقالت عائشة أريت دار هجرتكم إلخ" هذا وقع بعد الهجرة الثانية إلى الحبشة كما سيأتي بيانه موصولا مطولا في "باب الهجرة إلى المدينة". قوله فيه "عن أبي موسى وأسماء" أما حديث أبي موسى فسيأتي في آخر الباب، وأما حديث أسماء وهي بنت عميس فسيأتي في غزوة خيبر من طريق أبي بردة بن أبي موسى عن أبيه" بلغنا مخرج النبي صلى الله عليه وسلم ونحن باليمن - فذكر الحديث وفيه - ودخلت أسماء بنت عميس وهي ممن قدم معنا على حفصة، وقد كانت أسماء هاجرت فيمن هاجر إلى النجاشي" الحديث. قصة الوليد بن عقبة التي مضت في مناقب عثمان تقدم شرحها مستوفي بتمامه، وفيه قوله هنا: "أن تكلم خالك" والغرض منها قول عثمان" وهاجرت الهجرتين الأوليين" كما قالت و "الأوليين" بضم الهمزة وتحتانيتين تثنية أولى، وهو على طريق التغليب بالنسبة إلى هجرة الحبشة فإنها كانت أولى وثانية، وأما إلى المدينة فلم تكن إلا واحدة، ويحتمل أن تكون الأولية بالنسبة إلى أعيان من هاجر فإنهم هاجروا متفرقين فتعدد بالنسبة إليهم، فمن أول من هاجر عثمان. قوله: "وقال يونس" هو ابن يزيد "وابن أخي

(7/189)


الزهري" هو محمد بن عبد الله بن مسلم "عن الزهري" بالإسناد المذكور. وطريق يونس وصلها المؤلف في مناقب عثمان، وأما طريق ابن أخي الزهري فوصلها قاسم بن أصبغ في مصنفه ومن طريقه ابن عبد البر في تمهيده وهو باللفظ الذي علقه المصنف، وهذا التعليق عن هذين وكذا الذي بعده من التفسير في رواية المستملي وحده. قوله: "قال أبو عبد الله بلاء من ربكم إلخ" وقع في رواية المستملي وحده أيضا، وأورده هنا لقوله: "قد ابتلاك الله" والمراد به الاختيار، ولهذا قال: "هو من بلوته إذا استخرجت ما عنده" واستشهد بقوله نبلو أي نختبر، ومبتليكم أي مختبركم، ثم استطرد فقال وأما قوله بلاء من ربكم عظيم أي نعيم، وهو من ابتليته إذا أنعمت عليه، والأول من ابتليته إذا امتحنته، وهذا كله كلام أبي عبيدة في "المجاز" فرقه في مواضعه، وتحرير ذلك أن لفظ البلاء من الأضداد، يطلق ويراد به النعمة، ويطلق ويراد به النقمة، ويطلق أيضا على الاختبار، ووقع ذلك كله في القرآن كقوله تعالى: {بَلاءً حَسَناً} فهذا من النعمة والعطية، وقوله: {بلاء عظيم} فهذا من النقمة، ويحتمل أن يكون من الاختبار، وكذلك قوله: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ} والابتلاء بلفظ الافتعال يراد به النقمة والاختيار أيضا. حديث عائشة" أن أم سلمة وأم حبيبة ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة" الحديث كانت أم سلمة قد هاجرت في الهجرة الأولى إلى الحبشة مع زوجها أبي سلمة بن عبد الأسد كما تقدم بيانه، وهاجرت أم حبيبة وهي بنت أبي سفيان في الهجرة الثانية مع زوجها عبيد الله بن جحش فمات هناك، ويقال إنه قد تنصر، وتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم بعده، وقد تقدم شرح الحديث في كتاب الجنائز. حديث أم خالد بنت خالد وهو ابن سعيد بن العاص بن أمية، وكان أبوها ممن هاجر في الهجرة الثانية إلى الحبشة، وولدت له هناك فسماها أمة وكناها أم خالد، وأمها أمينة بالتصغير ويقال همينة بالهاء بدل الهمزة بنت خلف الخزاعية. قوله: "حدثنا إسحاق بن سعيد السعيدي" هو ابن سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص، وجد أبيه سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص الأصغر هو ابن عم أم خالد المذكورة، وسيأتي شرح الحديث في كتاب اللباس إن شاء الله تعالى. حديث عبد الله وهو ابن مسعود، وسليمان في الإسناد هو الأعمش. قوله: "فلما رجعنا من عند النجاشي" قد قدمت من عند أحمد حديث ابن مسعود أنه كان ممن هاجر إلى الحبشة في الهجرة الثانية، وتقدم شرح حديث الباب مستوفى في آخر الصلاة، وبينت هناك أن رجوع ابن مسعود من الحبشة وقع لما بلغ المسلمين الذين بالحبشة أن النبي صلى الله عليه وسلم هاجر إلى المدينة، فوصل منهم إلى مكة أكثر من ثلاثين رجلا، وكان وصول ابن مسعود إلى المدينة والنبي صلى الله عليه وسلم يتجهز إلى بدر، وظهر بما تقدم من أسماء أهل الهجرة الأولى إلى الحبشة وهم من زعم أن ابن مسعود كان منهم وإنما كان من أهل الهجرة الثانية. حديث أبي موسى وهو الأشعري قال: "بلغنا مخرج النبي صلى الله عليه وسلم: "أي مبعثه. قوله: "ونحن باليمن" أي من بلاد قومهم. قوله: "فركبنا سفينة" أي لنصل فيها إلى مكة. قوله: "فألقتنا سفينتنا إلى النجاشي" كأن الريح هاجت عليهم فما ملكوا أمرهم حتى أوصلتهم بلاد الحبشة. قوله: في آخر الحديث "فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لكم أنتم أهل السفينة هجرتان" سيأتي هذا الحديث في غزوة خيبر مطولا، وفيه البيان بأن هذه الجملة الأخيرة إنما هي من حديث أسماء بنت عميس كما أشرت إليه أول الباب والله أعلم. "تكملة": أرض الحبشة بالجانب الغربي من بلاد اليمن ومسافتها طويلة جدا، وهم أجناس، وجميع فرق السودان يعطون الطاعة لملك الحبشة، وكان في القديم يلقب بالنجاشي، وأما اليوم فيقال له الحطي بفتح المهملة وكسر الطاء المهملة الخفيفة بعدها

(7/190)


تحتانية خفيفة، ويقال إنهم من ولد حبش بن كوش بن حام، قال ابن دريد: جمع الحبش أحبوش بضم أوله، وأما قولهم الحبشة فعلى غير القياس، وقد قالوا أيضا حبشان وقالوا أحبش، وأصل التحبيش التجميع، والله أعلم.

(7/191)


38 - باب مَوْتُ النَّجَاشِيِّ
3877- حَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "حِينَ مَاتَ النَّجَاشِيُّ مَاتَ الْيَوْمَ رَجُلٌ صَالِحٌ فَقُومُوا فَصَلُّوا عَلَى أَخِيكُمْ أَصْحَمَةَ"
3878- حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى بْنُ حَمَّادٍ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ أَنَّ عَطَاءً حَدَّثَهُمْ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَى أَصْحَمَةَ النَّجَاشِيِّ فَصَفَّنَا وَرَاءَهُ فَكُنْتُ فِي الصَّفِّ الثَّانِي أَوْ الثَّالِثِ"
3879- حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ عَنْ سَلِيمِ بْنِ حَيَّانَ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مِينَاءَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَى أَصْحَمَةَ النَّجَاشِيِّ فَكَبَّرَ عَلَيْهِ أَرْبَعًا" تَابَعَهُ عَبْدُ الصَّمَدِ.
3880- حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَابْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَخْبَرَهُمَا "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَعَى لَهُمْ النَّجَاشِيَّ صَاحِبَ الْحَبَشَةِ فِي الْيَوْمِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ وَقَالَ اسْتَغْفِرُوا لِأَخِيكُمْ "
3881- وَعَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَخْبَرَهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَفَّ بِهِمْ فِي الْمُصَلَّى فَصَلَّى عَلَيْهِ وَكَبَّرَ أَرْبَعًا
"باب موت النجاشي" تقدم ذكر اسمه واسم أبيه في الجنائز، وأن النجاشي لقب من ملك الحبشة، وأفاد ابن التين أنه بسكون الياء يعني أنها أصلية لا ياء النسب، وحكى غيره تشديدها أيضا، وحكى ابن دحية كسر نونه.وذكر موته هنا استطرادا لكون المسلمين هاجروا إليه، وإنما وقعت وفاته بعد الهجرة سنة تسع عند الأكثر، وقيل: سنة ثمان قبل فتح مكة كما ذكره البيهقي في" دلائل النبوة" وقد استشكل كونه لم يترجم بإسلامه وهذا موضعه وترجم بموته، وإنما مات بعد ذلك بزمن طويل، والجواب أنه لما لم يثبت عنده القصة الواردة في صفة إسلامه وثبت عنده الحديث الدال على إسلامه وهو صريح في موته ترجم به ليستفاد من الصلاة عليه أنه كان قد أسلم. قوله: "فصلوا على أخيكم أصحمة" بمهملتين وزن أربعة، تقدم ضبطه في كتاب الجنائز وبيان الاختلاف فيه وأنه قيل فيه بالخاء المعجمة. قوله: "حدثنا سعيد" هو ابن أبي عروبة. قوله: "عن سليم" هو بفتح أوله. قوله: "تابعه عبد الصمد" هو ابن عبد الوارث أي أن عبد الصمد تابع يزيد بن هارون في روايته

(7/191)


إياه عن سليم بن حبان، وقد تقدم بيان من وصله في كتاب الجنائز. قوله: "عن صالح" هو ابن كيسان. قوله: "وعن صالح عن ابن شهاب" هو معطوف على الإسناد الموصول. قوله: "حدثني سعيد" هو ابن المسيب، ووقع في رواية الكشميهني وحده" وأبو سلمة بن عبد الرحمن" وهو زيادة لم يتابع عليها ولم يذكرها مسلم في إسناد هذا الحديث، وقد تقدم الكلام على مباحث حديثي الباب في كتاب الجنائز.

(7/192)


39 - باب تَقَاسُمُ الْمُشْرِكِينَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
3882- حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حِينَ أَرَادَ حُنَيْنًا مَنْزِلُنَا غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِخَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ حَيْثُ تَقَاسَمُوا عَلَى الْكُفْرِ "
قوله: "باب تقاسم المشركين على النبي صلى الله عليه وسلم" كان ذلك أول يوم من المحرم سنة سبع من البعثة وكان النجاشي قد جهز جعفرا ومن معه، فقدموا والنبي صلى الله عليه وسلم بخيبر وذلك في صفر منها، فلعله مات بعد أن جهزهم، وفي "الدلائل" للبيهقي أنه مات قبل الفتح وهو أشبه، قال ابن إسحاق وموسى ابن عقبة وغيرهما من أصحاب المغازي: لما رأت قريش أن الصحابة قد نزلوا أرضا أصابوا بها أمانا وأن عمر أسلم وأن الإسلام فشا في القبائل أجمعوا على أن يقتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فبلغ ذلك أبا طالب فجمع بني هاشم وبني المطلب فأدخلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم شعبهم ومنعوه ممن أراد قتله، فأجابوه إلى ذلك حتى كفارهم فعلوا ذلك حمية على عادة الجاهلية، فلما رأت قريش ذلك أجمعوا أن يكتبوا بينهم وبين بني هاشم والمطلب كتابا أن لا يعاملوهم ولا يناكحوهم حتى يسلموا إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففعلوا ذلك، وعلقوا الصحيفة في جوف الكعبة، وكان كاتبها منصور بن عكرمة بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي فشلت أصابعه، ويقال إن الذي كتبها النضر بن الحارث، وقيل: طلحة بن أبي طلحة العبدري، قال ابن إسحاق، فانحازت بنو هاشم وبنو المطلب إلى أبي طالب فكانوا معه كلهم إلا أبا لهب فكان مع قريش، وقيل: كان ابتداء حصرهم في المحرم سنة سبع من المبعث، قال ابن إسحاق: فأقاموا على ذلك سنتين أو ثلاثا، وجزم موسى بن عقبة بأنها كانت ثلاث سنين حتى جهدوا ولم يكن يأتيهم شيء من الأقوات إلا خفية، حتى كانوا يؤذون من اطلعوا على أنه أرسل إلى بعض أقاربه شيئا من الصلات، إلى أن قام في نقض الصحيفة نفر من أشدهم في ذلك صنيعا هشام بن عمرو بن الحارث العامري، وكانت أم أبيه تحت هاشم بن عبد مناف قبل أن يتزوجها جده، فكان يصلهم وهم في الشعب، ثم مشى إلى زهير بن أبي أمية وكانت أمه عاتكة بنت عبد المطلب فكلمه في ذلك فوافقه، ومشيا جميعا إلى المطعم بن عدي وإلى زمعة بن الأسود فاجتمعوا على ذلك، فلما جلسوا بالحجر تكلموا في ذلك وأنكروه وتواطئوا عليه فقال أبو جهل هذا أمر قضي بليل. وفي آخر الأمر أخرجوا الصحيفة فمزقوها وأبطلوا حكمها. وذكر ابن هشام أنهم وجدوا الأرضة قد أكلت جميع ما فيها إلا اسم الله تعالى. وأما ابن إسحاق وموسى بن عقبة وعروة فذكروا عكس ذلك أن الأرضة لم تدع اسما لله تعالى إلا أكلته، وبقي ما فيها من الظلم والقطيعة، فالله أعلم. وذكر الواقدي أن خروجهم من الشعب كان في سنة عشر من المبعث، وذلك قبل الهجرة بثلاث سنين، ومات أبو

(7/192)


طالب بعد أن خرجوا بقليل. قال ابن إسحاق ومات هو وخديجة في عام واحد، فنالت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم تكن تنله في حياة أبي طالب. ولما لم يثبت عند البخاري شيء من هذه القصة اكتفى بإيراد حديث أبي هريرة لأن فيه دلالة على أصل القصة، لأن الذي أورده أهل المغازي من ذلك كالشرح لقوله في الحديث: "تقاسموا على الكفر". قوله: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حين أراد حنينا: منزلنا غدا إن شاء الله تعالى بخيف بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر " هكذا أورده مختصرا، وقد تقدم في الحج من طريق شعيب عن ابن شهاب الزهري بهذا الإسناد بلفظ: "قال حين أراد قدوم مكة" وهذا لا يعارض ما في الباب، لأنه يحمل أنه قال ذلك حين أراد دخول مكة في غزوة الفتح، وفي ذلك القدوم غزا حنينا، ولكن تقدم أيضا من طريق شعيب عن الزهري بلفظ: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من الغد يوم النحر وهو بمنى: نحن نازلون غدا" الحديث، وهذا ظاهر في أنه قاله في حجة الوداع فيحمل قوله في رواية الأوزاعي" حين أراد قدوم مكة" أي صادرا من منى إليها لطواف الوداع، ويحتمل التعدد، وسيأتي بيان ذلك مع بقية شرح الحديث في غزوة الفتح من كتاب المغازي إن شاء الله تعالى.

(7/193)


3 - باب قِصَّةِ أَبِي طَالِبٍ
3883- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ سُفْيَانَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَغْنَيْتَ عَنْ عَمِّكَ فَإِنَّهُ كَانَ يَحُوطُكَ وَيَغْضَبُ لَكَ قَالَ هُوَ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ وَلَوْلاَ أَنَا لَكَانَ فِي الدَّرَكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ"
[الحديث 3883- طرفاه في: 6572,6208]
3884- حَدَّثَنَا مَحْمُودٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ ابْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ أَبَا طَالِبٍ لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ دَخَلَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ أَبُو جَهْلٍ فَقَالَ أَ يْ عَمِّ قُلْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ كَلِمَةً أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ يَا أَبَا طَالِبٍ تَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَلَمْ يَزَالاَ يُكَلِّمَانِهِ حَتَّى قَالَ آخِرَ شَيْءٍ كَلَّمَهُمْ بِهِ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لاَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْهُ فَنَزَلَتْ {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [113 التوبة] وَنَزَلَتْ {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [56 القصص]
3885- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ حَدَّثَنَا ابْنُ الْهَادِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَبَّابٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذُكِرَ عِنْدَهُ عَمُّهُ فَقَالَ لَعَلَّهُ تَنْفَعُهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُجْعَلُ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ النَّارِ يَبْلُغُ كَعْبَيْهِ يَغْلِي مِنْهُ دِمَاغُهُ "
[الحديث 3885- طرفه في: 6564]
قوله: "باب قصة أبي طالب" واسمه عند الجميع عبد مناف، وشذ من قال عمران، بل هو قول باطل نقله ابن

(7/193)


تيمية في كتاب الرد على الرافضي أن بعض الروافض زعم أن قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ} أن آل عمران هم آل أبي طالب وأن اسم أبي طالب عمران واشتهر بكنيته. وكان شقيق عبد الله والد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك أوصى به عبد المطلب عند موته فكفله إلى أن كبر، واستمر على نصره بعد أن بعث إلى أن مات أبو طالب، وقد ذكرنا أنه مات بعد خروجهم من الشعب، وذلك في آخر السنة العاشرة من المبعث، وكان يذب عن النبي صلى الله عليه وسلم ويرد عنه كل من يؤذيه، وهو مقيم مع ذلك على دين قومه.
وقد تقدم قريبا حديث ابن مسعود" وأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعه الله بعمه" وأخباره في حياطته والذب عنه معروفة مشهورة، ومما اشتهر من شعره في ذلك قوله:
والله لن يصلوا إليك بجمعهم ... حتى أوسد في التراب دفينا
وقوله:
كذبتم وبيت الله نبزي محمدا ... ولما نقاتل حوله ونناضل
وقد تقدم شيء من هذه القصيدة في كتاب الاستسقاء، وحديث ابن عباس في هذا الباب يشهد لذلك. قوله: "عن يحيى" هو ابن سعيد القطان، وسفيان هو الثوري، وعبد الملك هو ابن عمير، وعبد الله بن الحارث هو ابن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، والعباس عم جده. قوله: "ما أغنيت عن عمك" يعني أبا طالب. قوله: "كان يحوطك" بضم الحاء المهملة من الحياطة وهي المراعاة، وفيه تلميح إلى ما ذكره ابن إسحاق قال: "ثم إن خديجة وأبا طالب هلكا في عام واحد قبل الهجرة بثلاث سنين، وكانت خديجة له وزيرة صدق على الإسلام يسكن إليها، وكان أبو طالب له عضدا وناصرا على قومه، فلما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأذى ما لم تطمع به في حياة أبي طالب، حتى اعترضه سفيه من سفهاء قريش فعمر على رأسه ترابا: فحدثني هشام بن عروة عن أبيه قال: فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيته يقول ما نالتني قريش شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب". قوله: "ويغضب لك" يشير إلى ما كان يرد به عنه من قول وفعل. قوله: "هو في ضحضاح" بمعجمتين ومهملتين هو استعارة، فإن الضحضاح من الماء ما يبلغ الكعب، ويقال أيضا لما قد قرب من الماء وهو ضد الغمرة، والمعنى أنه خفف عنه العذاب. وقد ذكر في حديث أبي سعيد ثالث أحاديث الباب أنه" يجعل في ضحضاح يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه". ووقع في حديث ابن عباس عند مسلم: "إن أهون أهل النار عذابا أبو طالب له نعلان يغلي منهما دماغه" ولأحمد من حديث أبي هريرة مثله لكن لم يسم أبا طالب، وللبزار من حديث جابر" قيل للنبي صلى الله عليه وسلم هل نفعت أبا طالب؟ قال: أخرجته من النار إلى ضحضاح منها" وسيأتي في أواخر الرقاق من حديث النعمان بن بشير نحوه وفي آخره: "كما يغلي المرجل بالقمقم" والمرجل بكسر الميم وفتح الجيم الإناء الذي يغلي فيه الماء وغيره، والقمقم بضم القافين وسكون الميم الأولى معروف وهو الذي يسخن فيه الماء. قال ابن الأثير: كذا وقع "كما يغلي المرجل بالقمقم" وفيه نظر. ووقع في نسخة" كما يغلي المرجل والقمقم" وهذا أوضح إن ساعدته الرواية، انتهى. ويحتمل أن تكون الباء بمعنى مع، وقيل: القمقم هو البسر كانوا يغلونه على النار استعجالا لنضجه فإن ثبت هذا زال الإشكال. "تنبيه": في سؤال العباس عن حال أبي طالب ما يدل على ضعف ما أخرجه ابن إسحاق من حديث ابن عباس بسند فيه من لم يسم" أن أبا طالب لما تقارب منه الموت بعد أن عرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول لا إله إلا الله فأبى، قال فنظر العباس إليه وهو يحرك شفتيه فأصغى إليه فقال:

(7/194)


يا ابن أخي، والله لقد قال أخي الكلمة التي أمرته أن يقولها" وهذا الحديث لو كان طريقه صحيحا لعارضه هذا الحديث الذي هو أصح منه فضلا عن أنه لا يصح. وروى أبو داود والنسائي وابن خزيمة وابن الجارود من حديث علي قال: "لما مات أبو طالب قلت: يا رسول الله إن عمك الشيخ الضال قد مات، قال: اذهب فواره. قلت: إنه مات مشركا، فقال: اذهب فواره" الحديث. ووقفت على جزء جمعه بعض أهل الرفض أكثر فيه من الأحاديث الواهية الدالة على إسلام أبي طالب ولا يثبت من ذلك شيء، وبالله التوفيق. وقد لخصت ذلك في ترجمة أبي طالب من كتاب الإصابة. قوله: "حدثنا محمود" هو ابن غيلان. قوله: "عن أبيه" هو حزن بفتح المهملة وسكون الزاي أي ابن أبي وهب المخزومي. قوله: "أن أبا طالب لما حضرته الوفاة" أي قبل أن يدخل في الغرغرة قوله: "أحاج" بتشديد الجيم وأصله أحاجج، وقد تقدم في أواخر الجنائز بلفظ: "أشهد لك بها عند الله" وكأنه عليه الصلاة والسلام فهم من امتناع أبي طالب من الشهادة في تلك الحالة أنه ظن أن ذلك لا ينفعه لوقوعه عند الموت أو لكونه لم يتمكن من سائر الأعمال كالصلاة وغيرها، فلذلك ذكر له المحاججة. وأما لفظ الشهادة فيحتمل أن يكون ظن أن ذلك لا ينفعه إذ لم يحضره حينئذ أحد من المؤمنين مع النبي صلى الله عليه وسلم، فطيب قلبه بأن يشهد له بها فينفعه. وفي رواية أبي حازم عن أبي هريرة عند أحمد" فقال أبو طالب: لولا أن تعيرني قريش يقولون ما حمله عليه إلا جزع الموت لأقررت بها عينك" وأخرج ابن إسحاق من حديث ابن عباس نحوه. قوله: "وعبد الله بن أبي أمية" أي ابن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم، وهو أخو أم سلمة التي تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك، قد أسلم عبد الله يوم الفتح واستشهد في تلك السنة في غزاة حنين. قوله: "على ملة عبد المطلب" خبر مبتدأ محذوف، أي هو. وثبت كذلك في طريق أخرى. قوله: "فنزلت: ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعدما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم. ونزلت إنك لا تهدي من أحببت" أما نزول هذه الآية الثانية فواضح في قصة أبي طالب، وأما نزول التي قبلها ففيه نظر، ويظهر أن المراد أن الآية المتعلقة بالاستغفار نزلت بعد أبي طالب بمدة، وهي عامة في حقه وفي حق غيره، ويوضح ذلك ما سيأتي في التفسير بلفظ: "فأنزل الله بعد ذلك {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا} الآية. وأنزل في أبي طالب {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} ولأحمد من طريق أبي حازم عن أبي هريرة في قصة أبي طالب" قال فأنزل الله {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} وهذا كله ظاهر في أنه مات على غير الإسلام. ويضعف ما ذكره السهيلي أنه رأى في بعض كتب المسعودي1 أنه أسلم، لأن مثل ذلك لا يعارض ما في الصحيح. قوله: "حدثني ابن الهاد" هو يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد، وهو المراد بقوله في الرواية الثانية" عن يزيد بهذا" أي الإسناد والمتن إلا ما نبه عليه. قوله: "عن عبد الله بن خباب" أي المدني الأنصاري مولاهم، وكان من ثقات المدنيين، ولم أر له رواية عن غير أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وروى عنه جماعة من التابعين من أقرانه ومن بعده. قوله: "وذكر عنده عمه" زاد في رواية أخرى عن ابن الهاد الآتية في الرقاق "أبو طالب" ويؤخذ من الحديث الأول أن الذاكر هو العباس بن عبد المطلب لأنه الذي سأل عن ذلك. قوله: "يبلغ كعبيه" قال السهيلي: الحكمة فيه أن أبا طالب كان تابعا لرسول الله صلى الله عليه وسلم بجملته، إلا أنه استمر ثابت القدم على دين قومه، فسلط العذاب على قدميه خاصة لتثبيته إياهما على دين قومه، كذا قال، ولا يخلو عن نظر.
ـــــــ
1 المسعودي المؤرخ شيعي قح من دعاتهم.

(7/195)


قوله: "يغلي منه دماغه" وفي الرواية التي تليها" يغلي منه أم دماغه" قال الداودي: المراد أم رأسه، وأطلق على الرأس الدماغ من تسمية الشيء بما يقاربه ويجاوره. ووقع في رواية ابن إسحاق" يغلي منه دماغه حتى يسيل على قدمه" وفي الحديث جواز زيارة القريب المشرك وعيادته، وأن التوبة مقبولة ولو في شدة مرض الموت، حتى يصل إلى المعاينة فلا يقبل، لقوله تعالى: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} ، وأن الكافر إذا شهد شهادة الحق نجا من العذاب لأن الإسلام يجب ما قبله، وأن عذاب الكفار متفاوت، والنفع الذي حصل لأبي طالب من خصائصه ببركة النبي صلى الله عليه وسلم وإنما عرض النبي صلى الله عليه وسلم عليه أن يقول لا إله إلا الله ولم يقل فيها محمد رسول الله لأن الكلمتين صارتا كالكلمة الواحدة، ويحتمل أن يكون أبو طالب كان يتحقق أنه رسول الله ولكن لا يقر بتوحيد الله، ولهذا قال في الأبيات النونية:
ودعوتني وعلمت أنك صادق ... ولقد صدقت وكنت قبل أمينا
فاقتصر على أمره بقول لا إله إلا الله، فإذا أقر بالتوحيد لم يتوقف على الشهادة بالرسالة. "تكملة": من عجائب الاتفاق أن الذين أدركهم الإسلام من أعمام النبي صلى الله عليه وسلم أربعة: لم يسلم منهم اثنان. وأسلم اثنان. وكان اسم من لم يسلم ينافي أسامي المسلمين، وهما أبو طالب واسمه عبد مناف وأبو لهب واسمه عبد العزى، بخلاف من أسلم وهما حمزة والعباس.

(7/196)


41 - باب حَدِيثِ الإِسْرَاءِ
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى}
3886- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ "سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "لَمَّا كَذَّبَتْنِي قُرَيْشٌ قُمْتُ فِي الْحِجْرِ فَجَلاَ اللَّهُ لِي بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَطَفِقْتُ أُخْبِرُهُمْ عَنْ آيَاتِهِ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ" .
[الحديث 3886- طرفه في: 4710]
قوله: "حديث الإسراء، وقول الله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً} سيأتي البحث في لفظ {أَسْرَى} في تفسير سورة سبحان إن شاء الله تعالى. قال ابن دحية: جنح البخاري إلى أن ليلة الإسراء كانت غير ليلة المعراج، لأنه أفرد لكل منهما ترجمة. قلت: ولا دلالة في ذلك على التغاير عنده، بل كلامه في أول الصلاة ظاهر في اتحادهما، وذلك أنه ترجم" باب كيف فرضت الصلاة ليلة الإسراء" والصلاة إنما فرضت في المعراج، فدل على اتحادهما عنده، وإنما أفرد كلا منهما بترجمة لأن كلا منهما يشتمل على قصة مفردة وإن كانا وقعا معا، وقد روى كعب الأحبار أن باب السماء الذي يقال له مصعد الملائكة يقابل بيت المقدس، فأخذ منه بعض العلماء أن الحكمة في الإسراء إلى بيت المقدس قبل العروج ليحصل العروج مستويا من غير تعويج، وفيه نظر، لورود أن

(7/196)


في كل سماء بيتا معمورا، وأن الذي في السماء الدنيا حيال الكعبة، وكان المناسب أن يصعد من مكة ليصل إلى البيت المعمور بغير تعويج، لأنه صعد من سماء إلى سماء إلى البيت المعمور، وقد ذكر غيره مناسبات أخرى ضعيفة فقيل الحكمة في ذلك أن يجمع صلى الله عليه وسلم في تلك الليلة بين رؤية القبلتين، أو لأن بيت المقدس كان هجرة غالب الأنبياء قبله فحصل له الرحيل إليه في الجملة ليجمع بين أشتات الفضائل، أو لأنه محل الحشر وغالب ما اتفق له في تلك الليلة يناسب الأحوال الأخروية، فكان المعراج منه أليق بذلك، أو للتفاؤل بحصول أنواع التقديس له حسا ومعنى، أو ليجتمع بالأنبياء جملة كما سيأتي بيانه، وسيأتي مناسبة أخرى للشيخ ابن أبي جمرة قريبا، والعلم عند الله. وقد اختلف السلف بحسب اختلاف الأخبار الواردة: فمنهم من ذهب إلى أن الإسراء والمعراج وقعا في ليلة واحدة في اليقظة بجسد النبي صلى الله عليه وسلم وروحه بعد المبعث، وإلى هذا ذهب الجمهور من علماء المحدثين والفقهاء والمتكلمين وتواردت عليه ظواهر الأخبار الصحيحة، ولا ينبغي العدول عن ذلك إذ ليس في العقل ما يحيله حتى يحتاج إلى تأويل، نعم جاء في بعض الأخبار ما يخالف بعض ذلك، فجنح لأجل ذلك بعض أهل العلم منهم إلى أن ذلك كله وقع مرتين مرة في المنام توطئة وتمهيدا، ومرة ثانية في اليقظة كما وقع نظير ذلك في ابتداء مجيء الملك بالوحي، فقد قدمت في أول الكتاب ما ذكره ابن ميسرة التابعي الكبير وغيره أن ذلك وقع في المنام، وأنهم جمعوا بينه وبين حديث عائشة بأن ذلك وقع مرتين، وإلى هذا ذهب المهلب شارح البخاري وحكاه عن طائفة وأبو نصر بن القشيري ومن قبلهم أبو سعيد في" شرف المصطفى" قال: كان للنبي صلى الله عليه وسلم معاريج، منها ما كان في اليقظة ومنها ما كان في المنام، وحكاه السهيلي عن ابن العربي واختاره، وجوز بعض قائلي ذلك أن تكون قصة المنام وقعت قبل المبعث لأجل قول شريك في روايته عن أنس" وذلك قبل أن يوحى إليه" وقد قدمت في آخر صفة النبي صلى الله عليه وسلم بيان ما يرتفع به الإشكال ولا يحتاج معه إلى هذا التأويل، ويأتي بقية شرحه في الكلام على حديث شريك، وبيان ما خالفه فيه غيره من الرواة والجواب عن ذلك وشرحه مستوفى في كتاب التوحيد إن شاء الله تعالى. وقال بعض المتأخرين: كانت قصة الإسراء في ليلة والمعراج في ليلة، متمسكا بما ورد في حديث أنس من رواية شريك من ترك ذكر الإسراء، وكذا في ظاهر حديث مالك بن صعصعة هذا، ولكن ذلك لا يستلزم التعدد بل هو محمول على أن بعض الرواة ذكر ما لم يذكره الآخر كما سنبينه. وذهب بعضهم إلى أن الإسراء كان في اليقظة والمعراج كان في المنام، أو أن الاختلاف في كونه يقظة أو مناما خاص بالمعراج لا بالإسراء، ولذلك لما أخبر به قريشا كذبوه في الإسراء واستبعدوا وقوعه ولم يتعرضوا للمعراج، وأيضا فإن الله سبحانه وتعالى قال: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} فلو وقع المعراج في اليقظة لكان ذلك أبلغ في الذكر، فلما لم يقع ذكره في هذا الموضع مع كونه شأنه أعجب وأمره أغرب من الإسراء بكثير دل على أنه كان مناما، وأما الإسراء فلو كان مناما لما كذبوه ولا استنكروه لجواز وقوع مثل ذلك وأبعد منه لآحاد الناس، وقيل كان الإسراء مرتين في اليقظة فالأولى رجع من بيت المقدس وفي صبيحته أخبر قريشا بما وقع، والثانية أسري به إلى بيت المقدس ثم عرج به من ليلته إلى السماء إلى آخر ما وقع، ولم يقع لقريش في ذلك اعتراض لأن ذلك عندهم من جنس قوله إن الملك يأتيه من السماء في أسرع من طرفة عين، وكانوا يعتقدون استحالة ذلك مع قيام الحجة على صدقه بالمعجزات الباهرة، لكنهم عاندوا في ذلك واستمروا على تكذيبه فيه، بخلاف إخباره أنه جاء بيت المقدس في ليلة واحدة ورجع،

(7/197)


فإنهم صرحوا بتكذيبه فيه فطلبوا منه نعت بيت المقدس لمعرفتهم به وعلمهم بأنه ما كان رآه قبل ذلك فأمكنهم استعلام صدقه في ذلك بخلاف المعراج، ويؤيد وقوع المعراج عقب الإسراء في ليلة واحدة رواية ثابت عن أنس عند مسلم، ففي أوله "أتيت بالبراق فركبت حتى أتيت بيت المقدس" فذكر القصة إلى أن قال: "ثم عرج بنا إلى السماء الدنيا" وفي حديث أبي سعيد الخدري عند ابن إسحاق " فلما فرغت مما كان في بيت المقدس أتى بالمعراج" فذكر الحديث، ووقع في أول حديث مالك بن صعصعة أن النبي صلى الله عليه وسلم حدثهم عن ليلة أسري به فذكر الحديث، فهو وإن لم يذكر الإسراء إلى بيت المقدس فقد أشار إليه وصرح به في روايته فهو المعتمد. واحتج من زعم أن الإسراء وقع مفردا بما أخرجه البزار والطبراني وصححه البيهقي في "الدلائل" من حديث شداد بن أوس قال: "قلت يا رسول الله كيف أسري بك؟ قال: صليت صلاة العتمة بمكة فأتاني جبريل بدابة " فذكر الحديث في مجيئه بيت المقدس وما وقع له فيه، قال: "ثم انصرف بي، فمررنا بعير لقريش بمكان كذا" فذكره قال: "ثم أتيت أصحابي قبل الصبح بمكة" وفي حديث أم هانئ عند ابن إسحاق وأبي يعلى نحو ما في حديث أبي سعيد هذا، فإن ثبت أن المعراج كان مناما على ظاهر رواية شريك عن أنس فينتظم من ذلك أن الإسراء وقع مرتين. مرة على انفراده ومرة مضموما إليه المعراج وكلاهما في اليقظة، والمعراج وقع مرتين مرة في المنام على انفراده توطئة وتمهيدا، ومرة في اليقظة مضموما إلى الإسراء. وأما كونه قبل البعث فلا يثبت، ويأتي تأويل ما وقع في رواية شريك إن شاء الله تعالى. وجنح الإمام أبو شامة إلى وقوع المعراج مرارا، واستند إلى ما أخرجه البزار وسعيد بن منصور من طريق أبي عمران الجوني عن أنس رفعه قال: "بينا أنا جالس إذ جاء جبريل فوكز ببن كتفي، فقمنا إلى شجرة فيها مثل وكري الطائر، فقعدت في أحدهما وقعد جبريل في الآخر، فارتفعت حتى سدت الخافقين" الحديث وفيه: "ففتح لي باب من السماء، ورأيت النور الأعظم، وإذا دونه حجاب رفرف الدر والياقوت" ورجاله لا بأس بهم، إلا أن الدار قطني ذكر له علة تقتضي إرساله، وعلى كل حال فهي قصة أخرى الظاهر أنها وقعت بالمدينة، ولا بعد في وقوع أمثالها، وإنما المستبعد وقوع التعدد في قصة المعراج التي وقع فيها سؤاله عن كل نبي وسؤال أهل كل باب هل بعث إليه وفرض الصلوات الخمس وغير ذلك فإن تعدد ذلك في اليقظة لا يتجه، فيتعين رد بعض الروايات المختلفة إلى بعض أو الترجيح إلا أنه لا بعد في جميع وقوع ذلك في المنام توطئة ثم وقوعه في اليقظة على وفقه كما قدمته. ومن المستغرب قول ابن عبد السلام في تفسيره: كان الإسراء في النوم واليقظة، ووقع بمكة والمدينة. فإن كان يريد تخصيص المدينة بالنوم ويكون كلامه على طريق اللف والنشر غير المرتب فيحتمل ويكون الإسراء الذي اتصل به المعراج وفرضت فيه الصلوات في اليقظة بمكة والآخر في المنام بالمدينة، وينبغي أن يزاد فيه أن الإسراء في المنام تكرر في المدينة النبوية، وفي الصحيح حديث سمرة الطويل الماضي في الجنائز، وفي غيره حديث عبد الرحمن بن سمرة الطويل، وفي الصحيح حديث ابن عباس في رؤياه الأنبياء، وحديث ابن عمر في ذلك وغير ذلك، والله أعلم. قوله: {سُبْحَانَ} أصلها للتنزيه وتطلق في موضع التعجب، فعلى الأول المعنى تنزه الله عن أن يكون رسوله كذابا، وعلى الثاني عجب الله عباده بما أنعم به على رسوله، ويحتمل أن تكون بمعنى الأمر أي سبحوا الذي أسرى. قوله: {أَسْرَى} مأخوذ من السرى وهو سير الليل، تقول أسرى وسرى إذا سار ليلا بمعنى، هذا قول الأكثر. وقال الحوفي: أسرى سار ليلا، وسرى سار نهارا، وقيل أسرى سار من أول الليل، وسرى سار من آخره وهذا أقرب. والمراد بقوله: {أَسْرَى

(7/198)


بِعَبْدِهِ} أي جعل البراق يسري به كما يقال أمضيت كذا أي جعلته يمضي، وحذف المفعول لدلالة السياق عليه ولأن المراد ذكر المسرى به لا ذكر الدابة، والمراد بقوله: {بِعَبْدِهِ} محمد عليه الصلاة والسلام اتفاقا والضمير لله تعالى والإضافة للتشريف، وقوله: {لَيْلاً} ظرف للإسراء وهو للتأكيد، وفائدته رفع توهم المجاز لأنه قد يطلق على سير النهار أيضا، ويقال بل هو إشارة إلى أن ذلك وقع في بعض الليل لا في جميعه، والعرب تقول سرى فلان ليلا إذا سار بعضه، وسرى ليلة إذا سار جميعها، ولا يقال أسرى إلا إذا وقع سيره في أثناء الليل، وإذا وقع في أوله يقال أدلج ومن هذا قوله تعالى في قصة موسى وبني إسرائيل {فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلاً} أي من وسط الليل. قوله: "سمعت جابر بن عبد الله" كذا في رواية الزهري عن أبي سلمة وخالفه عبد الله بن الفضل عن أبي سلمة فقال: "عن أبي هريرة" أخرجه مسلم، وهو محمول على أن لأبي سلمة فيه شيخين لأن في رواية عبد الله بن الفضل زيادة ليست في رواية الزهري. قوله: "لما كذبني" في رواية الكشميهني: "كذبتني" بزيادة مثناة وكلاهما جائز، وقد وقع بيان ذلك في طرق أخرى: فروى البيهقي في"الدلائل" من طريق صالح بن كيسان عن الزهري عن أبي سلمة قال: "افتتن ناس كثير - يعني عقب الإسراء - فجاء ناس إلى أبي بكر فذكروا له فقال: أشهد أنه صادق. فقالوا: وتصدقه بأنه أتى الشام في ليلة واحدة ثم رجع إلى مكة؟ قال نعم، إني أصدقه بأبعد من ذلك، أصدقه بخبر السماء قال فسمي بذلك الصديق" قال سمعت جابر يقول فذكر الحديث، وفي حديث ابن عباس عند أحمد والبزار بإسناد حسن قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما كان ليلة أسري بي وأصبحت بمكة مر بي عدو الله أبو جهل فقال: هل كان من شيء؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني أسري بي الليلة إلى بيت المقدس، قال: ثم أصبحت بين أظهرنا؟ قال: نعم، قال فإن دعوت قومك أتحدثهم بذلك؟ قال: نعم. قال: يا معشر بني كعب بن لؤي. قال فانفضت إليه المجالس حتى جاءوا إليهما فقال: حدث قومك بما حدثني، فحدثتهم، قال فمن بين مصفق ومن بين واضع يده على رأسه متعجبا، قالوا وتستطيع أن تنعت لنا المسجد" الحديث. ووقع في غير هذه الرواية بيان ما رآه ليلة الإسراء، فمن ذلك ما وقع عند النسائي من رواية يزيد بن أبي مالك عن أنس قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتيت بدابة فوق الحمار ودون البغل" الحديث وفيه: "فركبت ومعي جبريل، فسرت فقال: انزل فصل، ففعلت، فقال: أتدري أين صليت؟ صليت بطيبة وإليها المهاجرة" يعني بفتح الجيم، ووقع في حديث شداد بن أوس عند البزار والطبراني أنه " أول ما أسري به مر بأرض ذات نخل، فقال له جبريل انزل فصل، فنزل فصلى، فقال: صليت بيثرب" ثم قال في روايته: "ثم قال: انزل فصل مثل الأول، قال: صليت بطور سيناء حيث كلم الله موسى ثم قال: انزل - فذكر مثله - قال صليت ببيت لحم حيث ولد عيسى" وقال في رواية شداد بعد قوله يثرب "ثم مر بأرض بيضاء فقال: انزل فصل، فقال: صليت بمدين" وفيه أنه دخل المدينة من بابها اليماني فصلى في المسجد، وفيه أنه مر في رجوعه بعير لقريش فسلم عليهم فقال بعضهم: هذا صوت محمد، وفيه أنه أعلمهم بذلك وأن عيرهم تقدم في يوم كذا، فقدمت الظهر يقدمهم الجمل الذي وصفه، وزاد في رواية يزيد بن أبي مالك " ثم دخلت بيت المقدس، فجمع لي الأنبياء، فقدمني جبريل حتى أممتهم" وفي رواية عبد الرحمن بن هاشم بن عتبة عن أنس عند البيهقي في "الدلائل" " أنه مر بشيء يدعوه متنحيا عن الطريق، فقال له جبريل: سر، وأنه مر على عجوز فقال: ما هذه: فقال سر، وأنه مر بجماعة فسلموا فقال له جبريل اردد عليهم" وفي آخره "فقال له: الذي دعاك إبليس، والعجوز الدنيا، والذين سلموا

(7/199)


إبراهيم وموسى وعيسى" . وفي حديث أبي هريرة عند الطبراني والبزار أنه "مر بقوم يزرعون ويحصدون، كلما حصدوا عاد كما كان، قال جبريل: هؤلاء المجاهدون. ومر بقوم ترضخ رءوسهم بالصخر كلما رضخت عادت، قال: هؤلاء الذين تثاقل رءوسهم عن الصلاة. ومر بقوم على عوراتهم رقاع يسرحون كالأنعام، قال: هؤلاء الذين لا يؤدون الزكاة. ومر بقوم يأكلون لحما نيئا خبيثا ويدعون لحما نضيجا طيبا قال: هؤلاء الزناة. ومر برجل جمع حزمة حطب لا يستطيع حملها ثم هو يضم إليها غيرها، قال: هذا الذي عنده الأمانة لا يؤديها وهو يطلب أخرى. ومر بقوم تقرض ألسنتهم وشفاههم، كلما قرضت عادت قال: هؤلاء خطباء الفتنة. ومر بثور عظيم يخرج من ثقب صغير يريد أن يرجع فلا يستطيع، قال: هذا الرجل يتكلم بالكلمة فيندم فيريد أن يردها فلا يستطيع" وفي حديث أبي هريرة عند البزار والحاكم أنه صلى ببيت المقدس مع الملائكة وأنه أتي هناك بأرواح الأنبياء فأثنوا على الله، وفيه قول إبراهيم "لقد فضلكم محمد" وفي رواية عبد الرحمن بن هاشم عن أنس" ثم بعث له آدم فمن دونه فأمهم تلك الليلة" أخرجه الطبراني. وعند مسلم من رواية عبد الله بن الفضل عن أبي سلمة عن أبي هريرة رفعه: "ثم حانت الصلاة فأممتهم" وفي حديث أبي أمامة عند الطبراني في الأوسط"ثم أقيمت الصلاة فتدافعوا حتى قدموا محمدا" وفيه: "ثم مر بقوم بطونهم أمثال البيوت، كلما نهض أحدهم خر، وأن جبريل قال له: هم آكلو الربا. وأنه مر بقوم مشافرهم كالإبل يلتقمون حجرا فيخرج من أسافلهم، وأن جبريل قال له: هؤلاء أكلة أموال اليتامى". قوله: "فجلى الله لي بيت المقدس" قيل معناه كشف الحجب بيني وبينه حتى رأيته، ووقع في رواية عبد الله بن الفضل عن أم سلمة عند مسلم المشار إليها" قال فسألوني عن أشياء لم أثبتها، فكربت كربا لم أكرب مثله قط، فرفع الله لي بيت المقدس أنظر إليه، ما يسألوني عن شيء إلا نبأتهم به" ويحتمل أن يريد أنه حمل إلى أن وضع بحيث يراه ثم أعيد، وفي حديث ابن عباس المذكور" فجيء بالمسجد وأنا أنظر إليه حتى وضع عند دار عقيل فنعته وأنا أنظر إليه" وهذا أبلغ في المعجزة، ولا استحالة فيه، فقد أحضر عرش بلقيس في طرفة عين لسليمان، وهو يقتضي أنه أزيل من مكانه حتى أحضر إليه، وما ذاك في قدرة الله بعزيز. ووقع في حديث أم هانئ عند ابن سعد" فخيل لي بيت المقدس، فطفقت أخبرهم عن آياته" فإن لم يكن مغيرا من قوله: "فجلى" وكان ثابتا احتمل أن يكون المراد أنه مثل قريبا منه، كما تقدم نظيره في حديث: "رأيت الجنة والنار" وتأول قوله: "جيء بالمسجد" أي جيء بمثاله والله أعلم. ووقع حديث شداد بن أوس عند البزار والطبراني ما يؤيد الاحتمال الأول ففيه: "ثم مررت بعير لقريش - فذكر القصة ثم أتيت أصحابي بمكة قبل الصبح، فأتاني أبو بكر فقال: أين كنت الليلة؟ فقال: إني أتيت بيت المقدس، فقال: إنه مسيرة شهر فصفه لي. قال ففتح لي شراك كأني أنظر إليه لا يسألني عن شيء إلا أنبأته عنه" وفي حديث أم هانئ أيضا أنهم" قالوا له كم للمسجد باب؟ قال: ولم أكن عددتها، فجعلت أنظر إليه وأعدها بابا بابا" وفيه عند أبي يعلى أن الذي سأله عن صفة بيت المقدس هو المطعم بن عدي والد جبير بن مطعم، وفيه من الزيادة" فقال رجل من القوم: هل مررت بإبل لنا في مكان كذا وكذا؟ قال: نعم والله، قد وجدتهم قد أضلوا بعيرا لهم فهم في طلبه، ومررت بإبل بني فلان انكسرت لهم ناقة حمراء، قالوا فأخبرنا عن عدتها وما فيها من الرعاة، قال: كنت عن عدتها مشغولا، فقام فأتى الإبل فعدها وعلم ما فيها من الرعاء ثم أتى قريشا فقال: هي كذا وكذا، وفيها من الرعاء فلان وفلان"فكان كما قال". قال الشيخ أبو محمد بن أبي

(7/200)


جمرة: الحكمة في الإسراء إلى بيت المقدس قبل العروج إلى السماء إرادة إظهار الحق لمعاندة من يريد إخماده، لأنه لو عرج به من مكة إلى السماء لم يجد لمعاندة الأعداء سبيلا إلى البيان والإيضاح، فلما ذكر أنه أسري به إلى بيت المقدس سألوه عن تعريفات جزئيات من بيت المقدس كانوا رأوها وعلموا أنه لم يكن رآها قبل ذلك، فلما أخبرهم بها حصل التحقيق بصدقه فيما ذكر من الإسراء إلى بيت المقدس في ليلة، وإذا صح خبره في ذلك لزم تصديقه في بقية ما ذكره، فكان ذلك زيادة في إيمان المؤمن، وزيادة في شقاء الجاحد والمعاند، انتهى ملخصا.

