Translate فتح الباري وتفسير بن كثير كيكي520.

الجمعة، 10 يونيو 2022

مجلد 1 و2. معاني القرآن وإعرابه - للزَّجَّاج المؤلف : أبو إسحاق إبراهيم السَّرِي بن سَهل " المعروف بـ الزَّجَّاج " (المتوفي 311 هـ)

 مجلد 1 و2. معاني القرآن وإعرابه - للزَّجَّاج
المؤلف : أبو إسحاق إبراهيم السَّرِي بن سَهل " المعروف بـ الزَّجَّاج " (المتوفي 311 هـ)

مجلد 1 . معاني القرآن وإعرابه - للزَّجَّاج
المؤلف : أبو إسحاق إبراهيم السَّرِي بن سَهل " المعروف بـ الزَّجَّاج " (المتوفي 311 هـ)

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الكتاب : معاني القرآن وإعرابه - للزَّجَّاج

المؤلف : أبو إسحاق إبراهيم السَّرِي بن سَهل " المعروف بـ الزَّجَّاج "
(المتوفي 311 هـ)
الناشر : عالم الكتب - بيروت
الطبعة الأولى 1408 هـ - 1988 م
عدد الأجزاء : 5
تنبيه :
[ ترقيم الكتاب موافق للمطبوع ]
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات
مصدر الكتاب نسخة مصورة قام الشيخ الجليل نافع - جزاه الله خيرا - بتحويلها
وقام الفقير إلى عفو ربه الكريم القدير بتصويبه
والحمد لله أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً.
* * * * * * * * * * * *
تنبيهات مهمة وضرورية
أولاً : بخصوص الكتاب فمحاسنه وفوائده وفرائده فاقت الحصر
ولكن يؤخذ عليه أمران :
أولهما : ذكره لبعض الإسرائيليات دون إقرار أو إنكار.
والثاني : الطعن في بعض القراءات المتواترة والترجيح بينها ، شأنه في ذلك شأن بعض المفسرين كالإمام الطبري والزمخشري.
ثانيا بخصوص تحقيق الكتاب وطباعته
وجدت بعض الأمور المخجلة والتي ضاق بها صدري مما يجعلني أجزم بأن تحقيق هذا الكتب وإخراجه بهذه الصورة الرديئة عمل سوقي لا يتناسب مع جلال هذا السفر العظيم وقدره
غفر الله لنا ولمحقق الكتاب وأصحاب الدار التي تولَّت نشره
لكني أحمدُ الله أن وفقني لجبر هذا الكسر - قدر طاقتي المحدودة :
هذه الأمور تتلخص في الآتي :
1 - تصحيف وأخطاء في الآيات القرآنية وعدم صحة الضبط في كثير من المواضع.
2 - وضع تفسير بعض الآيات في غير موضعها
3 - إهمال التشكيل والضبط في المقارنة بين القراءات المتنوعة
بل أحيانا يقلب التشكيل فيشكل الأمر على القارئ
مما جعل جهدي مضاعفاً
4 - أخطاءٌ فاقت الحصر في الأبيات الشعرية
5 - عشرات الكلمات المشتبهة في المخطوط ينقلها المحقق كما هي دون تصويب ولم يكلف نفسه الرجوع إلى كتب اللغة والتفسير والقراءات لتصويبها أو الوقوف على الحق فيها ، بل من العجيب أنه يحاول أن يفسرها في تعليقاته وفق فهمه ، وأَذكر مثالاً واحداً لذلك فقط
في قوله تعالى في سورة النجم (عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15)
وقرئت (عِنْدَهَا جَنَّهُ الْمَأْوَى) - بالهاء - انتهى نص الكتاب
والمراد جَنَّهُ (فعل ماض بمعنى ستره المأوى)
لكنه المحقق كتبها هكذا (عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى)
وعلق عليها بقوله (أي المهوى)
فهل سمعتم بجنة المهوى
6 - وفقنا الله تعالى لتصويب ذلك كله
إما من لسان العرب أو التفاسير - خصوصاً - تفسير (زاد المسير) لابن الجوزي فقد كان كثير النقل عن الزجاج - رحمهما الله -
7 - زَيَّنتُ الكتاب بتعليقاتٍ للعلامة السَّمين الحلبي زيادة في الإيضاح
وهو نور يضاف إلى أنوار هذا الكتاب النفيس
8 - أضفت بعض تعليقات المفسرين كالإمام فخر الدين الرَّازي
والإمام زين الدين محمد بن أبى بكر الرَّازى على بعض الآيات المشكلة
كقوله تعالى (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ)
وقوله تعالى في حق أهل الجنة والنار (خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ)
9 - تمَّ الرد على ما ذكر من إسرائيليات في الكتاب وإن كانت قليله.
10 - الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ تَمَّ كتابةُ سورة النَّاسِ من مخطوط معاني القرآن وإعرابه للزجاج ، وجزى اللَّهُ أخانا المفضال " محمود الشويحي " خيراً فقد أرشدنا إلى بحث للدكتور حاتم صالح الضامن - كتب الله أجره - يحتوي على نسخة فيها تفسير سورة النَّاسِ للزَّجَّاج.
11 - الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات أخرج الكتاب الآن بصورة مرضية ، ومن وجد خطأ فليصلحه برفقٍ ، وليعلم أنَّ الكمالَ لم يحظَ به كتابٌ قط إلا القرآن
* * *
أسأل الله أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم

(1/37)


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قَال أبو إسحاق إِبراهيمُ بنُ السَّري الزجَّاج :
هذا كتاب مختصر في إِعرَاب القُرآنِ ومَعَانِيه ، وَنَسْألُ اللَّه التَّوْفِيق فِي
كُل الأمُورِ.
قوله عزَّ وجلَّ : (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) :
الجالب للباءِ معنى الابتِدَاء ، كَأنَّك قُلْتَ : بَدَأتُ بِاسْم اللَّه الرحمن
الرحيم ، إِلا أنَّهُ لم يُحْتَج لذكر " بَدأت " لأن الحال تنبئ أنك مبتدئ.
وسقَطت الألف من باسم اللَّه في اللفظ وكان الأصلُ : " باسم اللَّه " لأنها
ألف وصل دخَلتْ ليتَوَصلَ بِهَا إِلى النُطْقِ بالسَّاكِن . والدَّلِيل على ذلِكَ أنَّك إذَا صغرت الاسم قلت سُمَيٌّ والعرب تقول : هَذا اسم ، وهذا اسم ، وهذا سِمٌ.
قال الرَّاجزُ :
بِاسمِ الذي في كل سُورَةٍ سِمُهُ .

(1/39)


وسُمه أيضاً روى ذلِك أبُو زَيد الأنصَارِيّ وَغَيْرُه من النَّحويينَ ، فَسَقَطَت
الألف لمَا ذكَرْنَا.
وكذلك قولك : " ابن " الألف فيه ألف وصل ، تقول في تصغيره " بُنَى).
ومعنى قولنا اسم : إنَّه مشتق من السمو ، والسمو الرفعة ، والأصل فيهِ سَمَو
- بالواو - على وزن جَمَل ، وجمعه أسْمَاء ، مثل قِنْو وأقناءٍ ، وحَنْو وأحْنَاء.
وَإنَّما جُعِلَ الاسْم تنويهاً باسم اللَّه على المعنى ؛ لأنَّ الْمَعْنَى تحتَ
الِإسْمَ.
ومنْ قال : إِنَّ اسْما مأخوذ من " وَسَمْتُ " فهو غلط ، لأنَّا لا نعرف شيئاً
دخلته ألف الوصل وحُذفت فاؤُه ، أعني فاءَ الفعل ، نحو قولك " عِدَة "
و " زِنَة ".
وأصْله " وعْدة " و " وَزْنة).
فلو كان " اسم " وسمة لكان تصغيره إذا حذفت منه

(1/40)


ألف الوصل " وُسَيْم " ، كما أن تصغيرَ عِدة وَصِلة : وُعَيْدة ، ووُصَيْلة ، ! ولا يقْدِر أحَد أنْ يَرى ألِف الوَصْلَ فيما حذفَتْ فاؤه من الأسماء.
وسقطت الألف في الكتاب من " بِسْم اللَّه الرحمن الرحيم "
ولم تسقط في (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) لأنه اجتمع فيها مع أنها تسقط في
اللفظ كثرةُ الاسْتعمَال.
وزعم سيبويه أن معنى الباء الإلصاق ، تقول كتبتُ بالقلم والمعنى أن
الكتابة ملصقة بالقلم ، وهي مكسورة أبداً لأنه - لا معنى لها إِلا الخفض
فوجب أن يكون لفظها مكسوراً ليفصل بين ما يجُر وهو اسم نحو كاف قولك
كزيد ، وما يجر وهو حرف نحو بزيد ، لأن أصل الحروف التي يُتَكلم بها
وهي على حرف واحد الفتحُ أبداً إلا أن تجِيءَ علة تزيلُه لأن الحرف الواحد لا حظ له في الإِعراب ، ولكن يقع مبتدأ في الكلام ولا يبتدأ بساكن فاختير الفتح لأنه أخف الحركات ، تقول رأيت زيداً وعمراً ، فالواو مفتوحة ، وكذلك فعمراً الفاءُ مفتوحة ، وإِنما كسرت اللام في قولك : " لِزَيد " ليفصل بين لام القسم ولام الِإضافة.
ألاترى أنك لوقلت : إِنَّ هذا لِزيدٍ علم أنه ملكه.
ولو قلت : " إِن هذا لَزَيدٌ " علم أنَّ المشار إِليه هو زَيد فلذَلكَ كُسِرَت اللام في قولك لِزَيْدٍ
ولو قلت : إِنَّ هذا المال لَكَ ، وإِنَ هذا لأنْت فتحت اللام لأنَّ اللبس قد
زال .

(1/41)


والذي قلناه في اللام هو مذهب سيبويه ويونس والخليل ، وأبي
عمرو بن العلاء وجميع النحويين الموثُوقِ بِعلْمِهِمْ.
وكذلك تقول : أزَيْد في الدار ؛ فالألف مفتوحة وليْس في الحُروف
المبتدأة مما هو على حرفٍ (حرفٌ) مكسور إِلا الباءُ ولام الأمر وحْدهما
وإنما كسرتا للعلة التي ذكرنا ، وكذلك لام الِإضافة ، والفتح أصلها.
وأما لام كي في قولك : جئتُ لِتَقُومَ يا هذا ، فهي لام الإضافة التي في
قولك " المالُ لِزَيدٍ " ، وإنما نُصبت تقوم بإضمار " أنْ " أو " كَيْ " الًتي في معنى " أنْ " ، فالمعنى : جئتُ لِقيَامِك.
وما قلناه في اشتقاق " اسم " قول لا نعلم أحَداً فسره قَبْلنا .

(1/42)


وأمَّا قولك : ليضْربْ زيد عمراً ، فإنما كسرت اللام ليُفْرقَ بينها وبين لام
التوكيد ، ولا يبالى بشبهها بلام الجر لأنَّ لام الجر لا تقع في الأفعال ، وتقع
لام التوكيد في الأفعال ، ألا ترى أنك لو قلت : لَتَضْرِبْ وأنت تأمر لأشبه لام التوكيد إذا قلت : إنك لتَضْرِبُ.
فهذا جملة ما في الحروف التي على حرف واحد.
فأما اسم اللَّه عزَّ وجلَّ فالألف فيه ألفُ وصل ، وأكْرهُ أنْ أذكر جميع ما
قال النحويون في اسم اللَّه أعني قولنا (اللَّه) تنزيهاً للَّهِ عزَّ وجلَّ.
**
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)
هذه الصفات للَّهِ عزَّ وجلَّ ، معناه فيما ذكر أبو عبيدة : ذو الرحمة.
ولا يجوز أنْ يُقَال " الرحْمَنُ " إلَّا للَّهِ ، وإنما كان ذَلك لأن بناءَ فَعْلان من أبنية
ما يُبالغُ في وَصْفِهِ ، ألا ترى أنك إذَا قُلْت غضْبانَ فمعناه الْمُمْتلئ غَضَباً.
فَرحْمنُ الَّذي وَسِعَتْ رحْمَتُهُ كل شي فلاَ يَجوزُ أنْ يُقَال لغير الله رحمن.
وخُفِضَتْ هذه الصفَاتُ لأنها ثَناء على اللَّه - عزَّ وجلَّ - فكان إعرابُها إعراب اسْمه ، ولو قلت فِي غَيْرِ القُرآنِ : بسم اللَّه الكريمَ والكريمُ ، والحمد لله رب العالمين ، ورب العالَمينَ : جاز ذلك ، فمن نصب ربَّ العالمين فإنما ينْصبُ

(1/43)


لأنَّهُ ثَنَاء على اللَّه ، كأنه لَمَّا قَال : الحمدُ للَّهِ اسْتدل بهذَا إللفْظِ أنه ذاكر اللَّه ، فقوله : رَبِّ الْعَالَمِينَ - كأنه قال أذْكُرُ ربَّ العالمين ، وإِذا قال ربُّ العالمين فهو على قولك : هو ربُّ العالمين : قال الشاعر :
وكل قوم أطاعوا أمْرَ مُرْشِدهم . . . إِلا نُمَيرا أطاعتْ أمر غَاوِيهَا
الطاعِنِينَ ولما يُظْعِنُوا أحَداً . . . والقائِلِينَ لِمنْ دارٌ نخَلِّيهَا
فيجِوز أن يُنْصب " الظأعنين " على ضربين : على إنَّه تابع نُميْرا ، وعلى
الذمِ ، كأنَّه قال : أذْكُر الظاعِنِينَ ، ولك أَن تَرْفَعَ تريدُ هم الظاعنون ، وكذلك لك في " الْقَائِلينَ " النصبُ والرفعُ ، ولك أنْ ترفَعهُما جميعاً ، ولك أنْ تنْصِبهما جمِيعاً ، ولك أن ترفَع الأول وتنصب الثانِي ، ولك أن تنْصِبَ الأولَ وترفَعَ الثاني . لا خلاف بين النحويين فيما وَصَفْنا .

(1/44)


سورة الفاتحة
ومن سورة الحمد
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله عزَّ وجلَّ : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)
(معنى الْحمْد الشُّكْرُ والثناءُ على الله تعالى . .
الحمدُ رفع بالابتداءِ ، وقوله : (لِلَّهِ) إِخباز عَنِ الْحمْدِ والاختيارُ في
الكلَامِ الرفْعُ ، فَأمَّا القُرآنُ فلا يُقْرأ فِيه (الحمدُ) إِلا بالرفع ، لأن السُّنة تتبع فِي القرآن ، ولَا يُلْتَفَتُ فِيَه إِلى غَير الرِّوايةِ الصحِيحَةِ ائَتي قدْ قرأ بها القُراءُ
المشْهُورُونَْ بالضَبطِ والثِّقةِ ، والرفعُ القَرَاءَةُ ، ويجوز ُ في الكلام أن تقول
" الحَمْدَ " تريد أحْمَد الله الْحَمْدَ فاستغنيْت عن ذِكْرِ " أحْمَد " لأن حَالَ
الحَمدُ يجب أن يكونَ عليها الْخَلْقُ ، إلا أنَّ الرفْعَ أحْسَنُ وأبلغ في الثناءِ على
الله عزَّ وجلَّ.
وقد رُوي عن قوم من العرب : " الحمدَ للّه " و " الحمدِ للَّهِ " ، وهذه لغة
من لا يُلْتَفَتُ إِليه ولا يتشاغل بالرواية عنه.
وإِنَما تشاغلْنَا نحنُ بِرِواية هذا الحرف لِنُحَذِّرَ الناس من أنْ يَسْتعْمِلُوه ،

(1/45)


أوْ يَظن - جاهل أنه يجوز ُ في كِتاب الله عزَّ وجلَّ ، أو فِي كَلَامٍ ، وَلَمْ يأتِ لهذَا نظير في كَلام العَرب . ولا وَجْه لَه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (رَبِّ الْعَالَمِينَ)
قد فسرنا أنه لا يجوز ُ في القرآن إِلا (رَبِّ الْعَالَمِينَ الرحمَنِ الرحيمِ)
وَإِنْ كان المرفع والنصب جائزين " في الكلام ، ولا يتخَير لكتاب
الله عزَّ وجلَّ إلا اللفظ الأفْضل الأجْزَل.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (العالمين) معناه كلُ مَا خلق اللَّه ، كَمَا قَال ؛
(وَهوَ ربُّ كل شيءٍ) وَهُوَ جَمْع عَالَم ، تَقول : هُؤلاءِ عَالَمونَ ، ورأيتُ عالَمِين ، ولا واحدَ لعَالَمٍ منْ لَفْظه لأن عالَماً جمع لأشياء مختلفة ، وأنْ جُعل
" عَالَم " لواحد منها صار جمعاً لأشْياء مُتَفِقَة.
والنُونُ فُتِحَت في العَالمين لأنَّها نُونُ الْجَمَاعَة وزعم سيبويه أنَّها
فتحت ليفرق بينَها وبينَ نون الِإثْنين ، تقول : هذان عالمانِ ، يا هذا ، فتكسر
نونَ الِإثنين لالتقاء السَّاكنين ، وهذا يُشْرح في موضِعه إِنْ شاءَ اللَّه ، وكذلك
نون الجماعة فتحت لالتقاء السَّاكنين ، ولم تكسر لثقل الكسرة بعد الواو والياء ألا ترى أنك تقول " سَوْفَ " أفعل فتفتح الفَاءَ من " سوْف " لالتقاء السَّاكنين ، ولم تَكْسِر لثقل الكسرة بعد الواو وكذلك تقول : أيْنَ زيد فتفتح النون لالتقاء السَّاكنين بعد الياءِ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)
القراءَة الخفض على مجرِى الحمدُ للَّهِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ.
وإِنْ نصب - في

(1/46)


الكلام - على ما نُصِب عليه (رب العالمين والرحْمنِ الرحِيم)
جازَ في الكلام.
فأما في الْقراءَةِ فلا أسْتحْسِنه فيها ، وقَدْ يجوز أنْ تنْصِب رب العالمين ومالك يومِ الدِّين على النداءِ في الكَلام كما تقول : الحمدُ للَّهِ يا ربَّ العَالمين ، " ويا
مَالكَ يَوْمِ الدِّين "
كأنك . بعد أن قُلْت . : " الحمدُ للهِ " قلت لك الْحْمدُ يا ربَّ
العالمين ويا مالك يوم الدين.
وقُرِئ (مَلِكِ يَوْمَ الدِّين ، ومَالِكِ يَوْمَ الدِّين).
وإنما خُصَّ يومُ الدِّين واللَّه عزَّ وجلَّ يَملك كل شَيءٍ لأنه اليومُ الذي
يضْطَر فيه الْمخلوقونَ إلى أنْ يعْرِفُوا أن الأمْر كلَّه للَّهِ ، ألا تراه يقولُ :
(لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) وقوله : (يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً)
فهو اليوم الذي لا يملك فيه أحد لنفسه ولا لغيره نَفْعاً ولا ضَرَاً.
ومن قرأ (مَالِك يَوْم الدِّين) فعلى قوله (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ).
وهو بمنزلة مَنِ الْمَالكُ الْيوْم.
ومن قرأ (مَلِكِ يَوْم الدِّين)
فعلى معنى " ذُو الْمَمْلَكَةِ " في يوم الدين ، وقيل إنها قراءَة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (يَوْم الدِّين).
الدين في اللغة الجزاءُ ، يقال : كما تَدِين تُدَان ، المعنى كما تعمل تُعْطى.
وتُجَازىَ ، قال الشاعر :

(1/47)


واعلم وأيْقن أن مُلككَ زائل . . . واعلم بأن كما تدِينُ تُدَانُ
أي تجازى بما تعمل ، والدِّينُ أيضاً في اللغة العَادَة ، تقولُ العربُ ما
زَال ذلك دِيني ، أي عَادَتي.
قال الشاعر :
تقول إذا دَرَاتُ لها وضيني . . . أهذا دِينه أبداً ودِينِي
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)
معنى العبادة في اللغة الطاعةُ مع الخُضُوع ، يقال هذا طَرِيق مُعّبد إذا
كان مُذللاً بكثْرةِ الوَطءِ ، وبعير معبَّدُ ، إِذا كانَ مَطْلِيًّا بِالْقَطْرَانِ.
فمعنى (إِياك نًعْبُدُ) : إِياك نطيع الطاعة التي - نَخضَع مَعها ، وموْضِع
(إِيَّاكَ) نصبُ بوقوع الفعل عليه وموْضع الكاف في (إِيَّاكَ) خفض بإضافة
" إِيَّا " إليها ، و " إِيَّا " اسم للمُضْمَر المنصوب إِلا أنهُ يُضاف إلى - سَائِر المضَمَراتِ ، نحو : إيَّاكَ ضَربْت وإياه ضربت ، وإياي حدَّثْت ، ولو قُلتَ : " إيا زَيدٍ " كان قبيحاً لأْنه خُص به الْمُضْمَر.
وقد رُوِي عن بعضِ العَرَب ، رواه الخليل : (إِذا بَلَغَ الرجُل الستين
فإياه وإيَّا الشوابَّ ".

(1/48)


ومن قال إن إياك بكماله الاسمُ ، قيل له : لم نر اسما للمضمر ولا
للمظهر يُضَاف وإنَّما يتغيرُ آخرُهُ ويبْقى ما قَبْل آخرِهِ على لفظٍ واحد.
والدَّلِيل على إضافته قولُ العرب : " إِذَا بَلغَ الرجُلُ الستِينَ فإياه وإيا الشَواب " يا هَذَا . وإِجراؤُهم الهاءَ في إيَاهُ مَجْرَاها في عصاه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ).
الأصل في نستعين : نَسْتَعْوِن لأنهُ إنما معناه من الْمَعُونَةِ والعَوْن.
ولكن الواو قُلِبَتْ ياءً لِثِقَل الكَسْرةِ فيها ، ونُقِلَتْ كَسْرَتُهَا إلى العين ، وبقيَتْ الياءٌ سَاكِنَة ، لأنَّ هذا مِنَ الإعْلالِ الذي يَتْبَع بعضُه بعْضاً نَحو أعان يُعِينَ وَأقَامَ يُقِيمُ ، وهذا يُشْرَحُ في مَكانِه شَرْحاً مُسْتَقْصًى إنْ شَاءَ اللَّه.
**
قوله عزَّ وجلَّ : (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)
معناه المنهاج الواضح قال الشاعر :
أميرُ المؤْمنين على صراط . . . إذا اعوج المناهج مستقيم
أي على طريق واضح.
ومعنى (اهْدِنَا وهم مهتدون : ثَبِّتْنا على الْهُدَى.
كما تقول للرجل القائم : قم لي حتى أعود إليك.
تعني : أثبت لي على ما أنت عليه .

(1/49)


وقوله عزَّ وجلَّ : (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)
صفة لقوله عزَّ وجلَّ : (الصراط المستقيم) ، ولك في عليهم ضَم الهاءِ
وكسرُها (تقول : الذين أنعمت عليهِمْ وعليهُمْ) وعلي هاتين اللغتين معظم
القُراءِ ، ويجوز عليهمو (بالواو) والأصل في هذه - الهَاءُ في قولك : ضربتهو
يا فَتى - ومررت بِهُو يا فتى - أنْ يتَكَلم بهَا في الوَصْل بواو ، فإذا وَقَفْتَ
لخط : ضَربْتُه ومررتُ به.
وزعم سيبويه أن الواو زِيدَتْ على الهاءِ في الْمُذَكَرِ كما زيدت الألِف
في المَؤنث في قولك : ضَرَبْتُهَا ومررتُ بِهَا ، ليَسْتَوي المذكرُ والمؤَنَثُ في باب
الزَيَادَةِ.
والقولُ في هذه الواو عند أصحاب سيبويه والخليل أنها إِنما زيدتْ
لخفاءِ الهاءِ وذلك أنَّ الهاءَ تَخْرجُ منْ أقْصَى الحَلْقِ ، والوَاوُ بعدَ الهاءِ أخْرَجَتْها
منَ الْخَفَاءِ إلى الإبَانة ، فلهذا زِيدَتْ ، وتسقط في الوَقْف ، كما تَسْقُط الصفةُ
والكسرةُ في قولك : أتَانِي زَيْد ، ومرَرْتُ بزيد ، إفي أنَّها وأو وَصْل فلَا تَثْبتُ
لئلا يلتبس الوصل - بالأصل.
فإذا قلت : مررت - ، بهُو - يا فتى - فَإنْ شِثْتَ قُلْت :
مرَرْتُ بِهي فقلَبْتُ الواو ياءً لأن ْكِسار ما قَبْلَهَا ، أعني اليَاءَ المنكَسرَةَ فإن قال
قائل : بين الكسرة والواو الهاكل ، قيل الهاءُ ليست بحاجز حصين ، فكأن الكسرةَ تَلِي - الوَاوَ ، ولوْ كانَتْ الهاءُ حاجزاً حَصِينا ما زيدتْ الواوُ عليها . وقد قُرِئ فَخَسَفْنَا بهي وبِدَارِهِي الأرْضَ ، وبهوُ وبدارِهو الأرضَ ، من قراءَة أهلِ الحجاز.
فَإِنْ قُلْت : فلانٌ عليه مال ، فَلك فيه أرْبَعَةُ أوجُه : إن شِثْتَ كَسَرْتَ

(1/50)


الهاءَ وإنْ شِئْتَ أثْبَت اليَاءَ ، وكذلك . في الضم إنْ شِئت ضمَمْتَ الهاء وإنْ
شِئْتَ أثْبَتُّ الوَاو ، فقلت عَلَيْهِ وعليهي ، وعليْهُ وعَلَيْهُو (مَال).
وأما قوله عزَّ وجلَّ : (إن تحمل عليه يلهث).
وقوله : (إلا ما دمت عليه قائماً) فالقراءَة بالكسر بغير ياءٍ في " عليه" وهي
أجود هذه الأربعة ولا ينبغي أن يقرأ بما يجوز إلا أن تثبت به رواية صحيحة أو
يقرأ به كثير من القراءِ ، فمن قال عليهُ مال (بالضم) فالأصل فيه عليهو مال ، ولكن حَذَفَ الواوَ لسكونها وسكون الياءِ واجتماعِ ثَلَاثَةِ أحْرفٍ مُتَجَانسَة ، وترك الضمة لتدل على الواو ، ومن قال عليهُو فإنما أثبت الواو على الأصل ، ويجعل الهاءَ حاجزاً ، وهذا أضعف الوجوه لأن الهاءَ ليست بحاجز حصين ، ومن قال : عَلَيْهِ مالا فإنما قدر عليهي مال فقلب الواو ياءً للياءِ التي قبلها ، ثم حذف الياء لسكونها وسكون الياءِ التي قبلها ، " كما قلبت الواو في قوله : مررت به يا فتى.
ومن قال : عليهي مال فالحُجةُ في إثْبات الياءِ كالحجة في إثبات الواو ألا
ترى أن عليهي مال أجودُ من عليهو مال.
وأجود اللغات ما في القرآن وهو قوله عَلَيْهِ (قَائماً) والذي يليه في الجودة
عليهُ مال بالضمِ ، ثم يلي (هذا) عليهي مال ثم عليهو مال بإثبات الواو ، -
وهي أردأُ الأرْبَعَة.
فَأما قولهم (عَلَيْهُمْ) فأصل الهاءِ فيما وصفنا أنْ تكونَ معها ضمة ، إلا أن
الوَاوَ قد سَقطت ، وإنما تُكْسر الهاءُ للياءِ التِي قَبْلَهَا ، وإنَّمَا يكُونُ ما قَبْلَ مِيم

(1/51)


الإضْمَارِ مضْمُوماً ، فَإِنمَا أتَتْ هذه الضمةُ لميم الإضْمَار ، وقُلِبَت كسرةً
للياءِ.
وإنَّما كثر " عَلَيْهِمْ " في القرآن (وعليهُم) ولم يكثر (عليهِمي)
و (عليهُمُو) لأنَّ الضمة التي على الهاءِ من " عليهم " للميم ، فهي أقوى
في الثبوت ، إلا تَرى أن هذه الضمة تأتي على الْميم في كل ما - لحقته الميم.
نحو عليكمْ ، وبكُمْ ، ومنكُمْ ، ولا يجوز في علِيكُمْ : " عَليكِم " (بكسر
الكاف) لأن الكافَ حاجز حصينٌ بين الياءِ والميم ، فلا تُقْلَبْ كَسْرةً ، وقد
روي عن بَعْضِ العرب : (عَليكِمْ) و " بِكمْ " (بكسر الكاف).
ولا يلتفت إلى هذه الرواية ، وأنشدوا.
وإنْ قال مولاهم على جُل حادثٍ . . . من الدهر ردوا بَعْضَ أحلَامِكُمْ ردوا
(بكسر الكاف) وهذه لغة شاذة ، والرواية الصحيحة : فضل
أحلامكُم ، وعلى الشذوذ أنشد ذلك سيبويه.
فَامَّا " عليهمو " فاصل الجمع أن يكون بواو ، ولكن الميم استغنى بها عن
الواو ، والواوُ تثقل على ألسِنَتَهم ، حتى إنه ليس في أسمائهم اسم آخره واو

(1/52)


قبلها حركة ، فَلِذلك حُذِفَتِ الواو ، فأمَّا مَن قرأ " عَلَيْهُمُوا ولا الضالين " فقليل.
ولا ينبغي أن يقرأ إلا بالكثير وإِن كان قد قرأ به قوم فإنه أقل من الحذف
بكثير في لُغَة العرب.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ).
فيخفض (غَيْر) على وجهين ، على البَدلِ منَ الذين كأنَّهُ قال : صراط
غَيْرِ المغضُوبِ عليهم ، ويستقيم أن يكون (غَيْرِ المغْضُوبِ عليهم) من صفة
الذين ، وإن كان (غير) أصله أن يكونَ في الكلام صفة للنكرة ، تقول :
مررت برجل غيرِك ، فغيرك صفة لرَجل ، كأنك قلت : مررتُ برجل آخر.
ويصلح أن يكون معناه : مررت برجُل ليس بك وإنما وقع ههنا صفةً للذين.
لأن " الذين " ههنا ليس بمقصود قصدُهم فهو بمنزلة قولك : " إني لأمُرُّ
بالرجُلَ مِثْلك فأكرمه).
ويجوز نصب (غير) على ضربين : على الحال وعلى الاستثناءِ فكأنك
قلت : إِلا المغْضُوبَ عليهم ، وحق غير من الإعراب في الاستثناءِ النصب
إِذا كان ما بعد إِلا مَنْصوباً ، فأما الحال فكأنك قُلْتَ فيها : صراط الذين
أنعمْت عليهم لا مغْضوباً عليهم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (ولَا الضالِّينَ).

(1/53)


فإنما عَطفَ بالضالين على المغْضوب عليهم ، وِإنما جاز أنْ يقع (لا)
في قوله تعالى : (ولا الضالين) لأن معنى (غَيْر) متضَمن معنى النفي ، يجيز
النحويون : أنت زيداً غير ضَارب ، لأنه بمنزلة قولك أنت زيداً لاَ تضْرِبُ ، ولا يجيزون أنتَ زيداً مثل ضارب ، لأن زيداً من صلة ضارب فلا يَتقَدم عليه.
وقول القائلين بعد الفَراغ من الحَمْد ، ومن الدعاءِ " آمِين " فيه لغتان.
تقول العرب : أمين ، وآمين ، قال الشاعر :
تباعد عني فطْحُل إِذْ دَعوته . . . أمينَ فزاد اللَّه ما بيننا بعدا
وقال الشاعر أيضاً :
يا رَبِّ لا تسلبنَي حبّها أبداً . . . ويرحم اللَّهُ عبداً قال آمينا
ومعناه : اللهم استجب ، وهما موضوعان في موضع اسم الاستجابة كما
أن " قولنا : (صه) موضوع موضع سكوتاً.
وحقهما من الإعراب الوقف لأنهما بمنزلة الأصوات إذْ كانا غير
مشْتقين منْ فعل إِلا أن النون فتحت فيهما لالتقاءِ السَّاكنين ، فإِن قَال قائل : إلا كسِرت النُون لالتقاءِ السَّاكنين ، قيل : الكسرة تَثْقُل بعدَ الياءِ ، ألا تَرى أن أيْن ، وكيف فتحتا لالتقاءِ السَّاكنين ولم تُكْسَرا لِثِقَلِ الكسرةِ بعدَ الياءِ .

(1/54)


سورة البقرة
ومن سورة البقرة
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
قوله تبارك وتعالى : (الم (1)
زعم أبو عبيدة معمرُ بنُ المثنى أنَّها حُروفُ الهجاءِ افْتتاح كلام.
وكذلك ؛ (المر) ، و (المص) ، وزعم أبو الحسن الأخْفش أنَّها افتتاح كلام
ودليل ذلك أن الكلام الذي ذُكِرَ قَبلَ السورَةِ قَد تَم.
وزعم قطرب أن : (الم) و (المص) و (المر) و (كهيعص) و (ق) ،

(1/55)


و (يس) و (نون) ، حروف المعجم ذكرت لتدل على أن هذا القرآن مؤلف من هذه الحروف المقطعة التي هي حروف أ . ب . ت . ث.
فجاءَ بعضها مقطًعاً وجاءَ تمامها مُؤَلفاً ليدل القوم الذين نزل عليهم القرآن أنه بحروفهم التي يعقلونها لا ريب فيه.
ويروى عن الشعبي أنه قال : لِلَّهِ في كُل كتابٍ سِر وسره في القرآن
حروف الهجاءِ المذكورة في أوائل السورِ.
ويروى عن ابن عباس ثلاثةُ أوجه في (الم) وما أشبهها ، فوجه منها أنه
قال : أقسم اللَّهُ بهذه الحروف أن هذا الكتاب الَّذِي أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - هو الكتاب الذي عنده ، عزَّ وجلَّ لا شك فيه ، والقول الثاني عنه أن : (الر) ، (وحم) ، و (نون) ، اسم للرحمن عزَّ وجلَّ - مقطًع في اللفظ موصُول في المعنى.
والثالث عنه أنَّه قال : (الم) معناه أنا اللَّه أعلم ، و (الر) معناه أنا الله أرى ،

(1/56)


و (المص) معناه أنا الله أعلم وأفصل و (المر) معناه أنا الله أعلم وأرى.
فهذا جميع ما انتهى إِلينا من قول أهل اللغة والنحويين في معنى
(الم) وجميع ما انتهى إلينا من أهل العلم بالتفسير.
ونقول في إعراب (الم) و (الر) و (كهيعص) وما أشبه هذه
الحروف.
هذا باب التهجي .

(1/57)


(هذا باب حروف التهجي)
وهي : الألف والباءُ والتاءُ والثاءُ وسائر ما في القرآن منها.
فإجْماع النحويين أن هذه الحُروف مَبْنِية على الوقف لا تعرب ومعنى
قولنا " مبنية على الوقف " أنك تُقَدرُ أنْ تسكت على كل حرف منها ، فالنطق : ألف ، لام ، ميم ، ذلك.
والدليل على أنك تقدر السكت عليها جمعك بين
ساكنين في قولك (لام) وفي قولك (ميم).
والدَّليل على أن حروف الهجاءَ مَبْنيَّة على السكت كما بني العدَدُ على السكْت : أنَك تقول فيها بالوقف مع
الجمع بين ساكنين ، كما تقول إذا عددت واحدْ . اثنانْ . ثَلاثَهْ . أربعهْ . . .
ولولا أنك تقدر السكت لقلت : ثلاثةً ، بالتاءِ كما تقول : ثلاثاً يا هذَا . فتصير الهاءَ تاءً مع التنوين واتصال الكلام.
وحقها من الإعراب أن تكون سواكن الأواخر ، زَعم سيبويه أنك أردْتَ أنَ
المعجمَ حروف يُحْكى بها ما فِي الأسْماءِ المَؤلفَةِ من الحروف فجرى

(1/59)


مجرى ما يحكى به نحو (غاق) ، وغاق يا فتى ، إنما حكى صوت الغُراب.
والدليل أيْضاً على أنها مَوْقُوفَة قولُ الشاعر :
أقْبَلْتُ من عند زيادكالخَرِف . . . تخطُّ رجْلاي بخَط مخْتَلف
تَكَتبَانِ في الطريق لَامَ ألِفْ
كأنه قال : لامْ ألِفْ ، بسكون " لام " ولكنه ألقى حركة همزة " ألف "
على الميم ففتحها.
قال أبو إسحاق : وشرح هذه الحروف وتفسيرها أنها ليست تجري مجرى
الأسماءِ الْمُتمكنَة ، والأفعال المضَارِعة التي يجب لها الإعرابُ وإنما هي
تقطيِع الاسم المَؤلف الذي لا يجب الإعراب فيه ألا مع كماله ، فقولك
" جَعْفر " لا يجب أن تُعْرَبَ منه الجيمَ ولا الْعَيْنَ ولا الفَاءَ ولا الراءَ ، دون
تكميل الاسم ، فإنما هي حكايات وُضِعَتْ على هذه الحروف ، فإن أجريتها
مَجْرى الأسماءِ وحدثت عنها قلت : هذه كاف حسنة ، وهذا كاف حسنٌ.
وكذلك سائر حُرُوف الْمُعجَم ، فمنْ قال هذه كاف أنثَ لمعْنى الْكَلِمَةِ ، ومن
ذكر فلمعنى الحرف ، والإعرابُ وقع فيها لأنك تخرجها من باب الحكاية.
قال الشاعر :
كافاً ومِيمين وسيناً طَاسِماً

(1/60)


وقال أيضاً :
كما بينت كاف تَلُوح ومِيمُها
ذكرَ طَاسِماً لأنه جَعله صفةً للسين ، وجعل السين في معنى الحرف وقال
تلوح ، فأنث الكاف ، ذهبَ بها مذهب الكلمة ، قال الشاعر يهجو النحويين ، وهو يَزيدُ بن الحكم.
إذا اجتمعوا على ألف وواو . . . وياءٍ لاح بينهمو جدال
فأما إعرابُ (أبِي جَادٍ) و (هَوَزٍ) و (حُطي) ، فزعم سيبويه أن هذه
مَعْروفاتُ الاشتقاق في كلام العرب ، وهي مَصْروفة ، تقول : علمْتُ أبَا جادٍ
وانتفعتُ بأبي جاد ، وكذلك (هوز) تقول : نفعني (هوز) ، وانْتَفَعْتُ بهوَزٍ.
(وكذلك حُطي) ، (وَهُن) مصْروفات منوَّنَات.
فأما (كلمون) و (سَعْفَص) و (قُرَيْشِيَات) ، فأعْجَمِيات تقول : هذه كَلَمْونَ - يا هذا - وتعلمت كَلَمُونَ وانتفَعْتُ بكلمون ، وكذلك (سعفص).
فَأما قُرَيْشِيَات فاسْم للجَمْع مصروفة بسبب الألف والتاء تقول : هَذه

(1/61)


قرَيْشِيَات - يا هذا وَعَجبْتُ مِنْ قُريْشِيات (يا هذا).
ولقطرب قول آخر في (الم) : زعم أنه يجوز : لما لغا القومُ في القرآن
فلم يتفهموه حين قالوا (لاَ تَسْمَعُوا لهذا القرآن والغَوْا فِيه) أنْزِلَ ذكرُ هذه
الحروف ، فسكتوا لمَّا سمعوا الحروف - طمعاً في الظفر بمَا يحبون ليفهموا
- بعد الحروف - القرآن وما فيه ، فتكون الحجة عليهم أثبت إذا جحدوا بعد تفهم وتعلم.
قال أبو إسحاق : والذي اختاره من هذه الأقوال التي قيلت في قوله
عزَّ وجلَّ : (الم) بعض ما يروى عن ابن عباسٍ رحمة اللَّه عليه.
وهو أن المعنى : (الم) أنا اللَّه أعلم ، وأن كل حرف منها له تفسيره.
والدليل على ذلك أن العرب تنطق بالحرف الواحد تدل به على الكلمة التي هو منها.
قال الشاعر :
قلنا لها قفي قَالَتْ قافْ . . . لا تَحْسَبي أنَّا نَسِينَا الإيجَاف
فنطق بقاف فقط ، يريد قالت أقف.
وقال الشاعر أيضاً :
نَادَوْهمو أنِ الْجِمُوا ألَاتا . . . قالوا جميعاً كلهم ألَا فَا

(1/62)


تفسيره : نادوهموا أن الجمُوا ، ألا تركبون ، قالوا جميعاً : ألا فارْكبوا.
فإنما نطق بتاءٍ وفاءٍ كما نطق الأول بقَافِ.
وأنشد بعض أهل اللغَةِ للقيم بن سَعْد بن مالك :
إنْ شئْتَ أشْرَفْناكلانا فدعا . . . اللَّهَ ربا جُهْدَه فاسْمَعَا
بالخير خيرات وإنْ شَرا فآى . . . ولا أريد الشر إلا أن تآءَ
وأنشد النحويون :
بالخير خيرات وإن شرا فا . . . ولا أريد الشر إلا إن تَا
يريدون : إن شَرا فَشَر ، ولا أريد الشر إلا أن تَشَاء.
أنشد جميع البصريين ذلك
فهذا الذي أختاره في هذه الحروف واللَّه أعلم بحقيقتها.
فأما (ص) فقرأ الحسن : صادِ والقرآن ، فكسر الدال ، فقال أهل

(1/63)


اللغة : معناه صاد القرآن بعملك ، أي تَعَمَّدْهُ ، وسقطت الياءُ للأمر ويجوز أن
تكون كسرت الدال لالتقاءِ السَّاكنين إذَا نَويتَ الوصلَ.
وكذلك قرأ عبد الله بن أبي إِسحاق : " صادِ والقرآن " ، وقرأ أيضاً " قافِ والقرآن المجيد).
فالكسرُ فى مذهب بن أبي إسحاق لالتقاءِ السَّاكنين.
وقَرأ عيسى بن عمر : " صادَ والقرآنِ " - بفتح الدّال - وكذلك قرأ
"نونَ والقلم " و " قافَ والقرآنِ " - بالفَتح أيضاً - لالتقاءِ السَّاكنين.
قال سيبويه : إذَا نَاديتَ أسْحار والأسْحَارُّ اسمُ نَبْتٍ - مشدد الراءِ - قلت في ترخيمه : يا أسْحار أقْبل ، ففتَحْتَ لالتقاءِ الساكِنين كما اخْتَرتَ الفتحَ في قولك عضَّ يا فتى فاتباع الفتحةِ الفَتْحُةَ كاتباع الألفِ الفَتْحَةَ ويجوز : يا أسحار أقْبِل ، فتَكْسِر لالتقاء الساكنَيْن.
وقال أبو الحسن الأخفش : يجوز أن يكون صادَ وقافَ ، ونونَ أسماءً
للسور منصوبةً إلا أنها لا تُصْرف كما لا تصرف جملة أسْماءِ المؤَنث.
والقولُ الأول أعني التقاءَ السَّاكنين ، والفتحَ والكسر من أجل الْتقائها أقيسُ ، لأنه يزعم أنه ينْصب هذه الأشياء كأنه قال : أذكر صادَ).
وكذلك يجيز في (حم) ،

(1/64)


و " طس " ، النصبَ و " ياسين " أيضاً على أنها أسماءٌ للسور.
ولوكان قرئ بها لكان وجهُه الفتحَ لالتقاءِ السَّاكنين.
فأما (كهيعص) " فلا تُبينُ فيها ، النون مع الصاد في القراءَة
وكذلك (حم عسق) لا تبين فيها ، النون مع السين.
قال الأخفش وغيره من النحويين : لم تبَين النون لقرب مخرجها من
السين والضادِ.
فأما " نُونْ والقَلم " فالقراءَة فيها تَبْيين النون مع الواو التي في " والقلم ".
وبترك التبيين.
إِنْ شئتَ بينْتَ وإِن شئْتَ لَمْ تُبيِّنْ ، فقلت " نُونْ والقَلم "
لأن النون بعدت قليلاً عن الواو.
وأما قوله عزَّ وجلَّ (المَ) اللَّه ففي فتح الميم قولان أحدهُما لِجماعة من
النحويين وهو أن هذه الحروف مبنية على الوقف فيجب بعدها قطع ألف
الوصل فيكون الأصل : أ . ل . م . اللَّهُ لا إِله إِلا هو.
ثمً طرِحتْ فَتْحةُ الهمزَةِ على الميم ، وسقطت الهمزة كما تقول : واحدْ إثْنَان ، وإن شئت قلت : واحدِ اثْنَان فألقَيْتَ كسرة اثنين على الدال.
وقال قوم من النحويين لا يسوغ في اللفظ أن ينطق بثلاثة أحرف سواكنَ
فلا بد من فتحة الميم في ألم اللَّه لالتقاءِ السَّاكنين (يعني الميم واللام والتي
بعدها).
وهذا القول صحيح لا يمكن في اللفظ غيره .

(1/65)


فأمَّا من زعم أنه إِنما ألقي حركةَ الهمزة فيجب أن يقرأ (الم اللَّه).
وهذا لا أعلم اجداً قرأ به إلا ما ذُكر عن الرؤَاسي ، فائا من رواه عن
عاصم فليس بصحيح الرواية.
وقال بعض النحويين لو كانت محركة للالتقاءِ السَّاكنين لكانث مكسورة.
وهذا غلط لو فعلنا في التقاءِ السَّاكنين إذا كان الأول منهما ياءً لوجب أن
تقول : كيفِ زَيد واين زيد وهذا لا يجوز ، وإنما وقع الفتح لثقل الكسرة بعد
الياء) . .
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)
زعم الأخفش وأبو عبيدة أن معناه هذا الكتاب قال الشاعر.
أقول له والرمح يأطر متنه . . . تامَّلْ خُفَافاً إنني أنا ذَلكا

(1/66)


قال المعنى إنني أنا هذا.
وقال غيرهما من النحويين : إِن معناه القرآن
ذلك الكتاب الذي وعدوا به على لسان موسى وعيسى - صلى الله عليهما وسلم -
ودليل ذلك قوله تعالى : (وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ)
وكذلك قوله : (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146).
فالمعنى هذا ذلك الكتاب.
ويجوز أن يكون قوله " (الم ذَلَكَ الْكِتَابُ) فيقال " ذلك " للشيءِ الذي
قد جرى ذكره ، فإن شئتَ قلت فيه " هذا "
وإنْ شِئتَ قلت فيه " ذلك " ، كقولك
انفقت ثلاثة وثلاثة فذلك ستة وإن شئت قلت هذا ستة.
أو كقوله عزَّ وجلَّ في قصة فرعون : (فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25).
ثم قال بعد ذلك : (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26).
وقال في موضع آخر : (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105)
ثم قال : (إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106).
وقال عزَّ وجلَّ (المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ) فقال (ذلك) فجائز - أن المعنى : تلك علامات الكتاب ، أي القرآن متكلم به بحروف العرب التي نعقلها على ما وصفنا في شرح حروف الهجاءِ.
وموضع (ذلك) رفع لأنه خبر ابتداءٍ على أقول ، من قال هذا القرآن ذلك

(1/67)


الكتاب . والكتاب رفع يسميه النحويون عطف البيان نحو قولك :
هذا الرجل أخوك فالرجل عطف البيان أي يبين من الذي أشرت إليه ، والاسم من ذلك " ذا " والكاف زيدت للمخاطبة ولاحظ لها في الإعراب
قال سيبويه : لو كان لها حظ في الإعراب لقلت : " ذاك نفْسِه زيد ، وهذا خطأ - لا يجوز إلا (هذاك نَفْسُه زيد).
(ولذلك " ذانك " يشهد أن الكاف لا موضع لها . لو كان لها موضع
لكان جرا بالإِضافة ، والنون لا تدخل مع الإضافة).
واللام تزاد مع ذلك للتوكيد ، أعني توكيد الاسم لأنها إذا زيدت
أسقطت معها " ها). تقول : ذلك الحق وذاك الحق ، وها ذاك الحق.
ويقبح هذلك الحق لأن اللام قد أكدت معنى الإشارة.
وكسرت اللام للالتقاء السَّاكنين ، أعني الألف من ذا واللام التي بعدها ، وكان ينبغي أن تكون ساكنة ولكنها كسرتَ لما قلناه.
وكذلك يجب أن يكون موضع ذلك رفعاً فيمن جعل ذلك خبراً عن (الم).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (لَا رَيْبَ فِيهِ)
معناه لا شك فيه تقول : رابني فلان إذا علمت الريبَة فيه وأرابني إذا
أوهمني الريبة قال الشاعر .

(1/68)


أخوك الذي إنْ ربتَه قال إنما . . . أرَبتُ وإنْ عاتبته لأن َ جانبه
وموضع (لا ريب) نصب ، قال سيبويه : " لا " تعملُ فيما بعدها فتنصبه
ونصبها لما بعدها كنصب إن لمَا بعدها إلا أنها تنصبه - بغير تنوين وزعم أنها
مع ماب عدها بمنزلة شيءٍ واحد.
كأنها جواب قول القائل : هل من رجل في الدار ، فمن غير منفصلة من
رجل ، فإنْ قال قائل فما أنكرت أن يكلون جواب هل رجلَ في الدار ؟
قيل : معنى " لا رجل في الدار " عموم النفي ، لا يجوز أن يكون في الدار رجل ولا أكثر منه من الرجال إذا قلت : " لا رجل في الدار ".
فكذلك " هل مِنْ رجل في الدار " استفهام عنِ الواحد وأكثر منه ، فإذا قلت : (هل رجل في الدار) أو (لا رَجُل في الدار)
جاز أن يكون في الدار رجلان لأنك إنما أخبَرْتَ أنه ليس فيها
واحد فيجوز أن يكون فيها أكثر ، فإذا قلت : لا رجُلَ في الدار فهو نفي عام
وكذلك (لَا رَيبَ فِيهِ).
وفي قوله (فيه) أربعةُ أوجه : - القراءَةُ منها على وجه واحد ولا ينبغي أنْ
يُتَجاوَزَ إلى غَيْره وهو (فيهِ هُدى) بكسر الهاءِ
(ويجوز في الكلام وفي القراءة لو كان . قرئ به) (فيهي هدى) بإثبات الواو ، و " فيهي هدي). بإثبات الياءِ.
وقد شرحنا هذه الأوجه في إعراب الحمد .

(1/69)


فأما قِرَاءَةُ (فيهْ هُدى) بإدغام الهاءَ في الهاء فهو ثقيل في اللفظ ، وهو
جائز في القياس لأن الحرفين من جنس واحد إلا أنه يثقل في اللفظ لأن
حروف الحلق ليست بأصل في الإدغام والحرفان من كلمتين ، وحكى
الأخفش أنها قِراءَة (1).
وموضع (هدَى) نصب ، ومعتاه . بيان ونصبه من وجهين أحدُهُما أنْ
يكون مَنْصُوباً على الحال من قولك : القرآن ذلك الكتاب هدى ويجوز أن
يكون انتصب بقولك : (لا ريْبَ فيه) في حال هدايته فيكون حالاً من قولك
لا شك فيه هادياً ، ويجوز أن يكون موضعُه رفعاً من جهات :
إحْدَاهَا أن يكون خبراً بعد خبرٍ كأنه قال : هذا ذلك الكتاب هدى ، أي قَد جمع أنه الكتاب الذي وُعدوا به وأنه هدًى كما تقول : هذا حُلو حامض ، تُرِيدُ أنه قد جَمع الطعْمَين ويجوز أن يكلون رفعه على إضمار هو.
كأنه لما تمَ الكلام فقيل : (الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ)
قيل : هو هدى.
ويجوز أن يكون رفعه على قولك : (ذَلِكَ الْكَتابُ لَا رَيْبَ فِيهِ)
كأنك قلت ذلك الكتابُ حَقُّا ، لأن لا شك فيه بمعنى حق ثم قَال : بعد ذلك : (فِيهِ هُدًى لِلْمُتقِينَ).
وقوله عزَّ وجلَّ : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)
معناه يصدقون ، وكل مْؤمِن بشيءٍ فهو مصدق به فإذا ذكرتَ مؤمناً ولم
تقل هو مؤْمن بكذا وكذا فهو الذي لا يصلح إلا في اللَّه - عزَّ وجلَّ - ، وموضع (الذين) جر تبعاً للمتقين ويجوز أن يكون موضعُهُم رفعاً على المدح كأنَّه
__________
(1) هي رواية السوسي عن أبي عمرو البصري ، وهي متواترة.

(1/70)


لما قيل هدى للمتقين قيل مَنْ هُم فقيل : (الَّذِينَ يؤمِنُونَ بالْغَيْبِ).
ويجوز أن يكون موضع الذين نصبا على المدح أيضاً كأنه قيل اذكر الذين.
(والذين) لا يظهر فيهم الإعراب ، تقول في النصب والرفع والجر :
أتاني الذين في الدار ورأيت الذين في الدار ومررت بالذين في الدار.
وكذلك الذي في الدار ، وإنما منع الإعرابَ لأن الإعراب إنما يكونُ في آخر
الأسماءِ ، والذي والذين مبهمان لا تتمان إلا بِصِلاتِهِمَا فلذلك مُنِعَتِ
الإعرابَ.
وأصل - الذي لَذٍ على وزن عَم فاعْلَمْ ، كذلك قالَ الخليل وسيبويه
والأخفش وجميع من يوثق بعلمه.
فإن قال قائل : (فما بالك تقول : أتاني اللذان في الدار ورأيت اللذين في
الدار فتعرب كل ما لا يعرب في تثنيته نحو هذان وهذين وأنت لا تعرب هذا
ولا هؤُلاءِ ؟
فالجواب في ذلك أن جميع ما لا يعرب في الواحد مشبه بالحرف
الذي جاء لمعنى فإذا ثنيته فقد بطل شبه الحرف الذي جاءَ لمعنى لأن حروف
المعاني لا تثنى.
فإِنْ قَال قائِل فَلَمَ منعته الِإعراب في الجمع ؟
قلت لأن الجمع الذي ليس على حد التثنية كالواحد ، ألا ترى أنك قلت في جميع هذا هؤُلاء يا فتى فجعلته اسماً واحداً للجمع ، وكذلك قولك الذين ، إِنما هو اسم للجمع كما أن قولك سنين يا فتى اسم للجمع فبنَيتَه كما بنيْت الواحِد.
ومن جمع الذين على حد التثنية قال : جاءَني الذونَ في الدار ، ورأيت الذين

(1/71)


في الدار.
وهذا لا ينبغي أنْ يقع لأن الجمع مستغنى فيه عن حد التثنية.
والتثنية ليس لها إلا ضرب واحد.
ومعنى قوله : (بالغَيْب) : ما غاب عنهم مما أخبرهم به النبي - صلى الله عليه وسلم - من أمر الغيب والنشور والقيامة وكل ما غاب عنهم مما أنبأهم به فهو غيب.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ).
معناه يُتمُّونَ الصلاة كما قال : - (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ)
وضمت الياءُ من يُؤمنون ، ويقيمون ، لأن كل ما كان على أربعة أحرف نحو أكْرَمَ وأحسَنَ وأقام وآمن فمُسْتَقبله : يُكرم ، وُيحْسِنَ ، ويؤمِنُ ويُقيمُ
(وإنما ضمت أوائل المستقبل ليفرق بيبن ذوات الثلاثة نحو ضرب ، وبين ذوات الأربعة نحو دحرج).
فما كان على ثلاثة فهو ضرب يَضرب أو تَضرب أو نَضرب.
ففصل بالضمة بينهما فإن قال قائل : فهلا فصل بالكسرة ؟
قيل الكسرة قد تدخل في نحو تعْلم وتبيَضُ ولأن الضمة مع الياءِ مستعملة ، والكسرة لا تستعمل مع الياءِ.
فمن قال أنت تعْلم لم يقل هو يِعْلم ، فوجب أن يكون
الفرق بينهما بالضمة لا غير.
- والأصل في يُقيم " يؤقْيِمُ " والأصل في يُكرمُ يؤَكرم ولكن الهمزة

(1/72)


حذفت لأن الضم دليل على ذوات الأربعة ولو ثبث لوجب أن تقول إذَا أنْبأت عن نَفْسِك : أنا أؤَقْوم وأنا أؤكرْم ، فكانت تجتمع همزتانْ فاستثقلتا ، فحذفت الهمزة التي هي فاءُ الفعل ، وتِبع سائِرُ الفعل بابَ الهمزة فقلت أنت تُكرم ونحن نُكرم وهي تُكرم ، كما أنَّ بابَ يَعِدُ حُذفتْ منه الواو لوقوعها بين ياء وكَسْرة . الأصل فيه " يَوْعِد " ثم حذفت في تَعد ونَعد وأعد.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ).
معناه يصدِّقُون - قال عزَّ وجلَّ : (وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ) - إلى قوله - (قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ)
إن شئت خففت الهمزة في (أُنْزِلَ) - وكذلك في قوله " أُلئِك " وهذه
لغة غير أهل الحجاز ، فأما أهل الحجاز فيخففون الهمزة بين الواو والهمزة.
قال سيبويه : (إنما فعل بالهمزة ذلك دون سائر الحروف لأنها بَعدَ مخرجها
ولأنها نبْرة في الصدر . وهي أبعد الحروف مخرجاً ، وأمَّا إِليْك وإليْهم.
وعَليْك وعَليْهِمْ ، فالأصل في هذا " إلاك " ؛ ْ وعَلَاك ، وَإِلَاهُمْ وعَلاهم كما
تقول إلى زيد وعلى إخوتك ، إلا أن الألف غيرتْ مع المضْمَر فأبْدِلت ياء
ليفصل بين الألف التي في آخر المتمكنه وبين الألف التي في أواخر غير
المتمكنه التي الإضافة لازمة لها ، ألا ترى أن إلى وعَلَى ولدى لا تنْفرِد من

(1/73)


الإضافة ، ولذلك قالت العرب في كلا في حال النصب والجر : رأيت كليهما ، وكليكما ، ومررت بكليهما وكليكما - ففصلت بين الِإضافة إلى المظهر
والمضمر لما كان كلا لا ينفرد ولا يكون كلاماً إِلا بالِإضافة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)
موضع (أولئك) رفع بالابتداء ، والخبر : (عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ).
إلا أن أُولَئِكَ لا يعرب لأنه اسم للِإشارة ، وكسرت الهمزة فيه لالتقاءِ السَّاكنين.
وكذلك قوله (وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) ، إلا أنَّ (هُمْ) دخلت فصلاً ، وإن
شئت كانت تكريراً للاسم ، كما تقول زيد هو العالمُ ، فترفع زيداً بالابتداء.
وترفع (هو ابتداءً ثانياً ، وترفع العالم خبراً " لهو " ، والعالم خبراً لزيد.
فكذلك قوله أُولَئِكَ هم المفلحون) وإن شئت جعلت (هو) فصلاً وترفع
زيداً والعالم على الابتداءِ وخبره ، والفصل هو الذي يسميه الكوفيون عماداً.
و " سيبويه " يقول إن الفصل لا يصلح إلا مع الأفعال التي لا تتم
نحو كان زيد هو العالم ، وظنتت زيداً هو العالِمَ".
وقال سيبويه دخل الفصل في قوله عزَّ وجلَّ : (. . تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا) وفي قوله : (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ) - وفي قوله : (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ). وفي قوله : (وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ).

(1/74)


وما أشبه هذا مما ذكر الله عزَّ وجلَّ.
وكذلك (لك) في الكلام في الابتداء والخبر ، وفي قولك كان زيد هو
العالم ذكرُ هو ، وأنت ، وأنا . ونحن ، دخلت إعْلاماً بأن الخبر مضمون وأن
الكلام لمْ يتم ، وموضع دخولها إذا كان الخبر معرفة أو ما أشبه المعرفة.
وأن " هو " بمنزلة " ما " اللغْوِ في قوله عزَّ وجلَّ :
(فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ) فإنما دخول كا مؤَكدة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (المفْلحون).
يقال لكل من أصاب خيراً مفْلح -
وقال عَزَّ وجَل : (قَدْ أفلح المؤمنون) - وقال ، : (قدْ أفْلح مَن زكَاها). والفلاح البقاء
قل لبيد بن ربيعة :

(1/75)


نحُل بلاداً كلها حُل قبْلنا . . . ونرجُو الفلاح بعد عادٍ وتبَّعا
أي نرجو البقاءَ.
وقال عبيد :
أفْلِح بما شئْت فَقَدْ يد . . . ركِ بالضعْف وقد يُخْدع الأريب
أي أصب خيراً بما شئت.
والفَلاح : الأكار ، والفِلَاحَة صنَاعَتُه ، وإنِما قيل له الفَلاح لأنه يَشُق الأرض ويقالَ فلحت الحديد إذا قطعته.
قال الشاعر :
قد علمت خيلك انِي الصَّحْصَحُ . . . إن الحَدِيد بالحديد يُفْلَح
ويقال للمكاري الفلاح ، وإنما قيل له فلاح تشبيهاً بالأكار.
قال الشاعر
لها رطل تكيل الزيت فيه . . . وفَلاح يسُوق لهَا حِمَارا
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6)

(1/76)


(إنَّ) تنصب الذين ، وهي تنصب الأسماءَ وترفع الأخبار ، ومعناها في
الكلام التوكيد ، وهي آلة من آلات القسم ، وإنَّما نصبت ورفعت لأنها تشبه
بالفعل ، وشبهها به أنها لا تَلِي الأفعال ولا تعمَل فيها ، وإنما يذكر بعدها
الاسم والخبر كما يذكر بعد الفعل الفاعل والمفعول إِلا أنه قُدم المفَعُولُ به
فيهَا ليفصل بين ما يشبه بالفعل ولفظه لفظُ الفعل وبين ما يُشَبه به وليسَ لفظُه
لفظَ الفعل ، وخبرها ههنا جملة الكلام ، أعني قوله :
(سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ).
وترفع سواء بالابتداء ، وتقوم (أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) مَقَامَْ الخبر كأنه
بمنزلة قولك سواء عليهم الإنذارُ وتركُه.
وسواءُ موضُوع موضعَ مُسْتَو ، لأنك لا تقيم المصادر مقام أسماءِ الفاعلين إلا وتأويلها تأويل أسمائهم.
فأما دخول ألف الاستفهام ودخول أم التي للاستفهام والكلام خَبرٌ فإنَّمَا
وقع ذلك لمعنى التسوية والتسوية آلتها ألف الاستفهام وأم تقول : أزيد في
الدار أم عمرو ، فإِنما دخلت الألف وأم لأن عِلْمَك قد استوى فيَ زَيد وعَمْرو.
وقد علمت أن أحدهما في الدار لا محالة ولكنك أردت أن تبين لك الذي
علمت ويخلص لك علمه مز ، غيره ، فَلِهذا تقول : قد علمتُ أزيد في الدار أم عمرو ، وإنما تريد أن تُسَوّي عند مغ تخبره العلمَ الذي قد خلص عندك.
وكذلك (سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم) ، دخلت الألف وأم للتسوية.
فأما (أأنْذرْتهُمْ) فزعم سيبويه أن من العرب من يحقق الهمزة ، ولا
يجمع بين الهمزتين وإن كانتا من كلمتين ، فأما أهل الحجاز فلا يحققون
واحدة منهما ، وأما بعض القراء - ابن أبي إِسحاق وغيره - فيجمعون في القراءَة بينهما ، فيقرأون (أأنذرتهم) ، وكثير من القراء يخفِّف إِحداهما ، وزعم سيبويه أن

(1/77)


الخليل كان يرى تخفيف الثانية فيقول : (أانْذرْتهم) فيجعل الثانية بين
الهمزة والألف ، ولا يجعلها ألفاً خالصة ، ومن جعلها ألفاً خالصَةً فقد أخْطأ من جهتين : إحداهما أنه جمع بين ساكنين والأخرى إنَّه أبْدَل منْ همزة متحركة
قبْلها حركةُ ألفاً ، والحركة الفتح ، وإنما حق الهمزة إذا حركت وانفتح ما
قبلها : أن تجْعَل بَيْنَ بَيْنَ ، أعني بين الهمزة وبين الحرف الذي منه حركتها.
فتقول في سأل : سال وفي رؤوف : رووف وفي بئس : بيس (بيْنَ بيْنَ) وهذا
في الحكم واحد وإِنما تُحْكِمُه المشافهة.
وكان غير الخليل يجيز في مثل قوله تعالى : (فقد جاءَ أشراطها) تخفيف الأولى.
وزعم سيبويه أن جماعة من العرب يقرأون : فقد جا أشراطها يحققون
الثانية ويخففون الأولى ، - وهذا مذهب أبى عمرو بن العلاء وأما الخليل فيقول بتحقيق الأولى فيقول : (فقد جاءَ اشراطها).
قال الخليل : وإِنَّما اخترت تخفيف الثانية لإجماع الناس على بدل الثانية في قولك آدم ، وآخر ، لأن الأصل في آدم : أادم ، وفي آخر أاخر.
وقول الخليل أقيس ، وقول أبى عمرو جيد أيضاً.
قال أبو إِسحاق : الهمزة التي للاستفهام ألف مبتدأة : ولا يمكن تخفيف
الهمزة المبتدأة ولكن إن ألْقِي همزَة ألف الاستفهام على سكون الميم من
عليهم فقلت : " عَلَيْهمَ أنْذَرتهم " جاز.
ولكن لم يقرأ به أحد ، والهمزتان في

(1/78)


قوله : (فقد جاءَ أشراطها). همزتان في وسط الكلمة ويمكن تخفيف
الأولى.
فأما من خفف الهمزة الأولى قوله : (أأنذرتهم) فإنه طرحها ألبتَّةَ
وألْقَى حركتَها على الميم ، ولا أعلم أحداً قرأ بها والواجب على لغة أهل
الحجاز أن يكون " عليهم أنْذَرْتهم " فيفتح الميم ، ويجعل الهمزة الثانية بين
بين بين.
وعلى هذا مذهب جميع أهل الحجاز.
ويجوز أن يكون (لا يؤْمنون) خبر إِنَّ ، كأنه قيل : " إِنَّ الًذينَ كفروا لا يؤمنون ، سواء عليهم أأنذرتهم أمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ).
هؤلاءِ قوم أنبأ اللَّهُ " تبارك وتعالى " النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أنهمْ لا يؤْمنون كما قال عزَّ وجلَّ : (ولَا أنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتمْ وَلَا أنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أعْبُدُ).
فأما الهَمزتان إذا كانتا مكسورتين نحو قوله عزَّ وجلَّ :
(عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا) وإذا كانتا مضمومتين نحو قوله :
(أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ) فإِن أبا عمرو يخفف الهمزة الأولى فيهما فيقول :
"على البغا إِنْ أردْن" "وأوليا أولئك "
فيجعل الهمزة الأولى من البغاء بين الهمزة والياء ، ويكسرها " ويجعل الهمزة
في قولك أولياء أولئك (الأولى) بين الواووالهمزة ويضمها.
وحكى أبو عبيدةَ أن أبا عمرو كان يجعل مكان الهمزة الأولى كسرة في
البغاء إنْ) ، وضمة في أولياء أولئك.
أبو عبيدة لا يحكي إلا ما سمع لأنه الثقة المأمون عند العلماء ، إِلا إنَّه لا يضبط مثل هذا الموضع لأن الذي قاله محال ، لأن الهمزة إذا سقطت وأبدلت منها كسرة وضمة - على ما وصف -

(1/79)


بقيت الحركتان في غير حرف وهذا محال لأن الحركة لا تكون في غير
محرَّك.
قال أبو إسحاق : والذي حكيناه آنفاً رواية سيبويه عن أبي عمرو وهو
اضبط لهذا.
وأما قوله : (السفهاءُ ألا) وقوله : (وإِليه النشُوز أأمنتم من في السماءِ أن) - فإن الهمزتين إذا اختلفتا حكى أبو عبيدة أن أبا عمرو كان يبدل من
الثانية فتحة وهذا خلاف ما حكاه سيبويه . والقول فيه أيضاً محال لأن الفتحة
لا تقوم بذاتها ، إِنما تقوم على حرف.
وجملة ما يقول النحويون في المَسْالة الأولى في مثل قوله : (على البغاءِ
إِنْ) أو (أولياءُ أولئك) ثلاثةُ أقوال على لغة غير أهل الحجاز.
فأحد هذه الثلاثة - وهو مذهب سيبويه والخليل - أن يجعل مكان الهمزة الثانية همزة بين بينَ ، فإذا كان مضموماً جعل الهمزة بين الواو والهمزة فقال : أولياءُ أولئك) (وإذا كان مكسوراً جعل الهمزة بين الياءِ والهمزة ، فقال : على البغاءِين . وأمَّا أبو عَمْرو فَقرأ على ما ذكرناه وأمَّا ابن أبي إسحاق - ومذهَبه مذهب جماعة من القراء - فيجمع بين الهمزتين ، فيقرأ أولياءُ أولئِكَ)
و (على البغاءِ إنْ أردن) بتحقيق الهمزتين.
وأمَّا اختلاف الهمزتين نحو السفهاء ألا) فأكثر القراء على مذهب ابن
أبي إسحاق ، وأما أبو عمرو فيحقق الهمزة الثانية في رواية سيبويه ، ويخفف

(1/80)


الأولى فيجعلها بين الواو والهمزة ، فيقول : (السفهاءُ ألا) (بين بين).
ويقول : (من في السماي أنْ " فيحقق الثانية ، وأما سيبويه والخليل فيقولان :
(السفهاءُ ولا) . فيجعلان الهمزة الثانية واواً خالصة
وفي قوله : (من السماءيَنْ) ياءخالصة مفتوحة.
فهذا جميع ما في هذا الباب.
وقد ذكر أبو عبيدة أن بعضهم روى عن أبي عمرو أنه كان إذا اجتمعت
همزتان طرحت إحداهما ، وهذا ليس بثبتٍ لأن القياس لا يوجبه.
وأبو عبيد لم يحقق في روايته ، لأنه قال : رواه بعضهم ، وباب رواية القراءة عن المقرئ يجب أن يقل الاختلاف فيه.
فإن كان - هذا صحيحاً عنه فهو يُجَوِّزُهُ في نحو
(سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم) ، وفي مثل قوله :
(آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ)
فيطرح همزة الاستفهام لأن أم تدل عليها.
قال الشاعر :
لعمرك ما أدري إن كنت دارياً . . . شُعَيْثُ بن سَهْم أم شُعَيْثُ بنُ مِنْقَر

(1/81)


وقال عُمرُ بنُ أبي رَبِيعَةَ :
لعَمرُك ما أدْري وإنْ كُنْتُ دَارِياً . . . بِسَبْع رَمَيْنَ الجَمْر أم بِثمانٍ
البيت الأول أنشده الخليل وسيبويه ، والبيت الثاني صحيح أيضاً.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)
معنى ختم في اللغة وطبع (معنى) واحد . وهو التغطية على الشيء.
والاستيثاق - من ألًا يَدْخُله شَيْءٌ
كما قال عزَّ وجلَّ : (أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)
وقال جلّ ذكره (كلا بَلْ رَانَ عَلى قُلوبِهِمْ).
معناه غلب على قلوبهم ما كانوا يكسبون.
وكذلك (طبع عليها بكفرهم)
وهم كانوا يسمعون ويبصرون ويعقلون ولكنهم لم يستعملوا
هذه الحواس استعمالًا يجزي عنهم فصاروا كمن - لا يسمع ولا يبصر.
قال الشاعر :
أصم عما ساءَه سميع
وكذلك قوله جلَّ وعزَّ : وَعَلَى أبْصَارِهِمْ غِشَاوَة).
هي الغطاءُ ، فأما قوله : (وعلى سمعهم) وهويريد وعلى أسماعهم ففيه

(1/82)


ثلاثة أوجه : فوجه منها أن السمع في معنى المصدر فَوُحِّدَ ، كما تقول :
يعجبني حديثكم ويعجبني ضربُكُمْ - فوحِّد لأنه مَصْدَر.
ويجوز أن يكون لما أضاف السمع إليهم دل على معنى أسماعهم.
قال الشاعر :
بها جِيَف الحَسْرى فأمَّا عِظامُها . . . فَبيضٌ وأَمَّا جِلْدُها فَصَلِيبُ
ْوقال - الشاعرأيضاً : (لا تُنْكِري الْقَتْلَ وَقَدْ سُبينَا . . . في حَلْقِكُمْ عَظْمٌ وقد شَجينَا
معناه في حلوقكم ، وقال :
كأنهُ وجه تركييْن قد غَضبَا . . . مستهدَفٍ لطعان غيرِ تَذييبِ
أما (غشاوة) ، فكل ما كان مشتملاً على الشيء فهو في كلام العرب مبني
على "فِعَالة " نحو الغِشاوة ، والعِمَامة ، والقِلاَدَة والعصَابة ، وكذلك أسْمَاء
الصناعات لأن معنى الصناعة الاشتمال على كل ما فيها نحو الخِيَاطة

(1/83)


والقصَارة ، وكذلك على كل من استولى على شيء ما استولى عليه الفِعَالة.
نحو الحِلاَقةِ والإمارَةِ.
والرفع في (غشاوة) هو الباب وعليه مذهب القُرَّاء
والنصب جَائز في النحو على أن المعنى : " وجعل على أبْصَارهم غِشَاوةً ".
كما قال اللَّه عزرجل في موضع آخر : (وختم على سمعه وقلبه وجعل على
بصره غشاوة).
ومثيله من الشعر مما حمل على معناه قوله :
يا ليتَ بعْلَكِ قد غَدا . . . مُتَقَلداً سيفاً ورمحا
معناه متقلداً سيفاً وحاملاً رمحاً.
ويرري غشوة ، والوجه ما ذكرناه
وإنما غَشْوة رد إلى الأصل لأن المصادر كلها ترد إلى فَعْلة ، والرفع والنصبُ في غَشْوة مثله في غِشَاوة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8)
عنى بذلك المنافقين ، . وإِعراب (مِنْ) الوقف إلا أنهَا فُتِحَتْ لالتقاءِ
السَّاكنين سكون النون . من قولك مِنْ وسكون النون الأولى من الناس ، وكان الأصل أن يكسر لالتقاءِ السَّاكنين ، ولكنها فتحَت لثقل اجتماع كَسْرَتَيْنِ - لو كان (مِنِ النَّاسِ) لثقل ذلك.
فأما عن الناس فلا يجوز فيه إِلا الكسر لأن
أول " عن " مفتوح . و " مِنْ " إِعرابُها الوقف لأنها لا تكون اسماً تاما في

(1/84)


الخبر إلا بصلة ، فلا يكون الِإعراب في بعض - الاسم.
فأما الإدغام في الياءِ في (من يقول) فلا يكون غيره ، تقول :
" مَنْ يُقوَّم " فتُدْغِم بغُنَةٍ وبغير غنة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمَا هُمْ بمُؤْمِنينَ).
دخلت الباءُ مؤَكدة لمعنى النفي ، لأنك إِذا قلت : " ما زيد أخوك " فلم
يسمع السامع " ما " ظن أنك موجب فإِذا قلت : " ما زيد بأخيك "
و (ماهم بمُؤمنين) علم السامع أنك تنفي
وكذلك جميع ما في كتاب الله عزَّ وجلَّ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9)
يعني به المنافقين أيضاً.
ومعنى (يخادعون) : يظهرون غير ما في نفوسهم ، والتَقِية تُسَمَّى أيْضاً
خِدَاعاً ، فكأنهم لَمَّا أظْهَرُوا الِإسْلامِ وأبْطَنُوا الكُفْر صارت تقيتُهُمْ خِدَاعاً.
وجاءَ بفَاعِلَ لغير اثنين لأن هذا المثال يقع كثيراً في اللغة للواحد نحو عاقبت
اللص ، وطارقت النعل.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ).
تأويله أن الخداع يرجع عليهم بالعَذاب والعقاب وما يشعرون : أي وما
يعلمون أنه يرجع عليهم بالعذاب يقال ما شعرت به : أي ما علمت به وا لَيْتَ شِعْرِي " ما صَنَعْتَ : معناه ليت علمي .

(1/85)


وقوله عزَّ وجلَّ : (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)
معناه نفاق ، وقد يقال السُّقْمُ والمرض في البَدَنِ وفي الدِّين جَميعاً كما
يقال الصحة في البدن والدِّين جميعاً.
فمعنى قوله : (مرض) قال أبو عيدة : معناه شك ونفاق ، والمرض في
القلب يصلح لكل ما خرج به الِإنسان عن الصحة في الدين.
ص وقوله : - (فَؤَادَهُم اللَّهُ مَرضاً).
فيه جوابان ، قال بعضهم زادهم الله بكفرهم.
كما قال عزَّ وجلَّ : (بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ).
وقال بعض أهل اللغة : فزادهم اللَّه بما أنزل
عليهم من القرآن فشكوا فيه كما شكوا في الذي قبله.
قال : والدليل على ذلك قوله عزَّ وجلَّ : (وَإِذَا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ).
إِلى قوله : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ).
وهذا قول بين واضح - واللَّه أعلم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).
مَعْناه مُوجِع يَصلُ وجعَهُ إِلى قُلُوبهمُ.
وتأويل (أَلِيمٌ) في اللغة مُؤْلم.
قال الشاعر : وهو عَمْرُو بنُ معدِ يكرب الزبيدي .

(1/86)


أمِنْ رَيْحَانَة الداعي السميعُ . . . يُؤرقني وأصْحَابي هُجوعُ
معنى السميع المسمع.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (بِمَا كَانوا يَكذبُونَ).
ويقرأ (يُكَذِّبونَ) . فمن قرأ يَكذبونَ بالتخفيف فَإن ، كَذِبَهُم
قولُهم أنهُمْ مُؤْمنون ، - قال الله عزَّ وجلَّ : (وَمَا همْ بِمُؤْمِنِينَ)
وأما (يُكَذِّبونَ) بالتثقيل فمعناه بتكذيبهم النبي - صلى الله عليه وسلم -.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11)
مَعْنَاهُ لَا تَصُدوا عَنْ دين اللَّه ، فَيَحْتَمِل (إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ) ضربين
من الجواب : أحدهما أنهم يظنون أنهم مصلحون.
والثاني أن يريدوا أن هذا الذي يسمونه إفساداً هو عنْدَنَا إِصلاح
فأما إعراب قيل فآخره مبني على الفتح ، وكذلك كل فعل ماض
مبني على الفتح ، والأصل في (قيل) قُوِلَ ولكن الكسرة نقلت إلى القاف
لأن العين من الفعل في قولك قال نقلت من حركة إِلى سكون ، فيجب أن
تلزم هذا السكون في سائر تصرف الفعل.
وبَعْضُهُمْ يَرُومُ الضمًةَ في قِيل ، وقد يجوز في غير القرآن :
قد قولَ ذاك " وأفصح اللغات قِيلَ وَغِيضَ ".
(وَسِيقَ الَّذِينَ اتَقَوْا رَبَّهُمْ).
وإن شئت قلت : قِيل ، وغيض ، وسُيق تروم في سائر أوائل ما لم
يسم فاعلة الضم في هذا الباب .

(1/87)


وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13)
ْأصل السفَهِ في اللغة خِفَةُ الحلم ، وكذلك يقال ثَوْبٌ سَفِيه إِذا كان رقيقاً
بالِياً.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (أَلَا إنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ).
معنى (أَلَا) اسْتِفْتَاح وَتَنْبِيهٌ " و قوله : (هُم السفهاءُ) يجوز أن يكون
خبر إنَّ و (هُم) فَصْلٌ ، وهو الذي يسميه الكوفيون العماد.
ويجوز أن يكون (هُم) ابتداء ، والسفهاءُ خبر الإِبتداء ، وهم السفهاءُ خبر إن.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14)
أنْبَأ الله الْمؤمِنِينَ بِمَا يُسِره المنافقونَ مِنَ الكُفْرِ ومعنى شَيَاطِييهمْ في
اللغة : مَرَدَتُهُمْ ، وعُتَاتُهُمْ في الكفر ، ويقال خلوت إِليه ومعه ، ويقال خلوت
به ، وهو على ضربين : أحدهما جعلت خَلْوتي معه ، كما قال : خَلَوْتُ إِليه
(أي جعلت خلوتي معه) ، وكذلك يقال خَلَوْتُ إِليهِ ، ويصلح أن يكون
خلوت بِهِ سخرت منه.
ونصب (معكم) كنصب الظروف ، تقول : إِنا معكم وإِنا
خَلْفَكم معناه إِنا مستقرون معكم ومستقرون خلفكم.
والقراءَة المجمَعُ عليها فتح العَين وقد يجوز في الاضطرار إسكان العين ، ولا يجوز أن يقرأ بها.
ويجوز إِنَّا مَعْكُمْ للشاعر إِذا اضطر قال الشاعر :
قَرِيشي منكمو وهواي مَعْكُمْ . . . وَإِن كانت زِيَارَتُكُمْ لِمَاما

(1/88)


وفي قوله عزَّ وجلَّ : (خَلَوْا إلَى). وجهان إن شئت أسْكَنْتَ الوَاو
وخففت الهمزة وكسرتها فقلت : (خلوْا إلَى) وإن شئت ألقيت الهمزة وكسرت الواو فقلت : " خَلَوِ ليى " وكذلك يقرأ أهل الحجاز وهو جيد بالغ ، و (إِنا) الأصل فيه "إننا" ، كما قال اللَّه عزَّ وجلَّ : (إنَّنِي معَكُما) ولكن النون حذفت لكثرة النونات ، والمحذوف النون الثانية من إِن ، لأن في " إن " نونين الأولى ساكنة والثانية متحركة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (إنما نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ).
نحن مبنية عفى الضم ، لأن نحن يدل على الجماعة ، وجماعة
المُضْمَرينَ يدل عليهم - إذا ثَنيتَ الواحدَ من لفظه - الميم والواو ، نحو
فعلوا ، وأنتم ، فالواو من جنس الضمة ، فلم " يكن بذ من حركة (نَحْنُ)
فحركت بالضم لأن الضم من الواو ؛ ألا ترى أن واو - الجماعة إذا حركت
لالتقاء السَّاكنين ضمت ، نحو (اشْتَرَوُا الضلاَلَةَ) ، وقد حركها بعضهم إلى
الكسر فقال : (اشتروِا الضلالة) ، لأن اجتماع السَّاكنين يوجب كسر الأولى إذا كانا من كلمتين ، والقراءة المجمع عليها : (اشتروُا الضلالةَ) بالضم ، وقد
رُويت : (اشْترَوَا الضلالة) ، بالفتح ، وهو شاذ جِدًّا.
و (مستهزئون) ؛ القراءَة الجَيدَةُ فيه ، تحقيق الهمزة فإذا خَففْتَ الهمزةَ
جعلْتَ الهمزةَ بين الواو ، والهمزة فقلت "مستهزؤون).
فهذا الاختيار بعد التحقيق .

(1/89)


ويجوز أنْ تُبْدِلَ من الهمزَةِ ياءً فتقول : " مستهزِيُونَ " فأما " مستَهْزون "
فضعيف لا وجه لَه إلا شاذًّا على لغة ، . من أبدل الهمزة ياء فقال في
استهزأت : استهزيت . فيجب على لغة ، استهزيت أن يقال ، مستهزون.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)
فيه أوجه من الجواب : فمعنى استهزاء اللَّه بهم أنْ أظْهرَ لَهُمْ منْ
أحْكامِهِ في الدنْيَا خلافَ مَا لهمْ في الآخرة ، كما أظهروا من الِإسلام خلاف ما
أسَرُّوا.
ويجوز أن يكون استهزاؤُه بهم : أخذه إِياهم من حيث لا يعلمون ، كما
قال عزَّ وجلَّ : (سَنَسْتَدْرجُهمْ منْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُون).
ويجوز - واللَّه أعلم - وهوَ (الوجه) المختار عند أهل اللغة أن يكون معنى يستهزئُ بهم يُجازيهِمْ على هُزئِهِمْ بالعَذاب ، فسمَّى جزاءَ الذَنْب باسْمِه كما قال عزَّ وجلَّ : (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا) فالثانية ليست سيئة في الحقيقة ، ولكنها سميت سيئة لازدواج الكلام.
وكذلك قوله عزَّ وجلَّ : (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ)
فالأول ظلم والثاني ليس بظلم ولكنه جيءَ في اللغة باسم الذنب ليعلم أنَّه عقاب عليه وجزاء به.
فهذه ثلاثة أوجه واللَّه أعلم.
وكذلك يجري هذا المجرى قوله عزَّ وجلَّ : (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ)

(1/90)


(وَيَمْكرُونَ وَيَمْكرُ اللَّهُ).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ).
معنى (وَيَمُدُّهُمْ) يُمْهِلْهم ، وهو يدل على الجواب الأول.
و (في طغيانهم) (معناه) في غُلوِّهِمْ وكفرهم ، ومعنى يعمهون في اللغة يتحيرون ، يقال رجل عَمِهٌ وعَامِه ، أي متحير ، قال الراجز :
وَمَهْمَه أطرافه في مَهْمَهِ . . . أعمَى الهُدَى بالجَاهِلِينَ العُمَّهِ
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16)
أُولَئِكَ موضعُه رفع بالابتداء وخبرُه (الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ)
وقد فسَّرنا " واو " اشتروا وكسرتَها فأمَّا من يبدل من الضمة هَمْزَةً فيقول اشترو الضلالة فغالط لأن الواو المضمومة التي تبدل منها همزة إِنَّمَا يُفْعَل بها ذلك إِذا لزمت صفَتُها نحو قوله عزَّ وجلَّ : (وَإذَا الرُّسُلُ أُقَتَتْ) ، إنَّمَا الأصلُ وقَتَتْ وكذلك أَدوَّر ، إنما أصْلها أدور.
وضمة الواو في قوله : (اشترُوا الضلالة)

(1/91)


إنما هي لالتقاء السَّاكنين.
ومثله : (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ)
لا ينبغي أن تهمزَ الواو فيه.
ومعنى الكلام أن كل من ترك شيئاً وتَمسكَ بغَيْره فالعَرَبُ تقول للذِي
تَمَسكَ به قد اشتراه ، وليس ثم شراءٌ ولا بيع ، ولكن رغبته فيه بتمسكه به
كرغبة المشتري بماله ما يرغب فيه.
قال الشاعر :
اخدْت بالجمَّة رأساً أَزْعَرا . . . وبالثنَايَا الواضِحات الدَّرْدَرَا
وبالطَويل العمر عمْراً أَقصرا . . . كما اشْتَرى الكافِر إذْ تَنَصَّرَا
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ).
معناه فما ربحوا في تجارتهم ، لأن التجارة لا تربح وإنما يربح فيها
ويوضع فيها والعرب تقول قد خسر بيعك وربحت تجارتك ، يريدون بذلك
الاختصار وسعة الكلام قال الشاعر :

(1/92)


وكيف تواصل من أصبحت . . . خلالته كأبي مرحب
يريد كخلالة أبي مرحب ، وقال اللَّه عزَّ وجلَّ : (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) (والليل والنهار لا يمكران) إنما معناه بل مكرهم في الليل
والنهار.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17)
هذا المثل ضربه اللَّه - جلَّ وعزَّ - للمنافقين في تجملهم بظاهر الِإسلام
وحقنهم دماءَهم بما أظهروا فمثل ما تجملوا به من الِإسلام كمثل النار التي
يستضىء بها المستوقد وقوله (ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ) معناه ، واللَّه أعلم إطلاع
اللَّه المؤْمنين على كفرهم ، فقد ذهب منهم نور الإِسلام بما أظهر الله عزَّ وجلَّ
من كفرهم ، ويجوز أن يكون ذهب الله بنورهم في الأخرة ، أي عَذَّبهم فلا
نور لهم لأن اللَّه جلَّ وعزَّ قد جعل للمؤْمنين نوراً في الآخرةِ وسلب
الكافرين ذلك النور ، والدليل على ذلك قوله : (انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18)
رفع على خبر الابتداءِ ، كأنه قيل : هؤلاءِ الذين قصتهم هذه القصة
(صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18).

(1/93)


ويجوز في الكلام صماً بكماً عمياً ، على : وتركهم صُمًّا بكماً عُمْياً.
ولكن المصحف لا يخالف بقراءة لا تُرْوى ، والرفع أيضاً أقوى في المعنى.
وأجزل في اللفظ.
فمعنى (بُكْمٌ) أنه بمنزلة من وُلدَ أخرس ويقال الأبْكم المسلوبُ الفًؤادِ.
وصُم وبُكم واحدهم أصَم وأبْكَمُ ، ويجوز أن يَقع جمع أصم صُمَّان ، وكذلك أفعَل كله يجوز فيه فُعْلان نحو أسْود ، وسُودَان ومعنى سود وسودان واحد ، كذلك صُمٌّ وصُمَّان وعُرفي وعُرجان وبكم وبُكْمَان.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19)
الصيِّب في اللغة المطر وكل نازل من عُلُو إلى أسفل فقد صاب
يصوب ، قال الشاعر :
كأنهم صابت عليهم سحابة . . . صواعقها لطيرهن دبيب
وهذا أيضاً مثل يضربه اللَّه عزَّ وجلَّ للمنافقين ؛ كان المعنى :
أو كأصحاب صيب . فجعل دين الِإسلام لهم مثلاً فيما ينالهم من
الشدائد والخوف ، وجعل ما يستضيئون به من البرق مثلاً لما يَستضيئون به من الإسلام ، وما ينالهم من الخوف في البرق بمنزلة ما يخافونه من القتل.
- الدليل على ذلك قوله عزَّ وجلَّ : (يَحْسَبُونَ كُل صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ).

(1/94)


وقوله عزَّ وجلَّ : (يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)
(يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ)
فيه لغتان : يقال خَطِفَ يخطَفُ ، وخطَف يخْطِف ، واللغة العالية التي
عليها القراءَة " خَطِفَ يخطَفُ " ، وهذا الحرف يروى عن العرب والقراء.
وفيه لغات تروى : عن الحسن " يَخَطِّف أبصارهم " بفتح الياءِ والخاءِ وكسر
الطاءِ ، " ويروى أيضاً " يخطِّف بكسر الياءِ والخاءِ ، والطاءِ ، ويروى أيضاً لغة أخرى ليست تسوغ في اللفظ لصعوبتها ، وهي إسكان الخاءِ والطاءِ . وقد روى سيبويه مثل هذا.
رده عليه أصحابه وزعموا أنه غير سائغ في اللفظ وأن الشعرَ
لا يجمع في حشوه بين ساكنين ، قال :
وَمَسْحِهِ مَرُّ عُقابٍ كاسِرِ
يبدل من الهاءِ حاءً ويدغم الحاءَ الأولى فى الثانية ، والسين ساكنة
فيجمع بين ساكنين ، فأما بعد يَخْطَف فالجيِّد يَخَطف ويخطف فمن قال
يَخَطَف فالأصل يخْتَطِف فأدغمت التاء - في الطاءِ وألقيت على الحاءِ فتحة
التاءِ ، ومن قال " يخِطَف " كسر الخاءَ لسكونها وسكون الطاءِ ، وَزَعَمَ بعض
النَحوِيينَ أنَّ الكسْر لالتِقَاءِ الساكِنين ههنا خطأ وأنه يلزم من قال هذا أن يقول

(1/95)


في يَعَضُّ يَعِضُّ ، وفي يَمُدُّ يَمِدُّ . وهذا خَلْط غيرُ لازم ، لأنه لَوكَسَرَهَا هَهُنَا
لالتَبَسَ ما أصله يفعَل ويفعُل بما أصله يَفْعِل ، ويخطف ليس أصله غير
هذا . ولا يكون مرة على يفتَعِل ومرة على يفتَعَلُ . فَكسِرَ لالتقاءِ السَّاكنين
في موضع غير ملبس وامتنع في المُلْبِس من الكسر لالتقاءِ السَّاكنين ، وألزم
حركة الحرف الذي أدغمه لتدل الحركة عليه.
ومعنى خطفت الشيء في اللغة واختطفته أخذته بسرعة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ).
يقال ضاءَ الشيءُ يَضوء وأضَاءَ يُضِيءُ ، وهذه اللغة الثانية هي
المختارة ، ويقال أظْلَمَ وظَلَم ، وأظْلَمَ المختارُ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ)
وقد فسرنا توحيد السمع ، ويقال أذهبته وذهبت به.
ويروى أذْهَبْت به وهو لغة قليلة ، فأما ذكر (أوْ) في قوله : (مَثَلَهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي). إِلى (أوْ كصيب) فأو دَخلت ههنا لغير شك ، وهذه يسميها الحذاق باللغة " وَاوَ اَلِإباحة "
فتقول جالس القراءَ أوِ الفُقَهَاءَ ، أوْ أصْحَابَ الحديث أوْ أصْحَابَ
النحو ، فالمعنى أن التمثيل مباح لكم في المنافقين إنْ مثلْتُمُوهم بالذي استوقد
ناراَ فذاك مثلهم وإِن مثلتموهم بأصحاب الصيب فهذا مثلهم ، أِو مثلتموهم

(1/96)


بهما جميعاً فهما مثلاهم - كما أنك إذا قلت جالس الحسن أو ابن سيرين
فكلاهما أهل أن يجالس - إن جالست الحسن فأنت مطيع وإِن جمعتهما فأنت
مطيع.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ).
ويروى " أيضاً " حِذَار الموْتِ ، والذي عليه قرَّاؤُنَا (حَذَرَ الموت) ، وإنما
نصت (حذرالموت) لأنه مفعول له ، والمعنى يفعلون ذلك لحذر الموت.
وليس نصبه لسقوط اللام ، وإِنما نصبه أنه في تأويل المصدر كأنه قال يحذرون
حذراً لأن جعلهم أصابعهم في آذانهم - من الصواعق يدل على حذرهم
الموت ، وفال الشاعر :
وأغفر عوراءَ الكريم ادِّخَارَهُ . . . وأُعْرِض عن شَتْم اللئِيمِ تَكَرما
والمعنى لادخاره - وقوله : وأغفر عوراء الكريم معناه وأدخر الكريم.
* * *
وقوله عزِّ وجلَّ : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)
معناه أن الله احْتَجَّ على العرب بأنه خالقهم وخالق مَنْ قَبْلِهُم لأنَّهُمْ
كانوا مُقِرينَ بذلك ، والدليل على ذلك قوله : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ)

(1/97)


قيل لهم إن كنتم مقرين بأنه خالقكم فاعبدوه ، ولا تعبدوا الأصنام -
وقوله (لعلكم تَتقُونَ) معناه تتقونَ الحُرُمَاتِ بيْنَكم وتَكُفون عما تأتون مما
حرمَه اللَّه ، فأما لعل وففيها قولان ههنا ، عن بعض أهل اللغة : أحدهما :
معناها كي تتقوا ، والذي يذهب إليه سيبويه في مثل هذا أنه تَرَج لهم كما قال
في قصة فرعون (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى).
كأنه قال اذهبا أنتما على رجائكما وطمَعِكُمَا واللَّه عزَّ وجلَّ من وراءِ ذلك وعالم بما يؤُول إِليه أمرُ فِرعون.
وأما إِعراب (يَا أيُّها) فأي اسمٌ مُبْهَم مبني على الضم لأنه منادى مفرد
والناس صفة لأي لازمة ، تقول يا أيها الرجل أقبل ، ولا يجوز يَا لرجُل لأن
" يا " تَنْبِيهٌ بمنْزِلة التَّعرِيفِ في الرجل فلا يجمع بين " يَا " وبين الألف واللام
فتصل إلى الألف واللام بأي.
وها لازمه لأي ، لِلتَّنْبيه ، وهي عوض من الِإضافة في أي لأن أصْل أي
أن تكون مضافة في الاستفهام والخبر ، وزعم سيبويه عَن الخليل أن المنادى
المفرد مبني وصفته مرفوعةٌ رفعاً صحيحاً لأن النداءَ يطرد في كل اسم مفرد.
فلما كانت البِنْيَةُ مطردة في المفرد خاصة شبه بالمرفوع فرفعت صفته.
والمازني يجيز في يا أيها الرجل النصب في الرجل ، ولم يقل بهذا القول أحد
من البصريين غيره ، وهو قياس لأن موضع المفرد المنادى نصب فحملت
صفته على موضعه ، وهذا في غير يا أيها الرجل جائز عند جميع النحويين نحو
قولك يا زيدُ الظريفُ والظريفَ ، والنحويون لا يقولون إِلا يا أيها الرجل ، يا أيها

(1/98)


الناسُ ، والعرب لغتها في هذا الرفع ولم يرد عنها غيره ، وإنما المنادى في
الحقيقة الرجل ، ولكن أيُّ صلة إليه وقال أبو الحسن الأخفش إِن الرجل أنْ
يَكون صلة لأي أقيس ، وليس أحد من البصريين يتابعه على هذا القول.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)
معناه وِطاءً ، لم يجعلها حَزْنةً غليظة لا يمكن الاستقرأر عليها.
وقوله : (والسماءَ بناءً) كل ما علا على الأرض فاسمه بناءٌ ،.
ومعناه إنه جعلها سقفاً.
كما قال عزَّ وجلَّ : (وَجَعَلْنا السمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً) ، ويجوز في قوله :
(جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ) وجهان : الإدغام والِإظهار ، تقول : جعل لكم وجعل
لكم الأرض ، فمن أدغم فلاجتماع حرفين من جنس واحد وكثرة الحركات ، ومن أظهر - وهو الوجه وعليه أكثر القراءِ - فلأنهما منفصلان من كلمتين.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أنْدَاداً وأنْتُم تَعْلمُون).
هذا احتجاج عليهم لِإقرارهم بأنه الله خالقُهم ، فقيل لهم لا تجعلوا لله
أمثالاً وأنتم تعلمون أنهم لا يَخْلُقون واللَّه الخالق - وفي اللغة فلان ندُّ فلانٍ : ، وندِيدُ فُلَانٍ.
قال جرير :
أتيماً تجعلون إِليَّ نِدًّا . . . وما تيمٌ لِذِي حَسبٍ نَدِيد

(1/99)


فهذه الآية والتي قبلها احتجاج عليهم في تثبيت توحيد اللَّه عزَّ وجلَّ.
ثم احتج عليهم فيما يلي هذه الآية بتثبيت أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : -
(وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23)
(فِي رَيْبٍ) معناه في شك.
وقوله (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) للعلماءِ فيه قولان
أحدهما : قال بعضهم : (مِنْ مثلهِ) : من مثل القرآن - كما قال عزَّ وجلَّ :
(فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ) وقال بَعْضهم (من مثله) مِنْ بَشَر مِثْلِه.
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)).
أيْ ادعَوَا من استدعيتم طاعته ورجوتم معونته في الإتيان بسورة من
مثله.
* * *
وقوله : (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)
قيل لهم هذا بعد أن ثبت عليهم أمر التوحيد وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فوعدوا بالعذاب إِن لم يؤمنوا بعد ثبوت الحجة عليهم.
وجزم (لَمْ تَفْعَلوا) لأن لمْ أحدثَتْ في الفِعْل المستقبل معنى المضى فجزمتْه ، وكل حرف لزم الفعل فأحدث فيه معنى فله فيه من الِإعراب على قسط معناه - فإِن كان ذلك الحرف " أنْ " وأخواتها نحو لَنْ تفعلوا ويريدون " أنْ يطفئوا). فهو نصب لأن أن وما بعده بمنزلة الاسم فقد ضارعت (أنْ الخفيفة) أنَّ المشدَّدة وما بعدها لأنّك إِذا قلت ظننت أنك قائم فمعناه ظننت قيامك ، وإِذا قلت أرجو أنْ تَقومَ فمعناه أرجو قيامك ، فمعنى " أنْ " وما عملت فيه كمعنى " أنَّ " المشددة وما

(1/100)


عملت فيه ، فلذلك نصبت " أنْ " وجزمت " لَمْ " لأن ما بعدها خرج من تأويل الاسم ، وكذلك هي وما بعدها يخرجان من تأويل الاسم :
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (التِي وَقودُها النَّاسُ والحِجَارة).
عرفوا عذاب اللَّه عزَّ وجلَّ بأشد الأشياءِ التي يعرفونها لأنه لا شيء في
الدنيا أبلغ فيما يؤلم من النار ، فقيل لهم إن عذاب اللَّه من أشد الأجناس التي
يعرفونها ، إلا أنه من هذا الشديد الذي يعرفونه ، ويقال إن الحجارة هنا
تفسيرها حجارة الكبريت وقوله (وَقودُها) الوقود هو الحطب ، وكل ما أوقد
به فهو وقود ، ويقال هذا وقودك ، ويقال قد وقدت النار وقُوداً فالمصدر
مضمومٌ ويجوز فيه الفتح.
وقد روي وقدت النار وَقوداً وقبلت الشيء قَبُولًا.
فقد جاءَ في المصدر (فَعُول) والباب الضم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)
ذكر ذلك للمؤمنين ، وما أعد لهم جزاءً لتصديقهم ، بعد أن ذكر لهم
جزاءَ الكافرين ، وموضع (أنَّ) نصب معناه بشرهم بأن لهم جنات).
فلما سقطت الباءُ أفْضَى الفعل إلَى " أن " فَنُصِبَتْ . وقد قال بَعْض
النَحويينَ إنَهُ يَجُوز أنْ يكون موضعُ مثل هذا خفضاً وإن سقطت الباءُ من أن ، و (جنات) في موضع نصب بأنَّ ، إلا أن التاءَ تاءُ جماعة المؤَنث هي في
الخفض والنصب على صورة واحدة كما أن ياءَ الجَمْع في النصْب والخَفْضِ

(1/101)


على صورة واحدةٍ ، تقول رأيت الزيدين ومررت بالزيدين ، ورأيت الهنداتِ ، ورغبت في الهنْداتِ.
والجنة في لغة العرب البُسْتان ، والجنات البساتين " ، وهي التي وعد الله
بها المتقين وفيها ما تَشْتَهي الأنْفس وتَلَذ الأعين.
قوله عزَّ وجلَّ : (كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا).
قال أهل اللغة : معنى " مُتَشَابِه " يشبه ؛ بعضه بعضاً في الجَوْدَةِ.
والحُسْن ، وقال أهل التفسير وبعض أهل اللغة " متشابها " يشبه بعضه بعضا
في الصورة ويختلف في الطعْم ، ودَليل المُفَسرين قوله : (هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ) لأن صورتَهُ الصورة الأولى ، ولكن اختلافَ الطعوم على اتفاق الصورَةِ
أبلغُ وأعرف عند الخلق ، لو رأيت تفاحاً فيه طعم كل الفاكهة لكان غايةً في
العجب والدلالة على الحكمة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ).
أي أنهن لا يحتجن إلى ما يحتاج إليه نساءُ أهل الدنيا من الأكْل
والشرْب ولا يَحِضْنَ ، ولا يحتجن إلى ما يُتَطَهرُ مِنه ، وهن على هذا طاهرات
طهَارَةَ الأخلاق والعفةِ ، فمُطهرة تَجْمَعُ الطهارةَ كلها لأن مُطهًرة أبْلَغ في الكلام من طاهرة ، ولأن مطهرة إنما يكون للكثير.
وإعْرَابُ (أَزْوَاجٌ) الرفع بـ (وَلَهُمْ)
وإنْ شئت بالابتداءِ ، ويجوز في (أَزْوَاجٌ) أن يكون واحدتُهن زوجاً وزوجةً قال الله تبارك وتعالى (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ)
وقال الشاعر :

(1/102)


فبكى بناتي شَجْوَهُن وزوْجَتِي . . . والطامِعُونَ إليَّ ثم تَصَدَّعُوا
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26)
إنْ قال قائل : ما معنى ذكر هذا المثل بعقب ما وعد به أهلُ الجَنةِ وما
أعد للكافرين ؛ قيل يتصل هذا بقوله : (فَلاَ تَجْعَلوا للَّهِ أندادا) لأن اللَّه
عزَّ وجلَّ قال : (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا).
وقال : (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا) فقال الكافرون : إن إلَهَ محمدٍ يضْربُ الأمثَالَ بالذُّبَاب ، والعَنْكَبُوتِ.
فقال اللَّه عزَّ وجلَّ : (إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا).
أيْ ، لِهَؤلاءِ الأنداد الذين اتخذتُمُوهُمْ مين دُونِ اللَّهِ ، لأن هَذَا في
الحقيقة مَثلُ هَؤُلاءِ الأنْدَادِ.
فأما إعراب (بَعُوضةً) فالنصبُ من جِهَتين في قَوْلنَا ، وذكر بعض
النحويين جهةً ثالثة ، فأما أجْوَدُ هذِه الجِهَاتِ فأنْ تَكونَ ما زائدة مؤَكدة ، كأنه قال : إنَّ الله لا يستحيي أن يضرب بَعُوضة مَثلاً ، وَمَثلاً بَعوضَةً ، وما زائدة مؤَكدة نحو قوله : (فَبِمَا رَحْمَةٍ من اللَّهِ لِنْتَ لَهم) المعنى فَبرحمة من الله

(1/103)


حَقا ، فَمَا في التوكيد بمنزلةِ حَق إلا أنه لا إعرابَ لها ، والخافض والناصِب
يتخطاهَا إلى مَا بَعْدَهَا ، فمعْنَاهَا التوكِيدُ ، ومثلُها في التوكيد (لا) في قوله :
(لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ) معناه لأنْ يعلمَ أهل الكتاب ، ويجوز أنْ يكونَ
" مَا " نكرة فيكون المعنى : " إنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحِي أنْ يَضْرَب شَيئاً مَثَلاً " وكأن
بعوضة في موضع وصف شيء ، كأنه قال : إن اللَّه لا يستحيي أن يضرب مثلًا شيئاً من الأشياءِ ، بعوضة فما فوقها.
وقال بَعْضُ النحويينَ : يجوز أن يكون معناه ما بين بعوضة إلى ما فوقها ، والقولان الأولان قول النحويين القدماءِ.
والاختيار عند جمع البَصْريينَ أن يكون ما لغوا ، والرفع في بعوضة جائز في
الإعراب ، ولا أحفظ من قرأ به (ولا أعلم) هَلْ قرأ به أحد أم لا ، فالرفْعُ
على إضْمَارِ هُوَ كأنهُ قال مَثلاً (لذي هو بعوضة وهذا عند سيبويه ضعِيف) ، وعنه مندوحة ، ولكن من قرأ (تَمَاماً عَلَى الذِي أحْسَن) وقد قرئ به - جاز أن يقرأ (مَثَلاً مَا بعوضَة) ولكنهُ في (الذي أحسنُ) أقوى لأن الذي أطول.
وليس للذي مذهب غيرُ الاسْماء.
وقالوا في معنى قوله : (فمَا فَوْقَها)
قالوا في ذلك قولين : قالوا (فمَا فَوْقَها): أكبَرُ مِنْهَا ، وقالوا (فمَا فَوْقَها) في الصغرِ.
وبعضُ النحويينَ يختارُون الأول لأن البَعُوضة كأنها نِهَايةُ في الضغرِ فِيمَا
يُضْرَبُ بِه المَثلُ ، والقولُ الثاني مختارُ أيضاً ، لأن المطلوبَ هنا والغرضَ
الصغرُ وتقليلُ المَثلِ بِالأنَدَادِ.
قوله عزَّ وجلَّ : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا) يعني صدقوا (فَيَعْلَمُونَ) أن هذا المثل

(1/104)


حق ، (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا) أي ما أراد بالذباب والعنكبوت مثلاً ؛ فقال اللَّه عزَّ وجلَّ : (يُضِل بِهِ كَثِيراً).
أي يَدعو إلى التصْدِيقِ بِه الخَلْق جميعاً فيكذبُ به الكفارُ - فيُضَلون
(وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ) يدل على أنهم المُضَلونَ بِه ، ويهدى به
كثيراً ، يزاد به المؤمنون هدايةً لأن كلما ازْدَادُوا تَصْدِيقاً فقدِ ازْدَادُوا هِدَايةً والفاءُ دخَلَتْ في جواب ، أمَّا فِي قوله (فيَعلمون) لأن أما تأتي بمعنى الشرط
والجزاءِ كأنَّه إذا قال (أما زيد فقد آمن وأمَّا عمرو فقد كفر) فالمعنى مهما
يكن من شيءٍ فقد آمن زيد ومهما يكن من شيءٍ فقد كفر عمرو.
وقوله (ماذا) يجوز أن يكون (ما) و (ذا) اسماً واحداً يكون موضعهما
نصباً ، المعنى أي شيءٍ أراد اللَّه بهذا مثلاً ، ويجوز أن يكون (ذا) مع (ما)
بمنزلة الذي فيكون المعنى ما الذي أراده اللَّه بهذا مثلاً ؛ أو أي شيءٍ الذي
أراده اللَّه بهذا مثلاً ، ويكون (ما) هنا رفعاً بالابتداء و (ذا) في معنى الذي ، وهو خَبَرُ الابتداء وإِعراب (الفاسقين) نصب كأنَّ المعنى وما يَضِل بِه أحَد إلا
الفَاسقين.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27)
(عهد الله) هنا - واللَّه أعلم - ما أخذ اللَّه على النبيين ومن اتبعهم ألا
يَكْفُروا بأمُرِ النبِي - صلى الله عليه وسلم - ، دليل ذلك قوله عزَّ وجلَّ : (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا).

(1/105)


فهذا هو العهد المأخوذ على كل من اتبع الأنبياءَ عليهم السلام " أن
يؤْمنوا بالرسول المصدقِ لِمَا مَعَهُمْ و - " إصْري " - مثْلُ عهدي.
ويجوز أن يكون عهدُ اللَّه الذي أخذَه من بَنِي آدمَ مِنْ ظُهورِهم.
حين قال . . . (وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا).
وقال قوم أن عَهدَ الله - عز وجل - الاستدلال على تَوْحيده ، وأنَّ كل ذِي تَمييز يعلمُ أن اللَّه خَالق فَعَليْهِ الإيمانُ بِهِ ، والقولان الأولان في القرآن ما يصدقُ تَفْسيرَهُمَا.
فأمَّا إعْرابُ (الَّذِينَ) فالنصْب على الصفَةِ للفَاسِقينَ ، وموضع قوله :
(أنْ يُوصل) خفض على البدل من الهاء والمعنى ما أمر الله بأنْ يُوصَلِ.
وَمَوْضِعُ (أولَئكَ) رفع بالابْتِدَاءِ و (الخَاسِرُونَ) خبرُ الابتدَاءِ وهم بِمَعْنى
الفصل وهو الذي يسميه الكوفيون العماد ، ويجوز أن يكون أُولَئِكَ رفعاً
بالابتداءِ وهم ابتداء ثان ، والخاسرون ، خبر لِهُمْ و (هُمُ الخاسرون) ، خبر عن أولئك.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28)
فكونهم أمْوَاتاً أوْلاًْ أنَّهمْ كانُوا نُطَفاً ثم جعِلوا حَيواناً ثم أمِيتُوا ثم أحْيُوا
ثم يُرجَعُونَ إلى اللَّه - عزَّ وجلَّ - بعد البعث كما قال (مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ) أي مسرعين.
وقوله ، عزَّ وجلَّ (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا).

(1/106)


والأجداثُ القبورُ . وَتأويلُ كيف أنها ، استفهام في معنى
التعجب وهذا الثعجب إنما هو للخلق وللمؤمنين ، أي اعجبوا من هؤُلاءِ
كيف يَكفُرون وقد ثبتَتْ حجةُ اللَّهِ عَلَيْهمْ ومعنى (وكنتم) وقد كنتم وهذه
الواو للحال ، وإضمار قد جائز إذا كان في الكلام دليل عليه ، وكذلك قوله (أو جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) (وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)
موضع ما مفعول به وتأويله أن جميع ما في الأرض منعَمُ به عليكم
فهو لكم.
وفيه قول آخر أن ذلكم دليل على توحيد اللَّه عزَّ وجلَّ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (ثُمَّ اسْتَوى إلىَ السَّمَاءِ).
فيه قولان : قال بعضهم : (اسْتَوى إلىَ السَّمَاءِ) ، عمد وقصد إلى السماءِ.
كما تقول قد فرغ الأمير من بلد كذا وكذا ، ثم استوى إلى بلد كذا ، معناه
قصد بالاستواءِ إليه ، وقد قيل (أيضاً) استوى أي صعد أمره إلى السماء
وهذا قول ابن عباس ، والسماءُ لفظها لفظ الواحد ، ومعناها معنى الجمع.
والدليل على ذلك قوله : (فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ).
ويجوز أن يكون السماءُ جمعاً كما أن السَّمَاوَات جمع كأن واحِدَهُ سَمَاة وسماوة وسماء للجميع.
وزعم أبو الحسن الأخفش أن السماءَ جائز أن يكون واحداً يراد به

(1/107)


الجمع كما تقول "كثر الدِّرْهَمُ والدينار في أيدي الناس ".
والسماءُ في اللغة السقف ويقال لكل ما ارتفع وعلا قد سما يسمو ، وكل
سقف ، فهو سماء يا فتى ، ومن هذا قيل للسحاب لأنها عالية.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)
قال أبو عبيدة " إذ " ههنا زائدة ، وهذا إقْدَام مِنْ أبي عبيدة لأن القرآن
لا ينبغي أن يتكلم فيه إلا بغاية تجري إلى الحق و (إذ) معناها الوقت ، وهي
اسم فكيف يكون لغواً ، ومعناها الوقت ؛ والحجة في (إذ) أنَّ اللَّه تعالى ذكر
خلق الناس وغيرهم ، فكأنَّه قال ابتدأ خلقكم إذ قال ربك للملائكة (إِني
جاعل في الأرض خَليفَةً).
وفي ذكر هذه الآية احتجاج على أهل الكتاب
بتَثْبيتِ نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّ خَبَرَ آدم وما أمره اللَّه به من سجود الملائكة له معلوم عندهم ، وليس هذا مِنْ علم العرب الذي كانت تعلمه ، ففي إخبار النبي - صلى الله عليه وسلم -
دليل على تثبيت رسالته إذ آتاهم بما ليس من علم العرب ، وإنما هو خبر لا
يعلمه إلا من قرأ الكتاب أو أوحي إليه به.
وتأويل قوله عزَّ وجلَّ : (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ) :
روي أن خلقا يقال لهم الجان كانوا في الأرض فأفسدوا وسفكوا

(1/108)


الدماء لبعث اللَّه ملائكتَه فأجْلَتْهم من الأرض ، وقيل إن هُؤلاء الملائكة
صاروا سكان الأرض بعد الجان ، فقالوا يارب (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ).
وتأويل استخبارهم هذا على جِهَةِْ الاسْتِعْلام وجهة الحكمة ، لا على
الإنكار ، فكأنهم قالوا يا اللَّه : إن كان هذا ظننا فَعَرفنا وجه الحق فيه.
وقال قوم : المعنى فيه غير هذا وهو أن الله عزَّ وجلَّ أعلم الملائكة أنه جاعل في الأرض خليفة ، وأن من الخليقة فرقةً تسفك الدماءَ وهي فرقة مِنْ بَنِي آدَم ، وأذن اللَّه عزَّ وجلَّ للملائكةِ أنْ يسْألوه عن ذلك وكان إعلامُه إياهم هذا زِيادةً في التثبيت في نفوسهم أنَّه يعلم الغيب ، فكأنهم قالوا : أتخلق فيها قوماً
يسفكون الدماءَ ويَعصونَك ؛ وإنَّما ينبغي إذا عرفوا أنك خلقتهم أن يسبحوا
بحمدك كما نسبح ، ويقدسُوا كما نقدس ، ولَمْ يَقُولُوا هَذَا إلا وقد أذن لهم.
ولا يجوز على الملائكة أن تقول شيئاً تتظنى فيه ، لأن اللَّه تعالى وصفهم
بأنهم يفعلون ما يؤمرون.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (إِنَىِ أعْلمُ ما لا تَعْلَمُونَ).
أي أبْتَلِي من تَظُنُون أنَّه يطيع فيهديه الابتلاءُ ، فالألف ههنا إِنَّمَا هي
على إِيجاب الجعل في هذا القول ، كما قال جرير :

(1/109)


ألسْتُمْ خَيْرَ مَنْ ركب المطايا . . . وأنْدَى العالَمينَ بطون راحِ
ومعنى (يَسفِكُ) يصُب ، يقال سفك الشيءَ إذا صبَّه
ومعنى (نُسَبح بحمدك) نُبَرئُك من السوءِ ، وكل مَنْ عمل عَمَلاً قَصدَ به اللَّه فقد سبح ، يقال فرغت من تسبيحي أي من صلاتي ، وقال سيبويه وغيره من النحويين : إن معنى سُبْحَان الله : براءة اللَّه من السوءِ وتنزيهه من السوءِ ، وقال الأعشى :
أقول لما جاءَني فخرُهُ . . . سبحانَ من علقمةَ الفاخر.
المعنى البراءَة مِنْه ومِنْ فخْرِه . .
ومعنى (نُقَدِّسُ لَكَ) أي نطهر أنْفُسَنا لك ، وكذلك منْ أطاعك نقدسُه
أي نطهّره ، ومن هذا بيت المقدس ، أي البيت المُطهرُ أو المكان الذي يتطهر
فيه من الذنوب.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31)
قال أهل اللغة علم آدم أسماءَ الأجناس ، وعرض أصحاب الأسماءِ من

(1/110)


الناس وغيرهم على الملائكة ، فلذا قال : (ثم عرضهم) لأن فيهم من يعقل.
وكل ما يعقل يقال لجماعتهم (هم). و (هم) يقال للناس ويقال للملائكة ؛
ويقال للجن ، - ويقال للجان ويقال للشياطين فكل مميز في الإضمار (هم) هذا مذهب أهل اللغة.
وقد قال بعض أهل النظر : إن الفائدة في الِإتيان بالأسماءِ أبلغ منها هي
الفائدة بأسماءِ معاني كل صنف من هذه ، لأن الحجة في هذا أن الخيل إذا
عرضت فقيل ما اسم هذه ، قيل خيل ، فأي اسم وضع على هذه أنبأ عنها.
وإنما الفائدة أن تُنْبِئ باسم كل معنى في كل جنس ، فيقال هذه تصلح لكذا.
فهذه الفائدة البينة التي يتفق فيها أن تسمى الدابة والبعير بأي اسم شئتَ.
والمعنى الذي فيها وهو خاصها معنى واحد وإن اختلفت عليه الأسماءُ واللَّه
أعلم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)
قَرأتِ الْقُراءُ (للملائِكةِ اسْجُدُوا) بالكسر وقرأ أبو جعفر المدني
وحده (للملائكةُ اسْجدوا) بالضم.
وأبو جعفر من جِلَّةِ أهل المدينة

(1/111)


وأهلِ الثَّبتِ في القَراءَةِ إلا أنه غلط في هذا الحرف (1) لأن الملائكة في موضع
خفض فلا يجوز أن يرفع المخفوض ولكنه شبَّه تاءَ التأنيث بكسر ألف
الوصل لأنك إذا ابْتدأتَ قلت اسْجُدوا.
وليس ينبغي أن يقرأ القرآن بتوهم غيرِ الصواب.
(وإذ) في موضع نصب عطف على (إذ) التي قبلها والملائكة واحدهم
مَلَك ، والأصل فيه مَلأك أنشد سيبويه.
فلست لِأنْسي ولكنِ لِمَلأك . . . تنزَّلَ من جوِّ السَّماءِ يَصُوبُ
ومعناه صاحب رسالة ، ويقال مألُكة ومألَكَة ومألُك جمع مألُكة
قال الشاعر :
أبلغ النُعمانُ عني مالكاً . . . أنه قدْ طال حَبْسي وانتظاري
وقوله : (لآدم) آدمُ في موضع جَر إلا أنه لا ينْصرِفُ لأنَّه على وزن
أفعَل : يقول أهل اللغة إن اشتقاقه من أديم الأرض ، لأنه خُلقَ مِنْ تُراب.
وكذلك الأدمة إنما هي مشبهة بلون التراب . فإذا قلت مررت بآدم وآدم آخر ، فإن النحويين يختلفون في أفعل الذي يسمى به وأصله الصفة ، فسيبويه
__________
(1) قراءة أبي جعفر - رحمه الله - متواترة ، ومن ثَمَّ فلا وجه للاعتراض عليها. والله أعلم.

(1/112)


والخليل ومن قال بقولهما يقولون إنه يَنْصرف في النكرة لأنك إِذا نكّرته رددته إلى حال قد كان فيها يَنْصَرِف
وقال أبو الحسن الأخفش إذا سَمَّيْتَ به رجلًا
فقد أخرجته من باب الصفة ، فيجب إذا نكرته أن تصرفه فتقول : مررت بآدمٍ وآدمٍ آخر.
ومعنى السجود لآدم عبادة الله عزَّ وجلَّ لا عبادةُ آدم ، لأن الله
عزَّ وجلَّ : (إنما خلق ما يعقل لعبادته.
فإذا ابتدات قلت : اسْجُدوا فضممت الألفَ ، والألفُ لا حظ لها في
الحركة ، أعني هذه الهمزة المبتدأ بها . وإنَّما أدخلت - للساكن الذي بعدها.
لأنه لا يبتدأ بساكن ، فكان حقها الكسرَ لأن بعدها ساكناً ، وتقديرها
السكون ، فيجب أن تكسر لالتقاءِ السَّاكنين ، ولكنها ضمت لاستثقال الضمة بعد الكسر ، وكذلك كل ما كان ثالثُه مَضْمُوماً - في الفعل المستقبل نحو قوله (انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ) ، ونحو (اقْتُلُوا يُوسُفَ) لأنه
من أنَظَر يَنْظُر وقَتَل يقْتُل ، وإنما كرهت الضمة بعد الكسرة - لأنها لا تقع في
كلام العرب - لثقلها - بعدها.
فليس في الكلام مثل فِعُل ولا مثل إفْعُل.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَسَجَدُوا إلا إبلِيسَ أبَى) :
قال قوم إن إبليس كان من الملائكة فَاسْتُثْنِيَ منهم في السجود وقال قوم
من أهل اللغة : لم يكن إبليس من الملائكة ، والدليل على ذلك قوله : (إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ) ، فقيل لهُؤلاءِ فكيف جاز أنْ يُستَثْنى منهم ؛ فقالوا :

(1/113)


إن الملائكة - وإياه - أمروا بالسجود ، قالوا ودليلنا على أنه أُمِرَ معهم قوله : (إِلا إبْلِيسَ أبى) ، فلم يأب إلا وهو مأمور.
وهذا القول هو الذي نختاره ، لأن إبليس كان من الجن كما قال عزَّ وجلَّ ، والقول الآخر غير ممتنع ، ويكون (كَانَ مِنَ الْجِنَ) أي كان ضالًا كما أن الجن كانوا ضالين فجعل منهم كما قال في قصته
وكان من الكافرين ، فتأويلها أنه عمل عملهم فصار بعضَهم
كما قال عزَّ وجل (المُنَافِقُونَ والمُنَافِقَاتُ بعضُهم مِنْ بَعْضٍ).
وفي هذه الآية من الدلالة على تثبيت الرسالة للنبي - صلى الله عليه وسلم - كما في الآية التي قبلها ، والتي تليها ؛ لأنه إخبار بما لَيْس من علم العرب ولا يعلمه إلا أهل الكتاب ، أو نبي أوحِيَ إليه
وإبليس لم يُصْرف - لأنه اسم أعجمي
اجتمع فيه العجمة والمعرفة فمنع من الصرفِ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35)
الرغَدُ الكثيرُ الذي لا يُعَنيك.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ)).
أي إنْ عَمِلْتُمَا بأعمال الظالمين صِرْتُما منهم ، ومعنى (لَأتَقْرَبا) ههنا -
لا تأكلا ، ودليل ذلك قوله (وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ) أي لا تقرباها في الأكل . (ولاتقربا) جزم بالنفي.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَتَكُونَا ينَ الظالِمِين) نصب ، لأن جواب النهي بالفاءِ نصب ، ونصبه عند سيبويه - والخليل بإضمار أن ، والمعنى لا يكن منكما قرب لهذه الشجرة فَكَوْنٌ مِنَ الظالمين ، ويجوز أنْ يكونَ فتكونَا جزم على العطف على قوله وَلاَ تَقْرَبَا فَتَكُونَا.

(1/114)


وقوله عزَّ وجلَّ : (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36)
معناه أنهما أُزِلَّا بإغْوَاءِ الشيطان إياهُمَا ، فصار كأنَّه أزلَّهْمَا ، كما تقول
للذي يعمل ما يكون وصلة إلى أن يزلك من حال جميلة إلى غيرها : أنت
أزْلَلْتَنِي عَنْ هذا ، أي قبولي منك أزلنِي ، فصرت أنتَ المُزيلَ لِي ، ومعنى
الشيطان في اللغة الغالي في الكفر المتبعد فيه من الجن والإنس ، والشطَنُ في
لغة العرب الخَبْل ، والأرض الشطون : البعيدةُ ، وإنما الشيطان فَيْعال من هذا ، (وقد قرئ : (فَأزَالهُمَ الشيطان) من زُلْتُ وأزَالَنِي غيْري . وأزلهما من زَلَلْتُ
وأزَلني غيري ، ولزَللت ههُنا وجهان : يَصْلح أن يكون فأزلهما الشيطان
"أكسبهما الزلة والخَطِيئةَ ، ويصلح أن يكون "فأزلهما نحَّاهما"
وكلا القراءَتين صواب حسن).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ)
جمع الله للنبي - صلى الله عليه وسلم - قصة هبوطهم ، وإنما كان إبليس اهبِطَ أولاً.
والدليل على ذلك قوله عزَّ وجلَّ (اخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ)
وأهْبط آدمُ - وحواءُ بعد فجمع الخَبرُ للنبي - صلى الله عليه وسلم - لأنهمْ قد اجتمعوا - في الهبوط وإن كانت أوْقَاتُهم متفرقة فيه.
وقوله - (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) إبْليس عدو للمؤْمنين من ولد آدم.
وعداوته لهم كفر ، والمؤمنون أعداءُ إبليس ، وعداوتهم له إيمان.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ) أي مُقَام وثبوت
وقوله (إِلى حِينٍ).

(1/115)


قال قوم : معنى الحين ههنا إلى يوم القيامة ، وقال قوم : إلى فناءِ الآجال
أيْ كلُ مستقر إلى فناءِ أجله ، والحين والزمان في اللغة منزلة واحدة ، وبعض
الناس يجعل الحين في غير هذا المَوْضِع ستة أشهر دليله قوله : (تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا).
وإنما (كل حين) ههنا جُعِلَ لمدة معلومة والحين يصلح للأوقات كلها
إلا أنه - في الاستعمال - في الكثير منها أكثر ، يقال ما رأيتُكَ منذُ حين ، تريد منذ حين طويل.
والأصل على ما أخبرنا به.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إنَهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)
الكلمات - واللَّه أعلم - اعتراف آدم عليه السلام وحواء بالذنب لأنهما
قالا : (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23).
اعترفا بذنبهما وتابا.
وفي هذه الآية موعظة لولدهما ، وتعريفهم كيف السبيل إلى التنَصُّلِ من
الذُنُوب ، وأنه لا ينفع إِلا الاعترافُ والتوبةُ ، لأن ترك الاعتراف بما حرّم اللَّه
- عزَّ وجلَّ - حَرامٌ وكُفْرٌ باللَّه فلا بد من الاعتراف مع التوبة ، فينبغي أن يفهم هذا المعنى فإِنه من أعظم ما يحتاج إِليه من الفوائد.
وقرأ ابن كثير : (فتلقى آدمَ من ربِّه كَلمَاتٌ) ، والاختيار ما عليه الإجماع (1)
__________
(1) قراءة ابن كثير متواترة ، ومن ثَمَّ فلا يجوز المفاضلة والترجيح بين القراءات. والله أعلم.

(1/116)


وهو في العربية أقوى ، لأن آدم تعلم هذه الكلمات فَقِيلَ تَلقَّى هذه الكلماتِ ، والعرب تقول تلقيت هذا من فلان ، المعنى فَهْمي قَبِلَهُ من لفْظِه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)
الفائدة في ذكر الآية أنه عزَّ وجلَّ أعلمهم أنه يبتليهم بالطاعة وأنه
يُجَازِيهم بالجَنةِ عَلَيْها وبالنَّارِ على تَرْكِهَا ، وأن هَذَا الابتلاءَ وقَع عندَ الهبُوط
على الأرض.
وإعراب (إِمَّا) في هذا الموضع إعراب حروف الشرط والجزاءِ ، إلا أن
الجزاءَ إذا جاءَ في الفعل معه النون الثقيلة أو الخفيفة لزمتها ما ومعنى
لزومها إياها معنى التوكيد ، وكذلك معنى دخول النون في الشرط التوكيد.
والأبلغ فيما يؤمر العباد به التوكيد عليهم فيه.
وفتح ما قبل النون في قوله : (يَأْتِيَنَّكُمْ) لسكون الياءِ وسكون النون
الأولى ، وجواب الشرط في الفاءِ مع الشرط الثاني وجوابه وهو
(فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ)

(1/117)


وجواب (فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ) (قوله) (فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ).
و (هُدَايَ) : الأكثر في القراءَة والرواية عن العرب (هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ)
فالياء في (وهُدَايَ) فتحت لأنها أتت بعد ساكن وأصلها الحركة التي هي الفتح
فالأصل أن تقول : هذا غلامِيَ قد جاءَ - بفتح الياءِ - لأنها حرف في موضع
اسم مضمر منع الِإعراب فألزم الحركة كما الزمت " هُوَ " وحذف الحركة
جائز لأن الياء من حروف المد واللين ، فلما سكن ما قبلها لم يكن بد من
تحريكها فجعل حظها ما كان لها في الأصل من الحركة وهو الفتح ، ومن
العرب من يقولون : " هُدَيً وعَصَى " ، فمن قرأ بهذه القراءَة فإنما قلبت
الألف إِلى - الياءِ ، للْيَاءِ التي بعدها ، إِلا أن شَأنَّ يَاءِ الإضافة أنْ يُكْسر ما قَبْلَها ، فجعل بدلَ كَسْرِ ما قَبلها - إِذْ كانت الألف لا يكسر ما قبلها ولا تكسر هي - قَلْبَها ياءً . وطَىءٌ تقول في هُدًى وعَصاً وأفْعًى وما أشبهَ هذا في الوقفِ هُدَيْ وعَصَيْ (وأفعى) ، بغير إِضافة.
وأنشد أبو الحسن الأخفش وغيره من النحويين.
تبَشري بالرفْهِ والماءِ الروَى . . . وفرج منك قريب قد أتَىْ
وبعض العرب يجري ما يجريه في الوقف - في الأصل - مجراه في

(1/118)


الوقف وليس هذا الوجهَ الجيدَ . وزعم سيبويه أن الذين أبدلوا من الألف
الياء ، أبدلوها في الوقف ليكون أبين لها.
وحكى أيضاً أن قوماً يقولون في الوقف حُبْلَوْ ، وأفْعَوْ.
وإِنما يحكي أهل اللغة والعلم بها كل ما فيها ، ليتميز الجيد
المستقيم المطرد من غيره ، ويجتنب غير الجَيِّد . فالباب في هذه الأشياء أن
ئنْطق بها في الوصل والوقف بألفٍ ، فليس إِليك أن تقلب الشيءَ لِعِلةٍ ثم تنطق
به على أصله والعلة لمْ تزل ، فالقراءَة التي ينبغي أن تُلْزم أهي ، (هدَايَ فَلَا
خَوْفٌ) إلا أن تثبت برواية صحيحة " هدَيّ " فيقرأ بها . ووجهه من القياس ما وصفنا.
فأمَّا قوله : (هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ).
وقوله : (إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ) فلا يجوز أن يقرأ هذا صراط علاي ، ولا ثمَّ إلاي مرجعكم ، لأن الوصل كان في هذا : " إلآي " و " عَلَاي " ولكن الألف أبْدِلَتْ منها مع المضمرات الياءُ ، ليفصل بين ما آخره مِما يَجب أن نعْرَبَ ويتَمَكن ، ومَا آخره مما لا يجب أن يعرب ، فَقلبَتْ هذه الألف ياءً لهذه العلة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40)
نصب (بني إِسرائيل) لأنه نداء مضاف ، وأصل النداءِ النصب لأن
معناه معنى " ناديت " و " دعوت " وإسرائيل في موضع خفض إِلا إنَّه فتح آخره لأنه لا يَنْصَرف ، وفيه شيئان يوجبان منعَ الصرف ، وهما إنَّه أعجمي وهو معرفة - وإذا كان الاسم كذلك لم يَنْصَرف ، إِذا جاوز ثلاثة أحرف عند

(1/119)


النحويين ، وفي قوله : (نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) وجْهان ، أجودهما فتح
الياءِ لأنَّ الذي بعدها ساكبن وهو لام المعرلْة فإستعمالها كثيرَ في الكلام
فاختير فتح الياءِ معها لالتقاءِ " السَّاكنين ، ولأن الياء لو لم يكن بعدها ساكن كانَ فتحها أقوى في اللغة ، ويجوز ُأنْ تحذف الياءُ في اللفظ لالتقاءِ السَّاكنين فتقرأ - (نعمتِ التي) أنعمت بحذف الياءِ ، والاختيار إثبات الياء وفتحها لأنه أقوى في العربية وأجزل في اللفظ وأتم للثواب ، لأن القارئ يجازى على كل ما يقرؤُه من كتاب اللَّه بكل حرف حسنة ، فإن إثباته ، أوجَهُ في اللغة . فينبغي إثباته لما وصفنا.
فأما قوله عزَّ وجلَّ : (هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31).
فلم يكثر القراءُ فتح هذه الياء ، وقال أكثرُهُم بفتحها مع الألف واللام.
ولعَمْري إن اللام المَعْرفَةَ أكثرُ في الاستعمال ، ولكني أقول : الاختيار
" أخِيَ اشْدُدْ " بفتح الياءِ لالتقاءِ السَّاكنين ، كما فتحوا مع اللام ، لأن اجتماع ساكنين مع اللام وغيرها معنى واحد وإن حذفت فالحذف جائز حَسَن إلا أن الأحْسَنَ ما وَصَفْنَا.
وأمَّا معنى الآية في التذكير بالنعمة فإنهم ذُكرُوا بِمَا أنْعِمَ بِه على آبائهم
من قبلهم ، وأنعم به عليهم ، والدليل على ذلك قوله : (إذْ جَعَلَ فِيكُمْ أنبِيَاءَ
وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً) ، فالذين صادفهم النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكونوا أنبياء وإنَّما ذُكِّروا بما أنعم به على آبائهم وعليهم في أنفسهم وفي آبائهم ، وهذا المعنى موجود في كلام العرب معلوم عندها.
يفاخر الرجلُ الرجُلَ فيقولُ هَزَمْناكُمْ يَوْمَ " ذي قار " ،

(1/120)


ويقول قتلناكم يوم كذا ، معناه قَتَل آباؤُنا آباءَكم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَأوْفُوا بِعَهْدِي أوفِ بِعَهْدِكُمْ).
معناه - واللَّه أعلم - قوله : (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ) فتمام تبيينه أن يخبروا بما فيه من ذكر نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - وقد بيَّنَّا ما يدُل على ذكر العهد قبل هذا وفيه كفاية.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ).
نصب بالأمر كأنه في المعنى " أرهبوني " ويكون الثاني تفسير هذا
الفعل المضمر ، ولو كان في غير القرآن لجاز : " وَأنَا فَارْهَبُونِ "
ولكن الاختيار في الكلام والقرآن والشعر (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) حذفت الياء وأصله " فارهبونِي " - لأنها فاصلة ، ومعنى فاصلة رأس آية ليكون النظم على لفظ مُتَسق ، ويسمِّي أهلُ اللغة رؤوس الآي الفواصل ، وأواخر الأبيات : القوافي.
ويقال وَفيْت له بالعهد فأنا وافٍ به ، وأوفيت له بالعهد فأنا موف به.
والاختيار : - أوفيت ، وعليه نزل القرآن كله قال الله عزَّ وجلَّ :

(1/121)


(وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) وقال : (وأوْفُوا بعَهْدِ اللَّهِ إذَا عَاهَدتُمْ)
وقال : (فَأوْفُوا الْكَيْلَ والمِيزَانَ) وكل ما في القرآن بالألف
وقال الشاعر في " أوْفَيْتُ " :
" ووفيتُ " فجمع بين اللغَتَينِ في بيت واحد :
أما ابنُ عوف فقد أوْفى بذمته . . . كما وَفَى بقلاص النجم حاديها
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41)
يعني القرآن ، ويكون أيضاً ، (وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ) بِكِتَابِكم وبِالْقُرْآنِ
إن شئت عادت الهاءُ على قوله (لما معكم) ، وإنما قيل لهم (وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ) لأن الخطاب وقع على حكمائهم فإذا كفروا كفر معهم الأتباع فلذلك قيل لهم : (وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ) فإن قال قائل : كيف تكون الهاءُ لكتابهم ؛ قيل له

(1/122)


إنههم إذا كتموا ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - في كتابهم فقد كفروا به كما إنَّه من كتم آية من القرآن فقد كفر به ومعنى (وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ) - إذا كان بالقرآن - لا مؤنَةَ فيه.
لأنهم يظهرون أنهم كافرون بالقرآن . . ومعنى (أَوَّلَ كَافِرٍ) أولَ الكافرين ،.
قال بعض البصريين في هذا قولين : قال الأخفش معناه أول منْ كفَر به ، وقال البصريون أيضاً : معناه ولا تكونوا أول فريقٍ كافر به أي بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وكلا القولين صواب حسن.
وقال بعض النحوين إن هذا إنما يجوز في فاعل ومفعول تقول الجيش
منهزم ، والجيش مهزوم ، ولا يجوز فيما ذكر : الجيش رجل ، والجيش فرس ، وهذا في فاعل ومفعول أبين ، لأنك إذا قلت الجيش منهزم فقد عُلِمَ أنك تريد هذا الجيش فنقطت في لفظه بفاعل لأن المعنى الذي وضع عليه الجيش معنى يدل على جمع ، فهو فَعال . ومفعول يدل على ما يدل عليه الجيش ، وإذا قلت الجيش رجل فإنما يكره في هذا أن يتوهم أنك تقلله فأمَّا إِذا عرف معناه فهو سائغ : جيد.
تقول : جيشُهُمْ إِنَّما هو فرسٌ ورجُل ، أي ليس بكثير ، الاتباع فيدل المعنى على أنك تريد الجيش خيل ورجال ، وهذا في فاعل ومفعول أبين كما وصفنا.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ).
اللغة العليا والقُدْمَى الفتح في الكاف وهي لغة أهل الحِجَازِ ، والإمالة
في الكاف أيضاً جيّد بالغ في اللغة لأن فاعلا إذا سَلِم من حروف الإطباق

(1/123)


وحروف المستعلية كانت الإمالة فيه سائغةً إلا في لغة أهل الحجاز ، والإمالة لغة بني تميم وغيرهم من العرب ، ولسان الناس الذين هم بالعراق جارٍ على لفظ الِإمالة ، فالعرب تقول : هذا عابد وهو عابد فيكسرون ما بعدها إلا أن
تدخل حروف الِإطباقِ وهي الطاء والظاء والصاد والضاد ، لا يجوز في قولك
فلانٌ ظالم : ظالم ممال ، ولا في طالب : طالب ممال ، ولا في صابر صابر : ممال ، ولا في ضابطٍ : ضابط ممال ، وكذلك حروف الاستعلاءِ وهي : الخاءِ والغين ، والقاف ، لا يجوز في غافل : غافل ممال ولا في خادم : خادم ممال ، ولا في قاهر قاهر : ممال . وباب الإمالة يطول شرحه إلا أن هذا في هذا الموضع هو المقصود وقدر الحاجة.
* * *
قوله عزَّ وجلَّ : (وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42)
يقال لبَسْت عليهم الأمرَ ألبِسُه ، إذا أعَمَّيته عليهم ، ولبِسْت الثوبَ
ألبَسُه ومعنى الآية : (لَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ) ، والحق ههنا أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - وما أتى به من كتاب الله عزَّ وجلَّ ، وقوله بالباطل ، أي بما يحرفون.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وأنتم تَعْلمُونَ) أي تأتون لبسكم الحق وكتمانه على علم منكم وبصيرةٍ.
وإعراب (وَلَا تَلبِسُوا) الجزم بالنهي ، وكلامة الجزم سقوط النون ، أصله
تَلْبِسُون وتَكْتمُونَ ، يصلح أن يكون جزماً على معنى ولا تكتموا الحق ، ويصلح أن يكون نصباً وعلامة النصب أيضاً سقوط النون ، أما إذا نصبت فعلى معنى الجواب بالواو ، ومذهب الخليلِ وسيبويه والأخفش وجماعة من البصريين أن

(1/124)


جميع ما انتصب في هذا الباب فبإضمار أن كأنك قلت لا يكن منكم إلباس الحق وكِتْمَانه ، كأنَّه قال وإن تكتموه ، ودلَّ تلبسوا على لبس كما تقول : من كذب كانَ شَرًّا ، ودل ما في صدر كلامك على الكذب فحذفْتَه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44)
فالألف ألف استفهام ، ومعناه : التقرير والتوبيخ ههنا ، كأنه قيل لهم :
أنتم على هذه الطريقة . ومعنى هذا الكلام - واللَّه أعلم - أنهم كانوا يأمرون أتباعهم بالتمسك بكتابهم ويتركون هم التمسك به ، لأن جحْدهم النبي - صلى الله عليه وسلم - هو تركهم التمسك به - ويجوز واللَّه أعلم - أنهم كانوا يأمرون ببذْل الصدقةِ وكانوا يضنون بها ، لأنهمَ وُصِفُوا بأنهم قست قلوبهم . وأكلوا الربَا والسُّحْتَ ، وَكانوا
قد نهوا عن الربا . فمنع الصدقة داخل فِي هذا الباب.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45)
إن قال قائل لم قيل لهم : استعينوا بالصبر وما الفائدة فيها فإن هذا
الخطاب أصله خطاب أهل الكتاب ، وكانت لهم رئاسة عند أتباعهم فقيل لهم : استعينوا على ما يُذْهِبُ عنكم شهوَة الرياسة بالصلاة لأن الصلاة يتلى فيها ما يُرغب فيما عند اللَّه ، ويزهد في جميع أمر الدنيا ، ودليل ذلك قوله :
(إِنَّ الصَّلاةَ تنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالمنكَرِ).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِنهَا لَكَبِيرة إِلا عَلى الْخَاشِعِين).
المعنى : إِن الصلاة التي معها الإِيمان بالنبي - صلى الله عليه وسلم - كبيرة تكبر على الكفار وتعْظُمُ عليهم مع الإيمان بالنبي - صلى الله عليه وسلم - . والخاشع المتواضع المطيع المجيب لأن

(1/125)


المتواضع لا يبالي برياسة كانت له مع كفرٍ إِذا انتقل إِلى الِإيمان.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46)
الظن ههنا في معنى اليقين ، والمعنى : الذين يوقنون بذلك ولو كانوا شاكين
كانوا ضُلالاً كافرين ، والظن : بمعنى اليقين موجود في اللغة ، قال دريد بن
الصمة :
فقُلْت لهم ظُنوا بألْفيْ مُقاتِل . . . سَراتهُمُ في الفارِسيّ المُسَرَّدِ
ومعناه أيقنوا . وقد قال : بعض أهل العلم من المتقدمين :
إِن الظن يقع في معنى العلم الذي لم تشاهده ، وإِن كان قام في نفسك
حقيقتُه وهذا مذهب ، إِلا أن أهل اللغة لم يذكروا هذا.
قال أبو إِسحاق : وهذا سمعته من إِسماعيل بن إِسحاق القاضي رحمه
اللَّه رواه عن زيد بن أسلم . .

(1/126)


وقوله (أَنَّهُمْ) ههنا لا يصلح في موضعها إِنهم - بالكسر - لأن الظن
واقع فلا بد مِن أن تكونَ تِليه . أنَّ إلا أن يكون في الخبر لام.
ويصلح في (أَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) الفتح والكسر ، إِلا أن الفتح هو الوجه
الذي عليه القراءَة ، فإذا قلْت : وإنهُّم إِليه راجعون - في الكلام - حملت
الكلام عَلَى المعنى كأنه " وهم إليه راجعون " ودخلت أنْ مَؤكْدة ، ولولا ذلك لما جاز أبطالك الظن مع اللام إذا قلت ظننت إنك لعالم.
ومعنى (مُلَاقُو رَبِّهِمْ) ملاقون ربهمْ لأن اسم الفاعل ههنا نكرة ولكن النون
تحذف استخفافاً ، ولا يجوز في القرآن إثباتها لأنه خلاف المصحف ، ولا يجوز أن يقع شيء في المصحف مجمع عليه فيخالف ، لأن اتباع المصحف أصل تباع السُنة.
* * *
وقوله : (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47)
أذكرهم الله عزَّ وجلَّ نعمته عليهم في أسلافهم ، والدليل على ذلك قوله
عزَّ وجلَّ : (وَإذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعوْن) والمخاطبون بالقرآن لم يروا فرعون ولا آله . ولكنه عزَّ وجلَّ ذكَرهم أنه لم يزل منعماً عليهم لأن إنعامه على أسلافهم إِنعام عليهم ، والدليل على ذلك : أن العرب وسائر الناس يقولون : أكرمْتُك

(1/127)


بإكرامي أخاك ، . وإنما الأثرة وصلت إلى أخيه ، والعربُ خاصة تجعل ما كان
لآبائها فخراً لها ، وما كان فيه ذم يعدونه عاراً عليها ، وإن كان فيما قَدُم من آبائها وأسلافها.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (48)
يعني به يوم القيامة ، وكانت إليهود تزعم أن آباءَها الأنبياء تشفع لها عند
الله فأيئَسُهم اللَّه من ذلك.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلا يؤخَذُ منْهَا عَدْلٌ).
العدل ههنا الفِدْية ، ومعنى : (لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا) أي لا
تجزي فيه ، وقيل : لا تجْزِيه ، وحَذْفُ (فيه) ههنا سائغ ، لأن (في) مع الظرف
محذوفة : تقول أتيتك اليوم ، وأتيتك في اليوم ، فإذا أضمرت قلت أتيتك فيه ، ويجوز أنْ تقول أتيْتُكه ، قال الشاعر :
ويوماً شهِدناه سليماً وعامراً . . . قلِيلاً سوى الطَّعنِ النِهال نوافلُه
أراد شهدنا فيه ، وقال بعض النحويين : إن المحذوف هنا الهاء لأن
الظروف عنده لا يجوز حذفها - وهذا قول الكسائي والبَصريون وجماعةٌ من
الكوفيين يقولون : إن المحذوف " فيه ".
وفصَّل النحويون في الظروف ، وفي الأسماءِ غير الظروف فقالوا : إن
الحذف مع الظروف جائز كما كان في ظاهره ، فكذلك الحذف في مضمره ، لو

(1/128)


قلت الذي سرت اليوم ، تريد الذي سرت فيه جائز ، لأنك تقول سرت اليوم وسرت فيه ، ولو قلت : الذي تكلمت فيه زيد : لم يجز الذي تكلمت زيد لأنك تقول تكلمت اليوم وتكلمت فيه ، ولا يجوز في قولك تَكلمْتُ في زيد تكلمْتُ زيداً.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (تُقْبَلُ مِنْهَا شفاعَةٌ).
مرفوع لأنه اسم ما لم يسم فاعله ، والاسم إذا لم يُسَم من فعَل به رُفع
لأن الفعل يصير حديثاً عنه كما كصير حديثاً عن الفاعل ، وتقول : لا يُقْبَلُ منها شفاعةٌ ، ولا تُقْبلُ ، لأن معنى تأنيث ما لا يُنْتجُ غيرحقيقة ، فلك في لفظه في الفعل التذكير والتأنيث ، تقول : قبِل منك الشفاعة ، وقدْ قُبلتْ منك الشفاعة ، وكذلك (فمن جاءَه موعظةٌ) لأن معنى موعظة ووعظ ، وشفاعة وشفع واحد.
فلذلك جاء التذكير والتأنيث على اللفظِ والمعنى وأمَّا ما يعقل ويكون منه
النسل والولادة نحو امراة ورجل ، ، وناقة وجمل فيَصِح في مؤَنثة لفظ التذكير ، ولو قلت قام جارتك ونحر ناقتك كان قبيحاً - وهو جائز على قبحه لأن الناقة والجارة تدلان على معنى التأنيث ، فاجتزئَ بلفظهما عن تأنِيثِ الفعل ، فأمَّا الأسماء التي تقع للمذكرِين وأصحاب المؤنث فلا بد فيها من عَلمِ التأنيث لأن الكلام للفائدة ، والقصد به الإبانة ، فلو سُمَّيت أمراة بقاسم لم يجز أن يقال جاءَني قاسم ، فلا يعلم أمذكراً عَنَيْت أم مؤَنثاً ، وليس إلى حذف هذه التاء - إذا كانت فارقة بين معنيين - سبيل ، كما إنَّه إذا جرى ذكر رجلين لم يجز أن تقول : قد قام ،

(1/129)


ولا يجوز إلا أن تقول قاما ، فعلامة التأنيث فيما فيه اللبس كعلامة التثنية ههنا.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49)
موضع إذ نصب ، كأنه قال : واذكروا إذ نجيناكم مِنْ آل فرعون ، وآلُ
فرعَون أتْبَاعُه ومن كان على دينه ، وكذلك آلُ الأنبياءِ صلوات اللَّه عليهم من كان على دينهم ، وكذلك قولنا : صلى اللَّه على محمد وآله : معنى آله من اتبعه من أهل بيته وغيرهم ، ومعنى خِطابِهمْ هَهنَا تذكيرهم بالنعمة عليهم في أسلَافِهِمْ كما وصفنا.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (يَسُومُونكُمْ سُوءَ العَذابِ).
معنى (يَسُومُونكُمْ) في اللغة . يولونكم ، ومعنى سوءَ العذابِ ، شديد العذاب ، وإن كان العذاب كله سوءًا ، فإنما نُكرَ في هذا الموضع لأنه أبلغ ما يعامل به مَرْعِيٌّ.
فلذلك قيل سوءَ العذاب ، أي ما يبلغ في الإساءَة ما لا غاية بعده.
وفسره بقوله : (يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ) والقراءَة المجمع عليها - يُذَبِّحُونَ - بالتشديد - ورواية شاذة يَذْبَحُون أبناءَكم ، والقراءَة المجمع عليها أبلغ ، لأن (يُذَبِّحُونَ) للتكثير ، ويَذْبَحُونَ يصلح أن يكون للقليل وللكثير فمعنى التكثير ههنا أبلغ ، و (أبناءَكم) جمع ابن ، والأصل كأنه إنما جمع بني وبنو ويقال : ابن بيَّن البنوة ، فهي تصلح أن تكون "فعَل" و " فِعْل" كأنه أصله بناية ، والذين قالوا بنون كأنَّهم جمعوا "بَنا" وبنون ، فأبناءُ جمع " فعَل وَفِعْل ".
و "بِنْتٌ" يدل على أنه يَستقيم أن يكون فِعْلًا ، ويجوز أن يكون " فَعَل " نقلت إلى " فِعْل " كما نقلت أخت من فَعَل إلى فُعْل ، فأمَّا بنات فهو ليس بجمع بنت على لفظها ، إنما ردت إلى أصلها فجمعت بنات على أن الأصل في بنت "فِعْله" كأنَّها مما حذفت لامه ،

(1/130)


وَالأخفش : يختار أن يكون المحذوف من ابن الواو قال : لأن أكثر ما تحذف الواو بثقلها . والياءُ تحذف أيضاً للثقل.
قال أبو إِسحاق : والدليل على ذلك أن يداً قد أجمعوا على أن
المحذوف منه الياءُ ولهم دليل قاطع على الإِجماع قال : يديت إِليه يداً ، ودم
محذوف منه الياءُ ، يقال دم ودميان.
قال الشاعر :
فلو أنَّا على حَجَر ذبِخنا . . . جَرى الدَّميَانِ بالخَبَر اليقينِ
والبنوًة ليست بشاهد قاطع في الواو ، لأنهم يقولون الفتوة والفتيان في
التثنية - قال عزَّ وجلَّ : (وَدَخَلَ مَعَهُ السِجْنَ فَتَيانِ).
فابْن يجوز أن يكون المحذوف منه الواو أو الياءُ . وهما عندي متساويان.
وقوله عزَّ وجل : (وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ).