(7/201)


42 - باب الْمِعْرَاجِ
3887- حَدَّثَنَا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّثَهُمْ عَنْ لَيْلَةِ أُسْرِيَ بِهِ "بَيْنَمَا أَنَا فِي الْحَطِيمِ وَرُبَّمَا قَالَ فِي الْحِجْرِ مُضْطَجِعًا إِذْ أَتَانِي آتٍ فَقَدَّ قَالَ وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ فَشَقَّ مَا بَيْنَ هَذِهِ إِلَى هَذِهِ فَقُلْتُ لِلْجَارُودِ وَهُوَ إِلَى جَنْبِي مَا يَعْنِي بِهِ قَالَ مِنْ ثُغْرَةِ نَحْرِهِ إِلَى شِعْرَتِهِ وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ مِنْ قَ صِّهِ إِلَى شِعْرَتِهِ فَاسْتَخْرَجَ قَلْبِي ثُمَّ أُتِيتُ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مَمْلُوءَةٍ إِيمَانًا فَغُسِلَ قَلْبِي ثُمَّ حُشِيَ ثُمَّ أُعِيدَ ثُمَّ أُتِيتُ بِدَابَّةٍ دُونَ الْبَغْلِ وَفَوْقَ الْحِمَارِ أَبْيَضَ فَقَالَ لَهُ الْجَارُودُ هُوَ الْبُرَاقُ يَا أَبَا حَمْزَةَ قَالَ أَنَسٌ نَعَمْ يَ ضَعُ خَطْوَهُ عِنْدَ أَقْصَى طَرْفِهِ فَحُمِلْتُ عَلَيْهِ فَانْطَلَقَ بِي جِبْرِيلُ حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الدُّنْيَا فَاسْتَفْتَحَ فَقِيلَ مَنْ هَذَا قَالَ جِبْرِيلُ قِيلَ وَمَنْ مَعَكَ قَالَ مُحَمَّدٌ قِيلَ وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ قَالَ نَعَمْ قِيلَ مَرْحَبًا بِهِ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ فَفَتَحَ فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا فِيهَا آدَمُ فَقَالَ هَذَا أَبُوكَ آدَمُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ السَّلاَمَ ثُمَّ قَالَ مَرْحَبًا بِالِابْنِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الثَّانِيَةَ فَاسْتَفْتَحَ قِيلَ مَنْ هَذَا قَالَ جِبْرِيلُ قِيلَ وَمَنْ مَعَكَ قَالَ مُحَمَّدٌ قِيلَ وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ قَالَ نَعَمْ قِيلَ مَرْحَبًا بِهِ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ فَفَتَحَ فَلَمَّا خَلَصْتُ إِذَا يَحْيَى وَعِيسَى وَهُمَا ابْنَا الْخَالَةِ قَالَ هَذَا يَحْيَى وَعِيسَى فَسَلِّمْ عَلَيْهِمَا فَسَلَّمْتُ فَرَدَّا ثُمَّ قَالاَ مَرْحَبًا بِالأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ ثُمَّ صَعِدَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ فَاسْتَفْتَحَ قِيلَ مَنْ هَذَا قَالَ جِبْرِيلُ قِيلَ وَمَنْ مَعَكَ قَالَ مُحَمَّدٌ قِيلَ وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ قَالَ نَعَمْ قِيلَ مَرْحَبًا بِهِ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ فَفُتِحَ فَلَمَّا خَلَصْتُ إِذَا يُوسُفُ قَالَ هَذَا يُوسُفُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ ثُمَّ قَالَ مَرْحَبًا بِالأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الرَّابِعَةَ فَاسْتَفْتَحَ قِيلَ مَنْ هَذَا قَالَ جِبْرِيلُ قِيلَ وَمَنْ مَعَكَ قَالَ مُحَمَّدٌ قِيلَ أَوَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ قَالَ نَعَمْ قِيلَ مَرْحَبًا بِهِ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ فَفُتِحَ فَلَمَّا خَلَصْتُ إِلَى إِدْرِيسَ قَالَ هَذَا إِدْرِيسُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ ثُمَّ قَالَ مَرْحَبًا بِالأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الْخَامِسَةَ فَاسْتَفْتَحَ قِيلَ مَنْ هَذَا قَالَ جِبْرِيلُ

(7/201)


قِيلَ وَمَنْ مَعَكَ قَالَ مُحَمَّدٌ قِيلَ وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ قَالَ نَعَمْ قِيلَ مَرْحَبًا بِهِ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا هَارُونُ قَالَ هَذَا هَارُونُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ ثُمَّ قَالَ مَرْحَبًا بِالأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ السَّادِسَةَ فَاسْتَفْتَحَ قِيلَ مَنْ هَذَا قَالَ جِبْرِيلُ قِيلَ مَنْ مَعَكَ قَالَ مُحَمَّدٌ قِيلَ وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ قَالَ نَعَمْ قَالَ مَرْحَبًا بِهِ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا مُوسَى قَالَ هَذَا مُوسَى فَسَلِّمْ عَلَيْهِ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ ثُمَّ قَالَ مَرْحَبًا بِالأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ فَلَمَّا تَجَاوَزْتُ بَكَى قِيلَ لَهُ مَا يُبْكِيكَ قَالَ أَبْكِي لِأَنَّ غُلاَمًا بُعِثَ بَعْدِي يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِهِ أَكْثَرُ مِمَّنْ يَدْخُلُهَا مِنْ أُمَّتِي ثُمَّ صَعِدَ بِي إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ قِيلَ مَنْ هَذَا قَالَ جِبْرِيلُ قِيلَ وَمَنْ مَعَكَ قَالَ مُحَمَّدٌ قِيلَ وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ قَالَ نَعَمْ قَالَ مَرْحَبًا بِهِ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا إِبْرَاهِيمُ قَالَ هَذَا أَبُوكَ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ قَالَ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ السَّلاَمَ قَالَ مَرْحَبًا بِالِابْنِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ ثُمَّ رُفِعَتْ إِلَيَّ سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى فَإِذَا نَبْقُهَا مِثْلُ قِلاَلِ هَجَرَ وَإِذَا وَرَقُهَا مِثْلُ آذَانِ الْفِيَلَةِ قَالَ هَذِهِ سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى وَإِذَا أَرْبَعَةُ أَنْهَارٍ نَهْرَانِ بَاطِنَانِ وَنَهْرَانِ ظَاهِرَانِ فَقُلْتُ مَا هَذَانِ يَا جِبْرِيلُ قَالَ أَمَّا الْبَاطِنَانِ فَنَهْرَانِ فِي الْجَنَّةِ وَأَمَّا الظَّاهِرَانِ فَالنِّيلُ وَالْفُرَاتُ ثُمَّ رُفِعَ لِي الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ ثُمَّ أُتِيتُ بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ وَإِنَاءٍ مِنْ عَسَلٍ فَأَخَذْتُ اللَّبَنَ فَقَالَ هِيَ الْفِطْرَةُ الَّتِي أَنْتَ عَلَيْهَا وَأُمَّتُكَ ثُمَّ فُرِضَتْ عَلَيَّ الصَّلَوَاتُ خَمْسِينَ صَلاَةً كُلَّ يَوْمٍ فَرَجَعْتُ فَمَرَرْتُ عَلَى مُوسَى فَقَالَ بِمَا أُمِرْتَ قَالَ أُمِرْتُ بِخَمْسِينَ صَلاَةً كُلَّ يَوْمٍ قَالَ إِنَّ أُمَّتَكَ لاَ تَسْتَطِيعُ خَمْسِينَ صَلاَةً كُلَّ يَوْمٍ وَإِنِّي وَاللَّهِ قَدْ جَرَّبْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ وَعَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِكَ فَرَجَعْتُ فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ مِثْلَهُ فَرَجَعْتُ فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ مِثْلَهُ فَرَجَعْتُ فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ مِثْلَهُ فَرَجَعْتُ فَأُمِرْتُ بِعَشْرِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ فَرَجَعْتُ فَقَالَ مِثْلَهُ فَرَجَعْتُ فَأُمِرْتُ بِخَمْسِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ بِمَ أُمِرْتَ قُلْتُ أُمِرْتُ بِخَمْسِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ قَالَ إِنَّ أُمَّتَكَ لاَ تَسْتَطِيعُ خَمْسَ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ وَإِنِّي قَدْ جَرَّبْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ وَعَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِكَ قَالَ سَأَلْتُ رَبِّي حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ وَلَكِنِّي أَرْضَى وَأُسَلِّمُ قَالَ فَلَمَّا جَاوَزْتُ نَادَى مُنَادٍ أَمْضَيْتُ فَرِيضَتِي وَخَفَّفْتُ عَنْ عِبَادِي"
3888- حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا عَمْرٌو عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي

(7/202)


قَوْلِهِ تَعَالَى [60 الإسراء]: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ} قَالَ: هِيَ رُؤْيَا عَيْنٍ أُرِيَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ قَالَ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ قَالَ هِيَ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ
[الحديث 3888- طرفاه في: 6613,4716]
قوله: "باب المعراج" كذا للأكثر، وللنسفي "قصة المعراج" وهو بكسر الميم وحكي ضمها من عرج بفتح الراء يعرج بضمها إذا صعد. وقد اختلف في وقت المعراج فقيل كان قبل المبعث، وهو شاذ إلا إن حمل على أنه وقع حينئذ في المنام كما تقدم، وذهب الأكثر إلى أنه كان بعد المبعث. ثم اختلفوا فقيل قبل الهجرة بسنة قاله ابن سعد وغيره وبه جزم النووي، وبالغ ابن حزم فنقل الإجماع فيه، وهو مردود فإن في ذلك اختلافا كثيرا يريد على عشرة أقوال، منها ما حكاه ابن الجوزي أنه كان قبلها بثمانية أشهر، وقيل بسنة أشهر وحكى هذا الثاني أبو الربيع بن سالم، وحكى ابن حزم مقتضى الذي قبله لأنه قال: كان في رجب سنة اثنتي عشرة من النبوة، وقيل بأحد عشر شهرا جزم به إبراهيم الحربي حيث قال: كان في ربيع الآخر قبل الهجرة بسنة، ورجحه ابن المنير في شرح السيرة لابن عبد البر، وقيل قبل الهجرة بسنة وشهرين حكاه ابن عبد البر وقيل قبلها بسنة وثلاثة أشهر حكاه ابن فارس، وقيل بسنة وخمسة أشهر قاله السدي وأخرجه من طريقه الطبري والبيهقي، فعلى هذا كان في شوال، أو في رمضان على إلغاء الكسرين منه ومن ربيع الأول وبه جزم الواقدي، وعلى ظاهره ينطبق ما ذكره ابن قتيبة وحكاه ابن عبد البر أنه كان قبلها بثمانية عشر شهرا، وعند ابن سند عن ابن أبي سبرة أنه كان في رمضان قبل الهجرة بثمانية عشر شهرا، وقيل كان في رجب حكاه ابن عبد البر وجزم به النووي في الروضة، وقيل قبل الهجرة بثلاث سنين حكاه ابن الأثير، وحكى عياض وتبعه القرطبي والنووي عن الزهري أنه كان قبل الهجرة بخمس سنين ورجحه عياض ومن تبعه واحتج بأنه لا خلاف أن خديجة صلت معه بعد فرض الصلاة، ولا خلاف أنها توفيت قبل الهجرة إما بثلاث أو نحوها وإما بخمس، ولا خلاف أن فرض الصلاة كان ليلة الإسراء. قلت: في جميع ما نفاه من الخلاف نظر، أما أولا فإن العسكري حكى أنها ماتت قبل الهجرة بسبع سنين وقيل بأربع، وعن ابن الأعرابي أنها ماتت عام الهجرة. وأما ثانيا فإن فرض الصلاة اختلف فيه فقيل كان من أول البعثة وكان ركعتين بالغداة وركعتين بالعشي، وإنما الذي فرض ليلة الإسراء الصلوات الخمس. وأما ثالثا فقد تقدم في ترجمة خديجة في الكلام على حديث عائشة في بدء الخلق أن عائشة جزمت بأن خديجة ماتت قبل أن تفرض الصلاة، فالمعتمد أن مراد من قال بعد أن فرضت الصلاة ما فرض قبل الصلوات الخمس إن ثبت ذلك، ومراد عائشة بقولها ماتت قبل أن تفرض الصلاة أي الخمس، فيجمع بين القولين بذلك، ويلزم منه أنها ماتت قبل الإسراء. وأما رابعا ففي سنة موت خديجة اختلاف آخر، فحكى العسكري عن الزهري أنها ماتت لسبع مضين من البعثة، وظاهره أن ذلك قبل الهجرة بست سنين، فرعه العسكري على قول من قال إن المدة بين البعثة والهجرة كانت عشرا. قوله: "عن أنس" تقدم في أول بدء الخلق من وجه آخر عن قتادة "حدثنا أنس". قوله: "عن مالك بن صعصعة" أي ابن وهب بن عدي بن مالك الأنصاري من بني النجار، ماله في البخاري ولا في غيره سوى هذا الحديث، ولا يعرف من روى عنه إلا أنس بن مالك. قوله: "حدثه عن ليلة أسرى" كذا للأكثر، وللكشميهني: "أسري به" وكذا للنسفي، وقوله: "أسري به"

(7/203)


صفة ليلة أي أسري به فيها. قوله: "في الحطيم وربما قال في الحجر" هو شك من قتادة كما بينه أحمد عن عفان عن همام ولفظه: "بينا أنا نائم في الحطيم، وربما قال قتادة: "في الحجر" والمراد بالحطيم هنا الحجر، وأبعد من قال المراد به ما بين الركن والمقام أو بين زمزم والحجر، وهو وإن كان مختلفا في الحطيم هل هو الحجر أم لا كما تقدم قريبا في"باب بنيان الكعبة" لكن المراد هنا بيان البقعة التي وقع ذلك فيها، ومعلوم أنها لم تتعدد لأن القصة متحدة لاتحاد مخرجها، وقد تقدم في أول بدء الخلق بلفظ: "بينا أنا عند البيت" وهو أعم، ووقع في رواية الزهري عن أنس عن أبي ذر" فرج سقف بيتي وأنا بمكة" وفي رواية الواقدي بأسانيده أنه أسري به من شعب أبي طالب، وفي حديث أم هانئ عند الطبراني أنه بات في بيتها قال: "ففقدته من الليل فقال إن جبريل أتاني" والجمع بين هذه الأقوال أنه نام في بيت أم هانئ، وبيتها عند شعب أبي طالب، ففرج سقف بيته - وأضاف البيت إليه لكونه كان يسكنه - فنزل منه الملك فأخرجه من البيت إلى المسجد فكان به مضطجعا وبه أثر النعاس؛ ثم أخرجه الملك إلى باب المسجد فأركبه البراق. وقد وقع في مرسل الحسن عند ابن إسحاق أن جبريل أتاه فأخرجه إلى المسجد فأركبه البراق، وهو يؤيد هذا الجمع. وقيل الحكمة في نزوله عليه من السقف الإشارة إلى المبالغة في مفاجأته بذلك، والتنبيه على أن المراد منه أن يعرج به إلى جهة العلو. قوله: "مضطجعا" زاد في بدء الخلق "بين النائم واليقظان" وهو محمول على ابتداء الحال، ثم لما أخرج به إلى باب المسجد فأركبه البراق استمر في يقظته، وأما ما وقع في رواية شريك الآتية في التوحيد في آخر الحديث: "فلما استيقظت" فإن قلنا بالتعدد فلا إشكال، وإلا حمل على أن المراد باستيقظت أفقت، أي أنه أفاق مما كان فيه من شغل البال بمشاهدة الملكوت ورجع إلى العالم الدنيوي. وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة: لو قال صلى الله عليه وسلم إنه كان يقظا لأخبر بالحق، لأن قلبه في النوم واليقظة سواء، وعينه أيضا لم يكن النوم تمكن منها، لكنه تحرى صلى الله عليه وسلم الصدق في الإخبار بالواقع، فيؤخذ منه أنه لا يعدل عن حقيقة اللفظ للمجاز إلا لضرورة. قوله: "إذ أتاني آت" هو جبريل كما تقدم، ووقع في بدء الخلق بلفظ: "وذكر بين الرجلين" وهو مختصر، وقد أوضحته رواية مسلم من طريق سعيد عن قتادة بلفظ: "إذ سمعت قائلا يقول أحد الثلاثة بين الرجلين، فأتيت فانطلق بي" وتقدم في أول الصلاة أن المراد بالرجلين حمزة وجعفر وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان نائما بينهما، ويستفاد منه ما كان فيه صلى الله عليه وسلم من التواضع وحسن الخلق، وفيه جواز نوم جماعة في موضع واحد، وثبت من طرق أخرى أنه يشترط أن لا يجتمعوا في لحاف واحد. قوله: "فقد" بالقاف والدال الثقيلة "قال وسمعته يقول فشق" القائل قتادة والمقول عنه أنس، ولأحمد" قال قتادة: وربما سمعت أنسا يقول فشق". قوله: "فقلت للجارود" لم أر من نسبه من الرواة، ولعله ابن أبي سيرة البصري صاحب أنس، فقد أخرج له أبو داود من روايته عن أنس حديثا غير هذا. قوله: "من ثغرة" بضم المثلثة وسكون المعجمة، وهي الموضع المنخفض الذي بين الترقوتين. قوله: "إلى شعرته" بكسر المعجمة أي شعر العانة. وفي رواية مسلم: "إلى أسفل بطنه" وفي بدء الخلق" من النحر إلى مراق بطنه" وتقدم ضبطه في أوائل الصلاة. قوله: "من قصه" بفتح القاف وتشديد المهملة أي رأس صدره. قوله: "إلى شعرته" ذكر الكرماني أنه وقع" إلى ثنته" بضم المثلثة وتشديد النون ما بين السرة والعانة، وقد استنكر بعضهم وقوع شق الصدر ليلة الإسراء وقال: إنما كان ذلك وهو صغير في بني سعد، ولا إنكار في ذلك، فقد تواردت الروايات به. وثبت شق الصدر أيضا عند البعثة كما أخرجه أبو

(7/204)


نعيم في"الدلائل" ولكل منها حكمة، فالأول وقع فيه من الزيادة كما عند مسلم من حديث أنس" فأخرج علقمة فقال: هذا حظ الشيطان منك" وكان هذا في زمن الطفولية فنشأ على أكمل الأحوال من العصمة من الشيطان، ثم وقع شق الصدر عند البعث زيادة في إكرامه ليتلقى ما يوحى إليه بقلب قوي في أكمل الأحوال من التطهير، ثم وقع شق الصدر عند إرادة العروج إلى السماء ليتأهب للمناجاة، ويحتمل أن تكون الحكمة في هذا الغسل لتقع المبالغة في الإسباغ بحصول المرة الثالثة كما تقرر في شرعه صلى الله عليه وسلم ويحتمل أن تكون الحكمة في انفراج سقف بيته الإشارة إلى ما سيقع من شق صدره وأنه سيلتئم بغير معالجة يتضرر بها. وجميع ما ورد من شق الصدر واستخراج القلب وغير ذلك من الأمور الخارقة للعادة مما يجب التسليم له دون التعرض لصرفه عن حقيقته لصلاحية القدرة فلا يستحيل شيء من ذلك، قال القرطبي في"المفهم": لا يلتفت لإنكار الشق ليلة الإسراء لأن رواته ثقات مشاهير، ثم ذكر نحو ما تقدم. قوله: "بطست" بفتح أوله وبكسره وبمثناة وقد تحذف وهو الأكثر وإثباتها لغة طيئ، وأخطأ من أنكرها. قوله: "من ذهب" خص الطست لكونه أشهر آلات الغسل عرفا، والذهب لكونه أعلى أنواع الأواني الحسية وأصفاها، ولأن فيه خواص ليست لغيره ويظهر لها هنا مناسبات: منها أنه من أواني الجنة ومنها أنه لا تأكله النار ولا التراب ولا يلحقه الصدأ، ومنها أنه أثقل الجواهر فناسب ثقل الوحي. وقال السهيلي وغيره: إن نظر إلى لفظ الذهب ناسب من جهة إذهاب الرجس عنه، ولكونه وقع عند الذهاب إلى ربه، وأن نظر إلى معناه فلوضاءته ونقائه وصفائه ولثقله ورسوبته، والوحي ثقيل قال الله تعالى: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} ولأنه أعز الأشياء في الدنيا، والقول هو الكتاب العزيز، ولعل ذلك كان قبل أن يحرم استعمال الذهب في هذه الشريعة ولا يكفي أن يقال إن المستعمل له كان ممن لم يحرم عليه ذلك من الملائكة لأنه لو كان قد حرم عليه استعماله لنزه أن يستعمله غيره في أمر يتعلق ببدنه المكرم. ويمكن أن يقال إن تحريم استعماله مخصوص بأحوال الدنيا، وما وقع في تلك الليلة كان الغالب أنه من أحوال الغيب فيلحق بأحكام الآخرة. قوله: "مملوءة" كذا بالتأنيث، وتقدم في أول الصلاة البحث فيه. قوله: "إيمانا" زاد في بدء الخلق" وحكمة" وهما بالنصب على التمييز، قال النووي: معناه أن الطست كان فيها شيء يحصل به زيادة في كمال الإيمان وكمال الحكمة وهذا الملء يحتمل أن يكون على حقيقته، وتجسيد المعاني جائز كما جاء أن سورة البقرة تجيء يوم القيامة كأنما ظلمة، والموت في صورة كبش، وكذلك وزن الأعمال وغير ذلك من أحوال الغيب. وقال البيضاوي: لعل ذلك من باب التمثيل، إذ تمثيل المعاني قد وقع كثيرا، كما مثلت له الجنة والنار في عرض الحائط، وفائدته كشف المعنوي بالمحسوس. وقال ابن أبي جمرة: فيه أن الحكمة ليس بعد الإيمان أجل منها، ولذلك قرنت معه، ويؤيده قوله تعالى: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} وأصح ما قيل في الحكمة أنها وضع الشيء في محله، أو الفهم في كتاب الله، فعلى التفسير الثاني قد توجد الحكمة دون الإيمان وقد لا توجد، وعلى الأول فقد يتلازمان لأن الإيمان يدل على الحكمة. قوله: "فغسل قلبي" في رواية مسلم: "فاستخرج قلبي فغسل بماء زمزم" وفيه فضيلة ماء زمزم على جميع المياه، قال ابن أبي جمرة: وإنما لم يغسل بماء الجنة لما اجتمع في ماء زمزم من كون أصل مائها من الجنة ثم استقر في الأرض فأريد بذلك بقاء بركة النبي صلى الله عليه وسلم في الأرض. وقال السهيلي: لما كانت زمزم هزمة جبريل روح القدس لأم إسماعيل جد النبي صلى الله عليه وسلم ناسب أن يغسل بمائها عند دخول حضرة القدس ومناجاته ومن

(7/205)


المناسبات المستبعدة قول بعضهم: إن الطست يناسب {طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ} . قوله: "ثم حشي ثم أعيد" زاد في رواية مسلم مكانه "ثم حشي إيمانا وحكمة" وفي رواية شريك" فحشى به صدره ولغاديده" بلام وغين معجمة أي عروق حلقه، وقد اشتملت هذه القصة من خوارق العادة على ما يدهش سامعه فضلا عمن شاهده، فقد جرت العادة بأن من شق بطنه وأخرج قلبه يموت لا محالة، ومع ذلك فلم يؤثر فيه ذلك ضررا ولا وجعا فضلا عن غير ذلك. قال ابن أبي جمرة: الحكمة في شق قلبه - مع القدرة على أن يمتلئ إيمانا وحكمة بغير شق - الزيادة في قوة اليقين، لأنه أعطي برؤية شق بطنه وعدم تأثره بذلك ما أمن معه من جميع المخاوف العادية، فلذلك كان أشجع الناس وأعلاهم حالا ومقالا، ولذلك وصف بقوله تعالى: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} واختلف هل كان شق صدره وغسله مختصا به أو وقع لغيره من الأنبياء؟ وقد وقع عند الطبراني في قصة تابوت بني إسرائيل أنه كان فيه الطست التي يغسل فيها قلوب الأنبياء، وهذا مشعر بالمشاركة، وسيأتي نظير هذا البحث في ركوب البراق. قوله: "ثم أتيت بدابة" قيل الحكمة في الإسراء به راكبا مع القدرة على طي الأرض له إشارة إلى أن ذلك وقع تأنيسا له بالعادة في مقام خرق العادة، لأن العادة جرت بأن الملك إذا استدعى من يختص به يبعث إليه بما يركبه. قوله: "دون البغل وفوق الحمار أبيض" كذا ذكر باعتبار كونه مركوبا أو بالنظر للفظ البراق، والحكمة لكونه بهذه الصفة الإشارة إلى أن الركوب كان في سلم وأمن لا في حرب وخوف، أو لإظهار المعجزة بوقوع الإسراع الشديد بدابة لا توصف بذلك في العادة. قوله: "فقال له الجارود: هو البراق يا أبا حمزة؟ قال أنس: نعم" هذا يوضح أن الذي وقع في رواية بدء الخلق بلفظ دون البغل وفوق الحمار البراق، أي هو البراق وقع بالمعنى لأن أنسا لم يتلفظ بلفظ البراق في رواية قتادة. قوله: "يضع خطوه" بفتح المعجمة أوله المرة الواحدة، وبضمها الفعلة. قوله: "عند أقصى طرفه" بسكون الراء وبالفاء أي نظره، أي يضع رجله عند منتهى ما يرى بصره. وفي حديث ابن مسعود عند أبي يعلى والبزار" إذا أتى على جبل ارتفعت رجلاه وإذا هبط ارتفعت يداه" وفي رواية لابن سعد عن الواقدي بأسانيده "له جناحان" ولم أرها لغيره، وعند الثعلبي بسند ضعيف عن ابن عباس في صفة البراق" لها خد كخد الإنسان وعرف كالفرس وقوائم كالإبل وذنب كالبقر، وكان صدره ياقوتة حمراء" قيل ويؤخذ من ترك تسمية سير البراق طيرانا أن الله إذا أكرم عبدا بتسهيل الطريق له حتى قطع المسافة الطويلة في الزمن اليسير أن لا يخرج بذلك عن اسم السفر وتجري عليه أحكامه. والبراق بضم الموحدة وتخفيف الراء مشتق من البريق، فقد جاء في لونه أنه أبيض، أو من البرق لأنه وصفه بسرعة السير، أو من قولهم شاة برقاء إذا كان خلال صوفها الأبيض طاقات سود، ولا ينافيه وصفه في الحديث بأن البراق أبيض لأن البرقاء من الغنم معدودة في البياض انتهى. ويجتمل أن لا يكون مشتقا، قال ابن أبي جمرة: خص البراق بذلك إشارة إلى الاختصاص به لأنه لم ينقل أن أحدا ملكه، بخلاف غير جنسه من الدواب. قال: والقدرة كانت صالحة لأن يصعد بنفسه من غير براق، ولكن ركوب البراق كان زيادة له في تشريفه لأنه لو صعد بنفسه لكان في صورة ماش، والراكب أعز من الماشي. قوله: "فحملت عليه" في رواية لأبي سعيد في شرف المصطفى" فكان الذي أمسك بركابه جبريل، وبزمام البراق ميكائيل" وفي رواية معمر عن قتادة عن أنس" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به أتي بالبراق مسرجا ملجما فاستصعب عليه، فقال له جبريل: ما حملك على هذا؟ فوالله ما ركبك خلق قط أكرم على الله منه، قال فارفض عرقا" أخرجه الترمذي

(7/206)


وقال: حسن غريب، وصححه ابن حبان. وذكر ابن إسحاق عن قتادة" أنه لما شمس وضع جبريل يده على معرفته فقال: أما تستحي "؟ فذكر نحوه مرسلا لم يذكر أنسا. وفي رواية وثيمة عن ابن إسحاق" فارتعشت حتى لصقت بالأرض فاستويت عليها" وللنسائي وابن مردويه من طريق يزيد بن أبي مالك عن أنس نحوه موصولا وزاد: "وكانت تسخر للأنبياء قبله" ونحوه في حديث أبي سعيد عند ابن إسحاق، وفيه دلالة على أن البراق كان معدا لركوب الأنبياء، خلافا لمن نفى ذلك كابن دحية وأول قول جبريل "فما ركبك أكرم على الله منه" أي ما ركبك أحد قط فكيف يركبك أكرم منه، وقد جزم السهيلي أن البراق إنما استصعب عليه لبعد عهده بركوب الأنبياء قبله، قال النووي قال الزبيدي في "مختصر العيني" وتبعه صاحب "التحرير ": كان الأنبياء يركبون البراق، قال وهذا يحتاج إلى نقل صحيح. قلت: قد ذكرت النقل بذلك، ويؤيده ظاهر قوله: "فربطته بالحلقة التي تربط بها الأنبياء" ووقع في "المبتدأ لابن إسحاق" من رواية وثيمة في ذكر الإسراء "فاستصعبت البراق، وكانت الأنبياء تركبها قبلي وكانت بعيدة العهد بركوبهم لم تكن ركبت في الفتنة" وفي "مغازي ابن عائذ" من طريق الزهري عن سعيد بن المسيب قال: "البراق هي الدابة التي كان يزور إبراهيم عليها إسماعيل" وفي الطبراني من حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبيه "أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم بالبراق فحمله بين يديه" وعند أبي يعلى والحاكم من حديث ابن مسعود رفعه: "أتيت بالبراق فركبت خلف جبريل" وفي حديث حذيفة عند الترمذي والنسائي: "فما زايلا ظهر البراق" وفي" كتاب مكة "للفاكهي والأزرقي" أن إبراهيم كان يحج على البراق" وفي أوائل الروض للسهيلي" أن إبراهيم حمل هاجر على البراق لما سار إلى مكة بها وبولدها" فهذه آثار يشد بعضها بعضا. وجاءت آثار أخرى تشهد لذلك لم أر الإطالة بإيرادها. ومن الأخبار الواهية في صفة البراق ما ذكره الماوردي عن مقاتل وأورده القرطبي في "التذكرة" ومن قبله الثعلبي من طريق ابن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: الموت والحياة جسمان فالموت كبش لا يجد ريحه شيء إلا مات، والحياة فرس بلقاء أنثى، وهي التي كان جبريل والأنبياء يركبونها لا تمر بشيء ولا يجد ريحها شيء إلا حيي. ومنها أن البراق لما عاتبه جبريل قال له معتذرا: إنه مس الصفراء اليوم، وإن الصفراء صنم من ذهب كان عند الكعبة، وإن النبي صلى الله عليه وسلم مر به فقال: تبا لمن يعبدك من دون الله، وإنه صلى الله عليه وسلم نهى زيد بن حارثة أن يمسه بعد ذلك وكسره يوم فتح مكة. قال ابن المنير: إنما استصعب البراق تيها وزهوا بركوب النبي صلى الله عليه وسلم عليه، وأراد جبريل استنطاقه فلذلك خجل وارفض عرقا من ذلك. وقريب من ذلك رجفة الجبل به حتى قال له: "اثبت فإنما عليك نبي وصديق وشهيد" فإنها هزة الطرب لا هزة الغضب. ووقع في حديث حذيفة عند أحمد قال: "أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبراق فلم يزايل ظهره هو وجبريل حتى انتهيا إلى بيت المقدس" فهذا لم يسنده حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيحتمل أنه قال عن اجتهاد، ويحتمل أن يكون قوله هو وجبريل يتعلق بمرافقته في السير لا في الركوب، قال ابن دحية وغيره: معناه وجبريل قائد أو سائق أو دليل، قال وإنما جزمنا بذلك لأن قصة المعراج كانت كرامة للنبي صلى الله عليه وسلم فلا مدخل لغيره فيها. قلت: ويرد التأويل المذكور أن في صحيح ابن حبان من حديث ابن مسعود أن جبريل حمله على البراق رديفا له. وفي رواية الحارث في مسنده أتي بالبراق فركب خلف جبريل فسار بهما، فهذا صريح في ركوبه معه فالله أعلم. وأيضا فإن ظاهره أن المعراج وقع للنبي صلى الله عليه وسلم على ظهر البراق إلى أن صعد السماوات كلها ووصل إلى ما وصل ورجع وهو على حاله، وفيه نظر لما سأذكره، ولعل حذيفة إنما أشار إلى ما وقع في ليلة الإسراء المجردة التي لم يقع فيها معراج

(7/207)


على ما تقدم من تقرير وقوع الإسراء مرتين. قوله: "فانطلق بي جبريل" في رواية بدء الخلق"فانطلقت مع جبريل" ولا مغايرة بينهما، بخلاف ما نحا إليه بعضهم من أن رواية بدء الخلق تشعر بأنه ما احتاج إلى جبريل في العروج، بل كانا معا بمنزلة واحدة، لكن معظم الروايات جاء باللفظ الأول، وفي حديث أبي ذر في أول الصلاة" ثم أخذ بيدي فعرج بي" والذي يظهر أن جبريل في تلك الحالة كان دليلا له فيما قصد له فلذلك جاء سياق الكلام يشعر بذلك. قوله: "حتى أتى السماء الدنيا" ظاهره أنه استمر على البراق حتى عرج إلى السماء، وهو مقتضى كلام ابن أبي جمرة المذكور قريبا، وتمسك به أيضا من زعم أن المعراج كان في ليلة غير ليلة الإسراء إلى بيت المقدس، فأما العروج ففي غير هذه الرواية من الأخبار أنه لم يكن على البراق بل رقي المعراج، وهو السلم كما وقع مصرحا به في حديث أبي سعيد عند ابن إسحاق والبيهقي في "الدلائل" ولفظه: "فإذا أنا بدابة كالبغل مضطرب الأذنين يقال له البراق، وكانت الأنبياء تركبه قبلي، فركبته" فذكر الحديث قال: "ثم دخلت أنا وجبريل بيت المقدس فصليت، ثم أتيت بالمعراج" وفي رواية ابن إسحاق "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لما فرغت مما كان في بيت المقدس أتي بالمعراج فلم أر قط شيئا كان أحسن منه، وهو الذي يمد إليه الميت عينيه إذا حضر، فأصعدني صاحبي فيه حتى انتهى بي إلى باب من أبواب السماء" الحديث. وفي رواية كعب" فوضعت له مرقاة من فضة ومرقاة من ذهب حتى عرج هو وجبريل" وفي رواية لأبي سعيد في شرف المصطفى أنه "أتى بالمعراج من جنة الفردوس وأنه منضد باللؤلؤ وعن يمينه ملائكة وعن يساره ملائكة" وأما المحتج بالتعدد فلا حجة له لاحتمال أن يكون التقصير في ذلك الإسراء من الراوي، وقد حفظه ثابت عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أتيت بالبراق - فوصفه قال - فركبته حتى أتيت بيت المقدس فربطته بالحلقة التي تربط بها الأنبياء، ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين، ثم خرجت فجاءني جبريل بإناءين - فذكر القصة قال - ثم، عرج بي إلى السماء" وحديث أبي سعيد دال على الاتحاد، وقد تقدم شيء من هذا البحث في أول الصلاة، وقوله في رواية ثابت فربطته بالحلقة، أنكره حذيفة، فروى أحمد والترمذي من حديث حذيفة قال: "تحدثون أنه ربطه، أخاف أن يفر منه وقد سخره له عالم الغيب والشهادة "؟ قال البيهقي: الميت مقدم على النافي، يعني من أثبت ربط البراق والصلاة في بيت المقدس معه زيادة علم على نفي ذلك، فهو أولى بالقبول. ووقع في رواية بريدة عند البزار" لما كان ليلة أسري به فأتى جبريل الصخرة التي ببيت المقدس فوضع إصبعه فيها فخرقها فشد بها البراق" ونحوه للترمذي، وأنكر حذيفة أيضا في هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم صلى في بيت المقدس، واحتج بأنه لو صلى فيه لكتب عليكم الصلاة فيه كما كتب عليكم الصلاة في البيت العتيق، والجواب عنه منع التلازم في الصلاة إن كان أراد بقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ} الفرض وإن أراد التشريع فنلتزمه، وقد شرع النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة في بيت المقدس فقرنه بالمسجد الحرام ومسجده في شد الرحال، وذكر فضيلة الصلاة فيه في غير ما حديث، وفي حديث أبي سعيد عند البيهقي " حتى أتيت بيت المقدس فأوثقت دابتي بالحلقة التي كانت الأنبياء تربط بها - وفيه - فدخلت أنا وجبريل بيت المقدس فصلى كل واحد منا ركعتين" وفي رواية أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه نحوه وزاد: "ثم دخلت المسجد فعرفت النبيين من بين قائم وراكع وساجد، ثم أقيمت الصلاة فأممتهم" وفي رواية يزيد بن أبي مالك عن أنس عند ابن أبي حاتم " فلم ألبث إلا يسيرا حتى اجتمع ناس كثير، ثم أذن مؤذن فأقيمت الصلاة فقمنا صفوفا ننتظر من يؤمنا، فأخذ بيدي جبريل فقدمني فصليت بهم" وفي حديث ابن

(7/208)


مسعود عند مسلم: "وحانت الصلاة فأممتهم" وفي حديث ابن عباس عند أحمد" فلما أتى النبي صلى الله عليه وسلم المسجد الأقصى قام يصلي، فإذا النبيون أجمعون يصلون معه" وفي حديث عمر عند أحمد أيضا أنه" لما دخل بيت المقدس قال: أصلي حيث صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتقدم إلى القبلة فصلى" وقد تقدم شيء من ذلك في الباب الذي قبله، قال عياض يحتمل أن يكون صلى بالأنبياء جميعا في بيت المقدس، ثم صعد منهم إلى السماوات من ذكر أنه صلى الله عليه وسلم رآه، ويحتمل أن تكون صلاته بهم بعد أن هبط من السماء فهبطوا أيضا. وقال غيره: رؤيته إياهم في السماء محمولة على رؤية أرواحهم إلا عيسى لما ثبت أنه رفع بجسده، وقد قيل في إدريس أيضا ذلك، وأما الذين صلوا معه في بيت المقدس فيحتمل الأرواح خاصة، ويحتمل الأجساد بأرواحها، والأظهر أن صلاته بهم ببيت المقدس كان قبل العروج، والله أعلم. قوله: "السماء الدنيا" في حديث أبي سعيد في ذكر الأنبياء عند البيهقي"إلى باب من أبواب السماء يقال له باب الحفظة، وعليه ملك يقال له إسماعيل وتحت يده اثنا عشر ألف ملك". قوله: "فاستفتح" تقدم القول فيه في أول الصلاة وأن قولهم "أرسل إليه" أي للعروج، وليس المراد أصل البعث لأن ذلك كان قد اشتهر في الملكوت الأعلى، وقيل: سألوا تعجبا من نعمة الله عليه بذلك أو استبشارا به، وقد علموا أن بشرا لا يترقى هذا الترقي إلا بإذن الله تعالى، وأن جبريل لا يصعد بمن لم يرسل إليه. وقوله: "من معك" يشعر بأنهم أحسوا معه برفيق وإلا لكان السؤال بلفظ: "أمعك أحد" وذلك الإحساس إما بمشاهدة لكون السماء شفافة، وإما بأمر معنوي كزيادة أنوار أو نحوها يشعر بتجدد أمر يحسن معه السؤال بهذه الصيغة، وفي قول "محمد" دليل على أن الاسم أولى في التعريف من الكنية، وقيل: الحكمة في سؤال الملائكة "وقد بعث إليه"؟ أن الله أراد إطلاع نبيه على أنه معروف عند الملأ الأعلى لأنهم قالوا: "أو بعث إليه" فدل على أنهم كانوا يعرفون أن ذلك سيقع له؛ وإلا لكانوا يقولون: ومن محمد؟ مثلا. قوله: "مرحبا به" أي أصاب رحبا وسعة، وكنى بذلك عن الانشراح، واستنبط منه ابن المنير جواز رد السلام بغير لفظ السلام، وتعقب بأن قول الملك "مرحبا به" ليس ردا للسلام فإنه كان قبل أن يفتح الباب والسياق يرشد إليه، وقد نبه على ذلك ابن أبي جمرة، ووقع هنا أن جبريل قال له عند كل واحد منهم "سلم عليه قال: فسلمت عليه فرد علي السلام" وفيه إشارة إلى أنه رآهم قبل ذلك. قوله: "فنعم المجيء جاء" قيل: المخصوص بالمدح محذوف، وفيه تقديم وتأخير، والتقدير "جاء فنعم المجيء مجيئه" وقال ابن مالك: في هذا الكلام شاهد على الاستغناء بالصلة عن الموصول أو الصفة عن الموصوف في باب نعم، لأنها تحتاج إلى فاعل هو المجيء، وإلى مخصوص بمعناها وهو مبتدأ مخبر عنه بنعم وفاعلها، فهو في هذا الكلام وشبهه موصول أو موصوف بجاء، والتقدير نعم المجيء الذي جاء، أو نعم المجيء مجيء جاءه، وكونه موصولا أجود لأنه مخبر عنه، والمخبر عنه إذا كان معرفة أولى من كونه نكرة. قوله: "فإذا فيها آدم، فقال: هذا أبوك آدم" زاد في رواية أنس عن أبي ذر أول الصلاة ذكر النسم التي عن يمينه وعن شماله، وتقدم القول فيه، وذكرت هناك احتمالا أن يكون المراد بالنسم المرئية لآدم هي التي لم تدخل الأجساد بعد. ثم ظهر لي الآن احتمال آخر وهو أن يكون المراد بها من خرجت من الأجساد حين خروجها لأنها مستقرة، ولا يلزم من رؤية آدم لها وهو في السماء الدنيا أن يفتح لها أبواب السماء ولا تلجها، وقد وقع في حديث أبي سعيد عند البيهقي ما يؤيده ولفظه: "فإذا أنا بآدم تعرض عليه أرواح ذريته المؤمنين فيقول: روح طيبة ونفس طيبة اجعلوها في عليين. ثم تعرض عليه أرواح ذريته الفجار فيقول: روح

(7/209)


خبيثة ونفس خبيثة، اجعلوها في سجين" وفي حديث أبي هريرة عند البزار" فإذا عن يمينه باب يخرج منه ريح طيبة وعن شماله باب يخرج منه ريح خبيثة" الحديث. فظهر من الحديثين عدم اللزوم المذكور، وهذا أولى مما جمع به القرطبي في "المفهم" أن ذلك في حالة مخصوصة. قوله: "بالابن الصالح والنبي الصالح" قيل: اقتصر الأنبياء على وصفه بهذه الصفة وتواردوا عليها لأن الصلاح صفة تشمل خلال الخير، ولذلك كررها كل منهم عند كل صفة، والصالح هو الذي يقوم بما يلزمه من حقوق الله وحقوق العباد، فمن ثم كانت كلمة جامعة لمعاني الخير، وفي قول آدم" بالابن الصالح" إشارة إلى افتخاره بأبوة النبي صلى الله عليه وسلم وسيأتي في التوحيد بيان الحكمة في خصوص منازل الأنبياء من السماء. قوله: "ثم صعد بي حتى أتى السماء الثانية" وفيه: "فإذا يحيى وعيسى وهما ابنا خالة" قال النووي قال ابن السكيت: يقال ابنا خالة ولا يقال ابنا عمة، ويقال ابنا عم ولا يقال ابنا خالاه. ولم يبين سبب ذلك، والسبب فيه أن ابني الخالة أم كل منهما خالة الآخر لزوما، بخلاف ابني العمة، وقد توافقت هذه الرواية مع رواية ثابت عن أنس عند مسلم أن في الأولى آدم وفي الثانية يحيى وعيسى، وفي الثالثة يوسف، وفي الرابعة إدريس، وفي الخامسة هارون، وفي السادسة موسى، وفي السابعة إبراهيم وخالف ذلك الزهري في روايته عن أنس عن أبي ذر أنه لم يثبت أسماءهم وقال فيه: "وإبراهيم في السماء السادسة" ووقع في رواية شريك عن أنس أن إدريس في الثالثة، وهارون في الرابعة، وآخر في الخامسة، وسياقه يدل على أنه لم يضبط منازلهم أيضا كما صرح به الزهري، ورواية من ضبط أولى ولا سيما مع اتفاق قتادة وثابت وقد وافقهما يزيد بن أبي مالك عن أنس، إلا أنه خالف في إدريس وهارون فقال هارون في الرابعة، وإدريس في الخامسة: ووافقهم أبو سعيد إلا أن في رواية يوسف في الثانية، وعيسى ويحيى في الثالثة، والأول أثبت. وقد استشكل رؤية الأنبياء في السماوات مع أن أجسادهم مستقرة في قبورهم بالأرض، وأجيب بأن أرواحهم تشكلت بصور أجسادهم أو أحضرت أجسادهم لملاقاة النبي صلى الله عليه وسلم تلك الليلة تشريفا له وتكريما، ويؤيده حديث عبد الرحمن بن هاشم عن أنس ففيه: "وبعث له آدم فمن دونه من الأنبياء" فافهم، وقد تقدمت الإشارة إليه في الباب الذي قبله. قوله: "فلما خلصت إذا يوسف" زاد مسلم في رواية ثابت عن أنس "فإذا هو قد أعطي شطر الحسن" وفي حديث أبي سعيد عند البيهقي وأبي هريرة عند ابن عائذ والطبراني "فإذا أنا برجل أحسن ما خلق الله، قد فصل الناس بالحسن كالقمر ليلة البدر على سائر الكواكب" وهذا ظاهره أن يوسف عليه السلام كان أحسن من جميع الناس، لكن روى الترمذي من حديث أنس ما بعث الله نبيا إلا حسن الوجه حسن الصوت وكان نبيكم أحسنهم وجها وأحسنهم صوتا فعلى هذا فيحمل حديث المعراج على أن المراد غير النبي صلى الله عليه وسلم، ويؤيده قول من قال: إن المتكلم لا يدخل في عموم خطابه، وأما حديث الباب فقد حمله ابن المنير على أن المراد أن يوسف أعطي شطر الحسن الذي أوتيه نبينا صلى الله عليه وسلم، والله أعلم. وقد اختلف في الحكمة في اختصاص كل منهم بالسماء التي التقاه بها، فقيل ليظهر تفاضلهم في الدرجات، وقيل: لمناسبة تتعلق بالحكمة في الاقتصار على هؤلاء دون غيرهم من الأنبياء، فقيل أمروا بملاقاته فمنهم من أدركه في أول وهلة ومنهم من تأخر فلحق ومنهم من فاته، وهذا زيفه السهيلي فأصاب، وقيل: الحكمة في الاقتصار على هؤلاء المذكورين للإشارة إلى ما سيقع له صلى الله عليه وسلم مع قومه من نظير ما وقع لكل منهم، فأما آدم فوقع التنبيه بما وقع له من الخروج من الجنة إلى الأرض بما سيقع للنبي صلى الله عليه وسلم من الهجرة إلى المدينة، والجامع بينهما ما حصل لكل منهما من المشقة وكراهة فراق ما ألفه من الوطن،

(7/210)


ثم كان مآل كل منهما أن يرجع إلى موطنه الذي أخرج منه، وبعيسى ويحيى على ما وقع له من أول الهجرة من عداوة اليهود وتماديهم على البغي عليه وإرادتهم وصول السوء إليه، وبيوسف على ما وقع له من إخوته من قريش في نصبهم الحرب له وإرادتهم هلاكه وكانت العاقبة له، وقد أشار إلى ذلك بقوله لقريش يوم الفتح" أقول كما قال يوسف: لا تثريب عليكم" وبإدريس على رفيع منزلته عند الله، وبهارون على أن قومه رجعوا إلى محبته بعد أن آذوه، وبموسى على ما وقع له من معالجة قومه وقد أشار إلى ذلك بقوله: "لقد أوذي موسى بأكثر من هذا فصبر" وبإبراهيم في استناده إلى البيت المعمور بما ختم له صلى الله عليه وسلم في آخر عمره من إقامة منسك الحج وتعظيم البيت، وهذه مناسبات لطيفة أبداها السهيلي فأوردتها منقحة ملخصة. وقد زاد ابن المنير في ذلك أشياء أضربت عنها إذ أكثرها في المفاضلة بين الأنبياء والإشارة في هذا المقام عندي أولى من تطويل العبارة. وذكر في مناسبة لقاء إبراهيم في السماء السابعة معنى لطيفا زائدا، وهو ما اتفق له صلى الله عليه وسلم من دخول مكة في السنة السابعة وطوافه بالبيت، ولم يتفق له الوصول إليها بعد الهجرة قبل هذه، بل قصدها في السنة السادسة فصدوه عن ذلك كما تقدم بسطه في كتابه الشروط قال ابن أبي جمرة: الحكمة في كون آدم في السماء الدنيا لأنه أول الأنبياء وأول الآباء وهو أصل فكان أولا في الأولى، ولأجل تأنيس النبوة بالأبوة، وعيسى في الثانية لأنه أقرب الأنبياء عهدا من محمد، ويليه يوسف لأن أمة محمد تدخل الجنة على صورته، وإدريس في الرابعة لقوله: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً} والرابعة من السبع وسط معتدل، وهارون لقربه من أخيه موسى، أرفع منه لفضل كلام الله، وإبراهيم لأنه الأب الأخير فناسب أن يتجدد للنبي صلى الله عليه وسلم بلقيه أنس لتوجهه بعده إلى عام آخر، وأيضا فمنزلة الخليل تقتضي أن تكون أرفع المنازل ومنزلة الحبيب أرفع من منزلته، فلذلك ارتفع النبي صلى الله عليه وسلم عن منزلة إبراهيم إلى قاب قوسين أو أدنى. قوله: في قصة موسى "فلما تجاوزت بكى، قيل له: ما يبكيك؟ قال: أبكي لأن غلاما بعث بعدى يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخلها من أمتي" وفي رواية شريك عن أنس "لم أظن أحدا يرفع علي" وفي حديث أبي سعيد: قال موسى: يزعم بنو إسرائيل أني أكرم على الله، وهذا أكرم على الله مني زاد الأموي في روايته: "ولو كان هذا وحده هان علي، ولكن معه أمته وهم أفضل الأمم عند الله" وفي رواية أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه أنه "مر بموسى عليه السلام وهو يرفع صوته فيقول: أكرمته وفضلته، فقال جبريل: هذا موسى، قلت: ومن يعاتب قال: يعاتب ربه فيك، قلت: ويرفع صوته على ربه؟ قال: إن الله قد عرف له حدته" وفي حديث ابن مسعود عند الحارث وأبي يعلى والبزار "وسمعت صوتا وتذمرا، فسألت جبريل فقال: هذا موسى، قلت على من تذمره؟ قال: على ربه. قلت: على ربه؟ قال: إنه يعرف ذلك منه" قال العلماء: لم يكن بكاء موسى حسدا، معاذ الله، فإن الحسد في ذلك العالم منزوع عن آحاد المؤمنين فكيف بمن اصطفاه الله تعالى، بل كان أسفا على ما فاته من الأجر الذي يترتب عليه رفع الدرجة بسبب ما وقع من أمته من كثرة المخالفة المقتضية لتنقيص أجورهم المستلزم لتنقيص أجره، لأن لكل نبي مثل أجر كل من اتبعه، ولهذا كان من اتبعه من أمته في العدد دون من اتبع نبينا صلى الله عليه وسلم مع طول مدتهم بالنسبة لهذه الأمة. وأما قوله: "غلام" فليس على سبيل النقص، بل على سبيل التنويه بقدرة الله وعظيم كرمه إذ أعطى لمن كان في ذلك السن ما لم يعطه أحدا قبله ممن هو أسن منه. وقد وقع من موسى من العناية بهذه الأمة من أمر الصلاة ما لم يقع لغيره، ووقعت الإشارة لذلك في حديث أبي هريرة عند الطبري والبزار، قال عليه الصلاة

(7/211)


والسلام "كان موسى أشدهم علي حين مررت به: وخيرهم لي حين رجعت إليه" وفي حديث أبي سعيد "فأقبلت راجعا، فمررت بموسى ونعم الصاحب كان لكم، فسألني: كم فرض عليك ربك"؟ الحديث قال ابن أبي جمرة: إن الله جعل الرحمة في قلوب الأنبياء أكثر مما جعل الرحمة في قلوب غيرهم، لذلك بكى رحمة لأمته، وأما قوله: "هذا غلام" فأشار إلى صغر سنه بالنسبة إليه، قال الخطابي: العرب تسمي الرجل المستجمع السن غلاما ما دامت فيه بقية من القوة ا ه. ويظهر لي أن موسى عليه السلام أشار إلى ما أنعم الله به على نبينا عليهما الصلاة والسلام من استمرار القوة في الكهولية وإلى أن دخل في سن الشيخوخة ولم يدخل على بدنه هرم ولا اعترى قوته نقص، حتى أن الناس في قدومه المدينة كما سيأتي من حديث أنس لما رأوه مردفا أبا بكر أطلقوا عليه اسم الشاب وعلى أبي بكر اسم الشيخ مع كونه في العمر أسن من أبي بكر، والله أعلم. وقال القرطبي: الحكمة في تخصيص موسى بمراجعة النبي صلى الله عليه وسلم في أمر الصلاة لعلها لكون أمة موسى كلفت من الصلوات بما لم تكلف به غيرها من الأمم، فثقلت عليهم، فأشفق موسى على أمة محمد من مثل ذلك. ويشير إلى ذلك قوله. "إني قد جربت الناس قبلك" انتهى. وقال غيره لعلها من جهة أنه ليس في الأنبياء من له أكثر من موسى ولا من له كتاب أكبر ولا أجمع للأحكام من هذه الجهة مضاهيا للنبي صلى الله عليه وسلم، فناسب أن يتمنى أن يكون له مثل ما أنعم به عليه من غير أن يريد زواله عنه، وناسب أن يطلعه على ما وقع له وينصحه فيما يتعلق به، ويحتمل أن يكون موسى لما غلب عليه في الابتداء الأسف على نقص حظ أمته بالنسبة لأمة محمد حتى تمنى ما تمنى أن يكون، استدرك ذلك ببدل النصيحة لهم والشفقة عليهم ليزيل ما عساه أن يتوهم عليه فيما وقع منه في الابتداء. وذكر السهيلي أن الحكمة في ذلك أنه كان رأى في مناجاته صفة أمة محمد صلى الله عليه وسلم فدعا الله أن يجعله منهم، فكان إشفاقه عليهم كعناية من هو منهم. وتقدم في أول الصلاة شيء من هذا، ومما يتعلق بأمر موسى بالترديد مرارا، والعلم عند الله تعالى. وقد وقع من موسى عليه السلام في هذه القصة من مراعاة جانب النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمسك عن جميع ما وقع له حتى فارقه النبي صلى الله عليه وسلم أدبا معه وحسن عشرة، فلما فارقه بكى وقال ما قال. قوله: "فإذا إبراهيم" في حديث أبي سعيد "فإذا أنا بإبراهيم خليل الرحمن مسندا ظهره إلى البيت المعمور كأحسن الرجال" وفي حديث أبي هريرة عند الطبري "فإذا هو برجل أشمط جالس عند باب الجنة على كرسي". "تكملة": اختلف في حال الأنبياء عند لقي النبي صلى الله عليه وسلم إياهم ليلة الإسراء هل أسري بأجسادهم لملاقاة النبي صلى الله عليه وسلم تلك الليلة، أو أن أرواحهم مستقرة في الأماكن التي لقيهم النبي صلى الله عليه وسلم وأرواحهم مشكلة بشكل أجسادهم كما جزم به أبو الوفاء بن عقيل، واختار الأول بعض شيوخنا، واحتج بما ثبت في مسلم عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رأيت موسى ليلة أسري بي قائما يصلي في قبره" فدل على أنه أسري به لما مر به. قلت: وليس ذلك بلازم بل يجوز أن يكون لروحه اتصال بجسده في الأرض، فلذلك يتمكن من الصلاة وروحه مستقرة في السماء. قوله: "ثم رفعت إلى سدرة المنتهى" كذا للأكثر بضم الراء وسكون العين وضم التاء من "رفعت" بضمير المتكلم وبعده حرف جر، وللكشميهني: "رفعت" بفتح العين وسكون التاء أي السدرة لي باللام أي من أجلي، وكذا تقدم في بدء الخلق، ويجمع بين الروايتين بأن المراد أنه رفع إليها أي ارتقى به وظهرت له، والرفع إلى الشيء يطلق على التقريب منه، وقد قيل في قوله تعالى: {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} أي تقترب لهم، ووقع بيان سبب تسميتها سدرة المنتهى في حديث ابن مسعود عند مسلم ولفظه: "لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم قال: انتهى بي إلى سدرة المنتهى وهي في السماء

(7/212)


السادسة وإليها ينتهي ما يعرج من الأرض فيقبض منها، وإليها ينتهي ما يهبط فيقبض منها" وقال النووي سميت سدرة المنتهى لأن علم الملائكة ينتهي إليها، ولم يجاوزها أحد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. قلت: وهذا لا يعارض حديث ابن مسعود المتقدم، لكن حديث ابن مسعود ثابت في الصحيح فهو أولى بالاعتماد. قلت: وأورد النووي هذا بصيغة التمريض فقال: وحكي عن ابن مسعود أنها سميت بذلك إلخ. كذا أورده فأشعره بضعفه عنده، ولا سيما ولم يصرح برفعه، وهو صحيح مرفوع. وقال القرطبي في "المفهم ": ظاهر حديث أنس أنها في السابعة لقوله بعد ذكر السماء السابعة "ثم ذهب بي إلى السدرة" وفي حديث ابن مسعود أنها في السادسة، وهذا تعارض لا شك فيه، وحديث أنس هو قول الأكثر، وهو الذي يقتضيه وصفها بأنها التي ينتهي إليها علم كل نبي مرسل وكل ملك مقرب على ما قال كعب، قال: وما خلفها غيب لا يعلمه إلا الله أو من أعلمه، وبهذا جزم إسماعيل بن أحمد. وقال غيره: إليها منتهى أرواح الشهداء، قال: ويترجح حديث أنس بأنه مرفوع، وحديث ابن مسعود موقوف، كذا قال، ولم يعرج على الجمع بل جزم بالتعارض. قلت: ولا يعارض قوله إنها في السادسة ما دلت عليه بقية الأخبار أنه وصل إليها بعد أن دخل السماء السابعة لأنه يحمل على أن أصلها في السماء السادسة وأغصانها وفروعها في السابعة، وليس في السادسة منها إلا أصل ساقها، وتقدم في حديث أبي ذر أول الصلاة" فغشيها ألوان لا أدري ما هي" وبقية حديث ابن مسعود المذكور" قال الله تعالى: {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} قال: فراش من ذهب" كذا فسر المبهم في قوله: {مَا يَغْشَى} بالفراش. ووقع في رواية يزيد بن أبي مالك عن أنس "جراد من ذهب" قال البيضاوي: "وذكر الفراش وقع على سبيل التمثيل، لأن من شأن الشجر أن يسقط عليها الجراد وشبهه، وجعلها من الذهب لصفاء لونها وإضاءتها في نفسها" انتهى. ويجوز أن يكون من الذهب حقيقة ويخلق فيه الطيران، والقدرة صالحة لذلك. وفي حديث أبي سعيد وابن عباس "يغشاها الملائكة" وفي حديث أبي سعيد عند البيهقي "على كل ورقة منها ملك" ووقع في رواية ثابت عن أنس عند مسلم: "فلما غشيها من أمر الله ما غشيها تغيرت، فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من جنسها" وفي رواية حميد عن أنس عند ابن مردويه نحوه لكن قال تحولت قوتا ونحو ذلك. قوله: "فإذا نبقها" بفتح النون وكسر الموحدة وسكونها أيضا، قال ابن دحية: والأول هو الذي ثبت في الرواية، أي التحريك. والنبق معروف وهو ثمر السدر. قوله: "مثل قلال هجر" قال الخطابي: القلال بالكسر جمع قلة بالضم هي الجرار، يريد أن ثمرها في الكبر مثل القلال، وكانت معروفة عند المخاطبين فلذلك وقع التمثيل بها، قال: وهي التي وقع تحديد الماء الكثير بها في قوله: "إذا بلغ الماء قلتين"، وقوله: "هجر" بفتح الهاء والجيم بلدة لا تنصرف للتأنيث والعلمية، ويجوز الصرف. قوله: "وإذا ورقها مثل آذان الفيلة" بكسر الفاء وفتح التحتانية بعدها لام جمع فيل، ووقع في بدء الخلق"مثل آذان الفيول" وهو جمع فيل أيضا قال ابن دحية: اختيرت السدرة دون غيرها لأن فيها ثلاثة أوصاف: ظل ممدود، وطعام لذيذ، ورائحة زكية فكانت بمنزلة الإيمان الذي يجمع القول والعمل والنية، والظل بمنزلة العمل، والطعم بمنزلة النية، والرائحة بمنزلة القول. قوله: "وإذا أربعة أنهار" في بدء الخلق" فإذا في أصلها - أي في أصل سدرة المنتهى - أربعة أنهار" ولمسلم: "يخرج من أصلها" ووقع في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة "أربعة أنهار من الجنة: النيل والفرات وسيحان وجيحان" فيحتمل أن تكون