(1/131)


يعني : في النجاة من آل فرعون . والبلاءُ ههنا النعمة ، يروي عن
الأحنف أنه قال : البلاءُ ثم الثناءُ ، أي الأنعام ثُمَّ الشكرُ.
قال زهير :
جزى اللَّهَ بالِإحْسَان مَا فعَلا بِنَا . . . وأبلاهما خير البلاءِ الذي يبلو
وقال الله عزَّ وجلَّ : (وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50)
موضع (إِذْ) نصب كالتي قبلها ، ومعنى (فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ) : جاءَ تفسيره في
آية أخرى ، وهو قوله عزَّ وجلَّ : (فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63).
أي فانْفرق البحر فصار كالجبال العظام ، وصَاروا في قَرَارِه - وكذلك قوله عزَّ وجلَّ : (فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77).
معناه طريقاً ذا يبس.
وقوله : (وَأغْرَقْنَا آلَ فِرْعَونَ وأنْتُمْ تَنْظُرُونَ)
فيه قولان (قالوا) وأنتم

(1/132)


ترونهم يغرقون ويجوز أن يكون : (وأنتم تنظرون) أي وأنتم مشاهدون
تَعلمون ذلك ، وإن شغلهم عن أن يروه في ذلك الوقت شاغل يقال مِنْ
ذلك : دُور آل فلان تنظر إلى دور بني فلان ، أي هي بإزائها والدُّور يعلم أنها لا تبصر شيئاً.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51)
ويقرأ : (وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى) وكلاهما جائز (حسن) واختار جماعة من
أهل اللغة ، وإذ وعدنا بغير ألف :
وقالوا : إنما اخترنا هذا لأن المواعدة إنما تكون لغير الآدميين ، فاختاروا
(وعدنا) وقالوا دليلنا قوله عزَّ وجلَّ (إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ) وما أشبه
هذا وهذا الذي ذكروه ليس مثل هذا وواعدنا هنا جيد بالغ ، لأن الطاعة في
القبول بمنزلة المواعدة ، فهو من اللَّه عزَّ وجلَّ وعدٌ ومن موسى قبول واتًبَاعٌ
فجرى مجرى المواعدة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ).
ذكرهم بكفر آبائهم مع هذه الآيات العظام ، وأعْلمهم أن كفرهم
بالنبي ي مع وضوح أمره وما وقفوا عليه من خبره في كتبهم ككفر آبائهمْ.
وكان في ذكر هذه الأقاصيص دلالة على تثبيت نُبوة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن هذه الأقاصيص ليست من علوم العرب ، وإنما هى من علوم أهل الكتاب ، فأنبأهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بما في كتبهم ، وقد علموا أنه منْ العرب الذين لم يقرأوا كتبهم ،

(1/133)


فعلموا إنَّه لمْ يُعَلمْ هذِه الأقاصيص إلا من جهة الوحي ، ففي هذه الآيات.
إذكارهُم بالنعمة عليهم في أسلافهم ، وتثبيت أمر الرسالة كما وصفنا.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53)
آتينا بمعنى أعطينا ، و (الكتاب) مفعول به ، (والفرقان) عطف عليه.
وَيَجُوزُ أن يكون الفرقان الكتاب بعينه إلا إنَّه أعيد ذكره ، وعَنى به أنه يفرق بين الحق والباطل.
وقد قال بعض النحويين وهو قطرب : المعنى : وآتينا محمداً الفرقان ، ودليله قوله عزَّ وجلَّ (تَبَارَكَ الًذِي نَزَلَ الفُرُقَانَ عَلَى عَبْدِهِ) يعني به القرآن.
والقول الأول هو القول لأن الفرقان قد ذكر لموسى في غير هذا
الموضع - قال الله عزَّ وجلَّ : (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (لَعَلَّكم تَهْتَدُونَ).
" لعل " إنما ذكرت هنا - واللَّه يعلم أيهتدون أم لا يهتدون - على ما يفعل
العباد ويتخاطبون به ، أي إن هذا يرجى به الهداية ، فخوطبوا على رجائهم.
ومثله قوله : (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) : إنما المعنى اذهبا على
رجائكما ، واللَّه عزَّ وجلَّ عالم بما يكون وهو من ورائه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إنَهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54)
والقراءَة (يَا قَوْمِ) بكسر الميم ، وهو نداء مضاف ، والاختيار فيه حذف
الياءِ ، لأن الياء حرف واحد ، والنداءُ باب حذف ، وهي شي آخر الاسم ، كما

(1/134)


أنَّ التنوين في آخره ، فحذفت الياءُ ، وبقيت الكسرة تدل عليها ، ويجوز في
الكلام أربعة أوجه . فأمَّا في القرآن فالكسر وحذف الياءِ لأنه أجوَد الأوْجُهِ.
وهو إجماع القراءِ ، فالذي يجوز في الكلام أن تقول " يَا قَوْمِ إنكم "
كما قرئ في القرآن ، ويجوز يا قومِي بإثبات الياءِ و سكونها ، ويجوز يا قوْمِيَ بتحريك الياءِ ، فهذه ثلاثة أوجه في الإضافة ، ويجوز ُ يا قومُ بضئم الميم على معنى يا أيها القوم.
ومعنى قوله (ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ).
يقال لكل من فعل فعلاً يعود عليه بمكروه إِنما أسأت إلى نفسك
وظلمت نفسك ، وأصل الظلم في اللغة وضع الشيءِ في غير موضعه ، والعرب تقول : ومن أشبه أباه فما ظلم ، معناه لم يقعْ لَهُ الشبه غيرَ مَوقعهِ ، ويقال ظلم الرجل سقاءَه من اللبن إذا شرب " منه " وسقي منه قبل إدراكه ، وأرض مظْلُومة إِذا حُفِرَ فيها ولم يكن حفر فيها قبل ، أو جاءَ المطر بقربها وتخطاها.
قال النابغة :
إِلاَّ أَوارِيَّ لأَيَاً ما أُبَيِّنُهَا . . . والنُّؤْيُ كالحوضِ بالمظلومةِ الجَلَدِ
؛ ومعنى قوله (باتخاذُكمُ العِجْلَ) أي اتخذتموه إلهاً.
ومعنى قوله (فتُوبوا إِلى بَارِئكُمْ) أي إلى خالقكم ، يقال برأ اللَّه الخلق ، فالبارئ الخالق ، والبريَّة والخلق المخلوقون ، إلا أن البريَّة وقعت في أكثر كلامهم غير مهموزة -

(1/135)


وأصلها (أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) وأكثر القراء ؛ والكلاَمِ " الْبَرِيَّة " بغير همز.
وقد قرأ قومٌ (البَرِيئَةُ) بالهمز ، والاختيار ما عليه الجمهور ، وروي عن أبي
عمرو بن العلاءِ أنه قرأ (إلى بارِئْكمَ) بإسكان الهمز ، وهذا رواه سيبويه
باختلاس الكسرة ، وأحسب أن الرواية الصحيحة ما روى سيبويه فإنه أضبط
لمَا رَوَى عن أبي عمرو ، والإعْراب أشبه بالرواية عن أبي عمرو لأن حذف
الكَسرة في مثل هَذا وحذف الضم إنما يأتي باضطرار مِنَ الشعر ، أنشد
سيبويه - وزعم إنَّه مما يجُوز في الشعر خاصة.
إذا اعْوجَجْنَ قلت صاحبْ قومِ
بإسكان الباءِ ، وأنشد أيضاً :
فاليوم أثمربْ غَيْرَمستحقب . . . إثماً من اللَّه ولا واغل
فالكلام الصحيح ان تقول " يا صاحبُ " أقبل ، أو يا صاحب أقبل
ولا وجْهَ للإسكان ، وكذلك " فاليوم أشَرب " ، يا هذا
وروى غير سيبويه هذه الأبيات على الاستقامة وما ينبغي أن يكون في الكلام والشعر ، رووا هذا البيت على ضربين :
رووا . فاليوم فَاشْرَبْ غير مستحقب .

(1/136)


ورووا أيضاً : فاليوم أُسْقَى غيرَ مسْتَحْقب.
ورووا أيضاً : إذا اعوججن قلت صَاح - قَوَم.
ولم يكن سيبويه ليروي (إن شاءَ اللَّه) إلا ما سمع إلا أن الذي سمعه
هُؤلاء هو الثابت في اللغة ، وقد ذكر سيبويه أن القياس غير الذي رَوَى.
ولا ينبغي أن يُقْرَأ إلا (إلى بارئِكُمْ) بالكسر ، وكذلك (عند بَارِئِكُمْ).
ومعنى (فاقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ) امتحنهم اللَّه عزَّ وجلَّ بأن جعل توبتهم أن يقتل
بعضُهم بعضاً ، فيقال إنهم صُفًوا صَفَيْنِ يقتل بَعضهم بعضاً ، فمن قُتِل كان
شهيداً ؛ ومن لم يقتل فتائب مغفور له ما تقدم من ذنبه ، ويقال إن السبعين
الذين اختارهم موسى - صلى الله عليه وسلم - لم يكونوا ممن عبد العجل ، وإنهم هم الذين كانوا يقتلون ، والأول أشبه بالآية لأن قوله عزَّ وجلَّ
(فاقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ) يدل على أنها توبَة عبدة العجل ، وإنما امتحنهم الله عزَّ وجلَّ بهذه المحنة العظيمة لكفرهم بعد الدلالات والآيات العظام.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55)
معنى (جهرة) غير مُسْتتِرٍ عَنَّا بشيءٍ ، يقال فلان يجاهر بالمعاصي أيْ لا
يسْتتِر من الناس منها بشيءٍ.
وقوله : (فأخذتكم الصاعقة) معنى الصاعقة ما يُصْعقون منه ، أيْ يموتون ، فأخذتهم الصاعقة فماتوا.
الدليل على أنهم ماتوا قوله عزَّ وجلَّ : (ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56).

(1/137)


وفي هذه الآية ذكر البعث بعد موت وقع في الدنيا.
مثل قوله تعالى : (فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ).
ومثل قوله عزَّ وجلَّ : (فَقَالَ لَهُم اللَّهُ مُوتوا ثم أحْيَأهُمْ)
وذلك احتجاج على مشركي العرب الذين لمْ يكُونوا مُوقنين بالبعث ، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالأخبار عمن بعث بعد
الموت في الدنيَا مما توافقه عليه إليهود والنصارى ، وأرباب الكتب فاحتج
- صلى الله عليه وسلم - بحجة اللَّه التي يوافقه عليها جميع من خالفه من أهلِ الكتب.
وقوله (لعَلَّكُمْ تشْكُرُون) أي في أن بَعَثَكُم بعد الموت ، وأعلمكم أن
قدرته عليكم هذه القدرة ، وأن الِإقالة بعد الموت لا شيءَ بَعدها ، وهي
كالمُضْطَرةِ إلى عبادة اللَّه.
وقوله : (وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)
سخر اللَّه لهم السحاب يظللهم حين خرجوا إلى الأرض المقدسة.
وأنزل عليهم المَنّ والسلوى . و جملة المَن ما يمن اللَّه به مما لا تعب فيه ولا
نَصَبَ وأهل التفسير يقولون إن المنَّ شيء يسقط على الشجر حلو يشرب.
ويقال إنَّه " التَرَنْجِين " ، ، ويروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : الكمأة من المَنِّ وماؤها شفاء للعين ، ومعنى المنّ على ما وَصفنا في اللغة ما يمن اللَّه به من غير تعب ولا نصب ، والسلوى طائر كالسمَاني ، وذكر إنَّه كان يأتيهم من هذين ما فيه كفايتُهم .

(1/138)


وقوله : (كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ)
قالوا إن معناه من هذه الطيبات ، وقالوا أيضاً مما هو حلال لكم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58)
الرغد : الواسع الذي لا يُعَنِّي.
وقوله : (وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا) أُمِرُوا بأن يدخلوا سَاجِدين.
(وَقُولُوا حِطَّةٌ) : ، هناه وقولوا مسألتنا حطة ، أي حط ذنوبنا عنا ، وكذلك
القراءَة ، ولو قرئ حطةً كان وجهها في العربية كأنهم قيل لهم ، قولوا
احْطُطْ عَنَّا ذنوبنا حطة . فحرَّفوا هذا القول وقالوا لفظة غير هذه اللفظة التي
أُمروا بها ، وجملة ما قالوا أنه أمْرٌ عظيم سماهم الله به فاسقين.
وقوله : (نغْفِرْ لَكُمْ) جزم جواب الأمر ، المعنى أن تقولوا ما أمرتم به
نغْفرْ لكم خطاياكم ، وقرأ بعضهم " نغْفرْ لكم خطِيئَاتِكمْ " والقراءة الأولى أكثر ، فمن قال خطيئاتكمْ ، فهو جمع خَطِيئة بالألف والتاءِ ، نحو سفينة وسفينات ، وصحيفة وصحيفات ، والقرَاءَة كما وصفنا (نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ) ، والأصل في خطايا - خطائِئ فتجمع همزتان تقلب الثانية ياء فتصير خطائي ، فأعِلِّ - مثل " حظاعي " ثم يجب أن تقلب الياءُ والكسرة إلى الفتحة والألف - فتصير خطاءَاً ، مثل حظاعاً ، فيجب بأن تبدل الهمزة ياءً ، لوقوعها بين ألفين ، لأن الهمزة مجانسة للألفات فاجتمعت ثلاثة أحرف من جنس واحد ، وهذا الذي ذكرناه مذهب سيبويه ولسيبويه مذهب آخر أصله للخليل ، وهو أنه زعم أن

(1/139)


خطايا أصلها فعائل ، فقلبت إلى فعَالى فكان الأصل عنده خطائى مثل
خطائع - فاعلم - ثم قدمت الهمزة فصارت خطائي مثل خطاعي ، ثم قلبت
بعد ذلك على المذهب الأول - وهذا المذهب ينقص في الإعلال مرتبه
واحدة ، واللفظ يَؤول في اللفظين خطايا.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59)
العذاب وكذلك الرّجْس - قال الشاعر.
كمْ رامنا من ذي عَديدٍ مُبْزى . . . حتى وقَمْنا كيده بالرجْز
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (بِمَا كَانُوا يَفسُقُون).
أي تبْديلهم ما أمروا به من أن يقولوا حطة . ويُقال فَسَقَ يفْسُق ويفْسِقُ.
ويفسُقُ على اللغتين وعليها القراء ، ومعنى الفَسْق الخروج عن القصد
والحق وكل ما خرج عن شيء فاقد فسق إلا أنَّهُ خص من خرج عن أمر اللَّه بأن قيل فاسق ، ولم يحتج إلى أن يقال فسق عن كذا ، كما أنه يقال لكل من
صَدق بشيء هو مؤمن بكذا ويقال للمصدق بأمر اللَّه مؤمن فيكفي ، والعَرب تقول فسَقت الرطبة إذا خرجت عن قشرتها.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60)
موضع (إذْ) نصْبٌ على ما تقدمه ، كأنَّه قيل واذكر إذ استسقى موسى
لقومه إلا أن (إذْ) لايظهر فيها الإعراب . لأنَّها لا تتم إلا بأن توصل ، وجَميع ما

(1/140)


لا يتم من هذة المهمة إلا بصلة لا يعرب لأنه بعض اسم ولا يعرب إلا الاسم
التام ، ولكن إذْ كُسِرت لالتقاء السَّاكنين ، - ومعنى استسقى ، استدعى أن يُسْقى قوْمُه ، وكذلك استنْصرت استدعيْتُ النصْرة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا) . .
أكثر القراءَ (اثنتا عشْرَة) بإسكان الشين ، ولغة أخرى (اثنتا عَشِرة) عينا -
بكسر الشين - وقد قرأ بعض القراءِ عَشِرَةَ - على هذه اللغة ، وكلاهما جيد
بالغ - و (عيناً) - نصب على التمييز ، وجمع ما نصب على - التمييز في العدد على معنى دخول التنوين ، وإن لم يذكر في عشرة ، لأن التنوين حذف هَهنا مع الإعراب ومعنى قول الناس عندي عشرون درهماً معناه عندي عشرون من الدراهم ، فحُذف لفظ الجمع - و "مِنْ" هذه التي خَلَصَ بها جِنسٌ من جِنس وعبر الواحد عن معنى الجمع ، فهذا جملة ما انتصب من العدد على التمييز.
وفي التفسير أنهم فجَّرَ اللَّه لهم من حَجَرٍ اثنتيْ عَشْرَةَ عيناً لاثْنَي عَشَرَ
فريقاً ، لكل فريق عين يشربون منها ، تتفجر إذا نزلوا فإذا ارتحلوا غارت العين وحَمَلوا الحجر غير متفجر منه ماءً.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ).
كان يتفجر لهم الماءُ من اثْنَيْ عشر موضعاً لا يختلف في كل منزل
فيعلم كل أناس مشربهم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَا تعْثَوْا في الأرض مُفسِدِينَ).

(1/141)


يقال عثا يَعثا عَثْواً وعُثُوًّا.
والعَثْوُ أشد الفساد.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)
(فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ)
يخرج مجزوم وفيه غير قول :
قال بعض النحويين المعنى سَلْه وقل له أخرج لنا يخرج لنا هو
وقال في قوله تعالى : (وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا التي هِيَ أحسَنُ)
قالوا : المعنى قل لهم قولوا التي هي أحسن أن يقولوا.
وقال قوم : معنى (يخرج لنا) معنى الدعاء كأنَّه قال : أخرج لنا.
وكذلك (قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة)
المعنى قل لعبادي أقيموا ، ولكنه صار قبله (ادع) و (قل)
فجعل بمنزلة جواب الأمر.
وكلا القولين مذهب ، ولكنه على الجواب أجود لأن ما في القرآن من
لفظ الأمر الذي ، ليس معه جَازم - مَرفوع
قال اللَّه - عزَّ وجلَّ - (تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل اللَّه).
ثم جَاءَ بعد تمام الآية (يَغفِرْلكُم)
المعنى آمنوا باللَّه ورسوله وجاهدوا يَغفِرْ لكُم .

(1/142)


وقوله عزَّ وجلَّ : (مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا).
في القِثاء لغتان ، يقال القُثاءُ والقِثاءُ (يا هذا) و (قد) قرأ بعضهم
قُثائِها بالضم ، والأجود الأكثر وقثائها بالكسر ، وفومها : الفوم الحنطة ، ويقال الحُبوب وقال بعض النحويين إِنه يجوز عنده الفُومُ ههنا الثوم ، وهذا ما لا يعرف أن الفوم الثوم ، وههنا ما يقطع هذا . محال أن يطلب القوم طعاماً لا
بُرَّ فيه ، والبرُّ أصل الغذاءِ كله ، ويقال فوِّمُوا لنا ، أي اخْبِزُوا لنا.
ولا خلاف عند أهل اللغة أن الفُوم الحنطة ، وسائر الحبوب التي تخبز يلحقها اسم الفوم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ).
يعني أن المنَّ والسلوى أرفع من الذي طلبتم ، و (أدنى) القراءَة فيه بغير
الهمز وقد قرأ بعضهم " أدْنأ " بالذي هو خير ، وكلاهما له وجه في اللغة إلا
أن ترك الهمزة أولى بالاتباع . أما (أدْنى) غير مهموز ، فمعناه الذي هو أقرب

(1/143)


وأقل قيمة ، كما تقول ، هذا ثوب مقارب ، فأما الخَسيس فاللغة فيه أنه
مهموز ، يقال : دنُوءَ ، دَناءَةً ، وهو دَنِيء بالهمزة ، ويقال هذا أدْنا منه
بالهمزة
وقوله عزَّ وجلَّ : (اهْبطُوا مِصْرًا) الأكثر في القراءَة إثبات الألف.
وقد فرأ بعضهم " اهبطوا مصرَ فإن لكُمْ " بغير ألف ، فمن - قرَأ مصرًا بالألف فله وجهان : جَائِز أنْ يراد بها مصراً من الأمصار لأنهم كانوا في تيه ، وجائز أن يكون أراد مصر بعينها ، فجعل مصراً اسماً للبلد.
فصرف لأنه مذكر سمي مذكراً وجائز أن يكون مصر بغير ألف على أنه يريد مصرًا كما قال عزَّ وجلََّّ :
(ادخُلوا مِصْرَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِين) وإنما لم يصرف لأنه للمدينة فهو
مذكر سمي به مؤَنث.
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ).
(الذِّلَّةُ) : الصغار ، (الْمَسْكَنَةُ) : الخضوع ، واشتقاقه : من السكون.
إِنما يقال مِسْكين للذي أسكنه الفقر ، أي قللَ حركته.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ)

(1/144)


يقال بْؤت بكذا وكذا أي احتملته.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (ذلك بأنهُمْ كانُوا يكفُروَن بآيَاتِ اللَّه).
معنى ذلك واللَّهُ أعلم الغضب حل بهم بكفرهم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ).
القراءَة المجمع عليها في النبيين والأنبياءِ والبرِئة طرح لهمزة ، وجماعة
من أهل المدينة يهمزون جَمِيعَ ما في القرآن من هذا فيقرأون ، " النبيئين بغير
حق والأنبياء .).
واشتقاقه من نبَّأ وأنْبَأ أي أخبر.
والأجود ترك الهمْزة ، لأن الاستعمال يُوجبُ أن ما كان مهموزاً من فعيل
فجمعه فُعَلاء ، مثل ظريف وظرفاء ونبيء ونُبَآءَ . فإذا كان من ذوات الياءِ
فجمعه أفْعلاءِ ، نحو غني وأغنياء ، ونبي وأنْبياء.
وقدجاءَ أفْعِلاء في الصحيح ، وَهُو قليل ، قالوا خميس وأخْمِسَاء
وأخمس ، ونصِيب وأنْصِبَاءَ ، فيجوز أن يكون نبي مِن أنبأتُ مما ترك همزه
لكثرة الاستعمال ، ويجوز أن يكون من نبَأ ينْبُوءُ إذا ارْتفع ، فيكون فعيلاً من الرفعة.
ْوقوله فيّ وجل : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)

(1/145)


لا يجوز أن يكون لأحد منهم إيمان إلا مع إيمانه بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ودليل ذلك قوله عزَّ وجلَّ : (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ).
فتأْويله من آمن باللَّه واليوم الآخر وآمن بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فلهم - أَجرُهم.
وجاز أَن يقال فلهم لأن مَنْ لفْظُها لفظُ الوَاحِدِ وتقع على الواحد
والاثنين والجمْع والتأنيث والتذكير ، فيحمل الكلام على لفظها فيُؤخد ويذكر ، ويحمَل على معناها فيُثنَّى ويجْمَعُ ويؤنث.
قال الشاعر :
تَعَشَّ فإنْ عاهَدْتني لا تخونُني . . . نكنْ مثلَ مَنْ يا ذئبُ يصطحبان
وهادوا أصلِه في اللغة تابوا ، وكذلك قوله عزَّ وَجلَّ : (إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ)
أي : تبْنا إِليْك. وواحد النصارى قيل فيه قولان : قالوا يجوز أن يكون واحدُهمْ نصْران (كما ترى) فيكون نصران ونصارى على وزنِ ندْمَان وندامى -
قال الشاعر :

(1/146)


فَكِلْتاهما خَرَّتْ وأَسْجَدَ رأسُها . . . كما أَسْجَدَتْ نَصْرانَةٌ لم تَحَنَّفِ
فنصرانة تأنيث نصرانٍ ، ويجوز أن يكون النصارى وأحدهم نصْرى مثل
بعير مَهْرِي ، وإبل مَهارى . ومعنى الصابئين : الخارجين من دِين إلى دين.
يقال صبأ فلان إذا خرج من دينه - يصبأ - يا هذا - ويقال صبأت النجوم إذا ظهرت وصبأ نابه إذا خرج.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ).
القراءَة الجيدة الرفع ، وكذلك إدْا كررت (لا) في الكلام قلت لا رجلٌ
عندي ولا زيْد ، و (لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47).
وإِن قرئ فلا خوفَ عليهم فهو جيد بالغ الجودة وقد قرئ به.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63)
المعنى ، اذكروا إذ أخذنا ميثاقكم ، والطور ههنا الجبل ومعنى أخذنا
ميثاقكم : يجوز أن يكون ما أخذه اللَّه عزَّ وجلَّ - حين أخرج الناس كالذر.
ودليل هذا قوله : (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ)
ثم قال من بعد تمامْ الآية : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) فهذه الآية كالآية التي في البقرة.
وهو أحسن المذاهب فيها ، وقد قيل أن أخذ الميثاق هو ما أخذ.
الله من الميثاق على الرسل ومن اتبعهم.
ودليله قوله عزَّ وجلَّ : (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ)
فالأخذ على النبيين - صلى الله عليهم وسلم - الميثاق يدخل

(1/147)


وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63)
فيه من اتبعهم ، (وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ) أي جئناكم بآية عظيمة ، وهي أن الطور -.
وهو الجبلُ . رُفع فوقَهم حتى أظلهم وظنوا أنه واقع بهم ، فأخبر اللَّه بعظم الآية التي أروها بعد أخذ الميثاق.
وأخبر بالشيء الذي لو عذبهم بعده لكان عدلاً في ذلك ، ولكنه جعل لهم التوبة بعد ذلك وقال (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ)
ذلك أي من بعد الآيات العظام.
(فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ).
أي لولا أنْ منَّ اللَّه عليكم بالتوبة بعد أن كفرتم مع عظيم هذه الآيات
(لكنتم من الخاسرين).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ).
موضع - ما نصب ، و (ما آتيناكم) الكتاب الذي هو التوراة ومعنى خذوه
بقوة ، أي خذوه بجد واتركوا الريب والشك لما بأن لكم من عظيم الآيات.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ)
معناه ادْرُسُوا ما فيه وجاز في اللغة أن
تقول خذ وخذا ، وأصله أوْخُذْ وكذلك " كل " أصله أوكل ، ولكن خُذْ وكُلْ اجتمع فيهما كثرة الاستعمال والتقاء همزتين وضمة ، فحذفت فاءُ الفعل وهي الهمزة التي كانت في أخذ وآكل فحذفت لما وصفنا من كثرة الاستعمال واجتماع ما يستقلون.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65)
معنى (علمتم) هناعرفتم ، ومثله قوله عز وجل (لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ) ومعناه لا تعرفونهم اللَّه يعرفهم.
ومعنى (اعتدوا) ظلموا وجاوزوا ما حُدَّ لهُم ، كانوا أمرُوا ألا يصيدوا في السبت " ، وكانت الحيتانُ تجْتمع لأمنها في

(1/148)


السبت ، فحبسوها في السبت وأخَذوها في الأحد ، فعدوا في السبت لأن
صيدهم منعها من التصرف ، فجعل الله جزاءَهم في الدنيا - بعدما أراهم
من الآيات العظام بأن جعلهم قردة خاسئين ، معنى خاسئين مُبْعدِين يقال -
خَسَأتُ الكلب أخسؤه خَسْئاً أي بَاعدته وطردْته.
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66)
(ها) هذه تعود على الأمة التي مسخت ويجوز أن يكون للفَعْلَةِ
ومعنى (لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا) يحتمل شيئين من التفسير : يحتمل أن يكون (لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا) لما أسلفت من ذنوبها ، ويحتمل أن يكون (لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا) للأمم التي تراها (وماخلفها) مَا يكون بعدها ، ومعنى قولك نَكَّلْت به ، أي جعلت غيره يَنْكُل أن يفْعل مثل فعله ، فيناله مثل الذي ناله.
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمَوْعِظَةً للمُتقِينَ) أي يتعظ بها أهل التقوى
فيلزمون ما هم عليه.
* * *
وقوله عزَّ وَجَل : (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67)
المعنى واذكروا إِذ قال موسى لقومه ، أمروا بذبح بقرة يضرب ببعضها قتيل تشاجروا فِيمَنْ قَتَله ، فلم يعلم قاتله ، فأمر اللَّه عزَّ وجلَّ بِضَرْب المقتول . بعضو من أعضاءِ البقرة.
وزعموا في التفسير أنهم أمروا أن يضربوه بالفخذ اليمنى ، أو الذنب ، وأحب
الله تعالَى أن يُرِيَهمْ كيف إحياء الموتى ، وفي هذه الآية ، احتجاج على
مشركي العرب لأنهم لم يكونوا مؤمنين بالبعث ، فأعلمهم النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الخبر الذي لا يجوز أن يَعْلمه إلامَنْ قَرأ الكُتُبَ أو أوحى إليه ، وقد علم المشركون

(1/149)


أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمِّيّ وأن أهل الكتاب يعلمون - وهم يخالفونه - أن ما أخبر به من هذه الأقاصيص حق.
(قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا) ، فانتفى موسى من الهِزؤِ ، لأن الهازىء جاهل
لاعب فقال : (أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ) فلما وضَح لهم أنه من عند
الله (قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ)
وإِنَّما سألوا ما هي لأنهم لا يعلمون أن بقرةً يحيا بضرب بعضها ميت.
(قَالَ إنَهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ).
ارتفع (فَارِضٌ) بإضمار هي ومعنى (لا فَارِضٌ) : لا كبيرة ، (ولا بكرٌ) لا
صَغِيرة).
أي ليست بكبيرة ولا صغيرة.
(عَوَانٌ) العَوَانُ دون المُسِنَة وفوق الصغيرة.
ويقال من الفارض فرضت تَفْرِض فُروضاً ومن العوان قد عوَّنَتْ
تُعَوِّن ، ويقال حرب عوَان ، إذا لم تكن أول حرب ، وكانت ثانية.
قال زهير :
إذا لَقِحَتْ حربٌ عَوانٌ مُضِرَّةٌ . . . ضَروسٌ تُهِرُّ الناسَ أنيابُها عُصْلُ
ومعنى (بَيْنَ ذَلِكَ) بين البِكْر والفَارِض ، وبين الصغيرة والكبيرة وإِنما
جَازَ بين ذلك ، و " بين " لا يكون إِلا مع اثنين أو أكثر لأن ذلك ينوب عن
الخمَل ، فتقول ظننت زيداً قائماً ، فيقول القائل " ظننت ذلك ".
وقوله عزَّ وجلَّ : (قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إنَهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69)

(1/150)


قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إنَهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69)
موضع (ما) رفع بالابتداء ، لأن تأويله الِإستفهام كَقَولك : أدع لنا ربك
يبين لنا أيَّ شيَءٍ لونها ومثله (فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا).
ولا يجوز في القراءَة (ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا) ، على أن يجعل (ما)لغواً ولا يقرأ القرآن إِلا كَمَا قراتِ القُرَّاء المجمَع عَلَيْهِمْ في الأخذ عنهم.
قَالَ إِنه يَقول إِنها : ما بعد القول من باب إن مكسور أبداً ، كأنك تذكر
القول في صدر كلامك ، وإِنما وقعت قلت في كلام العرب أن يحكى بها ما
كان كلاماً يقوم بنفسه قبل دخولها فيؤَدي مع ذكرها ذلك اللفظ ، تقول : قلت زيد منطلق . كأنك قلت : زيد منطلق ، وكذلك إن زيداً منطلق ، لا اختلاف بين النحوين في ذلك ، إِلا أن قوماً من العرب ، وهم بَنو سُلَيم يجعلون باب قلت أجمع كباب ظننت ، فيقولون : قلت زيداً منطلقاً ، فهذه لغة لا يجوز أن يُوجَد شيءٌ مِنْهَا في كتاب الله عزَّ وجلَّ ، ولا يجوز قال أنه يقول إِنها ، لا يجوز إِلا الكسر.
وأمَّا قوله عزَّ وجلَّ : (صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا)
(فَاقِعٌ) نعت للأصفر الشديد الصفرة ، يقال أصفر فاقع وأبيض ناصع وأحمر قانٍ ، قال الشاعر : ْ
يَسْقِي بها ذو تومتين كأنما . . . قنأتْ أنامِله من الفرصاد

(1/151)


أي احمرت حمرة شديدة ، ويقال أحمر قاتم وأبيض يقَقٌ ، وَلَهِقَ ولهاق.
وأسود حالك ؛ وحَلُوك وحلوكي ودَجُوجي ، فهذه كلها صفات مبالغة في
الألوان ، وقد قالوا إن صَفْراءَ ههنا سوداءَ.
ومعنى (تَسُر الناظِرينَ) أي تعجب الناظرين.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (قَالَ إنَهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71)
معناه ليست بذلول ولا مثيرة.
وقوله : (وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ) يقال : سقيته إِذا ناولته فشرب.
وأسقيته جعلت له سقياً ، فيَصِح ههنا ولا تُسْقِي بالضَم.
وقوله : (لَا شِيَةَ فِيهَا).
أي ليس فيها لون يفارق لونها ، والوَشى في اللغة خلطُ لون بلون
وكذلك في الكلام ، يقال وشيْت الثوب أشِيه شِيَة ووَشْياً ، كَقَوْلك وَديْت فلاناً أدِيه دِيَةً ، ونصب (لَا شِيَةَ) فيه على النَّفْي ، ولوْ قرئ لَا شيةٌ فيها لجاز ، ولكن القراءَة بالنصب.
وقوله : (الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ).
فيه أربعة أوْجهٍ حكى بعضَها الأخفش : فأجودها " قالوا الآن " بإسكان
اللام وحذف الواو مَن اللفظ ، وزعم الأخفش أنه يجوز قطع ألف الوصل ههنا فيقول :
قالوا : (ألْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ) وهذه رواية ، وليس له وجه في القياس ولا
هي عندي جائز ، ولكن فيها وجهان غير هذين الوجهين : وهما جيدان في
العربية ، يجوز " قالوا لأن على إلقاءِ الهمزة ، وفتح اللام من الآن ، وترك

(1/152)


الواو محذوفة لالتقاءِ الساكنين ، ولا يعتد بفتحة اللام.
ويجوز : " قَالوا لان جِيتَ بالحق " ولا أعلم أحداً قرأ بها ، فلا يَقْرَأن بحرف لم يقرأ به وإِن كان ثَابِتاً في العربية.
والذين أظهروا الواو أظهروها لحركة اللام لأنهم كانوا حذفوها لسُكونها.
فلما تحركت ردوها.
والأجود في العربية حَذْفُها لأن قرأ (ب تقول " الأحمر "
ويلقون الهمزة فيقولون " لَحْمر " فيفتحون اللام ويقرأون ألف الوصل لأن اللام في نية السكون ، وبعضهم يقولُ - " لَحْمَر " ولا يُقِرُّ ألفَ الوصل يريد الأحمر.
فأمَّا نصب (الآن) فهي حركة لالتقاءِ السَّاكنين ، ألا ترى أنك تقول :
أنا الأن أكرمك ، وفي الآن فعلت كذا وكذا ، وإنما كان في الأصل مبنياً
وحرك لالتقاءِ السَّاكنين ، وبنى (الآن) ، وفيه الألف واللام ، لأن الألف واللام دخلتا بعهد غير متقدم.
إِنما تقول الغَلامَ فعل كذا إذا عهدته أنت ومخاطبتك ، وهذه الألف واللام تنوبان عن معنى الِإشارة.
المعنى أنت إِلى هذا الوقت تفعل ، فلم يعرب الآن كما لا يعرب هذا.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72)
ْ* معناه فَتَدارَأتمْ فيها ، أي تدافعتم ، أي ألقى بعضكم على بَعْض ، -
يقال درأتُ فلاناً إِذا دافعتُه ، وداريْتُه إِذا لاينته ، ودَرَّيْته إِذا خَتَلته ، ولكن التاءَ أدغمت فى الدال لأنها . من مخرج واحد ، فَلما أدغمت سكنت فاجتلبت لها ألف الوصل ، فتقول : ادارا القومْ أي تَدَافَع القوْم .

(1/153)


وقوله عزَّ وجلَّ : (مُخْرُجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ).
الأجود في (مُخْرُجٌ) التنوين لأنه إنما هو لِمَا يستقبل أو للحَال ، ويجوز
حذف التنوين استخفافاً فيقرأ ، مخرجُ مَا كنتم تكتمون ، فإن كان قُرئ به
وإِلا فلا يخالَف القرآن كما شرحنا.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (إن البَقَر تشَابَه عَلَيْنَا)
القراءَة في هذا على أوجه ، فأجْودها والأكثر (تَشَابَهَ علينا) على فتح الهاءِ
والتخفيف ، ويجوز " تَشَّابَه " علينا ، ويَشَّابَه علينا - بالتاء والياءِ.
وقد قرئ " إن البَاقِر يَشَّابَهً عَلينا " والعرب تقول في جمع البقر والجمال . الباقر والجامل ، يجعلونه اسماً للجنس ، قال طرفة بن العبد :
وجامل خوَّع مِنْ نيْبِه . . .زجرُ المُعَلَّى أصُلا وَالسفيح
ويروي " مِنِي به " وهو أكثر الرواية ، وليس بشيء
وقال الشاعر :
ما لي رأيتك بعد عهدك موحشا . . . خَلَقاً كحوض الباقر المتهدم
وما كان مثل بقرة وبقر ، ونخلة ونخل ، وسحابة وسحاب ، فإن العرب

(1/154)


تذكره ، وتؤَنثه ، فتقول هذا بقر وهذه بقر ، وهذا نخل وهذه نخل.
فمن ذكَّر فلأن في لفظ الجمع أن يعبر عن جنسه فيقال : فتقول هذا جَمْع ، وفي لفظه أن يعبر عن الفرقة والقطعة ، فتقول هذه جماعة وهذه فرقة - قال اللَّه عزَّ وجلَّ :
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ) فذكًر ، وواحدته سحابة.
وقال : (والنَخْلَ بَاسِقَاتٍ) فجمع على معنى جماعة ، ولفظها واحد.
فمن قرأ (إن البقرَ تَشَابه علَيْنَا) فمعناه أن جمَاعةَ البقر تَتَشَابَه عَلَيْنَا.
فأُدْغِمتِ التاءُ في الشين لقرب مخرج التاءِ من الشين ، ومن قرأ تَشَّابَهُ علينا ، أراد تتشابه فحذف التاءَ الثانية لاجتماع تاءَين كما قرئ (لعلكم تَذَكرون) ومن قرأ (يَشَّابَه علينا) - بالياءِ - أراد جنس البقر أيضاً ، والأصل يتَشَابه علينا ، فأدغم التاءُ في الشين.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)
تأويل (قست) في اللغة غلظت ويبست وصلبت فتأويل القسو في القلب
ذهاب اللين والرحمة والخضوع والخشوع منه.
ومعنى (من بعد ذلك) أي من بعد إِحياءِ الميت لكم بعضوٍ من أعضاءِ البقرة ، وهذه آية عظيمة كان يجب على من يشاهدها - فشاهد بمشاهدتها من قدرة عزَّ وجلَّ ما يزيل كل شك - أن يلين قلبه ويخضع ، ويحتمل أن يكون
(من بعد ذلك) من بعد إِحياءِ الميت
والآيات التي تقدمت ذلك نحو مسخ القردة والخنازير ونحو رفع الجبل فوقهم ، ونحو انْبِجاس الماءَ من حجر يَحْملونه معهم ، وإِنما جاز ذلك وهُؤلاءِ

(1/155)


الجماعة مخاطبون ، ولم يقل ذلكم - ولو قال ذلكم كان جيداً -
وإنما جاز أن تقول للجماعة بعد ذلك وبعد ذلكم ؛ لأن الجماعة تؤَدي عن لفظها : الجميع والفريق ، فالخطاب في لفظ واحد ، ومعنى جماعة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً).
وقد روي (أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) ومعنى تشبيه القسوة بالحجارة قد - بيناه ، ودخول " أو " ههنا لغير معنى الشك ولكنها (أو) التي تأتي للإباحة تقول : الذين ينبغي أن يؤخذ عنهم العلم الحسن أو ابن سيرين ، فلست بشاك ، وإِنما
المعنى ههنا : هذان أهل أن يؤخذ عنهما العلم ، فإن أخذته عن الحسن فأنت
مصيب ، وإن أخذته عن ابن سيرين فأنت مصيب ، وإِن أخذته عنهما جميعاً
فأنت مصيب ، فالتأويل اعلموا أن قلوب هُؤلاء إِن شبهتم قسوتها بالحجارة
فأنتم مصيبون أو بما هو أشد فأنتم مصيبون ولا يصلح أن تكون (أو) ههنا بمعنى الواو.
وكذلك قوله : (مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً . . . أوكَصَيِّبٍ) ، أي إِن
مثلْتَهمْ بالمستوقد فذلك مثلهم ، وإِن مثلتهم بالصَيِّبِ فهو لهم مثلٌ وقد
شرحناه في مكانه شرحاً شافياً كافياً إِن شَاءَ اللَّه.
فمن قرأ (أشد قسوة) رفع أشد بإضمار هي كأنَّه قال : أو هي أشد
قسوة ، ومن نصب (أوأشد قسوة) فهو على خفض في الأصل بمعنى الكاف.
ولكن أشد أفعل - لا ينصرف لأنه على لفظ الفعل ، وهو نعت ففتح وهو في

(1/156)


موضع جر - ويجوز في قوله تعالى (فهي كالحجارة) (فَهْي) كالحجارة -
بإسكان الهاءِ - لأن الفاءَ مع هي قد جَعَلَتْ الكلمة بمنزلة . فخذ ، فتحذف
الكسرة استثقالاً ، وقد روى بعض النحويين أنه يجوز في " هي " الإِسكان في
الياءِ من (هي) ولا أعلم أحداً قرأ بها ، وهي عندي لا يَجوزُ إسكانها ولا
إسكانُ الواو في هو ، لا يجوز " هو ربَكُمْ " وقد روى الإِسكان بعضُ النحوِيين وهو رديءٌ لأن كل مضمز فحركته - إذا انفرد - الفتح ، نحو أنا رَبكم ، فكما لا تسْكن نون أنا لا تسْكن هذه الواو.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ).
بين عزَّ وجلَّ كيف كانت قلوبهم أنها أشد قسوة وأصلب من الحجارة
وأعلم أن الحجارة تتفجر منها الأنهار ، ومنها ما يشَّقَّقُ فيخرج منه الماءَ يعني
العيون التي تخرج من الحجارة ولا تكون أنهاراً ، ومنها ما يهبط من خشية
الله فقالوا إن الذي يهبط من خشية الله نحو الجبل الذي تجلى اللَّه له
حين كلم موسى عليه السلام ، وقال قوم إِنها أثر الصنعة التي تدل على أنَّها
مخلوقة ، وهذا خطأ ، لأن ليس منها شيء ليس أثر الصنعة بينا في جميعها
وإنما . . الهابط منها مجعول فيه التميز كما قال عزَّ وجلَّ : (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ).
وكما قال : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ).
ثم قال : (وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ) فأعلم أن ذلك

(1/157)


تمييز أراد اللَّه منها ، ولو كان يراد بذلك الصنعة لم يقل وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب ، لأن أثر الصنعة شامل للمؤمن وغيره.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)
هده الألف ألف استِخبارٍ ، وتجري في كثير من المواضع مجرى الإنكار
والنهي إذا لم يكن معها نفي ، كأنَّه أيئسهم من الطمع في إِيمان هذه الفرقة من
اليهود ، فإذا كان في أول الكلام نفي ، فإنكار النفي تثبيت نحو قوله عزَّ وجلَّ : (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى).
فجواب (أفتطمعون) " لا " كما وصفنا.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ).
يروي في التفسير أنهم سمعوا كلام اللَّه لموسى عليه لسلام فحرفوه
فقيل في هؤلاءِ الذين شاهدهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم كفروا وحرفوا فلهم سابقة في كفرهم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76)
المعنى أتخبرونهم بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكره موجود في كتابكم وَصِفتهُ.
(لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ) أي لتكون لهم الحجة في إيمانهم بالنبي - صلى الله عليه وسلم - عليكم ، إذ كنتم مقَرِّينَ به تخبرون بصحة أمره من كتابكم فهذا بين حجته عليكم عند اللَّه .

(1/158)


(أفَلَا تَعْقِلُونَ) أي أفلا تعقلون حجة الله عليكم في هذا.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78)
معنى الأمَِّي في اللغة المَنسوب إلى ما عليه جِبِلَّةُ أمَّتِه ، أي لا يكتب
فهو في أنه لا يكتب - على ما ولد عليه ، وارتفع (أُمِّيُّونَ) بالابتداء
و (مِنهم) الخبر (1)
ومن قول الأخفش يرتفع (أُمِّيُّونَ) بفعلهم ، كان المعنى واستقر منهم
(أُمِّيُّونَ).
ومعنى (إِلَّا أَمَانِيَّ) قال الناس في معناه قولين : قالوا معناه لَا يعلمون
الكتاب إلا تلاوة ، كما قال عزَّ وجلَّ : (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ)
أي إذَا تلا ألقى الشيطان في تلاوته.
وقد قيل الأماني أكاذيب العرب ، تقول أنت إِنما تتمنى هذا القول أي
تَخْتَلِقُه.
ويجوز أن يكون آماني منسوباً إلى - القائل إِذا قال ما لا يعلمه فكأنه إنما يتمناه ، وهذا مستعمل في كلام الناس ، تقول للذي يقول ما لا حَقِيقةَ لَهُ وهو يُحِبَه : هذا مُنًى ، وهذه أمْنِيةٌ.
وفي لفظ أماني وجهان : العرب تقؤل هذه أمَانٍ وأمَانيَّ - يا هَذا - بالتشديد
والتخفيف ، فمن قال أمانيَّ بالتشديد فهو مثل أحْدُوثة وأحاديث ، وقرقورة
وَقراقير ، ومن قال أمان بالتخفيف فهو مما اجتمعت فيه الياءان أكثر لثقل الياءِ.
__________
(1) إعراب غير جيد لأن المعنى حينئذ الأميون منهم وهذا ليس بشيء إنما صحته أن يكون " منهم " هي المبتدأ "أميون " هي الخبر ومن اسم بمعنى بعض والمعنى بعضهم أميون ومثله (ومن الناس من يقول آمنا) (ومنهم الفاسقون).

(1/159)


والعرب تقول في أثفية أثافيَّ وأثافٍ ، والتخفيف اكز لكثرة استعمالهم أثاف.
والأثافي الأحجار التي تجعل تحت القدر.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)
الويل في اللغة كلمة يستعملها كل واقع في هلكة - وأصله في العذاب
والهلاك ، وارتفع ويل بالابتداءِ وخبره (لِلَّذين) ولو كان في غير القرآن لجاز فويلًا للذين على معنى جعل الله ويلاً للذين ، والرفع على معنى ثبوت الويل (لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا).
يقال إِن هذا في صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، كتبوا صفته على غيرما كانت عليه في التوزاة ، ويقال في التفسير إنهم كتبوا صفته أنه آدم طويل ، وكانت صفته فيها أنه آدم ربعة ، فبدَّلَوا فألزمهم الله الويل بما كتبت أيديهم ومن كسبهم على ذلك.
لأنهم أخذوا عليه الأموال وقبلوا الهدايا.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80)
(تمسنا) نصب بلَنْ ، وقد اختلف النحويون في علة النصب بـ لن.
فرُوي عن الخليل قولان أحدهما أنها نصبت كما نصبت " أن " وليس " ما بعدها بصلة لهَا ، لأن " لَنْ يَفْعَلَ " ، نفي " سيفعل " فقدم ما بعدها عليها ، نحو قولك زيداً لن أضرب

(1/160)


كما تقول زيداً لم أضرب ، وقد روى سيبويه عن بعض أصحاب الخليل
عن الخليل أنه قال : الأصل في " لن " لا أن ولكن الحذف وقع استخفافاً ، وزعم سيبويه أن هذا ليس بجيد ، لو كان كذلك لم يجز زيداً لن أضرب ، وعلى مذهب سيبويه جميع النحويين وقد حكى هشام عن الكسائي في " لن " مثل هذا القول الشاذ عن الخليل . ولم يأخذ به سيبويه ، ولا أصحابه.
ومعنى (أَيَّامًا مَعْدُودَةً) قالوا إِنَّما نعَذَّبُ لأننا عبدنا العجل أياماً قيل في
عددها قولان ، قيل سبعة أيام وقيل أربعون يوماً ، - وهذه الحكاية عن إليهود ، هم الذين قالوا : (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا) بقطع الألف هي تقرأ على
ضربين : أتخذتم - بتبيين الذال ، واتختُم بَإِدغام الذال في التاءِ ، والألف قطع
لأنها ألف استفهام وتقرير . .
وقوله عزَّ وجلَّ : (عِنْد اللَّهِ عَهْداً) المعنى عهد اللَّه إليكم في أنه لا يعذبكم
إِلا هذا المقدار . .
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فلنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ)).
أي إن حَان لكم عهد فلن يخلفه اللَّه ، أم تقولون على الله ما لا تعلمون

(1/161)


ثم قال عزَّ وجلََّّ : (بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81)
رداً لقولهم : (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ).
فألحق في هذه الآية ، والإجماع أن هذا لليهود خاصة لأنه عزَّ وجلَّ في
ذكرهم ، وقد قيل : (من كسب سيئة) ، الشرك باللَّه وأحاطت به خطيئته :
الكبائر ، والذي جرى في هذه الأقاصيص إِنما هو إِخبار عن إليهود.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)
القراءَة على ضربين ، تعبدون ويعبدون بالياءِ والتاءِ وقد روي وجه
ثالث لا يؤخذ به لأنه مخالف للمصحف -
قرأ ابن مسعود : لا تعبدوا.
ورفع (لا تعبدون)بالتاء على ضربين ، على أن (يكون (لا) جواب القسم لأن أخذ الميثاق بمنزلة القسم ، والدليل على ذلك قوله :
(وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ)
فجاءَ جواب القسم باللام فكذلك هو بالنَفْي بلا ، ويجوز أن
يكون رفعه على إسقاط " أن " على معنى " ألا تعبدوا " فلما سقطت أن رفعت ، وهذا مذهب الأخفش وغيرِه من النحويين ، فأما القراءَة بالتاء فعلى معنى الخطاب والحكاية كأنَّه قيل قلنا لهم لا تعبدون إِلا الله.
وأمَّا (لا يعبدون) بالياء
فإِنهم غيَبٌ ، وعلامة الغائب الياء .

(1/162)


ومعنى أخذ الميثاق والعهد قد بَيَّنَاهُ قبل هذا الموضع.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وبِالْوَالِدِيْنِ إِحْسَاناً).
نصب على معنى وأحسنوا بالوالدين إِحساناً ، بدل من اللفظ أحْسِنُوا
و (ذِي القُرْبَى) و (اليَتامَى) : جمع على فعالى كما جمع أسير على أُسارى ، يقال يَتِم يَيْتمَ يُتْماً ويَتْماً إِذا فقد أباه ، هذا للإِنسان فأمَّا غيره فيتمه من قبل أمه.
أخبرني بذلك محمد بن يزيد عن الرياشي عن الأصمعي : إن اليتيم في الناس من قبل الأب وفي غير الناس من قبل الأم ، والمساكين مأخوذ من السكون ، وأحدهم مسكين كأنَّه قد أسكنه الفقر.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) فيها ثلاثة أقوال
(حُسْنًا) بالتنوين وإِسكان السين ، وحَسَناً بالتنوين وفتح السين ، وروى الأخفش " حُسْنَى " غير منون.
فأما الوجهان الأولان ، فقرأهما الناس ، وهما جيدان بالغان في اللغة ، وأما

(1/163)


" حُسْنَى " فكان لا ينبغي أن يقرأ به لأنه باب الأفعل والفعلى ، نحو الأحسن
والحسنى ، والأفضل والفُضلى ، لا يستعمل إِلا بالألف واللام ، كما قال اللَّه
عزَّ وجلَّ : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى) وقال : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ)
وفي قوله حسناً بالتنوين قولان : المعنى قولوا للناس قولاً ذا حسن) ، وزعم الأخفش ، إنَّه يجوز أن يكون حُسْناً في معنى حَسَناً ، فأمَّا حُسَناً فصفة ، المعنى
قولاً حسناً ، وتفسير : (قولوا للناس حسناً) مخاطبة لعلماءِ إليهود " قيل لهم اصْدقوا في صفة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
(وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ).
اعلموا أنه قد أخذ عليهم الميثاق وعهد عليهم فيه بالصدق في صفة النبي - صلى الله عليه وسلم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ).
يعني أوائلهم الذين أخذ عليهم الميثاق ، وقوله (وَأنتم مُعْرضون) أي وأنتم
أيضاَ كأوائلكم في الإعراض عَمَّا عهد إِليكم فيه ، ونصب (إِلَّا قَلِيلًا) على
الاستثناءِ ، والمعنى استثني قليلًا منكم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84)
يقال سفكت الدم أسْفِكُه سَفْكاً إِذا صببته ، ورفع لا تسفكون على

(1/164)


القسم ، وعلى حذف أن كما وصفنا في قوله : (لا تَعْبُدون) ومثل حذف أن قول طرفة :
أَلا أَيُّهذا الزاجري أحضرُ الوغى . . . وأَنْ أشهدَ اللذاتِ هل أَنْتَ مُخْلِدي
وواحد الدماءِ دم - يَا هَذَا - مخفف ، وأصله دَمَى في قول أكثر
النحويين ، ودليل من قال إِن أصله دمي قول الشاعر :
فَلَوْ أنَّا على حَجَرٍ ذُبِحْنا . . . جَرَى الدَّميَانِ بالخبرِ اليقين
وقال قوم أصله دمي إِلا إنَّه لما حذف ورد إليه ما حذف منه حركت
ْالميم لتدل الحركة على أنه استعمل محذوفاً.
وقوله عزْ وجل : (وَلَا تُخْرِجُونَ أنْفُسكُمْ مِن دِيَارِكُمْ).
عطف على لا تسفكون دماءَكم.
وقوله : (ثم أقررتم) ، أي اعترفتم بأن هذا أخذ عليكم في العهد وأخذ على آبائكم ، وأنتم أيها الباقون المخاطبون تشهدون أن هذا حق.
* * *
ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)
(ثُم أنْتُم هَؤُلَاءِ) : الخطاب وقع لليهود من بني قريظة وبني النضير.
لأنهم نكثوا ، فقتل بعضهم بعضاً ، وأخرج بعضهم بعضاً من ديارهم وهذا
نقض عهدهم

(1/165)


وقوله عزَّ وجلَّ : (تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ).
قُرئت بالتخفيف والتشديد ، (تَظَاهَرُونَ) و (تَظَّاهَرُونَ) فمن قرأ بالتشديد
فالأصل فيه تتظاهرون فأدغم التاءُ في الظاءِ لقرب - المخرجين ، ومن قرأ
بالتخفيف فالأصل فيه أيضاً تتظاهرون فحذفت التاءُ الثانية لاجتماع تاءَين.
وتفسير (تظاهرون) تتعاونون ، يقال قد ظاهر فلان فلاناً إذا عاونه منه قوله.
(وكان الكافِرُ على ربه ظهيراً) ، أي معيناً.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (بالإِثْم والعُدْوَانِ).
العُدْوانُ الِإفراطُ في الظلم ؛ ويقَالُ عَدَا فلان في ظلمه عدْواً وعُدُوا
وعُدْواناً ، وعداءً - هذا كله معناه المجاوزة في الظلم.
وقوله عزَّ وجلَّ : (ولاَ تَعْدُوا في السَّبْتِ) إِنما هو من هذا ، أي لا تظلموا فيه
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ).
القراءَة في هذا على وجوه : أسْرَى تَفْدوهم . وأسْرى تُفَادوهم ، وأسَارى
تفادوهم ، ويجوز " أسَارى " ولا أعلم أحد قرأ بها ، وأصل الجمع فُعالى . أعلَم الله مناقَضتهم في كتابه وأنه قَد حرَّم عليهم قَتْلَهم وإِخْراجهم من ديارهم ، وأنهم يفادونَهم إِذا أسروا ويقتلونهم ويخرجونهم من ديارهم ، فوبَّخهم فَقال : (فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا).
يعني ما نال بني قريظة وبني النضير ، لأن بني النضير أُجْلُوا إِلى الشام

(1/166)


و (بني) قريظة ابيدوا - حكم فيهم بقتل المقاتلة وسبي الذرارى فقال الله
عزَّ وجلَّ : (ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا) ، ولغيرهم من سائر الكفار الخزيُ في
الدنيا القتل وأخذُ الجزية مع الذلة والصغار.
ثم أعلم اللَّه عزَّ وجلَّ أن ذَلك غيرُ مُكَفر عن ذنوبهم ، وأنهم صائرون بعد ذلك إلى عذاب عظيم فقال (ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا) (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ).
ومعنى (ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ).
(هَؤُلَاءِ) في معنى الذين ، وتَقْتُلُونَ صلة لهُؤلاء كقولك ثم أنتم الذين
تقتلون أنفسكم ، ومثلُه قوله : (وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وهُوَ مُحَرم عَلَيْكُم إخراجُهُمْ).
(هو) على ضربين : جائز أن يكون إضمار الإخراج الذي تقدم ذكره.
قال : (وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ) وهو محرم عليكم إِخراجهم.
ثم بين لتراخي الكلام أن ذلك الذي - حرم الِإخراج وجائز أن يكون للقصة ، والحديث والخبر ، كأنه قال : والخبر محرم عليكم إِخراجهم - كما قال
عزَّ وجلَّ : (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ).
أي الأمر الذي هو الحق توحيد اللَّه عزَّ وجلَّ

(1/167)


(خِزْيٌَ) يقَال في الشر والسوءِ خزي الرجل خِزْياً ، ويقال في الحياءِ
خزي يخزي خِزَايةً ، ومعنى يردون إلى أشد العذاب ، وعذاب عظيم ، وعذاب أليم أن ، العذاب على ضَربين ، على " قدر المعاصي.
والدليلُ على ذلك قوله عزّ وجلَّ : فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16).
فهذه النار الموصوفة ههنَا لا يدخُلها إلا الكفارِ.
وقوله : وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87)
(ولَقَدْ آتَيْنَا موسى الكِتَابَ) يعني التوراة.
وقوله : (وقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بالرُّسُل) : أي أرسلنا رسولاً يقْفو رسولاً في
دعائهِ إلى توحيد اللَّه والقيام بشرائع دينه ، يقال من ذلك فلان يَقْفوْ فلاناً إذا
أتبعه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ).
معنى (آتينا) أعطينا ، ومعنى (الْبَيِّنَاتِ) الآيات التي يعجز عنها المخلقونَ مما
أعطيه عيسَى - صلى الله عليه وسلم - من إحيائه الموتى وإبرائه الأكمهَ والأبرص.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ).
معني أيَّدنا ، في اللغة قوينا ، وشدَدْنا ، قال الشاعر :
من أن تبدَّلْتَ بآد آدا
يريد من أن تبدلت بأيْدٍ آدا ، يريد بقوة قوة - الأد والأيْد القوة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (بِرُوحِ الْقُدُسِ) : روح القدس جبريل عليه السلام.
والقدس الطهارة وقد بَيَّناه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ)

(1/168)


نَصْبُ كلما كَنَصْبِ سائر الظروف ، ومعنى استكبرتم أنِفْتم وتعظمْتم من
أن تكونوا أتباعاً ، لأنهم كانت لَهم رياسة ، وكانوا متبوعين فآثروا الدنيَا على
الآخرة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88)
تقرأ على وجهين غُلْف وغُلُف ، وأجود القراءَتين غلْف بإسكانِ اللام لأن
له شاهدا من القرآن ومعنى غلْفٌ ذَواتُ غُلف ، الواحد منها أغْلَف وغُلْف
مثل أحْمَر وحُمْر ، فكأنهم قالوا قلوبنا في أوعية ، والدليل على ذلك قوله :
(وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ)
ومن قرأ (غُلُف) فهو جمع غِلاف وغُلُف ، مِثْل مِثال ومُثُل ، وحِمار وحُمُر ، فيكون معنى هذا : إن قلوَبنا أوعية لِلعلم ، والأول أشبه ويجوز أن تُسَكن غُلُف فَيقال غُلْف كما يقال في جمع مثال مُثْل.
فأعلم اللَّه عزَّ وجلَّ أن الأمر على خلاف ما قالوا فقال : (بَلْ لعَنَهُمُ اللَّه بِكفرهَم).
معنى لعنهم في اللغة أبْعدهم ، فالتأويل - واللَّه أعلم - بل طبع اللَّهُ على
قلوبهم كما قال : (ختم اللَّه على قلوبهم) ثم أخبر عزَّ وجلَّ أن ذلك مجازاةٌ
منه لهم على كفرهم فقال (بل لعنهم اللَّه بكفرهم) ، واللعن كما وصفنا الإبعاد.
قال الشَّمَّاخ :
وماءٍ قد وردت لوَصْل أرْوى . . . عليه الطير كالورق اللَّجين

(1/169)


ذعَرتُ به القطا ونفيْتُ عَنه . . . مقام الذئب كالرجل اللَّعين
* * *
وقوله : (وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89)
تقرأ (جاءَهم) بفتح الجيم والتفخيم ، وهي لغة أهل الحجاز ، وهي اللغة
العليا القُدمى ، والإِمالةُ إلى الكسر لغة بني تميم وكثير من العرب ، ووجهها
أنها الأصل من ذوات الياءِ فأميلت لتدل عدى ذلك ، ومعنى كتابُ اللَّه ههنا
القرآن ، واشتقاقه من الكَتْبِ وهي جمع كَتْبة وهي الخرزة وكل ما ضممت
بعضه إلى بعض على جهة التقارب والاجتماع فقد كتبته ، والكَتِيبَة الفرقةُ التي تحارب من هذا اشتقاقها لأن بعضَها منضم إلى بعض ، وسمى كلام الله
عزَّ وجلَّ الذي أنزل على نبيه كِتَاباً ، وقُرآنأ وفُرقاناً فقد فسرنا معنَى كتابٍ.
ومعنى قرآن معنى الجمع ، يقال ما قرأت هذه الناقة سَلَّى قط أي لم يَضْطَمَّ
رحمُها على ولد قط - قال الشاعر :
هِجَانِ اللَّون لم تَقْرأ جَنِيناً
قال أكثر النَّاس : لم تَجْتمع جنيناً أي لم تضم رحمها على الجنين.
وقال قُطْرب في قرآن قولين ، أحدهما هذا ، وهو المعروف الذي عليه أكثر
الناس ، والقول الآخر ليس بخارج من الصَّحَّة وهو حسن - قال - لم تقرأ
جنيناً - لم تلقه (مجموعاً).
وقال يجوز أن يكون معنى قرأت لفظت به

(1/170)


مجموعاً . كما أن لفظت من اللفظ ، اشتقاقه من لَفَظْتُ كذا وكذا ، إذا ألقيته ، فكأن قرأت القرآن لفظت به مجموعاً.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (مصدقٌ لِمَا مَعَهُمْ).
أيْ يصدقُ بالتوراة والإنجيل ويخبرهم بما في كتبهم مما لا يعلم إلا
بوحي أو قراءَة كُتُبٍ ، وقد علموا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أمياً لا يكتب.
وقوله : (وكَانُوا منْ قَبْلُ يسْتَفْتِحُونَ على الَّذين كَفَرُوا).
ضم (قَبْل) لأنها غاية ، كان يدخلها بحق الإعراب الكسرُ والفتحُ ، فلما
عدلت عن بابها بنيت على الضم ، فبنيت على ما لم يكن يدخلها بحق
الِإعراب ، وإنما عدلت عن بابها لأن أصلها الِإضافة فجعلت مفردة تُنْبئُ عن
الِإضافة ، المعنى ، وكانوا من قبل هذا.
ومعنى : (يَسْتَفْتِحُونَ على الَّذِين كَفَرُوا).
- فيه قولان : قال بعضهم كانوا يخبرون بصحة أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وقيل وكانوا يستفتحون على الذين كفروا : يَسْتنْصرون بذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما جاءَهم ما عرفوا :
أي ما كانوا يستنصرون وبصحته يخبرون ، كفروا وهم يوقنون أنهم معْتَمِدُون
للشقاق عداوة للَّهِ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ).
قد فسرنا اللعنة ، وجوابُ (وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ) محذوف لأن معناه
معروف دلَّ عليه فلما جاءَهم ما عرفوا كفروا به .

(1/171)


وقوله عزَّ وجلَّ : (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90)
بئس إذا وقعت على " ما " جُعِلت معها بمنزلة اسم منكور ، وإنما ذلك في
نعم وبئس لأنهما لا يعملان في اسم علم ، إنما يعملان في اسم منكور دال على جنس ، أو اسم فيه ألف ولام يدل على جنس ، وإنما كانتا كذلك لأن نعم مستوفية لجميع المدح ، وبئس مُسْتوفية لجميع الذم ، فإذا قلت نعم الرجل زيد فقد استحق زيد المدح الذي يكون في سائر جنسه.
قال أبو إسحاق وفي نِعْم الرجلُ زيد أربع لغات نَعِم الرجل زيد ، ونعِمَ الرجل زيد ، وبعْم الرجل زيد ، ونَحْمَ الرجل زيد ، وكذلك إذا قلت بئس الرجل ، دلَلْتَ على أنه استوفى الذم الذي يكون في سائر جنسه ، فلم يجز إذ كان يستوفى مدح الأجناس أن يعمل في غير لفظ جنس ، فإذا كان معها اسمُ جنس بغير ألف ولام فهو نصْبٌ أبداً ، وإذا كانت فيه الألف واللام فهو رفْع أبداً ، وذلك كقولك نِعْم رجُلاً زَيْد ، ونعم الرجُل زيد ، فلما نصب رجل فعلى التمييز ، وفي نعم اسم مضمر على شريطة التفسير ، وزيد مبين مَنْ هذا الممدوح ، لأنك إذا قلت نعم الرجل لم يعلم من تعني ، فقولك زيد تريد به هذا الممدوح هو زيد.
وقال سيبويه والخليل جميعَ ما قلنا في نعم وبئس ، وقالا إِنْ شئتَ رفعت
زيداً لأنه ابتداءٌ مَؤخَّر . كأنك قلت حين قلت نعم رجلًا زيد ، نعم زيد نعم الرجل ، وكذلك كانت " ما " في نعم بغير صلة لأن الصلة توضح وتخصص ، والقصد فىِ نعم أن يليها اسم منكورٌ أو جنس ، فقوله (بئْسما اشْتَرَوْا به أنفسهم) بئس شيئاً اشتروا به أنفسهم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ).
موضعه رفع : المعنى ذلك الشيءُ المذموم أن يكفروا بما أنزل اللَّه .

(1/172)


وقوله عزَّ وجلَّ : (فَنِعِمَّا هيَ) ، كأنه قال فنعم شيْئاً هي ، وقال قوم إنَّ نعم مع ما بمنزلة حَبَّ مع ذا ، تقول حبَّذَا زيد ، وحبذا هي ونعِما هي والقول الأول هُو مذهب النحويين وروى جميع النحويين بئسما تزوييج ولا مَهْر والمعنى فيه بئس شيئاً تزويج ولا مهر.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ).
معناه أنهم كفروا بغياً وعداوة للنبي - صلى الله عليه وسلم - لأنهم لمْ يُشكَّوا في نبوته - صلى الله عليه وسلم - وإنما حَسَدوه على ما أعطاه الله من الفضل ، المعنى : كفروا بغياً لأنْ نزَّلَ اللَّهُ الفضل
عَلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ونصب بغيا أنهم مفعولاً له ، كما تقول فعلتُ ذلك حذَرَ السر أي لحذر الشر كأنك قلت حَذَرْت حذَراً ، ومثله من الشعر قول الشاعر وهو
حاتم الطائي :
وأعْفرُ عوراءَ الكريم ادِّخَارَه . . . وأعرض عن شتم اللئيم تكرماً
المعنى أغفر عوراءَ الكريم لادّخَارِه ، وأعرضُ عنْ شتم اللئيم للتكرم.
وكأنه قال : أذخر الكريم ادخاراً ، وأتكرم على الكريم تكرماً ، لأن قوله أغفر عوراءَ الكريم معناه أدخر الكريم ، وقوله وأعرض عن شتم اللئيم تكرماً معناه أتكرم على اللئيم ، وموضع أن الثانية نصب ، المعنى أن يكفروا بما أنزل اللَّه

(1/173)


لأن ينزل اللَّه ، أي كفروا لهذه العلَّةِ ، فشرحه كهذا الذي شرحناه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ) : معنى باءُوا في اللغة
احتملوا ، يقال قد بْؤت بهذا الذنْبِ أيَ تحملته - ومعنى بِغَضبٍ على غَضَبٍ - فيه قولان :
قال بعضهم : بغَضبٍ من أجل الكفر بالنبي - صلى الله عليه وسلم - على غَضبٍ على الكفر بعيسى - صلى الله عليه وسلم - يعني بهم إليهود.
وقيل (فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ) أي بإثْم استحقوا به النار على إِثم تَقَدم أي استحقوا به أيضاً النَّارَ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91)
أي بالقرآن الذي أنزل اللَّه على النبي - صلى الله عليه وسلم - قالوا أنؤمن بما أنْزِل علينَا ، وقد بين الله أنهم غيرمؤمنين بما أنزل عليهم ، وقد بيَّنَّا ذلك فيما مضى.
وقوله تعالى : (وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ).
معناه ويكفرون بما بعده ، أي بما بعد الذي أنزل عليهم ، (وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ) ، فهذا يدل على أنهم قد كفروا بما معهم إذْ كفروا بما يُصَدِّقُ ما
معهم ، نصب مصدقاً على الحال ، وهذه حال مؤَكدة ، زعم سيبويه والخليلُ
وجميع النحوين الموثوقُ بعلمهم أن قولك " هو زيد قائماً " خطأ ، لأن قولك هو زيد كناية عن اسم متقدم فليس في الحال فائدة ، لأن الحال توجب ههنا إنَّه إذا كان قائماً فهو زيد ، فإِذا ترك القيامُ فليس بزيد - وهذا خطأ.
فأما قولك هو زيد معروفاً ، وهو الحق مصدقاً ، ففي الحال فائدة ، كأنك قلت انْتَبِهْ لَهُ معروفاً ، وكأنه بمنزلة . قولك هو زيد حقاً ، فمعروفاً حال لأنه إِنما يكون زيداً لأنه يعرف بزيد ، وكذلك " الحق " القرآن هو الحق إِذ كان مصدقاً لكتب الرسل .

(1/174)


أكْذَبَهُمُ اللَّهُ فى قولهم : (نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا) فقال
(قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).
أيْ أيُّ كتاب جُوّز فيه قتل نبي ، وأي دين وإيمان جُوز فيه ذلك فإِن قال
قائل فَلِمَ قيل لهم فلم تقتلون أنبياءَ الله من قبل ، وهؤُلاءِ لَمْ يَقْتُلُوا نبياً قط ؟قيل له قال أهل اللغة في هذا قولين : أحدهما إن الخطاب لمن شُوهِدَ من أهل مكةَ ومنْ غاب خطَابٌ واحد ، فإذا قَتَل أسْلافُهم الأنبياءَ وهم مُقِيمُون على ذلك المذهب فقد شَرَكُوهم في قَتْلِهمْ ، وقيل أيضاً لِمَ رَضيتمُ بذلك الفعل ، وهذا القول الثاني يرجع إلى معنى الأول.
وإنما جاز أنْ يُذكر هنا لفظُ الاستقبال والمعنى
المضي لقوله (من قبل)
ودليل ذلك قوله (قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ) فقوله : (فلم تَقتلون) بمنزلة " فلم قتلتم).
وقيل في قوله : (إِنْ كُنتم مؤمنين) قولان : أحدهما ما كنتم مؤمنين وقيلَ
إِنَّ إِيمانكم ليس بإيمان.
والإيمان ههنا واقع على أصل العقد والدين ، فقيل
لهم ليس إيمان إيماناً إذَا كان يَدْعُو إلى قتل الأنبياءِ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)
قد بيَّنَّاه فيما مضى.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ).
معناه سُقُوا حبَّ العجل ، فحذف حب وأقيم العجل مقامه.
كما قال الشاعر :
وكيف تواصل من أصبحت . . . خلالته كأبي مرحب

(1/175)


أي كخلالته ابي مرحب ، وكما قال :
وشر المنايا ميّت بينَ أهْله . . . كهلك الفتى قَدْ أسْلَم الحيَّ حاضِرُه
المعنى وشر المنايا منيَّة ميت . . . .
وقوله عزَّ وجلَّ : (بِكُفْرِهمْ) أي فعل الله ذلك بهم مجازاة لهم على الكفر
كما قال : (بلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بكُفْرِهِمْ).
وقوله : (بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) قد فسرناه أي ما
كنتم مؤمنين ، فبئس الِإيمان يأمركم بالكفر.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94)
قيل لهم هذا لأنهم قالوا : (لَنْ يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى)
وقالوا : (نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) فقيل لهم إِن كنتم عند أنْفسِكم صادقين
فِيما تدّعون فَتَمنوُا الموْت ، فإنَ من كان لا يشك في أنه صائر إِلى الجنة ، فالجنة عنده آثرُ من الدنيا ، فإن كنتم صادقين فتَمنوُا الأثرة والفضل.
وللنبي - صلى الله عليه وسلم - وللمسلمين في هذه الآية أعظم حجة وأظهرُ آية وأدلة على الِإسلام ، وعلى صحة تثبيت رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه قال لهم : تَمنَّوُا الموت.
وأعلمهم أنهم لن يتمنوه أبداً فَلَمْ يتمنَّه منهم واحد لأنهم لو تمنوه لماتُوا من

(1/176)


ساعتهم ، فالدليل على علمهم بأن أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - حق أنهم كَفُوا عن التَمني ولم يُقْدِم واحد منهم عليه فيكون إقْدامُه دفعاَ لقوله : (ولَنْ يتَمنَوْه أبداً).
أو يعيش بعد التمني فيكون قد ردَّ ما جاءَ به النبي - صلى الله عليه وسلم - فالحمد للَّهِ الذي أوضَح الحق وبيَّنَه ، وقَمع الباطل وأزْهقه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95)
يعني - ما قدمت من كفرهِمْ بالنبي - صلى الله عليه وسلم - لأنِهم كفروا وهم يعلمون أنه حق وأنهم إنْ تَمَنَوْه ماتوا ، ودليل ذلك إمْسَاكُهُمْ عَن تَمنَيه
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (واللَّهُ عَلِيمٌ بالظَّالِمِينَ).
اللَّه عزَّ وجلَّ عليم بالظالمين وغير الظالمين ، وانًما الفائدة ههُنا إنَّه عليم
بمجازاتهم - ، وهذا جرى في كلام الناس المستعمل بينهم إذَا أقبل الرجل على رجل قد أتى إليه منكراً ، قال أنا أعرفك ، وأنا بصير بك ، تأويله أنا أعلم ما أعاملك به وأستعمله معك.
فالمعنى إنه عليم بهم - وبصير بما يعملون ، أي يجازيهم عليه بالقتل في الدنيا أو بالذلَّة والمسكنة وأداءِ الجِزية ، ونصب (لن) كما تنصب (أن) وقد شرحْنا نصبها فيما مضى وذكرنا ما قاله النحويون فيه.
ونصب (أبداً) لأنه ظرف من الزمان ، المعنى : لن يَتَمَنوهُ في طول عُمرهم إِلى
موتهم ، وكذلك قولك : لا أكلمك أبداً ، المعنى لا أكلمك ما عشت . ومعنى (بما قدمت أيديهم) أي بما تقدمه أيديهم . ويصلح أن يكون بالذي قدمته أيديهم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96)
يعني به علماءَ إليهود هؤلاءِ ، المعنى أنك تجدهم في حال دعائهمْ إلى تمنى

(1/177)


الموت أحرص الناس على حياة.
ومعنى (لَتَجِدَنَّهُمْ) لَتَعْلَمَنَّهَم.
وَمَعْنى (وَمِنَ الَّذِينَ أشْرَكُوا) أي وَلَتَجِدَنَهُمْ أحْرَصَ من الذين أشركوا ، وهذا نهاية في التمثيل.
والذين أشركوا هم المجوس ومن لا يُؤمن بالبعث.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ).
ذكرت الألْفُ لأنها - نهايةُ ما كانت المجوس - تدْعُو به لمُلوكها - كان الملك
يُحَيَّا بأن يقال عش ألفَ نَيْبُروزٍ وَألْفَ مِهْرَجَانٍ.
يقول فهؤُلاءِ الذين يزعمون أن لهم الجنة ، وأنَّ نعيم الجنة له الفضل
لاَ يتمنون - الموت وهم أحرص مِمَّن لا يُؤمن بالبعث ، وكذلك يجب أن يكون هُؤلاءِ لأنهم كُفَّار بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وهو عِنْدهُم حق ، فيعلمون أنهم صائرون إِلى النارِ لا محالة ، فهم أحْرصُ لهذه العلة ، ولأنهم يعلمون أنهم لو تمنوا الموت لماتوا ، لأنهم علموا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حق لولا ذلك لما أمسكوا عن التمني ، لأن التمني من واحد
منهم كان يثبت قولهم.
وإِنما بالغنا في شرح هذه الآيات لأنها نهاية في الاحتجاج في تثْبِيتِ أمْرِ
النبي - صلى الله عليه وسلم -.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ).
هذا كناية عن (أحدهم) الذي جرى ذكره ، كأنه قال : وما أحدهم
بمزحزحه من العذاب تعميره ، ويصلح أن تكون " هو " كناية عما جرى ذكره - من طول العمر ، فيكون : وما تعميره بمزحزحه من العذاب ، ثم جعل - أن يعمر مبنياً عن " هو " كأنَّه قال : ذلك الذي ليس بمزحزحه
(أن يعمر).

(1/178)


وقد قال قوم : إن (هو) لِمَجْهول وهذا عند قوم لا يصلح في " ما " إذا
جاءَ في خبرها الباءِ مع الجملة : لا يجيز البصريون : " ما هو قائما زيد.
يريدون ما الأمر قائماً زيد ، ولا كان هو قائماً زيد ، يريدون ما الأمر قائماً
زيد ؛ ولا كان هو قائماً زيد ، يريدون كان الأمر قائماً زيد وكذلك لا يجيزون ما هو بقائم زيد يريدون ما الأمْرُ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ).
شرحه تقدم في الآية التي قبل هذه
وتقول في يود : وددت الرجل أودة وُدًّا أبيْ وِداداً ومودة " وودادة
وحكى الكسائي ودَدْتُ الرجلَ والذي يعرفه جميع الناس ودِدْتُه ، ولم يحك إلا ما سَمِع إِلا أنه سمع ممن لا يجب أن يؤْخذ بلغته ، لأن الإجماع على تصحيح
أوَدُّ ، وأوَدُّ لَا يكون ماضيه ودَدَتً.
فالإجماع يُبْطِل وَدَدْتُ . أعني الإجماع في قولهم أودُ.
* * *
قوله عزَّ وجلَّ : (قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإنَهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97)
جبريل في اسمه لغات قرئ ببعضها ومنها ما لم يُقْرأ به ، فأجود
اللغات جَبْرَئِيل - بفتح الجيم ، والهمز ، لأن الذي يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في صاحب الصور " جَبْرَئِيل عن يمينه وميكائيل عن يساره ، هذا الذي ضبطه أصحاب الحديث ، ويقال جَبْرِيل بفتح الجيم وكسرها ويقال أيضاً جبرأَلُّ - بحذف الياءِ وإثبات الهمزة (وتشديد اللام) ، ويقال جبرين - بالنون وهذا

(1/179)


لا يجوز في القرآن - أعني إثبات النون لأنه خلاف المصحف -
قال الشاعر :
شهِدْنَا فما تَلْقى لنا من كتيبةٍ . . . َ الدهرِ إلا جَبْرَئِيلُ أَمامَها
وهذا البيت على لفظ ما في الحديث وما عليه كثير من القراءِ.
وقد جاءَ في الشعر جبريل قال الشاعر :
وجبريلٌ رسولُ الله فينا . . . وروحُ القُدْسِ ليس له كِفَاءُ
و(نما جرى ذكر هذا لأن إليهود قالوا للنبي ي : جبريل عدونا فلو أتاك
ميكائيل ، لَقَبِلْنَا منك ، فقال اللَّه عزَّ وجلًَّ : (قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإنَهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97).
ونصب (مصدقاً) على الحال.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98)
ميكائيل فيه لغات ، ميكائيل وميكال . وقد قرئ . بهما جميعاً ، وميكَال -
بهمزة بغير ياءٍ . وهذه أسماء أعجمية دفعت إلى العرب فلفظت بها بألفاظ
مختلفة - أعني جبريل ، وميكائيل . وإسرائيل فيه لغات أيضاً : إسرايِيل
وإسرال ، وإسرايل . وإِبراهيم وإبراهَم ، وأبرَهْم وإبْرَاهام ، والقرآن إنما أتى
بإبراهيم فقط وعليه القراءة.
وأكثر ما أرويه من القراءَة في كتابنا هذا فهو عن أبي عبيد ممَّا رواه

(1/180)


إسماعيل بن إسحاق عن أبي عبد الرحمن عن أبي عُبَيْد.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (99)
يعني الآيات التي جرى ذكرها مما قد بيَّنَّاه ، والآية في اللغة العلامة.
وبينات : واضحات ، و " قد " إنما تدخل في الكلام لقوم لا يتوقعون
الخبر ، واللام في لقد لام قسم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمَا يَكْفُرُ بِها إلا الفَاسِقُونَ).
يعني الذين قد خرجوا عن القصد ، وقد بيَّنَّا أن تول العرب فَسقَت
الرطبة : خرجت عن قشرتها.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100)
معنى نبذه رفضه ورمى به.
قال الشاعر :
نَظَرتَ إلى عُنْوانه فنبذتَه . . . كنبذك نَعْلا أخلقت من نِعالكَا
ونصب أوكلما عاهدوا على الظرف.
وهذه الواو في أوكلما تدخل عليها ألف الاستفهام ، لأن الاستفهام مستأنف ، والألف أمُّ حروف الاستفهام.
وهذه الواو تدخل على هل فتقول : وهل زيد عاقل لأن معنى ألف الاستفهام

(1/181)


موجود في هل ، فكأن التقدير أو هل إِلا أن ألف الاستفهام وهَلْ لا يجتمعان
لأغناء هل عن الألف.
وقوله عزَّ وجلََّّ : (وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)
يعني به النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن الذي جاءَ به مصَدّق التوْرَاةَ والِإنجيلَ ، و (لَمَّا) يقع بها الشيء لوقوعِ غيره (مُصَدِّقٌ) رفع صفة لرسول ، لأنهما نكرتان.
ولو نصب كان جائزاَ ، لأن (رَسُولٌ) قد وصف بقوله (مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) فلذلك صار النصب يحسن ، وموضع " ما " في " (مِصدّق لما معهم) جَر بلام الإِضافة ، و " مَعَ " صلة لها ، والناصب لمع الاستقرار.
المعنى لما استقر معهم.
وقوله عزَّ وجلََّّ : (نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ).
(الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) يعني به إليهود ، والكتاب هنا التوراة و (كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ) فيه قولان : جائز أن يكون القرآن وجائز أن يكون التوراة ، لأن الذين كفروا بالنبي قد نبذوا التوراة.
وقوله عزَّ وجلََّّ : (كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ).
أعْلَمَ أنهم علماء بكتابهم ، وأنهم رفضوه على علم به ، وعداوةً للنبي
صلَّى اللَّه عليه وسلم . وأعْلَمَ أنَّهم نَبذوا كتاب اللَّه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102)

(1/182)


ما كانت تتلوه ، والذي كانت الشياطين تلته في ملك سليمان كتاب من
السحر فَلِبهتِ اليهود وكَذِبِهم ادعَوْا أن هذا السحر أخذوه عن سليمان وأنه اسم الله الأعظم ، يتكسَّبُون بذلكَ ، فأعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أنهم رفضوا كتابه واتبعوا السحر ، ومعنى على (ملك سليمان) ، على عهد ملك سليمان
(عَلَيْهِم) فبرأ اللَّه - عزَّ وجلَّ - سليمانَ من السحر ، وأظهر محمداً - صلى الله عليه وسلم - عَلَى كذبهم
وقال : (وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ).
لأن اللَّه جعل الإتيان من سليمان بالسحر كفراً فبرَّأهُ منه ، وأعلم أن الشياطين كفروا فقال : (وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا)
(يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ)
فمن شدد (لَكِنَّ) نصب الشياطين ، ومن خفف رفع
فقال : (وَلَكِنِ الشيَاطِينُ كَفَرُوا) وقد قرئ بهما جميعاً.
وقوله عزَّ وجلَّ : (يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ).
وقد قريءَ على الملِكَيْنِ ، و (المَلَكَيْنِ) أثْبتُ في الرواية والتفسير
جميعاً ، المعنى يعلمون الناس السحرَ ويعلمون ما أنزلَ على الملكين فموضع
(ما) نصب ، نَسق على السحْر ، وجائز أن يكونَ واتبعوا ما تَتْلُو الشياطين واتَبعوا ما أنزل على الملكين ، فتكون ما - الثانية عطفاً على الأولى.
وقوله : (وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ).
فيه غير قول : أحدها - وهو أثبتها أن الملكين كانا يعلمان الناس
السحر . وعلمتُ ، وأعْلَمْتُ جميعاً في اللغة بمعنى واحد . (كانا يعلمان) نَبأ
السحر ويأمران باجتنابه - وفي ذلك حكمة لأن سائلاً لو سأل : ما الزنا وما

(1/183)


القذف لوجب أن يوقف ويُعَلَّمَ أنه حرام ، فكذلك مجاز إعلام الملكين الناس
وأمرهما باجتنابه بعد الإعلام يدل على ما وصفنا ، فهذا مستقيم بين ، ولا
يكون على هذا التأويل تعلم السحر كفراً ، إنما يكون العمل به كفراً ، كما أن من عَرَفَ الزنا لم يأثَمْ بأنه عرفه ، وإنما يأثم بالعمل به.
وفيه قَوْل آخر ، جائز أن يكون اللَّه عزَّ وجلَّ امتحن بالملكين الناس في ذلك الوقت ، وجعل المحنة في الكفر والِإيمان أن يقبل القابل تعلم السحر ، فيكون بِتَعلُّمِه كافراً ، وبتْرَكِ تعَلمه مؤمناً ، لأن السحر قد كان كثر وكان في كل أمة ، والدليل على ذلك أن فرعون فزع في أمر موسى - صلى الله عليه وسلم - إلى السحر - فقال : (ائتوني بكل ساحر عليم)
وهذا ممكن أن يمْتَحِن اللَّه به كما امتحن بالنهر في قوله
(إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإنَهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ).
وقد قيل إن السحر ما أنزل على الملكين ، ولا أمرا به ولا أتى به
سليمانُ عليه السلام . فقال قوم : (وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) ، فيكون " ما " جحْداً ، ويكون هاروت وماروت من صفة الشياطين ، على تأويل هؤلاء ، كان التأويل عندهم على مذهب هؤلاءِ : كان الشياطين هاروت وماروت ، ويكون معنى قولهمَا على مذهب هؤلاءِ (إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ) كقول الغاوي والخليع : أنا في ضلال فلا تَرِدْ ما أنا فيه.
فهذه ثلاثة أوجه ، والوجهان الأولان أشبه بالتأويل وأشبه بالحق عند كثير
من أهل اللغة ، والقول الثالث له وجه ، إلا أن الحديث وما جاءَ في قِصَّةِ
الملكين أشبه وأولى أن يؤخذ به

(1/184)


وإنما نذكر مع الإعراب المعنى والتفسير ، لأن كتاب اللَّه ينبغي أن يتبين
ألا ترى أن اللَّه يقول (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) (فحُضِضْنَا) على التدبر
والنظر ، ولكن لا ينبغي لأحد أن يتكلم إلا على مذهب اللغة ، أو ما يوافق نقلة أهل العلم ، واللَّه - أعلم بحقيقة تفسير هذه الآية.
فإن النحويين قد ترك كثير منهم الكلام فيها لصعوبتها ، وتكلم جماعة منهم وإنما تكلمنا على مذاهبهم.
وقال بعض أهل اللغة : إن الذي أنزل على الملكين كلام ليس بسحر
إلا إنَّه يفرق به بين المرء وزوجه فهو من باب السحر في التحريم وهذا
يحتاج من الشرح إلى مثل ما يحتاج إليه السحر.
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا).
ليس (يَتَعَلَّمُونَ) بجواب لقوله (فلا تكفر) وقد قال أصحاب النحو في هذا
قولين - قال بعضهم : إِن قوله يتعلمون عطف على قوله (يُعلِّمونَ) وهذا
خطأ ، لأن قوله منهما دليل ههنا على أن التعلم من الملكين خاصة وقيل -
(فَيَتَعَلَّمُونَ) عطف على ما يوجبه معنى الكلام.
المعنى : إنما نحن فتنة فلا تكفر : فلا تتعلم ولا تعمل بالسحر ، فيأبون فيتعلمون ، وهذا قول حسن.
والأجود في هذا أن يكون عطفاً على يعلمان فيتعلمون واستغنى عن ذكر
يعلمان بما في الكلام من الدليل عليه .

(1/185)


وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ).
الإذن هنا لا يبهون الأمر من الله عزَّ وجلَّ : (إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ).
ولكن المعنى إِلا بعلم الله.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ).
المعنى إنَّه يضرهم في الآخرة وِإدْ تعجلوا به في الدنيا نفعاً.
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ).
الخلاق النصيب الوافر من الخير ، ويعني بذلك الذين يعلمون السحر
لأنهم كانوا من علماءِ إليهود.
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ).
فيه قولان : قالوا : (لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) : يعني به الذين يُعَلًمُونَ السحْر.
والذين علموا أن العالم به لا خلاق له هم المعلمون . .
قال أبو إسحاق والأجود عندي أن يكون (لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) راجعاً إلى
هُؤلاء الذين قد علموا أنه لا خلاق لهم في الآخرة).
أي لمن عُلِّمَ السحرَ ولكن قيل (لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) وأي لو كان علمهم ينفعهم لسُمُّوا عالمين ، ولَكِنَّ عِلْمَهُم نبذوه وراء ظهورهم ، فقيل لهم (لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) أي ليس يوفون العلم حقه ، لأنَّ العالِمَ ، إِذا ترك العَمَلَ بِعِلْمِه قيل له لست بعالم ودخول اللام في لقد على جهة القسم والتوكيد.
وقال النحويون في (لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ) قولين :
جعل بعضهم " مَنْ " بمعنى

(1/186)


الشرط ، وجعل الجواب (مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ).
وهذا ليس بموضع شرط ولا جزاء ، ولكن المعنى : ولقد علموا الذي اشتراه ما له في الآخرة من خلاق : كما تقول : واللَّه لقد علمت للذي جاءَك ما له من عقل.
فأمَّا دخول اللام في الجزاءِ في غير هذا الموضع وفيمن جعل هذا موضع شرط وجزاء مثل قوله : (وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا)
ونحو (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ)
فاللام الثانية هي لام القسم في الحقيقة ، لأنك إنما تحلف على فعلك لا على فعل غيرك في قولك : والله لئن جئتني لأكرمنك ، فزعم بعض النحويين أن اللام لما دخلت في أول الكلام أشبهت القسم فأجيبت بجوابه وهذا خطأ ، لأن جواب القسم ليس يشبه القسم ، ولكن اللام الأولى دخلت إعْلاماً أنَّ الجملة بكمالها معقودة للقسم ، لأن الجزاء وإن كان للقسم عليه فقد صار للشرط فيه حظ ، فلذلك دخلت اللام.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103)
مَثُوبة في موضع جواب " لو " لأنها تنْبِئ عن قولك " لأثيبُوا " ومعنى الكلام
أن ثواب اللَّه خير لهم من كَسْبِهم بالكُفْر والسحْرِ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (لَوْ كَانُوا يَعلَمُونَ).
أي لو كانوا يَعْمَلُونَ بِعِلمِهم ، ويعلمون حقيقة ما فيه الفضل .

(1/187)


وقوله عزَّ وجلَّ : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104)
وقرأ الحسن " لا تقولوا راعِناً " بالتنوين ، والذي عليه الناس راعنا غير
منون ، وقد قيل في (راعنا) بغير تنوين ثَلاثةُ أقوال : قال بعضهم راعنا :
ارعنا سمعك ، وقيل كان المسلمون يقولون للنبي - صلى الله عليه وسلم - راعنا ، وكانت إليهود تَتَسَابُّ بينها بهذه الكلمة ، وكانوا يسبون النبي - صلى الله عليه وسلم - في نُفُوسهم ، فلما سمعوا
هذه الكلمة اغتنموا أن يظهروا سَبَّه بلفظ يسمع ولا يلحقهم به في ظاهره
شيء ، فأظهر اللَّه النبى - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين على ذلك ونهى عن هذه الكلمة.
وقال قوم : (لَا تَقُولُوا رَاعِنَا) : من المراعاة والمكافأة ، فأمروا أن يخاطبوا
النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتقدير والتوقير ، فقيل لهم لا تقولوا راعنا ، أي كافنا في المقال ، كما يقول بعضهم لبعض ، -
(وَقُولُوا انْظُرْنَا) أي أمهلنا واسمعوا ، كأنه قيل لهم استَمِعُوا.
وقال قوم إِن راعنا كلمة تجري على الهُزُءِ والسخرية ، فنهيَ
المسلمون أن يَلْتَفِظُوا بها بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم -
وأما قراءَة الحسن " راعناً " فالمعنى فيه لا تقولوا حُمْقاً ، من الرعونة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)
المعنى ولا من المشركين ، الذين كفروا من أهل الكتاب : إليهود
والمشركون في هذا الوضع عَبَدةُ الأوثان.
(أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ).
- ويُقْرأ أن يُنْزَل عليكم بالتخفيف والتثقيل جميعاً ، ويجوز في العربية أن

(1/188)


يَنْزِلَ عليكم ، ولا ينبغي أن يقرأ بهذا الوجه.
الثالث ، إذ كان لم يقرأ به أحد من القراء المشتهرين.
وموضع (مِنْ خَيْرٍ) رفع . المعنى : ما يود الذين كفروا
والمشركون أن ينزل عليكم خير من ربكم ، ولو كان هذا في الكلام لجاز ولا
المشركون ، ولكن المصحف لا يخالف ، والأجود ما ثبت في المصحف
أيضاً ، ودخول من ههنا على جهة التوكيد والزيادة كما في " ما جَاءني من
أحد) ، وما جاءَنى أحد.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)
أي يختص بنُبوته من يشاءُ من أخبر - عزَّ وجلَّ - أنه مختار.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106)
في (نُنْسِهَا) غير وجه قد قرئ
به : أو نُنْسِهَا ، وَنَنْسَهَا ، وَنَنْسُؤها.
فأما النسخ في اللغة فإبطال شيء وإقامة آخر
مقامه ، العرب تقول نسخت الشمسُ الظل ، والمعنى أذهبت الظل وحلَّت
محلَّه ، وقال أهل اللغة في معنى (أو نُنْسِهَا) قولين قال بعضهم ، (أو ننسها)
من النسيان ، وقالوا دليلنا على ذلك قوله عزَّ وجلَّ (سَنُقْرِئُك فَلَا تَنْسَى إلا مَا شَاءَ اللَّهُ) فقد أعلم اللَّه أنه يشاء أن يُنْسى ، وهذا القول عندي ليس
بجائز ، لأن اللَّه عزَّ وجلَّ : قد أنبأ النبي - صلى الله عليه وسلم -
في قوله (وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ) إنَّه لا يشاء ، أن يذهب بالذي أوحَى به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وفي قوله (فَلَا تَنْسَى إلا مَا شَاءَ اللَّهُ) قولان يُبْطلان هذا القول الذي حكينا عن بعض أهل اللغة : أحدهما (فلا تنسى) أي لست تترك إلا ما شاءَ اللَّه أن
تترك ، ويجوز أن يكون إلا ما شاءَ الله مما يلحق بالبشرية ، ثم تذكر بعد ،

(1/189)


ليس أنه على طريق السلب للنبي - صلى الله عليه وسلم - شيئاً أوتيه من الحكمة وقيل في (أو ننْسِهَا) قول آخر وهو خطأ أيضاً ، قالوا أو نَتْرُكُهَا " وهذا يقال فيه نسيت إذا تركت ، ولا يقال أنسيت أي تركت ، وإنما معنى (أو ننسها) أو نَتركِها أي نأمر بتركها ، فإِن قال قائل ما معنى تركها غير النسخ وما الفرق بين الترَك والنسخ ؟
فالجواب في ذلك أن النسخ يأتي في الكتاب في نسخ الآية
بآية فتُبطِل الثانيةُ العملَ بالأولى.
ومعنى الترك أن تأتي الآية بضرب من العمل
فيؤمر المسلمون بترك ذَلك بغير آية تَأْتِي ناسخة للتي قبلهَا ، نحو
(إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ)
ثم أمر المسلمون بعد ذلك بترك المِحْنَة.
فهذا معنى الترك ، ومعنى النسخ قد بيَّنَّاه فهذا هو الحق.
ومن قرأ " أو نَنْسؤُها " أراد نؤَخًرُها . والنَّسْءُ في اللغة التأخير ، يقال : نسأ
اللَّه في أجله وأنْسَأ اللَّه أجله أي أخر أجله.
وقوله : (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا).
المعنى بخير منها لكم ، (أوْ مِثْلِها) فأما ما يؤتى فيه بخير من المنسوخ
فتمام الصيام الذي نسخ الِإباحة في الِإفطار لمن استطاع الصيام.
ودليل ذلك قوله : (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) فهذا هو خير لنا كما قال اللَّه
عزَّ وجلَّ.
وأمَّا قوله (أَوْ مِثْلِهَا) أي نأْتي بآية ثوابها كثواب التي قبلها ، والفائدة في

(1/190)


ذلك أن يكون الناسخ اشهل في المأخذ من المنسوخ ، والإيمان به أسوغ.
والناس إليه أسرع.
نحو القِبْلة التي كانت على جهة ثم أمر اللَّه النبي - صلى الله عليه وسلم -
بجعل البيت قبلةَ المسلمين وعدل بها عن القصد لبيت المقدس ، فهذا - وإِن
كان السجود إلى سائر النواحي متساوياً في العمل والثواب ، فالذي أمر الله به في ذلك الوقت كان الأصلح ، والأدعى للعرب وغيرهم إِلى الإِسلام.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107)
لفظ (أَلَمْ) ههنا لفظ استفهام ومعناه التوقيفُ ، وجزم (أَلَمْ) ههنا كجزم
" لم " لأن حرف الاستفهام لا يغير العامل عن عمله ، ومعنى الملك في اللغة
تمام القدرة واستحكامها فما كان مما يقال فيه مَلِك سمي المُلْكَ ، وما نالته
القدرة مما يقال فيه مَالِك فهو مِلْك ، تقول : ملكت الشيء أمْلِكه مِلْكاً.
وكقوله تعالى ، (على مُلك سليمان) أي في سلطانه وقُدْرته.
وأَصل هذا من - قولهم ملكتُ العَجين أملُكُه إِذا بالغْتُ في عَجْنِه ، ومن هذا قيل في التزويج شهدنا " إِملاكَ " فلان ، أي شهدنا عقد أمر نكاحه وتشديده.
ومعنى الآية إِن اللَّه يَمْلك السَّمَاوَات والأرض ومن فيهن فهو أعلم بوجه
الصلاح فيما يتعبدهم به ، من ناسخ ومنسوخ ومتروك وغيره.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ).
هذا خطاب للمسلمين يخبرون فيه أن من خالفهم فهو عليهم ، وأن اللَّه
جلَّ وعزَّ ناصرهم ، والفائدة فيه أنه بنَصْره إياهم يغلبون من سواهم .

(1/191)


وقوله عزَّ وجلَّ : (أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108)
أجود القراءَة بتحقيق الهمزة ، ويجوز جعلها بَينَ بينَ ، يكون بين
الهمزة والياء فيلفظ بها سُيل.
وهذا إنما تحكمه المشافهة لأن الكتاب فيه
غير فاصل بين المتحقق والمُلَيَّن وما جُعِلَ ياءً خالصة ، ويجوز كما سِيلَ موسى
من قبل ، من قولك " سِلْت " ، أسَال في معنى سئِلت اسْأل وهي لغة للعرب
حجاها جميع النحويين ، - ولكن القراءَة على الوجهين اللذين شرحناهما قبل
هذا الوجه من تحقيق الهمزة وتليينها.
ومعنى (أم) ههنا وفِي كل مكان لا تقع فيه عطفاً على ألف
الاستفهام - إِلا أنها لا تكون مبتدأة - أنها تؤذن بمعنى بل ومعنى ألف
الاستفهام ، المعنى " بل أتريدون أن تسألوا رسولكم كما سُئِل موسى
من قبل " فمعنى الآية أنهم نًهوا أن يسألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - ما لا خير لهم في السؤال عنه وما يُكَفِّرهم ، وإِنما خوطبوا بهذا بعد وضوح البراهين لهم وإقامتها على مخالفتهم وقد شرحنا ذلك في قوله
(فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ) وما أشبه ذلك مما تقدم شرحه.
- فأُعْلِم المسلمون أن السؤال بعد قيام البراهين كفر كما قال عزَّ وجلَّ :
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ).

(1/192)


وقوله : (وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ).
أي من يسأل عما لا يعنيه النبى - صلى الله عليه وسلم - بعد وضوح الحق فقد ضل سواءَ السبيل أي قصد السبيل.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109)
يعني به علماءَ إليهود.
وقوله : (حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) موصول بود الذين كفروا ، لا بقوله حسداً ، لأن حسد الإِنسان لا يكون من عند نفسه ، ولكن المعنى مودتهم بكفركم من عند أنفسهم ، لا أنهم عندهم الحق الكفر ، ولا أن كتابهم أمرهم بما هم عليه من الكفر بالنبي - صلى الله عليه وسلم -.
الدليل على ذلك قوله : (مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ).
هذا في وقت لم يكن المسلمون أمروا فيه بحرب المشركين ، وإِنما
كانوا يدعون بالحجج البينة وغاية الرفق حتى بين الله أنهم إنما يعاندون بعد
وضوح الحق عندهم فأمر المسلمون بعد ذلك بالحرب.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ ، : (إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)
أي قدير على أن يدعو إِلى دينه بما أحب مما هو عنده الأحكم
والأبلغ . ويقال : اقدر على الشيءِ - قَدْراً وقَدَراً وقُدْرة ، وقُدْرَاناً ، ومَقْدِرَة

(1/193)


ومقدُرة ومقدَرة.
هذه سبعة أوجه مروية كلها ، وأضعفها مقدرة - بالكسر -.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111)
الِإخبار في هذا عن أهل الكتاب ، وعقد النصارى معهم في قوله
وقالوا لأن الفريقين يقرآن التوراة ، ويختلفان في تثبيت رسالة موسى وعيسى ، فلذلك قال اللَّه عزَّ وجلَّ : (وقالوا : " فأُجْمِلوا).
فالمعنى أن إليهود قالت لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً ، والنصارى
قالت لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانياً ، وجاز أن يلفظ بلفظ جمع لأن
معنى (من) معنى جماعة . فَحُمِل الخبر على المعنى.
والمعنى إِلا الذين كانوا هودا وكانوا نصارى.
وهو جمع هائد وهود ، مثل حائل وحول ، وبازل وبزل.
وقد فسَّرْنَا واحد النصارى وجمعه فيما مضى من الكتاب.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ).
هذا كما يقال للذي يدعي ما لا يبرهن حقيقته إنما أنت مُتَمَن.
وأمانيهم مشددة ، ويجوز في العربية تلك " أمَانِيهِمْ " ولكن القراءَة بالتشديد
لا غير ، للإِجماع عليه ، ولأنه أجود في العربية.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)).
أي إِن كنتم عند أنفسكم صادقين فَبَينوا ما الذي دلكم على ثبوت
الجنة لكم .

(1/194)


وقوله عزَّ وجلَّ : (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112)
أي فهذا يدخل الجنة ، فإن قال قائل فما برهان من آمن في قولكم ، قيل
ما بيناه ، من الاحتجاج للنبي - صلى الله عليه وسلم - ومن إظهار البراهين بأنبائهم ما لا يعلم إِلا من كتاب أو وحي ، وبما قيل لهم في تمني الموت ، وما أتى به النبي - صلى الله عليه وسلم - من الآيات الدالة على تثبيت الرسالة ، فهذا برهان من اسلم وجهه للَّهِ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113)
يعني به أن الفريقين يَتْلُوَان التوراة ، وقد وقع يينهم هذا الاختلاف
وكتابهم واحد ، فدل بهذا على ضلالتهم ، وحذر بهذا وقوع الاختلاف في
القرآن ، لأن اختلاف الفريقين أخرجهما إلى الكفر.
فتفهموا هذا المكان فإن فيه حجةً عظيمة وعِظَةً في القرآن.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ).
يعني به الذين ليسوا بأصحاب كتاب ، نحو مشركي العرب والمجوس.
المعنى أن هؤلاء أيضاً قالوا : لن يدخل الجنة إلا من كان على ديننا.
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ).
المعنى يريهم من يدخل الجنة عِياناً ، ويدخل النار عيانا.
وهذا هو حكم الفصل فيما تصير إليه كل فرقة ، فأما الحكم بينهم في العقيدة فقد بينه اللَّه عزَّ وجلَّ - فيما أظهر من حجج المسلمين ، وفي عجز الخلق عن أن يأتوا بمثل القرآن.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114)
موضع (مَنْ) رفع ولفظها لفظ استفهام ، المعنى : وأي أحد أظلم ممن منع

(1/195)


مساجد اللَّه ، و (أَظْلَمُ) رفع بخبر الابتداء ، وموضع أن نصب على البدل من
مساجد اللَّه ، المعنى : ومن أظلم ممن منع أن يذكر في مساجد اللَّه اسمه.
وقد قيل في شرح هذه الآية غير قول : جاءَ في التفسير أن هذا يعني به
الروم ، لأنهم كانوا دخلوا بيت المقدس وخربوه ، وقيل يعني به مشركو
مكة لأنهم سعوا في منع المسلمين من ذكر اللَّه في المسجد الحرام.
وقال بعض أهل اللغة غير هذا . زعم أنه يعني به جميع الكفار الذين تظاهروا
على الإسلام ، ومنعوا جملة المساجد ، لأن من قاتل المسلمين حتى منعهم
الصلاة فقد منع جميع المساجد وكل موضِع مُتَعَبَّدٍ فيه فهو مسجد ، ألا
ترى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :
" جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً "
فالمعنى على هذا المذهب : ومن أظلم ممن خالف ملة الإسلام.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ).
أعلم اللَّه في هذه الآية أن أمر المسلمين يظهر على جميع من خالفهم
حتى لا يمكن دخول مخالف إِلى مساجدهم إلا خائفاً ، وهذا كقوله عزَّ وجلَّ : (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ).
قوله : (لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ).
يرتفع (خِزْيٌ) من وجهتين : إِحدَاهما الابتداءُ ، والأخرى الفعل الذي

(1/196)


ينوب عنه (لهم). المعنى وجب لهم خزي في الدنيا وفي الآخرة عذاب
عظيم ، والخزي الذي لهم في الدنيا ، أن يُقْتَلوا إن كانوا حَرْباً ، ويُجْزَوا إن
كانوا ذمة ، وجعل لهم عظيم العذاب لأنهم أظلم مَن ظلم لقوله : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ).
* * *
وقوله عزْ وجل : (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115)
يرتفعان كما وصفنا من جهتين ، ومعنى (للَّهِ) أي هو خالقهما.
وقوله : (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ).
(تُوَلُّوا) جزم بـ (أيْنَمَا) ، والجوإبُ (فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) ، وعلامة الجزم في (تُوَلُّوا)
سقوط النون.
و (ثَمَّ) موضع نصب ولكن مبني على الفتح لا يجوز أن تقول ثَمًّا
زيد . وإنما بني على الفتح لالتقاءِ السَّاكنين ، وثم في المكان أشارة بمنزلة هنا
زيد ؛ فإذا أردت المكان القريب قلت هنا زيد ، وإذا أردت المكان المتراخي
عنك قلت (ثَمَّ) زيد ، وهناك زيد ، فإنما منعت (ثَمَّ) الإعراب لإبهامها.
ولا أعلم أحداً شرح هذا الشرح لأن هذا غير موجود في كتبهم.
ومعنى الآية أنه قيل فيها أنه يعني به البيت الحرام ، فقيل أينَما تولوا فثم
وجه الله أي فاقصدوا وجه اللَّه بِتَيَمُّمِكم القبلة ، ودليل من قال هذا القول
قوله : (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ).
فقد قيل : إن قوماً كانوا في سفر فأدركتهم ظلمة ومطر فلم يعرفوا القبلة فقيل : (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ).

(1/197)


وقال بعض أهل اللغة إنما المعنى معنى قوله : (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ)
فالمعنى على قوله هذا : أن اللَّه معكم أينما تولوا - كأنه أينما تولوا
فثم الله (وهو معَكم) وإنَّما حكينا في هذا ما قال الناس : وليس عندنا قطع
في هذا ، واللَّه عزَّ وجلَّ أعلم بحقيقته -
ولكن قوله (إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) يدل على تَوْسيعه على الناس
في شيءِ رخص لهم به.
* * *
(وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116)
قالوا) للنصارى ومشركي العرب ، لأن النصارى قالت : المسيح ابنُ
اللَّه ، وقال مشركو العرب الملائكة بنات اللَّه ، فقال اللَّه عزَّ وجلَّ :
(بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ).
القانت في اللغة المُطِيعُ ، وقال الفرَّاءُ : (كل له قانتون) هذا خصوص إنما
يعني به أهل الطاعة ، والكلام يدل على خلاف ما قال ، لأن قوله :
(مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ)
كل إحاطة وإنما تأويله : كل ما خلق اللَّه في
السَّمَاوَات والأرض فيه أثَرُ الصنْعَة فهو قانت للَّهِ والدليل على أنه مخلوق -
والقانت في اللغة القائم أيضاً ألا ترى أن القنوت إِنما يُسَمًى بِه من دَعا قائماً
في الصلاة قانتا ، فالمعنى كل له قانت مقر بأنه خالقه ، لأن أكثر من يخالف
ليس بدفع أنه مخلوق وما كان غير ذلك فأثر الصنْعَةِ بين فيه ، فهو قانت
على العموم ، وإِنما القانت الداعي.
وقوله : (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117)

(1/198)


يعني ، أنشاهما على غير حِذَاءٍ ولا مِثَال ، وكل من أنْشَأ ما لَم يُسْبَق إليه
قيل له أبدعت ، ولهذا قيل لكل من خالف السُّنَّةَ والإجماعَ مبتدع ، لأنه يأتي
في دين الإِسلام بما لم يسبقه إِليه الصحابة والتابعون.
وقوله : عزَّ وجلَّ : (وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ).
رفع (يكون) من جهتين : إِن شئت على العطف على يقول ، وإِن شئت
الاستئناف.
المعنى فهو يكون ، ومعنى الآية قد تكلم الناس فيها بغير قول :
قال بعضهم : إِنما يقول له (كُنْ فَيَكُونُ) إِنما يريد ، فيحدث
كما قال الشاعر :
امْتَلأ الحوضُ وقال قَطْنِي . . . مهلاً رويداً قد ملأت بطني
والحوض لم يقل.
وقال بعض أهل اللغة - (إِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)
يقول له وإِن لم يكن حاضراً : كن ، لأن ما هو معلوم عنده بمنزلة الحاضر.
وقال قائل : (إِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) له معنى من أجلها فكأنه إنما يقول
من أجل إِرادته إِياه (كُنْ) أي أحدُث فيحدث ، وقال قوم : هذا يجوز أن تكون لأشياءَ معلومة أحدث فيها أشياءَ فكانت ، نحو قوله :
(فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين) . واللَّه أعلم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118)
(لولا) معنى هلا ، المعنى : هلا يكلمنا اللّه أو تأْتينا آية ، فأعلم اللَّه
عزَّ وجلَّ أن كفرهم في التعنُّتِ بطلب الآيات على اقتراحهم كقول الذين من
قبلهم لموسى : (أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً) ، وما أشبه هذا ، فأعلم الله أن كفرهم متشابه ، وأن قلوبهم قد تشابهت في الكفر .

(1/199)


وقوله عزَّ وجلَّ : (قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ).
المعنى فيه أن من أيقن وطلب الحق فقد آتته الآيات البينات ، نحو
المسلمين ومن لم يشاق من علماءِ إليهود ، لأنه لما أتاهم - صلى الله عليه وسلم - بالآيات التي يُعْجَزُ عنها من أنبائهم بما لا يُعلم إلا من وحي ، ونحو انشقاق القمر وآياته التي لا تحصى عليه السلام ، والقرآن الذي قيل لهم فأتوا بسورة من مثله فعجزوا عن ذلك.
ففِي هذا برهان شافٍ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119)
نصب (بشيراً ونذيراً) على الحال ، ومعنى بشيراً ، أي مبشراً المؤمنين
بما لهم من الثواب ، وينذر المخالفين بما أعد لهم من العقاب.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ).
وتقرأ (ولا تَسْألُ) ، ورفع القراءتين جميعاً من جهتين ، إحداهما أن
يكون (ولا تسأل) - استئنافاً ، كأنَّه قيل ولست تسأل عن أصحاب الجحيم ، كما قال عزَّ وجلَّ : (فإِنما عَلَيْكَ البَلَاغُ وعَلَيْنَا الحِسَابُ) ويجوز أن يكون له
الرفع على الحال ، فيكون المعنى : أرسلناك غير سائل عن أصحاب الجحيم.
ويجوز أيضاً " ولا تَسْألْ عن أصحاب الجحيم "
وقد قرئ به فيكون جزماً بلا.
وفيه قولان على ما توجبه اللغة : أن يكون أمَرَهُ اللَّهُ بترك المسألة ، ويجوز
أن يكون النهي لفظاً ، ويكون المعنى على تفخيم ما أعد لهم من العقاب.
كما يقول لك القائل الذي تَعْلَمُ أنت أنه يجب أن يكون من تسأل عنه في حال جميلة أو حال قبيحة ، فتقول لا تسأل عن فلان أي قد صار إلى أكثر مما
تريد ، ويقال : سالته أسأله مسألة وسؤالاً ، والمصادر على فُعَال تقِلُّ في غير

(1/200)


الأصوات والأدْواءِ فأمَّا في الأصوات فنحو الدعاء والبكاء والصراخ
وأما في الأدواء فنحو : الزكام - والسعال وما أشبه ذلك.
وإِنما جاءَ في السؤال لأن السؤال لا يكون إلا بصوت.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120)
قد شرحنا معنى . إليهود والنصارى . و " ترضى " يقال في مصدره
رضي ، يرضى ، رضاً ومرضاة ، ورِضواناً ورُضواناً.
ويروي عن عاصم في كل ما في القرآن من (رضوان) الوجهان جميعاً ، فأمَّا ما يرويه عنه أبو عمرو (فَرِضوانٍ) بالكسر ، وما يرويه أبو بكر بن عياش : فَرُضْوان ، والمصادر تأتي على فِعْلان وفُعْلان ، فأمَّا فِعْلان ، فقولك عرفته عِرْفاناً ، وحسبته حسباناً.
وأما فُعلان كقولك : غُفرانك لا كفْرانك.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ).
(تَتَّبِعَ) نصب بحتى ، والخليل وسيبويه وجميع من يوثق بعلمه يقولون إن
الناصب للفعل بعد حتى (أن) إلَّا أنها لا تظهر مع حتى ، ودليلهم أن حتى غير
ناصبة هو أن حتى بإجماع خافضة.
قال اللَّه عزَّ وجلَّ : (سلام هي حتى مَطلَعِ الفجر)
فخفض مطلع بحتى ، ولا نعرف في العربية أن ما يعمل في
اسم يعمل في فعل ، ولا ما يكون خافضاً لاسم يكون ناصباً لفعل ، فقد بانَ أن حتى لا تكون ناصبة ، كما أنك إذا قلت : جاءَ زيد ليضربك فالمعنى جاءَ زيد لأن يضربك ، لأن اللام خافضة ، للاسم ، ولا تكون ناصبة - للفعل ، وكذلك ما كان زيد ليضربك ، اللام خافضة ، والناصب ليضربك أن المضمرة.
ولا يجوز إظهارها مع هذه اللام ، وإنما لم يجز لأنها جواب لما يكون مع الفعل وهو

(1/201)


حرف واحد يقول القائل : سيضربك ، وسوف يضربك ، فجعل الجواب في
النفي بحرف واحد كما كان في الإيجاب بشيءٍ واحد.
ونصب ملتهم بتتئع ، ومعنى ملتهم في اللغة سنتهم وطريقتهم ، ومن هذا
المَلة أي الموضع الذي يختبز فيه ، لأنها تؤَثر في مكانها كما يؤَثِّر في الطريق.
وكلام العرب إذا اتفق لفظه فأكثره مشتق بعضه من بعض ، وآخذ بعضه برقاب بعض . .
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى).
أي الصراط الذي دعا إليه وهدى إليه هو الطريق أي طريق الحق.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ).
إِنما جمع ولم يقل هواهم ، لأن جميع الفرق ممن خالف النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن ليرضيهم منه إلا أتباع هواهم . وجمع هوى على أهواءَ ، كما يقال جمل وأجمال ، وقتب وأقتاب.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ).
الخفض في (نصير) القراءَة المجمع عليها ، ولو قرئ ولا نصير بالرفع
كان جائزاً ، لأن معنى من ولي مالك من اللَّه ولي ولا نصير.
ومعنى الآية أن الكفار كانوا يسألون النبي - صلى الله عليه وسلم - الهدنة وُيرُونَ إنَّه إِن هادنهم وأمهلهم أسلموا ، فأَعلم اللَّه عزَّ وجلَّ أَنهم لن يرضوا عنه حتى يتبع ملتهم ، فنهاه اللَّه ووعظه في الركون إِلى شيءٍ مما يدعون إِليه ، ثم أعلمه اللَّه عزَّ وجل - وسائِرَ الناس - أن من كان منهم غير متعنت ولا حاسد ولا طالب

(1/202)


لرياسة تلا التوراة كما أنزلت فذكر فيها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حق فآمن به فقال تعالى :
* * *
(الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121)
يعني أن الذين تَلُوا التوراة على حقيقتها ، أُولَئِكَ يُؤمنون بالنبي - صلى الله عليه وسلم -.
وفي هذا دليل أن غيرهم جاحد لما يعلم حقيقته ، لأن هؤُلاءِ كانوا من علماءِ
اليهود ، وكذلك من آمن من علماءِ النصارى ممن تلا كتبهم.
و (الذين) يرفع بالابتداءِ ، وخَبَر الابتداءِ (يتلونه) ، وإن شئت كان خبر الابتداءِ (يتلونه وأولئك) جميعاً ، فيكون للابتداءِ خبران كما تقول هذا حلو حامض).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122)
(يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ) نصب لأنه نداء مضاف ، وأصل النداءِ النصب ، ألا ترى.
أنك إذا قلت يا بني زيد ، فقال لك قائل : ما صنعت ؛ قلت ناديتُ بني زيد ، فمحال أن تخبره بغير ما صنعت ، وقد شرحناه قبل هذا شرحاً أبلغ من هذا ، وإسرائيل لا يتصرف ، وقد شرحنا شرحه في مكانه وما فيه من اللغات.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ).
موضع (أن) نصب كأنه قال اذكروا أني فضلتكم على العالمين.
والدليل من القرآن على أنهم فُضلَوا قول موسى - صلى الله عليه وسلم - (كما قال الله عزَّ وجلَّ :
(وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20).

(1/203)


وتأويل تفضيلهم في هذه الآية ما أوتوا من الملك وأن فيهم أنبياءَ
وأنهم أُعطوا علم التوراة ، وأن أمر عيسى ومحمد - صلى الله عليهما وسلم - لم يكونوا يحتاجون فيه إلى آية غير ما سبق عندهم من العلم به ، فذكرهم اللَّه عزَّ وجلَّ ما همْ عارفون ، ووعظهم فقال :
* * *
(وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (123)
العدل الفدية ، وقيل لهم : (ولا تنفعها شفاعة) ، لأنهم كانوا يعتمدون على
أنهم أبناءُ أنبياءِ اللَّه ، وأنهم يَشْفَعُون لهم ، فأيئسَهم اللَّه عزَّ وجلَّ من ذلك.
وأعلمهم أن من لم يتبع محمداً - صلى الله عليه وسلم - فلَيْسَ يُنْجِيه منْ عذاب اللَّه شيءٌ وهو كافر.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)
المعنى اذكروا إِذ اابتلى إبراهيم ربه ، ومعنى (فاتمهن) وفَّى بما أمر به
فيهن ، وقد اختلفوا في الكلمات : فقال قوم تفسيرها أنه أمره بخمس خلال في الرأس ، وخمس خلال في البدَن ، فأمَّا اللاتِي في الرأس فالفرْق وقَص
الشَارِبِ والسواكُ ، والمضْمضَةُ ، والاستنشاق ، وأمَّا التي في البدن فالختان
وحلق العانة والاستنجاءُ وتقليم الأظافر ونتف الإبط.
فهذا مذهب قوم وعليه كثير من أهل التفسير.
وقال قوم : أن الذي ابتلاه به " ما أمره به من ذبح ولده.
وما كان من طرحه في النار ، وأمر النجوم التى جرى ذكرها في القرآن في قوله عزَّ وجلَّ : (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا) وما جرى بعد الكواكب من ذكر القمر والشمس ، فهذا مذهب قوم .

(1/204)


وجميع هذه الخلال قد ابتلِيَ بها إبراهيم ، وقد وفَّى بما أُمِر به وأتى بما
يأتي به المؤْمن بل البر المصطفى المختار ، ومعنى ابتلى اختبر.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا).
الأم في اللغة القَصْدُ ، تقول : أممْتُ كذا وكذا ، إذا قصدته وكذلك
قوله : (فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا) أي فاقصدوا.
والِإمام الذي يْؤتم به فيفعل أهلُه وأمته كما فعل ، أي يقصدون - لمَا يقصد.
(قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ).
فأَعلم اللَّه إبراهيم أن في ذريته الظالم ، وقد قرئت (لا ينال عهدي الظالمُون) والمعنى في الرفع والنصب - واحد ، لأن النَّيْلَ مشتمل على العهد.
وعلى الظالمين إلا أنه منفي عنهم ، والقراءَة الجيّدة هي على نصب
الظالمين ؛ . لأن المصحف . هكذا فيه ، وتلك القراءَة جيدة (بالغة) إلا أني
لا أقرأ بها ، ولا ينبغي أن يُقْرأ بها لأنها خلاف المصحف ، ولأن المعنى :
أن إبراهيم عليه السلام كأنَّه قال : واجعل الإمامة تنال ذريتي (واجعل) هذا
العهد ينال ذريتي ، قال اللَّه : (لا ينال عهدي الظالمين).
فهو على هذا أقوى أيضاً.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)
(مثابة) يثوبون إِليه ، والمثاب والمثابة واحد ، وكذلك المقام والمقامة.
قال الشاعر :

(1/205)


وإنِّي لَقَوَّامٌ مَقَاوِمَ لم يكن . . . جريرٌ ولا مَوْلَى جريرٍ يقومُها
وواحد المقاوم مقام - وقال زهير :
وفيهم مقامات حسان وجوهها . . . وأنْديَة يَنْتَابُها القولُ والفعلُ
وواحد المقامات مقامة . والأصل في مثابة مَثْوَبَة . ولكن حركة الواو
نقلت إلى التاءِ ، وتبعت الواو الحركة فانقلبت ألفاً ، وهذا إِعلال إتباع ، تبع
مثابة باب " ثاب " وأصل ثاب ثَوَبَ ، ولكن الواو قلبت ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها لا اختلاف بين النحويين في ذلك.
وهذا الباب فيه صعوبة إلا أن كتابنا هذا يتضمن شرح الِإعراب
والمعاني فلا بد من استقصائها على حسب ما يعلم.
ومعنى قوله : (وَأَمْنًا) : (قيل) كان من جنى جناية ثم دخل الحرم لم يقم عليه الحد ، ولكن لا يبايع ولا يكلم حتى يضطر إِلى الخروج منه ، فيقام عليه الحد.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى)).
قرئت " واتخذوا " بالفتح والكسر : وَاتَخَذُوا ، واتَّخِذوا روى أن عمر بن
الخطاب قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - وقد وقفا على مقام إبراهيم : أليس هذا مقامَ خليل ربنا ؟ . " وقال بعضهم مقامَ أبينا " ، أفَلا نتخذه مصلى ؛ فأنزل الله عزَّ وجلَّ : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) فكان الأمر . والقراءَة (واتخذوا)

(1/206)


بالكسر على هذا الخبر أبين . ولكن ليس يمتنع " واتخَذُوا " لأن الناس
اتخذوا هذا ، فقال : (وإِذ جعلنا البيت مثابة) (واتخذوا) فعطف بجملة
على جملة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ).
معنى (طَهِّراه امنعاه من تعليق الأصنام عليه ، والطائفون هم الذين يطوفون
بالبيت ، والعاكفون المقيمون به ، ويقال قد عَكَف يعكُف وَيعْكِف على الشيءِ عُكُوفاً أي أقام عليه ، ومن هذا قول الناس : فلان معتكف على الحَرام ، أي مقيم عليه.
(والرُّكعِ السَجود) سائر من يُصلي فيه من المسلمين.
و (بيْتِيَ) : الأجود فيه فتح الياءِ ، وإن شئت سكَّنتها ، والرُّكًع جمع راكع ، مثل غاز وغُزًى ، والسجود جمع ساجد ، كقولك : ساجد وسجود ، وشاهد وشهود.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)
المعنى واذكروا إِذ قال إبراهيم . وأمنا : ذا أمن.
وقوله عزَّ وجل : (وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ . . .)
(مَن) نَصْبٌ بدلٌ من أَهله ، المعنى أرزق من آمن من أهله دون غيرهم.
لأن الله تعالى قد أعلمه أن في ذريته غيرَ مؤمن ، لقوله : عزَّ وجلّ ؛
(لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ).
وقوله عزَّ وجلَّ : (قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ).
أكثر القراءَة على فأمتِّعُه (قليلًا) ثم أضطَره ، على الإِخبار ، وقد

(1/207)


قرئَ أيضاً - فَأمْتِعْه ، ثم اضْطَرَّه ، على الدعاءِ ، ولفظ الدعاءِ كلفظ الأمر
مجزوم ، إِلا أنه استعظم أن يقال "أمر" فَمسْألتك مَنْ فوقَك نَحْو أعطني ، وأغفر لي دعاءُ ومسْألة ، ومسألتُك من دُونَك أمْرُ كقولك لغلامك افعل كذا وكذا.
والراءُ مفتوحة في قوله ثم " اضطرَّه " لسكونها وسكون الراءِ التي قبلها الأصل ثم اضطَرِرْه ، ويجوز ثم أضطره ولا أعلم أحداً قرأ بها.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127)
القواعد واحدتها قاعدة وهي كالأساس والأس للبنيان ، إلا أن كل قاعدة
فهي للتي فوقها ، وإِسماعيلُ عطف على إِبراهيم.
وقوله : (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا) المعنى يقولان (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا) ، ومثله في كتاب اللَّه :
(وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ) ومثله : (وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ).
(أي يقولون سلام عليكم).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128)
تفسير المسلم في اللغة الذي قد استسلم لأمر اللَّه كله " وخضع له ، فالمسلم
المحققُ هو الذي أظهر القبول لأمر اللَّه كله وأضمر مثل ذلك ، وكذلك قوله : (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا) . .
المعنى : قولوا جميعاً خضعنا وأظهرنا الإسلام . وباطنهم غير ظاهِرهم
لأن هُؤلاءِ . منافقون فأظهر اللَّه عزَّ وجلَّ النبي على أسْرارِهم ، فالمسلم على
ضَرْبين مظهِرٌ القبولَ ومبطن مثلَ ما يُظْهِر ، فهذا يقال له مؤمن ، ومسلم إنما
يظهر غير ما يبطن فهذا غير مؤمن ، لأن التصديق والِإيمان هو بالإِظهار مع

(1/208)


القبول ، ألا ترى أنهم إنما قيل لهم (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ) ، أي
أظهرتم الإيمان خشية.
وقوله " عزَّ وجلَّ : (وأرِنَا منَاسِكَنَا).
معناه عَزِفْنَا متعبداتنا ، وكل متعبَّد فهو مَنْسَك ومَنْسِكِ ، ومن هذا قيل
للعابد ناسك ، وقيل للذبيحة المتقرب بها إلى الله تعالى النسيكة ، كأنَّ
الأصل في النسك إنما هو من الذبيحة للَّهِ جلَّ وعزَّ.
وتقرأ أيضاً (وأرنا) على ضربين : بكسر الراءِ وبإسكانها والأجود الكسر.
وإنما أسكن أبو عمرو لأنه جعله بمنزلة فَخِذ وعَضُد وهذا ليس بمنزلة فخذ ولا
عضد ، لأن الأصل في هذا " أرْئِنَا " فالكسرة إنما هي كسرة همزة ألقيت.
وطُرحت حركتها على الراء فالكسرة دليل الهمزة ، فحذفها قبيح ، وهو جائز على بعده لأن الكسر والضم إنما يحذف على جهة الاستثقال.
فاللفظ بكسرة الهمزة والكسرة التي في بناءِ الكلمة واللفظ به واحد ، ولكن الاختيار ما وصفنا أولاً.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإنَهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130)
معنى (مَنْ) التقرير والتوبيخ ، ولفظها لفظ الاستفهام وموضعها رفع
بالابتداءِ ، والمعنى ما يرغب عن ملة إبراهيم إلا مَنْ سَفه نَفْسَه ، والملَّةُ قد
بيناها وهي السُّنَّة والمذهب ، وقد أكْثَر النحويونَ واختلفوا في تفسير (سفه
نفسه) ، وكذلك أهل اللغة ، فقال الأخفش : أهل التأويل يزعمون أن المعنى
(سَفَه نفسه) ، وقال يونس النحوي : أراها لغة ، . وذهب يونس إلى أن فَعِل
للمبالغة ، - كما أن فعُل للمبالغة فذهب في هذا مذهب التأْويل ، ويجوز على

(1/209)


هذا القول سَفِهْتُ زيداً بمعنى سَفهْتَ زيداً ، وقال أبو عبيدة معناه أهلك نفسه ، وأوْبَق نفسه ، فهذا غير خارج من مذهب أهل التأويل ومذهبِ يونس.
وقال بعض النحويين : إِن نفسه منصوب على التفسير ، وقال التفسير في النكرات أكثر نحو طاب زيدٌ بأمره نفسا ، وقَر بِه عيْناً وزعم أن هذه المُفَسِّرات المعارف أصل الفعل لها ثم نقل إِلى الفاعل نحو وجِعَ زيدٌ رأسَه ، وزعم أن أصل الفعل للرأس وما أشبهه ، وأنه لا يجيز تقديم شيءٍ من هذه المنصوبات وجعل (سفه نفسه) من هذا الباب.
قال أبو إسحاق : وعندي أن معنى التمييز لا يحتمل التعريف لأن التمييز
إِنما هو واحد يدل على جنسٍ أو خلة تخلص من خلال فإذا عرفه صار مقصوداً قصده ، وهذا لم يقله أحد ممن تقدم من النحويين.
وقال أبو إِسحاق : إِن (سفه نفسه) بمعنى سفُه في نَفْسه إِلا أن " في " حُذِفَتْ ، كما حذفت حروف الجر في غير موضع.
قال الله عزَّ وجلَّ : (ولا جناح عليكم أنْ تسترضعوا أولادكم).
والمعنى أن تسترضعوا لأولادكم ، فَحُذِفَ حرف الجرّ في غير
ظرف ، ومثله قوله عزَّ وجلَّ : (ولا تعزموا عقدة النكاح)
أي على عقدة النكاح
ومثله قول الشاعر :
نُغالي اللحمَ للأضيافِ نَيْئاً . . . ونَرْخُصُهُ إذا نَضِجَ القدورُ
المعنى : نغالي باللحم ، ومثله قول العرب : ضرب فلان الظهر والبطن

(1/210)


والمعنى : على الظهر والبطن . فهذا الذي استعمل من حذف حرف الجر
موجود في كتاب اللَّه ، وفي إشعار العرب وألفاظها المنثورة ، وهو عندي
مذهب صالح.
والقول الجَيِّد عندي في هذا أن سفه في موضع جهل ، فالمعنى :
- واللَّه أعلم - إلا من جهل نفسه ، أي لم يفكر فى نفسه.
كقوله عزَّ وجلَّ : (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ) ، فوضع جهِل.
وعدى كما عدى.
فهذا جميع ما قال الناس في هذا ، وما حضرنا من القول فيه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا).
معناه اخترناه ولفظه مشتق من الصفوة.
(وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ).
فَالصالحُ في الآخرة الفائز.
* * *
وقوله : (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131)
معناه اصطفاه إِذ قال له ربه أسلم : أي في
ذلك الوقت (قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ).
* * *
وقوله : (وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)
قوله : (بِهَا) هذه الهاءُ ترجعِ على الملة ، لأن إِسلامه هو إِظهار طريقته
وسنته ويدل على قوله : (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ) قوله : (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ).
وإنما كسرت " إنَّ) لأن معنى وصي وأوصى : قَوْل : المعنى
قال لهم إِن اللَّه اصطفى لكم الدين ، ووصى أبلغ من أوصى ، لأن أوصى
جائز أن يكون قال لهم مرة واحدة ، ووصَّى لا يكون إلا لمرات كثيرة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ).

(1/211)


إن قال قائل كيف ينهاهم عن الموت ، وهم إنما يمَاتُون ، فإنما وقع
هذا جملى سعة الكلام ، وما تكثر استعماله " العرب " نحو قولهم : " لا أريَنك
ههنا " ، فلفظ النهي إِنما هو للمتَكَلِّم ، وهو في الحقيقة للمُكَلَّمِ.
المعنى : لا تكونن ههنا فإن من كان ههنا - رأيته - والمعنى في الآية : ألزموا الإسلام ، فإذا أدرككم الموتُ صادَفكم مُسْلمين.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133)
ْالمعنى : بل أكنتم شهداءَ إذ حضر يعقوب الموت ، إذْ قَالَ لِبَنِيهِ "
فقولك : (إذ) الثانية ، موضعها نصب كموضع الأولى ، وهذا بَدَل مؤَكد.
وقوله : (قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ).
القراءَة على الجمع ، وقال بعضهم : (وإله أبيك) كأنه كره أن يجعل
العم أباه ، وجعل إِبراهيم بدلاً من أبيك مبيناً عنه ، وبخفض إسماعيل
وإسحاق ، كان المعنى إِلهك وإله أبيك وإله إسماعيل ، كما تقول : رأيت غلام
زيد وعمرو أي غلامهما ، ومن قال : (وَإِلَهَ آبَائِكَ) فجمع وهو المجتمع عليه ، جعل إبراهيم وإسماعيل وإِسحاق بدلًا ، وكان موضعهم خفضاً على البدل
المبين عن آبائك.
وقوله عزَّ وجلَّ : (إِلَهًا وَاحِدًا).
منصوب على ضربين : إن شئت على الحال ، كأنهم قالوا نعبد : إلهك
في حال وحدانيته ، وإِن شئت على البدل.
وتكون الفائدة من هذا البدل ذكر التوحيد ، فيكون المعنى نعبد إِلهاً واحداً .

(1/212)


وقوله عزَّ وجلَّ : (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134)
معنى (خَلَتْ) مضت ، كما تقول لثلاث خلون من الشهر أي مضين.
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ).
المعنى : إنما تسألون عن أعمالكم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135)
المعنى : قالت إليهود : كونوا هوداً ، وقالت النصارى : كونوا نصارى.
وجزم تهتدوا على الجواب للأمر ، وإنما معنى الشرط قائم في الكلمة.
المعنى إن تكونوا على هذه الملة تهتدوا ، فجزم تهتدوا على الحقيقة جواب
الجزاءِ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (بَلْ مِلةَ إبرَاهِيمَ حَنِيفاً).
تنصب الملة على تقدير بل نتبعُ ملة إِبراهيم ويجوز أن تنصب على
معنى : بل نكون أهل ملة إِبراهيم ، وتحذف " الأهل " كما قال الله عزَّ وجلَّ : (واسْألِ الْقَرْيَةَ الًتِي كُنَّا فِيهَا) لأن القرية لا تُسْأل ولا تجيب.
ويجوز الرفع (بل ملةُ إِبراهيم حنيفاً).
والأجود والأكثر : النصب . ومجاز الرفع على معنى : قل ملتُنا ودينُنُا ملة إبراهيم ، ونصب (حنيفاً) على الحال.
المعنى : بل نتبع ملة إِبراهيم في حال حنيفَتِه ، ومعنى الحنيفة في اللغة الميل.
فالمعنى : أن إبراهيم حنيف إِلى دين اللَّه ، دين الِإسلام.
كما قال عزَّ وجلَّ : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ) فلم يبعث نبي إِلا به.
وإن اختلفت شرائعهم ، فالعقد توحيد اللَّه عزَّ وجلَّ والإيمان برسله وِإن اختلفت الشرائع ،

(1/213)


إلا أنَّه لا يجوز أن تُتركَ شريعة نبي ، أو يعمل بشريعة نبي قبله تخالف شريعة
نبي الأمة التي يكون فيها.
وإِنما أخذ الحنفُ من قولهم : - امراة حَنْفَاءُ ورجل أحْنَف ، وهو الذي
تميل قدماه كل واحدة منهما بأصابعها إِلى أختها بأصابعها ، قالت أم الأحنف
بن قيس وكانت ترقصه ، وخرج سيدَ بَنِي تميم : -
والله لولا حَنَف في رجله . . . ودقة في ساقه من هُزْلِه
ما كان في فِتْيانِكم منْ مِثْله
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)
(لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ)
المعنى : لا نكفر ببعض ونؤمن ببعض.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137)
فإِن قال قائل : فهل للإيمان مِثْلٌ هو غير الِإيمان ؟
قيل له : المعنى واضح بين ، وتأويله : فإِن أتَوْا بتصديق مثل تصديقكم وإِيمانكم - بالأنبياءِ ، ووحَّدوا كتوحيدكم - فقد اهتدوا ، أي فقد صاروا مسلمين مثلكم.
(وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ) أي في مشاقة وعداوة ومن هذا قول
الناس : فلان قد شق عصا المسلمين ، إِنما هو قد فارق ما اجتمعوا عليه من
اتباع إِمامهم ، وإِنما صار في شق - غير شق المسلمين.
وقوله جمزّ وجلَّ : (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ).
هذا ضمان من اللَّه عزَّ وجلَّ في النصر لنبيه - صلى الله عليه وسلم - لأنه إِنما يكفيه إِياهم

(1/214)


بإظهار ما بعثه به على كل دين سواه - وهذا كقوله : (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) فهذا تأويله - واللَّه أعلم.
وكذا قوله : (كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي).
فإن قال قائل فإن من المرْسَل مَنْ قُتِل.
فإن تأويل ذلك - والله أعلم - أن اللَّه غالب هو ورسله بالحجة الواضحة ، والآية البينة ، ويجوز أن تكون غلبةَ الآخرة لأن الأمر هو على ما يستقر عليه في العاقبة.
وقد قيل : إِن الله لم يأمر رسولاً بحرب فاتبع ما أمره الله به في حربه إِلا غَلَب . فعلى هذا التأويل يجوز أن يكون لم يقتل رسول قط محارباً.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138)
يجوز أن تكون (صبغة) منصوبة على قوله : (بل نتبع ملة إبراهيم) أي
بل نتبع صبغة اللَّه.
ويجوز أن يكون نصبها على ، بل نكون أهل صبغة الله.
كما قلنا في ملة إبراهيم ، ويجوز أن ترفع الصبغة على إضمار هي ، كأنهم
قالوا : هي صبغة اللَّه أي هي ملة إِبراهيم صبغة الله.
وقيل : إِنما ذكرت الصبغة لأنَّ قوماً من النصارى كانوا يصبغون أولادهم في ماءٍ لهم ، ويقولون هذا تطهير كَمَا أن الختان تطهير لكم : فقيل لهم - : (صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً) ، أي التطهير الذي أمر به مبالِغٌ في النظافة.
ويجوز أن يكون - واللَّه أعلم - صبغة الله أي خلقة اللَّه - جلَّ وعزَّ -
الخلق ، فيكون " المعنى : . أن اللَّه ابتدأ الخلق - على الِإسلام ، ويكون دليل هذا القول قول الله عزَّ وجلَّ : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى).
وجاءَ في الحديث : أنهم

(1/215)


أخرجهم كالذر ، ودليل هذا التأويل أيضاً قوله عزَّ وجلَّ : (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَ) ويجوز أن يكون منه " الخبر :
" كل مولودٍ يُولَد على الفطرة حتى يكون أبواه
هما اللذان يهودانه أو ينصرانه "
وصبغت الثوب إِنما هو غيرت لونه وخلقته.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139)
في (أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ) لغات فأجودها : (أتحاجوننا) بنونين وإن شئت
بنون واحدة - " أتُحَاجُونَّا " على إدغام الأولى في الثانية وهذا وجه جيد ، ومنهم من إِذا أدغم أشار إِلى الفتح كما قراوا : (مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ) على الإدغام والِإشارة إِلى الضم ، وإِن شئت حذفت إِحدى النونين فقلت
(أتحاجونَا) فحذف لاجتماع النونين قال الشاعر :
تراه كالثغام يُعَلُّ مسكا . . . يسوءِ الغانِيات إِذَا فَليني
يريد فَلَيْنَنَي ، ورأيت مذهب المازني وغيره ردُّ هذه القراءَةَ ، وكذلك
ردُّوا (فبم تبشرونِ) - قال أبو إِسحاق " والأقدام على رد هذه القراءَة غلط
لأن نَافِعاً رحمه الله قرأ بها ، وأخبرني إِسماعيل بن إسحاق أنَّ نافعاً رحمه اللَّه

(1/216)


لم يقرأ بحرف إلا وأقل . ما قرأ به إثنان من قراءِ المدينة ، ولَه وجْه في العربية
فلا ينبغي أن يرد ، ولكن " الفتح " في قوله (فبم تبشرونَ) أقوى في العربية.
ومعنى قوله : (قلْ أتُحاجُّونَنَا فِي اللَّهِ) أن الله عزَّ وجلَّ أمر المسلمين أن
يقولوا لليهود الذين ظاهروا من لا يوحد اللَّه عزَّ وجلَّ مِن النًصارى وعبدةِ
الأوْثَانِ ، فأمر الله أن يحتج عليهم بأنكم تزعمون أنكم موحدون ، ونحن نوحّد فلم ظَاهرْتُمْ مِن لا يوحِّدُ الله جلَّ وعزَّّ
(وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ).
ثم أعلموهم أنهم مخلصون ، وإخلاصهم إِيمانهم بأن الله عزَّ وجلّ
واحد ، وتصديقهم جميع رسله ، فاعلموا أنهم مخلصون ، دون من خالفهم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140)
كَأنَّهُمْ قَالُوا لَهُم : بأيِّ الحُجتَين تَتَعَلَّقُون في أمْرِنَا ؟
أبالتوحِيد فنحن موحدون ، أم باتباع دين الأنبياءِ فنحن متبعون.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ).
تأويله : أن النبى الذي أتانا ب (الآيات) المعجزات وأتاكم بها -
أعلمكم ، وأعلمنا أن الإِسلام دين هُؤلاءِ الأنبياءِ.
والأسباط هم " " الذين من ذرية الأنبياءِ ، والأسباط اثنا عشر سِبْطاً وهم ولد
يعقوب عليه السلام ، ومعنى السبط في اللغة : الجماعة الذين يرجعون إلى
أب واحد ، والسبط في اللغة الشجرة ، فالسبط ، الذين هم من شجرة واحدة .