(7/213)


سدرة المنتهى مغروسة في الجنة والأنهار تخرج من تحتها فيصح أنها من الجنة. قوله: "أما الباطنان ففي الجنة1" قال ابن أبي جمرة فيه أن الباطن أجل من الظاهر، لأن الباطن جعل في دار البقاء والظاهر جعل في دار الفناء، ومن ثم كان الاعتماد على ما في الباطن كما صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا ينظر إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم". قوله: "وأما الظاهران فالنيل والفرات" وقع في رواية شريك كما سيأتي في التوحيد أنه رأى في السماء الدنيا نهرين يطردان فقال له جبريل هما النيل والفرات عنصرهما والجمع بينهما أنه رأى هذين النهرين عند سدرة المنتهى مع نهري الجنة ورآهما في السماء الدنيا دون نهري الجنة وأراد بالعنصر عنصر امتيازهما بسماء الدنيا كذا قال ابن دحية، ووقع في حديث شريك أيضا: "ومضى به يرقى السماء فإذا هو بنهر آخر عليه قصر من لؤلؤ وزبرجد فضرب بيده فإذا هو مسك أذفر فقال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الذي خبأ لك ربك". ووقع في رواية يزيد بن أبي مالك عن أنس عند ابن أبي حاتم أنه بعد أن رأى إبراهيم قال: "ثم انطلق بي على ظهر السماء السابعة حتى انتهى إلى نهر عليه خيام اللؤلؤ والياقوت والزبرجد، وعليه طير خضر، أنعم طير رأيت، قال جبريل: هذا الكوثر الذي أعطاك الله، فإذا فيه آنية الذهب والفضة يجري على رضراض من الياقوت والزمرد، ماؤه أشد بياضا من اللبن، قال فأخذت من آنيته فاغترفت من ذلك الماء فشربت فإذا هو أحلى من العسل وأشد رائحة من المسك" وفي حديث أبي سعيد "فإذا فيها عين تجري يقال لها السلسبيل فينشق منها نهران أحدهما الكوثر والآخر يقال له نهر الرحمة". قلت: فيمكن أن يفسر بهما النهران الباطنان المذكوران في حديث الباب. وكذا روي عن مقاتل قال: الباطنان السلسبيل والكوثر. وأما الحديث الذي أخرجه مسلم بلفظ: "سيحان وجيحان والنيل والفرات من أنهار الجنة" فلا يغاير هذا لأن المراد به أن في الأرض أربعة أنهار أصلها من الجنة، وحينئذ لم يثبت لسيحون وجيحون أنهما ينبعان من أصل سدرة المنتهى، فيمتاز النيل والفرات عليهما بذلك. وأما الباطنان المذكوران في حديث الباب فهما غير سيحون وجيحون، والله أعلم. قال النووي: في هذا الحديث أن أصل النيل والفرات من الجنة، وأنهما يخرجان من أصل سدرة المنتهى، ثم يسيران حيث شاء الله، ثم ينزلان إلى الأرض، ثم يسيران فيها ثم يخرجان منها، وهذا لا يمنعه العقل، وقد شهد به ظاهر الخبر فليعتمد. وأما قول عياض: إن الحديث يدل على أن أصل سدرة المنتهى في الأرض لكونه قال: إن النيل والفرات يخرجان من أصلها وهما بالمشاهدة يخرجان من الأرض فيلزم منه أن يكون أصل السدرة في الأرض، وهو متعقب، فإن المراد بكونهما يخرجان من أصلها غير خروجهما بالنبع من الأرض. والحاصل أن أصلها في الجنة وهما يخرجان أولا من أصلها ثم يسيران إلى أن يستقرا في الأرض ثم ينبعان. واستدل به على فضيلة ماء النيل والفرات لكون منبعهما من الجنة، وكذا سيحان وجيحان. قال القرطبي: لعل ترك ذكرهما في حديث الإسراء لكونهما ليسا أصلا برأسهما. وإنما يحتمل أن يتفرعا عن النيل والفرات. قال: وقيل: وإنما أطلق على هذه الأنهار أنها من الجنة تشبيها لها بأنهار الجنة لما فيها من شدة العذوبة والحسن والبركة، والأول أولى، والله أعلم. "تنبيه": الفرات بالمثناة في الخط في حالتي الوصل والوقف في القراءات المشهورة،
ـــــــ
1 الذي في نسخ الصحيح "أما الباطنان فنهران في الجنة"

(7/214)


وجاء في قراءة شاذة أنها هاء تأنيث، وشبهها أبو المظفر بن الليث بالتابوت والتابوه. قوله: "ثم رفع لي البيت المعمور" زاد الكشميهني: "يدخله كل يوم سبعون ألف ملك" وتقدمت هذه الزيادة في بدء الخلق بزيادة "إذا خرجوا لم يعودوا آخر ما عليهم" وكذا وقع مضموما إلى رواية قتادة عن أنس عن مالك بن صعصعة، وقد بينت في بدء الخلق أنه مدرج، وذكرت من فصله من رواية قتادة عن الحسن عن أبي هريرة، وقد قدمت ما يتعلق بالبيت المعمور هناك، ووقعت هذه الزيادة أيضا عند مسلم من طريق ثابت عن أنس وفيه أيضا: "ثم لا يعودون إليه أبدا" وزاد ابن إسحاق في حديث أبي سعيد" إلى يوم القيامة" وفي حديث أبي هريرة عند البزار أنه رأى هناك أقواما بيض الوجوه وأقواما في ألوانهم شيء فدخلوا نهرا فاغتسلوا فخرجوا وقد خلصت ألوانهم، فقال له جبريل "هؤلاء من أمتك خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا". وفي رواية أبي سعيد عند الأموي والبيهقي أنهم "دخلوا معه البيت المعمور وصلوا فيه جميعا" واستدل به على أن الملائكة أكثر المخلوقات لأنه لا يعرف من جميع العوامل من يتجدد من جنسه في كل يوم سبعون ألفا غير ما ثبت عن الملائكة في هذا الخبر. قوله: "ثم أتيت بإناء من خمر وإناء من لبن وإناء من عسل، فأخذت اللبن، فقال: هي الفطرة التي أنت عليها" أي دين الإسلام. قال القرطبي يحتمل أن يكون سبب تسمية اللبن فطرة لأنه أول شيء يدخل بطن المولود ويشق أمعاءه، والسر في ميل النبي صلى الله عليه وسلم إليه دون غيره لكونه كان مألوفا له، ولأنه لا ينشأ عن جنسه مفسدة، وقد وقع في هذه الرواية أن إتيانه الآنية كان بعد وصوله إلى سدرة المنتهى، وسيأتي في الأشربة من طريق شعبة عن قتادة عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رفعت لي سدرة المنتهى فإذا أربعة أنهار" فذكره قال: "وأتيت بثلاثة أقداح" الحديث وهذا موافق لحديث الباب؛ إلا أن شعبة لم يذكر في الإسناد مالك بن صعصعة. وفي حديث أبي هريرة عند ابن عائذ في حديث المعراج بعد ذكر إبراهيم قال: "ثم انطلقنا، فإذا نحن بثلاثة آنية مغطاة، فقال جبريل: يا محمد ألا تشرب مما سقاك ربك؟ فتناولت إحداهما فإذا هو عسل فشربت منه قليلا، ثم تناولت الآخر فإذا هو لبن فشربت منه حتى رويت، فقال: ألا تشرب من الثالث؟ قلت: قد رويت.قال: وفقك الله" وفي رواية البزار من هذا الوجه أن الثالث كان خمرا، لكن وقع عنده أن ذلك كان ببيت المقدس، وأن الأول كان ماء ولما يذكر العسل. وفي حديث ابن عباس عند أحمد" فلما أتى المسجد الأقصى قام يصلي، فلما انصرف جيء بقدحين في أحدهما لبن وفي الآخر عسل، فأخذ اللبن" الحديث، وقد وقع عند مسلم من طريق ثابت عن أنس أيضا أن إتيانه بالآنية كان ببيت المقدس قبل المعراج ولفظه: "ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين ثم خرجت فجاء جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن، فأخذت اللبن، فقال جبريل: أخذت الفطرة.ثم عرج إلى السماء" وفي حديث شداد بن أوس فصليت من المسجد حيث شاء الله، وأخذني من العطش أشد ما أخذني، فأتيت بإناءين أحدهما لبن والآخر عسل، فعدلت بينهما، ثم هداني الله فأخذت اللبن، فقال شيخ بين يدي - يعني لجبريل - أخذ صاحبك الفطرة" وفي حديث أبي سعيد عند ابن إسحاق في قصة الإسراء" فصلى بهم - يعني الأنبياء - ثم أتي بثلاثة آنية: إناء فيه لبن، وإناء فيه خمر، وإناء فيه ماء، فأخذت اللبن" الحديث. وفي مرسل الحسن عنده نحوه لكن لم يذكر إناء الماء، ووقع بيان مكان عرض الآنية في رواية سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عند المصنف كما سيأتي في أول الأشربة ولفظه: "أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به بإيلياء بإناء فيه خمر وإنا فيه لبن، فنظر إليهما فأخذ اللبن، فقال له جبريل: الحمد لله الذي

(7/215)


هداك للفطرة، لو أخذت الخمر غوت أمتك" وهو عند مسلم وفي رواية عبد الرحمن بن هاشم بن عتبة عن أنس عند البيهقي" فعرض عليه الماء والخمر واللبن فأخذ اللبن، فقال له جبريل: أصبت الفطرة، ولو شربت الماء لغرقت وغرقت أمتك، ولو شربت الخمر لغويت وغوت أمتك" ويجمع بين هذا الاختلاف إما بحمل "ثم" على غير بابها من الترتيب وإنما هي بمعنى الواو هنا، وإما بوقوع عرض الآنية مرتين: مرة عند فراغه من الصلاة ببيت المقدس وسببه ما وقع له من العطش، ومرة عند وصوله إلى سدرة المنتهى ورؤية الأنهار الأربعة. أما الاختلاف في عدد الآنية وما فيها فيحمل على أن بعض الرواة ذكر ما لم يذكره الآخر، ومجموعها أربعة آنية فيها أربعة أشياء من الأنهار الأربعة التي رآها تخرج من أصل سدرة المنتهى. ووقع في حديث أبي هريرة عند الطبري لما ذكر سدرة المنتهى "يخرج أصلها من أنهار من ماء غير آسن، ومن لبن لم يتغير طعمه، ومن خمر لذة للشاربين، ومن عسل مصفى" فلعله عرض عليه من كل نهر إناء. وجاء عن كعب أن نهر العسل نهر النيل ونهر اللبن نهر جيحان ونهر الخمر نهر الفرات ونهر الماء سيحان، والله أعلم. قوله: "ثم فرضت علي الصلاة" تقدم ما يتعلق بها في الكلام على حديث أبي ذر في أول الصلاة، والحكمة في تخصيص فرض الصلاة بليلة الإسراء أنه صلى الله عليه وسلم لما عرج به رأى في تلك الليلة تعبد الملائكة وأن منهم القائم فلا يقعد والراكع فلا يسجد والساجد فلا يقعد، فجمع الله له ولأمته تلك العبادات كلها في كل ركعة يصليها العبد، بشرائطها من الطمأنينة والإخلاص، أشار إلى ذلك ابن أبي جمرة. وقال في اختصاص فرضيتها بليلة الإسراء إشارة إلى عظيم بيانها، ولذلك اختص فرضها بكونه بغير واسطة بل بمراجعات تعددت على ما سبق بيانه. قوله: "ولكن أرضى وأسلم" في رواية الكشميهني: "ولكني أرضى وأسلم" وفيه حذف تقدير الكلام: سألت ربي حتى استحييت فلا أرجع، فإني إن رجعت صرت غير راض ولا مسلم، ولكني أرضى وأسلم. قوله: "أمضيت فريضتي، وخففت عن عبادي" تقدم أول الصلاة من رواية أنس عن أبي ذر" هن خمس وهن خمسون" وتقدم شرحه. وفي رواية ثابت عن أنس عند مسلم: "حتى قال: يا محمد هي خمس صلوات في كل يوم وليلة، كل صلاة عشرة فتلك خمسون صلاة، ومن هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة" الحديث، وسيأتي الكلام على هذه الزيادة في الرقاق. وفي رواية يزيد بن أبي مالك عن أنس عند النسائي: "وأتيت سدرة المنتهى فغشيتني ضبابة، فخررت ساجدا، فقيل لي: إني يوم خلقت السماوات والأرض فرضت عليك وعلى أمتك خمسين صلاة فقم بها أنت وأمتك" فذكر مراجعته مع موسى وفيه: "فإنه فرض على بني إسرائيل صلاتان فما قاموا بهما" وقال في آخره: "فخمس بخمسين فقم بها أنت وأمتك، قال فعرفت أنها عزمة من الله، فرجعت إلى موسى فقال لي ارجع، فلم أرجع". قوله: "فلما جاوزت ناداني مناد: أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي" هذا من أقوى ما استدل به على أن الله سبحانه وتعالى كلم نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء بغير واسطة. "تكملة": وقع في غير هذه الرواية زيادات رآها صلى الله عليه وسلم بعد سدرة المنتهى لم تذكر في هذه الرواية، منها ما تقدم في أول الصلاة" حتى ظهرت لمستوى أسمع فيه صريف الأقلام" وفي رواية شريك عن أنس كما سيأتي في التوحيد" حتى جاء سدرة المنتهى، ودنا الجبار رب العزة تبارك وتعالى فكان قاب قوسين أو أدنى، فأوحى إليه خمسين صلاة" الحديث. وقد استشكلت هذه الزيادة ويأتي الكلام على ذلك مستوفى إن شاء الله تعالى في كتاب التوحيد. وفي رواية أبي ذر من الزيادة أيضا: "ثم أدخلت الجنة، فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ، وإذا ترابها المسك" وعند مسلم من طريق همام عن قتادة

(7/216)


عن أنس رفعه: "بينا أنا أسير في الجنة إذا أنا بنهر حافتاه قباب الدر المجوف، وإذا طينه مسك أذفر، فقال جبريل: هذا الكوثر" وله من طريق شيبان عن قتادة عن أنس "لما عرج بالنبي صلى الله عليه وسلم: "فذكر نحوه. وعند ابن أبي حاتم وابن عائذ من طريق يزيد بن أبي مالك عن أنس "ثم انطلق حتى انتهى بي إلى الشجرة، فغشيني من كل سحابة فيها من كل لون، فتأخر جبريل. وخررت ساجدا" وفي حديث ابن مسعود عند مسلم: "وأعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلوات الخمس، وخواتم سورة البقرة، وغفر لمن لم يشرك بالله من أمته المقحمات، يعني الكبائر" وفي هذه الرواية من الزيادة "ثم انجلت عني السحابة وأخذ بيدي جبريل، فانصرفت سريعا فأتيت على إبراهيم فلم يقل شيئا، ثم أتيت على موسى فقال: ما صنعت" الحديث. وفيه أيضا: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لجبريل: ما لي لم آت أهل سماء إلا رحبوا وضحكوا إلي، غير رجل واحد فسلمت عليه فرد علي السلام ورحب بي ولم يضحك إلي؟ قال: يا محمد ذاك مالك خازن جهنم، لم يضحك منذ خلق، ولو ضحك إلى أحد لضحك إليك ، وفي حديث حذيفة عند أحمد والترمذي" حتى فتحت لهما أبواب السماء فرأيا الجنة والنار، ووعد الآخرة أجمع" وفي حديث أبي سعيد" أنه عرض عليه الجنة، وإذا رمانها كأنه الدلاء؛ وإذا طيرها كأنها البخت، وأنه عرضت عليه النار، فإذا هي لو طرح فيها الحجارة والحديد لأكلتها" وفي حديث شداد بن أوس "فإذا جهنم تكشف عن مثل الزرابي، ووجدتها مثل الحمة السخنة" وزاد فيه أنه رآها في وادي بيت المقدس. وفي رواية يزيد بن أبي مالك عن أنس عند ابن أبي حاتم "أن جبريل قال: يا محمد هل سألت ربك أن يريك الحور العين؟ قال نعم: قال: قال: فانطلق إلى أولئك النسوة فسلم عليهن. قال: فأتيت إليهن فسلمت، فرددت فقلت: من أنتن؟ فقلن: "خيرات حسان" الحديث. وفي رواية أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه "أن إبراهيم الخليل عليه السلام قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا بني إنك لاق ربك الليلة، وإن أمتك آخر الأمم وأضعفها، فإن استطعت أن تكون حاجتك أو جلها في أمتك فافعل" وفي رواية الواقدي بأسانيده في أول حديث الإسراء "كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل ربه أن يريه الجنة والنار، فلما كانت ليلة السبت لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان قبل الهجرة بثمانية عشر شهرا وهو نائم في بيته ظهرا أتاه جبريل وميكائيل فقالا: انطلق إلى ما سألت، فانطلقا به إلى ما بين المقام وزمزم، فأتي بالمعراج، فإذا هو أحسن شيء منظرا، فعرجا به إلى السماوات، فلقي الأنبياء، وانتهى إلى سدرة المنتهى، ورأى الجنة والنار، وفرض عليه الخمس" فلو ثبت هذا لكان ظاهرا في أنه معراج آخر لقوله إنه كان ظهرا، وأن المعراج كان من مكة، وهو مخالف لما في الروايات الصحيحة في الأمرين معا. ويعكر على التعدد قوله إن الصلوات فرضت حينئذ، إلا إن حمل على أنه أعيد ذكره تأكيدا، أو فرع على أن الأول كان مناما وهذا يقظة أو بالعكس، والله أعلم. وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدم أن للسماء أبوابا حقيقة وحفظة موكلين بها، وفيه إثبات الاستئذان، وأنه ينبغي لمن يستأذن أن يقول أنا فلان، ولا يقتصر على أنا لأنه ينافي مطلوب الاستفهام، وأن المار يسلم على القاعد وإن كان المار أفضل من القاعد، وفيه استحباب تلقي أهل الفضل بالبشر والترحيب والثناء والدعاء، وجواز مدح الإنسان المأمون عليه الافتتان في وجهه، وفيه جواز الاستناد إلى القبلة بالظهر وغيره مأخوذ من استناد إبراهيم إلى البيت المعمور وهو كالكعبة في أنه قبلة من كل جهة، وفيه جواز نسخ الحكم قبل وقوع الفعل، وقد سبق البحث فيه في أول الصلاة، وفيه فضل السير بالليل على السير بالنهار لما وقع من الإسراء بالليل، ولذلك كانت أكثر عبادته صلى الله عليه وسلم بالليل، وكان أكثر سفره صلى الله عليه وسلم بالليل. وقال صلى الله عليه وسلم: "عليكم بالدلجة فإن الأرض

(7/217)


تطوى بالليل" وفيه أن التجربة أقوى في تحصيل المطلوب من المعرفة الكثيرة، يستفاد ذلك من قول موسى عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم أنه عالج الناس قبله وجربهم، ويستفاد منه تحكيم العادة، والتنبيه بالأعلى على الأدنى لأن من سلف من الأمم كانوا أقوى أبدانا من هذه الأمة، وقد قال موسى في كلامه إنه عالجهم على أقل من ذلك فما وافقوه، أشار إلى ذلك ابن أبي جمرة قال: ويستفاد منه أن مقام الخلة مقام الرضا والتسليم، ومقام التكليم مقام الإدلال والانبساط، ومن ثم استبد موسى بأمر النبي صلى الله عليه وسلم بطلب التخفيف دون إبراهيم عليه السلام، مع أن للنبي صلى الله عليه وسلم من الاختصاص بإبراهيم أزيد مما له من موسى لمقام الأبوة ورفعة المنزلة والاتباع في الملة. وقال غيره: الحكمة في ذلك ما أشار إليه موسى عليه السلام في نفس الحديث من سبقه إلى معالجة قومه في هذه العبادة بعينها وأنهم خالفوه وعصوه. وفيه أن الجنة والنار قد خلقتا، لقوله في بعض طرقه التي بينتها "عرضت علي الجنة والنار" وقد تقدم البحث فيه في بدء الخلق. وفيه استحباب الإكثار من سؤال الله تعالى وتكثير الشفاعة عنده، لما وقع منه صلى الله عليه وسلم في إجابته مشورة موسى في سؤال التخفيف. وفيه فضيلة الاستحياء، وبذل النصيحة لمن يحتاج إليها وإن لم يستشر الناصح في ذلك. قوله: "حدثنا عمرو" هو ابن دينار. قوله: "في قوله" أي في تفسير قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} قال: هي رؤيا أعين أريها النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به إلى بيت المقدس" قلت: وإيراد هذا الحديث في باب المعراج مما يؤيد أن المصنف يرى اتحاد ليلة الإسراء والمعراج، بخلاف ما فهم عنه من إفراد الترجمتين، وقد قدمت أن ترجمته في أول الصلاة تدل على ذلك حيث قال: "فرضت الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء" وقد تمسك بكلام ابن عباس هذا من قال الإسراء كان في المنام ومن قال إنه كان في اليقظة، فالأول أخذ من لفظ الرؤيا قال: لأن هذا اللفظ مختص برؤيا المنام، ومن قال بالثاني فمن قوله أريها ليلة الإسراء، والإسراء إنما كان في اليقظة، لأنه لو كان مناما ما كذبه الكفار فيه ولا فيما هو أبعد منه كما تقدم تقريره، وإذا كان ذلك في اليقظة وكان المعراج في تلك الليلة تعين أن يكون في اليقظة أيضا إذ لم يقل أحد إنه نام لما وصل إلى بيت المقدس ثم عرج به وهو نائم، وإذا كان في اليقظة فإضافة الرؤيا إلى العين للاحتراز عن رؤيا القلب، وقد أثبت الله تعالى رؤيا القلب في القرآن فقال: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} ورؤيا العين فقال: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى لَقَدْ رَأَى} وروى الطبراني في الأوسط بإسناد قوي عن ابن عباس قال: "رأى محمد ربه مرتين" ومن وجه آخر قال: "نظر محمد إلى ربه" جعل الكلام لموسى والخلة لإبراهيم والنظر لمحمد، فإذا تقرر ذلك ظهر أن مراد ابن عباس هنا برؤية العين المذكورة جميع ما ذكره صلى الله عليه وسلم في تلك الليلة من الأشياء التي تقدم ذكرها، وفي ذلك رد لمن قال: المراد بالرؤيا في هذه الآية رؤياه صلى الله عليه وسلم أنه دخل المسجد الحرام المشار إليها بقوله تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} قال القائل: والمراد ب قوله: {فِتْنَةً لِلنَّاسِ} ما وقع من صد المشركين له في الحديبية عن دخول المسجد الحرام انتهى. وهذا وإن كان يمكن أن يكون مراد الآية لكن الاعتماد في تفسيرها على ترجمان القرآن أولى، والله أعلم. واختلف السلف هل رأى ربه في ملك الليلة أم لا؟ على قولين مشهورين، وأنكرت ذلك عائشة رضي الله عنها وطائفة، وأثبتها ابن عباس وطائفة. وسيأتي بسط ذلك في الكلام على حديث عائشة حيث ذكره المصنف بتمامه في تفسير سورة النجم من كتاب التفسير إن شاء الله تعالى. قوله: {وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ} قال: "هي شجرة الزقوم" يريد تفسير الشجرة المذكورة في بقية الآية، وقد قيل فيها غير ذلك كما سيأتي في موضعه في

(7/218)


التفسير إن شاء الله تعالى.

(7/219)


43 - باب وُفُودِ الأَنْصَارِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ وَبَيْعَةِ الْعَقَبَةِ
3889- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ ح
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا عَنْبَسَةُ حَدَّثَنَا يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ كَعْبٍ وَكَانَ قَائِدَ كَعْبٍ حِينَ عَمِيَ قَالَ سَمِعْتُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ يُحَدِّثُ حِينَ تَخَلَّفَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ بِطُولِهِ قَالَ ابْنُ بُكَيْرٍ فِي حَدِيثِهِ "وَلَقَدْ شَهِدْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ حِينَ تَوَاثَقْنَا عَلَى الإِسْلاَمِ وَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهَا مَشْهَدَ بَدْرٍ وَإِنْ كَانَتْ بَدْرٌ أَذْكَرَ فِي النَّاسِ مِنْهَا"
3890- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ كَانَ عَمْرٌو يَقُولُ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ "شَهِدَ بِي خَالاَيَ الْعَقَبَةَ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ أَحَدُهُمَا الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ".
[الحديث 3890- طرفه في: 3891]
3891- حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا هِشَامٌ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ قَالَ عَطَاءٌ قَالَ جَابِرٌ "أَنَا وَأَبِي وَخَالِي مِنْ أَصْحَابِ الْعَقَبَةِ"
3892- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَمِّهِ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو إِدْرِيسَ عَائِذُ اللَّهِ أَنَّ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ مِنْ الَّذِينَ شَهِدُوا بَدْرًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْ أَصْحَابِهِ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "وَحَوْلَهُ عِصَابَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ تَعَالَوْا بَايِعُونِي عَلَى أَنْ لاَ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا وَلاَ تَسْرِقُوا وَلاَ تَزْنُوا وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ وَلاَ تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ وَلاَ تَعْصُونِي فِي مَعْرُوفٍ فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ بِهِ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ لَهُ كَفَّارَةٌ وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَسَتَرَهُ اللَّهُ فَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ إِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ وَإِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ قَالَ فَبَايَعْناهُ عَلَى ذَلِكَ"
3893- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ عَنْ الصُّنَابِحِيِّ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّهُ قَالَ إِنِّي مِنْ النُّقَبَاءِ الَّذِينَ بَايَعُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ بَايَعْنَاهُ عَلَى أَنْ لاَ نُشْرِكَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلاَ نَسْرِقَ وَلاَ نَزْنِيَ وَلاَ نَقْتُلَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ وَلاَ نَنْتَهِبَ وَلاَ نَقضِيَ بِالْجَنَّةِ

(7/219)


إِنْ فَعَلْنَا ذَلِكَ فَإِنْ غَشِينَا مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا كَانَ قَضَاءُ ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ".
قوله: "باب وفود الأنصار إلى النبي صلى الله عليه وسلم بمكة وبيعة العقبة" ذكر ابن إسحاق وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بعد موت أبي طالب قد خرج إلى ثقيف بالطائف يدعوهم إلى نصره، فلما امتنعوا منه كما تقدم في بدء الخلق شرحه رجع إلى مكة فكان يعرض نفسه على قبائل العرب في مواسم الحج، وذكر بأسانيد متفرقة أنه أتى كندة وبني كعب وبني حذيفة وبني عامر بن صعصعة وغيرهم فلم يجبه أحد منهم إلى ما سأل. وقال موسى بن عقبة عن الزهري: "فكان في تلك السنين - أي التي قبل الهجرة - يعرض نفسه على القبائل، ويكلم كل شريف قوم، لا يسألهم إلا أن يؤوه ويمنعوه، ويقول: لا أكره أحدا منكم على شيء، بل أريد أن تمنعوا من يؤذيني حتى أبلغ رسالة ربي، فلا يقبله أحد بل يقولون: قوم الرجل أعلم به" وأخرج البيهقي وأصله عند أحمد وصححه ابن حبان من حديث ربيعة بن عباد بكسر المهملة وتخفيف الموحدة قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم سوق ذي المجاز يتبع الناس في منازلهم يدعوهم إلى الله عز وجل" الحديث. وروى أحمد وأصحاب السنن وصححه الحاكم من حديث جابر "كان رسول الله يعرض نفسه على الناس بالموسم فيقول: هل من رجل يحملني إلى قومه؟ فإن قريشا منعوني أن أبلغ كلام ربي. فأتاه رجل من همدان فأجابه، ثم خشي أن لا يتبعه قومه فجاء إليه فقال: آتي قومي فأخبرهم ثم آتيك من العام المقبل. قال: نعم. فانطلق الرجل وجاء وفد الأنصار في رجب" وقد أخرج الحاكم وأبو نعيم والبيهقي في "الدلائل" بإسناد حسن عن ابن عباس" حدثني علي بن أبي طالب قال: لما أمر الله نبيه أن يعرض نفسه على قبائل العرب خرج وأنا منه وأبو بكر إلى منى، حتى دفعنا إلى مجلس من مجالس العرب، وتقدم أبو بكر وكان نسابة فقال: من القوم؟ فقالوا: من ربيعة. فقال من أي ربيعة أنتم؟ قالوا: من ذهل - ذكروا حديثا طويلا في مراجعتهم وتوقفهم أخيرا عن الإجابة - قال: ثم دفعنا إلى مجلس الأوس والخزرج، وهم الذين سماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار لكونهم أجابوه إلى إيوائه ونصره، قال: فما نهضوا حتى بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم": انتهى. وذكر ابن إسحاق أن أهل العقبة الأولى كانوا ستة نفر وهم: أبو أمامة أسعد بن زرارة النجاري ورافع ابن مالك بن العجلان العجلاني وقطبة بن عامر بن حديدة وجابر بن عبد الله بن رثاب، وعقبة بن عامر - وهؤلاء الثلاثة من بني سلمة - وعوف بن الحارث بن رفاعة من بني مالك بن النجار. وقال موسى بن عقبة عن الزهري وأبو الأسود عن عروة: هم أسعد بن زرارة ورافع بن مالك ومعاذ بن عفراء ويزيد بن ثعلبة وأبو الهيثم بن التيهان وعويم بن ساعدة، ويقال كان فيهم عبادة بن الصامت وذكوان. قال ابن إسحاق: "حدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن أشياخ من قومه قال لما رآهم النبي صلى الله عليه وسلم قال: من أنتم؟ قالوا من الخزرج. قال: أفلا تجلسون أكلمكم؟ قالوا: نعم. فدعاهم إلى الله، وعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن. وكان مما صنع الله لهم أن اليهود كانوا معهم في بلادهم، وكانوا أهل كتاب، وكان الأوس والخزرج أكثر منهم، فكانوا إذا كان بينهم شيء قالوا: إن نبينا سيبعث الآن قد أظل زمانه نتبعه، فنقتلكم معه، فلما كلمهم النبي صلى الله عليه وسلم عرفوا النعت، فقال بعضهم لبعض: لا تسبقنا إليه يهود، فآمنوا وصدقوا، وانصرفوا إلى بلادهم ليدعوا قومهم، فلما أخبروهم لم يبق دور من قومهم إلا وفيها ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كان الموسم وافاه منهم اثنا عشر رجلا". حديث كعب بن مالك في قصة توبته، ذكر منه طرفا وسيأتي مطولا في مكانه والغرض منه قوله: "ولقد شهدت مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة". وعنبسة هو ابن خالد بن يزيد الإيلي

(7/220)


يروي عن عمه يونس بن يزيد، وقوله: "قال ابن بكير في حديثه" يريد أن اللفظ المساق لعقيل لا ليونس، وقوله: "تواثقنا" بالمثلثة والقاف أي وقع بيننا الميثاق على ما تبايعنا عليه، وقوله: "وما أحب أن لي بها مشهد بدر" لأن من شهد بدرا وإن كان فاضلا بسبب أنها أول غزوة نصر فيها الإسلام، لكن بيعة العقبة كانت سببا في فشو الإسلام، ومنها نشأ مشهد بدر، وقوله: "أذكر منها" هو أفعل تفضيل بمعنى المذكور، أي أكثر ذكرا بالفضل وشهرة بين الناس. قلت: وكان كعب من أهل العقبة الثانية، وقد عمد ثالثة كما أشرت إليه قبل، ولعل المصنف لمح بما أخرجه ابن إسحاق وصححه ابن حبان من طريقه بطوله، قال ابن إسحاق" حدثني معبد بن كعب بن مالك أن أخاه عبد الله - وكان من أعلم الأنصار - حدثه أن أباه كعبا حدثه، وكان ممن شهد العقبة وبايع بها قال: خرجنا حجاجا مع مشركي قومنا وقد صلينا وفقهنا، ومعنا البراء بن معرور سيدنا وكبيرنا - فذكر شأن صلاته إلى الكعبة قال -: فلما وصلنا إلى مكة ولم نكن رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك، سألنا عنه فقيل: هو مع العباس في المسجد، فدخلنا فجلسنا إليه، فسأله البراء عن القبلة، ثم خرجنا إلى الحج، وواعدناه العقبة ومعنا عبد الله بن عمرو والد جابر ولم يكن أسلم قبل فعرفناه أمر الإسلام فأسلم حينئذ وصار من النقباء، قال فاجتمعنا عند العقبة ثلاثة وسبعين رجلا، ومعنا امرأتان أم عمارة بنت كعب إحدى نساء بني مازن وأسماء بنت عمرو بن عدي إحدى نساء بني سلمة، قال فجاء ومعه العباس فتكلم فقال: إن محمدا منا من حيث علمتم، وقد منعناه وهو في عز، فإن كنتم تريدون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه ومانعوه ممن خالفه فأنتم وذاك، وإلا فمن الآن. قال فقلنا: تكلم يا رسول الله، فخذ لنفسك ما أحببت. فتكلم، فدعا إلى الله وقرأ القرآن ورغب في الإسلام ثم قال: أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم، قال فأخذ البراء بن معرور بيده فقال: نعم" فذكر الحديث وفيه: "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أ سالم من سالمتم، وأحارب من حاربتم. ثم قال: أخرجوا إلي منكم اثني عشر نقيبا " وذكر ابن إسحاق النقباء وهم أسعد بن زرارة ورافع بن مالك والبراء بن معرور وعبادة بن الصامت وعبد الله بن عمرو بن حرام وسعد بن الربيع وعبد الله بن رواحة وسعد بن عبادة والمنذر بن عمرو بن حبيش وأسيد بن حضير وسعد بن خيثمة وأبو الهيثم بن التيهان، وقيل بدله: رفاعة بن عبد المنذر". وفي "المستدرك" عن ابن عباس" كان البراء بن معرور أول من بايع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة. قال ابن إسحاق: "حدثني عبد الله بن أبي بكر بن حزم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للنقباء: أنتم كفلاء على قومكم ككفالة الحواريين لعيسى ابن مريم ، قالوا: نعم" وذكر أيضا أن قريشا بلغهم أمر البيعة فأنكروا عليهم، فحلف المشركون منهم وكانوا أكثر منهم - قيل: كانوا خمسمائة نفس - أن ذلك لم يقع، وذلك لأنهم ما علموا بشيء مما جرى. قوله: "كان عمرو" هو ابن دينار. قوله: "شهد بي خالاي العقبة" لم يسمهما في هذه الرواية؛ ونقل عن عبد الله بن محمد - وهو الجعفي - أن ابن عيينة قال: أحدهما: البراء بن معرور، كذا في رواية أبي ذر، ولغيره: قال أبو عبد الله يعني المصنف، فعلى هذا فتفسير المبهم من كلامه، لكنه ثبت أنه من كلام ابن عيينة من وجه آخر عند الإسماعيلي، فترجحت رواية أبي ذر. ووقع في رواية الإسماعيلي: "قال سفيان: خالاه البراء بن معرور وأخوه" ولم يسمه. والبراء بتخفيف الراء ومعرور بمهملات يقال إنه كان أول من أسلم من الأنصار، وأول من بايع في العقبة الثانية كما تقدم، ومات قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة بشهر واحد. وهو أول من صلى إلى الكعبة في قصة ذكرها ابن إسحاق وغيره، وقد تعقبه الدمياطي فقال: أم جابر هي أنيسة بنت غنمة بن عدي وأخواها .

(7/221)


ثعلبة وعمرو وهما خالا جابر، وقد شهدا العقبة الأخيرة. وأما البراء بن معرور فليس من أخوال جابر قلت: لكن من أقارب أمه، وأقارب الأم يمسون أخوالا مجازا، وقد روى ابن عساكر بإسناد حسن عن جابر قال: "حملني خالي الحر بن قيس في السبعين راكبا الذين وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار، فخرج إلينا معه العباس عمه فقال: يا عم، خذ لي على أخوالك" فسمى الأنصار أخوال العباس لكون جدته أم أبيه عبد المطلب منهم، وسمى الحر بن قيس خاله لكونه من أقارب أمه وهو ابن عم البراء بن معرور، فلعل قول سفيان "وأخوه" عني به الحر بن قيس، وأطلق عليه أخا وهو ابن عم لأنهما في منزلة واحدة في النسب، وهذا أول من توهيم مثل ابن عيينة، لكن لم يذكر أحد من أهل السير الحر بن قيس في أصحاب العقبة، فكأنه لم يكن أسلم، فعلى هذا فالخال الآخر لجابر إما ثعلبة وإما عمرو، والله أعلم. قوله: "أخبرنا هشام" هو ابن يوسف الصنعاني، وعطاء هو ابن أبي رباح. قوله: "أنا وأبي" عبد الله بن عمرو بن حرام بالمهملتين، وقد تقدم أنه كان من النقباء. قوله: "وخالي" تقدم القول فيهما، وقرأت بخط مغلطاي: يريد عيسى بن عامر بن عدي بن سنان وخالد بن عمرو بن عدي بن سنان لأن أم جابر أنيسة بنت غنمة بن عدي بن سنان، يعني فكل منهما ابن عمها بمنزلة أخيها، فأطلق عليهما جابر أنهما خالاه مجازا. قلت: إن حمل على الحقيقة تعين كما قاله الدمياطي، وإلا فتغليط ابن عيينة مع أن كلامه يمكن حمله على المجاز بأمر فيه مجاز ليس بمتجه، والله المستعان. ووقع عند ابن التين "وخالى" بغير ألف وتشديد التحتانية وقال: لعل الواو واو المعية أي مع خالي، ويحتمل أن يكون بالإفراد بكسر اللام وتخفيف الياء. حديث عبادة بن الصامت في قصة البيعة ليلة العقبة، وقد تقدم شرحه مستوفى في أوائل كتاب الإيمان مع مباحث نفيسة تتعلق بقوله في الحديث: "فعوقب به فهو كفارة له" وأوضحت هناك أن بيعة العقبة إنما كانت على الإيواء والنصر، وأما ما ذكره من الكفارة فتلك بيعة أخرى وقعت بعد فتح مكة، ثم رأيت ابن إسحاق جزم بأن بيعة العقبة وقعت بما صدر في الرواية الثانية التي في هذا الباب ففال: "حدثني يزيد بن أبي حبيب" فذكر بسند الباب: "عن عبادة قال: كنت فيمن حضر العقبة الأولى، فكنا اثني عشر رجلا، فبايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء" أي على وفق بيعة النساء التي نزلت بعد ذلك عند فتح مكة، وهذا محتمل، لكن ليست الزيادة في طريق الليث بن سعد عن يزيد في الصحيحين، وعلى تقدير ثبوتها فليس فيه ما ينافي ما قررته من أن قوله: "فهو كفارة" إنما ورد بعد ذلك، لأنه يعارضه حديث أبي هريرة "ما أدري الحدود كفارة لأهلها أم لا" مع تأخر إسلام أبي هريرة عن ليلة العقبة، كما استوفيت مباحثه هناك. وممن ذكر صورة بيعة العقبة كعب بن مالك كما أسلفته آنفا عنه، وروى البيهقي من طريق عبد الله بن عثمان بن خثيم عن إسماعيل بن عبد الله بن رفاعة عن أبيه قال: "قال عبادة بن الصامت بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في النشاط والكسل" فذكر الحديث وفيه: "وعلى أن ننصر رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدم علينا يثرب بما نمنع به أنفسنا وأزواجنا وأبناءنا. ولنا الجنة.فهذه بيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي بايعناه عليها" وعند أحمد بإسناد حسن وصححه الحاكم وابن حبان عن جابر مثله وأوله" مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين يتبع الناس في منازلهم في المواسب بمنى وغيرها يقول: من يؤويني، من ينصرني حتى أبلغ رسالة ربي وله الجنة؟ حتى بعثنا الله له من يثرب فصدقناه" فذكر الحديث حتى قال: "فرحل إليه منا سبعون رجلا، فوعدناه بيعة العقبة، فقلنا: علام نبايعك؟ فقال: على السمع والطاعة في النشاط والكسل، وعلى النفقة في العسر واليسر،

(7/222)


وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن تنصروني إذا قدمت عليكم يثرب، فتمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم، ولكم الجنة " الحديث. ولأحمد من وجه آخر عن جابر قال: "كان العباس آخذا بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما فرغنا قال رسول الله: أخذت وأعطيت " وللبزار من وجه آخر عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "للنقباء من الأنصار: تؤوني، وتمنعوني؟ قالوا: نعم.قالوا: فما لنا؟ قال: "الجنة" وروى البيهقي بإسناد قوي عن الشعبي، ووصله الطبراني من حديث أبي موسى الأنصاري قال: "انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم معه العباس عمه إلى السبعين من الأنصار عند العقبة فقال له أبو أمامة - يعني أسعد بن زرارة - سل يا محمد لربك ولنفسك ما شئت، ثم أخبرنا ما لنا من الثواب. قال: أسألكم لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأسألكم لنفسي ولأصحابي أن تؤوونا وتنصرونا وتمنعونا مما تمنعون منه أنفسكم ، قالوا: فما لنا؟ قال: الجنة . قالوا: ذلك لك" وأخرجه أحمد من الوجهين جميعا. قوله: "ولا نقضي" بالقاف والضاد المعجمة للأكثر، وفي بعض النسخ عن شيوخ أبي ذر"ولا نعصي" بالعين والصاد المهملتين، وقد بينت الصواب من ذلك في أوائل كتاب الإيمان. وذكر ابن إسحاق أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث مع الاثني عشر رجلا مصعب بن عمير العبدري، وقيل: بعثه إليهم بعد ذلك بطلبهم ليفقههم ويقرئهم، فنزل على أسعد بن زرارة، فروى أبو داود من طريق عبد الرحمن بن كعب بن مالك قال: "كان أبي إذا سمع الأذان للجمعة استغفر لأسعد بن زرارة، فسألته، فقال: كان أول من جمع بنا بالمدينة" وللدار قطني من حديث ابن عباس" أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى مصعب بن عمير أن اجمع بهم" ا ه، فأسلم خلق كثير من الأنصار على يد مصعب بن عمير بمعاونة أسعد بن زرارة حتى فشا الإسلام بالمدينة، فكان ذلك سبب رحلتهم في السنة المقبلة، حتى وافى منهم العقبة سبعون مسلما وزيادة، فبايعوا كما تقدم.

(7/223)


44 - باب تَزْوِيجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَائِشَةَ وَقُدُومِهَا الْمَدِينَةَ وَبِنَائِهِ بِهَا
3894- حَدَّثَنِي فَرْوَةُ بْنُ أَبِي الْمَغْرَاءِ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ "تَزَوَّجَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا بِنْتُ سِتِّ سِنِينَ فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فَنَزَلْنَا فِي بَنِي الْحَارِثِ بْنِ خَزْرَجٍ فَوُعِكْتُ فَتَمَرَّقَ شَعَرِي فَوَفَى جُمَيْمَةً فَأَتَتْنِي أُمِّي أُمُّ رُومَانَ وَإِنِّي لَفِي أُرْجُوحَةٍ وَمَعِي صَوَاحِبُ لِي فَصَرَخَتْ بِي فَأَتَيْتُهَا لاَ أَدْرِي مَا تُرِيدُ بِي فَأَخَذَتْ بِيَدِي حَتَّى أَوْقَفَتْنِي عَلَى بَابِ الدَّارِ وَإِنِّي لاَنْهِجُ حَتَّى سَكَنَ بَعْضُ نَفَسِي ثُمَّ أَخَذَتْ شَيْئًا مِنْ مَاءٍ فَمَسَحَتْ بِهِ وَجْهِي وَرَأْسِي ثُمَّ أَدْخَلَتْنِي الدَّارَ فَإِذَا نِسْوَةٌ مِنْ الأَنْصَارِ فِي الْبَيْتِ فَقُلْنَ عَلَى الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ وَعَلَى خَيْرِ طَائِرٍ فَأَسْلَمَتْنِي إِلَيْهِنَّ فَأَصْلَحْنَ مِنْ شَأْنِي فَلَمْ يَرُعْنِي إِلاَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضُحًى فَأَسْلَمَتْنِي إِلَيْهِ وَأَنَا يَوْمَئِذٍ بِنْتُ تِسْعِ سِنِينَ"
[الحديث 3894- أطرافه في: 5160,5158,5156,5134,5133,3896]
3895- حَدَّثَنَا مُعَلًّى حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهَا أُرِيتُكِ فِي الْمَنَامِ مَرَّتَيْنِ أَرَى أَنَّكِ فِي سَرَقَةٍ مِنْ حَرِيرٍ وَيَقُولُ هَذِهِ امْرَأَتُكَ فَاكْشِفْ عَنْهَا

(7/223)


فَإِذَا هِيَ أَنْتِ فَأَقُولُ إِنْ يَكُ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يُمْضِهِ"
[الحديث 3895- أطرافه في: 7012,7011,5125,5078,]
3896- حَدَّثَنِي عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ "تُوُفِّيَتْ خَدِيجَةُ قَبْلَ مَخْرَجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ بِثَلاَثِ سِنِينَ فَلَبِثَ سَنَتَيْنِ أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ وَنَكَحَ عَائِشَةَ وَهِيَ بِنْتُ سِتِّ سِنِينَ ثُمَّ بَنَى بِهَا وَهِيَ بِنْتُ تِسْعِ سِنِينَ"
قوله: "باب تزويج النبي صلى الله عليه وسلم عائشة" سقط لفظ: "باب" لأبي ذر. قوله: "وقدومها المدينة" أي بعد الهجرة. قوله: "وبنائه بها" أي بالمدينة. وكان دخولها عليه في شوال من السنة الأولى وقيل: من الثانية، وقد تعقب قوله: "بنائه بها" اعتمادا على قول صاحب الصحاح: العامة تقول بنى بأهله وهو خطأ، وإنما يقال بني على أهله. والأصل فيه أن الداخل على أهله يضرب عليه قبة ليلة الدخول، ثم قيل لكل داخل بأهله بأن، انتهى. ولا معنى لهذا التغليط لكثرة استعمال الفصحاء له، وحسبك بقول عائشة" بنى بي" وبقول عروة في آخر الحديث الثالث "وبنى بها". قوله في الحديث: "تزوجني وأنا بنت ست سنين" أي عقد علي. وقولها: "فنزلنا في بني الحارث بن الخزرج" أي لما قدمت هي وأمها وأختها أسماء بنت أبي بكر كما سأبينه، وأما أبوها فقدم قبل ذلك مع النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: "فتمزق شعري" بالزاي أي تقطع، وللكشميهني: "فتمرق" بالراء أي انتتف. قوله: "فوفى" أي كثر، وفي الكلام حذف تقديره"ثم فصلت من الوعك فتربى شعري فكثر، وقولها" جميمة" بالجيم مصغر الجمة بالضم وهي مجتمع شعر الناصية، ويقال للشعر إذا سقط عن المنكبين جمة، وإذا كان إلى شحمة الأذنين وفرة. وقولها: "في أرجوحة" بضم أوله معروفة وهي التي تلعب بها الصبيان، وقوله: "أنهج" أي أتنفس تنفسا عاليا، وقولهن"على خير طائر" أي على خير حظ ونصيب، وقولها: "فلم يرعني" بضم الراء وسكون العين أي لم يفزعني شيء إلا دخوله علي، وكنت بذلك عن المفاجأة بالدخول على غير عالم بذلك فإنه يفزع غالبا، وروى أحمد من وجه آخر هذه القصة مطولة" قالت عائشة: قدمنا المدينة فنزلنا في بني الحارث، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل بيتنا، فجاءت بي أمي وأنا في أرجوحة ولي جميمة، ففرقتها، ومسحت وجهي بشيء من ماء، ثم أقبلت بي تقودني حتى وقفت بي عند الباب حتى سكن نفسي" الحديث، وفيه: "فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس على سريره وعنده رجال ونساء من الأنصار فأجلستني في حجره، ثم قالت: هؤلاء أهلك يا رسول الله، بارك الله فيهم فوثب الرجال والنساء، وبنى بي رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتنا وأنا يومئذ بنت تسع سنين". قوله: "أريتك" بضم أوله. قوله: "سرقة" بفتح المهملة والراء والقاف أي قطعة، أي يريه صورتها. قوله: "ويقول" في رواية الكشميهني: "وقال: ويأتي في النكاح بلفظ: "فقال لي هذه امرأتك". قوله: "فإذا هي أنت" سيأتي الكلام على شرحه في كتاب النكاح إن شاء الله تعالى. قوله: "عن أبيه" هذا صورته مرسل، لكنه لما كان من رواية عروة مع كثرة خبرته بأحوال عائشة يحمل على أنه حمله عنها. قوله: "توفيت خديجة قبل مخرج النبي صلى الله عليه وسلم بثلاث سنين، فلبث سنتين أو قريبا من ذلك ونكح عائشة وهي بنت ست سنين ثم بنى بها وهي بنت تسع سنين" فيه إشكال لأن ظاهره

(7/224)


يقتضي أنه لم يبن بها إلا بعد قدومه المدينة بسنتين ونحو ذلك، لأن قوله: "فلبث سنتين أو نحو ذلك" أي بعد موت خديجة، وقوله: "ونكح عائشة" أي عقد عليها لقوله بعد ذلك" وبنى بها وهي بنت تسع" فيخرج من ذلك أنه بنى بها بعد قدومه المدينة بسنتين، وليس كذلك، لأنه وقع عند المصنف في النكاح من رواية الثوري عن هشام بن عروة في هذا الحديث: "ومكثت عنده تسعا" وسيأتي ما قيل من إدراج النكاح في هذه الطريق، وهو في الجملة صحيح، فإن عند مسلم من حديث الزهري عن عروة عن عائشة في هذا الحديث: "وزفت إليه وهي بنت تسع ولعبتها معها، ومات عنها وهي بنت ثمان عشرة" وله من طريق الأسود عن عائشة نحوه، ومن طريق عبد الله بن عروة عن أبيه عن عائشة" تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم في شوال، وبنى بي في شوال" فعلى هذا فقوله: "فلبث سنتين أو قريبا من ذلك" أي لم يدخل على أحد من النساء، ثم دخل على سودة بنت زمعة قبل أن يهاجر، ثم بنى بعائشة بعد أن هاجر، فكأن ذكر سودة سقط على بعض رواته. وقد روى أحد والطبراني بإسناد حسن عن عائشة قالت: "لما توفيت خديجة قالت خولة بنت حكيم امرأة عثمان بن مظعون: يا رسول الله ألا تزوج؟ قال: نعم، فما عندك؟ قالت: بكر وثيب، البكر بنت أحب خلق الله إليك عائشة، والثيب سودة بنت زمعة.قال: فاذهبي فاذكريهما علي فدخلت على أبي بكر فقال: إنما هي بنت أخيه، قال: قولي له أنت أخي في الإسلام، وابنتك تصلح لي.فجاءه فأنكحه.ثم دخلت على سودة فقالت لها: أخبري أبي، فذكرت له، فزوجه" وذكر ابن إسحاق وغيره أنه دخل على سودة بمكة.وأخرج الطبراني من وجه آخر عن عائشة قالت."لما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر خلفنا بمكة، فلما استقر بالمدينة بعث زيد بن حارثة وأبا رافع، وبعث أبو بكر عبد الله بن أريقط وكتب إلى عبد الله بن أبي بكر أن يحمل معه أم رومان وأم أبي بكر وأنا وأختي أسماء، فخرج بنا، وخرج زيد وأبو رافع بفاطمة وأم كلثوم وسودة بنت زمعة، وأخذ زيد امرأته أم أيمن وولديها أيمن وأسامة، واصطحبنا، حتى قدمنا المدينة فنزلت في عيال أبي بكر، ونزل آل النبي صلى الله عليه وسلم: عنده، وهو يومئذ يبني المسجد وبيوته، فأدخل سودة بنت زمعة أحد تلك البيوت، وكان يكون عندها، فقال له أبو بكر: ما يمنعك أن تبني بأهلك؟ فبني بي" الحديث. قال الماوردي: الفقهاء يقولون: تزوج عائشة قبل سودة، والمحدثون يقولون: تزوج سودة قبل عائشة، وقد يجمع بينهما بأنه عقد على عائشة ولم يدخل بها ودخل بسودة. قلت: والرواية التي ذكرتها عن الطبراني ترفع الإشكال وتوجه الجمع المذكور، والله أعلم. وقد أخرج الإسماعيلي من طريق عبد الله بن محمد بن يحيى عن هشام عن أبيه" أنه كتب إلى الوليد: إنك سألتني متى توفيت خديجة؟ وإنها توفيت قبل مخرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة بثلاث سنين أو قريب من ذلك، نكح النبي صلى الله عليه وسلم عائشة بعد متوفى خديجة، وعائشة بنت ست سنين. ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم بنى بها بعدما قدم المدينة وهي بنت تسع سنين" وهذا السياق لا إشكال فيه، ويرتفع به ما تقدم من الإشكال أيضا، والله أعلم. إذا ثبت أنه بنى بها في شوال من السنة الأولى من الهجرة قوي قول من قال إنه دخل بها بعد الهجرة بسبعة أشهر، وقد وهاه النووي في تهذيبه، وليس بواه إذا عددناه من ربيع الأول، وجزمه بأن دخوله بها كان في السنة الثانية يخالف ما ثبت كما تقدم أنه دخل بها بعد خديجة بثلاث سنين. وقال الدمياطي في السيرة له: ماتت خديجة في رمضان، وعقد على سودة في شوال ثم على عائشة، ودخل بسودة قبل عائشة.

(7/225)


45 - باب هِجْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "لَوْلاَ الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنْ الأَنْصَار"ِ
وَقَالَ أَبُو مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أُهَاجِرُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى أَرْضٍ بِهَا نَخْلٌ فَذَهَبَ وَهَلِي إِلَى أَنَّهَا الْيَمَامَةُ أَوْ هَجَرُ فَإِذَا هِيَ الْمَدِينَةُ يَثْرِبُ" .
3897- حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا وَائِلٍ يَقُولُ عُدْنَا خَبَّابًا فَقَالَ "هَاجَرْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُرِيدُ وَجْهَ اللَّهِ فَوَقَعَ أَجْرُنَا عَلَى اللَّهِ فَمِنَّا مَنْ مَضَى لَمْ يَأْخُذْ مِنْ أَجْرِهِ شَيْئًا مِنْهُمْ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ وَتَرَكَ نَمِرَةً فَكُنَّا إِذَا غَطَّيْنَا بِهَا رَأْسَهُ بَدَتْ رِجْلاَهُ وَإِذَا غَطَّيْنَا رِجْلَيْهِ بَدَا رَأْسُهُ فَأَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نُغَطِّيَ رَأْسَهُ وَنَجْعَلَ عَلَى رِجْلَيْهِ شَيْئًا مِنْ إِذْخِرٍ وَمِنَّا مَنْ أَيْنَعَتْ لَهُ ثَمَرَتُهُ فَهُوَ يَهْدِبُهَا"
3898- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ هُوَ ابْنُ زَيْدٍ عَنْ يَحْيَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ قَالَ سَمِعْتُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ الأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ"
3899- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ يَزِيدَ الدِّمَشْقِيُّ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو عَمْرٍو الأَوْزَاعِيُّ عَنْ عَبْدَةَ بْنِ أَبِي لُبَابَةَ عَنْ مُجَاهِدِ بْنِ جَبْرٍ الْمَكِّيِّ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانَ يَقُولُ "لاَ هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ".
[الحديث 3899- أطرافه في: 4311,4310,4309]
3900- قَالَ يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ وَحَدَّثَنِي الأَوْزَاعِيُّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ قَالَ زُرْتُ عَائِشَةَ مَعَ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ اللَّيْثِيِّ فَسَأَلْنَاهَا عَنْ الْهِجْرَةِ فَقَالَتْ "لاَ هِجْرَةَ الْيَوْمَ كَانَ الْمُؤْمِنُونَ يَفِرُّ أَحَدُهُمْ بِدِينِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَإِلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَخَافَةَ أَنْ يُفْتَنَ عَلَيْهِ فَأَمَّا الْيَوْمَ فَقَدْ أَظْهَرَ اللَّهُ الإِسْلاَمَ وَالْيَوْمَ يَعْبُدُ رَبَّهُ حَيْثُ شَاءَ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ".
3901- حَدَّثَنِي زَكَرِيَّاءُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ قَالَ هِشَامٌ فَأَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا

(7/226)


"أَنَّ سَعْدًا قَالَ اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ أُجَاهِدَهُمْ فِيكَ مِنْ قَوْمٍ كَذَّبُوا رَسُولَكَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخْرَجُوهُ اللَّهُمَّ فَإِنِّي أَظُنُّ أَنَّكَ قَدْ وَضَعْتَ الْحَرْبَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ"
وَقَالَ أَبَانُ بْنُ يَزِيدَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ أَخْبَرَتْنِي عَائِشَةُ مِنْ قَوْمٍ كَذَّبُوا نَبِيَّكَ وَأَخْرَجُوهُ مِنْ قُرَيْشٍ.
3902- حَدَّثَنَي مَطَرُ بْنُ الْفَضْلِ حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ "بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَرْبَعِينَ سَنَةً فَمَكُثَ بِمَكَّةَ ثَلاَثَ عَشْرَةَ سَنَةً يُوحَى إِلَيْهِ ثُمَّ أُمِرَ بِالْهِجْرَةِ فَهَاجَرَ عَشْرَ سِنِينَ وَمَاتَ وَهُوَ ابْنُ ثَلاَثٍ وَسِتِّينَ"
3903- حَدَّثَنَي مَطَرُ بْنُ الْفَضْلِ حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ حَدَّثَنَا زكرياء بن اسحاق حَدَّثَنَا عمرو بن دينار عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ"مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاث عشرة؛ وتوفي وهو بن ثلاث وستين"
3904- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ أَبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ عُبَيْدٍ
يَعْنِي ابْنَ حُنَيْنٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ إِنَّ عَبْدًا خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا مَا شَاءَ وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ فَاخْتَارَ مَا عِنْدَهُ فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ وَقَالَ فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا فَعَجِبْنَا لَهُ وَقَالَ النَّاسُ انْظُرُوا إِلَى هَذَا الشَّيْخِ يُخْبِرُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ عَبْدٍ خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ وَهُوَ يَقُولُ فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْمُخَيَّرَ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ هُوَ أَعْلَمَنَا بِهِ وَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ مِنْ أَمَنِّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أَبَا بَكْرٍ وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا مِنْ أُمَّتِي لاَتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ إِلاَّ خُلَّةَ الإِسْلاَمِ لاَ يَبْقَيَنَّ فِي الْمَسْجِدِ خَوْخَةٌ إِلاَّ خَوْخَةُ أَبِي بَكْرٍ"
قوله: "باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة" أما النبي صلى الله عليه وسلم فجاء عن ابن عباس أنه أذن له في الهجرة إلى المدينة بقوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً} أخرجه الترمذي وصححه هو والحاكم، وذكر الحاكم أن خروجه صلى الله عليه وسلم من مكة كان بعد بيعة العقبة بثلاثة أشهر أو قريبا منها، وجزم ابن إسحاق بأنه خرج أول يوم من ربيع الأول، فعلى هذا يكون بعد البيعة بشهرين وبضعة عشر يوما، وكذا جزم به الأموي في المغازي عن ابن إسحاق فقال: كان مخرجه من مكة بعد العقبة بشهرين وليال، قال وخرج لهلال ربيع الأول وقدم المدينة لاثنتي عشرة خلت من ربيع الأول. قلت: وعلى هذا خرج يوم الخميس، وأما أصحابه فتوجه معه منهم أبو بكر الصديق وعامر بن فهيرة، وتوجه قبل ذلك بين العقبتين جماعة منهم ابن أم مكتوم، ويقال إن أول من هاجر إلى المدينة أبو سلمة بن عبد الأشهل المخزومي زوج أم سلمة، وذلك

(7/227)


أنه أوذي لما رجع من الحبشة، فعزم على الرجوع إليها، فبلغه قصة الاثني عشر من الأنصار فتوجه إلى المدينة، ذكر ذلك ابن إسحاق، وأسند عن أم سلمة أن أبا سلمة أخذها معه فردها قومها فحبسوها سنة، ثم انطلقت فتوجهت في قصة طويلة وفيها" فقدم أبو سلمة المدينة بكرة، وقدم بعده عامر بن ربيعة حليف بني عدي عشية" ثم توجه مصعب بن عمير كما تقدم آنفا ليفقه من أسلم من الأنصار، ثم كان أول من هاجر بعد بيعة العقبة عامر بن ربيعة حليف بني عدي على ما ذكر ابن إسحاق، وسيأتي ما يخالفه في الباب الذي يليه وهو قول البراء" أول من قدم علينا من المهاجرين مصعب بن عمير" إلخ توجه باقي الصحابة شيئا فشيئا كما سيأتي في الباب الذي يليه. ثم لما توجه النبي صلى الله عليه وسلم واستقر بها خرج من بقي من المسلمين، وكان المشركون يمنعون من قدروا على منعه منهم، فكان أكثرهم يخرج سرا إلى أن لم يبق منهم بمكة إلا من غلب على أمره من المستضعفين. ثم ذكر المصنف في الباب أحاديث: الأول والثاني: قوله: "وقال عبد الله بن زيد وأبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم لولا الهجرة لكنت امرءا من الأنصار" أما حديث عبد الله بن زيد فيأتي موصولا في غزوة حنين، وأما حديث أبي هريرة فتقدم موصولا في مناقب الأنصار، وقوله: "من الأنصار" أي كنت أنصاريا صرفا فما كان لي مانع من الإقامة بمكة، لكنني اتصفت بصفة الهجرة، والمهاجر لا يقيم بالبلد الذي هاجر منها مستوطنا، فينبغي أن يحصل لكم الطمأنينة بأني لا أتحول عنكم، وذلك أنه إنما قال لهم ذلك في جواب قولهم: أما الرجل فقد أحب الإقامة بموطنه، وسيأتي لذلك مزيد في غزوة حنين إن شاء الله تعالى. الحديث الثالث: قوله: "وقال أبو موسى إلخ" يأتي شرحه مستوفى في غزوة أحد، وقوله فيه: "فذهب وهلي" بفتح الواو والهاء أي ظني، يقال وهل بالفتح يهل بالكسر وهلا بالسكون إذا ظن شيئا فتبين الأمر بخلافه، وقوله: "أو هجر" بفتح الهاء والجيم بلد معروف من البحرين وهي من مساكن عبد القيس، وقد سبقوا غيرهم من القرى إلى الإسلام كما سبق بيانه في كتاب الإيمان. ووقع في بعض نسخ أبي ذر"أو الهجر" بزيادة ألف ولام والأول أشهر، وزعم بعض الشراح أن المراد بهجر هنا قرية قريبة من المدينة، وهو خطأ فإن الذي يناسب أن يهاجر إليه لا بد وأن يكون بلدا كبيرا كثير الأهل، وهذه القرية التي قيل إنها كانت قرب المدينة يقال لها هجر لا يعرفها أحد، وإنما زعم ذلك بعض الناس في قوله: "قلال هجر" أن المراد بها قرية كانت قرب المدينة كان يصنع بها القلال، وزعم آخرون بأن المراد بها هجر التي بالبحرين كأن القلال كانت تعمل بها وتجلب إلى المدينة وعملت بالمدينة على مثالها، وأفاد ياقوت أن هجر أيضا بلد باليمن، فهذا أولى بالتردد بينها وبين اليمامة لأن اليمامة بين مكة واليمن، وقوله: "فإذا هي المدينة يثرب" كان ذلك قبل أن يسميها صلى الله عليه وسلم طيبة، ووقع. عند البيهقي من حديث صهيب رفعه: "أريت دار هجرتكم سبخة بين ظهراني حرتين، فإما أن تكون هجر أو يثرب" ولم يذكر اليمامة، وللترمذي من حديث جرير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى أوحى إلي أي هؤلاء الثلاثة نزلت فهي دار هجرتك: المدينة أو البحرين أو قنسرين" استغربه الترمذي، وفي ثبوته نظر لأنه مخالف لما في الصحيح من ذكر اليمامة، لأن قنسرين من أرض الشام من جهة حلب، وهي بكسر القاف وفتح النون الثقيلة بعدها مهملة ساكنة، بخلاف اليمامة فإنها إلى جهة اليمن، إلا إن حمل على اختلاف المأخذ فإن الأول جرى على مقتضى الرؤيا التي أريها، والثاني يخير بالوحي، فيحتمل أن يكون أري أولا ثم خير ثانيا فاختار المدينة. حديث خباب"هاجرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم": أي بإذنه، وإلا فلم يرافق النبي صلى الله عليه وسلم سوى أبي بكر وعامر بن فهيرة كما تقدم، وقد أعاد

(7/228)


المصنف هذا الحديث في هذا الباب، وستأتي الإشارة إليه بعد بضعة عشر حديثا، وسيأتي شرح هذا الحديث مستوفى في كتاب الرقاق، ومضى شيء منه في كتاب الجنائز. حديث عمر "الأعمال بالنية" أورده مختصرا، وقد تقدم شرحه مستوفى في أول الكتاب، ويحيى هو ابن سعيد الأنصاري، وهو الذي لا يثبت هذا الحديث إلا من طريقه. قوله: "حدثني إسحاق ابن يزيد الدمشقي" هو إسحاق بن إبراهيم بن يزيد الفراديسي الدمشقي أبو النضر، نسبه هنا إلى جده، وكذلك في الزكاة وفي الجهاد، وجزم بأنه الفراديسي الكلاباذي وآخرون، وتفرد الباجي فأفرده بترجمة ونسبه خراسانيا، ولم يعرف من حاله على ذلك، وقول الجماعة أولى. قوله: "عن عبدة بن أبي لبابة" بضم اللام والموحدتين الأولى خفيفة الأسدي كوفي نزل دمشق وكنيته أبو القاسم، ولا يعرف اسم أبيه. قال الأوزاعي: لم يقدم علينا من العراق أفضل منه. قوله: "أن عبد الله بن عمر كان يقول لا هجرة بعد الفتح" هذا موقوف، وسيأتي شرحه في الذي بعده. قوله: "قال يحيى بن حمزة: وحدثني الأوزاعي" هو معطوف على الذي قبله، وقد أفردهما في أواخر غزوة الفتح، وأورد كل واحد منهما عن إسحاق بن يزيد المذكور بإسناده. وأخرج ابن حبان الثاني من طريق الوليد بن مسلم عن الأوزاعي قال: "سألته عن انقطاع فضيلة الهجرة إلى الله ورسوله فقال: "فذكره. قوله: "عن عطاء" في رواية ابن حبان: "حدثنا عطاء". قوله: "زرت عائشة مع عبيد بن عمير الليثي" تقدم في أبواب الطواف من الحج أنها كانت حينئذ مجاورة في جبل ثبير. قوله: "فسألها عن الهجرة" أي التي كانت قبل الفتح واجبة إلى المدينة ثم نسخت بقوله: "لا هجرة بعد الفتح" وأصل الهجرة هجر الوطن، وأكثر ما يطلق على من رحل من البادية إلى القرية، ووقع عند الأموي في المغازي من وجه آخر عن عطاء" فقالت إنما كانت الهجرة قبل فتح مكة والنبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة". قوله: "لا هجرة اليوم" أي بعد الفتح. قوله: "كان المؤمنون يفر أحدهم بدينه إلخ" أشارت عائشة إلى بيان مشروعية الهجرة وأن سببها خوف الفتنة، والحكم يدور مع علته، فمقتضاه أن من قدر على عبادة الله في أي موضع اتفق لم تجب عليه الهجرة منه وإلا وجبت، ومن ثم قال الماوردي: إذا قدر على إظهار الدين في بلد من بلاد الكفر فقد صارت البلد به دار إسلام، فالإقامة فيها أفضل من الرحلة منها لما يترجى من دخول غيره في الإسلام، وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك في أوائل الجهاد في" باب وجوب النفير" في الجمع بين حديث ابن عباس"لا هجرة بعد الفتح" وحديث عبد الله بن السعدي "لا تنقطع الهجرة" وقال الخطابي: كانت الهجرة أي إلى النبي صلى الله عليه وسلم في أول الإسلام مطلوبة، ثم افترضت لما هاجر إلى المدينة إلى حضرته للقتال معه وتعلم شرائع الدين، وقد أكد الله ذلك في عدة آيات حتى قطع الموالاة بين من هاجر ومن لم يهاجر فقال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} فلما فتحت مكة ودخل الناس في الإسلام من جميع القبائل سقطت الهجرة الواجبة وبقي الاستحباب. وقال البغوي في "شرح السنة": يحتمل الجمع بينهما بطريق أخرى. بقوله: "لا هجرة بعد الفتح" أي من مكة إلى المدينة، وقوله: "لا تنقطع" أي من دار الكفر في حق من أسلم إلى دار الإسلام، قال: ويحتمل وجها آخر وهو أن قوله لا هجرة أي إلى النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان بنية عدم الرجوع إلى الوطن المهاجر منه إلا بإذن، وقوله: "لا تنقطع" أي هجرة من هاجر على غير هذا الوصف من الأعراب ونحوهم. قلت: الذي يظهر أن المراد بالشق الأول وهو المنفي ما ذكره في الاحتمال الأخير، وبالشق الآخر المثبت ما ذكره في الاحتمال الذي قبله، وقد أفصح ابن عمر بالمراد فيما أخرجه

(7/229)


الإسماعيلي بلفظ: "انقطعت الهجرة بعد الفتح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تنقطع الهجرة ما قوتل الكفار" أي ما دام في الدنيا دار كفر، فالهجرة واجبة منها على من أسلم وخشي أن يفتن عن دينه، ومفهومه أنه لو قدر أن يبقى في الدنيا دار كفر أن الهجرة تنقطع لانقطاع موجبها والله أعلم. وأطلق ابن التين أن الهجرة من مكة إلى المدينة كانت واجبة وأن من أقام بمكة بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بغير عذر كان كافرا، وهو إطلاق مردود، والله أعلم. قوله: "عن هشام" هو ابن عروة. قوله: "أن سعدا" هو ابن معاذ، وسيأتي شرح هذا في غزوة بني قريظة، وأورده هنا مختصرا لما يتعلق بقريش الذين أحوجوا النبي صلى الله عليه وسلم إلى الخروج عن وطنه. قوله: "وقال أبان بن يزيد هو العطار إلخ" يعني أن أبان وافق ابن نمير في روايته عن هشام لهذا الحديث وأفصح بتعيين القوم الذين أبهموا وأنهم قريش، وزعم الداودي أن المراد بالقوم قريظة، ثم قال في الرواية المعلقة: هذا ليس بمحفوظ، وهو إقدام منه على رد الروايات الثابتة بالظن الخائب، وذلك أن في رواية ابن نمير أيضا ما يدل على أن المراد بالقوم قريش، وإنما تفرد أبان بذكر قريش في الموضع الأول، وإلا فسيأتي في المغازي في بقية هذا الحديث من كلام سعد وقال: "اللهم فإن كان بقي من حرب قريش شيء فأبقني له" الحديث، وأيضا ففي الموضع الذي اقتصر الداودي، على النظر فيه ما يدل على أن المراد قريش، لأن فيه: "من قوم كذبوا رسولك وأخرجوه" فإن هذه القصة مختصة بقريش لأنهم الذين أخرجوه، وأما قريظة فلا. قوله: "حدثنا هشام" هو ابن حسان. قوله: "فمكث بمكة ثلاث عشرة" هذا أصح مما أخرجه أحمد عن يحيى بن سعيد عن هشام بن حسان بهذا الإسناد قال: "أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث وأربعين، فمكث بمكة عشرا" وأصح مما أخرجه مسلم من وجه آخر عن ابن عباس" أن إقامة النبي صلى الله عليه وسلم بمكة كانت خمس عشرة سنة" وقد تقدم بيان ذلك في كتاب المبعث، وسيأتي بقية الكلام عليه في الوفاة إن شاء الله تعالى. وقوله هنا: "فهاجر عشر سنين" أي أقام مهاجرا عشر سنين، وهو كقوله تعالى: {فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ} . حديث أبي سعيد، تقدم شرحه في" مناقب أبي بكر" مستوفى، وقوله فيه: "فقال الناس انظروا إلى هذا الشيخ" في حديث ابن عباس عند البلاذري في نحو هذه القصة" فقال له أبو سعيد الخدري. يا أبا بكر ما يبكيك" فذكر الحديث.
3905- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ فَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ "لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَيَّ قَطُّ إِلاَّ وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ وَلَمْ يَمُرَّ عَلَيْنَا يَوْمٌ إِلاَّ يَأْتِينَا فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَرَفَيْ النَّهَارِ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً فَلَمَّا ابْتُلِيَ الْمُسْلِمُونَ خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ مُهَاجِرًا نَحْوَ أَرْضِ الْحَبَشَةِ حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَرْكَ الْغِمَادِ لَقِيَهُ ابْنُ الدَّغِنَةِ وَهُوَ سَيِّدُ الْقَارَةِ فَقَالَ أَيْنَ تُرِيدُ يَا أَبَا بَكْرٍ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ أَخْرَجَنِي قَوْمِي فَأُرِيدُ أَنْ أَسِيحَ فِي الأَرْضِ وَأَعْبُدَ رَبِّي قَالَ ابْنُ الدَّغِنَةِ فَإِنَّ مِثْلَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ لاَ يَخْرُجُ وَلاَ يُخْرَجُ إِنَّكَ تَكْسِبُ الْمَعْدُومَ وَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتَحْمِلُ الْكَلَّ وَتَقْرِي الضَّيْفَ وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ فَأَنَا لَكَ جَارٌ ارْجِعْ وَاعْبُدْ رَبَّكَ بِبَلَدِكَ فَرَجَعَ وَارْتَحَلَ مَعَهُ ابْنُ الدَّغِنَةِ فَطَافَ ابْنُ الدَّغِنَةِ عَشِيَّةً فِي أَشْرَافِ قُرَيْشٍ

(7/230)


فَقَالَ لَهُمْ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ لاَ يَخْرُجُ مِثْلُهُ وَلاَ يُخْرَجُ أَتُخْرِجُونَ رَجُلًا يَكْسِبُ الْمَعْدُومَ وَيَصِلُ الرَّحِمَ وَيَحْمِلُ الْكَلَّ وَيَقْرِي الضَّيْفَ وَيُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ فَلَمْ تُكَذِّبْ قُرَيْشٌ بِجِوَارِ ابْنِ الدَّغِنَةِ وَقَالُوا لِابْنِ الدَّغِنَةِ مُرْ أَبَا بَكْرٍ فَلْيَعْبُدْ رَبَّهُ فِي دَارِهِ فَلْيُصَلِّ فِيهَا وَلْيَقْرَأْ مَا شَاءَ وَلاَ يُؤْذِينَا بِذَلِكَ وَلاَ يَسْتَعْلِنْ بِهِ فَإِنَّا نَخْشَى أَنْ يَفْتِنَ نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا فَقَالَ ذَلِكَ ابْنُ الدَّغِنَةِ لِأَبِي بَكْرٍ فَلَبِثَ أَبُو بَكْرٍ بِذَلِكَ يَعْبُدُ رَبَّهُ فِي دَارِهِ وَلاَ يَسْتَعْلِنُ بِصَلاَتِهِ وَلاَ يَقْرَأُ فِي غَيْرِ دَارِهِ ثُمَّ بَدَا لِأَبِي بَكْرٍ فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ وَكَانَ يُصَلِّي فِيهِ وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ فَيَنْقَذِفُ عَلَيْهِ نِسَاءُ الْمُشْرِكِينَ وَأَبْنَاؤُهُمْ وَهُمْ يَعْجَبُونَ مِنْهُ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَجُلًا بَكَّاءً لاَ يَمْلِكُ عَيْنَيْهِ إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ وَأَفْزَعَ ذَلِكَ أَشْرَافَ قُرَيْشٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَأَرْسَلُوا إِلَى ابْنِ الدَّغِنَةِ فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ فَقَالُوا إِنَّا كُنَّا أَجَرْنَا أَبَا بَكْرٍ بِجِوَارِكَ عَلَى أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ فِي دَارِهِ فَقَدْ جَاوَزَ ذَلِكَ فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ فَأَعْلَنَ بِالصَّلاَةِ وَالْقِرَاءَةِ فِيهِ وَإِنَّا قَدْ خَشِينَا أَنْ يَفْتِنَ نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا فَانْهَهُ فَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ فِي دَارِهِ فَعَلَ وَإِنْ أَبَى إِلاَّ أَنْ يُعْلِنَ بِذَلِكَ فَسَلْهُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْكَ ذِمَّتَكَ فَإِنَّا قَدْ كَرِهْنَا أَنْ نُخْفِرَكَ وَلَسْنَا مُقِرِّينَ لِأَبِي بَكْرٍ الِاسْتِعْلاَنَ قَالَتْ عَائِشَةُ فَأَتَى ابْنُ الدَّغِنَةِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ قَدْ عَلِمْتَ الَّذِي عَاقَدْتُ لَكَ عَلَيْهِ فَإِمَّا أَنْ تَقْتَصِرَ عَلَى ذَلِكَ وَإِمَّا أَنْ تَرْجِعَ إِلَيَّ ذِمَّتِي فَإِنِّي لاَ أُحِبُّ أَنْ تَسْمَعَ الْعَرَبُ أَنِّي أُخْفِرْتُ فِي رَجُلٍ عَقَدْتُ لَهُ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ فَإِنِّي أَرُدُّ إِلَيْكَ جِوَارَكَ وَأَرْضَى بِجِوَارِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ بِمَكَّةَ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لِلْمُسْلِمِينَ إِنِّي أُرِيتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ ذَاتَ نَخْلٍ بَيْنَ لاَبَتَيْنِ وَهُمَا الْحَرَّتَانِ فَهَاجَرَ مَنْ هَاجَرَ قِبَلَ الْمَدِينَةِ وَرَجَعَ عَامَّةُ مَنْ كَانَ هَاجَرَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ وَتَجَهَّزَ أَبُو بَكْرٍ قِبَلَ الْمَدِينَةِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رِسْلِكَ فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ يُؤْذَنَ لِي فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَهَلْ تَرْجُو ذَلِكَ بِأَبِي أَنْتَ قَالَ نَعَمْ فَحَبَسَ أَبُو بَكْرٍ نَفْسَهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَصْحَبَهُ وَعَلَفَ رَاحِلَتَيْنِ كَانَتَا عِنْدَهُ وَرَقَ السَّمُرِ وَهُوَ الْخَبَطُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ قَالَ عُرْوَةُ قَالَتْ عَائِشَةُ فَبَيْنَمَا نَحْنُ يَوْمًا جُلُوسٌ فِي بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ قَالَ قَائِلٌ لِأَبِي بَكْرٍ هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَقَنِّعًا فِي سَاعَةٍ لَمْ يَكُنْ يَأْتِينَا فِيهَا فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ فِدَاءٌ لَهُ أَبِي وَأُمِّي وَاللَّهِ مَا جَاءَ بِهِ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ إِلاَّ أَمْرٌ قَالَتْ فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَأْذَنَ فَأُذِنَ لَهُ فَدَخَلَ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لِأَبِي بَكْرٍ أَخْرِجْ مَنْ عِنْدَكَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ إِنَّمَا هُمْ أَهْلُكَ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ فَ إِنِّي قَدْ أُذِنَ لِي فِي الْخُرُوجِ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصَّحَابَةُ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نَعَمْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ فَخُذْ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِحْدَى رَاحِلَتَيَّ هَاتَيْنِ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بِالثَّمَنِ قَالَتْ عَائِشَةُ فَجَهَّزْنَاهُمَا

(7/231)


أَحَثَّ الْجِهَازِ وَصَنَعْنَا لَهُمَا سُفْرَةً فِي جِرَابٍ فَقَطَعَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ قِطْعَةً مِنْ نِطَاقِهَا فَرَبَطَتْ بِهِ عَلَى فَمِ الْجِرَابِ فَبِذَلِكَ سُمِّيَتْ ذَاتَ النِّطَاقَيْنِ قَالَتْ ثُمَّ لَحِقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ بِغَارٍ فِي جَبَلِ ثَوْرٍ فَكَمَنَا فِيهِ ثَلاَثَ لَيَالٍ يَبِيتُ عِنْدَهُمَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ وَهُوَ غُلاَمٌ شَابٌّ ثَقِفٌ لَقِنٌ فَيُدْلِجُ مِنْ عِنْدِهِمَا بِسَحَرٍ فَيُصْبِحُ مَعَ قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ كَبَائِتٍ فَلاَ يَسْمَعُ أَمْرًا يُكْتَادَانِ بِهِ إِلاَّ وَعَاهُ حَتَّى يَأْتِيَهُمَا بِخَبَرِ ذَلِكَ حِينَ يَخْتَلِطُ الظَّلاَمُ وَيَرْعَى عَلَيْهِمَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ مِنْحَةً مِنْ غَنَمٍ فَيُرِيحُهَا عَلَيْهِمَا حِينَ تَذْهَبُ سَاعَةٌ مِنْ الْعِشَاءِ فَيَبِيتَانِ فِي رِسْلٍ وَهُوَ لَبَنُ مِنْحَتِهِمَا وَرَضِيفِهِمَا حَتَّى يَنْعِقَ بِهَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ بِغَلَسٍ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ تِلْكَ اللَّيَالِي الثَّلاَثِ وَاسْتَأْجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ رَجُلًا مِنْ بَنِي الدِّيلِ وَهُوَ مِنْ بَنِي عَبْدِ بْنِ عَدِيٍّ هَادِيَا خِرِّيتًا وَالْخِرِّيتُ الْمَاهِرُ بِالْهِدَايَةِ قَدْ غَمَسَ حِلْفًا فِي آلِ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ السَّهْمِيِّ وَهُوَ عَلَى دِينِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ فَأَمِنَاهُ فَدَفَعَا إِلَيْهِ رَاحِلَتَيْهِمَا وَوَاعَدَاهُ غَارَ ثَوْرٍ بَعْدَ ثَلاَثِ لَيَالٍ بِرَاحِلَتَيْهِمَا صُبْحَ ثَلاَثٍ وَانْطَلَقَ مَعَهُمَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ وَالدَّلِيلُ فَأَخَذَ بِهِمْ طَرِيقَ السَّوَاحِلِ"
الحديث الحادي عشر قوله: "لم أعقل أبوي" يعني أبا بكر وأم رومان.قوله: "يدينان الدين" بالنصب على نزع الخافض أي يدينان بدين الإسلام، أو هو مفعول به على التجوز. قوله: "فلما ابتلي المسلمون" أي بأذى المشركين لما حصروا بني هاشم والمطلب في شعب أبي طالب وأذن النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه في الهجرة إلى الحبشة كما تقدم بيانه. قوله: "خرج أبو بكر مهاجرا نحو أرض الحبشة" أي ليلحق بمن سبقه إليها من المسلمين، وقد قدمت أن الذين هاجروا إلى الحبشة أولا ساروا إلى جدة وهي ساحل مكة ليركبوا منها البحر إلى الحبشة. قوله: "برك الغماد" أما برك فهو بفتح الموحدة وسكون الراء بعدها كاف وحكي كسر أوله، وأما الغماد فهو بكسر المعجمة وقد تضم وبتخفيف الميم، وحكى ابن فارس فيها ضم الغين، موضع على خمس ليال من مكة إلى جهة اليمن. وقال البكري: هي أقاصي هجر، وحكى الهمداني في أنساب اليمن: هو في أقصى اليمنى، والأول أولى. وقال ابن خالويه حضرت مجلس المحاملي وفيه زهاء ألف، فأملى عليهم حديثا فيه: "فقالت الأنصار لو دعوتنا إلى برك الغماد" قالها بالكسر، فقلت للمستملي: هو بالضم، فذكر له ذاك، فقال لي: وما هو؟ قلت: سألت ابن دريد عنه فقال: هو بقعة في جهنم. فقال المحاملي: وكذا في كتابي على الغين ضمة.
قال ابن خالويه وأنشد ابن دريد:
وإذا تنكرت البلاد ... فأولها كنف البعاد
واجعل مقامك أو مقرك ... جانبي برك الغماد
لست ابن أم القاطنين ... ولا ابن عم للبلاد
قال ابن خالويه: وسألت أبا عمر - يعني غلام ثعلب - فقال: هو بالكسر والضم موضع باليمن، قال وموضع باليمن أوله بالكسر لكن آخره راء مهملة، وهو عند بئر برهوت الذي يقال إن أرواح الكفار تكون فيها ا هـ

(7/232)


واستبعد بعض المتأخرين ما ذكره ابن دريد فقال: القول بأنه موضع باليمن أنسب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يدعوهم إلى جهنم. وخفي عليهم أن هذا بطريق المبالغة فلا يراد به الحقيقة، ثم ظهر لي أن لا تنافي بين القولين، فيحمل قوله: جهنم على مجاز المجاورة بناء على القول بأن برهوت مأوى أرواح الكفار وهم أهل النار. قوله: "ابن الدغنة" بضم المهملة والمعجمة وتشديد النون عند أهل اللغة، وعند الرواة بفتح أوله وكسر ثانيه وتخفيف النون، قال الأصيلي وقرأه لنا المروزي بفتح الغين، وقيل: إن ذلك كان لاسترخاء في لسانه والصواب الكسر، وثبت بالتخفيف والتشديد من طريق، وهي أمه وقيل أم أبيه وقيل دابته، ومعنى الدغنة المسترخية وأصلها الغمامة الكثيرة المطر، واختلف في اسمه فعند البلاذري من طريق الواقدي عن معمر عن الزهري أنه الحارث بن يزيد، وحكى السهيلي أن اسمه مالك، ووقع في "شرح الكرماني" أن ابن إسحاق سماه ربيعة بن رفيع؛ وهو وهم من الكرماني فإن ربيعة المذكور آخر يقال له ابن الدغنة أيضا لكنه سلمي، والمذكور هنا من القارة فاختلفا، وأيضا السلمي إنما ذكره ابن إسحاق في غزوة حنين وأنه صحابي قتل دريد بن الصمة، ولم يذكره ابن إسحاق في قصة الهجرة. وفي الصحابة ثالث يقال له ابن الدغنة لكن اسمه حابس وهو كلبي، له قصة في سبب إسلامه وأنه رأى شخصا من الجن فقال له "يا حابس بن دغنة يا حابس" في أبيات، وهو مما يرجح رواية التخفيف في الدغنة. قوله: "وهو سيد القارة" بالقاف وتخفيف الراء، وهي قبيلة مشهورة من بني الهون، بالضم والتخفيف، ابن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر وكانوا حلفاء بني زهرة من قريش، وكانوا يضرب بهم المثل في قوة الرمي، قال الشاعر: قد أنصف القارة من راماها قوله: "أخرجني قومي"أي تسببوا في إخراجي. قوله: "فأريد أن أسيح" بالمهملتين، لعل أبا بكر طوى عن ابن الدغنة تعيين جهة مقصده لكونه كان كافرا، وإلا فقد تقدم أنه قصد التوجه إلى أرض الحبشة، ومن المعلوم أنه لا يصل إليها من الطريق التي قصدها حتى يسير في الأرض وحده زمانا فيصدق أنه سائح، لكن حقيقة السياحة أن لا يقصد موضعا بعينه يستقر فيه. قوله: "وتكسب المعدوم" في رواية الكشميهني: "المعدم" وقد تقدم شرح هذه الكلمات في حديث بدء الوحي أول الكتاب، وفي موافقة وصف ابن الدغنة لأبي بكر بمثل ما وصفت به خديجة النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على عظيم فضل أبي بكر واتصافه بالصفات البالغة في أنواع الكمال. قوله: "وأنا لك جار" أي مجير أمنع من يؤذيك. قوله: "فرجع" أي أبو بكر "وارتحل معه ابن الدغنة" وقع في الكفالة" وارتحل ابن الدغنة فرجع مع أبي بكر" والمراد في الروايتين مطلق المصاحبة، إلا فالتحقيق ما في هذا الباب. قوله: "لا يخرج مثله" أي من وطنه باختياره على نية الإقامة في غيره مع ما فيه من النفع المتعدي لأهل بلده "ولا يخرج" أي ولا يخرجه أحد بغير اختياره للمعنى المذكور، واستنبط بعض المالكية من هذا أن من كانت فيه منفعة متعدية لا يمكن من الانتقال عن البلد إلى غيره بغير ضرورة راجحة. قوله: "فلم تكذب قريش" أي لم ترد عليه قوله في أمان أبي بكر، وكل من كذبك فقد رد قولك، فأطلق التكذيب وأراد لازمه، وتقدم في الكفارة بلفظ: "فأنفذت قريش جوار ابن الدغنة وآمنت أبا بكر" وقد استشكل هذا مع ما ذكر ابن إسحاق في قصة خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف وسؤاله حين رجع الأخنس بن شريق أن يدخل في جواره فاعتذر بأنه حليف، وكان أيضا من حلفاء بني زهرة، ويمكن الجواب بأن ابن الدغنة رغب في إجارة أبي بكر، والأخنس لم يرغب فيما التمس منه فلم يثرب النبي صلى الله عليه وسلم عليه. قوله: "بجوار" بكسر الجيم وبضمها، وقد تقدم بيان المراد منه في كتاب الكفالة. قوله:

(7/233)


"مر أبا بكر فليعبد ربه" دخلت الفاء على شيء محذوف لا يخفى تقديره. قوله: "فلبث أبو بكر" تقدم في الكفالة بلفظ: "فطفق" أي جعل، ولم يقع لي بيان المدة التي أقام فيها أبو بكر على ذلك. قوله: "ثم بدا لأبي بكر" أي ظهر له رأي غير الرأي الأول. قوله: "بفناء داره" بكسر الفاء وتخفيف النون وبالمد أي أمامها. قوله: "فينقذف" بالمثناة والقاف والذال المعجمة الثقيلة، تقدم في الكفالة بلفظ: "فيتقصف" أي يزدحمون عليه حتى يسقط بعضهم على بعض فيكاد ينكسر، وأطلق يتقصف مبالغة، قال الخطابي: هو المحفوظ، وأما يتقذف فلا معنى له إلا أن يكون من القذف أي يتدافعون فيقذف بعضهم بعضا فيتساقطون عليه فيرجع إلى معنى الأول، وللكشميهني بنون وسكون القاف وكسر الصاد أي يسقط. قوله: "بكاء" بالتشديد أي كثير البكاء. قوله: "لا يملك عينيه" أي لا يطيق إمساكهما عن البكاء من رقة قلبه. وقوله: "إذا قرأ" إذا ظرفية والعامل فيه لا يملك، أو هي شرطية والجزاء مقدر. قوله: "فأفزع ذلك" أي أخاف الكفار لما يعلمونه من رقة قلوب النساء والشباب أن يميلوا إلى دين الإسلام. قوله: "فقدم عليهم" في رواية الكشميهني: "فقدم عليه" أي على أبي بكر. قوله: "أن يفتن نساءنا" بالنصب على المفعولية وفاعله أبو بكر، كذا لأبي ذر، وللباقين" أن يفتن" بضم أوله" نساؤنا" بالرفع على البناء للمجهول. قوله: "أجرنا" بالجيم والراء للأكثر، وللقابسي بالزاي أي أبحنا له، والأول أوجه، والألف مقصورة في الروايتين. قوله: "فاسأله" في رواية الكشميهني: "فسله". قوله: "ذمتك" أي أمانك له. قوله: "نخفرك" بضم أوله وبالخاء المعجمة وكسر الفاء أي نغدر بك، يقال خفره إذا حفظه، وأخفره إذا غدر به. قوله: "مقرين لأبي بكر الاستعلان" أي لا نسكت عن الإنكار عليه للمعنى الذي ذكروه من الخشية على نسائهم وأبنائهم أن يدخلوا في دينه.قوله: "وأرضى بجوار الله" أي أمانه وحمايته. وفيه جواز الأخذ بالأشد في الدين، وقوة يقين أبي بكر. قوله: "والنبي صلى الله عليه وسلم يومئذ بمكة" في هذا الفصل من فضائل الصديق أشياء كثيرة قد امتاز بها عمن سواه ظاهرة لمن تأملها. قوله: "بين لابتين وهما الحرتان" هذا مدرج في الخبر وهو من تفسير الزهري، والحرة أرض حجارتها سود، وهذه الرؤيا غير الرؤيا السابقة أول الباب من حديث أبي موسى التي تردد فيها النبي صلى الله عليه وسلم كما سبق، قال ابن التين: كأن النبي صلى الله عليه وسلم أري دار الهجرة بصفة تجمع المدينة وغيرها، ثم أري الصفة المختصة بالمدينة فتعينت. قوله: "ورجع عامة من كان هاجر بأرض الحبشة إلى المدينة" أي لما سمعوا باستيطان المسلمين المدينة رجعوا إلى مكة فهاجر إلى أرض المدينة معظمهم لا جميعهم، لأن جعفرا ومن معه تخلفوا في الحبشة، وهذا السبب في مجيء مهاجرة الحبشة غير السبب المذكور في مجيء من رجع منهم أيضا في الهجرة الأولى، لأن ذاك كان بسبب سجود المشركين مع النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين في سورة النجم فشاع أن المشركين أسلموا وسجدوا فرجع من رجع من الحبشة فوجدوهم أشد ما كانوا كما سيأتي شرحه وبيانه في تفسير سورة النجم. قوله: "وتجهز أبو بكر قبل المدينة" بكسر القاف وفتح الموحدة أي جهة، وتقدم في الكفالة بلفظ: "وخرج أبو بكر مهاجرا" وهو منصوب على الحال المقدرة، والمعنى أراد الخروج طالبا للهجرة. وفي رواية هشام بن عروة عن أبيه عند ابن حبان: "استأذن أبو بكر النبي صلى الله عليه وسلم في الخروج من مكة". قوله: "على رسلك" بكسر أوله أي على مهلك، والرسل السير الرفيق. وفي رواية ابن حبان: "فقال اصبر". قوله: "وهل ترجو ذلك بأبي أنت" لفظ: "أنت" مبتدأ وخبره "بأبي" أي مفدى بأبي، ويحتمل أن يكون أنت تأكيدا لفاعل ترجو وبأبي قسم. قوله: "فحبس نفسه" أي منعها من الهجرة. وفي رواية ابن حبان: "فانتظره أبو

(7/234)


بكر رضي الله عنه". قوله: "ورق السمر" بفتح المهملة وضم الميم. قوله: "وهو الخبط" مدرج أيضا في الخبر، وهو من تفسير الزهري، ويقال السمر شجرة أم غيلان، وقيل كل ماله ظل ثخين، وقيل: السمر ورق الطلح والخبط بفتح المعجمة والموحدة ما يخبط بالعصا فيسقط من ورق الشجر قاله ابن فارس. قوله: "أربعة أشهر" فيه بيان المدة التي كانت بين ابتداء هجرة الصحابة بين العقبة الأولى والثانية وبين هجرته صلى الله عليه وسلم وقد تقدم في أول الباب بين العقبة الثانية وبين هجرته صلى الله عليه وسلم شهرين وبعض شهر على التحرير. قوله: "قال ابن شهاب إلخ" هو بالإسناد المذكور أولا وقد أفرده ابن عائذ في المغازي من طريق الوليد بن محمد عن الزهري، ووقع في رواية هشام بن عروة عند ابن حبان مضموما إلى ما قبله، وعند موسى بن عقبة" وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخطئه يوم إلا أتى منزل أبي بكر أول النهار وآخره". قوله: "في نحر الظهيرة" أي أول الزوال وهو أشد ما يكون في حرارة النهار، والغالب في أيام الحر القيلولة فيها. وفي رواية ابن حبان: "فأتاه ذات يوم ظهرا" وفي حديث أسماء بنت أبي بكر عند الطبراني" كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتينا بمكة كل يوم مرتين بكرة وعشية، فلما كان يوم من ذلك جاءنا في الظهيرة، فقلت يا أبت هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله: "هذا رسول الله متقنعا" أي مغطيا رأسه. وفي رواية موسى بن عقبة عن ابن شهاب" قالت عائشة وليس عند أبي بكر إلا أنا وأسماء" قيل: فيه جواز لبس الطيلسان، وجزم ابن القيم بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يلبسه ولا أحد من أصحابه، وأجاب عن الحديث بأن التقنع يخالف التطيلس، قال: ولم يكن يفعل التقنع عادة بل للحاجة، وتعقب بأن في حديث أنس" أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر التقنع" أخرجه به، وفي طبقات ابن سعد مرسلا" ذكر الطيلسان لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هذا ثوب لا يؤدي شكره" قوله: "فداء له" بكسر الفاء وبالقصر. وفي رواية الكشميهني: "فداء" بالمد. قوله: "ما جاء به" في رواية يعقوب بن سفيان" إن جاء به" إن هي النافية بمعنى ما. وفي رواية موسى بن عقبة" فقال أبو بكر: يا رسول الله ما جاء بك إلا أمر حدث". قوله: "إنما هم أهلك" أشار بذلك إلى عائشة وأسماء كما فسره موسى بن عقبة، ففي روايته قال: "أخرج من عندك. قال: لا عين عليك، إنما هما ابنتاي" وكذلك في رواية هشام بن عروة. قوله: "فإني" في رواية الكشميهني: "فإنه". قوله: "الصحابة" بالنصب أي أريد المصاحبة، ويجوز الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف. قوله: "نعم" زاد ابن إسحاق في روايته: "قالت عائشة: فرأيت أبا بكر يبكي، وما كنت أحسب أن أحدا يبكي من الفرح" وفي رواية هشام" فقال: الصحبة يا رسول الله، قال: الصحبة" قوله: "إحدى راحلتي هاتين.قال: بالثمن" زاد ابن إسحاق" قال: لا أركب بعيرا ليس هو لي، قال: فهو لك، قال: لا ولكن بالثمن الذي ابتعتها به، قال: أخذتها بكذا وكذا، قال أخذتها بذلك، قال: هي لك" وفي حديث أسماء بنت أبي بكر عند الطبراني "فقال: بثمنها يا أبا بكر، فقال: بثمنها إن شئت" ونقل السهيلي في"الروض" عن بعض شيوخ المغرب أنه سئل عن امتناعه من أخذ الراحلة مع أن أبا بكر أنفق عليه ماله، فقال: أحب أن لا تكون هجرته إلا من مال نفسه. وأفاد الواقدي أن الثمن ثمانمائة وأن التي أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبي بكر هي القصواء، وأنها كانت من نعم بني قشير، وأنها عاشت بعد النبي صلى الله عليه وسلم قليلا وماتت في خلافة أبي بكر، وكانت مرسلة ترعى بالبقيع. وذكر ابن إسحاق أنها الجذعاء، وكانت من إبل بني الحريش، وكذا في رواية أخرجها ابن حبان من طريق هشام عن أبيه عن عائشة أنها الجذعاء. قوله: "أحث الجهاز" أحث بالمهملة والمثلثة أفعل تفضيل من الحث وهو الإسراع. وفي رواية لأبي ذر "أحب" بالموحدة،

(7/235)


والأول أصح. والجهاز بفتح الجيم وقد تكسر - ومنهم من أنكر الكسر - وهو ما يحتاج إليه في السفر. قوله: "وصنعنا لهما سفرة في جراب" أي زادا في جراب، لأن أصل السفرة في اللغة الزاد الذي يصنع للمسافر، ثم استعمل في وعاء الزاد، ومثله المزادة للماء، وكذلك الراوية. فاستعملت السفرة في هذا الخبر على أصل اللغة. وأفاد الواقدي أنه كان في السفرة شاة مطبوخة قوله: "ذات النطاق" يكسر النون، وللكشميهني النطاقين بالتثنية، والنطاق ما يشد به الوسط، وقيل: هو إزار فيه تكة، وقيل: هو ثوب تلبسه المرأة ثم تشد وسطها بحبل ثم ترسل الأعلى على الأسفل قاله أبو عبيدة الهروي، قال: وسميت ذات النطاقين لأنها كانت تجعل نطاقا على نطاق، وقيل: كان لها نطاقان تلبس أحدهما وتجعل في الأخر الزاد ا ه. والمحفوظ كما سيأتي بعد هذا الحديث أنها شقت نطاقها نصفين فشدت بأحدهما الزاد واقتصرت على الآخر، فمن ثم قيل لها ذات النطاق وذات النطاقين، فالتثنية والإفراد بهذين الاعتبارين. وعند ابن سعد من حديث الباب: "شقت نطاقها فأوكأت بقطعة منه الجراب وشدت فم القربة بالباقي فسميت ذات النطاقين". قوله: "قالت: ثم لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بغار في حبل ثور" بالمثلثة ذكر الواقدي أنهما خرجا من خوخة في ظهر بيت أبي بكر. وقال الحاكم تواترت الأخبار أن خروجه كان يوم الاثنين ودخوله المدينة كان يوم الاثنين، إلا أن محمد بن موسى الخوارزمي قال: إنه خرج من مكة يوم الخميس. قلت: يجمع بينهما بأن خروجه من مكة كان يوم الخميس وخروجه من الغار كان ليلة الاثنين، لأنه أقام فيه ثلاث ليال، فهي ليلة الجمعة وليلة السبت وليلة الأحد وخرج في أثناء ليلة الاثنين. ووقع في رواية هشام بن عروة عند ابن حبان: "فركبا حتى أتيا الغار وهو ثور، فتواريا فيه: "وذكر موسى بن عقبة عن ابن شهاب قال: "فرقد علي على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم يوري عنه، وباتت قريش تختلف وتأتمر أيهم يهجم على صاحب الفراش فيوثقه، حتى أصبحوا فإذا هم بعلي؛ فسألوه، فقال: لا علم لي فعلموا أنه فر منهم" وذكر ابن إسحاق نحوه وزاد: "أن جبريل أمره لا يبيت على فراشه، فدعا عليا فأمره أن يبيت على فراشه ويسجي ببرده الأخضر، ففعل. ثم خرج النبي صلى الله عليه وسلم على القوم ومعه حفنة من تراب، فجعل ينثرها على رءوسهم وهو يقرأ يس إلي: {فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} . وذكر أحمد من حديث ابن عباس بإسناد حسن في قوله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} الآية، قال: "تشاورت قريش ليلة بمكة، فقال بعضهم: إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق، يريدون النبي صلى الله عليه وسلم وقال بعضهم: بل اقتلوه. وقال بعضهم: بل أخرجوه. فأطلع الله نبيه على ذلك فبات علي على فراش النبي صلى الله عليه وسلم تلك الليلة، وخرج - النبي صلى الله عليه وسلم حتى لحق بالغار، وبات المشركون يحرسون عليا يحسبونه النبي صلى الله عليه وسلم، يعني ينتظرونه حتى يقوم فيفعلون به ما اتفقوا عليه، فلما أصبحوا ورأوا عليا رد الله مكرهم فقالوا: أين صاحبك هذا؟ قال: لا أدري، فاقتصوا أثره، فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم، فصعدوا الجبل فمروا بالغار فرأوا على بابه نسج العنكبوت فقالوا: لو دخل هاهنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه، فمكث فيه ثلاث ليال". وذكر نحو ذلك موسى بن عقبة عن الزهري قال: "مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد إلى بقية ذي الحجة والمحرم وصفر، ثم إن مشركي قريش اجتمعوا" فذكر الحديث وفيه: "وبات علي على فراش النبي صلى الله عليه وسلم يوري عنه، وباتت قريش يختلفون ويأتمرون أيهم يهجم على صاحب الفراش فيوثقه، فلما أصبحوا إذا هم بعلي" وقال في آخره: "فخرجوا في كل وجه يطلبونه" وفي مسند أبي بكر الصديق لأبي بكر بن علي المروزي شيخ النسائي من مرسل الحسن في قصة نسج العنكبوت نحوه، وذكر الواقدي أن قريشا بعثوا في أثرهما قائفين: أحدهما كرز بن علقمة، فرأى كرز بن

(7/236)


علقمة على الغار نسح العنكبوت فقال: هاهنا انقطع الأثر. ولم يسم الآخر وسماه أبو نعيم في "الدلائل" من حديث زيد بن أرقم وغيره سراقة بن جعشم. وقصة سراقة مذكورة في هذا الباب. وقد تقدم في "مناقب أبي بكر" حديث أنس عن أبي بكر. قوله: "فكمنا فيه" بفتح الميم ويجوز كسرها أي اختفيا. قوله: "ثلاث ليال" في رواية عروة بن الزبير "ليلتين" فلعله لم يحسب أول ليلة، وروى أحمد والحاكم من رواية طلحة النضري قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لبثت مع صاحي - يعني أبا بكر - في الغار بضعة عشر يوما ما لنا طعام إلا ثمر البرير" قال الحاكم: معناه مكثنا مختفين من المشركين في الغار وفي الطريق بضعة عشر يوما. قلت: لم يقع في رواية أحمد ذكر الغار، وهي زيادة في الخبر من بعض رواته، ولا يصح حمله على حالة الهجرة لما في الصحيح كما تراه من أن عامر بن فهيرة كان يروح عليهما في الغار باللبن، ولما وقع لهما في الطريق من لقي الراعي كما في حديث البراء في هذا الباب، ومن النزول بخيمة أم معبد وغير ذلك، فالذي يظهر أنها قصة أخرى، والله أعلم. وفي"دلائل النبوة للبيهقي" من مرسل محمد بن سيرين "أن أبا بكر ليلة انطلق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغار كان يمشي بين يديه ساعة ومن خلفه ساعة، فسأله فقال: أذكر الطلب فأمشي خلفك، وأذكر الرصد فأمشي أمامك.فقال: لو كان شيء أحببت أن تقتل دوني؟ قال: أي والذي بعثك بالحق، فلما انتهيا إلى الغار قال: مكانك يا رسول الله حتى أستبرئ لك الغار، فاستبرأه" وذكر أبو القاسم البغوي من مرسل ابن أبي مليكة نحوه. وذكر ابن هشام من زياداته عن الحسن البصري بلاغا نحوه. قوله: "عبد الله بن أبي بكر" وقع في نسخة "عبد الرحمن" وهو وهم. قوله: "ثقف" بفتح المثلثة وكسر القاف ويجوز إسكانها وفتحها وبعدها فاء: الحاذق، تقول ثقفت الشيء إذا أقمت عوجه. قوله: "لقن" بفتح اللام وكسر القاف بعدها نون اللقن: السريع الفهم. قوله: "فيدلج" بتشديد الدال بعدها جيم أي يخرج بسحر إلى مكة. قوله: "فيصبح مع قريش بمكة كبائت" أي مثل البائت، يظنه من لا يعرف حقيقة أمره لشدة رجوعه بغلس. قوله: "يكتادان به" في رواية الكشميهني: "يكادان به" بغير مثناة أي يطلب لهما فيه المكروه، وهو من الكيد. قوله: "عامر بن فهيرة" تقدم ذكره في "باب الشراء من المشركين" من كتاب البيوع، وذكر موسى بن عقبة عن ابن شهاب أن أبا بكر اشتراه من الطفيل بن سخبرة، فأسلم، فأعتقه. قوله: "منحة" بكسر الميم وسكون النون بعدها مهملة، تقدم بيانها في الهبة، وتطلق أيضا على كل شاة. وفي رواية موسى بن عقبة عن ابن شهاب أن الغنم كانت لأبي بكر، فكان يروح عليهما الغنم كل ليلة فيحلبان، ثم تسرح بكرة فيصبح في رعيان الناس فلا يفطن له. قوله: "في رسل" بكسر الراء بعدها مهملة ساكنة: اللبن الطري. قوله: "ورضيفهما" بفتح الراء وكسر المعجمة بوزن رغيف أي اللبن المرضوف أي التي وضعت فيه الحجارة المحماة بالشمس أو النار لينعقد وتزول رخاوته، وهو بالرفع ويجوز الجر. قوله: "حتى ينعق بها عامر" ينعق بكسر العين المهملة أي يصيح بغنمه، والنعيق صوت الراعي إذا زجر الغنم ووقع في رواية أبي ذر "حتى ينعق بهما" بالتثنية أي يسمعهما صوته إذا زجر غنمه، ووقع في حديث ابن عباس عند ابن عائذ في هذه القصة" ثم يسرح عامر بن فهيرة فيصبح في رعيان الناس كبائت فلا يفطن به" وفي رواية موسى بن عقبة عن ابن شهاب" وكان عامر أمينا مؤتمنا حسن الإسلام". قوله: "من بني الديل" بكسر الدال وسكون التحتانية، وقيل: بضم أوله وكسر ثانيه مهموز. قوله: "من بني عبد بن عدي" أي ابن الديل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، ويقال من بني عدي بن عمرو بن خزاعة، ووقع في سيرة ابن إسحاق تهذيب ابن هشام اسمه