(1/217)


وقوله : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ).
يعني بهم هُؤلاءِ الذين هم علماء إليهود ، لأنهم قد علموا أن رسالة
النبي حق ، وإِنما كفروا حسداً - كما قال الله عزَّ وجلَّ - وطلبا لدوام رياستهم وكسبهم ، لأنهم كانوا - يتكسبون بإِقامتهم على دينهم فقيل
وَمَنْ أظَلَمُ مِمَن كَتَمُ أمرَ النّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ولا أحدَ أظْلَم مِنْه وقوله : (وَمَا اللَّه بغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُوْنَ).
يعني : من كتمانكم ماعلمتمه من صحة أمرالنبي - صلى الله عليه وسلم -.
* * *
وقوله : (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (141)
المعنى : لها ثواب ما كسبت ، ولكم ثواب ما كسبتم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142)
فيه قولان ، قيل يعني به :
كفار أهل مكة ، وقيل يعني به : إليهود والسفهاءَ واحدهم سفيه ، - مثل شهيد وشهداءُ ، وعليم وعلماءُ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا)
معنى ؛ (مَا وَلَّاهُمْ) : ما عدلهم عنها يعني قبلة بيت المقدس.
لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أُمِرَ بالصلاة إِلى بيت المقدس ، لأن مكة وبيت الله الحرام كانت العرب آلِفةً
لِحجّهِ ، فأحبَّ اللَّهُ - عزَّ وجلَّ - أن يمتحن القوم بغير ما ألفوه ليظهر من يتبع
الرسول - صلى الله عليه وسلم - ممن لا يتبعه ، كما قال اللَّه عزَّ وجلَّ : (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ)
فامتحن الله ببيت المقدس فيما روى لهذه العلة ، والله أعلم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ).
معناه حيث أمر الله أن يُصَلَّى وُيتَعَبَّدُ ، فهو له ، وعالم به ، وهو فيه كما

(1/218)


قال : (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3)
وكما قال : (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ).
وكما قال : (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)
معناهّ : طريق مستقيم كما يحبُّ الله.
* * *
وقوله : (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143)
معنى الأمة : الجماعة أي جماعة كانت إلا أن هذه الجماعة وصفت
بأنها وسط.
وفي (أُمَّةً وَسَطًا) قولان ، قال بعضهم وسطا : عدلًا ، وقال بعضهم :
أخياراً ، واللفظان مختلفان والمعنى واحد ، لأن العدل خير والخير عدل.
وقيل في صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - : إنه من أوسط قومه جِنْساً ، أي من خيارها ، والعرب تصف الفَاضِل النسب بأنه : من أوسط قومه ، وهذا يعرف حقيقته أهل اللغة لأن العرب تستعمل التمثيل كثيراً "
فتمثل القبيلة بالوادي والقاع وما أشبهه فخير
الوادي وسطه فيقال : هذا من وسط قومه ، ومن وسط الوادي ، وسَررِ الوادي وسِرَارة الوادي وسر الوادي ، ومعناه كله : من خير مكان فيه ، فكذلك النبي - صلى الله عليه وسلم -
من خير مكان في نسب العرب
(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) أي خياراً
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ)
(تَكُونُوا) في موضعْ نصب.
المعنى جعلناكم خياراً لأن شهداءَ ، فنصب " تكونوا " " بأن.
و (شهداءَ) نصب خبر تكونوا ، إِلا أن (شهداءَ)

(1/219)


لا ينون ، لأنه لا يَنصرِف لأن فيه ألفَ التأنيث ، وألف التأنيث يبنى معها
الاسم ولم يلحق بعد الفراغ من الاسم فلذَلك لمْ تَنصَرِفْ (شهداءَ).
فإن قال قائل : فلم جعل الجمع بألف التأنيث قيل : كما جعل التأنيث في نحو
قولك جَريب وأجْربة ، وغراب وأغربة وضارب وضَرَبَة ، وكَاتِب وكَتبَة.
وتأويل (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى الناسِ) فيه قولان : جاءَ في التفسير أن أممَ
الأنبياءِ تكذب في الآخرة إذا سُئِلت عمن أرسل إليها فتجْحَدُ أنبياءَها ، هذا
فَيمنَ جحد في الدنيا منهم فتشهد هذه الأمة بصدق الأنبياءِ ، وتشهد عليهم
بتكذيبهم ، ويشهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لهذه الأمة بصدقهم وإنَّما جازت هذه الشهادة ، وإن لم يكونوا ليعاينوا تلك الأمم لأخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - فهذا قول.
وقال قوم (لِتَكونُوا شهَداءَ عَلَى النَّاسِ) أي محتجين على سائر من خالفكم ، ويكون الرسول محتجاً عليكم ومبيناً لكم.
والقول الأول : أشبه بالتفسير وأشبه بقوله : (وَسَطاً)
لأن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يحتج عَلَى المسلمين وغيرهم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ).
يعني قِبْلَة بيتِ المقدِس ، أي وإن كان اتباعها لكبيرة.
المعنى إنه كبير على غير المخلصين ، فأما من أخلص فليست بكبيرة عليه ، كما قال : (إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ) أي فليست بكبيرة عليهم.
وهذه اللام دخلت على " إِنْ " لأن اللام
إِذا لم تدخل مع إِنْ الخفيفة كان الكلام جُحْداً فلولا " اللام " كان المعنى
" ما كانت كبيرة " فإِذا جاءَت إِن واللام فمعناه التوكيد للقصة ، واللام تدخل في

(1/220)


الخبر ، ونحن نشرح دخولها على " الخفيفة " في موضعها إن شاءَ اللَّه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ).
هذه اللام أهي ، التي يُسميها النحويون لام الجحود ، وهي تنصب الفعل المستأنف.
وقد أحكمنا شرحها قبل هذا الموضوع.
ومعنى : (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) : أي من كان صَلَّى إلَى بيْتِ
المقدس قبل أن تُحوّل القبلة إِلى البيت الحرام بمكة فصلاتُه غير ضائعة وثوابه
قائم ، وقيل : إِنَّه كان قوم قالوا : فما نَصنع بصَلاتِنَا التي كنا صليناها إلى بيت المقدس ، فأنزل اللَّه عزَّ وجلَّ : (ومَا كَانَ اللَّه ليُضِيعَ إيَمَانَكُمْ)
أي تصديقكم بأمر تلك القبلة.
وقيل أيضاً : إِنَّ جماعة . من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - تُوفُّوا وهم يصلون إِلى بيت المقدس قبل نقل القبلة إلى بيت اللَّه الحرام ، فسئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن صلاتهم فأنزل الله عزَّ وجلَّ :
(وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ)
إِن شئت قلت لرؤوف ، وإِن شئت لرووف رحيم.
فهمزت وخففت ومعنى الرأفة كمعنى الرحمة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)
المعنى : في النظر إلى السماءِ ، وقيل : تقلب عينك ، والمعنى واحد
لأن التقلب إنما كان لأن - النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بترك الصلاة إِلى بيت المقدس فكان ينتظر أن ينزل عليه الوحي إلى أي قبلة يُصَلِّي ، وتقلب مَصْدر تَقَلَّبَ تقلُّباً ، ويجوز في الكلام تِقْلَاباً ، ولا يجوز في القرآن لأنه تغيير للمصْحفَ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا) :

(1/221)


قد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة حين أمر بأن ينتقل عن الصلاة إِلى بيت المقدس ، فأمر بأن يصلي إِلى بيت اللَّه الحرام ، وقيل في قوله : (ترضاها) قولان قال قوم معناه تحبها ، لا أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن راضياً بتلك القبلة ، لأن كل ما أمر الله الأنبياءَ " عليهم السلام " به فهي - راضية به - وإِنما أحبها النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنها كانت - فيما يروى - قبلة الأنبياءِ ، وقيل لأنها كانت عنده ادعى
لقومه إِلى الِإيمان.
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَولِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ)
أي المسجد الحرام ، فأمر أن يستقبل - وهو بالمدينة - مكة ، والبيت الحرام ، وأمر أن يستقبل البيت حيث كان الناس ، ومعنى الشطر : النحو.
وشطر منصوب على الظرف.
قال الشاعر :
إِنّ العَسِيرَ بها داءٌ يخامرها . . . فَشَطْرَها نظر العينين محسور
أي فنحوَها ، ولا اختلاف بين أهل اللغة أن الشطر النحو ، وقول الناس
فلان شاطر ، معناه " قد أخذ في نحو غير الاستواءِ ، فلذلك قيل شاطر لعدوله
عن الاستواءِ ، يقال قد شطر الرجل يشطُر شِطَارة وشَطَارة ، ويقال : هؤلاءِ قوم مشاطرونا أي دورهم تتصل بدورنا - ، كما تقوِل هؤلاءِ يناحوننا أي نحن نحوهم ، وهم نحونا ، فلذلك هم شاطرونا.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ)

(1/222)


إِن قال قائل ما معنى : (إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ)واللَّه عزَّ وجلَّ - قد علم ما يكون قبل كونه ؟
فالجواب في ذلك أن اللَّه يعلم من يتبع الرسول مِمن لا يتبعه من قبل وقوعه وذلك العلم لا تجب به مجازاة في ثواب ولا عقاب ولكن المعنى ليعلم ذلك منهم شهادة فيقع عليهم بذلك العلم اسمُ مطيعين واسمُ عاصين ، فيجب ثوابهم على قدر عملهم.
ويكون معلومُ مَا في حال وقوع الفعل منهم علم شهادة - كما قال عزَّ وجلَّ : (عَالمُ الغَيْبِ والشَهَادَةِ) فعلمه به قبل وقوعه علم غيب ، وعلمه به في
حال وقوعه شهادة ، وكل ما علمه الله شهادة فقد كان معلوماً عنده غيباً ، لأنه يعلمه قبل كونه ، وهذا يبين كل ما في القرآن مثله نحو قوله تعالى :
(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145)
زعم بعض . النحويين ، أن " لَئِنْ " أجِيب بجواب " لوْ " لأن الماضي وَليها
كما وَليَ " لو " فأجيب بجواب " لو " ودخلت كل واحدة منها على أختها
قال اللَّه عزَّ وجلَّ : (وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51).
فجرت مجرى : " وَلَوْ أرْسَلْنَا رِيحاً " وكذلك قال الأخفش بهذا

(1/223)


القول ، قال سيبويه وجميع أصحابه : إن معنى (لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ).
ليظَلُّنَّ ومعنى (لَئِنْ) غير معنى " لو " في قول الجماعة ، وإِن كان هؤُلاءِ قالوا
إِنَّ الجواب متفِق فإِنهم لا يدْفعون أن معنى (لئن) مايستقبل ومعنى " لو " ماض
وحقيقة معنى " لو " أنها يمتنع بها الشيء لِامتناع غيره ، تقول لو أتيْتني
لأكْرمتُك ، أي لم تأتني فلمْ أكرمكَ ، فإِنما امتنع إكرامي لامتناع إِتيانك.
ومعنى " إِنْ " و (لئِنْ) أنه يقع الشيء فيهما ، لوقوع غيره في المستقبل
تقول إِنْ تأتِنِي اكْرِمْكَ ، فالإكرام يقع بوقوع الِإتيان فهذه حقيقة معناهما.
فأما التأويل فإنّ أهل الكتاب قد علموا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حق وأن صفته ونبوته في كتابهم ، وهم يحققون العلم بذلك فلا تغني الآيات عند من يجد ما يعرف.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ).
لأن أهل الكتاب تظاهروا على النبي - صلى الله عليه وسلم - واليهودُ لا تتبع قبلة النصارى ، ولا النَصارى تتبع قبلة إليهود ، وهم مع ذلك في التظاهر على النبي متفقون.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ)).
أي أنك لمنهم أن اتبعتَ أهواءَهم . وهذا الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولسائر أُمَّتِه ، لأن ما خوطب به (مِنْ هذَا الجنس) فقد خوطب به الأمة والدليل على ذلك قوله عزَّ وجلَّ : يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ)
أول الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - وليس معه لفظ الأمة ، وآخره دليل أن الخطاب عام .

(1/224)


وقوله عزَّ وجلَّ : (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146)
يعني به علماءُ إليهود . و (الذين) رفع بالابتداءِ ، وخبر (الذين) - (يَعْرفونَه) ، وفي (يَعْرفونَه) قولان : قال بعضهم : يعرفون أن أمر القبلة وتحول النبي - صلى الله عليه وسلم - من قِبلِ بيتِ المقدس إِلى البيت الحرام حق.
كما يعرفون أبناءَهم.
وقيل معنى (يَعْرفونَه) يعرفون النبي - صلى الله عليه وسلم - وصِحة أمره.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)
أي يعلمون (أنَّهُ الحقُّ) ، أي يكتمون صِفَتَهُ ، ومن لا يعلم أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - وما جاءَ به
(وهم يعلمون) أنَّهُ الحقُّ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147)
أَي من الشاكين والخطاب أيضاً عام أي فلا تكونوا من
الشاكين.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)
يقال هذه جِهةٌ ووَجْهةٌ ، ووِجْهَةٌ ، وكذلك يقال ضَعَة وَوَضْعَةٌ ، وَضِعةَ.
وقيل في قوله : (هُوَموليًهَا) قَوْلَان : قال بعض أهل اللغة - وهو أكثر القول - " هو " لِكُل : المعنى هو موليها وجهه ، أي وكل أهل وجهة هم الذين ولوا وجوههم إِلى تلك الجهة - وقد قرئ أيضاً - هو مُوَلَّاها . وهو حسن. وقال قوم : أي اللَّه - على ما يزعمون - يولي أهل كل ملة القبلة التي يريد ، وكلا القولين جائز ، واللَّه أعلم.
وقوله عزَّ وجلَّ : (فاسْتَبِقُوا الخَيراتِ).

(1/225)


أي فبادروا إلى القبول من - الله عزَّ وجلَّ ، ووَلُّوا وجوهكم حيث أمركم أن
تولوا.
وقَوله عزَّ وجلَّ : (أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا).
أي يرجعكم إِليه.
(إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فَتُوفَوْنَ مَا عَمِلتُمْ
وأينما تَجزم ما بعدها . لأنها إِذا وصلت ب " ما " جزمت ما بعدها
وكان الكلام شرطاً.
وكان الجواب جزماً كالشرط.
وإِن كانت استفهاماً نحو أين زيد فإِن أجبته -
أجبت بالجزم ، تقول أين بيتك أزُرْك.
المعنى إِنْ أعرف بَيتَك أزرْكَ.
وزعمَ بعض النحويين أن قوله : (هّلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) جوابه (يَغْفِرْ لَكُمْ)
وهذا خطأٌ لأنه ليست بالدلالة تَجب المغفرة إِنما تجب المغفرة
بقبولهم ما يُؤَدي إِليهم النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ولكن (يغفر لكم ذنوبكم) جواب (تؤمنونَ باللَّه ورسوله وتجاهدون).
فإِنه أَمرٌ في لفظ خبر.
المعنى : آمنوا باللَّه ورسوله وجاهدوا يغْفِرْ لكُمْ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150)
(لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ)
أي قد عرفكم اللَّه أمر الاحتجاج في القبلة مما قد بيَّنَّاه لئلا يَكون
للناس على اللَّه حجة في قوله : (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا) أي هو موليها
لئلا يكون.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (إِلَّا الَّذِينَ ظَلمُوا مِنْهُم فلا تَخْشَوْهُمْ).
قال بعضهم لكن الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم ، والقول عندي أن
المعنى في هذا واضح : (المعنى لئلا يكون للناس عليكم حجة ، إِلا من ظلم

(1/226)


باحتجاجه فيما قد وضح له ، كما تقول : ما لك على مِنْ حُجة إِلا الظلمَ ، أي إلا أن تظلمني ، المعنى ما لك عليَّ من حجة ألبتَّة ، ولكنك تظلمني ، وما لك على حجة إِلا ظلمي . وإِنما سُميّ ظلمة هنا حجة لأن المحتج به سماه
حجة - وحجَّتُه دَاحِضَةٌ عِنْدَ اللَّهْ ، -
قال اللَّه عزَّ وجلَّ : (حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ).
سميت حجة إلا أنها حجة مُبْطلَة.
ْفليست بحجة موجبة حقاً.
وهذا بيانٌ شاف إِن شاءَ اللَّه.
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ) أي عرفتكم لئلا يكون عليكم
حجة (وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ) ، (وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ).
* * *
وقوله عزَّ ونجل : (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151)
(كَمَا) تصلح أن تكون جواباً لما قبلها ، فيكون : (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)
(كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ).
والأجود أن تكون (كَمَا) معلقة بقوله عزَّ وجلّ
(فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ).
أي فاذكروني بالشكر والإِخلاص كما أرسلنا فيكُمْ.
فإن قال قائل فكيف يكون جواب " (كَمَا أَرْسَلْنَا) (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ)، فالجواب ههنا إنما يصلح أن يكون جوابين لأن قوله ، (فَاذْكُرُونِي) أمر ، وقوله (أَذْكُرْكُمْ) جزاءُ اذكروني :
والمعنى إن تذكروني أَذْكُرْكُمْ. .

(1/227)


ومعنى الآية أنها خطاب لمشركي العرب ، فخاطبهم اللَّه عزَّ وجلَّ بما
دلهم على إِثبات رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال كما أرسلنا فيكم محمداً - صلى الله عليه وسلم - وهو رجل
منكم أُمِّي تعلمون أنه لم يتل كتاباً قبل رسالته ولا بعدها إلا بما أوحي إليه.
وإنكم كنتم أهل جاهلية لا تعلمون الحكمة ولا أخبار الأنبياءِ ، ولا آبائهم
ولا أقاصيصهم . فأرسل إِليكم النبي - صلى الله عليه وسلم - فأنبأكم بأخبار الأنبياءِ ، وبما كان من أخبارهم مع أممهم ، لا يدفع ما أخبر به أهل الكتاب ، فكما أنعمت عليكم بإِرساله فاذكروني - بتوحيدي ، وتصديقه - صلى الله عليه وسلم - (واشكروا لي) أذكركم برحمتي
ومغفرتي والثناءِ عليكم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلا تَكْفُرونِ).
الأكثر الذي أتى به القُرَّاءُ حذف الياءات مع النون.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)
(يَا أَيُّهَا) نداء مفرد مبهم و (الذين) في موضع رفع صفة لـ (أَيُّهَا).
هذا مذهب الخَليل وسيبويه ، وأما مذهب الأخفش.
فالذين صلة لأي وموضع الذين رفع بإِضمار الذكر العائد على أي كأنَّه على
مذهب الأخفش بمنزلة قولك : يا من الذين ، أي يا من هم الذين.
و " ها " لازمة لأي عوض عما حذف منها للِإضافة ، وزيادة في التنبيه.
وأي في غير النداءِ لا يكون فيها " هاء " ويحذف معها الذكر العائد عليها ، تقول أضرب أيُّهم أفضل ، وأيُّهم هو أفضل - تريد الذي هو أفضل.
وأجاز

(1/228)


المازني أن تكون صفة أي نصباً.
فأجاز : يا أيها الرجُلَ أقبل ، وهذه الِإجازة غير
معروفة في كلام العرب ، ولم يجز أحد من النحويين هذا المذهب قبله ، ولا
تابعة عليه أحد بعده - فهذا مطروح مرذول لمخالفته كلام العرب والقرآن وسائر الأخبار.
ومعنى (استعينوا بالصبر والصلاة) أي بالثبات على ما أنتم عليه.
وإن نالكم فيه مكروه في العاجل ، فإِن الله مع الصابرين.
وتأويل إن اللَّه مَعَهُمْ أي يظهر دينه على سائر الأديان.
لأن من كان الله معه فهو الغالب - كما قال عزَّ وجلَّ :
(فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ).
ومعنى استعينوا بالصلاة ، أي أنكم إِذا صليتم تلوتم في صلاتكم ما
تعرفون به فضل ما أنتم عليه فكان ذلك لكم عوناً.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154)
بإضمار مكنيهمْ ، أي لا تقولوا هم أموات ، فنهاهم اللَّهْ أن يُسَمُّوا من قتل في سبيل الله ميْتاً ، وأمرهم بأن يسموهم شُهداءَ - فقال :
(بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ)
فأعلمنا أن من قتل في سبيل اللَّه حي.
فإِن قال قائل : فما بالنا نرى جثة غير مُتَصرفة ؟
فإِن دليل ذلك مثل ما يراه الإنسان في منامه ، وجثته غير متصرفة على
قدر ما يُرى واللَّه عزَّ وجلَّ قد توفى نفسه في نومه فقال تعالى :
(اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا).
وينتبه المنتبه من نومه فيدركه الانتباه وهو في بقية من ذلك ، فهذا دليل أن أرواح الشهداءِ جائز أن

(1/229)


تفارق أجسامهم ، وهم عند اللَّه أحياءٌ ، فالأمر فيمن قُتِلَ في سبيل الله لا
يجب أن يقال له ميت لكن يقال له شهيد وهو عند الله حى.
وقد قيل فيها قول غير هذا - وهذا القول الذي ذكرته آنفاً هو - الذي أخْتَاره -.
قالوا معنى الأموات أي لا تقولوا هم أموات في دينهم ، بل قولوا إِنهم أحْياءٌ في دينهم.
وقال أَصحاب هذا القول : دليلنا والله أعلم - قوله : (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا) فجعل المهتدي حياً وانَّه حين كان على الضلالة كان ميتاً ، والقول الأول أشبه بالدين وألْصقُ بالتفسير.
قوله عزَّ وجلَّ : (وَلنَبْلُوَنَكُمْ بشَي منَ الخَوفِ وَالجُوع).
(إختلف النحويون في فتح هذه الواوي) فقال سيبويه : إنها مفتوحة لالتقاءِ
السَّاكنين ، وقالّ غيره من أصحابه أنها مبنيه علي الفتح ص* وقَدْ قال سييويه في لام
يفعل ، لأنها مع ذلك قد تبنى على الفتحة ، فالذين قالوا من أصحابه إِنها مبنية
على الفتح غير خارجين من قول له . وكلا القولين جائز . : +
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155)
ولم يقل بأشياءَ ، فإِنما جاءَ على الاختصار ، والمعنى يدل على أنَّه وشيءٍ من
الخوف وشيءٍ من الجوع وشيءٍ من نقص الأموال والأنفس ، وإِنما جعل الله هذا

(1/230)


الابتلاءَ لأنه أدْعى لمن جاءَ بعد الصحابة ومن كان في عصر - صلى الله عليه وسلم - إِلى اتباعهم لأنهم يعلمون أنه لا يصبر على هذه الأشياءِ إِلا من قد وضح له الحق وبانَ له البرهان ، - واللَّه عزَّ وجلَّ - يعطيهم ما ينالهم من المصائب في العاجل والآجل ، وما هو أهم نفعاً - لهم فجمع بهذا الدلالة على البصيرة وجوز الثواب للصابرين على ذلك الابتلاء فقال عزَّ وجلَّ :
(وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) : بالصلاة عليهم من رَبِّهم والرحمة وبأنهم المهتدون -
فقال عزَّ وجلَّ : (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156)
أي نحن وأموالنا للَّهِ ونحن عبيده يصنع بنا ما شاءَ ، وفي ذلك صلاح لنا وخيرٌ.
(وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) : أي نحن مصدقون بأنا نُبْعث ونُعْطي الثًوابَ على
تصديقنا ، والصبرَ علَى ما ابتَلَانا به.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)
والصلاة في اللغة على ضرببن : أحدهما الركوع والسجود ، والآخر الرحْمَةُ
والثناءُ والدعاءُ - فصلاةٌ الناس على الميت إِنما معناها الدعَاءُ والثناء على الله
صلاة ، والصلاة من اللَّهْ عزَّ وجلَّ على أنبيائه وعباده معناها الرحمة - لهم ، والثناء عليهم ، وصلاتنا الركوع والسجود كما وصفنا.
والدعاءُ صلاة قال الأعشى :
عليك مثل الذي صليتِ فاغتَمِضِي . . . نَوماً فإِن لجنب المرءِ مضطجعاً
ويروى مثل الذي صليت ، فمن قال عليك مثل الذي صليت ، فمعناه

(1/231)


أنه يأمرها بأن تدعو له مثل الذي دعا لها . أي تعيد الدعاءَ له
ومن روى عليك مثل الذي صليتِ فهو رَد عليها.
كأنه قال عليك مثل دعائك ، أن ينالك من
الخير مثلُ الذي أرَدْتِ لِي بهذه ودعوتِ به لي -
وقال الشاعر :
صَلى على يحيى وأشْيَاعِه . . . رَبٌّ كَرِيمٌ وَشَفِيعٌ مُطَاع
المعنى عليه الرحمة من اللَّه والثناءُ الجميل.
وأصل هذا كله عندي من اللزوم يقال صَلِيَ وأصْلَى واصْطَلى ، إذَا لَزِم . ومن هذا ما يُصْلى في النار ، أىِ أنه يلزَم.
وقال : أهل اللغة في الصلاة هي من الصَّلْوينِ ، وهما مُكتَنفَا ذَنب الناقة.
وأول موصل الفخذ من الإنسان ، وكأنهما في الحقيقة مُكتنف العُصْعُص.
والأصل عندي القول الأول.
ألا ترى أن الاسم للصيام هو الِإمساك عن الطعام والشراب ، وأصل
الصيام الثبوت على الإمساك عن الطعام ، وكذلك الصلاة إنما هي لزوم ما
فرض اللَّه ، والصلاة من أعظم الفَرْضِ الذي أمَرَ بلزومه وأما المصلي الذي يأتي في أثر السابق منَ الخَيْل فهو مسمى من الصلوين لا محالة ، وهما مكتنفا ذنب الفرس ، فكأنة يأتي مع ذلك المكان.
- قال الشاعر في الصيام الذي هو ثبوت على القيام :
خَيْل صيام وخيل غير صائمة . . . تحت العجاج وخيل تعلك اللجما
وقوله تعالى : (وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ).

(1/232)


الأكثرون في قوله : (إِنَّا لِلَّهِ) - تفخيم الألف ولزوم الفتح - وقد قيل وهو
كثير في كلام العرب إِنَّ اللَّه بإِمالة الألف إلى الكسر ، وكان ذلك في هذا
الحرف بكثرة الاستعمال ، وزعم بعض النحوين أن النون كسرت ، ولم يفهم ما قاله القوم . إنما الألف ممالة إِلى الكسرة.
وزعم أن هذا مثل قولهم :
" الحمدِ لله " ، فهذا صواب أعني قولهم (إِنَّا لِلَّهِ) بالكسر وقولهم " الحمدِ لله من أعظم الخطأ ، فكيف يكون ما هو صواب بإجماع كالخطأ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158)
الصفا في اللغة الحجارةُ الصلبة الصلدة التي لا تنبت شيئاً ، وهو جمع
واحدته ضفاة وصفا ، مثل حصاة وحصى ، والمروة والمرو : الحجارة اللينة.
وهذان الموضعان من شَعَائِر اللَّه ، أي من أعلام متعبداته وواحدةُ الشعائر
شَعِيرة ، والشعائر كلى ما كان منَ موقف أو مسْعى وذبحْ.
وإنما قِيلَ شَعَائِرَ لِكُل علَم لما تُعُبد به ، لأن قَوْلهمْ شَعَرْتُ بِهِ : عَلِمْتهُ ، فلهذَا سُمِّيَتُ الأعلَام التي هِيَ متعبّدَات شَعَائِرُ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا).
وإنما كان المسلمون اجتنبوا الطواف بينهما لأن الأوثان كانت قبل
الإسلام منصوبة بينهما ، فقيل إنَّ نَصْبَ الأوثان بيتهما قبل الإسلام لا يوجب

(1/233)


اجتنابهما ، لأن البيت الحرام والمشاعر طُهِّرت بالِإسلام من الأوثان وغيرها.
فأعملَم اللَّهُ عزَّ وجلَّ أن هذين من شعائره وأنه لا جُناح في الطوافِ بينهما وأن من تطوع بذلك فاللَّهُ شاكر عليم.
والشكر من الله عزَّ وجلَّ المجازاة والثناءُ الجميل ، والحج والعمرة يكونان
فرضاً وتطوعاً - والطواف بالبيت مجْراهُ مجرى الصلاة إِلا أنه يطوفُ بالبيت الحاجُّ والمعتمر ، وغيرُ الحاجِّ والمعتمر ، ومعنى قولهم حَجَحْتُ في اللغة قَصَدْتُ ، وكل قاصدٍ شيئاً فقد حَجَّهُ ، وكذلك كل قاصدٍ شيئا فقد اعتَمرهُ ، قال الشاعر :
يحجُ مأمومةً في قَعْرِها لَجَفٌ . . . قَاست الطبيب قَذاها كالمغاريدِ
وقال الشاعر في قوله اعتمر أي قصد :
لقد سما ابن معمر حينَ اعتمرْ . . . مغزىً بعيداً من بعيدٍ وضَبَر
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا).
أي لا إثم عليه ، والجُناح - أُخِذَ من جنح إِذَا مال وعدل عن القصد وأصل
ذلك من جناح الطائر ، و (أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا) فيه غير وجه : يَجوز أن يطَوَّف وأن يُطَوِّف ، وأن يطُوف بهما ، فمن قرأ أن يُطَوِّف بهمَا أراد أن يتطوف فأدمِغت التاء في الطاء لقرب المخرجين ، ومن قرأ أن يُطَوِّف بهما فهو من طَوَّف إِذا أكثر ا لتَّطواف . . .
وفي قوله عزَّ وجلَّ : (وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا) : (وجهان).
إِن شئتَ قلت (وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا) على لفظ المضِى ومعناه الاستقبال لأن

(1/234)


الكلام شرط وجزاء فلفظ الماضي فيهءيُؤول إِلى معنى الاستقبال.
ومن قرأ يَطَّوَّعْ - فالأصل يتطوع فأدغمت التاءُ في الطاءِ.
ولست تدغم حرفاً من حرف إِلا قلبته إلى لفظ المدغم فيه.
وقوله عزَّ وجلَّ : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159)
هذا إِخبار عن علماءِ إليهود الذين كَتَمُوا ما علِموه من صحة أمر
النبي - صلى الله عليه وسلم -
قوله : (مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ) يعني به القرآن.
ومعنى (وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ).
فيه غيرُ قول ، أما ما يُروى عن ابن عباس فقال : (اللَّاعِنُونَ) كل شيء في
الأرض إِلا الثقلين ، ويروى عنْ ابن مسعود أنه قال (اللَّاعِنُونَ) : الاثنان إذا
تلاعنا لحقت اللعنة بمستحقها منهما ، فإِن لم يستحقها واحدٌ منهما رجعت على إليهود ، وقيل (اللَّاعِنُونَ) هم المؤمنون ، فكل من آمن باللَّهِ من الإنس والجن والملائكة فهم - اللاعنون لليهود وجميع الكفرة فهذا ما روي في قوله (اللَّاعِنُونَ) واللَّه عزَّ وجلَّ أعلم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)
(الذين) في موضع نصب على الاستثناءِ ، والمعنى أن من تاب بعد هذا وتبين
منهم أن ما أتى به النبي - صلى الله عليه وسلم - حق ، قبل الله توبته . فأعلم الله عزَّ وجلَّ : أنه يقبل التوبة ويرحم ويغفر الذنب الذي لا غاية بعده.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161)

(1/235)


إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161)
يعني لم يتوبُوا قبل موتهم من كفرهم.
(أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ)، واللعنة هي إبعاد اللَّه ، وإبعاده عذابه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ).
المعنى لعنة الملائكة ولعنة الناس أجمعين.
فإن قال قائل : كيف يلعنه الناس أجمعون ، وأهل دينه لا يلعنونه ؟
قيل لَهُ إنَّهم يلْعَنُونَه في الآخرة ، كما قالَ عزَّ وجلَّ :
(ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا)
وقرأ الحسن : "أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ [وَالْمَلَائِكَةُ وَالنَّاسُ] أَجْمَعِينَ)
وهو جيد في العربية إلا أني أكرهه لمخالفته - المصحف ، والقراءَة ، إنما ينبغي أن يلزم فيها ْالسنة ، ولزوم السنة فيها أيضاً أقوى غند أهل العربية ، لأن الإجماع في القراءَة إنما يقع على الشيء الجَيِّد البالغ ورفع الملائكة في قراءَة الحسن على تأويل : أُولَئِكَ جزاؤُهم أن لَعنَهُم اللَّهِ والملائكةُ ، فعطف الملائكة على موضع إعراب لله في التأويل.
ويجوز على هذا عجبت من ضرب زيدٍ وعمرو ومن قيامِكَ وأخُوك :
المعنى عجبت من أنْ ضَربَ زيد وعمرو ومن أن قمتَ أنتَ وأخوك.
ومعنى (خالدين فيها) أي في اللعنة.
وخلودهم فيها خلود في العذاب.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)
أخبَر عزَّ وجلَّ بوحدانيته ثم أخبَرَ بالاحتجاج في الدلالة على أنه واحد
فقال :

(1/236)


(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)
فهذه الآيات تدل على أنه واحد - عزَّ وجلَّ - فأما الآية في أمر السماءِ فمن
أعظم الآية لأنهها سقف بغير عمد ، والآية في الأرض عظيمة فيما يُرى من
سهْلِها وجبلِها وبحارها . وما فيها من معادن الذهب والفضة والرصاص والحديد اللاتي لا يمكن أحد أن ينشئ مثلها ، وكذلك في تصريف الرياح ، وتصريفها أنها ِتأتي من كل أفق فتكون شمالًا مرة وجنوباً مرة ودبُوراً مرة وصبا مرة ، وتأتي لواقح للسحاب.
فهذه الأشياءُ وجميع ما بث الله في الأرض دالة على أنه واحد.
كما قال عزَّ وجلَّ : (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ) - لا إله غيره لأنه لا يأتي آت بمثل هذه الآيات (إلا واحداً).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165)
فأعلم أن بعد هذا البيان والبرهان ؛ تُتخذ من دونه الأنداد.
وهي الأمثال ، فأبان أن من الناس من يتخذ نِدُّا يعلم أنه لا ينفع ولا يضر ولا يأتي بشيء مما ذكرنا ، وعنَى بهذا مشركي العرب.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ).
أي يُسَوُّون بين هذه الأوثان وبين اللَّه - عزَّ وجلَّ - في المحبة.
وقال بعض النحويين ، يحبونهم كحبكم أنتم للَّهِ - وهذا قول ليس بشيء - ودليل نقضه قوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ)
والمعنى أن المخلصين الذين لا يشركون مع اللَّه غيره
هم المحبُّون حقاً .

(1/237)


وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) - إذْ يروْنَ العذَاب - (أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا).
في هذا غير وجه ، يجوز أنَّ القوةَ للَّهِ وأن اللَّه ، ويجوز أن القوةَ للَّهِ وإن
الله ، ولو تَرى الذينَ ظلموا وتُفتح أن مع ترى ، وتُكسَر ، وكل ذلك قد قُرئ بهِ.
قرأ الحسن (ولَوْ يَرَى الَّذِين ظَلَمُوا إذْ يَرَون العَذاب إِنَّ القوةَ ، وإِنَّ اللَّهَ).
ونحن نفسر ما يجب أن يُجْرَى عليه هذا إن شاءَ اللَّه.
من قرأ أنَّ القوةَ - فموضع أن نصب بقوله - ولو يرى الذين ظلموا أن
القوة للَّه جميعاً ، وكذلك نصب أن الثانية -
والمعنى ولو يرى الذين ظلموا شدَّةَ عذاب اللَّه وقوتَه لعلموا مضرة
اتخاذهم الأنداد ، وقد جرى ذكرُ الأنداد في قوله :
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا).
ويجوز أن يكون العامل في أنَّ الجوابَ ، على ما جاءَ في التفسير : يروى في
تفسير هذا أنه لو رأى الذين كانوا يشركون في الدنيا عذاب الآخرة لعلموا حين يرونه أن القوة للَّهِ جميعاً ، ففتح أنَّ أجود وأكثر في القراءَة ، وموضعها نصب في هاتين الجهتين على ما وصفنا ، ويجوز أن تكون " إنَّ " مكسورةً مستأنفة ، فيكون جواب (ولو يرى الذين ظلموا إِذ يرون العذاب) لرأوا أمراً عظيماً لا تبلغ صفته ؛ لأن جواب لو إنما يترك لعظيم الموصوف
نحو قوله عزَّ وجلَّ : (وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى)
المعنى لكان هذا القرآن أبلغ من كل ما وصف.
وتكون (أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا) ، على الاستئناف.
يُخْبِر بقوله : أن القوة للَّهِ جميعاً ويكون الجواب المتروك غير معلق بإِنَّ.
ومن قرأ (ولو ترى الذين ظلموا) فإِن التاء خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - يراد به الناس

(1/238)


كما قال : (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107).
فهو بمنزلة : ألمْ تَعلموا . وكذلك ولو ترى " الذين ظلموا " بمنزلة - ولو ترون - وتكون (أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا) مستأنفة كما وصفنا.
ويكون الجواب - واللَّه أعلم لرأيتم أمراً عظيماً - كما يقول : لو رأيت فلاناً والسياط تأخذه ، فيُستغنى عن " الجواب لأن المعنى معلوم.
ويجوز فتح أن مع ترى فيكون لرأيتم أيها المخاطبون أن القوة للَّهِ جميعاً ، أو لرأيتم أن الأنداد لم تنفع ، وإنما بلغت الغاية في الضرر لأن القوة للَّهِ جَميعاً.
و (جميعاً) منصوبة - على الحال : المعنى أن القوة - ثابتةَ للَّهِ عزَّ وجلَّ في حال
اجتماعها.
* * *
وقوله : (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166)
يعني به السادة والأشراف (مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا) وهم الأتباع والسفلة.
(وَرَأَوُا الْعَذَابَ) - يُعْنَى به التابِعُونَ والمتبوعون ، (وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ) ، أي انقطعَ وصْلُهُم الذى كان جمعهم.
كما قال : (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ)
فَبَيْنهُمْ وَصْلُهُمْ.
والذي تقطع بينهم في الآخر كان وصل بينهم في الدنيا.
وإِنما ضُمَّت الألف في قوله (اتُّبِعُوا) لضمَّةِ التاءِ ، والتاءُ ضمت علامة ما
لم يُسَمَّ فاعِلُه.
فإن قَال قائل : فما لم يسم فاعله مضموم الأول ، والتاءُ
المضمومة في (اتُّبِعُوا) ثالثة ، قيل إنما يضم لما لم يُسَم فاعله الأول من

(1/239)


متَحركات الفعل ، فإذا كان في الأول ساكن اجتلبت له ألف الوصل ، وضم ما كان متحركاً ، فكان المتحرك من اتبعوا التاء الثانية فضمت دليلاً على ترك
الفاعل ، وأيضاً فإنَ في (اتُّبِعُوا) ألفَ وصل دخلت من أجل سكون فاءِ الفعل ، لأن مثَاله من الفعل افْتعِلوا ، فالأف ألف وصل ولا يبنى عليه ضَمة الأول
في فِعْل لم يُسَمَّ فاعلُه ، والفاءُ ساكنة ، والسَّاكنُ لا يُبْنى عليه فلم يبق إلا
الثالث ، وهو التاءُ فضمت عَلَماً للفعل الذي لم يسم فاعله ، فكان الثالث لهذه العلة هو الأول.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)
أي عودة إلى الدنيا فنتبرأ منهم ، موضع "أن" رفع ، المعنى لو وقع لنا
كرورٌ لتبرأنا منهم ، كما تبرأوا منا ، " يقال تبرات منهم تبرؤا ، وبرِئت منه
بَرَاءَة وبرِئْت من المرض وبَرَأتُ أيضاً لغتان " أبرأ ، بَرءًا ، وبريت القلم وغيره
وأبريه غير مهموز ، وبرأ اللَّهُ الخلقَ بَرءًا.
وقوله عزَّ وجلََّّ : (كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ).
أي كـ تَبرِّي بعضهم من بعض يريهم اللَّهُ أعمَالَهُمْ حَسَراب عليهم لأن ما
عمله الكافر غير نافعه مع كفره ، قال الله عزَّ وجلَّ :
(الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ)
وقال : (حَبطَتْ أَعْمَالُهُمْ) ومعنى (أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ) لم يجازهم على ما عَملوا من خير ، وهذا كما تقول لمن عَمل عملاً لم يعد عليه فيه نفع : لقد ضَل سَعْيُكَ .

(1/240)


وقوله عزَّ وجلَّ : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168)
هذا على ضربين : أحدهما الإباحة لأكل جميع الأشياءِ إلا ما قد حظر
الله عزَّ وجلَّ من الميتة وما ذَكر معهَا ، فيكون (طَيِّبًا) نعتاً للْحَلَال ، ويكون
طيباً نعتاً لما يستطاب ، والأجود أن يكون (طَيِّبًا) من حيث يطيب لكم ، أي لا تأكلوا وتنفقوا مما يحرم عليكم كقوله عزَّ وجلَّ :
(وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ).
أكثر القراءَة خُطُوات بِضَم الخاءِ والطاءِ ، وإن شئت أسكنْتَ الطاءَ.
(خُطوَات) لثقل الضمة ، وإن شئت خُطَواتٍ ، وهي قراءَة شاذة ولكنها جائزة في العربية قوية ، وأنشد الخَليلُ وسيبويه وجميع البصريين النحويين :
ولما رَأوْنا بَادياً رُكُبَاتُنَا . . . عَلَى مَوْطِنٍ لا نَخْلِطُ الجدَّ بالهَزلِ
ومعنى (خطوات الشيطان) طرقه ، أي لا تَسْلكوا الطريق الذي يدعوكم إليه
الشيطان.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170)
معنى (ألفينا) صَادَفْنا ، فعنَّفهم اللَّه وعاب عليهم تقليدهم آباءَهم.
فقال : (أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ).

(1/241)


المعنى أيتبعون آباءَهمْ وإن كانوا جهالاً ، وهذه الواو مفتوحة لأنها واو
عطف ، دخلت عليها ألف التوبيخ ، وهي ألف الاستفهام فبقيت الوَاو مفتوحة على ما يجب لها.
* * *
قوله عزَّ وجلَّ : (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171)
وضرب اللَّه عزَّ وجلَّ لهم هذا المثل ، وشبهَهم بالغنم المنعوق بها.
بما لا يَسْمَع مُنه إلا الصوتَ ، فالمعنى مثلك يا محمد ، ومثلهم كمثل
الناعق والمنعوق به ، بما لا يسمع ، لأن سمعهم ما كان ينفعهم ، فكانوا في
شركهم وَعَدَمِ قبول ما يسيمعون بمنزلة من لم يسمع ، والعرب تقول لمن
يسمع ولا يعمل بما يسمع : أصم.
قال الشاعر :
أصمُّ عمَّا سَاءَه سمِيعُ
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ).
وصفهم بالبَكَم وهو الخَرَس ، وبالعَمَى ، لأنهم في تركهم ما يبصرون
من الهداية بمنزلة العُمْي.
وقد شرحنا هذا في أول السورة شرحاً كافياً إِن شاءَ اللَّه . .
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)
النَّصبُ في (الميتةَ) وماعطف عليها هو القراءَة ، ونصبه لأنه مفعول

(1/242)


به ، دخلت " ما " تمنع إنَّ من العمل ، ويليها الفعل ، وقد شرحنا دخول ما
مع إن ، ويجوز إِنَما حرم عليكُم الميْتَةُ ، والذي أختاره أن يكون ما تمنع أن من
العمل ، ويكون المعنى ما حرم عليكم إِلا الميْتةَ ، والدم ولحم الخنزير ، لأن
" إنما " تأتي إِثباتاً لما يذكر بعدها لما سواه.
قال الشاعر :
أنا الزائد الحامي الذمار وإنما . . . يدافع عن أحسابهمْ أنا أو مثلي
المعنى ما يدافع عن أحسابهم إلا أنا أو مثلي ، فالاختيار ما عليه جماعة
القراءِ لإتباع السنة ، وصحته في المعنى . .
ومعنى (مَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ).
أي ما رُفَعَ فيه الصوتُ بتسمية غير الله عليه وهذا موجود في اللغة.
ومنه الإهلال بالحج إنما هو رفع الصوت بالتلبية.
والميتة أصلها الميِّتَةُ ، فحذقت الياءُ الثانية استخفافاً لثقل الياءين والكسرة والأجود في القراءَة الميْتَةُ (بالتخفيف).
وكذلك في قوله : (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ) أصله أو من كان ميِّتاً
بالتشديدَ ، وتفسير الحذف والتخفيف فيه كتفسيره في الميتة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ).
في تفسيرها ومعناها ثلاثة أوجه : قال بعضهم (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ) ، أي فمن اضطر جائعاً غير باغ - غير آكلها تلذذاً - ولا عاد ولا مُجَاوِزٍ ما
يدفع عن نفسه الجوع ، فلا إِثم عليه .

(1/243)


وقالوا : - (غَيْرَ بَاغٍ) غير مجاوز قدر حاجته وغير مقصِر عما يقيم به
حياته ، وقالوا : أيضاً : معنى غيرباغ على إمَام وغيرمتعد على أمتِه ، ومعنى
البغي في اللغة ، قصد الفساد ، يقال : بَغَى الجَرْحُ يبغي بغياً ، إذا ترامى إلى
فساد ، هذا إجماع أهل اللغة ، تقول ويقال بغى الرجل حاجته يَبْغِيهَا بِغَاءً.
والعرب تقول خرج في بِغَاءٍ إبله قال الشاعر : "
لا يمْنعنكَ من بِغاءِ الخير تعقادُ التمائم
إنَّ الأشائم كالأيامن والأيامنُ كالأشائم
ويقال بغت المرأة تبغي بِغَاءً إذا فجرت :
قال اللَّه عزَّ وجلَّ : (وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا)
أي على الفجور ويقال : ابتَغَى لفلان أنْ يفعل كذا : أي صلح له أن يفعل كذا وكأنه قال : طلب فعل كذا فانطلب له ، أي طاوعه ، ولكن اجتزئ بقولهم - ابتغى ، والبغايا في اللغة شيئان ، البغايا الفواجر ، والبغايا الإماء ، قال الأعشى :
والبغَايا يركضن أكْسية ألا . . . ضْرِيج والشرعَبيَّ ذَا الأذيالِ
ونصب (غَيْرَ بَاغٍ) على الحال.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174)
يعني علماءَ إليهود الذين كتموا أمر النبي - صلى الله عليه وسلم.
وقوله : (وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا) أي كتموه لأنهم أخذوا على كِتْمَانِه
الرِّشَى .

(1/244)


(أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ).
المعنى أن الذين يأكلونه يعذبون به ، فكأنهم إنما أكلوا النار وكذلك قوله
عزَّ وجلَّ : (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ)).
أي يُصَيرُهُمْ أكْلُهُ في الآخرة إلى مثل هذه الحالة.
و (الَّذِينَ) نصب ب (إِنَّ) ، وخبر (إِنَّ) جملة الكلام وهي (أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ) ، و (أُولَئِكَ) رفع بالابتداءِ وخبر (أُولَئِكَ) (مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلاَ يُكَلمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ).
فيه غير قول : قال بعضهم معناه يغضب عليهم ، كما تقول : فلان لا
يكلم فلاناً ، تريد هو غضبان عليه.
وقال بعضهم معنى (لاَ يُكَلمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ) لا يرسل إليهم الملائكة بالتَحيةِ ، وجائز إِن يكون : (لاَ يُكَلمُهُمْ اللَّهُ) لا يسمعهم الله كلامه ، ويكون الأبرار وأهل المنزلة الذين رضي اللَّه عنهم يسمعون كلامه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَا يُزَكِّيهِمْ).
أي لا يثنى عليهم ، ومن لا يثني اللَّه عليه فهو معذب.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).
معنى (أَلِيمٌ) مؤلم ومعنى مؤلم مبالِغٌ في الوجع.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175)
(فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ)
وفيه غير وجه : قال بعضهم أيُّ شيءٍ أصْبرهُمْ على النار.
وقال بعضهم : فما أصبرهم على عمل يؤدي إِلى النار لأن هؤلاءِ كانوا علماءَ بأن من عاند النبي - صلى الله عليه وسلم - صار إلى النار.
كما تقول ما أصبرَ فلاناً على الجنس أي ما أبقاه منه .

(1/245)


وقوله عزَّ وجلَّ : (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176)
المعنى الأمر ذلك ، أو ذلك الأمر فذلك مرفوع بالابتداءِ.
أو بخبر الابتداءِ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ)
بتباعد بعضهم في مَشَاقَّةِ بعض ، لأن إليهود والنصارى هم الَّذين اختلفوا في
الكتاب ومشاقتهم بعيدة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)
المعنى ليس البر كله في الصلاة (وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ). . . إلى آخر الآية ، فقيل إن هذا خصوص في الأنبياءِ وحدهم ، لأن هذه الأشياءِ التي وصفت لا يؤديها بكليتها على حق الواجب إِلا الأنبياءَ عليهم السلام.
وجائز أن يكون لسائر الناس ، لأن اللّه عزَّ وجلَّ قد أمر الخلق
بجميع ما في هذه الآية.
ولك في البرِّ وجهان : لك أن تَقْرَأ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا) ، و (لَيْسَ الْبِرُّ أَنْ تُوَلُّوا) فمن نصب جعل أنْ مع صلتها الاسم ، فيكون المعنى : ليس توليتُكُم
وجُوهَكُم البرَّ كلَّه ، ومن رفع البر فالمعنى : ليس البَّر كلُه توليتكم ، فيكون البر اسم ليس ، وتكون (أَنْ تُوَلُّوا) الخبر.
وقوله عؤّ وجلَّ : (وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ).
إِذا شددتَ (لَكَنَّ) نصبت البر ، وإِذا خففت رفعت البر ، فقلت ولكنِ
البِر من آمن باللَّه ، وكسرتَ النونَ من التخفيف لالتقاءِ السَّاكنين ، والمعنى :
ولكن ذا البر من آمن باللَّه ، ويجوز أن تكون : ولكن البر بَر مَن آمن باللَّه ، كما قال الشاعِر :

(1/246)


وكيف تواصل من أصبحت . . . خلالته كأبي مرحب
المعنى كخلالة أبي مرحب - ومثله (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا).
المعنى وأسال أهل القرية.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (والمُوفونَ بعَهْدِهِمْ إذَا عَاهَدُوا).
في رفعها قولان : الأجود أن يكون مرفوعاَ على المدح ، لأن النعت إذا
طال وكَثُرَ رُفِعَ بعضُه ونُصِب على المدح.
المعنى " هم الموفون بعهدهم وجائز أن يكون معطوفاً على من.
المعنى ولكن البر ، وذو البر المؤمنون والموفون بعهدهم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَالصَّابِرِينَ).
في نصبها وجهان : أجودهما المدح كما وصفنا في النعت إذا طال.
المعنى أعني الصابرين ، قال بعض النحويين ، إِنه معطوف على ذوي القربى.
كأنه قال : وآتي المالَ على حبه ذوي القربى والصابرين وهذا لا يصلح إلا أن
يكون - والموفون رفع على المدح للمُضْمَرِينَ ، لأن ما في الصلة لا يعطف
عليه بعد المعطوف على الموصول.
ومعنى " وحينَ البَأْسِ " أي شدة الحرب ، يقال قد بأس الرجل يَبْأسُ

(1/247)


بَأساً وبَاساً (وبُؤساً) يا هذا إذا افتقر وقد بؤس الرجل ببؤس ، فهو بَئيس إذا
اشتدت شجاعته.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178)
معنى (كُتِبَ عَلَيْكُمُ) فرض عليكم ، وقوله (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى) : يقال إنه كان لقوم من العرب طَول على آخرين فكانوا يتزوجون فيهم بغير مهور ، ويطلبون بالدم أكثر من مقداره ، فيقتلون بالعبد من عبيدهم الحر من الذين لهم عليهم طولٌ فأنزل اللَّه عزَّ وجلَّ : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ).
أي من ترك له القتل ورضي منه بالدِّية -
وهو قاتل متعمد للقتل عفى له بأن ترك له دمُه ، ورضي منه بالدية - قال اللَّه عز وجلَّ : (ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ) وذكر أن من كان قبلنا لم يفرض عليهم إلا النفس -
كما قال عزَّ وجلَّ : (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) أي في التوراة - فتفضل اللَّه على هذه الأمة بالتخفيف والدية إذا
رضي بها وفيُ الدم.
ومعنى (فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ) على ضربين : جائز أن يكون
فعلَى صاحب الدم اتباع بالمعروف ، أي المطالبة بالدية ، وعلى القاتل أداء
بإحسان - وجائز أن يكون الإتباع بالمعروف والأداء بإحسان جميعاً على
القاتل - واللَّه أعلم.
وقوله غز وجلَّ : (فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ).
أي بعد أخذ الدية ، ومعنى اعتدى : ظلم ، فوثب فقتل قَاتِلَ صَاحِبِه بعد أخذ الدية - (فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ) أي موجع .

(1/248)


ورفع (فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ) على معنى فعليه اتباع - ولوكان في غير
القرآن لجاز فاتباعاً بالمعروف وأداءً على معنى فليتبع أتباعاً ويؤد أداءً.
ولكن الرفع أجود في العربية.
وهو على ما في المصحف وإجماع القراءِ فلا سبيل إلى غيره.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)
(حَيَاةٌ) رفعَ على ضربين : على الابتداءِ ، وعلى لكم ، كأنَّه قال وثَبَت لكم
في القصاص حياة يا أولي الألباب أي يا ذوي العقول.
ومعنى الحياة في القصاص أن الرجل - إذا علم أنَّه يُقْتَل إنْ قتَل -
أمسك عن القتل ففي إمساكه عن القتل حياة الذي همَّ هو بقتله . -
وحياة له ؛ لأنه من أجل القصاص أمسك عن القتل فَسَلِم أن يقتل.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180)
المعنى وكتب عليكم : إلا أن الكلام إذا طال استغنى عن العطف بالواو ، وعلم أن معناه معني الواو.
ولأن القصة الأولى قد اسْتَتَمَّت وانْقَضَى معنى الفرض فيها ، فعلم أن المعنى فرض عليكم القصاص وفرض عليكم الوصية.
ومعنى . (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ).
هذا الفَرضُ بإجماع نسخته آياتُ المَواريث في سورة النساءِ وهذا مجمع

(1/249)


عليه ، ولكن لا بد من تفسيره ليعلم كيف كان وجه الحكمة فيه ، لأن اللَّه
عزَّ وجلَّ لا يتعبد في وقت من الأوقات إِلا بما فيه الحكمة البالغة
فمعنى (كُتِبَ عَلَيْكُمْ) : فرض عليكم - إن ترك أحدكم مالا - الوصية (للوالدين والأقربين بالمعروف) ، فَرَفَعَ الوصية على ضربين ، أحدهما على ما لم يسم فاعله ، كأنه قال كتب عليكم الوصية للوالدين ، أي فرض عليكم ، ويجوز أن تكون رفع الوصية على الابتداءِ ، ويجوز أن تكون ، للوالدين الخبر ، ويكون على مذهب الحكاية ، لأن معنى كتب عليكم قيل لكم : الوصية للوالدين والأقربين . ، وإِنما أُمِرُوا بالوصية في ذلك الوقت لأنهم كانوا ربما جاوزوا بدفع المال إلى البعَداءِ طلباً للرياءِ والسمعة.
ومعنى (حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) ليس هو إنَّه كتب عليه أن يوصي إذا حضره
الموت ، لأنه إِذا عاين الموت " يكون " في شغل عن الوصية وغيرها.
ولكن المعنى كتب عليكم أن توصُّوا وأنتم قادرون على الوَصيةِ ، فيقول الرجل إذا حضرني الموت ، أي إِذا أنا مِت فلفلان كذا ، على قدر - ما أمِرَ به - والذي أمِرَ به أن يجتهد في العدل في وقت الإمْهَال ، فيوصي بالمعروف - كما قال اللَّه عزَّ وجلَّ - لوالديه ولأقربيه - ومعنى بالمعروف بالشيءِ الذي يعلم ذو التمييز أنه لا جَنَفَ فيه ولا جَوْر ، وقد قال قوم إِن المنسوخ من هذا ما نسخته المواريث.
وأمر الوصية في الثلث باق ، وهذا القول ليس بشي لأن إجماع المسلمين أن
ثلث الرجل له إن شاءَ أن يوصي بشي فله ، وإن ترك فجائز (فالآية) في

(1/250)


قوله : (كُتِبَ عَلَيْكُمْ) . . . الوصية منسوخة بإجماع.
وكما وصفنا.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ).
نصب على حق ذلك عليكم حقاً ، ولوكان في غير القرآن فَرُفعَ كان
جائزاً ، على معنى ذلك حق على المتقين.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181)
يعني فمن بدل أمر الوصية بعد سماعهِ إيَّاها ، فإِنما إثْمُه على مُبَدلِهِ ، ليس على الموصى ، - إذا احتاط أو اجتهد فيمن يوصى إليه - إثم ، ولا على الموصى له إِثم وإِنما الإثم على الموصي إن بدل.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).
أي قد سمع ما قاله الموصي ، وعلم ما يفعله الموصَى إِليه ، لأنه
عزَّ وجلَّ عالم الغيبِ والشَهَادَة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)
أي مَيْلاً ، أو إثماً ، أو قَصَداً لِإثم ، (فأصلح بينهم) أي عمل بالإصلاح بين
الموصى لهم فلا إثم عليه ، أي لأنه إنما يقصد إلى إصلاح بعد أن يكون
الموصي قد جعل الوصية بغير المعروف مخالفاً لأمر اللَّه فإِذا ردها الموصى
إليه إِلى المعروف ، فقد ردها إِلى ما أمر اللَّه به.
* * *
(وقوله عزَّ وجلَّ : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)
المعنى فرض عليكم الصيام فرضاً كالذي فرض على الذين من قبلكم.
وقيل إنه قد كان فرض على النصارى صوم رمضان فَنَقَلُوه عن وقته ، وزادوا
فيه ، ولا أدري كيف وجه هذا الحديث ، ولا ثقة ناقليه ، ولكن الجملة أن اللَّه عزّ وجلَّ قد أعلمنا أنه فرض على من كان قبلنا الصيام ، وأنه فرض علينا كما فرضه على الذين من قبلنا .

(1/251)


وقوله عزَّ وجلَّ : (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).
المعنى أنَّ الصِّيَام وَصْلَة إلى التقي ، لأنه من البر الذي يكف الِإنسان
عن كثير مما تتطلع إِليه النفس من المعاصي ، فلذلك قيل (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).
و " لعل " ههنا على ترجي العباد ، والله عزَّ وجلَّ من وراءِ العلم أتتقون أم
لا . ولكن المعنى أنه ينبغي لكم بالصوم أن يقوى رجاؤكم في التقوى.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184)
ْنصب (أَيَّامًا) على ضربين ، أجْوَدهما أن تكون على الظرف كأنه ، كتب
عليكم الصيام في هذه الأيام - والعامل فيه الصيام كان المعنى كتب عليكم
أن تصوموا أياماً معدودات.
وقال بعض النحويين ، إنه منصوب مفعول مَا لم يسَمَّ فاعله.
نحو أعَطِيَ زيد المال.
وليس هذا بشيءٍ لأن الأيام ههنا معلقة بالصوم.
وزيد والمال مفعولان لأعطى.
فلك أن تقيم أيهما شئت مقام الفاعل.
وليس في هذا إلا نصب الأيام بالصيام.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ).
أي فعليه عدة ، أو فالذي ينوب عن صومه في وقت الصوم عدة من أيام
أُخَرَ.
و (أُخَرَ) في موضع جر ، إِلا أنها لا تَنْصَرِف فَفتِحَ فيها المجرور.
ومعنى (وعلى الذين يطيقونه) أي يطيقون الصوم فدية طعام ، مسكين ، أي
إن أفطر وترك الصوم كان فدية تركه طعام مسكين.
وقد قرئ " طعام مساكين "

(1/252)


فمعنى طعام مساكين فدية أيام يفطر فيها وهذا بإجماع وبنص القرآن منسوخ.
نَسخَته الآية التي تَلي هذه.
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ).
رفع خير خبر الابتداءِ . المعنى صومكم خير لكم هذا كان خيراً لهم مع
جواز الفدية ، فأما ما بعد النسخ فليس بجائز أن يقال : الصوم خير - من الفدية والإفطارِ في هذا الوقت ، لأنه ما لا يجوز ألبتَّة فلا يقع تفضيل عليه فيوهم فيه أنه جائز . وقد قيل إِن الصوم الذي كان فرض في أول الإسلام . صوم ثلاثة أيام في كل شهر ويوم عاشوراءِ ، ولكن شهر رمضان نَسَخَ الفرضَ في ذلك الصوم كله.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)
القراءَة بالرفع ويجوز النصب ، وهي قراءَة ليست بالكثيرة ورفعه على
ثلاثة أضرب : أحدها الاستئناف . المعنى الصيام الذي كتب عليكم أو الأيام
التي كتبت عليكم شهر رمضان ، ويجوز أن يكون رفعه على البدل من الصيام
فيكون مرفوعاً على ما لم يسم فاعله ، المعنى كتب عليكم شهر رمضان.
ويجوز أن يكون رفعه على الابتداءِ ويكون الخبر (الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ)
والوجهان اللذان شرحناهما - " الذي " ْ فيهما رفعٌ على صفة الشهر ، ويكون الأمر بالفرض فيه (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ)
ومعنى من شهد : من كان شاهداً غير مسافر فليصم ، ومن كان مسافراً أو مريضاً فقد جُعِل له أن

(1/253)


يصوم عدةَ أيامِ الْمَرض وأيامِ السفرِ من أيام أخر ، ومن نصب شهر رمضان
نصبه على وجهين ، أحدهما أن يكون بدلاً من أيام معدودات.
والوجه الثاني على الأمر ، كأنه قال عليكم شهر رمضان . على الِإغْراءِ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ).
أيْ أن يُيسِّر عليكم بوضعه عنكم الصوم في السفر والمرض.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلِتُكَمِّلُوا الْعِدَّةَ) (قرئ) بالتشديد ، وَلِتُكْمِلُوا
بالتخفيف.
من كمَّل يكمِّل ، وأكمل يُكْمِل.
ومعنى اللام والعطف ههنا معنى لطيفْ هذا الكلام معطوف محمول على المعنى. (المعنى) فعل اللَّه ذلك ليسهل عليكم ولتكملوا العدة.
قال الشاعر :
بَادَت وغُيِّر آيهن مع البلي . . . إلاَّ رَواكدَ جَمْرُهُنَّ هَباءُ
ومشججٌ أما سواءُ قذا له . . . فبدا وغيره سَارَه المَعْزَاءُ
فعطف مشججٌ على معنى بها رواكد ومشجج ، لأنه إذْ قال بادت
إلاَّ رَواكدَ علم أن المعنى بَقيَتْ رواكدُ ومشججٌ.
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)
المعنى إذا قال قائل : اينَ اللَّهُ . فالله عزَّ وجلَّ قريب لا يخلو منه مكان -
كما قال : (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ)
وكما قال : (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ).

(1/254)


وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)
وقوله عزَّ وجلَّ : (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ).
إن شئت قلت إذا دعاني بياء وإن شئت بغير ياء إلا أن المصحف يتبع
فيوقف على الحرف كما هو فيه.
ومعنى الدعاءِ لِلَّهِ عزَّ وجلَّ على ثلاثة أضرب.
فضرب منها توحيده والثناءُ عليه كقولك يا الله لا إله إلا أنت
وقَولك : رَبَّنَا لَك الحَمْدُ ، فقد دعوتَه بقولك ربنا ، ثم أتيت بالثناءِ والتوحيد
ومثله : (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60).
أي يستكبرون عن توحيدي والثناءِ عليَّ ، فهذا ضرب من الدعاءِ.
وضرب ثانٍ هو مَسْألة الله العفوَ والرحمة ، وما يقرب منه
كقولك اللهم اغفر لنا.
وضرب ثالث هو مسألته من الدنيا كقولك :
اللهم ارزقني مالًا وولداً وما أشبه ذلك.
وإنما سمي هذا أجمعُ دعاء لأن الِإنسان يصدر في هذه الأشياءِ بقوله يا اللَّه ، ويا رب ، ويَا حَي . فكذلك سمي دعاءُ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي)
أي فليُجِيبُوني.
قال الشاعر :
وداع دعا يا من يجيب إلى الندا . . . فلم يَسْتَجِبْه عند ذاك مجيب
أي فلم يجبه أحد.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)
ْ(الرفث) كلمة جامعة لكل ما يريد الرجل من المرأة ، والمعنى ههُنا كناية
عن الجماع : أي أحل لكم ليلة الصيام الجماع ، لأنه كان في أولَ فرض

(1/255)


الصيام الجماعُ محرماً في ليلة الصيام ، والأكل والشربُ بعد العِشَاءِ الآخرة
والنوم.
فأحل الله الجماع والأكل والشراب إِلى وقت طلوع الفجر.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ).
قد قيل فيه غير قول : قيل المعنى ، فَتُعانقوهن وُيعَانِقْنكم ، وقيل كل
فريق منكم يسكن إلى صَاحِبه وُيلابسه -
كما قال عزَّ وجلَّ : (وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا).
والعرب تسمى المرأة لباساً وإِزاراً قال الشاعر :
إذا مَا الضجيع ثَنَى عِطفَه . . . تَثَنَّتْ فكانت عليه لِبَاساً
وقال أيضاً :
ألاَ أبْلغ أبَا حَفْصٍ رَسُولا . . . فِدًى لكَ من أخِي ثِقَةٍ إِزاري
قال أهل اللغة : فدى لك امرأتي.
قوله عزَّ وجلَّ : (وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ).
قالوا معناه الولد . ويجوز أن يكون - وهو الصحيح عندي - واللَّه أعلم -
وابتغوا ما كتب اللَّه لكم : اتبعوا القرآن فيما أبيح لكم فيه وأمرتم به فهو
المبتغى .

(1/256)


وقوله عزَّ وجلَّ : (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ).
هما فجران : أحدهما يَبْدُو أسودَ معترضاً وهو الخيط الأسود ، والأبيض
يطلع ساطعاً يملأ الأفق ، وَحَقِيقَتُه : حَتَّى يتبين لكم الليل من النهار ، وجعل اللَّه عزّ وجلَّ حدود الصيام طلوع الفجر الواضح ، إِلا أن اللَّه عزَّ وجلَّ بين في فرضه ما يستوي في علمه أكثر الناس.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ).
معنى الباشرة هنا الجماع . وكان الرجل يخرج من المسجد وهو معتكف
فيجامع ثم يعودُ إِلى المسجد ، والاعتكاف أن يحبس الرجل نفسه في مَسْجِدِ
جَماعةٍ يتعبَّد فيه ، فعليه إذا فعل ذلك ألا يُجَامع وألا يتصرَّفَ إلا فيما لا بد له مِنْهُ من حاجته.
وقوله عزَّ وجلَّ : (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا).
معنى الحدود ما منع الله عزَّ وجلَّ من مخالفتها ، - ومعنى الحدَّادُ في اللغة
الحاجب ، وكل من منع شيئاً فهو حدَّاد . وقولهم أحَدَّتَ المرأة على زوجها معناه قطعتِ الزينَةَ وامتنعت منها ، والحديد إِنما سمي حديداً لأنه يمتنع به من
الأعداءِ . وحَدُّ الدَّار هُوَ مَا يمنع غيرها أن تدخل فيها.
وقوله عزَّ وجلََّّ : (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ)).
أي مثل البيان الذي ذكر ، المعنى ما أمرهم به يبين لهم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)
(تأْكلوا) جزم بلا ، لأن " لا " التي ينهي بها تلزم الأفعال دون الأَسماءِ

(1/257)


وتأثيرها فيها بالجزم ، لأن الرفع يدخلها ، بوقوعها موضع الأسماءِ والنصب
يدخلها لمضارعة الناصب فيها الناصب للأسماءِ ، وليس فيها بعد هذين
الحيزين إلا الجزم . ومعنى بالباطل أي بالظلم.
(وتُدْلُوا بهَا إلى الحُكَّام) : أي تعملون على ما يوجبه ظاهر الحكم ويتركون ما
قد علمتم أنه الحق ، ومعنى تُدْلوا في اللغة إِنَّما أصله من أدْلَيْتُ الدلو إِذا أرسلتها للمليءِ ، ودلوتها إذا أخرجتها ، ومعنى أدلى لي فلان بحجته أرسلها وأتى بها على صحة ، فمعنى (وتُدْلُوا بهَا إلى الحُكَّام) أي تعملون على ما يوجبه الِإدلاءُ بالحجة ، وتخونون في الأمانة.
(لِتَأكُلُوا فَريقاً مِنْ أموَالِ النَّاسِ بِالإثمِ وأنْتُم تَعْلَمُونَ).
أي وأنتم تعلمون أن الحجة عليكم في الباطن ، وإن ظهر ، خلافها.
ويجوز أن يكون (موضع) " وتدلوا " جزماً ونصباً - فأما الجزم فعلى النهي.
معطوف على ولا تأكلوا ، ويجوز أن تكون نصباً على ما تنصب الواو ، وهو الذي يسميه بعض النحويين الصرف ، ونصبه بإِضمار أن ، المعنى لا تجمعوا بين الأكل بالباطل والِإدلاءِ إِلى الحكام ، وقد شرحنا هذا قبل هذا المكان.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)
كان النّبى - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الهلال في بدئه دقيقاً وعن عِظَمِهِ بعد ، وعن رجوعه دقيقاً كالعرجون القديم ، فأعلم اللَّه عزَّ وجلَّ أنه جعل ذلك ليعلم

(1/258)


الناس ، أوقاتهم في حَجهِمْ وَعِدَدِ نِسائِهمْ ، وجميع ما يريدون عدمه مشاهرة.
لأن هذا أسهل على الناس من حفظ عدد الأيام ، ويستوى فيه الحاسب وغير
الحاسب.
ومعنى الهلال واشتقاقه : من قولهم اسْتَهَل الصبي إِذا بكى حين يولد أو
صاح ، وكأن قولهم أهَل القوم بالحج والعمرة - أي رفعوا أصواتهم بالتلبية ، وإنما قيل له هلال لأنه حين - يرى يهل الناس بذكره ويقال اهِلً الهلال واسْتَهَلً ، ولا يقال أهَلّ ، ويقال أهلَلْنا . أي رأينا الهلال.
وأهللنا شهر كذا وكذا ، إِذا دخلنا فيه.
وأخبرني من أثق به من رواة البصريين والكوفيين - جميعاً بما أذكره في أسماءِ
الهلال وصفات الليالي التي في كل شهر :
فأول ذلك : إِنما سمي الشهر شهراً لشهرته وبيانه ، وسُمِّيَ هلالا لِمَا وصفنا
من رفع الصوت بالِإخبار عنه ، وقد اختلف الناس في تسميته هلالًا ، وكم ليلةً يُسَمَّى ومَتَى يُسَمَّى قمراً ، فقال بعضهم يسمى هلالًا لليلتين من الشهر ثم لا يسمى هلالًا ، إِلى أن يعود في الشهر التالي ، وقال بعضهم يسمى هلالًا ثلاث ليال ثم يسمى قمراً ، وقال بعضهم يسمى هلالًا إِلى أن يحجَّر وتحجيره أن يستدير بخطة دقيقة.
وهو قول الأصمعي . وقال بعضهم يسمى هلالًا إِلى أن

(1/259)


يَبْهَرَ ضوؤة سوادَ الليل ، فإذا غلب ضوؤة سوادَ الليل قيل له قمر ، وهذا لا
يكون إِلا في الليلة السابعة ، والذي عندي وما عليه الأكثر أنه يسمى هلالاً
ابنَ ليلتين ، فإِنه في الثالثة يَبِين ضوؤه.
واسم القمر الزبرقان ، واسم دارته الهالة ، واسم ضوئه الفَخْت وقد قال
بعض أهل اللغة لا أدري الْفَخْت اسم ضوئه أم ظلْمَتِه ، واسم ظلمته على
الحقيقة " (واسم ظله) السَّمَر ، ولهذا قيل للمتحدثين ليلا سمَّار ، ويقال ضاءَ
القمر وأضاءَ ، ويقال طلع القمر ، - ولا يقال أضاءَت القمر أو ضاءَت.
قال أبو إسحاق وحدثني من أثق به عن الرِّيَاشي عن أبي زيد ، وأخبرني
أيضاً من أثق به عن ابن الأعرابي بما أذكره في هذا الفصل : قال أبو زيد
الأنصاري ، يقال للقمر بنَ ليلةٍ : عَتَمَةَ سُخَيْلة حل أهلها برمَيْلَةِ ، وابنَ ليلتين
حديث أمَتَين كذبٌ ومَيْن ورواه ابن الأعرابي بكذب ومَيْن ، وابن ثلاث
حديث فتيات غير جد مؤتلفات.
وقيل ابن ثلاث قليل اللبَاث ، وابن أربع عتمة ربَع لا جائع ولا
مرْضَع ، وعن ابن الأعرابي عتمة أم الربع ، وابن خمس حديث وأنس ،

(1/260)


وقال أبو زيد عشا خَلِفَات قُعْسْ ، وابن ست سِمرْوَبِتْ.
وابن سَبْع دُلْجَة الضبع وابن ثمان قمر أضحيان وابن تسع عن أبي
زيد : انقطع السشسع ، وعن غيره يلتقط فيه الجزع ، وابن عشر ثلث
الشهر ، وعن أبي زيد وغيره محنق الفجر . -
ولم تقل العرب بعد العشر في صفته ليلة ليلة كما قالت في هده العشر
ولكنهم جزأوا صفته أجزاء عشرة ، فجعلوا لكل ثلاث ليال صفة فقالوا ثلاث غُرَر ، وبعضهم يقول غُز ، وثلاث شُهْب ، وثلاث بُهْر وبَهْر ، وثلاث عُشْر ، وثلاث بيض ، وثلاث دُرْع ، ودُرُع ، ومعنى الدرَعُ سواد مُقَدَّم

(1/261)


الشاة وبياضُ مؤخرها ، وإنما قيل لها دُرْع ودُرُع لأن القمر يغيب في أولها.
فيكون أول الليل أدرع لأن أوله أسود وما بعده مضي ، وثلاث خُنْس ، لأن
القمر يَنْخَنِس فيها أي يَتَأخر ، وثلاث دهم ، وإنما قيل لها دهم لأنها تُظْلم حتى تَدْهَامّ ، وقال بعضهم ثلاث حَنَادِس ، وثلاث فُحْم لأن القمر يتفحم
فيها ، أي يطلع في آخر الليل وثلاث دَادِي ، وهي أواخر الشهر وإنما أخذت من الدأداءِ وهو ضرب من السير تسرع فيه الإبل نقل أرجلها إلى موضع أيديها.
فالدأدأة آخر نقل القوائم ، فكذلك الدأدِيُ في آخر الشهر.
وجمع هلال أهله ، لأدنى العدد وأكثرِه ، لأن فِعالا يجمع في أقل العدد على أفعلة مثل مِثَال وأمْثِلَة وحِمَار وأحْمِرَةُ وإذا جاوز أفعلة جُمِعَ على فُعْل ، مثل حُمُر ومُثُل ، فكرهوا في التضعيف فعل نحو هُلُل وخُلُل ، فقالوا أهِلة وأخِلة ، فاقتصروا على جمعِ أدنى العدد ، كما اِقتصروا في ذوات الواو والياءِ على ذلك ، نحو كِسَاء وأكسية ورِدَاء وأرْدِية.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى)
قيل إنه كان قوم من قريش وجماعة معهم من العرب إِذا خرج الرجل
منهم في حاجة فلم يقضها ولم تتَيسر له رجع فلم يدخل من باب بيته سنة ، يفعل ذلك تَطيرا - فأعلمهم اللَّه عزَّ وجل أن ذلك غَيْرُ بِر ، أي الإقامة على الوفاءِ - بهذه السَّنة ليس ببر ، وقال الأكثر من أهل التفسير : إنهم الحُمْسُ ، وهم قوم من قريش ، وبنُو عامر بن صعصعة وثَقيف وخزاعة ، كانوا إِذا أحرموا لا يأقطُون الأقط ، ولا ينْفُونَ الوَبَرَ ولا يسْلون السَّمْنَ ، وإِذا خَرجَ أحدهم من الإحرام

(1/262)


لم يدخل من باب بيته ، وإنما سُمُّوا الحُمْسَ لأنهم تَحمَّسوا في دينهم أي تشددوا.
وقال أهل اللغة الحماسة الشدة في الغضب والشدة في القتال ، والحماسة على
الحقيقة الشدة في كل شيءٍ.
وقال العجاج :
وكمْ قطَعنا من قِفَافٍ حُمْس
أي شِدَاد - فأعلمهم اللَّه عزَّ وجلَّ أن تشددهم في هذا الإحرامْ ليس بِبر.
وأعلمهم أن البر التقي فقال : (وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى).
المعنى ولكن البر برُّ من اتقى مخالفةَ أمر اللَّه عزَّ وجلَّ ، فقال :
(وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا) فأمرهم اللَّه بترك سنة الجاهلية في هذه
الحماسة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190)
قالوا في تفسيره قاتلوا أهلَ مكة ، وقال قوم هذا أول فرض الجهاد ثم
نسخه (وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (ولا تَعْتَدُوا).
أي لا تظلموا ، والاعتداء : مجاوزة الحق ، وقيل في تفسيره قولان : قيل لا
تعتدوا : لا تقاتلوا غير من أمرتم بقتاله - ، ولا تقتلوا غيرهم ، وقيل لا تعتدوا : أي لا تجاوزوا إِلى قتل النساءِ والأطفال.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191)
أي حيث وجدتموهم ، يقال ثَقِفْتهُ أثقفه ثَقْفاً وَثَقَافَة ، ويقال : رجل ثَقِفٌ
لَقِفٌ.
ومعنى الآية : لا تَمْتنِعوا من قتلهم في الحرم وغيره .

(1/263)


وقوله عزَّ وجلَّ : (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ).
أي فكفرهم في هذه الأمكنة أشد من القتل.
وقَوله عزَّ وجلَّ : (وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ).
كانوا قد نُهوا عن ابتدائهم بقتل أو قتال حتى يبتدي المشركون بذلك.
وتقرأ : (ولا تَقْتُلوهم عند المسجد الحرام حتى يَقْتُلوكم فيه) أي لا تبدأوهم بقتل حتى يبدأوكم به ، وجائز ولا تقتلوهم وإن وقع القتل ببعض دون بعض ، لأن اللغة يجوز فيها قتَلْتُ القومَ وإنَّما قُتِلَ بعضُهم إذا كان في الكلام دليل على إرادة المتكلم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193)
هذا أمر من اللَّه عزَّ وجلَّ أن يقاتَل كل كافر لأن المعنى - ههنا في الفتنة
والكفر.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)
(الشَّهْرُ) رفع بالابتداءِ وخبره (بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ) ، ومعناه قتال الشهر الحرام.
ويروى أن المشركين سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الشهر الحرام هل فيه قتال : . فأنزل الله عز وجلَّ أن القتل فيه كبير ، أي عظيم في الإثم ، وإنما سألوا ليَغُرًّوا المسلمين ، فإن علموا أنهم لم يؤمروا بقَتلهم قاتلوهم ، فأعلمهم الله عزَّ وجلَّ أن القتال فيه محرم إلا أن يبتدئ المُشْرِكُونَ بالقِتَال فيه فيقاتلهم المسلمون :
فالمعنى في قوله : (الشَّهْرُ الْحَرَامُ) أي قِتَالَ الشهر الحرام ، أي في (الشهر الحرام ، بالشهر الحرام).
وأعلم اللَّه عزَّ وجلَّ أن هذه الحرمات قصاص ، أي لا يجوز للمسلمين
إلا قصاصاً.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَمن اعْتَدى عَليْكُمْ).

(1/264)


أي من ظلم فقاتل فقد اعتدى ، (فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) ، وسُمًيَ الثاني اعتداءً لأنه مجازاة اعتداء فسُمًيَ بِمِثل اسمه ، لأن صورة
الفعلين واحدة . وإن كان أحدهما طاعة والآخر معصية ، والعرب تقُول ظلمني فلان فظلمته أي جازيته بظلمه ، وجهل عليَّ فجهلت عليه أي جازيته
بجهله.
قال الشاعر :
ألا لا يجهلنَّ أحد علينا . . . فنَجهل فوق جهل الجاهلينا
أي فنكافئ على الجهل بأكثر من مقداره.
وقال اللَّه عزَّ وجلَّ : (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ)
وقال : (فَيسْخرون منهم سَخر اللَّهُ مِنْهُمْ).
جعل اسم مجازاتهم مكراً كما مكروا ، وجعل اسم مجازاتهم على سخريتهم سُخرياً ، فكذلك : (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ).
* * *
ْوقوله عزَّ وجلَّ : (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)
أيْ في الجهاد في سبيل اللَّه ، وكل ما أمر اللَّه به من الخير فهو من سبيل
الله ، أي من الطريق إلى اللَّه عزَّ وجلَّ.
لأن السبيل في اللغة الطريق ، وإنما استعمل في الجهاد أكثر لأنه السبيل الذي يقاتل فيه على عقد الدين.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (ولا تُلْقُوا بأيدِيكُم إلى التهْلُكَةِ).
أصل بأيديْكُمْ (بأيدِيكم) بكسر الياءِ . ولكن الكسرة لا تثبت في الياءِ (إذا
كان ما قبلها مكسوراً) لثقل الكسرة في الياءِ .

(1/265)


وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)
وقوله عزَّ وجلَّ : (إِلَى التَّهْلُكَةِ) معناه إلى الهلاك ، يقال هلك الرجل يهلكُ
هَلاكاً وهُلْكاً وتَهْلُكَةً وتَهُلِكَةً.
وتهْلُكَة اسم . ومعناه إن لم تنفقوا في سبيل الله هَلَكتم ، أي عصيتم الله فهلكتم ، وجائز أن يكون هلكتم بتقوية عدوكم
عليكم واللَّه أعلم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ).
أي أنفقوا في سبيل الله فمن أنفق في سبيل اللَّه فَمُحْسِن.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196)
يجوز في العمرة النصب والرفع : والمعنى في النصْب أتموهما.
والمعنى في الرفع وأتموا الحج ، والعمرةُ للهِ ، أي هي مما تَتَقرَّبون به إلى اللَّه " عزَّ وجلَّ وليس بفَرْض.
وقيل أيضاً في قوله عزَّ وجلَّ : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ). غير قول :
يُروى عن علي وابنِ مسعود - رحمة الله عليهما - أنهما قالا : إتمامهمَا أن
تحرم من دُويرة أهلك ، ويروى عن غيرهما إنَّه قال إِتمامُهما أن تكون النفقةُ
حلالاً . وينتهي عما نهى الله عنه.
وقال بعضهم إِن الحج والعمرةَ لهما مواقف
ومشاعر ، كالطواف والموقِفُ بعرفة وغير ذلك ، فإتمامهما تأدية كل ما فيهما ، وهذا بين ، ومعنى اعتمر في اللغة قيل فيه قولان.
قال بعضهم اعتمر قصد.
قَال الشاعر :
لَقدْ سما ابن معمر حين اعتمر . . . مغزى بعيداً من بعيد وضَبر

(1/266)


المعنى حين قصد مغزى بعيداً ، وقال بعضهم معنى اعتمر : زار من
الزيارة ، ومعنى العُمْرةِ في العَمل الطوافُ بالبَيْتِ والسعيُ بين الصفا والمروة
فقط ، والعمرة للِإنسان في كل السنة ، والحج وقته وقت واحد من السنة ، ومعنى اعتَمر عِنْدي في قصد البيت . أنه إِنما خص بهذا - أعني بذكر اعتمر - لأنه قصد العمل في وضع عامر لهذا قيل معتمر :
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ).
الرواية عند أهل اللغة أنه يقال للرجل الذي يمنعه الخوف أو المرض من
التصرف قد احصر فهو مُحْصَر - ويقال للرجل الذي حُبِسَ قد حُصِرَ فهو
مَحْصُور.
وقال الفراءُ : لو قيل للذي حُبِسَ أُحْصِرَ لجاز ، كأنه يجعل حابسه بمنزلة
المرض والخوف الذي ، منعه من التصرف ، وألحق في هذا ما عليه أهل اللغة من أنه يقال للذي يمنعه الخوفُ والمرضُ أُحْصِرَ وللمَحبُوس حُصِر ، وإِنما كان ذلك هو الحق لأن الرجل إذا امتنع من التصرفَ فقد حبس نفسه ، فكأن المَرض أحبسه أي جعله يحبس نفسه ، وقوله حصرت فلاناً إنما هو حبسته ، لا أنه حبس نفسه ، ولا يجوز فيه أحصر.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ).
موضع " مَا " رفْع المعنى فواجب عليه ما اسْتَيسَر من الهَديِ ، وقد قيل في
الهدى : الهَدِي . والهَدِي جمْع هَديًةٍ . وهَدْي ، كقولهم في حَذْية السَرجِ حَذِيَّة
وحَذْيٌ . وقال بعضهم ما استيسر ما تيسر من الإبل والبقر.
وقال بعضهم بعير أو بقرة أو شاة وهذا هو الأجود.
(وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ).

(1/267)


قالوا في مَحِلهِ من كان حاجا محله يوم النحر ، ولمن كان معتمراً يوم
بدخل مكة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ).
- أي فعليه فدية ، ولو نصب جاز في اللغة على إضمار فليعط فدية أو
فليأت بفدية ، وإِنما عليه الفدية إذا حلق رأسه وحل من إِحرامه وقوله
(أَوْ نُسُكٍ) أي أو نَسيكة يذبحها ، والنسِيكة الذبيحة . .
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ).
أي فعليه ما استيسر من الهدي ، وموضع (ما) رفع ويجوز أن يكون نصباً
على إضمار فليهد ما استيسر من الهدي.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ).
معناه فعليه صيام ، والنصب ، جائز على فليصم هذا الصيام ، ولكن
القراءَة لا تجوز بما لم يقرأ به.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ)
قيل فيها غير قول : قال بعضهم : (كَامِلَةٌ) أي تكمل الثواب.
وقال بعضهم (كَامِلَةٌ) في البدل من الهدي.
والذي في هذا - واللَّه أعلم - أنه لما قيل (فصيام ثلاثة أيام في الحج
وسبعة إذا رجعتم) ، جاز أن يَتَوهم المتوهمُ أن الفرض ثلاثة أيام في الحج أو
سبعة في الرجوع - فأَعلم اللَّه عزَّ وجلَّ - أن العشرة مفترضة كلها ، فالمعنى

(1/268)


المفروض عليكم صوم عشرة كاملة على ما ذكر من تفرقها في الحج والرجوع.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ).
أي هذا الفرض على من لم يكن من أهله بمكة
و (حاضري المسجد الحرام) أصله حاضرين المسجدَ الحرام فسقطت النون للإضافة وسقطت الياءُ في الوصل لسكونها وسكون اللام في المسجد ، وأما الوقف فتقول فيه متى اضطررت إلى أن تقف (حاضري)
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197)
قال أكثر الناس : إن أشهر الحج شوالُ وذُو القَعدة وعشر منْ ذي
الحجًة.
(فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ).
وقال بعضهم : لو كانت الشهور التي هي أشهر الحج شوالاً ، وذا القعدة لما جاز للذي منزله بينه وبين مكة مسافة أكثر من هذه الأشهر أن يفرض على نفسه الحج.
وهذا حقيقته عندي أنه لا ينبغي للإنسان أن يبتدئ بعمل من أعمال
الحج قبل هذا الوقت نحو الإحرام ، لأنه إذا ابتدأ قبل هذا الوقت أضر بنفسه - فأمر الله عزَّ وجل - أن يكون أقصى الأوقات التي ينبغي للإنسان ألا يتقدمها في عقد فرض الحج على نفسه شوالًا ، وقال بعض أهل اللغة : معنى الحج إنما هو في السنة في وقت بعينه ، وإنما هو في الأيام التي يأخذ الإنسان فيها في عمل الحج
لأن العمرة له - في طول السنة ، فينبغي له في ذلك الوقت ألا يَرْفُث ولا يفْسُقَ.
وتأويل (فلا رفَثَ ولا فُسْوقَ) ، لا جماعَ ولا كلمةً من أسباب الجماع قال
الراجز :
عن اللَّغَا وَرَفَث التَكَلمِ

(1/269)


والرفث كلمة جامعة لما يريده الرجل من أهله.
وأمَّا فَلا فُسُوقَ فإذا نُهيَ عن الجِماع كُلَّهِ فالفسوق داخل فيه - ولكن المعنى - واللَّه أعلم - فلا فسوق أَي لا يخرج عن شيء من أمر الحج -
وقالوا في قوله (ولا جدالَ في الحج) قولين :
قالوا : (لا جدَالَ في الحَجِّ) - لا شك في الحج ، وقالوا لا ينبغي للرجل أن يجادل أخاه فيخرجه الجدال إِلى ما لا ينبغي تعظيماً لأمر الحج ، وكلٌّ صَوابٌ ، ويجوز فلا رفثٌ ولا فسوق ولا جدالٌ في الحج.
وبعضهم يقرأ - وهو أبو عمرو - (فلا رَفَثٌ ولاَ فُسُوقٌ ولا جِدَالٌ في الحج) . وكلٌّ صَواب.
وقد شرحنا (أن) لا تنصب النكرات بغَير تنوين وبيَّنَّا حقيقةَ نصبها وزَعم سيبويه والخليلُ أنه يجوز أن تُرفَع النًكرات بتَنْوينِ
وأن قول العجاج
تالله لولا أن يحشَّن الطُّبَّخُ . . . بَي الجَحيمَ حينَ لامُسْتَصرخُ
يجب أن يكون رفع مستصرخ بلا ، وأن قوله.
مَن صَدَّ عن نِيرانِها . . . فأنا ابن قيس لاَ بَراحُ

(1/270)


وحقيقة ما ارتفَعَ بعدها عند بعض أصحابه على الابتداءِ لأنه إذا لم تنصب
فَإنَّما يُجريَ ما بعدها كما يُجرى ما بعد هَل ، أي لا تَعْمل فيه شيئاً ، فيجوز أن يكون لا رفث على ما قال سيبويه ويجوز أن يكون على الابتداءِ كما وصفنا ، ويكون في الحج هو خبر لهذه المرفوعات ، ويجوز إِذا نصبت ما قبل المرفوع بغير تنوين وأتيت بما بعده مرفوعاً أن يكون عطفاً على الموضع ، ويجوز أن يكون رفعه على ما وصفنا ، فأما العطف على الموضع إِذا قلت لا رجل وغلام في الدار فكأنك قلت ما رجل ولا غلام في الدار.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى).
يروى أن قوماً كانوا يخرجون في حجهم يَتَأكَّلونَ الناس ، يخرجون بغير
زاد ، فأمروا بأن يتزودوا ، وأعلموا مع ذلك أن خير ما تزود به تقوى اللَّه
عزَّ وجلَّ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ).
(الألباب) واحدها لب ، وهي العقول (أُولِي) نصب لأنه نداء مضاف.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198)
قيل إنهم كانوا يزعمون أنه ليس لِحمَّال ولا أجير ولا تَاجر حج فأعلمهم
اللَّه عزَّ وجلَّ . أن ذلك مباح ، واف لا جناح فيه ، أي لا إِثم فيه ، وجناح اسم ليس ، والخبر عليكم ، وموضع أنْ نصب على تقدير ليس عليكم جناح في أن تبتغوا فلما أسقطت " في " عمل فيها معنى جناح.
المعنى لستم تأثمون أن تبتغوا ، أي في أن تبتغوا .

(1/271)


وقوله عزَّ وجلَّ : (فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ).
قد دل بهذا اللفظ أن الوقوف بها واجب لأن الِإفاضة لا تكون إلا بعد
وقوف ، ومعنى (أفضتم) ، دَفعتم بكثرة ، ويقال أفاض القوم في الحديث إذا اندفعوا فيه وأكثروا التصرف.
وأفاض الرجل إِناءَه إِذا صبه وأفاضَ البعيرُ بجرته إذا
رمى بها متَفرقَةً كثيرة.
قال الراعي :
وأفضْن بعد كظُومُهن بجرة . . . من ذي الأباطح إذ رعْين حقيلا
وأفاض الرجل بالقداح إذا ضرب بها ، لأنها تقع منبعثة متفرقة
قال أبو ذؤلب :
وكأنهنَّ رِبابَة وكأنَّه . . . يَسِر يَفِيض على القِداح ويصدع
وكل ما في اللغة من باب الإفاضة فليس يكون إِلا من تَفْرقةٍ اوكثرة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (مِنْ عَرَفَاتٍ).
القراءَة والوجه الكسر والتَنْوينُ ، وعرفات اسم لمكان واحد ولفظه لفظ
الجمع ، والوجه فيه الصرف عند جميع النحوين لأنه بمنزلة الزيدين يستوي نصبه وجره ، وليس بمنزلة هاءِ التأنيث - ، وقد يجوز منعه من الصرف إذا كان اسماً لواحد ، إِلا أنه لا يكون إلا مكسوراً وإن أسقطت التنوين.
قال امرؤ القيس :

(1/272)


تنورثها من أذرعاتَ وأهلُها . . . بيثرب أدنى دارها نظر عال
فهذا أكثر الرواية ، وقد أنشد بالكسر بغير تنوين ، وأما الفتح فخطأ لأن
نصب الجمع وفتحه كسر.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ).
هو مزدلفة ، وهي جمع ، يسمى بهما جميعاً المشعر المتعبد
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ).
موضع الكاف نصب ، والمعنى واذكروه ذكراً مثل هدايته إياكم أي يكون
جزاء لهدايته إياكُم ، واذكروه بتوحيده ، والثناءِ عليه والشكر.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ).
معنى (من قبله) أي من قبل هدايته ، ومعنى كنتم من قبله (لمن
(الضالين) هذا من التوكيد للأمر ، كأنه قيل وما كنتم من قبله إلا ضالين.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199)
قيل كانت الحُمْسُ من قريش وغيرها (وقد بيَّنَّا الحمس فيما تقدم)
لا تفيض مع الناس في عرفة - تتمسك بسنتها في الجاهلية ، وتفعل ذلك افتخاراً على الناس وتعالياً عليهم ، فأمرهم الله عزَّ وجلَّ أن يساووا الناس في الفرض ، وأن يقفوا مواقفهم وألا يفيضوا من حيث أفاضوا.
وقله عزَّ وجلَّ : (وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
أي سلوه أن يغفرَ لكم من مخالفتكم الناسَ في الِإفاضة والموقف.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200)

(1/273)


أي متعبداتكم التي أمرتم بها في الحج.
(فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ).
وكانت العرب إذا قضت مناسكها ، وقفت بَيْن المسْجد بمنى وبين الجبل
فتعدد فضائل آبائها وتذكر محاسنَ أيامها.
فأمرهم اللَّه أن يجعبوا ذلك الذكر له.
وأن يزيدوا على ذلك الذكر فيذكروا اللَّه بتوحيده وتعديد نعمه ، لأنه إِنْ كانت لآبائهم نعم فهي من اللَّه عزَّ وجلَّ ، وهو المشكور عليها.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا).
(أَشَدَّ) في موضع خفض ولكنه لا يتصرف لأنه على مثال أفعل ، وهو
صفته ، وِإن شئت كان نصباً على واذكروه أشد ذكراً.
و (ذِكْرًا) منصوب على التميز.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا).
(آتنا) وقف لأنه دعاء ، ومعناه أعطنا في الدنيا ، وهُؤلاءِ مشركو العرب
كانوا يسألون التوسعة عليهم في الدنيا ولا يسألون حظا من الآخرة لأنهم كانوا غير مؤمنين بالآخرة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ).
يعني هُؤلاءِ ، والخلاق النصيب الوافر من الخير.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201)
هؤُلاءِ المؤمنون يسْألون الحظ في الدنيا والآخرة.
والأصل في " قنا " اوْ قِينا -
ولكن الواو سقطت كما سقطت من يَقِي ، لأن الأصل " يَوْقي " فسقطت الواو

(1/274)


لوقوعها بين ياء وكسرة ، وسقطت ألف الوصل للاستغناء عنها لأنها اجتلبت
لسكون الواو ، فإذَا أسقطت الواو فلا حاجة بالمتكلم إليها ، وسقطت الياءُ
للوقف - وللجزم في قول الكوفيين - والمعنى أجعلنا مُوقَيْنَ مِن عذاب النار.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202)
أي دعاؤهم مستجاب لأن كسبهم ههنا الذي ذكر هو الدعاءُ
وقد ضمن اللَّه الِإجابة لدعاء من دعاه إِذا كان مؤمناً ، لأنه قد أعلمنا أنه يضل أعمال الكافرين ، ويحبطها ، ودعاؤُهم من أعمالهم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَاللَّهُ سَرِيعُ الحِسَابِ).
المعنى أنه قد علم ما للمحاسَب وما عليه قَبْل توقيفه على حسابه ، فالفائدة
في الحساب علم حقيقته - وقد قيل في بعض التفسير - إِن حساب العبد أسرع من لمح البصر - واللَّه أعلم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)
قالوا : هي أيام التشريق ، (معدودات) يستعمل كثيراً في اللغة للشيءِ
القليل - وكل عدد قل أو كثر فهو معدود ، ولكن معدودات أدل على القلة ، لأن كل قليل يجمع بالألف والتاء ، نحو دريْهمَات وجماعات.
وقد يجوز وهو حسن كثير أن تقع الألف والتاء للكثير ، وقد ذُكِرَ أنه عيبَ عَلى القائل :
لنا الجَفَنَاتُ الغر يلمعْن بالضحى . . . وأسيافنا يقطرْنَ من نجدة دمَا
فقيل له لم قَلَّلْتَ الجَفَنَاتِ ولَمْ تَقُل : الجِفان.
وهذا الخبر - عندي - مَصْنوع لأن الألف والتاء قد تأتي للكثرة - قال اللَّه
عزَّ وجلَّ :

(1/275)


(إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ).
وقال : (في جنات) ، وقال (في الغرفات آمنون) ، فالمسلمون ليسوا في جنات قليلة ، ولكن إذا خص القليل في الجمع بالألف والتاء ، فالألف والتاء أدل عليه ، لأنه يلي التثْنِيَةِ ، تقول : حمام ، وحمامان وحمامات ، فتؤَدى بتاءِ الواحد ، فهذا أدل على القليل ، وجائز حسن أن يراد به الكثير ، ويدل المعنى المُشَاهَدُ على الإرَادَة ، كما أن قولك جمع يدل على القليل والكثير.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ).
أي من نفر في يومين.
(فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى).
قيل لمن اتقى قتل الصيد ، وقالوا : لمن اتقى التفريط في كل حدود الحج.
فموسع عليه في التعجل في نَفْرِه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204)
- موضع (مَنْ) رفع على ضربين : على الابتداء ، وبالعامل في (مِنْ) وقد
شرحنا هذا الباب.
ويروى أن رجلًا من ثقيف كان يعجب النبي - صلى الله عليه وسلم - كلامُه ، ويظهر له من الجميل خلاف ما في نفسه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ).

(1/276)


وإِن قلت ويشْهدُ اللَّه على ما في قلبه فهو جائز إِن كان قد قرئ به
والمعنى فيه أن الله عالم بما يُسِرَّه ، فأعلم اللَّه عزَّ وجلَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - حقيقةَ أمر هذا المنافق - وقال : (وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ).
ومعنى خَصم ألدُّ في اللغة - الشديد الخصومة والجَدَلِ ، واشتقاقه من
لُدَيْدَي العُنق ، وهما صفحتا العنق ، وتأويله ، أن خصمه في أي وجه أخذ - من يمين أو شمال - من أبواب الخصومة غلبه في ذلك.
يقال رجل ألدُّ ، وامرأة لَدَّاء
وقوم لُدٌّ - وقد لَدَدْتُ فُلاناً ألَده - إِذا جادلته فغلبتُه.
وخصام جمع خَصْمٍ ، لأن فعلاً يجمع إِذا كان صفة على فِعَالٍ ، نحو صَعْب وصِعَاب ، وخَدْل وخِدَال.
وكذلك أن جعلت خصماً صفة ، فهو يجمع على أقل العدد ، وأكثره على فَعُول وفِعَالٍ جميعاً ، يقال خَصْم وخِصَام وخُصُوم ، وإِن كان اسماً فَفِعَال فيه أكْثر العدَدِ ، نحو فَرْخ وأفراخ ، لأقل العدد ، وفِراخ وفُروخ لما جاوز العشرة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205)
نصب (لِيُفْسِدَ) على إضمار أن ، المعنى لأن يفسد فيها ، وعطف ويُهلك
علي وُيفسد ، ويجوز أن يكون (يُهْلِكَ الحَرْثَ والنَسْلَ) على الاستئناف أي وهو يهلكُ الحرثَ والنسل ، أي يعتقد ذلك.
وقالوا في (الحرث والنسل) : إن الحرث النساء والنسل الأولاد.
وهذا غير منكر

(1/277)


لأن المرأة تُسمَّى حرْثاً - قال اللَّه عزَّ وجلَّ : (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ)
وأصل هذا إِنما هو في الزرع ، وكل ما حرث . فيشبه ما منه الولد بذلك . وقالوا في الحرث هو ما تعرفه من الزرع . لأنه إذَا أفسد في الأرض أبطل - بإفْساده وإِلقائه الفتنة - أمْرَ الزراعة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207)
قال أهل اللغة - (يَشْرِي نَفْسَهُ) يبيع نفسه ، ومعنى بيعه نفسه بذلها في الجهاد
في سبيل اللَّه.
قال الشاعر في شريت بمعنى بعت :
وَشَرَيْتُ بُرداً ليتني . . . من بعد برد كنت هامه
وقال أهل التفسير هذا رجل كان يقال له صهيب بن سنان . أراده
المشركون مع نفر معه على ترك الِإسلام ، وقتلوا بعض النفر الذين كانوا معه
فقال لهم صهيب أنا شيخ كبير ، إن كنت عليكم لم أضُركم " وإِن كنت معكم لم أنفعكم فخلوني وما أنا عليه ، وخذوا ماليَ فقبلوا منه ماله ، وأتى المدينة فلقيه أبو بكر الصديق رضي اللَّه عنه فقال له : ربح البيع يا صهيب ، فرد عليه وأنت فربح بيعك يا أبا بكر وتلا الآية عليه .

(1/278)


ونصب (ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ) على معنى المفْغول له.
المعنى يشريها لابتغاءِ مرضاة اللَّه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208)
(كافة) بمعنى الجميع الِإحاطة ، فيجوز أن يكون معناه ادخلوا جميعاً ، ويجوز
أن يكون معناه : ادخلوا في السلم كله أي في جميع شرائعه ، ويقال السلْم
والسلم - (جميعاً) ، ويعني به الِإسلام والصلح ، وفيه ثلاث لغات : يقال :
السِّلْم ، والسَّلَمُ ، والسَّلْمُ ، وقد قرئ به : (وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ ألْقَى إِلَيْكم
السلَامَ).
ومعنى (كافة) في اشتقاق اللغة ما يكف الشيء من آخره ، من ذلك كفُة
القميص ، يقال لحاشية القميص كُفة ، وكل مستطيل فحرفه كُفَه ، ويقال في كل مستدير كِفَّه ، وذلك نحو كِفَّة الميزان ، ويقال إِنَّما سميت كُفَّة الثوب لأنها تمنعه أن ينتشر ، وأصل الكَف المنع ، ومن هذا قيل لطرف اليد " كف " لأنها يكف بها عن سائر البدن ، وهي الراحة مع الأصابع ، ومن هذَا قيل رجل مكفوف ، أي قد كُف بصره من أن ينظر : فمعنى الآية : ابْلغُوا في الِإسلام إلى حيث تنتهي شرائعه ، فكفوا من أن تعدوا شرائعه.
أو ادْخُلُوا كلكم حتى يكف عن عددٍ وأحدٍ لم يدْخل فيه.
وقيل في معنى الآية أن قوعاً من إليهود أسلموا فأقاموا على
تحريم السبت وتحريم أكل لحوم الِإبل ، فأمرهم اللَّه عزَّ وجلَّ - أن يدخلوا في
جميع شرائع الِإسلام وقال بعض أهل اللغة : جائز أن يكون أمرَهُمْ - وهم مؤمنون - أن يدخلوا في الِإيمان ، أي بأن يقيموا على الِإيمان ويكونوا فيما
يستقبلون عليه كما قال : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ) ، وكلاَ القولين

(1/279)


جائز لأن الله عزَّ وجلَّ ، قد أمر بالِإقامة على الِإسلام فقال : (وَلَا تَمُوتُنَّ إِلا
وَأنْتم مُسْلِمونَ).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَا تَتبِعُوا خطواتِ الشيْطَانِ).
أي لا تقتفوا آثاره ، لأنَّ تَركَكم شيئاً من شرائع الِإسلام اتباع الشيطان.
(خُطُواتِ) جمع خطوة ، وفيها ثلاث لغات : خُطُوات ، وخطَوات ، وخُطْوات ، وقد بيَّنَّا العلة في هذا الجمع فيما سلف (من الكتاب).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209)
يقال زل يزِل زَلاً وزلَلاً جميعاً ، ومَزلَّة ، وزل - في الطين زليلًا ، ومعنى
(زَلَلْتُمْ) تنحيتم عن القصد والشرائع.
(فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).
ومعنى (عَزِيزٌ) : لا يُعْجِزونه ولا يُعجزه شيء . ومعنى (حَكِيمٌ) ، أي حكيم فيما فطركم عليه ، وفيما شرع لكم من دينه.
* * *
ْوقوله عزَّ وجلَّ : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210)
قال أهل اللغة معناه يأتيهم اللَّه بما وعدهم من العذاب ، والحساب كما
قال : (فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا) أي آتاهم بخذلانه إياهم.
و (ظُلَلٍ) جمع ظُلَّة . و (الملائكة) تقرأ على وجهين بالضم والكَسْر فمن قرأ الملائكةُ بالرفع ،

(1/280)


فالمعنى ينظرون إلا أن يأتيهُبم اللَّه والملائكةُ ، والرفع هو الوجه المختار عند أهل اللغة في القراءَة ، ومن قرأ والملائكة ، فالمعنى هل ينظرون إلا أن يأتيهُمُ الله في ظلل مِنَ الغمام وظُلَل منَ الملائكة.
ومعنى (وَقُضِيَ الأمْرُ) أي فرغ لهم ما كانوا يُوعَدُونَ.
ومعنى (وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ)
وتَرجِعُ الأمور - يقرأان جميعاً - تُرَدُّ
فإن قال قائل أليست الأمور - الآن وفي كل وقت - راجعة إِلى الله عزَّ وجلَّ ، فالمعنى في هذا : الإعْلامُ في أمر الحساب والثواب والعقاب ، أي إِليه تصيرون فيعذب من يشاءُ ويرحم من يشاءُ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211)
الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - والمعنى له ولسائر المؤمنين وغيرهم . المعنى أنهم أعْطُوا آياتٍ بينات قد تقدم ذكرها ، وقد علموا صحة أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - وجحدوا ، وهم عالمون بحقيقته.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ).
يعني به في هذا الموضع حُجَجَ اللَّه الدالة على أمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - فإن الله شديد العقاب (أي شَدِيدُ التعْذِيبِ).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212)
رُفِعَ على ما لم يسم فاعله ، و (زُيِّنَ) جاز فيه لفظ التذكير ، ولو كانت زُيِّنَت
لكان صواباً . وزين صواب حسن ، لأن تأنيث الحياة ليس بحقيقي ، لأن معنى
الحياة ومعنى العيش واحد ، وقد فُصِلَ أيضاً بين الفعل وبين الاسم المؤنث .

(1/281)


وقيل في قوله (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا) قولان :
قال بعضهم زينها لهم إِبْلِيس ، لأن اللَّه عزَّ وجلَّ قَد زَهَّد فيها وأعلم أنها متاع الغرور.
وقال بعضهم : معناه أن اللَّه عزَّ وجلَّ خلق فيها الأشياءَ المعجبة فنظر إليها الذين كفروا بأكثر من مقدارها ، ودليل قول هُؤلاءِ قوله تعالى :
(زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ)
وكلٌّ جائز.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا).
كان قوم من المشركين يسخرون من المسلمين لأن حالهم في ذات اليد
كانت قليلة ، فأعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - بأن الذين اتقوا فوقهم يوم القيامة . لأن المسلمين في عليين والفجَّارَ في الجحيم ، قال اللَّه - عزَّ وجلَّ -
(إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29.
ومعنى : (واللَّهُ يَرْزقُ مَنْ يَشَاءُ بغَيْر حِسَابٍ).
أي ليس يَرْزُق المؤمنَ على قدر إيمانه ولا يَرزُقُ الكافرَ على قدر كفره.
فهذا معنى (بغير حساب) - أي ليس يحاسبه بالرزق في الدنيا على قدر العمل ، ولكن الرزق في الآخرة على قدر العمل وما يتفضل اللَّه به جلَّ وعزَّ.
قوله عزَّ وجلَّ : (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)
أي على دين واحد ، والأمة في اللغة أشياءُ ، فمنها الأمة الدين ، وهو
هذا ، والأمة القَامة يقال فلان حسن الأمَّة ، أي حسن القامة.
قال الشاعر :
وأن معاوية الأكرمين حِسَان الوجُوه طوال الأمَمْ

(1/282)


أي طوال القامات ، والأمة القرن من الناس ، يقولون قد مضت أمَمٌ أي
قرون ، والأمة الرجَل الذي لا نظير له.
ومنه قوله عزَّ وجلَّ - (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا).
قال أبو عبيدة معنى (كَانَ أُمَّةً) كان إمَاماً ، والأمة في اللغة النَعْمَةُ والخير.
قال عدي بن زيد.
ثم بعد الفلاح والرشد والأمَّةِ وارتْهُمُ هناك القبور.
أي بعد النعمة والخير ، وذكر أبو عمرو الشيباني أن العرب تقول للشيخ
إذا كان باقي القوة فلان بِأمَّةٍ ، ومعناه راجع إلى الخير والنعمة ، لأن بقاءَ
قوته من أعظم النعمة ، وأصل هذا كله من القصد ، يقال أمَمْتُ الشيءَ إذا
قصدْتُه ، فمعنى الأمة في الدين أن مقصدهم مقصد واحد ، ومعنى الأمة في
الرجل المنفرد الذي لا نظير له ، أن قصده منفرد من قصد سائر الناس.
ويروى أن زيد بن عدي بن نفيل يبعث يوم القيامة أمة وحده وإنما

(1/283)


ذلك لأنه أسلم في الجاهلية قبل مبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - فمات موحداً فهذا أمة في وقته لانفراده ، وبيت النابغة :
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة . . . وهل يأثمن ذو أمَّةٍ وهو طائع
ويروى ذو أمَةَ ، وذو إمة ، ويحتمل ضربين من التفسير : ذو أمة : ذو دين
وذو أمة : ذو نعمة أسْدَيَتْ إليه ، ومعنى الأمة القامة : سائر مقصد الجسد.
فليس يخرج شيء من هذا الباب عن معنى أممت أي قصدت ، ويقال إِمامنا
هذا حَسنُ الأمة أي يقوم بإمامتهِ بنَا في صلاته ويحسن ذلك.
وقالوا في معنى الآية غيرَ قول : قالوا كان الناس فيما بين آدم ونوح
عليهما السلام - كُفاراً ، فبعث الله النبيين يبشرون من أطاع بالجنة ، وينذرون من عصي بالنار ، وقال قوم : معنى كان الناس أمَّة واحدةً ، كان كل من بعث إليه الأنبياءِ كفاراً :
(فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ)
ونصب (مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) على الحال ، فالمعنى أن أمم الأنبياءِ الذين
بعث إليهم الأنبياءَ كانوا كفاراً - كما كانت هذه الأمة قبل مبعث النبي - صلى الله عليه وسلم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ).
أي ليفصل بينهم بالحكمة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ).
أي ما اختلف في أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا الذين أعْطُوا علمَ حَقيقتِهِ.
وقوله : (بَغْيًا بَيْنَهُمْ) نصب (بَغْيًا) على معنى مفعول له ، المعنى لم يوقعوا الاختلاف إلا

(1/284)


للبغي ، لأنهم عالمون حقيقة أمره في كتبهم.
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ).
أي للحق الذي اختلف فيه أهل الزيغ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (بِإِذْنِهِ) أي بعلمه ، أي من الحق الذي أمَرَ به.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ).
أي إلى طريق الدين الواضح ، ومعنى (يَهْدي من يشاءُ) : يدله على طريق
الهدى إذا طلبه غير متعنت ولا باغ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)
معناه : بل أحسبتم أن تدخلوا الجنة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ).
معنى (مثل الذين) : أي صفة الذين ، أي ولما يصبكم مثل الذي أصاب
الذين خلوا من قبلكم ، و (خلوا) - مضوا.
(مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ) البأْساءُ والضراءُ : القتل والفقر.
و (زُلزلوا) معنى (زلزلوا) - خُوِّفُوا وحُركُوا بما يُؤْذي ، وأصل الزلزلة في اللغة من زَلً الشيءَ عن مكانه فإذا قلت زلزلة فتأويله كررت زلزلته من مكانه ، وكل ما فيه ترجع كررت فيه فاءُ التفعيل ، تقول أقل فلان الشيءَ إذا رفعه من مكانه فإِذا كرر رفعه ورده قيل قلقله ، وكذا صل ، وصَلْصَل وصَر وصَرْصَرَ ، فعلى هذا قياس هذا الباب.
فالمعنى أنه يكرر عليهم التحريك بالخوف.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (حتى يقولَ الرسُولُ).

(1/285)


قرئت حتى يقولَ الرسولُ - بالنصب - ويقولُ - بالرفع.
وإِذا نصبت بحتىٍ فقلت سرت حتى أدخلها.
فزعم سيبويه والخليل وجميع أهل النحو الموثوق
بعلمهم أن هذا ينتصب على وجهين.
فأحد الوجهين أن يكون الدخول غاية السير ، والسير والدخول قد نصبا جميعاً ، فالمعنى : سرت إِلى دخولها ، وقد مضى الدخول ، فعلى هذا نصبت الآية : المعنى وزلزلوا إِلى أن يقول الرسول . وكأنه حتى قول الرسول . ووجهها الآخر في النصب أعني سرت حتى أدخلها أن يكون السير قد وقع والدخول لم يقع ، ويكون المعنى سرت كي أدخلها - وليس هذا وَجْه نَصْب الآية.
ورفع ما بعد حتى على وجهين ، فأحد الوجهين هو وجه الرفع في الآية.
والمعنى سرت حتى أدخلها ، وقد مضى السير والدخول كأنَّه بمنزلة قولك
سرت فأدخلها . بمنزلة : (سِرْتً) فدخلتها ، وصارت حتى ههنا مما لا يَعْمَل
في الفعل شيئاً ، لأنها تلي الجمل ، تقول سرت حتى أني دَاخل - وقول
الشاعر :
فيا عجبا حتى كليب تَسُبُّنِي . . . كَأنَّ أباها نهشَلٌ أو مُجَاشِع
فعملها في الجمل في معناها لا في لفظها.
والتأويل سرت حتى دخولها
وعلى هذا وجه الآية . ويجوز أن يكون السير قد مضى والدخول واقع الآن وقد انقطع السير ، تقول سرت حتى أدخلها الأن ما امْنَع فَهذه جملة باب حتى . .
ومعنى الآية أن الجهد قد بلغ بالأمم التي قبل هذه الأمة حتى استبطأوا
النصر ، فقال الله عزَّ وجلَّ : (أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) .

(1/286)


فأعلم أولياءَه أنَّه ناصرهم لا محالةَ ، وأن ذلك قريب منهم كما قال :
(فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)
قيل إِنهم كانوا سألوا : عَلى مَنْ ينبغي أن يُفْضِلوا - فأعلم اللَّه عزَّ وجل
أن أول مَن تُفُضِّلَ عليه الوالدان والأقربون ، فقال :
(قُلْ مَا أنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ) أي من مال : (فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ).
أي يحصيه ، وإِذا أحصاه جازى عليه ، كما قال : (فمن يعمل مثقال ذرة
خيراً يره) . أي يرى المجازاة عليه ، لأن رؤْية فعله الماضي لا فائدة فيه.
ولا يرى لأنه قد مضى.
ومعنى " مَاذَا " في اللغة على ضربين ، فأحدهما أن يكون " ذا " في معنى
الذي ، ويكون ينفقون من صلته ، المعنى يسألونك أي شيءٍ الذي ينفقون كأنه أي شيء وجه الذي ينفقون ، لأنهم يعلمون ما المنفق ولكنهم أرادوا علم اللَّه وجهه.
ومثل جعلهم " ذَا " في معنى الذي قول الشاعر :

(1/287)


عَدَسْ ما لعَبَّادٍ عليك إمارَةٌ . . . أَمِنْتِ وهذا تَحْملين طليقُ
والمعنى والذي تحملينه طليق ، فيكون ما رفعاً بالابتداءِ ، ويكون ذا
خبرها.
وجائز أن يكون " مَا " " مع " " ذا " بمنزلة اسم واحد ، ويكون المَوضِع نَصباً
بـ (ينفقون).
المعنى يسألونك أي شيءٍ ينفقون ، وهذا إِجماع النحويين ، وكذلك
الوجه الأول إِجماعٌ أيضاً ، ومثل جعلهم ذا بمنزلة اسم واحد ، قول
الشاعر :
دَعِي ماذا علمت سأتقيه . . . ولكن بالمغيب فنبئيني
كأنه بمنزلة : دعي الذي علمت.
وجزم (وَمَا تَفْعَلوا) بالشرط ، واسم الشرط " ما " والجواب (فَإنَّ اللَّه بِهِ
عَلِيمٌ) وموضع " ما " نصب بقوله (تَفْعَلوا).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)
معنى (كتب عليكم) فرض عليكم ، والكره يقال فيه كرِهت الشيءَ كًرْهاً
وكَرْهاً ، وكَرَاهة ، وكَرَاهِيَةً ، وكل ما في كتاب الله عزَّ وجلَّ من الكُرْهِ فالفتح جائز فيه ، تقول الكُره والكَرْه اِلا أن هذا الحرف الذي في هذا الآية - ذكر أبو عبيدةَ - أن الناس مجمعونَ على ضَمهِ ، كذلك قراءَة أهل الحجاز وأهل الكوفة جميعاً (وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ) فضموا هذا الحرف .

(1/288)


ارتفع (كُرْهٌ) لأنه خبر الابتداءِ - وتأويله ذو كره - ومعنى كراهتهم القتال
أنهم إِنما كرهوه على جِنْس غِلَظَه عليهم ومشقًتِه ، لاَ أن المؤمنين يكرهون
فرض اللَّه - عزَّ وجلَّ - لأن اللَّه - عزَّ وجلَّ - لا يفعل إِلا ما فيه الحكمة
والصلاح.
وقوله : (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ).
(وهو خير لكم) يعني به ههنا القتال ، فمعنى الخير فيه ، أن مَنْ قُتِلَ
فهو شهيد وهذا غاية الخير ، وهو إنْ قَتَل مُثاب (أيضاً) وهادِمٌ أمرَ الْكُفْر.
وهو مع ذلك يغنم ، وجائز أن يستدعِيَ دخولَ من يقاتله في الإسلام ، لأن أَمر قتال أهل الإسلام كله كان من الدلالات التي تثبت أمر النبوة - والإسلَام ، لأن الله أخبر أنَّه ينصر دينه ، ثم أبان النصر بأن العدد القليل يغلبُ العددَ الكثيرَ فهذا ما في القتال من الخير الذي كانوا كرهوه.
ومعنى : (وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ).
أي عسى أن تحبوا القعود عن القتال فتحرموا ما وصص عن الخير الذي
في القتال.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)
(قتالٍ) مخْفُوضٌ على البدل من الشهر الحرام.
المعنى يسألونك عن قتال في الشهر الحرام ، وقد فسرنا ما في هذه الآية فيما مضى من الكتاب.
ورفع (قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ) (قِتَالٌ) مرتفع بالابتداءِ ، و (كَبِيرٌ) خبره .

(1/289)


ورفع (وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ) على الابتداءِ ، وخبر هذه الأشياءُ
(أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ)
والمعنى وصد عن سبيل اللَّه ، وكفر به ، وإخراج أهلَ المسجد الحرام منه
أكبر عند اللَّه أي أعظم إِثْماً.
(وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ).
أي والكفر أكبر من القتل ، المعنى وهذه الأشياءُ كفر ، والكفر أكبر من
القتل.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمَنْ يَرتَدِدْ مِنكُمْ عنْ دِينه فيمُتْ وهوكَافِرٌ).
يرتدد جزم بالشرط ، والتضعيف يظهر مع الجزم ، لسكون الحرف الثاني -
وهو أكثر في اللغة - وقرئَ : (يَا أيَهَا الذين امنوا من يَرتَدَّ) بالإدغام والفتح
وهي قراءَة الناسِ إِلا أهلَ المدينة فإِن في مصحفهم مَن يرتدد وكلاهما صواب ، والذي في سورة البقرة لا يجوز فيه إلا من يرتَدِدْ لإطباق أهل الأمصار على
إِظهار التضعيف وكذلك هو في مَصَاحفهم ، والقراءَة سنَة لا تُخَالف ، إِذا كان في كل المصحف الحرف على صورة لم تجز القراءَة بغيره.
ويجوز أن تقولَ من يرتدَّ منكم فتكسر لالتقاءِ السَّاكنين إِلا أن الفتح أجود
لانفتاحَ التاءِ ، وإِطباق القراءِ عليه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)
(الذين) نصب بأنَّ ، و (أُولَئِكَ) رفع بالابتداءِ ، و (يرجُونَ) خَبَرُ (أُولَئِكَ)
و (أُولَئِكَ يَرْجُونَ) خبرُ (إِنَّ الذين) - وإِنما قيل في المؤمنين المجاهدين ههنا أنهم إِنما يرجون

(1/290)


رحمة اللَّه لأنهم عند أنفسهم غيرُ بالغين ما يَجب لِلَّهِ عليهم ، ولا يعملون ما
يختمون به أمرهم.
وجملة ما أخْبَرَ الله به عن المؤمنين العاملين الصالحاتِ أنَّهم يجازَوْن بالجنة.
قال الله عزَّ وجلَّ : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219)
(الخمر) المجمع عليه ، وقياس كل ما عمل عملها أن يقال له خمر.
وأن يكون في التحريم بمنزلتها.
وتأويل الخمر في اللغة أنه كل ما ستر العقل ، يقال
لكل ما ستر الِإنسان مق شجرٍ وغيره خمر ، وما ستره من شجر خاصة ضَرَى ، " مقصور " ، ويقال دخل فلان في خِمَارٍ أي في الكثير الذي يستتر فيه وخِمار المرأة قناعها ، وإِنما قيل له خِمار لأنه يغطي ، والْخُمرَةُ التي يُسْجَد عليها إنما سميت بذلك لأنها تستر الوجه عن الأرض ، وقيل للعجين قد اختمر لأن فطرته قد غطاها الخمر أعني الاختمار - يقال قد اختمر العَجينُ وخَمَرَته ، وفَطَرْتُه وأفْطَرتُه.
فهذا كله يدل على أن كل مسكر خمر وكل مسكر مخالط العقل ومغط
عليه ، وليس يقول أحد للشارب إِلا مخمور - من كل سكر - وبه خُمَار ، فهذا بَيِّن واضح.
وقد لُبِّس على ابي الأسود الدؤُلي فقيل له : إِن هذا المسكر الذي سموه
بغير الخمر حلال فظن أن ذلك كما قيل له ، ثم قاده طبعه إِلى أن حكم بأنهُمَا
واحد ، فقال :
دع الْخَمْرَ يَشْربْها الغواةُ فإِنَني . . . رأيت أخَاها مجزياً لمكانها

(1/291)


فإلَاَ يكنها أوتكنه فإنه . . . أخوها غذَتْه أمها بلبانها
وقال أهل التفسير في قوله عزَّ وجلََّّ : (قُلْ فيهمَا إِثم كَبِير) وقرئت " كثير " قالَ قوم زَهَّد فيها في هذا الموضع وبين تحريمها في سورة المائدة في قوله :
(إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91).
ومعنى (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ)
التًحْضِيضُ على الانتهاءِ والتفديد على ترك الانتهاءِ.
وقال قوم : لا بل تحرم بما بين ههنا مما دل عليه الكتاب في موضع آخر.
لأنه قال : (إِثْمٌ كبير) وقد حرم الله الإثم نصًّا فقال : (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ).
وإنما بينا تحريم الخمر وإن كان مجمعاً عليه ليعلم أن نص ذلك في
الكتاب.
فأما الِإثم الكبير الذي في الخمر فبين ، لأنها توقع العداوة والبغضاءَ
وتحول بَيْنَ المرءِ وعقله الذي يميز به ويعرف ما يجب لخالقه . والقِمَارُ يورث
العداوة والبغضاء وإن مال الإنسان يصير إلى غيره بغير جزاء يؤخذ عليه ، وأما المنافع للناس فيه فاللذة في الخمر والربْحُ فِي المُتَجَّرِ فيها ، وكذلك المنفَعَةُ في

(1/292)


القمار ، يصير الشيءِ إلى الإنسان بغير كد ولا تعب فأَعلم اللَّه أن الإثم فِيهِما
(إثم) أكبر من نفعهما.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ).
النصنب والرفع في (العفو) جميعاً ، مَنْ " جعل (ماذا) اسماً واحداً رد العفو
عليه ومن جعل " ما " اسماً و " إذا " خبرها وهي في معنى الذي رد العفو عليه
فرفع ، كأنه قال : ما الذي ينفقون ؟
فقال : العفو ، ويجوز أن ينصب العفو وإن كان ما وحدها اسماً فتحمل العفو علي ينفقون ، كأنه قيل أنفقوا العفو.
ويجوز أيضاً أن ترفع - وإن جعلت (ماذا) بمنزلة شيء واحد على
"قل هًو العفوُ".
والعفوُ في اللغة الفضل والكثرة ، يقال عفا القومُ إذا كثروا . فَأمروا أَن
ينفقوا الفضل إلى أن فرضت الزكاة ، فكان أهل المكاسب يأخذ أحدهم من
كسبه ما يكفيه ويتصدق بباقيه ، ويأخذ أهل الذهب والفضة ما يكفيهم في
عامهم وينفقون باقيه هذا قد روي في التفسير ، والذي عليه الإجماع أن الزكاة في سائر الأشياء قد بينت ما يجب فيها.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (كَذَلِكَ يُبين اللَّه لكُمُ الآياتِ).
أي مثل هذا البيان في الخمر والميْسِرْ (يبين الله لكم الآيات) : لأن خطاب
النبي - صلى الله عليه وسلم - مشتمل على خطاب أمته كما قال عزَّ وجلَّ : (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ)
ومثل هذا في القرآن كثير يحكي مخاطبة الِإجماع بذلك ، وذلكم أكثر في

(1/293)


اللغة ، وقد أتي في القرآن في غير " ذَلِك " للجماعة - قال اللَّه تعالى :
(يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) -
والأصل ذلكن ، إلا أن الجماعة في معنى القبيل.
* * *
وقوله عز وجل : لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ).
يجوز أن يكون (تتفكرون في الدنيا والآخرة) من صلة تتفكرون المعنى لعلكم
تتفكرون في أمر الدنيا وأمر الآخرة - ، ويجوز أن يكون في الدنيا والآخرة من صلة كذلك يبين الله لكم الآيات).
أي يبين لكم الآيات في أمر الدنيا وأمر الآخرة
لعلكم تتفكرون.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)
هذا مما نحكم تفسيره في سورة النساءِ إنْ شاءَ الله ، إلا أن جملته أنهم
كانوا يظلمون اليتامى ، فيتزوجون العشر ويأكلون أموالهم مع أموالهم ، فَشُدِّدَ عليهم في أمر اليتامى تشديداً خافوا معه التزويج بنساءِ اليتامى ومخالطتهم ، فأعلمهم اللَّه أن الإصلاح لهم هو خير الأشياء ، وأن مخالطتهم في التزويج وغيره جائزة مع تحري الِإصلاح فقال : (وإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ) أي فهم إخوانكم.
فالرفع على هذا . والنصب جائز " وإِنْ تخالطوهم فإِخوانَكم " أي فإِخوانَكم
تخالطون ، ولا أعلم أحداً قرأ بها ، فلا تقرأَنَّ بها إِلا أن تثبت رواية صحيحة.
وقوله عزَّ وجلَّ : (ولَوْشَاءَ اللَّهُ لأعنَتَكُمْ).
قال أبو عبيدة معناه لأهلككم ، وحقيقته ولو شاءَ الله لكلفكم ما يشتد

(1/294)


عليكم فتعنتون ، وأصل العنتْ في اللغة من قولهم : عنِتَ البعير يعنت إذا حدث في رجله كسر بعد جبر لا يمكنه معه تصريفها ، ويقال اكمة غَنوتْ إِذا كان لا يمكن أن يُحازيها إلا بمشقة عنيفة.
وقوله عزَّ وجلَّ : (إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)).
أي يفعل بعزته ما يحب لا يدفغه عنه دافع.
(حَكِيمٌ) أي ذو حكمة فيما أمركم به من أمر اليتامى وغيره.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)
معنى (لَا تَنْكِحُوا) لا تتزوجوا المشركات ، ولو قرئت ولا تُنكِحوا المشركات
كان وجهاً ، ولا أعلم أحداً قرأ بها ، والمعنى في هذا ولا تتزوجوا المشركات حتى يؤمن ، ومعنى المشركات ههنا لكل من كفر بالنبي - صلى الله عليه وسلم -
واللغة تطلق على كل كافر إنما يقال له مشرك - وكان التحريم قد نزل في سائر الكفار في تزويج نسائهم من المسلمين ، ثم أحل تزويج نساءِ أهل الكتاب من بينهم . فقال اللَّه - عزَّ وجلَّ : (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ).
فإِن قال قائل : من أين يقال لمن كفر بالنبي - صلى الله عليه وسلم - مشرك وإِن قال إِن اللَّه عزَّ وجل واحد ؟
فالجواب في ذلك أنه إذا كفر بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فقد زعم أن ما أتى به من القرآن من عند غير اللَّه - جل ثناؤًه - والقرآن إِنما هو من عند اللَّه - عزَّ وجلَّ - لأنه يُعجِز المخلوقين أن يأتوا بمثله - فقد زعم أنه قد أتى غير الله بما لا يأتي به إِلا اللَّه - عزَّ وجلَّ - فقد أشرك به غيره .

(1/295)


وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا)).
أي لا تزوجوهم مُسْلِمَةً.
وقوله : (وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ).
معناه وإن اعجبكم ، إلا أن " لو " تأتي فْتنوب عن أن في الفعل الماضي.
ومعنى الكلام أن الكافر شر من المؤمن لكم وإن أعجبكم أي أعجبكم أمره في باب الدنيا ، لان الكافر والكافرة يدعوان إلى النار أي يعملان بأعمال أهل
النار - فكأن نَسْلَكُمْ يتربى مَعَ مَنْ هذه حاله.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَاللَّهُ يَدْعُو إلى الْجَنة والْمَغْفِرَةِ بِإذْنِه).
أي يدعوكم إلى مخالطة المؤمنين لأن ذلك أوصلُ لكم إلى الجنة
ومعنى (بإِذنه) أي بعلمه الذي أعلم إنَّه وصلة لكم إليها.
(وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ) أي علاماته ، يقال آية وآيٌ ، وآيات أكثر وعليها أتى القرآن
الكريم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ).
معنى لعل ههنا الترجي لهم أي ليكونوا هم راجين - واللَّه أعلم
أيتذكرون أم لا ، ولكنهم خوطبوا على قدر لفظهم واستعمالهم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)
يقال حاضت المرأة تحيض حَيْضاً ومَحاضاً ومَحِيضاً ، وعند النحويين أن
المصدر في هذا الباب " الْمَفْعِل " ، و " المفْعَل " جَيِّدٌ بَالِغٌ فيه يقال ما في
بُرِّكَ " مَكال " أي كيل ويجوز ما فيه " مَكيل ".

(1/296)


قال الشاعر وهو الراعي :
بُنِيَتْ مَرافِقُهُن فَوْق مَزلَّة . . . لا يستطيع بها القرادُ مقيلا
أي قيلولة ، ومعنى الآية أن العرب كانت تفعل في أمر الحائض ما كانت
تفعل المجوس ، فكانوا يجتنبون تَكْلِيفها عمل أي شيء وتُجْتَنَبُ في الجماع
وسائر ما تُكَلَّفُه النساء ، يريدون أنها نجَس ، فأعلم اللَّه أن الذي ينبغي أن
يجتنب منها بُضْع فقط ، وأنها لا تُنَخسُ شيئاً ، وأعلم أن المحيض أذى.
أي مستقذر ، ونهى أن تقرب المرأة حتى تتطهر من حيضها - بالماءِ بعد أن تطهر من الدم أي تنقى منه ، فقال : (وَلَا تَقْربُوهُن حَتى يَطْهُرْنَ) -
المعنى يتطهرن أي يغتسلن بالماءِ ، بعد انقطاع الدم - وَقُرِئَتْ حتى يَطهَّرْنَ " ولكن (فَإِذَا تَطَهَّرْنَ) يدل على (وَلَا تَقْرَبُوهُن حَتى يَطهرْنَ)
وكلاهما (يَطْهُرْن) ويطهَّرْن -
وقرئ بهما - جيِّدان.
ويقال طهَرَت وَطَهُرَتْ جمميعاً وطَهُرَتْ أكثر.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ).
أي من الجهات التي يحل فيها أن تُقْرب المرأة ، ولا تقربوهن مِنْ حيث
لا يَجب ، أعني ولا تقربوهن صاحباتٍ ولا عشيقاتٍ ، وقد قيل في التفسير :
(مِنْ حَيْثُ أمَرَكُمُ اللَّهُ). في الفروج ، ولا يجوز أن يُقْربن في الدبر ، والذي
يروى عن مالك ليس بصحيح لأن إِجماع المسلمين أن الوطءَ ، حيث يُبْتَغَى

(1/297)


النًسْلُ ، وأن أمر الدُّبُر فاحشة ، وقد جاءَ الحديث أن مَحَاشَّ النساء حرام.
ويكنى به عن الدبر.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223)
زعم أبو عبيدة أنه كناية ، والقول عندي فيه أن معناه أن نساءكمْ حرث
لكم منهن تحرثون الولد واللذة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ)).
أي كيف شئتم ، أي ائْتوا موضع حرثكم كيف شئتم ، وإنما قيل لهم
كيف شئتم ، لأن إليهود كانت تقول : إِذا جامع الرجل المرأة من خلفٍ خرج الولد أحول ، فأَعلم اللَّه أن الجماع إِذا كان في الفرج حلال على كل جهة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ).
أي اتقوا الله فيمَا حَدَّ لكمْ من الجِمَاع وامر الحيْض ، (وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ)
أي قدموا طاعته واتباعَ أمره ، فمن اتَبَعَ ما أمر الله به فقد قَدَّمَ لنفسه خيراً.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224)
موضع " أنْ " نصب بمعنى عرضة المعنى لا تعرضوا باليمين باللَّهِ في أن
تبروا - فلما سقطت " في " أفضى لمعنى الاعتراض ، فنصب أن.
وقال غير واحد من النحويين إن موضعها جائز أن يكون خفضاً وإن
سقطت " في " لأن " أن " الحذف فعها مستعمل ، تقول جئت لأن تضرب زيداً ، وجئت أن تضرب زيداً ، فحذفْتَ اللام مع " أن " ولو قلت جئت ضربَ زيد

(1/298)


تريد لضرب زيد لم يجز كما جاز مع " أن " لأن " أن " إذا وصلت - دل ما بعدها على الاستقبال.
والمعنى : كما تقول : جئتك أن ضربت زيداً ، وجئتك أن
تضرب زيداً ، فلذلك جاز حذف اللام . وإذا قلت : جئتك ضرب زيد لم يدل الضرب على معنى الاستقبال.
والنصب في " أن " في هذا الموضع هو الاختيار عند جميع النحويين.
ومعنى الآية أنهم كانوا يعتلون في البر بأنهم حلفوا ، فأَعلم اللَّه أن الإثم
إِنما هو في الإِقامة على ترك البر والتقوى ، وإن اليمين إذا كفرت فالذنب فيها
مغفور ، فقال عزَّ وجلَّ : (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225)
فقيل في معنى اللغو غير قول ، قال بعضهم معناه :
" لا واللَّه " و " بلى واللَّه " وقيل : إِن معنى اللغو الإِثم -
فالمعنى لا يؤاخذكم اللَّه بالإِثم في الحلف إِذا كَفًرْتُمْ.
وإِنَّمَا قيل له لغو لأن الإثم يسقط فيه إذا وقعت الكفارة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ).
أي بعَزْمكم على ألا تَبَروا وألا تتقوا ، وأن تعتلوا في ذلك بأنكم قد
حلفتم ، ويقال : لغوت ألغو لغْواً ، ولغوت ألْغَى لغواً ، مثل محوت أمحو
محواً ، وأمْحَى ، ويقال لغيت في الكلام ألغَى لَغًى ، إِذا أتيْتَ بلَغْو ، وكل ما لا خير فيه مما يؤثَمُ فيه أو يكون غير محتاج إليه في الكلام فهو لغو وَلَغِى.
قال العجاج :
عَنِ اللَّغا وَرَفَثِ التكلمِ.
وجملة الحلف أنه على أرْبَعَة أوجه ، فوجهان منها الفقهاءُ يجمعون أن

(1/299)


الكفارةَ فيهمَا واجبة ، وهو قولك : واللَّه لا أفعل أو واللَّه لأفْعَلَنَّ ، ففي هاتين الكفارة إِذا آثر أن يُخَالف ما حلف عليه ، إذا رأى غيره خيراً منه فهذا فيه الكفارة لا محالة.
ووجهان أكثر الفقهاءُ لا يرون فيهما الكفارة ، وَهُمَا قَولك : " واللَّه ما
قد فعلت " ، . وقد فعل أو " واللَّه لقد فعلت " ولم يفعل.
فهذا هو كذب أكَّدَهُ بيمين ، فينبغي أن يستغفر اللَّه منه ، فهذا جملة ما في اليمين.
ويجوز أن يكون موضع " أن " رفعاً ، فيكون المعنى : "ولا تجعلوا الله عرضة
لأيْمَانِكُمْ ، أنْ تَبروا وتَتَقُوا وتصلِحُوا أولَى ، أي البر والتقى أولى ، ويكون أولى محذوفاً كما جاءَ حذف أشياءَ في القرآن.
لأن في الكلام دليلاً عليها ، يشبه هذا منه : (طاعة وقول معروف)
أي طاعة وقول معروف أمْثَل.
والنصب في ان والجرُ مذهب النحويين ولا أعلم أحداً منهم ذكر هذا المذهب ونحن نختار ما قالوه لأنه جيد ، ولأن الاتباع أحب وإِن كان غيره جائزاً.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).
معناه في هذا الموضع يسمع أيمانكم ويعلم ما تقصدون بها.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226)
معنى (يُؤْلُونَ) يحلفون ، ومعناه في هذا الموضع أن الرجل كان لا يريد

(1/300)


المرأة فيحلف ألا يقربها أبداً ، ولا يُحب أن يزوجها غيره ، فكان يتركها لَا أيماً ولا ذاتَ زوج ، كانوا يفعلون ذلك في الجاهلية والِإسلام ، فجعل اللَّه الأجل الذي يعلم به ما عند الرجل في المرأة آخر مداه نهاية أربعة أشهر ، فإذا تمت أربعة أشهر ثمً لَمْ يَفئ الرجُلُ إلى امْرَأتِهِ ، أي لم يرجع إليها ، فإِن امرأته بعد الأربعة - في قول بعضهم - قَد بَانَتْ مِنْهُ ، ذكر الطلاق بلسانه أم لم يذكره.
وقال قوْم يْؤخذ بعد الأربعة بأن يطلق أو يَفِيءَ.
ويقال آليت أولي إِيلَاءً واليةً ، والُوَّةَ ، وإِلِوَّةً ، و (إِيَلُ).
" والكسر أقل اللغات ، ومعنى التربص في اللغة الانتظار.
وقال الذين احتجوا بأنه لا بد أن يذكر الطلاق بقوله عزَّ وجلَّ :
(وإِنْ عَزَمُوا الطلَاقَ فإِنَ اللَّه سَمِيعٌ عَلِيمٌ).
وقالوا (سميع) يدل على أنه استماع الطلاق في هذا الموضع ، وهذا
في اللغة غير مُمْتَنِع ، وجائز أن يكون إِنما ذكر (سميع) ههنا من أجل حلفه.
أي اللَّه قد سمع حلفه وعلم ما أراده ، وكلا الوجهين في اللغة محتمل.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)
يقال طَلَقَتِ المرأةُ طَلَاقاً فهي طَالِق ، وقد حكوا طَلُقتْ وقد زَعم قَوم أن
تاءَ التأنيثِ حُذِفَتْ من " طالِقَة " لأنه للمؤنثِ لاحظ للذكر فيه ، وهذا ليس
بشيء ، لأن في الكلام شيئاً كثيراً يشترك فيه الْمُذَكَر والمؤَنثُ لا تثبت فيه الهاء في المؤَنث ، نحو تولهم بعير ضامر ، وناقَةٌ ضَامِر ، وبعير ساعل وناقة

(1/301)


ساعل ، وهذا أكثر من أن يحصى.
وزعم سيبويه وأصحابه أن هذا وقع على لفظ التذكير صفة للمؤَنث لأن المعنى شيء طالق ، وحقيقته عندهم أنه على جهة النسب نحو قولهم امراة مذكار ورجل مذكار ، وامراة مئناث ورجل مئناث ، وإِنما معناه ذات ذكران وذات إِناث ، وكذلك مطفل ذات طفل.
وكذلك طالق معناه ذات طلاق.
فإِذا أجريته على الفعل قلت طالقة.
قال الأعشى :
أيَا جارتَا بينِي فإِنكِ طَالِقَةٍ . . . كذاكِ امور النَّاسِ غادٍ وَطَارقَة
وأما (ثلاثة قروءٍ) فقد اخْتَلَفَ الفقهاءُ وأهل اللغة في تفسيرها وقد ذكرنا
في هذا الكتاب جملة قول الفقهاء وجملة قول أهل اللغة :
فأما أهل الكوفة فيقولون : الأقْرَاءُ الحَيض ، وأما أهل الحجاز ومالك
فيقولون الأقراء الطهر ، وحجة أهل الكوفة في أن الأقراءَ و (القِراءَ) والقروء
الحيض ما يروى عن أم سلمة إنها استفتت لفاطمة بنت أبي حبيش وكانت

(1/302)


مستحاضة فقال - صلى الله عليه وسلم - تنتظر أيام أقرائها وتغتسل فيما سوى ذلك فهذا يعني أنَّها تحبس عن الصلاة أيام حيضها ثم تغتسل فيما سوى أيام الحيضَ ، وفي خبر آخر أن فاطمة سألته فقال إِذا أتى قرؤُك فلا تصلي ، فإِذا مر فَتَطَهَّرِي.
وصلِّي ما بين القرءِ إلى القرءِ ، فهذا مذهب الكوفيين ، والذي يقويه من
مذهب أهل اللغة أن الأصمعي كان يقول : القُرءُ الحيض ، ويقال أقرأتِ المرأة إذا حاضت.
وقال الكسائي والقراء جميعاً أقرأت المرأة إذا حاضت فهِي
مقريءٌ ، وقال القراءُ : أقرأت الحاجة إذا تأخرت.
وأنشدوا في القرء الحيض وهو بالوقت أشبه :
لَه قُروءٌ كقرُوُء الحائض
فهذا ؛ هو مذهب أهل الكوفة في الأقراء ، وما احتج به أهل اللغة مما
يقوي مذهبهم ، وقال الأخفش أيضاً : أقرأت المرأة إِذا حاضت ، وما قرأتْ
حيضة ما ضمَّت رحمَها على حيْضة .

(1/303)


وقال أهل الحجاز : الأقراءُ والقرُوُء واحد ، وأحدهما قَرءٌ ، مثل قولك :
فَرْعٌ ، وهما الأطهار ، واحتجوا في ذلك بما يروى عن عائشة أنها قالت الأقراءَ الأطهار ، وهذا مذهب ابن عمرو ومالك ، وفقهاءُ أهل المدينة ، والذَي يقوي مذهب أهل المدينة في أن الأقراءَ الاطهار.
قول الأعشى :
مُورِّثَةً مالا وفي الأصل رفعة . . . لما ضاع فيها من قُروء نسائِكا
فالذي ضاع هنا الأطهار لا الحيض.
وفي هذا مذهب آخر ، وهو أن القرءَ الطهر ، والقرء الحيض.
قال أبو عبيدة : إن القرءَ يصلح للحيض والطهر ، قال وأظنهُ من أقْرأتِ النُجومْ إِذَا غابت ، وأخبرني من أثق به يدفعه إلى يونس أن الِإقراءَ عنده يَصلح للحيض والطهر ، وذكر أبو عمرو بن العلاءِ أن القرءَ - الوقت ، وهو يصلح للحيض ويصلح للطهر ، ويقال : " هذا قارئ الرِّياح " : لوقت هبوبها.
وأنشد أهل اللغة :
شَنِئث العُقْر عقر بني شلَيل . . . إِذا هبت لقاريها الرياحُ

(1/304)


أي لوقت هبوبها ، وشدة بردها ، ويقال " ما قرأت الناقة سلا قط! أي
لم تضم رحمها على ولد ، وقال عمرو بن كلثوم :
نريكَ إذا دخلت على خلاءٍ . . . وقد أمنتْ عيونَ الكاشِحينا
ذراعي عَيْطَلٍ أدماءَ بكر . . . هجينَ اللون لم تقرأ جنينا
وأكثر أهل اللغة يذهب إلى أنها لم تجمع ولداً قط في رحمها وذكر
قطرب هذا القول أيضاً ، وزاد في لم تقرأ جنيناً أي لم تلقه مجموعاً.
فهذا جميع ما قال الفقهاءُ وأهل اللغة في القرءِ.
والذي عندي أن القرءَ في اللغة الجمع ، " وأن قولهم قَرَيْتُ الماءَ في الحوض
من هذا ، وإن كان قد ألْزِمَ الماء - فهو جمعته ، وقولك قرأت القرآن أي
لفظت به مجموعاً ، والقرد يُقْرئُ ، أي يجمع ما يأكل في بيته ، فإِنما القرءُ
اجتماع الدم في البدن ، وذلك إنما يكون في الطهر ، وقد يكون اجتماعه في
الرحم ، وكلاهما حسن وليس بخارج عن مذاهب الفقهاءِ ، بل هو تحقيق
المذهبين ، والمقرأة الحوضُ الذي يقرأ فيه الماءُ أي يجمع ، والمَقرَأ الِإناءُ
الذي يقرأ فيه الضيف.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ).
قيل فيه لا يحل لهن أن يكتمن أمر الولد لأنهن إِن فعلن ذلك فإنما
يقصدن إِلى إِلزامه غير أبيه.
وقد قال قوم هو الحَيْض . وهو بالولد أشبه لأن ما خلق الله في أرحامهن
أدل على الولد ، لأن اللَّه جلَّ وعزَّ قال : (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ)

(1/305)


وقال : (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا) فوصف خلق الولد.
" ومعْنى : (إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ).
تأويله إِن كن يصدقن باللَّه وبما أرهب به وخوف من عذابه لأهل الكبائر
فلا يكتمن ، كما تقول لرجل يظلمُ إِن كنت مؤمناً فلا تظلم ، لَا إنَّه يقول له
هذا مطلِقاً الظلم لغير المؤمن.
ولكن المعنى : إن كنت مؤمناً فينبغي أن يحجزك إِيمانك عن ظلمي.
ْوقوله عزَّ وجلَّ : (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ).
بعولة جمع بَعْل ، مثل ذكر وذكورة ، وعم وعمومة أشبه ببَعْلٍ وبعولة.
ويقال في جمع ذكر ذِكارة وحجر حِجَارة . وإِنما هذه الهاءُ زيادة مؤَكدة
معنى تأْنيث الجماعة ، ولكنك لا تدخلها إِلا في الأمكنة التي رواها أهل
اللغة ، لا تقول في كعب كعوبة ولا في كلب كِلابة ، لأن القياس في هذه
الأشياءِ معلوم ، وقد شرحنا كثيراً مما فيه فيما تقدم من الكتاب.
ومعنى (فِي ذَلِكَ) أَي في الأجل الذي امِرْنَ أن يتربصن فيه ، فأزواج
قبل انقضاءِ القروءِ الثلاثة أحق بردهن إِن رَدُّوهُنَّ على جهة الِإصلاح ، ألا ترى قوله : (إِنْ أرَادُوا إِصْلاَحاً).
ومعنى قوله عزَّ وجلَّ : (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ).
أي للنساءِ مثل الذي عَليهنَّ بما أمر الله به من حق الرجل على المرأة.
وهو معنى (بِالْمَعْرُوفِ).

(1/306)


وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ).
معناه زيادة فيما للنساءِ عليهن كما قال تعالى : (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ).
والمعنى أن المرأة تنال من اللَّذة من الرجل كما ينال الرجل ، وله
الفضل بنفقته وقيامه بما يصلحها.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).
معناهُ مَلِكٌ يحكم بما أراد ، ويمتحن بما أحب ، إِلا أن ذلك لا يَكون إِلا
بحكمة بالغة - فهو عزِيز حكيم فيما شرع لكم من ذلك.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229)
(الطلاقُ) رفع بالابتداءِ ، و (مرتان) الخبر ، والمعنى الطلاق الذي تمْلك فيه
الرجعة مرتان ، يدل عليه (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ) المعنى فالواجب عليكم إِمساك
بمعروف أو تسريح بإِحسان.
ولو كان في الكلام فإِمساكاً بمعروف كان جائزاً.
على فأمسكوهن إمساكاً بمعروف كما قال عزَّ وجلَّ :
(فأمسكوهن بمعروف أَو سرحوهن بمعروف) ، ومعنى (بمعروف) بما يعرف من إِقامة الحق في إِمساك المرأة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا).
أي مما أعطيتموهن من مهر وغيره.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ).
قرئت (يَخَافا) ، ويُحافَا - بالفتح والضم - قال أبو عبيدة وغيره : معنى

(1/307)


(إِلَّا أَنْ يَخَافَا) إِلا أن يوقنا ، وحقيقة قوله : (إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ)أن يكون الأغْلب عليهما وعندهما أنهما على ما ظهر منهما من أسباب التباعد
الخوفُ في أن لا يقيما حدود اللَّه - ومعنى (حُدُودَ اللَّهِ) ما حدَّه الله جلَّ وعزَّ مما لا تجوز مجاوزته إِلى غيره ، وأصل الحدِّ في اللغة المنع ، يقال حَدَدْتُ الدار.
وحددت حدود الدار ، أي بنيت الأمكنة التي تمنع غيرها أن يدخل فيها.
وَحَدَدْتُ الرجل أقمت عليه الحد ، والحد هو الذي به منع الناس من أن
يدخلوا فيما يجلب لهم الأذى والعقوبة ، ويقال أحدت المرأة على زوجها
وحدت فهي حَادٌّ وَمُحدٌّ ، إِذا امتنعت عن الزينة ، وأحددت إليه النظر إِذا منعت نظري من غيره وصرفته كله إِليه ، وأحْدَدْتُ السكين إِحْدَاداً.
قال الشاعر :
إِن العبادي أحَدَّ فأسَه . . . فعاد حدُّ فأسه برأسه
وَإِنَّمَا قيل للحديد حديد لأنه أمنع ما يمتنع به ، والعرب تقول للحاجب
والبواب وصاحب السجن : الحَدَّاد ، وإِنما قيل له حداد لأنه يمنع من يدخل
ومن يخرج ، وقول الأعشى :
فقمنَا ولمَّا يصحْ ديكُنَا . . . إِلى خمرة عند حَدَّادها
أي عند ربها الذي منع منها إِلا بما يريد.
ومعنى : (فلا تَعْتَدُوهَا) : أي لَا تُجَاوِزُوهَا.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230)
أي فإِن طلقها الثالثة ، لأن الثنتين قد جرى ذكرهما أيْ فلا تحل له حتى
تتزوج زوجاً غيره ، وفعل الله ذلك لعلمه بصعوبة تزوج المرأة على الرجل ،

(1/308)


فحرم عليه التزوج بعذ الثلاث لئلا يعجلوا بالطلاق ، وأن يَتَثَنتُوا.
وقوله عزَّ وجلَّ : (بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا) يدل على ما قلناه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا)
أي فإن طلقها الزوج الثاني فلا جناح عليها وعلى الزوج الأول أن
يتراجعا ، وموضع أن نصب ، المعنى لا يَأثمان في أن يتراجعا.
فلما سقطت " في " وصل معنى الفعل فنصب - ويجيز الخليل أن يكون موضع أن خفضا علىْ إِسقاط " في " ومعنى إرادتها في الكلام.
وكذلك قال الكسائي.
والذي قالاه صواب لأن " أن " يقع فيها الحذف ، ويكون جعلها موصولة عوضاً مما حذف ، ألا ترى أنك لو قلت لا جناح عليهما الرجوع لم يصلح . والحذف مع أن سائغ فلهذا أجاز الخليل وغيره أن يكون موضِع جر على إِرادة في.
ومعنى . (إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ).
أي إنْ كان الأغلب عليهما أن يقيما حدود اللَّه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ).
ويُقْرأ "نبينُهَا" بالياءِ والنون جميعاً.
(لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أي يعلمون أن وعد اللَّه حق وأن ما أتى به رسوله صدق.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231)
أي وقت انقضاءِ عدتهن.
(فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ).
أي اتركوهن حتى ينقضي تمام أجلهن ويكن أملك بأنفسهن.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا).