(7/237)


عبد الله بن أرقد. وفي رواية الأموي عن ابن إسحاق ابن أريقد، كذا رواه الأموي في المغازي بإسناد مرسل في غير هذه القصة، قال: وهو دليل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة في الهجرة. وعند موسى بن عقبة أريقط بالتصغير أيضا لكن بالطاء وهو أشهر، وعند ابن سعد عبد الله بن أريقط، وعن مالك اسمه رقيط حكاه ابن التين وهو في "العتبية". قوله: "هاديا خريتا" بكسر المعجمة وتشديد الراء بعدها تحتانية ساكنة ثم مثناة. قوله: "والخريت الماهر بالهداية" هو مدرج في الخبر من كلام الزهري بينه ابن سعد، ولم يقع ذلك في رواية الأموي عن ابن إسحاق، قال ابن سعد وقال الأصمعي: إنما سمي خريتا لأنه يهدي بمثل خرت الإبرة أي ثقبها. وقال غيره قيل له ذلك لأنه يهتدي لأخرات المفازة وهي طرقها الخفية. قوله: "قد غمس" بفتح الغين المعجمة والميم بعدها مهملة "حلفا" بكسر المهملة وسكون اللام أي كان حليفا، وكانوا إذا تحالفوا غمسوا أيمانهم في دم أو خلوق أو في شيء يكون فيه تلويث فيكون ذلك تأكيدا للحلف. قوله: "فأمناه" بكسر الميم. قوله: "فأتاهما1 براحلتيهما صبح ثلاث" زاد مسلم بن عقبة عن ابن شهاب" حتى إذا هدأت عنهما الأصوات جاء صاحبهما ببعيرهما فانطلقا معهما بعامر بن فهيرة يخدمهما ويعينهما يردفه أبو بكر ويعقبه ليس معهما غيره. قوله: "فأخذ بهم طريق الساحل" في رواية موسى بن عقبة "فأجاز بهما أسفل مكة ثم مضى بهما حتى جاء بهما الساحل أسفل من عسفان، ثم أجاز بهما حتى عارض الطريق" وعند الحاكم من طريق ابن إسحاق" حدثني محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة عن عائشة" نحوه وأتم منه وإسناده صحيح. وأخرج الزبير بن بكار في "أخبار المدينة" مفسرا منزلة منزلة إلى قباء، وكذلك ابن عائذ من حديث ابن عباس، وقد تقدم في "علامات النبوة" وفي "مناقب أبي بكر" ما اتفق لهما حين خرجا من الغار من لقيهما راعي الغنم وشربهما من اللبن.
3906- قَالَ ابْنُ شِهَابٍ وَأَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَالِكٍ الْمُدْلِجِيُّ وَهُوَ ابْنُ أَخِي سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ سُرَاقَةَ بْنَ جُعْشُمٍ يَقُولُ "جَاءَنَا رُسُلُ كُفَّارِ قُرَيْشٍ يَجْعَلُونَ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ دِيَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَنْ قَتَلَهُ أَوْ أَسَرَهُ فَبَيْنَمَا أَنَا جَالِسٌ فِي مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ قَوْمِي بَنِي مُدْلِجٍ أَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْهُمْ حَتَّى قَامَ عَلَيْنَا وَنَحْنُ جُلُوسٌ فَقَالَ يَا سُرَاقَةُ إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ آنِفًا أَسْوِدَةً بِالسَّاحِلِ أُرَاهَا مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ قَالَ سُرَاقَةُ فَعَرَفْتُ أَنَّهُمْ هُمْ فَقُلْتُ لَهُ إِنَّهُمْ لَيْسُوا بِهِمْ وَلَكِنَّكَ رَأَيْتَ فُلاَنًا وَفُلاَنًا انْطَلَقُوا بِأَعْيُنِنَا ثُمَّ لَبِثْتُ فِي الْمَجْلِسِ سَاعَةً ثُمَّ قُمْتُ فَدَخَلْتُ فَأَمَرْتُ جَارِيَتِي أَنْ تَخْرُجَ بِفَرَسِي وَهِيَ مِنْ وَرَاءِ أَكَمَةٍ فَتَحْبِسَهَا عَلَيَّ وَأَخَذْتُ رُمْحِي فَخَرَجْتُ بِهِ مِنْ ظَهْرِ الْبَيْتِ فَحَطَطْتُ بِزُجِّهِ الأَرْضَ وَخَفَضْتُ عَالِيَهُ حَتَّى أَتَيْتُ فَرَسِي فَرَكِبْتُهَا فَرَفَعْتُهَا تُقَرِّبُ بِي حَتَّى دَنَوْتُ مِنْهُمْ فَعَثَرَتْ بِي فَرَسِي فَخَرَرْتُ عَنْهَا فَقُمْتُ فَأَهْوَيْتُ يَدِي إِلَى كِنَانَتِي فَاسْتَخْرَجْتُ مِنْهَا الأَزْلاَمَ فَاسْتَقْسَمْتُ بِهَا أَضُرُّهُمْ أَمْ لاَ فَخَرَجَ الَّذِي أَكْرَهُ فَرَكِبْتُ فَرَسِي
ـــــــ
1 لفظ "فآتاهما" ليس في نسخة المتن

(7/238)


وَعَصَيْتُ الأَزْلاَمَ تُقَرِّبُ بِي حَتَّى إِذَا سَمِعْتُ قِرَاءَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ لاَ يَلْتَفِتُ وَأَبُو بَكْرٍ يُكْثِرُ الِالْتِفَاتَ سَاخَتْ يَدَا فَرَسِي فِي الأَرْضِ حَتَّى بَلَغَتَا الرُّكْبَتَيْنِ فَخَرَرْتُ عَنْهَا ثُمَّ زَجَرْتُهَا فَنَهَضَتْ فَلَمْ تَكَدْ تُخْرِجُ يَدَيْهَا فَلَمَّا اسْتَوَتْ قَائِمَةً إِذَا لِأَثَرِ يَدَيْهَا عُثَانٌ سَاطِعٌ فِي السَّمَاءِ مِثْلُ الدُّخَانِ فَاسْتَقْسَمْتُ بِالأَزْلاَمِ فَخَرَجَ الَّذِي أَكْرَهُ فَنَادَيْتُهُمْ بِالأَمَانِ فَوَقَفُوا فَرَكِبْتُ فَرَسِي حَتَّى جِئْتُهُمْ وَوَقَعَ فِي نَفْسِي حِينَ لَقِيتُ مَا لَقِيتُ مِنْ الْحَبْسِ عَنْهُمْ أَنْ سَيَظْهَرُ أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ لَهُ إِنَّ قَوْمَكَ قَدْ جَعَلُوا فِيكَ الدِّيَةَ وَأَخْبَرْتُهُمْ أَخْبَارَ مَا يُرِيدُ النَّاسُ بِهِمْ وَعَرَضْتُ عَلَيْهِمْ الزَّادَ وَالْمَتَاعَ فَلَمْ يَرْزَآنِي وَلَمْ يَسْأَلاَنِي إِلاَّ أَنْ قَالَ أَخْفِ عَنَّا فَسَأَلْتُهُ أَنْ يَكْتُبَ لِي كِتَابَ أَمْنٍ فَأَمَرَ عَامِرَ بْنَ فُهَيْرَةَ فَكَتَبَ فِي رُقْعَةٍ مِنْ أَدِيمٍ ثُمَّ مَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ فَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقِيَ الزُّبَيْرَ فِي رَكْبٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا تِجَارًا قَافِلِينَ مِنْ الشَّأْمِ فَكَسَا الزُّبَيْرُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ ثِيَابَ بَيَاضٍ وَسَمِعَ الْمُسْلِمُونَ بِالْمَدِينَةِ مَخْرَجَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ فَكَانُوا يَغْدُونَ كُلَّ غَدَاةٍ إِلَى الْحَرَّةِ فَيَنْتَظِرُونَهُ حَتَّى يَرُدَّهُمْ حَرُّ الظَّهِيرَةِ فَانْقَلَبُوا يَوْمًا بَعْدَ مَا أَطَالُوا انْتِظَارَهُمْ فَلَمَّا أَوَوْا إِلَى بُيُوتِهِمْ أَوْفَى رَجُلٌ مِنْ يَهُودَ عَلَى أُطُمٍ مِنْ آطَامِهِمْ لِأَمْرٍ يَنْظُرُ إِلَيْهِ فَبَصُرَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ مُبَيَّضِينَ يَزُولُ بِهِمْ السَّرَابُ فَلَمْ يَمْلِكْ الْيَهُودِيُّ أَنْ قَالَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ يَا مَعَاشِرَ الْعَرَبِ هَذَا جَدُّكُمْ الَّذِي تَنْتَظِرُونَ فَثَارَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى السِّلاَحِ فَتَلَقَّوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِظَهْرِ الْحَرَّةِ فَعَدَلَ بِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ حَتَّى نَزَلَ بِهِمْ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ وَذَلِكَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ لِلنَّاسِ وَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَامِتًا فَطَفِقَ مَنْ جَاءَ مِنْ الأَنْصَارِ مِمَّنْ لَمْ يَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَيِّي أَبَا بَكْرٍ حَتَّى أَصَابَتْ الشَّمْسُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى ظَلَّلَ عَلَيْهِ بِرِدَائِهِ فَعَرَفَ النَّاسُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ ذَلِكَ فَلَبِثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً وَأُسِّسَ الْمَسْجِدُ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى وَصَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ فَسَارَ يَمْشِي مَعَهُ النَّاسُ حَتَّى بَرَكَتْ عِنْدَ مَسْجِدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ وَهُوَ يُصَلِّي فِيهِ يَوْمَئِذٍ رِجَالٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَكَانَ مِرْبَدًا لِلتَّمْرِ لِسُهَيْلٍ وَسَهْلٍ غُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي حَجْرِ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حِينَ بَرَكَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ الْمَنْزِلُ ثُمَّ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْغُلاَمَيْنِ فَسَاوَمَهُمَا بِالْمِرْبَدِ لِيَتَّخِذَهُ مَسْجِدًا فَقَالاَ لاَ بَلْ نَهَبُهُ لَكَ يَا رَسُولَ

(7/239)


اللَّهِ فَأَبَى رَسُولُ اللَّهِ أَنْ يَقْبَلَهُ مِنْهُمَا هِبَةً حَتَّى ابْتَاعَهُ مِنْهُمَا ثُمَّ بَنَاهُ مَسْجِدًا وَطَفِقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْقُلُ مَعَهُمْ اللَّبِنَ فِي بُنْيَانِهِ وَيَقُولُ وَهُوَ يَنْقُلُ اللَّبِنَ:-
هَذَا الْحِمَالُ لاَ حِمَالَ خَيْبَرْ ... هَذَا أَبَرُّ رَبَّنَا وَأَطْهَرْ
وَيَقُولُ:
اللَّهُمَّ إِنَّ الأَجْرَ أَجْرُ الْآخِرَهْ ... فَارْحَمْ الأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَهْ
فَتَمَثَّلَ بِشِعْرِ رَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يُسَمَّ لِي
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ وَلَمْ يَبْلُغْنَا فِي الأَحَادِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَمَثَّلَ بِبَيْتِ شِعْرٍ تَامٍّ غَيْرَ هَذَه الْأبَيْاتِ.
3907- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ وَفَاطِمَةَ عَنْ أَسْمَاءَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا "صَنَعْتُ سُفْرَةً لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ حِينَ أَرَادَا الْمَدِينَةَ فَقُلْتُ لِأَبِي مَا أَجِدُ شَيْئًا أَرْبِطُهُ إِلاَّ نِطَاقِي قَالَ فَشُقِّيهِ فَفَعَلْتُ فَسُمِّيتُ ذَاتَ النِّطَاقَيْنِ" قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ "أَسْمَاءُ ذَاتَ النِّطَاقِ".
3908حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ سَمِعْتُ الْبَرَاءَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَالَ "لَمَّا أَقْبَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ تَبِعَهُ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ فَدَعَا عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَاخَتْ بِهِ فَرَسُهُ قَالَ ادْعُ اللَّهَ لِي وَلاَ أَضُرُّكَ فَدَعَا لَهُ قَالَ فَعَطِشَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَرَّ بِرَاعٍ قَالَ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذْتُ قَدَحًا فَحَلَبْتُ فِيهِ كُثْبَةً مِنْ لَبَنٍ فَأَتَيْتُهُ فَشَرِبَ حَتَّى رَضِيتُ".
الحديث الثاني عشر حديث سراقة بن جعشم. قوله: "قال ابن شهاب" هو موصول بإسناد حديث عائشة، وقد أفرده البيهقي في "الدلائل" وقبله الحاكم في "الإكليل" من طريق ابن إسحاق حدثني محمد بن مسلم هو الزهري به وكذلك أورده الإسماعيلي منفردا من طريق معمر والمعافي في الجليس من طريق صالح بن كيسان كلاهما عن الزهري. قوله: "المدلجي" بضم الميم وسكون المهملة وكسر اللام ثم جيم من بني مدلج بن مرة بن عبد مناة بن كنانة. وعبد الرحمن بن مالك هذا اسم جده مالك بن جعشم، ونسب أبوه في هذه الرواية إلى جده كما سنبينه في سراقة، وأبوه مالك بن جعشم له إدراك، ولم أر من ذكره في الصحابة بل ذكره ابن حبان في التابعين، وليس له ولا لأخيه سراقة ولا لابنه عبد الرحمن في البخاري غير هذا الحديث. قوله: "ابن أخي سراقة بن جعشم" في رواية أبي ذر "ابن أخي سراقة بن مالك بن جعشم" ثم قال: "إنه سمع سراقة بن جعشم" والأول هو المعتمد، وحيث جاء في الروايات سراقة بن جعشم يكون نسب إلى جده، وسيأتي في حديث البراء بعدها بقليل أنه سراقة بن مالك بن جعشم ولم يختلف عليه فيه، جعشم بضم الجيم والشين المعجمة بينهما عين مهملة هو ابن مالك بن عمرو وكنية سراقة أبو سفيان، وكان ينزل قديدا وعاش إلى خلافة عثمان. قوله: "دية كل واحد" أي مائة من الإبل، وصرح بذلك موسى بن عقبة وصالح بن كيسان في روايتهما عن الزهري، وفي حديث أسماء بنت أبي بكر عند الطبراني "وخرجت قريش حين فقدوهما

(7/240)


في بغائهما، وجعلوا في النبي صلى الله عليه وسلم مائة ناقة، وطافوا في جبال مكة حتى انتهوا إلى الجيل الذي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر: يا رسول الله إن هذا الرجل ليرانا. وكان مواجهه - فقال: كلا إن ملائكة تسترنا بأجنحتها ، جلس ذلك الرجل يبول مواجهة الغار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لو كان يرانا ما فعل هذا" . قوله: "رأيت آنفا" أي في هذه الساعة. قوله: "أسودة" أي أشخاصا، في رواية موسى بن عقبة وابن إسحاق "لقد رأيت ركبة ثلاثة إني لأظنه محمدا وأصحابه" ونحوه في رواية صالح بن كيسان. قوله: "رأيت فلانا وفلانا انطلقوا بأعيننا" أي في نظرنا معاينة يبتغون ضالة لهم، في رواية موسى بن عقبة وابن إسحاق "فأومأت إليه أن اسكت، وقلت: إنما هم بنو فلان يبتغون ضالة لهم، قال: لعل، وسكت" ونحوه في رواية معمر، وفي حديث أسماء "فقال سراقة: إنهما راكبان ممن بعثنا في طلب القوم". قوله: "فأمرت جاريتي" لم أقف على اسمها. وفي رواية موسى بن عقبة وصالح بن كيسان وأمرت بفرسي فقيد إلى بطن الوادي وزاد: ثم أخذت قداحي - بكسر القاف أي الأزلام - فاستقسمت بها، فخرج الذي أكره، لا تضر، وكنت أرجو أن أرده فأخذ المائة ناقة". قوله: "فخططت" بالمعجمة، وللكشميهني والأصيلي بالمهملة أي أمكنت أسفله وقوله: "بزجه" الزج بضم الزاي بعدها جيم الحديدة التي في أسفل الرمح. وفي رواية الكشميهني: "فخططت به" وزاد موسى بن عقبة وصالح بن كيسان وابن إسحاق "فأمرت بسلاحي فأخرج من ذنب حجرتي، ثم انطلقت فلبست لأمتي". قوله: "وخفضت" أي أمسكه بيده وجر زجه على الأرض فخطها به لئلا يظهر بريقه لمن بعد منه. لأنه كره أن يتبعه منهم أحد فيشركوه في الجعالة. ووقع في رواية الحسن عن سراقة عند ابن أبي شيبة: "وجعلت أجر الرمح مخافة أن يشركني أهل الماء فيها".قوله: "فرفعتها" أي أسرعت بها السير.قوله: "تقرب بي" التقريب السير دون العدو وفوق العادة، وقيل: أن ترفع الفرس يديها معا وتضعهما معا.قوله: "فأهويت يدي" أي بسطهما للأخذ، والكنانة الخريطة المستطيلة.قوله: "فاستخرجت منها الأزلام فاستقسمت بها أضرهم أم لا" والأزلام هي الأقداح وهي السهام التي لا ريش لها ولا نصل، وسيأتي شرحها وكيفيتها وصنيعهم بها في تفسير المائدة. قوله: "فخرج الذي أكره" أي لا تضرهم، وصرح به الإسماعيلي وموسى وابن إسحاق وزاد: "وكنت أرجو أن أرده فآخذ المائة ناقة" وفي حديث ابن عباس عند ابن عائذ: "وركب سراقة، فلما أبصر الآثار على غير الطريق وهو وجل أنكر الآثار فقال: والله ما هذه بآثار نعم الشام ولا تهامة، فتبعهم حتى أدركهم". قوله: "حتى إذا سمعت" في حديث البراء عن أبي بكر الآتي عقب هذا" فدعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم وفي رواية أبي خليفة في حديث البراء عند الإسماعيلي: "فقال: اللهم اكفناه بما شئت" وفي حديث. ابن عباس مثله، ونحوه في رواية الحسن عن سراقة، وفي حديث أنس وهو الثامن عشر من أحاديث الباب: "فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اللهم اصرعه فصرعه فرسه". قوله: "ساخت" بالخاء المعجمة أي غاصت، وفي حديث أسماء بنت أبي بكر "فوقعت لمنخريها". قوله: "حتى بلغتا الركبتين" في رواية البراء "فارتطمت به فرسه إلى بطنها" وفي رواية أبي خليفة "في الأرض إلى بطنها".قوله: "فخررت عنها" في رواية أبي خليفة" فوثبت عنها" زاد ابن إسحاق" فقلت ما هذا؟ ثم أخرجت قداحي" نحو الأول. قوله: "ثم زجرتها فنهضت فلم تكد" وفي حديث أنس1 "ثم قامت تحمحم" الحمحمة بمهملتين هو
ـــــــ
1 في نسخة "في حديث أسماء"

(7/241)


صوت الفرس. قوله: "عثان" بضم المهملة بعدها مثلثة خفيفة أي دخان، قال معمر: قلت لأبي عمرو بن العلاء ما العثان؟ قال: الدخان من غير نار. وفي رواية الكشميهني: غبار بمعجمة ثم موحلة ثم راء، والأول أشهر. وذكر أبو عبيد في غريبه قال: وإنما أراد بالعثان الغبار نفسه، شبه غبار قوائمها بالدخان. وفي رواية موسى بن عقبة والإسماعيلي: "واتبعها دخان مثل الغبار" وزاد: "فعلمت أنه منع مني". قوله: "فناديتهم بالأمان" وفي رواية أبي خليفة "قد علمت يا محمد أن هذا عملك، فادع الله أن ينجيني مما أنا فيه، والله لأعمين عليك من ورائي" أي الطلب. وفي رواية ابن إسحاق" فناديت القوم: أنا سراقة بن مالك بن جعشم، انظروني أكلمكم، فوالله لا آتيكم ولا يأتيكم مني شيء تكرهونه" وفي حديث ابن عباس مثله وزاد: "وأنا لكم نافع غير ضار، وإني لا أدري لعل الحي - يعني قومه - فزعوا لركوبي، وأنا راجع ورادهم عنكم". قوله: "ووقع في نفسي حين ما لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم" في رواية ابن إسحاق "أنه قد منع مني". قوله: "وأخبرتهم أخبار ما يريد الناس بهم" أي من الحرص على الظفر بهم، وبذل المال لمن يحصلهم. وفي حديث ابن عباس "وعاهدهم أن لا يقاتلهم ولا يخبر عنهم، وأن يكتم عنهم ثلاث ليال". قوله: "وعرضت عليهم الزاد والمتاع" في مرسل عمير بن إسحاق عند ابن أبي شيبة: "فكف ثم قال: هلما إلى الزاد والحملان، فقالا لا حاجة لنا في ذلك" وفي حديث ابن عباس أن سراقة قال لهم: "وان إبلي على طريقكم فاحتلبوا من اللبن وخذوا سهما من كنانتي أمارة إلى الراعي". قوله: "فلم يرزآني" براء ثم زاي، أي لم ينقصاني مما معي شيئا. وفي رواية أبي خليفة "وهذه كنانتي فخذ سهما منها، فإنك تمر على إبلي وغنمي بمكان كذا وكذا فخذ منها حاجتك، فقال لي: لا حاجة لنا في إبلك، ودعا له". قوله: "أخف عنا" لم يذكر جوابه، ووقع في رواية البراء "فدعا له فنجا، فجعل لا يلقي أحدا إلا قال له: قد كفيتم ما هاهنا، فلا يلقي أحدا إلا رده" قال: "ووفى لنا". وفي حديث أنس "فقال: يا نبي الله مرني بما شئت، قال: فقف مكانك لا تتركن أحدا يلحق بنا، قال فكان أول النهار جاهدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان آخر النهار مسلحة له" أي حارسا له بسلاحه. وذكر ابن سعد" أنه لما رجع قال لقريش: قد عرفتم بصري بالطريق وبالأثر، وقد استبرأت لكم فلم أر شيئا، فرجعوا". قوله: "كتاب أمن" بسكون الميم. وفي رواية الإسماعيلي: "كتاب موادعة" وفي رواية إسحاق "كتابا يكون آية بيني وبينك". قوله: "فأمر عامر بن فهيرة فكتب في رقعة من أدم" وفي رواية ابن إسحاق "فكتب لي كتابا في عظم - أو ورقة أو خرقة - ثم ألقاه إلي، فأخذته فجعلته في كنانتي ثم رجعت" وفي رواية موسى بن عقبة نحوه وعندهما "فرجعت فسئلت فلم أذكر شيئا مما كان، حتى إذا فرغ من حنين بعد فتح مكة خرجت لألقاه ومعي الكتاب، فلقيته بالجعرانة حتى دنوت منه فرفعت يدي بالكتاب فقلت: يا رسول الله هذا كتابك فقال: يوم وفاء وبر، أدن، فأسلمت" وفي رواية صالح بن كيسان نحوه. وفي رواية الحسن عن سراقة قال: "فبلغني أنه يريد أن يبعث خالد بن الوليد إلى قومي، فأتيته فقلت: أحب أن توادع قومي، فإن أسلم قومك أسلموا وإلا أمنت منهم، ففعل ذلك، قال: ففيهم نزلت: {إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} الآية" قال ابن إسحاق: قال أبو جهل لما بلغه ما لقي سراقة لامه في تركهم، فأنشده:
أبا حكم واللات لو كنت شاهدا ... لأمر جوادي إذ تسيخ قوائمه

(7/242)


عجبت ولم تشكك بأن محمدا ... نبي وبرهان فمن ذا يكاتمه
وذكر ابن سعد أن سراقة عارضهم يوم الثلاثاء بقديد. الحديث الثالث عشر: قوله: "قال ابن شهاب: فأخبرني عروة بن الزبير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقي الزبير في ركب" هو متصل إلى ابن شهاب بالإسناد المذكور أولا، وقد أفرده الحاكم من وجه آخر عن يحيي بن بكير بالإسناد المذكور، ولم يستخرجه الإسماعيلي أصلا وصورته مرسل، لكنه وصله الحاكم أيضا من طريق معمر عن الزهري قال: "أخبرني عروة أنه سمع الزبير" به، وأفاد أن قوله: "وسمع المسلمون إلخ" من بقية الحديث المذكور. وأخرجه موسى بن عقبة عن ابن شهاب به وأتم منه وزاد: "قال: ويقال لما دنا من المدينة كان طلحة قدم من الشام، فخرج عائدا إلى مكة إما متلقيا وإما معتمرا، ومعه ثياب أهداها لأبي بكر من ثياب الشام، فلما لقيه أعطاه فلبس منها هو وأبو بكر" انتهى. وهذا إن كان محفوظا احتمل أن يكون كل من طلحة والزبير أهدى لهما من الثياب. والذي في السير هو الثاني، ومال الدمياطي إلى ترجيحه على عادته في ترجيح ما في السير على ما في الصحيح، والأولى الجمع بينهما وإلا فما في الصحيح أصح، لأن الرواية التي فيها طلحة من طريق ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة، والتي في الصحيح من طريق عقيل عن الزهري عن عروة. ثم وجدت عند ابن أبي شيبة من طريق هشام بن عروة عن أبيه نحو رواية أبي الأسود، وعند ابن عائذ في المغازي من حديث ابن عباس" خرج عمر والزبير وطلحة وعثمان وعياش بن ربيعة نحو المدينة، فتوجه عثمان وطلحة إلى الشام" فتعين تصحيح القولين. قوله: "وسمع المسلمون بالمدينة" في رواية معمر "فلما سمع المسلمون" قوله: "يغدون" بسكون الغين المعجمة أي يخرجون غدوة. وفي رواية الحاكم من وجه آخر عن عروة عن عبد الرحمن بن عويم بن ساعدة عن رجال من قومه قال: "لما بلغنا مخرج النبي صلى الله عليه وسلم كنا نخرج فنجلس له بظاهر الحرة نلجأ إلى ظل المدر حتى تغلبنا عليه الشمس ثم نرجع إلى رحالنا". قوله: "حتى يردهم" في رواية معمر "يؤذيهم" وفي رواية ابن سعد" فإذا أحرقتهم رجعوا إلى منازلهم. ووقع في رواية أبي خليفة في حديث أبي البراء "حتى أتينا المدينة ليلا" قوله: "فانقلبوا يوما بعدما طال1 انتظارهم" في رواية عبد الرحمن بن عويم "حتى إذا كان اليوم الذي جاء فيه جلسنا كما كنا نجلس حتى إذا رجعنا جاء" قوله: "أوفى رجل من يهود" أي طلع إلى مكان عال فأشرف منه، ولم أقف على اسم هذا اليهودي. قوله: "أطم" بضم أوله وثانيه هو الحصن، ويقال كان بناء من حجارة كالقصر. قوله: "مبيضين" أي عليهم الثياب البيض التي كساهم إياها الزبير أو طلحة. وقال ابن التين: يحتمل أن يكون معناه مستعجلين، وحكى عن ابن فارس يقال بايض أي مستعجل. قوله: "يزول بهم السراب" أي يزول السراب عن النظر بسبب عروضهم له، وقيل: معناه ظهرت حركتهم للعين. قوله: "يا معاشر العرب" في رواية عبد الرحمن بن عويم "يا بني قيلة" وهو بفتح القاف وسكون التحتانية وهي الجدة الكبرى للأنصار والدة الأوس والخزرج، وهي قيلة بنت كاهل بن عذرة. قوله: "هذا جدكم" بفتح الجيم أي حظكم وصاحب دولتكم الذي تتوقعونه. وفي رواية معمر "هذا صاحبكم". قوله: "حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف" أي ابن مالك بن الأوس بن حارثة ومنازلهم بقباء، وهي على فرسخ من المسجد النبوي
ـــــــ
1 في نسخة المتن "بعدما أطالو".

(7/243)


بالمدينة، كان نزوله على كلثوم بن الهرم، وقيل: كان يومئذ مشركا، وجزم به محمد بن الحسن بن زبالة في "أخبار المدينة". قوله: "وذلك يوم الاثنين من شهر ربيع الأول" وهذا هو المعتمد وشذ من قال يوم الجمعة، في رواية موسى بن عقبة عن ابن شهاب "قدمها لهلال ربيع الأول" أي أول يوم منه. وفي رواية جرير بن حازم عن ابن إسحاق "قدمها لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول" ونحوه عند أبي معشر، لكن قال ليلة الاثنين، ومثله عن ابن البرقي، وثبت كذلك في أواخر صحيح مسلم. وفي رواية إبراهيم بن سعد عن ابن إسحاق "قدمها لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول" وعند أبي سعيد في "شرف المصطفى" من طريق أبي بكر بن حزم" قدم لثلاث عشرة من ربيع الأول" وهذا يجمع بينه وبين الذي قبله بالحمل على الاختلاف في رؤية الهلال، وعنده من حديث عمر" ثم نزل على بني عمرو بن عوف يوم الاثنين لليلتين بقيتا من ربيع الأول" كذا فيه ولعله كان فيه: "خلتا" ليوافق رواية جرير وابن حازم، وعند الزبير في خبر المدينة عن ابن شهاب" في نصف ربيع الأول "وقيل: كان قدومه في سابعه، وجزم ابن حزم بأنه خرج من مكة لثلاث ليال بقين من صفر، وهذا يوافق قول هشام بن الكلبي إنه خرج من الغار ليلة الاثنين أول يوم من ربيع الأول فإن كان محفوظا فلعل قدومه قباء كان يوم الاثنين ثامن ربيع الأول، وإذا ضم إلى قول أنس إنه أقام بقباء أربع عشرة ليلة خرج منه أن دخوله المدينة كان لاثنين وعشرين منه، لكن الكلبي جزم بأنه دخلها لاثنتي عشرة خلت منه فعلى قوله تكون إقامته بقباء أربع ليال فقط وبه جزم ابن حبان فإنه قال: "أقام بها الثلاثاء والأربعاء والخميس" يعني وخرج يوم الجمعة، فكأنه لم يعتد بيوم الخروج، وكذا قال موسى بن عقبة إنه أقام فيهم ثلاث ليال فكأنه لم يعتد بيوم الخروج، ولا الدخول، وعن قوم من بني عمرو بن عوف أنه أقام فيهم اثنين وعشرين يوما حكاه الزبير بن بكار، وفي مرسل عروة بن الزبير ما يقرب منه كما يذكر عقب هذا، والأكثر أنه قدم نهارا، ووقع في رواية مسلم ليلا، ويجمع بأن القدوم كان آخر الليل فدخل نهارا. قوله: "فقام أبو بكر للناس" أي يتلقاهم. قوله: "فطفق" أي جعل "من جاء من الأنصار ممن لم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم يحيى أبا بكر" أي يسلم عليه، قال ابن التين: إنما كانوا يفعلون ذلك بأبي بكر لكثرة تردده إليهم في التجارة إلى الشام فكانوا يعرفونه، وأما النبي صلى الله عليه وسلم فلم يأتها بعد أن كبر. قلت: ظاهر السياق يقتضي أن الذي يحيي ممن لا يعرف النبي صلى الله عليه وسلم يظنه فلذلك يبدأ بالسلام عليه، ويدل عليه قوله في بقية الحديث: "فأقبل أبو بكر يظلل عليه بردائه، فعرف الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ووقع بيان ذلك في رواية موسى بن عقبة عن ابن شهاب قال: "وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم صامتا، فطفق من جاء من الأنصار ممن لم يكن رآه يحسبه أبا بكر، حتى إذا أصابته الشمس أقبل أبو بكر بشيء أظله به" ولعبد الرحمن بن عويم في رواية ابن إسحاق "أناخ إلى الظل هو وأبو بكر، والله ما أدري أيهما هو، حتى رأينا أبا بكر ينحاز له عن الظل فعرفناه بذلك". قوله: "فلبث رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة" في حديث أنس الآتي في الباب الذي يليه أنه أقام فيهم أربع عشرة ليلة، وقد ذكرت قبله ما يخالفه، والله أعلم. قال موسى بن عقبة عن ابن شهاب "أقام فيهم ثلاثا" قال وروى ابن شهاب عن مجمع بن حارثة "أنه أقام اثنين وعشرين ليلة" وقال ابن إسحاق.أقام فيهم خمسا، وبنو عمرو بن عوف يزعمون أكثر من ذلك. قلت: ليس أنس من بني عمرو بن عوف، فإنهم من الأوس وأنس من الخزرج، وقد جزم بما ذكرته فهو أولى بالقبول من غيره. قوله: "وأسس المسجد الذي أسس

(7/244)


على التقوى" أي مسجد قباء. وفي رواية عبد الرزاق عن معمر عن ابن شهاب عن عروة قال: الذين بني فيهم المسجد الذي أسس على التقوى هم بنو عمرو بن عوف، وكذا في حديث ابن عباس عند ابن عائذ ولفظه: "ومكث في بني عمرو بن عوف ثلاث ليال واتخذ مكانه مسجدا فكان يصلي فيه، ثم بناه بنو عمرو بن عوف فهو الذي أسس على التقوى" وروى يونس بن بكير في "زيادات المغازي" عن المسعودي عن الحكم بن عتيبة قال: "لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم فنزل بقباء قال عمار بن ياسر: ما لرسول الله صلى الله عليه وسلم بد من أن يجعل له مكانا يستظل به إذا استيقظ ويصلي فيه، فجمع حجارة فبني مسجد قباء، فهو أول مسجد بني" يعني بالمدينة، وهو في التحقيق أول مسجد صلى النبي صلى الله عليه وسلم فيه بأصحابه جماعة ظاهرا، وأول مسجد بني لجماعة المسلمين عامة، وإن كان قد تقدم بناء غيره من المساجد لكن لخصوص الذي بناها كما تقدم في حديث عائشة في بناء أبي بكر مسجده. وروى ابن أبي شيبة عن جابر قال: "لقد لبثنا بالمدينة قبل أن يقدم علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنين نعمر المساجد ونقيم الصلاة" وقد اختلف في المراد بقوله تعالى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} فالجمهور على أن المراد به مسجد قباء هذا وهو ظاهر الآية، وروى مسلم من طريق عبد الرحمن بن أبي سعيد عن أبيه "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المسجد الذي أسس على التقوى فقال: هو مسجدكم هذا" ولأحمد والترمذي من وجه آخر عن أبي سعيد "اختلف رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى فقال أحدهما: هو مسجد النبي صلى الله عليه وسلم. وقال الآخر: هو مسجد قباء، فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألاه عن ذلك فقال: هو هذا، وفي ذلك - يعني مسجد قباء - خير كثير"، ولأحمد عن سهل بن سند نحوه، وأخرجه من وجه آخر عن سهل بن سعد عن أبي بن كعب مرفوعا. قال القرطبي: هذا السؤال صدر ممن ظهرت له المساواة بين المسجدين في اشتراكهما في أن كلا منهما بناه النبي صلى الله عليه وسلم، فلذلك سئل النبي صلى الله عليه وسلم عنه فأجاب بأن المراد مسجده، وكأن المزية التي اقتضت تعيينه دون مسجد قباء لكون مسجد قباء لم يكن بناؤه بأجر جزم من الله لنبيه، أو كان رأيا رآه بخلاف مسجده، أو كان حصل له أو لأصحابه فيه من الأحوال القلبية ما لم يحصل لغيره، انتهى. ويحتمل أن تكون المزية لما اتفق من طول إقامته صلى الله عليه وسلم بمسجد المدينة، بخلاف مسجد قباء فما أقام به إلا أياما قلائل، وكفى بهذا مزية من غير حاجة إلى ما تكلفه القرطبي، والحق أن كلا منهما أسس على التقوى، وقوله تعالى في بقية الآية {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} يؤيد كون المراد مسجد قباء، وعند أبي داود بإسناد صحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "نزلت: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} في أهل قباء" وعلى هذا فالسر في جوابه صلى الله عليه وسلم بأن المسجد الذي أسس على التقوى مسجده رفع توهم أن ذلك خاص بمسجد قباء، والله أعلم. قال الداودي وغيره: ليس هذا اختلافا، لأن كلا منهما أسس على التقوى وكذا قال السهيلي وزاد غيره أن قوله تعالى: {مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} يقتضي أنه مسجد قباء، لأن تأسيسه كان في أول يوم حل النبي صلى الله عليه وسلم بدار الهجرة، والله أعلم. قوله: "ثم ركب راحلته" وقع عند ابن إسحاق وابن عائذ أنه ركب من قباء يوم الجمعة فأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف فقالوا: يا رسول الله هلم إلى العدد والعدد والقوة، انزل بين أظهرنا. وعند أبي الأسود عن عروة نحوه وزاد: وصاروا يتنازعون زمام ناقته. وسمى ممن سأله النزول عندهم تبان بن مالك في بني سالم، وفروة بن عمرو في بنى بياضة، وسعد بن عبادة والمنذر بن عمرو وغيرهما في بني ساعدة، وأبا سليط وغيره، في بني عدي، يقول لكل منهم" دعوها فإنها مأمورة" وعند الحاكم من طريق إسحاق بن أبي طلحة عن أنس "جاءت الأنصار فقالوا إلينا يا رسول الله،

(7/245)


فقال: دعوا الناقة فإنها مأمورة، فبركت على باب أبي أيوب". قوله: "حتى بركت عند مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة" في حديث البراء عن أبي بكر"فتنازعه القوم أيهم ينزل عليه فقال: إني أنزل على أخوال عبد المطلب أكرمهم بذلك" وعند ابن عائذ عن الوليد بن مسلم وعند سعيد بن منصور كلاهما عن عطاف بن خالد"أنها استناخت به أولا فجاءه ناس فقالوا: المنزل يا رسول الله، فقال دعوها، فانبعثت حتى استناخت عند موضع المنبر من المسجد، ثم تحلحلت فنزل عنها فأتاه أبو أيوب فقال: إن منزلي أقرب المنازل فأذن لي أن أنقل رحلك، قال: نعم، فنقل وأناخ الناقة في منزله" وذكر ابن سعد أن أبا أيوب لما نقل رحل النبي صلى الله عليه وسلم إلى منزله قال النبي صلى الله عليه وسلم: "المرء مع رحله" وأن سعد بن زرارة جاء فأخذ ناقته فكانت عنده، قال وهذا أثبت، وذكر أيضا أن مدة إقامته عند أبي أيوب كانت سبعة أشهر. قوله: "وكان" أي موضع المسجد "مربدا" بكسر الميم وسكون الراء وفتح الموحدة: هو الموضع الذي يجفف فيه التمر. وقال الأصمعي: المربد كل شيء حبست فيه الإبل أو الغنم، وبه سمي مربد البصرة لأنه كان موضع سوق الإبل. قوله: "لسهيل وسهل" زاد ابن عيينة في جامعة عن أبي موسى عن الحسن "وكانا من الأنصار" وعند الزبير بن بكار في "أخبار المدينة" أنهما أتيا رافع بن عمرو، وعند ابن إسحاق أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل: "لمن هذا؟ فقال له معاذ بن عفراء: هو لسهيل وسهل ابني عمرو يتيمان لي وسأرضيهما منه". قوله: "في حجر سعد بن زرارة" كذا لأبي ذر وحده. وفي رواية الباقين "أسند" بزيادة ألف وهو الوجه، كان أسعد من السابقين إلى الإسلام من الأنصار، ويكني أبا أمامة، وأما أخوه سعد فتأخر إسلامه، ووقع في مرسل ابن سيرين عند أبي عبيد في "الغريب" أنهما كانا في حجر معاذ بن عفراء، وحكى الزبير أنهما كانا في حجر أبي أيوب، والأول أثبت، وقد يجمع باشتراكهما أو بانتقال ذلك بعد أسعد إلى من ذكر واحدا بعد واحد، وذكر ابن سعد أن أسعد بن زرارة كان يصلي فيه قبل أن يقدم النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: "فساومهما" في رواية ابن عيينة فكلم عمهما أي الذي كانا في حجره أن يبتاعه منهما فطلبه منهما فقالا ما تصنع به فلم يجد بدا من أن يصدقهما. ووقع لأبي ذر عن الكشميهني: "فأبى أن يقبله منهما". قوله: "حتى ابتاعه منهما" ذكر ابن سعد عن الواقدي عن معمر عن الزهري" أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أبا بكر أن يعطيهما ثمنه"، قال وقال غير معمر: أعطاهما عشرة دنانير، وتقدم في أبواب المساجد من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا بني النجار ثامنوني بحائطهم، قالوا لا والله لا نطلب ثمنه إلا إلى الله" ويأتي مثله في آخر الباب الذي يليه، ولا منافاة بينهما، فيجمع بأنهم لما قالوا لا نطلب ثمنه إلا إلى الله سأل عمن يختص بملكه منهم فعينوا له الغلامين فابتاعه منهما، فحينئذ يحتمل أن يكون الذين قالوا له لا نطلب ثمنه إلا إلى الله تحملوا عنه للغلامين بالثمن، وعند الزبير أن أبا أيوب أرضاهما عن ثمنه. قوله: "وطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي جعل "ينقل منهم اللبن" أي الطوب المعمول من الطين الذي لم يحرق. وفي رواية عطاف بن خالد عند ابن عائد أنه صلى الله عليه وسلم فيه وهو عريش اثني عشر يوما، ثم بناه وسقفه. وعند الزبير في خبر المدينة من حديث أنس أنه بناه أولا بالجريد ثم بناه باللبن بعد الهجرة بأربع سنين. قوله: "هذا الحمال" بالمهملة المكسورة وتخفيف الميم أي هذا المحمول من اللبن "أبر" عند الله، أي أبقى ذخرا وأكثر ثوابا وأدوم منفعة وأشد طهارة من حمال خيبر، أي التي يحمل منها التمر والزبيب ونحو ذلك. ووقع في بعض النسخ في رواية المستملي: "هذا الجمال" بفتح الجيم، وقوله: "ربنا" منادي مضاف: قوله: "اللهم إن الأجر أجر الآخرة، فارحم الأنصار والمهاجرة" كذا

(7/246)


في هذه الرواية، ويأتي في حديث أنس في الباب الذي بعده "اللهم لا خير إلا خير الآخرة، فانصر الأنصار والمهاجرة" وجاء في غزوة الخندق بتغيير آخر من حديث سهل بن سعد، ونقل الكرماني أنه صلى الله عليه وسلم كان يقف على الآخرة والمهاجرة بالتاء محركة فيخرجه عن الوزن ذكره في أوائل كتاب الصلاة ولم يذكر مستنده، والكلام الذي بعد هذا يرد عليه. قوله: "فتمثل بشعر رجل من المسلمين لم يسم لي" قال الكرماني، يحتمل أن يكون المراد الرجز المذكور، ويحتمل أن يكون شعرا آخر. قلت: الأول هو المعتمد، ومناسبة الشعر المذكور للحال المذكور واضحة، وفيها إشارة إلى أن الذي ورد في كراهية البناء مختص بما زاد على الحاجة، أو لم يكن في أمر ديني كبناء المسجد. قوله: "قال ابن شهاب: ولم يبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم تمثل ببيت شعر تام غير هذه الأبيات" زاد ابن عائذ في آخره: "التي كان يرتجز بهن وهو ينقل اللبن لبناء المسجد" قال ابن التين: أنكر على الزهري هذا من وجهين، أحدهما أنه رجز وليس بشعر، ولهذا يقال لقائله راجز، ويقال أنشد رجزا، ولا يقال له شاعر ولا أنشد شعرا. والوجه الثاني أن العلماء اختلفوا هل ينشد النبي صلى الله عليه وسلم شعرا أم لا. وعلى الجواز هل ينشد بيتا واحدا أو يزيد؟ وقد قيل: إن البيت الواحد ليس بشعر، وفيه نظر ا هـ. والجواب عن الأول أن الجمهور على أن الرجز من أقسام الشعر إذا كان موزونا، وقد قيل إنه كان صلى الله عليه وسلم إذا قال ذلك لا يطلق القافية بل يقولها متحركة التاء، ولا يثبت ذلك، وسيأتي من حديث سهل بن سعد في غزوة الخندق بلفظ: "فاغفر للمهاجرين والأنصار" وهذا ليس بموزون، وعن الثاني بأن الممتنع عنه صلى الله عليه وسلم إنشاؤه لا إنشاده، ولا دليل على منع إنشاده متمثلا. وقول الزهري"لم يبلغنا" لا اعتراض عليه فيه، ولو ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه أنشد غير ما نقله الزهري، لأنه نفى أن يكون بلغه، ولم يطلق النفي المذكور. على أن ابن سعد روى عن عفان عن معتمر بن سليمان عن معمر عن الزهري قال: "لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم شيئا من الشعر قيل قبله أو يروى عن غيره إلا هذا" كذا قال، وقد قال غيره: إن الشعر المذكور لعبد الله بن رواحة فكأنه لم يبلغه، وما في الصحيح أصح، وهو قوله: "شعر رجل من المسلمين" وفي الحديث جواز قول الشعر وأنواعه خصوصا الرجز في الحرب، والتعاون على سائر الأعمال الشاقة، لما فيه من تحريك الهمم وتشجيع النفوس وتحركها على معالجة الأمور الصعبة، وذكر الزبير من طريق مجمع بن يزيد قال قائل من المسلمين في ذلك:
لئن قعدنا والنبي يعمل ... ذاك إذا للعمل المضلل
ومن طريق أخرى عن أم سلمة نحوه وزاد: قال وقال علي بن أبي طالب:
لا يستوي من يعمر المساجد ... يدأب فيها قائما وقاعدا
ومن يرى عن التراب حائدا
وسيأتي كيفية نزوله على أبي أيوب إلى أن أكمل المسجد في حديث أنس في هذا الباب إن شاء الله تعالى.
"تنبيه": أخرج المصنف هذا الحديث بطوله في"التاريخ الصغير" بهذا السند فزاد بعد قوله هذه الأبيات" وعن ابن شهاب قال: كان بين ليلة العقبة - يعني الأخيرة - وبين مهاجر النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث أشهر أو قريب منها". قلت: هي ذو الحجة والمحرم وصفر، لكن كان مضي من ذي الحجة عشرة أيام، ودخل المدينة بعد أن استهل ربيع الأول فمهما كان الواقع أنه اليوم الذي دخل فيه من الشهر يعرف منه القدر على التحرير، فقد يكون ثلاثة سواء وقد ينقص وقد يزيد، لأن أقل ما قيل إنه دخل في اليوم الأول منه وأكثر ما قيل إنه دخل الثاني عشر منه.الحديث

(7/247)


الرابع عشر قوله: "عن أبيه" هو عروة، وفاطمة هي امرأته بنت المنذر بن الزبير، وأسماء جدتهما جميعا. قوله: "فقلت لأبي" أي قالت لأبي بكر الصديق. قوله: "أربطه" أي المتاع الذي في السفرة أو رأس السفرة، أو ذكرت باعتبار الظرف لأنه مذكر، ويستفاد من هذا أن الذي أمرها بشق نطاقها لتربط به السفرة هو أبوها، وتقدم تفسير النطاق في حديث عائشة قبل. قوله: "وقال ابن عباس أسماء ذات النطاق" وصله في تفسير براءة في أثناء حديث، وسيأتي إن شاء الله تعالى. حديث البراء في قصة الهجرة، أورده مختصرا، وقد تقدم مطولا في علامات النبوة وفي مناقب أبي بكر مع شرحه، وذكر هنا أوله عن البراء، وإنما هو عنده عن أبي بكر كما تقدم بيانه، وفي آخر هذا الحديث هنا ما يشير إلى ذلك، ثم أعاده المصنف في هذا الباب، كما سيأتي بعد أبواب من وجه آخر عن البراء أتم مما هنا كما سأنبه عليه.
3909- حَدَّثَنِي زَكَرِيَّاءُ بْنُ يَحْيَى عَنْ أَبِي أُسَامَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَسْمَاءَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا حَمَلَتْ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَتْ: "فَخَرَجْتُ وَأَنَا مُتِمٌّ فَأَتَيْتُ الْمَدِينَةَ فَنَزَلْتُ بِقُبَاءٍ فَوَلَدْتُهُ بِقُبَاءٍ ثُمَّ أَتَيْتُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَضَعْتُهُ فِي حَجْرِهِ ثُمَّ دَعَا بِتَمْرَةٍ فَمَضَغَهَا ثُمَّ تَفَلَ فِي فِيهِ فَكَانَ أَوَّلَ شَيْءٍ دَخَلَ جَوْفَهُ رِيقُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ حَنَّكَهُ بِتَمْرَةٍ ثُمَّ دَعَا لَهُ وَبَرَّكَ عَلَيْهِ وَكَانَ أَوَّلَ مَوْلُودٍ وُلِدَ فِي الإِسْلاَمِ"
تَابَعَهُ خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَسْمَاءَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا هَاجَرَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ حُبْلَى
[الحديث 3909- طرفه في: 5469]
3910- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا "قَالَتْ أَوَّلُ مَوْلُودٍ وُلِدَ فِي الإِسْلاَمِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ أَتَوْا بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخَذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَمْرَةً فَلاَكَهَا ثُمَّ أَدْخَلَهَا فِي فِيهِ فَأَوَّلُ مَا دَخَلَ بَطْنَهُ رِيقُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
الحديث السابع عشر حديث أسماء بنت أبي بكر أنها حملت بعبد الله بن الزبير يعني بمكة. قوله: "وأنا متم" أي قد أتممت مدة الحمل الغالبة وهي تسعة أشهر، ويطلق"متم" أيضا على من ولدت لتمام. قوله: "فنزلت بقباء فولدته بقباء" هذا يشعر بأنها وصلت إلى المدينة قبل أن يتحول النبي صلى الله عليه وسلم من قباء، وليس كذلك. قوله: "ثم أتيت به النبي صلى الله عليه وسلم" أي المدينة. قوله: "ثم تفل" بمثناة ثم فاء تقدم بيانه في أبواب المساجد. قوله: "ثم حنكه" أي وضع في فيه التمرة، ودلك حنكه بها. قوله: "وبرك عليه" أي قال بارك الله فيه، أو اللهم بارك فيه. قوله: "وكان أول مولود ولد في الإسلام" أي بالمدينة من المهاجرين، فأما من ولد بغير المدينة من المهاجرين فقيل عبد الله بن جعفر بالحبشة، وأما من الأنصار بالمدينة فكان أول مولود ولد لهم بعد الهجرة مسلمة بن مخلد كما رواه ابن أبي شيبة، وقيل: النعمان بن بشير. وفي الحديث أن مولد عبد الله بن الزبير كان في السنة الأولى وهو المعتمد، بخلاف ما جزم به الواقدي ومن تبعه بأنه ولد في السنة الثانية بعد عشرين شهرا من الهجرة، ووقع عند الإسماعيلي من الزيادة

(7/248)


من طريق عبد الله بن الرومي عن أبي أسامة بعد قوله في الإسلام: "ففرح المسلمون فرحا شديدا، لأن اليهود كانوا يقولون: سحرناهم حتى لا يولد لهم" وأخرج الواقدي ذلك بسند له إلى سهل بن أبي حثمة، وجاء عن أبي الأسود عن عروة نحوه، ويرده أن هجرة أسماء وعائشة وغيرهما من آل الصديق كانت بعد استقرار النبي بالمدينة، فالمسافة قريبة جدا لا تحتمل تأخر عشرين شهرا، بل ولا عشرة أشهر. قوله: "تابعه خالد بن مخلد" وصله الإسماعيلي من طريق عثمان بن أبي - شيبة عن خالد بن مخلد بهذا السند ولفظه: "إنها هاجرت وهي حبلى بعبد الله، فوضعته بقباء فلم ترضعه حتى أتت به النبي صلى الله عليه وسلم نحوه، وزاد في آخره: "ثم صلى عليه - أي دعا له - وسماه عبد الله". حديث عائشة في المعنى، هو محمول على أنه عن عروة عن أمه أسماء وعن خالته عائشة، فقد أحرجه المصنف من رواية أبي أسامة عن هشام على الوجهين كما ترى. وفي رواية أسماء زيادة تختص بها، وقد ذكر المصنف لحديث أسماء متابعا وهي الرواية المعلقة التي فرغنا منها، وذكر أبو نعيم لحديث عائشة متابعا من رواية عبد الله بن محمد بن يحيى عن هشام. وأخرج مسلم من طريق أبي خالد عن هشام مختصرا نحوه. وأخرج مسلم من طريق شعيب بن إسحاق عن هشام ما يقتضي أنه عند عروة عن أمه وخالته ولفظه عن هشام "حدثني عروة وفاطمة بنت المنذر قالا: خرجت أسماء حين هاجرت وهي حبلى بعبد الله بن الزبير، قالت: فقدمت قباء فنفست به، ثم خرجت فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحنكه، ثم دعا بتمرة، قالت عائشة فمكثنا ساعة نلتمسها قبل أن نجدها فمضغها" الحديث، فهذا الحديث فيه البيان أنه عند عروة عنهما جميعا، وزاد في آخر هذا الطريق "وسماه عبد الله، ثم جاء وهو ابن سبع سنين أو ثمان ليبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمره بذلك الزبير، فتبسم وبايعه". وقد ذكر ابن إسحاق أ ن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة بعث زيد بن حارثة فأحضر زوجته سودة بنت زمعة وبنتيه فاطمة وأم كلثوم وأم أيمن زوج زيد بن حارثة وابنها أسامة، وخرج معهم عبد الله بن أبي بكر ومعه أمه أم رومان وأختاه عائشة وأسماء، فقدموا والنبي صلى الله عليه وسلم يبني مسجده" ومجموع هذا مع قولها "فولدته بقباء" يدل على أن عبد الله بن الزبير ولد في السنة الأولى من الهجرة كما تقدم. قوله: "أتوا به". يؤخذ من الذي قبله أن أمه هي التي أتت به، ويحتمل أن يكون منها غيرها كزوجها أو أختها. قوله: "فلاكها" أي مضغها. قوله: "ثم أدخلها في فيه" قال ابن التين: ظاهره أن اللوك كان قبل أن يدخلها في فيه، والذي عند أهل اللغة أن اللوك في الفم. قلت: وهو فهم عجيب، فإن الضمير في قوله: "في فيه" يعود على ابن الزبير أي لاكها النبي صلى الله عليه وسلم في فمه ثم أدخلها في في ابن الزبير، وهو واضح لمن تأملها.
3911- حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "أَقْبَلَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَهُوَ مُرْدِفٌ أَبَا بَكْرٍ وَأَبُو بَكْرٍ شَيْخٌ يُعْرَفُ وَنَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَابٌّ لاَ يُعْرَفُ قَالَ فَيَلْقَى الرَّجُلُ أَبَا بَكْرٍ فَيَقُولُ يَا أَبَا بَكْرٍ مَنْ هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْكَ فَيَقُولُ هَذَا الرَّجُلُ يَهْدِينِي السَّبِيلَ قَالَ فَيَحْسِبُ الْحَاسِبُ أَنَّهُ إِنَّمَا يَعْنِي الطَّرِيقَ وَإِنَّمَا يَعْنِي سَبِيلَ الْخَيْرِ فَالْتَفَتَ أَبُو بَكْرٍ فَإِذَا هُوَ بِفَارِسٍ قَدْ لَحِقَهُمْ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا فَارِسٌ قَدْ لَحِقَ بِنَا فَالْتَفَتَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ اللَّهُمَّ اصْرَعْهُ فَصَرَعَهُ الْفَرَسُ ثُمَّ قَامَتْ تُحَمْحِمُ فَقَالَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ مُرْنِي بِمَا شِئْتَ قَالَ فَقِفْ مَكَانَكَ

(7/249)


لاَ تَتْرُكَنَّ أَحَدًا يَلْحَقُ بِنَا قَالَ فَكَانَ أَوَّلَ النَّهَارِ جَاهِدًا عَلَى نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ آخِرَ النَّهَارِ مَسْلَحَةً لَهُ فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَانِبَ الْحَرَّةِ ثُمَّ بَعَثَ إِلَى الأَنْصَارِ فَجَاءُوا إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ فَسَلَّمُوا عَلَيْهِمَا وَقَالُوا ارْكَبَا آمِنَيْنِ مُطَاعَيْنِ فَرَكِبَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ وَحَفُّوا دُونَهُمَا بِالسِّلاَحِ فَقِيلَ فِي الْمَدِينَةِ جَاءَ نَبِيُّ اللَّهِ جَاءَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَشْرَفُوا يَنْظُرُونَ وَيَقُولُونَ جَاءَ نَبِيُّ اللَّهِ جَاءَ نَبِيُّ اللَّهِ فَأَقْبَلَ يَسِيرُ حَتَّى نَزَلَ جَانِبَ دَارِ أَبِي أَيُّوبَ فَإِنَّهُ لَيُحَدِّثُ أَهْلَهُ إِذْ سَمِعَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلاَمٍ وَهُوَ فِي نَخْلٍ لِأَهْلِهِ يَخْتَرِفُ لَهُمْ فَعَجِلَ أَنْ يَضَعَ الَّذِي يَخْتَرِفُ لَهُمْ فِيهَا فَجَاءَ وَهِيَ مَعَهُ فَسَمِعَ مِنْ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ بُيُوتِ أَهْلِنَا أَقْرَبُ فَقَالَ أَبُو أَيُّوبَ أَنَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ هَذِهِ دَارِي وَهَذَا بَابِي قَالَ فَانْطَلِقْ فَهَيِّئْ لَنَا مَقِيلًا قَالَ قُومَا عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ فَلَمَّا جَاءَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلاَمٍ فَقَالَ أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ وَأَنَّكَ جِئْتَ بِحَقٍّ وَقَدْ عَلِمَتْ يَهُودُ أَنِّي سَيِّدُهُمْ وَابْنُ سَيِّدِهِمْ وَأَعْلَمُهُمْ وَابْنُ أَعْلَمِهِمْ فَادْعُهُمْ فَاسْأَلْهُمْ عَنِّي قَبْلَ أَنْ يَعْلَمُوا أَنِّي قَدْ أَسْلَمْتُ فَإِنَّهُمْ إِنْ يَعْلَمُوا أَنِّي قَدْ أَسْلَمْتُ قَالُوا فِيَّ مَا لَيْسَ فِيَّ فَأَرْسَلَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَقْبَلُوا فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ وَيْلَكُمْ اتَّقُوا اللَّهَ فَوَاللَّهِ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ إِنَّكُمْ لَتَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ حَقًّا وَأَنِّي جِئْتُكُمْ بِحَقٍّ فَأَسْلِمُوا قَالُوا مَا نَعْلَمُهُ قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهَا ثَلاَثَ مِرَارٍ قَالَ فَأَيُّ رَجُلٍ فِيكُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلاَمٍ قَالُوا ذَاكَ سَيِّدُنَا وَابْنُ سَيِّدِنَا وَأَعْلَمُنَا وَابْنُ أَعْلَمِنَا قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ إِنْ أَسْلَمَ قَالُوا حَاشَى لِلَّهِ مَا كَانَ لِيُسْلِمَ قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ إِنْ أَسْلَمَ قَالُوا حَاشَى لِلَّهِ مَا كَانَ لِيُسْلِمَ قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ إِنْ أَسْلَمَ قَالُوا حَاشَى لِلَّهِ مَا كَانَ لِيُسْلِمَ قَالَ يَا ابْنَ سَلاَمٍ اخْرُجْ عَلَيْهِمْ فَخَرَجَ فَقَالَ يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ اتَّقُوا اللَّهَ فَوَاللَّهِ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ إِنَّكُمْ لَتَعْلَمُونَ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ وَأَنَّهُ جَاءَ بِحَقٍّ فَقَالُوا كَذَبْتَ فَأَخْرَجَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
الحديث التاسع عشر قوله: "حدثني محمد" هو ابن سلام. وقال أبو نعيم في "المستخرج" أظنه أنه محمد بن المثني أبو موسى. قوله: "حدثنا عبد الصمد" هو ابن عبد الوارث بن سعيد. قوله: "مردف أبا بكر" قال الداودي: يحتمل أنه مرتدف خلفه على راحلته، ويحتمل أن يكون على راحلة أخرى، قال الله تعالى:{أَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} أي يتلو بعضهم بعضا، ورجح ابن التين الأول وقال: لا يصح الثاني لأنه يلزم منه أن يمشي أبو بكر بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم. قلت: إنما يلزم ذلك لو كان الخبر جاء بالعكس كأن يقول: والنبي صلى الله عليه وسلم مرتدف خلف أبي بكر فأما ولفظه: "وهو مردف أبا بكر" فلا، وسيأتي في الباب الذي بعده من وجه آخر عن أنس" فكأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم على راحلته وأبو بكر ردفه". قوله: "وأبو بكر شيخ" يريد أنه قد شاب، وقوله: "يعرف" أي لأنه كان يمر على أهل المدينة في سفر التجارة، بخلاف النبي صلى الله عليه وسلم في الأمرين فإنه كان بعيد العهد بالسفر من مكة، ولم يشب، وإلا ففي نفس الأمر كان هو عليه الصلاة والسلام أسن من أبي بكر، وسيأتي في هذا الباب من حديث أنس

(7/250)


أنه لم يكن في الذين هاجروا أشمط غير أبي بكر. قوله: "ونبي الله شاب لا يعرف" ظاهره أن أبا بكر كان أسن من النبي صلى الله عليه وسلم وليس كذلك، وقد ذكر أبو عمر من رواية حبيب بن الشهيد عن ميمون بن مهران عن يزيد بن الأصم"أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر: أيما أسن أنا أو أنت؟ قال أنت أكرم يا رسول الله مني وأكبر، وأنا أسن منك" قال أبو عمر: هذا مرسل، ولا أظنه إلا وهما قلت: وهو كما ظن، وإنما يعرف هذا للعباس، وأما أبو بكر فثبت في صحيح مسلم عن معاوية أنه عاش ثلاثا وستين سنة، وكان قد عاش بعد النبي صلى الله عليه وسلم سنتين وأشهرا فيلزم على الصحيح في سن أبي بكر أن يكون أصغر من النبي صلى الله عليه وسلم بأكثر من سنتين. قوله: "يهديني السبيل" بين سبب ذلك ابن سند في رواية له "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر: أله الناس عني، فكان إذا سئل من أنت قال: باغي حاجة، فإذا قيل: من هذا معك؟ قال: هاد يهديني"، وفي حديث أسماء بنت أبي بكر عند الطبراني" وكان أبو بكر رجلا معروفا في الناس فإذا لقيه لاق يقول لأبي بكر: من هذا معك؟ فيقول: هاد يهديني" يريد الهداية في الدين ويحسبه الآخر دليلا. قوله: "فقال يا رسول الله هذا فارس" وهو سراقة، وقد تقدم شرح قصته في الحديث الحادي عشر ووقع للنبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر في سفرهم ذلك قضايا: منها نزولهم بخيمتي أم معبد، وقصتها أخرجها ابن خزيمة والحاكم مطولة. وأخرج البيهقي في"الدلائل" من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبي بكر الصديق شبيها بأصل قصتها في لبن الشاة المهزولة دون ما فيها من صفته صلى الله عليه وسلم، لكنه لم يسمها في هذه الرواية ولا نسبها، فاحتمل التعدد. ومر بعبد يرعى غنما، وقد تقدم في حديث البراء عن أبي بكر، وروى أبو سعيد في "شرف المصطفى" من طريق إياس بن مالك بن الأوس الأسلمي قال: "لما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر مروا بإبل لنا بالجحفة، فقالا: لمن هذه؟ قال: لرجل من أسلم" فالتقت إلى أبي بكر فقال: سلمت، قال: ما اسمك؟ قال: مسعود، فالتفت إلى أبي بكر فقال: سعدت" ووصله ابن السكن والطبراني عن إياس عن أبيه عن جده أوس بن عبد الله بن حجر فذكر نحوه مطولا وفيه: "أن أوسا أعطاهما فحل إبله، وأرسل معهما غلامه مسعودا، وأمره أن لا يفارقهما حتى يصلا المدينة" وتحديث أنس بقصة سراقة من مراسيل الصحابة، ولعله حملها عن أبي بكر الصديق، فقد تقدم في مناقبه أن أنسا حدث عنه بطرف الغار وهو قوله: "قلت يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا" الحديث. وقوله فيه: "فصرعه عن فرسه ثم قامت تحمحم" قال ابن التين: فيه نظر، لأن الفرس إن كانت أنثى فلا يجوز" فصرعه" وإن كان ذكرا فلا يقال: "ثم قامت". قلت: وإنكاره من العجائب، والجواب أنه ذكر باعتبار لفظ الفرس وأنث باعتبار ما في نفس الأمر من أنها كانت أنثي. قوله: "ثم بعث إلى الأنصار فجاءوا إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر فسلموا عليهما وقالوا: اركبا آمنين مطاعين، فركبا" طوى في هذا الحديث قصة إقامته عليه الصلاة والسلام هنا، وقد تقدم في بيانه في الحديث الثالث عشر، وتقدير الكلام: فنزل جانب الحرة فأقام بقباء المدة التي أقامها وبنى بها المسجد ثم بعث إلخ. قوله: "حتى نزل جانب دار أبي أيوب" تقدم بيانه مستوفى في الحديث الثالث عشر. وقال البخاري في "التاريخ الصغير" حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا سليمان بن المغيرة "عن ثابت عن أنس قال: إني لأسعى مع الغلمان إذ قالوا: جاء محمد، فننطلق فلا نرى شيئا، حتى أقبل وصاحبه، فكمنا في بعض خرب المدينة وبعثنا رجلا من أهل البادية يؤذن بهما، فاستقبله زهاء خمسمائة من الأنصار فقالوا: "انطلقا آمنين مطاعين" الحديث. قوله: "فإنه ليحدث أهله" الضمير للنبي صلى الله عليه وسلم. قوله: "إذ سمع به عبد الله بن سلام" بالتخفيف ابن الحويرث

(7/251)


الإسرائيلي يكنى أبا يوسف يقال كان اسمه الحصين فسمي عبد الله في الإسلام، وهو من حلفاء بني عوف بن الخزرج. قوله: "يخترف لهم" بالخاء المعجمة والفاء أي يجتنى من الثمار. قوله: "فجاء وهي معه" أي الثمرة التي اجتناها، وفي بعضها"وهو" أي الذي اجتناه. قوله: "فسمع من نبي الله صلى الله عليه وسلم ثم رجع إلى أهله" وقع عند أحمد والترمذي وصححه هو والحاكم من طريق زرارة بن أوفى عن عبد الله بن سلام قال: "لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة انجفل الناس إليه، فجئت في الناس لأنظر إليه، فلما استبنت وجهه عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب" الحديث، قال العماد بن كثير: ظاهر هذا السياق يعني سياق احمد لحديث عبد الله بن سلام ولفظه: "لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة انجفل الناس لقدومه فكنت فيمن انجفل" أنه اجتمع به لما قدم قباء، وظاهر حديث أنس أنه اجتمع به بعد أن نزل بدار أبي أيوب، قال: فيحمل على أنه اجتمع به مرتين. قلت: ليس في الأول تعيين قباء، فالظاهر الاتحاد وحمل المدينة هنا على داخلها. قوله: "أي بيوت أهلنا أقرب" تقدم بيان ذلك في أواخر الحديث الثالث عشر، وأطلق عليهم أهله لقرابة ما بينهم من النساء، لأن منهم والدة عبد المطلب جده وهي سلمى بنت عوف من بني مالك بن النجار، ولهذا جاء في حديث البراء أنه صلى الله عليه وسلم نزل على أخواله أو أجداده من بني النجار. قوله: "فهيئ لنا مقيلا" أي مكانا تقع فيه القيلولة "قال قوما" فيه حذف تقديره: فذهب فهيأ، وقد وقع صريحا في رواية الحاكم وأبي سعيد قال: "فانطلق فهيأ لهما مقيلا ثم جاء" وفي حديث أبي أيوب عند الحاكم وغيره: "أنه أنزل النبي صلى الله عليه وسلم في السفل ونزل هو وأهله في العلو، ثم أشفق من ذلك، فلم يزل يسأل النبي صلى الله عليه وسلم حتى تحول إلى العلو ونزل أبو أيوب إلى السفل" ونحوه في طريق عبد العزير بن صهيب عن أنس عند أبي سعيد في "شرف المصطفى" وأفاد ابن سعد أنه أقام بمنزل أبي أيوب سبعة أشهر حتى بني بيوته، وأبو أيوب هو خالد بن زيد بن كليب من بني النجار، وبنو النجار من الخزرج بن حارثة، ويقال إن تبعا لما غزا الحجاز واجتاز يثرب خرج إليه أربعمائة حبر فأخبروه بما يجب من تعظيم البيت، وأن نبيا سيبعث يكون مسكنه يثرب، فأكرمهم وعظم البيت بأن كساه، وهو أول من كساه، وكتب كتابا وسلمه لرجل من أولئك الأحبار، وأوصاه أن يسلمه للنبي صلى الله عليه وسلم إن أدركه، فيقال إن أبا أيوب من ذرية ذلك الرجل، حكاه ابن هشام في "التيجان" وأورده ابن عساكر في ترجمة تبع. قوله: "فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي إلى منزل أبي أيوب "جاء عبد الله بن سلام" أي إليه "فقال أشهد أنك رسول الله" زاد في رواية حميد عن أنس كما سيأتي قريبا قبل كتاب المغازي أنه سأله عن أشياء، فلما أعلمه بها أسلم. ولفظه: "فأتاه يسأله عن أشياء فقال إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي: ما أول أشراط الساعة، وما أول طعام يأكله أهل الجنة، وما بال الولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمه؟ فلما ذكر له جواب مسائله مال: أشهد أنك رسول الله صلى الله عليه وسلم:. ثم قال: إن اليهود قوم بهت" الحديث، وعند البيهقي من طريق عبد الله بن أبي بكر بن حزم عن يحيى بن عبد الله عن رجل من آل عبد الله بن سلام عن عبد الله بن سلام قال: سمعت برسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفت صفته واسمه، فكنت مسرا لذلك حتى قدم المدينة، فسمعت به وأنا على رأس نخلة، فكبرت، فقالت لي عمتي خالدة بنت الحارث: لو كنت سمعت بموسى ما زدت، فقلت: والله هو أخو موسى، بعث بما بعث به، فقالت لي: يا ابن أخي هو الذي كنا نخبر أنه سيبعث مع نفس الساعة، قلت نعم. قالت فذاك إذا، ثم خرجت إليه فأسلمت، ثم جئت إلى أهل بيتي فأمرتهم فأسلموا، ثم جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: إن اليهود قوم بهت" الحديث.
قوله: "ولقد علمت

(7/252)


يهود أني سيدهم" في الرواية الآتية قريبا: "قال يا رسول الله إن اليهود قوم بهت" وسيأتي شرح ذلك ثم. قوله: "قالوا في ما ليس في" في الرواية الآتية عند أبي نعيم" بهتوني عندك". قوله: "فأرسل نبي الله صلى الله عليه وسلم" أي إلى اليهود فجاءوا. قوله: "فدخلوا عليه" أي بعد أن اختبأ لهم عبد الله بن سلام كما سيأتي بيانه هناك. وفي رواية يحيى بن عبد الله المذكور" فأدخلني في بعض بيوتك ثم سلهم عني، فإنهم إن علموا بذلك بهتوني وعابوني. قال فأدخلني بعض بيوته". قوله: "سيدنا وابن سيدنا، وأعلمنا وابن أعلمنا" في الرواية الآتية "خيرنا وابن خيرنا، وأفضلنا وابن أفضلنا" وفي ترجمة آدم "أخيرنا" بصيغة أفعل. وفي رواية يحيى بن عبد الله "سيدنا، وأخيرنا، وعالمنا" ولعلهم قالوا جميع ذلك أو بعضه بالمعنى. قوله: "فقالوا شرنا" وفي رواية يحيى بن عبد الله "فقالوا كذبت ثم وقعوا في". قوله: "فقالوا كذبت فأخرجهم رسول الله صلى الله عليه وسلم" في رواية يحيى بن عبد الله "فقلت يا رسول الله ألم أخبرك أنهم قوم بهت أهل غدر وكذب وفجور" وفي الرواية الآتية "فنقصوه فقال: هذا ما كنت أخاف يا رسول الله".
3912- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا هِشَامٌ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "كَانَ فَرَضَ لِلْمُهَاجِرِينَ الأَوَّلِينَ أَرْبَعَةَ آلاَفٍ فِي أَرْبَعَةٍ وَفَرَضَ لِابْنِ عُمَرَ ثَلاَثَةَ آلاَفٍ وَخَمْسَ مِائَةٍ فَقِيلَ لَهُ هُوَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ فَلِمَ نَقَصْتَهُ مِنْ أَرْبَعَةِ آلاَفٍ فَقَالَ إِنَّمَا هَاجَرَ بِهِ أَبَوَاهُ يَقُولُ لَيْسَ هُوَ كَمَنْ هَاجَرَ بِنَفْسِهِ".
3913- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ خَبَّابٍ قَالَ هَاجَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ...."ح
3914- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ الأَعْمَشِ قَالَ سَمِعْتُ شَقِيقَ بْنَ سَلَمَةَ قَالَ حَدَّثَنَا خَبَّابٌ قَالَ "هَاجَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبْتَغِي وَجْهَ اللَّهِ وَوَجَبَ أَجْرُنَا عَلَى اللَّهِ فَمِنَّا مَنْ مَضَى لَمْ يَأْكُلْ مِنْ أَجْرِهِ شَيْئًا مِنْهُمْ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ فَلَمْ نَجِدْ شَيْئًا نُكَفِّنُهُ فِيهِ إِلاَّ نَمِرَةً كُنَّا إِذَا غَطَّيْنَا بِهَا رَأْسَهُ خَرَجَتْ رِجْلاَهُ فَإِذَا غَطَّيْنَا رِجْلَيْهِ خَرَجَ رَأْسُهُ فَأَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نُغَطِّيَ رَأْسَهُ بِهَا وَنَجْعَلَ عَلَى رِجْلَيْهِ مِنْ إِذْخِرٍ وَمِنَّا مَنْ أَيْنَعَتْ لَهُ ثَمَرَتُهُ فَهُوَ يَهْدِبُهَا"
الحديث العشرون قوله: "أخبرنا هشام" هو ابن يوسف الصنعاني. قوله: "عن عمر كان فرض للمهاجرين" هذا صورته منقطع، لأن نافعا لم يلحق عمر، لكن سياق الحديث يشعر بأن نافعا حمله عن ابن عمر. ووقع في رواية غير أبي ذر هنا "عن نافع يعني عن ابن عمر"، ولعلها من إصلاح بعض الرواة، واغتر بها شيخنا ابن الملقن فأنكر على ابن التين قوله أن الحديث مرسل وقال: لعل نسخته التي وقعت له ليس فيها ابن عمر، وقد روى الدراوردي عن عبيد الله بن عمر فقال: "عن نافع عن ابن عمر قال: فرض عمر لأسامة أكثر مما فرض لي، فذكر

(7/253)


قصة أخرى شبيهة بهذه أخرجها أبو نعيم في "المستخرج" هنا. قوله: "المهاجرين الأولين" هم الذين صلوا للقبلتين أو شهدوا بدرا. قوله: "أربعة آلاف في أربعة" كذا للأكثر، وسقطت لفظة "في" من رواية النسفي وهو الوجه أي لكل واحد أربعة آلاف، ولعلها بمعنى اللام والمراد إثبات عدد المهاجرين المذكورين. قوله: "إنما هاجر به أبواه، يقول ليس هو كمن هاجر بنفسه" وفي رواية الدراوردي المذكورة" قال عمر لابن عمر: إنما هاجر بك أبواك" والمراد أنه كان حينئذ في كنف أبيه، فليس هو كمن هاجر بنفسه، وكان لابن عمر حين الهجرة إحدى عشرة سنة، ووهم من قال اثنتا عشرة وكذا ثلاث عشرة، لما ثبت في الصحيحين أنه عرض يوم أحد وهو ابن أربع عشرة، وكانت أحد في شوال سنة ثلاث. "تنبيه": أعاد المصنف هنا حديث خباب بعد أن ذكره في أوائل الباب، فأورده من وجهين ساقه على لفظ الرواية الثانية وهي رواية مسدد، وسأذكر شرحه في غزوة أحد إن شاء الله تعالى.
3915- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بِشْرٍ حَدَّثَنَا رَوْحٌ حَدَّثَنَا عَوْفٌ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو بُرْدَةَ بْنُ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ قَالَ "قَالَ لِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ هَلْ تَدْرِي مَا قَالَ أَبِي لِأَبِيكَ قَالَ قُلْتُ لاَ قَالَ فَإِنَّ أَبِي قَالَ لِأَبِيكَ يَا أَبَا مُوسَى هَلْ يَسُرُّكَ إِسْلاَمُنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِجْرَتُنَا مَعَهُ وَجِهَادُنَا مَعَهُ وَعَمَلُنَا كُلُّهُ مَعَهُ بَرَدَ لَنَا وَأَنَّ كُلَّ عَمَلٍ عَمِلْنَاهُ بَعْدَهُ نَجَوْنَا مِنْهُ كَفَافًا رَأْسًا بِرَأْسٍ فَقَالَ أَبِي لاَ وَاللَّهِ قَدْ جَاهَدْنَا بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَلَّيْنَا وَصُمْنَا وَعَمِلْنَا خَيْرًا كَثِيرًا وَأَسْلَمَ عَلَى أَيْدِينَا بَشَرٌ كَثِيرٌ وَإِنَّا لَنَرْجُو ذَلِكَ فَقَالَ أَبِي لَكِنِّي أَنَا وَالَّذِي نَفْسُ عُمَرَ بِيَدِهِ لَوَدِدْتُ أَنَّ ذَلِكَ بَرَدَ لَنَا وَأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ عَمِلْنَاهُ بَعْدُ نَجَوْنَا مِنْهُ كَفَافًا رَأْسًا بِرَأْسٍ فَقُلْتُ إِنَّ أَبَاكَ وَاللَّهِ خَيْرٌ مِنْ أَبِي"
الحديث الحادي والعشرون قوله: "قال لي عبد الله بن عمر: هل تدري" وقعت في هذا الحديث زيادة من رواية سعيد بن أبي بردة عن أبيه قال: "صليت إلى جنب ابن عمر، فسمعته حين سجد يقول: فذكر ذكرا وفيه: ما صليت صلاة منذ أسلمت إلا وأنا أرجو أن تكون كفارة. وقال لأبي بردة علمت أن أبي" فذكر حديث الباب رويناه في الجزء السادس من "فوائد أبي محمد بن صاعد". قوله: "برد" بفتح الموحدة والراء "لنا" أي ثبت لنا ودام، يقال برد لي على الغريم حق أي ثبت. وفي رواية سعيد بن أبي بردة "خلص" بدل برد وقوله: "كفافا" أي سواء بسواء؛ والمراد لا موجبا ثوابا ولا عقابا. وفي رواية سعيد بن أبي بردة "لا لك ولا عليك". قوله: "قال أبي: لا والله" كذا وقع فيه، والصواب "قال أبوك" لأن ابن عمر هو الذي يحكي لأبي بردة ما دار بين عمر وأبي موسى، وهذا الكلام الأخير كلام أبي موسى، وقد وقع في رواية النسفي على الصواب ولفظه: "فقال أبوك: لا والله إلخ" ووقع عند القابسي والمستملي: "فقال إي والله" بكسر الهمزة بعدها تحتانية ساكنة بمعني نعم معها القسم مثل قوله: {قُلْ إِي وَرَبِّي} وعند عبدوس "إني والله" بنون ثقيلة بعد الهمزة المكسورة ثم تحتانية، وكله تصحيف إلا رواية النسفي، ووقع في رواية داود بن أبي هند عن أبي بردة في "تاريخ الحاكم" هذا الحديث: "قال

(7/254)


أبو موسى: لا، قال لم؟ قال: لأني قدمت على قوم جهال فعلمتهم القرآن والسنة فأرجو بذلك". قوله: "فقال أبي لكني والذي نفسي بيده" هذا كلام عمر رضي الله عنه. قوله: "فقلت" القائل هو أبو بردة، وخاطب بذلك ابن عمر فأراد أن عمر خير من أبي موسى، وأراد من الحيثية المذكورة وإلا فمن المقرر أن عمر أفضل من أبي موسى عند جميع الطوائف، لكن لا يمتنع أن يفوق بعض المفضولين بخصلة لا تستلزم الأفضلية المطلقة، ومع هذا فعمر في هذه الخصلة المذكورة أيضا أفضل من أبي موسى، لأن مقام الخوف أفضل من مقام الرجاء، فالعلم محيط بأن الآدمي لا يخلو عن تقصير ما في كل ما يريد من الخير، وإنما قال عمر ذلك هضما لنفسه، وإلا فمقامه في الفضائل والكلمات أشهر من أن يذكر. قوله: "خير من أبي" في رواية سعيد بن أبي بردة "أفقه من أبي".
3916- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ صَبَّاحٍ أَوْ بَلَغَنِي عَنْهُ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ قَالَ "سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إِذَا قِيلَ لَهُ هَاجَرَ قَبْلَ أَبِيهِ يَغْضَبُ قَالَ وَقَدِمْتُ أَنَا وَعُمَرُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَجَدْنَاهُ قَائِلًا فَرَجَعْنَا إِلَى الْمَنْزِلِ فَأَرْسَلَنِي عُمَرُ وَقَالَ اذْهَبْ فَانْظُرْ هَلْ اسْتَيْقَظَ فَأَتَيْتُهُ فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ فَبَايَعْتُهُ ثُمَّ انْطَلَقْتُ إِلَى عُمَرَ فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّهُ قَدْ اسْتَيْقَظَ فَانْطَلَقْنَا إِلَيْهِ نُهَرْوِلُ هَرْوَلَةً حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهِ فَبَايَعَهُ ثُمَّ بَايَعْتُهُ".
[الحديث 3916- طرفاه في: 4187,4186]
3917- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ حَدَّثَنَا شُرَيْحُ بْنُ مَسْلَمَةَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ "سَمِعْتُ الْبَرَاءَ يُحَدِّثُ قَالَ ابْتَاعَ أَبُو بَكْرٍ مِنْ عَازِبٍ رَحْلًا فَحَمَلْتُهُ مَعَهُ قَالَ فَسَأَلَهُ عَازِبٌ عَنْ مَسِيرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أُخِذَ عَلَيْنَا بِالرَّصَدِ فَخَرَجْنَا لَيْلًا فَأَحْثَثْنَا لَيْلَتَنَا وَيَوْمَنَا حَتَّى قَامَ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ ثُمَّ رُفِعَتْ لَنَا صَخْرَةٌ فَأَتَيْنَاهَا وَلَهَا شَيْءٌ مِنْ ظِلٍّ قَالَ فَفَرَشْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرْوَةً مَعِي ثُمَّ اضْطَجَعَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَانْطَلَقْتُ أَنْفُضُ مَا حَوْلَهُ فَإِذَا أَنَا بِرَاعٍ قَدْ أَقْبَلَ فِي غُنَيْمَةٍ يُرِيدُ مِنْ الصَّخْرَةِ مِثْلَ الَّذِي أَرَدْنَا فَسَأَلْتُهُ لِمَنْ أَنْتَ يَا غُلاَمُ فَقَالَ أَنَا لِفُلاَنٍ فَقُلْتُ لَهُ هَلْ فِي غَنَمِكَ مِنْ لَبَنٍ قَالَ نَعَمْ قُلْتُ لَهُ هَلْ أَنْتَ حَالِبٌ قَالَ نَعَمْ فَأَخَذَ شَاةً مِنْ غَنَمِهِ فَقُلْتُ لَهُ انْفُضْ الضَّرْعَ قَالَ فَحَلَبَ كُثْبَةً مِنْ لَبَنٍ وَمَعِي إِدَاوَةٌ مِنْ مَاءٍ عَلَيْهَا خِرْقَةٌ قَدْ رَوَّأْتُهَا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَبَبْتُ عَلَى اللَّبَنِ حَتَّى بَرَدَ أَسْفَلُهُ ثُمَّ أَتَيْتُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ اشْرَبْ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَشَرِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى رَضِيتُ ثُمَّ ارْتَحَلْنَا وَالطَّلَبُ فِي إِثْرِنَا"
3918- قَالَ الْبَرَاءُ "فَدَخَلْتُ مَعَ أَبِي بَكْرٍ عَلَى أَهْلِهِ فَإِذَا عَائِشَةُ ابْنَتُهُ مُضْطَجِعَةٌ قَدْ أَصَابَتْهَا حُمَّى فَرَأَيْتُ أَبَاهَا فَقَبَّلَ خَدَّهَا وَقَالَ كَيْفَ أَنْتِ يَا بُنَيَّةُ"

(7/255)


الحديث الثاني والعشرون قوله: "حدثني محمد بن الصباح أو بلغني عنه" أما محمد فهو محمد بن الصباح الدولابي البزاز بمعجمتين نزيل بغداد، متفق على توثيقه. وقد روى عنه البخاري في الصلاة وفي البيوع جازما بغير واسطة وأما من بلغ البخاري عنه فيحتمل أن يكون هو عباد بن الوليد، فقد أخرجه أبو نعيم في "المستخرج" من طريق عن محمد بن الصباح بلفظه، وعباد المذكور يكنى أبا بدر، وهو غبري يضم المعجمة وفتح الموحدة الخفيفة، روى عنه ابن ماجه وابن أبي حاتم وقال صدوق، ومات قبل سنة ستين أو بعدها وإسماعيل شيخ محمد فيه هو ابن إبراهيم المعروف بابن علية، وعاصم هو ابن سليمان الأحول، وأبو عثمان هو النهدي، والإسناد كله بصريون. قوله: "إذا قيل له هاجر قبل أبيه يغضب" يعني أنه لم يهاجر إلا صحبة أبيه كما تقدم. وأخرج الطبراني من وجه آخر عن ابن عمر أنه كان يقول: "لعن الله من يزعم أنني هاجرت قبل أبي، إنما قدمني في ثقله" وهذا في إسناد ضعف، والجواب الذي أجاب به في حديث الباب أصح منه، وقد استشكل ذكر أبويه، فإن أمه زينب بنت مظعون كانت بمكة فيما ذكره ابن سعد. قوله: "قدمت أنا وعمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم" يعني عند البيعة، ولعلها بيعة الرضوان، وزعم الداودي أنها بيعة صدرت حين قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وعندي في ذلك بعد، لأن ابن عمر لم يكن في سن من يبايع، وقد عرض على النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك بثلاث سنين يوم أحد فلم يجزه، فيحتمل أن تكون البيعة حينئذ على غير القتال، وإنما ذكرها ابن عمر ليبين سبب وهم من قال إنه هاجر قبل أبيه، وإنما الذي وقع له أنه بايع قبل أبيه، فلما كانت بيعته قبل بيعة أبيه توهم بعض الناس أن هجرته كانت قبل هجرة أبيه، وليس كذلك، وإنما بادر إلى البيعة قبل حرصا على تحصيل الخير، ولأن تأخيره لذلك لا ينفع عمر، أشار إلى ذلك الداودي، وعارضه ابن التين بأن مثله يرد في الهجرة التي أنكر كونها كانت سابقة، والجواب أنه أنكر وقوع ذلك لا كراهيته لو وقع، أو الفرق أن زمن البيعة يسير جدا بخلاف زمن الهجرة، وأيضا فلعل البيعة لم تكن عامة بخلاف الهجرة، فإن ابن عمر خشي أن تفوته البيعة فبادر إلى تحصيلها،. ثم أسرع إلى أبيه فأخبره فسارع إلى البيعة فبايع، ثم أعاد ابن عمر البيعة ثاني مرة. قوله: "نهرول" الهرولة ضرب من السير بين المشي على مهل والعدو. "تنبيه": ذكر المصنف هنا حديث البراء عن أبي بكر في قصة الهجرة، وقد تقدم التنبيه عليه في أوائل هذا الباب وساقه هنا أتم، وقد تقدم شرحه في علامات النبوة وفي مناقب أبي بكر، وبقيته في أوائل الباب في حديث سراقة. وقوله هنا: "فأحيينا ليلتنا" بتحتانيتين من الإحياء، ولبعضهم بمثناة ثم مثلثة من الحث. قوله: "ففرشت لرسول الله صلى الله عليه وسلم فروة" فسرها صاحب ا النهاية بأنها الأرض اليابسة، وقيل: التبن اليابس، قال وقيل أراد بالفروة اللباس المعروفة. قلت: وهذا هو الراجح بل هو الظاهر من قوله: "فروة معي" وقوله هنا: "قد روأتها" أي تأتيت بها حتى صلحت، تقول روأت في الأمر إذا نظرت فيه ولم تعجل. قوله: "قال البراء: فدخلت مع أبي بكر على أهله فإذا بنته عائشة مضطجعة قد أصابتها حمى، فرأيت أباها يقبل خدها وقال كيف أنت يا بنية" هذا القدر من الحديث لم يذكره المصنف إلا في هذا الموضع، وسأشير إليه في الباب الذي يليه، وكان دخول البراء على أهل أبي بكر قبل أن ينزل الحجاب قطعا، وأيضا فكان حينئذ دون البلوغ وكذلك عائشة.
3919- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حِمْيَرَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي عَبْلَةَ أَنَّ عُقْبَةَ بْنَ وَسَّاجٍ حَدَّثَهُ عَنْ أَنَسٍ خَادِمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسَ فِي أَصْحَابِهِ أَشْمَطُ غَيْرَ أَبِي بَكْرٍ فَغَلَفَهَا

(7/256)


بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ"
[الحديث 3919- طرفه في: 3920]
3920- وَقَالَ دُحَيْمٌ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ حَدَّثَنِي أَبُو عُبَيْدٍ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ وَسَّاجٍ حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ فَكَانَ أَسَنَّ أَصْحَابِهِ أَبُو بَكْرٍ فَغَلَفَهَا بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ حَتَّى قَنَأَ لَوْنُهَا".
1921- حَدَّثَنَا أَصْبَغُ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ "أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنْ كَلْبٍ يُقَالُ لَهَا أُمُّ بَكْرٍ فَلَمَّا هَاجَرَ أَبُو بَكْرٍ طَلَّقَهَا فَتَزَوَّجَهَا ابْنُ عَمِّهَا هَذَا الشَّاعِرُ الَّذِي قَالَ هَذِهِ الْقَصِيدَةَ رَثَى كُفَّارَ قُرَيْشٍ
وَمَاذَا بِالْقَلِيبِ قَلِيبِ بَدْرٍ ... مِنْ الشِّيزَى تُزَيَّنُ بِالسَّنَامِ
وَمَاذَا بِالْقَلِيبِ قَلِيبِ بَدْرٍ ... مِنْ الْقَيْنَاتِ وَالشَّرْبِ الْكِرَامِ
تُحَيِّينَا السَّلاَمَةَ أُمُّ بَكْرٍ ... وَهَلْ لِي بَعْدَ قَوْمِي مِنْ سَلاَمِ
يُحَدِّثُنَا الرَّسُولُ بِأَنْ سَنَحْيَا ... وَكَيْفَ حَيَاةُ أَصْدَاءٍ وَهَامِ
3922- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْغَارِ فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا أَنَا بِأَقْدَامِ الْقَوْمِ فَقُلْتُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ لَوْ أَنَّ بَعْضَهُمْ طَأْطَأَ بَصَرَهُ رَآنَا قَالَ اسْكُتْ يَا أَبَا بَكْرٍ اثْنَانِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا "
3923- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ ح
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ: حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ اللَّيْثِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ عَنْ الْهِجْرَةِ فَقَالَ وَيْحَكَ إِنَّ الْهِجْرَةَ شَأْنُهَا شَدِيدٌ فَهَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَتُعْطِي صَدَقَتَهَا قَالَ نَعَمْ قَالَ فَهَلْ تَمْنَحُ مِنْهَا قَالَ نَعَمْ قَالَ فَتَحْلُبُهَا يَوْمَ وُرُودِهَا قَالَ نَعَمْ قَالَ فَاعْمَلْ مِنْ وَرَاءِ الْبِحَارِ فَإِنَّ اللَّهَ لَنْ يَتِرَكَ مِنْ عَمَلِكَ شَيْئًا "
الحديث الثالث والعشرون قوله: "حدثنا محمد بن حمير" بكسر المهملة وسكون الميم وفتح التحتانية، ووقع في رواية القابسي عن أبي زيد بمعجمة مصغر وهو تصحيف، وشيخه إبراهيم بن أبي علية قد سمع عن أنس، وحدث عنه هنا بواسطة، واسم أبيه يقظان ضد النائم، وعقبة بن وساج بفتح الواو وتشديد المهملة وآخره جيم، وأبو

(7/257)


عبيد في الإسناد الثاني هو حيي بضم المهملة وفتح التحتانية بعدها أخرى ثقيلة ويقال حي بلفظ ضد ميت، وكان حاجب سليمان بن عبد الملك. قوله: "فغلفها" بالمعجمة أي خضبها، والمراد اللحية وإن لم يقع لها ذكر. قوله: "والكتم" بفتح الكاف والمثناة الخفيفة وحكي تثقيلها: ورق يخضب به كالآس من نبات ينبت في أصغر الصخور فيتدلى خيطانا لطافا، ومجتناه صعب ولذلك هو قليل، وقيل: إنه يخلط بالوشمة، وقيل: إنه الوشمة، وقيل: هو النيل، وقيل: هو حناء قريش وصبغه أصفر. قوله في الرواية الثانية "وقال دحيم" هو عبد الرحمن بن إبراهيم الدمشقي، وصله الإسماعيلي عن الحسن بن سفيان عنه. قوله: "فكان أسن أصحابه أبو بكر" أي الذين قدموا معه حينئذ وقبله كما تقدم. قوله: "حتى قنأ" بفتح القاف والنون والهمزة أي اشتدت حمرتها، ستأتي زيادة في الكلام على خضاب الشعر في كتاب اللباس إن شاء الله تعالى. قوله: "أن أبا بكر تزوج امرأة من كلب" أى من بني كلب، وهو كلب بن عوف بن عامر بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، ويدل عليه ما وقع في رواية الترمذي الحكيم من طريق الزبيدي عن الزهري في هذا الحديث: "ثم من بني عوف" وأما الكلبي المشهور فهو من بني كلب بن وبرة بن تغلب بن قضاعة. قوله: "أم بكر" لم أقف على اسمها، وكأنه كنيتها المذكورة. قوله: "فلما هاجر أبو بكر طلقها. فتزوجها ابن عمها هذا الشاعر" هو أبو بكر شداد بن الأسود بن عبد شمس بن مالك بن جعونة، ويقال له ابن شعوب بفتح المعجمة وضم المهملة وسكون الواو بعدها موحدة، قال ابن حبيب: هي أمه وهي خزاعية، لكن سماه عمرو بن شمر، وأنشد له أشعارا كثيرة قالها في الكفر، قال: ثم أسلم. وذكر مثله ابن الأعرابي في" كتاب من نسب إلى أمه" وزعم أبو عبيدة أنه ارتد بعد إسلامه، حكاه عنه ابن هشام في "زوائد السيرة" والأول أولى. وزاد الفاكهي في هذا الحديث من الوجه الذي أخرجه منه البخاري "قالت عائشة: والله ما قال أبو بكر بيت شعر في الجاهلية ولا الإسلام، ولقد ترك هو وعثمان شرب الخمر في الجاهلية" وهذا يضعف ما أخرجه الفاكهي أيضا من طريق عوف عن أبي القموص قال: "شرب أبو بكر الخمر قبل أن تحرم وقال هذه الأبيات، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فغضب، فبلغ ذلك عمر فجاء فقال: نعوذ بالله من غضب رسول الله، والله لا تلج رءوسنا بعد هذا أبدا" قال: وكان أول من حرمها، فلهذا قد عارضه قول عائشة، وهي أعلم بشأن أبيها من غيرها. وأبو القموص لم يدرك أبا بكر، فالعهدة على الواسطة، فلعله كان من الروافض، ودل حديث عائشة على أن لنسبة أبي بكر إلى ذلك أصلا وإن كان غير ثابت عنه، والله أعلم. قوله: "رثى كفار قريش" يعني يوم بدر لما قتلوا وألقاهم النبي صلى الله عليه وسلم في القليب، وهي البئر التي لم تطو. قوله: "من الشيزى" بكسر المعجمة وسكون التحتانية بعدها زاي مقصور، وهو شجر يتخذ منه الجفان والقصاع الخشب التي يعمل فيها الثريد. وقال الأصمعي: هي من شجر الجوز تسود بالدسم، والشيزى جمع شيز والشيز يغلظ حتى ينحت منه، فأراد بالشيزى ما يتخذ منها وبالجفنة صاحبها كأنه قال: ماذا بالقليب من أصحاب الجفان الملأى بلحوم أسنمة الإبل، وكانوا يطلقون على الرجل المطعام "جفنة" لكثرة إطعامه الناس فيها. وأغرب الداودي فقال: الشيزي الجمال، قال لأن الإبل إذا سمنت تعظم أسنمتها ويعظم جمالها. وغلطه ابن التين قال: وإنما أراد أن الجفنة من الثريد تزين بالقطع اللحم من السنام. قوله: "القينات" جمع قينة بفتح القاف وسكون التحتانية بعدها نون هي المغنية، وتطلق أيضا على الأمة مطلقا. "والشرب" بفتح المعجمة وسكون الراء جمع شارب، وقيل: هو اسم جمع، وجزم ابن التين

(7/258)


بالأول فقال: هو كمتجر وتاجر والمراد بهم الندامى. قوله: "تحيينا" في رواية الكشميهني: "تحييني" بالإفراد، وقوله: "فهل" في رواية الكشميهني: "وهل لي" بالواو، وقوله: "من سلام" أي من سلامة، وفيه قوة لمن قال: المراد من السلام الدعاء بالسلامة أو الإخبار بها. قوله: "أصداء" جمع صدى وهو ذكر البوم، وهام جمع هامة وهو الصدى أيضا وهو عطف تفسيري، وقيل الصدى الطائر الذي يطير بالليل، والهامة جمجمة الرأس وهي التي يخرج منها الصدى بزعمهم، وأراد الشاعر إنكار البعث بهذا الكلام كأنه يقول: إذا صار الإنسان كهذا الطائر كيف يصير مرة أخرى إنسانا. وقال أهل اللغة: كان أهل الجاهلية يزعمون أن روح القتيل الذي لا يدرك بثأره تصير هامة فتزقو وتقول: اسقوني اسقوني، وإذا أدرك بثأره طارت فذهبت، قال الشاعر:
إنك إلا تذر شتمي ومنقصتي ... أضربك حتى تقول الهامة اسقوني
وقد أورد ابن هشام هذه الأبيات في "السيرة" بزيادة خمسة أبيات، ووقع عند الإسماعيلي من طريق أخرى عن ابن وهب، وعن عنبسة بن خالد أيضا، كلاهما عن يونس بالإسناد المذكور" أن عائشة كانت تدعو على من يقول إن أبا بكر قال القصيدة المذكورة" فذكر الحديث والشعر مطولا، وعند الترمذي الحكيم من طريق الزبيدي عن الزهري مثله وزاد: "قالت عائشة فنحلها الناس أبا بكر الصديق من أجل امرأته أم بكر التي طلق، وإنما قائلها أبو بكر بن شعوب".
قلت: وابن شعوب المذكور هو الذي يقول فيه أبو سفيان:
ولو شئت نجتني كميت طمرة ... ولم أحمل النعماء لابن شعوب
وكان حنظلة بن أبي عامر حمل يوم أحد على أبي سفيان فكاد أن يقتله، فحمل ابن شعوب على حنظلة من ورائه فقتله، فنجا أبو سفيان، فقال في ذلك أبياتا منها هذا البيت. حديث أنس، تقدم شرحه في مناقب أبي بكر، ومعنى قوله: "الله ثالثهما" أي معاونهما وناصرهما، وإلا فهو مع كل اثنين بعلمه كما قال: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ} الآية. حديث أبي سعيد" جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله عن الهجرة" الحديث، أورده من طريقين موصول ومعلق، والموصول أخرجه في كتاب الزكاة، والمعلق أخرجه في كتاب الهبة بالإسنادين المذكورين هنا، ومر شرحه في كتاب الزكاة. والأعرابي ما عرفت اسمه، والهجرة المسئول عنها مفارقة دار الكفر إذ ذاك والتزام أحكام المهاجرين مع النبي صلى الله عليه وسلم، وكأن ذلك وقع بعد فتح مكة لأنها كانت إذ ذاك فرض عين ثم نسخ ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا هجرة بعد الفتح" وقوله: "اعمل من وراء البحار" مبالغة في إعلامه بأن عمله لا يضيع في أي موضع كان، وقوله: "لن يترك" بفتح التحتانية وكسر المثناة ثم راء وكاف، أي ينقصك.