(1/309)


أي لا تمسكوهن وأنتم لا حاجة بكم إليهن ، وقيل إنه كان الرجل يطلق
المرأة ويتركها حتى يقرب انقضاءُ أجلها ثم يراجعها إضراراً بها ، فنهاهم الله
عن هذا الإضرار بهن.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ).
أي عَرَّضَها لعذاب اللَّه عزَّ وجلَّ : لأن إتيانَ ما نهى اللَّه عنه تعرض
لعذابه ، وأصل الظلم وضع الشي - في غير موضعه وقد شرحنا ذلك.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا) أي ما قد بينه لكم من
دلالاته ، وعلاماته في أمر الطلاق وغيره.
وقيل في هذا قولان : قال بعضهم : كان الرجل يُطَلِّقُ وُيعْتِقُ ويقول :
كنت لاعباً ، فأعلم الله عز وجل أن فرائضه لا لعب فيها ، وقال قوم : معنى (وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا) ، أي لا تَتْركُوا العَمل بما حدَّد اللَّه لكم فتكونوا مقصرين لاعبين كما تقول للرجل الذي لا يقوم بما يكلفه ، - ويتَوَانى فيه : إنما أنت لاعب.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232)
(فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ).
هذا مخاطبة للأولياءِ ، وفي هذا دليلُ أن أمر الأولياءِ بين.
لأنَّ المطلَّقة التي تراجع إِنما هي مالِكة بُضْعها إلا أن الولي لا بُد منه ، ومعنى
(تَعْضُلوهُنَّ) : تمنعوهُنَّ وتحبسوهنَّ ، من أن ينْكِحن أزْواجَهُنَّ.
والأصْل في هذَا فيما رُوي أن معقل بن يسَار طلق أختَه زوجُها ،

(1/310)


فَأبى معقل بن يَسار أن يزَؤَجَها إيَّاه ، ومَنَعَها بِحَقّ الولاَية منْ ذلك ، فلما نزلت هذه الآية تلاها عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال معقل : رَغِمَ أنْفِي لأمْر اللَّه.
وأصل العَضْل من قولهم : عضلت الدجاجة ، فهي مُعْضَل ، إذا احتبس
بيضها ونَشَبَ فلم يَخْرج ، ويقَال عضلت الناقة أيضاً ، فهي معْضَل إِذا احْتَبس ما في بَطْنِهَا . . .
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ).
أي بأمر الله الذي تلا عليكم ، (يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) ، أي من صدق بأمر اللَّه ووعيده والبعث وأطاع اللَّه في هذه الحدود.
وقال (ذلك يوعظ به) وهو يخاطب جميعاً ، وقد شرحنا القول فيه فيما
تقدم.
وقال بعض أهل اللغة : إنه توُهِّمَ أنَّ ذَا مع الْمعَارف كلمة واحدة.
ولا أدْري - منْ غَير قائل هذا - بهذا التوَهم . الله خاطب العرب بما يعقلونه
وخاطبهم بأفصح اللغات ، وليس في القرآن توهم ، تعالى اللَّه - عن هذا ، وإِنما حقيقة ذلك وذلكم مخاطبَة الجميع ، فالجميع لفظه لفظ واحد ، فالمعنى ذلكَ أيها القبيل يُوعظ به من كان منكم يؤمن باللَّه ، وقوله عزَّ وجلَّ بعد هذا.
(ذَلُكُمْ أزْكَى لَكمْ وأطْهَرُ).
يَدُل على أنَّ " ذلك " - و " ذلكم " مخاطبة للجماعة.
ومعنى (واللَّهُ يَعْلَمُ وأنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ).
أي الله يعلم ما لكم فيه الصلاح في العاجل والآجل ، وأنتم غير عالمين
إِلا بما أعلمكم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)

(1/311)


اللفظ لفظ الخبر والمعنى الأمر كما تقول : حسبك درهم فلفظه لفظ
الخبر ، ومعناه اكتف بدرهم ، وكذلك معنى الآية لترضع الوالدات يقال
أرضعت المرأة فهي مرضعة ، (قولهم) امرأة مرضع بغير هاءٍ ، معناه ذات
إِرضاع ، فإذا أردتم اسْمَ الفاعلَ عَلى أرضعَتْ قلتَ مرضعة لا غير.
ويقال : رُضِعَ المولود يُرْضَع ، وَرَضَعَ يرْضَع ، والأولى أكثر وأوضح.
ويقال : الرضَاعَةُ والرضَاعَةُ - بالفتح والكسر - والفتح أكثرُ الكلام وأصحه ، وعليه القراءَة (لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ).
وروى أبو الحسن الأخفش أن بعض بني تميم تقول الرضاعة بكسر
الراءِ ، وروى الكسرَ أيضاً غيره ، ويقال : الرَّضاع والرضَاعَ ويقال : ما حمله
على ذلك إِلا اللؤْم والرضَاعَة بالفتح لا غير ههنا.
ويقال : ما حمله عليه إِلا اللؤْم والرضْع مثل . الحلْف والرضْعُ ، يقالان
جميعا.
ومعنى (حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ) أربعة وعشرون شهراً ، من يوم يولد إِلى يوم
يفطم ، وإِنما قيل : (كَامِلَيْنِ) لأن القائل يقُول : قد مضى لذلك عامان وسنتان فيجيز أن السنتين قد مضتا ، ويكون أن تبقى منهما بقية ، إِذا كان في الكلام دليل على إِرادة المتكلم فإِذا قال : (كَامِلَيْنِ) لم يجز أن تنقصا شيئاً ، وتقرأ (لمن أراد أن تَتِمَ الرضاعةُ) و (لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ)
وهذا هو الحقُّ في الرضاعة إِلا أن يتراضيا - أعني الوالدين - في الفطام بدون الحولين وُيشَاوَرَا في ذلك .

(1/312)


ومعنى (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ).
- أي على الزوج رزْق المرأة المطلقة إذا أرضعت الولد وعليه الْكِسْوة.
ومعنى بالمعروف ، أي بما يعرفون أنه العدل على قدر الإمكان.
ومعنى (لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا).
أي لا تكلف إلا قدر إمكانها.
وقوله عزَّ وجلَّ : (لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا).
قرئت على ضربين لا تضارُّ والدة برفع الراءِ على معنى : لا تكلف
نفْس ، على الخبر الذي فيه معنى الأمر ، ومن قرأ : (لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ) بفتح
الراءِ ، فالموضع موضع جزم على النهي.
الأصل : لا تُضَاررْ ، فأدغمت الراءُ الأولى في الثانية وفتحت الثانية لالتقاءِ السَّاكنين ، وهذا الاختيار في التضعيف إِذا كان قبله فتح أو ألف الاختيار عضَّ يا رجل ، وضَارَّ زيداً يا رجل ، ويجوز
لَا تُضَار والدة بالكسر ، ولا أعلم أحداً قرأ بها ، فلا تقرأنَّ بها ، وإِنما جاز
الكسر لالتقاءِ السَّاكنين لأنه الأصل في تحْريك أحد السَّاكنين.
ومعنى (لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا) : لا تترك إِرضاع ولدها غيظاً على أبيه فَتضرَّ بهِ لأن الوالدة ، أشفق على ولدها من الأجنبية.
(وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ).
أي لا يأخذْه من أمه للإضرار بها فيضُر بولَدِهِ.
(وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ) أي عليه ترك الإِضرار.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ).
أي فِطاماً وتراضياً بذلك بعد أن تشاورا وعلماً أن ذلك غير مدخل على
الولد ضرراً .

(1/313)


(فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا).
أي فلا إثم عليهما في الفصال على ما وصفنا.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ).
معناه تسترضعوا لأولادكم غير الوالدةِ ، فلا إثم عليكم.
(فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ).
قيل فيه إذا سلمتم الأمر إلى المسترضَعةِ وقيل إذا أسلمتم ما أعطاه
بعضكم لبعض من التراضي في ذلك.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234)
هذا للمتوفى عنها زوجُهَا ، عليها أن تنتظر بعد وفاته إِذا كانت غير ذاتِ
حمْل أربعةَ أشْهُر وعشْراً لا تتزوج فيهن ولا تستعمل الزينة.
وقال النحويون في خبر (الذين) غير قول :
قال أبو الحسن الأخفش المعني يتربصن بعدهُمْ أو بعد موتهم ، وقال
غَيْرُه من البصريين أزوَاجُهُمْ يتربصن ، وحذف أزواجهم لأن في الكلام دليلاً
عليه ، وهذا إطباق البصريين وهو صواب.
وقال الكوفيون : وهذا القول قول الفراءِ وهو مذهبه أنَّ الأسماءَ إِذا

(1/314)


كانت مضافة إِلى شيءٍ ، وكان الاعتماد في الخبر الثاني ، أخبر عن الثاني وتُرِكَ
" الإخبار عن الأول ، وأغنى الإِخبارُ عن الثاني عن الإخبار عن الأول.
قالوا : فالمعنى : وأزواج الذين يتوفون يتربصن.
وأنْشَد الفَراءُ :
لَعَلِّي إِنْ مالَتْ بي الرّيحُ ميْلَةً . . . على ابن أبي ذَبَّانَ أن يتقدما
المعنى : لعل ابن أبي ذُبَّان أن يتقدم إِليَّ مالت بِي الريح ميلة عليه.
وهذا القول غير جائز . لا يجوز أن يَبْدَأ اسم ولا يحدَّث عنه لأن الكلام إِنما
وضع للفائدة ، فما لا يفيد فليس بصحيح ، وهو أيضاً من قولهم محال ، لأن
الاسم إنما يرفعه اسم إذا ابتدئ مثله أو ذكر عائد عليه ، فهذا على قولهم
باطل ، لأنه لم يأت اسم يرفعه ولا ذكر عائد عليه.
والذي هو الحق في هذه المسألة عندي أن ذكر (الذين) قد جرى ابتداءً
وذكر الأزواج قد جرى متصلاً بصلة الذين ، فصار الضمير الذي في (يَتَرَبَّصْنَ)
يعود عَلَى الأزواجِ مضافاتٍ إِلى الَّذِينَ . .
كأنك قلت : يتربَّصُ أزواجهم ، ومثل

(1/315)


هذا من الكلام قولك الذي يموت ويُخلف ابنَتَينِ ترثان الثلثين ، المعنى ترث
ابنتاه الثلثين.
ومعنى قوله عزَّ وجلَّ : (وَعَشْرًا) يدخل فيها الأيام.
زعم سيبويه أنك إِذا قلت " لخمس بَقِينَ " فقد علم المخاطب أن الأيام
داخلة مع الليالي ، وزعم غيره أن لفظ التأنيث مغلَّبٌ في هذا الباب.
وحكى الفرَّاءُ صُمْنَا عَشْراً من شهر رمضان ، فالصوم إنَّما يكون في
الأيَّامِ ولكن التأنيث مغلَّبٌ في الليالي - لِإجْمَاعِ أهل اللغة
" سرْنَا خَمْساً بيْنَ يوْمٍ وليلة "
أنشد سيبوبه :
فطافت ثلاثأ بيْنَ يوم وليلة . . . يكون النكير أنْ تَصيح وتَجْأرَا
قال سيبوبه هذا باب المؤَنث الذي استعمل للتأنيث والتذكير ، والتأنيث
أصله ، قال تقول : عندي ثلاث بطات ذكور وثلاث منَ الِإبل ذكور ، قال لأنك تقول : هذه إبل ، وكذلك ثلاث من الغنم ذكور.
(قال) فإن قلت عندي ثلاثة ذكورٍ من الِإبل لم يكن إلا التَّذكير ، لأنك إِنما ذكرت ذكوراً ثم جئت تقول من الإبل بعد أن مضى - الكلام على التذكير ، وليس بين النحويين البصريين والكوفيين خلاف في الذي ذكرنا من باب تأنيث هذه الأشياءِ
فإن قلت عندي خمسة بين رجل وامرأة غلبت التذكير لا غير.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ)

(1/316)


أي غَاية هذه الأشهر والعشر.
(فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ).
أي لا جناح عليكم في أن تتركوهن - إذا انقضت هذه المدة - أن
يتزوجن ، وأن يتزين زينةً لا ينكر مثلها.
وهذا معنى (بالمعروف).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ َ : (وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)
المعنى أنه لاجناح على الرجل أن يُعَرِّضَ للمرأة التي هي في عدَّةِ
بالتزويجِ . والتعريض أن يقول إني فيك لراغب.
وإِن قضى الله أمراً كان ، وما أشبه هذا من القول.
ولا يجوز أن يقطع أمر التزويج والمرأة لم تخرج من
عدتها ، ومعنى خِطْبَة كمعنى خَطْب ، أما خطْبة فهو ماله أول وآخر نحو
الرسالة ، وحُكِيَ عن بعض العرب " اللهم ارفع عنا هذه الضُغْطَة " فالضغْطَة
ضَغْطْ له أول وآخر متصل.
ومعنى : (أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ).
يقال في كل شيء تستره أكْننته وكَننَتْه ، وأكْننته فيِما يَسْترهُ أكثر ، وما
صُنْتَه تقول فيه كننته فهو مكنون.
قال اللَّه عزَّ وجلَّ : (كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49).
أي مَصون ، وكل واحدة منْهما قَريبَة من الأخرى.
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا).
قال أبو عبَيدَةَ : السِّر الإفْصَاح بالنكاح وأنشد :
ويحْرم سرُّ جارَتهمْ عليْهمْ . . . ويأْكلُ جَارُهَمْ أنفَ القصَاع

(1/317)


وقال غيره : كَأن السِّرَ كناية عن الجماع - كما أن الغائطَ كناية عن
الموضع وهذا القول عندي صحيح.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ).
معناه : لا تَعْزموا على عَقْدِ النكاح ، وحذف " عَلَى " استخفافاً كما تقول :
ضرب زيد الظهر والبطن ، معناه على الظهر والبطن ، وقال سيبويه : إِن الحذف في هذه الأشياءِ لا يقاس.
وقوله عزَّ وجلَّ : (حَتَّى يَبْلُغَ الكتابُ أجَلَهُ).
فعناه حتى يبلغ فرض الكتاب أجله ، ويجوز أن يكون الكتاب نفسه في
معنى الفرض ، فيكون المعنى حتى يبلغ الفرضُ أجلَه -
كما قال : عزَّ وجلَّ : (كُتِبَ عَلَيْكُم الصِّيَامُ) أي فرض عليكم ، وِإنَّمَا جَازَ أن يَقَعَ (كُتِبَ) في معنى فُرِضَ ، لأن ما يكتب يقع في النفوس أنه ثَبَتَ ، ومعنَى هذا الفرض الذي يبلغ أجله أيام عدة المطلقة والمتوفي عنها زوجها.
* * *
ْوقوله عزَّ وجلَّ : (لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236)
فقد أعلم الله في هذه الآية أن عقد التزويج بغير مهر جائز ، وأنه لاَ إِثْم
على من طلق من تزوج بها من غير مهر كما أنه لا إِثم على من طلق من تزوج
بمهر ، وأمر بأن تمتع المتزوج بها بغير مهر إذا طلقت ولم يدخل بها فقال اللَه
عزَّ وجلَّ : (ومَتعُوهُن على المُوسِع قَدَرُه وعلى المُقْتِر قَدَرُه).
و (قَدرُهُ) ، يُقْرآن جميعاً ، فقالوا إِن التَمتُّعَ يَكونُ بأشياءَ بأنْ تَخدَم المرأة

(1/318)


وبأن تُكْسَى ، وبأن تُعْطى ما تُنفِقُه ، أيَّ ذَلكَ فَعَلَ يُمَتعُ ، فذلك جائز له على
قدر إمكانه.
وقوله عزَّ وجلَّ : (مَتَاعاً بالْمَعْرُوفِ).
أي بما تعرفون أنه القصد وقدر الإِمكان ، ويجوز أن يكون نصب (متاعاً
بالمعروف) ، على قوله : ومتعوهن متاعا ، يجوز أن يكون منصوباً على الخروج من قوله : على الموسع قدره متاعاً أي مُمَتِّعاً متاعاً.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (حَقاً عَلَى المُحْسِنينَ).
منصوب على حق ذلك عليهم حقاً ، كما يقال حققت عليه القضاءَ
وأحققته ، أي أوجبته.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)
أي فعليكم نصف ما فرضتم ، ويجوز النصب - (فنصف ما فرضتم).
المعنى فَأدُّوا نصفَ ما فرضتم ، ولا أعلم أحداً قرأ بها فإِن لم تثبت بها رواية
فلا تَقْرَأنَّ بها.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (إِلًا أنْ يَعْفُونَ أوْ يَعْفُوَ الذي بِيَدِهِ عُقْدَة النِّكَاحِ).
المعنى إلا أن يعفوَ النساءُ أو يعفوَ الذي بيده عقدة النكاح ، وهو الزوج
أو الولي إِذَا كان أباً.
ومعنى عَفْو المرأة - أن تعفو عن النصف المواجب لها من
المهر فتتركه للزوج ، أو يعفو الزوج عن النصف فيعطيها الكل.
وموضع (أن يعفون) نصب بأن ، إِلا أن جماعة المؤَنث في الفعل المضارع تستوي في الرفع والنصب ، والجزم ، وقد بيَّنَّا ذلك فيما سلف من الكتاب.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ).
ظاهر هذا الخطاب للرجال خاصة دون النساءِ ، وهو محتمل أن يكون
.

(1/319)


للفريقين لأن الخطاب إِذا وقع على مذكرين ومَؤنثين غلب التذكير لأن الأول
أمكن.
والأجود في قوله : (وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) الضمُ.
ويجوز ُ وَلاَ تَنْسَوْ الفضل بينكم) - وقد شَرَحْنَا العلة فيه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238)
قالوا : (الصلاة الوسطى) العصر - وهو أكثر الرواية ، وقيل إِنها الغداة وقيل
إنها الظهر.
واللَّه قَدْ أمر بالمحافظة على جميع الصلَوَاتِ إِلا أن هذه الواو إذا
جاءَت مخصصَةً فهي دالة على الفضل للذي تُخَصصُه كما قال : عز وجل :
(مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ) فذكرا مخصوصين
لفضلهما على الملائكة ، وقال يونس النحوي في قوله عزَّ وجلَّ :
(فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ) إِنما خص النخل والرمان وقد ذكرت الفاكهة لفضلها على سائرها.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ).
القانِت المُطيع والقَانِت - الذاكر اللَّه ، كما قال عزَّ وجلَّ : (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا) وقيل القانت العابد -
وقالوا في قوله عزَّ وجلَّ : (وكانت من القانتين) أي العابدين.
والمشهور في اللغة والاستعمال أن القنوت : الدعَاءُ في القيام ، وحقيقة
القانت أنه القائم بأمر اللَّه ، فالداعي إِذا كان قائماً خص بأن يقال له قانت ،

(1/320)


لأنه ذاكر الله عزَّ وجلَّ وهو قائم على رجليه . فحقيقة القنوت العبادَة والدعاءُ لله في حال القيام.
ويجوز أن يقع في سائر الطاعة ، لأنه إِنْ لم يكن قياماً بالرجْلين فهو قيام بالشيء بالنية.
* * *
ومعنى : (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239)
أي فصلوا ركباناً أو رجالاً ، ورجَال جمع راجل ورجال ، مثل صاحب
وصِحَاب ، أي إن لم يمكنكم أن تقوموا قَانتين أي عابدين مُوَفِّينَ الصَّلَاةَ حقَهَا
لخوف ينالَكم ، فصلوا رجالاً أو ركباناً.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ).
أي فَإِذَا أمِنْتُم فَقُومُوا قانتين مُؤَدِّينَ للفرض.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240)
(وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ) و (وصيةٌ لأزواجهم) يقرءَان جميعاً.
فمن نصب أراد فلْيوصوا وَصِيةً لأزواجهم.
ومن رفع فالمعنى فَعَلَيْهِم وصيةٌ لأزواجهم.
(مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ)
أي مَتَعُوهُنَّ مَتَاعاً إِلى الحَول ، ولا تخرجوهن ، وهذا منسوخ بإِجماع.
نسخَهُ ما قبله وقد بَينَاه.
وقيل إِنه نسخته آية المواريث وكلاهما - أعني ما
أمر الله به من تربص أربعة أشهر وعشراً ، وما جعل لهن من المواريث قد
نسخه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242)

(1/321)


آياته علاماته ودلالاته على ما فرض عليكم ، أي مثل هذا البيان يبين
لكم ما هو فرض عليكم ، وما فرض عليكم.
ومعنى (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) معنى يحتاج إِلى تفسير يبالغ فيه ، لأن أهل
اللغة والتفسير أخبروا في هذا بما هو ظاهر ، وحقيقة هذا أن العاقل ههنا أهو ، الذي يعمل بما افْتُرِضَ عليه ، لأنه إِن فهم الفرض ولم يعمل به فهو جاهل
ليس بعاقل ، وحقيقة العقل هو استعمال الأشياءِ المستقيمة متى عُلمَت ، ألا
ترى إِلى قوله عزَّ وجلَّ : (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ) ، لو كان هُؤلاء جهالاً غيرَ مميزين ألبَتَّةَ لسقط عنهم
التكليف ، لأن الله لا يكلف من لا يميز ، ويقال جهال وإِن كانوا مميزين . لأنهم آثروا هواهم على ما علموا أنه الحق.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243)
معنى (أَلَمْ تَرَ) ألم تعلم ، أي ألم ينته علمك إلى خبر هؤُلاءِ وهذه
الألف ألف التوقيف ، و (تَرَ) متروكة الهمزة ، وأصله ألم ترءَ إلى الذين.
والعرب مجمعة على ترك الهمزة في هذا.
ونصب (حَذَرَ الْمَوْتِ) على أنه مفعول له والمعنى خرجوا لحذر الموت ، فلما سقطت اللام نصب على أنه مفعول له وجاز أن يكون نَصبه على المصدر ، لأن خروجهم يدل على حذر الموت حذراً.
وقيل في تفسير الآية : إِنهم كانوا ثمانية ألوف ، أمروا في أيام بني إسرائيل

(1/322)


إِسرائيل أن يجاهدوا العَدُوَّ ، فاعتلوا بأن الموضع الذي ندبوا إِليه ذو طاعون.
(فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا).
معناه فاماتهم اللَّه ، ويقال إِنهم أمِيتوا ثمانية أيامٍ ثم أُحْيوا ، وفي ذكر
هذه الآية للنبي - صلى الله عليه وسلم - احتجاج على مشركي العرب وعلى أهل الكتاب من إليهود والنصارى ، أنه أنْبَأ أهلَ الكتاب بما لا يدفعون صِحَتَه ، وهو لم يقرأ كتاباً - صلى الله عليه وسلم -.
فالذين تلا عليهم يعلمون إنَّه لمَ يقرأ كتاباً وأنه أمي ، فلا يَعْلَم هذه
الأقاصيصَ إِلا بوحي ، إذْ كانَتْ لَمْ تعْلَم من كتاب فعلم مشركو العرب أن كل من قرأ الكتب يصدقه - صلى الله عليه وسلم - في إخباره أنها كانت في كتبهم ، ويعلم العرب الذين نشأ معهم مثل ذلك وأنه ما غاب غيبة يُعَلَّم في مثلها أقاصيصَ الأمم وأخبارَها على حقيقة وصحة ، وفي هذه الآية أيضاً معنى الحث على الجهاد.
وأن الموت لا يُدْفَعُ بالهَرَب منه.
وقوله عزَّ وجلَّ : (إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ).
أي تفضل على هُؤلاءِ بأنْ أحياهم بعدَ مَوْتهم
فأراهم البَصِيرَةَ التي لا غَايةَ بعدها.
وقوله عزَّ وجلَّ : يَعقِب هذه الآية :
(وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244)
اى لا تهربوا من الموت كما هرب هؤُلاءِ الذين سمعتم خبرهم ، فلا
ينفعكم الهرب.
ومعنى قوله عزَّ وجلَّ مع ذكر القتال : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).

(1/323)


أي إن قلتم كما قال الذين تقدم ذكرهم بعلة الهرب من الموت سمع
قولكم وعلم ما تريدون.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)
معنى القرض في اللغة البلاء اسيئ ، والبلاء الحَسَن ، والعرب تقول :
لك عندي قرض حسن وقرض سيئ ، وأصلهُ مَا يُعْطِيه الرجلُ أو يَعْملُه ليجازَى عليه ، واللَّه عزَّ وجلَّ : لا يَستَقْرض من عَوَز ولكنه يَبْلو الأخبار ، فالقرض كما وصفنا ، قال أميةُ بنُ أبي الصلت :.
لا تَخْلِطَن خَبِيثاتِ بطيبةٍ . . . وأخلعْ ثيابَك منهَا وانجُ عُريَانَا
كل امرىءِ سوف يُجْزَى قَرضَه حَسناً . . . أو سيئاً أو مَدِينَا كالذي دانا
وقال الشاعر :
وإذا جُوزِيتَ قرضا فاجزه . . . إِنَما يَجْزِي الفتى ليس الجمل
فمعنى القرض ما ذكرنَاهُ.
قأعلم اللَّه أن ما يعْمل وينفق يرادُ به الجزاءَ فاللَّه يضاعفه أضعافاً كثيرة.
والقراءَة فيضاعفَه ، و (قرأوا) : فيضاعفُه ، بالنَّصب والرفع فمن رفع
عطف على يقرض ، ومن عطف نصب على جواب الاستفهام وقد بَينا

(1/324)


الجَوابَ بالفاء - ولو كان قرضاً ههنا مصدراً لكان إقراضاً ، ولكن قرضاً ههنا اسم لكل ما يلتمس عليه الجزاء.
فأما قرضته أقرُضه قرضاً : فجاوزته ، وأصل القرض في اللغة القطع.
والقِرَاضُ من هذا أخِذ ، فإنما أقرضته قطعت له قطعة يجازى عليها.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ).
قيل في هذا غير قول : قال بعضهم : معناهُ يُقَترُ ويوسعُ ، وقالَ بعضهم
يَسْلُب قوماً مَا أنعَمَ علَيهِم ويوسع عَلَى آخَرين (وقيل معنى - يقبض) أي
يقبض الصدقات ويخلفها ، وإخلافها جائز أن يكون ما يعطي من الثواب في
الآخرة ، وجائز أن يكون مع الثواب أن يخلفها في الدنيا.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246)
الملأ أشراف القوم ووجوههمْ ، ويروي أن النَبِي - صلى الله عليه وسلم - سَمِعَ رجلًا من الأنصار وقد رجعوا من بدر يقول : ما قتلنا إلا عَجَائِزَ ضلْعاً ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : أُولَئِكَ المَلَاءُ من قريش ، لو حضرتَ فعالهم لاحتَقرْتَ فِعْلَك ، والملأ في اللغة الخلُق ، يقال أحْسِنوا مَلأكم ، أي أخْلَاقَكمْ قال الشاعر :
تَنَادَوْا يآل بهثَةَ إذ رأونَا . . . فقلنا أحسِني مَلًأ جُهَيْنَا
أي خلقاً ، ويقال : أحسني ممَالأةً أي معَاونَةً ، ويقال رجل مَلِيء -
مهموز - أي بَين المَلآء يا هذا - وأصِل هذا كله في اللغة من شيء واحد.
فالمَلأ الرؤساء إِنما سمُّوا بذلك لأنهم ملءٌ بما يحتاج إليه منهم . والمَلأ الذي

(1/325)


في الخُلُق ، إنما هو الخلق المليء بما يحتاج إليه ، والملا : المُتسَعُ من
الأرض غير مهموز ، يكتب بالألِف - والياءِ في قول قوم - وأما البصريون
فيكتبون بالألِف ، قال الشاعر في الملا المقْصورِ الذي يدل على المتسَع من
الأرض :
ألَا غنيانِي وارفعا الصوتَ بالمَلا . . . فإن المَلَا عندي يزيد المَدَى بُعْدا
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ).
الجَزْمُ في (نُقَاتِلْ في سبيل اللَّه) الوجهُ على الجوابِ للْمسْألَة الَّتِي في
لَفْظِ الأمْر ، أي ابْعَثْ لَنَا - مَلِكاً نُقاتِلْ ، أي إنْ تَبعث لنا مَلِكاً نُقَاتِلْ في سبيل الله ، ومن قرأ " مَلِكاً يُقَاتِلُ " بالياءِ ، فهو على صفة المَلِك ولكن نقاتلْ هو الوجهُ الذي عليه القراء ، والرفع فيه بعيد ، يجوز على معنى فَإنا نقاتل في سبيل الله ، وكثيرٌ مِن النَّحوِّيينَ ، لا يُجِيزُ الرفْعَ فِي نُقَاتِل . -
وقوله عزَّ وجلَّ : (قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا)
أي لعَلكم أن تَجْبنُبوا عَنِ القتال ، وقرأ بعضُهم : هل عَسِيتم بكسر السين
إن كتب عليكم القتال ، وهي قراءَة نافع ، وأهل اللغة كلهم يقولون عَسَيْتُ أن أفْعَلَ ويختارونه ، وموضع (ألَّا تُقَاتِلُوا) نَصْبٌ أعني موضع " أنْ " لأن
(أنَّ) وما عملت فيه كالمصدر ، إِذا قلت عسيت أن أفعل ذاك فكأنك قلت عسيت فعل ذَلِكَ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ).

(1/326)


زعم - أبو الحسن الأخفش أنَ " أنْ " ههنا زائدة - قال : المعنى وما لنا
لا نقاتل في سبيل اللَّه ، وقال غيره ، وَمَا لَنَا فِي ألا نُقاتل في سبيل اللَّه.
وأسقط " في " وقَال بعْضُ النحويين إنما دخلت " أن" لأنَّ " ما " معناه ما يمنعنا
فلذلك دخلت " أن " لأن الكلام ما لك تفعل كذا وكذا.
والقول الصحيح عندي أنَّ " أن " لا تلغى ههنا ، وأن المعنى وأي شي
لنا في أنْ لا نقاتل في سبيلِ اللَّه ، أي أي شيء لنا في ترك القتال.
(وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا)
ومعني (وَأَبْنَائِنَا) ، أي سُبِيَتْ ذرارينا.
ولَكِنَّ " في " سقطت مع " أن " لأن الفعلَ مُستَعمل مع أن دالا على وقت
معلوم ، فيجوز مع " أن " يحذف حرف الجر كما تقول : هربت أن أقول لك
كذا وكذا ، تريد هربت أن أقول لك كذا وكذا.
وقوله عزَّ وجلّ ؛ (تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ).
(قليلاً) منصموب على الاستثناءِ ، فأما - من روى " تَولوْا إِلا قليلٌ منهم " فلا أعرف هذه القراءَة ، ولا لها عندي وجه ، لأن المصحف على النصب والنحو يوجبها ، لأن الاستثناء - إِذا كان أولُ الكلام إِيجاباً - نحو قولك جاءَني القوم إلا زيداً - فليس في زيد المستثنى إِلا النصب - والمعنى تولوا أسْتَثْنِي قَليلاً مِنْهم - وإِنما ذكرت هذه لأن بعضهم روى " فشربوا منه إِلا قليلٌ منهم " وهذا عندي ما لا وجه له.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247)

(1/327)


أي قد أجابكم إلى ما سألتم . من بعث ملك يقاتل ، وتقاتلون معه
وطالُوت وجالُوت وداوُد . لا تنصرف لأنها أسماء أعجمية ، وهي معارف فاجتمع فيها شيئان - التعريف والعجمة ، وأما جاموس فلو سميت به رجلًا لانصرف ، وإن كان عجمياً لأنه قدتمكن في العربية لأنك تدخل عليه الألف واللام ، فتقول الجاموس والراقُودُ.
فعلى هذا (قيَاسُ جميع) الباب.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا).
أي من أي جهة يكون ذلك.
(وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ) أي لم يؤت ما تَتَمَلَّكُ به الملوك.
فأعلمهم اللَّه أنه (اصطفاه) ومعناه اختاره ، وهو " افتعل " من الصفوة.
والأصل اصتفاه فالتاءُ إذا وقعت بعد الصاد أبدلت طاء لأن التاء من مخرج
الطاء ، والطاء مطبقة ، كما أن الصادَ مطبقة ، فأبدلوا الطاء من التاء ، ليسهل النطق بما بعد الصاد ، وكذلك افتعل من الضرب : اضطرب ، ومن الظلم اظطلم ، ويجوز في اظطلم وجهان آخران ، يجوز اطَّلم بطاء مشددة غير
معجمة واظَّلم بظاء مشددة قال زهير :
هو الجواد الذي يعطيك نائلَهُ . . . عفواً ويُظْلم أحياناً فيظطلم
و " فيطَّلم " و " فيظَّلِم ".
أعلمهم الله أنه اختاره ، وأنه قد زِيدَ في العلم والجسم بسطة ، وأعلمهم
أن العلم أهو ، الذي به يجب أن يقع الاختيار ليس أن اللَّه - جلَّ وعزَّ - :

(1/328)


لا يُمَلكَ إلا ذا مال ، وأعلم أن الزيادة في الجسم مما يهب به العدو ، وأعلمهم أنه يؤتِي مُلْكَه من يشاء ، وهو جلَّ وعزَّ لا يشاء إلا ما هو الحكمة والعدل.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ).
أي يوسع على منِ يشاء ويعلم أين ينبغي أن تكون السعة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248)
أي علامة تمليك اللَّه إياه (أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ).
وموضع (أنْ) رَفْع المعنى : إن آية ملكه إتيانُ التابوت ائاكم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ).
أي فيه ما تسكنون به إذا أتاكم ، وقيل في التفسير إن السكينة لها رأس
كرأس الهِر من زبرجد أو ياقوت ، ولها جناحان.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ).
قيل في تفسيره : البقيةُ رضاض الألواح وأن التوراة فيه وكتاب آخر جمع
التوراة وعصا موسى . فهذا ما رُوِيَ مما فيه ، والظاهر ، أن فيه (بقية) جائز أن يكون بقية من شيء من علامات الأنبياء ، وجائز أن يكون البقية من العلم ، وجائز أن يتضمنها جميعاً.
والفائدة - كانت - في هذا التابوت أن الأنبياءَ - صلوات اللَّه عليهم -
كانت تستفتح به في الحروب ، فكان التابوت يكون بين أيديهم فإِذا سُمِعَ من
جوفه أنين دف التابوت أي سار والجميع خلفه - واللَّه أعلم بحقيقة ذلك.

(1/329)


وروي في التفسير أنه كان من خشب الشمشار وكان قد غلب
جالوت وأصحابُه عليه فنزلهم بسببه داء ، قيل هو الناسور الذي يكون في العنب فعلموا أن الآفة بسببه نزلت ، فوضعوه على ثورين فيما يقال ، وقيل معنى تحمله الملائكة : إنها كانت تسوق الثورين وجائز أن يقال في اللغة تحمله الملائكة ، وإنما كانت تسوق ما يحمله ، كما تقول حَمَلْتَ متاعي إلى مكة ، أي كنت سبباً لحمله إلى مكة.
ومعنى (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ).
أي في رجوع التابوت إليكم علامة أن الله ملك طالوت عليكم إذ أنبأكم
في قصته بغيب.
(إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي إن كنتم مصدقين.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)
(إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ)
معناه مختبركم وممتحنكم بنهر ، وهذا لا يجوز أن يقوله إلا نبي ، لأن اللَّه
عزَّ وجلَّ قال : (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ)
ومعنى الاختبار بهذا النهر كان ليعلم طالوت من له نيَّة القِتَال معه ومن ليسَتْ له نيَّة . فقال : (فمَنْ شَرِبَ منْه فَلَيْسَ مِني).
أي ليس من أصحابي ولا مِمَن تبعني ، ومن لم يطعَمْه.
(وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإنَهُ مِنِّي) أي لم يتطعم به.
(إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ) ، غُرفة وغَرفَة قرئ بهما جميعاً فمن قال غَرفَة

(1/330)


كان معناه غرفة واحدة باليد.
ومن قال غُرفة كان معناه مقدار ملء اليد.
ومعنى (فَشَرِبُوا مِنْهُ إلا قَلِيلاً مِنْهُمْ)
شربوا منه ليرجعوا عن الحرب ، لأنه قد أعلمهم ذلك.
وذكر في التفسير أن القليل الذين لم يشربوا كان عدتهم ثلاثمائة وبضعة
عشر رجلًا كعدد أهل بدر.
وقوله عزَّ وجلّ ؛ (فَلَمَّا جَاوَزَهُ).
أي جاوز النهر هُوَ وَالَّذِينَ مَعَهُ.
قيل لما رأوا قلتهم ، قال بعضهم لبعض :
(لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ).
أي لا قوةَ ، يقال أطقتُ الشيءَ إطاقةً وطَوْقاً ، مثل أطعت طاعة وإطاعَة
وطَوْعاً.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ).
قيل فيه قولان : قال بعضهم وهو مذهب أهل اللغة - قال الذين يوقنُونُ
أنهم مُلاقو اللَّه قالوا ولو كانوا شاكين لكانوا ضُلالاً كَافِرين وظننت في اللغة
بمعنى أيقنت موجود.
قال الشاعر - وهو دريد :
فقلت لهم ظُنُّوا بألفَيْ مُدَجَّجٍ . . . سَرَاتُهُمُ في الفارسيِّ المُسَرَّدِ
أي أيقنوا.
وقال أهل التفسير : معنى (يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ) أي أنهم كانوا يتوهمون
أنهم في هذه الموقعة يقتلون في سبيل الله لِقِلَّةِ عَدَدِهمْ ، وعظم عددِ عدُوهم.
وهم أصحاب جالوت .

(1/331)


وقوله عزَّ وجلَّ : (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ).
أي كم من فرقة ، وإنما قيل للفرقة فئة - من قولهم فأوت رأسه بالعصا.
وفأيْتُ إذَا شَقِقْتُه ، فالفِئَةُ الفِرقَةُ مِنْ هذَا.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ).
(أي أن اللَّه ينْصُر الصَّابِرِينَ) ، إذا صبروا على طاعته ، وما يُزْلِفُ
عنده.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250)
(رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا).
أي أصْبُبْ علينا الصبرَ صبًّا ، كما تقول : أفرغتُ الإنَاءَ إذا صببْتُ ما فيه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251)
(فَهَزَمُوهُمْ بِإذْنِ اللَّهِ).
معناه كسَروهم وردوهم ، وأصل الهزم في اللغة كسر الشيء ، وثنى بعضه
على بعض ، يقال سقاء مَهْزوم ، إذا كان بعضه قد ثنى على بعض مع جفاف ، وقَصب مُتَهزَِّم ، ومهْزُوم ، قد كسر وشقق ، والعرب تقول هَزَمتُ على زيدٍ أي عطفتُ عليه.
قال الشاعر :
هِزمت عليك اليوم يا بنْتَ مَالكٍ . . . فجُودِي عليْنا بالنوالِ وأنْعِمِي
ويقال : سمعت هَزْمةَ الرعْدِ
قال الأصْمَعِي كأنهُ صوت فِيه تشقُق :
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَآتَاهُ اللَّهُ المُلْكَ وَالحِكْمَةَ).
أي آتى داود - عليه السلامُ - الملك لأنه مَلَكَ بعد قتله جالوت وأوتي العلم.
ومعنى (وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ).
قيل ممَّا علَّمه عمَلُ الدرُوعِ ، ومنْطِقُ الطيْر .

(1/332)


وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ).
أي لولا ما أمر الله به المسلمين من حرب الكافرين لفسدت الأرض وقيل
أيضاً : لولا دفع اللَّه الكافرين بالمسلمين لكثر الكُفْر فنزلت بالناس السخطة
واستؤصِل أهلُ الأرض.
ويجوز (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ) ، ولولا دِفاعُ اللَّه.
ونُصِبَ (بَعْضَهُمْ) بدلاً من الناس ، المعنى ولولا دفع اللَّه بعض الناس
ببعض ، و (دفعُ) مرفوع بالابْتِدَاءِ ، وقد فسرنا هذا فيما مضى.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)
أي هذِه الآياتُ التي أنْبأت بها وَأنْبِئْتَ ، آيات الله أي علاماته التي تدُل
على توْحيدِه ، وتَثْبيتِ رسالاتِ أنْبِيَائِه ، إِذْ كان يعجز عن الِإتيان بمثلها
المخلقون.
وقوله عزَّ وجل : (وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ).
أي وأنت من هؤلاءِ الذين قصصْتُ آياتهم ، لأِنَك قدْ اعْطِيتَ مِنَ
الآياتِ مثل الذي أعْطُوا وزدْتَ على مَا أعْطُوا.
ونحنُ نبين ذلك في الآية التي تليها إِن شاءَ اللَّه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253)
(الرُّسُلُ) صفة لتلك كقولك أولئِك الرسلُ فضلنا بعضهم على بعض إلا
أنهُ قيل تِلْك للجماعة ، وخبر الابتداءِ (فضلنا بعضهم على بعض).
ومعنى : (مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ) : أي من كلَّمَهُ اللَّهُ .

(1/333)


تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253)
والهاء حُذقت منْ الصلة لطول الاسَم ، وهو مُوسى - صلى الله عليه وسلم - أسْمَعَه الله كلامه من غير وحي أتاه به عن اللَّه مَلَك.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ).
أي أعطيناه . والبيناتُ الحُجَجُ التي تَدُل على إثبات نُبُوته - صلى الله عليه وسلم - من إبراء الأكْمه والأبرص وإحياءِ المَوْتى والإنباءِ بما غاب عنه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَرَفعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ).
جاءَ في التفسير أنه يُعْنَى به محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - أرْسِل إلى الناس كافة ، وليس شيء من الآيات التي أعطيها الأنبياء إلا والذي أُعطى محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - أكثر مُنْه ، لأنه - صلى الله عليه وسلم -
كلمتْه الشجرةُ ، وأطْعَمَ " من كفِّ التمر خلقاً كثيراً ، وأمرَّ يدَه على شاة أم معبد فدرت ، وحلبت بعد جفاف ، ومنها انشقاق القمر ، فإِن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى الآيات في الأرض ورآها في السماءِ ، والذي جاءَ في آيات النبي كثير.
فأما انشقاق القمر وصحته فقد روينا فيه أحاديث :
حدثني إسماعيل بن إسحاق قال : (حدثنا محمد بن المُنْهَال ، قال حدثنا يزيد
ابن زُرَيْع عن سعيد عن قتادة عن أنس قال : سأل أهل مكة النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - آيةً فأراهم انشقاقَ القَمَرِ فِرْقَتَيْن.
وحدثني مُسدّد يرْفعه إلى أنس أيضاً مثل ذلك.
ونحن نذكر جميع ما روى في هذا الباب في مكانه إِن شاءَ الله ، ولكنا ذكرنا
ههنا جملة من الآيات لنُبين بها فضل النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فيما أتى به من الآيات.
ومن أعظم الآيات القرآنُ الذي أتى به العرب وهم أعلم قوم بالكلام.
لهم الأشعار ولهم السجع والخَطَابةُ ، وكل ذلك معروف في كلامها ، فقيل لهم
ائتوا بعشْر سُورٍ فعجزوا عَنْ ذلك ، وقيل لهم ائتوا بسورِة ولم يشترط عليهم فيها

(1/334)


أن تكون كالبقرة وآل عمران وإنما قيل لهم ائتوا بسورة فعجزوا عن ذلك.
فهذا معنى (وَرَفَعَ بَعْضَهُم دَرَجَات).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ).
يعني من بعد الرسل : (مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ).
أي من بعد ما وضحت لهم البراهين ، فلو شاءَ الله ما أمر بالقتال بعد
وضوح الحجة ، ويجوز أن يكون (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا) أي لو شاءَ اللَّه أن
يضطرهم أن يكونوا مؤمنين غير مختلفين لفعل ذلك كمَاِ قال : (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)
أي أنفقوا في الجهاد وليُعِنْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً عليه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ).
يعني يوم القيامة " والخُلَّةُ " الصداقة ، ويجوز (لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ) ، (لَا بَيْعَ فِيهِ وَلَا خُلَّةَ وَلَا شَفَاعَةَ)، على الرفع بتنوين والنصب (بغير تنوين) ، ويجوز (لا بيعَ فيه ولا خلة ولا شفاعةَ) بنصب الأول بغير تنوين
وعطف الثاني على موضع الأول ، لأن موضعه نصب ، إِلا أن التنوين حذف لعلة قد ذكرناها ، ويكون دخول " لا " مع حروف العطف مؤَكداً ، لأنك إِذا عطفت على موضع ما بعد " لا " عطفته بتنوين.
تقول : لا رجلَ وغلاماً لك.
قال الشاعر :

(1/335)


فلا أبَ وابناً مثل مروان وابنِه . . . إذا هُو بالمجد ارتدى أو تأَزَّرَا.
ومعنى : (والكَافِرُون هُمُ الظَّالِمُونَ).
أي هم الذين وضعوا الأمر غير موضعه وهذا أصل الظلم في اللغة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)
يروى عن ابن عباس رحمة الله عليه أنَّه قال : أشرف آية في القرآن آية
الكرسي.
وإعراب (لَا إلهَ إلا هُوَ) النصبُ بغير تنوين في (إِله).
المعنى لا إله لكل مخلوق إلا هُو ، وهو محمول على موضع الإبتداء
المعنى ما إلهٌ للخلق إلا هو ، وإن قلت في الكلام لا إِله إِلا الله جاز ، أما
القرآن فلا يقرأ فيه إلا بما قد قرأت القراءُ بِه ، وثَبَتتْ به الرواية الصحيحة ، ولو قيل في الكلام لا رجلَ عندك إلا زيداً جاز ، ولا إله إلا اللَّهَ جاز ولكن الأجودَ ما في القرآن ، وهو أجودُ أيضاً في الكلام.
قال اللَّه عزَّ وجلَّ : (إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35).
فإذا نصبت بعد إلا فإنما نصبت على الاستثناء.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (الْحَيُّ الْقَيُّومُ)
معنى (الْحَيُّ) الدائم البقاء ، ومعنى (الْقَيُّومُ) القائم بتدبير سائر أمر خلقه.
ويجوز القائم ، ومعناهما واحد.
فهو الله عزَّ وجلَّ قائم بتدبير أمر الخلق في إنْشائِهِم وَرزْقِهمْ وعلمه

(1/336)


بأمكنتهم وهو قوله عزَّ وجلَّ : (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا).
ومعنىِ : (لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ) أي لا يأخذه نعاس.
(وَلَا نَوْمٌ).
وتأويله أنه لا يغفل عن تدبير أمر الخلق.
ومعنى : (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ).
أي : لا يشفع عنده إلا بِمَا أمر به من دعاء بعض المسلمين لبعْض ومن
تعظيم المسلمين أمْرَ الأنبياء والدعاء لهم ، وما علمنا من شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم -
وإنما كان المشركون يزعمون أنَّ الأصنام تشفع لهم ، والدليل على ذلك
قولهم : (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) وذلك قولهم :
(وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ) ، فَأنْبأ اللَّهُ عزَّ وجلَّ أن الشفاعة ليست إلا ما أعلَم من شَفاعة بَعْضِ المؤمنين لبعض في الدعاء وشفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ومعنى : (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ).
أي يعلم الغيب الذي تقدمهم والغيب الذي يأتي من بعدهم.
ومعنى : (وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ).
أي لا يعلمون الغيبَ لا مِما تقدمهُمْ ولا مما يكُونُ مِنْ بَعْدِهِمْ.
ومعنى : (إِلَّا بِمَا شَاءَ) : إلا بما أنبأ به ليكون دليلاً على تثبيت نبوتهم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ).
قيل فيه غير قول ، قال ابن عباس : كرسيُه علمه ، ويروى عَنْ عطاء أنه

(1/337)


قال : ما السَّمَاوَات والأرض في الكرسي إِلا حَلْقَةٌ في فلاة ، وهذا القول بين
لأن الذي نعرفه من الكرسي في اللغة الشيءُ الذي يعتمد عليه ويجلس عليه.
فهذا يدل أن الكرسي عظيم ، عليه السَّمَاوَات والأرضُونَ ، والكرسيُّ في اللغة والكراسة إِنما هو الشيءُ الذي ثبت ولزم بعضه بعضاً ، والكرسي ما تَلَبَّد بعضُه على بعض في آذان الغنم ومعاطن الِإبل.
وقال قوم : (كُرْسِيُّهُ) قدْرتُه التي بها يمسك السَّمَاوَات والأرض.
قالوا : وهذا قولك اجعل لهذا الحائط كرسياً ، أي
اجعل له ما يعْمِدُه وُيمسكه ، وهذا قريب من قول ابن عباس رحمه اللَّه.
لأن علمه الذي وسع السموات والأرض لا يخرج من هذا.
واللَّه أعْلم بحقيقة الكرسي ، إِلا أن جملته أنه أمر عظيم من أمره - جلَّ وعزَّ.
ومعنى : (وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا).
أي لا يُثقله ، فجائز أن تكون الهاءُ للَّهِ عزَّ وجلَّ ، وجائز أنْ تكون
للكرسي ، وإِذا كانت للكرسي فهو من أمر اللَّه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)
(إِكْرَاهَ) نصب بغيرتنوين ، ويجوز الرفع " لَا إكْرَاهٌ " ولا يُقرا به إِلَا أن تَثْبت
رواية صحيحةٌ وقالوا في (لَا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ) ثلاثة أقوال : قال بعضهم إن هذه نسخها أمر الحرب في قوله جلَّ وعزَّ : (واقْتلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ)
وقيل إِن هذه الآية نزلت بسبب أهل الكتاب في أنَّ لا يكرهوا بعد أن يؤدوا الجزية ، فأما مشركو العرب فلا يقبل منهُم جزية وليس في أمرهم إِلا القَتْلُ أو الإسلام.
وقيل معنى (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) أي لا تقولوا فيه لمن دخل بعد حرْبِ أنهُ دخَل
مكرهاً ، لأنه إِذا رضي بعد الحرب وصح إِسلامه فليس بمكره .

(1/338)


ومعنى : (فَمَنْ يَكْفُرْ بالطَّاغُوتِ).
قيل الطاغوت مَرَدَةَ أهل الكتاب ، وقيل إِن الطاغوت الشيطان ، وجملته
أن من يكفر به ، وصدق باللَّهِ وما أمر به فقد استمسك بالعروة الوثقى ، أي
فقد عقد لنفسه عقداً وثيقاً لا تحله حجة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (لا انْفِصَام لَهَا) : لا انقطاع لها.
يقال فصمت الشيءَ أفْصُمُه فصماً أي قطعته.
ومعنى : (وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).
أي يسمع ما يعقد على نفسه الإنسان من أمر الإِيمان ، ويعلم نيته في
ذلك.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)
يقال قد توليت فلاناً ، ووليت فلاناً ولايةً ، والوِلَايَةُ بالكسر اسم لكل ما
يتولى ، ومعنى وَلى على ضروب ، فاللَّه - ولي المؤمنين في حِجَاجِهم
وهدايتهم ، وإقامةِ البرهان لهم لأنه يزيدهم بإِيمانهم هداية ، كما قال عزَّ وجلَّ : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى). ووليهم أيضاً في نصرهم وإظهار دينهم
على دين مخالفيهم ، ووليهم أيضاً بتولي قولهم ومجازاتهم بحسن أعمالهم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ).
أي يخرجهم من ظلمات الجهالة إِلى نور الهدى لأن أمر الضلالة مظلم
غير بين ، وأمر الهدى واضح كبيان النور.
وقد قال قوم (يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) يحكم لهم بأنهم
خارجون من الظلمات إلى النُور ، وهذا ليس قولَ
أهل التفسير ، ولا قول أكثر أهل اللغة.
إِنما قاله الأخفش وحده .

(1/339)


والدليل على أنه يزيدهم هدى ما ذكرناه من الآية.
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَأمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمُ إيمَاناً).
ومعنى : (والَّذِينَ كَفَرُوا أوليَاؤُهُم الطاغُوتُ).
أي الذين يتولون أمرهم هم الطاغوت.
وقد فسرنا الطاغوت.
و (الطاغوت) ههنا واحد في معنى جماعة ، وهذا جائز في اللغة إذا كان في الكلام دليل على الجماعة.
قال الشاعر :
بها جِيَف الحَسْرى فأمَّا عِظامُها . . . فَبيضٌ وأَمَّا جِلْدُها فَصَلِيبُ
جلدها في معنى جلودها.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)
هذه كلمة يوقف بها المخاطب على أمر يعجب منه ، ولفظها لفظ
استفهام ، تقول في الكلام : ألم تر إلى فلان صنع كذا وصنع كذا.
وهذا مما أعْلِمَه النبي - صلى الله عليه وسلم - حُجةً على أهل الكتاب ومشركي العرب لأنه نبأ لا يجوز أن يعلمه إلا من وقف عليه بقراءَة كتاب أو تعليم معلم ، أو بوحي من اللَّه عزَّ وجلَّ.
فقد علمت العرب الذين نشأ بينهم رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أنه أمِّيٌّ ، وأنه لمْ يعَلمْ التوراة والإنجيلَ وأخبارَ من مضى من الأنبياءِ ، فَلم يبق وجه تعلم منه هذه الأحاديث إلا الوحيُ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (أنْ آتَاهُ اللَّهُ المُلْكَ).
أيْ آتى الكافرَ الملكَ ، وهذا هو الذي عليه أهل التفسير وعليه يصح

(1/340)


المعنى ، وقال قوم إن الذي آتاه - الله الملك إبراهيمَ عليه السلام
وقالوا : اللَّه عزَّ وجلَّ لا يُمَلِكُ الكفَارَ.
وإنما قالوا هذا لذكره عزَّ وجلَّ : (آتاه الملك)
واللَّه قال : (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ).
فتأويل إِيتاءِ اللّه الكافرَ الملكَ ضرب من امتحانه الذي يَمْتَحنُ
الله به خلقه ، وهو أعلم بوجه الحكمة فيه.
والدليل على أن الكافر هو الذي كان مُلِّكَ إنَّه قال : (أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ)
وأنه دعا برجلين فقتل أحدهما وأطلق الآخر ، فلولا أنه كان ملكاً وإبراهيمُ عليه السلام غيرَ ملك لم يتهيأ له أن يقتل وإبراهيم الملك ، وهو النبي عليه السلام.
وأمَّا معنى احتجاجه على إبراهيم بأنه يحيى ويميت ، وترك إبراهيم
مناقضته في الإحياءِ والإماتة ، فمن أبلغ ما يقطع به الخصوم ترك الإطالة
والاحتجاج بالحجة المُسْكِتةِ لأن إبراهيم لما قال له : (فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ) كان جوابه على حسب ما أجاب في
المسألة الأولى أن يقول : فأنا أفعلُ ذلك فَتَبَيَّن عجزه وكان في هذا إِسكَات
الكَافِرِ فقال اللَّهُ عزً وجل : (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ)
وتأويله انقطع وسَكتَ متحَيِّراً ، يقال : بهِتَ الرجل
يُبْهَتُ بهْتاً إِذا انقطع وتحير ، ويقال بهذا المعنى " بَهِتَ الرجل يَيْهَتُ " ، ويقال
بَهَتُ الرجل أبْهَته بهْتاناً إِذا قابلتُه بكذبٍ .

(1/341)


وقوله عزَّ وجلَّ : (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)
هذا الكلام معطُوف على معنى الكلام الأول ، والمعنى - واللَّه أعلم -
أرأيت كالذي مرَّ على قَريةٍ ، والقرية في اللغة سميت قرية لاجتماع الناس
فيها ، يقال قرَيْتُ المَاءَ في الحوضِ إِذَا جمعتُه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَهِيَ خَاوِية عَلَى عُرُوشِهَا).
معنى (خاوية) : خالية - و (عروشها) - قال أبو عبيدة : هي الخِيَام وهي
بيوت الأعراب ، وقال غير أبي عبيدة : معنى (وهي خاوية على عروشها) بَقِيَتْ حيطانُها لا سُقُوف لها.
ويقال خَوتِ الدار والمدينة تخْوي خَواءً - ممدود - إِذا خلت من أهلها ، ويقال فيها : " خَوِيَتْ " والكلام هو الأول - ويقال للمرأة إِذا
خَلَا جوفُها بعدَ الولادةِ وللرجل إِذا خَلا جوفُه من الطًعامِ - قدْ خوِيَ ويخْوَى
خَوًى - مقصور - وقد يقال فيه خَوَى يخْوِي - والأولُ فِي هَذَا أجود.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا).
معناه منُ أيْنَ يُحيي هَذه اللَّهُ بعْدَ مَوْتِهَا.
وقيل في التفسير إِنه كان مؤمناً وقد قيل إِنه كان كافراً ، ولا ينكر أن
يكون مُؤْمناً أحبَّ أن يزداد بصيرة في إِيمانه فيقول : ليت شعري كيف تُبْعَثُ
الأموات كما قال إبراهيم عليه السلام : (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ).
معناه ثم أحياه لأنه لا يُبْعث ولا يتصرف إِلا وهو حي.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (كَمْ لَبِثْتَ).

(1/342)


ْيقرأ بتبيين الثاءِ ، وبإِدغام الثاءِ في التاءِ ، وإِنما أدغمت لقرب
المخرجين.
ومعنى : (قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) أنه كان أميت في صدر النهار ثم
بعث بعد مائة سنة في آخر النهار ، فظنُ أنَّ مقدار لبثه ما بين أول النهار
وآخره ، فأعلمه اللَّه أنه قد لبث مائة عام وأراه علامة ذلك ببلَى عظام حماره ، وأراه طَعَامَه وشَرَابه غير متغير وأراه كيف ينْشِز العِظَامَ ، وكيف تُكْتسَى اللحمَ.
فقال : (فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ).
يجوز بإِثبات الهاءِ وبإِسقاط الهاءِ في الكلام ، ومعناه لم تغيره
السنون ، فمن قال في السنة سانهت فالهاء من أصل الكلمة ، ومن قال في
السَّنَة سَانَيت فالهاء زيدت لبيان الحركة ، ووجه القراءَة على كل حال إثباتُها
والوقوف عليها بغير وصل فمن جَعَلَهُ سانيت ووصلها إِن شاءَ أو وقفها على
من جعله من سانهت ، فأما من قال : إِنه من تغير من أسِنَ الطعام يأسَنُ فخطأٌ.
وقد قال بعض النحويين إِنه جائز أن يكون من (التغيير) من قولك من حمإٍ
مسنون وكان الأصل عنده " لم يتسنن " ولكنه أبدل من النون ياءً كما قال :
تقضي البازي إِذا البازي كَشَرْ.

(1/343)


يريد تقضض ، وهذا ليس من ذاك لأن " مسنون " إنما هو مَصْبُوب على
سنة الطريق.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وانْظُرْ إِلى العِظامِ كيْف نُنْشِزُها).
يقرأ (نُنْشِزُها) بالزاي ، ونُنْشِرُها ، ونَنْشُرُهَا بالراءِ ، فمن قرأ (نُنْشِزُها) كان
معناه نجعلها بعد بِلاها وهجودها ناشزه ينشز بعضها إِلى بعض ، أي يرتفع.
والنَشَزُ في اللغة ما ارتفع عن الأرض ، ومن قرأ (نُنْشِرُها) ، و (نَنْشُرُها) ، فهُو من أنْشَر اللَّه الموتى ونشرهم - وقد يقال نَشَرهم اللَّه أي بعثهم ، كما قال : (وَإِلَيْهِ النُّشُورُ).
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
معناه : فلما تبين له كيف إِحياء الموتى.
قال : (أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ، فإن كان كلما قيل أنه كان مؤمناً ، فتأويل ذكره : (أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ليس لأنه لم يكن يعلم قبل ما شاهد ولكن تأويله : أني قد علمت ما كنت أعلمه غيباً - مشاهدة ، ومن قرأ (اعْلَمْ أن اللَّه على كل شي قدير) فتأويله إذا جزم أنه يُقْبل على نفِسه فيقول : " اعْلَمْ أيها الِإنسان أن اللَّه على كل شيءٍ قدير " -
والرفع على الِإخبار.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)

(1/344)


وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)
موضع " إذ " نصب ، المعنى اذكر هذه القصة - وقوله (رَبِّ أَرِنِي).
أصله أرْإني ، ولكن المجمع عليه في كلام العرب والقراءَة طرح الهمزةِ ، ويجوز
(أرْنِي). وقد فسرنا إلْقَاءَ هذه الكسرة فيما سلف من الكتاب.
وموضع (كيف) نصب بقوله : (تُحْيِ الْمَوْتَى) أي بأي حال تُحْيِ الْمَوْتَى وإبراهيم عليه السلام لم يكن شاكا ولكنه لمْ يكن شَاهَدَ إِحْياءَ ميّتٍ ، ولا يعْلم كيف تجتمع العظام المتفرقةُ الباليةُ ، المستحيلة ، من أمكنة متباينة فأحب علم ذلك مشاهدة.
ويروى في التفسير أنه كان مرَّ بجيفَةٍ على شاطئ البحر والحيتان تخرج
من البحر فتنتف من لحم الجيفة ، والطيرُ تَحُط عليها وتَنْسِرُ منها ، ودوابُّ
الأرض تأكلُ منها ، ففكر كيف يجتمع ما تفرق من تلك الجيفة فحلَّ في حيتان
البحر وطير السماءِ ودواب الأرض ثم يعود ذلك حياً ، فسأل اللَّه تبارك وتعالى أن يريه كيف يحي الموتى ، وأمره اللَّه أن يأخذ أربعة من الطير ، وهو قوله عز وجل : (فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ).
وتقرأ فَصِرْهُنَّ إليك - بالضم والكسر -.
قال أهل اللغة : معنى صُرْهُنَّ أملْهن إليك ، وأجمعهن إِليك ، قال ذلك
أكثرُهم ، وقال بعضهم : صرهن إليك اقْطَعْهن ، فأما نظير صُرهُن أملهن
وأجمعهن فقول الشاعر :

(1/345)


وجاءَت خِلْعةٌ دهسٌ صفايا . . . يصور عنوقَها أحْوى زَنيم
المعنى أن هذه الغنم يعطف عنوقها هذا الكبش الأحوى.
ومن قال صرت : قطعت ، فالمعنى فخذ أربعة من الطير فصرهن أي قَطعْهُنَّ ، ثم اجعل على كل جبل منهن جزءًا.
المعنى اجعل على كل جبل من كل واحد منهن جزءًا.
ففعل ذلك إِبراهيم عليه السلام ثم دعاهن فنظر إِلى الريش يسعى بعضه
إِلى بعض ، وكذلك العظام واللحَم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).
(عَزِيزٌ) أي لا يمتنع عليه ما يريد - حكيم فيما يدبر ، لا يفعل إِلا ما فيه
الحكمة.
فشاهد إبراهيم عليه السلام ما كان يعلمه غيباً رأْيَ عيْن ، وعلم كيف
يفعل اللَّه ذلك.
فلما قَصً اللَّه ما فيه البرهانُ والدلالَةُ على أمر تَوْحيده.
وما آتاه الرسل من البيِّنَات حثَّ على الجهاد ، وأعلن أن من عانده بعد هذه البراهين فقد ركب من الضلال أمراً عظيما وأن من جاهد مَنْ كَفَر بعدَ هذا البرهَان فله - في جهاده ونفقته فيه - الثوابُ العظيم ، وأن الله عزَّ وجلَّ وعد في الجنَّة عشْرَ أمْثالِهَا من الجهَاد.
ووعد في الجهاد أنْ يُضاعِفَ الواحد بسبع مائة مرة لما في إقامة الحق
من التوحيد ، وما في الكفر من عظم الفساد فقال :
(مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261)

(1/346)


أي جواد لا ينقصه ما يتفضَّل به من السعة ، عليم حيث يضعه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264)
فالمن أن تمُنَّ بما أعطيت وتعْتَدَّ به كأنك إنما تقصد به الاعتداد والأذى أن
تَوبخ المعطي.
فأعلم الله عزَّ وجلَّ أن المن والأذى يبطلان الصدقة كما تبطل نفقة المنافق
الذي إِنما يعطي وهو لا يُريدُ بذَلك العَطاءِ ما عندَ اللَّه ، إنما يعطي ليُوهِمَ أنه
مؤمن ، وقال عزَّ وجلَّ : (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ).
والصفوان الحجر الأملس وكذلك الصفا.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌا).
والوابل المطرُ العظيم القطْر - فإذا أصاب هذا المطرُ الحجرَ الذي عليه
تراب لم يبْق عليه من التراب شيءٌ ، وكذلك تبطل نفقة المنافق ونفقة المنَّان
والمؤذِي.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (واللَّه لاَ يَهْدِي القَوْمَ الكَافِرِينَ).
أي لا يجعلهم بكفرهم مهتدين ، وقيل لا يجعل جزاءَهم على الكفر أنْ
يهديهم ، ثم ضرب الله لمن ينفق يريد ما عند الله ولا يمن ولايؤذي مثلًا.
فقال :
(وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265)
أي ليطلب مرضاة الله وتثبيتاً من أنفسهم ، أي ينفقونها مقرين أنها مما
يثيب اللَّه عليها .

(1/347)


(كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ) بفتح الراءِ وبرُبوة . بالضم - وبرِبْوة - بالكسر - وبِرِباوة ، وهذا وجه رابع.
ْوالربوة ما ارتفع من الأرض ، والجنة البستان ، وكل ما نبت وكثف
وكثر ، وستر بعضه بعضاً فهو جنة - والموضع المرتفع إِذا كان له ما يرويه من الماءِ فهو أكثر ريْعاً من المستفِل ، فأعلم اللَّه عزَّ وجلَّ أن نفقة هُؤلاءِ المؤمنين تزْكو كما يزكو نبْتُ هذه الجنة التي هي في مكان مرتفع.
(أصَابَها وَابلٌ) وهُو المطرُ العظيمُ القَطْر.
(فَآتَتْ أُكُلَهَ) : أي ثمرها ، ويقرأ أكْلَهَا والمعنى واحد.
(ضِعْفَينْ) : أي مثلين.
ْ (فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ).
و (الطَّلُّ) المطر الدائمُ الصِّغَارِ القَطْرِ الذي لا يكاد يسيل منه المثاعب.
ومعنى : (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ).
أي عليم ، وإِذا علمه جازى عليه والذي ارتفع عليه (فَطَلٌّ) أنهُ على
معنى فإن لم يصبها وابل فالذي يصيبها طَلٌّ.
* * *
وقوله جل ثَنَاؤُه : (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266)
هذا مثل ضَربهُ اللَّه لهم للآخرة وأعْلَمَهُم أن حاجتهم إلَى الأعمال
الصالحة كحاجة هذا الكبير الذي له ذُرَية ضُعفاءُ ، فإِن احترقت جنته وهو كبير وله ذرية ضعفاءُ انقطع به ، وكذلك من لم يكن له في الآخرة عمل يوصله إلى

(1/348)


الجنة فَحسْرتُه في الآخرة - مع عظيم الحسْرة فيها - كَحَسْرة هذا الكبير المنقَطَعِ به في الدنيا.
ومعنى : (فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ).
الِإعصار الريح التي تهب ، من الأرض كالْعَمُود إِلى نَحْو السماءِ وهي التي
تسميها الناس الزَوْبَعةَ ، وهي ريح شديدة ، لا يقال إنها إعصار حَتَى تهبَّ
بِشدةٍ ، قال الشاعر :
إنْ كنْتَ ريحاً فقد لاقيتَ إِعْصَارَا
ومعنى : (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ).
أي : كهذا البيان الذي قد تبين الصَّدَقَة والجهاد وقصة إِبراهيم - عليه
السلام - والذي مرَّ على قرية ، وجميع ما سلَف من الآيات أي كَمَثل بيان هذه الأقاصيص (يبين اللَّه لكم الآيات) ، أي العَلاَمَات والدّلالات التي تَختَاجُون إِليها في أمْر توحيده ، وإثْبَات رسالات رسله وثوابه وعقابه.
(لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ).
* * *
وقوله تبارك اسمه : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267)
فالمعنى أنفقوا من جَيِّد ما كسبتموه من تجارة ، ومن وَرِقِ وعين ، وكذلك
من جَيِّد الثمار ، ومعنى (أنفقوا) : تصدقوا وكان قوم أتوا في الصدقة بردىءِ
الثمار.
ويروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر السعاة إلا يُخَرصَ الجُعْرَورَ وَمِعَى الفارة

(1/349)


وذلك أنها من رديءِ النخل ، فأمر ألا تخرص عليهم لئلا يعتلوا به في
الصدقة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ).
أي لا تقصدوا إلى رديءِ المال ، والثمار فتتصدقوا به ، وأنتم (تعلمون
أنكم) لا تأخذونه إلا بالِإغماض فيه.
ومعنى : (وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ).
يقول : أنتم لا تأخذونه إلا بوَكْس . فكيف تعطونه في الصدقة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ).
أي لم يأمركم بأن تتصدقوا من عَوَزٍ . ولكنه لاختبَاركم.
فهو حميد على ذلك وعلى جميع نعمه.
يقال قد غَنِيَ زيد يغنى غِنى - مقصور - إِذا استغنى ، وقد
وقد غَنِيَ القومُ إِذا نَزَلوا في مكان يقيهم ، والمكان الذي ينزلون فيه مَغْنى ، وقد غَنَّى فلان غِنَاء إِذا بالغ في التطريب في الإنشاد حتى يستغنى الشعر أن يزاد في نغمته ، وقد غنيت المرأة غُنْيَاناً.
قال قيس بن الخطيم :
أجَدَّ بعمرة غُنْيانُها . . . فتهجرَ أم شأننا شأنُها
غُنْيَانها : غِنَاها . والغواني : النساءُ ، قيل إنهن سمين غواني لأنهن غَنِين
بجمالهن . وقيل بأزواجهن.
وقوله جل وعلا : (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268)

(1/350)


يقال الفقْر والفَقَر جميعاً ، والمعنى أنه يحملكم على أن تؤَدوا في الصدقة
رديءِ المال يخوفكم الفقْرَ بإعطاءِ الجَيدِ - ومعنى (يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ) : يعدكم بالفقر ولكن الباءَ حذفت . وأفْضىَ الفعل فنصب كما قال الشاعر :
أَمَرْتُكَ الخير فافعلْ ما أُمِرْتَ به . . . فقد تَرَكْتُكَ ذا مال وذا نَشَبِ
ويقال وعدته أعده وَعْداً و عِدة ومَوْعِداً ومَوْعِدَةً وموْعُوداً وموعودة.
ومعنى : (وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ).
أي بأن لا تَتَصَذقُوا فَتَتقاطَعوا.
ومعنى : (وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا).
أي يَعِدُكُمْ أن يُجازيكم على صَدقَتكم بالمغْفرةِ ، ويَعِدُكم أن يُخْلِفَ
عَلَيْكُمْ.
ومعنى : (وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ).
(واسع) يعطي من سعة ، و (عَليمٌ) يعلَم حيث يضع ذَلك ، ويعلم
الغيبَ والشَهادَةِ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269)
معنى (يُؤْتِي) يعطي ، و (الحكمة) فيها قولان : قال بعضهم هي النبوة.
وُيرْوَى عن ابن مسعود أن الحكمة هي ، القرآنُ ، وكفى بالقرآن حِكْمةً ، لأن الأمَّةَ بهِ صارت علماءَ بعد جهل ، وهو وصلة إِلى كل علم يُقَرِّب منَ اللَّهِ
عزَّ وجلَّ : وذَريعة إِلى رحمته ؛ لذلك قال الله تعالى : (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا) .

(1/351)


أي أعْطِيَ كل الجلم ، وما يوصل إلى رحمة اللَّه ، و " يُؤت " جزم بِمَن.
، والجواب (فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا)
ومعنى (وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ).
أي ما يفكر فكراً يذكر به ما قص من آيات القرآن إلا أولو الألباب ، أي
ذَوُو العُقول.
وواحد الألبَاب لُب ، يقال قَد لَبِبْتَ يا رجُل وأنت تَلَب ، لَبَابَة
ولُبًّا ، وقرأتُ على مُحمد بن يزيدَ عن يونس : لَبُبْت لَبَابَةً.
وليس في المضاعف على فَعُلْتُ غيرُ هذا ، ولم يروه أحد إلا يونسَ ، وسألت غير البصريين عنه فلم يَعْرفْهُ.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (270)
أي ما تصدقتم به من فرض لأنه في ذكر صدقة الزكاة وهي الفرض
والنذر : التطوع ، وكل ما نوى الإنسانُ أن يتطوع به فهو نذر.
(فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ) : أى لا يخفى عليه فهو يجازي عليه ، كما قال
جلَّ ثَنَاؤه : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ).
يقال نذرْت النذْرَ أنذِرُه وأنْذُرُه ، والجميع النُّذُورُ ، وأنْذَرْتُ القَومَ إذَا أعْلَمْتُهُمْ وخَوفْتُهمْ إنْذَاراً ونَذِيراً ونذراً.
قال اللَّه عزَّ وجلَّ : (فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ).
وقال جل ثناؤه : (فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ).
النذُر مثل النُّكُر ، والنذِير مثل النكِير .

(1/352)


وقوله عزَّ وجلَّ : (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)
معنى (إنْ تُبْدوا) : تُظْهِرُوا ، يُقَال بَدَا الشيءُ يبدو إذَا ظَهرَ ، وأبدَيتُه أنا
إبْدَاءً ، إذَا أظهرته ، وبدا لي بُدَا " إذا تَغيَّر رأي عمَّا كان عليه.
و(تُبْدوا) جُزمَ بـ (إنْ) ، وقوله : (فَنِعِمَّا هِيَ) الجواب.
وروى أبو عُبَيْدٍ أنَّ أبَا جَعْفَر وشَيْبَةَ ونافعاً وعاصماً وأبا عمرو بن العلاءِ قرأوا : (فَنِعِمَّا هِيَ) بكسر النون
وجزم العين وتشديد الميم ، وروى أن يحيى بن وثاب ، والأشْمس وحمزة

(1/353)


والكسائِى قراوا : (فنَعِمَّا هي) - بفتح النون وكسر العين.
وذكر أبو عُبَيْدٍ أنَّه رُويَ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله لابن العاص : نعْمَّا بالمال الصَّالح للرجل الصَّالِح.
فذكر أبو عبيدٍ أنه يَخْتَار هَذه القراءَة من أجل هذه
الروَاية.
ولا أحسب أصحابَ الحديث ضَبَطُوا هذَا ، ولا هذه القراءَةَ عند
البصريين النحويين جائزة ألبتَّة ، لأن فيها الجمعَ بينَ ساكنين من غير حرف مَا
ولين.
فأما مَا قَرأنَاه من حرف عاصم ورواية أبي عمرو (فنِعِمَّا هِي) ، بكسر النون
والعين ، فهذا جَيِّدٌ بَالغ لأن ههنا كسرَ العينِ والنونِ ، وكذلك قراءَة أهلِ
الكوفة (نَعِمَّا هي) جَيدة لأن الأصل في نِعْمَ نَعِمَ ونعِمَ . ونعْمَ فيها ثلاث
لغاتٍ ، ولا يجوز مع إدغام الميم نِعْمَّا هي . و " ما " في تأويل - الشيءِ زعم
البصريون أن نِعِمَّا هي : نعْمَ الشيءُ هِيَ . وقد فسرنا هذا فيما مضى.
ومعنى : (وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ).
هذا كان على عهد رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فكان الإخفاء في إِيتاءِ الزكاة أحْسَن ، فأمَّا اليومَ فالناس يُسِيئون الظن ، فإظهارُ الزكاة أحسنُ ، فأمَّا التطوع فإخفاؤُه أحسن ، لأنه أدل على أنه يريد اللَّهَ به وحده.
يقال أخفَيْتُ الشيءَ إخفاءً إذا سَتَرتُهُ ، وخَفِي خَفَاءً إذا اسْتَتَر ، وخفَيْتُه أخْفِيه خَفْياً إِذا أظْهَرْتُه ، وأهل المدينة يسمون النبَّاشَ : المُخْتَفِي.
قال الشاعر في خفيته أظهرته :

(1/354)


فإِنْ تَدفِنُوا الداءَ لا نخْفِه . . .وإِن تَبْعَثُوا الحرْبَ لا نَقْعُدِ
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272)
معناه إِنما عليك الِإبلاغ كما قال - جلَّ وعزَّ - (وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119).
ومعنى : (وَلَكنَّ اللَّهَ يَهْدي مَنْ يَشَاءُ).
أي يوفق من يشاءُ للهداية ، وقال قوم : لَوْ شاءَ الله لهداهم أي
لاضطرهم إِلى أن يهتدوا - كما قال : (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4).
وكما قال - عزَّ وجلَّ - (ولَوْ شَاءَ اللَّهُ لجَمَعهُم عَلَى الهُدى)
وهذا ليس كذلك . هذا فيه : (وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ).
فَلاَ مُهتديَ إِلا بتَوفيق الله - كما قال : (وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ باللَّه).
ومعنى : (وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ).
هذا خاص لِلْمُؤْمِنِينَ ، أعْلمهم أنه قد عَلِم أنهم يريدون بِنَفقتهم ما عند
اللَّه جلَّ وعزَّ ، لأنه إِذا أعلمهم ذلك فقد علموا أنهم مثابون عليه ، كما قال : (وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ).
الرفع في (يُكَفِّرُ) والجزمْ جائزان ، ويقرأ - ونُكفر عنكم - بالنون والياءِ.
وزعم سيبويه أنه يَخْتَار الرفعَ في وُيكَفَرُ ، قال لأن ما بعد الفاءِ قد صار بمنزلتِه

(1/355)


في غير الجزاءِ ، وأجاز الجزم على موضع فهو خير لكم لأن المعنى يكن
خيراً لكم ، وذكر أن بعضهم قرأ : (مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ ويَذَرْهم) بجزم الراءِ ، والاختيار عنده الرفع في قوله (ويذرهُم) وفي (ونُكَفِّر)
قال : فأمَّا النصب فضعيف جداً ، لا يجيزُ (ونُكَفِّرَ عَنْكم) إلا على جهة الاضطرار ، وزعم أنه نحو قول الشاعر :
سَأتركُ مَنزِلي لبَنِي تَمِيم . . . وألحقَ بالحجاز فأستريحَا
إلا أن النصب أقوى قليلاً لأنه إنَّمَا يَجبُ به الشًيءُ بوجُوبِ غيره فضارع
الاستفهامَ وما أشبَههُ.
هذا قول جميع البصريين وهو بين واضح.
* * *
قوله عزَّ وجلَّ : (لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273)
فُقراء : جمع فقير مثل ظريف وظُرَفَاء وقالوا في (أُحْصِرُوا) قولين : قالوا
أحْصَرهم فرضُ الجهاد فَمَنَعَهُم من التصرفِ.
وقالوا أحصرهم عَدُوهُم لأنه شَغَلَهُمْ بِجِهادِهِ ، ومعنى (أُحْصِرُوا) صاروا إلى أن حصروا أنفسهم للجهاد ، كما تقول رَابَط في سبيل اللَّه.
ومعنى : (لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ).

(1/356)


أي قد ألزموا أنفسهم أمر الجهادِ فمنعهم ذلك من التصرف وليس لأنهم
لا يقدرون أن يتصرفوا . وهذا كقولك ، أمرني المولى أن أقيمَ فما أقدرُ على أن أبرحَ ، فالمعنى أني قد ألزَمْتُ نفسي طاعَتَهُ ، ليْس أنه لا يقدر على الحَرَكةِ
" وهو صحيح سَوِي ، ويقال ضربتُ في الأرض ضرباً ، وَضَرَبَ الفَحْلُ الناقَةَ إذا حَمَل عليها ضِراباً ، والضرِيبُ الجليد الذي يسقط على الأرض ، يقال ضَرَبَت الأرض وجُلِدت الأرض وَجَلِدَتْ الأرض.
وروى الكسائي : ضَرِبَتْ الأرضُ وجَلِدتْ.
والأكثر ضَرَبَتْ وجُلِدَات.
ومعنى (يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ).
أي يحسبهم الجاهل ويخالهم أغنياء من التعفف عن المسألة وإظهارِ
التجمل.
ومعنى : (لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا).
روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال " من سأل وله أربعون درهماً فقد ألْحَفَ "
ومعنى " ألحَفَ " أي اشتمل بالمسْألَة ، وهو مستغن عنها ، واللِّحَافُ من هذا
اشتقاقه لأنه يشْمَل الإنْسَان في التغطية.
والمَعْنَى أنه ليس منهم سؤَال فيكون منهم إلحاف.
كما قال أمرؤ القيس "
على لاحِبٍ لا يُهْتدى بمَنارهِ . . . إذا سافَه العَوْدُ النباطيُّ جَرْجَرا
المعنى ليس به منار فيهتدى بها ، وكذلك ليس من هُؤلاءِ سؤَال فيقع فيه
إلحاف .

(1/357)


وقوله عزَّ وجلَّ : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)
(الذين) رفع بالإبتداء ، وجاز أن يكون الخبر ما بعد الفاءِ ، ولا يجوز في
الكلام " زيد فمنطلق " لأن الفاءَ لا معنى لها - ، وإنما صلح في الذين لأنها تأتي بمعنى الشرط والجزاءِ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275)
المعنى الَّذين يأكلونَ الرِّبَا لا يقومون في الآخرة إلا كما يقومُ المَجْنُون.
مِنْ حَالِ جُنُونه.
زعم أهل التفسير أن ذلك عَلَمٌ لهُمْ في الموقف ، يَعْرفُهُمْ به
أهل المَوْقِف ، يُعْلَمُ بِه أنَّهُمْ أكَلَةُ الربا في الدنيا يقال بِفُلان مَس ، وهو ألْمَس
وأوْلَق إذا كان به جنون.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى).
جاز تذكير (جاءَه) ، وقال : تعالى في موضع آخر (قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) لأن كل تأنيث ليس بحقيقي فتذكيره جائز ألا ترى أن الوعظ
والموعظة معبران عن معنى واحد.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ).
أي قَد صُفِحَ لَه عَمَّا سَلَفَ (وأمْرُهُ إلَى اللَّه) أي اللَّه وليُّه.
ومعنى : (وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ).
أي من عاد إلى استحلال الربا فهو كافر ، لأن من أحلَّ ما حرَّم اللَّه فهو

(1/358)


كافر ، وهؤُلاءِ قالوا : (إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا) ومن اعتقد هذا فهوكافر.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278)
نزلت في قوم من أهل الطائف كانوا صُولحوا على أنْ وُضِعَ عَنهُمُ ما
كَانَ عَلَيْهِمْ مِنَ الربا ، وَجُعلَ لهم أن يأخُذُوا مَا لَهُمْ مِنَ الربَا وكان لهم على
قوم مِنْ قُريْش مال فطالَبُوهُمْ عندَ المَحْل بالمال والربَا فقالتْ تلك الفرقة ما
بالنا مِنْ أشقى الناس يؤْخذ منا الربا الذي قد وضع عن سائر الناس ، فأمر الله
عز وجلَّ - بترك هذه البقية ، وأعلم أن من كان مؤْمناً قَبلَ عن اللَّه أمرَه ومن أبى فهو حرْبٌ ، أي كافر ، فقال :
(فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279)
وقال بعضهم قآذِنُوا ، فمن قال (فَأْذَنُوا) : فالمعنى : أيقِنُوا ومن قال (قآذِنُوا)
كان معناه فأعلِمُوا كل مَنْ لمْ يترُكِ الربَا أنَّه حَرْب.
يقال قد آذنته بكذا وكذا ، أوذنُه إيذَاناً إذا أعْلَمْتُه وقد أذِنَ له يأذنُ إذْناً إذا عَلِمَ بِه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280)
أي : وإن وقعَ (ذُوعُسْرَةٍ) ، ولو قرئت ، وإن كان ذا عُسْرَةٍ لجاز أي
وإن كان المدين الذي عليه الدَّينُ ذَا عُسْرةٍ ، ولكن لا يُخَالف المصحف
والرفع على أن ، (إنْ كان) على معنى إنْ وقع ذو عسرة - ورفع (فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ) على فعلى الَّذِي تعاملونه نظرة أي تأخير ، يقال بعته بيعاً بِنَظرةٍ.
ومن قال فناظرة إلى ميسرة ففاعالة من أسماءِ المَصَادِر نحو (لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ)

(1/359)


ونحو (تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25).
وإنْ شئْتَ قُلتَ إلى مَيْسُرة
فأما منْ قَرأ (إلى مَيْسُرِهِ) على جهةِ الإضافة إلى الهاءِ فمخطئ ، لأن "ميسُر"
مَفْعُل وليْس في الكلام مفعُل.
وزعم البصريون أنهم لا يعرفونَ مفْعُلاً إنما يَعْرِفُون مفْعُلَة.
فَأمرهم اللَّه بتأخيرِ رأس المال بعد إسقاط الربا ، إذا كان المُطَالَبُ
مُعْسِراً ، وأعلمهم أن الصدقة بِرأس المالِ عَلَيْهِ أفْضَلُ.
فقال : (وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)
هذا يوم القيامة ، ويقال إنها آخر آية نزلت من كتاب اللَّه جلَّ وعزَّ.
كذا جاءَ في التفسير.
وقوله عزَّ وجلَّ : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ)
يقال دَايَنْتُ الرجلَ إذا عاملته بدين ، أخَذْتُ منه وأعطيتُه . وتَدايَنَّا على
دايَنْتُه ، قال الشاعر :
- دايَنْتُ ليْلَى والدُّيُونُ تقضَى . . . فمطلت بعضاً وأدَّت بعضاً
ويقال دِنْت وأدَّنْتُ أي اقْترضْت ، وأدَنْتُ إذا أقْرضْتُ.
قال الشاعر :
أدانَ وأنبِّأه الأولون . . . بأن المُدَان مَلِيء وفيُّ

(1/360)


فالمعنى إذا كان لبَعْضكم على بعْض ديْن إلى أجل مُسَمَّى فاَكتبوه فأمر
الله - عزَّ وجلَّ - بكَتْب الدين ، حِفظاً مِنْه للأمْوال ، وكذلك الإشهاد فيها
وللناسِ من الظلْمِ لأَن صاحب الدَّيْنِ إذا كانت عليه الشهُودُ والبَينَةُ قَلَّ
تحديثُه نفسَه بالطمَع في إذْهَابِهِا.
فأمر اللَّه - جلَّ وعزَّ - بالإشهاد والكِتَابِ.
قال بعض أهل اللغة هذا أدب من اللَّه عزَّ وجلَّ وليس بأمر حَتْم كما
قال عزَّ وجلَّ : (وإِذَا حَلَلْتُم فاصْطادوا) - فليس يجب كُلماِ يحل من
الإحرام أن يصطاد ، وكما قال : (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ).
وهذا خلاف ما أمَرَ اللَّه به في كتاب الدين والإشهاد لأن هذين جميعاًْ
إباحة بعد تحريم - قال الله عزَّ وجلَّ : (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا) وقال : (لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) ثم أباح لهم - إِذا زال
الإحرام - الصيدَ " وكذلك " قال : (إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ)
فَأبَاحَ لَهُمْ بَعْدَ انْقِضَاءِ الصًلاةِ الابتغاءَ منْ فضْلِهِ ، والانتشارَ في الأرض لما أرادوا من بيع وغَيْره.
وليست آيةُ الدَّيْنِ كذلك ، ولكن الذي رخص في ترك الإشهاد في قول قوم قوله : (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ).
أيْ يكتَب بالحق ، لا يكتب لصاحب الدين فضلًا على الذي عليه الدين
ولا يُنْقصُه مِنْ حقه - فهذا العدل .

(1/361)


ومعنى : (وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ).
أي لا يأب أنْ يكتب كما أمره اللَّه به من الحق.
وقيل (كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ) ، أي كما فضله اللَّه بالكتاب فلا يَمْنَعَن المعْرُوفَ بكتَابِهِ.
وأبى يأبَى في اللغة منفرد لَم يَأتِ مِثْلُه إلا قَلَى يَقْلَى ، والذي أتَى أبَى يأبى
لا غير - فَعَل يَفْعَل ، وهذا غير معروف إلا أن يكون في موضع العين من الفعل أو اللام حرف من حروف الحلق ، وقد بيَّناها ، ولكن القول فيه أن الألف في أبى أشْبَهَت الهَمْزَة فَجاءَ يَفْعَل مفْتُوحاً لِهَذِه العِلة ، وهذا القول لإسماعيل بن إسحاق ومثله قلى يلقى.
ومعنى قوله عزَّ وجلَّ : (وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا) أي لاَيَنْقُصْ مِنْهُ شَيْئاً.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ).
السفيه الخفيف العقل ، ومن هذا قيل تسفهت الريح الشيء إذا حركته.
واستخفته ، قال الشاعر :
مَشَيْنَ كما اهتزَّتِ رماحٌ تسفَّهَتْ . . . أَعَالِيَها مَرُّ الرِّياحِ النَّواسِم

(1/362)


فالنساء والصبيان اللاتي لا يميزن تميزاً صحيحاً سفهاء ، والضعيف
في عقله سفيه ، والذي لا يقدر - على الإملاء العيي.
وجائز أن يكون الجهول سفيهاً كهؤُلاءِ.
ومعنى : (فليملل وليه بالعدل) : أي الذي يقوم بأمره ، لأن اللَّه أمر ألا
نْؤتي السفهاء الأموال . وأمر أن يقام لهم بها فقال :
(وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ).
فوليه الذي يقوم مقامه في ماله لو كان مميزاً.
وقال قوم : ولي الدَّيْنِ . وهذا بعيد : كيف يقبل قول المدعي ، وما
حاجتنا إلى الكتاب والإشهاد والقول قوله :
(وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ).
معنى رجالكم من أهل ملتكم.
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ).
أي فالذي يشهد - إن لم يكن - رجلان - رجل وامراتان ومعنى (ممن
ترضون من الشهداءِ) ، أي ممن ترضون مذهبه ، ودل بهذا القول أن في الشهود من ينبغي ألا يرضى.
(أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى).
مَنْ كسر (أنْ) فالكلامُ علي لَفظ الجَزَاءِ ، ومعناه : المعنى في (إن تضِل)
إن تَنْسَى إحداهما ، تذكرْهَا الذاكرةُ فَتَذْكر.
و (فَتُذَكِّرُ) رُفِعَ مع كسر (إنْ)

(1/363)


لا غير - ومن قرأ "أن تَضِلَ قتُذَكرَ " وهي قراءَة أكْثر الناس ، فَزَعمَ بعضً أهل اللغة فيها أن الجزاء فيها مقدَّم أصله التاخير
وقال : المعنى : استشهدوا امراتين مكان الرجل كي تُذَكرَ الذاكرة - الناسِيَةَ . إن نَسِيَتْ . فلما تقدم الجزاءُ اتصلَ بأول الكلام وفُتِحَتْ أنْ وصارَ جوابهُ مردُوداً عليه.
ومثله إني لَيُعْجِبُني أن يسْأل السائلُْ فيعطى ، قال - والمعنى إنما يُعجبُه الإعطاء إن سَأل السائِل وزعم أن هذا قول بين.
ولست أعرف لِمَ صار الجزَاءُ إدا تقدم - وهو في مكَانه أو في غير
مكانِه وجب أن يفتح (أن) معه.
وذكر سيبويه والخليل " وجميع النحويين الموثوق بعلمهم أن المعنى
استَشهدوا امراتين لأن تُذَكرَ إحداهما الأخري ، ومِنْ أجْل أنْ تُذَكرَ إحداهما
الأخرى ، قال سيبويه : فإن قال إنْسَانُ فلم جاز (أن تضل) وإنما أعد هذا
للإذْكار ، فالجواب أن الإذكار لما كان سبَبُه الإضْلال جاءت أن يذكر
(أن تضل) لأنَّ الإضلال هو السبب الذي أوجب الإذكار.
قال ومثله : أعددت هذا الجذع أن يَمِيلَ الحائطُ ، فأدعمَهَ ، وإنَّما أعددته للدعم لا لِلْمَيل ، ولكنْ الميلَ ذُكرَ لأنه سَبَبُ الدعم ، كلما ذكر الإضْلال لأنه سبب الاذكار - فهذا هو البيِّن إن شاءَ الله.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا).

(1/364)


يروى عن الحسن أنه قال (وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا) لابتداء الشهادة.
أي ولا يأبوا إذا دُعُوا لإقامتها.
وهذا الذي قال الحسن هو الحق - واللَّه أعلم - لأن الشهداء إذا أبوا -
وكان ذلك لهم - أن يشْهدوا تَوِيتْ حقوقهم وبطلت معاملاتهم فيما يحتاجون
إلى التوثق فيه.
وقال غير الحسن : (وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا) - وكانت في أعناقهم
شهادة - أن يقيموها.
فأما إذا لم يكونوا شهداء فهم مخيرون في ابتداء
الشهادة ، إن شاءُوا شهدوا وإن شاءُوا أبوا.
ويدل على توكيد أن الشاهد ينبغي له إذا ما دعي ابتداء أن يجيب.
قوله تعالى : (وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ).
أي لا تملوا أن تكتبوا ما أشْهَدتم عليه ، فقد أمِرُوا بهذا ، فهذا يَؤكد أن
أمر الشهادة في الابتداءِ واجب ، وأنه لا ينبغي أن يُمَل ويقال سئمت أسأم
سآمة . سأماً.
قال الراجز :
لما رأيت أنه لا قامة . . .وأننِي سَاق على السآمَة
نزعتُ نزعاً زَعْزَع الدعَامَة
ومعنى : (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً).
أكثر القراءِ على الرفع (تِجَارَةً حَاضِرَةً) على معنى : إلا أن تقَع تِجارةَ

(1/365)


حاضِرة . ومن نصب تجارة - وهي قراءَة عاصم فالمعنى إلا أن تَكونَ المُداينة
تجارةً حاضرةً.
والرفع أكثرُ وهي قراءَة الناس.
فرخص اللَّه عزَّ وجلَّ في ترك كتابة ما يديرونه بينهم لكثرة ما تقع
المعاملة فيه ، وأنه أكثر ما تقع المتاجرة بالشيءِ القليل ، وإن وقع فيه الدين.
ووكدَ في الاشهاد في البيع فقال :
(وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ) وقد بيَّنَّا ما الذي رخص في ترك ، الإشهاد.
ومعنى : (وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ).
قالوا فيه قولين : قال بعضهم : (لَا يُضَارَّ) : لا يضارِرْ ، فأدغمت الراءُ
في الراءِ ، وفتحت لالتقاءِ الساكنين ، ومعنى (لَا يُضَارَّ) لا يكتب الكاتب إلا
بالحق ولا يَشْهدُ الشاهد إلا بالحق.
وقال قوم : (وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ) : لا يُدْعَى الكاتبُ وهو مشغول لا يمكنه ترك شغله إلا بضرر يدخل عليه ، وكذلك
لا يُدْعى الشاهد ومجيئُه للشهادة يضُرُّ به والأول أبينُ
لقوله : (وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ)
فالفاسق أشبه بغير العدل وبمَنْ حرف الكتاب منه بالذي دعا شاهداً
ليشهد ، ودعا كاتباً ليكتب ، وهو مشغول فليسَ يسمَّى هذا فاسقاً ولكن يسمى من كذب في الشهادة ومن حرف الكتاب فاسقاً.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)
قرأ الناس " فرُهُن مقبوضة " و " فَرِهان مقبُوضَة "
فأمَّا "رُهُنٌ" فهي قراءَة أبي عَمرو ، وذكر فيه غير واحد أنها قرئت : " فَرُهُن " ليُفْصَل بين الرهَانِ في الخَيْل

(1/366)


وبين جَمْع رَهْن في غيرها ، ورُهُن ورهان أكثر في اللغَةِ.
قالَ الفراء " رُهُن " جمعٍ رِهَانٍ ، وقال غَيْرُه : رُهُن وررَهْن " مِثْل سُقُف وسَقْف.
وفَعْل وفُعُل قليل إلا إنَّه صحيح قد جاءَ ؛ فأما في الصفة فكثير ، يقال : فرَس وَرْد ، وخيل وُرْد.
ورجل ثَط وقَوْم ثُط ، والقراءَةُ على " رُهُن " أعجَب إِليَّ لأنها موافقة
للمصحف ، وما وافق المصحف وصح معناه وقرأت به القراء فهو المُختار.
ورِهَان جَيِّد بَالغ.
يقال : رهنتُ الرهن وأرهَنْتُه ، وأرْهَنْتُ أقلهما.
قال الشاعر في أرْهنت :
فَلَمَّا خَشِيتُ أظافِيرهُم . . . نَجَوْتُ وَأرْهَنْتهُمْ مَالِكاً
وقال في رَهَنْت : أنشده غيرُ واحد :

(1/367)


فَهَلْ من كاهِنٍ أوْ ذِي إله . . . إذا مَا حان من رَبي قُفول
يُرَاهِنُني فيَرهَنُني بَنِيه . . . وأرْهنه بَنِي بما أقولُ
لَمَا يَدْري الفقيرُ متى غِنَاه . . . ومَا يَدْري الغَنِيُّ متَى يُعِيلُ
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)
معناه هو خالقهما.
(وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ).
معناه إن تظهروا العمَل به أو تُسِرُّوه يُحاسبكم به اللَّه ، وقد قيل إن هذا
منسوخ ، روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال تُجَوِّزَ لهذه الأمة عن نسيانها وما حدَّثَتْ به أنْفُسَهَا.
ولما ذكر اللَّه - جلَّ وعزَّ - ْ فَرْضَ الصلاة والزكاة والطلاق والحيض
والإيلاءِ والجهاد وأقاصيص الأنبياءِ والدَّيْن والربا ، ختم السورة بذكر تعظيمه وذكر تصديق نبيه - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين بجميع ذلك فقال :
(آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)
أي صدق الرسول بجميع هذه الأشياء التي جرى ذكرها وكذلك
المؤْمنون.
(كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ) أي صدق بالله وملائكته وكتبه.
- وقرأ ابن عباس - وكِتَابه وقرأتْه جماعة من القراءِ.
فأمَّا كُتُب فجمع كِتاب ، مثل : َ مِثَال ومُثُل ، وحمَار وحُمُر.
وقيل لابن عباس في قراءَته " وكتابه " فقال كتاب أكثر من كتب.
ذهب به إلى اسم الجِنْس

(1/368)


كما تقول : كثر الدرْهَم في أيدِي الناس.
ومعنى : (لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ).
أي لا نفعل كما فعل أهل الكتاب قبلنا . الذين آمنوا ببعض الرسل
وكفروا ببعض ، نحو كفْر إليهود بعيسى ، وكفْر النصارى بغيره فأخبر عن
المؤمنين أنهم يقولون (لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا).
أي " سَمعْنَا " سَمْع قابِلينَ . و (أطَعْنَا) : قِبِلْنَا ما سَمِعْنَا ، لأن مَن سمع
فلم يعْمل قيل له أصم - كما قال جلَّ وعزَّ :
(صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ). ليس لأنهم لَا يسْمعون ولكنهم صاروا - في ترك القبول بمنزلة من لا يسمع
قال الشاعر :
أصَمُّ عمَّا سَاءَهُ سَمِيع
ومعنى : (غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ).
أي أغفر غُفْرانَك ، وفُعْلاَن ، من أسْمَاءِ الْمَصَادِر نحو السُّلوان والكُفْران.
ومعنى : (وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) أي نحن مقرون بالبعْثِ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)
(لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا)
أي إلا قدرَ طَاقَتها ، لا يكلفها فَرضاً من فُروضهِ من صَوْم أوصَلاةٍ أو
صَدقَةٍ أو غير ذلك إلا بمقدار طاقتها.
ومعنى : (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ).
أي لا يؤَاخذ أحداً - بذنب غيره - كما قال - جلَّ وعزَّ : (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى).

(1/369)


ومعنى : (رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا).
قيل فيه قولان : قال بَعضهم إِنَه على مَا جاءَ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "عُفِيَ لِهَذِهِ الأمة عن نِسُيَانِهَا ومَا حَدَّثتْ بِهِ أنفُسَهَا"
وقيل : (إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) أي إن تَرَكْنَا.
و (أو أخْطَانَا) : أيْ كَسَبْنَا خطيئةً واللَّه أعلم.
إلا أن هذا الدعاءَ أخبر اللَّه به عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤْمنين وجعله في كتابه نيكون دعاءَ مَنْ يأتي بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة رحمهم اللَّه.
وروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن اللَّه - جلَّ وعزَّ - قال في كل فصل من هذا الدعاء فَعلتُ فعلتُ أي اسْتَجَبْتُ.
فَهوَ منَ الدعاء الذي ينبغي أن يحفظ وأن يدعى به كثيراً.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا).
كل عقد من قرابة أو عهد فَهُو إصْر ، العرب تقول : مَا تأصِرُني على
فلان آصرة . أي ما تَعطفني عليه قرابة ولا مِنَة قال الحطيئة :
عَطفُوا عليَّ بغير آصرة . . . فقد عَظُمَ الأواصِر
أي عطفوا على بغير عهد قرابة ، والْمَأصَرُ من هذا مأخوذ إنما هو
عقد ليحبس به ، ويقال للشيء الذي تعْقَدُ به الأشياء الإصَار.
فالمعنى لَا تَحْمِلْ علينا أمْرا يثقُل كما حمَلتَه على الذين من قبلنا نحو ما

(1/370)


أمِرَ به بنو إسرائيل من قتل أنفسهم ، أي لا تَمْتَحِنا بما يثقل . (أيضاً) نحو
قوله : (وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ).
والمعنى لا تمتحنا بمحنة تثقل.
ومعنى : (وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ).
أي ما يثقل علينا ، فإِن قال قائل - فهل يجوز أن يُحَمِّلَ اللَّهُ أحداً ما لا
يطيق ؟
قيل له : إدْ أردت ما ليس في قدرته ألبتَّة فهذا محال.
وإن أردت ما يثقلُ ويخسف فللَّهِ عزَّ وجلَّ أن يفعل من ذلك ما أحب.
لأن الذي كلفه بني إسرائيل من قتل أنفسهم (يَثقل) ، وهذا كقول القائل : ما
أطيقُ كلام فلان ، فليس المعنى ليس في قُدرتِي أن ُكَلِّمَهُ ولكنْ معناه في اللغة أنه يثقل عليَّ.
ومعنى : (فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ).
أي أنْصُرنا عليهم في إقامة الحجة عليهم ، وفي غلبنا إِياهم في حربهم
وسائر أمرهم ، حتى تظهر ديننا على الدِّين كلِّه كما وعدتنا .

(1/371)


سورة آل عمران
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله عزَّ وجلَّ : (الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2)
أجمعت القراءُ على فتح الميم وقد روي عن الرُّواسي " ألم اللَّه " بتسكين
الميم ، وقد رَوَى هذه القراءَة بعضهم عن عاصم والمضبوط عن عاصم في رواية أبي بكر بن عَيَّاش وأبي عمرو فتحُ الميم ، وفتحُ الميم إجماع.
وقد شرحنا معنى (الم).
واختلف النحويون في علة فتح الميم ، فقال بعض البصريين : جائز أن
يكون الميمُ فتحتْ لالتقاء الساكنين ، وجائِز أن يكون طرحت عليها فتحة الهمزة لأن نيةَ حروف الهجاءِ الوقف ، وهذا أيضاً قول الكوفيين.
وذكر أبو الحسن الأخفش أن الميمَ لو كُسرتْ لالتقاءِ السَّاكنين فقيل
(الم اللَّه) لجازَ ، وهذا غلط من أبي الحسن لأن قبل الميم ياءً مكسوراً ما قبلها فحقها الفتح لالتقاءِ السَّاكنين وذلك لثقل الكسرة مع الياءِ.
فَأما (الْقَيَّومُ) فقد روي عن عُمَرَ وابنِ مَسْعود جميعاً أنهُمَا قرءَا (القيَّام)
وقد رويت (الْقَيِّمُ) ، والذي ينبغي أنْ يُقرأ ما عليه المصحف ، وهو القيوم بالواو ، والقيِّمُ أيضاً جيد بالغ كثيرَ في العربية ، ولكن القراءَةَ بخلاف ما في المصحف

(1/373)


لا تجوز ، لأن المصحفَ مجمع عليه ، ولا يعارض الإجماع برواية لا يعلم كيف
صحتُها.
ومعنى (الْقَيُّومُ) : القائمُ بِتَدْبير جميع ما خَلَقَ من إحياءٍ وإنشاءٍ ورَزْقٍ
ومَوْتٍ.
وأصل قيوم قَيْوُوم ، إلا أن الياء إذا سَبَقت الواو بسُكونٍ قُلبَتْ لها الواو
وأدغمت الياء فيها وكذلك القيَّام أصله الْقَيْوَام ، ومعنى الكتاب ما كتب يقال للقرآن كتاب لأنه يُكتَبُ ، ومعنى يكتب في الَلغة يجمع بعضه إلى بعض ، والكُتْبَةُ في اللغة الخَرْزة وجمعها كتب والكتيبة القطعة من الجيش العظيمة ، إِنما سميت لاجتماع بعضها إلى بعض.
ومعنى (مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ) أي للكتب التي تقدمته والرسل التي أتَتْ بهَا.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ)
أيْ من قَبْل الْقُرآنِ.
وقد اخْتَلَفَ النَحْوُّيونَ في " تَوْرَاة " فَقَالَ الكوفِيُّونَ تَوْرَاة يصلُحُ أنْ يكونَ
" تَفْعَلَةَ " مِن وَرَيْتُ بِك زِنَادِي ، فالأصل عندهم توْرَيَة إلا أن الياء قلبت
ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها . " وتفْعَلة " لا تكاد تُوجد في الكلام ، إِنما قالوا في تتْفلَة " تتفَلَة.
وقال بعضهم يصلح أن يكون تَفْعِلة مثل تَوْصِيَة ولكن قلبت من تَفْعِلة

(1/374)


إلي تَفْعَلَة . وكأنَّه يجيز في تَوْصِية تَوْصَاةَ ، وهذا رَديءَ ولم يَثْبُتْ في تَوفيَة توفاة ، ولا في توقية توقاه.
وقال البصريون : أصلها فَوْعلَة ، وفوعلة كثير في الكلَامَ مثل الحوقلة.
وَدَوْخَلة وما أشبه ذلك.
وكل ما قلت فيه فَوْعَلْتُ فمصْدرُهُ فَوْعلَة ، فأصلها
عندهم " وَوْريَة " ولكن الواو الأولى قلبت تاء كما في " تَوْلَج " وإنما هو فَوْعَل من ولجت ، وكما قلبت في تراث . الياءُ الأخيرة ، قلبت أيضاً لتحركها وانفتاح ما قبلها بإجماع.
وَإنْجِيل : إفْعيل مِن النجْل وهو الأصلِ : هكذا يَقُول جميع أهل اللغة في
إنْجِيل.
ومعنى : (مِن قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ) : أي من قبلِ القُرآن.
ومعنى (وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ). أي ما فُرق بِه بين الحَق والباطِل
ورُوي عَنْ بَعْض المفسرين أن كل كتاب للَّهِ فُرْقَان.
ومعنى : (وَاللَّهُ عَزِيز ذُو انتِقَام) أي قد ذل له كل شيءٍ بأثر صنعته فيه.
ومعنى (ذُو انْتِقَام) أي ذُو أنْقَامٍ ممن كَفر به ، لأن ذكر الكافرين ههنا
جرى.
ومعنى : (إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (5)
أي هو ظاهر له ، وهو جلَّ وعَزَّ أنشأه.
ومعنى (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6)

(1/375)


أي على ما يشاءُ من عظم وصغر لون ، وضعف وقوة.
وله - جلَّ وعزَّ - فِي ذلك حكمة كما قال : (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7)
روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - إنَّه قال : الَمحكمات : الآيات في
آخر الأنعام . وهي قوله تعالى : (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ)
إِلى آخر هذه الآيات ، والآيات المتشابهات (الم والمر) وما اشتبه على إليهود من هذه ونحوها.
وقال قوم : معنى (مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ) ، أي أحكمت في الِإبانة فإِذا
سمعها السامع لم يحتج إِلى تأويلها لأنها ظاهرة بينة نحو ما أنبأ الله من أقاصيص
الأنبياءِ مما اعترف به أهل الكتاب وما أخبر الله به من إنشاءِ الخلق من قوله
عزَ وجل : (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ)
فهذا اعترف القوم به وأقروا بأن الله هو خالقهم ، وما أخبر اللَّه به من خلقه من الماءِ كل شيءٍ حي وما خلق لهم من الثمار
وسخر لهم من الفلك والرياح وما أشبه ذلك.
فهذا ما لم ينكروه ، وأنكروا ما احتاجوا فيه إلى النظر والتدبر من أن اللَّه عزَّ وجلَّ يبعثهم بعد أن يصيروا تراباً فقال : (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ).
(وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48).

(1/376)


فهذا الذي هو المتشابه عليهم ، فأعلمهم اللَّه الوجه الذي ينبغي أن
يستدلوا به على أن هذا المتشابه عليهم كالظاهر إن تدبروه ونظروا فيه ، فقال عزّ وجلَّ : (وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا).
وقال : (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) أي إذَا كنتم قد أقررتم بالإنسان والابتداءِ فما تنكرون من البعث
والنشور ؛ وهذا قول كثير من الناس وهو بين واضح.
والقول الأول حسن أيضاً.
فأما (أُخَرُ) فغير مصروفة.
زعم سيبويه والخليل أن (أُخَرُ) فارقت أخواتها
والأصلَ الذي عليه بناءُ أخواتِها ، لأنْ أخَرَ أصلها أن تكون صفة بالألف
واللام . كما تقول الصغرى والصُّغَر ، والكبرى والكبَر فَلَما عدلت عن مجرى الألف واللام وَأصْلِ " أفْعَلُ مِنْك " وهي مما لا تكون إلا صفة - منعت
الصرف.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ).
الزيغ : الجور والميل عن القصد ، ويقال زاغ يزيغ إذا جار.
ومعنى (ابْتغَاءَ الْفِتْنَة). أي يفعلون ذلك لطلب الفتنة . ولطلب التأوِيل.
والفتنة في اللغَةِ على ضروبٍ : فالضرْب الذي ابتغاه هؤلاءِ هو فَسَادُ ذَاتِ الْبَين

(1/377)


في الدِّينِ والحرُوبِ ، والفتنة في اللغة : الاسْتِهْتَار بالشيْءِ والغُلُو فيه.
يقال : فلان مفتون في طلب الدنيا ، أي قد غلا في طلبها وتجاوز القُدْرة . والفتنة الاختبار كقوله عزَّ وجلَّ : (وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) أي اختبرنا ، ومعنى ابتغائهم تأويله أنهم طلبوا تأويل بعثهم وإحيائهم ، فأعلم الله أن تأويل ذلك ووقتَه لا يعلمه إلا الله.
والدليل على ذلك قوله عزَّ وجلَّ : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ)
أي يوم يرون ما وعدوا به من البعث والنشور والعذاب
(يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ) أي الذين تركوه وتركوا ما أنبأ به
النبي - صلى الله عليه وسلم - عن اللَّه - عزَّ وجلَّ من بعثهم ، ومُجَازاتِهم. وقوله - عزَّ وجلَّ - : (قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ)
أي قد رأينا ما أنبأتنا به الرسل.
فالوقْفُ التام قوله : (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ) أي لا يعلم أحد متى
البعث . (غير اللَّه).
ومعنى : (والراسِخُونَ فِي الْعِلْم) أي الثابتون.
يقال رسخ الشيءُ يَرْسَخُ رُسوخاً إذا ثبت أي : يقولون صدقنا بأنَّ اللَّه
يبعثنا ، ويُؤمنون بأنَّ البعثَ حق كما أن الِإنشَاءَ حق ، ويقولون :
(كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا) .

(1/378)


ويدل على أن الأمر الذي اشتبه عليهم لم يتدبروه.
قوله عزَّ وجلَّ : (وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) : أي ذوو العقول.
أي ما يتذكر القرآن وما أتى به الرسول - صلى الله عليه وسلم - إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ.
* * *
قوله عزّ وجلَّ : (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)
أي لا تمِلْها عن الهدى والقَصْد ، أي لا تضلَّنَا بعد إذ هديتنا.
وقيل أيضاً : (لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا) لاَ تَتَعبَّدْنا بما يكون سبباً لزيغ قلوبنا وكلاهما جيد.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9)
يدل عَلَى تأويل قوله : (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) -
فقولهم : (إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ) إِقرار بالبعث ودليل أنهم خالفوا من يتبع المتشابه لأن الذين ابتغوا المتشابه هم الذين أنكروا البعث.
(لَا رَيْبَ فِيهِ) لا شك فيه . وقد شرح باستقصاءِ فيماتقدم من كتابنا.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ).
جائز أن يكون حكاية عن الموحدين ، وجائز أن يكون إخباراً عن اللَّه
وجائز فتح " أن اللَّه لا يخلف الميعاد " ، فيكون المعنى جامع الناس لأنك لا
تخلف الميعاد . أي قد أعلمتنا ذلك ونحن غير شَاكِّين فيه.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10)
(وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ).
أي الكفار يعذبون وهم وقود أنفسهم ، كلما نضجت جلودهما
وعظامهم بالاتقاد بدِّلُوا خلوداً غيرها . فعذبهم بجلودهم وعظامهم .

(1/379)


وقوله جلَّ وعزَّ : (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11)
أي كشأن آل فرعون ، وكأمر آل فرعون ، كذا قال أهل اللغة والقول
عندي فيه - واللَّه أعلم - إِن " دأب " ههنا أي اجتهادهم في كفرهم وتظاهرهم على النبي - صلى الله عليه وسلم - كتظاهر آل فرعون على موسى عليه السلام.
وموضع الكاف رفع وهو في موضع خبر الابتداءِ ، المعنى دأبهم مثلُ دَأبِ
آل فرعون ، و (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ).
يقال دأبتُ أدأب دَأباً ودُؤُوباً إِذا اجتهدت في الشيءِ.
ولا يصلح أن تكون الكاف في موضع نصب بـ (كفروا)
لأن كفروا في صلة الذين ، لا يصلح أن الذين
كفروا ككفر آل فرعون لأن الكاف خارجة من الصلة ولا يعمل فيها ما في
الصلة.
* * *
وقوله : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12)
وتقرأ (سَيُغْلَبُونَ) ، فمن قرأ بالتاءِ فللحكاية والمخاطبة ، أي قل لهم في
خطابك ستغلبون . ومن قال (سَيُغْلَبُونَ) فالمعنى بلغهم أنهم سيغلبون.
وهذا فيه أعظم آية للنبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه أنبأهم بما لم يكن وأنبأهم بغيب ، ثم بانَ تصديق ما أنبأ به لأنه - صلى الله عليه وسلم - غلبهم أجمعين كما أنبأهم . -
ومعنى (وَبِئْسَ المِهَادُ) : بئس المثوى وبئس الفراش.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (13)
آية علامة من أعْلامِ النَبِى - صلى الله عليه وسلم - التي تدل على تصديقه ، والفئةُ في اللغة

(1/380)


الفِرقةِ ، وهي مأخوذة من قولهم فَأوْتُ رأسَه بالسيْفِ وفأيتُه إذَا فلقته
ومعنى (فِئَتَيْنِ) فرقتين.
(فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ) : الرفع والخفض جائزان جميعاً.
فأما من رفع فالمعنى : إحداهما تقاتِل في سبيل اللَّه والأخْرى كافرة ، ومن خَفَضَ جعل فئةً تُقاتِل في سبيل الله وأخْرى كافرة بدلًا من فئتين :
المعنى : قد كان لكم آية في فئة تقاتل في سبيل اللَّه وفي أخرى كافرة.
وأنشدوا بيت كثير على جهتين :
وكنت كذي رجلين رجل صحيحة . . . ورجْل رمى فيها الزمان فَشَفت
وأنشدوا أيضاً : رجل صحيحةٍ ، ورجل رمى فيها الزمان.
على البدل من الرجلين.
وقد اختلف أهل اللغة في قوله (يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ)
ونحن نبين ما قالوه إن شاءَ اللَّه وما هو الوجه . واللَّه أعلم.
زعم الفراءُ أن معنى (يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ) يرونهم ثلاثة أمثالهم قال لأنك إِذا
قلت : عندي ألف وأحتاج إلى مثلها فأنت تحتاج إلى ألفين فكأنك قلت أحتاج إلي مثليها - وإذا قلت عندي ألف وأحتاج إِلى مثليها فأنت تحتاج إلى ثلاثة آلا*ف ، وهذا باب الغلط فيه غلط بَيِّن في جميع المقاييس وجميع الأشياءِ ، لأنا إِنما نعقل مثل الشيءِ ما هو مساو له ، ونعقل مثليه ما يساويه مرتين ، فإِذا جهلنا المثل فقد بطل التميز ، وإنما قال هذا لأن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا ثلاثمائة وأربعة

(1/381)


عشر رجلاً وكان المشركون تسعَمائةٍ وخمسين رجلاً فالذي قال يبطل في اللفظ ويبطل في معنى الدلالة على الآية التي تُعْجِز ، لأنهم إذا رأوهم على هَيْئَتِهِمْ فليس هذا آيَة ، فإنْ زَعم أن الآيةَ في هذا غلبةُ القليل على الكثير فقد أبْطَلَ أيضاً لأن القليل يغلب الكثيرَ . موجود ذلك أبداً.
فهذا الذي قال يبطل في اللغة وَفِي المَعْنَى وإنَّما الآيةُ في هذا أنَّ المشركين
كانوا تسعمائة وخمسين وكان المسلمون ثلاثَمائةٍ وأربعةَ عشرَ فأرى اللَّه
- جلَّ وعزَّ - المشركين أنَّ المسلمين أقَل من ثلاثمائة واللَّه قد أعلم المسلمين أن المائة تغلب المائتين فأراهم المشركين على قدر ما أعلمهم أنهم يغلبونهم لِيُقَوِّيَ قلوبهم ، وأرى المشركين المسلمين أقل - من عدد المسلمين ، ثم ألقَى مع ذلك في قلوبهم الرعب فجعلوا يرون عدداً قليلاً مع رعب شديد حتى غُلِبُوا.
والدليل على صحة هذا القول قول اللَّه عزَّ وجلَّ : (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا).
فهذا هو الذي فيه آية أن يُرَى الشيء بخلاف صورته - واللَّه أعلم -.
ويجوز نصب (فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ).
ولا أعلم أحداً قرأ بها.
ونصبها من وجهين - أحدهما الحال المعنى التقتا مؤْمنة وكافرة
ويجوز نصبها على أعني فِئَةً تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)

(1/382)


قيل في (زُيِّنَ) قولان : قال بعضهم اللَّه زينها مِحْنَةً كما قال :
(إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7).
وقال بعضهم : الشيطان زينها لأن اللَّه قد زهد فيها وأعلم أنَّها متاع
الغرور.
والقَوْلُ الأول أجودُ لأن جَعْلَهَا زينةً محبوبة موجودٌ واللَّه قد زهَّد فيها بأن
أعلم وأرى زوالها ، ومعنى (القناطير) عند العرب الشيءُ الكثير من المال وهو جمْع قنطار.
فأما أهل التفسير فقالوا أقوالًا غير خارجة من مذهب العرب : قال
بعضهم القنطار ملءُ مَسْكِ ثَوْرٍ ذهباً أو فضة وقال بعضهم القنطار ثمانون
ألفَ دِرهم . وقال بعضهم : القنطار ألفُ دينار ، وقال بعضهم ألف ، رطل
ذهباً أو فضةً.
فهذه جملة ما قال الناس في القنطار.
والذي بخرج في اللغة أن القنطار مأخوذ من عقد الشيءِ وأحكامه والقنطرة
مأخوذة من ذلك ، قكأن القنطار هُوَ الجملة من المال التي تكُون عقدة وثيقة منه.
فأمَّا من قال من أهل التفسير إنَّه شيء من الذهب موف ، فأقوى منه عندي ما ذكر من إنَّه من الذهب والفضة ، لأن اللَّه - جلَّ وعزَّ - ذكر القناطير فيهما ، فلا يستقيم أن يكون القنطار في إحداهما دون الأخرى.
ومعنى (وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ) في اللغة - الخيل عليها السًيمَاءُ والسُّومَة وهي

(1/383)


العلامة ، ويجوز - وهو حسن - أن يكون المسومة السائمة ، وأسِيمَت أرْعِيَتْ.
(وَالْأَنْعَامِ) المواشي واحدها نَعَم ، أكثر استعمالها في الإبل ، (والحرث) الزرع ، وهذا كله محبَّب إلى الناس كما قال اللَّه - عزَّ وجلَّ ، ثم زهد الله في جميعه.
وتأويل التزهيد فيه ليس الامتناع من أنْ يَزْرع الناس ، ولا من أن يَكْسِبُوا
الشيءَ من جهة ، وإنما وجه التزهيد فيه الحث على الصدقة وسلوك سُبل البِرِّ التي أمرَ بِها في ترك الاستكثار من المال وغيره ، فهذا وجه التزهيد.
فقال جلَّ وعزَّ : (ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) أي ما يتمتع به فيها.
(وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) :
والمآب في اللغة المرجع ، يقال آب الرجل يؤُوب أوْبا وإياباً ومآباً.
وأعلم اللَّه - جلَّ وعزَّ - أن خيراً من جميع ما في الدنيا ما أعده لأوليائه
فقال :
(قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15)
الرفع في (جَنَّاتٌ) القراءَْة ، والخفض جائز على أنْ تكون (جَنَّاتٌ) بدلاً من
خير المعنى أؤنبئكم بجنات تجري من تحتها الأنهار ويكون ، (للذين اتقوا عند
ربهم) من تمام الكلام الأول.
ومعنى (وأزواج مطهرة) أي مطهرة من الأدناس ومطهرة مما يحتاج إليه نساءُ
أهل الدنيا من الحيض وغيره.
(وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ).
أكثر القراءَة كسر الراءِ.
وروى أبو بكر بن عياش عن عاصم

(1/384)


" وَرُضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ " بضم الراءِ في كل القرآن ، ويقال رَضِيت الشيءَ أرضاه رضا ومرضاة ورِضوا ناًورُضواناً.
وموضع (الذين يقولون) خفض صفة (للذين اتقوا)
المعنى للمتقين القائلين . (الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16)
وكذلك (الصابرين والصادقين) ولو كانت رفعاً على الاستئناف لجاز ذلك ولكن القراءَة لا تجاوز.
ومعنى القانتين أي القائمين بعبادة اللَّه ، وقد فسرنا القنوت فيما
مضى . ومعنى المنفقين المتصدقين ، وجميع ما في سبيل اللَّه.
(وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ).
السحر الوقت الذي قبل طلوع الفجر.
العرب تقول جئتك بأعلى السحر تريد في أول السحر ، وهو أول إدبار الليل إلى طلوع الفجر الظاهر البين.
فَاللَّه عزَّ وجلَّ وصفَ هؤُلاءِ بالتَصْدِيقِ والِإنْفَاقِ في سَبِيلِهِ والقيامِ
بِعِبَادَتِهِ ، ثُمَّ وَصَفَهمُ بِأنهمْ مَعَ ذَلِكَ لِشِدَّةِ خَوْفهِمْ وَوَجَلِهِمْ يستغفرون
بالأسحار.
* * *
وقوله عَزَ وجل : (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)
قال أبو عبيدة معنى (شهد الله). قضى اللَّه ، وحقيقته أنه عَلِمَ وبين
اللَّه ، لأن الشاهد هو العالم الذي يبين ما علمه ، فاللَّه عزَّ وجلَّ - قد دل على تَوْحيدِه بجميع مَا خَلق فَبَيَّن أنَّه لَا يقدِرُ أحدٌ أنْ يُنْشِئَ شَيْئاً واحداً مما أنْشَأ ،

(1/385)


وشهدت الملائكة لما علمت من قدرته وشهد أولو العلم بما ثبت عندهم
وتبين من خلقه الذي لا يقدرعليه غيره.
وأكثر القراءَة (أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) بفتح الألف في (أنهُ) وقد رُوَيت بالكسر
عن ابن عباس ، وروى (أنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ) بفتح الألف " والأكثر
فتح (أَنَّهُ) وكسر (إِنَّ الدِّينَ).
ومن قرأ (إنهُ) بالكسر فالمعنى شَهِد اللَّه أن الدين عند اللَّه الإسلام . وأنَّهُ لاَ إِلَهَ إلا هُوَ.
والأجْوَدُ الْفَتْحُ كما وصَفْنَا في الأول ، لأن الكلام والتوحيد
والنداءَ بالأذان (أشهد أن لا إله إلا الله) وأكثر ما وقع أشْهَد على ذِكر
التوحيد وجائز أن يفتح أن الأولى وأن الثانية . فيكون فتح الثانية على
جهتين على شهد اللَّه أن لا إله إلا هو وشهد أن الدين عنده الإسلام.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19)
لك في (جَاءَهم) الفتح والتفخيم ، ولك الإمالة نحو الكسر فأما الفتح فلغة
أهل الحجاز ، وهي اللغة العليا القدمى وأما جاءَهم " بالكسر " فلغة تميم.
وكثير من العرب وهي جيدة فصيحة أيضاً.
فالذي يميل إلى الكسر يدل على

(1/386)


أن الفعل من ذوات الياءِ والذي يفتح فلأن الياء قد انقلبت صورتها إلى الألف
وفي الألف حظها من الفتح . وكل مصيب.
ونصب (بَغْياً) بقوله : (اختلفوا) والمعنى اختلفوا بغياً ، أي للبغي ، لم
يختلفوا لأنهم رأوا البصيرة والبرهان.
قال الأخفش : المعنى " وما اختلف الذين أوتوا الكتاب بغياً بينهم إلا من
بعد ما جاءَهم العلم " ، والذي هو الأجود أن يكون بغياً منصوباً بما دل عليه
(وما اختلف) فيكون المعنى اختلفوا بغياً بينهم.
(ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب) أي سريع الحساب له.
والجزم هو الوجه في (ومن يكفر) وهي القراءَةُ ولو قرئت بالرفع لكان له وجه
من القياس ولكن الجزم أجود وأفصح في المعنى.
ومعنى (سريع الحساب) أي سريع المجازاة له كما قال :
(وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) وقالوا : جائز أن يكون (سريع الحساب) سريع التعريف للعامل عمله - لأنه جل ثناؤُه - عالم بجميع ما عملوا لا يحتاج إِلى إثبات شيءٍ وتذاكر شيء.
ونصب (قائماً بالقسط) حال مَؤكدة لأن الحال المَؤكدة تقع مع الأسماءِ

(1/387)


في غير الإشارة ، تقول إنه زيد معروفاً وهو الحق مصدقاً ولا إله إلا هو قائما
بالقسط.
والقسط في اللغة العدل : قال اللَّه - (وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ) أي
بالعدل ، ويقال أقسط الرجل إذا عدل وقسط إذا جار والعادل مقسط والجَائِر قَاسِط - ْ قال اللَّه : (وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) أي اعدلوا إن اللَّه يحب العادلين.
وقال : (وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا).
فإن قال قائل : فمن أين جاءَ من لفظ القسط ما معناه الجور وأصله
العدل ؟
فإِنما ذلك كقولك عدل الرجل على القوم يعدل عدلا ومعْدِلة.
وَمَعْدَلَةً ، إذا هو أنصفهم ، وَعَدَلَ عَن الحق عدْلاً إِذَا جَارَ ، فكذلك جاءَ من
لفْظ القَسْطِ ما مَعْناه الجور كما جاءَ ما معناه العَدْلُ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20)
إنْ شِئْتَ أسكنت الياء (من وَجْهِيَ) وإِنْ شِئْتَ فتحتها فقلت أسلمت
وَجْهِيَ للَّهِ ، وقد فسَّرْنَا أمر هذه الياء فيما سلف ، والمعنى أن اللَّه عزَّ وجلَّ.
أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يحتج على أهل الكتاب والمشركين بأنه اتبع أمر اللَّه الذي هم أجمعون مقرون بأنه خَالِقَهُم ، فَدعَاهُم إلى ما أقرُوا به ، وأراهم الدلاَلاَتِ والآيَاتِ التي قَد شَرَحْنَا ذكرها بأنه رسولُه - صلى الله عليه وسلم -.
ومعنى (أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ) أي قصدت بعبادتي إلى اللَّه جل ثناؤُه
وأقررت أنه لَا إِلَه غَيرهُ ، وكذلك (مَنِ اتَّبَعَنِ) ويجوز في اللغة أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ
أي ، أسلمت نفسي - قال اللَّه عزَّ وجلَّ - (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ)

(1/388)


وقال : (ويبقى وَجْهُ رَبِّكَ) المعنى ويبقى ربك والمعنى كل شيءٍ هالك
إلا اللَّه عزَّ وجلَّ.
(ومن اتبعنِ) لك حذف الياءِ وإثباتها ، والأحبّ إليَّ في هذا
اتباع المُصْحف لأن اتباعه سنة ومخالفته بدعة ، وما حذفَ من هذه الياءات
نحو (ومن اتبعن) (لئن أخرتن إلى يوم القيامة) ونحو فيقول (ربي أكرمن)
فيقول : (ربي أهانن) فهو على ضربين مع النون ، فإذا كان رأس آية فأهل اللغة يسمون أواخر الآي الفواصل فيجيزون حذف الياءات ، كما يجيزونَهُ في قوافي الشعر ، كما قال الأعشى :
ومن شانئ كاسف وجهه . . . إذا ما انتسبتْ له أنكرن
وهل يمنعني ارتيادي البلاد . . . من حذر الموت أن يأتين
المعنى أن يأتيني وأنكرني ، فإذا لم يكن آخر قافية أو آخر آية فالأكثر
إثبات الياء ، وحذفها جَيِّد بالغ أيضاً بخاصة مع النونات ، إلا أن أصل اتبعني
" اتبعي " ولكن النون زيدت لتسلم فتحة العين ، فالكسرة مع النون تنوب عن الياءِ ، فإذا لم تكن النون نحو غلامي وصاحبي فالأجود إثباتها ، وحذفها مع غير النون أقل منه مع النون إلا أنه جائز ، نقول هذا غلام قد جاء والأجودِ هذا غلامي قد جاءَ ، وغلاميَ قد جاءَ ، بفتح الياءِ وإسكانها . وحذفها جائز لأنَّ الكسرة دالة عليها .

(1/389)


وقوله تبارك اسمه : (وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ).
الذين أوتوا الكتاب " : إليهود والنصارى ، والأميون مشركو العرب لأنهم
إنما نسبُوا إلى ما عليه الأمة في الخلقة ، لأن الإنسان يخلق غير كاتب ، فهذا
معنى الأمِّيين ، وقال بعض النحويين معنى أأسلمتم الأمر ، معناه عندهم
اسلمو@ - وحقيقة هذا الكلام أنه لفظ استفهام معناه التوقيف والتهديد ، كما تقول للرجل بعد أن تأمره وتؤَكد عليه " أقْبِلْتَ . . وإلا فأنت أعلم " . فأنت إنما تسْأله متوعداً في مسألتك ، لعمري هذا دليل أنك تَأمره بأن يفعل.
ومعنى . : (وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ).
أي ليس عليك هداهم - إنما عليك إقامةُ البُرهانِ لهمْ فإذا بَلغْتَ فقد
أدَّيْتَ ما عليك.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) أي بصير بما يقطع عذرهم فيما
دلهم به على وحدانيته وتثبيت رسله.
وقال في " إثر هذه الآية :
(إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21)
أي : أعلام اللَّه التي أتيْتَهُمْ بِهَا.
(وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ) :
وقرئت ويُقَاتِلُون ، ومعنى (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ) ههنا قيل فيه قولان :
، قيل رضاهم بقتل من سلف منهم النبيين نحو قتل يحيى عليه السلام.
وهذا يحتمل - واللَّه أعلم - وقيل ويقتلون النبيين لأنهم قاتلوا النبي - صلى الله عليه وسلم - وهموا بقتله قال اللَّه - جلَّ وعزَّ ، (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ).

(1/390)


فهذا معنى : (ويقتلون النبيين) واللَّه أعلم.
وجاز دخول الفاء في خبر إن ، ولا يجوز أن زيداً فقائم وجاز ههنا . .
(فبشرهم بعذاب أليم) ، لأن (الذي) يوفي فتكون صلته بمنزلة الشرط للجزاءِ
فيجاب بالفاءِ . ولا يصلح ليت الذي يقوم فيكرمك لأن (إن) كأنها لم تذكر
في الكلام فدخول الجواب بالفاءِ ، عليها كدخولها على الابتداءِ والتمني داخل فزيل معنى الابتداءُ والشرط.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)
معناه حظَاً وافراً منه.
و (يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ).
أي يدعون إلى كتاب الله الذي هم به مقرون ، وفيه ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - والإنباء برسالته.
(ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ).
أي جمع كثير وإنما أعرضوا إلا إنَّه لا حجة لهم إلا الجحد بشيءٍ قد
أقر به جماعة من علمائهم أنه في كتابهم.
ثم أنْبَأ اللَّه - عزَّ وجلَّ - بما حملهم على ذلك وخبَّر بما غرهم.
فقال عزَّ وجلَّ : (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)

(1/391)


فموضع (ذلك) رفع المعنى شأنهم ذلك وأمرهم ذلك بقولهم وبظنهم
أنهم لا يعذبون إلا أياماً مَعْدُودَات.
جاءَ في التفسير أنهم قالوا إنما نعذب أربعين يوماً عبد آباؤُنا فيها
العجل ، فأعلمَ اللَّهُ تبارك وتعالى أن ذلك فرية منهم ، وأنه هو الذي غرهم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (25)
المعنى - واللَّه أعلم - فكيف يكون حالهم في ذلك الوقت.
وهذا الحرف مستعمل في الكلام ، تقول أنا أكرمك وأنت لم تزرني ، فكيف إذا زرتني.
قوله عزَّ وجلَّ : (لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ) :
أي لحساب يوم لا شك فيه.
* * *
وقوله جل شأنه : (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)
امر اللَّهُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بتقديمه وذكر ما يدل على توحيده ، ومعنى (مَالِكَ الْمُلْكِ) أن اللَّه يملك العباد ويملك ما ملكوا.
ومعنى : (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ).
فيه قولان : - تؤتي الملك الذي هو المال والعبيد والحضرة من تشاءُ
وتنزعه ممن تشاءُ ، وقيل تؤتي الملك من تشاءُ من جهة الغلبة بالدِّين
والطاعة ، فجعل اللَّه - عزَّ وجلَّ - كل ما في ملكه ملك غير مسلم للمسلمين

(1/392)


ملكاً غنيمة ، وجعلهم أحق بالأملاك كلها منَ كل أهل لمن خالفوا دين
الإسلام.
وقيل في التفسير إن اللَّه عزَّ وجلَّ - أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه الآيات أن يسأله نقل عزَّ فارس إلى العرب وذل العرب إلى فارس - واللَّه أعلم بحقيقة ذلك.
فأما إعراب (اللَّهُمَّ) فضم الهاء وفتح الميم ، لا اختلاف فى اللفظ به بين
النحويين ، فأما العلة فقد اختلف فيها النحويون فقال بعضهم : معنى الكلام يا الله أم بخير ، وهذا إقدام عظيم لأن كل ما كان من هذا الهمز الذي طرح
فأكثر الكلام الإتيان به ، يقال ويل أمه ، وويلُ امه ، والأكثر إثبات الهمز.
ولو كان كما يقول لجاز اومم ، واللَّه أم ، وكان يجب أن تلزمه ياءُ النداءِ لأن
العرب تقول يا اللَّه اغفر لنا ، ولم يقل أحد من العرب إلا اللهم ، ولم يقل
أحد يا اللهم.
قال اللَّه عزَّ وجلَّ : (وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ).
وقال : (قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ).
فهذا القول يبطل من جهات : أحدها أن " يا " ليست في الكلام وأخرى
أن هذا المحذوف لم يتكلم به على أصله كما نتكلم بمثله وأنه لا يقدم أمام
الدعاءِ هذا الذي ذكره ، وزعم أن الصفة التي في الهاءِ ضمة الهمزة التي
كانت في أم ، وهذا محال أن يترك الضم الذي هو دليل على النداءِ للمفرد.
وأن يجعل في اللَّه ضمَة (أم). هذا الحاد في اسم اللَّه - عزَّ وجل .

(1/393)


وزَعمَ أن قولَنا هلم مثل ذلك أن أصلها : هلْ ام - وإنما هِي لُم.
والهاءُ للتنبيه ، وقال المحتج بهذا القول : أن " يا " قد يقال مع : (اللهم) فيقال : يَا اللَّهُم ، ولا يروي أحد عن العرب هذا غيره - زعم أن بعضهم أنشده :
ومَا عَليك أن تقولي كلما . . . صليتِ أوْسبَّحتِ يا اللهم مَا
اردد علينا شيخنا مسلما
وليس يُعارَض الإجماع وما أتى به كتاب اللَّه تعالى ووجد في جميع
ديوان العرب بقول قائل أنشدني بعضهم ، وليس ذلك البعض بمعروف ولا
بمسمى.
وقال الخليل وسيبويه وجميع النحويين الموثوقُ بعلمهم : أن " اللهم "
بمعنى - يا اللَّه ، وأن الميم المشددة عوض من " يا " لأنهم لم يجدوا ياءً مع هذه
الميم في كلمة ، ووجدوا اسم اللَّه جلَّ وعزَّ مستعملاً بـ (يا) إذا لم يذكر الميم.
فعلموا أن الميم من آخر الكلمة بمنزلة يا في أولها ، والضمة التي في أولها
ضمة الاسم المنادى في المفرد ، والميم مفتوحة لسكونها وسكون الميم التي
قبلها . -
وزعم سيبويه أن هذا الاسم لا يوصف لأنه قد ضمت إِليه الميم ، فقال
في قوله جلَّ وعزَّ : (قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)
أن (فاطرَ) منصوب على النداءِ ، وكذلك (مَالِكَ الملْكِ)
ولكن لم يذكره في كتابه.
والقول عندي أن (مَالِكَ الملْكِ) صفةٌ اللَّه ، وأن (فاطر السَّمَاوَاتِ
والأرضِ) كذلك - وذلك أن الاسم ومعه الميم بمنزلته ومعه " يا " فلا تمنع
الصفة مع الميم كما لاتمنع " مع " يا " .

(1/394)


فهذا جملة تفسير وإعراب (اللَّهُمَّ).
ومعنى : (وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ) على ما ذَكَرْنا في (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ).
ومعنى : (بِيَدِكَ الْخَيْرُ).
أي بِيَدِكَ الْخَيْرُ كله ، خيرُ الدنيا وخيرُ الآخرة.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27)
المعنى : تدخل أحدهما في الآخر يقال : ولج الشيءُ إذا دخل يلج
وُلُوجاً وَوَلْجَة ، وَالْوَلْج والوَلْجَةُ شيء يكون بين يدي فناء.
فمعنى : (تولج الليل في النهار) أي تنقص من الليل فتدخل ذلك
النقصان زيادة في النهار ، وتنقص من النهار فتدخل ذلك النقصان زيادة في
الليل.
(وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ).
أي تخرج الإنسان من النطْفَةِ ، والطائِر من البَيضةِ ، وتخرج للناس
الحب الذي يعيشون به من الأرض الميتة.
(وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ).
أي تخرج النطفة من الإنسان ، والبيضة من الطائر.
ومعنى (وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ).
أي بغير تقتير ، وهذا مستعمل في اللغة ، يقال للذي ينفق موسعا : فلان
ينفق بغير حساب ، أي يوسع على نفسه ، وكأنه لا يحسب ما أنفقه إنفاقاً.
وذكر الله جلَّ وعزَّ بعد هذا التقديس والتعظيم أمر المنافقين فقال :
(لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28)
القراءة بالجزم ، وكسر الذال لالتقاءِ السَّاكنين ، ولو رفعت لكان وجهاً

(1/395)


فقلت : (لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ).
المعنى : أنه من كان مؤمناً فلا ينبغي أن يتخذ الكافر ولياً لأن ولي الكافر راض بكفره ، فهو كافر.
قال الله جلَّ وعزَّ : (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ).
وقال : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ).
ومعنى : (مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) أي لا يجعل ولاية لمن هو غير مؤمن ، أي
لا يتناول الولاية من مكان دون مكان المؤمنين ، وهذا كلام جرى على المثل
في المكان كما تقول زيد دونك فلست تريد أنه في موضع مستقل وأنك في
موضع مرتفع ، ولكنك جعلتَ الشرفَ بمنزلةِ الارتفاعِ - في المكان ، وجعلت
الخِسَّة كالاستقبال في المكان.
فالمعنى : أن المكان المرتفع في الولاية مكان المؤْمنين.
فهذا بيان قوله : (مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ).
ومعنى : (ومَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيءٍ).
أي من يَتَول غيرَ المؤمنين فاللَّهُ بَرِيءٌ منه.
(إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً).
و (تَقِيَّةً) قُرئَا جَمِيعاً . فأباح الله جلَّ وعزَّ الكفر مع القصة.
والتَقِيَّةُ خوفُ القتل ، إِلا أن هذه الِإباحة لا تكون إِلا مع سلامة النية وخوف القتل.
(وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ).

(1/396)


معنى : (نَفْسَهُ) إيَّاها إلا أن النفس يستغنى بها هنا عن " إياه " وهو
الكلام ، وأما قوله عزْ وجل : (تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ) فمِمَّا بِه خوطب العباد على قدر علمهم ، ومعناه تعلم ما
عندي وما في حقيقتي ولا أعلم ما عندك لا ما في حقيقتك.
وفي قوله : (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ) أي تْؤتي الملك من تشاءُ أن تْؤتيهُ ، وكذلك (وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ) أن تنزعه منه إِلا أنه حذف لأن فى الكلام ما يدل عليه.
* * *
يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30)
ونصب : (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ) بقوله : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ) : كأنه قال
ويحذركم اللَّه نفسه في ذلك اليوم ، ويجوز أن يكون نصب على قوله :
(وِإلى اللَّهِ الْمَصِيْر يَوْمَ تَجِدُ كُل نَفْسٍ ، والقول الأول أجود.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31)
القراءَة بضم التاء ، ويجوز في اللغة : (تَحُبُّون). ولكن الأكثر (تُحِبُّونَ)
لأن حببت قليلة في اللغة وزعم الكسائي أنها لغة قد ماتت فيما يحسب.
ومعنى : (تُحِبُّونَ اللَّهَ) أي تقصدون طاعته وترضون بشرائعه والمحبة
على ضروب ، فالمحبة من جهة الملاذ في المطعم والمشرب والنساءِ.
والمحبة من اللَّه لخلقه عفوه عنهم وإِنعامه عليهم برحمته ومغفرته وحسن الثناءِ
عليهم ، ومحبة الإنسان للَّهِ ولرسوله طاعته لهما ورضاه بما أمر اللَّه به ، وأتى به رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -.

(1/397)


وقوله جلَّ وعزَّ : (يَغْفِر لَكمْ ذُنُوْبَكُمْ).
القراءَة بإظهار الراءِ مع اللام ، وزعم بعض النحويين : أن الراءَ تدغم مع
اللام فيجوز . . ويغفر لكم . . وهذا خطأ فاحش ولا أعلم أحداً قرأ به غير أبي عمرو بن العلاء ، وأحسب الذين رووا عن أبي عمرو إدغام الراء في اللاَم
غالطين.
وهو خطأ في العربية لأن اللام تدغم في الراءِ ، والنون تدغم في الراء
نحو : (قولك) هل رأيت ، ومن رأيت . ولا تدغم الراءُ في اللام إذا
قلت : مر لي بشيءِ . لأن الراءَ حرف مكرر فلو أدغمت في اللام ذهب
التكرير.
وهذا إجماع النحويين الموثوق بعلمهم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)
أي : أظهروا محبَّتكم للَّهِ إن كنتم تحبُّونه بطاعته واتباع رسوله ومعنى :
(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ).
أي فإن اللَّه لا يحبهم ، لأن من تولى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد تولى عن الله.
ومعنى : (لا يحب الكافرين). لا يغفر لهم ولا يثني عليهم خيراً.
وقوله عزَّ وجلَّ : (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33)
__________
(1) قال في السمين :
وقد طعن الزَّجَّاج على مَنْ روى عن أبي عمرو إدغامَ الراء من « يغفر » في لام « لكم » وقال : « هو خطأٌ وغلطٌ على أبي عمرو » وقد تقدَّم تحقيق ذلك وأنه لا خطأٌ ولا غلطٌ ، بل هذه لغةٌ للعرب نقلَها الناس ، وإن كان البصريون كما يقول الزَّجَّاج لا يُجيزون ذلك . ا هـ (الدر المصون)

(1/398)


معنى اصطفاهم في اللغة : اختارهم أي جعلهم صفوة خلقه ، وهذا
تمثيل بما يُرى ، لأن العرب تمثل المعلوم بالشيءِ المرئي ، وإذا سمع
السامع ذلك المعلوم كان عنده بمنزلة ما يشاهده عِياناً ، فنحن نعين الشيء
الصافي أنه النقى من الكدر ، فكذلك صفوة اللَّه من خلقه ، وفيه ثلاث لغات : صَفْوة وصِفْوة وصُفوة وهم من لا دنس فيهم من جهة من الجهات في الدِّين
والخيريَّة . وقيل في معنى اصطفاهم قولان
قال قوم : اصطفى دينهم أي اختاره على سائر الأديان . لأن دين هؤُلاء
الجماعة الإسلام ، وقال اللَّه عزَّ وجلَّ : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ).
وقال قوم : اصطفى آدمَ بالرسالة إلَى الملاتكة وإلى ولده.
واصطفى نوحاً وإبراهيم وآله بالرِّسالة.
ألَا ترى قوله عزَّ وجلَّ : (يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ).
فأمره اللَّه تعالى أن ينَبِئَ عنه ملائكته ، وآل عمران هم آلُ إبراهيم.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34)
المعنى : اصطفى ذرية بعضها من بعض - فيكون نصب (ذُرِّيَّةً) على
البدل ، وجائزاً أن ينصب على الحال المعنى : واصطفاهم في حال كون
بعضهم من بعض . و (ذُرِّيَّةً) قال النحويون : هي فُعْلِيَّة من الذر ، لأن اللَّه ،

(1/399)


أخرج الخلق من صلب آدم كالذر ، (وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى).
وقال بعض النحويين : (ذُرِّيَّةً) أصلها ذروَرة على وزن فُعولة ولكن
التضعيف لمَّا كثر أبدل من الراءِ الأخيرة فصارت ذُرويَة ثم أدْغِمَت الواو في
الياءِ فصارت ذُرِّيَّةً.
والقول الأول أقيس وأجود عند النحويين.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35)
قال أبو عبيدة : معناه قالت امرأة عمران و " إذ " لغو وكذلك : (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ) قال معناه : وقالت : ولم يصنع أبو عبيدة في هذا شيئاً.
قال جميع النحويين : إن (إِذ) يدل على ما مضى من الوقت فكيف يكون الدليل على ما مضى من الوقت لغواً ، وهي اسم مع ما بعدها.
وقال غير أبي عبيدة منهم أبو الحسن الأخفش ، وأبو العباس محمد بن
يزيد : المعنى اذكروا إِذ قالت امراة عمران.
والمعنى عندي - واللَّه أعلم - غير ما ذهبت إِليه هذه الجماعة وإِنما
العامل في (إِذ قالت) معنى الاصطفاءِ - المعنى - واللَّه أعلم - واصطفى آل
عمران (إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا).
واصطفاهم (إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ). فذكر اصطلفاك يدل على ماوصفنا ومعنى نذرت : يدل على ما وصفنا .

(1/400)


ومعنى (نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا).
أي : جعلته خادماً يخدم في متعَبَّداتِنا ، وكان ذلك جائزاً لهم ، وكان على أولادهم فرضاً أن يطيعوهم في نذرهم ، فكان الرجل ينذر في ولده أن يكون خادماً في متعبَّده ولعبَّادهم ، ولم يكن ذلك النذر في النّساءِ إِنما كان ذلك في الذكورة ، فلمَّا ولدت امراة عمران مريم قالت : (رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى) وليست الأنثى مما يصلح للنذر ، فجعل الله عزَّ وجلَّ من الآيات في مريم - لِمَا أراده اللَّه من أمر عيسى - أن جعلها متقبَّلة في النذر فقال عزَّ وجلَّ : (فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)
الأصل في العربية : بتقبُّل حسن ، ولكن قبول محمول على قوله قَبِلَهَا
قَبُولاً حسناً ، يقال : قَبِلْتُ الشيءَ قَبولاً حَسَناً ، (ويجوز قُبُولا) إذا رَضِيتَهُ.
وقَبِلَتْ الريح قَبُولاً وهي تَقْبُل ، وقَبِلْت بالرجل أقْبَلُ قبالةْ ، أي كفلت به ، وقد روى قَبِلْتُ بالرَجل في معنى كفلت به على مثال فَعِلت ، ويقال : سقى فلان إبله قَبَلاً . أي صب الماءَ في الحوض وهي تشرب منه فأصابها ، وكل ما
عاينت قلت فيه أتَاني قُبُلا ، أي معاينة ، وكل ما استقبلك فهو قبل (بالفتح).
وتقول لا أكملك إِلى عشر من ذي قِبَل وقَبَل ، المعنى قَبَل إلى عشر مما
نشاهده من هذه الأيام ، ومعنى " قَبِل " عشر نَسْتَقْبلها ، ويقال : قَبلت العين تقبل قبلا إذا أقبل النظر على الأنف.
وقوله عزَّ وجلَّ : (أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (55).
وقِبَلا وقَبَلا : كله جائز ، فمن قرأ (قُبُلا) فهو جمع قَبِيلٍ وقُبُل مثل رَغيفَ

(1/401)


ورُغُف ، المعنى : أو يأتيها العذاب ضُروباً ومن قرأ " قِبَلا " بالكسر فالمعنى :
أو يأتيهم العذاب معاينة ، ومن قرأ (قَبَلًا) بالفتح فالمعنى : (أو يأتيهم
العذاب مقابلا ، والقَبْلة : جمع قَبْل شبيهة بالفَلْكةِ ، أي بفلكة المِغزل تكون
في القلادة.
ومعنى : (وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا) أي جعل نشوءَها نشوءًا حسناً ، وجاءَ " نباتا "
على غير لفظ أنبت ، على معنى نبت نباتاً حسناً.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا).
في هذا غير وجه ، يجوز : (وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّاءُ) - بالمدّ - ، " كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّاءُ " ، (وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا) - بالقصر " كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا " بالقصر.
وفي (زَكَرِيَّا)ثلاث لغات هي المشهورة المعروفة - زكرياءُ بالمد
وزكريا - بالقصر غير منون في الجهتين جميعاً ، وزكريّ بحذف الألف معرب
منون . فإما ترك صرفه فلأن في آخره ألفى التأنيث في المد . وألف التأنيث
في القصر ، وقال بعض النحويين : إنه لَم يُصرف لأنَّه أعجميّ ، وما كانت فيه ألف التأنيث فهو سواء في العربية والعجمية . لأن ما كان أعجميا فهو
يتصرف في النكرة ، ولا يجوز أن تصرف الأسماءُ التي فيها ألف التأنيث في
معرفة ولا نكرة لأن فيها علامةَ التأنيث وأنها مصوغة مع الاسم صيغة
واحدة ، فقد فارقت هاءَ التأنيث فلذلك لم تصرف في النكرة.
ويجوز (كفلها زكرياءَ) بنصب زكرياء ، ويجوز في هذا الموضوع زكريا بالقصر ، فمن قرأ (كَفَّلَهَا زَكَرِيَّاءُ) رفعه بفعله ،

(1/402)


فالمعنى فيما ذكر أبو عبيدة ضمنها ، ومعناه في هذا
ضمن القيام بأمرها.
ومن قرأ (كفلها زكرياءَ) بالنصب - فالمعنى : وكفلها اللَّهُ
زكرياءَ ، وأما اللغة الثالثة فلا تجوز في القرآن لأنها مخالفة المصحف ، وهي
كثيرة في كلام العرب.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ).
القصر والمد في زكريا . والقراءَة بهما كثيرة كما وصفنا
و (المحراب) : أشرف المجالس والمقدم فيها ، وقد قيل إن مساجدهُمْ كانت تسمى المحاريب ، والمحراب في اللغة الموضع العالي الشريف.
قال الشاعر :
ربَّة محراب إذا جئتها . . . لم ألقها أوأرتقى سلما
ومنه قوله عزَّ ونجل : (وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21)
ونصب (كُلَّمَا بقوله : (وجد) أي يجد عندها الرزق في كل وقت يدخل عليها
المحراب - فيكون ما مع دخل بمنزلة الدخول - أي كل وقت دخول.
وقوله عزَّ وجلَّ (قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ).
أي من أين لك هذا.
(هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ).

(1/403)


وإِنما سأل زكريا عن الرزق لأنه خاف أن يأتيها - من غير جهته فتبين عنده
أنه من عند اللَّه ، وذلك من آيات مريم ، قال اللَّه تبارك وتعالى :
(وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ) فمن آياتها أنها أول امرأة قُبلت في نذر في المتعبد.
ومنها أن اللَّه أنشأ فيها عيسى - عليه السلام - من كلمة ألقاها إليها ، ومنها أن اللَّه عزَّ وجلَّ - غذاها برزق من عنده لم يجْرِهِ على يد عبد من عبيده ، وقد قيل في التفسير أنَّها لم تُلْقَمْ ثدياً قط.
ومعنى (إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ).
أي بغير تقتير ، و (حساب). إِن شئت فتحت الأَلف وألزمتها جهة الفتح ، وإن شئت أملتها إِلى الكسر ، لانكسار الحاءِ ، وذلك كثير في لغة العرب.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38)
(زكريا) - بالمدّ والقصر على ما وصفنا . المعنى عند ذلك دعا زكريا ربَّه ، أي عندما صادف منِ أمر مريم ، ثئم سأل اللَّه أن يرزقه ذرية طيبة.
و (هنالك) في موضع نصب لأنه ظرف يقع من المكان والأحوال - أحوال الزَّمان.
والمعنى في ذلك المكان من الزمان ومن الحال - دعا زكريا ربه كما تقول من
هنا قلت كذا وكذا ، ومن هنالك قلت كذا وكذا أي من ذلك الوجه وتلك
الجهَة ، وهذا في غير المكان على المثل جرى . وَكَسْرُ لام (هنالك) وقع لالتقاءِ السَاكنين لأنَّ هنالك إشارة إلى مكان متراخ ، أو حال من أحوال الزمان نسبتها إِلى المكان وقال : (طيبة) للفظ ذرية.
و (هنالك) لا يجب أن يعرف في رفع ولا جر لأنه في الإشارة إِلى المكان
بمنزلة الإشارة في هذا وهذاك إِلى سائر الأشياءِ.
فهو مضارع للحروف التي جاءَت لمعنى .

(1/404)


وقوله عزَّ وجلَّ : (فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39)
(فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ) و (فناداه الملائكةُ).
الوجهان جميعاً جائزان ، لأن الجماعة يلحقها اسم التأنيث ، لأن معناها معنى جماعة ، ويجوز أن يعبر عنها بلفظ التذكير . كما يقال جمع الملائكة.
ويجوز أن تقول نادته الملائكة وِإنما ناداه جبرائيل وحده لأن المعنى
أتاه النداءُ من هذا الجنس ، كما نقول ركب فلان في السفن ، وإنما ركب سفينة واحدة ، تريد بذلك جعل ركوبه في هذا الجنس.
ويجوز (أن اللَّه يُبَشَرك) (إِن اللَّهَ يُبَشِرُكَ) بفتح إن وكسرها فمن فتح
فالمعنى نادته بأن اللَّه يبشرك أي نادته بالبشارة ، ومن كسر أراد قالت الملائكة : إن اللَّه يبشرك . و (إنَّ) بعد القول أبداً مكسورة.
وفي (يبشرك) ثلاث لغات : (إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ) بفتح الباءِ وتشديد الشين
وهي قراءَة كثيرة جدا ، ويبْشُرُكِ - بإسكان الباءِ وضم الشَين ، وقرأ حميد.
وحده " يُبْشِرُكِ " - بضم الياءِ وإسكان الباءِ وكسر الشين ، فمعنى يُبَشرك.
وَيبْشرك : البشارة ، ومعنى يُبشرك يسزك ويفرحك . يقال بشرت الرجل أبشره وأبشُرُه إذا افرَحته ، ويقال بَشُرَ الرجل يَبْشرُ.
وأنشد الأخفش والكسائي وجماعة من النحوين :
وإذا لقيت الباهشين إلى النَدا . . . غبراً أكفُّهُمْ بقاع مُمْحِل

(1/405)


فأعنهم وابْشُر بمَا بَشروا به . . . وإذا هم نزلوا بضنك فانزل
فهذا على بشر يبشُر إذا فرح ، وأصل هذا كله من أنَّ بشرة الإنسان تنبسط
عند السرور ، ومن هذا قولهم فلان يلقاني بِبشْرٍ ، أي بوجه منبسط.
ويحيى اسم سماه الله تعالى . تولى هو - عزَّ وجلَّ - ذلك ولم يسم أحد قَبْل
يحيى بيحيى ، ويحيى لا يتصرف عربيا كان أو أعجميًّا ، لأنَّه إن كان أعجميا فقد اجتمع فيه العجمة والتعريف ولو كان عربياً لم ينصرف لشبهه بالفعل وأنه معرفة علم.
ونصب (مصدقاً) على الحال.
ومعنى (مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ) أي يُصَدِّق بأمْر عيسى لأن يحيى فُرِضَ
عليه - وإن كان يحيى أسن من عيسى - اتباعُ عيسى.
ومعنى (سَيِّدًا وَحَصُورًا).
السيِّد الذي يفوق في الخير قومه ، ومعنى (حصوراً) أي لا يأتي النَساءَ ، وإنما
قيل للذي لا يأتي النَساءَ حصور لأنه حُبِسَ عما يكون من الرجال ، كما يقال في الذي لا يتيسر له الكلام قد حُصِرَ في منطقه ، والحصور الذي لا ينفق على
النَّدامى ، وهو ممن يُفْضِلْونَ عليه
قال الشاعر :

(1/406)


وشاربٍ مُربح بالكاس نادمني . . . لا بالحَصُور ولا فيها بسوار
ويروى ولا فيها بسَئار ، أني نادمني وهو كريم منفق على الندامي ، والسؤار
المُعَرْبِد يُساوِر نديمهْ أيَ يَثبُ عليه ، والسار الذي يُفْضِل في إنائه إذا شرب.
والحصور الذي يكتم السر ، أي يحبس السر في نفسه
قال جرير.
ولقد تسقطني الوشاة فصادفوا . . . حَصِراً بسرك يا أميمَ ضنينا
والحصير هذا المرمُول الذي يُجلس عليه ، إنما سمي حصيراً لأنه
دوخل بعضه في بعض في النسيج أي حبس بعضه على بعض.
ويقال للسجْن الحصير لأنَّ الناس يُحصرون فيه ، ويقال حصرت الرجلَ إذا حبسته ، وأحصره المرض إِذا منعه من السير ، (والحصير الملك)
وقول اللَّه - جل وعلا : (وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا) أي حبسا.
ويقال أصاب فلاناً حَصَرٌ.
إِذا احتبس عليه بطنه ، ويقال في البول أصابه أسر إذا احتبس عليه بوله.
ومعنى (مِنَ الصَّالِحِينَ) الصالح الذي يؤَدي إِلى اللَّه ما عليه ويؤَدي إلى
الناس حقوقهم.
* * *
وقوله جل وعلا : (قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40)
أي كيف يكون لي غلام.
قال الكميت :
أنَّى وَمن أين آبك الطَرب من . . . حيث لا صبوة ولا لعب

(1/407)


أي : كيف ومن أين آبك الطرب.
ويقال كلام بين الغلوميَّة والغلاميَّة والغلومة.
وقوله جلّ وعلا : (وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ).
بمعنى قد بلغت الكبر وفي موضع آخر (وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا).
وكل شيءٍ صادفته وبلغته فقد صادفك وبلغك.
ومعنى (كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ).
أي مثل ذلك يفعل اللَّه الَّذِي يشاؤه . وإِنَّما سأل زكريا لأنَّه أحبَّ أن يعلم
أيأتِيه الولد وامراته عاقر وهو مسِنٌّ ، أم يجعله الله على هيئة من يولَدُ له ويجعل
امرأته كذلك ، أم يأتيها الولد وهما على الهيئةِ التي لَا يكون معها ولد ، فأعلمهما اللَّه أنَّ ذلك هيِّن عليه كما أنشأهما ولم يكونا شيئاً ، وأنه يعطيهما الولد وهما في هذا السن.
ويقال في (عاقر) قد عقرَتْ المرأة وعَقَرَتْ ، وهي عاقر ، وهذا دليل أنَّ
عاقراً وقع على جهة النَسب ، لأنَّ فَعلتْ أسماءُ الفاعلين فيه على فعيلة.
نحو ظَرفت فهي ظريفة ، وإِنما عاقر له ذات عقر ، ويقال قد عقر الرجل يعقر
عقراً : إِذَا انقطع عليه الكلام من تعب وكلال.
والعَقار كل مال له أصل.
وقد قيل إِن النخل خاصّة يقال له عَقَار . وعُقْر دار قوم أصل - مُقَامِهِمْ الذي عليه مُعَوَّلهم ، وإِذا انتقلوا عنه لنُجعةٍ فرجوعهم إليه.
ويروى عن علي إنَّه قال : " ما

(1/408)


غزي قوم في عُقْرِ دارهم إلا ذُلُّوا " ، أي ما غُزُوا في المكان الذي هو أصل
لمقامهم.
* * *
قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41)
ومعنى (رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً).
أي علامة أعلم بها الوقت الذي تهب له فيه الغلام.
(قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا).
أي علامة ذلك أن يُمْسَكَ لسانُك عن الكلام وأنت صحيح سَوِي
وقال في موضوع آخر : (آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا)
أي وأنت سَوِي.
ومعنى الرمز تحريك الشفتين باللفظ من غير إِبانة بصوت إنما هو إشارة
بالشفتين ، وقد قيل أن الرمز هو إشارة بالعينين ، أو الحاجبين والفم ، والرمز في اللغة كل ما أشرت به إِلى بيان بلفظ ، أي بأي شيء أشرت ، أبفم أم بيد أم بعينين والرّمز والترمز في اللغة الحركة والتحرك.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ).
قيل سبَّح : صل ، ويقال فرغت من سبحتي من صلاتي ، وإنما سميت
الصلاة تسبيحاً لأن التسبيح تعظيم الله وتبرئته من السوءِ فالصَّلاة يوحَّد الله
فيها ويحمد ، ويوصف بكل ما يبرئه من السوءِ فلذلك سُمَّيت الصلاة السَّبحة.
والإبكار يقال فيه أبكر الرجل يُبْكِر إبْكاراً ، وبَكَر يُبَكَر تبكيراً وبَكَر يبكر
في كل شيء يتقذَم فيه ، وقول الناس فيما تقدم من الثمار : " قد هَرِفَ " خطأ ، إنما هي كلمة تبطئة ، وإنما تقول العرب في مثل ذلك : قد بكَّر ، ويُسمَّى ما يكون منه الباكورة .=

2.  معاني القرآن وإعرابه - للزَّجَّاج
المؤلف : أبو إسحاق إبراهيم السَّرِي بن سَهل " المعروف بـ الزَّجَّاج "
(المتوفي 311 هـ)

وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42)
معنى(اصطفاك) : اختارك ، وقالوا في طَهَّرَكِ- طَهَّرَكِ من الحيضِ والنفاس -
ومعنى طَهَّرَكِ - " واللَّه أعلم - أي جعلك طاهرة من سائر الأدناس إلا أنَّ الأول قد جاءَ في التفسير.
وقيل إن معنى (اصطفاك على نساءِ العالمين)
أي على نساءِ أهل دهرها . وجائز أن يكون على نساءِ العالمين كلهم ، أي اختارك لعيسى على نساءِ العالمين كلهم ، فلم يجعل مثل عيسى من امرأة من نساءِ العالمين.
* * *
يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)
ومعنى (اقْنُتِي لِرَبِّكِ) أيْ اعبديه بالقول والعمل.
(واسجدي واركعي) : معنى الركوع قيل السُّجود
المعنى اركعي واسجدي ، إلا أن الواو إذا ذكرت فمعناها الاجتماع ، وليس فيها دليل أن أحد الشَيئين قبل الآخر . لأنها تْؤذن بالاجتماع ، والعمل ، والحال تدل على تقدم المتقدِّم من الإثنين . .
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44)
أي الأخبار التي قصصناها عليك في زكريا ويحيى ومريم وعيسى من أنباء
الغيب ، أي من أخبار ما غاب عنك ، وفي هذا دليل على تثبيت نبوة النَبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه أنبأ بما لا يعلم إلا من كتاب أو وحي وقد أجمعوا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أمياً.
فإنباؤه إياهم بالأخبار التي في كتبهم علي حقيقتها من غير قراءَة الكتب دليل على أنه نبى وأن اللَّه أوحى إليه بها.
ومعنى (إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ).
أي هذا أيضاً مما لم تحضره ومعنى (الأقلام) ههنا القِدَاحُ وهي قداح جعلوا

(1/410)


عليها علامات يعرلون بها أيهم يكفل مريم على جهة القرعة - وإنما قيل للسهم القلم لأنه يقْلَمَ أي يبْرَى ، وكل ما قطعت منه شيئاً بعد شيء فقد قَلَمْتَه ، من ذلك القلم الذي يكتب به ، إنما سمي لأنه قلم مرة بعد مرة ، ومن هذا قلمت أظافري.
ومعنى (أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ).
أي لينظروا أئهم تجب له كفالة مريم ، وهو الضمان للقيام بأمرها ، ومعنى
(لديهم) عندهم وبحضرتهم.
(ءذ يَخْتَصِمُونَ " :
إذ نصب بقوله (مَا كُنتَ لَدَيْهمْ) و (إِذ) الثانية معلقة بـ (يختصمون) أي إذ
يختصمون إذ قالت الملائكة ، فإذ منصوبة بـ (يختصمون).
ويكون المعنى أنهم اختصموا بسبب مريم وعيسى ، وجائز أن يكون نصب
إِذ على (وما كنت لديهم).
(إِذْ قَالَتِ المَلائِكة). هذا أيضاً مما لم يشاهده.
* * *
(إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45)
سمّى اللَّه عزَّ وجلَّ عيسى المسيح ، وسمّاه عيسى ، وسمي ابتداء أمره
كَلِمَةً (منه) فهو - صلى الله عليه وسلم - كلمة من اللَّه ألقاها إلى مريم ، ثم كوَّن تلك الكلمة بشراً.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (اسْمُهُ) وإنما جرى ذكر الكلمة لأن معنى الكلمة معنى

(1/411)


الولد ، المعنى أن اللَّه يبشرك بهذا الولد ، (وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ).
(وَجِيهًا) منصوب على الحال ، والوجيه الذي له المنزلة الرفيعة عند ذوي
القَدْر والمعرفة ، ويقال قد وَجُهَ الرجلُ يَوْجُه وَجَاهة ، ولفلان جَاهٌ عند الناس
ووجاهة عند الناس ، أي منزلة رفيعة.
وقال بعضُ النحوييِن : (وَجِيهًا) منصوب
على القطع من عيسى ، وقطع ههنا كلمة محال ، لأنه إنما بُشَر به في هذه الحال ، أي في حال فضله فكيف يكون قطعها منه ، ولم يقل لم نصب هذا القطع ، فإن كان القطع إنما هو معنى ، فليس ذلك المعنى موجوداً في هذا اللفظ ، وإن كان القطع هو العامل فما بَينَّ ما هو ، وإن كان أراد أن الألف واللام قُطِعَا منه فهذا محال لأنَّ جميع الأحوال نكرات والألف واللام لمعهود ، فكيف يقطع من الشيء ما لم يكن فيه قَط.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46)
معطوف على (وجيهاً) ، المعنى يبشرك به وجيهاً ومكلماً الناس في المهد.
وجائز أن يعطف يفعل على فاعل ، لمضارعه بفعل فاعل.
قال الشاعر :
بات يعيشها بغضب باتر . . . يقصد في أسواقها وجائر
(وَكَهْلاً)
أي ويكلم الناس كهلا ، أعلمها اللَّه أن عيسى يبقى إلى حال الكهولة.
وقيل إن كهلا ، أي ينزل من السماءِ لقتل الرجال وهو كهل - واللَّه أعلم.
* * *
قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47)
ومعنى (كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ).

(1/412)


أي يخلق الله ما يشاءُ مثل ذلك.
(وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48)
أي يعلمه ذلك وحياً وإلهاماً.
* * *
وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49)
ونصب (وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ) على وجهين -
أحدهما ويجعله رسولا إلى بني إسرائيل ، والاختيار عندي - واللَّه أعلم -
ويكلم الناس رسولًا إلى بني إسرائيل والدليل على ذلك أنَّه قال :
(أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ).
فالمعنى - واللَّه أعلم - ويكلمهم رسولا بأني قد جئتكم بآية من ربكم ، ولو
قرئت إني قد جئتكم - بالكسر - كان صواباً ، المعنى إِني قد جئتكم بآية من ربكم - أي بعلامة تثبت رسالتي.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ).
يصلح أن يكون خفضاً ورفعاً ، - فالخفض على البدل من (آية) المعنى
جئتكم بأَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ ، وجائز أن يكون "إنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ"
يخبرهم بهذه الآية ما هي أي أقول لكم أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كهيئة الطير.
يقال إنَّه صنع ؛ كهيئة الخفاش ونفخ فيه فصار طيراً ، وجاز أن يكون فأنفخ
فيه للفظ الطين ، وقال في موضع آخر (فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي)
للفظ الهيئة.
(وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ).

(1/413)


(الْأَكْمَهَ) الذي يولد أعمى.
قال الراجز
هرجت فارتد ارتداد الأكمه
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ).
أي اخبركم بمأكولكم ، فجائز أن تكون (ما) ههنا في موضع الذي.
والمعنى أنبئكم بالذي تأكلونه وتدخرونه ، ويجوز أن يكون " ما " وما وقع بعدها بمنزلة المصدر.
المعنى أنبئكم بأكلكم وادخاركم والأول أجود.
ومعنى تدخرون : جاءَ في التفسير : ما تأكلون في غدوكم.
وتدخرون بالدال والذال.
وقال بعض النحوين إِنما اختير تدخرون لأن التاءَ تدغم في الذال نحو تَذَكرُونَ ، فكرهوا تذخرون لأنه لا يشبه ذلك ، فطلبوا حرفاً بين التاء والذال فكان ذلك الحرف الدال.
وهذا يحتاج صاحبه إلى أن يعرف الحروف المجهورة والمهموسة :
وهي فيما زعم الخليل ضربان : فالمَهْجُورةُ حرْف أشْبع الاعتماد عليه في
موضعه ، ومنع النفس أن يجري معه ، والمهمُوسُ حرف أضعف الاعتماد
عليه في موضعه وجرى معه النفس.
وإنما قيل (تَدَّخِرُونَ) وَأصْله تذخرون : أي يفتعلون من الذخْر ، لأن الذال
حرف مجهور لا يمكن النفس أن يجري معه لشدة اعتماده في مكانه والتاء
مهموسة ، فأبدل من مخرج التاءِ حرف مجهور يشبه الذال في جَهْرِها وهو الدال.
فصار تَذْدَخِرُون . ثم أدْغِمَتْ الذال في الدال ، وهذا أصل الإدغام أن تُدغِم
الأول في الثاني ، وتذخِرون جائز - فأما ما قال في الملبس فليس تذخرون ملبساً بشيءٍ .

(1/414)


وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50)
نُصِبَ (مُصَدِّقًا) على الحال ، المعنى وجئتكم مصدقاً لما بين يدي أي
للكتاب الذي أنزِل قبلي فهو أمري أن تتبعوني.
(وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ)
أي لم احل لكم شيئاً بغير برهان ، فهو حق عليكم اتباعي لأني أنَبئكُمْ
ببرهان ، وتحليل طيبات كانت حرمت عليكم.
(فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) : أي اتبعوني.
قال أبو عبيدة معنى : (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ).
قال معناه : كل الذي حرم عليكم ، وهذا مستحيل في اللغة وفي التفسير
وما عليه العمل . فَأمَّا اسْتِحَالته في اللغَةِ فإن البعض والجزءَ لا يُكونُ الكُل
وَأنْشَدَ في ذلك أبُو عُبيدةَ بيتاً غلط في معناه وهو قولُ لبيد :
تَراك مَنْزِلَةٍ إذَا لمْ أرْضَهَا . . . أو يَعْتَلِقْ بَعْضَ النفوس حِمَامُها
قال : المعنى " أو يَعْتَلِقْ كل النفوس حمامها"
وهذا كلام تستعمله الناس ، يقول القائل : بعضنا يعرفك يريد أنا أعرفك ، فهذا إنما هو تبعيض صحيح.
وإنما جاءَهم عيسى بتحليل ما كان حراماً عليهم.
قال اللَّه عزَّ وجلَّ : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) وهي نحو الشحوم وما يتبعها في التحريم ، فأما أن يكون أحَل لهم القتل والسرِقَةَ والزَنَا فمحال .

(1/415)


ومعنى : (إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51)
(هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ)
أي هذا طريق الدين مستوياً.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52)
معنى أحسَّ فى اللغةَ علمَ وَوَجَدَ ، ويقال هل أحَسْتَ في معنى هل
أحْسَسْتَ ويقال حَسَيْت بالشيء إذا عَلِمْته وعرفتُه "
وأنشد الأصمعي :
سِوى أنَّ العِتاقَ من المطايا . . . أَحَسْنَ به فَهُنَّ إليه شُوسُ
ويقال حَسَّم القائِد ، أي قَتَلَهمْ.
ومعنى : (مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ).
جاءَ في التفسير من أنْصاري مع اللَّه ، و (إلى) ههنا إنما قاربت (مع)
معنى بأن صار اللفظ لو عبر عنه بـ " مع " أفاد مثل هذا المعنى ، لا أنَ (إلى)
في معنى " مع " لو قلت ذهب زيد إلى عمرو لم يجز ذهب زيد مع عمرو ، لأن
(إلى) غاية و " مع " تضم الشيءَ إلى الشيءِ فالمعنى : يضيف نصرته إياي إلى
نصرة اللَّه.
وقولهم إنَّ ، (إلى) في معنى (معَ) ليس بِشيءٍ . والحروف قد تقاربت في
الفائدة.
فَيَظن الضعيف العِلم باللغة أن معناهما واحد .

(1/416)


من ذلك قوله جلَّ وعزَّ : (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) ولوكانت (على)
ههنا . لأدَّت هذه الفائدة ، لأنك لو قلت لأصلبنكم على جذوع النخل كان
مستقيماً.
وأصل (في) إنما هو للوعاءِ ، وأصل " على " لِمَا مع الشيء.
كقولك : التمر في الجراب . ولو قلت التمر على الجراب لم يصلح في هذا
المعنى ، ولكن جازَ (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) لأن الجذْعَ يشتمل
على المَصْلوب ، لأنه قد أخذه من أقطاره . ولو قلت زيد على الجبل وفي
الجبل يصلح ، لأن الجبل قد اشتمل على زيد ، فعلى هذا مجاز هذه
الحروف.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ).
قال الحذاق باللغة : (الحواريون) : صفوة الأنبياءِ عليهم السلام الذين
خلصوا وأخلصوا في التصديق بهم ونصرتهم فسماهم الله جلَّ وعزَّ : (الحواريون) وقد قيل أنهم كانوا قَصارين فسموا الحواريين لتبييضهم الثياب ، ثم صار هذا الاسم يستعمل فيمن أشبههم من المصدقين تشبيهاً بهم.
وقيل إِنهم كانوا ملوكاً وقيل كانوا صيادين ، والذي عليه أهل اللغة أنهم الصفوة كما أخبرتك.
ويروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنَّه قال : الزبير ابن عمتي وحَوَارِيِّي من أمتي.
ويقال لنساءِ الأنصار حَوارياتٌ ، لأنهن تباعدن عن قشف الأعرابيات بنظافتهن.
وأنشد أبو عبيدة وغيره لأبي جلدة اليشكري

(1/417)


فقل للحواريات يبكين غيرنا . . . ولا تبكنا إلا الكلاب النوابح
وقال أهل اللغة في المحور وهو العود الذي تدور عليه البكرة قولين.
قال بعضهم : إِنما قيل له محور للدوران لأنه يرجع إلى المكان الذي زال منه ، - وقيل إِنما قيل له محور لأنه بدورانه ينصقل حتى يصير أبيض ، ويقال دقيق
حُوَّارَى من هذا أي قد أخذ لبابه وكذلك عجين مُحَوَّرٌ للذي يمسح وجهه
بالماءِ حتى يصفو ، ويقال عين حوراءَ إِذا اشتد بياضها وخلص واشتد سوادها ، ولا يقال امرأة حوراءَ إِلا أن تكون مع حور عينها بيضاءَ ، وما روي ، في
الحديث : " نعوذ باللَّه من الحَوَرِ بعد الكوَرِ "
معناه نعوذ باللَّه من الرجوع والخروج عن الجماعة بعد الكوَرِ.
أي بعد أن كنا في الكور ، أي في الجماعة يقال كارَ الرجل عمامة إِذا لفَّها على رأسه ، وحار عمامَتَهُ إذا نقضها ، وقد قيل : " بعد الكون " ومعناه بعد أن كنا على استقامة ، إلا أن مع الكون محذوفاً في الكلام
دليلاً علبه.
* * *
رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53)
وأما معنى قوله : (فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ)
أي اكتبنا مع الذين شهدوا للأنبياءِ بالتصديق ، وحقيقة الشاهد أنه الذي
يبين تصحيح دعوى المدعي ، فالمعنى صدقنا باللَّه واعترفنا بصحة ما جاءَ به
النبي - صلى الله عليه وسلم - وثَبَتْنَا ، فاكتبنا مع من فعل فعلنا.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54)

(1/418)


الْمَكْرُ مِنَ الخلائق خِبٌّ وخداع ، والمكر من اللَّه المجازاة على ذلك
فسمي باسم ذلك لأنه مجازاة عليه كما قال - عزَّ وجلَّ :
(اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) . فجعل مُجازَاتِهِمْ على الاستِهْزَاء بالْعذَابِ ، لفظُه لفظُ الاستهزاءَ.
وكما قَالَ جَل وعز : (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا) فالأولى سيئة والمجازاة
عليها سُمِّيَتْ باسْمِهَا ، وليست في الحقيقة سَيئَةً.
وجائز أنْ يكونَ مَكْرُ اللَّهِ اسْتِدْرَاجُهُمْ من حيث لا يعلمون لأن الله سلَّطَ
عليهم فَارسَ فغلبتْهم وَقَتَلَتْهمْ ، والدليل على ذلك قوله عزَّ وجلَّ :
(الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ).
وقيل في التفسير أيضاً إن مكر اللَّه بهم كان فِي أمْرِ عيسى أنه - صلى الله عليه وسلم - كان في بيت فيه كوة فدخل رجل ليقتله ، ورفع عيسى من البيتِ وخرج الرجل في شَبَهِهِ يخبرهم أنهُ ليْس في البيت فقتلوه.
وجملة المكر من اللَّه مجازاتُهم على ما فعلوا.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55)
(عِيْسَى) اسم أعْجَمِي عدل عن لفظ الأعجميةِ إِلى هذا البناءِ ، وهو غير
مصروف في المعرفة لاجتماع العجمية والتعريف فيه . ومثال اشتقاقه من كلام
العَربِ أنَّ عِيسى : فِعْلىَ ، . فالألف يصلح أنْ تكون للتأنِيث ، فلا تتصرف في معرفة ولا نكرة ، ويكون اشْتِقاقه مِنْ شيئين ، أحَدُهمَا العَيَس ، وهو بياضٌ

(1/419)


الإبل ، والآخر من العَوْس والعيَاسةِ إلا أنه قلبت الواو يا لانكسار ما قبلها.
فأمَّا عيسى عليه السلام فَمَعْدول من يَشوع - كذا يقول أهل السريانية.
وقال النحويون في معنى قوله عزَّ وجلَّ : (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ).
التقديم والتأخير - المعنى إني رافعك ومطهرك ومتوفيك (1).
وقال بعضهم : المعنى على هذا اللفظ كقوله - عزَّ وجلَّ - (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا)
فالمعنى على مذْهب هؤُلاءِ - أن الكلام على هذا اللفظ.
ومعنى (وَجَاعِلُ الذِينَ اتَبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا).
القِرَاءة : بطرح التنوين ، والتنوين جائز ، ولكن لا تقرأ به إلا أن تكون
ثبتت بذلك رواية.
ومعنى : (فَوْقَ الًذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ).
فيه قولان : أحدهما أنهم فوقهم في الحجة وإقامة البرهان والآخر أنهم
فوقهم في اليد والبسطة والغلبة ، ويكون (الذين اتبعوك) محمداً - صلى الله عليه وسلم - ومن اتبعه فهم منصورون عَالون.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56)
العذاب في الدنيا القتل الذي نالهم وينالهم ، وسبي الذاري وأخذ
الجزية ، وعذاب الآخرة ما أعده اللَّه لهم من النار.
__________
(1) قال الإمام فخر الدين الرَّازي ما نصُّه :
الصفة الأولى : {إِنّي مُتَوَفّيكَ} ونظيره قوله تعالى حكاية عنه {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِى كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} [ المائدة : 117 ] واختلف أهل التأويل في هاتين الآيتين على طريقين أحدهما : إجراء الآية على ظاهرها من غير تقديم ، ولا تأخير فيها
والثاني : فرض التقديم والتأخير فيها.
أما الطريق الأول فبيانه من وجوه الأول : معنى قوله {إِنّي مُتَوَفّيكَ} أي متمم عمرك ، فحينئذ أتوفاك ، فلا أتركهم حتى يقتلوك ، بل أنا رافعك إلى سمائي ، ومقربك بملائكتي ، وأصونك عن أن يتمكنوا من قتلك وهذا تأويل حسن
والثاني : {مُتَوَفّيكَ} أي مميتك ، وهو مروي عن ابن عباس ، ومحمد بن إسحاق قالوا : والمقصود أن لا يصل أعداؤه من إليهود إلى قتله ثم إنه بعد ذلك أكرمه بأن رفعه إلى السماء ثم اختلفوا على ثلاثة أوجه أحدها : قال وهب : توفي ثلاث ساعات ، ثم رفع
وثانيها : قال محمد بن إسحاق : توفي سبع ساعات ، ثم أحياه الله ورفعه
الثالث : قال الربيع بن أنس : أنه تعالى توفاه حين رفعه إلى السماء ، قال تعالى : {الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مِوْتِهَا والتى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا} [ الزمر : 42 ].
الوجه الرابع : في تأويل الآية أن الواو في قوله {مُتَوَفّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَىَّ} تفيد الترتيب فالآية تدل على أنه تعالى يفعل به هذه الأفعال ، فأما كيف يفعل ، ومتى يفعل ، فالأمر فيه موقوف على الدليل ، وقد ثبت الدليل أنه حي وورد الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم : « أنه سينزل ويقتل الدجال » ثم إنه تعالى يتوفاه بعد ذلك.
الوجه الخامس : في التأويل ما قاله أبو بكر الواسطي ، وهو أن المراد {إِنّي مُتَوَفّيكَ} عن شهواتك وحظوظ نفسك ، ثم قال : {وَرَافِعُكَ إِلَىَّ} وذلك لأن من لم يصر فانياً عما سوى الله لا يكون له وصول إلى مقام معرفة الله ، وأيضاً فعيسى لما رفع إلى السماء صار حاله كحال الملائكة في زوال الشهوة ، والغضب والأخلاق الذميمة.
والوجه السادس : إن التوفي أخذ الشيء وافياً ، ولما علم الله إن من الناس من يخطر بباله أن الذي رفعه الله هو روحه لا جسده ذكر هذا الكلام ليدل على أنه عليه الصلاة والسلام رفع بتمامه إلى السماء بروحه وبجسده ويدل على صحة هذا التأويل قوله تعالى : {وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَىْء} [ النساء : 113 ].
والوجه السابع : {إِنّي مُتَوَفّيكَ} أي أجعلك كالمتوفى لأنه إذا رفع إلى السماء وانقطع خبره وأثره عن الأرض كان كالمتوفى ، وإطلاق اسم الشيء على ما يشابهه في أكثر خواصه وصفاته جائز حسن.
الوجه الثامن : أن التوفي هو القبض يقال : وفاني فلان دراهمي وأوفاني وتوفيتها منه ، كما يقال : سلم فلان دراهمي إلي وتسلمتها منه ، وقد يكون أيضاً توفي بمعنى استوفى وعلى كلا الاحتمالين كان إخراجه من الأرض وإصعاده إلى السماء توفياً له.
فإن قيل : فعلى هذا الوجه كان التوفي عين الرفع إليه فيصير قوله {وَرَافِعُكَ إِلَىَّ} تكراراً.
قلنا : قوله {إِنّي مُتَوَفّيكَ} يدل على حصول التوفي وهو جنس تحته أنواع بعضها بالموت وبعضها بالإصعاد إلى السماء ، فلما قال بعده {وَرَافِعُكَ إِلَىَّ} كان هذا تعييناً للنوع ولم يكن تكراراً.
الوجه التاسع : أن يقدر فيه حذف المضاف والتقدير : متوفي عملك بمعنى مستوفي عملك {وَرَافِعُكَ إِلَىَّ} أي ورافع عملك إلي ، وهو كقوله {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب} [ فاطر : 10 ] والمراد من هذه الآية أنه تعالى بشّره بقبول طاعته وأعماله ، وعرفه أن ما يصل إليه من المتاعب والمشاق في تمشية دينه وإظهار شريعته من الأعداء فهو لا يضيع أجره ولا يهدم ثوابه ، فهذه جملة الوجوه المذكورة على قول من يجري الآية على ظاهرها.
الطريق الثاني : وهو قول من قال : لا بد في الآية من تقديم وتأخير من غير أن يحتاج فيها إلى تقديم أو تأخير ، قالوا إن قوله {وَرَافِعُكَ إِلَىَّ} يقتضي إنه رفعه حياً ، والواو لا تقتضي الترتيب ، فلم يبق إلا أن يقول فيها تقديم وتأخير ، والمعنى : أني رافعك إليّ ومطهرك من الذين كفروا ومتوفيك بعد إنزالي إياك في الدنيا ، ومثله من التقديم والتأخير كثير في القرآن.
واعلم أن الوجوه الكثيرة التي قدمناها تغني عن التزام مخالفة الظاهر ، والله أعلم.
أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 60 - 61}

(1/420)


(وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ).
أي ما لهم من يمنعهم في الدنيا لأن اللَّه - عزَّ وجلَّ - قد أظهر الإسلام
على دينهم وجعل الغَلَبة لأهله ، ولا أحد ينصرهم في الآخرة من عذاب اللَّه.
* * *
وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57)
ومعنى : (وَاللَّهُ لَا يُحِب الظَّالِمِينَ).
أي لا يرحمهم ، ويعذبهم ولا يثني عليهم خيراً ، هذا معنى البغض من
الله ، ومعنى المحبة منه الرحمة والمغفرة والثناءَ والجميل.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58)
أي القصيص الذي جرى نتلوه عليك.
(مِنَ الآياتِ).
أي من العلامات البينات الدلالات على تثبيت رسالتك إِذ كانت أخباراً
لا يعلمها إلا قارئُ كتاب أو مُعلَّم أو من أوْحيت إليه
وقد علم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أمِّيًّا لا يكتب ولا يقرأ الكتب على جهله النظر فيها والفائدة منها . فإنه - صلى الله عليه وسلم - لم يعلمه أحد من الناس فلم يبق إلا الوحي ، والإخبار
بهذه الأخبار التي يجتمع أهل الكتاب على الموافقة بالإخبار بها - من الآيات
المعجزات.
ومعنى (وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ) : أي ذو الحكمة في تأليفه ونظمه وإبانة الفوائد
فيه ويصلح أن تكون (ذلك) في معنى الذي ويكون (نتلوه) صلة ، فيكون المعنى

(1/421)


الذي نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم فيكون ذلك ابتداء والخبر من
الآيات.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59)
(آدم) قد بيَّنَّا أنه لاينصرف وأن اِسمه مأخوذ من أديم الأرض وهو وجهها.
ولذا يقال لذي اللون الذي يشبه لون الأرض آدم.
و (خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ) ليست بمتصلة بآدم ، إنما هو مبين قصة آدم ولا يجوز في الكلام أن تقول مررت بزيد قام ، لأن زيداً معرفة لا يتصل به قام ولا يوصل به ولا يكون حالًا ، لأن الماضي لا يكون حالاً أتت فيها ، ولكنك تقول : مثلك مثل زيد ، تريد أنك تشبهه في فعله.
ثم تخبر بقصة زيد فتقول : فعل كذا وكذا.
وإنما قيل إن مثله كمثل آدم لأن اللَّه أنشأ آدم من غير أب ، خلقه من تراب ، فكما خلق آدم من غير أب كذلك خلق عيسى عليه السلام.
ويروى في التفسير أن قوماً من نصارى نجران صاروا إلى النَبِى - صلى الله عليه وسلم - فقالوا له : إِنك دسبَبْتَ صاحبنا ، قال ومن صاحبكم ؟
قالوا : عيسى . قال : وما قلت فيه ؟
قالوا : قلت إنه عبد . فقال - صلى الله عليه وسلم - : ما ذلك بعار على أخي ولا نقيصة ، هو عبد وأنا عبد ، قالوا : فأرنا مثله فأنزل اللَّه تبارك وتعالى : (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ) إلى آخر الآية.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60)
(الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ)
مرفوع على أنه ، خَبرُ ابْتِدَاءَ مَحْذوف.
المعنى الذي أنْبَانَاك به في قِصة عيسى عليه السلام هو الحق من ربك.
(فَلَا تَكُنْ مِنَ المُمْتَرِينَ) : أي من الشكاكين ، والخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - خِطَاب

(1/422)


للخلق ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يشكك في قصة عيسى ، ومعنى (مِنْ رَبِّكَ) أي أتَاك من عِنْدَ ربك.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61)
(فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ)
أي في عيسى.
(مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ).
قيل له هذا بعد أن أوحِيَتْ إِليه البراهين والحجَجُ الْقَاطِعَة في تَثْبِيتِ أمرِ
عيسى إنَّه عبد ، فأمِرَ بالمُبَاهَلَةِ بعد إقامة الحجة ، لأن الحجة قد بلغت النهاية
في البيان فأمر اللَّه أن يجتمع هو والنساء والأبناء من المؤمنين ، وأن يدعوهم إلى أن يتجمعوا هم وآباؤهم ونساؤُهم ، ثم يبتهلون ومعنى الابتهال في اللغة المبالغة في الدعاءِ ، وأصله الالتعان ويقال بَهَلَهُ الله أي لَعَنَهُ اللَّه ، ومعنى لَعَنَة الله باعَدَهُ اللَّه من رحمته ، يقال : ناقة بَاهل وباهلة إذا لم يكن عليها صِرَار ، وقد أبهل الرجل ناقته إذا تركها بغير صرار ورجل باهل إذا لم يكن معه عصا . فتأويل الْبَهْل في اللغة المباعدة والمفارقة للشيء.
فدعاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المباهلة لأمرين كلاهما فيه بيان أن علماءَهم قد وقفوا على أن أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - حق لأنهم إذْا أبوا أن يلاعنوا دل إِباؤُهم على أنهم قد
علموا أنهم إن باهلوه نزل بهم مكروه ، وأنهم إِذا تركوا المبالهة دل ذلك ضَعَفَهمْ.
ومن لا علم عنده أن فرارهم من المباهلة دليل على أنهم كاذبون ، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صادق ، وقيل إِن بعضهم قال لبعض : إن باهلتموه اضطرم الوادي عليكم ناراً ولم يبق نصراني ولا نصرانية إلى يوم القيامة.
ويروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال :
" لو باهلوني لاضطرم الوادي عليهم ناراً ، وما بقي نصراني ولا نصرانية إلى يوم القيامة ".

(1/423)


وهذا مكان ينبغي أن يُنْعَمَ النظر فيه ، ويعلم المؤمنون بيان ما هو عليه.
وما عليه من الضلال مَنْ خالفهم ، لأنهم لم يَروِ أحَدٌ أنهم باهلوا النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أجابوا إلى ذلك.
* * *
ومعنى قوله عزَّ وجلَّ : (إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62)
أي إن هذا الذي أوحينا إليك من هذه البينات والحجج التي آتيناك لهو
القصص الحق ، ويصلح أن تكون (هو) ههنا فصلًا ، وهو الذي يسميه الكوفيون عماداً ، ويكون القصص خبر أن ، ويصلح أن يكون (هو) ابتداء ، والقصص خبره ، وهما جميعاً خبر (إنَّ).
ومعنى (وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ) من دخلت توكيداَ . ودليلاً على نفي جميع من
ادعى المشركون أنهم آلهة . أي إن عيسى ليس بإله ، لأنهم زعموا إنَّه إله ، فأعلم الله عزَّ وجلَّ أن لا إله إلا هو ، وأن من آتاه اللَّه آيات يعجز عنها المخلوقون فذلك غير مخرج له من العبودية للَّه ، وتسميته إلهاً كفر باللَّه.
ومعنى (الْعَزِيزُ) : هو الذي لا يعجزه شيء.
و (الْحَكِيمُ) : ذو الْحكمة الذي لا يأتي إِلا ما هو حكمة.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63)
أي فإن أعرضوا عما أتيت به من البيان فإِن الله يعلم من يفسد من خلقه فيجازيَهُ على إِفساده.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)
معنى (سواءٍ) معنى عدل ، ومعنى كلمة كلام فيه شرح قصة وإن طال.
وكذلك يقول العرب للقصيدة كلمة.
يروى أن حسان بن ثابت الأنصاري كان إِذا قيل له أنشد قال للقائل :

(1/424)


هل أنْشِدَتْ كلمة الحويدرة ، يعني قصيدته التي أولها :
بكرت سمية بكرة فتمتعي
ويقال للعدل سواء وسَوَى وسُوًى.
قال زهير بن أبي سلمى :
أروني خطة لا ضيم فيها . . . يسوي بيننا فيها السواءُ
فإن تُرِك السَّوَاءُ فليس بيني . . . وبينكم بني حِصنٍ بناءُ
يريد بالسواءِ العدل كذا يقول أهل اللغة ، وهو الحق.
- وهو من استواء الشيءِ ، ولو كان في غير القرآن لجاز : سواءً بيننا وبينكم ، فمن قاك سواءٍ جعله نعتاً للكلمة يريد ذات سواءٍ ، ومن قال سواءً جعله مصدراً في معنى استواءً ، كأن قال : استوت استواءً.
وموضع (أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ).
موضع " أن " خفض على البدل من كلمة.
المعنى تعالوا إلى أن لا نعبد إلا اللَّه ، وجائز أن تكون أن في موضع رفع ، كأن
قائلًا قال : ما الكلمة ؟
فأجيب فقيل هي ألا نعبد إلا اللَّه ، ولو كان أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ ولا نشركُ به شيئاً لجاز على أن يكون تفسيراً للقصة في تأويل أي كأنهم

(1/425)


قالوا : أي لا نعبد إلا الله - كما قال عزَّ وجلَّ : (وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا) وقَال قَومٌ معنى أن ههنا معنى يقولون امشوا ، والمعنى واحد لأن
القول ههنا تفسير لما قصدوا له وكذلك " أي يفسَّر بها ، ولوكان
(أَلَّا نَعْبُدْ إِلَّا اللَّهَ) بالجزم لجاز على أن يكون " أن " كما فَسَّرنا في تأويل أي" ، ويكون (أَلَّا نَعْبُدْ) على جهَةِ النهْي ، والمنْهِي هو الناهِي في الحقيقة
كأنَّهم نهَوْا أنفُسُهُمْ.
ومعنى (وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ).
أي نرْجعُ إلى أن معبودنا اللَّه ، وأن عيسى بشر ، كما أننا بشر فلا نَتخِذْهُ
ومعنى (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ).
أي مُقِرونَ بالئوحيد مستسلمون لما أتتْنَا بِهِ الأنْبياءُ من قِبل اللَّهِ عزَّ وجلَّ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65)
في هذا يبين حجة على إليهود والنصارى جميعاً ، لأن إليهود تدعي أن
إبْرَاهِيمَ كان يهودياً والنصارى تدعي أنَّه كان نصرانياً ، وتدفع إليهود عن
دعواهم ، وليْسَ يَدفَعُونَ اسمَ صفتِهِ أنهُ كان مُسْلِماً ، وأنه لم يَكنِ اسْمُهُ يَهُودِيا ولا نصرانيا ولا مُشْركاً ، والتوراةُ والإنجيلُ أنزلَا مِنْ بعْدهِ ؛ وليس فيهما اسمه بواحد من أديان إليهود والنصارى والمشركين ، واسم الإسلام له في كل الكتب ؛ فَدَفْعُ بعضِهِم بعضاً أن يكون مُسمَّى بالاسْماء التي هي غيْر الإسْلام دليل بَينٌ

(1/426)


على نقض قولهم ، وبرهان بَين في تبرئة إبراهيم من سائر الأديَان إلا دين
الإسلام.
* * *
(مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67)
ومعنى (حنِيفاً مُسْلِماً).
معنى الحنف في اللغة إقبال صُدُور القَدميْن كل واحدة على أختها إقبالاً
يكون خلقةً لا رجوع فيه أبداً ، فمعنى الحنيفية في الإسلام الميل إليه والإقامة على ذلك العقد.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)
أي فهم الذين ينبغي لهم أن يقولوا إنا على دين إبراهيم
ولهم ولاية.
(وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ). أي يتولى نصرهم لأن حزبهم هم الغالبون ، ويتولى
مجازاتهم بالْحُسْنى.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70)
أي وأنتم تشهدون أنها آياتُ اللَّه لأنكم كُنْتُمْ تُخْبرُونَ بأمْر النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل مَبْعَثِه ، وأصْل (لِمَ تَكْفُرُونَ) ، لِمَا تكفرون والمعنى لأي شيءٍ تكفُرون.
وكذلك (لم تَقولونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ) وكذلك (عم يتساءَلون)
و (فبم تبشرون) فإِذا وقفت على هذه الحروف وقفت بالهاءِ ، فقلت لمهْ ، وبمه ، لأن الألف حذفت في هذه الأسماءِ التي للاستفهام خاصة فجوز ذلك ، ولا يجوز

(1/427)


ذلك في الموصلة لأن الألف فيهن ليست آخر الأسماءِ إنما الألف وسط
وحذفها لأن حروف الجر عوض منها ، فحذفت استخفافاً ، لأن الفتحة دالة
عليها ، ولا يجوز إسكان هذه الحروف.
وزعم الكسائي أن الأصل كان في "كم" كما ، قال : وكنت أشتهي أن تكون
مفتوحة لالتقاءِ السَّاكنين في قولهم : " كم المال " - بالكسر - . وهذا غلط من أبي الحسن ، ولو كان كما - يقول لكان " كَمَ مالك " كما أنك تقول : (لِمَ فَعَلْتَ).
وليس هذا القول مما يعرج عليه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71)
أي لم تغطون - الحق بباطلكم وأنتم تعلمون أنه الحق ؛ يقال : لبست عليهم
الأمر ألبسه.
قال الله تعالى : (وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبَسُونَ).
ويقال : لَبِسْتُ الثوب ألْبَسُهُ ، وقال الله عزَّ وجلَّ : (وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا).
ولو قيل : (وتكتموا الحق) لجاز ، على قولك : لم تجمعون هذا وذاك.
ولكن الذي في القرآن أجود في الإعراب .

(1/428)


وقوله عزَّ وجلَّ : (وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72)
الطائفة الجماعة ، وهم إليهود.
(آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ).
أي أولَهُ.
قال الشاعر :
مَنْ كَانَ مَسْروراً بمَقْتَل مالكٍ . . . فليأتِ نِسْوتَنَا بوجْه نَهَارِ
يجد النساءَ قَوائماً يَنْدُبْنَه . . . قد جِئنَ قبْل تَبَلُّج الأسْحارِ
أي في أول النهار . -
وقد قيل في تفسير هذا غير قول ، قال بعضهم : معناه ، آمنوا بصلاتهم إلى
بيت " المقدس وأكفروا بصلاتهم إلى البيت.
وقيل : إن علماءِ إليهود قال بعضهم لبعض : قد كنا نخبر أصحابنا بأشياء
قد أتى بها محمد - صلى الله عليه وسلم - فإن نحن كفرنا بها كلها اتهمنا أصحابنا ولكن نؤمن ببعض ونكفر ببعض لنوهمهم أننا نصدقه فما يصدق فيه ، ونريهم أنا نكذبه فيما ليس عندنا .

(1/429)


وقيل إنهم إتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - في صدر النهار فقالوا له : إنك الذي خبرْنا في التوراة بأنك مبعوث ، ولكن أنظرنا إلى العشي لننظر في أمرنا ، فلما كان بالعشي أتوا الأنصار فقالوا لها : قد كنا أعلمناكم أن محمداً هو النبي الذي هو المكتوب في التوراة ، إلا أننا نظرنا في التوراة فإذا هو من (ولد هارون ومحمد من ولد إسماعيل) فليس هو النبي الذي عندنا . -
وإنما فعلوا ذلك لعل من آمن به يرجع فهذا ما قيل في تفسير الآية.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73)
قيل : . المعنى لا تجعلوا تصديقكم النبي في شيء مما جاءَكم به إِلا
لليهود ، فإنكم إن قلتم ذلك للمشركين كان عوناً لهم على تصديقه
وقال أهل اللغة وغيرهم من أهل التفسير : ولا تؤمنوا أن يؤتى أحد مثل
ما أوتيتم إلا لمن تبع دينكم ، أي لا تصدقوا أن يعطى أحد من علم النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل ما أعطيتم (أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ).
ومعنى (أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ) : أي ليس يكون لأحد حجة عند اللَّه في
الإيمان به لعلم من عنده . إلا من كان مثلكم.
وقد قيل في المعنى : (قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ).
أي الهدى هو هذا الهدى ، لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم .

(1/430)


قال بعض النحويين معنى : " أن " ههنا معنى " لا " وإنما المعنى أن لا
يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ، أي لأن لا تؤتى فحذف " لا " لأن في الكلام دليلًا
عليها ، كما قال اللَّه عزَّ وجلَّ : (يُبَين اللَّهُ لَكُمْ أنْ تَضِلوا) أي لئلا تضلوا.
قال أبو العباس محمد بن يزيد : " لا " ليست مما يحذف ههنا ولكن
الإضافة ههنا معلومة ، فحذفتَ الأول وأقمتَ الثاني مقامه ، المعنى يبين الله
لكم كراهة أن تضلوا وكذلك ههنا قال : إن الهدى هدى اللَّه كراهة أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم : أي من خالف دين الإسلام ، لأن اللَّه لا يهدي من هو كاذب كفار ، فهدى الله بعيد من غير المؤمنين.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ).
أي نبوته وهداه يؤتيه من يشاءُ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)
اتفق أبو عمرو ، وعاصم والأعمش وحمزة على إسكان الهاءِ من
(يؤده) وكذلك كل ما أشبه هذا من القرآن اتفقوا على إسكان الهاء فيه ، نحو
(نُصْلِهِ جَهَنَّمَ) و (نُؤتهِ مِنْهَا)
وقوله : (مَا تولى) إِلا حرفاً حُكي عن

(1/431)


أبي عمرو.
وحكى أبو عبيدة عن أبي عمرو إنَّه كسر في (أَلْقِهْ إِلَيْهِمْ)
ولا فصل بين هذا الحرف وسائر الحروف التي جزمها.
أما الحكاية عن أبي عمرو فيه وفي غيره فغلط.
كان أبو عمرو يختلس الكسرة ، وهذا كما غلطَ عليه في
(بَارِئْكُمْ) حكى القراء عنه أنه كان يحذفَ الهمزة فى بارئكم.
وحكى سيبويه عنه - وهو في هذا أضبط من غيره - أنه كان يكسر كسراً
خفياً ، وأمَّا نافع وقُراءُ أهل المدينة فأشبعوا هذه الحروف فكسروا وأثبتوا
الياءات مثل (يؤده إليك) وهذا الإسكان الذي حكى عنه هُؤلاءِ غلط بين لا
ينبغي أن يقرأ به لأن الهاءَ لا ينبغي أن تجزم ولا تسكن في الوصل إنما تسكن
في الوقف.
وَفي هذه الحُرُوفِ أربعة أوجُهِ ، يجوز إثْبات اليَاءِ ، وَيجُوز حَذْفهَا
تقول : يؤَده إليك بالكسر ، ويجوز : يَؤدِّ هُو إليْكَ بالضم بإثبات الواو بعد
الهاءِ ، ويجوز حذف الواو وضم الهاءِ . فأما الوقف فلا وجه له ، لأن الهاءَ
حرف خفي بُيِّن في الوصل بالواو في التذكير ، قال سيبويه دخلت الواو فِي
التذكير كما دخلت الألف في التأنيث ، (نحو) ضربتهو وضربتها ، قال
أصْحَابه اختيرت الواو لأنها من طرف الشفتين والهاء من الحلق ، فأبَانَتْ الواو

(1/432)


الهاءَ ، وإنْمَا ، تحذف الياءُ لعلة تقلب الواو إليها ، فاذا حذفت الياءُ بقيت
الكسرة فأما في الوقف فلا يجوز ألبتَّة.
وقد أكثر الناس في تفسير القنطار ، وقد حكينا ما قال الناس فيه.
ولم يتفقوا على تحديد في مقدار وزنه إلا أنهم قد اتفقوا في أنه الكثير من
المال.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا) :
أكثر القراءَة (دُمْتَ) بضم الدال ، وقد قرتتْ (دِمْت) فأما دُمْت فمن قولك.
دُمْت أدُوم إدْا بقيت على الشيءِ مثل قمتُ أقوم ، وأما دِمْتُ - بالكسر - فعلى قولهم دِمْتَ تَدَام ، مثل قولك : خِفْتَ تُخَافُ ، ويقال قد ديم بفلان وأديمَ به بمعنى دِيرَ به وأدِير به ، وهو الذي ، به دُوامْ كقولهم : به دُوَام كقولهم : به دوار . ويقال دام المال إذا سكن يدوم فهو دائم ومنه :
" نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يُبَال في الماءِ الدائِم "
أي الساكن ، ويقال قد دوَّم الطائر في الجو تدويماً ، وهو
يصلح أن يكون من وجهين ، من دورانه في طيرانه ويصلح أن يكون من قلة
حركة جناحه ، لأنه يرى كأنه ساكن الجناح.
ومعنى : (قائماً) أي إلا بدوامك قائماً على اقتضاء دينك.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (ذلِكَ بِأنَّهمْ قَالُوا).
أي فعلهم ذلك ، بقولهم (لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ)
أي ليس علينا طريق في أخذ مَالِهمْ

(1/433)


وصف اللَّه عزَّ وجلَّ : أكلَهُمُ السحْت وخيانتهم ، وقد قيل في التفسير :
إنهم عاملوا قوماً من المشركين فلما انتقلوا إلى الإسلام قالوا ليس علينا لكم
سبيل إنما عاملناكم وأنتم على دينكم ذلك . فأعلم اللَّه أنهم يكذبون ، قال
عزَّ وجلَّ : (ويقُولُونَ على اللَّهِ الكَذِبَ وهُمْ يعْلَمُونَ).
أي وهم يعلمون أئهم يَكْذِبُونَ . فرد اللَّه قولهم فقال : ِ (بَلَى) : وهو
عندي - واللَّه - أعلم - وقف التمام ، ثم استأنف فقال عزَّ وجلَّ :
(مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76)
أي فإن اللَّه يحبه ، ويجوز أن يكون استأنف
جملة الكلام بقوله بلى لأن قولهم : ليس علينا فيما نفعل جناح.
كقولهم نحن أهل تقوى في فعلنا هذا - فأعْلَمَ اللَّه أن أهل الوفاءِ بالعهد والتُّقَى يحبهم اللَّه ، وأنهم المتقون ، أي الذين يتقون الخيانة والكفر بالنبي - صلى الله عليه وسلم -.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77)
(أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ)
هذه الجملة خبر (إِنَّ) ، ومعنى الخَلاق النصيب الوافر من الخير.
ومعنى قوله : (لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) :
في قوله : (لا يكلمهم الله) وجهان.
أحدهما أن يكون إسْماع الله أولياءَه كلامه بغير سفير ، خصوصية يخص اللَّه بها أولياءَه كما كلم موسى فكان ذلك خصوصية له دون البشر أجمعين ، وجائز أن يكون (ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم) تأويله الغضب عليهم ، والإعراض عنهم كما تقول : " فلان لا ينظر إلى فلان ولا يكلمه ، وتأويله أنه غضبان عليه ، وإن كلمه بكلام سوء لم ينقض ذلك.
ومعنى (وَلَا يُزَكيهِمْ) : لا يجعلهم طاهرين ولا يثني عليهم خيراً.
ومعنى (عَذَابٌ أَلِيمٌ) : أي موجع.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78)
هذه اللام في (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا) تؤكد الكلام زيادة على توكيد (إِنَّ) لأن

(1/434)


(إنَّ) معناها توكيد الكلام ، ولذلك صار لضم يوصل بها في الإيجاب ، تقول :
واللَّه أن زيداً قائِم ، وكذلك تصل الضم باللام ، فيقول واللَّه لزيد قائم ولا تلي هذه اللام (إن) لا يجوز : " إن لزيداً قائم " بإجماع النحوين كلهم وأهل اللغة.
ومعنى (يلوون ألسنتهم بالكتاب) : أي يحرفون الكتاب ، أي يعدلونْ عن
القصد ، (ويجوز يُلَوُّونَ - بضم الياءِ والتشديد)
(لتَحْسَبْوُه ، و - لتْحسِبُوه) - بكسر السين وفتحها - يقال حسِبَ يَحْسَبُ ويَحْسِبُ ، جميعاً ، ويقال لويت الشيءَ إذا
عَدلته عن القصد ليًّا ولويت الغريم لِيَاناً إذا مَطَلْتُه بدينه
قال الشاعر :
قد كنت داينت بهاحساناً . . . مخافة الإفلاس والليانا
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ) (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79)
أي أنْ اللَّه لا يصطفى لنبوته الكذبة ، ولو فعل ذلك بشر لسلبه اللَّهُ
عزَّ وجلَّ : آيَات النبوة وعلاماتها
ونصب (ثُمَّ يَقُولَ) : على الاشتراك بين أن يْؤتيه
وبين يقول ، أي لا يجتمع لنبي إتيان النبوة والقول للناس كونوا عباداً لي.
(وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ) والربانيون أرباب العلم . والبيان . أي كونوا أصحاب
علم ، وإنما زيدت الألف والنون للمبالغة في النسب ، كما قالوا للكبير اللحية لَحياني ولذي الجمة الوافرة جُماني.
وقد قرئَ - (بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ). (تُعَلِّمُونَ) - بضم التاءِ وفتحها.
(وبما كنتم تَدْرُسُونَ) أي بعلمكم ودرْسِكُمْ عَلِّمُوا الناس وبيِّنوا لهم.
وجاءَ في

(1/435)


التفسير (كُونُوا رَبَّانِيِّينَ) أي : علماءَ فقَهاءَ ليس مَعْنَاه كما تعلمون فقط ، ولكن ليكن هديكم ونيتكم في التعليم هدى العلماء والحكماء ، لأن العالم إنما ينبغي أن يقال له عالم إذا عمل بعلمه ، وإلا فليس بعالم ، قال اللَّه :
(وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ)
ثم قال : (وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)
أي لو كانوا وَفُّوا العلمَ حقه - وقد فسرنا ما قيل في هذا في
مكانه.
* * *
ومعنى : (وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)
أي ولا يأمركم أن تعبدوا الملائكة والنبيين لأن الذين قالوا : إن عيسى
عليه السلام إله عبدوه وائخذوه ربًّا ، وقال قوم من الكفار إن الملائكة أربَابُنَا ، ويقال إنهُم الصابئون ، ويجوز الرفع في (وَلَا يَأمُركُم) أي لا يأمركم اللَّه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81)
موضع (إذ) نصب -
المعنى - واللَّه أعلم - واذكر في أقاصيصك (إِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ) - إلى قوله (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ).
" ما " ههنا على ضربين : - يصلح أن يكون للشرط والجزاءِ وهو أجود الوجهين ، لأن الشرط يوجب أن كل ما وقع من أمر الرسل فهذه طريقته ، واللام دخلت في ما كما تدخل في " إنْ " التي للجزاءِ إذا كان في جواب القسم ، قال اللَّه عزَّ وجلَّ :

(1/436)


(وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ)
وقال : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ).
فاللام في "إن " دخلت مؤكدة موطدة للام القسم . ولام القسم هي التي
لليمين لأن قولك : واللَّه لئن جئتني لأكرمنك . . . إنما حلفك على فعلك إلا أن الشرطْ معلق به فلذلك دخلت اللام على الشرط فإذا كانت ما في معنى الجزاءِ فموضعها نصب بقوله (لما آتيتكمْ)
والجزاءُ قوله (لَتومِنن به)
ويجوز أن يكونَ في معنى الذي ويكون موضعها رفعاً.
المعنى أخذ اللَّه ميثاقهم أي استحلفَهم للذي آتيتكم ، والمعنى آتيتكموه
(لتومنن به) فتكون ما رفعا بالابتداءِ ويكون خبر الابتداء (لتْؤمنن به)
وحذفت الهاءُ من (لما آتيتكم) لطول الاسم.
فأعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ : أنه عهد إلى كل رَسُول أنْ يؤمِنَ بغيره من الرسل فصارَ العهد مشتملاً على الجماعة أن يؤْمن
بعضهم ببعض وأن ينصر بَعْضُهُمْ بعضاً.
ومعنى قوله : (فاشْهَدُوا وَأنَا مَعكُمْ من الشاهِدِينَ)
أي فتبينوا لأن الشاهد هو الذي يصحح دعوى المدعي وشهادة اللَّه للنبيين تبيينه أمر نبوتهم بالآياتِ المعجزات.
ويجوز - وقد قرئَ به - (لمَا آتيتكم) فتكون اللام المكسورة معلقة
بقوله أخَذَ المعنى أخذ الميثاق لآتيانِكُمْ الكِتَاب والحكمة.
وقرأ بعضهم (لما آتَيْنَاكم من كتاب وحكمة) أي لما آتيناكم الكتاب والحكمة أخذَ الميثاقَ ويكون الكلام يُؤول إلى الجزاءِ - كما تقول : لما جئْتني أكرمتك .

(1/437)


وقوله عزَّ وجلَّ : (فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82)
ذلك إشارة إلى أخذ الميثاق بالمعنى : (فمن تولى) أي أعرض عن الإيمان بعد
أخذ الميثاق على النبيين.
وأخْذُ الميثاق على النبيين مشتمل على الأخذ على
أممهم ، أي فمن تولى بعد أخذ الميثاق وظهور آيات النبي - صلى الله عليه وسلم - (فَأولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ) أي : الذين خرجوا عن القصد
وعن جملة الإيمان.
ويصلح أن تكون (همْ) ههنا اسماً مبتدأ ، و (الفاسقون) خبرهُ
و " هم " " مع " الفاسقون خبر أولئك.
وصلح أن يكون (الفاسقون) مرتفعاً بأولئك " وهم " فصل -
وهو الذي يسميه الكوفيون العماد.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)
أي أفغير دين اللَّه يطلبون ، لأنه قد بين أنه دين اللَّه وأنهم كفروا وعاندوا وحسدوا بغياً - كما فعل إِبليس.
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا).
جاءَ في التفسير أنه أسلم من في السَّمَاوَات كلهم طوعاً ، وأسلم بعض من في
الأرض طوعاً وبعض كرهاً.
لما كانت السنة فيمن فُرِض قتاله من المشركين أن
يقاتَلَ حتى يسلم سمي ذلك كرهاً ، وإن كان يسلم حين يسلم طائعاً ، إلا أن
الوصلة كانت إلى ذلك بِكُرهٍ ، ونصب (طوعاً) مصدراً ، وضع موضع الحال.
كأنه أسلموا طائعين ومكرَهين ، كما تقول جءتك ركضاً ومشياً ، وجئت راكضاً وماشياً ، ويجوز أن يكون واللَّه أعلم - على معنى وله أسلم من في السَّمَاوَات والأرض طوعاً وكرهاً - أي خضعوا من جهة ما فطرهم عليه ودبرهم به ،

(1/438)


لا يمتنع ممتنع من جِبِلَّةٍ جبل عليها ، ولا يقدرعلى تغييرها أحب تلك الجِبِلَّةَ أو
كرهها.
(وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ). يدل على تصديق هذا القول.
لأن المعنى إنَّه بدأكم على إرادته شئتم أو أبيتم.
وهو يبعثكم كما بدأكم.
فالتأويل : أتبغون غير الدين الذي هذه صفته.
ثم أمر اللَّه - عز وجل - النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمته أن يقولوا آمناً باللَّهِ وما أنزل علينا ، وأن يقولوا ويعتقدوا إنهم لا يفرقون بين جميع الرسل في الإيمان بهم . لا يكفرون ببعضهم كما فعلت إليهود والنصارى ، وأعلم اللَّه أنه لا يقبل ديناً غير دين الإسلام ولا عملاً إلا من أهله.
فقال عز وجلَّ : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)
(يَبْتَغِ) جزم بمن - وقوله : (فَلَنْ يُقْبَل مِنْهُ) الجواب.
ومعنى (من الخاسرين) أي ممن خسر عمله ، والدليل على ذلك قوله
عزَّ وجلَّ : (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ)
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86)
يقال إنها نزلت في قوم ارتدوا ثم أرادوا الرجوع إلى الإسلام ونيَّتهم
الكفر . فأَعلم اللَّه أنَّه لا جهة لهدايتهم لأنهم قد استحقوا أن يضلوا بكفرهم ، لأنهم قد كفروا بعد البينات التي هي دليل على صحة أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقيل إنها نزلت في إليهود لأنهم كفروا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - بعد أن كانوا - قبل مبعثه - مؤمنين.
وكانوا يشهدون بالنبوة لَهُ فلما بعث عليه السلام - وجاءَهم بالآيات المعجزات وأنبأهم بما في كتبهم مما لا يقدرون على دفعه ، وهو - أُمِّيٌّ - كفروا به بغياً وحسداً ،

(1/439)


فأَعلم اللَّه أن جزاءَهم اللعنة ، فقال :
(أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87)
ومعنى لعن الناس (أجمعين) لهم أن بعضهم يوم القيامة يلعن بعضاً
ومن خَالَفهم يلعنهم ، وتأويل لعنة اللَّه لهم تبعيده إياهم من رحمته وثنائه
عليهم بكفرهم.
* * *
(خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (88)
ومعنى : (خَالِدِينَ فِيهَا أبَدَاً).
أي : فيما توجبُه اللعنة أي في عذاب اللعنة (لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ) أي لا يؤَخرون عن الوقت.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89)
أي أظهروا أنهم كانوا على ضلال وأصلحوا ما كانوا أفسدوه وَغرُّوا به مَنْ
اتَبَعَهُمْ ممَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَه (فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
أعلم اللَّه عزَّ وجلَّ أن من سعة رحمته وتفضله أن يغفو لمن اجترأ عليه هذا
الاجتراء لأن هذا ما لا غاية بعده ، وهو أنه كفر بعد تبين الحق.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90)
يقال في التفسير أن هَؤُلَاءِ هم النفر الذين ارتدوا بعد إِسلامهم ثم أظهروا

(1/440)


أنهم يريدون الرجوع إلى الإسلام ، فأظهر اللَّه أمرهم لأنهم كانوا يظهرون أنهم يرجعون إلى الإسلام وعندهم الكفر - والدليل على ذلك - قوله - عزَّ وجلَّ : (وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ)
لأنهم لو حققوا في التوبة لكانوا غيرَ معتدين ، ويدل على
ذلك قوله عزَّ وجلَّ : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (91)
لأن الكافر الذي يعتقد الكفر ويظهر الإيمان عند اللَّه كمظهر الكفر لأن
الإيمان هو التصديق والتصديق لا يكون إلا بالنية.
ومعنى : (فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أحَدِهِمْ مِلْءُ الأرْضِ ذَهَباً).
أي لو عمل من الخير وقدم ملء الأرض ذهباً يتقرب به إلى اللَّه لم ينفعه
ذلك مع كفره.
قال أبو إسحاق : وكذلك لو افتدى من العذاب بملءِ الأرض ذهباً لم يقبل
منه . فأعلم اللَّه عزَّ وجلَّ أنه لا يُثيبُهُمْ على أعمالهم بالخير ولا يقبل منهم الفداءَ من العذاب.
وقال بعض النحويين أن الواو مسقطة - قال المعنى فلن يُقبل من أحدهم
ملءُ الأرض ذهباً لو افتدى به - وهذا غلط لأن الفائدة في الواو بينة وليست
الواو مما يلغي .

(1/441)


يقال ملأت الشيء أملؤه مَلئاً ، المصدر بالفتح لا غير -
قال سيبويه والخليل : الملءُ - بفتح الميم - الفعل.
وتقول : هذا ملءُ هذا أي مقدار ما يملؤُه.
كما يقال : رَعَيْت رَعْياً والمال في الرعي فهذا فرق بين.
وقال بعض النحويين : يقال مَلأتُ مَلْئاً ومُلْئاً وهذا غلط بين لأن
الموصوف ههنا إنه لو ملك مقدار ما يملأ الأرض ما قبل منه ، وليس يقال . إن قدر أن يفعل ، أي أن يملأ الأرض ، إنما المتقرب به الذهب الذي هو ملءُ
الأرض ، لا أن يَملأ :
يقال ملأت الشيء مَلْئاً وقد مَلئَ فلان مَلأً وهو مملوءٌ إذا زكم
والملأ أشراف القوم ، وتَقول أنت أملأ بهذا أي أثرى وأوثق ، ورجل مَلِيءٌ بين الملاءَة ، يا هذا.
فأما ما يكتبه الكتاب ، أنت المَلِيُّ بالياءِ فخطأ وهم مجمعون عليه ، هذا غلط . والمُلَاءَةُ التي تلبس ، ممدود ، والمُلَاوَةُ من الدهر القطعة الطويلة ، ومن هذا قولهم . أبْلِ جَديداً وتَمَل حَبيباً أي عش مع حبيبك دهراً طويلًا.
و (ذهباً) منصوب على التمييز - قال سيبويه وجميعُ البصريين : إن الاسم المخفوض قد حال بين الذهب وبين الملء أنْ يكون جرًّا
وحقيقة تفْسيره : أن المعنى ما يملؤُهُ من الذهب
وكذلك إذا قلت : عندي عشرون درهماً أي ما يُعادِل هذا المقدارَ من الدراهِم.
وجائز أن يكون - واللَّه أعلم قوله - عزَّ وجلَّ - : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90).

(1/442)


يعني إليهود لأنهم كانوا تائبين في وقت إيمانهم بالنبي - صلى الله عليه وسلم - قبل مبعثه ، فأعلم اللَّه أن تلك التوبة وذلك
الإيمانَ ليْسَ بمقبُول ، لأنهم كفروا بعده وزادوا كفراً ، فإن كفرهم بما كان ينزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - وقتاً بعد وقت زيادة في الكفر - وكذلك الِإقامة عليه زيادة فيه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)
قال بعضهم : إِن كل ما يتقرب به إلى اللَّه من عمل خير فهو إنفاق.
وروي عن ابن عمر أنه اشترى جارية كان هَوِيهَا فلمَّا ملكَها أعْتقهَا ولمْ يُصِبْ
منها.
فقيل له : أعْتقْتهَا بعد أن كنتَ هويتَها ولم تصب منها.
فتلا هذه الآية (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا).
وفعل ابن عمر هذا ينبغي أن يقْتَدِيَ به الناس
في أن لا يضنوا بجليل ما يملكونه في التقرب به إلى اللَّه تعالى
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ).
أي فإن اللَّه يجازي عليه لأنه قال : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7)
فإذا عمله جوزي عليه.
وتأويل (ما) تأويل الشرط والجزاءِ ، وموضعها نصب بـ " تنفقوا " المعنى.
وأي شيء تنفقوا فإن اللَّه عليم به والفاء جواب الجزاءِ.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93)
موضع " ما " نصب ، المعنى إلا الطعام الذي حرَّمه إسرائيل على نفسه.
ويروى : أنه وجد وجعاً ، وقيل في التفسير : إن ذلك الوجع كِان عرق النساءِ

(1/443)


فنذر إِنْ أبرأه اللَّه أن يترك أحبَّ الطعام والشراب إِليه.
وكان أحب الطعام والشراب إِليه لحومَ الِإبل وألبانَها ، فحرم اللَّه ذلك عليهم بمعاصيهم كما قال : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ).
وأعلم الله أن الذي حرمه إسرائيل على نفسه كان من قبل أن تنزل
التوراة ، وفيه أعظم آية للنبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه أنبأهم بأنهم يدعون أن في كتابهم ما ليس فيه ، ودعاهم مع ذلك إِلى أن يأتوا بكتابهم فيتلوه لِيُبَينَ لهم كذبهم فأبوا.
فكان إِبَاؤُهم دليلاً على علمهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد صدق فيما أنبأهم به ، ولو أتَوْا بِها لم يَكونوا يَخْلونَ من أحد أمرين : إما أن يزيدوا فيها ما ليس فيها في ذلك الوقتْ فيعلم بعضهم أنه قد زيد ، أو ينزل اللَّه بهم عقوبة تبين أمرهم ، أو أن يأتوا بها على جملتها فيعلم بطلان دعواهم منها . فقصتهم في هذه الآية كقصة النصارى في المباهلة.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94)
أي من بعد ما ذكرنا من ظهور الحجة في افترائه : (فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ - (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96)
قيل : إنه أول مسجد وضع للناس ، وقيل : إنه أول بيت وضع للحج.
ويقال : إنه البيت المعمور وأن الملائكة كانت تحجه من قبل آدم ، وإنه البيت
العتيق . فأما بناؤُه فلا شك أن إبراهيم بناه.
قال اللَّه تعالى : (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا) أي يَقولان : رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا.

(1/444)


فأما المقْدِس فسليمان بناه . وخبر (إِنَّ) هو (لَلَّذِي بِبَكَّةَ).
وهذه لام التوكيد ، وقيل : إن بكة موضع البيت وسائر ما حوله مكة . والإجماع أن بكة ومكة الموضع الذي يحج الناس إِليه ، وهي البلدة ، قال اللَّه - عزَّ وجلَّ : ((بِبَطْنِ مَكةَ) وقال : (لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا).
فأما اشتقاقه في اللغة : فيصلح أن يكون الاسم اشتق من إلَبك ، وهوبك
الناس بعضُهم بعضاً في الطواف أي دفع بعضهم بعضاً ، وقيل : إنما سميت
ببكة لأنها تبك أعناق الجبابرة.
ونصب (مُبَارَكًا) على الحال.
المعنى : الذي بمكة في حال بركته.
(وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ) يجوز أن يكون هُدًى لِلْعَالَمِينَ في موضع رفع.
المعنى : وهو هدى للعالمين.
فأماَ مكة - بالميم فتصلح أن يكون اشتقاقها كاشتقاق بكة والميم تبدل
من الباءِ ، يقال : ضربة لازب ولازم ، ويصلح أن يكون الاشتقاق من قولهم : " امْتَكَّ الفصيل " ما في ضرع الناقة إذا مص مصاً شديداً حتى لا يُبْقِي فيه
شيئاً . فتكون سميت بذلك لشدة الازدحام فيها -
والقول الأول أعني البدل أحسن.
ومعنى(أَوَّلَ) في اللغة - على الحقيقة ابتداءُ الشيءِ فجائز أن يكون
المبتدأ له آخر ، وجائز أن لا يكون له آخر فالواحد أول العدد والعدد غير متناه ، ونعيم الجنة أول وهو غير منقطع ، وقولك : هذا أول مال كسبته جائز ألا يكون

(1/445)


بعده كسب ، ولكن إرادتك : (هذا ابتداءُ كسبي).
ولو قال قائل : أولُ عبد أملِكُه فهو حرٌّ ، فملك عبداً أعتق ذلك العبد ، لأنه قد ابتدأ الملك فجائز أن يكون (أَوَّلَ بيتٍ) هو البيت الذي لم يكن الحج إلى غيره.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)
قد رويت عن ابن عباس أنَّه قرأ (آية بينة مَقَامُ إبْرَاهِيمَ) جعل مقام
إبراهيم هو الآية ، والذي عليه الناس : (فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ)
والمعنى : فيه آيات بينات : تلك الآيات مقام إبراهيم ، ومن الآيات أيضاً : أمنُ من دخله ، لأن معنى (وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً) يدل على أن الأمن فيه.
فأما رفع (مَقَامُ إبْرَاهِيمَ) فعلى أن يكون على إضمار هي مقام إِبراهيم.
قال النحويون : المعنى فيها مقام إبراهيم وهذا كما شرحنا ، ومعنى أمنِ من
دخله : أن إبراهيم عليه السلام سأل اللَّه أن يؤمِّن سكان مكة فقال :
(رب اجعل هذا بلداً آمناً) . . فجعل اللَّه عزَّ وجلَّ أمن مكة آية لإبراهيم وكان الناس يتخطفون حول مكة ، قال اللَّه : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) فكان الجبار إدْا أراد مكة قصمه اللَّهُ.
قال اللَّهُ عزَّ وجلَّ : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ)
وكانت فارس قد سبت أهل بيت المقدس فأمَّا أهل مكة فلم يطمع فيهم جبار.
ويقال : قد أمن الرجل يأمن أمْناً وأماناً.
وقد رويت إمناً ، والأكثر الأفصح : (أمْن) بفتح الألف قال اللَّه عزَّ وجلَّ (وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا).

(1/446)


وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ).
يقرأ بفتح الحاءِ وكسر الحاءِ والأصل الفتح : يقال : حججت الشيءَ
أحْجه حَجا إذا قصدته . .
والحِج اسم العمل - بكسر الحاءِ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا).
موضع مَنْ خفض على البدل من " الناس " المعنى : وللَّهِ على من
استطاع من الناس حج البيت أن يحج.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ).
قيل فيه غير قول : قال بعضهم من كفر : من قال إن الحج غير مفترض.
وقال بعضهم : من أمكنه الحج فأخره إلى أن يموت . وهو قادر عليه فقد
كفر . وقيل : إِنها إنما قيلت لليهود لأنهم قالوا : أن القصد إلى مكة غير واجب في حج أو صلاة.
فأما الأول فمجمع عليه . ليسِ بين الأمة اختلاف في أن من
قال : إن الحج غير واجب على من قدر عليه كافر.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99)
أي تبغون لها العوج ، يقال في الأمر والدين عوج وفي كل شيءٍ مائل
عوج ، والعرب تقول : ابغني كذا وكذا ، أي أطلبه لي ، وتقول : أبَغِنِي كذا
وكذا بفتح الألف تريد أعني على طلبه أي أطلبه معي كما تقول :
أعْكِمْنِي وأحْلِبْني أي أعِنَي على العَكْمِ والحَلْبِ.
ومعنى : (وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ) أي وأنتم تشهدون بما قد ثبت في نفوسكم أن
أمر النبي حق واللَّه غير غافل عن عملكم .

(1/447)


وقوله عزَّ وجلَّ : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100)
يعني بالفريق الصنف ، الذين كفروا ، أي إن قلدتموهم ردوكم كافرين ، أي
وإن كنتم على غير دينهم وكنتم في عقدكم ذلك كافرين فكذلك إن أطعتموهم او اتبعتوهم فأنتم كافرون.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)
أي على أي حال يقع منكم الكفر وآيات اللَّه التي أتى بها النبي - صلى الله عليه وسلم - دالة على توحيد اللَّه ونبوة
النبي - صلى الله عليه وسلم - تتلى عليكم وفيكم رسوله يبين لكم هذه الآيات ، وجائز أن يقال فيكم رسوله والنبي شاهد ، وجائز أن يقال لنا الأن فيكم رسول اللَّه لأن آثاره وعلاماته والقرآن الذي أتى به فينا وهو من الآيات العظام.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (وَمَنْ يَعْتَصِمْ باللَّهِ).
أي من يمتنع باللَّه ، ويستمسك بحبل اللَّه (فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ).
و " يعتصم " جزم بمن . والجواب : (فَقَدْ هُدِيَ) ، ومعنى اعتصمت بكذا وكذا في اللغة : استمسكت وامتنعت به من غيره
وكذلك (لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أمْرِ اللَّهِ)
ومعنى : (سَآوِي إلَى جَبلٍ يَعْصِمُنِي من الماءِ) أي يمنعني من الماءِ أي
لاذا عِصمة ولاذا امتناع من اللَّه.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)
أي اتقوه فيما يحق عليكم أن تتقوه فيه.
قال بعضهم (حَقَّ تُقَاتِهِ) : أن يطاع

(1/448)


فلا يعصي وأن يذكر فلا ينسى ، ومعنى يذكر فلا ينسى : أن يذكر عند ما يجب من أمره فلا يتجاوز أمره.
وقال بعضهم هذه الآية منسوخة نسخها قوله جلَّ وعزَّ :
(فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا).
وتقاة : أصلها وقاة وهي من وقيت إلا أن الواو لم تأت في هذا المثال
على أصلها ، ولم يقل في هذا المثال شيءُ إِلا والتاء فيه مبدلة من الواو وكذلك قالوا تخمة إِنما هي من الوخامة ، وكذلك قالوا : في فُعال نحو التراث والتجاه ، وتجاه في معنى المواجهة.
وهذا المثال فيه أوجه : إِذا بنيت فُعْلَة من وقيت قلت تقاة وهو الذي يختاره
النحويون ، ولم يأتِ في اللغة على هذا المثال شيءٌ إِلا وقد أبدلت التاء من واوه.
ويجوز أن يقال وقاة ، وأَقاه لأن الواو إِذا انضمت وكانت أولا فأنت في
البدل منها بالخيار ، إِن شئت أبدلت منها همزة ، وإن شئت أقررتها على هيئتها ، وإن شئت في هذا المثال خاصة أبدلت منها التاءَ.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ).
لفظ النهي واقع على الموت والمعنى : واقع على الأمر بالِإقامة على
الِإسلام.
المعنى : كونوا على الإسلام فإِذا ورد عليكم الموت صادفكم على ذلك.
وِإنما جاز هذا لأنه ليس في الكلام لبس ، لأنه يعلم منه أنهم لا ينهون عما لا
يفعلون ، ومثله في الكلام ، " لَا أريَنكَ هَهُنَا " فالنهي واقع في اللفظ على المخاطبة والمعنى : لا تكونن ههنا فإن من كان هِهنا رأيته ولكن الكلام قصد به إِلى الِإيجاز والاختصار إِذ لم يكن فيه نقص معنى.
* * *
(وقوله جلَّ وعزَّ : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)

(1/449)


(جَمِيعًا) منصوب على الحال المعنى : كونوا مجتمعين على الإعتصام به.
وتفسير (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ) ، أي استمسكوا بعهد اللَّهِ.
والحبل في لغة العرب : العهد.
قال اَلأعشى.
وإِذا أجوز بها حبال قبيلة . . . أخذت من الأخرى إليك حَبالها
ومعنى (وَلَا تَفَرَّقُوا) : أي تناصروا على دين الله وأصل تفرقوا تتفرقوا
إلا أن التاءَ حذفت لاجتماع حرفين من جنس واحد في كلمة ، والمحذوفة الثانية لأن الأولى دالة على الاستقبال فلا يجوز حذف الحرف الذي يدل على
الاستقبال وهو مجؤوم بالنهي ، الأصل ولا تتفرقون فحذفت النون لتدل على
الجزم.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا).
ذكَّرهم اللَّه بعظيم النعمة عليهم في الإسلام لأنهم كانوا في جاهليتهم
يقتل بعضهم بعضاً ، ويستبيح كل غالب منهم من غلبه فحظر عليهم الإِسلام
الأنفس والأموال إلا بحقها ، فعرفهم اللَّه - عزَّ وجلَّ - ما لهم من الحظ في العاجل في الدخول في الإسلام .

(1/450)


وقيل نزلت في الأوس والخزرج . لأنهم كانت بينهم في الجاهلية حروب
دائمة قد أتت عليها السنون الكثيرة ، فأزال الإسلام تلك الحروب وصاروا
إخواناً في الإسلام متوادين على ذلك ، وأصل الأخ في اللغة أن الأخ مقصدُه
مقصد أخيه ، وكذلك هويْ الصداقة أن تكون إرادة . كل واحد من الأحخوين موافقة لما يريد صاحبه والعرب تقول : فلان يتوخى مسار فلان أي يقصد ما يسره.
وقوله جل وعلا : (وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ).
أي كنتم قد أشرفتم على النار وشفا الشيءُ ، حرفه مقصور يكتب
بالألف ، وثثنيته شفوان ، وقال - (فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا) ، ولم يقل منه لأن المقصود في الخبر النار . أي فأنقذكم منها بالنبي - صلى الله عليه وسلم -.
وقوله جل وعلا - (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ).
الكاف في موضع نصب . المعنى مثل البيان الذي يتلى عليكم يبين الله
لكم آياته.
ومعنى (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)
أي لتكونوا على رجاءِ هدايته.
* * *
وقوله جل وعلا : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)
اللام مسكنة وأصلها الكسر ، الأصل ولتَكن منكم ولكن الكسرة حذفت
لأن الواو صارت مع الكلمة كحرف واحد وألزمت الحذف ، وإِن قرئت

(1/451)


ولتكن - بالكسر - فجيد على الأصل ، ولكن التخفيف أجود وأكثر في كلام العرب.
ومعنى - (ولتكن منكم أمَّةٌ) - واللَّه أعلم - ولتكونوا كلكم أمَّة تدعون إلى
الخير وتأمرون بالمعروف ، ولكن " مِن " تدخل ههنا لتخص المخاطبين من سائر الأجناس وهي مؤَكدة أن الأمر للمخاطبين ومثل هذا من كتاب اللَّه
(فاجتنبوا الرجس من الأوثان) ليس يأمرهم باجتناب بعض الأوثان ، ولكن
المعنى اجتنبوا الأوثان فإِنها رجس ومثله من الشعر قول الشاعر :
أخو رغاتب يعطيها ويُسْالُها . . . يأبى الظلامة منه النوفل الزفر
أي هو النوفل الزفر ، لأنه قد وصفه بإعطاءِ الرغائب ، والنوفل الكثير
الِإعطاءِ للنوافل ، والزفر الذي يحمل الأثقال.
والدليل على أنهم أمروا كلهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قوله جل
وعلا : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ).
ويجوز أن تكون أمرت منهم فرقة ، لأن قوله (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ) ذكر الدعاة إِلى الِإيمان ، والدعاة ينبغى أن يكونوا علماءَ بما يدعون إِليه

(1/452)


وليس الخلق كلهم علماءَ والعلم ينوب فيه بعض الناس عن بعض ، وكذلك
الجهاد.
وقوله جل وعلا : (وَأولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ).
أي والذين ذكرناهم المفلحون ، والمفلح الفائز بما يغتبط به.
و (هم) جائز أن يكون ابتداءً و (المفلحون) خبر أولئك و (هم) فصل ، وهو الذي يسميه الكوفيون العماد.
* * *
وقوله جل ثناؤُه : (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105)
أي لا تكونوا كأهل الكتاب ، يعني به إليهود والنصارى وكتابهم جميعاً
التوراة ، وهم مختلفون ، كل فرقة منهم - وإن اتفقت في باب النصرانية أو
اليهودية - مختلفة أيضاً ، كالنصارى الذين هم نسطورية ويعقوبية وملكانية ، فأمر اللَّه بالاجتماع على كتابه ، وأعلم أن التفرق فيه يخرج أهله إلى مثل ما خرج إليه أهل الكتاب في كفرهم ، فأعلم الله أن لهم عذاباً عظيماً ، فقال : (وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ).
ثم أخبر بوقت ذلك العذاب فقال :
(يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106)
أي يثبت لهم العذاب ذلك اليوم ، وابيضاضها إشراقها وإسفارها ، قال
الله عزَّ وجلَّ : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39).
أسفرت واستبشرت لما تصير إِليه من ثواب الله ورحمته ، وتَسْوَدُ وُجُوهٌ اسودادها لما تصير إِليه من العذاب ، قال اللَّه : (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) .

(1/453)


والكلام . تسود وتبيض بفتح التاءِ - الأصل " تسودد " و " تبيَضِض إلا
أن الحرفين إذا اجتمعا وتحركا أدغم الأول في الثاني.
وكثير من العرب تكسر هذه التاء من تسود وتبيض والقراءَة بالفتح والكسر قليل إلا أن كئيراً من العرب يكسر هذه التاءَ ليُبيِّن أنها من قولك أبيض وأسود فكأن الكسرة دليل على أنه كذلك في الماضي.
وقرأ بعضهم " تَسْواد وتَبْياض " وهو جيِّد في العربية إلا أن المصحف ليست
فيه ألف فأنا أكرهها لخلافه على أنهُ قد تحذف ألفات في القرآن نحو ألف إبراهيم وإسماعيل ونحو ألف الرحمن ؛ ولكن الإجماع على إثبات هذه الألفات المحذوفة فى الكتاب في اللفظ ، وتبيَض وتسود إجماع بغير ألف فلا ينبغي أن يقرأ بإثبات الألف.
وقوله جل وعلا : (فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ).
تدل على أن القراءَة تسود ، ومن قرأ بالألف تسواد وتبياض وجب أن
يقْرأ : فأما الذين اسوادت وجُوههم.
وجواب أما محذوف مع القول.
المعنى فيقال لهم : (أكَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمَانِكُمْ).
وحُذفَ القولُ لأن في الكلام دليلاً عليه وهذا كثير في القرآن ، كقوله
عزَّ وجلَّ : (وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ).
المعنى يقولون :

(1/454)


(سَلَامٌ عَلَيْكُمْ).
وكذلك قوله : (وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا) المعنى يقولان : رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا -
هذه الألف لفظها لفظ الاستفهام ومعناها التقرير والتوبيخ.
وإنَّما قيل لهم (أكفرتم بعد إيمانكم) لأنهم كفروا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقد كانوا به مؤمنين قبل مبعثه.
وهذا خطاب لأهل الكتاب :
وقوله جلّ وعلا : (وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107)
(فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ).
أي في الثواب - الذي أصارهم اللَّه إليه برحمة - خالدون.
أعْلَمَ أنَّه إِنما يدخل الجنة برحمته وإن اجتهد المجتهد في طاعة اللَّه لأن نعم
اللَّه عزَّ وجلَّ دون الجنة لا يكافئها اجتهاد الآدميين.
وقال (فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ) وهو يريد ثواب رحمة اللَّه كما فال : (واسأل القريةْ)
المعنى أهل القرية ، كما تقول العرب بنو فلان يطؤُهم الطريق ، المعنى يطؤُهم مارة الطريق.
وذكر (فيها) ثانية على جهة التوكيد.
* * *
وقوله جل وعلا : (تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ (108)
أي تلك التي قد جرى ذكرها حُجَجُ اللَّه وعلاماته نتلوها عليك أي
نعرفك إياها وما اللَّه يريد ظلماً للعالمين أي من أعلم اللَّه أنه يعذبه فباستحقاق
يعذبه.
وقوله جل وعلا : (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109)
(وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ).
ولو كانت " وإليه ترْجِعُ الأمور " لكان حسناً ولكن إعادة اسم الله أفخم
وأوكد ، والعرب إذا جرى ذكر شيء مفخم أعادوا لفظه مظهراً غير مضمر ، أنشد النحويون قول الشاعر :

(1/455)


لا أرى الموتَ يَسْبِقُ الموتَ شيءٌ . . . نَغَّصَ الموتُ ذا الغِنَى والفَقيرا
فأعادوا ذكر الموت لفخامة في نفوسهم.
* * *
وقوله جل وعلا : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)
يعني به أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - وقيل في معنى (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ) كنتم عند الله في اللوح المحفوظ - وقيل كنتم منذ آمنتم خير أمة وقال بعضهم معنى (كنتم خير أمة) هذا الخطاب أصله إنَّه خوطب به أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يعم سائر أمَّة
محمد ، والشريطة في الخيرية ما هو في الكلام وهو قوله عزَّ وجلَّ :
(تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ).
أي توحدون اللَّه بالإيمان برسوله لأن من كفر بالنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يوحد اللَّه ، وذلك أنه يزعم أن الآيات المعجزات التي أتى بها النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذات نفسه.
فجعل غير الله يفعل فعل اللَّه.
وآيات الأنبياءِ ، لا يقدر عليها إلا اللَّه عزَّ وجلَّ.
ويدل على أن قوله : (وتؤْمنون باللَّه) : تقرون أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - نبي اللَّه.
قوله عزَّ وجلَّ : (وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ).
فأهل الكتاب كفروا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فصاروا كفاراً باللَّه فأعلم اللَّه أن بعضهم وهو القليل منهم آمن باللَّه فقال :
(مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ).
والفاسق الذي خرج عن أمر اللَّه .

(1/456)


ووعد اللَّه النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين في أهل الكتاب أنهم منصورون عليهم ، وأنه لا ينالهم من أهل الكتاب اصطلام ولا غلبة فقال : (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (111)
أي يْؤذونكم بالبهت والتحريف ، فأمَّا العاقبة فتكون للمؤمنين.
قال اللَّه - عزَّ وجلَّ - : (وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (12). يعني به أهل الكتاب ؛ وأعلمهم في هذه الآية أنهم إن قاتلوهم ولوهم الأدبار وسلبوا النصر وكذلك كان أمر إليهود.
* * *
وقوله جل وعلا : (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112)
والحبل العهد . فأَعلم اللَّه أنهم بعد عزٍّ كانوا فيه يبلغون في الذلة ما لا
يبلغه أهل مكة ، وكانوا ذوي منعة ويسار ، فأعلم اللَّه أنهم يذلون أبداً إلا أن
يعزوا بالذمة التي يعطونها في الإسلام . وما بعد الاستثناءِ ، ليس من الأول
أنهم أذلاءُ إلا أنهم يعتصمون بالعهد إذا أعطوه.
وأعلم اللَّه أنهم جعلتْ عقوبتهم هذه العقوبة الغليظة في الدنيا والآخرة
لتغليظ ما ركبوه فقال - جل وعلا : (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ).
وضع ذلك رفع بالابتداءِ المعنى أمرهم ذلك وحقهم ذلك بكفرهم.
وقتلهم الأنبياءَ وأعاد ذكر ذلك ثانية فقال : (ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يعْتَدُون).

(1/457)


الاعتداءُ المجاوزةْ في كل شيءٍ - مجاوزة القدر - المعنى حقها بكفرهم -
فأعلم . الله أنهم غير متساوين فقال :
(لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113)
(لَيْسُوا سَوَاءً)
وهذا وقف التمام.
أي ليس الذين ذكرنا من أهل الكتاب سواءً.
قال أبو عبيدة : (ليسوا سواء) جمع ليس ، وهو متقدم كما قال القائل :
أكلوني البراغيث وكما قال : عموا وصَمُّوا كثير منهم.
وهذا ليس كما قال لأن ذكر أهل الكتاب قد جرى ، فأخبر اللَّه أنهم غير متساوين فقال (ليسوا سواءً).
ثم أنبأ بافتراقهم فقال : (مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ).
قال أهل اللغة معنى قائمة مستقيمة ، ولم يبينوا حقيقة هذا وذكر الأخفش
المعنى أمة قائمة ، أي ذو أمةٍ قائمة والأمة الطريقة من أممت الشيءِ إذا قصدته.
فالمعنى واللَّه أعلم : من أهل الكتاب أمَّة قائمة ، أي ذوو طريقة قائمة.
قال النابغة الذبياني :
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة . . . وهل يأتمن ذو أمة وهو طائع
أي هل يأتمن ذو طريقة من طرائق الدين وهو طائع.
فإنما المعنى إنَّه لا يستوي الذين قتلوا الأنبياءَ بغير حق والذين يتلون آيات اللَّه آناءَ الليل وهم ذوو طريقة مستقيمة .

(1/458)


ومعنى (آناءَ الليل) ساعات الليل ، قال أهل اللغة واحد آناءِ الليل إنْي وآناءَ
مثل ، نِحْى وأنْحاءِ وأنشد أهل اللغة في ذلك قول الشاعر :
حُلوٌ وَمُرٌّ كطعم القدح مِرتهُ . . . بكل إنْي حداه الليلُ يَنْتَعِل
قالوا واحدها إِني مثل مِعْي وأمعاء ، وحكى الأخفش (إنْوُ).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَهُمْ يَسْجُدُونَ).
معناه وهم يصلون لأن التلاوة ليست في السجود ، وإنما ذكرت الصلاة
بالسجود لأن السجود نهاية ما فيها من التواضع والخشوع والتضرع.
ومعنى (يَتْلُونَ) فيَ اللغة يُتْبِعُونَ بعض الشيءِ بعضاً ، وقد اسْتَتْلَاكَ الشيءَ إذا
جعلك تَتْبَعَهُ
قال الشاعر :.
قد جعلت دلوى تستليني . . . ولا أحب تبع القرين
إن لم يُرد سماحتي وَليني
وقال بعض أهل اللغة : المعنى منهم أمة قائمة وامة على غير ذلك ، وأنشد
في ذلك قول الشاعر :
عصائي إليها القلب أني لأمره . . . سميع فيما أدري أرشد طلابها
ولم يقل أم هو في غَي لأن في الكلام دليلاً عليه ، قال : والعرب تضمر
هذا إذا عرفت مثل هذا - عرفت المعنى .

(1/459)


وهذا الذي قال خطأ فاحش في مثل هذا المكان ، لأن ذكر أهل الكتاب
قد جرى في هذه القصة بأنهم كانوا يكفرون بآيات اللَّه ، ويقتلون الأنبياءَ بغير
حق ، فأعلمَ اللَّهُ جلَّ وعزَّ أن منهم المؤْمنين الذين هم أمَّة قائمة ، فما الحاجة
إلى أن يقال غير قائمة وإنما المبدوءُ به ههنا ما كان من فعل أكثرهم من الكفر
والمشاقة للنبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر من كان مبايناً هُؤلاءِ وذكر في التفسير أن هذا يعني به عبد اللَّه بن سلام وأصحابه :
* * *
(يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114)
ومعنى (ويأمرون بالمعروف) ههنا أي يأمرون باتباع النبي - صلى الله عليه وسلم -
(وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) : عن الِإقامة على مشاقته - صلى الله عليه وسلم -.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115)
قرئت بالياءِ والتاءِ وكلاهما صواب - كما قال اللَّه عزَّ وجلَّ : (فمن يعمل
مثقال ذرة خيراً يره) - فالخطاب لسائر الخلق
ومن قال (فلن تُكْفَروه) فهو لهُؤلاءِ المذكورين وسائر الخلق داخل معهم في ذلك.
وموضع (يفعلوا) جزم بالشرط ، وهو (ما) والجواب (فلن يكفروه).
* * *
قوله عزَّ وجلَّ : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116)
أي لا تمنعهم أولادهم مما هو نازل بهم ، لأنهم مالوا إلى الأموال في
معاندتهم النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن الرياسة إنما قامت لهم - أعني - رؤَساءَ إليهود - بمعاندتهم النبي - صلى الله عليه وسلم - .

(1/460)


والدليل على أنهم كسبوا بذلك قوله جلَّ وعزَّ : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79).
ثم أعلم اللَّه عزَّ وجلَّ أن مثل ما ينفقونه في تظاهرهم على النبي - صلى الله عليه وسلم - في الضرر لهم :
(كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117)
والصر البرد الشديد.
(أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ) - أي زرع قوم ظلموا أنفسهم.
فعاقبهم اللَّه بإذهاب زرعهم - فأهلكته.
فأعلم أن ضرر نفقتهم عليهم كضرر هذه الريح في هذا الزرع وقيل إنَّه يعني
به أهل مكة حين تعاونوا وأنفقوا الأموال على التظاهر على النبي - صلى الله عليه وسلم -
وقال بعضهم : (مثل ما ينفقون) ، أي مثل أعمالهم في شِرْكِهِم كمثل هذه الريح.
وجعل فيها صر أي صوت ، وهذا يخرج في اللغة.
وإنما جعل فيها صوتاً لأنه جعل فيها ناراً كأنَّها نار أحرقت الزرع - فالصر
على هذا القول صوت لهيب النار ، وهذا كله غير مُمْتَنع.
وجملته أن ما أنفق في التظاهر على عداوة الدِّين مضر مهلك أهله في العاجل والأجل.
* * *
قوله جلَّ وعزَّ : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118)
" البطانة " الدخلاءِ الذين يستبطنون ويتبسط إليهم ، يقال فلان بِطانة
لفلان أي مداخل له ومُؤانس ، فالمعنى أن المؤمنين أمِروا ألا يداخلوا
المنافقين ولا إليهود ، وذلك أنهم كانوا لا يبقون غاية في التلبيس على

(1/461)


المؤمنين . فأمروا بألا يداخلوهم لئلا يفسدوا عليهم دينهم.
وأخبر اللَّهُ المؤْمنين بأنهم لا يألونهم خبالا ، أي لا يُبْقُون غاية في إلقائهم فيما يضرهم.
وأصل الخبال في اللغة ذَهاب الشيءِ
قال الشاعر :.
ابني سليمي لستم ليد . . . إلايدا مخبولة العضد
أي قد ذهبت عضدها.
(وَدُّوا مَا عَنِتمْ).
أي ودوا عَنَتْكُمْ ، ومعنى العنت إدخال المشقة على الإنسان ، يقال فلان
متعنت فلاناً ، أي يقصد إدخال المشقة والأذى عليه ، ويقال قد عِنتَ العظم
يَعْنَتُ عَنَتَا إذا أصابه شيء بعد الجبر ، وأصل هذا كله مرق قولهم : (اكَمَة
عُنُوت) إذا كانْت طويلة شاقة المسلك ، فتأويل أعنتُّ فلاناً ، حَمَلْتُه على
المشَقًةِ.
* * *
قوله عزَّ وجلَّ : (هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119)
خطاب للمؤمنين ، أعلموا فيه أن منافقي أهل الكتاب لا يحبونهم وأنهم
هم يصحبون هؤُلاءِ المنافقين بالبر والنصيحة التي يفعلها المحب وأن
المنافقين على ضد ذلك.
فأعلم اللَّه جلَّ وعزَّ المؤْمنين ما يُسِرُّه المنافقون وهذا من آيات
النبي - صلى الله عليه وسلم -.
قال بعض التحويين : العرب إذا جاءَت إلى اسم مكنى قد وصف
(بهذا) جعلته بين (ها) و (ذا) ، فيقول القائل أين أنت فيقول المجيب : هأنذا ،

(1/462)


قال وذلك إذا أرادوا جهة التقريب ، قال فإنما فعلوا ذلك ليفصلوا بين التقريب وغيره.
ومعنى التقريب عنده أنك لا تقصد الخبر عن هذا الاسم فتقول هذا
زيد.
والقول في هذا عندنا أن الاستعمال في المضمر أكثر فقط ، أعني أن
يفصل بين " ها " و " ذا" لأن التنبيه أنْ يَليَ المضْمَرَ أبْيَنُ.
فإن قال قائل : ها زيد ذا ، وهذا زيد ، جاز ، لا اختلاَفَ بين الناس في ذلك ، وهذا عندنا على ضربين : - جائز أن يكون " أولا " في معنى الذين كأنه قيل : هأنتم الذين تحبونهم ولا يحبونكم ، وجائز أن يكون (تحبونهم) منصوبة على الحال و (أنتم) ابتداء ، و (أولاءِ) الخبر.
المعنى : انظروا إلى أنفسكم محبين لهم.
نهوا في حال محبتهم إياهم.
ولم يشرحوا لم كسرت (أولاءِ) ، وألاءِ أصلها السكون لأنها للإشارة.
ولكن الهمزة كسرت لسكونها وسكون الألف
(وتؤمنون) عطف على تحبون.
ومعنى (وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ).
أي تصدقون بكتب الله كلها . -
(وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا). أي نافقوكم.
(وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ).
فأنبأ اللَّه عزَّ وجلَّ - بنفقاتهم ههنا كما أنبأ به في قوله تعالى :

(1/463)


(وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ).
ويقال عَضَضْتُ أعَضُّ ، ويقال رجل عِضٌِ إذا كان ملازم خصم ، أي
يُصِر على المخاصمة ، والفعل منه عَضَضْتُ . والعُضُّ علف الأمصار الذي.
تعلفه الإبل نحو النوى والقت والكسب ، وإنما قيل له عض لأنه أكثر لبثاً في
المال وأبقى شحماً.
والأنامل واحدها أنمُلَة وهي أطراف الأصابع ولم يأت
على هذا المثال بغير هاء ما يعني غَيْرَ الواحد إلا قولهم قد بلغ أشدهُ.
أما الجمع فكثير فيه أو نحو أكعب وأفلس وأيمن وأشمل.
* * *
قوله عزَّ وجلَّ - : (إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)
أي إِن تظفروا وَتُخْصِبُوا ساءَهم ذلك.
(وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا).
أي : إِن نالكم ضد ذلك فرحوا ، (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا).
ضمن اللَّه - جلَّ وعزَّ - للمؤمنيِن النصر إِن صبروا وأعلمهم أن عدوانهم
وكيدهم غير ضار لهم.
و (لَا يَضُرُّكُمْ) الأجود فيه الضم لالتقاءِ الساكنين
الأصل لا يضرركم ، ولكن كثيراً من القراءِ والعرب يدغم في موضع الجزم.
وأهل الحجاز يظهرون التضعيف
وهذه الآية جاءَت فيها اللغتان جميعاً -
فقوله تعالى : (إِنْ تَمْسَسْكُمْ) على لغة أهل الحجاز ، وقوله : (لَا يَضُرُّكُمْ)

(1/464)


على لغة غيرهم من العرب وكلا الوجهين حسن ، ويجوز (لَا يَضُرُّكُمْ) (ولا يُضِركُمْ) فمن فتح فلأن الفتح خفيف مستعمل فى التقاءِ السَّاكنين في
التضعيف ، ومن كسر فعلى أصل التقاءِ السَّاكنين ، وقد شرحنا هذا فيما سلف من الكتاب.
وقرئت : لا يَضِرْكُمْ من الضيْرِ ، والضيْرُ والضُّر جميعاً بمعنى واحد.
وكذلك الضر - وقد جاءَ في القرآن : (قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50).
وَجَاءَ : (وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ).
وقدْ ذكرَ الفراءُ أن الكسائي سمع بعض أهل العالية يقول :
(ما تضُورُّنِي) فلو قرئت على هذا لا يضُركُم جاز.
وهذا غير جائز ولا يقرأ حرف من كتاب الله مخالف فيه الإجماع
على قول رجل من أهل العالية.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121)
روى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى في منامه كَانَ عليه درْعاً حصينةً . فأولها المدينةَ ، فأمر - صلى الله عليه وسلم - المسلمين - حين أقبل إليهم المشركون بالإقامة بها إلى أن يوافيهم المشركون فتكون الحرب بها فَذَلك تَبْوئُةُ المقاعدَ للقتال.
قال بعضهم معناه مَواطِنَ للقتال والمعنى واحد.
والعامل في " إِذْ " معنى اذكر - المعنى اذكر إذ غدوت.
والعامل في (إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122)
(تُبَوِّئُ) المعنى كانت التبوئة في ذلك الوقت.
ومعنى (تَفَشلا) تَجْبُنَا وَتَخورا.
(وَاللَّهَ وليُّهُمَا) : أي همت بذلك واللَّه ناصرهما .

(1/465)


وقوله جلَّ وعزَّ : (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123)
مَعْنى (أَذِلَّةٌ). عَدَدُكُمْ قليل ، وكان المسلمون في تلك الحرب ثَلاثمَائة
وبضعة عشر وكانوا في يوم أحد سَبْعَمائةٍ ، والكفارُ في يوم أحُدٍ ثلاثة آلاف.
وكانوا في يوم حنين اثني عشر ألفاً فأعلم اللَّه - جلَّ وعزَّ - أنهم حينما ألزموا الطاعة أنه ينصرهم ، وهم قليل وعدوهم أضعافُهم ، وفي يوم أحد نزل بهم ما نزل لمخالفة أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - في أن جاوزوا ما أُمِرُوا به ، فجعل الله ذلك لهم
عُقُوبة لئلا يَجْبُنُوا وجاءَ في بعض الخبر :
" الفِرارُ من الزحف كُفر).
ومعناه عندي واللَّه أعلم - من فعْل الكفار ، لَا أنه يخرجُ الإنسانَ من الإيمان إلى الكفر.
وقد عفا الله فيه ، فقال : (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ).
وأذلَّة جميع ذَليل ، والأصل في فعيل إِذا كان صفة أن يجمع على
فُعلاءِ ، نحو ظريف وظُرفَاء ، وشريك وشُرَكَاء ، ولكن فعلاءَ أجتنب في
التضعيف . لو قيل جللاءَ وقللاءِ في جليل وقليل ، لاجتمع حرفان من جنس
واحد ، فعدل به إِلَى أفْعِلة من جمع الأسماءِ في فعيل ، نحو جريب وأجْربة.
وقفيز وأقْفزة.
* * *
(بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125)
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا).

(1/466)


أي من وجههم ، وأ هذا " نعت نفورهم ، و (يُمْدِدْكُمْ) جواب
الجزاءِ يقال أمددت الجيش بعدد ، وأمَد الجرح إذا صارت فيه المِدَّة ، يُمِد
فهو مُمِدٌّ ، ومدَّ النهر ومدَّه نهر آخر.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّْ : (مُسَوِّمِينَ) قرئت (مُسَوِّمِينَ) و (مُسَوَّمِينَ)
ومعنى (مُسَوِّمِينَ) : أخذ من السَّومَة ، وهي العلامة ، كانوا يعلمون بصوفة أو بعمامة أو مَا أشبه ذَلك.
و (مُسَوَّمِينَ) : معلَّمِينَ . وجائز أن يكون مُسَوّمينَ : قد سَوَّمُوا خيلُهم
وجعلوهَا سائمة.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126)
وما جعل ذكر المدد إلا بشرى لكم ولتمكنوا في حربكم
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127)
أي لينقل قطعة منهم.
(أوْ يَكْبِتَهُمْ).
أي يهزمهم ، قال أبو عبيدة : يقال كَبَتِهُ اللَّه لوجهه أي صرعه الله
لوجهه ، والخائب الذي لم ينل مَا أمَّل.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128)
أنزل عليه ذلك - صلى الله عليه وسلم - لأنه في يوم أحُدٍ شُجَّ وكُسِرتْ رباعيته فقال وهو يمسح الدم عن وجهه : كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم ، فأعلمه اللَّه جلَّ وعزَّ - أن فلاحَهُم ليس إليْه وأنه ليس له من الأمر شيء

(1/467)


إلا أن يبلغ الرسالة ويجاهد حتى يظهر الدين ، وأن ثوابه على اللَّه - جلَّ وعزَّ - في ذلك.
ونصب (أَوْ يَتُوبَ) على ضربين :
جائز أن يكون عطفاً على قوله : ليقطع طرفاً من الذين كفروا أو يكبتهم أو يتوب عليهم أو يعذبهم.
والوجه الثاني على النصب بأو إذْ كانت في معنى إِلا أن.
فالمعنى : ليس لك من الأمر شيء أي : ليس يؤمنون إلا أن يتوب الله عليهم ، أو حتى يتوب الله عليهم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130)
(الربا) قليلهُ وكثيرهُ قد حُرّم في قوله - جلَّ وعزَّ -
(وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا).
وإِنما كان هذا لأن قوماً من أهل الطائف كانوا يُربون . فإذا بلغ
الأجل زادوا فيه وضاعفوا الربا.
وقال قوم معناه : لا تُضَاعِفُوا أموَالَكُمْ بالربَا.
ومعنى (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).
أي لتكونوا على رجاءِ الفلاح ، والمفلح هو الذيْ أدرك ما أمَّل من
الخير ، واشتقاقه من فَلَحَ الحديد إِذا شقه ، فإِنما هو مبالغة في إدراك ما
يوصل.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131)
أي اتَقوا أن تُحلُّوا ما حرم اللَّه ، فإِن من أحلَّ شيئاً مما حرم الله فهو
كافر بإِجماع.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)
(وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ).
أي لمن اتَّقى المحارم ، وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّ بيْن مصراعي بَاب

(1/468)


الجنة مسيرةَ أربعين عاماً ، وليأتين عليه يومٌ يزدحمُ عليه الناس ؛ كما تزدحم
الإبل وردت خِمصاً .ظِماءً.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)
أي أعدت للذين جرى ذكرهم وللذين يكظمون الغيظ ، ويروي عن
النبي - صلى الله عليه وسلم -
" ما من جرْعةٍ يتجرعها الإنسان أعظمُ أجراً من جرعةِ غيظٍ في اللَّه ".
يُقال كَظَمْتُ الغيظ أكظمهُ كظْماً إذا أمْسكْتُ على ما في نفسي منه.
ويقال كظم البعير على جرته إذا ردها في حلقه ، وكظم البعير والناقة كُظوماً إذَا لمْ يجتر.
قال الراعي :
فأفضْن بعد كُظُومهن بجرة . . . من ذي الأباطِح أذرَعين حقيلًا.
والْكِظَامة سير يشد بِهِ الوَتَر على سِيَة القوْس العربيةِ ، والكظمية.
والكظَائمُ حفائر تحفَر من بئْر إلى بِئر ليجري الماءُ من بعضها إلى بعض
وكاظمة موضع بالبادية.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135)
(وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ).
الرفع محمول على المعنى ، والمعنى وأي أحدٍ يغْفِرُ الذنُوبَ ؛ ما يغفرها
إلا اللَّه.
(وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا) ، الإصرار الإقامة على الشيءِ.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137)

(1/469)


معنى قد خلت قد مضت ، ومعنى سُنَن أهلُ سنن أي أهل طَرائق.
والسُّنَّةُ الطَّريقَةُ ، وقول الناس : فلان على السُّنَّة معناه على الطريقة ، ولم
يحتاجوا " أن يقولوا على السُّنَّة المستقيمة لأنَّ في الكلام دليلاً على ذلك ، وهذا كقولنا " مؤمن " معناه مصدق وفي الكلام دليل على أنه مؤْمن بأمور الله
- عزَّ وجلَّ - التي أمر بالإيمان بها ، والمعنى إنكم إذا سِرْتُمْ في أسفاركم عرفتم أخبار قوم اهلكوا بتكذيبهم.
* * *
ْوقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)
أي لا تَضْعُفوا ، يُقال وَهَنَ يَهِن إذا ضَعُفَْ فَضمنَ اللَّه عزَّ وجلَّ - النصْر
بقوله :(وأنْتُمُ الأعْلَوْنَ).
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140)
(إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ) و (قُرْحٌ) جميعاً يقرأان ، وهما عند أهَل اللغة بمعنى واحد ومعناه الجراح وألمُها
يُقَالُ قَدْ قَرِحَ يَقْرَحُ قَرْحاً ، وأصابه قَرْحٌ ، قال بعضهم كأن القُرح
الجُرْح ، وكأن القَرْح الألم.
(وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ).
أي نجعل الدولة في وقت من الأوقات للكَافرينَ على المؤْمنين إذا
عصَوْا فيما يؤمَرُون به ، من محَاربة الكفار ، فأما إذا أطاعوا فهم مَنْصُورونَ
أبداً ، كما قال اللَّه - عزَّ وجلَّ - (أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22).
ومعنى (وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ).
أي ليعلم اللَّه من يُقيم على الإيمَانِ بعد أن تناله الغلبة ، أي يجعل لهم
الدولَة في وقت من الأوقات ليعلمَ المؤْمنين .

(1/470)


وتأويل (وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا) - واللَّه عزَّ وجلَّ - قد علمهم قبل ذلك :
معناه يعلم ذلك واقعاً منهم - كما قال عز وجل - (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ).
أي ليقع ما علمناه غيبأ مشاهدة للناس ، ويقع - منكم . وإنما تقع المجازاة
على ما علمه اللَّه من الخلق وقوعاً على ما لم يقع وما لم يعلموه -
قال الله عزَّ وجلَّ : (وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ).
وقال : (إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141)
المعنى جعل اللَّه الأيام مداولة بين الناس ليمحص المؤْمنين بما يقع
عليهم من قتلَ في حربهم ، أو ألم أو ذهابَ مال ، ويمحق الكافرين :
ليستأصلهم.
وجائز أن يكون يمحقهم يحبط أعمالهم ، وتأويل المحص في
اللغة التنْقِيَةُ والتخليص.
قال محمد بن يزيد - رحمه اللَّه - يقال مَحَصَ الحبل مَحْصاً ، إذا ذَهَبَ منه الوَبرُ حتى يَمْلَصَ وحبل مَحِصٌ أو مَلِصٌ بمعنى واحد.
قال وتأويل قول الناس : مَحِّصْ عَنا ذُنُوبَنَا : أي أذهِب عنا ما تعلق بنا
من الذنوب.
وأخبرنا محمد بن يزيد أن حُنَيْفَ الحَنَاتِمِ ورَدَ ماءً يُقال له (طُويلِع)
فقال : " واللَّه إنك لَمَحِصُ الرشا بعيد المستقي مظل على الأعداء ولو سألتني
أعناق الإبل لأعطيتك "
أي لو تقطعت أعناق الِإبل إليك لقصدتك.
ومعنى مَحص الرشَاءِ أي هو طين خر ، فالرشا تَتَمَلصُ من اليد.
فمعنى يمحِّص

(1/471)


الذين آمنوا : يخلِّصهم من الذنوب.
وقال محمد بن يزيد - رحمه اللَّه - أيضاً
وغيره من أهل اللغة مَحَصَ الظبي يَمْحَص إذا عَدا عدْواً شَديداً ، وقال هو
وحده : تأويله أنه لا يخْلط حدتَه في العَدو وَنْياً ولا فُتُوراً.
وقال غيره مَحَص الظبْيُ يَمحص ومحِصَ بمعنى واحد : إذا عَدا عدواً
يكادُ أن يَنْفد فيه من شدته.
ويقال : ويُستَحَب من الفَرَس أن تُمحَّصَ قوائمه
أي تخلص من الرَّهَلِ.
قال أبو إسحاق : وقرأتُ عليه أيضاً عن الخليل : المَحصُ التخليص يقال
مَحَصت الشيءَ أمْحَصه محْصاً إذا خلصته
وقال بعض أهل اللغة : (وليمحص الله الذين آمنوا) أي وليمحص اللَّه ذنوب الذين آمنوا - ولم يُخْبَرُوا بحقيقة المحص ما هو.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142)
وقرأها الحسن : (ويعلمِ الصَّابِرِينَ) بالكسر على العطف
ومن ، قرأ (ويعلمَ الصابرين) فعلى النصب بالواو.
المعنى ولما يقع العلم بالجهاد والعلم بصبر الصابرين ، ولما يعلم اللَّه ذلك واقعاً منهم . لأنه - جلَّ وعزَّ -يعلمه غيباً ، وإنما يجازيهم على عَملهم.
وتأويل (لَمَّا) أنَّها جواب لقَول القَائل قد فَعل فلان
فَجوابه لمَّا يفْعل وإذَا قال فَعَل فجوابه لَم يفعل ، وإذَا قال : لقد فجوابه مَا

(1/472)


يفعل ، كأنه قال " واللَّه هو يفْعل ، يريد ما يُسْتقْبل فجوابه لَنْ يفعل ولا يفعل.
هذا مذهب النحويين.
* * *
وقوله عزَّ وجل : (وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143)
أي كنتم تمنون القتال ، هو سبب الموت ، والمعنى ولقد كنتم تمنون
سبب الموت ، وذلك أنهم كانوا يتمنونَ أنْ يُطْلَقَ لهم القتال - قال الله
عزَّ وجلَّ : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً).
وقوله عزَّ " جل : (فَقَدْ رأيْتمُوهُ وأنتُمُ تَنظُرونَ)
قيل فيه غير قول.
قال الأخفش معناه التوكيد.
وقال بعضهم وأنتم تنظرون إلى محمد - صلى الله عليه وسلم -.
والمعنى - واللَّه أعلم - فقد رأيتموه وأنتم بصراءُ كما تقول : قد رأيت
كذا وكذا ، وليس في عينيك عَمَة - أي قد رأيته رؤية حقيقية.
وهو راجع إلى معنى التوكيد.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144)
أي قد مضت من قبله الرسل ، المعنى إنَّه يمُوت كما ماتَت الرسُل قبله.
(أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ).
أي ارتَددْتم عن دينكم - وروي أن بعض من كان في يوم أحُد ارتدَّ ،

(1/473)


وبعضهم مضى مسافة ثلاثة أيام ، فأعلم اللَّه جلَّ وعزَّ أن الرسُلَ ليْست باقية
في أممها أبداً وأنَّه يجب التمسك بما أتَتْ به ، وإن فُقِدَ الرسُولُ بموت أو
قتل.
وألفْ الاستفهام دخلت على حرف الشرط ومعناها - الدخول على
الجزاءِ ، المعنى أتنْقلبون على أعقابكم إن مات محمد أو قُتل ، لأن الشرط
والجزاءَ معلق أحدهما بالآخر فدخلت ألف الاستفهام على الشرط وأنبأت عن
معنى الدخول على الجزاءِ ، كما أنك إذا قلت هل زيد قائم فإنما تسْتفهم عن
قياعه لا من هو ، وكذلك قولك ما زيد قائماً إنما نفيت القيام ولم تنف زيداً لكنك أدخلْت " ما " على زيد لتعلُم من الذي نُفى عنه القيامُ.
وكذلك قوله عزَّ وجلَّ (أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ).
* * *
ْوقوله عزَّ وجلَّ : (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145)
المعنى ما كانت نفس لتموت إلا بإذن اللَّه ، وقوله عزَّ وجلَّ :
(كِتَابًا مُؤَجَّلًا) على التوكيد ، المعنى كتب اللَّه ذلك كتاباً مؤَجلاً أي كتاباً ذَا أجَل).
والأجلُ هو الوقْتٌ الممعلوم ، ومثل هذا التوكيد قوله - عزَّ وجلَّ :
(كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ) لأنه لما قال : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ)
دل ذلك على أننة مفروض عليهم فكان قوله : (كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ) توكيداً.
وكذلك قوله عز وجلَّ : (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) لأنه لما قال : (وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ).

(1/474)


دل ذلك على أنه خَلَق اللَّه وصُنعُه.
فقال : (صُنْعَ اللَّهِ) وهذا في القرآن في غير موضع -
وهذا مجراه عند جميع النحويين.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا).
أي من كان إنما يقصد بعمله الدنيا أعطي منها ، وكل نعمة فيها العبد
فهي تفضل من اللَّه إعطاء منه.
ومن كان قصده بعمله الآخرة آتاه اللَّه منها.
وليس في هذا دليل أنه يحرمه خير الدنيا ، لأنه لم يقل ومن يرد ثواب الآخرة
لم نؤته إلا منها ، واللَّه عزَّ وجلَّ ذو الفضل العظيم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146)
تفسيرها " كم من نبي " ، وفيها لغتان جيدتان بالغتان يقرأ بهما جميعاً.
يقرأ . (وَكَأَيِّنْ) بتشديد (وكائن) على وزن فاعل.
وأكثر ما جاءَ الشعر على هذه اللغة
قال جرير :
وكائن بالأباطح من صديق . . . يراني لو أصَبْتُ هو المصابا
وقال الشاعر أيضاً :

(1/475)


وكائن رَدَدْنا عنكمو من مدجج . . . يجيء أمام الألف يُردَى مقنعا
ومثل التشديد قوله :
كَائن في المعاشر من أناس . . . أخوهم فوقَهم وهُمُ كرام
أعلم اللَّه جلَّ وعزَّ أن كثيراً من الأنبياءِ قاتَل معه جماعة فلم يهنوا - فقال
الله عزَّ وجلَّ : (رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا).
وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146)
معنى (فَمَا وَهَنُوا) فما فَتَروا ، (وما ضعفُوا) : وما جَبُنُوا عن قتال عدوهم.
ومعنى (ما استكانوا) : ما خضعوا لعدوهم وتقرأ - وهو الأكثر (رِبِّيُّونَ) بكسر الراءِ ، وبعضهم يقرأ (رُبِّيُّونَ) - بضَم الراءِ.
وقيل في تفسير (رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ) أنهم الجماعات الكثيرةُ.
وقال بعضُهم الربوة عشَرةُ آلاف وقيل الربيون العلماءُ الأتقياءُ :
الصُّبُر على ما يُصيبُهُم في الله - عزَّ وجلَّ - وكلا القولين حَسن جميل ، وتقرأ : (قُتِلَ معه) ، (وقَاتَل معه).
فمن قرا قاتل المعنى إنهم قاتلوا وما وهنوا في قتالهم ، ومن قرأ قُتِل ، فالأجود أن يكون (قُتِلَ) للنبي عليه السلام المعنى . . وكأين من نبي قتل ومعه ربيون فما وهنوا بعد قتله ، لأن هولاءِ الذين وهنوا كانوا توهموا أَن النبي - صلى الله عليه وسلم - قتل ، فأعلم الله - عزَّ وجلَّ - أن الربانيين بعد قتل نبيهم ما وهنوا.
وجائز أن يكون (قُتِلَ) للربانيين ، ويكون (فما وهنوا) أي ما وهن من بقي منهم .

(1/476)


وقوله جلَّ وعزَّ : (وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147)
تقرأ (قَوْلَهُمْ) بالنصب ويكون الاسم : (إلا أن قالوا) فيكون المعنى ما كان
قَوْلهمْ إلا استغفارُهم ، أي قولهم اغفر لنا - ومن قرأها بالرفع جعل خبر كان ما بعد إلا ، والأكثر في الكلام أن يكون الاسمُ هو ما بعد إلا - قال اللَّه عزَّ وجل (فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا) (مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا).
ومعنى : (وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا) أي ثبتنا على دينك . وإذا ثَبتهُمْ على دينهم ثبتوا
في حربهم - قال اللَّه عزَّ وجلَّ - (فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا)
المعنى تزلَّ عن الدين.
* * *
وقوله عز وجل : (فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)
أي ظفَّرهم وغَنمهُم . (وَحُسْنُ ثَوَابِ الآخِرَةِ).
المغفرة وما أعد لهم من النعيم الدائم.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150)
أي هو وليكم ، وإذَا كان وليهم فهو ناصرهم (فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56)).
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151)
يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " نُصرت بالرعْبِ ".
وقال : "يُرْعَب مني عَدوي من مسيرةِ شهر ".
وقال اللَّه عزَّ وجلَّ : (في سورة الحشر : (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ).

(1/477)


وقوله عزَّ وجلَّ : (بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا).
أي أشركوا به مَا لم يُنَزل به حُجةً ، والسلطان في اللغة الحجة ومثله
(مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29).
أي ذهبت عني حجيته.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152)
(إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ).
معناه تستأصلونهم قتلا ، يقال حسهم القائد يحُسهم حسًّا إذَا قتلهم.
ويقال هل حَسَسْتَ كذا وكذا أي هل رَأيتَه أو علمته.
ويقال ما حَسَسْتَ فلاناً ، وهل حَسَسْتَ له - والكسر أكثر - أي ما رفُقْت عليه ولا رحمته ويقال جيءَ به من حِسَّك وبَسَّك ، أي من حيث ما كان ولم يكن ، كذلك لفظ الأصمعي.
وتأويله جيءَ به من حيث تدركه حاسَّة - من حواسِّك ، أو يدركه تصَرف من تَصرفك ، ومعنى . (بِإِذْنِهِ) بعلمه.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (حتى إذَا فَشِلْتُم).
أي جَبُنتم عن عدوكم ، (وتنازعتم) اختلَفْتم
(مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ)
لأنهم أعطوا النصر فخالفوا فيما قيل لهم في حربهم فعوقبوا بأن ديل منهم ".
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (مِنكمْ مَنْ يُريدُ الدُّنْيَا).
أي منكم من قصده الغَنيمة في حربه
(وَمنكُم مَنْ يُريدُ الآخِرَةَ).
أي يقصد بحربه إلى ما عند اللَّه.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152)
إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153)
(تُصْعِدُونَ) و (تَصْعَدون) جميعاً ، قد قريءَ بهما ، فمن قال (تُصْعِدُونَ) فهو لكل من

(1/478)


ابتدأ مسيراً من مكان فقد أصعد ، والصعود إنما يكون من أسفل إلى فوق.
ومن قرأ (تَصْعَدون) فالمعنى إذ تَصْعدون في الجبل ولا تَلْوُونَ على أحَدِ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ . : (فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ) ، أي أثابكم بأن غممتم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن نَالكُم غَمٌّ - بما عوقبتم به للمخَالفَة
وقال بعضهم (غَمًّا بِغَمٍّ) إشراف خالد بن الوليد عليهم بعد ما نالهم.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ) من غنيمة.
(وَلَا مَا أَصَابَكُمْ).
أي ليكون غمكم بأن خالفتم النبي فقط.
* * *
وقوله جلَّ وعز : (ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154)
(ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا).
أي أعقبكم بما نالكم من الرُّعب أن أمنَكم أمْناً تنامون معه ، لأن الشديدَ
الخوفِ لا يكادُ ينَامُ.
و (أمنَةً) اسم تقول أمن الرجل أمْناً وَأمَنَةً ، إذا لم ينله خوف.
و (نُعَاسًا) : منصوب على البدل من (أمَنَةً) ، ويقرأ (يغشى) و (تغشى طائفة
منكم) فمن قرأ (يغشى) - بالياء - جعله للنعاس ومن قرأ (تغشى) بالتاء جعله للأمنة.
والأمنة تَؤدي معنى النعاس.
وإن قرئَ يغشى جْاز - وهذه الطائفة هم المؤمنون.
(وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ) وهم المُنَافقُونَ.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ) ، أي يظن المنافقون أن أمر
النبي - صلى الله عليه وسلم - مضمحل.
(ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ) : أي هم على جاهليتهم في ظنهم هذا والقراءَة.
(وطائفة قد أهمتهم أنفسهم) - قال سيبويه : المعنى إذ طائفة قد أهمتهم وهذه واو

(1/479)


الحال ، ولو قُرئت : (وطائفة قد أهمتهم أنفسهم) ، على إضمار فعل (أهم)
الذي ظِهر تفسيره كان جائزاً . المعنى وأهمت طائفة أنفسهم ، وجائز أن يرتفع
على أن يكون الخبر - يظنون ويكون قد أهمتهم نعت طائفة ، المعنى وطائفة
تهمهم أنفسهم يظنون ، أي طائفة يظنون باللَّهِ غير الحق.
وقوله عزَّ وجلَّ : (قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ).
تقرأ (بيُوتكم) بضم الباءَ وكسرها ، وروى أبو بكر بن عياش عن عاصم
بكسر الباءِ ، قال أبو إسحاق : وقرأناها بإقراء أبي عمرو عن عاصم (بُيوتكم) بضم الباء ، والضم الأكثر الأجود -
والذين كسروا (بِيُوت) كسروها لمجيء الياءِ بعد الباء
و " فِعول " ليس بأصل في الكلام ، ولا من أمثلة الجمع.
فالاختيار (بُيوت)
مثل قلب وقُلوب وفَلْس وفُلوس.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ (لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ).
معنى (برزوا) صاروا إلى براز ، وهو المكان المنكشف أي لأوصلتهم
الأسباب التي عنها يكون القتل إلى مضاجعهم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَليَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكم).
أي يختبره بأعمالكم لأنه علمه غيباً فيعلمه شهادة لأن المجازاة تقع
على ما علم مشاهدة ، أعني على ما وقع من عامليه ، لا على ما هو معلوم
منهم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ).
فمن نصب فعلي توكيد (الأمر) ومن رفع فعلي الابتداء - و (للَّه) الخبر
ومعنى (الأمر كله لله) أي النصر وما يلقي من الرعب في القلوب للَّهِ.
أي كل ذلك لله .

(1/480)


وقوله جلَّ وعزَّ : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)
هذا خطاب للمؤْمنين خاصة.
(إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا).
أي لم يَتَولوا في قتالهم على جهة المعاندة ، ولا على الفِرار من الزحف
رغبة في الدنيا خاصة ، وإنما أذكرهم الشيطان خطايا كانت لهم فكرهوا لقاءَ
الله . إلا على حال يرضونها ، فلذلك عفا عنهم وإلا فأمر الفِرار والتولي في
الجهاد إذا كانت العدة أقل من المثلين ، أو كانت العدة مثلين ، فالفرار أمر
عظيم.
قال اللَّه عزَّ وجلَّ : (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ)
وهذا يدل أن أمر الوعيد لأهل الصلاة أمر ثابت ، وأن التولي في الزحف من أعظم الكبائر . -
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156)
(أَوْ كَانُوا غُزًّى).
القراءَة وما ثبت في المصحف على القصر وفُعَّل جمع فاعل نحو

(1/481)


ضارب ، وضُرَّب ، وشاهد وشُهدُ ، ويقع على فُعَّال نحو حارب وحُراب.
وضارب وضُرَّاب . وغُزَّاء . يجوز إلا أنه لا يكون في القراءَة لأنه ممدود.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ)
أي : ليجعل ظنهم أنهم لو لم يحضروا - وإذا لم يحضروا الحرب اندفع
عنهم ما كتب عليهم . فحسرتهم فيما ينالهم أشد.
(وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ).
أي ليس الإنسان يمنعه تحرزه من إتيان أجله على ما سبق في علم
الله.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)
(فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ).
" ما " بإجماع النحويين ههنا صلة لا تمنع الباءَ من عملها فيما عملت.
المعنى فبرحمة من اللَّه لنت لهم . إلا أن " ما " قد أحدثَتْ بدخُولها توكيد
المعنى ، ولو قرئت فبما رحمة من اللَّه جاز ، المعنى فبما هو رحمة كما
أجازوِا . . . (مثلاً مَا بَعُوضَةٌ) ولا تقرأنَّ بها ، فإن القراءَة سنة ولا يَجُوز أنْ
بقْرأ قارئٌ بِمَا لم يقرأ به الصحابة أو التابعون أو من كانَ من قُرَّاءِ الأمصار
المشهورين في القراءَة.
والمعنى أن ليَّنك لهم مما يُوجب دخولهم في الدين لأنك تأتيهم
بالحجج والبراهين مع لين وخلق عظيم.
(وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ).

(1/482)


الفَط : الغليظُ الجانب السيئ الخُلُقُ ، يقال فظَظْتَ تَفِظُّ فظاظة.
وفظَظاً ، إلا أن فظاظة أكْثَرُ لثقل التضعيف ، وما كان من الأسماءِ على (فَعَل)
في المضاعف فغير مدغم نحو المدَدُ والشرَر ، وما كان على (فَعْل) فمدغم
على كل حال نحو رجل صب ، وأصله صَببٌ وكذلك فظ وأصله فظَظ ، ومثله من غير المضاعف . قد فرَقْتَ تفرق ، فرَقاً ، وأنتَ فَرِق ، " وإذا اضطر شاعر رد فَعْلاً إلى أصله في المضاعف
قال الشاعر :
مهلا أعاذل قد جربت من خلقي . . . أني أجود لأقوام وقد ضَنِنُوا
والفظ ماء الكرش ، والفرث وِسمي فظاً لغلظ مشربه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَشاوِرْهُمْ فِي الأمْر).
أي شاورهم فيما لم يكن عندك فيه وحي ، فأما مَا فيه أمر من الله جلَّ
وعزِّ ووحي فاشتراك الأراءِ فيه ساقط.
وإنما أراد اللَّه عزَّ وجلَّ - بذلك السنة في المشاورة ، وأن يكرم أصحابَه
بمشاورته إياهم ، ثم أمر بعد الإجماع على الرأي بالتوكل على اللَّه -
عزَّ وجلَّ - قال : (فَإذَا عَزَمْتَ فَتَوكل عَلَى اللَّهِ).
أي لَا تَظن أنك تنال مَنَالاً تحبه إلَّا باللَّهِ جلَّ وعزَّ.
* * *
قوله عزَّ وجلَّ : (وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (161)
(وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ) و (أن يُغَل) قرئتا جميعاً.
فمن قرأ (أَنْ يَغُلَّ) فالمعنى : وما كان لنبي أن يخونَ أمَّتَه وتفسير ذلك أن

(1/483)


النبي - صلى الله عليه وسلم - جمع الغنائم في غزاة ، فجاءه جماعة من المسلمين فقالوا : ألا تقْسم بيْننا غنائمنا فقال - صلى الله عليه وسلم - لو أن لكم عندي مثل أحُد ذهباً ما منعْتكم درهماً أترونني
أغُلكم مغْنَمكمُ ، ويروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال :
" ألاَ لا أعرفَنَّ رجُلاً يأتي يوم القِيامة ومعه شاة قد غَلَّهَا لها ثغاء ، ألا لا أعرفنَّ رجلاً يأتي يوم القيامة ومعه بعيرٌ قد غلَّه له رُغَاء ، ألا لا أعرفَنَّ رجلا يأتي يوم القيامة ومعه فرس قد غلَّه له حَمْحَمة ".
ومنِ قرأ (أن يُغلَّ) فهو جائز على ضربين : أي ما كان لنبي أن يغُلَّه
أصحابه ، أي يخَوِّنُوه - وجاءَ عن النبي - صلى الله عليه وسلم -
" لا يَحْبِسْ أحدكم خيطاً ولا مخيطاً ".
وأجاز أهل اللغة أن يُغَل أن يُخَوَّنَ ، ويقال : أغْلَلْتُ الجلد إذا سلخته
فأبقيت فيه شيئاً من الشحم ، وقد غل الرجل يَغُلُّ إذا خان لأنه أخذ شيئاً في
خفاء ، فكل ما كان من هذا الباب فهو راجع إلى هذا ، من ذلك الغال وهو
الوادي الذي ينبت الشجر وجمعه غُلَّان ، ومن ذلك الغِل وهو الحقد ، وتقول
قد أغلَّت الضيْعَة فهي مُغِلَّة إذا أتَتْ بِشيء وأصلها باق - قال زهير - :
فَتُغْلِلْ لكم ما لا تُغِل لأهلها . . . قرى بالعراق من قَفِيزٍ ودرهم
والغلَالةُ : الثوبُ الذي يُلْبَسُ " تحت الثياب " والذي يلبس تحت
الدرع - درع الحديد - غِلَالَة ، وَتَغَلَّلْت بالغالية " وتغليت " إِنما هو جعلها في

(1/484)


أصول الشعر . والغل الماء الذي يجري في أصول الشجر.
ومعنى (وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى).
معنى (إذا) ههنا ينوب عما مضى من الزمان وما يستقبل جميعاً والأصل
في (إذ) الدلالة على ما مضى ، تَقولُ أتيتك إذْ قُمتَ وآتَيك إذا جئتني.
ولم يقل ههنا " إذ ضربوا في الأرض " لأنه يريد شأنهم هذا أبداً ، ومثل ذلك في الكلام : فلان إذَا حدث صدق ، وإذا ضُرِبَ صبر.
(فإذا) لِمَا يُستقبل ، إلا أنه لم يحكم له بهذا المستقبل إلا بما خبر منه فيما مضى.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (وَشَاوِرْهُمْ في الأمْرِ).
يقال شاورت الرجل مْشاوَرةً وشَوارا ، وما يكون من ذلك فاسمه
المَشُورَة ، وبعضهم يقول المشورة . يقال فلان حسن الصورة والمشورة
أي حسن الهيئة واللباس وإنهُ لَشئر (صثن) وحسن الشارة والشوار متاعَ البيت.
ومعنى شاورت فلان أظهرت في الرأي ما عندي وما عنده ، وشُرْت الدابة
أشوُرها إذا امتحنتها فعرفت هيئتها في سيرها.
ويقال شُرْتُ العسلَ وأشَرْتُ العَسلَ إذا أخذته من مواضع النحل وعسل مشور.
قال الأعشى.
كأَنَّ القَرنْفُلَ والزَّنْجَبِيلَ . . . باتا بِفيها وأَرْياً مَشُورا
والأرْيُ العسلُ ، ويقال عسل مُشَار.
قال الشاعر :
وغناء يأذَنَ الشيخُ لَه . . . وحديث مثل مَاذِيٍّ مُشَار

(1/485)


قوله جلَّ وعزَّ : . (أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162)
يقرأ رضوان بكسر الراءِ ، ورضوان بضم الراءِ ، وقد رويتا جميعاً عن
عاصم.
(كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ).
يروى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين أرمر المسلمين في أحد باتباعه ، اتبعه المؤمنون وتخلف عنه جماعة من المنافقين ، فأعلم الله جلَّ وعزَّ : - أن من اتبع النبي - صلى الله عليه وسلم -
فقد اتبع رضوان اللَّه ، ومن تخلف عنه فقد باءَ بسخط من الله.
ومعنى باءَ لذنبه : احتمله ، وصار المذنب مأوى الذنب ، ولذلك بوأت فلاناً منزلًا أي جعلته ذا منزل.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163)
أي المؤمنون ذوو درجة رفيعة ، - والكافرون ذوو درجة عند اللَّه وضيعة
ومعنى (هُمْ دَرَجَاتٌ) : هم ذوو درجات ، لأن الإنسان غير الدرجة
كما تقول : الناس طبقات أي ذوو طبقات ؛
وأنشد سيبويه . -
أنْصب للمنية تعتريهم . . . رجال أم همُو درج السيول

(1/486)


أي همْ ذوو درج ، ويجوز أم همو درجَ السيول على الظرف.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)
بعث اللَّه محمداً - صلى الله عليه وسلم - رسولاً وهو رجل من الأميين لا يتلو كتاباً ولا يخطه بيمينه ، وبعثه بين قوم يَخْبُرونه ويعْرفونه بالصَدق والأمانة وأنه لم يقرأ كتاباً ولا لُقِّنَه فتلا عليهم أقاصيص الأمم السالفة ، والأنبياء الماضية لا يدفع أخباره كتاب من كتبِ مخالفته ، فأَعلم اللَّه أنه مَنَّ على المؤمنين برساله من قد عُرِفَ أمرُه ، فكان تناول الحجة والبرهان وقبول الأخبار والأقاصيص سهلا من قِبَلِه.
وفي ذلك أعظم المنة.
وقد جاءَ في التفسير إنَّه يراد رسول من العرب ولو كان القصد في ذلك
- واللَّه أعلم - أن أمره إنما كانت فيه المنة أنه من العرب لكان العجم لا حجة عليهم فيه.
ولكن الأمر - واللَّه أعلم - أن المنَّة فيه أنه قد خُبِرَ أمْرهُ وشَأنهُ وعَلِمَ
صدقهُ ، وأتى بالبراهين بعد أن قد علموا إنَّه كان واحداً منهم.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165)
هذه الواو واو النسق ، دخلت عليها ألف الاستفهام فبقيت مفتوحة على
هيئتها قبل دخولها ، ومثل ذلك في الكلام قول القائل : تكلم فلان بكذا وكذا ، قيقول قائل مجيباً له أوَ هو ممن يقول ذلك.
وقيل في التفسير إن هذه المصيبة عنى بها ما نزل بهم يوم أُحُد ،

(1/487)


و (أصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا) أصبتم في يوم أحد مثلها وأصبتم يوم بدر مثلها ، فأصبتم مثلَيْ ما أصابكم.
(قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا) أي من أين أصابنا هذا.
(قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) أي أصابكم بمعصيتكم النبي - صلى الله عليه وسلم - وما من قوم أطاعوا نبيهم في حربهم إلا نُصِرُوا ، لأنهم إذا أطاعوا فهم حزب اللَّه ، وحزب الله هم الغالبون.
* * *
وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166)
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (فَبِإذنَ اللَّهِ) أي ما أصابكمْ كان بعلم اللَّه.
وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا)
أي ليظهر إيمان المؤمنين بثبوتهم على ما نالهم ، ويظهر نفاق المنافقين
بفشلهم وقلة الصبر على ما ينزل بهم في ذات اللَّه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)
ْالقراءَة بالرفع (بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) ولو قرئت بل أحياءَ عند ربهم لجاز
المعنى أحسَبْهُمْ أحْياءَ وقيل في هذا غير قول : قال بعضهم لا تحسبهم أمواتاً
في دينهم بل هم أحياء في دينهم ، كما قال اللَّه تعالى : (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ).
وقال بعضهم : لا تحسبهم كما يقول الكفار إنهم لا يبعثون بل يبعثون.
(بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ).
وقيل إن أرواحهم تسرح في الجنة وتلذ بنعيمها ، فهم أحياء عند ربهم.
قال بعضهم : أرواحهم في حواصل طير خضر تسرح في الجنة ، ثم تصير إلى
قناديل تحت العرش .

(1/488)


وقوله جل ثناؤُه : (وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170)
أي لم يلحقوا بهم في الفضل إلا أن لهم فضلاً عظيماً بتصديقهم
وإيمانهم أن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
فَمَوضع . " أنْ " خفض : المعنى يستبشرون بأن لا خوف عليهم ولا هم
يحزنون.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171)
(وأن اللَّهَ لا يُضِيعُ أجْرَ المؤْمِنينَ).
(أنَّ) في موضع خفض.
المعنى ويَسْتَبْشِرُونَ بأن اللَّه لا يضيع
ويجوز (وَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) على معنى واللَّه لا يضيع أجر المؤمنين ، وكذلك هي في قراءَة عبد اللَّه (واللَّه لا يُضيع).
فهذا يقوى (وَإِنَّ) بالكسر.
* * *
وقوله - جلَّ وعزَّ - : (الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172)
أي من بعد ما أصابهم الجرح ، ومن قرأ القُرح فمعناه ألم الجرح.
(الذين) جائز أن يكون في موضع خفض على النعت للمؤمنين ، والأحسن
أنْ يكون في موضع رفع بالابتداءِ ويكون خبر الابتداء (للذين أحسنوا منهم
واتقوا أجر عظيم).
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)
يقال في التفسير إن قائِل هذا نعيم بنُ مسعود الأشجعي بعثه أبو
سفيان وأصْحابه يُثَبًطُونَ النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه عن لُقِيِّهِمْ ، وكان بين المسلمين وبين المشركين في يوم أحد موعد للقاء ببدر الصغرى ، فلم يلتفت المسلمون

(1/489)


إلى تخويف نعيم وعزموا على لقاء القوم وأجابوه بأن قالوا : (حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ).
وتأويل حسبنا اللَّه أي : الذي يكفينا أمَرهُمْ اللَّهُ.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (فَزَادَهُمْ إِيمَانًا).
أي زادهم ذلك التخويف ثبوتاً في دينهم وإقامة على نصرة نبيهم.
وصاروا إلى بدر الصغرى ، وألقى اللَّه في قلوب المشركين الرعب فلم
تغفلوهم.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174)
المعنى فلم يخافوا ما خافوا ، وصاروا إلى الموعد الذي وعدوا فيه.
فانقلبوا بنعمة ، أي انقلبوا مؤمنين قد هرب منهم عدوهم.
وقيل في التفسير إنهم أقاموا ثلاثاً واشتروا أدْماً وزَبِيباً رَبِحُوا فيه.
وكل ذلك جائز ، إلا أن إنقلابهم بالنعمة هي نعمة الإيمان والنصر على عدوهم.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)
أي ذلك التخويف الذي كان فعل الشيطان.
أي هو قوله للمخوفين ، يخوف أولياءَه.
قال أهل العربية : معناه يخوفكم أولياءه ، أي من أوليائه.
والدليل على ذلك قوله جلَّ وعزَّ :
(فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).
أي كنتم مصدقين فقد أعلمتكم أني أنصركم عليهم فقد سقط عنكم
الخوف ، وقال بعضهم يخوف أولياءه ، أي إنما يخاف المنافقون ، ومن لا
حقيقة لإيمانه.
(فَلَا تَخَافُوهُمْ) ، أي . لا تخافوا المشركين.
* * *
وقوله - جلَّ وعزَّ -: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178)

(1/490)


قرئث (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ)
وقد قرلْت (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّمَا نُمْلِي)
معني (نُمْلِي لَهُمْ) نؤَخرهم - وهؤُلاء قوم أعلم اللَّه النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم لا يؤْمنون أبداً ، وأن بقاءَهم يزيدهم كفراً وإثماً.
وأما الإعراب - فقال أبو العباس محمد بن يزيد : إن من قرأ بالياء
(يَحْسَبَنَّ) فتح أن ، وكانت تنوب عن الاسم والخبر تقول حسبت أن زيدا
منطلق ، ويصح الكسر مع الياءِ - بفتح (ولا يحسبن الذين كفروا إنما نملي
لهم) بكسر إنَّ . وهو جائز على قبحه ، لأن الحسبان ليس بفعل حقيقي فهو
يبطل عمله مع أن ، كما يبطل مع اللام ، تقول حسبت لَعَبْدُ اللَّه منطلق.
وكذلك قد يجوز على بعد : حسبت أن عبد اللَّه منطِلق.
ومن قرأ (ولا تحسبن الذين كفروا) لم يجز له ، عند البصريين إلا كسر
(إن)
المعنى : لا تحسبن الذين كفروا ، إملاؤُنا خير لهم ودخلت أن مؤَكدة.
اذا فتحت (أن) صار المعنى ولا تحسبن الذين كفروا إملائا
قال أبو إسحاق وهو عندي في هذا الموضع يجوز على البدل من الذين.
المعنى لا نحسبن إملاءَنا للذين كفروا خيراً لهم وقد قرأ بها خلق كثير.
ومثل هذه القراءَة من الشعر
قول الشاعر :
فما كان قيسٌ هُلْكُه هلك واحد . . . ولكنه بنيانُ قوم تهدَّما

(1/491)


جعل هلكه بدلاً من قيس ، المعنى فما كان هلكُ - قيس هلك واحد.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)
يروى في التفسير أن الكفار قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - تخبرنا بأن الإنسان في النار حتى إذا صار مِنْ أهل مِلَّتك قلت إنه من أهل الجنة.
فأَعلم اللَّه عزَّ وجلَّ - أن حُكمَ من كفر أن يقال له : إنه من أهل النار ، ومن آمن فهو - ما آمن وأقام على إيمانه وأدَّى ما افتُرض عليه - من أهل الجنة ، أعلم أن المؤمنين وهم (الطيِّب) مُمَيزَّون من الخبيث أي مخلَّصُون.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ).
أي ما كان اللَّه ليعلمكم من " يصير منكم مؤمناً بعد كفره ، لأن الغيب
إنما يطلع عليه الرسُل لإقَامة البُرهَان ، لأنهم رسل وأن ما أتَوا بِه من عند اللَّه ، وقد قيل في التفسير : ما با لُنا نحن لا نكون أنبياء ، فأَعلم اللَّه أن ذلك إليه ، وأنه يختار لرسالاته منْ يشاءُ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180)
هذا يعني به علماءَ إليهود الذين بخلوا بما آتاهم اللَّه مِنْ عِلْمِ نبوة
النبي - صلى الله عليه وسلم - ومشاقته وعداوته
وقد قيل إنهم الذين يبخلون بالمال فيمنعون الزكاة.
قال أهل العربية : المعنى ، لا يحسبن الذين يبخلون البخل هو خيراً لهم.
ودل (يبخلون) على البخل . و (هو) ههنا فصل ، وهو الذي يسميه الكوفيون العماد ، وقد فسرناه إلا أنا أغفلنا فيه شَيئاً نذكره ههنا :

(1/492)


زعم سيبويه أن هو ، وهما ، وهم ، وأنا ، وأنت ، ونحن - وهي ، وسائر هذه الأشياءِ إنما تكون فصولاً مع الأفعال التي تختاج إلى اسم وخبر ولم
يذكر سيبويه الفصل مع المبتدأ والخبر ، ولو تأول متأول أن ذكره الفصل ههنا يدل على أنه جائز في المبتدأ أو الخبر كان ذلك غير ممتنع.
قال أبو إسحاق والذي أرى أنا في هذه ، (ولا يحسبن الذين يَبْخلون) بالياء.
ويكون الاسم محذوفاً.
وقد يجوز (ولا تَحسبن الذين يبخلون) على معنى
ولا تحسبن بُخل الذين يبخلون ، ولكن حذف البخل من ههنا فيه قبح ، إلا أن حذفه مِن قولك : (ولا يحسبن الذين يبخلون) قد دل يبخلون فيه على البخل ، كما تقول : من كذب كان شرًّا له ، والقراءَة بالتاءِ عندي لا تمنع ، فيكون مثل (وأسأل القرية) أي أهل القرية ، فكذلك يكون معنى هذا :
لَا تَحْسبَن بُخْل الباخلين خيراً لهم.
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ).
أي اللَّه يغني أهلهما فيغنيان بما فيهما ، ليس لأحد فيهما ملك فخوطب
القوم بما يعقلون ، لأنهم يجعلون ما رجع إلى الإنسان ميراثاً إذا كان ملكاً له.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181)
هؤلاءِ رؤَساء أهل الكتاب لما نَزَلَت (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً).