(7/259)


46 - باب مَقْدَمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ الْمَدِينَةَ
3924- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَنْبَأَنَا أَبُو إِسْحَاقَ سَمِعَ الْبَرَاءَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "أَوَّلُ مَنْ قَدِمَ عَلَيْنَا مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ ثُمَّ قَدِمَ عَلَيْنَا عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ وَبِلاَلٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ"
3925- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ سَمِعْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ

(7/259)


رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ "أَوَّلُ مَنْ قَدِمَ عَلَيْنَا مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ وَكَانَا يُقْرِئَانِ النَّاسَ فَقَدِمَ بِلاَلٌ وَسَعْدٌ وَعَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ ثُمَّ قَدِمَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي عِشْرِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا رَأَيْتُ أَهْلَ الْمَدِينَةِ فَرِحُوا بِشَيْءٍ فَرَحَهُمْ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى جَعَلَ الإِمَاءُ يَقُلْنَ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا قَدِمَ حَتَّى قَرَأْتُ {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} فِي سُوَرٍ مِنْ الْمُفَصَّلِ"
قوله: "باب مقدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة" تقدم بيان الاختلاف فيه في آخر شرح حديث عائشة الطويل في شأن الهجرة، ثم أخرج من طريق معتمر بن سليمان عن أبيه قال: "قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعليهما ثياب بيض شامية، فمر على عبد الله بن أبي فوقف عليه ليدعوه إلى النزول عنده، فنظر إليه فقال: انظر أصحابك الذين دعوك فانزل عليهم، فنزل على سعد بن خيثمة. قال الحاكم: الأول أرجح، وابن شهاب أعرف بذلك من غيره. قلت: ويقوي قول ابن شهاب ما أخرجه أبو سعيد في "شرف المصطفى" من طريق الحاكم من طريق ابن مجمع" لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم على كلثوم بن الهدم هو وأبو بكر وعامر بن فهيرة قال كلثوم: يا نجيح - لمولى له - فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أنجحت". وذكر محمد بن الحسن بن زبالة في "أخبار المدينة" أنه نزل على كلثوم وهو يومئذ مشرك، ويؤيد قول التيمي ما أخرجه أبو سعيد أيضا ومن طريق أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم" قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم قباء يوم الاثنين فنزل على سعد بن خيثمة" وجمع بين الخبرين بأنه نزل على كلثوم وكان يجلس مع أصحابه عند سعد بن خيثمة لأنه كان أعزب، وإن ثبت قول ابن زبالة فكأن منزل كلثوم يختص بالمبيت وسائر إقامته عند سعد لكونه كان أسلم. قوله: "أبو إسحاق سمع البراء" حذف قوله: "إنه" كما حذف" قال: من الطريق الثاني" عن أبي إسحاق سمعت البراء" وكان شعبة يرى أن أنبأنا وأخبرنا وحدثنا واحد، وقد تقدم البحث فيه في كتاب العلم. قوله: "أول من قدم علينا مصعب" في رواية عن شعبة عند الحاكم في"الإكليل" عن عبد الله بن رجاء في روايته: "من المهاجرين" قوله: "مصعب بن عمير" زاد ابن أبي شيبة: "أول من قدم علينا المدينة" زاد في رواية عبد الله بن رجاء عن إسرائيل عن أبي إسحاق عند الإسماعيلي: "أخو بني عبد الدار بن قصي والده عمير" هو ابن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار، زاد عبد الله بن رجاء" فقلنا له ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: هو مكانه وأصحابه على أثري" وذكر موسى بن عقبة أنه لما قدم المدينة نزل على حبيب بن عدي، وذكر ابن إسحاق أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل مصعبا مع أهل العقبة يعلمهم. قوله: "وابن أم مكتوم" هو عمرو - ويقال عبد الله - العامري من بني عامر بن لؤي، ووقع في رواية ابن أبي شيبة: "ثم أتانا بعده عمرو ابن أم مكتوم الأعمى أخو بني فهر، فقلنا: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه؟ قال. هم على أثري" وفي رواية عبد الله بن رجاء "من وراءك" زاد في رواية غندر عن شعبة "ثم عامر بن ربيعة ومعه امرأته ليلى بنت أبي حثمة" وهي أول مهاجرة، وقيل: بل أول مهاجرة أم سلمة لقولها لما مات أبو سلمة" أول بيت هاجر" ويجمع بأن أولية أم سلمة بقيد البيت وهو ظاهر من إطلاقها. قوله: "ثم قدم علينا عمار بن ياسر وبلال" في رواية غندر "فقدم" وقد تقدم الاختلاف في عمار هل هاجر إلى الحبشة أم لا، فإن يكن فقد كان ممن تقدمهما إلى مكة، ثم هاجر

(7/260)


إلى المدينة. وأما بلال فكان لا يفارق النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر. لكن تقدمهما بإذن وتأخر معهما عامر بن فهيرة. قوله في الرواية الثانية عن غندر عن شعبة "وكانوا يقرئون الناس" في رواية الأصيلي وكريمة: "فكانا يقرئان الناس" وهو أوجه، ويوجه الأول إما على أن أقل الجمع اثنان، وإما على أن من كان يقرئانه كان يقرأ معهما أيضا. قوله: "وسعد" زاد في رواية الحاكم "ابن مالك" وهو ابن أبي وقاص، وروى الحاكم من طريق موسى بن عقبة عن ابن شهاب قال: "وزعموا أن من آخر من قدم سعد بن أبي وقاص في عشرة فنزلوا على سعد بن خيثمة" وقد تقدم في أول الهجرة" أن أول من قدم المدينة من المهاجرين عامر بن ربيعة ومعه امرأته أم عبد الله بنت أبي حثمة، وأبو سلمة بن عبد الأسد وامرأته أم سلمة، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وشماس بن عثمان بن الشريد، وعبد الله بن جحش، فيجمع بينه وبين حديث البراء بحمل الأولية في أحدهما على صفة خاصة، فقد جزم ابن عقبة بأن أول من قدم المدينة من المهاجرين مطلقا أبو سلمة بن عبد الأسد، وكان رجع من الحبشة إلى مكة فأوذي بمكة فبلغه ما وقع للاثني عشر من الأنصار في العقبة الأولى فتوجه إلى المدينة في أثناء السنة، فيجمع بين ذلك وبين ما وقع هنا بأن أبا سلمة خرج لا لقصد الإقامة بالمدينة بل فرارا من المشركين، بخلاف مصعب بن عمير فإنه خرج إليها للإقامة بها، وتعليم من أسلم من أهلها بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، فلكل أولية من جهة. قوله في الرواية الثانية "ثم قدم عمر بن الخطاب في عشرين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم" في رواية عبد الله بن رجاء" في عشرين راكبا" وقد سمي ابن إسحاق منهم زيد بن الخطاب وسعيد بن زيد بن عمرو وعمرو بن سراقة وأخاه عبد الله وواقد بن عبد الله وخالدا وإياسا وعامرا وعاقلا بني البكير وخنيس بن حذافة - بمعجمة ونون ثم سين مصغر - وعياش بن ربيعة وحولي بن أبي خولي وأخاه، هؤلاء كلهم من أقارب عمر وخلفائهم، قالوا: فنزلوا جميعا على رفاعة بن عبد المنذر، يعني بقباء. قلت: فلعل بقية العشرين كانوا من أتباعهم. وروى ابن عائذ في المغازي بإسناد له عن ابن عباس قال: خرج عمر والزبير وطلحة وعثمان وعياش بن ربيعة في طائفة، فتوجه عثمان وطلحة إلى الشام ا هـ. فهؤلاء ثلاثة عشر من ذكر ابن إسحاق، وذكر موسى بن عقبة أن أكثر المهاجرين نزلوا على بني عمرو بن عوف بقباء إلا عبد الرحمن بن عوف فإنه نزل على سعد بن الربيع وهو خزرجي وسيأتي في كتاب الأحكام أن سالم مولى أبي حذيفة بن عتبة كان يؤم المهاجرين الأولين في مسجد قباء، منهم أبو سلمة بن عبد الأسد. قوله: "حتى جعل الإماء يقلن: قدم رسول الله" في رواية عبد الله بن رجاء "فخرج الناس حين قدم المدينة في الطرق وعلى البيوت، والغلمان والخدم1 جاء محمد رسول الله، الله أكبر، جاء محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم".
وأخرج الحاكم من طريق إسحاق بن أبي طلحة عن أنس" فخرجت جوار من بني النجار يضربن بالدف وهن يقلن:
نحن جوار من بني النجار ... يا حبذا محمد من جار
وأخرج أبو سعيد في "شرف المصطفى" ورويناه في "فوائد الخلعي" من طريق عبيد الله ابن عائشة منقطعا: لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة جعل الولائد يقلن:
طلع البدر علينا ... من ثنية الوداع
وجب الشكر علينا ... ما دعا لله داع
ـــــــ
1 لعله سقط من قلم الناسخ "وهم يقولون" أونحو ذلك

(7/261)


وهو سند معضل، ولعل ذلك كان في قدومه من غزوة تبوك. قوله: "فما قدم حتى حفظت سبح اسم ربك الأعلى في سور من المفصل" أي مع سور. وفي رواية الحسن بن سفيان عن بندار شيخ البخاري فيه: "وسورا من المفصل" ومقتضاه أن {سبح اسم ربك الأعلى} مكية، وفيه نظر لأن ابن أبي حاتم أخرج من طريق حيدة أن قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} نزلت في صلاة العيد وزكاة الفطر، وسنده حسن. وكل منهما شرع في السنة الثانية، فيمكن أن يكون نزول هاتين منها وقع بالمدينة. وأقوى منه أن يتقدم نزول السورة كلها بمكة. ثم بين النبي صلى الله عليه وسلم أن المراد بصلى صلاة العيد وبتزكى زكاة الفطر، فإن تأخير البيان عن وقت الخطاب جائز، والجواب عن الإشكال من وجهين: أحدهما: احتمال أن تكون السورة مكية إلا هاتين الآيتين، وثانيهما: - وهو أصحهما - فيه يجوز نزولها كلها بمكة. ثم بين النبي صلى الله عليه وسلم المراد بقوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} صلاة العيد وزكاة الفطر، فليس من الآية إلا الترغيب في الذكر والصلاة من غير بيان للمراد، فبينته السنة بعد ذلك.
3926- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ "لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ وُعِكَ أَبُو بَكْرٍ وَبِلاَلٌ قَالَتْ فَدَخَلْتُ عَلَيْهِمَا فَقُلْتُ يَا أَبَتِ كَيْفَ تَجِدُكَ وَيَا بِلاَلُ كَيْفَ تَجِدُكَ قَالَتْ فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ إِذَا أَخَذَتْهُ الْحُمَّى يَقُولُ:
كُلُّ امْرِئٍ مُصَبَّحٌ فِي أَهْلِهِ ... وَالْمَوْتُ أَدْنَى مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ
وَكَانَ بِلاَلٌ إِذَا أَقْلَعَ عَنْهُ الْحُمَّى يَرْفَعُ عَقِيرَتَهُ وَيَقُولُ:
أَلاَ لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً ... بِوَادٍ وَحَوْلِي إِذْخِرٌ وَجَلِيلُ
وَهَلْ أَرِدَنْ يَوْمًا مِيَاهَ مَجَنَّةٍ ... وَهَلْ يَبْدُوَنْ لِي شَامَةٌ وَطَفِيلُ
قَالَتْ عَائِشَةُ: فَجِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ وَصَحِّحْهَا وَبَارِكْ لَنَا فِي صَاعِهَا وَمُدِّهَا وَانْقُلْ حُمَّاهَا فَاجْعَلْهَا بِالْجُحْفَةِ"
الحديث الثاني حديث عائشة قوله: "قدمنا المدينة" في رواية أبي أسامة عن هشام "وهي أوبأ أرض الله" وفي رواية محمد بن إسحاق عن هشام بن عروة نحوه وزاد: "قال هشام وكان وباؤها معروفا في الجاهلية، وكان الإنسان إذا دخلها وأراد أن يسلم من وبائها قيل له انهق، فينهق كما ينهق الحمار، وفي ذلك يقول الشاعر:
لعمري لئن غنيت خيفة الردى ... نهيق حمار إنني لمروع
قوله: "وعك" بضم أوله وكسر ثانيه أي أصابه الوعك وهي الحمى. قوله: "كيف تجدك" أي تجد نفسك أو جسدك، وقوله: "مصبح" بمهملة ثم موحدة وزن محمد، أي مصاب بالموت صباحا، وقيل: المراد أنه يقال له وهو مقيم بأهله صبحك الله بالخير، وقد يفجأه الموت في بقية النهار وهو مقيم بأهله. قوله: "أدنى" أي أقرب. قوله: "شراك" بكسر المعجمة وتخفيف الراء: السير الذي يكون في وجه النعل، والمعنى أن الموت أقرب إلى الشخص من

(7/262)


شراك نعله لرجله. قوله: "أقلع عنه" بفتح أوله أي الوعك وبضمها، والإقلاع الكف عن الأمر. قوله: "يرفع عقيرته" أي صوته ببكاء أو بغناء، قال الأصمعي: أصله أن رجلا انعقرت رجله فرفعها على الأخرى وجعل يصيح فصار كل من رفع صوته يقال: رفع عقيرته، وإن لم يرفع رجله. قال ثعلب: وهذا من الأسماء التي استعملت على غير أصلها. قوله: "بواد" أي بوادي مكة. قوله: "وجليل" بالجيم نبت ضعيف يحشى به خصاص البيوت وغيرها. قوله: "مياه مجنة" بالجيم موضع على أميال من مكة وكان به سوق، تقدم بيانه في أوائل الحج. وقوله: "يبدون" أي يظهر، وشامة وطفيل جبلان بقرب مكة. وقال الخطابي: كنت أحسب أنهما جبلان حتى ثبت عندي أنهما عينان، وقوله: "أردن ويبدون" بنون التأكيد الخفيفة، وشامة بالمعجمة والميم مخففا، وزعم بعضهم أن الصواب بالموحدة بدل الميم والمعروف بالميم، وزاد المصنف آخر كتاب الحج من طريق أبي أسامة - عن هشام به "ثم يقول بلال: اللهم العن عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأمية بن خلف كما أخرجونا إلى أرض الوباء، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم حبب إلينا المدينة" الحديث. وقوله: "كما أخرجونا" أي أخرجهم من رحمتك كما أخرجونا من وطننا، وزاد ابن إسحاق في روايته عن هشام وعمرو بن عبد الله بن عروة جميعا عن عروة عن عائشة عقب قول أبيها" فقلت والله ما يدري أبي ما يقول". قالت: "ثم دنوت إلى عامر بن فهيرة - وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب - فقلت: كيف تجدك يا عامر؟ فقال:
لقد وجدت الموت قبل ذوقه ... إن الجبان حتفه من فوقه
كل امرئ مجاهد بطوقه ... كالثور يحمي جسمه بروقه
وقالت في آخره: "فقلت: يا رسول الله إنهم ليهذون وما يعقلون من شدة الحمى". والزيادة في قول عامر بن فهيرة رواها مالك أيضا في "الموطأ" عن يحيى بن سعيد عن عائشة منقطعا، وسيأتي بقية ما يتعلق بهذا الحديث في كتاب الدعوات إن شاء الله تعالى، وقد تقدم في الباب الذي قبله من حديث البراء أن عائشة أيضا وعكت، وكان أبو بكر يدخل عليها، وكان وصول عائشة إلى المدينة مع آل أبي مكر، هاجر بهم أخوها عبد الله، وخرج زيد بن حارثة وأبو رافع ببنتي النبي فاطمة وأم كلثوم وأسامة بن زيد وأمه أم أيمن وسودة بنت زمعة، وكانت رقية بنت النبي صلى الله عليه وسلم له سبقت مع زوجها عثمان، وأخرجت زينب وهي الكبرى عند زوجها أبي العاص بن الربيع.
3927- حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا هِشَامٌ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ حَدَّثَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ أَخْبَرَهُ دَخَلْتُ عَلَى عُثْمَانَ وَقَالَ بِشْرُ بْنُ شُعَيْبٍ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ الزُّهْرِيِّ حَدَّثَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَدِيِّ بْنِ خِيَارٍ أَخْبَرَهُ قَالَ دَخَلْتُ عَلَى عُثْمَانَ فَتَشَهَّدَ ثُمَّ قَالَ "أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَقِّ وَكُنْتُ مِمَّنْ اسْتَجَابَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَآمَنَ بِمَا بُعِثَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ هَاجَرْتُ هِجْرَتَيْنِ وَنِلْتُ صِهْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَايَعْتُهُ فَوَاللَّهِ مَا عَصَيْتُهُ وَلاَ غَشَشْتُهُ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ"
تَابَعَهُ إِسْحَاقُ الْكَلْبِيُّ "حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ" مِثْلَهُ

(7/263)


3928- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ حَدَّثَنَا مَالِكٌ وَأَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ وَهُوَ بِمِنًى فِي آخِرِ حَجَّةٍ حَجَّهَا عُمَرُ فَوَجَدَنِي فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فَقُلْتُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ الْمَوْسِمَ يَجْمَعُ رَعَاعَ النَّاسِ وَغَوْغَاءَهُمْ وَإِنِّي أَرَى أَنْ تُمْهِلَ حَتَّى تَقْدَمَ الْمَدِينَةَ فَإِنَّهَا دَارُ الْهِجْرَةِ وَالسُّنَّةِ وَالسَّلاَمَةِ وَتَخْلُصَ لِأَهْلِ الْفِقْهِ وَأَشْرَافِ النَّاسِ وَذَوِي رَأْيِهِمْ قَالَ عُمَرُ لاَقُومَنَّ فِي أَوَّلِ مَقَامٍ أَقُومُهُ بِالْمَدِينَةِ".
3929- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ أُمَّ الْعَلاَءِ امْرَأَةً مِنْ نِسَائِهِمْ بَايَعَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ طَارَ لَهُمْ فِي السُّكْنَى حِينَ اقْتَرَعَتْ الأَنْصَارُ عَلَى سُكْنَى الْمُهَاجِرِينَ قَالَتْ أُمُّ الْعَلاَءِ فَاشْتَكَى عُثْمَانُ عِنْدَنَا فَمَرَّضْتُهُ حَتَّى تُوُفِّيَ وَجَعَلْنَاهُ فِي أَثْوَابِهِ فَدَخَلَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ أَبَا السَّائِبِ شَهَادَتِي عَلَيْكَ لَقَدْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وَمَا يُدْرِيكِ أَنَّ اللَّهَ أَكْ رَمَهُ قَالَتْ قُلْتُ لاَ أَدْرِي بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَنْ قَالَ أَمَّا هُوَ فَقَدْ جَاءَهُ وَاللَّهِ الْيَقِينُ وَاللَّهِ إِنِّي لاَرْجُو لَهُ الْخَيْرَ وَمَا أَدْرِي وَاللَّهِ وَأَنَا رَسُولُ اللَّه مَا يُفْعَلُ بِي قَالَتْ فَوَاللَّهِ لاَ أُزَكِّي أَحَدًا بَعْدَهُ قَالَتْ فَأَحْزَنَنِي ذَلِكَ فَنِمْتُ فَرِيتُ لِعُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ عَيْنًا تَجْرِي فَجِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ ذَلِكِ عَمَلُهُ"
3630- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ "كَانَ يَوْمُ بُعَاثٍ يَوْمًا قَدَّمَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ وَقَدْ افْتَرَقَ مَلَؤُهُمْ وَقُتِلَتْ سَرَاتُهُمْ فِي دُخُولِهِمْ فِي الإِسْلاَمِ"
3931- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ "أَنَّ أَبَا بَكْرٍ دَخَلَ عَلَيْهَا وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَهَا يَوْمَ فِطْرٍ أَوْ أَضْحًى وَعِنْدَهَا قَيْنَتَانِ تُغَنِّيَانِ بِمَا تَقَاذَفَتْ الأَنْصَارُ يَوْمَ بُعَاثٍ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ مِزْمَارُ الشَّيْطَانِ مَرَّتَيْنِ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "دَعْهُمَا يَا أَبَا بَكْرٍ إِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا وَإِنَّ عِيدَنَا هَذَا الْيَوْمُ"
الحديث الثاني قوله: "حدثنا هشام" هو ابن يوسف الصنعاني، ذكر حديث عثمان في شأن الوليد بن عقبة، وقد تقدم شرحه في مناقب عثمان مستوفى، والغرض منه قوله: "وهاجرت الهجرتين" وكان عثمان ممن رجع من الحبشة فهاجر من مكة إلى المدينة ومنه زوجته رقية بنت النبي صلى الله عليه وسلم. "وقال بشر بن شعيب إلخ" وصله أحمد بن

(7/264)


حنبل في مسنده عنه بتمامه. قوله: "تابعه إسحاق الكلبي" وصله أبو بكر بن شاذان فيما رويناه من طريقه بإسناده إلى يحيى بن صالح عن إسحاق الكلبي عن الزهري فذكره بتمامه وفيه: "أنه جلد الوليد أربعين" وقد تقدم البحث في ذلك في مناقب عثمان. ذكر طرفا من قصة عبد الرحمن بن عوف مع عمر، وفيه خطبة عمر، الغرض منه قول عبد الرحمن" حتى تقدم المدينة فإنها دار الهجرة والسنة" ووقع في رواية الكشميهني: "والسلامة" بدل السنة. قوله: "أن أم العلاء" هي والدة خارجة بن زيد بن ثابت الراوي عنها، وقد روى سالم أبو النضر هذا الحديث عن خارجة بن زيد عن أمه نحوه ولم يسم هذه، فكأن اسمها كنيتها، وهي بنت الحارث بن ثابت بن خارجة الأنصارية الخزرجية. قوله: "طار لهم" أي خرج في القرعة لهم، وتقدم بيانه آخر الشهادات. قوله: "حين قرعت" بالقاف، كذا وقع ثلاثيا، والمعروف" أقرعت" من الرباعي وتقدم في الجنائز بلفظ: "اقترعت". قوله: "أبا السائب" هي كنية عثمان بن مظعون المذكور، وكان عثمان من فضلاء الصحابة السابقين، وقد تقدم خبره مع لبيد في أول المبعث. قوله: "كان يوم بعاث" تقدم بيانه في مناقب الأنصار، ووقع عند ابن سعد في قصة العقبة الأولى ما يدل على أن يوم بعاث كان بعد المبعث بعشر سنين، وتقدم نحوه في "باب وفود الأنصار" وقوله: "في دخولهم" متعلق بقوله: "قدمه الله". قوله: "بما تعازفت" بالمهملة والزاي أي قالته من الأشعار في هجاء بعضهم بعضا وألقته على المغنيات فغنين به، والمعازف آلات الملاهي الواحدة معزفة. وقال الخطابي: يحتمل أن يكون من عزف اللهو وهو ضرب المعازف على تلك الأشعار المحرضة على القتال، ويحتمل أن يكون المراد بالعزف أصوات الحرب شبهها بعزيف الرياح وهو ما يسمع من دويها. وفي رواية: "تقاذقت" بالقاف والذال المعجمة أي ترامت به.
3932- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ ح و حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ قَالَ سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ حَدَّثَنَا أَبُو التَّيَّاحِ يَزِيدُ بْنُ حُمَيْدٍ الضُّبَعِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ نَزَلَ فِي عُلْوِ الْمَدِينَةِ فِي حَيٍّ يُقَالُ لَهُمْ بَنُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ قَالَ فَأَقَامَ فِيهِمْ أَرْبَعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى مَلاَ بَنِي النَّجَّارِ قَالَ فَجَاءُوا مُتَقَلِّدِي سُيُوفِهِمْ قَالَ وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَاحِلَتِهِ وَأَبُو بَكْرٍ رِدْفَهُ وَمَلاَ بَنِي النَّجَّارِ حَوْلَهُ حَتَّى أَلْقَى بِفِنَاءِ أَبِي أَيُّوبَ قَالَ فَكَانَ يُصَلِّي حَيْثُ أَدْرَكَتْهُ الصَّلاَةُ وَيُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ قَالَ ثُمَّ إِنَّهُ أَمَرَ بِبِنَاءِ الْمَسْجِدِ فَأَرْسَلَ إِلَى مَلاَ بَنِي النَّجَّارِ فَجَاءُوا فَقَالَ يَا بَنِي النَّجَّارِ ثَامِنُونِي حَائِطَكُمْ هَذَا فَقَالُوا لاَ وَاللَّهِ لاَ نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إِلاَّ إِلَى اللَّهِ قَالَ فَكَانَ فِيهِ مَا أَقُولُ لَكُمْ كَانَتْ فِيهِ قُبُورُ الْمُشْرِكِينَ وَكَانَتْ فِيهِ خِرَبٌ وَكَانَ فِيهِ نَخْلٌ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقُبُورِ الْمُشْرِكِينَ فَنُبِشَتْ وَبِالْخِرَبِ فَسُوِّيَتْ وَبِالنَّخْلِ فَقُطِعَ قَالَ فَصَفُّوا النَّخْلَ قِبْلَةَ الْمَسْجِدِ قَالَ وَجَعَلُوا عِضَادَتَيْهِ حِجَارَةً قَالَ قَالَ جَعَلُوا يَنْقُلُونَ ذَاكَ الصَّخْرَ وَهُمْ يَرْتَجِزُونَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُمْ يَقُولُونَ:
اللَّهُمَّ إِنَّهُ لاَ خَيْرَ إِلاَّ خَيْرُ الْآخِرَهْ ... فَانْصُرْ الأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَهْ"

(7/265)


الحديث الثامن قوله: "أنبأنا عبد الصمد" هو ابن عبد الوارث بن سعيد. قوله: "في علو المدينة" كل ما في جهة نجد يسمى العالية، وما في جهة تهامة يسمى السافلة، وقباء من عوالي المدينة، وأخذ من نزول النبي صلى الله عليه وسلم التفاؤل له ولدينه بالعلو. قوله: "يقال لهم بنو عمرو بن عوف" أي ابن مالك بن الأسود بن حارثة. قوله: "وأبو بكر ردفه" تقدم ما فيه في الباب الذي قبله في الحديث الثامن عشر. قوله: "وملأ بني النجار" أي جماعتهم. قوله: "حتى ألقى" أي نزل أو المراد ألقى رحله. قوله: "بفناء" بكسر الفاء وبالمد ما امتد من جوانب الدار. قوله: "أبي أيوب" هو خالد بن زيد بن كليب الأنصاري من بني مالك بن النجار. قوله: "ثم إنه أمر" تقدم ضبطه في أوائل الصلاة. قوله: "ثامنوني" أي قرروا معي ثمنه، أو ساوموني بثمنه، تقول ثامنت الرجل في كذا إذا ساومته. قوله: "بحائطكم" أي بستانكم وقد تقدم في الباب قبله أنه كان مربدا، فلعله كان أولا حائطا ثم خرب فصار مربدا، ويؤيده قوله: "إنه كان فيه نخل وخرب" وقيل: كان بعضه بستانا وبعضه مربدا، وقد تقدم في الباب الذي قبله تسمية صاحبي المكان المذكور، ووقع عند موسى بن عقبة عن الزهري أنه اشتراه منهما بعشرة، دنانير، وزاد الواقدي أن أبا بكر دفعها لهما عنه. قوله: "فكان فيه" فسره بعد ذلك. قوله: "خرب" بكسر المعجمة وفتح الراء والموحدة، وتقدم توجيه آخر في أوائل الصلاة بفتح أوله وكسر ثانيه، قال الخطابي: أكثر الرواة بالفتح ثم الكسر، وحدثناه الخيام بالكسر ثم الفتح، ثم حكى احتمالات: منها الخرب بضم أوله وسكون ثانيه قال: هي الخروق المستديرة في الأرض، والجرف بكسر الجيم وفتح الراء بعدها فاء ما تجرفه السيول وتأكله من الأرض، والحدب بالمهملة وبالدال المهملة أيضا المرتفع من الأرض، قال وهذا لائق بقوله: "فسويت" لأنه إنما يسوى المكان المحدوب، وكذا للذي جرفته السيول، وأما الخراب فيبني ويعمر دون أن يصلح ويسوى. قلت: وما المانع من تسوية الخراب بأن يزال ما بقي منه ويسوى أرضه، ولا ينبغي الالتفات إلى هذه الاحتمالات مع توجيه الرواية الصحيحة. قوله: "فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبور المشركين فنبشت" قال ابن بطال: لم أجد في نبش قبور المشركين لتتخذ مسجدا نصا عن أحد من العلماء، نعم اختلفوا هل تنبش بطلب المال؟ فأجازه الجمهور ومنعه الأوزاعي، وهذا الحديث حجة للجواز، لأن المشرك لا حرمة له حيا لا ميتا، وقد تقدم في المساجد البحث فيما يتعلق بها. قوله: "وبالنخل فقطع" هو محمول على أنه لم يكن يثمر. ويحتمل أن يثمر لكن دعت الحاجة إليه لذلك، وقوله: "فصفوا النخل" أي موضع النخل، وقوله: "عضادتيه" بكسر المهملة وتخفيف المعجمة تثنية عضادة، وهي الخشبة التي على كتف الباب، ولكل باب عضادتان، وأعضاد كل شيء ما يشد جوانبه. قوله: "يرتجزون" أي يقولون رجزا، وهو ضرب من الشعر على الصحيح. قوله: "فانصر الأنصار والمهاجرة" كذا رواه أبو داود بهذا اللفظ، وسبق ما فيه في أبواب المساجد، واحتج من أجاز بيع غير المالك بهذه القصة لأن المساومة وقعت من غير الغلامين، وأجيب باحتمال أنهما كانا من بني النجار فساومهما وأشرك معهما في المساومة عمهما الذي كانا في حجره كما تقدم في الحديث الثاني عشر.

(7/266)


47 - باب إِقَامَةِ الْمُهَاجِرِ بِمَكَّةَ بَعْدَ قَضَاءِ نُسُكِهِ
3933- حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ حَدَّثَنَا حَاتِمٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حُمَيْدٍ الزُّهْرِيِّ قَالَ سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَسْأَلُ السَّائِبَ ابْنَ أُخْتِ الْنَّمِرِ مَا سَمِعْتَ فِي سُكْنَى مَكَّةَ قَالَ سَمِعْتُ الْعَلاَءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ قَالَ: قال

(7/266)


رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثَلاَثٌ لِلْمُهَاجِرِ بَعْدَ الصَّدَرِ"
قوله: "باب إقامة المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه" أي من حج أو عمرة. قوله: "حدثنا حاتم" هو ابن إسماعيل المدني. قوله: "سمعت عمر بن عبد العزيز يسأل السائب" أي ابن يزيد. قوله: "ابن أخت النمر" تقدم ذكره قريبا في المناقب النبوية. قوله: "العلاء بن الحضرمي" اسمه عبد الله بن عماد، وكان حليف بني أمية، وكان العلاء صحابيا جليلا، ولاه النبي صلى الله عليه وسلم البحرين، وكان مجاب الدعوة، ومات في خلافة عمر، وما له في البخاري إلا هذا الحديث. قوله: "ثلاث للمهاجر بعد الصدر" بفتح المهملتين أي بعد الرجوع من مني، وفقه هذا الحديث أن الإقامة بمكة كانت حراما على من هاجر منها قبل الفتح، لكن أبيح لمن قصدها منهم بحج أو عمرة أن يقيم بعد قضاء نسكه ثلاثة أيام لا يزيد عليها، وبهذا رثى النبي صلى الله عليه وسلم لسعد بن خولة أن مات بمكة، ويستنبط من ذلك أن إقامة ثلاثة أيام لا تخرج صاحبها عن حكم المسافر، وفي كلام الداودي اختصاص ذلك بالمهاجرين الأولين، ولا معنى لتقييده بالأولين، قال النووي معنى هذا الحديث أن الذين هاجروا يحرم عليهم استيطان مكة، وحكى عياض أنه قول الجمهور، قال: وأجازه لهم جماعة يعني بعد الفتح، فحملوا هذا القول على الزمن الذي كانت الهجرة المذكورة واجبة فيه، قال: واتفق الجميع على أن الهجرة قبل الفتح كانت واجبة عليهم، وأن سكنى المدينة كان واجبا لنصرة النبي صلى الله عليه وسلم ومواساته بالنفس، وأما غير المهاجرين فيجوز له سكنى أي بلد أراد سواء مكة وغيرها بالاتفاق، انتهى كلام القاضي، ويستثنى من ذلك من أذن له النبي صلى الله عليه وسلم بالإقامة في غير المدينة، واستدل بهذا الحديث على أن طواف الوداع عبادة مستقلة ليست من مناسك الحج، وهو أصح الوجهين في المذهب، لقوله في هذا الحديث: "بعد قضاء نسكه" لأن طواف الوداع لا إقامة بعده، ومتى أقام بعده خرج عن كونه طواف الوداع، وقد سماه قبله قاضيا لمناسكه فخرج طواف الوداع عن أن يكون من مناسك الحج والله أعلم. وقال القرطبي: المراد بهذا الحديث من هاجر من مكة إلى المدينة لنصر النبي صلى الله عليه وسلم ولا يعني به من هاجر من غيرها لأنه خرج جوابا عن سؤالهم لما تحرجوا من الإقامة بمكة إذ كانوا قد تركوها لله تعالى، فأجابهم بذلك، وأعلمهم أن إقامة الثلاث ليس بإقامة، قال: والخلاف الذي أشار إليه عياض كان فيمن مضى، وهل ينبني عليه خلاف فيمن فر بدينه من موضع يخاف أن يفتن فيه في دينه فهل له أن يرجع إليه بعد انقضاء تلك الفتنة؟ يمكن أن يقال إن كان تركها لله كما فعله المهاجرون فليس له أن يرجع لشيء من ذلك، وإن كان تركها فرارا بدينه ليسلم له ولم يقصد إلى تركها لذاتها فله الرجوع إلى ذلك انتهى. وهو حسن متجه، إلا أنه خص ذلك بمن ترك رباعا أو دورا، ولا حاجة إلى تخصيص المسألة بذلك، والله أعلم.

(7/267)


باب التاريخ "من أين أرخو التاريخ"
...
48 - باب التَّارِيخِ مِنْ أَيْنَ أَرَّخُوا التَّارِيخَ؟
3934- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ "مَا عَدُّوا مِنْ مَبْعَثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلاَ مِنْ وَفَاتِهِ مَا عَدُّوا إِلاَّ مِنْ مَقْدَمِهِ الْمَدِينَةَ"
3935- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ "فُرِضَتْ الصَّلاَةُ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ هَاجَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَفُرِضَتْ أَرْبَعًا وَتُرِكَتْ صَلاَةُ السَّفَرِ

(7/267)


عَلَى الأُولَى" تَابَعَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ
قوله: "باب التاريخ" قال الجوهري: التاريخ تعريف الوقت، والتوريخ مثله، تقول أرخت وورخت. وقيل اشتقاقه من الأرخ وهو الأنثى من بقر الوحش، كأنه شيء حدث كما يحدث الولد، وقيل هو معرب، ويقال أول ما أحدث التاريخ من الطوفان. قوله: "من أين أرخوا التاريخ" كأنه يشير إلى اختلاف في ذلك، وقد روى الحاكم في "الإكليل" من طريق ابن جريح عن أبي سلمة عن ابن شهاب الزهري "أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة أمر بالتاريخ فكتب في ربيع الأول" وهذا معضل، والمشهور خلافة كما سيأتي، وأن ذلك كان في خلافة عمر. وأفاد السهيلي أن الصحابة أخذوا التاريخ بالهجرة من قوله تعالى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} لأنه من المعلوم أنه ليس أول الأيام مطلقا، فتعين أنه أضيف إلى شيء مضمر وهو أول الزمن الذي عز فيه الإسلام، وعبد فيه النبي صلى الله عليه وسلم ربه آمنا، وابتدأ بناء المسجد، فوافق رأي الصحابة ابتداء التاريخ من ذلك اليوم، وفهمنا من فعلهم أن قوله تعالى: {مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} أنه أول أيام التاريخ الإسلامي، كذا قال، والمتبادر أن معني قوله: {مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} أي دخل فيه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة والله أعلم. قوله: "حدثنا عبد العزيز" أي ابن أبي حازم سلمة بن دينار. قوله: "ما عدوا من مبعث النبي صلى الله عليه وسلم" في رواية الحاكم من طريق الزبيري عن عبد العزيز أخطأ الناس العدد، ولم يعدوا من مبعثه ولا من قدومه المدينة، وإنما عدوا من وفاته. قال الحاكم: وهو وهم، ثم ساقه على الصواب بلفظ: ولا من وفاته، إنما عدوا من مقدمه المدينة. والمراد بقوله أخطأ الناس العدد أي أغفلوه وتركوه ثم استدركوه، ولم يرد أن الصواب خلاف ما عملوا. ويحتمل أن يريده وكان يرى أن البداءة من المبعث أو الوفاة أولى، وله اتجاه لكن الراجح خلافه. والله أعلم. قوله: "مقدمه" أي زمن قدومه، ولم يرد شهر قدومه لأن التاريخ إنما وقع من أول السنة. وقد أبدى بعضهم للبداءة بالهجرة مناسبة فقال: كانت القضايا التي اتفقت له ويمكن أن يؤرخ بها أربعة: مولده ومبعثه وهجرته ووفاته، فرجح عندهم جعلها من الهجرة لأن المولد والمبعث لا يخلو واحد منهما من النزاع في تعيين السنة، وأما وقت الوفاة فأعرضوا عنه لما توقع بذكره من الأسف عليه، فانحصر في الهجرة، وإنما أخروه من ربيع الأول إلى المحرم لأن ابتداء العزم على الهجرة كان في المحرم، إذ البيعة وقعت في أثناء ذي الحجة وهي مقدمة الهجرة، فكان أول هلال استهل بعد البيعة والعزم على الهجرة هلال المحرم فناسب أن يجعل مبتدأ، وهذا أقوى ما وفقت عليه من مناسبة الابتداء بالمحرم. وذكروا في سبب عمل عمر التاريخ أشياء: منها ما أخرجه أبو نعيم الفضل بن دكين في تاريخه ومن طريقه الحاكم من طريق الشعبي" أن أبا موسى كتب إلى عمر: إنه يأتينا منك كتب ليس لها تاريخ، فجمع عمر الناس، فقال بعضهم: أرخ بالمبعث، وبعضهم أرخ بالهجرة، فقال عمر: الهجرة فرقت بين الحق والباطل فأرخوا بها، وذلك سنة سبع عشرة. فلما اتفقوا قال بعضهم ابدءوا برمضان فقال عمر: بل بالمحرم فإنه منصرف الناس من حجهم، فاتفقوا عليه" وقيل أول من أرخ التاريخ يعلى بن أمية حيث كان باليمن أخرجه أحمد بن حنبل بإسناد صحيح، لكن فيه انقطاع بين عمرو بن دينار ويعلي، وروى أحمد وأبو عروبة في "الأوائل" والبخاري في "الأدب" والحاكم من طريق ميمون بن مهران قال رفع لعمر صك محله شعبان فقال: أي شعبان؛ الماضي أو الذي نحن فيه، أو الآتي؟ ضعوا للناس شيئا يعرفونه فذكر نحو الأول. وروى الحاكم عن سعيد بن المسيب قال: "جمع عمر الناس فسألهم عن أول يوم يكتب التاريخ،

(7/268)


فقال علي: من يوم هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك أرض الشرك، ففعله عمر" وروى ابن أبي خيمة من طريق ابن سيرين قال: "قدم رجل من اليمن فقال: رأيت باليمن شيئا يسمونه التاريخ يكتبونه من عام كذا وشهر كذا، فقال عمر: هذا حسن فأرخوا، فلما جمع على ذلك قال قوم: أرخوا للمولد. وقال قائل للمبعث. وقال قائل من حين خرج مهاجرا. وقال قائل من حين توفي، فقال عمر: أرخوا من خروجه من مكة إلى المدينة. ثم قال: بأي شهر نبدأ: فقال قوم: من رجب. وقال قائل: من رمضان، فقال عثمان: أرخوا المحرم فإنه شهر حرام وهو أول السنة ومنصرف الناس من الحج، قال وكان ذلك سنة سبع عشرة - وقيل: سنة ست عشرة - في ربيع الأول "فاستفدنا من جموع هذه الآثار أن الذي أشار بالمحرم عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم. قوله: "فرضت الصلاة ركعتين" أي بمكة وقوله: "تركت" أي على ما كانت عليه من عدم وجوب الزائد، بخلاف صلاة الحضر فإنها زيدت في ثلاث منها ركعتان، فالمعنى أقرت صلاة السفر على جواز الإتمام وإن كان الأحب القصر، وقد تقدم ما فيه من الإشكال في أول كتاب الصلاة. قوله: "تابعه عبد الرزاق عن معمر" وصله الإسماعيلي من طريق فياض بن زهير عن عبد الرزاق بلفظه، وذكر ابن جرير عن الواقدي أن الزيادة في صلاة الحضر كانت بعد قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة بشهر واحد، قال: وزعم أنه لا خلاف بين أهل الحجاز في ذلك.

(7/269)


49 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "اللَّهُمَّ أَمْضِ لِأَصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ" وَمَرْثِيَتِهِ لِمَنْ مَاتَ بِمَكَّةَ
3936- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ قَزَعَةَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ عَادَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ مِنْ مَرَضٍ أَشْفَيْتُ مِنْهُ عَلَى الْمَوْتِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ بَلَغَ بِي مِنْ الْوَجَعِ مَا تَرَى وَأَنَا ذُو مَالٍ وَلاَ يَرِثُنِي إِلاَّ ابْنَةٌ لِي وَاحِدَةٌ أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي قَالَ لاَ قَالَ فَأَتَصَدَّقُ بِشَطْرِهِ قَالَ ا لثُّلُثُ يَا سَعْدُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ ذُرِّيَّتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ وَلَسْتَ بِنَافِقٍ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلاَّ آجَرَكَ اللَّهُ بِهَا حَتَّى اللُّقْمَةَ تَجْعَلُهَا فِي فِي امْرَأَتِكَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أُخَلَّفُ بَعْدَ أَصْحَابِي قَالَ إِنَّكَ لَنْ تُخَلَّفَ فَتَعْمَلَ عَمَلًا تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلاَّ ازْدَدْتَ بِهِ دَرَجَةً وَرِفْعَةً وَلَعَلَّكَ تُخَلَّفُ حَتَّى يَنْتَفِعَ بِكَ أَقْوَامٌ وَيُضَرَّ بِكَ آخَرُونَ اللَّهُمَّ أَمْضِ لِأَصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ وَلاَ تَرُدَّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ لَكِنْ الْبَائِسُ سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ يَرْثِي لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُوُفِّيَ بِمَكَّةَ". وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ وَمُوسَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ "أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ"
قوله: "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم أمض لأصحابي هجرتهم ومرثيته لمن مات بمكة" بتخفيف التحتانية وهو عطف على قول. والمرثية تعديد محاسن الميت، والمراد هنا التوجع له لكونه مات في البلد التي هاجر منها، وقد تقدم بيان الحكمة في ذلك قبل بباب. قوله: "ورثتك" كذا للأكثر، وللكشميهني والقابسي "ذريتك" ورواية الجماعة أولى لأن هذه اللفظة قد بين البخاري أنها لغير يحيى بن قزعة شيخه هنا. قوله: "و لست بنافق" كذا هنا،

(7/269)


وللكشميهني: "بمنفق" وهو الصواب. قوله: "أن مات1 بمكة" هو بفتح الهمزة للتعليل، وأغرب الداودي فتردد فيه فقال: إن كان بالفتح ففيه دلالة على أنه أقام بمكة بعد الصدر من حجته ثم مات، وإن كان بالكسر ففيه دليل على أنه قيل له إنه يريد التخلف بعد الصدر فخشي عليه أن يدركه أجله بمكة. قلت: والمضبوط المحفوظ بالفتح، لكن ليس فيه دلالة على أنه أقام بعد حجه، لأن السياق يدل على أنه مات قبل الحج، والله أعلم. قوله: "وقال أحمد بن يونس وموسى عن إبراهيم" يعني ابن سند "أن تذر ورثتك" أما رواية أحمد بن يونس فأخرجها المصنف في حجة الوداع في آخر المغازي، وأما رواية موسى وهو ابن إسماعيل فأخرجها المؤلف في الدعوات.
ـــــــ
1 في نسخ المتن "أن توفي" وذكر لابي ذر "أن يتوفى" بالمضارع

(7/270)


50 - باب كَيْفَ آخَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَصْحَابِهِ
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ آخَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنِي وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ لَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ وَقَالَ أَبُو جُحَيْفَةَ آخَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ سَلْمَانَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ
3937-حدثنا محمد بن يوسف حدثنا سفيان عن حميد عن أنس رضي الله عنه قال "قدم عبالرحمن بن عوف فآخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع الأنصاري, فعرض عليه أن يناصفه أهله وماله فقال عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك ومالك, دلني على السوق. فربح شيئا من أقط وسمن , فرأه النبي صلى الله عليه وسلم بعد أيام وعليه وضر من صفرة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: مهيم ياعبد الرحمن؟ قال: تزوجت إمرأة من الأنصار , قال: فما سقت فيها؟ فقال: وزن نواة من ذهب. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أولم ولو بشاة "
قوله: "باب كيف آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه" تقدم في مناقب الأنصار" باب آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار" قال ابن عبد البر كانت المؤاخاة مرتين: مرة بين المهاجرين خاصة وذلك بمكة، ومرة بين المهاجرين والأنصار فهي المقصودة هنا.وذكر ابن سند بأسانيد الواقدي إلى جماعة من التابعين قالوا: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة آخى بين المهاجرين، وآخى بين المهاجرين والأنصار على المواساة، وكانوا يتوارثون، وكانوا تسنين نفسا بعضهم من المهاجرين وبعضهم من الأنصار، وقيل كانوا مائة، فلما نزل: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ} بطلت المواريث بينهم بتلك المؤاخاة. قلت: وسيأتي في الفرائض من حديث ابن عباس" لما قدموا المدينة كان يرث المهاجري الأنصاري دون ذوي رحمه بالأخوة التي آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما، فنزلت: وعند أحمد من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده نحوه، قال السهيلي: آخى بين أصحابه ليذهب عنهم وحشة الغربة ويتأنسوا من مفارقة الأهل والعشيرة ويشد بعضهم أزر بعض، فلما عز الإسلام واجتمع الشمل وذهبت الوحشة أبطل المواريث وجعل المؤمنين كلهم إخوة وأنزل {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} يعني في التوادد وشمول الدعوة، واختلفوا في ابتدائها: فقيل بعد الهجرة بخمسة أشهر، وقيل؛ بتسعة، وقيل: وهو يبني المسجد، وقيل. قبل بنائه، وقيل: بسنة وثلاثة أشهر قبل

(7/270)


بدر، وعند أبي سعيد في "شرف المصطفى" كان الإخاء بينهم في المسجد، وذكر محمد بن إسحاق المؤاخاة فقال: "قال رسول الله لأصحابه بعد أن هاجر: تآخوا أخوين ، فكان هو وعلي أخوين، وحمزة وزيد بن حارثة أخوين، وجعفر بن أبي طالب ومعاذ بن جبل أخوين" وتعقبه ابن هشام بأن جعفرا كان يومئذ بالحبشة، وفي هذا نظر، وقد تقدم. ووجهها العماد بن كثير بأنه أرصده لأخوته حتى يقدم، وفي تفسير سنيد: آخى بين معاذ وابن مسعود، وأبو بكر وخارجة بن زيد أخوين، وعمر وعتبان بن مالك أخوين، وقد تقدم في أوائل الصلاة قول عمر" كان لي أخ من الأنصار" وفسر بعتبان، ويمكن أن يكون أخوته له تراخت كما في أبي الدرداء وسلمان. ومصعب بن عمير وأبو أيوب أخوين، وأبو حذيفة بن عتبة وعباد بن بشر أخوين، ويقال بل عمار وثابت بن قيس لأن حذيفة إنما أسلم زمان أحد، وأبو ذر والمنذر بن عمرو أخوين، وتعقب بأن أبا ذر تأخرت هجرته، والجواب كما في جعفر، وحاطب بن أبي بلتعة وعويم بن ساعدة أخوين وسلمان وأبو الدرداء أخوين، وتعقب بأن سلمان تأخر إسلامه وكذا أبو الدرداء، والجواب ما تقدم في جعفر. وكان ابتداء المؤاخاة أوائل قدومه المدينة، واستمر يجددها بحسب من يدخل في الإسلام أو يحضر إلى المدينة، والإخاء بين سلمان وأبي الدرداء صحيح كما في الباب وعند ابن سعد وآخى بين أبي الدرداء وعوف بن مالك وسنده ضعيف، والمعتمد ما في الصحيح، وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع مذكور في هذا الباب، وسمى ابن عبد البر جماعة آخرين. وأنكر ابن تيمية في كتاب الرد على ابن المطهر الرافضي المؤاخاة بين المهاجرين وخصوصا مؤاخاة النبي صلى الله عليه وسلم لعلي قال: لأن المؤاخاة شرعت لإرفاق بعضهم ولتأليف قلوب بعضهم فلا معنى لمؤاخاة النبي صلى الله عليه وسلم لأحد منهم ولا لمؤاخاة مهاجري لمهاجري، وهذا رد للنص بالقياس وإغفال عن حكمة المؤاخاة لأن بعض المهاجرين كان أقوى من بعض بالمال والعشيرة والقوى فآخى بين الأعلى والأدنى ليرتفق الأدنى بالأعلى ويستعين الأعلى بالأدنى وبهذا تظهر مؤاخاته صلى الله عليه وسلم لعلي لأنه هو الذي كان يقوم به من عهد الصبا من قبل البعثة واستمر، وكذا مؤاخاة حمزة وزيد بن حارثة لأن زيدا مولاهم فقد ثبت أخوتهما وهما من المهاجرين، وسيأتي في عمرة القضاء قول زيد بن حارثة: إن بنت حمزة بنت أخي. وأخرج الحاكم وابن عبد البر بسند حسن عن أبي الشعثاء عن ابن عباس" آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين الزبير وابن مسعود" وهما من المهاجرين. قلت: وأخرجه الضياء في المختارة من المعجم الكبير للطبراني وابن تيمية يصرح بأن أحاديث المختارة أصح وأقوى من أحاديث المستدرك، وقصة المؤاخاة الأولى أخرجها الحاكم من طريق جميع بن عمير عن ابن عمر" آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أبي بكر وعمر، وبين طلحة والزبير، وبين عبد الرحمن بن عوف وعثمان - وذكر جماعة قال - فقال علي: يا رسول الله إنك آخيت بين أصحابك فمن أخي؟ قال أنا أخوك" وإذا الضم هذا إلى ما تقدم تقوى به، وقد تقدم في "باب الكفالة" قبيل كتاب الوكالة الكلام على حديث: "لا حلف في الإسلام" بما يغني عن الإعادة، وقد سبق كلام السهيلي في حكمة ذلك الميراث، وسيأتي في الفرائد حديث ابن عباس" كان المهاجرون لما قدموا المدينة يرث المهاجري الأنصاري دون ذوي رحمه للأخوة". الحديث الأول: قوله: "وقال عبد الرحمن بن عوف: آخى النبي صلى الله عليه وسلم بيني وبين سعد بن الربيع" هو طرف من حديث تقدم موصولا في أوائل البيوع من طريق إبراهيم بن سعد عن أبيه وهو سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن جده قال: "قال عبد الرحمن بن عوف لما قدمنا المدينة آخى النبي صلى الله عليه وسلم بيني وبين سعد بن الربيع، فقال سعد: إني أكثر

(7/271)


الأنصار مالا فأقاسمك مالي" الحديث، وظن الشيخ عماد الدين بن كثير أن البخاري أشار بهذا التعليق إلى حديث أنس فقال: قصة عبد الرحمن لا تعرف مسندة عنه، وإنما أسندها البخاري وغيره عن أنس، قال: فلعل البخاري أراد أن أنسا حملها عن عبد الرحمن بن عوف انتهى. والذي ادعاه مردود لثبوته في الصحيح. الحديث الثاني: قوله: "وقال أبو جحيفة آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء" هو طرف من حديث وصله بتمامه في كتاب الصيام، والغرض منه التنبيه على تسمية من وقع الإخاء بينهم من المهاجرين والأنصار، فذكر هذا والذي بعده من إخاء سعد بن الربيع وعبد الرحمن بن عوف، ولمسلم من طريق ثابت عن أنس" آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين أبى طلحة وأبي عبيدة" وتقدم في الإيمان حديث عمر" كان لي أخ من الأنصار وكنا نتناوب النزول" وذكر ابن إسحاق أنه عتبان بن مالك، وكان أبو بكر الصديق وحارثة بن زيد أخوين فيما ذكره ابن إسحاق أيضا. الحديث الثالث: حديث أنس في قصة إخاء سعد بن الربيع وعبد الرحمن بن عوف وسيأتي شرحه في كتاب النكاح

(7/272)


باب مسائل عبد الله بن سلام لنبي صلى الله عليه وسلم
...
51- باب
3938- حَدَّثَنِي حَامِدُ بْنُ عُمَرَ عَنْ بِشْرِ بْنِ الْمُفَضَّلِ حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ حَدَّثَنَا أَنَسٌ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلاَمٍ بَلَغَهُ مَقْدَمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ فَأَتَاهُ يَسْأَلُهُ عَنْ أَشْيَاءَ فَقَالَ إِنِّي سَائِلُكَ عَنْ ثَلاَثٍ لاَ يَعْلَمُهُنَّ إِلاَّ نَبِيٌّ مَا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ وَمَا أَوَّلُ طَعَامٍ يَأْكُلُهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ وَمَا بَالُ الْوَلَدِ يَنْزِعُ إِلَى أَبِيهِ أَوْ إِلَى أُمِّهِ قَالَ أَخْبَرَنِي بِهِ جِبْرِيلُ آنِفًا قَالَ ابْنُ سَلاَمٍ ذَاكَ عَدُوُّ الْيَهُودِ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ قَالَ أَمَّا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ فَنَارٌ تَحْشُرُهُمْ مِنْ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ وَأَمَّا أَوَّلُ طَعَامٍ يَأْكُلُهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ فَزِيَادَةُ كَبِدِ الْحُوتِ وَأَمَّا الْوَلَدُ فَإِذَا سَبَقَ مَاءُ الرَّجُلِ مَاءَ الْمَرْأَةِ نَزَعَ الْوَلَدَ وَإِذَا سَبَقَ مَاءُ الْمَرْأَةِ مَاءَ الرَّجُلِ نَزَعَتْ الْوَلَدَ قَالَ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ الْيَهُودَ قَوْمٌ بُهُتٌ فَاسْأَلْهُمْ عَنِّي قَبْلَ أَنْ يَعْلَمُوا بِإِسْلاَمِي فَجَاءَتْ الْيَهُودُ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَيُّ رَجُلٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلاَمٍ فِيكُمْ قَالُوا خَيْرُنَا وَابْنُ خَيْرِنَا وَأَفْضَلُنَا وَابْنُ أَفْضَلِنَا فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَسْلَمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلاَمٍ قَالُوا أَعَاذَهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ فَأَعَادَ عَلَيْهِمْ فَقَالُوا مِثْلَ ذَلِكَ فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ عَبْدُ اللَّهِ فَقَالَ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ قَالُوا شَرُّنَا وَابْنُ شَرِّنَا وَتَنَقَّصُوهُ قَالَ هَذَا كُنْتُ أَخَافُ يَا رَسُولَ اللَّهِ".
3940,3939- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو سَمِعَ أَبَا الْمِنْهَالِ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مُطْعِمٍ قَالَ "بَاعَ شَرِيكٌ لِي دَرَاهِمَ فِي السُّوقِ نَسِيئَةً فَقُلْتُ سُبْحَانَ اللَّهِ أَيَصْلُحُ هَذَا فَقَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ وَاللَّهِ لَقَدْ بِعْتُهَا فِي السُّوقِ فَمَا عَابَهُ أَحَدٌ فَسَأَلْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ فَقَالَ قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ نَتَبَايَعُ هَذَا الْبَيْعَ فَقَالَ مَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ فَلَيْسَ بِهِ بَأْسٌ وَمَا كَانَ نَسِيئَةً فَلاَ يَصْلُحُ وَالْقَ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ فَاسْأَلْهُ فَإِنَّهُ كَانَ أَعْظَمَنَا تِجَارَةً فَسَأَلْتُ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ فَقَالَ مِثْلَهُ وَقَالَ سُفْيَانُ مَرَّةً فَقَالَ قَدِمَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ وَنَحْنُ نَتَبَايَعُ وَقَالَ:

(7/272)


نَسِيئَةً إِلَى الْمَوْسِمِ أَوْ الْحَجِّ "
قوله: "باب" كذا لهم بغير ترجمة، وهو كالفصل من الباب الذي بعده، ولعله كان بعده قوله: "عن أنس" صرح به الإسماعيلي فقال في رواية له عن حميد "حدثنا أنس" أخرجها عن ابن خزيمة عن محمد بن عبد الأعلى عن بشر بن المفضل. قوله: "أن عبد الله بن سلام بلغه" تقدم بيان ذلك في "باب مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة" من وجه آخر. قوله: "ذاك عدو اليهود من الملائكة" سيأتي شرح هذا في تفسير سورة البقرة. قوله: "أما أول أشراط الساعة فنار تحشرهم من المشرق إلى المغرب" في رواية عبد الله بن بكر عن حميد في التفسير" تحشر الناس" وسيأتي الكلام على ذلك مستوفى في أواخر كتاب الرقاق. قوله: "وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت" الزيادة هي القطعة المنفردة المعلقة في الكبد، وهي في المطعم في غاية اللذة، ويقال إنها أهنأ طعام وأمراه ووقع في حديث ثوبان أن تحفتهم حين يدخلون الجنة زيادة كبد النون والنون هو الحوت ويقال هو الحوت الذي عليه الأرض والإشارة بذلك إلى نفاذ الدنيا، في حديث ثوبان زيادة وهي" أنه ينحر لهم عقب ذلك نون الجنة الذي كان يأكل من أطرافها وشرابهم عليه من عين تسمى سلسبيلا" وذكر الطبري من طريق الضحاك عن ابن عباس قال: "ينطح الثور الحوت بقرنه فتأكل منه أهل الجنة ثم يحيا فينحر الثور بذنبه فيأكلونه ثم يحيا فيستمران كذلك" وهذا منقطع ضعيف. قوله: "وأما الولد" في رواية الفزاري عن حميد في ترجمة آدم" وأما شبه الولد". قوله: "فإذا سبق ماء الرجل" وفي رواية الفزاري "فأن الرجل إذا غشى المرأة فسبقها ماؤه". قوله: "نزع الولد" بالنصب على المفعولية أي جذبه إليه. وفي رواية الفزاري" كان الشبه له" ووقع عند مسلم من حديث عائشة" إذا علا ماء الرجل ماء المرأة أشبه أعمامه، وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل أشبه أخواله" ونحوه للبزار عن ابن مسعود وفيه: "ماء الرجل أبيض غليظ، وماء المرأة أصفر رقيق فأيهما أعلى كان الشبه له" والمراد بالعلو هنا السبق، لأن كل من سبق فقد علا شأنه فهو علو معنوي، وأما ما وقع عند مسلم من حديث ثوبان رفعه: "ماء الرجل أبيض وماء المرأة أصفر فإذا اجتمعا فعلا مني الرجل مني المرأة أذكرا بإذن الله، وإذا علا مني المرأة مني الرجل أنثا بإذن الله" فهو مشكل من جهة أنه يلزم منه اقتران الشبه للأعمام إذا علا ماء الرجل ويكون ذكرا لا أنثى وعكسه، والمشاهد خلاف ذلك لأنه قد يكون ذكرا ويشبه أخواله لا أعمامه وعكسه، قال القرطبي: يتعين تأويل حديث ثوبان بأن المراد بالعلو السبق. قلت: والذي يظهر ما قدمته وهو تأويل العلو في حديث عائشة وأما حديث ثوبان فيبقى العلو فيه على ظاهره فيكون السبق علامة التذكير والتأنيث والعلو علامة الشبه فيرتفع الإشكال، وكأن المراد بالعلو الذي يكون سبب الشبه بحسب الكثرة بحيث يصير الآخر مغمورا فيه فبذلك يحصل الشبه، وينقسم ذلك ستة أقسام: الأول أن يسبق ماء الرجل ويكون أكثر فيحصل له الذكورة والشبه، والثاني عكسه، والثالث أن يسبق ماء الرجل ويكون ماء المرأة أكثر فتحصل الذكورة والشبه للمرأة، والرابع عكسه، والخامس أن يسبق ماء الرجل ويستويان فيذكر ولا يختص بشبه، والسادس عكسه. قوله: "قوم بهت" بضم الموحدة والهاء ويجوز إسكانها جمع بهيت كقضيب وقضب وقليب وقلب، وهو الذي يبهت السامع بما يفتريه عليه من الكذب، ونقل الكرماني أن مفرده بهوت بفتح أوله. قوله: "فاسألهم" في رواية الفزاري عن حميد عند النسائي: "إن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم عني بهتوني عندك". قوله: "فجاءت اليهود" زاد في رواية الفزاري "ودخل عبد الله داخل البيت" وفي رواية عبد الله بن

(7/273)


بكر عن حميد" فأرسل إلى اليهود فجاءوا" الحديث ظاهره التعميم، والذي يقتضيه السياق تخصيص من كان له بعبد الله بن سلام تعلق وأقرب ذلك عشيرته من بني قينقاع، فقد ذكر ابن إسحاق فيهم فقال في أوائل الهجرة من كتاب المغازي: في ذكر من كان من اليهود ومن بني قينقاع زيد بن اللصيب وسعد بن حيية ومحمود بن سبيحان وعزيز بن أبي عزيز وعبد الله بن الصيف وسعيد بن الحرث ورفاعة بن قيس وفنحاص وأشيع ونعمان بن أصبا ويحري بن عمرو وشأس بن قيس وشأس بن عدي وزيد بن الحارث ونعمان بن عمر وسكين بن أبي سكين وعدي بن زيد ونعمان بن أبي أوفى ومحمود بن دحية ومالك بن - الضيف وكعب بن راشد وعازب بن نافع بن أبي رافع وخالد وازر ابني أبي أزار ورافع بن حارثة ورافع بن حرملة ورافع بن خارجة ومالك بن عوف ورفاعة بن التابوت وعبد الله بن سلام بن الحارث وكان حبرهم وأعلمهم، وكان اسمه الحصين فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أسلم عبد الله، فهؤلاء بنو قينقاع. قوله: "عن عمرو" هو ابن دينار. قوله: "باع شريك لي دراهم في السوق نسيئة" قد تقدم شرحه في كتاب الشركة، والغرض منه هنا قوله: "قدم علينا المدينة ونحن نتبايع" فإنه يستفاد منه أنه صلى الله عليه وسلم أقرهم على ما وجدهم عليه من المعاملات إلا ما استثناه فبينه لهم.