(1/493)


قالوا نرى أنَّ إله محمد يستَقْرض مِنا فنحن إذن أغنياء . وهو فقير ، وقالوا هذا تَلْبيساً على ضَعَفَتهمْ ، وهم يعلمون أن الله عزَّ وجلَّ : لا يستقرض من عَوَزٍ ، ولكنه يبْلو الأخيار فهم يعلمون أن اللَّه سمَّى
الإعطاءَ والصَّدَقة قَرضاً ، يؤَكد به - أن أضعافه ترجع إلى أهله ، وهو عزَّ وجل يقْبض ويبسُط أىِ يوسع ويُقَتر.
فأعلم اللَّه عزَّ وجلَّ أنه قد سمِع مقالتهم ، وأعلم أن ذَلك مُثْبت عليهم.
وأنهم إليه يرْجعونَ فيجازيهِمْ على ذلك وأنه خبير بعملهم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ).
ومعنى (عَذَابَ الْحَرِيقِ) أي عذابٌ مُحْرِق - بالنار ، لأن العذاب يكون بِغَيْر
النار.
فأعلم أن مجازاة هؤُلاء هذا العذاب.
وقوله (ذوقوا) هذه كلمة تقال للشيء يوئس من العَفْو يقال ذق ما أنت فيه
أي لَسْت بمتَخَلِّص منه.
* * *
وقوله جل ذكره : (الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183)
هذا من نعت (العبيد) الذين قالوا (حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ)
أي عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى تكون آيتُه هذه الآية.
فأَعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أنَّ أسلافهم قَد أتتهم الرسل بالبينات وبالذي طلبوا . فقتلوهم . فقال : (فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ).

(1/494)


وهم لم يكونُوا تَوَلَّوْا القتل ، ولكن رضوا بقتل أولئك الأنبياءِ فشركوهم في
القتل.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184)
الزُّبُر : جمع زبور والزبور كل كتاب ذو حكمة.
ويقال زبرت إذا كتبت . وزبرت إذا قرأت.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)
(وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ).
ولا يجوز "أجُورُكم" علَى رفع الأجور وجعل ما في معنى الذي ، لأن يوم
القيامة يصير من صلة (توفون) ، وتوفون من صلة (ما) فلا يأتي (ما) في الصلة بعد (أُجُوركُمْ) و (أُجُوركُمْ) خبر.
وقوله عزَّ وجلَّ " : (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ).
أي نُحِّيَ وأزيلَ (فقَدْ فَاز) يقال لكل من نجا من هلكة وكل من لقي ما
يغبط به : قد فاز ، وتأويله تباعد من المكروه ولقي ما يحب
ومعنى قول الناس مفازة إنما هي من مهلكة ، ولكنهم تفاءَلوا بأن سموا
المهلكة مفازة.
والمفازة المنجاة ، كما تفاءَلوا بأن سمُّوا اللديغ السليم ، وكما سمُّوا
الأعمى بالبصير.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186)
معناه : لتُخْتَبَرُن أي تقع عليكم المحن ، فيعلم المؤمن من غيره ، وهذه

(1/495)


النون دخلت مؤَكدة مع لام القسم وضُمَّت الواوُ لسكونها وسكون النون . ويقال للواحد من المذكرين : لتبلَينَ يا رجل ، وللاثنين لتبليَان يا رجلان ، ولجماعة الرجال : لتبْلَوُنَّ.
وتُفتَح الياءُ من لَتَبْلَينَ في قول سيبويه لسكونها وسكون النون.
وفي قول غيره تبنى على الفتح لضم النون إليها كما يبنى ما قبل هاءِ
التأنيث ، ويقال للمرأة تُبْلَين يا امرأة ، وللمرأتين لتبليَان يا امرأتان ولجماعة
النساءِ لتُبْلَيْنَانِّ يا نِسْوة ، زيدت الألف لاجتماع النونات.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا).
روي أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - سمع رجلا من إليهود يقول :
" إن اللْه فقير ونحنُ أغنياءُ " فلطمه أبو بكر - رضي الله عنه - فشكا إليهودي ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأله النبي :
" ما أراد بلطمك ؟
فقال أبو بكر سمعت منه كلمة ما ملكت نفسي معها أن لطمتُه.
فأنزل اللَّه عزَّ وجلَّ : (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا).
وأذى مقصور يكتب بالياء يقال قد أَذِيَ فلان يأذى أذى.
إذا سمع ما يسوءُه . .
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187)
(لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ).
وليبيننه ، بالياءِ والتاءِ ، فمن قال ليبيننه بالياءِ ، فلأنهم غَيبٌ ، ومن قال
بالتاءِ حكى المخاطبة التي كانت في وقت أخذ الميثاق ، والمعنى أن اللَّه أخذ منهم الميثاق ليبينن أمر نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
(فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ).

(1/496)


معنى (نبذوه) رمَوْا بهِ يقال للذي يطرح الشيء ولا يعْبأ به : قد جعلت
هذا الشيء بظهر ، وقد رميته بظهر.
قال الفرزدق :
تَمِيمُ بنَ قَيْسٍ لا تَكونَنَّ حاجَتِي . . . بظَهْرٍ فلا يَعْيا عَليَّ جَوابُها
أي لا تتركنها لا يُعْبَأ بها.
وأنبأ اللَّه عما حمل إليهود الذين كانوا رؤساءَ على كتمان أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : (وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا)
أي قبلوا على ذلك الرشا ، وقامت لهم رياسة اكتسبوا بها ، فذلك حملهُمْ
على الكفر بما يخفونه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188)
هؤلاءِ قوم من أهل الكتاب دخلوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - وخرجوا من عنده فذكروا لمن كان رآهم في ذلك الوقت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أتاهم بأشياءَ قد عرفوها.
فحمِدهم من شاهدهم من المسلمين على ذلك ، وأبطنوا خلاف ما أظهروا وأقاموا بعد ذلك على الكفر ، فأَعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرهم وأعْلمه أنهم ليْسوا بِمَفازة منَ العذَاب أي ليسوا ببعد من العذاب .

(1/497)


ووقعت (فَلَا تَحْسَبنهم) - مكررة لطول القصة.
والعرب تعيدُ إذا طالت القصة في حسبت وما أشبهها ، إعلاماً أن الذي جرى متصل بالأول ، وتوكيداً للأول ، فنقول : لا تظنَن زيداً إذا جاءَك وكلمك بكذا وكذا - فلا تظننه صادقاً ، تعيد - فلا تظنن توكيداً - ولو قلت لا تظن زيداً إذا جاءَك وحدثك بكذا وكذا صادقاً جاز ، ولكن التكرير أوكد وأوضح للقصة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189)
أي هو خالقهما ، ودليل ذلك قوله - عزَّ وجلَّ : (خالق كل شيء)
و (خلق السَّمَاوَات والأرض) وأعلم أن في خلقهما واختلافِ الليل والنهارِ
آياتٍ لأولى الآلباب " أي ذَوي العقول.
والآيات العلامات ، أي من العلامات فيهما دليل على أن خالقَهما واحد ليس كمثله شيء.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)
(الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ)
هذا من نعت (أولي الألباب) ، أي فهُؤلاءِ يستدلون على توحيد اللَّه -
عزَّ وجلَّ - بخلق السَّمَاوَات والأرض وأنهم يذكرون اللَّه في جميع أحوالهم (قِيَاماً وقُعُوداً وعلَى جُنُوبهِم)
معناه ومضطجعين ، وصلح في اللغة أن يعطف (بعلى)
على - (قياماً وقعوداً) لأنْ معناه ينبئُ عن حال في أحوال تصرف الإنسان ، تقول : أنا أسير

(1/498)


الى زيد مماشياً وعلى الخيل . المعنى ماشياً وراكباً . فهؤُلاءِ المستدلون على حقيقة توحيد الله يذكرون - اللَّه في سائر هذه الأحوال.
وقد قال بعضهم : (يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ).
أي يُصَلونَ على جميع هذه الأحوال على قدر إمكانهم في صحتهم وسَقَمِهم.
وحقيقته عندي - واللَّه أعلم - أنهم موحدون اللَّه في كل حال.
(وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ).
فيكون ذلك أزيدَ في بصيرتهم ، لأن فكرتهم تُرِيهُمْ عظيم شأنهما.
فيكون تمظيمهم للَّهِ على حسب ما يقفون عليه من آثار رحمته.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا).
معناه يقولون (رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا) أي خلقته دليلاً عليك ، وعلى
صدق ما أتَتْ به أنبياؤُكَ . لأن الأنبياءَ تأتي بما يَعْجِز عنه المخْلُوتُونَ.
فهو كالسماوات والأرض في الدليل على توحيد اللَّه.
(سُبْحَانَكَ): معناه براءَة لك من السوءِ وتنزيهاً لك من أن تكون خلقتهما
باطلًا . .
(فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)
أي فقد صدقنا رسلك وأن لَكَ جَنةً ونَاراً فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
* * *
(رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194)
معناه والله أعلم - على ألسُنِ رُسلِكَ.
وقوله - عزَّ وجلَّ : (وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ).

(1/499)


أي قد صدقنا يوم القيابة فلا تخزنا ، والمُخزى في اللغة المُذلُّ المحقور بأمر
قد لزمه بحجة ، وكذلك أخْزَيتُه . أي ألزمته حُجة أذَللْتُه معها.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ)
أي قد وعدت من آمن بكِ ووحدك الجنة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195)
المعنى فاستجاب لهم ربهم بأني لا أضيع - عمل عامل منكم من ذَكَرٍ أو
أنْثَى.
وإن قرئت (إنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ) . جائز بكسر (إنَّ) ويكون المعنى
قال لهم ربهم : إنِّي لا أضيع عمَل عامل منكم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (ثَوَابًا)
مصدر مؤكد ، لأن معنى (وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ)
"لأثيبنهُم"
ومثله (كِتَابَ اللَّهِ عَلَيكم) لأن قوله عزَّ وجلَّ (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ . . .).
معناه : كتب اللَّه عليكم هذا فـ (كِتَابَ اللَّهِ) - مؤَكد - وكذلك قوله
عزَّ وجلَّ : (وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) قد علم أن ذلك صنع اللَّه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196)
خطاب للنبى - صلى الله عليه وسلم - وخطاب للخلق في هذا الموضع ، المعنى لا يغرنكم أيها المؤمنون.
ويروى أن قوماً من الكفار كانوا يتجرون ويربحون في أسفار كانوا
يسافرونها ، فأعلم اللَّه عزَّ وجلَّ - أن ذلك مما لا ينبغي أن يُغْبَطوا به ، لأن

(1/500)


مصيرهم بكفرهم إلى النار ولا خيرَ بخير بعده النار.
فقال عزَّ وجلَّ : (مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197)
أي ذلك الكسب والربح الذي يربحونه متاع قليل.
وأعلم - جلَّ وعزَّ - أن من أراد اللَّه واتقاه فله الجنة فقال
(لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198)
(نُزُلًا) مَؤكد أيضاً ، لأن خلودهم فيها إنزالهم فيها.
وواحد الأبرار - بارُّ وأبرَار ، مثل صاحب وأصحاب ويجوز أن يكونَ بَرٌّ
وأبرار ، على فَعْل وأفْعَال ، تقول بررت والدي فأنا برٌّ ، وأصله برَر ، لكن الراءَ أدغمَت للتضعيف.
* * *
قوله عزَّ وجلَّ : (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199)
(خَاشِعِينَ لِلَّهِ).
أي من عند أهل الكتاب من يُؤمن خاشعاً للَّهِ -.
(لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا).
وإنما ذكر هؤُلاءِ لأن ذكر الذين كفروا جرى قبل ذكرهم فقال :
(فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا).
أخبر - جلَّ وعزَّ - بما حمل إليهود على الكفر ، وأخبر بحال من آمن من
أهل الكتاب وأنهم - صدقوا في حال خشوع ورغبة عنْ أن يشتروا بآيات اللَّه ثمناً قليلاً.
* * *
قوله جلَّ وعزَّ : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)
أي على دينكم ، (وَصَابروا) : أي عدوكم ورَابطُوا : أقيموا على جهاد

(1/501)


عدوكم بالحرب والحجة ، (وَاتَّقُوا اللَّهَ) في كل ما أمركم به ، ونهاكم عنه.
(لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).
ولعل ترج ، وهو ترج لهم ، أي ليكونوا على رجاءِ فلاح - وإنَّما قيل لهم (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) : أي لعلكم تسلمون من أعمال تبطل أعمالكم هذه.
فأما المؤمنون الذين وصفهم اللَّه جل ثناؤُه فقد أفلحوا.
قال اللَّه جلَّ وعزَّ : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2).
إلى آخر وصف المؤمنين.
فهؤُلاءِ قد أفلحوا لا محالة وإنما يكون الترجي مع عمل يتوهم أنه بعض من العمل الصالح .

(1/502)


سورة النساء
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله - عزَّ وجلَّ - (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)
ابتدأ اللَّه السورة بالموعظة . أخبر بما يوجب أنه واحد وأن حقه
عز وجلَّ - أن يُتَقى فقال :
(الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ)
يعني من آدم عليه السلام ، وإنما قيل في اللغة واحدة لأن لفظ النفس
مؤَنث ، ومعناها مذكر في هذا الموضع ، ولو قيل من نفس واحد لجاز.
(وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا)
حواءَ خُلِقتْ من ضِلْع من أضْلاع آدَم ، وبث اللَّه جميع خلق الناس
منها.
ومعنى " بَث " نشر ، يقال : بث الله الخلق ، وقال - عزَّ وجلَّ -
(كَالفَرَاشِ المبْثُوثِ) ، ، فهذا يدل على بث.
وبعض العرب يقول أبث اللَّهُ الخلقَ ، ويُقَال بَثَثتُك سِري وأبْثثتك سِري.
وقوله - عزَّ وجلَّ : (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ)

(2/5)


بالتشديد ، فالأصل تتساءلون . وأدْغمت التاءُ في السين لقرب مكان هذه
من هذه . ومن قرأ بالتخفيف فالأصل تتساءَلُون ، إلا أن التاءَ الثانية حذفت
لاجتماع التَاءَيْن ، وذلك يُستثقل في اللفْظ فوقع الحذف استخفافاً ، لأن الكلام غيرُ مُلْبس.
ومعنى (تساءَلُون بِهِ) تَطْلُبُونَ حُقُوقكم بِهِ.
(والأرْحَامَ)
القراءَة الجيِّدةُ نصب الأرحام . المعنى واتقوا الأرحام أن تقطعوها ، فأما
الجر في الأرحامِ فخطأ في العربية لا يجوز إلا في اضطرار شعر (1) ، وخطأ أيضاً
في أمْر الدين عظيم ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :
" لا تحلفوا بآبائكم ".
فكيف يكون تساءَلون به وبالرحم على ذا ؟.
رأيت أبا إسحاق إسماعيل بن إسحاق يذهب إلى أن الحلف بغير اللَّه
أمر عظيم ، وأن ذلك خاص للَّهِ - عزَّ وجلَّ - على ما أتت به الرواية.
فأما العربية فإجماع النحويين أنه يَقْبحُ أنْ يُنْسق باسم ظاهر على اسم
مضمر في حال الجر إلا بإِظهار الجار ، يَسْتَقْبح النحوُيون : مررت به وزيدٍ.
وبك وزيدٍ ، إِلا مع إظهار الخافض حتى يقولوا بك وبزيد ، فقال بعضهم :
لأن المخفوض حرف مُتَصِل غيرُ منفصل ، فكأنَّه كالتنوين في الاسم ، فقبح أن
يعطف باسم يقُومُ بنفسه على اسم لا يقوم بنفسه . وقد فسر المازي هذا تفسيراً مُقْنِعاً فقال : الثاني في العطف شريك للأول ، فإِن كان الأول يصلح شريكاً
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { والأرحام } الجمهور/ على نصب ميم « والأرحام » وفيه وجهان ، أحدهما : أنه عطفٌ على لفظ الجلالة أي : واتقوا الأرحام أي : لا تقطعوها . وقَدَّر بعضهم مضافاً أي : قَطْعَ الأرحام ، ويقال : « إنَّ هذا في الحقيقة من عطفِ الخاص على العام ، وذلك أن معنى اتقوا الله : اتقوا مخالفَتَه ، وقطعُ الأرحام مندرجٌ فيها » . والثاني : أنه معطوفٌ على محل المجرور في « به » نحو : مررت بزيد وعمراً ، لَمَّا لَم يَشْرَكْه في الإِتباع على اللفظِ تبعه على الموضع . ويؤيد هذا قراءة عبد الله : « وبالأرحام » . وقال أبو البقاء : « تُعَظِّمونه والأرحام ، لأنَّ الحَلْفَ به تعظيمٌ له ».
وقرأ حمزة « والأرحامِ » بالجر ، وفيها قولان ، أحدهما : أنه عطفٌ على الضمير المجرور في « به » من غير إعادة الجار ، وهذا لا يجيزه البصريون ، وقد تقدَّم تحقيقُ القول في هذه المسألة ، وأنَّ فيها ثلاثةَ مذاهب ، واحتجاجُ كل فريق في قوله تعالى : { وَكُفْرٌ بِهِ والمسجد } [ البقرة : 217 ].
وقد طَعَنَ جماعة على هذه القراءة كالزَّجَّاج وغيره ، حتى يحكى عن الفراء الذي مذهبه جوازُ ذلك أنه قال : « حَدَّثني شريك بن عبد الله عن الأعمش عن إبراهيم قال : » والأرحامِ « بخفض الأرحام هو كقولهم : » أسألك بالله والرحمِ « قال : » وهذا قبيحٌ « لأنَّ العرب لا تَرُدُّ مخفوضاً على مخفوضٍ قد كُنِيَ عنه ».
والثاني : أنه ليس معطوفاً على الضمير المجرور بل الواوُ للقسم وهو خفضٌ بحرفِ القسم مُقْسَمٌ به ، وجوابُ القسم : « إنَّ الله كان عليكم رقيباً » . وضُعِّف هذا بوجهين ، أحدهما : أن قراءتَيْ النصبِ وإظهار حرف الجر في « بالأرحام » يمنعان من ذلك ، والأصل توافقُ القراءات . والثاني : أنه نُهِيَ أن يُحْلَف بغير الله تعالى والأحاديثُ مصرحةٌ بذلك.
وقدَّر بعضُهم مضافاً فراراً من ذلك فقال : « تقديره : وربِّ الأرحام : قال أبو البقاء : وهذا قد أَغْنى عنه ما قبله » يعني الحلف بالله تعالى . ولقائل [ أن يقول : ] « إنَّ لله تعالى أن يُقْسِم بما شاء كما أقسم بمخلوقاتِه كالشمس والنجم والليل ، وإن كنا نحن مَنْهيين عن ذلك » ، إلا أنَّ المقصودَ من حيث المعنى ليس على القسمِ ، فالأَوْلى حَمْلُ هذه القراءةِ على العطفِ على الضمير ، ولا التفاتَ إلى طَعْنِ مَنْ طَعَن فيها ، وحمزةُ بالرتبة السَّنِيَّة المانعةِ له مِنْ نقلِ قراءة ضعيفة.
وقرأ عبد الله أيضاً : « والأرحامُ » رفعاً وهو على الابتداء ، والخبر محذوفٌ فقدَّره ابن عطية : « أهلٌ أَنْ توصل » ، وقَدَّره الزمخشري : و « الأرحامُ مِمَّا يتقى ، أو : مما يُتَساءل به » ، وهذا أحسنُ للدلالة اللفظية والمعنوية ، بخلاف الأول ، فإنه للدلالة المعنوية فقط ، وقَدَّره أبو البقاء : « والأرحامُ محترمة » أي : واجبٌ حرمتُها . اهـ (الدُّرُّ المصُون).
وقال العلامة الآلوسي :
{ والأرحام } بالنصب وهو معطوف إما على محل الجار والمجرور إن كان المحل لهما ، أو على محل المجرور إن كان المحل له ، والكلام على حدّ مررت بزيد ، وعمراً ، وينصره قراءة (تساءلون به وبالأرحام) وأنهم كانوا يقرنونها في السؤال والمناشدة بالله تعالى ويقولون : أسألك بالله تعالى وبالله سبحانه وبالرحم كما أخرج ذلك غير واحد عن مجاهد ، وهو اختيار الفارسي وعلي بن عيسى؛ وإما معطوف على الاسم الجليل أي اتقوا الله تعالى والأرحام وصلوها ولا تقطعوها فإن قطعها مما يجب أن يتقى ، وهو رواية ابن حميد عن مجاهد والضحاك عن ابن عباس ، وابن المنذر عن عكرمة ، وحكي عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه واختاره الفراء والزَّجَّاج ، وجوز الواحدي النصب على الإغراء أي والزموا الأرحام وصلوها ، وقرأ حمزة بالجر ، وخرجت في المشهور على العطف على الضمير المجرور ، وضعف ذلك أكثر النحويين بأن الضمير المجرور كبعض الكلمة لشدة اتصاله بها فكما لا يعطف على جزء الكلمة لا يعطف عليه.
وأول من شنع على حمزة في هذ القراءة أبو العباس المبرد حتى قال : لا تحل القراءة بها ، وتبعه في ذلك جماعة منهم ابن عطية وزعم أنه يردها وجهان : أحدهما : أن ذكر أن الأرحام مما يتساءل بها لا معنى له في الحض على تقوى الله تعالى ، ولا فائدة فيها أكثر من الإخبار بأن الأرحام يتساءل بها ، وهذا مما يغض من الفصاحة ، والثاني : أن في ذكرها على ذلك تقرير التساؤل بها والقسم بحرمتها ، والحديث الصحيح يرد ذلك ، فقد أخرج الشيخان عنه صلى الله عليه وسلم : " من كان حالفاً فليحلف بالله تعالى أو ليصمت " وأنت تعلم أن حمزة لم يقرأ كذلك من نفسه ولكن أخذ ذلك بل جميع القرآن عن سليمان بن مهران الأعمش والإمام بن أعين ومحمد بن أبى ليلى ، وجعفر بن محمد الصادق وكان صالحاً ورعاً ثقة في الحديث من الطبقة الثالثة.
وقد قال الإمام أبو حنيفة والثوري ويحيى بن آدم في حقه غلب حمزة الناس على القراءة والفرائض ، وأخذ عنه جماعة وتلمذوا عليه منهم إمام الكوفة قراءة وعربية أبو الحسن الكسائي ، وهو أحد القراء السبع الذين قال أساطين الدين : إن قراءتهم متواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومع هذا لم يقرأ بذلك وحده بل قرأ به جماعة من غير السبعة كابن مسعود وابن عباس وإبراهيم النخعي والحسن البصري وقتادة ومجاهد وغيرهم كما نقله ابن يعيش فالتشنيع على هذا الإمام في غاية الشناعة ونهاية الجسارة والبشاعة وربما يخشى منه الكفر ، وما ذكر من امتناع العطف على الضمير المجرور هو مذهب البصريين ولسنا متعبدين باتباعهم ، وقد أطال أبو حيان في «البحر» الكلام في الرد عليهم ، وادعى أن ما ذهبوا إليه غير صحيح ، بل الصحيح ما ذهب إليه الكوفيون من الجواز وورد ذلك في لسان العرب نثراً ونظماً ، وإلى ذلك ذهب ابن مالك ، وحديث إن ذكر الأرحام حينئذ لا معنى له في الحض على تقوى الله تعالى ساقط من القول لأن التقوى إن أريد بها تقوى خاصة وهي التي في حقوق العباد التي من جملتها صلة الرحم فالتساؤل بالأرحام مما يقتضيه بلا ريب ، وإن أريد الأعم فلدخوله فيها وأما شبهة أن في ذكرها تقرير التساؤل بها ، والقسم بحرمتها والحديث يرد ذلك للنهي فيه عن الحلف بغير الله تعالى ، فقد قيل في جوابها : لا نسلم أن الحلف بغير الله تعالى مطلقاً منهي عنه ، بل المنهي عنه ما كان مع اعتقاد وجوب البر ، وأما الحلف على سبيل التأكيد مثلاً فمما لا بأس به ففي الخبر «أفلح وأبيه إن صدق».
وقد ذكر بعضهم أن قول الشخص لآخر : أسألك بالرحم أن تفعل كذا ليس الغرض منه سوى الاستعطاف وليس هو كقول القائل والرحم لأفعلن كذا ، ولقد فعلت كذا ، فلا يكون متعلق النهي في شيء ، والقول بأن المراد ههنا حكاية ما كانوا يفعلون في الجاهلية لا يخفى ما فيه فافهم وقد خرج ابن جني هذه القراءة على تخريج آخر ، فقال في «الخصائص» : باب في أن المحذوف إذا دلت الدلالة عليه كان في حكم الملفوظ به من ذلك.
رسم دار وقفت في طلله . . .
أي رب رسم دار ، وكان رؤبة إذا قيل له : كيف أصبحت؟ يقول : خير عافاك الله تعالى أي بخير يحذف الباء لدلالة الحال عليها ، وعلى نحو من هذا تتوجه عندنا قراءة حمزة وفي «شرح المفصل» أن الباء في هذه القراءة محذوفة لتقدم ذكرها ، وقد مشى على ذلك أيضاً الزمخشري في «أحاجيه» ، وذكر صاحب «الكشف» أنه أقرب من التخريج الأول عند أكثر البصرية لثبوت إضمار الجار في نحو الله لأفعلن وفي نحو ما مثل عبد الله ولا أخيه يقولان ذلك والحمل على ما ثبت هو الوجه ، ونقل عن بعضهم أن الواو للقسم على نحو اتق الله تعالى فوالله إنه مطلع عليك وترك الفاء لأن الاستئناف أقوى الأصلين وهو وجه حسن.
وقرأ ابن زيد { والأرحام } بالرفع على أنه مبتدأ محذوف الخبر ، أي والأرحام كذلك أي مما يتقى لقرينة { اتقوا } أو مما يتساءل به لقرينة { تَسَاءلُونَ } وقدره ابن عطية أهل لأن توصل وابن جني مما يجب أن توصلوه وتحتاطوا فيه ولعل الجملة حينئذ معترضة وإلا ففي العطف خفاء ، وقد نبه سبحانه إذ قرن الأرحام باسمه سبحانه على أن صلتها بمكان منه تعالى. ا هـ (روح المعاني . 4 / 184 - 185).

(2/6)


للثاني وإلا لم يصلح أن يكون الثاني شريكاً له.
قال : فكما لا تقول مررت بزيد و " ك " فكذلك لا يجوز مررت بك وزيدٍ.
وقد جاز ذلك في الشعر.
أنشد سيبويه :
فاليوم قربْت تهجُونا وتشتُمنا . . . فاذْهب فما بك والأيَّامِ من عجب
* * *
وقوله : (وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2)
أي أعْطوهم أموالهم إذا آنستم منهم رشداً ، وإنما يسموْن يَتامَى - بعد
أن يؤنس منهم الرُّشُد ، وقد زال عنهم اسم يتامى - بالاسم الأول الذي كان لهُم ، وقد كان يُقالُ في النبي - صلى الله عليه وسلم - يتيم أبي طالب.
وقوله - عزَّ وجلَّ - : (وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ)
الطيب مالكم ، والخبيث مالُ اليتيم وغيرُه مما ليس لكم ، فلا تأكلوا مال
اليتيم بدلًا منْ مَالِكم ، وكذلك لا تأكُلُوا (أيضاً) (أمْوالَهُمْ إِلَى أمْوالِكُمْ).
أي لا تُضِيفُوا أمْوالهم في الأكل إلى أموالكم ، أي إن احتجتم إِليها
فليس لكم أن تأكلوها مع أموالكم.
(إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا)

(2/7)


والحوبُ : الإثم العظيم ، والحُوبُ فعلُ الرجل ، تقول : حاب حُوباً
كقولك قدْ خان خُوناً.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3)
قال مجاهد : إِن تحرجْتُم أن تتركوا ولاية اليتامى إيماناً وتصْديقاً فكذلك
تحرجوا من الزنا ، وقال غيره : وإنْ خفْتم ألا تعدلوا في أمْر النساءِ فانكحوا ما ذكر اللَّه عزَّ وجلَّ.
وقال بعض المفسًرين قولًا ثالثاً ، قال أهل البصرة من أهل
العربية : يقول ذلك المفسِّرُ - قال إنهم كانوا يتزوجُون العَشْر مِنَ اليتامَى ونحوَ ذلك رغْبةً في مالِهِن فقال اللَّه - جلَّ وعزَّ - (وإن خفتم ألا تُقْسِطُوا في اليتامَى) أي في نكاح اليتامى.
ودل عليه(فانكحوا) كذلك
قال أبو العباس محمد ابن يزيد ، وهو مذهب أهل النظر من أهل التفسير.
(فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ)
لم يقل من طاب والوجه في الآدميين أن يقال مَنْ ، وفي الصفاتِ
وأسماءِ الأجناس أن يقال (ما).
تقول : ما عندك ؟ فيقول فرس وطيبٌ.
فالمعنى فانكحوا الطيب الحلال على هذه العِدة التي وصفت ، لأن ليس
كل النساءِ طيباً ، قال - عزَّ وجلَّ - : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ).

(2/8)


فَلَيس ممن ذكر ما يطيبُ.
وقوله - عزَّ وجلَّ - (مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ)
بدل من (مَا طَابَ لكُمْ) ومعناه اثنين اثنين ، وثلاثاً ثَلاثاً ، وأربعاً أرْبعاً.
إلا أنه لا ينصرف لجهتين لا أعلم أن أحداً من النحويين ذكرهما ، وهي أنه
اجتمع فيه علتان أنَّه معدُول عن اثنين اثنين ، وثلاث ثلاثٍ ، وأنه عدل عن تأنيثٍ.
قال أصحابنا إنه اجتمع فيه عِلتان أنه عُدل عن تأنيث ، وأنه نكرة.
والنكرة أصل للأسماء بهذا كان ينبغي أن نخففه . لأن النكرة تخفف ولا
تعد فرعاً.
وقال غيرهم هو معرفة وهذا محال لأنه صفة للنكرة ، قال اللَّه
- جلَّ وعزَّ - : (جَاعلِ المَلَائِكَةِ رُسُلًا أولي اجْنِحةٍ مَثْنَى وثُلَاثَ وَرَبَاعُ).
فهذا مُحال أن يكون أولي أجنحة الثلاثة والأربعة وإِنما معناه أولي أجنحة ثَلاثةً
ثَلَاثَةً وأرْبعةً أربعة.
قال الشاعر :

(2/9)


ولكنما أهلى بوادٍ أنيسُه ذِئَابٌ . . . تَبَغى الناسَ مَثنَى ومَوْحَدُ
فإِنْ قال قائل من الرافضة : إنه قَدْ أحِلَّ لَنا تسْعٌ ، لأنَّ قوله :
(مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ) يراد به تِسَع ، قيل هذا يبطل من جهات :
أحدها في اللغة أن مثنى لا يصلح إلا لاثنين اثنين على التفريق.
ومنها أنه يصير أعْيى كلام . لو قال قائل في موضع تسعةٍ أعطيك
اثنين وثلاثة وأرْبعة يريد تسْعةً ، قيل تسعة تغنيك عن هذا ، لأن تسعة وضِعتْ لهذا العددِ كله ، أعني من واحد إِلى تسعة.
وبعد فيكون - على قولهم - من تزوج أقل من تسع أو واحدة فعاصٍ
لأنه إِذا كان الذِي أبيح له تسعاً أو واحدةً فليس لنا سبيل إِلى اثنين.
لأنه إِذا أمرك من تجب عليك طاعته فقال ادخل هذا المسجدَ في اليوم تسعاً أو
واحدة ، فدخلت غير هاتين اللتين حددهما لك من المرات فقد عصيْته.
هذا قول لا يُعرجُ على مِثله . ولكنَا ذَكرْنَاهُ ليعْلم المسلمون أن أهل هذه
المقالة مباينون لأهل الِإسلام في اعتقادِهم ، ويعتقدون في ذلك ما لا يشتبه
على أحد من الخطأ .

(2/10)


فأمَّا قوله : (ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا)
(فمعناه) ذلك أقْربُ ألا تجُورُوا . وقيل في التَّفْسير : ألّاَ تميلوا ، ومعنى
تميلوا تجوروا . فأما من قال : (أَلَّا تَعُولُوا) : ألا تكثُر عيالُكُمْ ، فزعم جميع أهل اللغة أنَّ هذا خطأ ، لأن الواحدة تعول ، وإِباحةُ كل ما ملكَتْ اليمينُ أزْيدُ في العيال من أربع ، ولم يكن في العدد في النكاح حا حين نزلَتْ هذه
الآية.
والدليل على أنهم كانوا يرغبون في التزويج من اليتامى لمالهنَّ ، أنهم
كانوا لا يبالون ألَّا يعْدلوا في أمرهم.
وقوله - عزَّ وجلَّ - (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ)
فالمعنى : وإِن خفتم ألا تقسطوا في نكاح يتامى فانكحوا الطيب الذي
قد أحل لكم من غَيْرهنَّ ، والمعنى إن أمنتُم الجور في اليتامى فانكحوا منْهنَ
كهذه العدة ، لأن النساءَ تشتمل على اليتامى وغيرهن.
وقوله : (وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4)
يقال هو صَدَاق المرأة ، وصدُقةُ المرأة ، وصُدْقَةُ المرأة . وَصَداقُ المرأة.
مفتوح أولها ، والذي في القرآن جمع صدقة.
ومن قال صُدْقَة قال صُدُقاتهنَّ ، كما يقول غرْفة وغُرفات ، ويجوز صدْقاتهنَّ ، وصُدَقَاتهنَّ . بضم الصاد وفتح

(2/11)


الدال. ويجوز صُدُقاتهنَّ ، ولا تقرأنَّ من هذا إِلا ما قد قرئ به لأن القراءَة
سُنة لا ينبغي أن يقرأ فيها بكل ما يجيزه النحويون ، وإِنْ تتبعْ فالذي روي من
المشهورُ في القراءَة أجْودُ عند النحويين ، فيجتمع في القراءَة بما قد روى
الاتباعُ وإِثباتُ ما هو أقوى في الحجة : إِن شاءَ الله.
ومعنى قوله : (نِحْلةٌ)
فيه غير قولٍ ، قال بعضُهم فريضةً ، وقال بعضهم ديانةً ، تقول : فلان
ينتحل كذا وكذا ، أيْ يدينُ به ، وقال بعضهم هي نحلة من اللَّه لهن أنْ جعل
على الرجال الصداق ، ولم يجعل على المرأة شيئاً من الغُرْم ، فتلك نحلة من
اللَّه للنساءِ يقال - نحلتُ الرجل والمرأة - إِذا وهَبْتُ له - نِحْلةً ونُحْلاً ويقال : قد نَحِلَ جسم فلان ونَحَلَ إِذا دقَّ.
والنَّحْلُ جائز أن تكون سميت نحلاً ، لأن الله جلّ ثناؤُه نحل الناس العسل الذي يخرج من بطونها.
وقوله - جلَّ ؛ عزّ - (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا)
أي عن شيءٍ من الصداق.
و " لكم " خطاب للأزواج ، وقال بعضهم للأولياءِ ههنا . و " نفساً " منصوب على التمييز لأنه إِذا قال : طبْن لكم ، لم يعلم في أي صنْف وقع الطيبُ.
المعنى : فإِن طابت أَنفسهن بذلك.
وقد شرحناه قبل هذا المكان شرحاً وافياً.
وقوله : (فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا)
يقال : هنأَني الطعامُ ومراني . وقال بعضهم : يقال مع هنأني مراني.
فإذا لم تذكر هنأَني قلت أَمْرَأَني بالألف.
وهذا حقيقته أن مرأني تبَينتُ أنه

(2/12)


سينهضم وأحمد مغبتهُ ، فإذا قلت أمْرأني الطعام فتأويله أنه قد انهضم وحُمدتْ
فإن قال قائل : إنما قيل : (فَإِنْ طبْنَ لكمْ عَنْ شَيءٍ منْه نَفْساً)
فكيف يجوز أن يقبل الرجل المهر كله ، وإنما قيل له منه ؟
فالجواب في ذلك أن " منه " ههنا للجنس لما قال عزَّ وجلَّ - : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ).
فلم نْؤمر أن نجتنب بعض الأوثان ، ولكن المعنى اجتنبوا
الرجس الذي هو وثن.
أي فكلوا الشيءَ الذي هو مهْر.
* * *
وقوله : (وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5)
قال بعضهم : السفهاء النساء والصبْيان ، وقال بعضهم : السفهاء
اليتامى ، والسفهاء يدل على أنَّه لا يعني به النساء وحدهن ، لأن النساءَ أكثر ما يستعمل فيهن جمع سفيهة وهو سفائه ، ويجوز سفهاء ، كما يقال فقيرةٌ
وفقراء.
وقال بعضهُمْ : معناه لا تهبوا للسفهاء أموالكم ، وهذا عندي - واللَّه
أعلم - غير جائز . كذلك قالَ أصْحابنا البصْريونَ بل السفيه أحَق بالهبة لتعذُّر الكسب عليه ، ولو مُنِعْنَا منَ الهبَة لهم لما جاز أنْ نوَرِّثهمْ ، وإِنما معْنَى : (وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ) ، لا تؤتوا السفهاءَ أمْوالهم ، والدليل على ذلك قوله : (وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ)
وقوله : (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ).
وإِنما قيل أموالكم لأن معناه الشيءَ الذي به قوام أمركم ، كما قال
اللَّه : (ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ)
ولم يكن الرجل منهم يقتل نفسه ،

(2/13)


ولكن كان بعضهم يقتل بعْضاً ، أي تقتلون الجنس الذي هو جنسُكُمْ.
وقرئت " اللاتي جعل اللَّهُ لكمْ قياماً "، وقيماً . يقال : هذا قوام الأمْر
وملاكه.
المعنى : التي جعلها الله تقيمكم فتقومون بها قياماً ، فهو راجع إلى
هذا ، والمعنى جعلها الله قيمة الأشياءِ فبها يقوم أمْركم.
(وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا)
أي : علموهم - مع إطعامكم إياهم ، وكسوتكم إيَّاهم - أمْر دينهمْ . . .
* * *
وقوله - عزَّ وجلَّ - : (وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (6)
معناه : اختبروا اليتامى.
(حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا)
معنى : " آنسُتْم " : عَلِمْتمْ.
ومعنى (الرشد) : الطريقة المستقيمة التي تَثقُونَ
مَعَهَا بأنَّهم يحْفظُون أمَوالهُمْ ، فادْفَعُوا إِليْهمْ أمْوالَهمْ.
(وَلَا تَأكُلُوهَا إسْرَافاً وَبِدَاراً أنْ يكْبُروا)
أي مُبادرة كبرهمْ.
قال بعضهم لا تأكلوها إسرافاً ، لا تأكلُوا منْها ، وكلوا القوت على قدر
نفعكم إِياهُمْ في توليكم علَيهمْ.
وقال بعضهم : معنى : (ومَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيأكلْ بِالْمَعْرُوفِ).
أي يأكل قرضاً ولا يأْخذ من مال اليتيم شيئاً ، لأن َ المعروف أن يأكل

(2/14)


الإنسانُ مالَه ، ولا يأكُل مال غيره قال :
والدليل على ذلك قوله : (فَإذَا دَفَعْتُم إِلَيْهِمْ أمْوَالَهُمْ فَأشْهِدُوا عَلَيهِمْ).
* * *
وقوله : عزَّ وجلَّ : (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7)
كانت العرب لا تُورِّثُ إِلا منْ طَاعن بالرماحِ وزاد عن المال وحاز
الغنيمة ، فأعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أن حق الميراث على ما ذكر من الفرض.
وجاءَت امرأة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعها بنات لها تُوفِّي أبوهُنَّ وهو زوجُها.
وقدْ همَّ عمَّا البنات بأخذ المال فنزلت : (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) الآية.
فقال العمَّان : يا رسول الله أيرثُ من لا يُطاعن بالرماحِ ولا يزُودُ عن
المال ولا يحُوزُ الغنيمة ؟
فقال - صلى الله عليه وسلم - : أعطيا البنات الثلثين ، وأعطيا الزوجة
- وهي أمُّهنَّ - الثمُن ، وما بقي فلكما ، فقالا : فمن يتولى القيام بأمرهما ؟
فأمرهما النبي - صلى الله عليه وسلم - أنْ يتوليا ذَلكَ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (نَصِيباً مَفْرُوضاً)
هذا منصوب على الحال ، المعنى لهؤُلاءِ أنْصِبة على ما ذكرناها في
حال الفرض ، وهذا كلام مؤَكِّد لأن قوله - جل ثناؤُه - (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ . . .) معناه : إنَّ ذلك مفروض لهنَّ.
* * *
وقوله - عزَّ وجلَّ - : (وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (8)
أي : فأعطوهم منه .

(2/15)


قال الحسن رحمة اللَّه عليه ، والنخَعِي : أدركنا الناس وهم يَقْسِمون
عَلى القَرَاباتِ والمساكين . واليَتَامَى من العَين ، يَعْنيانِ الوَرِقَ ، والذهَبَ ، فإذا قُسِمَ الوَرِق والذهب وصارت القسمةُ إلى الأرَضِين والرقيق وما أشبَهَ ذلك ؛ قالوا لهم قولاً معروفاً . كانوا يقولون لهم : بورك فيكم.
وقال قوم : نَسَخَ الأمَرَ للمَسَاكينِ ومَنْ ذُكرَ في هذه الآية الفَرضُ في
القِسْمَةِ ، وإِباحةُ الثلث للميِّتِ يجعله حيث شاءَ.
قال أبو إسحاق وقد أجمعوا أن الأمر بالقسمة من الميراث للقرابة
والمساكين واليتامى قَد أمِر بهما ، ولم يجمعوا على نسخها ، والأمر في ذلك
على ما أجْمعَ عَليْه ، واللَّه أعلم.
* * *
وقواعه : (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (9)
الكلام في ذُريًة بضم الذال ، ويجوز ذِرية ، - بكسر الذال ، وقد قرئ
بهما ، إلا أن الضمَّ أجودُ وهي منسوبة إِلى الذر ، وهي فُعْلِيَّة منه.
ويجوز أن يكون أصلها ذُرُّورَة ، ولكن الراءَ أبدلت ياء وأدغمت الواو
فيها ، فأما الكسر في الذال فلكسر الراءِ كما قالوا في عُتَي : عِتي.
وضِعَاف جمعَ ضعيف وضعيفة ، كما تقول ظَريف وظِراف وخبيث

(2/16)


وخباث . وإن قيل ضُعفاءُ جاز ، تقول ضعيف وضُعفاءُ.
قيل : ومعنى الآية أنهم كانوا يُوصون بأموالهم على قَدْر أهوائهم.
ويتركون ضعفة ذراريهم وأولاَدِهم فأمرهم اللَّه - عزْ وجل - أن يُوصُوا لهم ، وأن يُجرُوا ذلك من سدَادٍ.
وقِيل : قيلَ لَهُم هَذَا بسببِ اليتامى . فوُعظُوا في تَوليتهم اليتامى بأن يفعلُوا كما يحبونَ أنْ يُفعل بأولاَدِهم من بعدهم.
وكلا القولين جائر حسن ، ألا أن تسميةَ الفرائض قد نَسخَ ذلك بما جعلَ
من الأقسام للأولادِ وذَوِي العصبةِ.
ثم خوَّف اللَّه عزَّ وجلَّ وغَلًظَ في أمر اليتامى وأوعدَ فقال :
(إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)
(يُقْرأ) (وَسَيُصَلَوْنَ).
في هذا - أعني في قوله. . يأكُلونُ أموالَ اليتَامَى " - دليلُ أن مال اليتيم إن
أُخِذَ منه على قدْرِ القيامِ له ولم يُتجاوزْ ذلك جاز.
بل يستظهر فيه إن أمكن ألا يُقْرب ألبتَّةَ لشدة الوعيد فيه ، بأنْ لا يْؤكل
منه إِلا قرْضاً ، وإن أُخِذَ القَصْدُ وقَدْرُ الحاجةِ على قَدْر نَفْعِه فلا بأس إن شاءَ الله.

(2/17)


وقوله - عزَّ وجلَّ - (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (11)
معنى " يُوصِيكم " : يفرض عليكم ، لأن الوصية من اللَّه - عزْ وجل -
فرض ، والدليل على ذلك قوله : (وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ).
وهذا من المحكم علينا.
(لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ)
المعنى : يستقر للذكر مثلُ حظ الأنثيين ، له الثلثان وللابنة الثلث.
(فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ)
يجوز واحدةً ووَاحِدةٌ ههنا ، وقد قرئ بهما جميعاً إِلا أن النَصبَ عندي
أجودُ بكثيرٍ ، لأَن قوله : (فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ) قد بين أن المعنى فإِن كان الَأولادُ نساءً ، وكذلك ، وإِنْ كانَتْ المَولُودَة واحدةً
فلذلك اخترنا النصبَ ، وعليه أكثر القراءَة.
فإِن قال قائل إِنما ذكر لنا ما فوق الثنتين وذكرت واحدة فلم أُعْطيَتِ
البنتان الثلثين فَسوِّيَ بينَ الثَنْتَين والجماعةِ ؟
فقد قال الناس في هذا غير قول :
قال بعضهم : أعطيتِ البنتَانِ الثلثين بدليلٍ لا تُفْرَضُ لهما مُسمَى.
والدليل أهو ، قوله : (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ) .

(2/18)


فقد صار للأخت النصف كما أن للابنةِ النصفَ ، (فَإِن كَانَتَا اثْنَتين فَلَهُمَا
الثُلُثانِ) فأعطيت البنتان الثلثين كَمَا أعُطِيتَ الأختان ، وأعطِيَ جملة
الأخوات الثلثين قياساً على ما ذكر اللَّه - عزَّ وجلَّ - في جملة البنات ، وأعلم اللَّه في مكان آخر أن حظ الابنتين وما فوقهمَا حَظ واحِد في قوله : (وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ).
فدلت هذه الآية أن حظَّ الجماعة إِذا كان الميراث مسمى حظ واحدة.
وهذا أيضاً في العربية كذا قياسُه لأن منزلة الاثنتين من الثلاث كمنزلة
الثلاث من الأربع فالاثنان جمع كما أن الثلاثَ جمعُ ، وَصَلَاةُ الاثْنَيْن وَصَلاةُ
الاثنتين جَماعَةٌ ، والاثنان يحجبان كما تحجب الجماعة.
فهذا بيِّن واضحٌ.
وهذا جعله اللَّه في كتابه يدل بعضُه على بعضٍ تفْقيهاً لِلمسْلِمينَ
وتعليماً ، ليعلموا فيما يحزبُهمْ من الأمور على هذه الأدلة.
وقال أبو العباس محمد بن يزيد ، وكذا قال إسماعيل بن إسحاق - أنه
قال : في الآية نفسها دليل أن للبنتين الثلثين ، لأنه إِذا قال : للذكر مثل
حَظ الأنثيَين ، وكان أولُ العددِ ذكراً وأنثى ، فللذَّكر الثلثان وللأنثى الثلث ، فقد بأن من هذا أن لِلبنْتَين الثلثين ، واللَّه قد أعلم أن ما فوق الثنثين لهما
الثلثان .

(2/19)


وجميع هذه الأقوال التي ذكرنا حسن جميل بين ، فأمَّا ما ذُكِرَ عن ابن
عباس من أن البنتين بمنزلة البنت فهذا لا أحسبه صحيحاً عن ابن عباس وهو
يَسْتَحيلُ في القِياسِ لأن منزلة الاثنين منزلة الجمع ، فالواحد خارج عن
الاثنين.
ويقال ثلُثْ وربُع وسُدُس ، ويجوز تخفيف هذه الأشياءِ لِثقلِ الضَم.
فيقال ثِلْث وَرُبْع وسُدْسْ . ومنْ زعم أن الأصل فيه التخفيف وأنَّه ثُقَل فخطأ ، لأن الكلامَ موضوع على الإيجاز والتخفِيفُ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ).
فالأم لها في الميراث تسمية من جهتين ، تسمية السدس مع الولد.
وتسمية السدُس مع الإخوة ، وتسمية الثلث إِن لم يكن له ولد.
والأب يرث من جهة التسمية السدسَ ، ويرث بعد التسمية على جهة
التعصيب.
والأم يحجبها الإخوة عن الثلث فترث معهم السدَس.
قال أبو إسحاق : ونذكر من كل شيءِ من هذا مسألةً ، إذْ كان أصل
الفرائض في الأموال والمواريث في هذه السورة.
فإِن مات رجل أو امْرأة فخلفا أبوَيْن ، فلام الثلث ، والثلثان الباقيان
للأب . بهذا جاءَ التنزيل وعليه اجتمعت الأمة . فإِن خلَّف الميت وَلَداً وكان

(2/20)


ذكرا فللأم السدس وللأب السدس ، وما بقي فللابن ، فإن خلَّف بنتا وأبوين ، فللبنت النصف وللأم السدس ، وما بقي للأب يأخذ الأب سدساً بحق
التسمية ، ويأخذ السدس الآخر بحق التعصِيب.
فإِن خلَّف الميت - وكانت امراة - زوجاً وأبوين ، فللزوجِ النصف وللأم
ثلث ما بقي للأب ثلثا ما بقيَ ، وهو ثلث أصل المال.
وقد ذكر عن ابن عباس إنَّه كان يعطي الأمَّ الثلث من جميع المال.
ويعطي الأب السدَس . فيفضل الأم على الأب في هذا الموضعِ.
والِإجماع على خلاف ما روي عنه.
وقال الذين احتجُوا مع الِإجماع : لو أعلمَنا اللَّه - عزَّ وجلَّ - أن المال
بين الأب والأم ولم يسم لكل واحد لوجب أَن نقسمه بينهما نصفين ، فلما
أعلمنا اللَّه - عزَّ وجلَّ - أنَّ للأم الثُلثَ علمنا أَن للأب الثلثين ، فلما دخل على الأب والأم داخل أخذَ نِصْف المال ، دخل النقص عليهما جميعاً ، فوجب أن يكون الميراث للأبوين إِنَّما هوَ النص ، فصار للأم ثلث النصف ، وللأب ثلثا النصف . .
وقيل في الاحتجاج في هذا قول آخر :
قال بعضهم : إِنما قيل : (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ)
ولم يرثه ههنا أبواه فقط ، بل ورثه أبواه وورثه مَعَ الأبويْن غير الأَبويْن ، فرجع ميراث الأم إِلى ثلث ما بقي .

(2/21)


وقال أصحاب هذا الاحتجاج : كيف تفضَلُ الأم على الَأب والإخوة
يمنعون الأم الثلث فيقْتصر بها على السدس ، ويوفر الباقي على الأب.
فيأخذُ الأب خمسة أسْداسٍ ، وتأْخُذُ الأم سُدُساً.
فإِن توفي رجلٌ أو امراة ، وخلَّف إِخوةً ثلاثة فما فوق ، وأمًّا وأباً أخذت
الأم السدس وأخذ الأبُ الباقِي . هذا إجماع.
وقد روي عن ابن عباس في هذا شيء شاذ :
رَوَوْا أنَّه كان يُعْطِي الِإخوة هذا السدس الذي منع الإخوةُ الأم أن
تأخذهُ ، فكان يعطي الأمَّ السُّدسَ ، والِإخوة السُّدسَ . ويعطي الأب الثلثين.
وهذا لا يقوله أحد من الفقهاءِ . وقد أَجمعتِ فقهاءِ الأمصار أن الإخوة لا
يأخذون مع الأبوين.
فإِنْ توَفِّي رجُل وخلف أخوين وأبَوَيْن ، فقد أجمع الفقهاءِ أن الأخوين
يحجبان الأم عن الثلث ، إِلا ابن عباس فإِنه كان لا يحجب بأخوين.
وحجته أن اللَّه - عزَّ وجلَّ - قال : (فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ)
وقال جميع أهل اللغة إِن الأخوين جماعة ، كما أن الِإخوة جماعة ، لأنك إِذا
جمعت واحداً إِلى واحد فهما جماعة ، ويقال لهما إِخوة.
وحكى سيبويه أَن العرب تقول : قد وضعا رحالهما ، يُريدُون رحليْهمَا.
وما كان الشيءُ منه واحداً فتثنيتهُ جمع ، لأنَّ الأصل هو الجمعُ.
قال اللَّه تعالى : (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا).
وقال : (وَلِأَبَوَيْهِ) لأن كل واحد منهما قد ولدُهُ .

(2/22)


والأصل في " أًم " أن يقال " أَبَة " ، ولكن استُغْنِيَ عنها بأم . وأَبوان تثنية
أب ، وأبة ، وكذلك لو ثنيت ابناً وابنة ، - ولم تخَفِ اللبَس - قلت : ابنان.
(فَلِأُمِّهِ)
تقرأ بضم الهمزة وهي أكثر القراءَات ، وتقرأ بالكسر " فلِإمِّهِ " ، فأما إِذا كان قبل الهمزة غير كسْرٍ ، فالضم لا غيْر ، مثل قوله :
(وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً) لا يجوز وإِمَّه ، وكذلك قوله : (مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ) ، وإِنما جاز " لِإمِّه " و (فِي أُمِّهَا رَسُولًا) بالكسر ، لأن قبل الهمزة كسرة.
فاستثقلوا الضمة بعد الكسْرةِ ، وليس في كلام العرب مثل : " فِعُل " بكسر الفاءِ وضم العيْن ، فلما اختلطت اللام بالاسم شُبهَ بالكلمة الواحدة ، فأبدل من الصفَة كسرة ، . ومن قال : فلامه كح - بضم الهمزة . أتى بها على أصلها ، على أَن اللام تقديرها تقدير الانفصال.
وقوله عزَّ وجل : (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ)
أي إِن هذه الأنصبة إِنما تجب بعد قضاءِ الدين ، وإِنفاذ وصية الميت في
فإِن قال قائل : فلم قال أو دَيْنٍ ، وهلا كان " من بَعْدِ وصية يوصي بها
وَدَيْن ؟
فالجواب في هذا أن " أو " تأْتي للإِباحة ، فتأْتي لواحد واحدٍ على

(2/23)


انفراد ، وتضم الجماعة فيقال جالس الحسن أو الشعبي ، والمعنى كل واحد
من هؤلاءِ أهل أن يجالس ، فإِن جالست الحسن فأنت مصيب ، ولو قلت
جالس الرجلين فجالست واحداً منهما وتركت الآخر كنت غير متبع ما أمرْت.
فلو كان " مِن بعدِ وصيةِ يُوصِي بهَا وديْن "
احتمل اللفظ أن يكون هذا إِذا اجتمعت الوصية والدينُ ، فإِذا انفردا كان حكم آخر ، فإِذا كانت " أو " دلَّت على أن أحدهما إِن كان فالميراث بعده ، وكذلك إِن كانا كلاهما
وقوله - عزَّ وجلَّ - : (آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا)
في هذا غير قول :
أمَّا التفسير فإِنه يروى أن الابن إِنْ كان أرفع دَرجةً من أبيه في الجنة
أن يرفع إِليه أبوه فيرفع ، وكلذلك الأبُ إِن كان أرفعَ درجةً من ابنه سأل يُرْفع ابنه إِليه فأنتم لا تدرون في الدنيا أيهم أقرب لكم نفعاً.
أي إِن اللَّه - عزَّ وجلَّ - قد فرض الفرائض على ما هي عنده حكمة ، ولو
ذلك إِليكم لم تعلموا أيهم لكم أنفع في الدنيا ، فوضعْتُم أنتم الأموال على
غير حكمة.
(إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا)
أَي عليم بما يصلح خلقه - حكيم فيما فرض من هذه الأَموال وغيرها.
وقوله : (فريضةً مِن اللَّهِ).

(2/24)


منصوب على التوكيد والحال من . . ولأبَويْهِ . . . أي ، ولهؤُلاءِ الورثة ما
ذكرنا مفروضاً . ففريضة مَؤكدة لقوله (يوصيكم الله).
ومعنى (إنَ اللَّه كانَ علِيماً حكِيماً) فيه ثلاثة أقوال :
قال سيبويه : كَان القوم شاهدوا علماً وحكمة ومغفرة وتَفَضلا ، فقيل لهم
إِن الله كان كذلك ولم يزل ، أي لم يزل على ما شاهدتم.
وقال الحسن : كان عليماً بالأشياءِ قبل خلقها ، حكيماً فيما يقدر تدبيره
منها.
وقال بعضهم : الخبر عن الله في هذه الأشياءِ بالمُضِى ، كالخبر
بالاستقبال والحال ، لأن الأشياءَ عند الله في حال واحدةٍ ، ما مضى وما يكونُ
وما هو كائن.
والقولان الأولان هما الصحيحان لأن العرب خوطبت بما تعقل ، ونزل
القرآن بلغتها فما أشبه من التفسير كلامها فهو أصح ، إِذ كان القرآن بلغتها
نزل.
وقال بعضهم : الأب تجب عليه النفقة للابن إِذا كان محتاجاً إِلى ذلك.
وكذلك الأب تجب نفقته على الابن إِذاكان محتاجاً إِلى ذلك ، فهما في النفع
في هذا الباب لا يدرى أيهما أقرب نَفْعاً.
والقول الأول هو الذي عليه أهل التفسير.
* * *
وقوله عزَّ وجل : (وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12)
(وإِنْ كَانَ رَجُل يُورَثُ كلَالَةً) :
يقرأ يُورث وُيورِث . . بفتح الراءِ وكسرها - . فمن قرأ يُورِث - بالكسر - فكلالة . . مفعول ، ومن قرأ " يُورَثُ " فكلالة منصوب على الحال.
زعم أهل اللغة أن الكلالة من قولك " تكلله النسب ، أي لم يكن الذي

(2/25)


يَرثُه ابنَه ولا أبَاه . والكلالة سوى الولَدِ والوَالِدِ ، والدليل على أن الأب ليس بكلالة
قول الشاعر :
فإِن أبا المرءِ أحمى له . . . ومولى الكلالة لا يغضبُ
وإِنما هو كالإكليل الذي على الرأس . وإنما استُدِل على أن الكلالةَ
ههنا الِإخوة لأمٍّ دون الأب بمَا ذُكر في آخر السورة أن للأختين الثلثين وأن
للِإخوة كل المال ، فعلم ههنا لما جُعِلَ للواحد السدسِ ، وللاثنين الثلثَ ، ولم
يُزادُوا على الثلث شيئاً ما كانوا ، عُلِم أنه يعني بهم الِإخوةُ لأمٍّ.
فإِن ماتت امراة وخلَّفتْ زوجاً وأُمًّا وإِخوةً لأمٍّ فللزوج النصف وللام
السدس ، وللِإخوة من الأم الثلث.
فإِن خلَّفتْ زوجاً وأُمًّا وإِخوة لأبٍ وأمٍّ وإِخوة لأمٍّ فإن هذه المسألة
يسميها بعضهم المسألة المشتركة ، وبعضهم يسميها الحمارية.
قال بعضهم : إِن الثلث الذي بقي للِإخوة للأمِّ دون الِإخوة للأب والأم ، لأن لهؤُلاءِ الذين للأمِّ تسمية وهي الثلث وليس للإِخوة للأب والأم تسمية ، فأعطيناهم الثلث.
كما أنَّه لو مات رجلٌ وخلَّف أخوين لأمٍّ ، وخلَّف مائة أخ لأبٍ وأمٍّ
لأعطِي الأخوان للأمِّ الثلث وأعطي المائة الثلثين ، فقد صار الِإخوة للأمِّ
يفْضلُون في الأنصباءِ الإخوة للأب والأمِّ الأشقاء.
وقال بعضهم : الأمُّ واحِدة .

(2/26)


وسموها الحمارية بأن قالوا : هَبْ أباهم كان حماراً واشتركوا بينه.
فسمِّيتْ المشتركة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ).
غير منصوب على الحال . المعنى يوصي بها غير مضار ، فمنع اللَّه
عزَّ وجلَّ من الضِّرارِ في الوصيةِ.
وروي عن أبي هريرة : من ضارَّ في وَصية ألقاهُ الله في واد من جَهنَّم
أو من نارٍ ".
فالضرار راجع في الوصية إِلى الميراث.
(واللَّهُ عَلِيم حَلِيمٌ).
أي عليم ما دبر من هذه الفرائض ، حليم عمَّنْ عصاه بأن أخرَّهُ وقبل
توبته.
* * *
(تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13)
أي الأمكنة التي لا يَنْبَغِي أنْ تتجَاوَزَ.
(وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ).
أي يقيم حُدَودَه على ما حَدَّ.
(يُدْخِلْهُ جَنَاتٍ تَجرِي مِنْ تَحتِهَا الأنْهَارُ خَالِدينَ فِيهَا).
أي يدخلهم مقدَّرين الخلود فيها ، والحال يستقبل بها ، تقول : مَرَرْتُ بِه
مَعَهُ بازٍ صَائِداً به غداً ، أي مقدراً الصيدَ به غداً.
* * *
(وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)
أي يجاوز ما حدَّه الله وأمر به.
(يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا).
خالداً من نعتِ النار ، ويجوز أن يكون منصوباً على الحال أي يدخله
مقدَّراً له الخلود فيها.
قوله جَلَّ وعزَّ : (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15)

(2/27)


الفاحشة الزنا ، والتي يُجْمَع اللاتي ، واللواتي.
قال الشاعر :
من اللواتي والتي واللاتي . . . زَعَمْن أنِّي كبِرَتْ لِدَاتِي
ويجمع اللاتي بإِثبات الياءِ ويُحذَف الياءُ.
قال الشاعر :
من اللاءِ لم يحججن يبغينَ حِسْبة . . . ولكن ليقتلن البريء المغَفَّلا
(فاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهنَّ أربَعةً مِنْكُمْ).
أي من المسلمين.
(فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا).
هذا كان الفرضَ في الزنا قبل أن ينزل الجَلْدُ ، وَيأمُرَ النبى - صلى الله عليه وسلم - بالرجْم ، فكان يُحبَسُ الزانيان أبداً.
ْوقال بعضهم : (أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا) هو الحد الذي نسخ التخليد
في الحبْس والأذى.
(وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا (16)

(2/28)


قال بعضهم : كان الحبسُ لِلثيبينِ ، والأذَى للبِكْرَيْنِ ، يوبخان ، فيقال
لهما زنيتما وفَجَرْتُمَا وانتهكتما حرمات اللَّه ، وقال بعضهم : نسخ الأذى لهما مع الحبس ، وقال بعضهم : الأذى لا ينبغي أن يكون منسوخاً عنهما إِلا أن يتوبا ، وإِن قوله عزَّ وجلَّ : (وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2). هو من التوبيخ لهما بأن يفضحا على رُؤُوسِ الملأ.
أمَّا ما سلف مما كان في أمر الفاجرين فقد استغنى عنه إِلا أن الفائدة
فيه أن الشهادة لم تزل في الزنا شهادةَ أربعة نفَر.
* * *
وقوله تعالى : (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17)
ليس معناه أنهم يعملون السوءَ وهُم جُهَّال ، غيرُ مُميزينَ فإن من لا عقل
له ولا تمييز لا حدَّ عليه ، وإنَّمَا معنى بجهالة أنهم في اختيارهم اللذة الفانية
على اللذة الباقيةِ جُهَّال . فليس ذلك الجهل مسقطاً عنهم العذابَ . لو كان
كذلك لم يعذب أحَد ولكنه جهل في الاختيار.
ومعنى (يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ) يتوقفون قبل الموت ، لأن ما بين الإنسان
وبين الموت قريب ، فالتوبة مقبولة قبل اليقين بالموت.
وقوله : (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18)
(حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ) إِنما لم تكن له
التوبة ، لأنه تاب في وقت لا يمكن الإقلاع بالتصرف فيما يحقق التوبة.
(أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا).
أي مؤلماً مُوجِعاً ، والمؤلم الذي يبلغ إِيجاعُه غاية البُلوغِ .

(2/29)


وقوله - عزَّ وجلَّ - : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19)
معناه تكرهوهن على التزويج بِكم.
وهذه نزلت لأَنهم كانوا إِذا مات زوج المرأة وَلَه ولَد من غيرها ضَرَبَ
ابنه عليها حجاباً ، وقال : أنا أحقُّ بها ، فتزوجها على العقد الذي كان عقده
أبوه من تزوجها ليرثها ما ورثت من أبيه ، فأَعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أن ذلك
حرام.
وقوله تعالى : (وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ).
هؤلاءِ غير أُولَئِكَ.
حرم الله أن تًعْضل المرأة ، ومعنى تعضل تحبس عن التزوج.
كان الرجل منهم إِذا تزوج امرأَة ولم تكن من حاجَتِه حَبَسها لتفتدَي منه ، فأعلم اللَّه عزّ وجلَّ - أَن ذلك لا يحل.
و " تعضلوهن " يصلح أن يكون نصْباً ويصلح أن يكون جزماً.
أما النصب فعلى : أَن لا يحل لكم أن ترثوا النساءَ وَلَا أن تعضلوهن ، ويصلح أن يكون جزما على النَّهي.
(إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ).
والفاحشة الزنا.
(وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ).
أي بالنصفة في المبيت والنفقة ، والإِجمال في القول .

(2/30)


وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20)
معناه إِذا أردتم تخلية المرأة ، إِذا أراد الرجل أن يستبدل مكانها
وَلمْ تُرِدْ.
هذا شددَ اللَّهُ فيه بقوله : (وَلَا تعْضُلُوهُنَّ لتذهَبُوا بِبَعْضِ مَا
آتيتُموهُن).
(وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا).
القنطار المال العظيم ، وقد بيَّنا ما قاله الناس فيه في سورة آل
عمران.
وقوله - عزَّ وجلَّ : (فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا).
فحرم اللَّه الأَخذ من المهر على جهة الإِضرار بقوله : (أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا).
والبهتان الباطلُ الذي يُتحيًر من بُطلانه ، وبهتان حال موضوعة في موضع
المصدرِ ، المعنى أتأْخذونه مُبَاهتين وآثمين.
* * *
(وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21)
الإِفضاءُ أصله الغشيان ، وقال بعضهم إذا خلَا فقد أفضى ، غشي أو لم
و (أَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا).

(2/31)


قال بعضهم : هو عقدُ المَهر ، وقال بعضهم : الميثاق الغليظ قوله :
(فإِمسَاك بِمَعرُوفٍ أو تسْرِيحٌ بِإِحْسَان)
وقوله (وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا)
والتسريح بإِحسان لا يكون بأن تأخذ منها مهرها.
هذا تسريح بإساءَة لا بإِحسَان.
* * *
وقوله - جلَّ وعزَّ - (وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (22)
المعنى : لا تنكحُوا كما كان مَن قبلكم يَنكحُ ما نَكَح أبوه ، فهذا معنى
(إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ).
(إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً).
المعنى إِلا ما قد سلف فإِنه كان فاحشةً ، أي زناً (وَمَقْتًا).
والمقت أشد البُغْض.
(وَسَاءَ سَبِيلًا).
أي وبئسَ طريقاً. أي ذلك الطريق بئس طريقاً.
فالمعنى أنهم أعلموا أن ذلك في الجاهلية كان يقال له مقت ، وكان
المولود عليه يقال له المَقْتِي . فأعْلِمُوا أن هذا الذي حرم عليهم لم يزل منكراً
في قلوبهم ممقوتاً عندهم.
وقال أبو العباس محمد بن يزيد : جائز أن تكون " كان " زائدة ، فالمعنى
على هذا : إِنه فاحِشَة ومقت ، وأنشد في ذلك قول الشاعر :

(2/32)


فكيف إِذا حللتُ بدار قومٍ . . . وجيرانٍ لنا كانوا كرامِ
قال أبو إسحاق : هذا غلط من أبي العباس ، لأنَّ " كان " لو كانت زائدة
لم تنصب خبرها . والدليل على هذا البيتُ الذي أنشده :
وجيران لنا كانوا كرام
ولم يقل : كانوا كراماً.
* * *
وقوله : - جلَّ وعزَّ - : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (23)
هذا يسمى التحريمَ المبهم ، وكثيرٌ من أهل العلم لا يفرق في المبهم
وغير المبهم تفريقاً مقنعاً ، وإِنما كان يسمى هذا المبهم من المحرمات لأنه لا
يحل بوجه ولا سبب ، واللاحقُ به (وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ) والرضاعة قد أدخلت هذه المحرمات في الِإبهام.
(وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ).
قد اختلف الناس في هذه فجعلها بعضهم مبهمة وجعلها بعضهم غير
مبهمة . فالذي جعلها مبهمة قال إِنَّ الرجل إِذا تزوج المرأة حرمت عليه أمها
دخل بها أو لم يَدخُل بها . واحتج بأن (اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ) إِنما هو متصل
بالربائب.
وروي عن ابن عباس أنه قال : (وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ) من المبهمة .

(2/33)


(وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ).
قال أبو العباس محمد بن يزيد : (اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ) نعت للنساءِ اللواتي
هن أمهات الربائب لا غير ، قال : والدليل على ذلك إِجماع الناس أن الربيبة
تحل إِذا لم يُدْخل بأمها ، وأن من أجاز أن يكون قوله : (مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ) هو لأمهات نسائكم ، يكون المعنى على تقديره ، وأمهات نسائكم من نسائكم اللاتي دخلتم بهنَّ.
فيخرج أن يكون اللاتي دخلتم بهن لأمهات الربائب.
والدليل على أن ما قاله أبو العباس هو الصحيح أن الخبرين إِذا اختلفا
لم يكن نعتهما واحداً.
لا يجيز النحويون : مررت بنسائك وهربت من نساءِ
زيد الظريفات ، على أن تكون الظريفات نعتاً لهؤُلاءِ النساءِ وهُؤلاءِ النساءِ.
والذين قالوا بهذا القول أعني الذين جعلوا أمهات نسائكم بمنزلة قوله : (مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ) إِنما يجوز لهم أن يكون منصوباً على " أعني "
فيكون المعنى أعني اللاتي دخلتم بِهنَّ ، وأن يكون (وأمهاتُ نسائكم) تمام
هذه التحريمات المبهمات ، ويكون الربائب هن اللاتي يحللن إِذا لم يُدْخل
بأمهاتهِنَّ قط دون أمهات نسائكم هو الجَيِّد البالغ.
فأمَّا الربيبة فبنت امرأة الرجل من غيره ، ومعناها مربوبة ، لأن الرجل
هو يَرُبُّهَا ، ويجوز أن تسمى ربيبة لأنه تولى تربيتها ، كانت في حجره أو لم
تكن تربت في حجره ، لأن الرجل إِذا تزوج بأمها سمي ربيبها ، والعرب تسمِّي الفاعلين والمفعولين بما يقع بهم ويوقعونه ، فيقولون : هذا مقتول وهذا ذبيح ، أي قد وقع بهم ذلك . وهذا قاتل أي قد قتل ، وهذه أضْحيًةُ آلِ فلان لما قَد

(2/34)


ضحوْا به ، وكذلك هذه قَتُوبَةُ ، وهذه حلوبة ، أي ما يقتب وُيحْلب.
وقوله : (وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ).
جمع حليلة وهي امراة ابن الرجل ، لا تحل للأب ، وهي من
المبهمات وحليلة بمعنى مُحلَّة . مشتق من الحلال.
(وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ).
(أَنْ) في موضع رفع ، المعنى حرمت هذه الأشياءُ والجمع بين
الأختين.
(إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ).
المعنى سوى ما قد سلف فإِنه مغفور لكم.
* * *
وقوله : (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (24)
القراءَة بالفتح . قد أجْمَعَ على الفتح في هذه ، لأن معناها اللاتي
أحْصِنَّ بالأزواج . ولو قرئت والمُحصِناتِ لجاز ، لأنهُنَّ يحْصِنَّ فروجهن بأن
يتزوجن . وقد قرئت التي سوى هذه " المحْصَنَاتِ " و " والمحصِناتِ ".
(إِلا ما ملكتْ أيْمانُكمْ).
أي إِنْ ملك الرجلُ محصنة في بلاد الشرك فله أن يطأها ، إِلا أن جميع
الوطءِ لا يكون في ملك اليمين إِلا عنِ اسْتِبرَاء ، وقد قال بعضهم : إِن الرجل
إِذا ملك جارية وكانت متزوجة فبيْعُها وملكُها قد أحلَّ فَرْجَها ، وإِن لم تكن

(2/35)


أحْصِنَت في بلاد الشرك ، والتفسير على ما وصفنا في ذوات الأزواج في
الشرك.
وقوله : (كِتَابَ اللَّهِ عليْكُم).
منصوب على التوكيد محمول على المعنى ، لأن معنى قوله : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ) كتب الله عليكم هذا كتاباً
كما قال الشاعر :
ورُضْت فذلًت صعبة أي إِذْلَالٍ
لأن معنى رُضْتُ أذللتُ.
وقد يجوز أن يكون منصوباً على جهة الأمر ، ويكون (عليكُم) مفَسراً
له ، فيكون المعنى ألزموا كتاب اللَّه.
ولا يجوز أن يكون منصوباً ب (عليكُم) ، لأن
قولك : عَلَيْك زيداً ، ليس لهُ ناصِب متَصرف فيجوز تقديمُ منصوبه.
وقول الشاعر :
يا أيُّها المائحُ دَلْوي دونَكَا . . . إني رأيْتُ الناسَ يَحْمَدونكا
يجوز أن يكون " دلوي " في موضع نصب بإضمار خُذْ دَلْوي ، ولا يجوز
على أن يكون دونك دلوى لما شرحناه .

(2/36)


ويجوز أن يكون " دلْوي " في موضع رفع ، والمعنى هذا دلوي دونكا.
ويجوز أن يكون (كتابَ اللَّه علْيكُمْ) رفعاً على معنى هذا فرض اللَّه
عليكم ، كما قال جلَّ وعزَّ : (لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ).
وقوله : (وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ).
و (أَحَلَّ) أيضاً يُقرآن جميعاً ، ومعنى ما وراءَ ذلكُمْ ، ما بعد ذَلِكمْ ، أي ما
بعد هذه الأشياءِ التي حرمت حلال ، على ما شرع اللَّه ، إِلا أن السنة قد
حرمت تزوُجَ المرأة على عمتها ، وكذلك تزوجها على خالتها ، ولم يقل اللَّه
- عزَّ وجلَّ - : لا أحرم عليكم غير هذا.
وقال عزَّ وجلَّ : (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ).
وأَتَوهَّمُ أن الخالة كالوالدة ، وأن العمَّة كالوالد ، لأن الوالد في وجوب
الحق كالوالدة ، وتزوجها على عمتها وخالتها من أعظم العقوق.
وقوله عزَّ وجلَّ : (أنْ تبْتَغوا بأمْوالكُمْ).
نصب وإِن شئت رفْع.
المعنى أحلَّ لكم أن تبتغوا محْصِنينَ غيرَ مسافِحِين.
أَى عاقدين التزويج غير مسافحين . أَي غير زناة ، والمسَافِحُ والمسافحةُ
الزانيان غير الممْتَنِعَيْن منَ الزَنا ، فإِذا كانت تزني بواحد فهي ذات خدن.
فحرَّم الله الزنا على الجهات كلها ، على السفاح وعلى اتخاذ
الصديق.
والإحصان إِحصان الفرج وهو إِعْفَافه ، يقال امْرأَة حَصان بينة الحُصن ،

(2/37)


وفرس حصان بينة (التحصن) والتحصين وبناء حصين بَيّنُ الحصَانة.
ولو قيل في كله الحِصانة لكان بإِجماع.
والسفاح في الزنا اشتق من قولهم سفحت الشيءَ إِذا صبَبْتُه ، وأمر الزنا
سفاح لأنه جارٍ على غير عقْدٍ ، كأنَّه بمنزلة السفُوحِ الذي لا يحبسه شيء.
وقوله : (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً).
هذه آية قد غلط فيها قوم غلطاً عظيماً جداً لجهلهم باللغة.
وذلك أنهم ذهبوا إِلى أن قوله : (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ) من المتعة التي قد أجمع أهل الفقه أنها حرام.
وإِنما معنى قوله (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ) أي فما نكحتموه ، على
الشريطة التي جرت في الآية ، آية الإحْصَانِ : (أنْ تَبْتَغُوا بأموالِكُم مُحْصِنينَ) ، أَي عاقدين التزويج الذي جرى ذكره.
(فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً).
أي مهورهن ، فإِن استمتع بالدخول بها أعطى المهر تَامًّا ، وإِن استَمْتَع
بعقد النكاح آتى نصف المهر.
والمَتاعُ في اللغة كل ما انتفع به ، فهو متاع.
وقوله عزَّ وجل ، في غير هذا الموضع : (ومتَعُوهُنَّ على المُوسِع قَدَرُه) ليس بمعنى زوجُوهُنَّ المُتَعَ ، إِنما المعنى أَعطوهُن ما يَستَمْتِعْنَ به.
وكذلك قوله : (للمطلقات متاع بالمعْروف).
ومن زَعَم أَن قوله : (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ) المتعة التي هي
الشرط في التمتع الذي تعمله الرافضة فقد أخطأ خطأً عظيماً ، لأن الآية
واضحة بينة .

(2/38)


وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ).
أي لَا إِثم عليكم في أن تهب المرأةُ للرجل مهرها ، أو يهب الرجل
للمرأة التي لم يدخل بها نصف المهر الذي لا يجب إِلا لمن دخل بها.
(إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا).
أي عليماً بما يصلح أمر العباد - حكيماً فيما فرض لهم من عقد النكاح
الذي حفظت به الأموال والأنساب.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25)
المحصنات هن الحرائر ، وقيل أيضاًَ العفائف ، وقد قال بعض أصحابنا :
إِنهن الحرائر خاصةً . وزعم من قال إِنهن العفائف : حُرِّم على الناس أن
يتزوجوا بغير العفيفة ، وليس ينبغي للِإنْسان أن يتزوج بغير عفيفة ، واحتج قائل هذا القول بأن قوله عزَّ وجلَّ : (الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3).
منسوخ ، وأن قوله : (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ) يصلح أَن يكون يتزوج الرجل من أحب من النساء.
ْوالدليل على أن المحصنات هن العفائف قوله : (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا) أي أعفَّتْ فرجْها .

(2/39)


والطَوْل : القدرة على المهْر . فقوله : (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا)
أَي من لم يقدر على مهر الحرة ، يقال : قد طال فلان على فلات طوْلًا.
أي كان له فضل عليه في القدرة ، وقد طال الشيء يطول طُولاً ، وأَطلته إِطالةُ ، وقد طال طِوَلُكَ وطِيْلُكَ ، وطيَلُك أي طالت مدتك.
قال الشاعر :
إِنا محيوك فاسْلَمْ أيها الطلَلُ . . . وإِنْ بَلَغتَ وإِن طَالتْ بكَ الطِّيَلُ
والطَوَل الحبل.
وقال الشاعر :
(تعرضُ المُهْرة بالطَوَل
اللام مشددة للقافية.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ).
الفتيات المملوكات ، العرب تقول للأمة فتاة ، وللعبد فتى أي من لم
يقدر أن يتزوج الحرة جاز له أن يتزوج المملوكة إِذا خاف على نفسه الفجور.
(وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ).
أي اعملوا على ظاهركم في الِإيمان ، فإِنكم متعبدون بما ظهر من
بعضكم لبعض.
وقوله - عزَّ وجلَّ - (بعْضُكُم مِن بعْضٍ).

(2/40)


قيل في الحسبِ أَي كلكم ولد آدم ، ويجوز أَن يكون قوله :
(بعْضُكُمْ من بَعْضٍ) دينكم واحد لأنه ذكر ههنا المؤْمنات من العبيد.
وإِنما قيل لهم ذلك لأن العرب كانت تطعن في الأنساب ، وتفخر بالأحساب
وتعيرُ بالهُجْنَة ، كانوا يُسمُّون ابن الأمة الهَجِينَ ، فأعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أن أَمر العبيد وغيرهم مستوفى الِإيمان ، وإِنما كُرِه التزوجُ بالأَمة إِذا وُجِدَ إِلى
الحُرَّةِ سبيل ، لأن ولد الحر من الأمة يصيرون رقيقاَ ، ولأن الأَمة مستخدمة
ممتهنة تكثر عِشرَة الرجال ، وذلك شاق على الزوج ، فلذلك كره تزوًجُ الحر بالأمةِ.
فأما المفاخرة بالأحساب والتعيير بالأنساب فمن أمر الجاهلية.
يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال : ثلاثٌ من أمْر الجاهلية ، الطعن في الأنساب ، والمفاخرة بالأحساب ، والاستسقاءُ بالأنواءِ.
ولَن تُتْرَك في الِإسلام.
وقوله : (فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ).
أمر الله أن تنكح بإذن مولاها.
وقوله : (فَإِذَا أَحْصِنَّ).
وتقرأ (أُحْصِنَّ) بضم الألف.
(فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ).
أي عليهن نصف الحد ، والحد مائةُ جلدةٍ على الحر والحرة غير
المُحَصَنَيْن ، وعلى المحصنين الرجم ، إِلا أن الرجم قتلٌ ، والقتلُ لا نِصْف
لهُ ، فإِنما عليهن نصف الشيءِ الذي له نصف وهوالجلْدُ .

(2/41)


وقوله عزَّ وجلَّ : (ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ).
أَي تَزَوُج الِإماءِ جائز لمن خاف العَنَتَ ، والعنَت في اللغَةِ المشقة
الشديدةُ . يقال من ذلك : أكمَةٌ عَنوتٌ إِذا كانت شاقة.
قال أَبو العباسِ : (العنَت) ههنا الهلاك ، وقال غيره : معناه . ذلك لمن
خشي أَن تحمِله الشهوةُ على الزنا ، فيلقى الِإثم العظيم في الآخرة والحدَّ في
الدنيا ، وقال بعضهم معناه أن يعشق الأمَة ، وليس في الآية عشق ، ولكنَّ ذا
العشق يلقى عنتاً.
وقوله : (وأَنْ تَصبُروا خيْر لَكُمْ).
أي الصبْرُ خير لكُمْ لما وصفنا من أن الولَد يصيرون عبيداً.
* * *
وقوله : (يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26)
قال الكوفيونَ معنى اللام معنى أن ، وأردْتُ ، وأمرْت ، تطلبان
المستقبل ، لا يجوز أن تقول : أردت أن قصتُ ، ولا أمرت أن قمْتُ ، ولم
يقولوا لم لا يجوز ذلك . وهذا غلط أن تكون لام الجر تقوم مقام " أن " وتَؤدي معناها ، لأن ما كان في معنى أن دخلتْ عليه اللام.
تقول : جئتك لكي تفعل كذا وكذا ، وجئت لكي تفعل كذا وكذا . وكذلك اللام في قوله : (يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) كاللَّامِ فِي كَيْ.
المعنى : أَراده اللَّه عزَّ وجلَّ للتبيين لكم.
أَنشد أهل اللغة :
أردت لكيما لا ترى لي عبْرة . . . ومَنْ ذا الذي يعطي الكمال فيكمل

(2/42)


وأنشدنا محمد بن يزيد المبرد :
أردت لكيما يعلم الناس أنها . . . سراويل قيسر والوفود شهود
فأدخل هذه اللام على " كي " ، ولو كانت بمعنى أَنْ لم تدخل اللام
عليها ، وكذلك أرَدْتُ لأن تقوم ، وأمِرْتُ لأن أكُون مُطيعاً.
وهذا كقوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ) أي إِن كنتم عبارتكم للرؤَيا ، وكذلك قوله - عزَّ وجلَّ - أيضاً : (لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ).
أَي الذين هم رهبتهم لربِّهمْ.
وقوله : (وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ).
أي يدلكم على طاعتِهِ كما دل الأنبياءَ والذين اتبعوهم من قبلكم.
ومعنى (سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) ، أي طرق الذين من قبلكم ، وقد بيَّنَّا ذلك
فيما سلف من الكتاب.
* * *
وقوله : (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27)
أي يدلكم بطاعته على ما يكون سبباً لتوبتكم التي يغفر لكم بها ما
سلف من ذنوبكم .

(2/43)


(وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا).
أي أن تعدلوا عن القصد.
وقوله : (يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)
(وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا)
أَي يستميله هواه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29)
فحرم اللَّه - جلَّ وعزَّ - المالَ إِلَّا أنْ يُوجَدَ على السُّبُل التي ذكَر من
الفرائض في المواريث والمهور والتسري والبيع والصدقات التي ذكر وجوهها.
(إِلَّا أن تكُونَ تجارَةً).
المعنى : إِلا أن تكون الأموالُ تجارة ، ومن قرأ إِلا أن تكون تجارةٌ
فمعناه إِلا أن تقع تجارة.
(عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أنفُسَكُمْ).
فاعلم أَن التجارة تصح برضا البّيعِ والمشْترى.
* * *
(وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)
أي ومن يأكلها ويقتل النفس - لأن قوله : (ولا تَقْتُلُوا أنفُسَكُمْ) ، أي لا
يَقتُل بعضكم بعضاً ، فمن فعل ذلك عدواناً وظلماً :
معنى العُدوان أن يعْدُوا ما أمرَ به ، والظلم أن يضعَ الشيءَ في غير
موضعه.
وقوله : (فَسَوْفَ نَصْلِيهِ نَاراً).
و (نُصْليه ناراً). وعد اللَّه - جلَّ وعزَّ - على أكلِ الأمْوالِ ظُلماً وعلى
القِتالَ النارَ .

(2/44)


(وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا)
أي سهلاً ، يقال قد يَسَرَ الشيء فهو يسير إِذا سهل ، وقد عَسَر الشيءُ
وعَسِرَ إِذا لم يسهل فهو عسير.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31)
(تَجْتَنِبُوا) تتْركوا نِهائياً ، والكبائر حقيقتها أَنها كل ما وعد اللَّه عليه النار
نحو القتل والزنا والسَّرقة وأَكلِ مالِ اليتيم.
ويروىَ عن ابن عباس : الكبائر إِلى أن تكون سبعين أَقرب منها إِلى أَن
تكون سبعاً . قال بعضهم : الكبائر من أَول سورة النساءَ إِلى رأْس
الثلاثين . والكبائر ما كبُرَ وعظم من الذنوب.
* * *
وقوله - عزَّ وجلَّ - (وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا).
الاسم على أَدْخَلْتُ ، ومن قال : " مَدخلا " بفتح الميم ، فهو مبني
على دخل مدخلًا ، يعني به ههنا الجنة.
* * *
وقوله - جلَّ وعزَّ - (وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (32)
قيل : لا ينْبغي أَن يتمنى الرجل مَالَ غيره ومنْزلَ غيره ، فإِن ذلك هو
الحسد ، ولكن ليقل : اللهم إِني أَسْأَلك من فَضْلِك ، وقيل إِنَّ أمَّ سلمةَ قالت : ليْتنا كنا رجالاً فجاهدنا وغزونا وكان لنا ثوابُ الرجال.
وقال بعضتهم . قال الرجال : ليتنا فضلنا في الآخرة علَى النسَاء كما فُضلنَا في الدنيا .

(2/45)


وهذا كله يرجع إِلى تمني الِإنسان ما لِغيره.
* * *
وقوله - عزَّ وجلَّ - (وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (33)
أَي جعلنا الميراث لمن هو موْلى الميِّتِ ، والموْلى كلُّ مَنْ يَليك ، وكلُّ
من والاكَ فهو مولى لك في المحبِّة . والموْلى مولى نعمةٍ نحو مولى العبْدِ.
والمولى العَبدُ إِذا عَتَق.
وقوله (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ).
هؤُلاء كانوا في الجاهلية . كان الرجلُ الذليلَ يأْتي الرَّجلَ العزيزَ
فيعاقدُه ، أَي يحالفه ، ويقولُ له أَنا ابنُك تَرثُنِي وأرثُكَ ؛ حرمَتِي حرْمَتُكَ ، ودَمِي دَمُك ، وثأْرىِ ثَأْرك ، وأَمر اللَّهُ - عزَّ وجلَّ - بالوَفاءِ لهم.
وقيل إِن ذلك أمِرَ به قبل تسْمِيةِ المَواريث ، وقيل أَيضاً أَمَر أَنْ يُوفَّى لهم بعقدهم الذي كان في الجاهلية ، ولا يعْقِد المسلمون مِثلَ ذلك.
وقال بعضهم الذي يعقد على الموالاة ، ويجب أَن يُجْعلَ له نصيب في المال يَذهب إِلى أَنَ ذلك من الثلث الذي هو للميت.
وإِجماع الفقهاءِ أنَّه لا ميراث لغير من وُصِفَ من الآباءِ
والأبناءِ ، وذوي العصبةَ والموالي والأزواج.
* * *
وقوله عزَّ وجلََّّ : (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34)
الرجُلُ قيِّم على المرأَة فيما يجب لها عليه ، فأمَّا غير ذلك فلا ، ويقال
هذا قيِّمُ المرأَةِ وقِوَامُها
قال الشاعر :

(2/46)


اللَّهُ بيني وبيْن قيِّمها . . . يفرُّ مِنِّي بئها وأتَبع
جعل اللَّه عزَّ وجلَّ ذلك للرجال لفضلهم في العلم ، والتمييز ولِإنْفاقِهم
أموالهم في المهور وأقوات النساءِ.
وقوله عزَّ وجلَّ : (فالصالحَاتُ قَانِتات).
أي قيماتُ بحقوق أزواجهم.
(بمَا حَفِظَ الله).
تأويله - واللَّه أعلم - بالشيءِ الذي يحفظ أمْرَ الله ودين الله ويحتمل أَن
يكون على معنى بحفظ اللَّه ، أَي بأَن يحفَظْنَ اللَّه ، وهو راجع إِلى أَمر
اللَّه.
* * *
وقوله (وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ).
النشوز كراهة أحدهما صاحبه ، يقال نشزت المرأَة تَنْشِزُ وتَنْشُزُ جميعاً
وقد قُرئ بهما : (وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فانْشُزوا . .) انشِزوا وانْشُزوا ، فانشزوا ، واشتقاقه من النَشزِ وهو المكان المرتفع من الأرض ، يقال له : نَشْز ونشَز.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ).
أي في النوم معهن ، والقرب منهن فإنهن إِن كنَّ يحببن أَزواجهن شقَّ
عليهن الهجران في المضاجع وإن كنَّ مُبْغِضَاتٍ وافقهن ذلك فكان دليلاً على
النشوز مِنْهنَّ .

(2/47)


يقال هجرت الِإنسان والشيءَ أَهجرهُ هَجراً وهِجراناً ، وأهجر فلان
منصبَهُ يُهجره إِهْجَاراً . . إِذا تكلم بالقبيح ، وهجر الرجل هجراً إِذا هذى.
وهجرتُ البعير أَهجره هجراَ إِذا جعلت له هِجَاراً . والهجار حبل يُشد في حَقوِ البَعير وفي رسغِه ، وهَجَّرتُ تهجيراً إِذا قمت قت الهاجة ، وهو انتصافُ
النهار.
فأَمر اللَّه - عز وجل - في النساءِ أَن يبدَأْن بالموعظة أَولًا ، ثم بالهجران
بعْدُ ، وإِن لم ينجعا فيهن فالضربُ ، ولكن لا يكون ضرباً مبرحاً فإِن أَطعن فيما يُلتمس مِنهنَّ ، فلا يُبْغِي عليهن سبيلاً ، أَي لا يُطلُب عَليهن طريق عنتٍ.
(إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا).
أَي هو متعال أَن يكلف إِلا بالحق ومقدار الطاقة.
* * *
وقوله جلّ وعزَّ (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35)
قال بعضهم . . (خِفْتُمْ) ههنا في معنى أَيقنتم وهذا خطأ ، لو علمنا
الشقاق على الحقيقة لم يجنح إلى الحكمين . وإنما يخاف الشقاق
والشقاق العداوة ، واشتقاقه من - المتشاقين - كل صنف منهن في شق ، أَي في ناحيةٍ ، فأَمر الله تعالى - (إِنْ خِفْتُمْ) وقوع العداوة بين المرء وزوجه - أَن
يبْعَثَوا حَكمين ، حكم من أهل المرأَة وحكَماً من أَهل الرجل ، والحكم
القَيِّم بما يسند إِليه.
ويروى عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنه اجتمع إليه فئام

(2/48)


من الناس ، - أي جمع كثير مع امراة وزوجها ، قد وقع بينهما اختلاف فأمر
حكمين أن يتَعَرفا أمْرهُمَا ، وقال لهما اتدْرِيانِ ما عليكُمَا ؟
إِنَّ عليكما إِنْ رأيتُما أَن تُفرقَا فَرقتُمَا ، وإِن رَأيتُما أن تجْمعَا جَمَعْتُمَا.
وقال بعضهم على الحكمين أن يَعظَا وُيعرِّفا ما على كل واحدٍ من الزوج
والمرأَة في مجاوزةِ الحق ، فإِن - رأيا أَن يفرقا فرقا ، وإن رأيا أن يَجمعَا جمعاً.
وحقيقة أَمر الحكمين أنهما يقصِدان للِإصْلاح ، وليس لهما طلاق وإِنما
عليهمَا أن يُعرفا الِإمامَ حقيقة ما وقفا عليه ، فإن رأى الِإمام أن يفرق فرَّق ، أو أن يَجمع جَمَعَ ، وإِن وكَّلَهُما بتفريق أو بجمع فهما بمنزلة ، وما فعلَ على
" رضي اللَه عنه " فهو فِعْلُ للِإمَامِ أنْ يَفَعَلَه ، وحَسْبُنا بعلي عليه السلامُ إِمَاماً.
فلما قال لهما إِن رأيتما أن تجمعا جمعتما ، وإِن رأيتما أن تُفرقا فَرقْتَمَا ، كان
قد ولَّاهًما ذلك ووكَلهمَا فيه.
(إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا).
أي (عَلِيمًا) بما فيه الصلاح للخلق (خَبِيرًا) بذلك.
* * *
وقوله : (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36)
أي لا تعبدوا معه غيره ، فإِن ذلك يفسد عبادته.
(وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا).
المعنى أوصاكم الله بعبادته ، وأوصاكم بالوالدين إِحساناً ، وكذلك قوله
تعالى : (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا). لأن معنى
قضى ههنا أمرَ ووَصَّى .

(2/49)


وقال بعض النحويين (إِحْسَاناً) منصوب على وأحسنوا بالوالدين إِحْسَاناً.
كما تقول : ضرْباً زيداً ، المعنى اضرب زيداً ضرباً.
(وَبذي القُرْبَى . .).
أمرَ الله بالِإحْسَانِ إِلى ذوي القُرْبَى بَعْدَ الوالدين.
و (اليتامَى) في موضع جر.
المعنى وباليتامى والمساكين أوصَاكُم أيضاً ، وكذلك جميع ما ذكر في
هذه الآية ، المعنى أحسنوا بهؤلاءِكلهم.
(والجَار ذِي القُرْبَى).
أي الجار الذي يقاربك وتعرفه وَيعْرفَك.
(والجَارِ الجُنُبِ).
والجار القريب المتباعد.
قال علقمة :
فلا تحرِمني نائلاً عَنَ جَنَابةٍ . . . فإِني امرُؤ وَسْطَ القِبَابِ غَرِيب
وقوله عزَّ وجلَّ - (وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ).
قيل هو الصاحب في السفر.
(وابْنِ السبِيلَ).
الضَيفُ يجب قِراه ، وأنْ يَبَلَّغَ حيْثُ يريد.
وقوله : (وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ).
أي وأحسنوا بِمِلْك أيمَانكم ، موضع ما عطف على ما قبلها.
وكانت وصية النبي - صلى الله عليه وسلم - عند وفاته :
" الصلاة وما ملكت أيمانكمْ ".

(2/50)


وقوله عزَّ وجلََّ : (إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا).
المختال : الصَّلِفُ التيَّاه الجهولُ . وإِنما ذكر الاختيالُ في هذه القصة.
لأن المختال يأنف من ذوي قرابَاتِه إذا كانوا فقراءَ ، ومن جيرانه إذا كانوا
كذلك ، فلا يُحْسنُ عِشْرتَهم.
* * *
وقوله : (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (37)
والبَخْل جَمِيعاً يُقْرَأ انِ.
يُعْنَى به إليهودُ . لأنهم يَبخلون بعِلْمِ مَا كان عِندَهُم من مَبْعث النبي - صلى الله عليه وسلم -
(وَيَكْتُمونَ مَا آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ).
أي ما أعطاهم من العلم برسالة النبي - صلى الله عليه وسلم -
وقوله : (وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا).
أي جعلنا ذلك عَتَاداً لهم ، أو مُثْبَتاً لهم . فجائز أن يكون موضع الذين
نصباً على البدل ، والمعنى : إِنَّ اللَّه لا يحب من كان مختالا فخوراً ، أي لا
يحب الذين يبخلون.
وجائز أن يكونَ رفعُه على الابتداءِ ، ويكون الخبر (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ) ، ويكون (وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ) عطفاً على
(الذين يبخلون). في النصب والرفع.
وهُؤلا يُعْنَى بهم المنافِقُون ، كانوا يُظهرونَ الِإيمانَ ولا يؤمنون باللَّه
واليوم الآخر.
* * *
(وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (38)
(وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا)
أَي من يكن عمله بما يُسَوِّلُ له الشيطانُ فبئس العملُ عَمَلُه ،

(2/51)


(فَسَاءَ قَرِينًا)
منصوب على التفسير ، كما تقول : زيد نعم رَجُلاً.
وكما قال (سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا).
* * *
وقوله : (وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا (39)
يصلح أَن تكون " مَا " و " ذَا " اسْماً واحداً ، المعنى وأيُ شَيءٍ عَلَيْهِمْ.
ويجوز أن يكون " ذَا " في معنى الذي ، أو تكون " ما " وَحْدَهَا اسْماً.
المعنى : وَمَا الَّذِي عَلَيهم (لَوآمَنُوا بِاللَّه وَاليَومِ الآخِرِ وأنْفَقُوا مِما رزَقَهمُ الله).
هذا يدل على أن الذين يبخلون (يبخلون) بما عَلِمُوا.
(وكان اللَّه بهم عليماً).
* * *
وقوله جلّ ثناؤُه : (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40)
مِثْقَال مِفْعَال من الثِقل ، أي ما كان وزنه الذرة وقيل لكل ما يُعمَل " وزْن
مِثْقَالٍ " تمثيلًا ، لأَن الصلاة والصيام والأعمال لا وَزْن لها.
لكنَّ الناسَ خوطبوا فيما في قلوبهم بتمثيل ما يُدْرَكُ بأبصَارِهم ، لأَن ذلك - أَعني ما يبصَر - أَبينُ لهم.
وقوله - عزَّ وجلَّ - (وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا).
الأصل في " يكن " " تكون " فسقطت الضمةُ للجزم وسقطت الواو لسكونها
وسكون النون ، فأَما سقوط النون من " تكن " فأكثر الاستعمال جاءَ في القرآن بإثباتها ، وإِسقاطِها قليل - قال الله عزَّ وجلَّ - :
(إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا)

(2/52)


فاجتمع في النون أنها تشبه حروف اللين ، وأنها ساكنة.
فحذفت استخفافاً لكثرة الاستعمال كما قالوا - لا أدرِ ، وَلا أبَلْ ، والأجود لم أبال ولا أدري.
و (حَسَنةً) يكون فيها الرفع والنصب ، المعنى وإِن تكن فَعْلَتُه حسنةً
يضاعِفْهَا ، ومن قرأ (وإِن تكن حَسَنَةٌ) بالرفع ، ، رفع على اسم كان ، ولا خبر لها وهي ههنا . في مذهب التمام والمعنى وإِن تحدث حسنة يضاعِفْها.
(وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا).
(ويؤتِ) بغير ياء . سقطت الياءُ للجزم ، معطوف على (يضاعِفْهَا) ، ووقعت
" لَدُنْ " وهي في موضع جِر ، وفيها لغَات.
يُقَالُ لَدُ ولَدُنْ ، وَلَدُن ، وَلَدَى . والمعنى واحد ومعناه مِنْ قِبَلِهِ ، إِلا أنها
لا تتمكن تمكُنَ عِند ، لأَنك تقول : " هَذَا القولً عَنِدي صَوَابٌ " ولا يقال :
الوقت لَدَنيَّ صواب ، وتقول : عندي مال عظيم والمال غائب عنك ، و " لدن " لما يليك.
* * *
قوله - جلَّ وعزَّ - (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41)
أي فكيف تكون حال هُؤلاءِ يومَ القيامة ، وحذف " تكون حالُهُم " لأنَّ في
الكلام دليلًا على ما حذف ، و " كيف " لفظها لفظ الاستفهام ، ومعناها معنى التوبيخ.
قوله : (وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا).

(2/53)


أي نأتي بكل نبي أمَّةٍ يشهدُ عَليها ولها.
* * *
وقوله : (يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (42)
الاختيار الضَّمُ في الواوِ في عَصَوْا الرسول ، لالتقاءِ السَّاكنين والكسر
جائز ، وقد فسرناه فيما مضى.
وقوله : (لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ).
وبهِمِ الأرض بضم الميم وكسرها.
(وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا).
أي يودون أنهم لم يبعثوا ، وأنهم كانوا والأرضَ سواءَ.
وقد جاءَ في التفسير أن البهائم يومَ القيامة تصير تراباً . فيودون أنهم
يصيرون تراباً.
قوله (وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا).
فيه غير قول ، قال بعضهم : وَدوا أن الأرض سويت بهم وأنهم لم
يكتموا الله حَدِيثاً ، لأن قولهم : (وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ)
قد كَذبوا فيه ، وقال بعضهم : (وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا).
مستأنف لأن ما عملوه ظاهر عند اللَّه لا يقدرون على كتمه.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43)
قيل في التفسير : إِنها نزلت قبْل تحريم الخمر ، لأن جماعةً مِنْ
أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - اجتمعوا فشربوا الخمر فبل تحريمها ، وتقدم رجل منهم

(2/54)


فصلى بهم فقرأ : قُلْ يا أيها الكَافِرُونَ أعبُد ما تعْبدُونَ ، وأنتم عابدون ما أعْبدُ ، وأنا عابد ما عَبَدْتُمْ فنزلت (لا تقربوا الصلاة وأنتُمْ سُكَارَى).
ويروى أن عُمَر بنَ الخطاب قال : اللهم إن الخمر تضُرُّ بالعقولِ.
وتذهب بالمال ، فأنزِلْ فيها أمرك فنزل في سورة المائدة : (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ).
وقال : (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ).
والتحريم نص بقوله - عزَّ وجلَّ - (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ).
فقد حُرمتِ الخمر بأنه قال : إِنَها إِثم كبير . وقد حرًم اللَّه - عزَّ وجلَّ - الِإثْمَ ، فأَمر اللَّه - عزَّ وجلَّ - في ذلك الوقت ألا يَقْرَبَ الصلاةَ السكران وحرم بعْدُ ذَلِك السُّكرَ ، لأن إِجماع الأمَّةِ أن السُّكْرَ حرام.
وإِنما حُرَّمَ ذُو السُّكُرِ ، لأن حقيقة السكر إنَّه لم يزل حراماً وقد بيَّنَّا هذا
في سورة البقرة.
وقوله : (حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا).
أي لا تقربوا الصلاة وأنتم جنُب ، إِلا عابري سبيل ، أي إِلا مسَافِرين
لأن المسافر يُعْوِزُه الماء ، وكذلك المريض الذي يضُر به الغُسْلُ.
ويروى أن قوماً غسلوا مجدراً فمات ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : قتلوه قتَلَهُم اللَّهُ ، كان يجزيه التيممَ.
وقال قوم : لاتقربوا مَوْضِعَ الصلاة ، حقيقتُه : لا تُصلوا إِذا كنتم جُنباً

(2/55)


حتى تغتسلوا ، إِلا أنْ لا تقدِرُوا على الماءِ ، وإِلا أن تخافوا أنْ يَضرْكم الغسْلُ
إِضْراراً شديداً ، وذلك لا يكونُ إِلا في حالِ مَرضٍ.
(فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا).
معنى تيمموا أقصِدُوا ، والصعيد وجهُ الأرضِ.
فعلى الِإنسان في التيممِ أن يضرب بيديْه ضربةً واحِدةً فيمسح بهما
جميعاً وجهه ، وكذلك يضرب ضربةً واحدةً ، فيمسح بهما يديه ، والطيبُ هو
النظيف الطاهر ، ولا يُبَالي أكان في الموضع تراب أم لا ، لأَن الصعيد ليس هو
التراب ، إِنما هو وجه الأرض ، تراباً كان أو غيرَه . ولو أن أرضاً كانت كلُها
صخراً لا ترابَ عليها ثم ضرب المتيممُ يده على ذلك الصخْرِ لكان ذلك
طهُوراً إِذا مسح به وجهه.
قال اللَّه عزَّ وَجَل - : (فتُصْبحَ صَعِيداً زلقاً)
فأعلمك أن الصعيد يكون زلَقاً ، والصُعُداتُ الطُرُقات.
وإِنما سمي صعيداً ، لأنَّها نِهايةُ ما يُصْعدُ إِليه من باطن الأرض ، لا أعلم بين أهلِ اللغةِ اختلافاً في أن الصعيد وجهُ الَأرض.
(إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا).
أي يقبل منكم العفو ويغفرُ لكم ، لأَن قبوله التيمُم تسهيل عليكم.
* * *
وقوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44)
قال بعْضُهم : (أَلَمْ تَرَ) أَلَمْ تُخْبر . وقال أهل اللغة أَلم تَعلَمْ ، المعنى الم
ينته علمك إِلى هُؤلاءِ ، ومعناه أعرفْهُم . يُعنَى به علماءُ أَهلِ الكِتَاب ، أَعطاهم اللَّه في كِتابِهمْ عِلْمَ نبوةِ النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه عندهم مكتوبٌ في التوراة والإنجيل يأمرُهم بالمعروف وينهَاهُم عن المنكر .

(2/56)


وقوله : (يشترونَ الضلاَلَةَ).
أي يؤثرون التكذيب بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ليأخذوا على ذلكَ الرشَا وَيثْبُتَ لهم رياسَة.
وقوله : (وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ).
أي تَضِلُّوا طريق الهُدى ، لأن السبيل في اللغة الطريق.
* * *
وقوله : (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45)
أي هو أعرف بهم فهو يُعْلِمُكمْ ما هم علَيْه.
(وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا).
أي اللَّه ناصركم عليهم . ومعنى الباء التوكيد.
المعنى وكفى الله ولياً وكفى اللَّه نصيراً ، إِلا أن الباء دخلت في اسم الفاعل ، لأن معنى الكلام الأمر ، المعنى اكتفوا بالله.
وقوله - عزَّ وجلَّ - (مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46)
فيها قولان : جائز أن تكون مِنْ صلةِ الذين أوتوا الكتاب.
والمعنى : ألم تر إِلى الذين أوتوا نصيباً مِن الكتاب من الذين هادوا.
وَيجوز ُ أن يكون من الذين هادوا قوم يحرفون الكلم.
ويكون (يحرفون) صفةً ، والموصوف محذوف.
أنشد سيبويه في مثل هذا قول الشاعر :

(2/57)


وما الدَّهرُ إِلا تارتان فمنهما أموتُ . . . وأخرى أبتغي العَيْشَ أكدَحُ
المعنى منهما تارة أموت فيها.
وقال بعض النحويين المعنى : مَنْ الذين هادوا من يحرفونه فجعل
يحرفون صلة من . وهذا لا يجوز . لأنه لا يحذف الموصول وتبقى صلته.
وكذلك قول الشاعر :
لو قلت ما في قومها لَمْ تِيثَم . . . يفضلها في حَسَب وميسمِ
المعنى ما في قومها أحد يفضلها.
وزعم النحويون أن هذا إِنما يجوز مع " من " و " في ".
وهو جائز إِذا كان " فيما بقي دليل على ما أُلْقَى.
لو قلت : ما فيهم يقول ذاك أو ما عندهم يقول ذاك
جازَا جميعاً جوازاً واحداً.
والمعنى ما عندهم أحد يقول ذاك.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ).
كانت إليهود - لُعِنَتْ - تقول للنبي - صلى الله عليه وسلم - : اسمَعْ ، وتقول في أنفسها لا أسْمِعتَ.
وقيل غَيرَ مسمَعٍ ، غير مجاب إِلى ما تدعو إِليه
وقوله : (وَرَاعِنَا).
هذه كلمة كانت تجري بينهم على حد السُّخرى والهزؤ.
وقال بعضهم : كانوا يَسبُّون النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذه الكلمة . وقال بعضهم : كانوا يقولونها

(2/58)


كِبْراً ، كأنَّهم يقولون : ارعِنَا سمعَكَ أي اجعل كلامَك لسَمِعْنَا مَرْعًى.
وهذا مما لا تخاطب به الأنبياءُ - (صلوات الله عليهم) -
إِنما يخاطبون بالِإجلال والإعظام.
وقوله : (لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ).
أي يفعلون ذلك مُعَانَدةً للحق وطغياناً في الدين.
وأصل " لَيا " لَوياً ولكن الواو أدغمت في الياء لسبقها بالسكون.
وقوله : (فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا).
أي فلا يُؤمنون إِلَّا إِيماناً قليلاً ، لا يجب به أن يُسَمُّوْا المؤْمنين.
وقال بعضهم : (فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا) أي إِلا قليلاً منهم ، فإنهم آمنوا.
* * *
وقوله : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (47)
(مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا)
فيها ثلاثة أقوال.
قال بعضهم نجعل وجوههم كأقفائهم.
وقال بعضهم نَجَعَلُ وجوههم مَنَابت للشعرُ كأقفائهم.
وقال بعضهم " الوجوه " ههنا تمثيل بأمر الدين.
المعنى قبل أن نُضِلَّهُمْ مجازاةً لما هم عليه من المعاندة ، فنُضِلَّهُمْ
ضلالًا لا يؤمنون معه أبداً.
* * *
وقوله - جلَّ وعزَّ - (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)
أجمع المسلمون أن ما دون الكَبَائِر مغفور ، واختلفوا في الكبائر فقال
بعضهم : الكبائر التي وعد الله عليها النار لا تُغْفَرُ ، وقال المشيخةُ من أهل

(2/59)


الفقه والْعِلْمِ : جَائِزٌ أن يَغْفِر كل ما دونَ ذَلِكَ بالتَوبة ، وبالتَوبةِ يُغفر الشرك
وغيره.
(وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا).
افترى اختلق وكذب ، إِثْماً عظيماً : أي غير مغْفًور.
* * *
وقوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49)
(أَلَمْ تَرَ) : ألم تخبر في قول بعضهم.
وقال أهل اللغة ألم تعلم وتأويله سؤال فيه معنى الِإعلام.
تأويله أعلم قصَتهُم ، وعلى مجرى اللغة ألم ينته
علمك إِلى هؤلاءِ ، ومعنى يزكون انفُسَهم أي تزعمون أنهم أزكياء.
وتأويل قولنا : زكاءُ الشَيْءِ : في اللغة نماؤُه في الصلاح.
وهذا أيضاً يعني به إليهًودُ . وكانوا جاؤوا إِلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بأطفَالِهمْ فقالوا : يا محمد أعلى هؤلاءِ ذنوبٌ ؟
فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لا ، فقالوا كذا نحن ، ما نعمل بالليْلِ يغْفَر بالليْلِ ، وما نعمل بالنهار يُغْفَر بالنهار.
قال اللَّه - عزَّ وجلَّ - : (بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ).
أي يجعل من يشاء زاكياً.
(وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا).
تأويله ولا يظلمون مِقْدارَ فَتِيلٍ.
قال بعضهم : الفتيل ما تَفْتُلُه بين إِصْبَعَيْكَ من الوسخ ،.
قال بَعضهم : الفتيل ما كان في باطن النَّواةِ من لِحائِها.
وقالوا في التفسير : ماكان في ظهرها وهو الذي تَنْبتُ منه النخلة.
والقِطْمِير جملة ما التفَّ عليها من لحائها.
* * *
وقوله - جلَّ وعزًَّ - : (انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا (50)

(2/60)


أي يفعلونه ويختلقونه.
ويقال : قد فَرَى الرجلُ يَفْرِي إِذا عمِلَ ، وإِذا قَطَع زمن هذا : فرَيْتُ
جِلدَه . فتأويله أن هذا القولَ أعني تزكيتَهمْ أنفُسَهُم فِرْيةٌ منهم.
(وكَفَى بِهِ إثماً مبيناً).
أي كفى هو إِثماً . مَنصوب عَلَى التمييز ، أَي كفى به في الآثام.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51)
يعني به علماءُ إليهود.
أي أعطوا علم أمْرِ النًبيَ - صلى الله عليه وسلم - فكتموه.
(يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ).
قال أهل اللغة : كل مَعْبُودٍ من دون اللَّه فَهُو جِبْت وطاغوت.
وقيل : الجبتُ والطاغوتُ الكهنةُ والشياطينُ.
وقيل في بعض التفسير : الجبت والطاغوت ههنا . حُيي بَنُ أخْطَب ، وكعب بنُ الأشرف إليهوديان وهذا غير خارج عما قال أهل اللغة ، لأنه إِذَا اتَبَعوا أمْرَهمَا فقد أطاعوهما من دون اللَّه - عزَّ وجلَّ.
وقوله : (وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا).
وهذا برهانٌ ودليلٌ على معاندة إليهود لأنهم زعموا إن الذين لم يُصدقُوا
بشيء من الكتب وعِبادةَ الأصنام ، أهدى طريقاً من الذين يُجَامِعُونَهم على
كثير مما يصَدقونَ بِه ، وهذا عِنادٌ بين.
وقوله جلَّ وعزَّ : (سَبِيلًا)

(2/61)


منصوب على التمييز ، كما تقول : هذا أحسن منك وجهاً وهذا أجود
منك ثَوباً . لأنك في قولك : " هذا أجودُ منك " قد أبهَمْتَ الشيءَ الذي فَضلتَه به ، إِلا أَنْ تريد أنَّ جُمْلته أجْوَدُ مِنْ جملتك فتقول : هذا أجود منك.
وتمسك.
وقوله : (أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52)
أي الذِين بَاعَدَهُم مِنْ رَحْمَتِه.
وقد بيَّنَّا أن اللعنة هي المباعدة في جميع اللغة.
شقوله : (وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا).
أي من يباعِد الله من رحمته فهو مخذول في دعواه وحجته ومغلوب.
واليهود خاصةً أبيَنُ خِذْلاناً في أنهم غُلِبُوا من بين جميع سائر أهل الأديان.
لأنهم كانوا أكثر عناداً ، وأنهم كتموا الحق وهم يعلمونه.
* * *
وقوله : (أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53)
المعنى بل ألهم نصيب من المُلْكِ.
(فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا)
قال بعضهم : إِنما معناه أنهم لو أعْطُوا الملك ، ما أعطوْا الناس
نقيراً ، وذكر النقير ههنا تمثيل ، المعنى لضنَّوا بِالقليل.
وأما رفع " يُؤْتُونَ" فعلى " فلا يؤتون الناس نقيراً إِذنْ "
ومن نصب فقال : " فإِذا لا يؤتوا الناسَ " جاز له
ذلك في غير القراءة فأَما المصحف فلا يخالف.

(2/62)


قال سيبويه : " إِذاً " في عوامل الأفعال بمنزلة " أَظن " في عوامل الأسماءِ ، فإِذا
ابتدأت إِذَنْ وأنت تريد الاستقبال نصبت لا غير ، تقول : إِذَنْ أكرمَكَ ، وإِن
جعلتها معترضة ألغيتها فقلت : أنا إِذَنْ أكرمُكَ ، أي أنا أكرفك إِذَنْ . فإن أتيت بها مع الواو والفاء قلتَ فإِذاً أكرمُك ، وإِن شئت فإذَنْ أكرمَكَ.
فمن قال فَإِذَنْ أكرمك نصَب بها وجعل الفاء ملصقة بها في اللفظ والمعنى ، ومن قال : فإِذن أكرمَك جعل إِذاً لغواً ، وجَعَل الفاء في المعنى معلقةً بأكرِمكَ والمعنى فأكرمُكَ إِذَنْ.
وتأويل " إِذن " : إِن كان الأمر كما ذكرتَ ، أو كما جرى ، يقول القائل :
زيد يصير إليكَ فتجيب فتقول إِذن أكرمه.
تأويله إِنْ كان الأمر على ما تصِفُ
وقع إكرامه فَأنْ مع أكرمه مقدرة بعدَ إِذَنْ.
المعنى إِكرامك واقع أن كان الأمر كما قلت.
قال سيبويه : حكى بعض أصحاب الخليل عن الخليل أن " أنْ " هي
العاملة في باب إِذَنْ.
فأمَّا سيبويه فالذي يذهب إِليه ونحكيه عنه أن إِذن نفسها الناصبة ، وذلك
أن (إِذَنْ) لما يستقبل لا غير في حال النسبِ ، فجعَلَها بمنزلة أنْ في العمل
كما جُعِلَتْ " لكنَّ " نظيرة " إِنَّ " فِي العَمَل في الأسماءَ.
وكلا القولين حسن جميل إِلا أن العامِل - عندي - النصْبَ في سائر الأفعال ، (أن) ، وذلك أجود ، إِما أن تقع ظاهرة أو مضمرة . لأن رفع المستقبل بالمضارعة فيجب أن يكون نصبه في مضارعه ما ينصب في باب الأسماء ، تقول أظنُّ أنكَ

(2/63)


منطلق ، فالمعنى أظن انطلاقكَ . وتقول أرجُو أن تذهب أي أرجو ذَهَابَك . فَ أن الخفيفة مع المستقبل كالمصدر.
كما أن (أن) الشديدة مع اسمها وخبرها كالمصدر ، وهو وجه
المضارعة.
* * *
وقوله - عزَّ وجلَّ - : (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54)
معناه بَلْ أيَحْسُدُونَ النَّاسَ . وهنا يعني به النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت إليهود قد حسدته على ما آتاه اللَّه من النبوة ، وهم قد علموا أن النبَوةَ في آل إِبراهيم عليه السلام ، فقيل لهم : أتحسدون النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد كانت النبوة في آله وهم آل إبراهيم (عليهما السلام).
وقيل في التفسير إِن إليهود قالت : إِن النبي - صلى الله عليه وسلم - شأْنه النساء ، حسداً لما أحلَّ لَه مِنهنَّ ، فأعلم اللَّه - جلَّ وعزَّ - أن آل إِبراهيم قد أوتوا ملْكاً عظيماً.
وَقَالَ بعضهم نالوا من النساءِ أكثر مما نال محمد - صلى الله عليه وسلم - كان لداود مائة امرأة ، وكان لسليمانَ ألف ما بين حُرَّةٍ ومملُوكَةٍ.
فما بالهم حسدوا النبي - صلى الله عليه وسلم -.
* * *
وقوله : (فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (55)
أي من آمن بالنبي - صلى الله عليه وسلم -.
(وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ)

(2/64)


وقيل منهم مَنْ آمن به أي بهذا الخبر عن سليمان وداود فيما أعْطِيَا مِن
النَسَاء.
وقوله : (وكفى بجهنم سعيراً)
المعنى كفت جهنم شدةَ توقدٍ.
* * *
وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56)
(سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا)
أي نَشْويهم في نار . ويروى أن يهودية أهدت إِلى النبي - صلى الله عليه وسلم - شاة مَصْلِيَّة أي مشويَّةً.
وقوله : (كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا)
الأحسَنُ إِظهار التاءَ ههنا مع الجيم . لئلا تكثر الجيمات ، وإِن شئت
أَدغم التاء في الجيم ؛ لأن الجيم من وسط اللسان والتاء من طرفه ، والتاء
حرف مهموس فأدغمته في الجيم.
فإن قال قائِل بدل الجلد الذى عَصَى بالجلد الذي غير العاصي ، فذلك
غلط من القَول . لأن العاصي والآلم هو الِإنسان لا الجلد . وجَائز أَنْ يكونَ
بُدلَ الجلْدُ النَضِجُ . وأُعيد كَمَا كانَ جلدُه الأول ، كما تقول : قد صغت من
خاتَمِي خاتَماً آخر فأنت وإِن غيرت الصوغ فالفضة أصل وَاحِد.
وقد كان الجلدُ بلِيَ بَعدَ البَعْتَ ، فإنشاؤه بعد النضج كإِنشائه بعد البعث.
وقوله : (ليَذُوقوا العَذَابَ)
أي ليُبْلِغَ في أَلَمِهِمْ.
وقوله : (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا)

(2/65)


العزيز البالغ إِرادَتَه ، الذي لا يَغْلبُه شي " وهو مع ذلك حكيم فيما
يدبر ، لأن ّ الملْحدين ربما سَألوا عن العذَابِ كيف وقع فأعلم الله عزَّ وجلَّ أن جميع مَا فعله بحكمةٍ.
* * *
وقوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57)
المعنى تجري من تحتها مياه الأنهار ، لأن الجاري على الحقيقة الماء.
وقوله : (وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا)
معنى ظليل يُظل من الريح والحر ، وليس كل ظل كذلك.
أعلم الله - عزَّ وجلَّ - أن ظِل أهل الجنَّة ظليل لا حَرَّ مَعَه ولا بَرْدَ.
وكذلك قوله : (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) لأن ليس كل ظلٍّ مَمْدُوداً.
* * *
وقوله : (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58)
هذا أمر عَامٌّ للنبي - صلى الله عليه وسلم - وجميع أُمَّتِه.
ويروى في التفسير أن العباسَ عمَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يجعلَ له السقَاية والسِّدَانَةَ وهي الحِجبة.
وهو أَن يجعل له مع السقاية فتح البيت وإِغلاقَه ، فنازعه شيبةُ بن عثمان فقال يا رسول الله اردُدْ عليً ما أخذْت مِنِّي يعني مفتاح الكعبة ، فرده - صلى الله عليه وسلم - على شَيْبَة.
وقوله : (إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ)

(2/66)


هذه على أوجه - نِعِمَّا - بكسر النون والعين وإِدغام الميم في الميم.
وإِن شئت فتحت النون ، وإِن شئت أسكنت العين فقلت نَعْمَّا ، إلا أن الأحسنَ عندي الِإدْغام مع كسرِ العَيْن فأمَّا من قرأ نِعْم مَا بإسكان العين والميم ، فهو شيءٌ ينكره البَصْرِيُون ، ويزْغمون أن اجتماع السَّاكنين أعني العين والميم غير جائز ، والذي قالوا بَيِّن ، وذلك إنَّه غير ممكن في اللفظ ، إِنما يحتال فيه بمشقة في اللفظ.
* * *
وقوله : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)
أي أطيعوا اوُلي الَأمْر مِنكم ، فأمر الله عزَّ وجلَّ بطاعته ، فيما فرض.
وطاعة رسوله وتصديقه فيما أدى عن اللَّه.
وأولو الأمر منهم هم أصحابُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن اتبعهم من أهل العلم ، وقيل إِنهم همُ الأمراءُ ، والأمراءُ إِذا كانوا أولي علم ودينٍ آخذين بما يقوله أهل العلم ، فطاعتهم فريضةٌ.
وجُمْلَة أولي الأمر من المسلمين من يقول بشأْنهم في أمر دينهم وجميع
ما أدى إِلى صلاح له.
ويقال : أديت الشيءَ تأدية ، والأداءُ اسم مَمْدود وأدوْتُ الرجُل آدو له
أدواً إِذا خَتَلْته.
قال الشاعر :
أدَوْت له لأخْتِله . . .فهيهات الفتى حذرا
وأَدِيَ اللبنُ أَدِيًّا إِذا حمض .

(2/67)


وقوله : (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ)
معنى تنازعتم اختلفتم وتجادلتم وقال كل فريق : القولُ قولي.
واشتقاق المنازعة أن كل واحد منهما ينزع الحجة.
وفي هذه الآية أَمْر مَؤكد يدل على أَن القصد للاختلاف كفْر ، وأنَّ
الِإيمان اتباعُ الِإجماع والسُّنةِ.
ولا يخلو قوله عزَّ وجلَّ : (فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ).
من أحد أمرين : إِمَّا أنْ تَرُدّوا ما اخْتَلَفْتُم فيه إِلى كتاب الله وسنة
رسوله ، أَو تقولوا إِن لم تعلموه : اللَّه ورسوله أَعلم.
(ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا)
أي إِنَّ رَدَّكم ما اختلفتم فيه إِلى ما أَتى من عند اللَّه وترككم التَحارُب
خير ، وأحْسَنُ تأْويلاً لَكُم ، أَي أَحسنُ عاقبةً لكم . وجائز أن يكون أحسن
تأويلًا أيأحسن من تاوُلِكم انتُم . دون رَدَكم إِياه إِلى الكتاب والسُثةِ.
وتأْويلًا منصوب على التمييز.
* * *
وقوله : - (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60)
يًعْنى به المنافقون.
(أَنَّهُمْ) تنوب عن اسم الزعم وَخبرِه.
وقوله : (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ)
إِلى الكاهن والشيطان .

(2/68)


ويروى أن رَجُلاً من المنافقين نازعه رجل من إليهود ، فقال إليهودي بيني
وبينك أبو القاسم وقال المنافق بيني وبينك الكاهن ، فلم يرض إليهودي
بالكاهن وصار إِلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فحكم لليهودي على المنافق فقال المنافق لا أرضى . بيني وبينك أبو بكر ، فحكم أبو بكر أيضاً لليهودي ، فلم يرض المنافق وقال بيني وبينك عمرُ فصارا إِلى عمرَ فأخبره إليهودي بأن المنافق قد حَكَمَ عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر فلم يرض بحكمهما.
فقال عمر للمنافق : أكذاك ؟
قال : نَعَمْ ، فقال عمر : اصبروا فإن لي حاجة أدْخُلُ فأقْضِيهَا وأخرج
إليكما فدخل وأخذ سيفه وخرج إِلى المنافق فضربه بالسيف حتى قتله ، فجاءَ
أهله فشكوا عُمَرَ إِلي النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأله عن قِصتِه فقال عمر : إِنه ردَّ حُكمَك يا رسولَ اللَّه ، فقال رسول اللَّه : أنت الفارُوق.
* * *
وقوله : (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61)
أي يَصدُّون عن ، حُكْمِكَ.
* * *
وقوله : (فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62)
أي فكيف تكون حالُهم إِذا قُتِل صَاحبُهم بما أظهر من الخيانة ورَدَّ
حُكْم النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وقوله : (ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا)
أي ما أرَدْنا بمُطَالَبَتِنَا بدمِ صاحِبِنَا إِلا إِحْسَاناً وطلباً لما يوافق الحق.
* * *
(أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63)
اللَّه يعلم ما في قلوب أُولَئِكَ وقلوب غيرهم ، إلا أن الفائدة في ذكره

(2/69)


ههنا الذين يعلم الله ما في قلوبهم أي أُولَئِكَ الذين قد علم اللَّه أنهم
منافقون.
والفائدة لنا هي : اعلموا أنهم منافقون.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا)
أي أعلمهم أنهم إن ظهر منهم رَدٌّ لحِكُمكَ وكفر ، فالقتل حقُهم.
يقال قَولٌ بليغٌ إِذا كان يبلغ بعبَارةِ لسانه كُنْهَ مَا في قلبه ، ويقال أحمَقُ بَلْغ وبلْغ.
وفيه قولان : إنَّه أحمَقُ يبلغ حيث يريد ، ويكون " أحمقُ بَلْغ وبلْغ " قد بَلَغَ في
الحماقة . والقولُ الأول قول من يُوثَقُ بعِلْمه ، والثاني وجه جَيدٌ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64)
إي ، أذِنَ في ذلك.
و " مِنْ " دخلت للتوكيد . المعنى وما أرسلنا رسولاً إِلَّا ليطاع بإِذن اللَّه.
وقوله : (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ)
" أن " في موضع رفِع : المعنى لو وقع مجيئهم في وقت ظلمهم أنفسهم مع
استغفارهم (لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا).
* * *
وقوله : (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)
يُعنَىِ به المنافقون.
(حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ)
أي فيما وقع من الاختلاف بينهم.
(ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ) أي لَا تَضِيقُ صدورُهم من قضيتيكَ.
(وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)

(2/70)


أَي يسلمون لما يأتي به من حُكْمِكَ ، لا يعارضونه بشيء ، وتسليماً
مصدر مَؤكد ، والمصادر المؤَكدة بمنزلة ذكر الفعل ثانياً ، كأنك إِذا قلت
سلمت تسليماً فقد قلْت : سَلَّمْتُ سَلَّمْتُ . وحقُّ التوْكِيد أن يكون محقِّقاً لما
تذكره في صَدْرِ كَلَامِك ، فإِذا قُلْتَ ضَربتُ ضرباً ، فكأنك قُلْتَ أحدَثْتُ ضَرْباً أحَقه ولا أشك فيه ، وكذلك (وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) أي يسلمون لحكمك تسليماً ، لا يُدْخِلون على أنفسهم فيه شَكاً.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66)
" لو " يُمنَعُ بها الشيء لامتناع غيره . تقول لَوْ جاءَني زيد لَجئْتُه.
المعنى أن مجيئي امتنع لامتناع مَجِيءِ زيْدٍ ، فحقها أن يَلِهَا الأفعالُ.
إلَاَ أن (أنَّ) المشدَدةَ تقع بعدها ، لأن - " أنَّ " في اللغة تنوب عن الاسم والخبر ، تقول ظننت أنك عالم.
وهذا كقولك ظننتك عالماً . والمعنى ظننت علمك.
فالمعنى في " أنَّ " بَعْدَ " لَوْ " أنها نابَتْ عن الفعل والاسم ، كما نابت عن الاسم والخبر.
فالمعنى في قوله : (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ) كالمعنى في لو كتبنا عليهم.
وجائز أن يكون مضمراً الفعلُ مع (أنَّ) مع وقوع قابلها.
المعنى ولو وقع وكتبْنَا عليهم أنْ اقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ أو اخرُجُوا من دِيارِكُمْ مَا
فَعَلُوهُ إِلا قَليلُ مِنْهُمْ.
وإِن شئت كسرتها لالتقاء السَّاكنين أعني . . (أَنِ اقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ)
وإِن شئت قُلْتَ " أنُ اقتلوا " فضممتها لانضمام التاء . .

(2/71)


وأبو عمرو بن العلاء يختار مع النونات خاصة الكسَرَ ومَعَ سائِر ما في
القرآن - إِذا كان ما بعدها مضموماً - الضَّمَ ، إِلا قوله :
(وَقَالَتِ اخْرُج عليهنَّ) ، (وَلقَدِ اسْتُهزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ)
ولست أعرف في هذين الحرفين خَاصيةَ أبي عمرو إِياهُمَا بالكَسْرِ إِلا أن
يكونَ رَوَى روايةً فاختار الكسرَ لهذه العِلةِ ، أو يكون أرادَ أن الكسرَ جازَ أيْضاً كما جاز الضمُ - وهذا أجْوَد التأويلين.
وللكسر والضم في هَذِهِ الحروف وجهان جيدانِ قد قَرأت القراءُ
بهما.
فأمَّا رفع إلا قَليل . مِنْهم . فعلى البدل من الواو.
المعنى ما فعله إِلا قليل منهم.
والنصب جائز في غير القرآن ، على معنى ما فعلوه اسْتَثْنِي قَلِيلاً مِنْهمْ.
وعلى ما فسَّرنَا في نصب الاستثناء ، فإن كان في النفْي نوعانِ مختلِفَان
فالاختيار النصبُ ، والبدَل جائز ، تقول مَا بِالدارِ أحد إِلا حِمَاراً
قال النابغة الذبياني :
وَقَفْتُ فيها أُصَيْلالاً أسائلُها . . . عَيَّتْ جواباً وما بالرَّبْعِ مِنْ أحدِ
إلاَّ الأَوارِيَّ لأْياً ما أُبَيِّنُها . . . والنُّؤْيُ كالحَوضِ بالمَظلُومة الجَلَدِ

(2/72)


فقال ما بالربع مِنْ أحدٍ ، أي ما بالربعِ أحد إِلَّا أوارِي ، لأن الأواري
ليست من الناس.
وقد يجوز الرفع على البدل ، وإِن كان ليس من جنس الأول
كما قال الشاعر :
وبَلْدَةٍ ليس بها أنيسُ . . . إلاَّ اليَعافيرُ وإلاَّ العِيْسُ
فجعل اليعافير والعيسَ بدلا من الأنيس.
وجائز أن يكون أنيس ذلك البلد اليعافير والعس.
* * *
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69)
وقوله : (وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا).
يعنى النبيين ، لأنه قال :
(وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ) أي المطيعون.
(مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا).
أي الأنبياءَ ومن مَعَهمْ حسنوا رفيقاً.
و " رفيقاً " منصوب على التمييز ، ينوب عن رفقاء ، وقال بعضهم لا ينوب
الواحدُ عن الجماعة إِلا أن يكون من أسماء الفاعلين . فلو كان " حسُنَ القوم
رجُلًا " لم يجز عنده . ولا فرق بين رفيق ورَجل في هذا المعنى لأن الواحد في

(2/73)


التمييز ينوب عن الجماعة ، وكذلك في المواضع التي لا تكون إِلا جماعةً
نحو قولك هُوَ أحسن فتى وأجملُه ، المعنى هو أحسن الفتيان وأجملهم ، وإذا
كان الموضع الذي لا يُلْبِسُ ذِكْرُ الواحد فيه ، فهو يُنْبى عن الجماعة
كقول الشاعر :
بها جِيَف الحَسْرى فأمَّا عِظامُها . . . فَبيضٌ وأَمَّا جِلْدُها فَصَلِيبُ
وقال الآخر :
في حَلْقِكم عَظم وقد شَجينَا
يريد في حلوقكم عِظَام ، ولو قلت حسُنَ القوم مجاهداً في سبيل اللَّه.
وحسن القوم رجلاً كان واحداً
وقوله : (وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا).
معناه : كَفَى اللَّهٌ عَلِيمًا ، والباء مَؤكدة . المعنى اكتفوا باللَّه عليماً.
* * *
وقوله : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا (71)
أمر اللَّه أن لا يلْقِيَ المؤمنون بأيديهم إِلى التهلكة وأن يحذروا عدوهم
وأن يجاهدوا في الله حق الجهاد ، ليبلو الله الأخيارَ وضمِنَ لهم مع ذلك
النَصْرَ ، لأنه لو تولى اللَّه تعالى قتل أَعدائه بغير سبب للآدميين لم يكونوا
مثَابينَ ، ولكنه أمر أن يُؤخَذَ الحذَرُ.
وقال : (فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا)

(2/74)


والثُباتُ الجماعات المتفرقة ، واحدها ثُبَة.
قال زهير ابن أبي سلمى :
وقد أَغْدُو على ثُبَةٍ كِرامٍ . . . نَشاوى واجِدين لِما نشاءُ
قال سيبويه ثُبة تجمعُ ثُبُون وثُبينَ ، في الرفع والنصب والجر وإِنما
جُمِعتْ بالواوِ والنون - وكذلك عِزَة وعِضَة -
كقوله عزَّ وجلَّ (الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) - لأنَّ الواو والنون جُعَلتَا عوضاً من حذف آخر الكلمة.
وَثُبة التي هي الجماعة محذُوف آخرها ؛ تُصَغَّرُ ثُبيَّة ، وَثُبة الحوض وسطُه حيث
يثوب الماءُ إِليه تُصَغَّر ثُوبَيْةَ ، لأن هذا محذوفة منه عين الفِعْل ، وإِنما اشتقت
ثبة الجماعة من ثَبيْتُ عَلى الرجُلِ إِذا أثْنَيت عليه في حياته ، وتأويله أنك
جمعت ذكر محاسنه ، فأما الثبَةُ الجماعة من فرقة . فتأويله انفروا جَماعات
مُتَفَرقة أو انفروا بعضكم إلى بَعْض.
* * *
وقال : (وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (72)
أي ممن أظهر الِإيمان لمن يبطى عن القتال ، يقال قد ابطا الرجل
وبَطُوءَ بمعنى ، أبطأ تأخر ، ومعنى بطوءَ ثقل ، إِبطاءً ، وبُطْئاً.
واللام الأولى التي في " لَمَنْ " لام إِن ، واللام التي في ليَبطئَن لام
القَسِمُ ، ومَنْ موصولة بالجالب للقَسِمَ ، كان هذا لو كان كلاماً لقلْتَ إِن
منكم لمَن أحلِف واللَّه لِيُبطًئن.
والنحويون يجمعون على أن مَنْ ومَا والذي

(2/75)


لا يُوصَلْنَ بالأمر والنهي إِلا بما يُضْمَر معها من ذكر الخبر ، وأن لام القسم إِذا جاءَت مع هذه الحروف فلفظ القَسمِ وما أشْبَه لفْظَهُ مضمر معها.
وقوله : (فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ) هذا المَبطِّئ :
(قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا).
أي لم أشْركهُمْ في مُصِيبَتهم.
(وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا (73)
أي ظفِرتم وغَنِمْتُمُ.
(لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ).
(كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ) جائز أن يكون وقع ههنا معترضاً :
المعنى : ولئن أصابكم فضل من اللَّه ليقولَنَّ.
(يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا)
ويكُونَّ : (إِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا)
(كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ).
ومعنى المودَّة ههنا ، أي كأنَّه لم يُعاقِدْكُمْ على الإيمان أي كأنَّه لم يُظهر
لكم المودةَ ، وجائز أن يكون - واللَّه أعلم - ليقُولَنَّ يا ليتني كنت معهم كأنْ لم تكن بينكم وبينه مَودةً ، أي كأنَّه لِم يعاقدكم على أن يجاهِدَ معكم . فلا يكون في العربيَّةِ فيه عيْبٌ ولا ينقص معنَى . . واللَّه أعلم.
(فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا).
(فَأَفُوزَ) منصوب على جواب التمني بالفاء.
وقوله : (فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74)

(2/76)


أي إِنْ كانَتْ بينكم وبينه عقدة أمَان فليقاتل في سبيل الله معكم.
(الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ)
أي يبيعون ، يقال شريت بمعنى بعت ، وشَرَيتُ بمعنى اشتَريْتُ
قال يزيد بن مُفرِغ.
وشَريْتُ بُرداً ليتني . . . من بَعْد بُردٍ كنتُ هامَهْ
بُرْدٌ غلامه ، وشريته بعتُه.
* * *
وقوله : (وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75)
" ما " منفصلة . المعنى أَي شيءَ لكم تَارِكِينَ القتالَ . و (لاَ تُقَاتِلُونَ) في
موضعِ نَصْبِ على الحال كقوله - عزَّ وجلَّ - (فما لهم عن التَذكِرةِ
مُعْرِضين)
(والمستضعَفِين) في موضع جَرٍّ.
المعنى وما لكم لا تُقَاتِلون في سبيل اللَّه وسبيل المستضعفين.
(مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا).
يعني بالقرية مكة ، أي ما لكم لَا تسعون في خلاص هؤلاءِ.
وقوله : (وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا)
أي تَولَّنا بنصرك وخَلِّصْنا من أهْل مكة الظالمِ أهلُهَا.
فهو نعت لقرية ، ووحدَ الظالم لأنه صفة تقع موقع الفِعل تقول مررت بالقرية الصالح أهلهَا كقولك التي صَلَحَ أهْلهَا .

(2/77)


قال أبو العباس محمد بن يزيد : (والمستضعفين) في موضع جر : من
وَجْهَين : المعنى ما لكم لا تقاتلون في سبيل اللَّه وفي المستضعفين.
قال وجائز أن يكون عطفاً على اسم اللَّه ، أي في سبيل الله وسبيل
المستضعفين ، قال : واختار أن يكون على " وفي المستضعفين " لاختلاف
السبِيلين ، لأن معنى سبيل المستضعفين كأنه خلاص المستضعفين ، وقول أكثر
النحويين كما اخْتار أبو العباس محمد بن يزيد.
والوجه الثاني عِندي أشبه بالمعنى ، لأن سبيل المستضعفين هي سبيل اللَّه.
* * *
وقوله جلّ وعر : (الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76)
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ).
الطاغُوتُ في قول النحويين أجمعين يذكَر ويؤنًثُ . وفي القرآن دليل
على تذكيره وتأنيثه ، فأما تذكيره فقوله : (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ) ، وأمَّا تأْنيثه فقوله - جلَّ وعزَّ - : (والذِينَ اجتَنَبوا الطاغوت أن يَعبُدوهَا).
قال أبو عبيدة : الطاغوت ههنا في معنى جماعة.
كما قال اللّه - عزَّ وجلَّ - : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ)
معناه لحم الخنازير كلها.
والطاغوت الشيطان ، وكل معبود من دون اللَّهِ فهو طاغوت.
والدليل على أن الطاغوت الشيطان قوله : (وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60).
* * *
وقوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77)
قيل كان المسلمون قبل أن يؤمروا بالقتال قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - : لو أذنت

(2/78)


لنا أن نعمَلَ مَعَاوِلَ نقاتل بها المشركين ، فأمروا بالكف وأداءَ ما افْترِضَ عليهم غير القتال ، فلما كتبَ عليهم القتال خشي فريق منهم (وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ).
المعنى هَلَّا أخرْتنَا.
فأَعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أن متاع الدنيا قليل وأن الآخرة لِأهْل التُّقَى.
وأعلمهم أن آجالهم تخطئهم ولو تحصنوا بأمنع الحصون فقال :
(أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78)
لأن مُفَعَّلة ، وفعَّل للتكثير ، يقال : شاد الرجل بِناءَه يشيده شَيداً إِذا رَفَعَه وإذَا . طَلاَه بالشيد ، وهو ما يطلى به البناءُ من الكِلس والجصِّ وغَيرهِ ، ويقال أيضاً قد أشَادَ الرجل بِنَاءَهُ.
فأمَّا في الذِكْرِ فأشدت بذكْر فُلانٍ لا غير إِذا رَفَعْتَ من ذِكرِه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ).
قيل كانت إليهود - لُعِنَتْ - تَشَاءَمَتْ برسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - عند دخوله المدينة فقالت : منذ دخل المدينة نَقَصَتْ ثمارُنا وغلت أسعارنَا ، فأعلمَ اللَّهُ عز وجل أن الخصْبَ والجَدْبَ من عِندِ اللَّهِ.
* * *
وقوله : (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79)
فذا خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - يرادُ به الخلق.
ومخاطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - قد تكون للناسِ جميعاً لأنه عليه السلام لِسانهم ، والدليل على ذلك قوله :
(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ).
فنادى النبي - صلى الله عليه وسلم - وحده وصار الخطاب شامِلًا له ولسائر أمَّتِه ، فمعنى

(2/79)


(مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ) ، أي ما أصبتم من غنيمة أو أتاكم من خِصْبٍ فمن تفضلِ اللَّه.
(وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ) أي من جَدْبِ أو غَلَبةٍ في حرب فمِنْ نَفْسِك ، أي أصابَكم ذلك بما كَسَبتُمْ كما قال اللَّه جلَّ وعز (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30).
ومعنى (وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا).
معنى الرسول ههنا مَؤكدٌ لقوله : (وأرسَلنَاكَ) لأن (وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ) تدل
على أنه رَسولٌ.
(وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا).
أَي اللَّه قد شهد أَنه صَادق ، وأنه رسوله ، و (شَهِيدًا) منصوب على
التمييز ، لأنَكَ إِذا قلت كفى الله ولم تبين في أي شيء الكفاية كنت مُبْهِماً.
والفاء دخلت في قوله جل وعز : (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ) لأن
الكلام في تقدير الجزاء ، وهو بمنزلة قولك : إِنْ تصبْكَ حَسَنة فمن اللَّه.
* * *
وقوله : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80)
أَي من قبل ما أَتَى به الرسول فإنما قبل ما أمر الله بِه.
وقوله : (وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا).
تأْويله - واللَّه أعلم - أنك لا تعلم غيبهم إنما لك ما ظهر منهم ، والدليل
على ذلك ما يتلوه وهو قوله :
(وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (81)

(2/80)


قال النحويون تقديره : أمْرنا طاعة . وقال بعضهم مِنَّا طاعة.
والمعنى واحد ، إلا أن إضمار أمرنا أجمع في القصة وأحسَنُ.
وقوله : (فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ)
يقال لكل أمر قد قضِيَ بِلَيْل قد بيَّتَ.
قال الشاعر :
أتوني فلم أدْرِ مَابَيَّتوا . . . وَكَانوا أتوني لأمْرٍ نكْر
أي فلست حفيظاً عليهم تعلم ما يغيب عنك من شأنِهم ، وهذا ونظائره
في كتاب اللَّه من أبين آيات النبي - صلى الله عليه وسلم - ييه ، لأنهم ما كانوا يخْفونَ عنه أمْراً إِلا أظهره اللَّه عليه.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ).
فيه وجهان ، يجوز أن يكون - واللَّه أعلم - ينزله إِليك في كتابه ، وجائز أن
يكون يكتب ما يُبَيتون يحفظه عليهم ليُجَازوا به.
وقوله : (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ).
أي لَا تسمِّ هؤلاءِ بأعيَانِهم لما أحب الله من ستر أمر المنافقين إلى أن
يستقيم أمْرُ الِإسلام.
فأما قوله : (بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ) فذكَّر ولم يقل بيتت ، فلأن

(2/81)


كل تأنيث غير حقيقي فتعبيره بلفظ التذكير جائز ، تقول : قالت طائفة من أهل الكتاب ، وقال طائفة من المسلمين لأن طائفة وفريقاً في معنى واحد ، فكذلك قوله عزَّ وجلَّ : (فَمن جَاءَهُ موعظَةٌ مِنْ رَبِّه).
وقوله : (يَا أئها النَّاسُ قَد جَاءَتْكُمْ مَوعِظَة مِن رَبِّكُم).
يعني الوعظ إِذا قلت فمن جاءَه موعظة.
وقرأ القراءُ (بيتْ طائفةٌ) على إسكان التاءِ وإدْغامها في الطاء.
وروي عن الكسائي أن ذلك إِذا كان في فعل فهو قبيح ، ولا فرق في الإدغام ههنا فِي فعل كان أو في اسم لو قلت بَيَّتُ طائفةً وهذا بَيْتُ طائفة - وأنت تريد بيتُ طائفةً كان واحداً.
وإنما جاز الإدغام لأن التاءَ والطَاءَ مِن مَخْرج واحدٍ.
* * *
وقوله : (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)
يُعْنَى به المنافقون ، أي لو كان ما يخبِرونَ به مما بيتُوا ، وما يُسِرُونَ
وُيوحَى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - . . لولا أنه من عند الله لما كان الإِخبار به غير مختلف.
لأن الغيب لا يعلمه إِلا الله . وهذا من آيات النبي - صلى الله عليه وسلم - البينَةِ.
ومعنى تدَبَرتُ الشيءَ ، نظرتُ في عَاقبته ، وقولهم في الخبر : لا تَدَابَروا.
أي لا تكونوا أعداءَ ، أي لا يُوَلَى بعضُكم دُبُرهَ ، يقال قد دَبَر القومُ يَدبُرون
دبَاراً إذَا هَلكُوا ، وأدْبَرُوا إذا وَلَّى أمرُهم ، وإنما تأويله أنه تقضى أنهم إِلى
آخره فلم يبق منهم باقية ، والدبْرُ النحلُ سُمِّيَ دَبْراً لأنه يُعْقب ما ينتفع به.
والدِّبرُ المال الكثير سمِّيَ دِبْرا لكثرته ، ولأنه يبقى للأعْقابِ والأدْبارِ ،

(2/82)


وقوله : (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83)
ْأي أَظهروه ونادَوْا به في الناس ، قال الشاعر :
أذاع به في الناس حتى كأنه . . . بعلْياءَ نارٌ أوقِدَتْ بثقُوب
وكان إِذا علم النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه ظاهر على قوم أمِن مِنهم ، أو أعْلمَ تجَمع قوم يخاف من جمع مِثلِهم ، أذاع المنافقون ذلك ليحذَر مَنْ يحذر من الكفار ، ويقوَى قلب من ينبغي أن يَقْوَى قلبه لما أذاعوا وكان ضَعَفَةُ المُسْلِمين يُشِيعُونَ ذلكَ معهمْ من غير علم بالضرَرِ في ذلك ، فقال عز وجل ولو ردوا ذلك إِلى أن يأخذوه من قِبَلِ الرسول ومن قبل أولي الأمْرِ منهم ، أي من قِبَلِ ذوي العلم والرأي منهم.
وقوله : (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ)
أي . لعلمه هؤلاءِ الذين أذاعوا به من ضَعَفِة المسلمين من النبي - صلى الله عليه وسلم -
وذوي العلم ، وكانوا يعلمون مع ذلك هَلْ ينبغي أن يُذَاع أو لا يُذَاعَ.
ومعنى (يَسْتَنْبِطُونَهُ) في اللغة يستخرجونه ، وأصله من النبط وهو الماء
الذي يخرج من البئر في أول ما يحفر ، يقال من ذلك : قد أنبط فلان في
غضراء ، أي استنبط الماءَ من طينٍ حُر . والنبط إنما سمُّوا نبطاً
لاستنباطهم ما يخرج من الأرضين.
وقوله : (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا).

(2/83)


قال بعضهم : لولا ما أنزله اللَّه عليكم من القرآن ، وبين لكم من الآيات
على لسان نبيه لاتَبعْتُم الشيطانَ إِلَّا قَلِيلًا ، أي كان أولكم بجوار الكفر.
وهذا ليس قولُ أحد من أهل اللغة ، قال أهل اللغة كلُّهم :
المعنى : (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا) إِنما هو استثناء من قوله (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) إِلَّا قَلِيلًا).
وقال النحويون : المعنى أذاعوا به إِلا قليلًا.
وقالوا أن يكون الاستثناء من أذاعوا به إلا قليلًا أجود ، لأن مَا عُلِمَ
بالاستنباط فليس الأكثر يعرفه ، إِنما يستنبط القليل ، لأن الفضائل
والاستنباط ، والاستخراج في القليل من الناس.
وهذا في هذا الموضع غلط من النحويين ، لأن هذا الاستنباط ليس بشيء يستخرج بنظر وتفكر ، إنما هو استنباط خبر ، فالأكثر يعرف الخبر ، إذا خُبِرَ بِه ، وإِنما القليل المبالِغُ في البلادة لا يَعْلَمُ ما يُخْبرُ بِه ، والقول الأول مع هذين القولين جائزة كلها . والله أعلم.
لأن القرآن قبل أن ينزل والنبي قبل أن يبعث قد كان في الناس القليلُ
ممن لم يشاهد القرآن ولا النبي - صلى الله عليه وسلم - مَؤمناً.
وقد يجوز أن يقول القائل إِن من كان قبل هذا مَؤمناً فبفضل اللَّه وبرحمته آمَنَ ، فالفضل والرحمة لا يخلو منهما من نال ثواب الله جلَّ وعزَّ
إلا أن المقصود به في هذا الموضع النبي - صلى الله عليه وسلم -
والقرآن.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ (فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا (84)
هذه الفاءَ جواب قوله جلَّ وعزَّ : (وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74).

(2/84)


(فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ).
ويجوز أن يكون متصلاً بقوله : (وما لكم لا تقاتلون في سَبِيل اللَّهِ) أي
أيُّ شي لكم في ترك القتال (فقاتل في سبيل اللّه). فأمره الله بالقتال ولو أنه
قاتل وحده ، لأنه قد ضمن له النصر.
ويروى عن أبي بكر رحمه اللَّه أنه قال في الردةِ ، لو خالفتني يميني
جاهدتها بشمالي.
وقوله : (عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا).
البأس الشدة في كل شيءٍ.
* * *
وقوله : (مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (85)
الكفل في اللغة النصيب ، أخِذَ من قولهم أكفَلْتَ البعيرَ إِذا أدَرْتَ على
سِنَامه أو على موضع من ظهره كساءً ، وركبت عليه وإِنما قيل له كفْل ، واكْتُفِلَ البَعِيرُ ؛ لأنه لم يُسْتَعْمَلْ الظهْرَ كله ، إِنما اسْتُعْمِل نَصيب من الظهر ، ولم يستعمل كله.
وقوله : (وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا).
قال بعضهم : المقيت القدير ، وقال بعضهم : المقيت الحفيظ ، وهو
عندي - واللَّه أعلم - بالحفيظ أشبه ، لأنه من القُوتِ مشْتَق ، يقال : قتَ الرجلَ أقُوتهُ قوتاً إِذا حفظتُ عليه نفسه بما يقوته.
والقوتُ اسم ذلك الشيء الذي يحفظ نفسه ، ولا فضل فيه على قدرة الحِفْظ ، فمعنى المقيت - واللَّه أعلم -
الحفيظ الذي يعطي الشيءَ قدر الحاجة من الحفظ
قال الشاعر :

(2/85)


ألِيَ الفضْل أمْ عَلَيَّ إذا . . . حُوسِبت إني عَلى الحِسَابِ مُقِيتُ
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (86)
قال النحويون : " أحسن " ههنا صفة لا تنصرف لأنه على وزن أفْعَل وهوِ
والمعنى فحيوا بتحية أحسن منها ، وقيل في التفسير : التحية هنا
السلام ، وهي تفعله - من حييْت.
ومعنى (حَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا): إِذا قيل لكم " السلام عليكم " فقولوا : وعليكم السلام ورحمة اللّه " ، فالتحية التي هي أحسن
منها هي وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ".
ويقال لكل شيء منتهى ، ومنتهى السلام كلمة وبركاته.
ويروى أنَّ دَاخِلًا دخل إِلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : السلام عليكم ورحمة اللَّه وبركاته ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - وعليك ، ودخل آخر فقال : السلام عليكم فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - وعليكم السلام ورحمة اللَّه ، ودخل رجل آخر فقال : السلام عليكم
ورحمة اللَّه ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - وعليكم السلام ورحمة اللَّه وبركاته فقام الداخل الأول فقال : يا رسول الله سلمت فلم تَزِدْ على
" وعليك " وقام هذا فقال السلام عليكم فزدته ، وقام هذا فقال : السلام عليكم ورحمة اللَّه فزدته ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - إنك لم تترك من السلام شيئاً ، فرددت عليك ، وهذان تركا منه شيئاً
فزدتهما.
وهذا دليل أنَّ آخر ما في السنة من السلام كلمة وبركاته .

(2/86)


وقوله جلَّ وعزَّ : (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا).
أي يعطي كل شي من العلم والحفظ والجزاءَ مقدار ما يحسبه ، أي
يكفيه ، تقول حسبك بهذا أي اكتف بهذا.
وقوله تعالى : (عَطاءَ حِساباً) أي كافياً ، وإنما سُمِّيَ الحساب في المعاملات حساباً لأنه يعلم ما فيه كفاية
ليس فيها زيادة على المقدار ولا نقصان.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87)
(لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ).
هذه لام القسم كقولك : واللَّه ليجمعنكم ، ومعنى القيامة في اللغة - والله
أعلم - على ضربين ، جائز أن تكون سميت القيامة لأن الناس يقومون من
قبورهم ، قال الله جلَّ وعزَّ : (يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7).
وجائز أن تكون سُمِّيتْ القيامةَ لأن الناس يقومون للحساب.
قال الله عزَّ وجلَّ : (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)).
ومعنى (لَيَجْمَعَنَّكُمْ) - واللَّه أعلم - أي يجمعكم في الموت وفي قبوركم.
* * *
وقوله : (فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88)
هذا خطاب للمسلمين ، وذلك أن قوماً من المنافقين قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - قد اجتوينا المدينة ، فلو أذنت لنا فخرجنا إِلى البدو ، فلما خرجوا لم يزالوا يرحلون مرحلةً مرحلةً حتى لحقوا بالمشركين ، فقال قوم من المسلمين هم كفَار هم كفار ، وقال قوم : هُم مسلِمُونَ حتى نعلم أنهم بدَّلوا ، فأمر اللَّه بأن يتفق المسلمون على تكفير من احتال على النبي - صلى الله عليه وسلم - وخالفه فقال - عزَّ وجلََّ - :
(فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ).

(2/87)


أي أيُّ شيء لكم في الاختلاف في أمرهم (وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا).
وتأويل " أركسهم " في اللغة نَكسَهُم وردَّهم ، يقال أرْكَسه ورَكَسَهُ.
ومعنى (وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا) أي ردَّهم إلى حُكم الكفار.
وقوله : (أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ).
أي أتقولون أن هُؤلاءِ مهتدون واللَّه قد أضَلَّهم.
(وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا).
أي طريقاً إلى الحجة ، وقال النحوَيون في نصب " فئتين " إنها منصوبة على
الحال ، وقال سيبويه : إذا قلت مالك قائماً فإنما معناه لِمَ قُمْتَ ونصب على
تأويل أي شيء يستقر لك في هذه الحال ، قال غيره إِن " قائماً " ههنا منصوبٌ على جهة فِعل " مَالَ " ويجيز مالك قائماً ، ومالك القائمَ يا هذا ، ومالك القائمَ خطأ ، لأن القائم معرفة فلا يجوز أن تقع حالا ، و " ما " حرف من حروف الاستفهام لا تعمل عمل كان ، ولو جاز مَالَك القَائِمَ يا هذا ، جاز أن يقول ما عندكَ القائمَ ، وما بِكَ القَائِمَ ، وبالإجماع أن ما عندك القائمَ خطأ ، فمالك القائمَ مثله لا فرق في ذلك.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89)
(فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ).
أي لا تتخذوا من هُؤلاءِ الذين احتالوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى فارقوه أولياءَ.
أي لا تقولوا إنهم مؤمنون حتى يهاجروا في سبيل اللَّه ، أي حتى يرجعوا إِلى
النبي - صلى الله عليه وسلم.
وقوله : (فَإِنْ تَوَلَّوْا)
أي تولوا عن أن يهاجروا ، ولزموا الإِقامة على ما هم عليه (فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا).

(2/88)


وقوله : (إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (90)
أي فاقتلوهم إلا من اتصل بقوم بينكم وبينهم ميثاق.
ويروى أن هؤُلاءِ اتصلوا ببني مُدْلج وكانوا صلحاً للنبي - صلى الله عليه وسلم -.
وقوله : (أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ).
معناه ضاقت صدورهم عن قتالكم وقتال قومهم.
وقال النحوُيون إن (حَصِرَتْ صُدُورُهُم) معناه أو جاءُوكم قد حَصِرَت صُدورُهم ، لأن حَصِرَتْ لا يَكونُ حالاً إلا بقد ، وقال بعضهم حصرت صدورهم خبر بعد خبر ، كأنه قال : أو جاءُوكم ، ثم أخبرَ فقال : (حَصِرتْ صُدُورُهُم أن يُقاتلوكم).
* * *
وقوله جلَّ وعزَّْ : (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ) أي ضيقَ
صُدورِهم عن قتالكم إِنما هو لقذف اللَّه الرعبَ في صدورهم.
وقرأ بعضهم
" حصِرةً صُدُورُهُم " على الحال.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (91)
ستجدون من يظهر لكم الصلح ليأمنكم ، وإذا سنحت فتنة كانوا مع
أهلها عليكم.
وقوله : (كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا).
أي انتكسوا عن عهدهم الذي عقدوه.
وقوله : (فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ).
أي فإِن لم يعتزلوا قتالكم ولم يعاونوا عليكم .

(2/89)


(وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ).
أي المقادة والاستسلام.
(وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ) أي، عن الحرب.
(فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا).
أي حجة بَينَةً بأنهم غَدَرَة ، لا يَفُونَ بما يفارقونكم عليه من الهدنة
والصلح.
* * *
وقوله : (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92)
المعنى ما كان لمؤمن ألبتَّة.
و (إِلَّا خَطَأً) استثناء ليس من الَأول.
المعنى إِلا أن يخطئ المؤمن فكفَارةُ خَطئِه ما ذكر بَعْدُ.
وقال بعض أهل العلم : (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً) على معنى
أن دم المسلم إِنما يصفح عن أن يؤخذ به القَاتِلُ في الخطأ فقد عفى له عن
قتل الخطأ ، إِلا أن الله جل ثناؤه فرض في كتابه على القاتل خطأ تحريرَ رقبة
وديةً مسلمةً إِلى أولياء المقتول ، وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دية الخطأ على العاقِلة ، وعلى القاتل أَن يَؤدِّي في ذلك لقوله عزَّ وجلَّ :
(فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ).
ويحتمل أن يكون الصّيَامُ بدَلًا مَن الرقَبةِ وبدلاً مما ينبغي أن يَؤدَّى في
الدّيةِ.
فَإِنْ قتَل المؤمِنُ خَطَأ رَجُلًا مؤمِناً من قَوْمٍ كفَرةً فعليه تحرير رقبة ،

(2/90)


ولا مال للكفار الذين هم حَربٌ ، لأن الدية في الخطأ إنما جعلت - واللَّه أعلم - لِيحَذَرَ الناس حذراً شديداً من أن يخطئوا خطأ يُؤَدي إِلى القَتْل ، لتَذْهَبَ الضًغَائنُ بينهُمْ . .
(وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ).
وإن كان من قوم بينهم وبين المسلمين عَهْدٌ فتحرير رقبة وتسليم الديةِ
إِلى ذوي الميثاق لئلا تقع ضغينة بين أهل الميثاق والمؤمنين.
ونَصْبُ (تَوْبةً مِنَ اللَّه) على جهةِ نصب فعلْتُ ذلك حذار الشر.
المعنى فعليه صيام شهرين وعليه دية إِذَا وَجَدَ توبةً من اللَّه ، أي فعل ذلك توبة من اللَّه.
فأمَّا قتل النفس فجزاؤه كما قال اللَّه - عزَّ وجلَّ - النَّفْس بِالنَّفْسِ في الدنيا ، وفي الآخرة جهنم.
* * *
قال اللَّه جلَّ وعزَّ : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)
وهذا وعيد شديد في القتل حظَرَ اللَّه عزَّ وجلَّ به الدِّماءَ.
* * *
وقوله : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94)
و(فَتَثَبَّتُوا) بالثاء والتاء.
ومعنى ضربتم سِرْتم في الأرض وغزوتُم.
وقوله : (وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا).

(2/91)


قرئت السلام بالألف ، وقرئت السَّلمَ . فأما السلام فيجوز أن يكون من
التسليم ، ويجوز أن يكون بمعنى السِّلِمْ ، وهو الاستسلام ، وإلقاء المقادة إِلى
إِرادَةِ المسلمين.
ويروى في التفسير أن سبب هذا أن رجلًا انحاز وأظهر الإسلام فقتله
رجل من المسلمين وأخذ سَلبَه.
فأعلمَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ أن حق من ألقى السلمَ أن يُتَبين أمرُه.
ومن قرأ (فتثبتوا) فحقه أن يُتَثَبَّتَ في أمره ، وأعلم الله - جلَّ وعزَّ - أن
كل من أسلم مِمن كان كافِراً فبمنزلة الذي تعوذ بالإِسلام ، فقال عزَّ وجلَّ : (كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ).
ْأي مَنَّ عليكم بالإِسلام ، وبأنْ قبل ذلك منكم على ما أظهرْتُمْ ثم كرر
الأمر بالتبيين فقال عزَّ وجلَّ : (فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا).
* * *
(لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95)
قرئت (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) بالرفع و (غيْرَ) بالنصب ، فأما الرفع فمن جهتين.
إِحداهما أن يكون " غير " صفةً للقاعدين ، وإِن كان أصلها أن تكون صِفةً
للنكرة.
المعنى لا يستوي القاعدون الذين هم غير أولى الضرر ، أَي لا يستوي
القاعدون الأصحاءُ والمجاهدون وإِن كانوا كلهم مؤمنين.
ويجوز أن يكون " غَيْرُ " رفعاً على جهة الاستثناء.
المعنى لا يستوي القاعدون والمجاهدونَ

(2/92)


إِلَّا أَولو الضَرر ، فإنهم يساوونَ المجاهدين ، لأن الذي أقعدهم عن الجهاد
الضرر ، والضرر أن يكون ضريراً أو أعمى أو زَمِناً أو مريضاً.
ويروى أن ابن أم مكتوم قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - أعلََّ جهادٌ ؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - :
(انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا) ، فإِما أن تكون من الخِفَافِ أو من الثقال فأنزل اللَّه :
(لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ).
وقوله جلَّ وعزَّ : (فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى)
أي وَعَدَ الجنَّة.
(وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا).
ويجوز أن يكون (غيرَ أولي الضرر) نصباً على الاستثناء من (القاعدين).
المعنى : لا يستوي القاعدون إِلَّا أولي الضرر.
على أصل الاستثناء النَّصْبُ.
ويجوز أن يكون " غَيْرَ " منصوباً على الحال.
المعنى : لا يستوي القاعدون في حال صحتهم والمجاهدون.
كما تقول : جاءَني زيد غيرَ مريض ، أي جاءَني زيد صحيحاً.
ويجوز جَرُّ " غيرِ " على الصفة للمؤْمنين ، أي لا يستوي القاعدون من
المؤْمنين الأصحاءِ والمجاهدونَ.
أما الرفع والنصبُ فالقراءَة بهما كثيرة.
والجرُّ وجهٌ جيدٌ إِلا أن أهل الأمصَار لَم يقرأوا به وإِن كان وجهاً.
لأن القراءة سنة متبعة.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96)
" درجات " في موضع نصب بدلًا من قوله . . أَجْرًا عَظِيمًا)
وهو مُفسِّرٌ للآخر.
المعنى فَضَّل اللَّه المجاهدين درجاتٍ ومغفرةً ورحمةً.
وجائز أن يكون

(2/93)


منصوباً على التوكيد لـ (أجراً عظيماً) لأن الأجر العظيم هو رفع الدرجات من اللَّه جلَّ وعزَّ والمغفرة والرحمة ، كما تقول لك على ألف درهم ، لأن قولك على ألف درهم هو اعتراف فكأنك قلت أعرفْها عُرفاً ، وكأنه قيل : غفر اللَّه لهُمْ مغفرة ، وأجَرهم أجراً عظيماً ، لأن قوله (أجراً عظيماً) فيه معنى غَفَر ورَحِمَ وفَضَّل.
ويجوز الرفع في قوله (دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً) ، ولو قيل :
" دَرَجَاتٌ منه ومغفرةٌ ورحمةٌ "
كان جائز جائزاً على إِضمار تلك درجات منه ومغفرة كما قال جل ثناؤُه : (لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ) أي ذلك بلاغ.
* * *
وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97)
يُعنَى به المشركون الذين تخلفوا عن الهجرة إِلى النبي - صلى الله عليه وسلم -.
فـ (توفاهم) ، إِن شئت كان لفظها ماضياً على معنى إِن الذين توفتهم
الملائكة وذُكِّرَ الفعلُ لأنه فعل صحيح ، ويجوز أن يكون على معنى
الاستقبال على معنى أَن الذين تتوفاهم الملائكة ، وحذفت التاءُ الثانية لاجتماع تاءَيْن ، وقد شرحنا ذلك فيما تقدم من هذا الكتاب.
وقوله : (ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ) : نصب على الحال.
المعنى تتوفاهم في حال ظلمهم أنْفُسَهُم ، والأصل ظالمين أنْفُسَهم إِلا أن النون حذفت استخفافاً.
والمعنى معنى ثبوتها ، كما قال جلَّ وعزَّ (هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ).
والمعنى معنى ثبوت التنوين . معنى بالِغاً الكعبةَ.
وقوله : (قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ) .

(2/94)


هذء الواو للملائكة أي قال الملائكة للمشركين فيم كنتم أي أكنتم في
المشركين أم في أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - وهذا سؤَال توبيخ قد مر نظراؤُه مما قد استقصينا شرحه.
وقوله : (كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ)
فأَعلم اللَّه أَنهم كانوا مستضعفين عن الهجرة . فقالت لهم
الملائكة :
(أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ)
ْ(المستضعفين) نصب على الاستثناءِ من قوله : (مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ . . . إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ) ، أي إِلا مَنْ صَدَق أنَّه مستضعَف غيرُ مستطيع حيلةً ولا مهتدٍ
سَبيلاً ، فأعلم الله أن هؤُلاءِ راجون العَفوَ ، كما يرجو المؤْمِنُونَ فقال :
(فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99)
و " عَسَى " ترج ، وما أمر اللَّه به أن يرجى مِن رحمته فبمنزلة الواقع كذلك
الظن بأرحِم الراحمين.
وقوله : (وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا).
تأْريل (كَانَ) في هذا الموضع قد اختلف فيه الناس.
فقال الحسن البصري : كان غفوراً لعباده ، عن عباده قبل أن يخلقهم.
وقال النحويون البصريون : كأنَّ القوم شاهدوا من الله رحمة فأعلموا أن ذلك ليس بحادثِ ، وأنَّ الله لم يزل كذلك.
وقال قوم " من النحويين : . . " كان "

(2/95)


و " فعَلَ " من اللَّه بمنزلة ما في الحال ، فالمعنى - والله أعلم - والله عفو غفور.
والذي قاله الحسن وغيره أدخل في اللغة ، وأشبه بكلام العرب.
وأما القول الثالث فمعناه يُؤول إِلى ما قاله الحسن وسيبويه ، إِلا أن يكون الماضي بمعنى الحال يقِل.
وصاحب هذا القول له من الحجة قولنا " غفر الله لفُلَانٍ "
بمعنى ليغفر اللَّه له فلما كان في الحال دليل على الاستقبال وقع الماضي
مَؤدياً عنها استخفافاً ، لأن اختلاف ألفاظ الأفعال إِنما وقع لاختلاف الأوقات ، فإِذا أُعْلِمت الأحوال والأوقات استُغني بلفظ بعض الأفعال عن لفظ بعض.
الدليل على ذلك قوله جلَّ وعزَّ :
(مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أمثَالِهَا)
وقوله : (وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإنَهُ يَتُوبُ إِلَى اللّهِ مَتَاباً)
معناه من يَتُبْ ومن يجئ بالحسنة يعط عشْر أمثالها.
* * *
وقوله : (وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100)
معنى مراغم معنى مهاجرُ ، المعنى يجد في الأرض مُهاجراً ، لأن
المهاجر لقومه والمراغم بمنزلة واحدة ، وإن اختلف اللفظان
وقال الشاعر :
إِلى بلد غير داني المحل . . . بعيد المراغَمِ وَالمُضْطَرَب
وقيل المراغَم ههنا المضطرب ، وليس المراغم ههنا إِلا المضطرب في
حال هجرة ، وإِن كان مشتقاً من الرغام ، والرغام التُراب وتأويل قولك رَاغَمْتُ

(2/96)


فلاناً أي هجرته وَعَاديته ، ولم أبالِ رَغْمَ أنفِهِ ، أي وإِن لصق أنفه بالتراب.
والرغام والرغائم ما يسيل من الأنف ، والأنف يوصف بالرغم فيضرب مثلاً لكل ذليل فيقال على رَغْم أنفه.
وقوله : (وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102)
(وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ)
هذه الهاءُ والميم يعودان على المؤْمنين . أي وإِذا كنت أيها النبي في
المؤمنين في غزواتهم وخوفهم.
(فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا).
أي فإذا سجدت الطائفة التي قامت معك.
(فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ).
جائز أن يكون - واللَّه أعلم - ولتأخذ الجماعة حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ.
ويجوز أن يكون الذين هم وُجَاه العَدُو يأْخذون أَسْلِحَتَهُمْ ، لأن من في
الصلاة غير مقاتل ، وجائز أن تكون الجماعة أمرت بحمل السلاح وإِن كان
بعضًها لا يقاتل لأنه أرهَب للعَدو وأحرى ألا يقدم علَى الحذِرين المتيقظين
المتاهبين للحربِ في كل حال.
وقد اختلف الناس في صلاة الخوف فزعم مالك بن أنس أن أحب ما
رُوي فيها إِليه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قام يصلي وقامت خلفه طائفة من المؤْمنين وطائفة
وُجَاهَ العَدو ، فصلى بالطائِفة التي خلفه ركعة وقام فأتمت الطائفة بركعة أخرى وسلَّمت ، وهو - صلى الله عليه وسلم - واقف ، ثم انصرفت وقامت وجاه العدو ، والنبى - صلى الله عليه وسلم - واقف

(2/97)


في الصلاة ، وأتت الطائفة التي كانت وُجاه العدو ، فَصَلَّى بِهِمْ ركعة ثانية له ، وهِي الأولى لهذه الطائفة الأخرى - وجلس النبي - صلى الله عليه وسلم - وقاموا فصلوا ركعة ثانية وحدهم وهو - صلى الله عليه وسلم - قاعد ، وقعدوا في الثانية فسلم وسلمُوا بتسليمه ، فصلت كل
طائفة منهم ركعتين ، وصَلَّى النبي - صلى الله عليه وسلم - ركعتين.
وقال مالك : هذا أحب ما روي في صلاة الخوف إِليَّ.
وأمَّا أَسلحة فجمع سلاح مثل حمار وأحمرة . وسلاح اسم لجملة ما
يدفع الناس به عن أنفسهم في الحروب مما يقاتل به خاصَّة ، لا يقال للدواب
وما أشبهها سلاح.
فأمَّا (وَلْيَأْخُذُوا) فالقراءَة على سكون اللام - . . (وَلْيَأْخُذُوا)
و (وَلِيَأْخُذُوا) هو الأصل بالكسر إِلا أن الكسر استثقل فيحْذفُ استخفافاً.
وحكى الفراء أن لام الأمر قد فتحها بعض العرب في قولك ليجلِس.
فقالوا لنجْلِسْ ففتحوا ، وهذا خطأ ، . لا يجوز فتح لام الأمر لئلا تشبه لام
التوكيد.
وقد حكى بعض البصريين فتح لام الجر نحو قولك : المال لِزَيْدٍ.
تقول : المال لَزَيدٍ وهذه الحكاية في الشذوذ كالأولى ، لأن الإِجماع والروايات
الصحيحة كسر لام الجر ولام الأمر ، ولا يلتفت إِلى الشذوذ ، خاصة إِذا لم
يروه النحويون القدَمَاءُ الذين هم أصل الرواية ، وجميع من ذكرنا من الذين
روَوا هذا الشاذ عندنا صادقون في الرواية ، إِلا أن الذي سمع منهم مخطئ.
وقوله : (وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ).

(2/98)


الجناح الِإثم ، وتأويله من جنحت إذا عدَلْتُ عن المكان أي أخَذْتُ جانباً
عن القَصْد ، فتأويل لا جناح عليكم أي لا تَعدلون عن الحق إن وضَعَتم
أسْلِحتكم.
(إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ).
و (أَذًى) مقصورة ، تقول أذى يأذى أذًى ، مثل فزِعَ يفزعُ فزَعاً.
وموضع (أن تضعوا) نصْبٌ . أي لا إثم عليكم في أن تضعوا ، فلما سقطت " في " عمل ما قبل (أنْ) فيها ، ويجوز أن يكون مَوْضعُها جرا بمعنى في.
* * *
وقوله : (فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103)
يعني به صلاة الخوف هذه.
(فَاذْكرُوا الله قِيَاماً وَقُعُوداً).
أي أذكروه بتوحيده وشكره وتسبيحه ، وكل ما يمكن أن يتقرب به منه.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ).
أي إِذا سكنت قلوبكم ، ويقال اطمأن الشيء إذا سكن وطَامنْتُه وطَمأنته
إذا سكنته ، وقد روي " اطبان " بالباء ولكن لا تقرأ بها لأن المصحف لا يخالف ألبتَّة.
وقوله : (فَأقِيمُوا الصَّلَاةَ).
أي فأتموا ، لأنهم جُعِلَ لهم في الخوف قصرها ، وأمروا في الأمن
بإتمامها.
وقوله : (إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا)
أي مفروضاً مؤَقتاً فرضه :

(2/99)


وقوله : (وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (104)
هذا خطاب للمؤمنين ، والقوم ههنا الكفار الذين هم حربُ المؤمنين.
وتأويل : (لَا تَهِنُوا) في اللغة لا تضعفوا ، يقال وَهَن الرجل يهِنُ إذَا ضعف
فهو وهِن . ومعنى (ابتغاءِ القوم) : طلب القوم بالحرب.
وقوله : (إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ).
أي إن تكونوا توجَعُون فإنهم يجدون من الوجع بما يَنَالهم من الجراح
والتَعَبَ كما تجدون ، وأنتم مع ذلك (تُرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لَا يرجُونَ).
أي أنتم ترجون النصر الذي وعدكم الله به ، وإظهار دينكم على سائر
أديانِ أهل الملل المخالفة لأهل الإسلام وترجُونَ مع ذلك الجنة ، وهم - أعني
المشركينَ - لايرجون الجنة لأنهم كانوا غير مقرين بالبعث فأنتم ترجون من الله ما لا يرجون.
قال بعض أهل التفسير : معنى " ترجون " ههنا تَخَافون ، وأجمَعَ أهل اللغة
الموثوق بعلمهم : أن الرجاءَ ههنا على معنى الأمل لا على تصريح الخوف.
وقال بعضهم : الرجاء لا يكون بمعنى الخوف إِلا مع الجحدِ.
قال الشاعر.
لا تُرْتَجى حِينَ تُلاقي الذَّائِدا . . . أَسَبْعةً لاقَتْ مَعاً أَمْ واحِداً
معناه لا تخاف.
وكذلك قوله عزَّ وجلَّ : (مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13).
أي لا تخافون للَّه عظمة ولا عظَةً.
وإِنما اشتمل الرجاء على معنى الخوف لأن الرجاءَ أمل قد يخاف ألَّا
يَتِمَّ .

(2/100)


وقوله جلَّ وعزَّ : (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105)
أي بالحق الذي أعْلَمَكَهُ اللَّه عزَّ وجلَّ.
وقوله : (وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا) :
أي لا تكن مخاصماً ولا دَافِعاً عن خَائِن.
ويروى أن رجلا من الأنصار كان يقال له أبو طُعْمة أو طِعْمة سرق درعاً
وجعله في غِرارَةِ دقيق ، وكان فيها خَرْقٌ ، فانتثر الدقيق من مكان سرقته إلى
منزله فظُنَّ به أنه سارق الدرع وحيص في أمره ، فمضى بالدرع إلى رجل
من إليهود فَأودعها إياه ثم صار إلى قومه فأعلمه أنه لما اتهم بالدَرع اتبع أثرها
فعلم أنها عند إليهودِي ، وأن إليهودي سارقها ، فجاءَ قومه أي طُعْمة أو طِعْمة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسألوه أن يَعْذِرَهُ عند الناس ، وأعلموه أن إليهودي صاحب الدرع ، وكان بعضهم قد علم أن أبَا طِعْمةَ قد رمَى إليهودي وهو بريءٌ من الدرع ، فهَمَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يَعْذِرَهُ ، فأوحى اللَّه إليه وعرفه قصته أي طعمة
وأعلمه أنه خائن ، ونهاه أن يحتج له ، وأمره بالاستغفار مما هم به ، وأن يحكم
بما أنزل اللَّه في كتابه ، فقال :
(وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107)
يعني أبا طعمة ومن عاونه من قومه ، وهم يعلمون أنه سارق.
ويروى أن أبا طعمة هذا هرب إلى مكة وارتد عن الِإسلام ، وأنه نقب حائطاً بمكة ليسرق أهله فسقط الحائط عليه فقتله.
* * *
وقوله : (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108)
(إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ)
كل ما فُكِّرَ فِيه أوخِيض فيه بليل فقد بُيِّتَ .

(2/101)


يعني به هذا السارق ، والذي بيَّتَ من القوم أن قال : أرمِي إليهودِي بأنه
سارق الدرع ، وأحلِفُ أني لم أسرقها ، فتقْبل يميني لأني على ديني ، ولا تقبل
يمين إليهودي . فهذا ما بُيِّتَ من القول واللَّه أعلم.
* * *
وقوله : (هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109)
يعني به من احتج عن هذا السارق.
(فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ).
أي في اليوم الذي يؤخذ فيه بالحقائق ، وأمر الدُّنيا يَقوم بالشهادات في
الحقوق.
وجائز أن تكون الشهادة غير حقيقة ، فكأنَّه - واللَّه أعلم - قيل لهم
إِن يقم الجدال في الدنيا والتغييب عن أمر هذا السارق ، فيوم القيامة لا ينفع
فيه جدال ولا شهادة.
ومعنى قوله " هَا أَنْتُمْ " ها للتنبيه ، وأعيدت في أولاءِ . والمعنى - واللَّه
اعلم - هَا أَنْتُمْ الذين جادلتم ، لأن " هؤلاءِ " و " هذا " يكونان في الِإشارة
للمخاطبين بمنزلة الذين ، نحو قول الشاعر :
وهذا تحملين طليق
أي والذي تحملينه طليق.
وأصل المجادلة والجدال في اللغة شدة المخاصمة ، والجدْل شدة
القَتْل ، ورَجُل مجدول ، أي كأنَّه قد قُتِلَ ، والأجدَل الصقر ، يقال له أجدَل لأنه من أشد الطيور قوةً . .
وأعلم اللّه - جلَّ وعزَّ - أن التوبة مبذولة في كل ذنب دُونَ الشرك فقال جلَّ ثناؤه .

(2/102)


(وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110)
أي يسأله المغفرة مع إِقلاع ، لأنه إذا كان مقيماً على الإصرار فليس
بتائب.
* * *
وقوله : (وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111)
ولا يؤخَذُ الإثم بالإثم.
وقوله : (وَمَنْ يَكْسِبِ خَطِيئَة أو إِثماً ثمً يَرمِ به بَرِيئاً).
قيل (إثماً) لأن اللَّه قد سَمَّى بعضَ المعاصي خطايا ، وسمى بَعْضَهَا آثاماً.
فأعلم الله جلَّ وعزَّ أن من كسب خطيئة ، ويقع عليها اسم الإثم أو اسم
الخطيئة ، ثم رَمَى به من لم يعلمه وهو منه بريء . .
(فقد احتَمَلَ بُهْتَاناً).
و " البهتان " الكذبُ الذي يُتحيرُ من عِظَمِه وبيانه ، يقال قد بَهَتَ فلان فلاناً
إذا كذب عليه ، وقد بُهِت الرجل يُبْهَتُ إذَا تحيَّر
قال اللَّه عزَّ وجلَّ (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ).
ويجوز أن يكون - والله أعلم - (ومن يكسب خطيئة أو إثْماً)
أي من يقع عليه خَطَأ نحو قَتْلِ الخطإِ الذي يقع فيه القومْ وَلَا إثم فيه.
فيكونُ أن يرمي بذلك غيره فقد احتمل بهتاناً.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)
هذا خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، والطائِفة هُم طُعمَةُ هذا السارق ، لأن بعضهم

(2/103)


قد كان وقف على أنه سارق ، وسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يَعذِرَهُ.
فالتأويل - واللَّه أعلم - لولا فضل اللَّه عليك ورحمتُه بما أوحَى إليك.
وأعلمك أمْرَ هذا السارق لهمَّت طائفة أن يضلوك ، والمعنى في همَّت طائفة
منهم أنْ يُضِلوكَ . أي ، فَبِفَضْلِ اللَّه ورحمته صرفَ اللَّه عنك أن تعمل ما
هَمَّت به الطائفة.
وقال بعضهم معنى " أنْ يُضِلوكَ " أن يُخَطِّئُوكَ في حُكْمِكَ.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ).
أي لأنهم هم يعملون عمل الضالين.
واللَّه يعصم نبيه - صلى الله عليه وسلم - من متابعتهم.
والِإضلال راجع عليهم وواقع بهم.
وقوله : (وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ).
أي مع عصمة اللَّه إياك ، ونصره دينه دين الحق.
وقوله : (وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ).
أي بين في كتابِه ما فيه الحكمة التي لا يقع لك مَعها ضَلَال.
* * *
وقوله : (لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114)
النجوي في الكلام ما تنفرِدُ به الجماعة أو الاثنان سِرا كان أو ظاهراً.
ومعنى نَجوْتُ الشيءَ في اللغة خَلَّصتُه وألقيتُه ، يقال نجوت الجلْدَ إذا
ألقيتُه عن البعير وغيره.
قال الشاعر :

(2/104)


فقلت انْجُوَا عنها نَجا الجِلْدِ إِنه سَيُرْضِيكما منها سَنامٌ وغارِبُهْ
وقد نجوت فلاناً إذا استنكَهْتُه.
قال الشاعر :
نَجَوْتُ مُجالِداً فوَجَدْتُ منه . . . كريح الكلب ماتَ حَديثَ عَهْدِ
ونجوت الوَبَرَ واستنجيته إذا خلصتَه.
قال الشاعر :
فَتَبازَتْ فَتَبازَخْتُ لهَا . . . جِلْسةَ الأعسرِ يَسْتَنْجِي الوَتَرْ
وأصله كله من النجوة ، وهُوَ ما ارتفع من الأرض
قال الشاعر :
فَمَنْ بِنَجْوَتِه كمَنْ بِعَقْوته . . . والمُستَكِنُّ كمَنْ يَمْشِي بقِرواحِ

(2/105)


ويقال : ما أنجى فلان شيئاً وما نجا شيئاً منذ أيام ، أيْ لَم يَدْخُل
الغائِط.
والمعنى واللَّه أعلم : لا خير في كثير من نجواهم ، أي مما يدبرونه
بينهم من الكلام.
(إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ).
فيجوز أن يكون موضع " مَنْ " خفضاً ، المعنى إلا في نجوى من صدقة
أو معروف أو إصلاح بين الناس ، ويجوز أن يكون - واللَّه أعلم - استثناءً ليس من الأول ويكون موضعها نصباً ، ويكون على معنى لكن من أمر بصدقة أو معروف ففي نجواه خير . وأعلم الله عزَّ وجلَّ أن ذلك إنما ينفع من ابتغى به ما عند اللَّه فقال :
(وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا).
ومعنى (ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ) طلب مرضاة اللَّه.
ونصب (ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ) لأنه مفعُول له.
المعنى ومن يَفْعَل ذلك لابتغاءِ مرضاة اللَّه ، وهو راجع إلى
تأويل المصدر ، كأنه قال : ومن يبتغ ابتغاءَ مرضاة اللَّه ، ثم عاد الأمر إلى ذكر طعمة هذا ومن أشبهه فقال :
(وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)
لأن طعمة هذا كان قد تبين لصه ما أوْحَى اللَّهُ إلى نبيه في أمرِه ، وأظهر
مِنْ سَرِقَتِه في الآية ما فيه بَلَاغ ، فعَادى النبي - صلى الله عليه وسلم - وصار إلى مكة ، وأقام مع المشركين .

(2/106)


ومعنى (نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى) نَدَعة ومَا اختار لنفسه في الدنيا لأن اللَّه جلَّ وعزَّ
وعد بالعذاب في الآخرة ، وأعلم تعالى أنه لا يغفر الشرك ، وذكر قبل هذه
الآية : (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110).
وأعلم بعدها أن الشرك لا يجوز أن يغفره ما أَقام المشرك عليه ، فإن
قال قائل فإنما قال : (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) فإن سُمِّيَ رجل كافراً ولم
يشرك مع اللَّه غيره فهو خارج عن قوله : (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) ؟
فالجواب في هذا أن كل كافر مشرك باللَّه لأن الكافر إِذا كفر بنبِي فقد زعم أن الآيات التي أتى بها ليست من عند اللَّه ، فيجعل ما لا يكون إلا للهِ لغير اللَّهِ فيصير مشركاً . فكل كافِرٍ مشرك.
فالمعنى أن الله لا يغفر كُفْرَ من كفَر بِه وبنَبيٍّ من أنبيائِه لأن كفره بنبيه
كفر به.
(وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا).
لأن جعلَه مع اللَّه غيرَه من أبعد الضلال والعَمَى ، وهذا أكثرُ ما جَرَى
ههنا من أجل الذين عَبَدوا الأصنَام.
والدليل على ذلك قوله عزَّ وجلَّ بعقب هذا :
(إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا)
فَأمَّا (نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ).
ففيها أوجه ، يجوز فيها نولهي - بإِثبات الياء ، ويجوز نُوَلهو بإِثبات الواو :
ويجوز " نولهِ " بكسر الهاءِ ، فأما " نولَهْ " - بإِسكان الهاءِ و " نَصْلِه جهنم " ، فلا يجوز إسكان الهاءِ لأن الهاءَ حقها أن يكون معها - ياءٌ ، وأما حذف الياءِ فضعيف فيها ، ولا يجوز حذف الياءِ ولا تُبَقى الكسرة التي تدل عليها .

(2/107)


وقوله : (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117)
إِنْ يدعُونَ تقرأ إلا أُنُثاً ، وإلا أُثُنَا - بتقديم الثاءِ ، وتأخيرها . فمن قال
أناث فهو جمع أنثى وإِناث ، ومن قال أُنُث فهو جمع إِنَاث ، لأن إِناثاً على
وزن مِثال ، وإنَاث وأُنث مِثْل مِثَال ومُثُل . ومن قال أُثُنا فإِنه جمع وثَن.
والأصل وُثُن ، إِلا أنَّ الواو إِذا انْضَمَّتَ يجوز إِبدالها همزة ، كقوله تعالى :
(وإِذَا الرُّسلُ أُقَتَتْ) الأصل وُقِّتَتْ ، ومثال وُثُن في الجمع مثل سُقُف.
وجائز - أن يكون اثْن مثل أسد وأسد ، وجائز أن يكون اثُن أصلها اثْن ، فاتبعت الضمَّةُ الضَمَّةَ.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا).
يعني به إبليس لأنهم إِذا أطاعوه فيما سَوَّلَ لهم فقد عَبدُوه ، وَيدعُونَ في
معنى يعبدُونَ ، لأنهم إِذَا دَعوْا اللَّهَ مخلصين فقد عبدوه.
وكذلك قوله : (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) أي اعبدُونِي.
والدليل على ذلك قوله عزَّ وجلَّ : (إِنَّ الَّذِينَ يستَكْبِرُونَ عنْ عِبادتِي).
ومعنى (مَرِيدًا) أي خارج عن الطاعة مُتَمَلِصٌ مِنْهَا ، ويُقَال " شجرة مَرْدَاءُ.
إِذا تناثر ورقُها ، ومن ذلك يسمى من لم تنبت له لحية أمردُ أي أملس موضعِ
اللحية ، وقد مرَدَ الرجل يمردُ مُروداً إِذا عتا وخرج عن الطاعة.
* * *
(وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118)
قيل في مفروض إِن معناه مؤقت ، وجاءَ في بعض التفسير من كل ألف
واحد للَّهِ وسائرهم لإبليس .

(2/108)


ومعنى مفروض - واللَّه أعلم - أي أفترضه على نفسي وأصل الفرض في
اللغة القطعُ ، والفُرْضَة الثلْمة تكون في النهر ، يقال سقاها بالفِرَاضِ
وبالفُرَضِ ، والفرْض الحز الذي يكون في المسواك يشد فيه الخيط ، والفَرْض
فِي القَوسِ الحز الذي يشدُّ فيه الوتر ، والفَريضَةُ في سائر ما افْتُرِضَ ما أمر
الله به العباد فجَعَلهُ أمراً حَتْماً عليهم قاطعاً ، وكذلك قوله :
(وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ) أي جعلتم لهُنَّ قطعة من المالِ وقد فرضت الرجُلَ جعلتُ له قطعة من مال الفيءِ.
فأما قول الشاعر :
إِذا أكلتُ سمكاً وفَرْضا . . . ذهبت طولًا وذهبت عرضا
فالفَرضُ ههنا التمر ، وإنما سُمي التمر فَرضاً لأنه يؤخذ في فِرَاضِ
الصدقة.
* * *
وقوله : (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119)
(وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ).
أي أجمع لهم مع الإضْلَال أن أوهِمهم أنهم ينالون من الآخرة حظاً.
كَمَا قال : (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَيطَانُ أعمَالَهمْ).
(وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ).
كانه - واللَّه أعلم - ولآمُرنَهم بِتَبْتِيكِ آذان الأنعام فليبتكُنَ ، أي
يشقِقُن ، يقال بتكْتُ الشيءَ أبْتِكه بَتْكاً إِذا قطعته ، وبِتْكَة وبِتَكُ ، مثل قطعة
وقطع ، وهذا في البَحِيرةِ ، كانت الجاهلية إِذا ولدت الناقة خمسة أبطن فكان
الخامس ذكَراً شقوا أذن الناقة وأمتنعوا من الانتفاع بها ولم تطرد عن ماءٍ

(2/109)


ولا مرْعًى ، وإِذا لقيها المعْي لم يركبها . فهذا تأويل (فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ).
سَوَّلَ لهم إِبليس أن في تركها لا ينتفع بها قربة إِلى الله.
(وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ).
قيل إِن معناه أن الله خلق الأنعام ليركبوها ويأكلوها فحرموها على
أَنفسَهِم ، وخلق الشمس والقمر والأرض والحجارة سخْرة للناس ينْتَفعون بها
فعبدهَا المشرِكون ، فغيروا خلق اللَّه ، أي دِينَ اللَّه ، لأن الله فطر الخلق على
الِإسلام ، خلقهم من بطن آدَمَ كالذر ، وأشهدَهُمْ أنه ربهم فآمنوا ، فمن كفر
فقد غير فِطْرَة الله التي فَطَرَ الناسَ عليها.
فأمَّا قوله : (لاَ تَبديلَ لِخَلق الله) ، فإنَّ معناهُ ما خلقه الله هو
الصحيح ، لا يقْدِر أحد أن يُبَدل معنى صحة الدين.
وقال بعضهم : (فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ) هو الخصاءُ لأن الذي يخصي الفحل قد غير خلق اللَّه.
ومعنى (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا).
أي ما يعبدون إِلا ما قد سموه باسم الِإناثِ ، يعني به المشركون ، سَمُّوا
الأصنام اللات والعزى ومناة ، وما أشبهه ، وقيل إِن مَعْنى قوله :
(إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا) أى مَوَاتا ، والموات كلها يخبر عنها كما يخبر عن المؤنث ، تقول من ذلك : هذه الأحجار تعجبني ، ولا تقول يعجبونني ، وكذلك الدراهم تنفعني.
وقوله : (أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (121)
(وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا).

(2/110)


أي لا يجدون عنها مَعْدِلًا ولا مَلْجأ.
يقال حِصْتُ عَن الرجُل أحِيصُ ، وروَوْا جِضْتُ عنه أجيضُ بالجيم
والضاد المعجمة ، بمعنى حِصْتُ ، ولا يجوز ذلك في القرآن ، وإِن كان
المعنى واحداً والخط غير مخالف ، لأن القرآن سنة لا تخالف فيه الرواية عن
النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه والسلف وقراءِ الأمصار بما يجوز في النحو واللُغَة ، وما فيه أفْصَحُ ممَّا يَجُوزُ . فالاتباع فيه أولى.
يقال حُصْتُ أحُوصُ حوْصاً وحياصاً ، إِذا خِطْتُ ، قال الأصمَعي : يقال
حُصْ عين صَقْرك أي خِطْ عينه ، والْحَوصُ في العَيْن ضيقُ مُؤَخرها.
والخَوصُ بالخاءِ - مُعْجمة - غُؤورُهَا.
* * *
وقوله : (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123)
اسم ليس مضمر ، المعنى ليس ثواب الله بأمانيكم ولا أمانِي أهل
الكتاب ، وقد جرى ما يدل على إِضمار الثواب ، وهو قوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا).
أي إِنما يدخل الجنة من آمن وَعَمَل صَالحاً . ليس كما يتمنى أهل
الكتاب ، لأنهم كانوا يزعمون أنهم أبناءُ الله وأحباؤه.
وقالوا : (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً) ، فأعلمَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ أن دخول الجنة وثواب الله على الحسنات والسيئات ليس بالأماني ولكنه بالأعمال.
ثم ذكر بعض ذلك فقال عزَّ وجلَّ :

(2/111)


(مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ).
أي لا ينفعه تمنيه.
(وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124)
فأعلم الله أن عامل السوءِ لا ينفعه تمنيه ، ولا يتولاه فتَوَل ولا ينصره
نَاصِرٌ.
وقد احتج قومٌ من أصحاب الوعيد بقوله :
(وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا).
فزعموا أن هذا يدل على أن من عَمِلَ السوءَ جُزِيَ به.
وقد أعلم اللَّه عزَّ وجلَّ أنَّه يَغْفِر ما دُونَ الشركِ لمن يشاء ، فعامِل السوءِ - ما لم يكن كافِراً - مرجو له العَفوُ والرحمة ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - شافِعٌ لأمته يشفع فيهم.
ومعنى : (وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا).
النقير النقطه في ظهر النواة ، وهي مَنْبتِ النخلة ، والمعنى : ولا يظلمون
مقدار ذلك.
* * *
(وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125)
وقوله : (وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا).
الخليل المحب الذي ليس في محبته خَلَل فجائز أن يكون إِبراهيم
سمى خليلَ الله بأنَّه الذِي أحبه الله واصطفاه محبةً تامَّةً كامِلةً.
وقيل أيضاً الخليل الفقير ، فجائز أن يكون فقير اللَّه ، أي الذي لم يَجْعَلْ فقره وفاقته إِلا إِلى الله مخلصاً في ذلك ، قال الله عزَّ وجلَّ : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ).
ومثل أن إِبراهيم الخليل الفقير إِلى اللَّه قول زهير يمدح هرم بن سنان

(2/112)


وإن أتاه خليل يوم مسغبةِ . . . يقولً لا غائب مالي ولا حَرمُ
وجاءَ في التفسير أن إبراهيم كان يضيفُ الضَيفان ويطعِم المساكينَ
الطعامَ ، وأصاب الناسَ جَدْبٌ فبعث إِلى خليل له كان بمصر يمْتارُ منه.
فقال ذلك الخليل لنفسه : لو كان إبراهيم إنما يريد المِيرَةَ لنفسه لوجهَت إِليه
بها ، ولكنه يريدها للناس فرجع غلمان إِبراهيم بغير ميرة ، فاجتازوا ببطحاءَ لَيِّنَةٍ فأخذوا من رَمْل كان فيها وجعلوه في أوعِيتهمْ استحياءً من الناس أن يرجِعوا بغير شيءٍ ، فلما رآهم عليه السلام ، سألهم عن الخبر فأعلموه ، فحملته عينه فنام مهموماً ، وانتبهت امرأته وقد بصرت بالأوعية مملوءَة ، فأمرت بأن يخرج منها ويخبز فأخرج منها طعام في غاية الحسْن فاختُبِزَ ، وانتبه إبراهيم وشئمَّ رائحة الطعام ، فقال : مِن أين هذا ؟
فقالت امراته من عد خليلك المصري.
فقال إبراهيم هذا من عند خليلي اللَّه عزَّ وجلَّ.
فهذا ما روي في التفسير وهو من آيات الأنبياءً عليهم السلام غير
منكر . والذي فسرنا من الاشتقاق لا يخالف هذا.
والخلة الصداقة ، والخلة الحاجة.
فأمَّا معنى الحاجةِ فإِنه الاختلال الذي يلحق الِإنسان فيما يحتاج إِليه.
وأمَّا الخلة الصداقة فمعناها إنَّه يسُد كل محب خَلَلَ صاحبه في المودة وفي
الحاجة إليه ، والخلل كل فرجة تقع في شيء ، والخِلَال الذي يتخلل به.
وإنما سمي خلالاً لأنه ، يتبع به الخلل بين الأسْنانِ.
وقول الشاعر :

(2/113)


ونظرن من خَلَلِ الستور بأعينٍ . . . مرضَى مخالِطها السِّقام صحاح
فإن معناه نظرن من الفرجُ التي تقع في الستور.
وقوله القائل : " لك خلَّةُ مِن خِلَال " تأويله أني أُخلَى لك من رأيي أو
مما عندي عن خلة من خِلَال.
وتأويل أَخلِّي إِنما هو أخلل ، وجائز أن يكون
أخلي منْ الخلوةِ ، والخلوةُ والخلل يرجعان إِلى معنى ، والخِل الطريق في
الرملِ معناه أنه انفرجتْ فِيه فرجة فصارت طريقاً.
والخَل الذي يؤكل إنما سمي خلًّا لأنه اختلَّ منه طعم الحلاوةِ.
* * *
وقوله : (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا (126)
أي إِن إبراهيم الذي اتخذه اللَّه خليلاً هو عبد اللَّه ، وهو له وكل ما في
السَّمَاوَات والأرض.
* * *
وقوله : (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا (127)
(وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ)
موضع " ما " رفع.
المعنى اللَّه يفتيكم فيهن ، وما يتلى عليكم في الكتاب.
أيضاً يفتيكم فِيهِن . ويجوز أن يكون " ما " في موضع جر ، وهو بعيد جدا ، لأن الظاهر لا يعطف على المضمر ، فلذلك اختير الرفع ، ولأن معنى الرفع أيضاً أبيَنُ ، لأن ما يتلى فِي الكتاب هو الذي بين ما سألوا.
فالمعنى : (قل الله يفتيكم فيهن) ، وكتابه يفتيكم فيهن.
وقوله : (وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ).

(2/114)


المعنى وترغبون عن أن تنكحوهنَّ.
وقوله : (والمسْتضْعَفِينَ مِنَ الولْدَانِ).
يعني اليتامى ، وموضع " المستضغفين " جر ، عطف على قوله : (وما يتلى
عليكم فِي الكِتابِ فِي يَتَامَى النَساءِ) المعنى وفي المستضعفين من الولدان
والذي يفتِيهم من القرآن قوله عزَّ وجلَّ : (وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ)
والذي تُلِيَ عليهم في التزويج هو قوله : (فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ).
فالمعنى قل الله يفتيكم فيهنَّ ، وهذه الأشْياءُ التي في الكتاب يُفْتيكُم
فيهن.
وقوله : (وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ)
" أن " في موضع جر : المعنى وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء
وفي أن تقوموا لليتامى بالقسط.
* * *
وقوله : (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128)
النشوز من بعْلِ المرأة أن يسيء عشرتها وأن يمنعها نفسه ونَفَقَتَه واللَّه
عز وجلَّ قال في النساءِ : (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) ، وقال : (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) ، وقال : (وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا). فَشدد

(2/115)


الله في العدل في أمر النساء فلَوْ لَمْ يعْلَم عزَّ وجلََّّ أن رضَا المرأةِ مِنْ زوجِهَا
بالإقامة على منعها - في كئير من الأوقاتِ - نفَسَه ومَنعِها بعض ما يَحْتَاج إليه لما جاز الإمساك إلا على غاية العدل والمعروف ، فجعل الله عزَّ وجلَّ الصلحَ جائزاً بين الرجلِ وامرأتِهِ إِذا رضِيت منه بإِيثار غيرها عليه.
فقال : " لا إثم عليهما في أن يتصالحا بينهما صلحاً.
والصلح خير من الفرقة ".
وقوله : (وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ).
وهو أن المرأة تشح على مكانها من زوجها ، والرجل يشح على المرة
بنفسه إن كان غيرها أحب إليه منها.
وقوله : (وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا).
أي إن تحسنوا إليهن ، وتحملوا عشرتهن.
(فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا).
أي يخْبُرُ ذلك فيجازيكم عليه.
فإِن قال قائل إنما قِيلَ : (وإِن امرأة خافت) ، ولم يُقَلْ وإِنْ نَشَزَ رجُلٌ على المرأة لأن الخائف للشيء ليس بمتيقنٍ له ؟
فالجواب في هذا إِنْ خَافَتْ الإقامةَ منهُ على النشُوزِ والإعراضِ ، وليس أن
تخاف الإقامة إِلا وقد بدا منه شيء ، فأما التفرقة بين (إن) الجزاء والفعل
الماضي فجيد . ولكن " إن " وقعت التفرقة بين " إِنْ " والفعلِ المستقبلِ فذلك
قبيح.
إن قلتَ : إن امرأة تخاف - فهو قبيح ، لأن " إِنْ " لا يفصل بينها وبين ما
يُجْزَمُ ، وذلك في الشعر جائز في (إنْ) وغيرها.
قال عدي بن زيد .

(2/116)


فمَتى واغِلٌ يَنُبْهُمْ يُحَيُّوهُ . . . وتُعْطَفْ عليه كأْسُ الساقي
فأما الماضي فـ "إِنْ " غير عَامِلةٍ في لفظه ، و " إنْ " أُمُّ حُرُوفِ الجَزْم.
فجاز أن تفرق بينها وبينَ الفِعْل ، وامراة ارتفعت بفعل مضمرٍ يدل عليه ما بعد الاسم ، المعنى إنْ خافَت امْرأة خَافَتْ فأمَّا غير " إِن " فالفصل يقبح فيه مع الماضي والمستقبل جميعاً ، لو قلت : " متى زيد جاءَني أكرمته ".
كان قبيحاً.
ولو قلت إن اللَّهُ أمكنني فعلتُ كان حسناً جميلاً.
* * *
وقوله : (مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134)
كان مشركو العرب لا يؤمنون بالبعث ، وكانوا مُقِرينْ بأن اللَّهَ خالقهم.
فكان تقربُهم إلى الله عزَّ وجلَّ إنما هو ليُعْطِيهُمْ من خير الدنيا ، ويَصرِفَ عنهم
شَرها ، فأعلم الله عزَّ وجلَّ أن خير الدنيا والآخرة عنده.
* * *
وقوله : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135)
القسط والِإقساطُ العدل ، يقال أقسط الرجل يُقسِط إقساطاً إِذا عدل وأتى
بالقسطِ ، ويقال قسط الرجل قُسُوطاً إِذا جَارَ.
قال الله جلَّ وعزَّ : (وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ).
أي اعدلوا إن الله يُحب العَادِلينَ.
وقال جلَّ وعزَّْ : (وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا).
أي الجائرون ، يقال قسط البعيرُ قسْطاً إِذَا يَبِسَتْ يدُه ، ويدٌ
قَسْطاءُ أي يابسة ، فكأن أقسط أقام الشيءَ على حقيقةِ التعديل ، وكأنَّ قَسَطَ بمعنى جارَ معناه يَبَّسَ الشيءَ ، وأفْسَدَ جِهتَهُ المستقيمةَ.
وقوله : (وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ)

(2/117)


المعنى قوموا بالعدل وأشهدوا للَّهِ بالحق ، وإن كان الحق على نفس
الشاهد أو على والديه وأقْر بِيه.
(إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا).
أي إِن يكن المشهود له فقيراً فاللَّه أولى به ، وكذلك إن يكن المشهود
عليه غنياً فاللَّه أولى به ، فالتأويل أقيموا الشهادةَ لِلهِ على أنْفسِكمْ وأقاربكم ، ولا تميلوا في الشهادة رحمةً للفقير ، ولا تَحِيفوا لاحتَفَالِ غِنَى عَنِيٍّ عِندَكم.
وقوله : (فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا).
أي لا تتبعوا الهوى فتعدلوا.
(وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا).
قرأ عاصِم وأبو عمرو بن العلاءَ وأهلُ المدينَة " تَلْووا " بواوين ، وقرأ يَحيى
ابنُ وثاب والأعمش وحمزة بواو واحدة " تَلوا " ، والأشبه على ما جاءَ في
التفسير ومَذْهَبِ أهل المدينة وأبي عمروٍ ، لأنه جاءَ في التفسير أن
" لَوَى الحاكِم في قضيتِه " أعرَضَ.
(فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا).
يقال لويت فلاناً حقه إِذا دَفَعته به ومطَلْته ، ويجوز أن يكون " وأن تَلُو "
أصله تَلْوُوا فأبدلوا من الواو المضمومة - همزة فصارت تلووا - بإسكان اللام - ثم طرِحَت الهمزَة وطرِحَتْ حَركتها على اللام فصار تفما
كما قيل في أدورٍ اذوَّرٍ ثم طرحت الهمزة فصَارَتْ آدر.
ويجوز أن يكونَ وإِنْ تَلُوا من الولاية ، وتُعْرِضُوا أي إِن قمتم بالأمر أو
أعرضتم عنه ، فإِنَ اللَّهَ كان بمَا تَعملون خَبيراً .

(2/118)


وقوله : (فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ).
قيل كالمحبوسة لا أيِّماً ولا ذات بَعل.
* * *
وقوله : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136)
قيل فيه قولان : - يا أيها الذين آمنوا أقيموا على الايمان باللَّهِ كما قال
عزَّ وجلَّ (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) ، أي وَعَدَ مَنْ أقام على الِإيمان من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - الذين ذكروا في هذه القصة مغفرة وأجراً عظيماً.
وقيل يُعْنَى بهذ! المنافقون الذين أظهروا التصديق وأسروا التكذيب.
فقيل : يا أيها الذين أظْهَرُوا الإيمان آمِنُوا باللَّه ورسوله أي أبطنوا مثل
ما أظهرتم.
والتأويل الأول أشبه واللَّه أعلم.
* * *
وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137)
قيل فيه غير قول : قال بعضهم يُعْنَى به إليهودُ لأنَّهم آمنوا بموسى ثم
كفروا بعزير ثم آمنوا بعزيرٍ ثم كفروا بعِيسَى ، ثم ازدَادُوا كفْرأ بكفرهم
بمحمد - صلى الله عليه وسلم -.
وقيل جائز أنْ يكون محاربٌ آمن ثم كَفَر ثم آمَن ثم كَفَر.
وقيل جائز أن يكون منافِقٌ أظهر الِإيمان وأبطن الكفرَ ثم آمن بعد ثم كفر
وازداد كفراً بإقامته على الكفر .

(2/119)


فإن قال قائل : اللَّه جلَّ وعزَّ لا يغفر كُفْر مرةٍ واحدةٍ فلم قيل ههنا فيمن
آمن ثُمَّ كفر ثُمَّ آمن ثُمَّ كفر : (لم يكن اللَّه ليغفر لهم) وما الفائدة في هذا ؟
فالجواب في هذا - واللَّه أعلم - أن اللَّه عزَّ وجلَّ يغفر للكافر إِذا آمن بعد
كفره ، فإن كفر بعد إيمانه لم يغفر اللَّه له الكفر الأول ، لأن اللَّه جلَّ وعزَّْ يقبل التوبة ، فإِذا كفر بعد إيمان قبله كفْر فهو مطالب بجميع كفره.
ولا يجوز أن يكون إذا آمن بعد ذلك لا يغفر له ، لأن اللَّه جل ثناؤُه يغفر لكل مؤمن بعد كفره.
والدليل على ذلك قوله جلَّ وعزَّ : (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ).
وهذا في القرآن كثير ، وهو شبيه بالِإجماع أيضاً.
ومعنى : (وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا)
أي لا يجعلهم بكفرهم مهتدين بل يضلهم ، لأنه جلَّ وعزَّ يضل
الفاسقين.
* * *
وقوله - جلَّ وعزَّ : (بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138)
معنى (أليم) موجع.
قال " بشر " أي اجعل في مكان بشارتهم " لَهُمْ العَذَابُ "
العرب تقول تَحيتكَ الضرْبُ ، وعتابك السيف أي لك - بدلًأ من
التحية . . . هذا.
قال الشاعر :
وخيل قد دَلَفْتُ لها بِخيل . . . تحية بينِهم ضربٌ وجيع
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ (الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139)
(أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ)
أي أيبْتَغِي المنافقون عند الكافرين العزة.
والعزة المَنْعَة وشدة الغَلَبَةَ وهو مأخوذ من قولهم أرضٌ عَزاز .

(2/120)


قال الأصْمَعى : العَزَاز : النفَلُ مِنَ الأرضِ والصُّلب الحجارة ، الذي يسرع منه جريُ الماءِ والسيل هذا لفظ الأصْمعي.
فتأويل العزة الغَلَبَةُ والشَدة التي لا يتعلق بها إِذلال.
قالت الخنساءَ :
كأن لم يكونوا حمىً يُتَقَى . . . إِذ الناسُ إِذ ذاك من عزٍّ بزَّا
أي من قوى وغلب سلب.
ويقال : قد استعِز على المريض إذا اشتد وجَعَه ، وكذلك قول الناس :
يَعِزُّ علي أن تَفْعل ، أي يشتد ، فأما قولهم قد عَزَّ الشيء إِذا لم يوجد فتأويله قد اشتد وجوده أي صعب أن يُوجَدَ ، والمآب ، واحدٌ.
وقوله : (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140)
أعلَمَ الله عزَّ وجلَّ المؤْمنين أن المنافقين يَهْزأونَ بكتاب اللَّه ، فأمروا ألا
يقعدوا مَعَهمْ حَتَّى يخوضوا في حديث غيره أي في حديت غير القرآن.
وقوله : (إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ).
أي إِنكم إِذا جالستموهم على الخوض في كتاب اللَّه بالهزؤ فأنتم
مِثْلُهُمْ .

(2/121)


وقوله : (الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141)
(أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)
هذا يقوله المنافقون إِذا كان للكافرين نصيبٌ قالوا : ألم نستحوِذ
عليكم ، أي ألم نغلب عليكم بالموالاة لكم ، ونمنعكم من المؤْمنين بما كنا
نعلمكم مِن أخْبَارِهم.
ونَسْتَحوِذ في اللغة : نستولي على الشيءِ ، يقال حاذ الحمار آتنَه إِذا
استولى عليها وجَمعَها ، وكذلك حازها.
قال الشَاعر.
يحُوذهنَ وله حُوذِيُّ
ورَووه أيضاً :
يحوزهن وله حُوزيُّ
قال النحويون : اسْتَحْوَذَ خرج على أصْله ، فمن قال حَاذَ يحوذُ لم يقل إِلا
استحاذ يستحيذ ، ومن قال أحوَذَ فهو كما قال بعضهم أجْودتَ وأطيَبْت بمعنى أجدْتَ وأطبْتَ ، فأخرجه على الأصْل قال : اسْتَحْوَذَ.
وقوله : (وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا).
أي إِن اللَّه ناصِرُ المؤمنين بالحجة والغلبة ، فلن يجعل للكافرين أبداً
على المؤْمنين سَبِيلًا.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142)
أي يخادعون النبي - صلى الله عليه وسلم - بإظهارهم له الِإيمان وإِبطانِهم الكفْرِ ، فجعل

(2/122)


الله عزَّ وجلَّ مخادعة النبي - صلى الله عليه وسلم - مخادعة له.
كما قال عزَّ وجلَّ : (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ).
ومعنى قوله : (وهو خَادِعُهُمْ).
فيه غير قول : قال بَعْضهُمْ : مُخادعةُ اللَّه إياهم جزاؤُهم على المخادعة
بالعذاب ، وكذلك قوله : (ويمكُرونَ ويمْكُرُ اللَّهُ).
وقيل وهو خادِعُهُم بأمره عزَّ وجلَّ بالقبول منهم ما أظهروا ، فاللَّه خادعهُمْ بذلك.
* * *
وقوله : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (144)
أي لا تجعلوهم بِطَانتَكُمْ وخَاصَّتَكُمْ.
(أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا).
أي حجة ظاهرة ، والسلطان في اللغة الحجة ، وإِنما قيل للخليفة والأمير
سلطان لأن معناه أنه ذو الحجة.
والعربُ تُؤَنَث السلطان وتذكره ، فتقول :
قَضَتْ عليك بهذا السلْطَان ، وأمَرَتْكَ به السلطانُ.
وزعم قوم من الرواة أن التأنيث فيه أكثر ، ولم يُخْتلَفْ في التذكير.
وأحسب الذين (رَووْا) لم يَضْبطُوا مَعْنَى الكثرة من القلة.
والتذكير (فيه) أكثر ، فأمَّا القرآن فلم يأت فيه ذكر السلطان إلا
مذكراً ، قال الله عزَّ وجلَّ : (لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ)

(2/123)


وقال : هَلَكَ عَني سُلْطَانِيَهْ) ، وقال : (سُلْطَاناً مُبِيناً).
فجميع ما في القرآن من ذكر السلطان مذكر ، ولو كان التأنيث أكثر لكان في كتاب الله جلَّ وعزَّ.
فإن قال قائل إنما رَووْا أن السلطان بين الناس هو المونث قيل إِنما
السلطان معناه ذو السلطان . والسلطان الحجة . والاحتجاج والحجة معناهما
واحد . فأما التأنيث فصحيح ، إِلا أنه أقل من التذكير ، فمن قال : قضت به
عليك السلطان أراد قضت عليكَ به الحجة ، وقضت عليك حجة الوالي ، ومن قال قضى به عليك السلطانُ ذهب إلى معنى صاحبُ السلطانِ.
وجائز أن يكون ذهب به إِلى البرهَانِ والاحتجاجِ ، أي قضى به عليك البرهان.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145)
قال أبو عبيدة معمر بن المثَنى : جهنم أدْرَاك ، أَي مَنازِل ، فكل منزلة
منها دَرَك.
والقراءَة : الدرَك بفتح الراءَ . والدَّرْكُ بتسكين الراءَ ، فأما أهل المدينة
وأهل البصرة فيقرأونها . .
(الدرَك) بفتح الراءَ وأما أهل الكوفة والأعمش
وحمزة ويحيى بن وثاب ، فيقرأون (الدرْك).
وقد اختلف فيها عن عاصم ، فرواها بعضهم عنه الدرَك ورواها بعضهم الدرْك - بالحركة والسكون جمِيعاً - واللغتان
حكاهما جميعاً أهل اللغة ، إلا أن الاختيار فتح الراءَ ، لِإجماع المَدَنيين
والبصرِيين عليها وأن أحداً من المحدثين ما رواها إِلا الدرَك بفتح الراءَ.
فلذلك اخترنا الدرَك.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَنْ تَجِدَ لَهمْ نَصِيرًا).
أي لا يمنعهم مانع من عذاب الله عزَّ وجلَّ ولا يشْفَعُ لهم شافع .

(2/124)


وقوله عزَّ وجلَّ َ : (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146)
(وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا)
الخط حذفت منه الياءُ في هذا الموضع ، وزعم النحويون أن الياء
حذفت من الخط كما حذفت في اللفظ ، لأن الياء سقطت من اللفظ لسكونها
وسكون اللام في " اللَّه " وكذلك قوله : (يَومَ يُنَادِ المُنَادِ) الياء من يناد
حذفت في الخط لهذه العلة ، وكذلك (سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ)
و (يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ) فالواوات حذفت ههنا لالتقاءِ السَّاكنين ، فأما قول الله عزَّ وجلَّ : - (ذلك مَا كُنَّا نَبغِ) ، فهو كقوله (يُنَادِ المُنَا).
و (يدع الداع) ، فهذه الياءاتُ من نحو (نَبْغِ) حذفت لأن الكسرة دلت على الياء فحذفت الياء لثقلها ، وليس الوجه عند النحويين حَذْفها.
فأمَّا المنادي والداعي فحذفت الياء منها كما حذفت قبل
دخُول الألف واللام ، لأنك تقول : هذا داع وهذا منادٍ.
فأما (وَالليل إِذَا يسرِ) . فحذفت الياء لأنها رَأسُ آية ، ورُؤُوس الآي الحذف جائز فيها كما يجوز في آخر الأبيات.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148)
وإلَّا مَنْ ظَلَم ، يقرأ بهما جميعاً.
فالمعنى أن المظلوم جائز أن يظهر بظُلَامَته تَشكياً ، والظالم يجهر بالسوءِ
من القول ظلماً واعتداءً ، وموضع " مَنْ " نصبٌ بالوجهين جميعاً ، لأنه استثناء ليس من الأول

(2/125)


المعنى : لا يحب الله الجهر بالسوءِ من القول لكن المظلوم يظهر
بظلامته تشكياً ، ولكن الظالم يجهر بذلك ظلماً.
ويجوز أن يكون موضع " مَنْ " رفعاً على معنى لا يحب اللَّه أن يجهر بالسوءِ من القول إِلَّا من ظلم فيكون
" من " بَدلًا من معنى أحدٍ ، المعنى : لا يحب الله أن يجهر أحد بالسوءِ من
القول إلا المظلوم.
وفيها وجه آخر لا أعلم النحويين ذكروه ، وهو أن يكونَ " إِلا مُنْ ظَلَمَ "
على معنى لكن الظالم اجهروا له بالسوء من القول ، وهذا بَعْدُ استثناء ليس من الأول . وهو وجه حَسَنٌ ، وموضعه نَصْبٌ.
وقد روي أن هذا ورد في الضيف إِذا أُسِيءَ إِليه ، فله أن يشكو لك.
وحقيقته ما قلناه . واللَّه أعلم.
* * *
وقوله : (يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (153)
وهذا حين قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - : (وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ).
أي فقد سألوا موسى بعد أن جاءَهم بالآيات ، فقالوا : (أرنَا الله جَهْرَةً).
وقال أهل اللغة في (جَهْرَةً) قولين : قال أبو عبيدة : قالوا جهرةً أرنَا
اللَّه ، لأنهم إِذا رأوا الله فالسر جهرة ، فإِنما جَهْرةٌ صفة لقولهم.
وقال بعضهم (أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً) ، إِنما معناه أرنا رؤْيةً بينةً منكشفةً ظاهرة لأن
من علِم الله عزَّ وجلَّ فقد زَادَ عِلْماً ، ولكن سألوه رؤْية يُدْرِكونها بأبصَارِهم .

(2/126)


ودليل هذا القول قوله عزْ وجلَّ : (وَإذْ قُلْتُم يا مُوسى لَنْ نُومِنَ لَكَ حَتى
نَرَى الله جَهرةً). وهذا عندي هو القول البين إنْ شَاءَ اللَّه.
* * *
وقوله : (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155)
(فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ)
" ما " لغْوُ في اللفظ ، المعنى فبنقضهم ميثاقهم حقًّا ، فكما أن حقًّا لتوكيد
الأمر فكذلك " ما " دخلت للتوكيد.
وتأْويل نَقْضِهم مِيثَاقَهم أن اللَّه عزَّ وجلَّ أخذ عليهم الميثاق في أن يُبَينُوا
ما أنْزل عليهم من ذكْر النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيره.
قال اللَّه عزَّ وجل : (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ).
والجالب للباءَ والعامل فيها قوله عزَّ وجلَّ : (حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ).
المعنى بنقضهم ميثاقهم ، والأشياء التي ذكرت بعدَه.
وقوله " فبظلم " بدل من قوله : فبما نقضِهم.
وقوله : (قُلُوبُنَا غُلْفٌ) أي أوعية للعلم.
(بَلْ طَبعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكفْرِهِمْ).
وإِن شئت أدغمت اللام في الطاء ، وكذلك : (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا)
يُدْغَمُ فتقول : بَـ طبَعَ ، وبـ تُؤثُرنَ ، جعل اللَّه مجَازاتهمْ على كفرهم أن
طبع على قلوبهِم.
وقوله : (وَقوْلهم علَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظيماً).

(2/127)


البهتان الكذب الذي يُحيِّر من شِذتِه وعِظَمِه ، وذلك أنَّ إليهود - لعنها
اللَّه - رمت مريم ، وهي صفوة الله على نساءِ العالمين ، بأمْرٍ عظِيمٍ.
وقوله : (وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157)
(إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ).
أي باعترافهم بقتلهم إياه.
(وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ).
فإنما عُذِّبوا أو يُعَذبون عذابَ من قتل ، أو كان شُبِّهَ لَهم لأنهم قد أتوا
الأمر على أنَّه قتل نبي . وجاءَ في التفسير أن عيسى لما أراد اللَّه جل ثناؤه
رفعه إِليه وتطهيره منهم ، قال لأصحابه ؛ أيكُم يرْضَى أن يُلْقَى عليه شبهي
فَيُقْتلَ ويُصلَب ويدخل الجنة ، فقال رجل منهم أنا فألقى عليه شبهه فقتل.
ورفع الله عيسى إِليه ، وهذا كله غير ممتنع ، لأنا لا نشك في أنه شُبِّه لَهُمْ.
وقوله : (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ).
أي الذين اختلفوا في قتله شاكون ، لأن بعضهم زعم أنَّه إِله ، وما قُتِلَ.
وبَعضهم ذكر إنَّه قُتِلَ ، وهم في ذلك شَاكُون.
(مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ).
(اتِّبَاعَ) منصوب بالاستثناء ، وهو استثناء ليس من الأول.
المعنى ما لهم به من علم لكنهم يتبعون الظن.
وإِن رُفعَ جاز على أن يُجْعَلَ عليهم اتباعُ الظن.
كما تقول العرب : تحيتك الضربُ وعتابُكَ السيفُ.
قال الشاعر :
وخيل قد دَلَفْتُ لها بخيلٍ . . . تحية بينهم ضربٌ وجيعُ
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا).

(2/128)


قال بعضهم : الهاء للعلم . المعنى وما قتلوا علمهم يقيناً ، كما تقول :
أنا أقتل الشيءَ علماً ، تأويله إني أعلمه علماً تامًّا.
وقال بعضهم : (وما قتلوه) الهاء لعيسى كما قال : وما قتلوه وما صلبوه.
وكلا القولين جائز.
* * *
وقوله : (بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158)
إدغام اللام في الراء هو الكلام وعليه القراءَة ، لأن اللام قريبة من
مخرج الراء ، والراء متمكنة ، وفيها كالتكرير ، فلذلك اختير الإدغام فيها ، وإنْ لَمْ تُدْغم لأنه مِنْ كلمتين جاز.
* * *
وقوله : (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159)
المعنى : ومَا مهم من أحد إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ ، وكذلك قوله : (وَإنْ مِنكُمْ
إلا وَارِدُهَا).
المعنى ما منكم أحد إلا واردها ، وكذلك (وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ)
المعنى وما منا أحد إلا له مَقَام مَعْلوم.
ومثله قول الشاعر :
لو قلت ما في قومها لَمْ تِيثَم . . . يفضلها في حَسَب وميسمِ
المعنى ما في قومها أحد يَفضلها.
فالمعنى (لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) ، فالهَاء في " موته " راجعة على

(2/129)


كافرٍ في بعض الأقاويل ، وقد قيل : ما من أحد إلا لَيُؤْمِنَنَّ بعيسى ممن كفر به
قبل مَوْته ، لأن الميت قبل موته يعاين عمله فيعلم صالحه من طالحه ، وكل
كافر إِذا عَاينَ آمَنَ بكل نبي كَفرَ به قبل مَوْته.
وقالوا في الهاء في قوله : (لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ) أي بعيسى.
وقال بعضهم بمحمد - صلى الله عليه وسلم -.
والقولان واحد ، لأن من كفر بنبي عَاينَ قبل موته أنه كان على
ضلال ، وآمن حيث لا ينفعه الِإيمانُ.
وقال بعضهم : (إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ) أي سيؤْمن بعيسى إِذا نزل لقتل المسيح
الدجَّال ، وهذا بعيدُ في اللغَةٍ ، لأنه قال : (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ).
والذين يبقون إِلى ذلك الوقت إنما هم شرذمة منهم ، ولكنه يحتمل أنهم كلهم
يقولون إن عيسى الذي ينزل لقتل الدجال . نحن نؤمن ، فيجوز على هذا.
واللَّه أعلم بحقيقته.
* * *
وقوله : (لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (162)
يُعْنَى بالراسخين الثابتون في العلم من أهل الكتاب أنهم لِعِلْمِهمْ
آمنوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وسائر الأنبياء عليهم السلام.
(والمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ).
نسق عَلى " ما " المعنى يُؤمنون بما أنزل إِليك وبالمقيمين الصلاة أي
ويُؤمنون بالنبيين المقيمين الصلاة.
وقال بعضهم " المقيمين " عطف على الهاء والميم ، المعنى : لكن

(2/130)


الراسخون في العلم منهم ومن المقيمين الصلاة يُؤمنون بما أنزل إليْك ، وهذا
عند النحويين رَدِيء ، أعني العطف على الهاء والميم لأنه لا يعطف بالظاهر
المجرور على المضمر المجرور إِلا في شعْرٍ ، وذهب بعضهم أن هذا وهْمٌ من
الكاتب.
وقال بعضهم : في كتاب اللَّه أشياء ستصلحها العرب بألسنتها ، وهذا
القول عند أهل اللغة بعيد جداً ، لأن الذين جمعوا القرآن أصحاب رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - وهم أهل اللغة وهم القدوة وهم قريبو العهد بالِإسلام فكيف يتركون في كتاب اللَّه شيئاً يصلحه غيرهم ، وهم الذين أخذوه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
وجمعوه ، وهذا ساقط عَمَّنْ لا يَعْلَم بَعْدَهُمْ وساقط عمن يعْلَمُ ، لأنهم يُقْتَدى
بهمْ فهذا مما لا ينبغي أن يُنسب إِليهم رحمةُ الله عليهم.
والقرآن محكَم لا لحن فيه ، ولا تَتكلم العرب بأجود منه في الِإعراب ، كما قال عزَّ وجلَّ (تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) ، وقال : (بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ).
ولسيبويه والخليل وجميع النحويين في هذا باب يسمونه باب المدحِ قد
بَينوا فيه صحةَ هذا وجَوْدتهَ.
وقال النحويون : إِذا قلتَ مَرَرْت بزيدِ الكريم.
وأنتَ تريد أن تخلص زيداً من غيره فالجر هو الكلام حتى يُعْرَفَ زيد الكريمُ
من زيد غير الكريمِ ، وإذا أردت المدح والثناءَ فإن شئت نصبت فقلت مررت
بزيد الكريمَ كأنك قُلتَ أذكُر الكريمَ ، وإن شئت قلت بزيد الكريمُ على
تقدير هو الكريم ، وجاءني قومكَ المطعمينَ في المحل ، والمغيثون في
الشدائد ، على معنى أذكر المطعمينَ ، وهم المُغيثُون في الشدَائد ، وعلى هذا
الآية ، لأنه لما قال : (يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) عُلمَ أَنَّهُمْ

(2/131)


يُقِيمون الصًلاَة ويؤتُون الزكاةَ . فقال : (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ) ، على معنى ، أذكُر المُقِيمينَ الصلاةَ ، وهم المْؤتوْنَ الزكاة ، وأنشدوا بيت
الخزنق بنت بدر بن هفان :
لا يَبْعَدَنْ قَوْمي الَّذين هُمُو . . . سُمُّ العُداة وآفَة ُ الجُزرِ
النازلين بكل معترك . . . والطيبون معاقد الأزُر
على معنى اذكر النازلين ، رفعه ونصبه على المدح . وبعضهم يرفع
النازلين وينصب الطيبين ، وكله واحد جائز حسن . فعلى هذه الآية.
فأما من قال إنه وهم فقد بيَّنَّا ما فيه كفاية . والذي ذكرناه من الاحتجاج
في ذلك مذهب أصحابنا البصريين.
* * *
وقوله : (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163)
هذا جواب لهم حين سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ينزل عليهم كتاباً من السماءِ ، وقد جرى ذكر ذلك قبل هذه الآية.
وهو قوله : (يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ)
فأَعلم اللَّه نبيه أن شأنه في الوحي كشأْن الأنبياءِ الذين سلفوا
قبله ، وهذا احتجاج عليهم ، فقال : (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ) وسائر الأنبياءُ الذين ذكروا في هذه الآية.
وقوله : (وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا).
القراءَة فيه بفتح الزاي وضمها ، وأكثر القراء على فتح الزاي.
وقد قرأت جماعة زُبُوراً بضم الزاي ، منهم الأعمش وحمزة ، فمن قرأ زَبُوراً ، بفتح الزاي فمعناه كتاباً ، وهذا الوجه عند أهل اللغة ، لأن الآثار كذا جاءَت زَبُور دَاوُدَ ، كما جاءَ تَوْراةُ موسَى وإِنْجِيل عِيسى .

(2/132)


ومن قرأ زُبوراً بضم الزاي فمعناه وآتيناه كُتُباً ، جمع زَبْر وزُبُور ويقال
زبرت الكتاب أزْبرُه زَبْراً إذا كتبتَ ، وزَبَرتُ أزْبُر زَبْراً ، وأزْبِرُ إِذا قرأت.
والزَبْرُ في اللغة إِحكام العمل قي البئر خاصة ، تقول : بئر مزبورة إذا
كانت مطوية بالحجارة ، والزبر إِحكام الكتاب.
وقول الشاعر :
هَوْ جَاءُ لَيْسَ لِلُبها زَبْرُ
يصف ريحاً ، جعل هذا مثلاً لَهَا ، كأنه قال ليس لشأنها قوة في
الاستواءِ.
وقوله جلَّ وعزَّ : (آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ) واحدها زُبْرَة ، وهي قطع
الحديد.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164)
" رسلًا " منصوب من جهتين ، أجودهما أن يكون منصوباً بفعل مضمَرِ.
الذي ظهر يفسِرهُ ، المعنى وقد قصصنا رسلاً عليك قد قصَصْناهم ، كما تقول رأيت زيداً وعمراً أكرمته ، المعنى وأكرمت عمراً أكرمته.
وجائز أن يحمل (وَرُسُلًا) على معنى (إِنَا أوحينا إِليك) ، لأن معناه إِنا أرسلنا إِليك : موحين إليك ، وأرسلنا رُسُلًا قد قصصناهم عليك.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا).
أخْبَرَ الله عزْ وجل بتخصيص نَبِي مِمن ذكر ، فأعلم عزَّ وجلَّ أن موسى
كُلِمَّ بغير وَحي ، وأكد ذلك بقوله تكليماً ، فهو كلام كما يعقلُ الكلام لا شك في ذلك .

(2/133)


وقوله - جلَّ وعزَّ -: (لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (166)
القراءَة الرفع مع تخفيف " لكن " ، والنصب جائز " لَكِنَّ الله يَشهَدُ ، إِلا أنه
لا يقرأ بما يجوز في العربية إلا أن يَثْبُتَ به رواية عن الصحابة وقراء الأمصار.
ومعنى (لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ) يبين ، لأن الشاهِدَ هو المبين لما
يشهَدُ به . فاللَّه جلَّ وعزَّ يبينه ويعلم مع إبانتهِ أنه حق.
(وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا)
معناه : وكفى الله شهيداً ، والباءُ دخلت مَؤكدة ، المعنى اكتفوا باللَّه في
شهادته ، ومعنى (أنْزَلَهُ بعِلْمِه) أي أنزل القرآن الذي فيه علْمُه.
وقوله : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (170)
(فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ).
اختلف أهل العربية في تفسير نصب " خير " ، فقال الكسائي : انتصب
لخروجه من الكلام ، قال : وهذا تقوله العرب في الكلام التام نحو قولك
لتقومَنَّ خيراً لك ، فإِذا كان الكلام ناقصاً رفعوا فقالوا : إِن تنته خير لك . وقال الفَراءُ : انتصب هذا وقوله (خَيْرًا لَكُمْ) لأنه متصل بالأمر وهو من صفته ، ألا ترى أنك تقول انته هو خير لك فلما سقطت هو اتصل بما قبله ، وهو معرفة فانتصب ، ولم يقل هُو ولَا الكسائِي من أي المنصوبات هو ، ولا شرحوه بأكثر من هذا.
وقال الخليل وجميع البصريين : إِنَّ هذا محمول على معنا ، لأنك إِذا
قلت : انْتَه خيْراً فأنت تدفعه عن أمر وتدخِله في غيره ، كأنك قلت انْتَهِ وائتِ خيرٌ لك وادخُلْ فيما هوخير لك.
وأنشد الخليل وسيبويه قول عمر بن أبي ربيعة :

(2/134)


فَواعِديهِ سَرْحَتَيْ مالِكٍ . . . أَو الرُّبى بينهما أَسْهَلا
كأنه قال إِيتي مكاناً أسْهلا.
* * *
وقوله : عزَّ وجلَّ : (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171)
(سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ).
معنى سبحانه تبرئته من أن يكون له ولد ، وهذا قول أهل العربية.
وجاءَ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن معنى " سبحان الله " تبرئة الله من السوءِ ، وتفسير أهل العربية
موافق لما جاءَ عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا)
الرفع لا غير ، ورفعه بإضمار لا تقولوا آلِهتنَا ثَلَاثَةٌ.
(إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ)
أي ما هو إلا إِلَهٌ وَاحِدٌ.
وقوله : (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ)
أي ، فكيف يكون إِلهاً وهو ابن مريم ، وكيف يكون إِلهاً وأمه قبله
واللَّه عزَّ وجلَّ القديم الذي لم يَزل.
(لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ).
الغلو مجاوز القدرِ في الظلم.
* * *
وقوله : (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172)
أي ليس يستنكف الذي تزعمون أنه إِله أن يكون عبداً للَّهِ.
(ولا الْملائِكَةُ الْمُقَربُونَ)

(2/135)


والملائكة - واللَّه أعلم - أكرم من النبيين ، ألا ترى أن نُوحاً عليه السلام
قال : (وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ) ، فقال عزَّ وجلَّ : (لن يستنكف المسيح) من العبودةِ للَّهِ.
ومعنى يستنكف أي لن يأْنف ، وأصله في اللغة من نَكَفْتُ الدَّمْعَ إِذا
نحيته بإِصبعك من خدك.
قال الشاعر :
فبانوا فلولا ما تذكر منهم . . . من الخُلفِ لم يُنْكَفْ لعَينيكَ مَدمعُ
فتأويل لَنْ يستنكف لن ينقبض ، ولن يمتنع من عبودَةِ اللَّه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174)
(وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا).
يُعنَى به - واللَّه أعلم - القرآن ، لأن النور هو الذي يُبَينُ الأشياءَ حتى
تُرَى . وَمثَّلَ اللَّه عزَّ وجلَّ ما يَعْلم بالقلب عِلْماً واضِحاً لما يرى بالعَيْن رُؤْيَة
منكشفة بَينَة.
والكلَالَةَ قد بَيَّناها أول السورة.
وقوله : (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)
(إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ).
جاز مع " إن " تقديم الاسم قبل الفعل ، لأن " إِنْ " لا تعمل في الماضي.
ولأنها أُمُّ الجزاءِ . والنحويون يذهبون إِلى أن مَعَها فعلاً مضمراً ، الذي ظهر
يفسره ، والمعنى إِن هلك امرؤ هلك.
وقوله : (يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا).
قيل فيها قولان ، قال بعضُهم : المعنى يبين اللَّه لكم أن لَا تضلوا

(2/136)


فأضمرت لا ، . وقال البصريون إِن " لا " لا تضمر ، وإِن المعنى : يبيِّن الله لكم كراهة أن تضلوا ، ولكن حذفت " كراهة " ، لأن في الكلام دليلاً عليها ، وإِنما جاز الحذف عندهم على أحد ، قوله : (وَاسْألِ القَرْيةَ) والمعنى واسأل أهل القرية ، فحذف الأول جائز ، ويبقى المضاف يدل على المحذوف ، قالوا فأما حذف " لا " وهي حرف جاءَ لمعنى النفي فلا يجوز ، ولكن " لا " تدخل في الكلام مَؤكدة ، وهي لغو كقوله : (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ).
ومثله قول الشاعر :
وما ألوم البيض ألَّا تسخرَا . . . لما رأين الشمط القَفَنْدَرا
المعنى وما ألوم البيض أن تسخر.
ومثل دخول " لا " توكيداً قوله عزَّ وجلَّ : (لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ).
و (لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ).
فإن قال قائل : أفيجوز أن تَقول لا أحلف عليك ، تريد أحلف عليك ؟.
قيل " لا " لأن لا ، إنما تلغى إِذا مضى صدر الكلام على غير النَفي ، فإِذا بنيت الكلام على النفي فقد نقضت الِإيجاب ، وإِنما جاز أن تلغى " لا " في أول السورة ، لأن القرآن كله كالسورة الواحدة ، ألا ترى أن جواب الشيء قد

(2/137)


يقع وبينهما سُورٌ كما قال جلَّ وعزَّ جواباً لقوله : (وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6).
فقال : (ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2).
ومثله في القرآن كثير.

(2/138)


سورة المائدة
ومن سورة المائدة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله جلَّ وعزَّ : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1)
خاطب اللَّه جلَّ وعزَّ جميع المؤْمنين بالوفاءِ بالعقود التي عقدها اللَّه
عليهم ، والعقود التي يعقدها بعضهم على بعضٍ على ما يوجبه الدين ، فقال : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) أي يا أيها الذين صدقوا النبي - صلى الله عليه وسلم - أوْفوا بالعُقود ، والعقود العهود ، يقال : وفيت بالعهْدِ وأوفيتُ.
والعقود واحذها عَقْد ، وهي - أوكد العهودِ
يقال : عهدت إلى فلان في كذا وكذا ، تأويله ألزَمتُه ذلك.
فإنما قلت عاقدته أو عَقَدت عليه ، فتأويله أنك ألْزمْته ذلك باستيثاق.
وقال بعضهم أوفوا بالعقودِ أي كان عقد بعضُكم على بعض في
الجاهلية ، نحو الموالاة ، ونحو قوله : (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ) والمواريث تنسخ العقودَ في باب المواريث.
يقال عقدت الحبلَ والعهد فهو معْقود.
قال الحطيئة :
قَوْمٌ إِذا عَقَدوا عَقْداً لجارِهمُ . . . شَدُّوا العِناجَ وشَدُّوا فَوْقَه الكَرَبَا

(2/139)


تأويله أنهم يوفون عهودَهم بالوفاءِ بها ، ويقال أعقَدْتُ العسَل ونحوه فهو
مُعقدَ وعَقِيدٌ ، وروى بعضهم : عقدت العسل والكلام أعقَدْت.
قال الشاعِر :
وكأَنَّ رُبّاً أَو كحِيلاً مُعْقَداً حَشَّ القيانُ به جوانِبَ قُمْقُمِ
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ).
قال بعضهم : بهيمة الأنعام : الظباءُ والبقر الوحْشِيةُ والحُمْرُ الوحشيةُ.
والأنعام في اللغة تشتمل على الِإبل والبقر والغنم.
فالتأويل - واللَّه أعلم - أحلت لكم بهيمة الأنعام ، أي أحلت لكم الِإبل
والبقرُ والغنمُ والوحْشُ . والدليل على أن الأنعام مشتملة على ما وصفنا
قوله عز وجلَّ : (وَمِنَ الأنْعَامِ حَمُولَةً وفَرْشاً) فالحمولة الإِبل التي تُحَمَّلُ
والفرْشُ صغار الِإبل ، قال (ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ)
ثم قال : (وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ) وهذا مردود على قوله :

(2/140)


(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ) ، وأنشأ (وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا).
ثم ذكر ثمانية أزواج بدلاً من قوله : (وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا).
والسورَة تدعَى سورة الأنعام ، فبهيمة الأنعام هذه ، وإِنما قيل لها بهيمة الأَنعام لأن كل حي لا يميز فهو بهيمة ، وإِنما قيل له بهيمة لأنه أبهم عن أي يميز ، فأعلم اللَّه عز وجلَّ أن الذي أحِل لنا مما أبهِم هذه الأشياءُ.
وقوله : (إِلَّا مَا يُتْلَى عَليْكُم).
موضع ما نصب بـ (إِلَّا) ، وتأويله أُحلَّت لكم بهيمة الأنعام (إِلا ما يتلى
عليكم) من الميتةِ والدم والموقُوذَةِ والمُتَرَديَةِ والنطِيحَة
(غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ) أي أُحلَّتْ لكم هذه لا مُحِلينَ الصيْدَ (وَأَنْتُمْ حُرُمٌ).
وقال أبو الحسن الأخفش : انتصب (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ) على قوله :
(يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود) ، كأنَّه قيل : أوفوا بالعُقودِ غير مُحِلَى الصيْدِ.
وقال بعضهم يجوز أن تكون " ما " في موضع رفع على أَنه يذهب إِلى أنه يجوز جاءَ إخوتك إِلَّا زيدٌ ، وهذا عند البصريين باطل لأَن المعنى عند هذا القائل :
جاءَ إخوتك وزيد . كأنَّه يعطف بها كما يعطف بلا ، ويجوز عند البصريين
جاءَ الرجال إلا زيد على معنى جاءَ الرجال غَيرُ زيد ، على أن تكون صفة
للنكرة أو مَا قَاربَ النكرةَ من الأجناسِ.
وقوله : (وَأَنْتُمْ حُرُمٌ).
أي مُحرمونَ . وأَحَدُ الخرُم حرام ، - يقال رجل حَرامٌ وقوم حُرُم.
قال الشاعر :

(2/141)


فقلتُ لها فِيئي إِلَيكِ فإِنَّني . . . حَرامٌ وإِني بعد ذاكَ لَبِيبُ
أي ملبٍّ.
وقوله : (إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ).
أي الخلق له عزَّ وجلَّ ، يُحِل منه ما يشاءُ لمنْ يشاءُ ، وُيحُرَمُ مَا يُرِيدُ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَئَانُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)
الشعائر واحدتها شعيرة ، ومعناه ما أشْعِرَ أي أعْلمَ ليُهدَى إِلى بيت اللَّه
الحرام.
وقال قوم شعائر الله يُعنَى بِه جميع مُتَعَبداتِ اللَّهِ التي أشْعَرهَا اللَّه.
أي جعلها أعلاماً لنا.
(وَلَا الْهديَ)
الهَدْيُ واحِدَتُهُ هَدْيةٌ مثلُ جَدْيةَ وجَدْي يعني حَدَبةُ
السَّرج.
و (القلائد) كانوا يقلدون بِلِحاء الشَجرَ ويعتصمون بذلك وهذا كله كان
للمشركين ، وكان قد أمِرَ المسلمون بأن لا يحلوا هذه الأشياءَ التي يَتَقربُ بها
المشركون إِلى الله وكذلك (وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ) وهذا كله منسوخ.
وكذلك (ولا الشهر الحرام) وهو المُحرم لأن القتَال كان مرفوعاً فيه ، فَنسخَ
جميع ذلك قوله : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ
وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ).

(2/142)


وقوله : (وإِذَا حَلَلْتُم فاصطَادوا).
هذا اللفظ أمرٌ ومعناه الِإباحة ، لأن اللَّه عزَّ وجل حرم الصيدَ على
المحرم ، وأباحَه لَهُ إِذَا حَلَّ من إِحْرامه ، ليس أنه واجب عليه إِذا حَلَّ أن
يصطاد ، ومثله قوله : (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) تأْويله أنه أبيح لكم بعد الفراغ من الصلاة ، ومثل ذلك في
الكلام : لا تَدْخُلَنَ هذه الدار حتى تُوديَ ثمنها ، فإِذا أديت فَادْخُلْها ، تأويله
فإذا أديت فقد أُبيح لك دُخولها.
وقوله : (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَئَانُ قَوْمٍ).
أي لا يحملنكم بغضُ قومِ ، يقال شنئته شنآناً معناه أبغضته إِبغاضاً.
والشنآن مصدر مثل غَلَى غَليَاناً ، ونَزَا نَزَوَاناً ، فالمعنى لا يكْسَبَنكم بُغْضُ قومٍ
أن تعتدوا.
وموضع " أن " نصب ، أي تعتدوا لأن صَدوكم عَن المسْجد الحرامِ
فموضعُ أن الأولى نصب مفعول له ، وموضع أن الثانِيةِ نصب مفعول به.
المعنى لا يكسبنكم بغضُ قوم أي بغضكم قوماً الاعْتِدَاءَ بصدهم إِيَّاكُمْ عَنِ
المَسْجِدِ الحرامِ يُقالُ فلان جريمة أهله أي هو كاسبهم.
وقيل في التفسير لا يحملنكم بغض قوم ، والمعنى واحد.
وقال الأخفش لا يُحِقَّنَّ لكم بُغْضُ قَوْمٍ.
وهذه أَلفاظ مختلفة والمعنى واحد.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى).

(2/143)


وهذا كله منسوخ إِلا التعاوُنَ مِن المسلمين على البر.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)
(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ).
أصله الميتَة بالتشديد ، إِلا أنه مخفف ، ولو قرئت الميتَةُ لجاز يقال
مَيِّت ، ومَيْت ، والمعنى واحد . وقال بعضهم الميِّت يقال لما لَمْ يَمتْ.
والميْتُ لما قَدْ مَاتَ ، وهذا خطأ إِنما ميِّت يصلح لما قد مات ، ولما سَيَمُوت.
قال اللَّه عزَّ وجلَّ : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ).
وقال الشاعر في تصديق أن الميْتَ والميِّتَ بمعنى واحد :
ليس مَن مات فاسْتراحَ بمَيْتٍ إِنما المَيْتُ مَيِّتُ الأَحْياءِ
فجعل الميت مخففاً من الميت.
وقوله : (وَالدَّمُ).
قيل إنهم كانوا يجعلون الدم في المباعر ويشوونها ويأكلونها ، فأعلم
اللَّه عزَّ وجلَّ أن الدم المسفوح ، أَي المصْبُوبَ حرام ، فأمَّا المُتَلَطَخُ بالدم
فهوكاللحم في الحل.
وقوله : (وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِه).
موضعه رفع ، والمعنى : وحرم عليكم ما أهل لغير اللَّه به ، ومعنى (أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِه) ذكر عليه اسمُ غيرِ اللَّه ، وقد فسرنا أن الِإهلال رفع الصوت

(2/144)


بالشيءِ فَمَا يتقَرَّب به من الذبح لغير اللَّه ، أو ذكر غير اسمه فحرام.
(ولحم الخنزير) حرام ، حرم الله أكله ، وملكه ، والخنزير يشمل على الذكر والأنثى.
وقوله (وَالْمُنْخَنِقَةُ).
وهي التي تنخنق بِرِبْقَتِها أي بالحبل الذي تشدُّ به ، وبأي جِهة اختنقت
فهي حرام.
وقوله : (والمَوْقُوذةُ).
وهي التي تُقْتَلُ ضرباً ، يقال وَقَذْتُها أوْقِذُها وَقْذاً وأوقَذْتُها أوقِذُها إِيقَاذاً.
إذَا أثْخَنْتُهَا ضرباً.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (والنطِيحَةُ).
وهي التي تَنْطِحُ أو تُنْطَحُ فَتَموتُ.
وقوله : (وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ).
موضع " ما " أيضاً رفع عطف على ما قبْلَها.
وقوله : (إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ).
أي إِلا ما أدرَكْتُم ذَكاتَه مِنْ هَذه التي وصفْنَا ، وموضع " ما " نصب أي
حُرمت عليكم هذه الأشياءُ إِلَّا الشيء الذي أدْركَ ذَبحُه مِنْهَا ، وكل ذَبحٍ ذكاةٌ ، ومعنى التذكية أن يدركها وفيها بقية تَشْخبُ معها الأوداج ، وتضطرب اضطراب المذبوح الذي أدْرِكَتْ ذَكاتُه.
وأهل العلم يقولون إِنْ أَخْرجَ السَّبُع الحشْوةَ ، أو
قَطَعَ الجَوفَ قطعاً خرج معه الحَشْوة فلا ذكاة لذلك ، وتأويله إنَّه يصير في
حالة مَا لَا يُؤَثر في حياتِه الذبْحُ ، وأصل الذكاء في اللغة كلها تمام الشيءِ ،

(2/145)


فمن ذلك الذَّكاءُ في السن والفهم ، وهو تمام السن ، قال الخليل : الذَكاءُ في
السِّنِ أن يأتي على قروحِه سنة ، وذلك تمائم استِكمال القُوةِ.
قال زهير :
يُفَضّلُه إذا اجْتَهِدُوا عليْهِ . . . تمامُ السِّنِّ منه والذَّكاءُ
وَقيل جري المذْكِيَاتِ غِلاب . أي جَرْي المَسَانِّ التي قد تأسَّنتَ.
وتأويل تمام السِّن النهايةُ في الشباب فإِذا نقص عن ذلك أو زاد فلا يقال لها
الذكاء
والذكاء في الفهم أن يكون فَهِماً تامًّا سريعَ القَبول ، وذَكَيْتُ النارَ إِنما
هو مِنْ هذا . تأويله أتمَمت إشعالها.
(إِلا مَا ذَكيْتمْ) ما أذْكَيْتُم ذَبْحة على التمام.
وقوله : (وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ).
والنُصبُ الحجارة التي كانوا يعْبدونَها ، وهي الأوثانُ واحِدُها نِصاب.
وجائز أن يكون واحدأاً، وجمعه أنصاب.
وقوله : (وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ).
موضع " أن " رفع ، والمعنى وحرم عليكم الاستقسام بالأزلام.
وواحد الأزلام زُلَم ، وزَلَم ، وهي سِهَام كانَتْ في الجاهلية مَكْتوب على بعضها " أمرَنِي رَبِّي " وعَلى بعضها : " نهاني رَبِّي - فإذا أراد الرَّجُلُ سَفَراً أو أمراً يهتَم به

(2/146)


اهتماماً شديداً ضرب تلك القِدَاح ، فإِن خرج السهم الذي عليه " أمرني رَبِّي
مضَى لحاجته ، وإن خرج الذي عليه " نهاني ربي " لم يمض في أمره ، فأعلم
اللَّه عزَّ وجلٌ أن ذلك حرام ، ولا فرق بين ذلك وبين قول المنجمين : لا تخرج من أجْل نَجْم كَذَاِ ، وأخرج من أجل طلوع نجم كذا ، لأن الله جلَّ وعزَّ قال : (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا)
وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -
" خمس لا يَعْلَمهِن إلا اللَّه ، وذكر الآية التي في آخر سورة لقمان.
(إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ).
وهذا هو دخول في علم اللَّه الذي هو غيب ، وهو حرام كالأزلام التي
ذكرها الله جلٌ وعز أنها حرام.
والاستقسام بالأزلام فسْق . والفِسْق اسم لِكُل ما أعلم الله أنه مُخْرِج
عن الحلال إِلى الحرام ، فقد ذَم اللًه به جميعَ الخارجين مِن متَعَبَّداته وأصله
عند أهْلِ اللغة قد فَسقَتِ الرَطَبَة إذَا خَرَجَتْ عَنْ قِشْرها.
ولو كان بَعض هذه المَرْفوعَاتِ نَصْباً على المعنى لجاز في غير القرآن.
لو قلتَ حرمَتْ على الناس الميتَةُ والدمَ ولحمَ الخنزير ، وتحمله على مَعْنَى
وحَرمَْ الله الدَمَ ولحمَ الخِنْزِير لجاز ذلك ، فأمَّا القرآن فخطأ فيه أن نقْرأ بما لم
يَقْرأ به مَنْ هو قُدْوةٌ في القِراءَةِ ، لأن القراءَة سنة لا تتَجاوَز.
وقوله : (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ).
"اليومَ " منصوب عَلى الظرف ، وَلَيْسَ يُرادُ به - واللَّه أعلم - يوماً بعَيْنه .

(2/147)


معناه الآنَ يئِس الذين كفروا من دينكم ، وهذا كما تقول أنا اليومَ قَدْ كَبرْتُ.
وهذا الشأن لا يصلح في اليوم . تريد أنا الآن ، وفي هذا الزمان ومعناه : أن قد حَوَّل الله الخَوفَ الذي كاد يلحقكم منهم اليوم ويئِسُوا مِنْ بُطْلان الإِسْلَام
وجاءَكمْ مَا كُنتم توعدون من قوله : (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ).
والدِّينُ اسم لجميع ما تعَبَّدَ اللَّه خلقَهُ ، وأمرهم بالإِقامة عليْه ، والذِي به يُجزون ، والذي أمرهم أن يكون عادَتَهم.
وقد بينَّا ذلك في قوله : (مَالِكِ يَوْمِ الدينِ).
وقوله : (فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ).
أي فليكن خوفكم لِلًه وحده ، فقد أمنْتُم أن يَظْهَرَ دين على الِإسلام
وكذلك - واللَّه أعلم -.
قوله : (اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لكُمْ دينَكُمْ).
أي الآن أكملْت لكم الدين بأن كَفَيتكم خَوف عَدوكم وأظهرتكم
عليهم ، كما تقول : الآن كَمُلَ لَنَا الملكُ وكملَ لَنَا ما نريد ، بأن كفينا مَنْ كنا نَخافه.
وقد قيل أيضاً : (اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لكُمْ دينَكُمْ) أي أكملت لكم فَرْض ما
تحتاجون إِليه في دينكم . وذلك جائز حسن ، فأَما أن يكون دين الله في وقت من الأوقات غيرَ كامل فلا.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ).
أي فمن دَعته الضرورة في مجاعة ، لأن َ المخمصَةَ شدةُ ضمور
البطنِ.
(غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ).

(2/148)


أي غير مائِل إِلى إِثم.
(فَإِنَ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٍ).
أي فإِن الله أباحه ذلك رحمة منه وتسهيلاً على خلقه ، وكذلك فَمَنِ
اضْطر غَير بَاغٍ وَلَا عَادٍ ، أي غير آكل لها على جهة الاستحلال وَلا عَاد : أي مجاوزِ لقدر الحاجة ، وغير آكل لها على جهة التلذذ فإِن اللَّهَ غَفُورٌ رحيم.
* * *
وقوله : (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4)
(يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ)
موضع " ما " رفع ، إِن شئت جَعلتها وحدها اسما ، ويكون خبرها قوله :
(ذا). ويكون أحل من صلة ما ، والتأويل : يسألونك أي شيءٍ أحِل لهم.
وجائز أن تكون " ما " ، و " ذا " ، اسماً واحداً ، وهي أيضاً رَفْعُ بالابتداءِ والتأويل على هذا : يسألونك أي شيءٍ أحِل لهُم ، وأحل لهم خبر الابتداءِ.
(قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ).
فالطيبات كل شيءٍ لم يأت تَحريمه في كتاب ولا سنة ، والكلام يدل
على أنهم سألوا عن الصيْدِ فيما سألوا عنه ، ولكن حُذِفَ ذكرُ صيدِ " مَا
عَلًمْتُمْ). . لأن في الكلام دليلاً عليه ، كما قال : (واسأل الْقَرْيَةَ).
المعنى واسأل أهل القرية.
" وقوله : (مُكَلِّبِينَ).
أي في هذه الحال يقال رجل مُكلِّب ، وكَلَّاب ، أي صاحب صيد
بالكلاب ، وفي هذا دليل أن لحم صيد الكلب الذي لم يُعلَّم حرام إِذا لم
تُدْرَك ذَكاتُه ، فإِذا أرسَل المرسلُ كلب الصيْدِ فصادَ فقَتَل صَيْدَه ، وقد ذكر الصائدُ اسم اللَّه على الصيد فهوحلال بلا اختلاف بين الناس في ذلك .

(2/149)


وقوله عزَّ وجلَّ : (فَكُلْوا مِمَّا أمْسَكْنَ عَلَيكمْ).
فاختلف الفقهاء فيه إِذا أكل من الصيدِ ، فقال بعضهم يْؤكل (منه) وإِن
أكل منه . وكل ذلك في اللغة غير مُمتنع لأنه قدْ يُمْسك الصيد إِذا قَتَله ولم
يأكل منه ، وقد يمسَكُ وقد أكل منه.
ومعنى : (تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ).
أي تؤدبونَهنَّ أنْ يمسِكنَ الصيدَ عليكمِ ، فإِنْ غَابَ الصيْد فماتَ فإِنه
غير ممْسَك . وفي الحديث : " كُلْ ما أَصْمَيْت ودع ما أَنْمَيْت).
ومعنى كل مَا أصْميْت أي إن صِدْتَ صيداً بكلبِ أو غيرِه فمات وأنْت تَرَاه ماتَ بصَيْدك فهو ما أصْمَيتَ ، وأصل الصمَيَان في اللَغة السرعةً والخِفة.
فالمعنى : كلْ ما أصمَيتَ أي ما قتلته بصَيْدِك وأنت تراه أسرع في
الموت ، فرأيته وعلمت - لا محالة - إنَّه مات بصيدك ، ومعنى ما أنميت ، أي
ما غاب عنك فمات ولم تره ، فلست تدري أمات بصيدك أم عَرَضَ له عَارضٌ آخَر فقتله ، يقَال نمتِ الرَّمِيةً إِذا مضتْ والسهم فيها ، وأنميت الرميةَ إذَا رَميتُها فمضت والسهم فيها.
قال امرؤ القيس :
فهْو لا تَنْمِي رَمِيَّته . . . ما له لا عُدَّ مِنْ نَفَرِه
وقال الحَرِث بن وعْلَة الشَيْبَانِي : (
قالت سليمى قد غَنيتَ فتًى . . . فالآن لا تصمِي ولا تَنْمِي

(2/150)


وقوله جلَّ وعز : (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5)
(وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ)
أي ذبائح أهل الكتاب حل لكم ، وقد أجمع المسلمون أن ذبائحَ أهلِ
الكتاب حلال للمسلمين ، واختلفوا فيما سواها من الأطعمة ، والذبائح هى من الأطعمة ، فالظاهر - واللَّه أعلم - أن جميع طعامهم حلال كالذبائح.
(وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ).
تأويله حل لكم أن تطعموهم ، لأن الحلال والحرام والفرائض بعد عقد
التوحيد ، إنما يعقد على أهل الشريعة والملة ، فأما الكفَارُ فالواجِب فيهم
القتلِ إِلَّا مَنْ أدَّى الجِزْيةَ مِنْ أهِل الكِتَابِ.
وقوله : (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ)
أي وأحلَّ لكم المحصنات وهن العفائف وقيل الحرائر ، والكتاب يدل
على أن الأمَةَ إِذا كانت غيرَ مؤْمِنَةٍ لم يجز التزويج بها ، لقوله : (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ).
فإِذا آتيتموهُنَّ أيإِذا أعطيتموهن الأجر على جهة التزويج لا على جهة
السِّفَاح وهو الزنَا.
وقوله : (وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ).

(2/151)


وهن الصديقات والأصدقاء ، فحرم الله عَز وجل الجماع على جهة
السفاح ، أو على جهة اتخاذ الصدِيقة ، وأحلَّة على جهة الإِحصَانِ ، وهو
التزويج ، على ما عليه جماعة العلماءِ.
وقوله : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ)
أي من بدل شيئاً مما أحَل الله فجعله حَراماً ، أو أحَل شيئاً مما حَرمَ الله
فهو كَافِرٌ بإجماعٍ ، وقد حَبِط عَمَلُهُ أي حَبِطَ جميع ما تَقَرب بِه إِلى اللَّهِ جَل
ثَناؤه ، ومن غير ذلك.
* * *
وقوله : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)
المعنى إِذا أردتم القيام إِلى الصلاة ، وإِنما جاز ذلك لأن في الكلام
والاستعمال دليلًا على معنى الِإرادة ، ومثل ذلك قول الله عزَّ وجلَّ (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98).
المعنى إذا أردت أن تقرأ القرآن فاستعذ باللَّه من الشيطان الرجيم.
وقوله : (وأرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ).
القراءَة بالنصب ، وقد قرِئت بالخفض ، وكلا الوجهين جائز في العربية
فمن قَرَأ بالنصب فالمعنى : فاغسلوا وُجُوهَكُم وَأيديَكم إِلى المرافق وأرجُلَكم
إِلى الكعبين ، وامسحوا برؤُوسكم على التقْديم والتأْخير والواو جائز فيها ذلك كما قال جلَّ وعزَّ : (يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43).

(2/152)


والمعنى واركعي واسجدي لأن الركوع قبل السجود ، ومن
قرأ : وَأرجُلِكم - بالجر عطف على الرؤوس.
وقال بعضهم نزل جبريل بالمسح ، والسنة في الغَسل.
وقال بعض أهل اللغة هو جَر على الجِوَارِ ، فأما الخفض على الجوار فلا يكون في كلمات اللَّه ، ولكن المسح على هذا التحديد في القرآن كالغُسل لأن قوله : (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ) ، فذكر الحدَّ في الغسل لليد إِلى المرافق ، ولليد من أطراف الأصابع إلى الكتفِ ، ففرض علينا أن نغسل بعض اليد من أطراف الأصابع إِلى المرفق ، فالمرفق منقَطِع مما لا يُغْسَل ودخل فيما يُغْسَل.
وقد قال بعض أهل اللغة معناهُ مع المرافق ، واليَدُ المرفق داخل فيها ، فلو كان اغسلوا أيديَكم مع المرفَق ، لم تكن في المرافق فَائِدة وكانت اليد كلها يجب أن تغسل ، ولكنه لما قيل إلى المرافق اقتطعت في الغسل من حَد المِرفق ، والمِرفَق في اللغة ما جاوز الإِبرة وهو المكان الذي يُرتَفَقُ به ، أي يتكأ عليه على المرفقة وغيرها.
فالمرافق حَد ما ينتهَي إِليه في الغسْل منها ، وليس يحتاج
إلى تأويل (مع).
ولما حدَّ في الرِّجْلِ إِلى الكعْبين ، والرِّجْل من أصل الفخذ إِلى القَدَم
عُلمَ أن الغُسْلَ من أطراف الأصابع إِلى الكعبين ، والكعبان هما العظمان
الناتئان في آخر الساق مع القدم ، وكل مِفْصَل من العظام فهو كعب ، إِلا أن

(2/153)


هذين الكعبين ظاهران عن يَمْنَة فوق القدم وَيسْرَتِه ، فلذلك لم يحتج إلى أن
يقال الكعبان اللذان صِفَتهما كذا وكذا.
فالدَّلِيل على أن الغسل هو الواجب في الرجل ، والدليل على أن
المَسْحَ على الرجل لا يجوز هو تحديد إِلى الكعبين كما جاءَ في تحديد
اليد إِلى المرافق ، ولم يجئْ في شيء في المسح تحديد ، قال فامسحوا
برؤوسكم بغير تحديد في القرآن وكذلك قوله :
(فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ)
ويجوز وأرجُلِكم بالجر على معنى واغسلوا ، لأن قوله إِلى الكعبين قد دل على
ذلك كما وصفنا ، وينسق بالغسل على المسح
كما قال الشاعر :
يا ليت بعلك قد غدا . . . متقلداً سيفاً ورمحا
المعنى متقلداً سيفاً وحاملاً رمحاً.
وكذلك قال الآخر :
علفْتها تبناً وماءً بارداً
المعنى وسقيتها ماءً بارداً.
وقوله : (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا).
يقال للواحد رجل جُنُبٍ ، ورجُلان جُنُبٌ ، وقوم جُنُب وامراة جُنب ، كما
يقال رَجُلٌ رِضًى وقوم رضًى وإِنما هو على تأويل ذَووا أجنُبٍ ، لأنه مصدر.
والمصدر يقوم مقام ما أضيف إِليه ، ومن العرب من يُثَنِّي ويَجْمَعُ ويجعل

(2/154)


المصدر بمنزلة اسم الفاعل ، وإِذا جمع جنب ، قلت في الرِّجال جُنبون ، وفي
النساءِ جُنُبات ، وللاثنين جُنبان.
وقوله : (فَاطَّهَّرُوا).
معناه فتطهروا ، إِلا أن التاءَ تدغم في الطاءِ لأنهما من مكان واحد.
وهما مع الدال من طرف اللسان ، وأصول الثنايا العليا ، فإِذا أدغمت التاء في الطاءِ . سقط أول الكلمة فزيد فيها ألف الوصل ، فابتدأت فقلت اطهروا.
وبين عزَّ وجلَّ ما طهارة الجنب في سورة النساءِ بالغسل فقال :
(وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا).
والغائط - كناية عن مكان الحَدَثِ ، والغِيطَان ما انخفض من الأرض.
وقوله : عزَّ وجلَّ : (فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا).
أي اقصدوا ، وقد بيَّنَّا الصعيد في سورة النساءِ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ).
أي من ضيق.
(وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ).
واللام دخلت لتبيّنَ الِإرادة.
المعنى إِرادته ليطهركم.
قال الشاعر :
أرِيدُ لأنْسى ذكرها فكأنَّمَا . . . تَمثَلُ لي ليلَى بكُل سَبِيل
وقوله عزَّ وجلَّ : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَئَانُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8)
(قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ)
أي بالعدل .

(2/155)


(شهَدَاءَ).
أي مُبَينين عن دين الله لأن الشاهد يبيِّن ما شهد عليه.
وقوله : (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَئَانُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا).
فشنآن قوم معناه بُغْضٍ قوم.
أي : لا يحملنكم بغضكم المشركين على ترك العدل.
ومن قال شنآن قوم ، فمعناه بُغْضُ قوم ، ويقال : أجرَمَني كذا
وكذا ، وجَرَمَنِي ، وجرمني ، وأجرَمتً بمعنى واحد.
وقد قيل لا يَجْرِمَنَّكُمْ : لا يُدخِلَنَّكم في الجُرم كما تقول آثمته أي أدخلته في الِإثم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9)
هذا تمام الكلام ، يقال وعدت الرجل تريد وعدته خيراً ، وأوعَدتُ
الرجُلَ تريد أوعَدتُه شرا ، وَإِذَا ذكرت الموعود قُلْتَ فيهما جميعاً واعَدتُه . وإِذَا لم تذكر الموعود قلت في الخير وعدته وفي الشر أوعدتُه.
فقال عزَّ وجلَّ : (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) ، فدل على الخير ، ثم بين ذلك الخير فقال :
(لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) أَي تغْطِية على ذنوبهم.
(وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) جزاء على إِيمانهم.
* * *
وقوله : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)
يُرْوى في التفسير أَن بني قُرَيظة وبني النَضِير كانوا عاهدوا النبي - صلى الله عليه وسلم - على تَرك القِتَال وعلى أَنْ يُعينهم في دِيَاتِهم ويُعينُوه في ديات المسلمين ، فأصِيبَ رَجُلان من المسلمين فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم في دياتهما ، فَوَعَدُوه

(2/156)


لِوَقْتٍ يصير إليهم فيه ، فصار النبي هو وأبو بكر وعمرُ وعليٌّ ، فلما صاروا
إِليهم هموا بالغدرِ وأن يَقْتًلوا النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن معه ، فأوحى الله إِليه وأعلمه ما عزموا عليه ، فخرجوا من المكان الذي كانوا فيه ، فأعلمهم إليهود أن قُدُورَهم تغلي ، فأعلمهم - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قد نزل عليه الوحي بما عزموا عليه.
وهذه من الآيات التي تدل على نبوته.
وقيل إِن هذا مردود على قوله : (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ)
أي قَد أُعطِيتُم الظفَر عليهم ، فقال :
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ).
وكلا الوجهين - واللَّه أعلم - جائز ، لأن الله جل ثناؤه قد أظهر الِإسلام
على سائر الأديان.
* * *
وقوله : (وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12)
أي أخذ الله منهم الميثاق على توحيده والإِيمان برسله.
(وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا).
النقيب في اللغة كالأمير ، والكفيل ، ونحن نُبَينُ حقيقَتَه واشتقاقه إِن شاءَ
اللَّه.
يقال : نَقَبَ الرجل على القوم يَنْقبُ إذا صار نَقيباً عليهم ، وما كان
الرجل نقيباً ، ولقد نقبَ ، وصناعته النقابة وكذلك عَرَفَ عَليْهم إذَا صار عريفاً ،

(2/157)


ولقد عَرفَ ، ويقال لأول ما يبدو من الجرب النُّقْبة ، وُيجْمَعُ : النُّقُب.
قال الشاعر :
مُتَبَذِّلاً تَبدُو مَحاسِنُه . . . يَضَعُ الهِناءَ مواضِعَ النُّقْبِ
والنُّقْبَة وجمعُها نُقُب سراويل تلبسه المرأة بلا رجلين ، ويقال فلانة حسنة
النُّقْبة والنُّقَابِ ، ويقال في فلان مناقب جميلة ، وهو حسن النقِيبَة ، أي حسن
الخليقة ، ويقال كَلْبٌ نقِيبٌ ، وهو أن تُنْقَبَ حَنْجَرَةُ الكلْب لئلا يرتفع صوته في نُباحِه ، وإِنما يفعل ذلك البخلاءُ من العرب لئلا يطرقهم ضيف بسماع نُبَاح الكلاب.
وهذا الباب كله يجمعه التأْثير الذي له عمق ودخول ، فمن ذلك نقبتُ
الحائط ، أي بلغت في الثقب آخره ، ومن ذلك النقبة من الجَرَبِ لأنه داء
شديد الدخول ، والدليل على ذلك أن البعيرَ يُطْلَى بالهَنَاءِ فيوجد طعم القطران

(2/158)


في لحمه . ، والنُّقْبَةُ هذه السراويل التي لا رِجَلَينِ لها ، قد بُولغ في فتحها
ونَقْبِها ، وَنقاب المرأة وهو ما ظهر من تَلَثُّمِها من العينين والمَحَاجر ، والنَّقَبُ
والنُّقْب الطريق في الجبل ، وإِنما قيل نقيب لأنه يعلم دخيلة أمر القوم ويعرف
مناقبهم ، وهو الطريق إِلى معرفة أمورهم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَعَزَّرْتُمُوهُمْ).
قال أبو عبيدة : (عَزَّرْتُمُوهُمْ) عظمتموهم . قال غيره : عزرتموهم :
نَصَرْتموهم . وهذا هو الحق - واللَّه أعلم - وذلك أن العَزْر في اللغة الرَّدُّ.
وتأْويل عزَّرْت فلاناً - أي أدَّبْتُه - فعلت به ما يَرْدَعُه عن القبيح كما أن نَكَّلتُ به ، فعلت به ما يجب أن ينكل معه عن المعاوَدَةِ ، فتأويل (عَزَّرْتُمُوهُمْ) نصرتوهم بأن تردوا عنهم أعداءَهم.
وقال الله عزَّ وجلَّ (وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ)
فلو كان التعزير هو التوقير لكان الأجود في اللغة الاستعانة والنصرة إِذا وجبت ، فالتعظيم داخل فيها ، لأن نصرة الأنبياءِ هي المدافعة عنهم والذَبُّ عن دَمِهِم وتعظيمهم وتوقيرهم.
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ).
أي فقد ضل قصد السبيل.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13)
(فَبِمَا نَقْضِهِمْ)
" ما " لغو ، المعنى : فبنقضهم ميثاقهم ، ومعنى " ما " الملغاة في العمل
توكيد القِصةِ.
(لَعَنَّاهُمْ) أي باعَدْنَاهم من الرَّحمةِ ، وجعلنا قلوبهم قاسية أي يابسةً ،

(2/159)


يقال للرجل الرحيم : لَيْنُ القلب ، وللرجل غير الرحيم : قاسي القلب ويابس القلب ، والقاسي في اللغة ، والقاسِح - بالحاءِ - : الشديد الصلابة.
وقوله : (يًحَرفونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِط).
الكلم جمع كلمة ، وتأويل يحرفون ؛ يُغيرونه على غير ما أنزل.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ).
معنى نسوا : تركوا نصيباً مما ذكروا به.
وقوله : (وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ).
خائنة في معنى خيانة ، المعنى : لا تزال تطلع على خيانة منهم ، وفاعلة
في أسماءِ المصادر كثيرة ، نحو عافاه اللَّه عافية ، وقوله : (فَأُهْلِكوا
بِالطَّاغِيَةِ) ، وقد يقال رجل خائنة.
قال الشاعِر :
حَدَّثتَ نفسك بالوفاءِ ولم تَكُنْ . . .لِلغَدرِ خَائنةٌ مُغِلَّ الِإصبَع
قال خائنة على المبالغة لأنه يخاطب رجلاً ، يقول : لا تحملن فتغلل

(2/160)


اصبعك في المتاع فتدخلها للخيانة ، (ومُغِل يَدَك مِنْ خَائِنَةٍ)
ويجوز أن يكون - واللَّه أعلم - على خائنة أن على فِرْقَةٍ خائنة.
وقوله : (إِلا قَليلاً مِنْهُمْ).
مَنصُوبٌ بالاستثناءِ.
وقوله : (وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14)
(فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)
يُعنَى به النصارى ، وَيعْنِي قولُه : أغريْنَا ألصقْنَا بهم ذلك ، يقال : غريتُ بالرجل غَرىً - مَقْصُورٌ - إِذَا لصِقتَ بِه ، وهذا قول الأصمعي
وقال غيرُ الأصْمَعِي : غَرِيتُ به غَرَاءً ، وهو الغِرَاءُ الذي يُغْرَّى إِنما تلصق به الأشياءُ ، وتأويل (أغرَينا بينهم العداوة والبغضاءَ) أنَّهمْ صَارُوا فِرقاً يُكفِّر بعضهم بَعضاً ، مِنهُم النَسْطُوريةُ ، واليَعْقُوبيةُ والمَلْكَانِيَّةَ ، وهم الرُوم ، فكل فرقة مِنهم تعادي الأخرى.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15)
(قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ).
النور هو : محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - والهدى أو النور هو الذي يبين الأشياءَ ، وُيرى الأبْصَارَ حقيقتَها ، فمثل ما أتى به النبي - صلى الله عليه وسلم - في القلوب في بيانه وكشفه الظلمات كمثل النور.
* * *
(يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)
(يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ).
ورُضوانه - بالكسر والضم.
(سُبُلَ السَّلَامِ).
جميع سبيل ، والسُبُل : الطُرُق ، فجائز أن يكون - واللَّه أعلم - طرق
السلام أي طرق السلَامَةِ التي من ملكها سلم في دينه ، وجائز أن يكون
- واللَّه أَعلم - سبل السلام ، طرق اللَّه ، والسلام اسم من أسماءِ اللَّه .

(2/161)


وقوله : (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)
(عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ).
أي : على انقطاع ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - بُعث بعد انقطاع الرسل لأن الرسل كانت إِلى وقت رفع عيسى تَتْرى ، أي متواترة ، يجيءُ بعضها في إثر بعض.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ).
قال بعضهم معناه أنْ لَا تقولوا ما جاءَنا من بشير ، أي بعث اللَّه
النبي - صلى الله عليه وسلم - لئلا تقولوا ما جاءَنا من بشير.
ومثله قوله عزَّ وجلَّ : (يُبَين اللَّهُ لَكُمْ أن تَضِلوا) معناه أن لا تضلوا.
وقال بعضهم : أن تقولوا : معناه كَراهَةَ أن تَقُولوا.
وحذفت كراهة ، كما قال جلَّ وعزَّ : (وَاسْألِ الْقَرْيةَ).
معناه : سَلْ أهلَ القَرْيَةِ.
وقد استقْصَيْنا شرح هذا في آخر سورة النساءِ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20)
(وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا).
مثل جعلكم تملكون أمركم لا يَغْلبكم عليه غالب.
وقال بعضهم : جعلكم ذَوي مَنازِل لا يُدْخَل عليكم فيها إِلَّا بِإِذْن.
والمعنى راجع إِلى ملك الأمر.
وقوله : (وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ).
وهو أن اللَّه - جلَّ وعزَّ - أنزَلَ علَيْهِم المَنَّ والسَّلْوَى ، وظلَّلَ عَلَيْهم
الغمام.
* * *
وقوله : (يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21)
المقدسة : المطهَّرة ، وقيل في التفسير إنها دمشق ، وفلسطين ، وبعض

(2/162)


الأردن وبيت المَقْدِسِ ، وإِنما سمِّي بالمَقْدِس لأن المَقْدِس : المكان الذي
يتطهر فيه . فتأويله البيت الذي يُطَهَرُ الِإنسان من العيوب ، ومن هذا قيل :
القدس ، أي الذي يتطهر منه ، كما قيل : مَطْهَرة لما يُتَوضأ مِنْه ، إنما
هي مَفْعَلَةً من الطهر.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22)
تأويل الجبار من الآدميين : العاتي الذي يَجْبرُ النَّاسَ عَلَى مَا يُريدُ ، واللَّه
- عزَّ وجلَّ - الجبار العَزِيزُ ، وهو الممتنع من أن يُزَلَّ ، واللَّه عزَّ وجلَّ يأمر بما أراد ، لا رَادَّ لأمْرِه ، ولا مُعَقَبَ لحُكْمِه.
وإِنَّمَا وَصَفوهم بالقُدرَةِ والتكبُّر ، والمَنَعةِ.
و (قوماً) منصوب بـ أن ، و (جبارين) من صفتهم ، والخَبرُ قوله : (فيها).
* * *
وقوله (قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23)
أي أنعَمَ اللَّهُ عليهما بالِإيما أن.
(آدْخُفوا عَلَيهِم البَابَ).
فكأنَّهما عِلِمَا أن ذَلِك البابَ إِذا دُخِلَ منه وقع الغَلبُ.
* * *
وقوله : (قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24)
أي لسْنَا نقْبل مَشُورَةً في دُخُوولها ، ولا أمراً ، وفيها هُؤلاءِ الجبارون ، فأعلم
اللَّه جلَّ ثناؤه أن أهل الكتاب هؤلاءِ غير قابلين من الأنبياءِ قَبْلَ النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأن الخلافَ شأْنُهم.
وفي هذا الِإعلام دليل على تصحيح نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه أعلمهم

(2/163)


ما لا يُعْلَمُ إِلا من قراءَة كتاب أو إِخْبارٍ ، أو وَحْي ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - منشؤه معروف بالخُلوِّ من ذكر أقاصيص بني إِسرائيل ، وبحيث لا يقرأ كتبَهُمْ ، فلم يبق في علم ذلك إِلا الوحي.
وقوله : (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا).
كلام العرب : اذهب أنت وزيد ، والنحويون يستقبحون اذهب وزيد.
لأنه لا يعطف بالاسم الظاهر على المضمر ، والمضمر في النية لا علامة
له ، فكان الاسم يصير معطوفاً على ما هو متصل بالفعل غير مفارق له.
فأمَّا قوله : (فَأجْمِعُوا أمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ) فمن رفع فإِنما يجوز ذلك
لأن المفعول يقوي الكلام ، وكذلك ضربْتُ زيداً وعمرٌو . كما يقوي الكلام
دُخولُ لا ، قال الله جل ثناؤه : (لَوْ شَاءَ اللَّهَ مَا أشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا).
* * *
وقوله : (قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25)
(أَخِي) في موضع رفع ، وجائز أن يكون في موضع نصبٍ.
المعنى : قال ربي إِني لا أملك إِلا نفسي ، وأخي أيضاً لا يملك إِلا
نفسه ، ورفعه من جهتين إِحداهما : أن يكون نَسَقاً على موضع إِنَي.
المعنى أَنا لا أملك إِلا نفسي وأخي كذلك.
ومثله قوله : (أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ) وجائز أن يكون عطفاً على " ما " في قوله أملك

(2/164)


فالمعنى أنا لا أملك أنا وأخي إِلًا أنفسنا ، وجائز أن يكون أخي في موضع نصب من جهتين
إِحداهما : أن يكون نسقاً على الياء في إِني.
المعنى إني وأخي لا نملك إِلا أنفسنا ، وإني لا أملك إِلا نفسي.
وأن أخي لا يملك إلا نفسه ، وجائز أن يكون معطوفاً على نفسي ، فيكون المعنى لا أملك إِلا نفسي ، ولا أملك إِلا أخي ، لأن أخاه إِذا كان مطيعاً له فهو ملك طاعته.
وقوله : (إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أنْبِياءَ).
لا يصرف (أنبياء) لأنه مبني على ألف التأنيث ، وهو غير مصروف في
المعرفة والنكرة لأن فيه علامة التأنيث ، وهي مع أنَّها علامة التأنيث مبنية مع
الاسم على غير خروج التأنيث عن التذكير نحو قائم ، وقائمة.
وقوله : (قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26)
يعني أن الأرض المقدسة محرَّمٌ عليهم دخولُها أيهم ممنوعون من
ذلك ، قال بعض النحويين : أربَعينَ سَنَةً يجوز أن تكون
منصوبة بقوله (مُحَرَّمَةٌ).
ويجوز أن يكون منصوباً بقوله (يَتِيهُونَ) ، أما نصبه ب (مُحَرَّمَةٌ) فخطأ ، لأن التفسير جاءَ بأنها محرمة عليهم أبداً.
فنصب أربعين سنة بقولهم (يتيهون).
وقيل عذبهم اللَّه بأن مكثوا في التيه أربعين سنة سَيارَةً لا يقِرهُمْ قَرار إِلى أن مات البالغون الذين عصوا اللَّه ونشأ الصغار ووُلدَ مَنْ لم يدخل في جملتهم في المعصية ، وقيل إن موسى وهارون كانا معهم في التَيهِ.
قال بعضُهم لم يكن موسى وهارون في التَيه لأن التَيه عذاب ، والأنبياءً لا يعذبون.
وجائز أن يكون

(2/165)


كانَا في التَيه وأن الله جل اسمه سَهّل عليْهما ذلك كما سهَّل على إبراهيم النار
فجعلها عليه بَرداً وَسَلاماً وشأنها الإِحراق.
وقوله : (فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ).
جائز أن يكون هذا خطاباً لموسى ، وجائز أن يكون خطاباً لمحمد - صلى الله عليه وسلم - أي لا تحزن على قوم لم يزل شأنهم المعاصي ومخالفة الرسل.
* * *
وقوله : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27)
قيلَ كانا رجلين من بني إسرائيل لأن القُرْبانَ كان تأكله النار فى زمن
بني إسرائيل ، ومثل ذلك قوله : (إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ)
وقيل ابنا آدم لصلبه ، أحدهما هابيل والآخر قابيل ، فقربا قرباناً.
(فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ).
وكان الرجل إِذا قرب قُرباناً سجد وتَنْزِل النار فتأكل قربانه ، فذلك علامة
قبول القُرْبان ، فنزلت النار وأكلت قربان هابيل ، ولم تأْكل قربان قَابِيل.
فحسده قابيل وتوعده بالقتل فقال :
(لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ).
المعنى قال الذي لم يُتَقبَّلْ منه لاقتلنك ، وحذف ذكر الذي لم يتقبل
منه ، لأن في الكلام دليلاً عليه ، ومثل ذلك في الكلام إِذا رأيت الحاكم
والمظلوم كنت معه ، المعنى كنت مع المظلوم ، ويقال إِن السيف كان ممنوعاً
في ذلك الوقت كما كان حين كان النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة وكما كان ممنوعاً في زمن عيسى ، فقال :
(لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28)

(2/166)


أي : ما أنا بمجازيك ولا مقَاتلكَ ، ولا قاتِلُكَ : (إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ).
* * *
(إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29)
أي أن ترجع إِلى الله بإثمي وإِثمك.
(فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ).
معنى بإِثمي : بإثم قتلي وإثمك الذي من أجله لم يُتَقَبًلْ قربانك أي
إِن قتلتني فأنا مريدٌ ذلك . وَذَلِكَ جزاءَ الظَّالِمِينَ.
* * *
(فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30)
(فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ)
تَابَعَتْة.
وقال أبو العباس محمد بن يزيد المبرد : (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ) فَغَلَتْ
من الطَوْع . والعرب تقول : طاع لهذه الظبية أصول هذه الشجرة ، وطاع له
كذا وكذا ، أي أتاه طوعاً.
وقوله : (فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ).
أي مِمًن خَسِر حَسَناتِه.
وكان حين قتله سلَبه ثيابَه وتركه عَارِياً بالأرض
القفار.
* * *
(فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)
قال بعضهم بعث الله غراباً يبحث على غراب آخر مَيت
(لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ).
وقيل بل أكرمه الله بأن بعث غراباً حثا عليه التراب ، (لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي).
(قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ).
يقال عَجَزْت عن الأمر أعْجِز عَجْزاً ومعْجَزةَ ومَعْجِزَةً ، فأما " يا وْيلَتَى "

(2/167)


فالوقف عليها في غير القرآن يا ويلتاه ، والنداءُ لغير الآدميين نحو (يا حسرة
على البعاد) و (يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ) ، وقال (يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ).
فإنما وقع في كلام العرب على تنبيه المخاطبين ، وأن الوقت الذي تدعى له
هذه الأشياءَ هو وقتها ، فالمعنى يا ويلتى تَعَالَيْ ، فإِنه من إِبَّانِك ، فإنه قد
لزمني الويل ، وكذلك يا عجباً ، المعنى يا أيها العجب هذا وقتك فعلى هذا
كلام العرب.
وقوله : (فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31) مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)
الأجود أن يكون (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ).
يقال أجلْتُ الشيء أأجلَهُ أجلاً إِذَا جنيتُه قالَ خَوَّاتُ بن جبير :
وأَهلِ خباءٍ صالحٍ كُنتُ بينهم . . . قد احْتَرَبوا في عاجل أَنا آجله
أي أنا جَانِيه.
وتأويل الويل في اللغة قال سيبويه ، الويل كلمة تقال عند
الهلكة ، وقيل الوَيْلُ واد في جهنم ، وهذا غير خارج من مذاهب أهل اللغة.
لأن من وقع في ذلك فقد وقع في هلكة :
وقوله : (أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ).
" فساد " معطوف على " نفس " ، المعنى بغير فسادٍ ، فكأنما قتل الناس جميعاً ،

(2/168)


أي المؤمنون كلهم خُصَماء القاتِلِ ، وقد وَتَرهم وتْرَ مَن قَصَد لِقَتلهم جميعاً.
(وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا).
أي من استنقذها من غَرقٍ أَو حَرقٍ أو هَدْمِ ، أو ما يُميت لا محالة ، أو
استنقذها من ضلالةٍ.
(فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا).
أي أجره على اللَّه أجرُ من أَحياهم أجمعين . وجائز أن يكون في
إِسدائه إِليهم المعروفَ بإحيائه أخاهم المْؤمِن بمنزلة من أحيا كلَّ واحد
منهم.
فإن قال قائل ، كيف يكون ثوابه ثوابَ من أحياهم جميعاً ؟
فالجواب في هذا كالجواب في قوله تعالى (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا)
فالتأْويل أن الثواب الذي إِذا جعل للحسنة كان غاية مَا يُتَمَنَّى يُعطَى العاملُ لها عشرةَ أمثَالِه.
* * *
وقوله : (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33)
موضع " أن " رفع المعنى : إِنما جزاؤهم القتل أَو الصلب أو القطع
للأيدي والأرجل من خلاف ، لأن القائل إِذا قال : إِنما جزاؤك دينار.
فالمعنى ما جزاؤُك إِلا دينار.
ْوقولُ العلماءِ إنَّ هذه الآية نزلت في الكفار خاصة.
وروي في التفسير أن أبا بَرْزَة الأسْلَمِي كان عاهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ألا يعرض لما يُريدُ النبي - صلى الله عليه وسلم -

(2/169)


بسوء ، وألا يمنع من ذلك ، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يمنع من يريد أبا بَرْزَةَ ، فمر قوم يريدون النبي بأبي بَرْزةَ ، فَعرَضَ أصحابه لهم فقتلوا وأخذوا المال فأنزل اللَّه تعالى على نبيه وأتاه جبريل فأعلمه أنَّّ اللَّه يأمره أن من أدركه منهم قَدْ قَتَلَ وأخذَ المالَ قَتَلَه وصَلَبه ، ومن قَتَل ولم يأخذ المال قَتَله ، ومن أخذ المال ولم يقتل قَطَع يدَة لأخذه المال وقطَع رجْلَه لِإخافة السبيل . . وقال بعضهم : المسلمون مخيرون في أمر المشركين ، إِن شاؤوا قتلوهم وصلبوهم أو قطعوا أيديَهم وأرجلَهم من خلاف.
ومعنى : (يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ) فيه قولان.
قال بعضهم من قتله فَدَمُه هَدَرٌ أي لا يطالب قاتله بدمه.
وقيل : (أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ) أن يُقَاتَلُوا حَيْث تَوجهوا منها ، لا يترَكوا فارِين . يقال نفيت الشيءَ أنفِيه نَفْياً ونفَايَةً والنُّفَايَة ما يطرح ويُنْفَى ، القليل.
مثل البراية والنُّحَّاتَة.
وقوله : (ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا).
يقال خَزِيِ الرجِل يَخْزَى خِزْياً إِذا افتضحَ وتَحيَّر فضِيحةً.
وقد خَزَى يَخْزِي خِزَاية ، إذَا استَحا كأنه يتحير أن يَفْعَلَ قبيحاً.
* * *
وقوله : (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)
جائز أن يكون موضع الذين رفعاً بالابتداءِ ، وخبره (فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
المعنى غفور رحيم لهم ، المعنى : لكن التائبون من قبل القدرة عليهم.
فاللَّه غفور رحيم لهم.
وجائز أن يكون (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ)

(2/170)


موضع " الذين " نصب ، فيكون المعنى جزاؤهم الذي وَصفَنَا إِلَّا التَائِبين.
ثم قال بعد : (أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)
واللَّه جلَّ وعزَّ ، جعل التوبةَ لك ، فادْرَأوا عنهم الحدود التي وجبت عليهم في كُفرهم ليكون ذلك أدعى إِلى الدخول في الِإسلام.
وجَعَل توبة المؤمنين من الزنا والقتل والسرقة لا ترفع عنهم إِقامة
الحدود عليهم ، وتدفع عنهم العذاب في الآخرة ، لأن في إِقامة الحدود
الصلاح للمؤمنين ، والحياةَ ، قال الله جل ثناؤه :
(وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ).
* * *
وقوله : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35)
معناه اطلبوا إِليهِ القُرْبةَ.
(وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).
أي لعلكم تظفرون بعَدُوكم ، والمُفْلح الفائز بما فيه غايةُ صلاح حاله.
* * *
وقوله : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)
اختلف النحويون في تفسير الرفع فيهما.
قال سيبويه وكثير من البصريين إِن هذا وقوله : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ).
وقوله : (وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا).
هذه الأشياء مرفوعة على معنى :
وفيما فَرض اللَّه عليكم السارقُ والسارقة ، والزانِيَةُ والزانِي ، أو السارق
والسارقة فيما فرض اللَّه عليكم.
ومعنى قولهمْ هذا : فيما فرض عليكم حكم السارق والسارقة.
وقال سيبويه : الاختيار في هذا النصبُ في العربيَّة.
كما تقول زيداً أضربْهُ ، وقال أبتِ العامَّةُ القراءَة إِلاَّ بالرَّفْع ، يعني بالعامة

(2/171)


الجماعةَ.
وقرأ عيسى ابن عمر : " وَالسَّارِقَ وَالسَّارِقَةَ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا ".
وكذلك الزانيةَ والزانيَ ، وهذه القِراءَةُ وإِن كان القارئ بها مقَدَّماً لا أحب أن يُقرأ بها ، لأن الجماعة أولى بالاتباع ، إذْ كانتِ القراءَة سنَة.
قال أبو إسحاق : ودلِيلِي أن القراءَةَ الجيدةَ بالرفع في . . والزَانيَةُ والزاني.
في ، (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) قوله جل ثناؤة : (واللذان يأتيانها منكم فآذوهما).
وقال غير سيبويه من البصريين . وهو محمد بن يزيد المبرد : اختَارُ أن
يكون (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) رفعاً بالابتداءَ ، لأن القصد ليس إِلى واحدٍ بعينه.
فليس هو مثل قولك زيداً فأضربه ، إِنما هو كقولك : من سرق فاقطع يده.
ومن زنى فاجْلِدْه ، وهذا القول هو المختارُ ، وهو مذهب بعض البصريين
والكوفيين.
وقيل " أَيْدِيَهُمَا " يعْني به أَيْمانهُما
. وفي قراءَة ابن مسعود "والسَّارقون والسارقاتُ فاقْطَعُوا أَيْمانَهُمْ ."
قال بعض النحويين : إِنما جعلت تثنية ما في الإِنسان منه واحد ؛ لأنَّ أكثر
أَعضائه فيه منه اثنان فحمل ما كان فيه الواحد على مثل ذلك.
قال لأن للِإنسان عينين فإِذا ثنيت قلت عيونهما فجعلت قلوبكما وظهورهما في القرآن ، وكذلك أيديهما ، وهذا خطأ ، إِنما ينبغي أن يُفصل بين ما في الشيء منه واحد ، وبين ما في الشيء منه اثنان .

(2/172)


وقال قوم : إنَّمَا فَعلْنا ذلِك للفصل بين ما في الشيء منه واحد وبين ما
في الشيءُ منه اثنان فجعل ما في الشيء منه واحد تثنيته جمعاً نحو قول الله
عزَّ وجلَّ : (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا).
قال أبو إسحاق : وحقيقة هذا الباب أن كل ما كان في الشيء منه واحد
لم يُثنَّ ، ولفِظَ به على لفظ الجمع ، لأن الِإضافة تُبينه ، فإِذا قُلْتَ أشْبَعت
بطونهما علم أن للاثنين بطنين فقط ، وأصل التثنية الجمعُ لأنك إِذا ثنيت
الواحدَ فقد جمعتَ واحداً إِلى واحِدٍ ، وكان الأصل أن يقال اثْنا رِجال ، ولكنْ " رجلان " يدل على جنس الشيء وعدده ، فالتثنية يحتاج إِليها للاختصار ، فإِذا لم يكن اختصار رُدَّ الشيءُ إِلى أصْله ، وأصلُهُ الجمع.
فإذا قلت قلوبهما فالتثنية في " هما " قد أغنتك عن تثنية قَلْب فصار الاختصار ههنا ترك تثنية قلب ، وإن ثني ما كان في الشيء منه واحد فذلك جائز عند النحويين.
قال الشاعر :
ظهراهما مثل ظهور الترسين.
فجاءَ بالتثنيةِ والجمع في بيت واحد.
وحكى سيبويه أنه قد يجمع المفرد والذي ليس من شيء إِذا أردت به التثنية.
وحُكِيَ عن العرب : " وَضَعَا رِحالهما " يريد رَحْلَيْ راحِلتِهما .