(7/274)


باب إتيان اليهود على النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة
...
52 - باب إِتْيَانِ الْيَهُودِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَحِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ
هَادُوا: صَارُوا يَهُودًا. وَأَمَّا قَوْلُهُ هُدْنَا: تُبْنَا هَائِدٌ: تَائِبٌ
3941- حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا قُرَّةُ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَوْ آمَنَ بِي عَشَرَةٌ مِنْ الْيَهُودِ لآمَنَ بِي الْيَهُودُ"
3942- حَدَّثَنِي أَحْمَدُ أَوْ مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْغُدَانِيُّ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ أُسَامَةَ أَخْبَرَنَا أَبُو عُمَيْسٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ وَإِذَا أُنَاسٌ مِنْ الْيَهُودِ يُعَظِّمُونَ عَاشُورَاءَ وَيَصُومُونَهُ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "نَحْنُ أَحَقُّ بِصَوْمِهِ فَأَمَرَ بِصَوْمِهِ"
3943- حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ أَيُّوبَ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ حَدَّثَنَا أَبُو بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ وَجَدَ الْيَهُودَ يَصُومُونَ عَاشُورَاءَ فَسُئِلُوا عَنْ ذَلِكَ فَقَالُوا هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي أَظْفَرَ اللَّهُ فِيهِ مُوسَى وَبَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى فِرْعَوْنَ وَنَحْنُ نَصُومُهُ تَعْظِيمًا لَهُ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نَحْنُ أَوْلَى بِمُوسَى مِنْكُمْ ثُمَّ أَمَرَ بِصَوْمِهِ"
3944- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ عَنْ يُونُسَ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسْدِلُ شَعْرَهُ وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَفْرُقُونَ رُءُوسَهُمْ وَكَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَسْدِلُونَ رُءُوسَهُمْ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ مُوَافَقَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِيمَا لَمْ يُؤْمَرْ فِيهِ بِشَيْءٍ

(7/274)


ثُمَّ فَرَقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأْسَهُ"
3945- حَدَّثَنِي زِيَادُ بْنُ أَيُّوبَ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ أَخْبَرَنَا أَبُو بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ جَزَّءُوهُ أَجْزَاءً فَآمَنُوا بِبَعْضِهِ وَكَفَرُوا بِبَعْضِهِ"
[الحديث 3945- طرفاه في:4706,4705]
قوله: "باب إتيان اليهود النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة" وذكر ابن عائذ من طريق عروة أن أول من أتاه منهم أبو ياسر بن أخطب أخو حيي بن أخطب فسمع منه" فلما رجع قال لقومه: أطيعوني فإن هذا النبي الذي كنا ننتظر. فعصاه أخوه وكان مطاعا فيهم، فاستحوذ عليه الشيطان فأطاعوه على ما قال. وروى أبو سعيد في "شرف المصطفى" من طريق سعيد بن جبير" جاء ميمون بن يامين وكان رأس اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ابعث إليهم فاجعلني حكما فإنهم يرجعون إلي، فأدخله داخلا، ثم أرسل إليهم فأتوه فخاطبوه فقال: اختاروا رجلا يكون حكما بيني وبينكم، قالوا قد رضينا ميمون بن يامين. فقال: اخرج إليهم فقال: أشهد أنه رسول الله، فأبوا أن يصدقوه. وذكر ابن إسحاق أن النبي صلى الله عليه وسلم وادع اليهود لما قدم المدينة وامتنعوا من اتباعه، فكتب بينهم كتابا، وكانوا ثلاث قبائل: قينقاع والنضير وقريظة، فنقض الثلاثة العهد طائفة بعد طائفة، فمن على بني قينقاع وأجلى بني النضير واستأصل بني قريظة، وسيأتي بيان ذلك كله مفصلا إن شاء الله تعالى. وذكر ابن إسحاق أيضا عن الزهري" سمعت رجلا من مزينة يحدث سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن أحبار يهود اجتمعوا في بيت المدراس حين قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فقالوا: غدا انطلقوا إلى هذا الرجل فاسألوه عن حد الزاني" فذكر الحديث. قوله: "هادوا صاروا يهودا، وأما قوله: هدنا تبنا هائد تائب" قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} هو هنا من الذين تهودوا فصاروا يهودا: وقال في قوله تعالى: {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} أي تبنا إليك، ثم ذكر فيه خمسة أحاديث: قوله: "حدثنا قرة" هو ابن خالد، ومحمد هو ابن سيرين والإسناد كله بصريون. قوله: "لو آمن بي عشرة من اليهود لأمن بي اليهود" في رواية الإسماعيلي: "لم يبق يهودي إلا أسلم" وكذا أخرجه أبو سعيد في "شرف المصطفى" وزاد في آخره قال: "قال كعب هم الذين سماهم الله في سورة المائدة" فعلى هذا فالمراد عشرة مختصة وإلا فقد آمن به أكثر من عشرة، وقيل المعنى لو آمن بي في الزمن الماضي كالزمن الذي قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة أو حال قدومه، والذي يظهر أنهم الذين كانوا حينئذ رؤساء في اليهود ومن عداهم كان تبعا لهم، فلم يسلم منهم إلا القليل كعبد الله بن سلام وكان من المشهورين بالرياسة في اليهود عند قدوم النبي صلى الله عليه وسلم، ومن بني النضير أبو ياسر بن أخطب وأخوه حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف ورافع بن أبي الحقيق، ومن بني قينقاع عبد الله بن حنيف وفنحاص ورفاعة بن زيد، ومن بني قريظة الزبير بن باطيا وكعب بن أسد وشمويل بن زيد، فهؤلاء لم يثبت إسلام أحد منهم، وكان كل منهم رئيسا في اليهود ولو أسلم لاتبعه جماعة منهم، فيحتمل أن يكونوا المراد. وقد روى أبو نعيم في "الدلائل" من وجه آخر الحديث بلفظ: "لو آمن بي الزبير بن باطيا وذووه من رؤساء يهود لأسلموا كلهم" وأغرب السهيلي فقال: لم يسلم من أحبار اليهود إلا اثنان يعني عبد الله بن سلام وعبد الله بن صوريا، كذا قال، ولم أر لعبد الله بن صوريا إسلاما من طريق صحيحة، وإنما نسبه السهيلي في موضع آخر لتفسير

(7/275)


النقاش، وسيأتي في "باب أحكام أهل الذمة" من كتاب المحاربين شيء يتعلق بذلك ووقع عند ابن حبان قصة إسلام جماعة من الأحبار كزيد بن سعفة مطولا. وروى البيهقي أن يهوديا سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ سورة يوسف فجاء ومعه نفر من اليهود فأسلموا كلهم، لكن يحتمل أن لا يكونوا أحبارا، وحديث ميمون بن يامين قد تقدم في الباب. وأخرج يحيى بن سلام في تفسيره من وجه آخر عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة هذا الحديث فقال: "قال كعب إنما الحديث اثنا عشر لقول الله تعالى: {وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً} فسكت أبو هريرة" قال ابن سيرين: أبو هريرة عندنا أولى من كعب، قال يحيى بن سلام وكعب أيضا صدوق لأن المعنى عشرة بعد الاثنين وهما عبد الله بن سلام ومخيريق، كذا قاله وهو معنوي. قوله: "حدثنا أحمد أو محمد بن عبيد الله" بالتصغير. وفي رواية السرخسي والمستملي: "ابن عبد الله" مكبر والأول أصح وأشهر، واسم جده سهيل وهو الغداني بضم المعجمة وتخفيف المهملة، شك البخاري في اسمه هنا، وقد ذكره في التاريخ فيمن اسمه أحمد بغير شك. قوله: "عن أبي موسى" وقع لبعضهم عن أبي مسعود وهو غلط. قوله: "دخل النبي" في رواية الكشميهني: "قدم" وقد تقدم الكلام عليه في الصيام. قوله: "لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وجد اليهود يصومون عاشوراء" استشكل هذا لأن قدومه صلى الله عليه وسلم إنما كان في ربيع الأول، وأجيب باحتمال أن يكون علمه بذلك تأخر إلى أن دخلت السنة الثانية، قال بعض المتأخرين يحتمل أن يكون صيامهم كان على حساب الأشهر الشمسية فلا يمتنع أن يقع عاشوراء في ربيع الأول ويرتفع الإشكال بالكلية، هكذا قرره ابن القيم في "الهدى" قال وصيام أهل الكتاب إنما هو بحساب سير الشمس. قلت: وما ادعاه من رفع الإشكال عجيب، لأنه يلزم منه إشكال آخر وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المسلمين أن يصوموا عاشوراء بالحساب والمعروف من حال المسلمين في كل عصر في صيام عاشوراء أنه في المحرم لا في غيره من الشهور، نعم وجدت في الطبراني بإسناد جيد عن زيد بن ثابت قال: "ليس يوم عاشوراء باليوم الذي يقول الناس، إنما كان يوم تستر فيه الكعبة وتقلس فيه الحبشة، وكان يدور في السنة، وكان الناس يأتون فلانا اليهودي يسألونه، فلما مات أتوا زيد بن ثابت فسألوه" فعلى هذا فطريق الجمع أن تقول كان الأصل فيه ذلك، فلما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بصيام عاشوراء رده إلى حكم شرعه وهو الاعتبار بالأهلة فأخذ أهل الإسلام بذلك، لكن في الذي ادعاه أن أهل الكتاب يبنون صومهم على حساب الشمس نظر، فإن اليهود لا يعتبرون في صومهم إلا بالأهلة، هذا الذي شاهدناه منهم، فيحتمل أن يكون فيهم من كان يعتبر الشهور بحساب الشمس لكن لا وجود له الآن، كما انقرض الذين أخبر الله عنهم أنهم يقولون عزير ابن الله، تعالى الله عن ذلك. وفي الحديث إشكال آخر سبق الجواب عنه في كتاب الصيام. قوله: "فأمر بصومه" في رواية الكشميهني: "ثم أمر بصومه" "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسدل شعره" أي يرخيه. قوله: "عن عبيد الله بن عبد الله" هذا هو المحفوظ عن الزهري، ورواه مالك في "الموطأ" عن الزهري مرسلا لم يذكر من فوقه، وأغرب حماد بن خالد فرواه عن مالك عن الزهري عن أنس، قال أحمد بن حنبل: أخطأ فيه حماد بن خالد والمحفوظ عن الزهري" عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس". قوله: "ثم يفرقون" بفتح أوله وضم ثالثه. قوله: "ثم فرق النبي صلى الله عليه وسلم رأسه" بفتح الفاء والراء الخفيفة، وقد سبق شرحه في صفة النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه دليل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يوافق أهل الكتاب إذا خالفوا عبدة الأوثان أخذا بأخف الأمرين، فلما فتحت مكة

(7/276)


ودخل عباد الأوثان في الإسلام رجع إلى مخالفة باقي الكفار وهم أهل الكتاب. حديث ابن عباس "قال هم أهل الكتاب جزءوه أجزاء فآمنوا ببعضه وكفروا ببعضه" زاد الكشميهني: يعني قول الله تعالى: {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} .

(7/277)


53- باب إِسْلاَمِ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
3946- حَدَّثَنِا الْحَسَنُ بْنُ عُمَرَ بْنِ شَقِيقٍ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ قَالَ أَبِي وَحَدَّثَنَا أَبُو عُثْمَانَ "عَنْ سَلْمَانَ
الْفَارِسِيِّ أَنَّهُ تَدَاوَلَهُ بِضْعَةَ عَشَرَ مِنْ رَبٍّ إِلَى رَبٍّ"
3947- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَوْفٍ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ قَالَ سَمِعْتُ سَلْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ "أَنَا مِنْ رَامَ هُرْمُزَ"
3948- حَدَّثَنِا الْحَسَنُ بْنُ مُدْرِكٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمَّادٍ أَخْبَرَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ عَاصِمٍ الأَحْوَلِ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ عَنْ سَلْمَانَ قَالَ "فَتْرَةٌ بَيْنَ عِيسَى وَمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ سِتُّمِائَةِ سَنَةٍ"
قوله: "باب إسلام سلمان الفارسي" تقدمت ترجمته في البيوع. قوله: "قال أبي" هو سليمان بن طرخان التيمي وأبو عثمان هو النهدي. قوله: "تداوله بضعة عشر من رب إلى رب" أي من سيد إلى سيد، وكأنه لم يبلغه حديث أبي هريرة في النهي عن إطلاق رب على السيد، وقد مر في البيوع، وقد تقدم تفسير البضع وأنه من الثلاث إلى العشر على المشهور، وذكر ابن حبان والحاكم من طريق ابن عباس عن سلمان في قصته أنه كان ابن ملك وأنه خرج في طلب الدين هاربا وأنه انتقل من عابد إلى عابد إلى أن قدم يثرب، وقد تقدم في الشراء من المشركين من كتاب البيوع كيفية إسلام سلمان ومكاتبة الذي كان في رقه على غرس الودي. وزعم الداودي أن ولاء سلمان كان لأهل البيت لأنه أسلم على يد النبي صلى الله عليه وسلم فكان ولاؤه له، وتعقبه ابن التين بأنه ليس مذهب مالك، قال: والذي كاتب سلمان كان مستحقا لولائه إن كان مسلما، وإن كان كافرا فولاؤه للمسلمين. قلت: وفاته من وجوه الرد عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يورث فلا يورث عنه الولاء أيضا إن قلنا بولاء الإسلام على تقدير التنزل. قوله: "أنا من رام هرمز" في رواية بشر بن المفضل عن عوف بلفظ: "أنا من أهل رام هرمز" بفتح الراء والميم وضم الهاء والميم بينهما راء ساكنة ثم زاي، مدينة معروفة بأرض فارس بقرب عراق العرب، ووقع في حديث ابن عباس عند أحمد وغيره أن سلمان كان من أصبهان، ويمكن الجمع باعتبارين. قوله: "فترة بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام ستمائة سنة" والمراد بالفترة المدة التي لا يبعث فيها رسول من الله، ولا يمتنع أن ينبأ فيها من يدعو إلى شريعة الرسول الأخيرة ونقل ابن الجوزي الاتفاق على ما اقتضاه حديث سلمان هذا، وتعقب بأن الخلاف في ذلك منقول، فعن قتادة خمسمائة وستين سنة أخرجه عبد الرزاق عن معمر عنه، وعن الكلبي خمسمائة وأربعين، وقيل أربعمائة سنه. ووجه تعلق هذه الأحاديث بإسلام سلمان الإشارة إلى أن الأحاديث التي وردت في سياق قصته ما هي على شرط البخاري في الصحيح، وإن كان إسناد بعضها صالحا، وأما أحاديث الباب فمحصلها أنه أسلم بعد أن تداوله جماعة بالرق،

(7/277)


وبعد أن هاجر من وطنه وغاب عنه هذه المدة الطويلة حتى من الله عليه بالإسلام طوعا.
"خاتمة" اشتملت أحاديث المبعث وما بعدها من الهجرة وغيرها من الأحاديث المرفوعة على مائة وعشرين حديثا، الموصول منها مائة وثلاثة أحاديث والبقية معلقات ومتابعات، المكرر منها فيه وفيما مضى سبعة وسبعون حديثا والخالص ثلاثة وأربعون، وافقه مسلم على تخريجها سوى حديث خباب "لقد كان من قبلكم يمشط" وحديث عمرو بن العاص في "أشد ما صنعه المشركون"، وحديث عبد الله "آذنت بالجن شجرة" وحديث ابن عمر في إسلام عمر، وحديث سواد بن قارب، وحديث عمر يا جليح، وحديث سعيد بن زيد في إسلامه، وحديث أم خالد بنت خالد بن سعيد في الخميصة، وحديث ابن عباس في قوله: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا} وحديث جابر "شهد بي خالاي العقبة" وحديث ابن عمر وعائشة "لا هجرة بعد الفتح" وحديث عروة بن الزبير "أن الزبير لقي النبي صلى الله عليه وسلم في ركب كانوا تجارا" الحديث في الهجرة، وحديث أنس في شأن الهجرة وفيه قصة سراقة ولم يسمه، وحديث عمر مع أبي موسى في ذكر الهجرة، وحديث ابن عمر في البيعة، وحديث عائشة أن أبا بكر تزوج امرأة من كلب وفيه الشعر، وحديث البراء في أول من قدم المدينة، وحديث مسهل" ما عدوا من المبعث" وحديث ابن عباس في تفسير {جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} وأحاديث سلمان الثلاثة في إسلامه، وفيه من الآثار عن الصحابة فمن بعدهم أربعة آثار أو خمسة. والله أعلم بالصواب.

(7/278)


كتاب المغازي
باب غزوة العشيرة , أو العسيرة
...
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
64 - كِتَاب الْمَغَازِي
1 - باب غَزْوَةِ الْعُشَيْرَةِ أَوْ الْعُسَيْرَةِ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ "أَوَّلُ مَا غَزَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأَبْوَاءَ ثُمَّ بُوَاطَ ثُمَّ الْعُشَيْرَةَ"
3949- حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا وَهْبٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ "كُنْتُ إِلَى جَنْبِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ فَقِيلَ لَهُ كَمْ غَزَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَزْوَةٍ قَالَ تِسْعَ عَشْرَةَ قِيلَ كَمْ غَزَوْتَ أَنْتَ مَعَهُ قَالَ سَبْعَ عَشْرَةَ قُلْتُ فَأَيُّهُمْ كَانَتْ أَوَّلَ قَالَ الْعُسَيْرَةُ أَوْ الْعُشَيْرُ فَذَكَرْتُ لِقَتَادَةَ فَقَالَ الْعُشَيْرُ"
[الحديث 3949- طرفاه في: 4471,4404]
قوله: "بسم الله الرحمن الرحيم - كتاب المغازي. باب غزوة العشيرة": بالشين المعجمة كذا لأبي ذر، ولغيره تأخير البسملة عن قوله: "كتاب المغازي" وزادوا "باب غزوة العشيرة أو العسيرة" بالشك هل هي بالإهمال أو بالإعجام، مكانها عند منزل الحج بينبع، وليس بينها وبين البلد إلا الطريق. وخرج في خمسين ومائة وقيل مائتين، واستخلف فيها أبا سلمة بن عبد الأسد. والمغازي جمع مغزى، يقال غزا يغزو غزوا ومغزى والأصل غزوا والواحدة غزوة والميم زائدة، وعن ثعلب الغزوة المرة والغزاة عمل سنة كاملة، وأصل الغزو القصد، ومغزى الكلام مقصده، والمراد بالمغازي هنا ما وقع من قصد النبي صلى الله عليه وسلم الكفار بنفسه أو بجيش من قبله، وقصدهم أعم من أن يكون إلى بلادهم أو إلى الأماكن التي حلوها حتى دخل مثل أحد والخندق. قوله: "قال ابن إسحاق أول ما غزا النبي صلى الله عليه وسلم الأبواء ثم بواط ثم العشيرة" كذا للأكثر، وسقط لأبي ذر إلا عن المستملي وحده لكنه ذكره آخر الباب، والأبواء بفتح الهمزة وسكون الموحدة وبالمد قرية من عمل الفرع بينها وبين الجحفة من جهة المدينة ثلاثة وعشرون ميلا، قيل سميت بذلك لما كان فيها من الوباء وهي على القلب وإلا لقيل الأوباء، والذي وقع في مغازي ابن إسحاق ما صورته: غزوة ودان بتشديد المهملة، قال: وهي أول غزوات النبي صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة في صفر على رأس اثني عشر شهرا من مقدمه المدينة يريد قريشا، فوادع بني ضمرة بن بكر بن عبد مناة من كنانة، وادعه رئيسهم مجدي بن عمرو الضميري ورجع بغير قتال. قال ابن هشام: وكان قد استعمل على المدينة سعد بن عبادة ا هـ. وليس بين ما وقع في السيرة وبين ما نقله البخاري عن ابن إسحاق اختلاف، لأن الأبواء وودان مكانان متقاربان بينهما ستة أميال أو ثمانية، ولهذا وقع في حديث الصعب بن جثامة" وهو بالأبواء أو بودان" كما تقدم في كتاب الحج، ووقع في "مغازي الأموي" حدثني أبي عن ابن إسحاق قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم غازيا بنفسه حتى انتهى إلى ودان وهي الأبواء. وقال موسى بن عقبة: أول غزوة غزاها النبي صلى الله عليه وسلم - يعني بنفسه - الأبواء. وفي الطبراني من طريق كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده قال: أول غزاة غزوناها مع النبي الأبواء. وأخرجه البخاري في "التاريخ الصغير" عن إسماعيل وهو ابن أبي أويس عن كثير بن

(7/279)


عبد الله مقتصرا عليه، وكثير ضعيف عند الأكثر، لكن البخاري مشاه وتبعه الترمذي، وذكر أبو الأسود في مغازيه عن عروة ووصله ابن عائذ من حديث ابن عباس" أن النبي صلى الله عليه وسلم لما وصل إلى الأبواء بعث عبيدة بن الحارث في ستين رجلا فلقوا جمعا من قريش فتراموا بالنبل، فرمى سعد بن أبي وقاص بسهم، وكان أول من رمى بسهم في سبيل الله" وعند الأموي: يقال إن حمزة بن عبد المطلب أول من عقد له رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإسلام راية، وكذا جزم به موسى بن عقبة وأبو معشر والواقدي في آخرين قالوا: وكان حامل رايته أبو مرثد حليف حمزة، وذلك في شهر رمضان من السنة الأولى، وكانوا ثلاثين رجلا ليعترضوا عير قريش، فلقوا أبا جهل في جمع كثير، فحجز بينهم مجدي. وأما بواط فبفتح الموحدة وقد تضم وتخفيف الواو وآخره مهملة: جبل من جبال جهينة بقرب ينبع، قال ابن إسحاق. ثم غزا في شهر ربيع الأول يريد قريشا أيضا حتى بلغ بواط من ناحية رضوي ورجع ولم يلق أحدا، ورضوي بفتح الراء وسكون المعجمة مقصور: جبل مشهور عظيم بينبع، قال ابن هشام: وكأن استعمل على المدينة السائب بن عثمان بن مظعون، وفي نسخة السائب بن مظعون، وعليه جرى السهيلي. وقال الواقدي سعد بن معاذ. وأما العشيرة فلم يختلف على أهل المغازي أنها بالمعجمة والتصغير وآخرها هاء، قال ابن إسحاق هي ببطن ينبع، وخرج إليها جمادى الأولى يريد قريشا أيضا، فوادع فيها بني مدلج من كنانة. قال ابن هشام استعمل فيها على المدينة أبا مسلمة بن عبد الأسد. وذكر الواقدي أن هذه السفرات الثلاث كان يخرج فيها ليلتقي تجار قريش حين يمرون إلى الشام ذهابا وإيابا، وسبب ذلك أيضا أنها كانت وقعة بدر وكذلك السرايا التي بعثها قبل بدر كما سيأتي، قال ابن إسحاق: ولما رجع إلى المدينة لم يقم إلا ليالي حتى أغار كرز بن جابر الفهري على سرح المدينة، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم في طلبه حتى بلغ سفران - بفتح المهملة والفاء - من ناحية بدر، فقاتله كرز بن جابر، وهذه هي بدر الأولى، وقد تقدم في العلم البيان عن سرية عبد الله بن جحش وأنه ومن معه لقوا ناسا من قريش راجعين بتجارة من الشام فقاتلوهم، واتفق وقوع ذلك في رجب، فقتلوا منهم وأسروا وأخذوا الذي كان معهم، وكان أول قتل وقع في الإسلام وأول مال غنم، وممن قتل عبد الله بن الحضرمي أخو عمرو بن الحضرمي الذي حرض به أبو جهل قريشا على القتال ببدر. وقال الزهري: أول آية نزلت في القتال كما أخبرني عروة عن عائشة {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} أخرجه النسائي وإسناده صحيح. وأخرج هو والترمذي وصححه الحاكم من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: "لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة قال أبو بكر: أخرجوا نبيهم، ليهلكن. فنزلت: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ} الآية. قال ابن عباس: فهي أول آية أنزلت في القتال" وذكر غيره أنهم أذن لهم في قتال من قاتلهم بقوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} ثم أمروا بالقتال مطلقا بقوله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا} الآية. قوله: "حدثنا وهب" هو ابن جرير بن حازم، وأبو إسحاق هو السبيعي. قوله: "فقيل له" القائل هو الراوي أبو إسحاق بينه إسرائيل بن يونس عن أبي إسحاق كما سيأتي آخر المغازي بلفظ: "سألت زيد بن أرقم" ويؤيده أيضا قوله في هذه الرواية آخرا "فأيهم". قوله: "تسع عشرة" كذا قال ومراده الغزوات التي خرج النبي صلى الله عليه وسلم فيها بنفسه سواء قاتل أو لم يقاتل، لكن روى أبو يعلى من طريق أبي الزبير عن جابر أن عدد الغزوات إحدى وعشرون وإسناده صحيح وأصله في مسلم، فعلى هذا ففات زيد بن أرقم ذكر ثنتين منها ولعلهما الأبواء وبواط، وكأن ذلك خفي عليه لصغره، ويؤيد ما قلته ما وقع عند مسلم بلفظ: "قلت أول غزوة غزاها؟ قال:

(7/280)


ذات العشير أو العشيرة" ا هـ والعشيرة كما تقدم هي الثالثة، وأما قول ابن التين: يحمل قول زيد بن أرقم على أن العشيرة أول ما غزا هو، أي زيد بن أرقم، فقلت ما أول غزوة غزاها أي وأنت معه؟ قال: العشير، فهو محتمل أيضا، ويكون قد خفي عليه ثنتان مما بعد ذلك. أو عد الغزوتين واحدة، فقد قال موسى بن عقبة" قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه في ثمان: بدر ثم أحد ثم الأحزاب ثم المصطلق ثم خيبر ثم مكة ثم حنين ثم الطائف" ا هـ وأهمل غزوة قريظة لأنه ضمها إلى الأحزاب لكونها كانت في أثرها، وأفردها غيره لوقوعها منفردة بعد هزيمة الأحزاب، وكذا وقع لغيره عد الطائف وحنين واحدة لتقاربهما، فيجتمع على هذا قول زيد بن أرقم وقول جابر، وقد توسع ابن سعد فبلغ عدة المغازي التي خرج فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه سبعا وعشرين، وتبع في ذلك الواقدي، وهو مطابق لما عده ابن إسحاق إلا أنه لم يفرد وادي القرى من خيبر، أشار إلى ذلك السهيلي، وكأن الستة الزائدة من هذا القبيل، وعلى هذا يحمل ما أخرجه عبد الرزاق بإسناد صحيح عن سعيد بن المسيب قال: "غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعا وعشرين" وأخرجه يعقوب بن سفيان عن سلمة بن شبيب عن عبد الرزاق فيه أن سعيدا قال أولا ثماني عشرة ثم قال أربعا وعشرين، قال الزهري: فلا أدري أو هم أو كان شيئا سمعه بعد. قلت: وحمله على ما ذكرته يدفع الوهم ويجمع الأقوال والله أعلم. وأما البعوث والسرايا فعد ابن إسحاق ستا وثلاثين وعد الواقدي ثمانيا وأربعين. وحكى ابن الجوزي في "التلقيح" ستا وخمسين، وعد المسعودي ستين، وبلغها شيخنا في "نظم السيرة" زيادة على السبعين، ووقع عند الحاكم في "الإكليل" أنها تزيد على مائة فلعله أراد ضم المغازي إليها. قوله: "قلت فأيهم كان أول"؟ كذا للجميع، قال ابن مالك: والصواب "فأيها" أو "أيهن" ووجهه بعضهم على أن المضاف محذوف والتقدير فأي غزوتهم؟ قلت: وقد أخرجه الترمذي عن محمود بن غيلان عن وهب بن جرير بالإسناد الذي ذكره المصنف بلفظ: "قلت فأيتهن"؟ فدل على أن التعبير من البخاري أو من شيخه عبد الله بن محمد المسندي أو من شيخه وهب بن جرير حدث به مرة على الصواب ومرة على غيره إن لم يصح له توجيه. قوله: "العشير أو العشيرة" كذا بالتصغير والأول بالمعجمة بلا هاء والثانية بالمهملة وبالهاء، ووقع في الترمذي العشير أو العسير بلا هاء فيهما. قوله: "فذكرت لقتادة" القائل هو شعبة، وقول قتادة" العشيرة" هو بالمعجمة وبإثبات الهاء ومنهم من حذفها، وقول قتادة هو الذي اتفق عليه أهل السير وهو الصواب، وأما غزوة العسيرة بالمهملة فهي غزوة تبوك قال الله تعالى: {الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} وسميت بذلك لما كان فيها من المشقة كما سيأتي بيانه، وهي بغير تصغير، وأما هذه فنسبت إلى المكان الذي وصلوا إليه واسمه العشير أو العشيرة يذكر ويؤنث وهو موضع، وذكر ابن سعد أن المطلوب في هذه الغزاة هي عير قريش التي صدرت من مكة إلى الشام بالتجارة ففاتتهم، وكانوا يترقبون رجوعها فخرج النبي صلى الله عليه وسلم يتلقاها ليغنمها، فبسبب ذلك كانت وقعة بدر، قال ابن إسحاق: فإن السبب في غزوة بدر ما حدثني يزيد بن رومان عن عروة أن أبا سفيان كان بالشام في ثلاثين راكبا منهم مخرمة بن نوفل وعمرو بن العاص، فأقبلوا في قافلة عظيمة فيها أموال قريش، فندب النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، وكان أبو سفيان يتجسس الأخبار فبلغه أن النبي صلى الله عليه وسلم استنفر أصحابه بقصدهم، فأرسل ضمضم بن عمرو الغفاري إلى قريش بمكة يحرضهم على المجيء لحفظ أموالهم ويحذرهم المسلمين فاستنفرهم ضمضم، فخرجوا في ألف راكب ومعهم مائة فرس، واشتد حذر أبي سفيان فأخذ طريق الساحل وجد في السير حتى فات المسلمين، فلما أمن أرسل إلى من يلقى قريشا يأمرهم

(7/281)


بالرجوع، فامتنع أبو جهل من ذلك، فكان ما كان من وقعة بدر.

(7/282)


2 - باب ذِكْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ يُقْتَلُ بِبَدْرٍ
3950- حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ حَدَّثَنَا شُرَيْحُ بْنُ مَسْلَمَةَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَدَّثَ عَنْ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ أَنَّهُ قَالَ كَانَ صَدِيقًا لِأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ وَكَانَ أُمَيَّةُ إِذَا مَرَّ بِالْمَدِينَةِ نَزَلَ عَلَى سَعْدٍ وَكَانَ سَعْدٌ إِذَا مَرَّ بِمَكَّةَ نَزَلَ عَلَى أُمَيَّةَ فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ انْطَلَقَ سَعْدٌ مُعْتَمِرًا فَنَزَلَ عَلَى أُمَيَّةَ بِمَكَّةَ فَقَالَ لِأُمَيَّةَ انْظُرْ لِي سَاعَةَ خَلْوَةٍ لَعَلِّي أَنْ أَطُوفَ بِالْبَيْتِ فَخَرَجَ بِهِ قَرِيبًا مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ فَلَقِيَهُمَا أَبُو جَهْلٍ فَقَالَ يَا أَبَا صَفْوَانَ مَنْ هَذَا مَعَكَ فَقَالَ هَذَا سَعْدٌ فَقَالَ لَهُ أَبُو جَهْلٍ أَلاَ أَرَاكَ تَطُوفُ بِمَكَّةَ آمِنًا وَقَدْ أَوَيْتُمْ الصُّبَاةَ وَزَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ تَنْصُرُونَهُمْ وَتُعِينُونَهُمْ أَمَا وَاللَّهِ لَوْلاَ أَنَّكَ مَعَ أَبِي صَفْوَانَ مَا رَجَعْتَ إِلَى أَهْلِكَ سَالِمًا فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ وَرَفَعَ صَوْتَهُ عَلَيْهِ أَمَا وَاللَّهِ لَئِنْ مَنَعْتَنِي هَذَا لاَمْنَعَنَّكَ مَا هُوَ أَشَدُّ عَلَيْكَ مِنْهُ طَرِيقَكَ عَلَى الْمَدِينَةِ فَقَالَ لَهُ أُمَيَّةُ لاَ تَرْفَعْ صَوْتَكَ يَا سَعْدُ عَلَى أَبِي الْحَكَمِ سَيِّدِ أَهْلِ الْوَادِي فَقَالَ سَعْدٌ دَعْنَا عَنْكَ يَا أُمَيَّةُ فَوَاللَّهِ لَقَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّهُمْ قَاتِلُوكَ قَالَ بِمَكَّةَ قَالَ لاَ أَدْرِي فَفَزِعَ لِذَلِكَ أُمَيَّةُ فَزَعًا شَدِيدًا فَلَمَّا رَجَعَ أُمَيَّةُ إِلَى أَهْلِهِ قَالَ يَا أُمَّ صَفْوَانَ أَلَمْ تَرَيْ مَا قَالَ لِي سَعْدٌ قَالَتْ وَمَا قَالَ لَكَ قَالَ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا أَخْبَرَهُمْ أَنَّهُمْ قَاتِلِيَّ فَقُلْتُ لَهُ بِمَكَّةَ قَالَ لاَ أَدْرِي فَقَالَ أُمَيَّةُ وَاللَّهِ لاَ أَخْرُجُ مِنْ مَكَّةَ فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ اسْتَنْفَرَ أَبُو جَهْلٍ النَّاسَ قَالَ أَدْرِكُوا عِيرَكُمْ فَكَرِهَ أُمَيَّةُ أَنْ يَخْرُجَ فَأَتَاهُ أَبُو جَهْلٍ فَقَالَ يَا أَبَا صَفْوَانَ إِنَّكَ مَتَى مَا يَرَاكَ النَّاسُ قَدْ تَخَلَّفْتَ وَأَنْتَ سَيِّدُ أَهْلِ الْوَادِي تَخَلَّفُوا مَعَكَ فَلَمْ يَزَلْ بِهِ أَبُو جَهْلٍ حَتَّى قَالَ أَمَّا إِذْ غَلَبْتَنِي فَوَاللَّهِ لاَشْتَرِيَنَّ أَجْوَدَ بَعِيرٍ بِمَكَّةَ ثُمَّ قَالَ أُمَيَّةُ يَا أُمَّ صَفْوَانَ جَهِّزِينِي فَقَالَتْ لَهُ يَا أَبَا صَفْوَانَ وَقَدْ نَسِيتَ مَا قَالَ لَكَ أَخُوكَ الْيَثْرِبِيُّ قَالَ لاَ مَا أُرِيدُ أَنْ أَجُوزَ مَعَهُمْ إِلاَّ قَرِيبًا فَلَمَّا خَرَجَ أُمَيَّةُ أَخَذَ لاَ يَنْزِلُ مَنْزِلًا إِلاَّ عَقَلَ بَعِيرَهُ فَلَمْ يَزَلْ بِذَلِكَ حَتَّى قَتَلَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِبَدْرٍ"
قوله "باب ذكر النبي صلى الله عليه وسلم من يقتل ببدر" أي قبل وقعة بدر بزمان فكان كما قال ووقع عند مسلم من حديث أنس عن عمر قال"أن النبي صلى الله عليه وسلم ليرنا مصارع أهل بدر يقول: هذا مصرع فلان غدا إن شاء الله وهذا مصرع فلان . فو الذي بعثه بالحق ما أخطأوا تلك الحدود" الحديث وهذا وقع وهم ببدر في الليلة التي التقوا في صبيحتها, بخلاف حديث الباب فإنه قبل ذلك بزمان. قوله: "شريح" هو بمعجمة وآخره مهملة، وإبراهيم بن يوسف عن أبيه هو يوسف بن إسحاق السبيعي. قوله: "أنه سمع عبد الله بن مسعود حدث عن سعد بن

(7/282)


معاذ قال كان صديقا" فيه التفات على رأي، والسياق يقتضي أن يقول كنت صديقا، ويحتمل أن يكون" قال: "زائدة ويكون قوله: "قال: "من كلام ابن مسعود، والمراد سعد بن معاذ، وهي رواية النسفي. قوله: "على أمية" بن خلف ووقع في علامات النبوة من طريق إسرائيل عن ابن إسحاق "أمية بن خلف بن صفوان"، كذا للمروزي، وكذا أخرجه أحمد والبيهقي من طريق إسرائيل، والصواب ما عند الباقين" أمية بن خلف أبي صفوان"، وعند الإسماعيلي: "أبي صفوان أمية بن خلف" وهي كنية أمية كني بابنه صفوان بن أمية، وكذلك اتفق أصحاب أبي إسحاق ثم أصحاب إسرائيل على أن المنزول عليه أمية بن خلف، وخالفهم أبو علي الحنفي فقال: نزل على عتبة بن ربيعة، وساق القصة كلها، أخرجه البزار. وقول الجماعة أولى. وعتبة بن ربيعة قتل ببدر أيضا لكنه لم يكن كارها في الخروج من مكة إلى بدر، وإنما حرض الناس على الرجوع بعد أن سلمت تجارتهم فخالفه أبو جهل، وفي سياق القصة البيان الواضح أنها لأمية بن خلف لقوله فيها" فقال لامرأته يا أم صفوان" ولم يكن لعتبة بن ربيعة امرأة يقال لها أم صفوان. قوله: "فقال" أي سعد بن معاذ "لأمية" بن خلف "انظر لي ساعة خلوة" في رواية إسرائيل" فقال أمية لسعد: ألا تنظر حتى يكون نصف النهار" والجمع بينهما بأن سعدا سأله وأشار عليه أمية، وإنما اختار له نصف النهار لأنه مظنة الخلوة. قوله: "ألا أراك" بتخفيف اللام للاستفتاح، وللكشميهني بحذف همزة الاستفهام وهي مرادة. قوله: "أو يتم" بالمد والقصر، والصباة بضم المهملة وتخفيف الموحدة جمع صابي بموحدة مكسورة ثم تحتانية خفيفة بغير همز وهو الذي ينتقل من دين إلى دين. وفي رواية إسرائيل "وقد أويتم محمدا وأصحابه". قوله: "طريقك على المدينة" أي ما يقاربها أو يحاذيها، قالا الكرماني: طريقك بالنصب والرفع. قلت: النصب أصح لأن عامله لأمنعنك، فهو بدل من قوله ما هو أشد عليك، وأما الرفع فيحتاج إلى تقدير. وفي رواية إسرائيل متجرك إلى الشام، وهو المراد بقطع طريقه على المدينة. قوله: "على أبي الحكم" هي كنية أبي جهل، والنبي صلى الله عليه وسلم هو الذي لقبه بأبي جهل. قوله: "فوالله لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إنهم قاتلوك" كذا أتى بصيغة الجمع والمراد المسلمون، أو النبي صلى الله عليه وسلم، وذكره بهذه الصيغة تعظيما، وفي بقية سياق القصة ما يؤيد هذا الثاني، ووقع لبعضهم "قاتليك" بتحتانية بدل الواو وقالوا هي لحن، ووجهت بحذف الأداة والتقدير أنهم يكونون قاتليك. وفي رواية إسرائيل "أنه قاتلك" بالإفراد، وقد قدمت في "علامات النبوة" بيان وهم الكرماني في شرح هذا الموضع وأنه ظن أن الضمير لأبي جهل فاستشكله فقال إن أبا جهل لم يقتل أمية، ثم تأول ذلك بأنه كان سببا في خروجه حتى قتل. قلت: ورواية الباب كافية في الرد عليه، فإن فيها" أن أمية قال لامرأته: إن محمدا أخبرهم أنه قاتلي" ولم يتقدم في كلامه لأبي جهل ذكر. قوله: "ففزع لذلك أمية فزعا شديدا" بين سبب فزعه في رواية إسرائيل ففيها" قال فوالله ما يكذب محمدا إذا حدث" ووقع عند البيهقي "فقال والله ما يكذب محمد، فكاد أن يحدث" كذا وقع عنده بضم التحتانية وسكون المهملة وكسر الدال من الحدث وهو خروج الخارج من أحد السبيلين، والضمير لأمية أي أنه كاد أن يخرج منه الحدث من شدة فزعه، وما أظن ذلك إلا تصحيفا. قوله: "فلما رجع أمية إلى أهله" أي امرأته "فقال يا أم صفوان" هي كنيتها، واسمها صفية ويقال كريمة بنت معمر بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح، وهي من رهط أمية فأمية ابن عم أبيها، وقيل اسمها فاختة بنت الأسود. قوله: "ما قال لي سعد" وفي رواية إسرائيل "ما قال لي أخي اليثربي" ذكر الأخوة باعتبار ما كان بينهما من المؤاخاة في الجاهلية، ونسبه إلى يثرب وهو

(7/283)


اسم المدينة قبل الإسلام. قوله: "فقلت له: بمكة؟ قال: لا أدري. فقال أمية: والله لا أخرج من مكة" يؤخذ منه أن الأخذ بالمحتمل حيث يتحقق الهلاك في غيره أو يقوى الظن أولى. قوله: "فلما كان يوم بدر" زاد إسرائيل "وجاء الصريخ" وفيه إشارة إلى ما أخرجه ابن إسحاق كما تقدم قبل هذا الباب، وعرف أن اسم الصريخ ضمضم بن عمرو الغفاري، وذكر ابن إسحاق بأسانيده أنه لما وصل إلى مكة جدع بعيره وحول رحله وشق قميصه وصرخ: يا معشر قريش أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد، الغوث الغوث. قوله: "أدركوا عيركم" بكسر المهملة وسكون التحتانية أي القافلة التي كانت مع أبي سفيان. قوله: "انك من يراك الناس" في رواية الكشميهني وحده "متى ما يراك الناس" بزيادة "ما" وهي الزائدة الكافة عن العمل، وبحذفها كان حق الألف من "يراك" أن تحذف، لأن متى للشرط وهي تجزم الفعل المضارع، قال ابن مالك: يخرج ثبوت الألف على أن قوله: "يراك" مضارع راء بتقديم الألف على الهمزة وهي لغة في رأي قال الشاعر: إذا راءني أبدي بشاشة واصل ومضارعه يراء بمد ثم همز، فلما جزمت حذفت الألف ثم أبدلت الهمزة ألفا فصار يرا، وعلى أن متى شبهت بإذا فلم يجزم بها، وهو كقول عائشة الماضي في الصلاة في أبي بكر "متى يقوم مقامك" أو على إجراء المعتل مجرى الصحيح كقول الشاعر: ولا ترضاها ولا تملق أو على الإشباع كما قرئ "أنه من يتقي". قلت: ووقع في رواية الأصيلي: "متى يرك الناس" بحذف الألف وهو الوجه. قوله: "وأنت سيد أهل الوادي" أي وادي مكة، قد تقدم أن أمية وصف بها أبا جهل لما خاطب سعدا بقوله: "لا ترفع صوتك على أبي الحكم وهو سيد أهل الوادي" فتقارضا الثناء وكان كل منهما سيدا في قومه. قوله: "فلم يزل به أبو جهل" بين ابن إسحاق الصفة التي كاد بها أبو جهل أمية حتى خالف رأي نفسه في ترك الخروج من مكة فقال: "حدثني ابن أبي نجيح أن أمية بن خلف كان قد أجمع على عدم الخروج، وكان شيخا جسيما، فأتاه عقبة بن أبي معيط بمجمرة حتى وضعها بين يديه فقال: إنما أنت من النساء، فقال: قبحك الله". وكأن أبا جهل سلط عقبة عليه حتى صنع به ذلك، وكان عقبة سفيها. قوله: "لأشترين أجود بعير بمكة" يعني فأستعد عليه للهرب إذا خفت شيئا. قوله: "ثم قال أمية" في الكلام حذف تقديره: فاشترى البعير الذي ذكر ثم قال لامرأته. قوله: "لا يترك منزلا إلا عقل بعيره" في رواية الكشميهني: "ينزل" بنون وزاي ولام من النزول وهي أوجه من رواية غيره: "يترك" بمثناة وراء وكاف. قوله: "فلم يزل بذلك" أي على ذلك. قوله: "حتى قتله الله ببدر" تقدم في الوكالة حديث عبد الرحمن بن عوف في صفة قتله، وستأتي الإشارة إليه في هذه الغزوة. وذكر الواقدي أن الذي ولي قتله خبيب وهو بالمعجمة وموحدة مصغر، ابن إساف بكسر الهمزة ومهملة خفيفة الأنصاري. وقال ابن إسحاق: قتله رجل من بني مازن من الأنصار. وقال ابن هشام: يقال اشترك فيه معاذ بن عفراء وخارجة بن زيد وخبيب المذكور. وذكر الحاكم في "المستدرك" أن رفاعة بن رافع طعنه بالسيف، ويقال قتله بلال. وأما ابنه علي بن أمية فقتله غمار. وفي الحديث معجزات للنبي صلى الله عليه وسلم ظاهرة، وما كان عليه سعد بن معاذ من قوة النفس واليقين. وفيه أن شأن العمرة كان قديما، وأن الصحابة كان مأذونا لهم في الاعتمار من قبل أن يعتمر النبي صلى الله عليه وسلم بخلاف الحج، والله أعلم.

(7/284)


3 - باب قِصَّةِ غَزْوَةِ بَدْرٍ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى [123- 126 آل عمران]:
{وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ

(7/284)


أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُنْزَلِينَ بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ}
وَقَالَ وَحْشِيٌّ قَتَلَ حَمْزَةُ طُعَيْمَةَ بْنَ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ يَوْمَ بَدْرٍ وَقَوْلُهُ تَعَالَى[7 الأنفال]: {وَإِذْ يَعِدُكُمْ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ} الْآيَةَ
3951- حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ كَعْبٍ قَالَ سَمِعْتُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ "لَمْ أَتَخَلَّفْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا إِلاَّ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ غَيْرَ أَنِّي تَخَلَّفْتُ عَنْ غَزْوَةِ بَدْرٍ وَلَمْ يُعَاتَبْ أَحَدٌ تَخَلَّفَ عَنْهَا إِنَّمَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ عِيرَ قُرَيْشٍ حَتَّى جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَدُوِّهِمْ عَلَى غَيْرِ مِيعَادٍ".
قوله: "قصة غزوة بدر" كذا للأكثر وثبت" باب" في رواية كريمة. قوله: "قول الله تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} إلى {فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ} كذا للأكثر، وللأصيلي نحوه قال بعد قوله: {وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} : إلى قوله: {فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ} وساق الآيات كلها في رواية كريمة. قوله: "ببدر" هي قرية مشهورة نسبت إلى بدر بن مخلد بن النضر بن كنانة كان نزلها، ويقال بدر بن الحارث، ويقال بدر اسم البئر التي بها، سميت بذلك لاستدارتها أو لصفاء مائها فكان البدر يرى فيها، وحكى الواقدي إنكار ذلك كله عن غير واحد من شيوخ بني غفار، وإنما هي مأوانا ومنازلنا وما ملكها أحد قط يقال له بدر، وإنما هو علم عليها كغيرها من البلاد. قوله: {وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} أي قليلون بالنسبة إلى من لقيهم من المشركين، ومن جهة أنهم كانوا مشاة إلا القليل منهم، ومن جهة أنهم كانوا عارين من السلاح وكان المشركون على العكس من ذلك، والسبب في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم ندب الناس إلى تلقي أبي سفيان لأخذ ما معه من أموال قريش، وكان من معه قليلا فلم يظن أكثر الأنصار أنه يقع قتال فلم يجز معه منهم إلا القليل، ولم يأخذوا أهبة الاستعداد كما ينبغي، بخلاف المشركين فإنهم خرجوا مستعدين ذابين عن أموالهم. وأما قوله: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ} فاختلف فيها أهل التأويل، فمنهم من قال: هي متعلقة بقوله: {نَصَرَكُمُ} فعلى هذا هي في قصة بدر، وعليه عمل المصنف، وهو قول الأكثر وبه جزم الداودي، وأنكره ابن التين فذهل. وقيل هي متعلقة بقوله: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} فعلى هذا فهي متعلقة بغزوة أحد وهو قول عكرمة وطائفة، ويؤيد الأول ما روى ابن أبي حاتم بسند صحيح إلى الشعبي" أن المسلمين بلغهم يوم بدر أن كرز بن جابر يمد المشركين، فأنزل الله تعالى: {أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ} الآية قال يمد كرز المشركين ولم يمد المسلمين بالخمسة، ومن طريق سعيد عن قتادة قال: "أمد الله المسلمين بخمسة آلاف من الملائكة" وعن الربيع بن أنس قال: "أمد الله المسلمين يوم بدر بألف، ثم زادهم فصاروا ثلاثة آلاف ثم زادهم فصاروا خمسة آلاف" وكأنه جمع بذلك بين آل عمران والأنفال، وقد لمح المصنف بالاختلاف في

(7/285)


النزول فذكر قوله تعالى: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ} في غزوة أحد، وكذلك قوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} وذكر ما عدا ذلك في غزوة بدر وهو المعتمد. قوله: "فورهم: غضبهم" ثبت هكذا في رواية الكشميهني وهو قول عكرمة ومجاهد وروي عن ابن عباس.وقال الحسن وقتادة والسدي: معناه من وجههم. قوله: "وقال وحشي" أي ابن حرب "قتل حمزة" أي ابن عبد المطلب "طعيمة بن عدي بن الخيار يوم بدر" كذا وقع فيه: "ابن الخيار" وهو وهم وصوابه" ابن نوفل" وسأبين ذلك في الكلام على قصة مقتل حمزة في غزوة أحد إن شاء الله تعالى. قوله: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} هذه الآية نزلت في قصة بدر بلا خلاف، بل جميع سورة الأنفال أو معظمها نزلت في قصة بدر، وسيأتي في تفسير قول سعيد بن جبير" قلت لابن عباس سورة الأنفال قال نزلت في بدر" والمراد بالطائفتين العير والنفير، فكان في العير أبو سفيان ومن معه كعمرو بن العاص ومخرمة بن نوفل وما معه من الأموال، وكان في النفير أبو جهل وعتبة بن ربيعة وغيرهما من رؤساء قريش مستعدين بالسلاح متأهبين للقتال، وكان ميل المسلمين إلى حصول العير لهم، وهو المراد بقوله: {وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} والمراد بذات الشوكة الطائفة التي فيها السلاح. قوله: "الشوكة الحد" هو قول أبي عبيدة، قال في كتاب المجاز" ويقال ما أشد شوكة بني فلان أي حدهم، وكأنها استعارة من واحدة الشوك، وروى الطبراني وأبو نعيم في "الدلائل" من طريق علي بن طلحة عن ابن عباس قال: "أقبلت عير لأهل مكة من الشام، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم يريدها، فبلغ ذلك أهل مكة فأسرعوا إليها وسبقت العير المسلمين، وكان الله وعدهم إحدى الطائفتين، وكانوا أن يلقوا العير أحب إليهم وأيسر شوكة وأخص مغنما من أن يلقوا النفير، فلما فاتهم العير نزل النبي صلى الله عليه وسلم بالمسلمين بدرا فوقع القتال". ذكر المصنف طرفا من حديث كعب بن مالك في قصة توبته، وسيأتي في غزوة تبوك، والغرض منه هنا قوله: "ولم يعاتب أحد" وهو بفتح التاء على البناء للمجهول، ووقع في رواية الكشميهني: "ولم يعاتب الله أحدا" وقوله فيه: "إنما خرج النبي صلى الله عليه وسلم يريد عير قريش" أي ولم يرد القتال. وقوله: "حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد" أي ولا إرادة قتال. والعير المذكورة يقال كانت ألف بعير، وكان المال خمسين ألف دينار، وكان فيها ثلاثون رجلا من قريش وقيل أربعون وقيل ستون، وقوله: "غير أني تخلفت في غزوة بدر" وهو استثناء من المفهوم في قوله: "لم أتخلف إلا في تبوك" فإن مفهومه أني حضرت في جميع الغزوات ما خلا غزوة تبوك، والسبب في كونه لم يستثنهما معا بلفظ واحد كونه تخلف في تبوك مختارا لذلك مع تقدم الطلب ووقوع العتاب على من تخلف، بخلاف بدر في ذلك كله، فلذلك غاير بين التخلفين.

(7/286)


باب قول الله تعالى {إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم}
...
4 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى[9-12 الأنفال]
{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ إِذْ يُغَشِّيكُمْ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلاَئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ

=

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أشعار النساء - ط عالم الكتب المؤلف المرزباني

  أشعار النساء للمرزباني ثالث ما ألف من الكتب في أشعار النساء، بعد (أشعار الجواري) للمفجع البصري المتوفى سنة 327هـ و(الإماء الشواعر)...