(2/173)


وأجمعت الفقهاء أن السارق يقطع حُرَّا كانَ أو عبداً ، وأن السارقة تقطع
حُرَّة كانت أو أمَة ، وأجمعوا أن القطع من الرسغ ، والرسغ المفصل بين الكف
والساعد ، ويقال رُسْغ ورُصْغ والشين أجود
(جَزَاءً بِمَا كَسَبَا).
(جَزَاءً) نصبٌ لأنه مفعول به.
المعنى فاقْطَعوا بجزاءِ فعلهم.
وكذلك (نَكَالًا مِنَ اللَّهِ) ، وإِنْ شئتَ كانا منصوبين على المصدر الذي دل عليه فاقطعوا ، لأن معنى فاقطعوا جازوهم وَنكِّلُوا بهم.
* * *
وقوله جلَّ وعز : (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41)
(يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ)
إِن شئت قلت يَحْزُنُك وَيحزَنْكَ بالفتح والضم.
أي لا يحزنك مُسَارَعَتهُمْ في الكفر إِذ كنت موعوداً بالنصر عليهم.
والله أعلم.
وقوله : (مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ).
أي لا تحزنك المسارعةُ في الكُفْر منَ المنَافِقين ومنَ الذِين هادُوا.
ثم قالَ : (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ).
هذا تمام الكلام ، ورفع (سَمَّاعُونَ) من جهتين :
إحداهما هم (سَمَّاعُونَ) للكذب أي منافقون ، واليهود سماعون للكذب.
و (سَمَّاعُونَ) ، فيه وجهان - واللَّه أعلم -
أحدهما أنَّهم مسمعُونَ لِلكَذِبِ ، أي قَابُلون للكَذب ، لأن الِإنسان يسمع
الحق والبَاطِلَ ، ولكن يقال : لا تسمع من فلان قوله أي لا تقبل قوله ، ومنه
" سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَه " ، أَي تَقَبَّل الله حمده ، فتأويله أنهم يَقْبَلُونَ الكذِبَ.
والوجه الآخر في (سَمَّاعُونَ) أَن معناه أنهم يسمعون منك لِيَكذِبُوا عليك.
وذلك أَنهم إِذا جالسوه تهيأَ أن يقولوا سَمِعْنَا مِنْهُ كَذَا ، وكَذَا .

(2/174)


(سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ).
أي هم مستمعون منك لقوم آخرين " لَمْ يأتُوك " أي هم عُيُون لأولئكَ
الغُيَّبِ ويجوز أن يكون رفع " سماعون " على معنى ومن الذين هادوا
سماعون فيكون الِإخبار أن السَّماعين مِنهم ، ويرتفع منهم كما تقول : في
قومك عقلاءُ.
هذا مذهب الأخفش ، وزعم سيبويه أن هذا يرتفع بالابتداء.
وقوله : (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ)
أي من بعد أن وضَعه
اللَّهُ موضِعَهُ أي فرض فروضَه ، وأحلَّ حلاله وحرًم حرامه
وقوله : (إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا).
(إِنْ أُوتِيتُمْ) هذا الحكمَ المحرَّفَ فخذوه.
(وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا) أي احذروا إِن أفتاكم النبي - صلى الله عليه وسلم - بغير ما حدَّدْنَا لكم ، فاحذروا أن تَعْمَلوا به.
وكان السبب في هذا فيما رُوِيَ أن الزنَا كثُر في أشراف إليهودِ وخَيْبر.
وكان في التوراة أَن على المحصنين الرجم فزنى رجُل وامْراة ، فطمعت إليهودُ
أن يكون نزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - الجلد في المحصنين ، وكانوا قد حَرَّفُوا وَصَارُوا يَجْلِدُون المحصنيْنِ وَيسُودُونَ وجُوهَهُمَا ، فأوحى الله جل ثناؤه أنَّهمْ يستفتونه في أمر هاتين المراتين ، وأعلَمَهُ أن اللَّه يأمرهم عن أعلَمِهِمْ بالتوراة ، فأعلموه إنَّه ليس بحَاضِرٍ ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - قَدْ علِمتُ ، وكان جبريل قد أعلمه مكانه فأمرهم أن يحضروه ، فأَحضروه ، وأَوحى اللَّه إِلى نبيهِ أن يستحلفهم

(2/175)


ليصْدُقُنَّه ، فلما حَضَر عالِمُهم قال له النبي : أسالك بالذي أنزل التوراة على
موسى ، ورفع فوقكم الطور ، وفلق لكم البحرَ ، هل في التوراة أن يُرجمَ
المحصنان إِذا زَنَيَا ؟
قال : نَعَمْ . فوثب عليه سفلة إليهود ، فقال خفتُ إِن كذبْته
أن ينزل بنا عذابٌ.
ويقال إن الذي سأله النبي - صلى الله عليه وسلم - ابنُ صُورِيَا إليهودي ، وكان حديث السِّن ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - أنت أعلم قومك بالتوراة ؟ قال : كذا يقولون.
وكان هو المخبر له بأن الرجم فيها ، وأنَّه ساءَل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أشياءَ كان يعرفها من أعلامه فلما أنبأه النبي - صلى الله عليه وسلم - بها قال أشهد أن لا إله إِلا اللَّه وأنك رسول الله الأمي العربى الذي بشَّر به المرسلُونَ.
وهذا الذي ذكرناه من أمر الزانيين مشهور في روايةِ المفسرينِ وهو يُبَينَ
قوله : (إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا).
والقائل يقول ما تفسير هذا ، فلذلك شرحناه ، وبالله الحول والقُوةُ.
وقوله : (وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ).
قيل فضيحته وقيل أيضاً كفره ، ويجوز أن يكون اختباره بما يظْهر به
أمره ، يقال فتنت الحديد إِذا أَحْمِيتُه ، وفتنت الرجل إِذا أزلته عما كان عليه ، ومنه قوله : (وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ) أي وإن كادوا
لَيُزِيلُونَكَ.
وقوله : (أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ).
أي أن يُهينَهمُ.
(لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ).

(2/176)


قيل لهم في الدنيا فضيحة بما أظهر الله من كذبِهِمْ ، وقيل لهم في
الدنيا خزي بأخذ الجزية منهم ، وضرب الذَلةِ والمسكَنة عَلَيْهم ، ثم عاد
عزَّ وجل في وصفهم فقال :
(سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42)
(سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ)
ويقرأ (لِلسُّحُتِ) جميعاً ، تأويله أن الرشَا التي يأكلونها يعاقبهم الله بها أن
يُسْحِتَهمْ بعذَابِ ، كما قال جل وعز : (لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ).
ومثل هذا قوله : (إنما يأكلون في بطونهم ناراً). أي يأكلون ما عاقبته
النار ، يقال سَحَته وأسْحَتَه إِذا استأصله ، وقال بعضهم سَحَتَه : اذْهَبَه قليلاً قليلاً إِلى أن استأْصله ومثل أسحته قول الفرزدق.
وعَضّ زمانٍ يا ابنَ مَرْوانَ لم يَدَعْ . . . من المالِ إِلاَّ مُسْحَتاً أَو مُجَلَّفُ
ويجوز أن يكون سحتَه وأسْحتَهُ إِذا استأصله ، كان ذلك شيئاً بعد شيء.
أَو كان دفعة واحدةً.
وقوله (فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ).
أجمعت العلماء على أن هذه الآية تدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مُخَيَّر بها في الحكم بين أهل الذَمَّةِ.
وقيل في بعض الأقاويل : إِن التخيير نسخ بقوله :
(وأن احكم بينهم بما أنزل الله).
وقوله : (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ). أي العَدْل .

(2/177)


وقوله : (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)
أي فيها نور أي بيان أن أمْر رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حق ، وفيها بيان الحكم الذي جاءوا يستفتون فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ويجوز أن يكون المعنى على التقديم والتأخير ، على معنى : إنا
أنزلنا التوراة فيها هدى ونور للذين هادوا ، يحكم بها النبيون الذين أسلموا
والربانِيون ، ويجوز أن يكون " يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا.
أي يحكم النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما سألوهُ بما في التَوْراة.
ويجوز أن يكون للذين هادوا للذين تابوا ، أي النبيون والربانيون هم العلماءُ والأحبار وهم العلماءُ الخُيارُ يحكمُون للتائبين مِن الكفر.
(بما استُحْفِظُوا مِنْ كتَابِ اللَّهِ).
أي استُوعُوا.
وقوله : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)
أي من زعم أن حكماً من أحكام اللَّه التي أتَتْ بها الأنبياءُ عليهم
السلام باطل فهو كافر ، أجمعت الفقهاءَ أن من قال إِن المحصَنَين لا يجب أن
يرجما إذا زنيا وكانا حُرَّين - كافِرٌ ، وإنما كفر من رد حكماً من أَحكام النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه مكذِبٌ له ، ومن كذب النبي فهو كافر.
* * *
وقوله : (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)
أي في التوراةِ.
(أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ).
وروي أن النبي قرأ والعَينُ بالعَيْنِ والقراءة والعَيْنَ بالعَيْن
(وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ).

(2/178)


بالرفع والنصب جميعاً لا اختلاف بين أهل العربية في ذلك ، فَمَنْ قرأ
العَيْنَ بالعيْنِ أراد أن العيْنَ بالعَيْنِ ، ومن قرأ ، والعَيْنُ بالعين فَرفْعُهُ على
وجهين ، على العطف على موضع النفس بالنفس والعاملِ فيها.
المعنى وكتبنا عليهم النفسُ بالنَفِس ، أي قلنا لهم النفس بالنفس ، ويجوز كسر إن ، ولا أعلم أحداً قرأ بها فلا تقرأنَّ بها إِلا أن تثبت رواية صحيحة.
ويجوز أن تكون العينُ بالعَيْن ، ورفعُه على الاستئناف.
وفيها وجه آخر ، يجوز أن يكون عطفاً على المضمر في النفس ، لأن المضمر في النفس في موضع رفع.
المعنى أن النفس مأخوذة هي بالنفس ، والعَيْنُ معطوفة على هي.
وقوله : (فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ)
قال بعضهم من تصدق به أي بحقه فهو كفارة للجارحِ إذا ترك
المجروحُ حقَهُ ، رفع القصاص عن الجارح.
وقال بعضهم هو كفارة للمجروح
أي يكفر الله عنه بعفوه ما سلف من ذنوبه.
* * *
وقوله : (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)
(وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ)
رواها بعضهم ومهيمَناً - بفتح الميم الثانية - وهي عربية ولا أحب القراءَة
بها ، لأن الِإجماع في القراءَة على كسر الميم في قوله : (المؤمن المهيمِنُ).
واختلف الناس في تفسير قوله : (المؤمنُ المُهَيْمِنُ) ، واختلف الناس في
تفسير قوله : (وَمُهَيْمِناً عَلَيْه)
فقال بعضهم : معناه وشاهداً عليه ، وقال بعضهم رقيباً عليه ، وقال

(2/179)


بعضهم معناه مُؤتَمَناً عليه . وقال بعضهم : المهيمنُ اسم من أسماءِ الله في
الكتب القديمة ، وقال بعضهم : مُهيمِن في معنى مؤتمن إلا أن الهاءَ بدل من
الهمزة ، والأصْلُ مؤتمناً عليه كما قالوا : هَرَقْتُ الماءَ ، وأرقت الماءَ ، وكما
قالوا : إِياك وهياك ، وهذا قول أبي العباس محمد بن يزيد ، وهو على مذهب
العربية حَسَن ومُوافِق لِبعْضِ ما جاءَ في التفسير ، لأن معناه مؤتمن.
وقوله : (ولْيَحْكُمْ أهْلُ الإنْجِيلِ).
قرئت بإسكان اللام وجزم الميم على مذهب الأمر ، وقرئت ولِيَحْكمَ
بكسر اللام وفتح الميم على معنى ولأن يحكمَ ويجوز كسر اللام مع الجزم
وَلِيَحكُمْ أهل الإنجيل ، ولكنه لم يقرأ به فيما علمتُ ، والأصل كان كسر
اللام ، ولكن الكَسرَةَ حُذِفَت استثقالَاَ . والِإنجيل القراءَة فيه بكسر الهمزة.
ورويت عن الحسن الأنجيل بفتح الهمزة ، وهذه قولةٌ ضعيفة ، لأن أنجيل
أفعيل ، وليس في كلام العرب هذا المثال ، وإِنجيل إِفعِيلُ من النجل وهو
الأصل ، وللقائل أن يقول إِن إنجيل اسم أعجَمي فلا يُنْكَرُ أن يقع بفتح الهمزة
لأن كثيراً من الأسماء الأعجمية تخالف أمثلة العرب نحو آجرّ وإِبرَاهيم وهَابيل
وقابيل ، فلا ينكر أن يجيء إنجيل وإِنما كُرِهَتِ القراءَة بها لأن إِسنادها عن
الحسن لا أدري هل هو من ناحية يوثق بها أم لا.
* * *
وقوله : (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)
أي تطلب إليهود في حكم الزانيين حكماً لم يأَمر الله به وهو أهل
الكتاب كما تفعل الجاهلية.
وقوله : (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) .

(2/180)


أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)
أي من أيْقَنَ تبيَّن عدلَ اللَّهِ وحكمَهُ.
و (حُكْمًا) منصوب على التفسير.
* * *
وقوله : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51)
(وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ).
أي من عاضدهم على المسلمين فإنه من عاضدَه.
* * *
وقوله : (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52)
والمرض ههنا النفاق في الدِّين ، ومعنى يسارعون فيهم ، أي في
معاونتهم على المسلمين.
(يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ).
أي نخشى ألَّا يتم الأمر للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، ومعنى دائرة أي يدور الأمر عن حاله التي يكون عليها.
وقوله : (فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ).
أي فعسى اللَّه أن يُظْهِر الْمسلِمين.
و " عَسَى " من الله جلَّ وعزَّ واجبة.
وقوله عزَّ وجلَّ : (أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ) ، أي أو أن يؤمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بإظهار أمر المنافعين بقتلهم.
(فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ).
* * *
وقوله : (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53)
أي يقول المؤمنون الذين باطنهم وظاهرهم واحد : هُؤلاءِ الذين حَلَفوا
وأكَدوا أيمَانَهم أنهم مْؤمِنُونَ وأنهم معكم أعوانكم على من خالفكم.
(حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ).

(2/181)


أي ذَهَب مَا أظْهروهُ مِنَ الإيمان ، وبطل كل خيرٍ عَمِلُوه بكفرهم وصَدهِم.
عن سبيل اللَّه كما قال : (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ).
المعنى ويقول الذين آمنوا في ذلك الوقت ، أي في وقتٍ يظهر اللَّه
نفاقهم فيه.
* * *
وقوله : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54)
فيها من العربية ثلاثة أوجه ، مَنْ يَرتدِدْ ، ومن يَرْتَد بفتح الدال وَمَنْ يَرْتَد
مِنْكُم ، بكسر الدال . ولا يجوز في القراءَة الكسر لأنه لم يُرْوَ أنه قرئ به.
وأمَّا (مَنْ يَرتدِدْ) فهو الأصل ، لأن التضعيف إِذا سَكَنَ الثانِي من المضَعَفَيْنِ
ظَهرَ التضعيف ، نحو قوله : (إِنْ يمسَسكُم قرحٌ) ولو قرئت إن يمسكم
قرح كان صواباً ، ولكن لا تَقْرَأن بِهِ لمخالفتِه المصحفَ ، ولأن القراءَة سُنَّة.
وقد ثبت عن نافع وأهل الشام يرتدِدْ بدالَيْنِ ، وموضع يرتد جزم ، والأصل كما قُلْنَا يرتدد ، وأدغمت الدال الأولى في الثانية ، وحركت الثانية بالفتح لالتقاءِ السَّاكنين ، قال أبو عبيدٍ : إنهم كَرِهوا اجتماعَ حَرْفَيْن متحركين وأحسبه غلِطَ ، لأن اجتماع حرفين متحركين من جنس واحد أكثر في الكلام من أنْ يحصَى نحو شَرَرٍ وَمَددٍ ، وَقِدَدٍ ، وخدَدٍ ، والكسر في قوله من يرتَد يجوز لالتقاءِ السَّاكنين لأنه أصل.
والفاءُ جواب للجزاءَ ، أي إِن ارتد أحدٌ عن دينه ، أي الذي هو الِإيمان .

(2/182)


(فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ).
أي بقوم مؤمنين غير منافقين.
(أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ).
أي جانبهم ليِّنٌ على المؤمنين ، ليس أنهم أذلاء مهَانون.
(أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ).
أي جانبهم غليظ على الكافرين.
وقوله : (يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ).
لأن المنافقين كانوا يراقبون الكفارَ ويظَاهِرونَهم ، ويخَافونَ لَوْمَهُم.
فأعلم اللَّه عزَّ وجلَّ أن الصحيحَ الإيمانِ لا يخاف في نصرة الدين بِيدِه ولا
لِسَانِه لَوْمَةَ لَائِم.
ثم أعلم الله عزَّ وجلَّ أن ذلك لا يكون إلا بتسديده
وتوفيقه فقال عزَّ وجلَّ : (ذَلِكَ فَضلُ اللَّهِ يؤتيهِ مَنْ يَشَاءُ).
أي محبتهم لِلَّهِ ولين جانبهم للمسلمين ، وشدتهم على الكافرين فضل
من اللَّه عزَّ وجلَّ عليهم ، لا توفيق لهم إِلا به عزَّ وجلَّ.
* * *
وقوله : (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55)
بيَّن من هم المؤمنون فقال : (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ).
وإِقامتها تمامها بجميع فَرْضِها ، وأولُ فروضها صحة الِإيمان بِها وهذا
كقولك : فلان قائم بِعِلْمِه الذِي وَليَه ، تأويله إنَّه يوَفَي العَمَلَ حقوقه ، ومعنى

(2/183)


" يُقِيمُونَ " من قولك هذا قِوام الأمر ، فأما قوله : (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ). فمخفوض على نعتِ قوم ، وإن شئت كانت نصباً على وجهين أحدهما الحال ، على معنى يحبهم ويحبونة في حال تذللهم على المؤمنين وتعززِهِم عَلى الكافرين ، ويجوز أن يكون نصباً على المدح.
* * *
فأما قوله عزَّ وجلَّ : (وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ).
أي قفينا على آثَارِ الرسل بعيسَى أي جعلناه يقفوهم.
وقوله : (مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ).
أي لما تَقَدًم من التوراة ، ونصب " مُصَدِّقًا " على الحال وهو جائز أن
يكون من صفَةِ الِإنجيل فهو منصوب بقوله : " آتيناه "
المعنى . آتيناه الإنجيل مُستقِراً فيه هدًى ونورٌ ومصدقاً.
ويجُوزُ أن يكونَ حالًا من عيسى.
المعنى وآتيناه الإنجيل هَادِياً ومُصَدِّقًا ، لأنَّهُ إِذا قيل آتيناه الِإنجيل فيه هدى ، فالذي أتى بالهدى هو هادٍ والأحسَنُ أنْ يكونَ على معنى وقَفَيْنَا بِعِيسَى آتِياً بالِإنْجيل وهادياً ومصدقاً لما بين يديه من التوراة ، والدليل على أنه من صفة عيسى قوله : (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ).
* * *
وقوله : (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا).
قال بعضهم : الشَرعَةُ الدينُ والمنهاج الطريق ، وقيل : الشرعة والمنهاج
جميعاً الطريق ، والطريق ههنا الدين ، ولكن اللفظ إِذا اختلف أتِي مِنْهُ بألفاظ
تُؤَكدُ بِها القصة والأمر
نحو قول الشاعر :

(2/184)


حُيِّيتَ مِن طللٍ تقادم عهدُه . . . أقوى وأقفر بَعْدَ أمِّ الْهَيْثَم
فإِن معنى أقوى وأقفر يدل على الْخَلْوَةِ ، إِلا أن اللفظين أوكد في الخُلوِّ
من لفط واحد.
وقال أبو العباس محمد بن يزيد : (شرعة) معناها ابتداءُ الطريق.
والمنهاج الطريق المستَمِر ، قال : وهذه الألفاظ إِذا تكررت في مثل هذا
فللزيادة في الفائدة ، قال وكذلك قول الحطيئة :
ألا حَبَذَا هِنْدٌ وَأرْضٌ بها هندُ . . . وَهِنْدُ أتى مِنْ دونها النَّأْيُ والبُعْدُ
قال : النَّأْيُ لكل ما قل بعده منك أوْ كثرَ ، كأنَّه يقول :
النأي المفارقة قلَّت أو كثرتْ ، والبُعْدُ إِنَّمَا يسْتَعْمَلُ في الشيءِ البعيد
ومعنى البعيدِ عندَه ما كَثرتْ مسافةُ مُفَارقَتِه ، وكانَّهُ يقُول لِمَا قرب منه هو ناءٍ عني ، وكذلك لما بعُدَ عنه ، والنأْي عنده المفارقة.
* * *
وقوله : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57)
هُزءَاً فيه لغات ، إِن شئت قلت هُزُؤا بضم الزاي وتحقيق الهمزة ، وهو
الأصل والأجْودُ ، وإِن شئت قلت هُزُواً وَأبدَلتَ من الهمزة واواً ، لانضمام ما قبلها وأنها مفتوحة ، وإِنْ شئتَ قلت : هُزْءاً بإسكان الزاي وتحقيقِ الهمزة.
فهذه الأوجه الثلاثةُ جَيدَة يُقْرأ بِهِنَّ.
وفيها وجه آخر . ولا تجوز القراءَة به لأنه لم يقرأ به ، وهو أن يقول هُزَاً مثل هُدًى وذلك يجوز إِذا أردت تخفيفَ همزة

(2/185)


هُزءٍ فيمن أسكن الزاي أن يقول هُزَاً . تطرح حركتها على الزاي كما تقول
رَأيْتَ خَباً تُريدُ خَبْئاً.
* * *
وقوله : (مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ).
النصب فيه على العطف على قوله : (لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا) أي ، ولَا تَتخِذُوا الكُفَّار أوْلياءَ ، ويجوز والكفارِ أولياءَ على العطف
على الَّذِينَ أوتوا الكتاب ، المعنى من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وَمِن الكفارِ أولياءَ.
* * *
وقوله : (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59)
يقال : نقَمْتُ على الرجُلِ أنقِمُ ، ونقِمْتُ عليه أنقَم.
والأجْودُ نقَمْتُ أنقِمُ ، وكذلك الأكثر في القراءَة : (وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ).
وأنشد بيت ابن قيس الرقيات.
مَا نَقِمُوا مِنْ أُميَّة إِلَّا . . . أنهمْ يحْلُمُون إِن غَضِبُوا
بالفتح والكسر ، نقَمُوا ونقِمُوا ، ومعنى نقمت بالغت في كراهة الشَيءِ.
وقوله : (وأنَّ أكْثَرَكُمْ فَاسِقونَ).
المعنى : هل تكرهون منا إِلا إِيماننا وفِسْقَكُمْ ، أي إِنما كرهتم إِيماننا

(2/186)


وأنتم تعلمون أنا على حق لأنكم فَسَقْتُمْ ، بأن أقمتم على دينكم لمحبتكم
الرياسة ، وكسبكم بها الأموالَ.
فإِن قال قائل : وكيف يعلم عالِمٌ أن دِيناً من الأدْيانِ حق فيْؤثر الباطِل على الْحق ؟
فالجواب في هذا أن أكثر ما نشاهده كذلك . مِنْ ذلِكَ أنَّ الإنسانَ يعْلَمُ أن الْقَتْل يُورِدُ النار فَيقْتُلُ ، إِما إِيثَاراً لِشِفَاءِ غيظه أو لأخْذِ مال.
ومنها أنَّ إِبْلِيسَ قَدْ علِم أنَّ الله يُدْخِلُه النَّارُ بِمعْصِيتِهِ فآثر
هواه على قُرْبه من اللَّه ، وعمِل على دُخول النارِ وهذا بابٌ بينٌ.
* * *
وقوله : (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60)
أي : بِشَرٍّ مما نَقَمْتُمْ مِن إِيماننا ثواباً ، و " مَثُوبَةً" منصوب على التمييز.
وقوله : (مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ).
وضع " منْ " إِن شئت كان رفعاً ، وإِن شئت كان جراً فأما من جر فيجعله
بدلًا مِنْ شَر . المعنى أؤنبئُكُمْ بمن لعنه اللَّه ، ومَن رفع فبإِضمار هو ، كأن
قائلًا قال : منْ ذلك ؟ فقيل هو من لعنه اللَّه ، كما قال جلَّ ثناؤه :
(قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ) كأنه فال : هي النار.
وقوله : (وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ).
الطاغُوتُ هو الشيطان ، وتأويل وَعَبَدَ الطاغوتَ : أطاعه فيما سَوَّلَ لَه
وأغراهُ به ، وقَدْ قُرئَتْ : (وعَبْدَ الطَاغوتِ).
والذي أختارُ (وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ)
وروي عن ابن مسعودٍ وعَبَدوا الطَاغوتَ ، وهذا يقوي (وَعَبَدَ الطَاغُوتَ) ، ومن قال وعَبُدَ الطاغوتِ . فَضم الباءَ وجَر الطاغوت ، فإِنه عند بعض أهل
العربيةِ ليس بالوجه من جهتين إِحداهما ، أن عَبُد على فَعُلٍ ، وليس هذا

(2/187)


من أمثلة الجمع ، لأنهم فسروه خَدَمُ الطاغوتِ والثاني أن يكونَ محمولاً
على وجعل منهم عَبُدَ الطاغوتِ . فأما من قرأ " وَعُبُدَ الطاغُوتِ " فهو جمع
عبيد وَعُبُد ، مثلُ رغِيفٍ ورغُفُ وسَرِيرٍ وسُررٍ ، ويكون على معنى وجعل منهم عُبُدَ الطاغوتِ على جعلت زيداً أخاك ، أي نَسَبْتُه إِليكَ ، ووجه وعَبُد
الطاغوت - بفتح العين وضم الباء - أن الاسم يبنى على فَعُل كما قالوا
عَلُمٌ زيد . وكما أقول رَجُل حَذُر ، تأويل حَذرٍ أنَّه مبالغ في الحَذَرِ ، فتأويل عَبُد أنهُ بلغ الغاية في طاعة الشيطان ، وكان اللفظَ لفظُ واحدٍ يَدُل على الجمع.
كما تقول للقوم : منكم عَبُدُ العصا ، تريد منكم عَبِيدُ العَصَا.
ويجوز بعد هذه الثَلَاثَةِ الأوْجُهِ الرفعُ في قوله وعَبُدَ الطاغوتِ ، فيقول وعَبُدُ الطاغوتِ ، وكذلك وعُبُدُ الطَاغُوتِ بالرفع ، ولا تقرأن بِهذين الوجهين وإِن كانا جائزين ، لأن القراءَة لا تبتدع على وجه يجوز ، وإِنما سبيل القراءَة اتباع مَنْ تَقَدَّم ، فيجوز رفع ، وعَبُدُ الطَاغُوتِ ، وعُبُدْ الطاغوت ، على معنى الذًمً ، والمعنى وهم عُبُد الطاغوت ، كأنَّه لما قال : (مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وغَضِبَ عَلَيهِ وجَعَلَ مِنْهمُ القِرَدَةَ والخنازيرَ) ، دَل الكلامُ على اتبَاعِهم الشَيَاطينَ ، فقيل وهم عُبُدُ الطاغوتِ.
ويجوز أن يكون بدلًا من " مَنْ " في رَفع " مَنْ " كَأنه لما قِيل منهم من
لعَنَهُ اللَّه ، وغضِبَ عليه ، قيلَ هم عَبُدُ الطاغوت وعُبُدُ الطاغُوتِ ، ويجوز في
الكلام أيضاً ، وعَبْدَ الطاغوت - بإسكان الباء - وفتح الدال.
ويكون على وجهين ، أحدهما أن يكونَ مخفَفاً من عَبُد -
كما يُقَال في عَضدٍ عَضْد.
وجائز أن يكون " عَبْد " اسْماً واحداً يدل على الجنس ، وكذلك يجوز في عبد الرفع

(2/188)


والنصب من جهتين كما وصفنا في عبد ، ويجوز أن يكون النصبُ من جهتين : إِحداهما على وجعل منهم عَبْدَ الطاغوتِ ويجوز أن يكون منصوباً عاد الذم ، على أعني عبدَ الطاغوت ، . ويجوز في وعَبْد وعَبُد وعُبُد الجر على البَدَل من " من " ويكون المعنى : هل أُنَبِّئُكُمْ بمَنْ لعنه الله وعَبدِ الطاغوت.
ولا يجوز القراءَة بشيء من هذه الأوجه إِلا بالثلاثة التي رُوَيتْ وقرأ بها القراء وهي عَبَدَ الطَاغُوتَ . وهي أجودها ، ثم وعَبُدَ الطاغُوتِ ثم وعُبُدَ الطاغوتِ.
وقوله : (أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ).
أي هُؤلاءِ الذين هذه صَفْتهم (شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ).
أي عن قصد السبيل ، و " مكاناً " منصوب على التفسير.
* * *
وقوله : (لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63)
وهم علَماؤهم ورؤساؤهم.
والحَبْر " العالِمُ ، والحِبْرُ المِدَادُ بالكسرِ ، فأعلم اللَّه أن رؤساءَهم وسِفْلتَهمْ
مُشْترِكون في الكفر.
ومعنى : (لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ) : هلَّا ينهاهم ، ثم أخبَرَ عَزَّ وجلَّ بعظيم
فِريتهم فقال :
(وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)
أَي : قالوا يده مُمْسِكة عن الاتساع علينَا . كما قال الله جَلَّ وعزَّ
(وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ) تَأويله لا تمسِكها عنِ الِإنفاق
قال بعضهم : معنى (يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ) نعْمَتُه مقبوضة عَنَّا ، وهذا القول خطأ ينقضُه : (بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ).
فيكون المعنى : بلْ نِعْمَتَاهُ مبسُوطتانِ ، نِعَمُ اللَّهِ أكثرُ مِن أن تُحصى .

(2/189)


وقال بعضهم : وقالوا يَدُ اللَّهِ مغْلُولة عَنْ أعدائنا ، أي لا يُعذَبُنا.
وقال بعض اهل اللغة إنَّما أجِيبُوا على قَدْرِ كَلَامِهِمْ . كما قالُوا يدُ الله مغْلُولة ، يريدون به تبخيل اللَّه.
فقيل : (بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ). أي هو جَوَاد (يُنْفِق كَيْفَ يشَاءُ) ومعنى (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ) أي جُعِلُوا بُخَلَاءَ . فهُم أبخَلُ قَوْم
وَقيلَ (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ) أي غُلتْ فِي نَارِ
جُهَنم.
وقوله : (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا).
أي كلما نزل عليك شيء من القرآن كفروا به فيزِيدُ كفرهم والطغيان
الغُلو والكفر هَهُنَاكَ.
وقوله : (وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) جعلهم اللَّه
مختلفين في دينهم متباغضين ، كما قال : (تحسَبُهم جميعاً وقُلُوبُهُمْ شتَّى)
فألقى اللَّهُ بينهم العداوة ، وهي أحدُ الأسباب التي أذهب اللّه بها جَدَّهم
وشَوْكَتَهُمْ.
وقوله : (كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ).
هذا مثل أي كلما جمعوا على النبي والمسلمين وأعدوا لحِربِهم فرق
اللَّه جمعهم وأفْسد ذات بينِهمْ.
وقوله : (وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا).

(2/190)


اي يجتهدون في دفع الِإسلام ومحو ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - من كُتُبِهِمْ.
* * *
وقوله : (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)
أي لَوْعَمِلُوا بِمَا فِيهِمَا ، ولم يكتُمُوا ما علموا من ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيهمَا.
(وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ).
وهو - واللَّه اعلَم - القرآن . أي لو عَمِلُوا بما في هذه الكتب من ذكر
النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأظهروا أمره.
(لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ).
قيل إِنه كان أصابهم جَدْبٌ ، فأعلمَ اللَّهُ أنَّهم لو اتَقوا لأوسع عليهم في
رِزقِهِمْ ، ودَلَّ بهذا على ما أصابَهُم من الجدب فيما عاقبَهمْ بِه.
ومعنى (لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ).
أي لأكلوا من قطر السماءِ.
(وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ).
مِن نَبَات الأرضِ . وقيل قد يكون هذا من جهة التوسِعَةِ كما تقول فلان
في خير من قرنِه إِلى قدمِه ، وقد أعلم الله جل وعَزَّ أن التُّقى سعة في
الرزق فقال : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا).
وقال : (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) وقال في قصة نوح : (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ) وهي البساتين . فوعدهم الله أتم الغنى على الِإيمان
والاستغفار.
وقوله : (مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ).

(2/191)


أي من أهل الكتاب ، قال بعضهم يعنى بهذا مَنْ آمَن مِنْهُمْ وقيل يعنى
به طائفة لم تُناصِب النبى - صلى الله عليه وسلم - مناصبة هؤلاءِ ، والذي أظُنُّه - واللَّه أعلم - أنَّه لا يسمي اللَّه من كان على شيءٍ من الكفر مُقْتصِداً.
(وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ).
المعنى بئس شيئاً عَمَلُهم.
* * *
وقوله : (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)
وتقرأ رسالاته . والمعنى بلغ جميع ما أنزل إِليْكَ مِنْ رَبك ، وإِن تركت
منه شيئاً فما بلغتَ ، أي لا تراقبن أحداً ولا تتركن شيئاً من ذلك خوفاً مِنْ أن
ينالك مكروه.
(وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ).
أي يحُول بَيْنَهُمْ وبيَن أن ينَالكَ منهم مَكْروهٌ ، فَأَعْلَمَه الله جلَّ وعزَّ أنه
يَسْلَمْ مِنهمْ.
وفي هذا آية للنبي - صلى الله عليه وسلم - بَيِّنَة.
* * *
قوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)
اختلف أهل العربية في تفسير رفع الصابئين ، فَقَالَ بعضهم نَصْبُ " إِنَّ "
ضَعُفَ فنسقَ بـ (الصَّابِئُونَ) على " الَّذِينَ " لأَن الأصل فيهم الرفع.
وهو قول الكسائي ، وقال الفراءُ مثل ذلك إِلا أَنه ذكر أَن هذا يجوز في النسق على مثل " الذين " وعلى المضمر ، يجوز إِني وزيد قائمان ، وأنه لا يجيز إِنَّ زيداً وعمرو قائمان.
وهذا التفسير إِقدام عظيم على كتاب اللَّه وذلك أَنهم زعموا أن نَصْبَ

(2/192)


" إِنَّ " ضعيف لأنها إِنما تغيِّرُ الاسم ولا تغير الخبرَ ، وهذا غلط لأن " إنَّ " عملت عَملَيْن النَصْبَ ، والرفع ، ولَيْسَ في العربية ناصب ليس معه مرفُوع لأن كل منصوب مشبه بالمفعول ، والمفعول لا يكون بغير فاعل إِلا فيما لم يسم فاعله ، وكيف يكون نصب " إِنَّ " ضعيفاً وهي تتخطى الظروف فتنصب ما بعدها.
نحو قوله : " (إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ) ونَصْبً إِنَّ مِنْ أقْوَى
المنْصوبَاتِ.
وقال سيبويه والخليلً ، وجميع البصريين إِن قوله : (وَالصَّابِئُونَ) محمول.
على التأخير ، ومرفوع بالابتداءِ . المعنى إِن الذين آمنوا والذين هادوا مَنْ آمن باللَّهِ واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوف عليهم ، والصابئون والنصارى كذلك أَيْضاً ، أي من آمن باللَّه واليوم الآخر فلا خوف عليهم ، وأنشدوا في ذلك قول الشاعر :
وإلا فاعلموا أنَّا وأنتم . . . بغاة ما بقينا في شقاق
المعنى وإِلا فاعلموا أنَّا بغَاة ما بقينا في شقاق ، وأنتم أيضاً كذلك.
وزعم سيبويه أن قوماً من العرب يغْلِطونَ فيقولون إِنهم أجمعونَ
ذاهبون ، وإِنك وزيد ذاهبان . فجعل سيبويه هذا غلطاً وجعله كقول
الشاعر :

(2/193)


بدا لي أنى لسْتُ مدرِك مَا مَضى . . . ولا سَابِقٌ شيئاً إِذا كان جائياً
فأما (مَن آمَنَ بِاللَّهِ) وقد ذكر الذين آمنوا ، فإنما يعني الذين آمنوا هَهنا
المنافقين الذين أظهروا الِإيمان بألْسنتهم ، ودل على أن المعنى هنا مَا تقدَّم
من قوله : (لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ).
ومعنى الصابئ الخارج عن جملة الأدْيان لأنهم لا يدينون بالكتُب.
والعرب تقول قد صبأ نَابُ البعير ، وصبأ سِنُّ الصَّبِيِّ إِذا خرج.
فأمَّا قولهم ضبأت بالضادِ المعجمة فمعناه اختبأت في الأرض.
ومنه اشتُق اسم ضابئ.
وقال الكسائي ، الصابئون نسق على ما في هادوا ، كأنه قال هادوا هم
والصابئون . وهذا القول خطأ من جهتين ، إِحداهما أن الصابى يشارك إليهودِي في إليهودية وَإِن ذَكَرَ أن هادوا في معنى تابوا فهذا خطأٌ في هذا الموضع أيضاً لأن معنى الذين آمنوا ههنا إِنما هو إِيمان بأفواههم ، لأنه يُعْنَى بِه المنَافِقُونَ ، ألا ترى اأه قال من آمَنَ باللَّه ، فلو كانوا مؤمنين لم يحتج أن يقال إِنْ آمنوا فلهم أجرهم.
وقوله : (لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70)
المعنى كلًمَا جَاءَهُم رسُولٌ كذبوا فريقاً وقَتَلوا فريقاً.
أمَّا التَكْذيبُ فاليهودُ والنصارى مشتركة فيه ، وأمَّا القتل فكانَتْ إليهود خاصَّة - دون

(2/194)


النَّصَارى - يَقْتُلون الأنبياءَ ، وكانت الرسل على ضربين ، رسل تأتي بالشرائع والكتب نحو موسى وعيسى وإبراهيم ومحمد - صلى الله عليهم وسلم - ، فهؤُلاءْ معصومون من الخلق ، لم يوصل إِلى قتل واحدٍ منهم ، ورُسُل تأتي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والحث على التمسك بالدين نحو يحيى وزكريا - صلى الله عليهما وسلم.
* * *
وقوله : (وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71)
تقرأ (أَلَّا تَكُونَ) بالنصْب ، و (أَلَّا تَكُونُ) بالرفْع.
فمن قرأ بالرفع فالمعنى أنه لا تكون فتنة ، أي حسبوا فعلهم غير فَاتنٍ لهم وذلك أنهم كانوا يقولون إِنهم أبناءُ اللَّه وأحباؤه.
(فَعَمُوا وَصَمُّوا).
هَذا مثل ، تأويله أنهم لم يعملوا بما سمعوا ولا بما رَأوْا من الآيات.
فصاروا كالعُمْى الصُّمِّ.
(ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ).
أي أرسل إِليهم محمداً - صلى الله عليه وسلم - يعلمهم أن اللَّه جلَّ وعزَّ
قد تاب عليهم إِن آمنوا وصَدَّقوا ، فلِم يُؤمنوا أكثرهم ، فقال عزَّ وجلَّ : (ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ).
أي بعد أن ازداد لهم الأمر وضوحاً بالنبي عليه السلام . كثير منهم يرتفع
من ثلاثة أوجه ، أحدها أن تكون بدلًا من الواو ، كأنه لما قال
(عَمُوا وَصَمُّوا) أبدل الكثير منهم ، أي عمي وصم كثير منهم كما تقول : جاءَني قومُك أكثرهُمْ ، وجائز أن يكون جُمعَ الفعلُ مُقَدَّماً كما حكى أَهل اللغة أكلوني

(2/195)


البراغيث ، والوجه أن يكون كثير منهم خبر ابتداءٍ محذوف ، المعنى ذوو
العمى والصمم كثير مِنهم.
* * *
وقوله : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73)
معناه أنهم قالوا الله أحد ثلاثة آلهة ، أو وَاحِد من ثلاثة آلهة ، ولا يجوز
في ثلاثة إِلا الجر ، لأن المعنى أحد ثلاثة ، فإن قلت زيد ثالث اثنين أو رابع
ثلاثة جاز الجر والنَّصْبُ ، فأما النصب فعلى قولك كان القوم ثلاثة فَرَبَعَهُم.
وأنا رابعهم غداً ، أو رابع الثلاثة غداً ، ومن جر فعلى حذف التنوين ، كما
قال عزَّ وجلَّ : (هَدْيَاً بالغَ الكَعْبَة).
وقوله : (ومَا مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ).
دخلت " من " مَؤكدة ، والمعنى ما إِله إِلا إِله واحد.
وقوله : (وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).
معنى الذين كفروا منهم . الذين أقاموا على هذا الدين وهذا القول.
* * *
وقوله : (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75)
أي إِبراؤُه الأكمه والأبرص وإتيانه بالآيات المعجزات ليس بأنه إِله ، إِنما
أتى بالآيات كما أتى موسى بالآيات ، وكما أتى إِبراهيم بالآيات.
(وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ).
أي مبالغة في الصدق والتصديق ، وإِنما وقع عليها صِدِّيقَةٌ لأنه أرسل
إِليها جبريل ، فقال الله عزَّ وجلَّ : (وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ) ،

(2/196)


وصِدِّيق فِعيلٌ من أبنية المبالغة كما تقول فلان سِكيت أي مبالغ في السكوت.
وقوله : (كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ).
هذا احتجاج بين ، أي إِنما يعيشان بالغذاءِ كما يعيش سائر الآدميين.
فكيف يَكُون إِلَهاً من لا يقيمه إِلا أكل الطعام.
وقوله : (انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ).
أي العلامات الواضحة.
(ثُمَّ انْظُرْ) أي انظر بعد البيان.
(أَنَّى يُؤْفَكُونَ).
أي من أين يصرَفُونَ عَن الحق الواضح.
وكل شيءٍ صرفته عن شيءٍ وقَلَبْتَه عَنْه ، تقول أفَكْتُه آفِكه إفْكاً ، والِإفك
الكذب إِنما سمِّيَ لأنه صرف عن الحق ، والمؤْتفكات الرياح التي تأتي من
جهات على غير قصد واحد.
وقوله : (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77)
أهواءَ جمع هوى ، وهَوَى النفْسِ مقمبورٌ لأنه مثل الفَرقَ وفَعل جمعه
أفْعال ، وتأويله لا تتبعوا شَهَواتِهمْ لأنهم آثروا الشهوات على البيان والبرهان.
وما في القرآن مِن ذكر اتباع الهَوَى مَذْمُوم نحو قوله :
(وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)
وقوله : (وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى) وقوله : (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى).

(2/197)


ومعنى (وَأَضَلُّوا كَثِيرًا) الكثير اتبعوهم.
(وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ).
أي ضلوا بإضلالهم عن قصد السبيل.
* * *
وقوله : (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78)
تأويل لعِنوا بُوعِدُوا من رحمة اللَّه.
(عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ)
جاءَ في التفسير أن قوماً اجتمعوا على منْكرٍ ، فأتاهم داود عليه السلام
ينهاهم عنه ، فاستأذن عليهم فقالوا نحن قرودٌ وما نفقه ما تقول ، فقال كونوا
قِردَةً ، فمسخهم الله قِردَةً ، وأن قوماً اجتمعوا على عيسى يَسُبُّونه في أُمِّه
وًيرْجمونَه فسأل الله أن يجعلهم خنازير فصاروا خنازير ، وذلك لعنهم على
لسان داودَ وعيسَى.
وجائز أن يكون داود وعيسى أعْلِمَا أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - نَبيُ وأنهُما لعنا مَنْ كَفَرَ بِه.
وقوله ؛ (ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ).
أي ذلك اللعْن بمعصيتهم واعتدائهم.
و " ذلك " الكاف فيه للمخاطبة ، واللام في ذَلِك كسرتْ لالتقاء السَّاكنين.
ولم يذكر الكوفيون كسر هذه اللام في شيءٍ من كُتبهم ولا عَرفُوه ، وهذه من الأشياءِ التي كان ينبغي أن يتكلموا فيها ، إِذ كان " ذلك " إِشارة إِلى كل
متراخ عنك ، إِلا أن تركهم الكلام أعودُ علَيْهم مِنْ تَكلُّمِهمْ إذ كان أول ما
نطقوا به في فَعِلَ قد نقض سائر العربية ، وقد بيَّنَّا ذلك قديماً .

(2/198)


وقوله : (كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79)
أي لبئس سْيئاً فعِلهم ، واللام دَخَلَتْ للقَسم والتوكِيد وقد بيَّنَّا لِم
فُتِحت ، وسائر الحروف التي جاءَت يعْني لم فتِحتْ وكسرت ولم يبين
الكوفيون شيئاً من ذلك.
وقوله : (تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80)
(أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ)
(أنْ) يجوز أن يكون نصباً على تأويل بئس الشيءُ ذلك لأنْ سخط اللَّه
عَلَيْهم ، أي لأن أكسبهم السَّخْطةَ ، ويجوز أن يكون " أنْ " في موضع رفع
على إضمار هو ، كأنَّه قيل هو أن سَخط اللَّهُ عَليهمْ ، كما تقول نِعْمَ الرجُلُ.
* * *
وقوله : (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82)
وذلك أن اليَهودَ ظاهَروا المشركين على المؤْمنين ، والمؤْمنون يُؤمنون
بموسى والتوراة التي أتى بها ، وكان ينبغي أن يكونُوا إلى من وافقهم في
الِإيمان بنَبيهمْ وكتابهم أقرب ، فظاهروا المشركين حَسَداً للنبي - صلى الله عليه وسلم -.
وقوله : (لَتَجِدَنَّ) هذه اللام لام القسم ، والنون دَخَلَتْ تَفْصِلُ بينَ الحال
والاسْتقْبَالِ ، هذا مذهب الخليل وسيبويه ، ومن يُوثق بعِلْمِه.
وقوله : (عَدَاوَةً) مَنْصُوب على التمييز.
(وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى).
في هذه غير وجه ، جاءَ في التفسير أن نيفاً وثلاثين من الْحَبَشِ من

(2/199)


النصارى جاءُوا وجماعةً معهم ، فأسلموا لمَّا تلا عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - (القرآن).
وجائز أن يكون يُعْنَى بِه النَصارَى لأنهم كانوا أقَل مظاهرة للمشركِينَ من
اليهود ، ويكون قوله : (وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ).
على معنى (ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا) ، ومنهم قوم إِذَا سَمِعُوا ما
أُنْزلَ إلى الرسولِ ، يعني به ههنا مؤمنيهم ، والقُسُّ والقِيس من رؤَساءِ
النصَارَى ، فأمَّا القَس في اللُغَة فهي النميمة ونشر الحديث ، يقال : قس
فلان الحديث قسًّا.
ومعنى (فَاكتُبْنَا مَعَ الشًاهِدينَ).
أي مع من شهد من أنْبِيائك عليْهِم السلام ومؤمِني عِبَادك بأنَكَ لا إِله
غيْرك.
* * *
وقوله : (وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84)
موْضع (لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ) نصب على الحال ، المعنى أي شيء لنا تاركين
للإيمان ، أي في حال تركنا للإِيمان ، وذلك أن قومهم عنفوهم على إيمَانِهم
فأجابُوهم بأن قالوا ما لنا لا نؤمن بالله.
* * *
وقوله عزَّ وجل : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86)
الجَحِيم النَّار الشديدة الوَقُود ، وقد جَحِمَ فلان النار إذا شدَّد وقودَها ، -
وُيقال لِعَيْن الأسَد جَحْمة لشدة توقدها ، ويقال لوقود الحرب ، وهو شدة القتال فيها : جَاحِم.
قال الشاعر :
=

(2/200)


والخيل لا يبقى لجاحمها التخيل والمراحُ
إِلا الفتى الصّبَّارُ في النَجَداتِ والفرس الوَقَاحُ
* * *
وقوله : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87)
هذه قيل نزلت لأن َ جماعةً من أصحاب النبي كانوا هَمُّوا بأن يرفضوا
الدنيا ويجتنبوا الطيبات ويخْصُوا أنفسهم ، فأعلم الله أن شريعة نبيه عليه
السلام غير ذلك ، والطيبات لا ينبغي أن تجتنب ألبتَّة ، وسمي الخصاءُ اعتداءً ، فقال عزَّ وجلَّ : (ولا تعتدوا) ، أي لا تَجُبُّوا أنفسكم فإِن ذلك اعتداء.
* * *
وقوله : (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)
اللغو في كلام العرب ما اطرح ولم يعقد عليه أمر ، ويسمَّى ما ليس
مُعتَدًّا به - وإِن كان مَوجُوداً - لغواً.
قال الشاعر :
أو مِائةً تجعل أولَادَها . . . لَغْواً وعُرْضُ المائةِ الجَلْمَدُ
(الذي يعارضها في قوة الجلمد) ، يعني بذلك نوقاً ، يقول : مائة لا
تجعل أولادها من عددها.
أعلم اللَّه عزَّ وجلَّ أن اليمين التي يُؤاخَذُ بها العَبْدُ وتجب في بعضها

(2/201)


الكفارَةُ ما جرى على عقدٍ ، ومعنى فكفارته إطعامُ عَشَرةِ مَسَاكين ، أي فكفارة المُؤَاخَذَةِ فيه إِذا حَنَثَ أن يُطْعَم عَشَرَة مساكين إِن كانوا ذكوراً أو إِناثاً وذكوراً أجزأه ذلك ، ولكن وقع لفظ التذكير لأنه المُغَلَّبُ في الكلام.
ومعنى (مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ).
قال بعضهم أعدله كما قال جلَّ وعزَّ : (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا)
أي عَدْلاً ، و (أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) على ضربين أحدهما أوسطه في
القدر والقيمة ، والآخر أوسَطه في الشبع لا يكون المأكول يفرط في أكله فيؤكل منه فوق القصدِ وقدر الحاجة ، ولا يكون دون المعنى عن الجوع.
(أَوْ كِسْوَتُهُم).
والكسوة أن يكسوهم نحو الِإزَار والعِمَامة أو ما أشبه ذلك.
(أَوْ تَحرِيرُ رَقَبةٍ).
فخير الحالف أحدَ هذه الثلاثة ، وأفضلها عند الله أكثَرُها نَفْعاً ، وأحسنُها
موقعاً من المساكين ، أو من المعتق ، فإِن كان الناس في جَدْب لا يقدرون
على المأْكول إِلا بما هو أشد تكلفاً من الكسوة أو الِإعتاق ، فالِإطعام أفضل.
لأن به قِوَامَ الحياةِ وإِلا فالِإعتاق أو الكسوة أفضل.
(فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ).
أَي من كان لا يقدر على شيء مما حُذدَّ في الكفارة ، فعليه صيام ثلاثة
أيامٍ ، وصيام ثلاثة مرتفع بالابتداءِ ، وخبره كفارته أَو فكفارته صيام ثلاثة
أيام.
ويجوز فصيامٌ ثلاثةَ أَيامٍ كما قال عزَّ وجلَّ : (أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14).

(2/202)


(أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا).
(ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ).
أي ذلك الذي يغطي على آثامكم ، يقال كَفَرْتُ الشيءَ إِذا غطَّيتُه ، ومنه
قوله عزَّ وجلَّ : (أعجب الكفَارَ نباتُه) ، والكفار الذين يغطون الزرع
ويصلحونه ، والكافر إِنما سمي كافراً ، لأنه ستر بكفره الِإيمان.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)
فالخمر معروف وهو ما خامر العقل ، وقد فسرناه ، والميسرُ القَمارُ
كله ، وأصله إنَّه كان قماراً في الجزور ، وكانوا يقسمون الجَزورَ في قول
الأصمعي على ثمانية وعشرين جزءاً ، وفي قول أبي عمرو الشيباني على عشرة
أجزاء ، وقال أبو عبيدة لا أعرف عَدَدَ الأجزاء ، وكانوا يضربون عليها بالقداح وهي سهامُ خَشبٍ . لها أسماء نبينها على حقيقتها في كتابنا إِن شاءَ اللَّه ، فيحصل كل رجل من ذلك القمار على قدر إِمكانه ، فهذَا أصْل الميْسرِ ، والقمار كلُّه كالميْسر وقد بيَّنَّا الأنصاب والأزلام في أول السورة.
فأعلمَ اللَّهُ أن القِمارَ والخَمرَ والاسْتِقْسَامَ بالأزْلامِ وعبادةَ الَأوثان رجسٌ.
والرجس في اللغة اسم لكل ما استُقْذِرَ من عمل ، فبالغ الله في ذَمَ هذه
الأشياء ، وسماها رجْساً ، وأعلم أَن الشيطان يُسَوِّلُ ذلك لِبَني آدم ، يقال رَجِسَ الرجلً يَرْجَسُ ، ورجَسَ يَرْجُسُ ، إِذَا عمل عملاً قبيحاً ، والرجْسُ بفتح الراء

(2/203)


شِدَّةُ الصوْتِ ، فكان الرجس العمل الذي يقبح ذكره ، ويرتفع في القبح.
ويقال سحاب ورَعْد رجَّاسٌ إِذا كان شديد الصوت.
قال الشاعر :
وكل رَجَّاسٍ يَسُوقَ الرُّجَّسَا
وأمَّا الرجز بالزاي فالعذابُ ، أو العمل الذي يَؤدي إِلى العذاب.
قال اللَّه : (لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ) أي كشفت عنا العذاب ، وقوله : (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) قالوا عبادة الأوثان.
وأصل الرجْز في اللغة تتابع الحركات ، فمِنْ ذلك قولهم رجزاءَ إِذا كانت ترتعد قوائمها عند قيامها.
ومن هذا رَجَزُ الشَعر لأنه أقْصَر أبيَاتِ الشَعْرِ ، والانتقال فيه من بيت إلى بيت سريع نحو قوله :
يا ليتني فيها جذع أخب فيها وأضع
ونحو قولهم :
صَبْراً بَنِي عَبْدِ الدارِ
ونحو قولهم :
ما هاج أحزانا وشجوا قد شجا

(2/204)


وزعم الخليل أن الرجَزَ ليس بشعر ، وإِنما هو أنصاف أبْيَات أو أَثلاث.
ودليل الخليل في ذلك ماروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - :
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلًا وتأتيك من لم تزوَّدْ بالأخبار.
قال الخليل : لوكان نصف البيت شعراً ما جرى على لسان النبي - صلى الله عليه وسلم -
سَتُبدِي لك الأيَّامُ مَا كَنْتَ جَاهِلاً
وجاءَ النصف الثاني على غير تأْليف الشعر ، لأن نصف البيت لا يقال له
شِعرٌ ولا بَيتٌ ، ولو جاز أن يقال لنصف البيت شعر لقيلَ لِجُزْءٍ منه شعر.
وجرى على لسان النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما روَى :
أَنا النبي لا كذب
أنا ابن عبد المطلب
قال بعضهم : إِنما هوَ لا كذِبَ أنا ابن عبد المطلب ، بفتح الباءِ على
الوصل.
قال الخليل : فلو كان شعراً لم يجر على لسان النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال اللَّه : (وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ) ، أي ما يَسَفَل له.
قال الأخفش كان قول الخليل إِن هذه الأشياءَ شعرٌ ، وأنا أقول : إِنها ليست بشعر ، وذكر أنه ألْزَم الخليلَ أن الخليل اعتقده.
ومعنى الرجز العذاب المُقَلْقِلُ لشدتِه قلْقَلةً شَدِيدَةً متتابعة.
ومعنى فاجتَنِبُوهَ : أَي اتركوه .

(2/205)


واشتقاقه في اللغة كونوا جانباً منه أي في ناحية.
* * *
وقوله : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94)
هذه اللام لامُ القَسَمِ ، واللام مفتوحة لالتقاءِ السَّاكنين في قول بعضهم اغزُوَنَ يا رَجُل ، فأمَّا لام لَتُبْلَوُن ، فزعم سيبويه أنها مبنية على الفتح.
وقد أَحكمنا شرحَ هذا قبل هذا الموضِع.
ومعنى : " ليبلونكم " : ليختبرنَّ طاعتكم من معصيتكم.
ميه بِشيءٍ مِنَ الصيدِ).
فَقال عزَّ وجلَّ بشيءٍ من الصيْدِ فبَّعض ، وهو يحتمل وَجْهَيْن
أَحدهما أنه على صيد البَر دُونَ صَيْدِ البَحْر ، والثاني أَنه لَمَّا عَنى الصَّيدَ ما داموا في الإحرام كان ذلك بعضَ الصََّيْدِ . وجائز أن يكون على وجه ثالث ، ويكون " مِنْ " هذه تبين جنساً من الأَجناس ، تقول : لأمتحننك بشيءٍ من الوَرِق ، أي لامتحننك بالجنس الذي هو ورق ، كما قال جلّ ثناؤُه : (وفَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأوْثَانِ) والأَوثان كلها رجس.
المعنى فاجتنبوا الرجس الذي هو وثن.
ومعنى قوله : (تَنالُه أَيدِيكمْ ورماحُكُمْ).
الذي تناله الأيدي نحو بيض النَعام وفراخِه وما كان صغيراً ينهض من
مجْثمِهِ مِن غَيرِ النعام وسائر ما يفوق اليد بحركته من سائر الوحش.
فحرم جميع صيد البر الجراد وكل ما يصطاد فحرام صيده ما داموا حرماً . وبيَّن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ كل ما اصْطِيد في الحرم حرام ، كانوا محرمين أَو غير محرمين.
وقوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95)

(2/206)


(وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا)
أي عمداً لِقتلِه ، كأنه ناسٍ إنَّه محرِم ، ومتَعمِّد للقتل ، وجائز أن يقصد
القتل وهو يعلم أنَّه محرم.
وقوله : (فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ).
و (فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ)برفع مثل وجرَها ، فمن رفَعهُما جميعاً فرفعه على
معْنى فعليه جزاء مثل الذِي قَتلَ ، فيكون " مِثْل " من نَعْتِ الجزاء ، ويكون أن ترفع " جزاءَ " على الابتداءِ ويكون مثل قتَل خبر الابتداءِ ، ويكون المعنى فجزاء ذلك الفعل مِثلُ ما قَتَلَ ، ومن جرَّ أراد فعليه جزاءُ مِثل ذلك المقتول من النَّعمِ ، والنعمً في اللغة هي الِإبل والبقر والغَنَمُ ، وإِن انفَردت الِإبل منها قيل لها نَعم وإِن انفردت الغنمُ والبقرُ لم تسَمَّ نعَماً.
فكان عليه بحذاءِ حمار الوحش وبقرةِ الوحش بَدَنةً ، وعليه بحذاءِ الظباءِ
من الغنم شاة.
وقوله عزَّ وجلَّ : (يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ).
أَي من أَهل ملتكم ، فعلى قاتل الصيد أَن يسْألى فقيهيْنِ عَدْلَيْن عن جزاءِ
ما قَتَل ، ويقولان له : أَقتلتَ صيْداً قبْل هَذَا وأنْتَ مُحرِم فإِن اعْترف بأنه قتل صيداً قبْل ذَلِك لم يَحْكُمَا عليه بشيء ، لقول الله عزَّ وجلَّ :
(ومن عاد فيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ).
وإِن لم يعترف نَظَرا فيما قتل . فإِن كان كالِإبل حكماً عليه بها
(هَدْياَ بَالِغَ الكعْبةِ) وإِن كان كالشاءَ حكما عليه بمثل ذلك.
وإِن كانت القيمة لا تبلغ نظرا فقدرا قيمة ذلك ، وأطعم بثمن ذلك المساكين ، كل مِسكين - قال بعضهم - صاعاً من حِنطة ، وقال بعضهم نصف صاع أَوْ صَامَ بعَدْلِ ذلك على ما توجِبُه السُّنَّةُ.
ويجوز أَن تكون " أَو " - وهو الَأجود في اللغة - للتخيير ، فإن
شاءَ أَهدىَ وإن شاتَ قوَّما له الهدْيَ وأَطْعَم بدلَه على ما وصفنا.
وجعل مثل ذلك صياماً لَأن " أَو " للتخيير ، وقال بعضهم كأَنَّهُ إِن لم يقدر على الِإبلِ والغَنمِ

(2/207)


فينبغِي أن يُطعِم أو يصُومَ ، والذي يوجبه اللفظُ التخييرُ ، وأهلُ الفِقْهِ أعلمُ
بالسنة في ذلك ، إِلَّا أَني أختارُ على مذهب اللغة أنَّه مخير.
وقوله : (هَدْياً بَالِغَ الكعْبَةِ).
منصوب على الحال . المعنى يحكمان به مقَذَراً أن يُهْدَى.
و (بالغ الكعبة) لفظُه لفظ مَعْرفة ، ومعناه النكرة ، المعنى بالغاً الكعبة ، إِلا أن التَّنْوِينَ حُذِف استِخفَافاً.
ومعنى قوله : (أوعَدْلُ ذلِك).
أو مِثل ذلك ، قال بعضهم عَدْلُ الشيء مثله من جنسه ، وعَدْلُه مثله من
غير جنسه - بفتح العين ، وقال إِلا أن بعض العرب يغلط فيجعل العَدْل والعِدْل في معنى المثل ، وإِن كان من غير جنس الأول.
قال البصريون العَدْل والعِدل في معنى المثل ، والمعنى واحد كان ، لمثل من الجنس أو من غير الجنس ، كما أن المثل ما كان من جِنْسِ الشيءِ ومِنْ غير جِنْسِه ، مِثْل ، ولم يقولوا إِن العرب غلطت ، وَلَيْسَ إِذا أخْطا مخطئ يوجب أن تقول أن بعض العرب غلط.
وقوله : (صِيَاماً).
منصوب على التمييز . المعنى أو مثل ذلك من الصيام.
(لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِه).
" الوَبَالُ " ثِقْلُ الشيءِ في المكروه ، ومنه قولهم طعام وبيل ، وماء وبيل ، إِذا
كانا ثقيلين غيرُ نَامِيَينِ في المَالِ ، قال عزَّ وجلَّ : (فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا)
أَي ثقتيلَاَ شديداً ، والوبيلُ خشبةُ القصَّارِ ومن هذا قيل لها وبيل.
قال طرفة ابن العبدِ .

(2/208)


عقيلة شيخ كالوبيل يلنْدَدٍ
وقوله : (وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ).
الفاءٌ جواب الجزاء والمعنى أنه - واللَّه أعلم - ومن عاد مستَحِلًّا للصيد
بعد أنْ حَرمَه الله منه فينتقم اللَّهُ مِنه أي فيعذبه اللَّهُ.
وجائز أن يكون : من عاد مستخفًّا بأمر اللَّه فجزاؤُه العذاب كجزاءِ قاتل النفس.
* * *
وقوله : (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96)
أي أحل لكم صيدَ البحر ، وأحل لكم طَعَامَ البحر للسَّيَّارَةِ ، فَأمَّا صَيدُه
فمعروفٌ ، وأمَّا طَعَامُه فقد اختُلِفَ فيه ، فقالَ بعضهم : ما نَضَبَ الماءَ عنه
فأخِذَ بغَيْر صَيد فهو طعامه ، وقال طعامه هو كل ما سقاه الماء فأنبت فهو طعام البحر ، لأنه نبت عن ماءِ البحر ، فأعلمهم اللَّه أن الذي أحل لهم كثير في البر والبحر ، وأن الذي حُرمَ عَليهم إنما هو صيد البر في حال الإِحرام . وسَنَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - تحريمَ الصيد في الحرم ليكون قد أعْذَر إِليهم من الانتقام ممن عاود ما حرم اللَّه عليه مع كثرة ما أحل اللَّهُ لَهُ.
و (مَتَاعاً) : منصوب مصدر مؤكد ، لأنه لما قال أجل لكم كان دَليلاً على أنه
قد مَتَّعَهُمْ به ، كما أنه لما قال : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ)
كان دليلَاَ على أنه قد كتب عليهم ذلك ، فقال : (كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ).

(2/209)


وقوله جلَّ وعزَّ : (جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97)
قيل إِنما سُمِّيتِ الكعبةَ لتربيع أعلاها.
ومعنى (قِياماً للناسِ) أي مما أمِروا بِه أن يقوموا بالفرض فيه.
وكذلك : (والشَهْرَ الحَرامَ والهَدْيَ والقَلائِدَ).
فأمَّا مَن قَال إِنه أمن فلأنَّ اللَّه قال : (وَمَنْ دَخَله كَانَ آمِناً) ولم تَزَلْ
العرب تترك القتال في الشهر الحرام ، وكان يسمى رَجَب الأصَمّ لأنه لا يسمع فيه صوت السلاح.
وأما من قال جُعِلت هذه الأشياء ليَقومَ الناس بها فإنما عنى
متعبداتهم بالحج وَأسْبَابِه.
وقوله : (ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ).
فيه قولان : أحدهما أن الله لما آمَنَ مِنَ الخوف البلدَ الحَرَامَ ، والناسق
كان يقتل بعضعهم بعضاً ، وجعلَ الشهرَ الحرامَ يُمتَنَع فِيه من القتل ، والقوم
أهل جاهلية ، فدل بذلك أنه يعلم ما في السَّمَاوات ومَا في الأرْض إذْ جَعَل في
أعْظمِ الأوْقَاتِ فساداً ما يؤمن به ، وفيه قول آخر وهو عندي أبين ، وهو أن
ذلك مَرْدُود على ما أنبأ اللَّه به على لسان نبيه في هذه السورةِ من قوله : (مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ).
فأخبر بنفاقهم الذي كان مسْتَتَراً عن المسلمين ، وما أخبر به أنهم
(سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ).
فأظهر الله ما كانوا أسَروه من قصة الزانيين ، ومسألتِهمْ إياه - صلى الله عليه وسلم - وما شَرَحْناه مما كانوا عليه في ذلك.
فأظهر الله جلَّ وعزَّ : نبيه والمؤمِنِينَ على جميع ما ستروا عَنْهُمْ .

(2/210)


فالمعنى - واللَّه أعلم - ذلك لتعلموا الغيب الذي أنْبأتُكُمْ به عن اللَّه.
يدلكم على إنَّه يعلم ما في السَّمَاوَات وما في الأرض.
ودليل هذا القول قوله جلَّ وعزَّ :
(مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99).
* * *
وقوله : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101)
(تُبْدَ لكم) - تُظْهَر لَكُم ، يقال بدا لي الشَيء يبدو إذَا ظَهَر.
جاءَ في التفسير أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب الناس فأعلمهم أن الله قد فرض عليهم الحج ، فقام رجل من بني أسدٍ فقال : يا رسول اللَّه أفي كل عام ؟
فأعرض عنه - صلى الله عليه وسلم - فعادَ الرجلُ ثانية ، فأعرض عنه ، ثم عاد ثالثة فقال - صلى الله عليه وسلم -
ما يُؤمنك أن أقول نَعَمْ فَتجبُ فلا تقومون بها فتكفرون.
تأويل " تكفرون " ، - واللَّه أعلم - ههنا أنكم تَدْفَعُونَ لِثِقَلِهَا وُجُوبَهَا
فتكفرون.
وقال - صلى الله عليه وسلم - : " اتركوني ما تركْتُكُمْ فإِنما هلك منْ كَانَ قَبلَكم بكثرة اخْتِلَافِهِمْ على أنبيائهم ".
وسأله - صلى الله عليه وسلم - رجل كان يتنازعه اثنان يدَّعِيَ
كل واحد منهما أنَّه أبوه فأخبر - صلى الله عليه وسلم - بأبيه منهما ، فأعلم اللّه عزَّ وجلَّ أن السوال عن مثل هذا الجنس لا ينبغي أن يقع.
فإنه إِذَا ظهرَ منهُ الجوابُ سَاءَ ذَلِك . وخاصَّةً في وقت سُؤَالِ النبي - صلى الله عليه وسلم - عن جهة تبيين الآيات ، فنهى الله عن ذلك ، وأعلم أنَّه قد عفا عنها ، ولا وجهَ عَن مسألة ما نهى اللَّه عنه ، وفيه فضيحة على السائل إِن ظهر .

(2/211)


و (أشياءَ) في موضع جر إلا أنها فتحت لأنها لَا تَنْصرِفُ.
وقال الكسائي أشبه آخرُها آخَرَ حَمْرَاءَ ، ووزْنُها عندَه أفْعال ، وكثر اسْتِعْمَالَهُمْ فلم تُصْرَف.
وقد أجمع البصريون وأكثر الكوفيين على أن قول الكسائي خطأ في
هذا ، وألزموه ألا يصْرفَْ أبناءً وأسماءً.
وقال الأخفش - سعيدُ بنُ مسعدة -
والْفَراءُ : أصلها أفعلاءَ كما تقول هَيْن وأهوِنَاءَ إلا إنَّه كان الأصلُ أشْيئاءَ على وزْنِ " أشبِعاع ، فاجْتَمَعَتْ هَمزتَان بينهما ألف ، فحذفت الهمزة الأولى.
وهذا غلط أيضاً ؛ لأن شيئاً فَعْلٌ ، وفَعْل لا يجمع على أفعلا " فأما هَين.
فأصله أهيِنُ ، فجمع على أفعلاءَ ، كما يجمع فعيل على أفعلاء مثل نصيب
وأنصباءَ.
وقال الخليل : أشياءَ اسم للجميع كان أصله فعلاءَ - شيئاء
فاستثقلت الهمزتان فقلبت الأولى إلى أول الكلمة فَجعلَت لفْعاءَ كما قالوا
أنْوق فقلبوا أينق ، كما قلبوا قووس فقالوا قِسيّ.
ويُصَذقُ قولَ الخليل جمعهُم أشياءَ على أشاوى ، وأشَايَاه وقول
الخليل هو مَذهَب سيبويه وأبِي عُثْمانَ المازني وجميعِ البصريين إِلا
الزيادى منهم ، فإنه كان يميل إلى قول الأخفش.
وذكروا أن المازني ناظر الأخفش في هذا فقطع المازنى الأخْفَشَ.
وذلك أنه سأله : كيف تُصغرُ أشياءَ فقال : أشَيَّاء ، فاعلم.
ولو كانت أفعلاءُ لرُدَّتْ في التصغير إلى واحدها ، فقيل شُيَيْئَات ، وإِجماع البصريين أن تصغير

(2/212)


أصدقاءَ إذا كان للمَؤنثات صُديِّقَات وإن كان للمذكرين صُدَيِّقُون.
* * *
وقوله : (مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103)
أثبتُ ما رَوينا في تفسير هذه الأسماء عن أهل اللغة ما أذكره ههنا :
قال أهل اللغة : الْبَحِيرةُ ناقةٌ كانت إذا نُتجت خمسة أبطُن وكان آخرُها
ذكراً ، نحروا أذْنَها - أي شَقوهَا - وامتنعوا من ركوبها وذبْحهَا ، ولا تطرد عن ماءٍ ولا تمنع مِن مَرْعًى ، وإِذا لقِيها المعُيى لم يركبها.
والسائبة . كان الرجل إذَا نذَر لقدوم من سَفَر أو بُرءٍ منْ عِلَّة أو ما أشبه
ذلك قال ناقتي هذه سائبة ، فكانت كالبحيرة في أن لا ينتفع بها وأنْ لَا تُجْلَى
عن مَاء ولا تَمْنعُ من مَرْعًى.
وكان الرجل إذا أعتَقَ عبداً قال هو سائِبةٌ ، فلا عقل بينهما ولا
ميراث.
وأما الوَصِيلَةُ ففي الغنم ، كانت الشاة إِذا ولدت أنثى فهي لهم وإِذا
ولدت ذكراً وأنثى قالوا وصلت أخاها ، فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم.
وأمَّا الحامِي فالذكر من الإبل . كانت العرب إِذا نتجت من صلب الفحل
عشرة أبْطن ، حُمِي ظهرهُ فلا يحمل عليه ، ولا يمنع من ماءٍ ولا مرعى.
فأعلم اللُّه أنَّه لَمْ يُحَرَمْ من هذه الأشياءِ شيئاً ، وأن الذين كفروا افْتروْا على
اللَّه.
* * *
وقوله : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)
معناه إِنما ألزمكم اللَّه أمرَ أنْفُسَكُمْ .

(2/213)


(لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ).
أي لا يُؤاخذكم اللَّه بذنوب غيركم ، وليس يُوجبُ لفظُ هذه الآيةِ ترك
الأمْرِ بالمعروف والنهيِ عَن المنكر ، وأعلم أنه لا يضر المْؤمِنَ كفرُ الكافِرِ.
فإذا تَركَ المؤْمنُ الأمرَ بالْمَعروفِ وهو مستطيع ذلك فهو ضَال ، وليس بِمُهْتَدِ.
وَإِعْرًابُ : (لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ) الأجود أن يكون رفعاً
ويكون على جهة الخبرِ.
المعنى ليس يضُركم مَنْ ضَل إِذَا اهْتَدَيتُم.
ويجُوزُ أن يكونَ موضعُهُ جزماً ، ويكون الأصل لا يضرُركم إِلا أن الراءَ الأولى أدغِمَتْ في الثانِيَةِ فَضُمَّتِ الثانية لالتقاءِ السَّاكنين ، ويجوز في العرَبِيةِ على جهة النهيِ لا يضركم بفتح الراءِ ، ولا يَضُركم بكسرها.
ولكن القراءَة لا تُخَالَفُ ، ولأنَّ الضم أجْوَدُ كان الموضعُ رفعاً أو جَزْماً.
فأمَّا من ضَمَّ لالتقاءِ السَّاكنين فأتبع الضمَّ الضمَّ ، وأمَّا من كسر فلان
أصل التقاءِ السَّاكنين الكسر ، وأمَّا من فتح فلخفة الفتح فتح لالتقاءِ السَّاكنين.
وهذا النهي للفظ غائب يراد به المخاطبون ، إذا قلت : لا يَضْررْكَ كفرُ
الكافر ، فالمعنى لا تَعُدَّنَ أنت كفْرُه ضَرَراً ، كما أنك إِذَا قلتَ لا أرنيك ههنا ، فالنهي في اللفظ لنفسك ، ومعناه لمخَاطَبِكَ ، معناه لا تكونن ههنا.
* * *
وقوله : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ (106)
معناه أنَّ الشَهادةَ في وقت الوصية هي للموت ليس أن الموتَ حاضرُه
وهو يُوصِي بما يَقُولُ الموصِي ، صحيحاً كان أو غَير صحيحٍ : إِذا حَضَرَنِي
الموتُ ، أو إذَا مِتُ فافعلوا واصْنَعُوا.
والشهادة ترتفع من جهتين :
أحدهما أن تَرتَفِعَ بالابتداءِ ويكون خبرها " اثنان " ، والمعنى شهادة هذه الحال شهادةُ اثنين ، فتحذف شهادة ويَقُومُ اثنان مقامها .

(2/214)


ويجوز أن يكون رفع (شهادةُ بينِكم) على قوله وفِيما فرض اللَّه عليكم
في شهادتكم أن يشهد اثنان ، فيرتفع اثنان بشهادة ، والمعنى أن يشهد اثنان
فيرتفع اثنان بشهادة ، والمعنى أ، يشهد اثنان ذوا عَدْل منكم.
معنى " مِنْكُمْ " قيل فيه قولان ، قال بعضُهم منكم من أهل دينكم.
(أوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكمْ) من غير أهْلِ مِلَّتكم.
وقال بعضهم : (ذَوَا عَدْل مِنْكم) من أهل الميت ، أو آخرَان مِن غَيْركم
مِن غَيرِ أهلِ الميِّت ، واحتجِ هؤلاءِ بأن قوله : (فَيَقْسِمَان باللَّهِ إِن ارتَبتم لَا
نَشْتَرِي بِه ثَمَناً وَلَو كَانَ ذَا قربى) يَدل على أن مِنْكم مِنْ ذَوِي قَراباتِكم.
وقال هؤلاءِ إِذا كانوا أيضاً عُدولًا مِنْ قَرَابَاتِ الميِّتِ ، فهم أولى لأنهم
أعلم بأحوال الأهْل مِن الغرائب ، وأعلم بما يُصلِحُهم ، واحتجوا أيضاً بأن
(ذَوَى عَدْل) لا يكونان من غير أهل ملة الِإسلام لأن الكفر قد باعدَ من
العدالة.
فأَعلم اللَّه عزَّ وجلَّ أن الوصيةَ ينبغي أن يكونَ شاهدها عَدلَيْن من أهل
الميت أو من غير أهله إِن كان الْموصِي في حضرٍ وكذلك إِن كان في سفر.
فقوله : (إِن أَنتمْ ضَرَبتُم في الأرضِ فَأصابَتْكُمْ مصِيبَةُ الْمَوْتِ).
ذكر الموت في السفر بعد قوله : إِذا حضر أحدكم الموت حين
الوصية ، فكان في الآية - واللَّه أعلم - دليلًا على الشهادة في الحضر والسفر.
وقد جاءَ في التفسير أن اثنين كانا شَهِدَا في السفر غير مسلمين

(2/215)


وللإِجماع أن الشهود لا يجب أن يحلفوا.
وقد أجاز قوم في السفر شهادة الذِّميين.
وقال الله عَز وجل : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ) وقال : (مِمَّنْ تَرضَونَ منَ الشهَدَاءِ)
والشاهد إِذا عُلِمَ أنه كذاب لم تجر أن تقْبَل شهادته ، وقد علمنا أن النصارى زعمت أن الله ثالث ثلاثة وأن إليهود قالت إن الْعَزَيرَ ابنَ الله وعَلِمنَا أنهم كَاذِبُونَ ، فكيف يجوز أن تُقْبَلَ شهادَة منْ هوَ مقِيمٌ عَلى الْكَذِب ؟
ومعنى قوله : (تَحبِسُونَهُمَا من بَعْد الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ).
كان الناس بالحجاز يحلفون بعد صلاة العصر ، لأنه وقت اجتماع
الناس.
وقوله : (إِن ارتَبْتُمْ).
إِنْ وَقَعَ في أنفسِكم مِنهم رَيْبٌ ، أي ظننتم بهم رِيبَة.
وقوله : (فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107)
أي فإِن اطلِع على أنهما قَد خَانَا.
(فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ).
وقد قرئت الأولَيْنَ ويجوز (مِن الَّذِينَ اسْتَحَق عَلَيْهِمً الأَوْلَيَانِ) وهذا
موضع من أصعب ما في القرآن في الإعراب.
فأوليان في قول أكثر البصريين يرتفِعان على البدل مما في (يقومان).
المعنى : " فَلْيَقًمْ الأولَيان بالميت مقام هذين الخائنين).
(فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا).

(2/216)


فإِذا ارتفع الأوليان على البدل ، فاللذان في استحق من الضمير معنى
الوصية ، المعنى فليقم الأوليان من الَّذِينَ استحقت الوصية عليهم ، أو استحق
الِإيصاء عليهم.
وقال بعضهم : مَعْنَى (مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ) معناه : استُحِق
فيهم ، وقامت " على " مقام " في " كما قامت " في " مقام " على " في قوله :
(وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) ومعناه : على جذوع النخل.
وقال بعضهم معنى على (مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ) كما قال :
(الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ) أي إِذا اكتالوا من الناس.
وقيل أن في " استحق " ذكر الِإثم ، لأن قوله عزَّ وجلَّ : (فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ)
كان المعنى : الذين جَنِيَ الإِثْمُ عَلَيْهِم.
وقيل إِن " الأولَيَانِ " جائز أن يرتفعا باستحق ، ويكون
معناهما الأوليان باليَمِينِ ، أي بأن يُحلفا من يشهدُ بعدهما ، فإِن جاز شهادة
النَّصرانيين كان " الأولَيَانِ " على هذا القول النصرانيين ، أو الآخران من غير
بيت الميت.
وأجود هذه الأقوال أن يكون الأولَيَان بَدَلا ، على أن المعنى :
لِيَقُمِ الأولَيَانِ من الذين استحق عليهم الوصية.
ومن قرأ (الأوَّلينَ) رده على الذين ، وكان المعنى من الذين استحق عليهم الإِيصاء الأولين.
واحتج من قرا بهذا فقال : أرأيت إِن كان الأولَيَانِ صغيرين ؟.
* * *
وقوله : (ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108)
أي ذلك أقرب من الإتيان بالشهادة على وجهها ، وأقرب إِلى أن يخافوا.
* * *
وقوله : (يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109)

(2/217)


أَما نَصْبُ " يوم " فمحمول على قوله . . . (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا) أي ، وَاتَّقُوا يومَ يجمَع اللَّهُ الرسل ، كما قال : (وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا).
ومعنى المسألة من الله تعالى للرسل تكون على جهة التوبيخ للذين
أرسلوا إِليهم ، كما قال عزَّ وجلَّ : (وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9).
فَإِنَّمَا تسأل ليوَبَّخ قَاتِلُوهَا ، وأمَّا إِجابة الرسل وقولهم : " لَا عِلْم لَنَا "
فقد قال الناس في هذا غير قول :
جا ءَ في بعض التفسير إنَّه عزَبَتْ عنهم أفهامهم لهول يوم القيامة فقالوا :
لا علم لنا مع عِلْمِك.
وقال بعضهم : لو كانت عزبت أفهامهم لم يقولوا إِنك
أنت علام الغيوب.
وَقَال بعضهم معنى قول الرسل (لا علم لنا) أي بما غاب
عَنا مِمن أرْسِلْنَا إِليه ، أنت يا رَبنَا تَعْلم بَاطِنَهم ولَسنَا نعلم غيبهم إِنك أنت
علام الغيوب.
* * *
وقوله : (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110)
أمَّا نعمته على وَالِدَتِه فَإِنه اصطفاها وطهرها واصطفاها على نساءِ
العالمين ، وكان رِزْةُها يأتيها من عنده وهي في محرابها.
وقوله : (إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ).
أي أيَّدتك بجبريل ، جائز أن يكون قوله به ، إِذ حاولت بنو إِسرائيل

(2/218)


قتله ، وجائز أن يكون أيَّده به في كل أحواله ، لأن في الكلام دليلاً على ذلك.
وقوله : (تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ).
أي أيَّدتُكَ مُكَلِّماً النَّاسَ في المهد (وَكَهْلًا) أي أيدتُكَ كَهْلا ، وجائز
أن يكون (وَكَهْلًا) محمولاً على تكلم ، كان المعنى أيدتك مخاطباً للناس
في صغرك ومخاطباً الناس كهلاً ، وقرأ بعضهم : " أَأْيَدْتُكَ " على أفْعَلتكَ من
الأيد وقرأ بعضهم آيَدْتك على فاعلتك أي عاونتك.
وقوله : (وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي).
الأكمه قال بعضهم : الذي يولد أعمى ، قال الخليل هو الذي يولد
أعمى ، وهو الذي يَعْمَى بعد أن كان بصيراً.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111)
قال بعضهم : (أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ) أي أَلْهَمتُهم كما قال : (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا) أي ألهمها.
وقال بعضهم (أوحيت إِلى الحواريين)معناه : أمرهم.
وأنشدوا قول الشاعر :
الحمد للَّهِ الذي استَهلًَّت . . . بإِذنه السَّماءُ واطمأنَّت
أوحَى لها القَرارَ فاسْتَقَرت
قالوا معناه : أمرها.
وقال بعضهم : معنى (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ) أتيْتُهمْ في الوحي

(2/219)


إِليك بالبراهين والآيات التي استدلوا بها على الِإيمان فآمنوا بي.
* * *
وقوله : (إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112)
جائز أن يكون موضع " عيسى " نصباً ، كما تقول : يا زيدَ بنْ عَمْرو ، لأن
ابْناً إِذا أضيف إِلى اسمٍ مَعْروفٍ عَلم أو أضيف إِلى كُنيةٍ معروفة جُعِلَ وما
قبله كالشيء الواحد فجميع النحويين يختارون يا زيدَ بنَ عَمْرٍو ، وكلهم
يجيزون : " يا زيدُ بنَ عَمروٍ.
وعلى هذا جائز أن يكونَ موضع عيسى موضِعَ
اسم مبني على الضمِّ ، قَالوا كلُّهم فَإِنْ قلت يا زيدُ بنَ أخِينا ، ويا زيدُ ابنَ
الرجلِ الصالحِ فضممت زيداً لا غيْر . لأن النصب إِنما يكون إِذا أضيف
ابن إِلي عَلَمٍ كما وصفنا.
وقد قُرئ : (هل تَسْتَطِيعُ رَبَّك) و (هل يَستَطيعُ رَبُّك).
فمن قرأ (هل تَسْتَطِيعُ رَبَّك) . فالمعنى هل تستدعي إِجَابَتَه وطاعَتَه في
أن يُنْزِلَ علينا ، ومن قراها (هل يَستَطيعُ رَبُّك) كان معناه هل يقدر ربُّك.
قال أبو إسحاق : وليس المعنى عندي - واللَّه أعلم - أنهم جهلوا أن اللَّه
يقدر على أن ينزل مائدة ، ولكن وجه السؤال هل ترينا أنت أن ربَّك يُرينَا ما
سَألنَا من أجلِكَ من آياتك التي تدل على نبوتك.
فأمَّا المائدة فقال أبو عبيدة : إنها في المعنى مَفعُولة ولفظها فاعلة ، قال : وهي مثل عِيشَةٍ راضية ، وقال إِن المائدة من العطاءِ ، والممتاد المفتَعل المطلوب منه العطاءَ.
قال الشاعر :
إِنَي أميرُ المؤْمِنين المُمتَاد
وَمَادَ زيد عمراً إذا أعطاه . والأصل عندي في مائدة أنها فاعلة من ماد
يميدُ إِذَا تحرَّكَ فكأنَّها تميد بما عليها.
وقيل في التفسير إِنها أنزلت عليهم في يوم الأحد وكان عليها خبز

(2/220)


وسمك ، فالنصارى تجعل الأحد عيدا - فيما قيل - لذلك.
وقال بعضهم إِنها لم تنْزَل للتَّهَوُّدِ الذي وقع في الكفر بعد نزولها ، والأشبه أن تكون لأن نزولَها قد جَاءَ ذكره في هَذِه القِصةِ.
قال اللَّه عزَّ وجلَّ : (إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ)
وقال غير أهل الِإسلام إِنها نزلت ، والأخبار أنها انتهت ، فالتصديق بها
واجب.
فأمَّا وجه مَسْألةِ الحواريين عيسى المائدة فيحمل ضربين أحدهما أن
يكُونوا ازْدَادُوا تثبيتاً ، كما قال إبراهيم : (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى).
وجائز أن تكون مسألتهم المائدة قبل علمهم أنه أبرأ الأكمه والأبرص وأنَّه أحيا الموتى.
وأما قول عيسى للحواريين :
(اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).
فإِنَّما أمَرهم ألَّا يقترحوا هم الآيات ، وألَّا يقوموا بين يدي الله ورسوله.
لأن الله قد أراهم الآيات والبراهين بإحياءِ الموتى وهو أوكد فيما سألوا
وطلبوا.
* * *
وقوله : (قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114)
ذكر سيبويه أن (اللَّهُمَّ) كالصوتِ وأنه لَا يُوصَف ، وأن (رَبَّنَا) منصوب على
نداءٍ آخر ، وقد شرحنا هذا قبل شرحاً تاماً.
ومعنى قوله : (وآيةً مِنْك).

(2/221)


أي فتكون لنا علامة منك.
وأمَّا قوله : (قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115)
فجائز ، أن يكون يُعجِّلُ لهم العذابَ في الدنيا ، وجائز أن يكون في الآخرة لقوله : (لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ)
* * *
وقوله : (وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116)
فَالمسألة ههنا على وَجْهِ التَوْبيخِ للذين ادَّعَوْا عليه لأنهم مجْمِعونَ أنه
صادق الخبر وأنَّه لا يكذبهم وهو الصادق عندَهم فذلك أوكَدُ في الحجةِ
عَلَيْهِمْ وأبلَغُ في توبيخهم ، والتوبيخ ضَرْبٌ من العقوبة.
قال : (سبْحَانَكَ). أي براءٌ أنت من السوءِ.
(مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ).
وأمَّا قوله : (تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ).
و " الْغُيُوبِ " بالكسر والضم.
قال أبو إسحاق : هذا موضع أعني (تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ) يُلَبِّسُ به أهلُ الِإلحَادِ على مَنْ ضَعُف علمه باللغة ولا تعلم حقيقة هذا
إلا من اللغة ، قال أهل اللغة : النفس في كلام العرب تجري على ضربين
أحدهما قولك خرجت نفس فلان وفي نَفْسِ فلانٍ أن يَفْعَل كذا وكذا.
والضرب الآخر معنى النفس فيه معنى جملة الشيء ومعنى حقيقة الشيءِ ، قتلَ

(2/222)


فلان نفسه ، وأهْلك فلان نفسه ، فليس معناه أن الِإهلاك وقع ببعضه ، إِنما
الِإهلاك وقع بذاته كلها ، ووقع بحقيقته ، ومعنى تعلم ما في نفسي ، أي تعلم
ما أضْمره ، ولا أعلم ما في نفسك . لا أعلم ما في حقيقتك وما عندي علمه ، فالتأويل أنك تعلم ما أعلم ولا أعلم ما تعلم ، ويدل عليه : (إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ).
فإِنما هو راجع إِلى الفائدة في المعلوم والتوكيد أن الغيب لا يعلمه إلا
اللَّه جلّ ثناؤه.
* * *
وقوله : (مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117)
(أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ)
جائز أن تَكُون في معنى " أي " مُفَسِّرةً ، المعنى ما قلت لهم إِلا ما
أمرتني به أي اعبدوا ، ويجوز أن تكون " أن " في موضع جَر على البَدَل من
الهاءِ ، وتكون " أن " موصولة ب (اعبدوا الله) ومعناه إِلا مَا أمرْتَني بِهِ بأن يَعبدوا اللَّه.
ويجوز أن يكونَ موضعها نصباً على البدل ، من (ما).
المعنى ما قلت لهم شيئاً إِلا أن اعبدوا اللَّه ، أي ما ذكرت لهم إِلا عبادة اللَّه.
* * *
وقوله : (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)).
معنى قول عيسى - عليه السلام - (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ)
اختلف أهل النظر في تفسير قول عيسى : (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ).
فَقَال بعضُهم معناه إِن تغفر لَهُمْ كذِبَهُم عليَّ.
وقالوا لا يجوز أن يقول عيسى عليه السلام : إِن الله يجوز أن يغفِرَ
الكُفْرَ ، وكأنه على هذا القول : إِن تغفر لهم الحكاية فقط ، هذا قول أبي
العباس محمد بن يزيد ،

(2/223)


ولا أدري أشَيءٌ سَمِعَه أم اسْتَخْرجَه ، والذي عندي واللَّه أعلم ، أن عيسى قد علم أن منهم من آمن ومنهم من أقام على الكفر ، فقال عيسى في جملتهم . (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ) أي إِن تعذبْ من كفر منهم.
فإنهم عبادك وأنت العادلُ عليهم لأنك أوضحت لهم الحق وكفروا بعد وجوب الحجة عليهم ، وَإنْ تَغْفِرْ لمن أقلعَ منهم وآمن فذلك تفضل منك لأنه قد كان لك ألا تَقْبلهم وألا تغفر لهم بعد عظيم فريتهم ، وأنت في مغفرتك لهم عزيز لا يمتنع عليك ما تريد ، " حكيم " في ذلك.
وقال بعض الناس : جائز أن يكون اللَّه لم يُعْلمْ عِيسى أنَّه لَا يَغْفِرُ
الشرك ، وهذا قول لا يعرج عليه لأن قوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) لا يخص شيئاً من أمَّة محمد - صلى الله عليه وسلم - دون غيرها ، لأن هذا خبر والخبر لا ينسخ ، وهذا القول دار في المناظرة وليس شيئاً يعتقده أحد يوثق بعلمه.
* * *
وقوله : (قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119)
القراءَة برفع " اليوم " ونصب " اليوم " جميعاً ، فأمَّا من رفع اليوم فعلى خبر هذا اليوم ، قال الله اليوم ذو منفعة صدق الصادقين ومن نصب فعلى أن يوم
منصوب على الظرف ، المعنى قال اللَّه : هذا لعيسى في يوم ينفع الصادقين
صدقهم ، أي قال اللَّه هذا في يوم القيامة ، ويجوز أن يكون قال الله هذه
الأشياء وهذا الذي ذكرناه يقع في يوم ينفع الصادقين صدقهم ، وزعم بعضهم أن (يوم) منصوب لأنه مضاف إِلى الفعل ، وهو في موضع رفع بمنزله يومَئذ

(2/224)


مبني على الفتح في كل حال ، وهذا عند البصريين خطأ ، لا يجيزون هذا يومَ
آتيك يريدون هذا يوم إِتيانك لأن آتيك فعلٌ مضارع ، فالإِضافة إِليه لا تزيل
الِإعراب عن جهته ولكنهم يجيزون ذلك يومَ نفعَ زيداً صِدْقه ، لأن الفعل
الماضي غيرُ مضارع ، فهي إِضافة إلى غير متمكن وإِلى غير ما ضارع
المتمكن ، وفيها وجه ثالث . (هذا يومٌ يَنْفَعَ الصادقين) بتنوين " يوم " على إِضمار (هذا يوم ينفع - فيه الصادقين صدقهم) ، ويكون كقوله :
(وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا).
ومثله قول الشاعر :
وما الدَّهرُ إِلا تارتان فمنهما أموتُ . . . وأخرى أبتغي العَيْشَ أكدَحُ
المعنى فمنهما تارة أموت فيها .

(2/225)


سورة الأنعام
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قال أبو إِسحاق : بلغني مِنْ حَيث أثق بِه أن سورةَ الأنعام نزلتْ كلها
جملة واحدة ، نزل بها سبعون ألف ملك لهم زَجَل بالتسبيح ، وأن أكثرها
احتجاج على مشركي العرب . على من كذَب بالبعث والنشور ، فابتدأ اللَّه
عزَّ وجلَّ بحمده فقال :
(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1)
فذكر أعظم الأشياء المخلوقة لأن السماءَ بغير عمد ترونها والأرض
غيرُ مائِدةٍ بنا ، ثم ذكر الظلُماتِ والنورَ ، وذكَر أمرَ الليل والنهار ، وهو مما به قِوَامُ الخَلق ، فأعلمَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ أن هذه خَلْق له ، وأن خالقها لا شيءَ مثْلُه.
وأعلم مع ذلك أن الذين كفروا بِرَبهِم يَعدِلونَ ، أي يجعلون لِلَّهِ عَدِيلاً.
فيعبدون الحجارة المَوَاتَ ، وهم يُقرون أنَّ الله خَالِق مَا وَصف ، ثم أعلمهم
اللَّه عزَّ وجلَّ أنه خَلَقهم مِنْ طِين ، وذكر في غَيرِ هذا المَوْضع أحوالَ
المخلوقين في النُطَفِ والعَلَقِ والمُضَغِ المخَلَّقَةِ وَغَيرِ المخَلَّقَةِ ، وذلك أن
المشركين شَكوا في البعث وقالوا : (مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ)
فأعلمهم

(2/227)


عزَّ وجلَّ أن الذي أنَشَأهمْ وأنشأ العِظَامَ وخلق هذه الأشيَاءَ لَا مِنْ شَيءٍ قادرٌ
على أن يخلقَ مِثلَهَا ، - وهُويُحيِيهِمْ بَعدَ مَوتهِم ، فقال عزَّ وجلَّ :
(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2)
أي جعل لحياتكم أجلاً أي وَقْتاً تَحيون فيه.
(وأجَلٌ مُسَمًى عنْدَه) يعني أمرَ الساعة والبعث ، (ثُمَّ أنتم) بعد هذا البيان . (تَمتَرَوُنَ) أي تَشكونَ.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3)
" في " موصولة في المعنى بما يدل عليه اسم اللَّه ، المعنى هو الخالق
العالم بما يصلحُ به أمرُ السماءِ والأرضِ ، المعنى هوَ المتفرد بالتدبِير في
السَّمَاوَات والأرض ، ولو قلت هو زيد في البيت والدار لم يجز إِلا أن يكون في الكلام دليلٌ على أن زَيداً يدبر أمر البيت والدار ، فيكون المعنى هو المدَبِّر في الدارِ والبيتِ ، ولو قلتَ هو المعتَضِد الخليفة في الشرق والغَربِ ، أو قلت هو المعتَضِدُ في الشرق والغَربِ جَازَ على هذا.
ويجوز أن يكون خَبَراً بعد خبرٍ كأنه قيل إِنه هو اللَّه ، وهو في السَّمَاوَات وفي الأرض ، ومثل هذا القول الأول -
(وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ)
ويجوز أن يكون وهو الله في السَّمَاوَات وفي الأرض ، أي هو المعبود فيهما ، وهذا نحو القول الأَول.
قوله عزَّ وجلَّ : (فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (5)
دَل بهذا أنهم كانوا يستهزئُون ، وقد ذَكر استهزاؤهم في غير هذا
المكان ، ومعنى إِتيانه أي تَأوِيله : المعنى سيعلَمُونَ ما يؤول إِليه استهزاؤُهم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (6) وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)

(2/228)


موضع " كَم " نصب بـ "أهلكنا " إِلَّا أن هذا الاستفهامَ لا يَعمل فيه مَا قَبلَهُ
وَقِيلَ القرنُ ثَمَانُون سنةً وقيل سَبعونَ ، والذي يقع عندي - واللَّه أعلم - أن
القرن أهلُ مُدةٍ كان فيها نبي أو كان فيها طبقة من أهل العلم.
قَلَّت السنُونَ أو كثرت.
والدليل على هذا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - خَيركم قَرْنِي ، أي أصحَابِي ، رحمة اللَّه عليهم ثمَ الذين يَلُونَهم يَعني التابعين ، ثم الذين يلونهم يعني الذين أخذُوا عَن التَابِعين.
وجائز أن يكون القرن لجملة الأمة وهؤُلاء قُرون فيها.
وإِنما اشتقاق القرن من الاقتران ، فتأويله أن القرن الذين كانوا
مقْتَرِنِينَ في ذلك الوقت ، والذين يأتون بعدهم ذوو اقتران آخر.
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا).
أي ذات غيث كثير ، ومِفْعَال من أسماءَ المبالغة يقال دِيمَةُ مِدْرَار ، إِذا
كان مطرها غَزِيراً دائماً ، وهذا كقولهم امرأة مِذْكار ، إِذا كانت كثيرة الولادة للذكور ، وَكَذَا مِئْنَاثٌ في الإناث.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)
أعلم الله عزَّ وجلَّ أنهم قد أصِلُوا في السَّيئ البَاطِل في دفع النبوة.
لأنهم قد رَأوا القَمَر انشقً فأعرَضُوا ، وقالوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ.
وكذلك يقولون في كل ما يَعْجِزُ عنه المخلوقون سحر ، هذا عين الدفع

(2/229)


لغاية الحق والنور الساطع المبين ، فلو رَأوا الكتاب ينزل من السماءِ لقالوا
سِحرْ كما أنهم قالوا في انشقاق القمر سحر.
* * *
(وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8)
يعنون على النبي - صلى الله عليه وسلم -.
(وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ).
يعني - واللَّه أعلم - أن الآيات مما لا يَقَعُ مَعَهُ إِنْظَارْ.
ومعنى (لَقُضِيَ الْأَمْرُ) أي لتم بإِهْلَاكِهِمْ.
و " قُضِيَ " في اللغة على ضُروبٍ كَلَها يَرجِعُ إِلىٍ معنى انقطاع الشيءِ وتمامه ، فمنه قوله تعالى : (ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) معناه ثُمَّ حَتَمَ بعد ذلك فأتمَّه ، ومِنْه الأمر وهو قوله : (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) معناه أمَرَ إِلا أنَّه أمر قَاطِع حَتْمٌ.
ومنه الإعلَامُ وقوله : (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ) أي أعلمناهم إِعلاماً قاطعاً ، ومنه القضاءُ الفَصلُ في
الحُكْمِ ، وهو قوله : (وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ)
ومثل ذلك قولك قَد قَضَى القَاضي بَينَ الخُصُوم ، أي قد قطع بينهم في الحكم ، ومن ذلك قد قضى فلان دَيْنَه ، تأويله قطع ما لغريمه عليه فأدَّاه إِلَيه وَقَطع ما بَينَه وبَينَه.
وكل ما أُحكِم فقد قُضِيَ ، تقول قد قضيت هذا الثوب ، وقد قضَيتُ هَذه الدارَ إِذا عَمِلْتُها وأحكمت عمَلها.
قال أبو ذُؤَيب الهذلي :
وعليهما مسرودتان قضاهما . . . داودُ أو صَنَع السَّوابغَ تبَّع

(2/230)


وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9)
أي لو أرسلنا إِليهم مَلَكاً لم نرسله إِلا في صورة إِنْسَانٍ ، لأن الملَكَ فيمَا
قِيلَ لو نَظَرِ إِلَيه نَاظِر على هَيئَتِه لَصَعقِ ، وكانت الملائكةُ تأتي الأنبِيَاءَ في
صورَةِ الإنْس ، فمن ذلك أن جِبرِيلَ كان يأتي النبي عليه السلام إذَا نَزَل
بِالوَحيِ في صورة دِحْيَةَ الكَلْبِى ومنه نبأ الخَصْم إِذ تَسَوَّرُوا المِحْرابَ ، لأنَّهُمَا
ورَدَا على دَاودَ وهُما مَلَكانِ في صورَة رَجلَين يَخْتصِمَانِ إِليه.
ومنه أنَّ الملائِكةَ أتتْ إبراهيم في صورة الضِّيفان وكذلك أتتْ لوطاً ، فلذلك قيل : (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ).
يقال لبَست الأمْرَ عَلَى القوم ألْبِسه إِذا شَبَّهتُه عَلَيهِم ، وأشكَلْتُه عليهم.
وكانوا هم يَلْبِسونَ عَلَى ضَعَفَتِهِمْ في أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيقولون : إِنما هذا بشر مثلكم فقال (ولو أنزلنا ملكاً) فرأوا هُمُ المَلَكَ رَجُلًا لكان يَلْحَقُهُمْ فيه من اللبس مثل ما لحق ضعفتهم منهم.
* * *
وقوله : (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (10)
الحَيْقُ في اللغَةِ ما يشتمل على الإِنسان من مكروه فَعَلَهُ.
ومنه قوله عزَّ وجلَّ : (وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) ، أي لا تَرجع عاقبةُ
مَكْرُوهِهِ إِلَّا عليهم.
ْوقوله عزَّ وجلَّ : (قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (12)
اللَّه عزَّ وجلَّ تفضل على العباد بأن أمهَلَهُم عِنْدَ كفرهم وَإِقْدَامِهم على

(2/231)


كبائِر مَا نَهاهُم عَنْه بأن أنْظَرهُم وَعَمًرهم وَفَسَح لَهُم ليَتوبُوا ، فذلك كَتْبُه الرحمةَ
على نفسه ، فأما (لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) فهو احتجاج على المشركين
الذين دفعوا البعث ، فقال عزَّ وجاق : (لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)
أي : إِلى اليوم الذي أنكرتموه ، كما تقول قد جمعت هُؤلاءِ إِلى هُؤلاءِ ، أي ضممت بينهم في الجَمع.
وقوله : (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ).
ذكر الأخفش أن " الذين " بدل من الكاف والميم.
المعنى ليجمعن هؤُلاءِ المشركين الذين خسروا أنفسهم إِلى هذا اليوم الذي يجحدونه ويكفرون به ، والذي عندي أن قوله : (الذين خَسرُوا انفُسَهم).
في موضع رفع على الابتداءِ ، وخبره (فهم لا يومنون) لأن " لَيَجْمَعنَّكم " مشتمل على سائر الخلق.
على الذين خسروا أنفسهم وَغَيْرِهم ، وهذه اللام في ليجمعنَّكم لام قسم.
فجائز أن يَكون تمامُ الكَلَامِ كَتَبَ ربكُمْ عَلَى نَفْسِه الرحمةَ ، ثم استأنف فقال
لَيَجْمَعنَّكم ، وكأنَّ المعنى : واللَّه ليجمعنكم ، وجائز أن - يكون ليجمعنكم بدلاً من الرحمة مُفَسِّراً لها ، لأنه لما قال كتب ربكم على نفسه الرحمة فَسَّر ررحمته بأنه يُمْهلهم إِلى يوم القيامة ، ويكون في الِإمهال ما فسرنا آنفاً
* * *
وقوله : (وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13)
هذا أيضاً احتجاج على المشركين لأنهم لم يُنْكِرُوا أنَّ مَا استقر في
الليل والنَّهَارِ لِلَّهِ ، أي هو خالقه وَمُدَبِّره ، فالذي هو كذلك قادر على إِحياءِ
الموتى ، ثم زَادَ في الاحتجاج والبيان فقال عزَّ وجلَّ : (قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14)

(2/232)


أي خالق السَّمَاوَات والأرض.
فإن قال قائل فقوله : (إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ) معناه انشقت فكيف
يكون الفَطْرُ في معنى الخَلْق والانفطار في معنى الانشقاق ؛ فإِنهما يَرْجِعَان إِلى
شِيءٍ واحد ، لأن معنى فطرهما خَلقهما خلْقاً قاطعاً ، - والانْفِطَار والفُطُورُ تقَطع وتشقق.
وقوله : (وَهو يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ).
وًيقْرَأ " ولا يَطْعَمُ " ، والاختيار عند البصراء بالعربية ، وهو يُطْعمُ وَلَا يَطعَمُ
بفتح الياء في الثاني . قالوا معناه : وهو يرزق وُيطْعِم ولا يَأْكل لأنه الحي الذي ليس كمثله شيء ، ومن قرأ (ولا يُطْعَمْ) فالمعنى أنه المولى الذي يَرْزُق وَلاَ يُرْزَقُ ، كما أن بعض الْعَبيد يَرْزُق مولاه.
والاختيار في " فاطِر " الجرُ لأنَّه مِن صفة الله جلَّ وعزَّ ، والرفع والنصب جائزان على المدح لله جلَّ وعزَّ والثَّناءِ عليه.
فمن رفع فعلى إِضمار هو . المعنى هو فاطر السَّمَاوَات والأرض ، وهو
يُطعِم ولا يُطعم ، ومن نصب فعلى معنى اذكر ، وأعني بهذا الاحتجاج عليهم ، لأن من فطر السَّمَاوَات والأرض وأَنشأَ ما فيهما وأحكم - تدبيرهما وأطعم من فيهما فهو الذي ليس كمثله شيء.
* * *
وقوله : (مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16)
أي من يَصْرِفْ اللَّهُ عنه العذاب يومئذ - يعني يوم القيامة الذي ذكر أنهم
يجمعون فيه ، وتُقْرأ أيضاً (من يُصرَف عَنْهُ يومئذ فقد رَحمِه) ، أَي من يُصْرَف عنه العذابُ يومئذ.
* * *
وقوله : (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19)

(2/233)


والشاهد هو الْمُبَيِّن لدَعْوَى المدعِي ، فأمر الله جَل ثنَاؤُه نبيه بأن يحتج
عَلَيْهم باللَّه الواحِد الذي خلق السموات الأرض وخلق الظلمات والنور.
وخلقهم أطواراً على ما بَين في كتابه ، وأمر أن يعْلِمهم أن شهادة اللَّه بأنه
واحد ، وَإِقامة البراهين في توحيده أكبر شهادةً ، وأن القرآن الذي أتى به يشهد له بأنه رسوله فقال : (قل اللَّهُ شهيدٌ بَيْني وَبَيْنَكمْ) ، الذي اعترفتم بأنه خالق هذه الأشياء :
(وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ).
ففي الِإنذار دليل على نبوته ، لأنه لَمْ يَأت أحد بمثله ، ولا يأتي بمثله
لأن فيه أخبارَ الأمم السالفة ، جاءَ بها عليه السلام.
وهو أُمِّيٌّ لا يقرأ الكُتُبَ ، وأنبأ بما سيكون ، وكان ما أنبأ به حقًا ، ثم قال : (واللَّه يَعْصمك من النَّاس)
وكان - صلى الله عليه وسلم - مَعْصُوماً منهم.
وقال : (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)
فأظهر الله دين الإِسلام على سائر الأديان بالحجة القاطعة.
وغَلَبَة المسلمين على أكثر أقطار الأرض
وقال في إليهود . وكانوا في وقت مبعثه أعزَ قومٍ وأمتنه :
(وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ) ، فَهُمْ أذلَّاءُ إِلى يوم القيامةِ.
فأنبأ الله في القرآن بما كان وما يكون ، وأتى به مؤَلَّفاً تأْلِيفاً
لم يَقْدرْ أحد مِن العرب أن يأْتيَ بسورة مثله ، وهو في الوقت الذي قيل لهم
ليأْتوا بسورة من مثله ، خُطَباءُ شعراءُ لم يكن عندهم أوْجَزَ من الكَلام المنثور.
والموزون ، فعجزوا عن ذلك.
* * *
وقوله : (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20)
أي يَعرِفون محمداً - صلى الله عليه وسلم - أنَّه نَبي كما يَعرفُونَ أبنَاءَهُم ، وُيروَى عن عمرَ بنِ الخطابِ أنهُ قال

(2/234)


لعَبد اللَّهِ بنِ سَلاَم : يا أبا حمزة : هل عرفت محمداً كما عرفت ابنك ؟
قال نَعَم ، لأن الله بعث أمِينه في سَمائه إِلى أمِينِه في أرضِه بِنعتِه فعرفْتُه ، فأمّا ابني فما أدري ما أحدَثَتْ أُمُّه . فقال صدقت يا حمزة.
وقوله : (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ).
رفع على نعت (الذين آتيناهم الكتاب) وجائز أن يكون على الابتداءِ.
ويكون (فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) خَبَره.
والذين خسروا أنفسهم الأشبه أن يكون ههنا يعني بِه أهل الكتاب.
وجائز أن - يكون يعني به جملة الكفار من أهل الكتاب وغَيرِهم.
* * *
وقوله : (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23)
إِنْ شِئْتَ نصبت " فِتْنَتَهم " على خَبرِ يَكنْ ، ويكون أن قَالوا هو الاسم
وأنث " تكن " وهو (إِلا أن قَالُوا) لأن " أن قالوا " ههنا هو الفتنة.
ويجوز أن يكون تأويل " أن قَالوا " إِلا مَقَالَتُهم.
ويجوز رفع الفتنة وتأْنيث " تكن " ويكون الخبر (أَنْ قَالُوا)
والاسم (فِتْنَتُهُمْ).
ويجوز ُ ثم لَم يَكًنْ فتنتَهُم إِلا أن قالوا ، فتذكر " يكن " لأنه
معلق ب (أَنْ قَالُوا) ، ويجوز ثم لم يكن فتنتهم بالياءِ ورفع الفتنة ، لأن الفتنة
والافتتان في معنَى واحد.
وتأويل هذه الآية تأْويل حسن في اللغة لطيف لا يفهمه إِلا من عرف
معانيَ الكلام وتَصَرُّفَ العربِ فِي ذلك ، واللَّه جلَّ وعزَّ ذَكَرَ في هذه

(2/235)


الأقاصِيصِ التِي جَرتْ في أمر المشْركِينَ وهم مُفْتَتِنُونَ بشِركِهِم.
أعلم اللَّهُ أنه لم يكن افتتانهم بشركهم ، وإِقَامتُهم عليه إِلا أن تَبرأوا مِنه وانْتَفَوا مِنْه ، فَحَلَفُوا أنهم ما كانوا مشركين.
وَمِثْلُ ذَلِكَ في اللغة أنْ ترى إِنْسَاناً يُحِب غَاوِياً ، فإِذا وقع في هَلَكَةٍ
تَبرأ منه ، فتقول له ما كانت محبتك لفلان إِلا أن انْتَفَيتَ مِنْه.
ويجوز (وَاللَّهِ رَبِّنَا) على جر (رَبِّنَا) على النعتِ والثناءِ لقوله (وَاللَّهِ).
ويجوز (وَاللَّهِ رَبَّنَا) بنصب (رَبَّنَا) ، ويكون النصب على وجهين ، على الدعاءِ ، قالوا واللَّه يا رَبِّنَا ما كنَا مشركين.
ويجوز نصبه على أعني : المعنى أعني (رَبِّنَا).
وأذْكر ربنا ، ويجوز رفعه على إِضمار هو ، ويكون مَرفُوعاً عَلَى المَدحِ.
والقراءَةُ الْجَر والنَّصبُ ، فأمَّا الرفع فلا أعلَمُ أحداً قرأ به.
* * *
وَقَوله : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25)
(أَكِنَّةً) جمع كِنان وهو الغِطاءُ ، مثل عِنَان وأعِنَّة.
فأمَّا (أَنْ يَفْقَهُوهُ) فمنصوب على أنه مَفْعولٌ له ، والمعنى وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً ، لكراهة أن يفقهوه فلما حذفت اللام نصبت الكراهة ، ولما حذفت الكراهة انتقل نصبها إِلى أنْ.
وقوله : (وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا).
الوقر : ثقل السمع وهو بالفتح ، يقال في أذنه وَقْر ، وقد وُقِرَتْ الأذن
توقَر.
قال الشاعر :

(2/236)


وَكَلامٍ سَيِّئ قد وقرت . . . أذُني منه وما بي مِنْ صَمَم
والوِقْر - بكسر الواو - أن يحمل البعير أو غيره مقدار ما يطيق ، يقال عليه
وِقْرٌ ، ونَخْلةٌ موقِرٌ وَموقرة بالكسر أكثر ، وموقِر مِثْل مرضِع ، أَي ذات وقْرِ ، كما أن تلك ذات رَضاعٍ ، وإِنما فعل بهم ذَلكَ مجازَاة لهم بإِقامتهم على كَفْرِهِم.
وليس المعنى أنهم لم يَفْهَموه ولم يَسمَعوه ، ولكنهم لَما عَدَلُوا عَنْه وصَرَفُوا
فِكْرهم عَما هم علَيه ، في سوءِ العاقبة كانوا بمنزلة من لم يعلم ولم يسمع.
وقوله : (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا).
أي : كل علامة تَدلهم على نبوتكَ ، ثم أعلم الله عزَّ وجلَّ مقدارَ
احتجاجِهِم وجَدَلِهم وأنهم إِنما يستعملون في الاحتجاج أن يقولوا هذا أساطير
الأولين ، ويقولون افترى على الله كذباً ، فأعلمَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ أنهم ليس
يعَارِضُونَ ما احتُج بِه عَلَيهم من الحق ، حيث قيل لهم : (فَأْتوا بسورَةٍ مِن
مِثلِهِ) ، وحَيثُ شَق لهم القمرَ ، وحيث أنزل على نبيه عليه السلام
(واللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ).
فما أتى أحدٌ بسورةٍ ولا قدَرَ على ضَر النبي - صلى الله عليه وسلم -
ولا على قَتْلِهِ ، وأنبأ عزَّ وجلَّ بما سيكون في كتابِهِ فَوُجدَ ذلكَ أجمَعُ.
فقال اللَّه عزَّ وجلَّ : (حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ).
واحدها إِسطار ، وأسطُورة . وتأْويل السَّطْر في اللغة أن تَجعَل شيئاً مُمتَدا

(2/237)


مَؤلفاً ، فمن ذلك سَطرُ الكتاب ، يقال : سَطرٌ وَسُطَر ، فمن قال سطر جمعه
أَسطار ، قَال رُؤبةُ.
إِني وأسطارٍ سُطِرنَ سَطْرَا . . . لقائلٌ يا نَصرُ نَصراً نَصْرَا
وجمع أسْطَار أسَاطير ، فعلى هذا - عِنْدي - أَساطير الأولينَ.
ومن قال سَطَر . فجمعه أسطُر ، وجمعُ الجمع أساطِرَة ، وأساطير
قال الشماخ في جمع سَطْر :
كما خط عبرانية يمنية . . . بتيماءَ حبَر ثم عرَّض أسطرَا
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (26)
أي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنْ يُتَبعَ ، وَينْأونَ عنه ، أي يتَبَاعَدونَ عنه ، يقال : نأيتُ عن الشيْءِ أنأَى نأْياً ، إِذَا بَعُدت عنه ، والنُّؤى حاجز يُجعَل حول البيت لَئِلا يَدخُلَهُ الماءُ من خَارِجٍ ، تحفَر حَفِيرَة حولَ البَيتِ فيجْعَلُ تُرابُها على شَفِيرِ الحَفِيرةِ.
فيمنَغ الترابً الماءَ أن يدخل من خارِجٍ ، وهو مأْخوذ مِنَ النَأيِ أَي مباعِذ
للماءِمن البيْتِ.
وقال بعضهم : إِنه يعنى به بعض أَهل النبي - صلى الله عليه وسلم - ، أي وهم ينهون عن أَذَى النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - ويَتَبَاعَدُونَ عَنْهُ ، أَي لا يَتّبعُونَهُ.
والكلامُ مُتصِل بذكر جَماعَةِ أَهل الكتاب ، والمشركين .

(2/238)


والقول الأول أشْبَهُ بالمعنَى.
* * *
قوله : (وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27)
القراءَة - أكثر ها بالفتْح والتَفْخِيم ، والِإمالة حسنة جَيدَةُ ، وهي مذهب
أبي عمرو . أعني كسر الألف من " النَّارِ " ، وإِنما حَسُنَتْ الِإمالة في قوله
(كمثل الحِمَارِ يحمل أسفاراً) ، وأصحَاب النَّارِ ، لأن الراءَ بعد الألف
مكسورة ، وهي ، حرف كأنَّه مكَرر في اللسان ، فصارت الكسرة فيه كالكسرتين.
ومعنى (وُقِفُوا عَلَى النَّارِ) يحتمل ثلاثة أوجه - جائز أن يكونوا عَايَنُوها.
وجائز أن يكونوا عليها وَهِيَ تَحتَهم ، والأجود أن يكون معنى وقفوا على النار أُدخِلوها فَعَرَفوا مقدارَ عَذَابهَا ، كما تقول في الكلام : قد وَقَفْتَ على ما عندَ فلانٍ ، تريد قد فهمته وتَبَينْتَه.
(فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ).
أكثر القراءِ بالرفع في قوله : (وَلَا نُكَذِّبُ بِآيَاتِ رَبِّنَا) ، ويكون المعنى أَنَّهم
تمنوا الرد ، وضمِنوا أنهم لا يُكَذِّبونَ.
المعنى : يا ليتنا نرد ، ونحن لاَ نكذب ، بآيات ربنا رُدِدنا أم لم نرد ، ونكونَ من المؤمنين ، أي قَد عَايَنا وَشَاهَدنَا مَا لَا نكَذْب مَعَه أبداً.
قال سيبويه مِثله دَعني ولا أعود ، أي وأنا لا أعود تَركْتَنِي أو لم تَتْرُكْني.
ويجوز الرفع على وجه آخر ، على معنى يا ليتَنَا نرد ، ويا ليتنا لا نكَذِّبَ بآيات رَبِّنَا ، كأنَّهم تَمنَّوا الرد والتوفيق للتصديق ، ونَكون منَ المؤمِنينَ الرفع والنصب أيضاً فيه جَائِزَانِ ، فأمَّا النَصب فعلى يا ليتنا نرد وتكون يا ليتنا نرد ولا نكذب

(2/239)


على الجواب بالواو في التمني كما تقول ليتك تصير إِلينا ونكرمَكَ ، المعنى
لَيتَ مَصِيرَكَ يَقَعُ ، وَإِكْرَامَنَا ، ويكون المعنى : لَيتَ ردَّنا وقع وأن لا نُكذِّبَ.
أي إِن رُدِدْنا لم نكذبْ.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28)
أي بل ظهر للذين اتَبَعُوا الغُوَاةَ ما كان الغواةُ يخفون عنهم من أمر
البعث والنشُورِ . لأن المتصِلَ بهذا قولُه عزَّ وجلَّ : (وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ).
فأنكروا البعث ليُجرَّئوا عنى المعاصي.
(وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ).
قال بعضهم لَو رُدوا ولم يُعَايِنوا العَذَاب ، لعَادُوا ، كأنَّه يَذْهب إِلى أنهم
لَم يُشَاهِدوا ما يضطرهم إِلى الارتِدَاع ، وهذا - عَلَّهُ - بيّنٌ.
لأن هذا القول منهم بعد أن بُعِثوا وعَلِمُوا أمرَ القِيَامَةِ وَعَايَنُوا النَّارَ ، فالمعنى أن أكثر من عايَنَ مِنَ اليَهودِ والمشركين قَدْ عَلِمَ أن أمر اللَّهِ حَق فرَكَنَ إِلى الرفَاهِيةِ ، وأن الشيء متأخر عنه إِلى أمدٍ كما فَعَل إِبليس الذي قد شاهد من بَراهين الله ما لا غاية بعده ، فأعلم اللَّه عزَّ وجلَّ أنهم لَوْ رُدُّوا لعَادُوا لأنهم قَدْ كَفَرُوا بَعْدَ وُجُوبِ الحُجةِ عَلَيْهم.
وقال بعض المفسرين : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل فقيل له : ما بال أهْل النار عملوا في عُمْرٍ قصيرٍ بعَمل أهل النار فَخُلِّدُوا في النارِ وأهلُ الجنة عملوا في عمر قصير بعمل أهل الجنَّةِ فخلدوا في الجنَّةِ ، فقال : إِن الفريقين كان كل واحدٍ مِنهمَا على أنه لو عاش أبداً عَمِل بذلك العَمَل.
* * *
وقوله : (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (31)

(2/240)


كل ما جاءَ فُجَاءَة فقد بَغَتَ ، يقال قد بَغَتَهُ الأمر يَبْغَتُه بغْتاً وبَغتةً ، إذَا أتاه
فُجاءَةً.
قال الشاعر :
ولكنهم ماتوا ولم أخْشَ بغتةً . . . وأفْظَعُ شيء حين يَفْجَؤكَ البَغْت
وقوله : (يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مافَرطْنَا فِيهَا).
إِن قال قائل : ما معنى دُعَاءِ الحَسْرَةِ ، وَهِيَ لاَ تعقل ولا تجيب ؟
فالجواب عن ذلك أن العربَ إذا اجْتَهدتْ في الإخْبارِ عنْ عَظِيم تقع فيه
جعلته نداءً ، فلفظه لفظ ما ينبَّه ، والمنبَّه غَيرُهُ.
مثل قَوله عزَّ وجلَّ : (يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ).
وقوله : (يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ)
وقوله : (يَا وْيلنَا من بعثنا من مَرْقَدِنَا هَذَا) . .
فهذا أبلغ من أن تقول : أنا حَسِرٌ عَلَى العباد ، وأبلغ من أن تقول : الحسرة علينا في تفريطنا.
قال سيبويه : " إنَّكَ إذا قلت يا عجباه ، فكأنك قلت احضُرْ وتعال يا
عجبُ فإنه مِنْ أزمَانِكَ ، وتأويل " يا حَسْرتَاهُ " انتَبهُوا على أننا قد خسرنا " وهذا مثله في الكلام في أنك أدْخَلْتَ عليه يا للتنبيه ، وأنت تريد الناس قولك : لَا أريَنَّكَ هَهنَا ، فلفظُك لفْظُ النَاهِي نفسه ، ولكنه لمَا علم أن الِإنسان لا يحتاج أن يلفظ بنهي نَفْسِه دَخل المخَاطَبُ في النَهيِ فصار المعنى : لا تكونَنَّ ههنا ،

(2/241)


فإِنك إِذَا كنْتَ رأيتُكَ ، وكذلك يَا حَسْرتَنَا ، قد علم أن الحسْرَةَ لا تُدْعَى ، فوقع التنبيه للمخاطبين.
ومعنى : (فَرطْنَا فِيها) قَدَّمْنَا العَجْزَ.
وقوله : (وَهُمْ يَحْمِلُونَ أوزَارَهُمْ).
أي يحملون ثِقل ذُنوبهم ، وهذا مَثل . جائز أن يكون جُعِل ما ينالهم
من العذاب بمنزلة أثقل ما يُحَمَّل ، لأن الثقل قد يستعمل في الوِزْرِ ، وفي
الحال ، فَتقُول في الحال قد ثقل على خطاب فلان ، تأويله قد كَرهتُ خِطَابَه
كراهةً اشْتَدت عَلَيَّ ، فتأويل الوزر الثقل من هذه الجهة ، واشتقاقه من الوزر ، وهو الجَبَل الذي يَعْتَصِم بِه الملك والنبي ، أي يُعينُه.
ومنه قوله تعالى : (وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا).
سأل مُوسَى رَبَّه أن يجعل أخاه وزيراً له.
وكذلك قوله تعالى : (ألَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ).
أي بِئس الشّيءُ شيئاً أي يَحْملونه ، وقد فسرنا عمل نعم وبئس فيما
مضى من الكتاب ، وكذلك (سَاءَ مَثَلاً القوْمُ) أي : مثل القوم.
* * *
وقوله : (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33)
(لَا يُكَذِّبُونَكَ) ولا يُكْذِبُونك ، ومعنى كذَبْتُه قُلت لَه كذبْتَ ، ومَعْنى أكذبتُهُ ادعيت أن ما أتى به كذِب ، وتفسير قوله : (لَا يُكَذِّبُونَكَ) ، أي لا يَقْدِرُونَ أن يقولوا لك فيما أنْباتَ به مِما فِي كُتُبِهُمْ كذبت.
ووجه آخر : إنهم لا يكذبونك بقلوبهم ، أي يَعْلَمُون أنك صادق .

(2/242)


(وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ).
لأنهم إِنما جحدوا براهين الله جلَّ وعزَّ وجائز أن يكون فإِنَّهم لا
يُكذبونك ، أي أنت عندهم صادق ، لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يُسمَّى فيهم الأمين قبل الرسالة ، ولكنهم جحدوا بألسنتهم ما تشهد قلوبهم يكذبهم فيه.
ثم عَزَّى الله نبيه وصَبرهُ بأن أخبره أن الرسلَ قبلَه قد كَذبتهم أمم فقال :
(وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34)
أي إِذ قال الله لرسوله : (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) ، وإِذ قال :
(لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) فَلا مبدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ أي لا يخلف الله وعده ولا
يغلب أولياءَه أحَدٌ.
ثم أعلم الله عزَّ وجلَّ رسُوله أنه يأتي من الآيات بما أحب ، وأنه - صلى الله عليه وسلم - بشر لا يقدر على الِإتيان بآية إلا بما شاءَ الله من الآيات فقال :
(وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35)
أي إِن كان عَظمَ عليك أن أعْرضوا إِذ طَلبوا منك أنْ تُنزِّلَ عليهم ملَكاً.
لأنهم قالوا : (لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَك) ثم أعلم اللَّه جلَّ وعزَّ أنهم لو نزلتْ
عليهم الملائِكة وأتاهم عظيم من الآيات ما آمَنُوا.
وقوله : (فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ).

(2/243)


والنفق الطريق النافذ في الأرض ، والنافقاءُ ممدود أحَدُ جِحَرَةِ اليَرْبُوع
يَخْرِقُهُ من باطن الأرْض إلى جلدَة الأرض فإِذا بَلَغَ الجلدة أرَقها حتى إن
رابَة دَبِيب رفع برأسه هذا المكان وخرج منه . ومن هذا سُمِّيَ المنافق
منافقاً ، لأنه أبطن غير ما أظهر ، كالنافقاءِ الذي ظاهرهُ غَيْرُ بَينٍ ، وباطنه حَفْر
في الأرْض.
وقوله : (أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ).
والسُّلَّم مشتق من السَّلامَةِ ، وهو الشيءُ الذي يسلمك إِلى مصعدك.
المعنى فإِن استطعت هذا فافعل ، وليس في القرآن فَافعَل لأنه قد يحذف ما
في الكلام دليل عليه ، ومثل ذلك قولك : إن رأيت أن تمضي معنا إلى فلان.
ولا تذكر فافعل.
فأعلمَ اللَّهُ نبيه - صلى الله عليه وسلم - أنَّه لا يستطيع أن يأْتي بآية إلا بإِذن اللَّه . وإِعلامه النبي هذا هو إِعْلام الخلق أنهم إنما اقترحوا هم الآيات وأعلم الله جلَّ وعزَّ أنَّه قادر على أن يُنزلَ آية آية ، وأنَّه لو أُنزلت الملائكة وكلمهم
الموتى ما كانوا ليُؤمنوا إلا أن يشاء اللَّه.
وقوله : (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى).
فيه غير قوْل ، فأحدُها أنه لو شاءَ الله أن يَطْبَعَهُم عَلى الهدى لفعل
ذلك ، وقول آخر : (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى)
أي : لو شاءَ لأنْزَل عليهم آية تَضْطرهم إِلى الِإيمان كقوله جلَّ وعزَّ : (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4).

(2/244)


فإِنما أنْزَل الله الآيات التي يُفكر الناس مَعها ، فيْؤجَرُ ذو البَصَر ، ويثاب على الِإيمان بالآيات ، ولو كانَتْ نَارٌ تنزل على من يكفر أو يُرْمَى بحَجَرِ من السَّماءِ لانَ كل واحد.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36)
أي الذين يسمعون سَماعَ قَابِلِينَ ، وجَعَلَ من لم يَقْبَل بِمَنْزلَة الأصم.
قال الشاعر :
أصَمَّ عَمَّا سَاءَه سَميعُ
(والمَوتَى يَبعَثُهم اللَّهُ).
أي يحييهم (ثم إِليه يُرْجَعُون).
* * *
وقوله : (وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (37)
(قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً)
أي آية تجمعهم على الهُدَى.
* * *
وقوله : (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)
يجوز ولا طائر بالرفع على العطف على موضع دابَّة.
التأْويل وما دابَّة في الأرض ولا طائر ، والجر أجود وأكبر على معنى وما من دابة وَلاَ طَائرٍ.
وقال (يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ) على جهة التوكيد لأنك قد تقول للرجل : طِرْ في حاجتي أي أسرع ، وجميع ما خلق اللَّه عزَّ وجلَّ فليس يخلو من هاتين المنزلتين ، إِما أنْ يَدِبَّ أَو يَطيرَ.
(إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ).
أَي : في الخلق والموت والبعث .

(2/245)


وقوله : (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40)
الساعة اسم للوقت الذي يُصْعَقُ فيه العباد ، واسم للوقت الذي يُبْعَثُ
فيه العباد ، والمعنى إن أتتكم الساعة التي وُعِدْتُم فيها بالبَعْثِ والفناءِ ، لأنَّ
قبلَ البعث موتَ الخلق كله.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (أغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ).
أي أتدعون هذه الأصنَام والحجارةَ التي عبدتموها من دون اللَّه ، فاحتج
اللَّه عليهم بما لا يَدْفَعُونَه ، لأنهم كانوا إذا مَسَّهُمُ الضر دعوا اللَّه.
وقال النحويون في هذه الكاف التي في قوله : (أَرَأَيْتَكُمْ) غَيرَ قَولٍ :
قال الفراء لفظها لفظ نصبٍ ، وتأويلها تأْويل رفع ، قال : ومثلها الكاف
في قوله : دُونَك زيداً ، قال : الكاف في موضع خفض ، وتأويلها تأْويل الرفع ، لأن المعنى خذ زيداً.
وهذا لم يقله من تقدَّم من النحويين ، وهو خطأٌ لأن قولك أرأيتكَ زيداً
ما شأنُه! تصير " أرأيت " قد تعدت إلى الكاف وإِلى زيد.
فيصير لـ " رأيتَ " اسمان ، فيصير المعنى أرأيت نفسك زيداً ما حاله.
وهذا محال.
والذي يذهب إِليه النحويون الموثوقُ بعلمهم أن الكاف لا موضع لها.
وإنما المعنى أرأيت زيداً ما حاله . وإِنما الكاف زيادة في بيان الخطاب.
وهي المعتمد عليها في الخطاب ، اعلم أنك تقول إِذا كانت الكاف زائدة
للخطاب ، للواحد الذكر : أرأيتكَ زيداً ما حَالُه بفتح التاءِ والكاف ، وتقول
للمؤَنث أرَأيتَكِ زيداً ما حاله يا امرأة ، وتفتح على أصل خِطابِ الذكر ، وتكسر الكاف لأنها قد صارت آخر ما في الكلمة والمبيّنة عن الخطاب ، وتقول

(2/246)


للاثنين أرأيتَكُما زيداً مَا حَالُه وأرأيتَكُم زيداً ما حاله - للجماعة ، فَتُوحد التاءُ ، فكما وجب أن توحدَها في الشية والجمع وجب أن تذكرها مع المؤنث ، فإذا سَألْتَ النسوة قلت أرَأيتَكُن زيداً ما حَالُه.
وتثنية المؤنث كتثنية المذكر في كل شيء ، فإنْ عديتَ الفاعِل إلى المفعول في هذا الباب ، صارت الكاف مَفْعُولَه ، تَقُولُ : رَأيتُنِي عالماً بِفُلاَنٍ ، فإذا سألت عن هذا الشرطِ قُلْتَ للرجل :
أرأيتَكَ عَالِماً بِفُلَانٍ ، وتقول للاثنين على هذا : أرأيتاكما عالمين بفلانٍ.
وللجميع أرأَيتموكم عَالِمينَ بفلان ، لأن هذا في تأويل أرأيتم أنفُسَكم . وتقول للمرأة : أرأيتكِ عالمة بفلَانٍ - بكسر التاءِ والكاف - وتقول للاثنين أرأيتُما كما عالمين بفلان وللجماعة أرأيْتَكُن عالمات بفلان فعلى هذا قياس هذين البابين.
* * *
وقوله : (بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41)
(بل) استدراك ، وإيجاب بَعد نفي ، تقول : مَا جَاءَ زَيدٌ بل عَمْرو فأعلمهم
الله جلَّ وعزَّ أنهم لا يدعون في حال الشدائد إلا إياهُ ، وفي ذلك أعظم الحجة
عليهم ، لأنهم قد عبدوا الأصنام.
وقوله : (فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ).
المعنى فيكشف الضر الذي من أجله دَعَوْتُمْ ، وهذا على اتساع الكلام.
مثل سَل القَريَةَ : المعنى سَلْ أهْلَ القرية.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ).
" وتنسون " ههنا على ضربين : جائز أن يكون تَنْسَوْنَ تَتْرُكُونَ ، وجائز أن
يكون المعنى إنكم في ترككم دعاءَهم بمنزلة من يَسْهُونَ .

(2/247)


وقوله : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42)
قِيلَ الباسَا " الجوع ، والضراءُ النقص في الأموال والأنفس.
والمعنى أن اللَّه جلَّ ثناؤه أعلم نبيَه - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قد أرْسَل الرسلَ قبله إلى قوم بلغوا من القسوة إلى أن أخِذوا
بالشدة في أنْفسِهم وأمْوَالِهم ليخضعوا ويَذِلوا لأمْرِ اللَّه ، لأنَّ القُلوبَ تخْشع.
والنفوسَ تضْرَع عند ما يكون من أمر الله في البأساءِ والضراءِ.
فَلَمْ تخْشَعْ ولم تَضْرَعْ.
وقال : (لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ).
ومعنى لعل ترج ، وهذا الترجي للعباد ، أخَذَهم اللَّه بذلك ليكونَ ما
يَرجوه العباد منه بالتضرع ، كما قال عزَّ وجلَّ في قصة فرعون :
(لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى)
قال سيبويه : المعنَى اذهبا على رجائكما ، واللَّه عالم بما يكون
وراءَ ذلك.
* * *
وقوله : (فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43)
المعنى فهَلَّا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا.
(وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ) أي أقاموا على كفرهم.
* * *
وقوله : (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)
أي فتحنا عليهم أبْوَابَ كل شَيْءٍ كان مغلقاً عليهم من الخير.
(حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا).
أي حتى إذا ظَنُّوا أنَّ كل مَا نَزلَ بهم لم يكن انْتِقَاماً مِنَ اللَّه جلَّ وعزَّ.
وأنهم لَمَّا فُتحَ عليهم ظَنوا أن ذلك باسْتِحْقَاقِهِمْ (أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً).
أي فاجأهم عذابُنَا من حيث لا يَشعرون .

(2/248)


وقوله جلَّ وعزَّ : (فإذا هم مُبْلِسُونَ).
" المبلس " الشديد الحسرة ، واليائس الحزين.
* * *
وقوله : (فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45)
حَمِد الله عزَّ وجلَّ نفسه على أن قطع دَابِرَهُم ، واسْتَأصل شأْفَتَهمْ.
لأنه جلَّ وعزَّ أرسل إليهم الرسُلَ ، وأنْظرَهمْ بَعْدَ كُفْرِهِم ، وَأخَذَهُمْ بِالْبَأسَاءِ
والضراء فبالغ جلَّ وعزَّ في إنْذَارِهِمْ وإمْهَالِهِمْ ، فحَمِدَ نفْسَهُ ، لأنه محمودٌ في
إمْهَالِهِ مَنْ كفَرَ بِهِ وانتظارِه تَوْبَتَه.
* * *
وقوله : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46)
أي بسمعكم ، ويكون ما عطف على السمع داخلًا في القصة إِذ كان
معطوفاً على السمع.
وقوله : (انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ).
أي " يُعْرِضُونَ " . أعلم الله جلَّ وعزَّ أنَّه يُصَرفُ لهم الآيات ، وهي العلامات
التي تدل على توحيده ، وصحة نبوة نَبِيهِ - صلى الله عليه وسلم - ثم هم يُعْرضون عما وضح لهم وظهر عندهم.
* * *
وقوله : (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47)
الْبَغْتَةُ الْمفَاجَأة ، والجهر أو يَأتِيَهِمْ وَهمْ يَرَوْنَه.
(هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ).

(2/249)


أي هَلْ يُهْلَك اِلَأ أنْتُمْ ومَن أشبَهَكُمْ ، لأنكم كفرتم مُعَانِدين ، فقد
علمتم أَنكم ظالمون.
* * *
وقوله : (وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (48)
أي ليس إِرْسَالُهم بأن يأتوا الناس بما يَقْتَرِحُون عليهم من الآيات وإنَّمَا
يأتون من الآيات بما يبَين الله به براهينهم ، وإِنما قصدُهم التبشيرُ
والِإنذارُ.
* * *
وقوله : (قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (50)
هذا متصل بقوله : (لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ). فأعلمهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لا يملك خزائِنَ الله التِي بِهَا يَرزُق وُيعْطِي ، وأنه لا يعلم الْغَيْبَ فيخبِرَهُمْ بِمَا غَابَ عَنْه مِمَّا مضَى ، وما سَيَكُونُ إلا بِوَحْيٍ من اللَّهِ جلَّ وعزَّ.
(وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ).
أي الْملَك يشاهِد من أمورِ الله عزَّ وجلَّ ما لا يشَاهِدهُ الْبشر ، فأعْلَمهمْ
أنه يتبعُ الوحْي فقال : (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ).
أي ما أنْبأتكم به مِنْ غيبِ فيما مضى ، وفيما سيكُون فهو بوحي من
اللَّه ، فَأمَّا الِإنْباءُ بِما مَضَى ، فإخَبار بقصصٍ الأمَمِ السالِفةِ ، والإخبَارُ بما
سيكون كقوله : (غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ).
فوجد من ذلك ما أنبأ به ، ونحو قوله : (واللَّهُ يَعْصِمُكَ مِن النَّاسِ)

(2/250)


فاجتهدوا في قَتْله ، فلم يَصِلُوا إِلَى ذلك.
وقوله : (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ)
وما يُرْوى مِن الأخبَار عنه بما يَكُون أكثرُ من أن يُحْصَى.
* * *
وقوله : (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51)
قوله : (وَأَنْذِرْ بِهِ) ، أي بالقُرْآن ، وإِنما ذكر الذين يخافون الحشر ، دُونَ
غَيْرهم وهو - صلى الله عليه وسلم - منذر جميع الْخلْقِ ، لأن الًذِين يَخافُونَ الْحَشرَ الحجةُ عليهم أوجبُ ، لأنهم أفهمُ بِالْميعاد.
فهم أحَدُ رَجُلَيْنِ ، إِمًا رَجلٌ مُسْلِم فيؤَدي حق اللَّهِ في إِسْلاَمِهِ ، وإِما رَجُلُ مِنْ أهلِ الْكِتَابِ ، فأهلُ الْكِتَابِ أجمعُونَ مُعْتَرِفُونَ
بأن اللَّه جَل ثَنَاوه خَالِقهمْ ، وَأنَّهمْ مَبْعوثون.
وقوله : (لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ).
لأن النصارى ، واليهود ذكرت أنَّها أبناءُ اللَّه وأحِباؤُه ، فأعلمَ اللَّهُ أنَّه لا
ولي له إِلَّا المؤمنون ، وأنَّ أهلَ الكُفْر ليسَ لهم عنْ دُون اللَّهِ ولي وَلَا شَفِيع.
* * *
وقوله : (وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52)
كان قوم من المشركين أرادوا الحيلة على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا لوْ باعَدْت عَنك
هَؤُلاءِ السفْلة والْعَبِيدَ لجَلَسَ إِليك الكبراءُ والأشْرَافُ.
وكانوا عَنَوْا بالذين قَدرُوا أن يباعِدَهم النبي - صلى الله عليه وسلم - صُهَيْباً وخَبَّاباً ، وعمَّار بنَ يَاسرٍ وسلمانَ الفارِسي وبلالاً.
فأَعلم اللَّه عزَّ وجلََّ ، أن أمْرَ الدِّين هو المقَدَّم ، ونهاه أنْ يُبَاعِدَ هَؤُلَاءِ ، وَأَعْلَمَهُ أنهم يُرِيدُون ما عند الله فَشهِدَ لهم بصحة النيات وأنهم مُخْلِصُونَ في ذلك للهِ ، فقال : (يُرِيدُونَ وَجْههُ) ، أي يُرِيدُونَ اللَّهَ ويقْصِدُونَ الطُرقَ التي أمرهم بقصدها وإِنما قَدرُوا بهذا أن يُبَاعِدَهُم فتكونَ لهم حُجة عَلَيْهِ.
واللَّه قد أعلم

(2/251)


في قصة نوح إنَّه اتَبَعَ نُوحاً مَنْ كانَ عندهم مِن أرَاذِلهم ، فقال : (قَالُوا أنومِنُ
لَك واتبَعَكَ الأرْذَلُونَ) ، وقالوا : (مَا نَرَاك اتبَعَكَ إلا الَّذِينَ هُمْ أرَاذِلُنَا).
وقوله عزَّ وجل : (فتَكُونَْ مِنَ الظَّالِمِينَ).
جوابُ (ولا تَطْردُ) ، وقوله " فتطردَهم " جواب (مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ).
* * *
ومعنى : (وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)
أي اخْتَبَرْنا وَابْتَلَيْنا ، (لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا).
أَي ليكُونَ ذَلك آيةً أنَّهم اتبَعُوا الرسُولُ وصَبَرُوا عَلى الشدة ، وهم في
حال شديدة.
* * *
وقوله : (وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54)
أي الذين يُصَدقُون بِحُجَجِنا ، وبراهينَنَا (فَقُلْ سَلَام عَلَيْكُمْ).
خلا سمعت أبا العباس محمد بن يزيد يذكر أن السلام في اللغة أربعة أشياء
فمنها سَلَّمْتُ سَلاماً - مصدر سَلَّمْتُ ، ومنها السلام جمع سلامة ، ومنها
السلام اسم من أسماءِ الله تعالى ، ومنها السلامُ شجر ، ومنه قوله :
إِلَّا سلامٌ وَحَرْمَلُ.
ومعنى السلام الذي هو مصدر سَلَّمْتُ ، إنَّه دعاء للإِنْسَانِ أن يَسْلَم من

(2/252)


الآفات " في دينه ونفسه ، وتأويلُه التخَلص.
و "السلَامُ " اسمٌ من أسْمَاءِ اللَّه "
تأويله - واللَّه واعلم - ذُو السلَامِ أي هو الذي يملك السلام الذي هو تخليص من المكروه ، فأما السلامُ الشجَر فهو شَجَر عِظَامٌ قوِي أحْسَبُه سُميَ بِذلك لسلَامَتِهِ مِنَ الآفاتِ.
والسِّلام الْحِجَارَةُ الصلْبَةُ سميت بذلك لسلامتها من الرخاوة ، والصلْح
يُسَمَّى السِّلْمَ والسَّلْم والسَّلَمَ ، سمي بهذا لأن معناه السلامة مِنَ الشَر . والسَّلْم دَلْوٌ لَهَا عُرْوَة وَاحِدَة نحو دَلْوِ السَّقَائِينَ ، سُميتْ الذَلْوُ سَلْماً لأنها أقَل عُرًى من سائر الدِّلاء فهِى أسلَمُهَا من الآفاتِ والسُّلَّمُ الذي يرتقى عليه سُمِّي بهذا لأنه يُسَلِّمُك إِلى حَيْث تريدُ ، والسُّلَّمُ السبَبُ إلى الشَيءِ ، سُمِّي بهذا لأنهُ يؤدي إِلَى غَيْرِهِ ، كما يُؤَدي السُّلَّمُ الذي يُرْتَقَى عَلَيْهِ.
* * *
وقوله : (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
بفتحهما جميعاً ، ويجوز أن يكونَ " إنَّه - فإِنَّه " بكسرهما جميعاً ويجوز
فتح الأولى وكسر الثانية ، ويجوز كسر الأولى وفتح الثانية.
فأما فتح الأولى والثانية فعلى أن موضع أن الأولى نصب.
المعنى : كتب ربكم على نفسه الْمَغْفِرَةَ ، وهي بَدَل مِنَ الرحْمَةِ.
كأنَّه قال : كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ وهي المغفرة للمذْنِبِينَ التائبين ، لأن معنى إنَّه (غفورٌ رحيم) المغفرة منه.
ويجوز أن تكون الثانية وقعت مَؤكدة للأولى ، لأن المعنى : كتب ربكم أنه (غَفُورٌ رحيم) فلما طال الكلام أعيد ذكر إِنَّ.
فأما كسرهما جميعاً فعلى مذهب الحكاية ، كأنَّه لما قال
(كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) قال : (أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) بالكسر .

(2/253)


وجعلت الفاءُ جواباً للجزاءِ وكُسِرَتْ إِنَّ دخلت على ابتداءٍ وخبر ، كأنك
قلت فهو غفُورٌ رَحِيمٌ . إِلا أن الكلام بـ إِنَّ أوكدُ . وَمَنْ كسرَ الأولَى فعل ما ذكرنا من الحكاية ، وَإِذا فتح الثانية مع كسر الأولى . لأن مَعناها المصدَرُ ، والخبرُ محذُوفٌ.
المعنى إِنه مَن عَمِل كذا وَكذا فمغفرةُ اللَّه له.
ومن فتح الأولى وكسرَ الثانِيةَ فالمعنى رَاجعٌ إلى المَصْدَرِ.
وكأنَكَ لَم تَذْكُر إن الثانية ، المعنى كتب ربكم على نفسه أنه غفورٌ رَحِيمْ.
ومعنى (كتب) أوجَبَ ذَلِكَ إيجاباً مَؤكَداً ، وجائز أن يكون كتب ذلك في
اللوح المحفوظ ، وإِنما خوطب الخلقُ بما يعقلون ، فهم يعقلون أن توكيد
الشيء المؤَخر إِنما يحفظ بالكِتَابِ ، ونحن نشرح ذلك في موضعه شرحاً أوكد
من هذا إنْ شَاءَ اللَّهُ.
ومعنى : يعملون السوءَ بجهالة ، أي ليس بأنهم يجهلون أنه سُوء.
لو أتى المسلم ما يجهل أنَّه سوءٌ لكان كمن لم يتعمد سوءاً ، ولَم يُوقع سوءاً.
وقولك عمل فلان كذا وكذا بجهالة يحتمل أمرين ، فأحدُهما أنَّه عمله
وهو جاهل بالمكروه فيه ، أي لم يعرف أن فيه مكروهاً ، والآخر أقدم عليه على بصيرة ، وَعَلِمَ أن عاقبته مكروهة ، قآثر العَاجِلَ فجعل جاهلًا ، فإِنه آثر القليل على الراحة الكثيرة والعافية الدائمة.
فهذا معنى : (مَنْ عَمِلَ مِنْكُم سُوءًا بِجَهَالَةٍ).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55)
يقرأ بالتاءِ والياءِ ، فمن قرأ بالتاءِ فلان السبيل الطريق ، وَهُو يُذكر
ويَؤنْثُ ، ويجوز وجه ثالث : ولتَستَبينَ سبيلَ المُجرِمِينَ - بنصب السبيل - ، لأن المعنى ولتستبين أنت يا محمد سبيلَ المجرمين.
فإِن قال قائل أفلم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - مُستبيناً
سبِيلَ المجرمين ؟
فالجواب في هذا أن جميع ما يخاطب به

(2/254)


المؤْمنون يخاطب به النبي - صلى الله عليه وسلم -.
فكأنَّه قال ولتستبينوا المجرمين ، أي لتَزْدَادُوا استِبَانَةً لها ، ولم يحتج أن يَقُولَ ولتَستبين سبيل المؤْمنين مع ذكر سبيل المجرمين ، لأن سبيل المجرمين إذا استبانت فقد بانت معها سبيل المؤمنين.
وجائز أن يكون المعنى : ولتستبين سبيلُ المجرمين ولتستبين سبيلُ
المؤْمنين . إلا أن الذكر والخطاب ههنا في ذكر المجرمين فَذُكِرُوا وتُرِكَ
ذِكر سبيل المؤْمنين ، لأن في الكلام دَليلاً عليها
كما قال عزْ وجلَّ : (سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحَرَّ) ولم يقُلْ تقيكم البردَ ، لأن الساترَ يَستُر منَ الحَرِ والبَردِ.
ولكن جرى ذكر الحرِّ لأنهم كانوا في مكانهم أكثرَ مُعَانَاةً له مِن البرد.
* * *
وقوله : (قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56)
كانوا يعبدون الأصنام ، وقالوا (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى).
فأعلم اللَّه عزْ وجل أنه لا يُعبَدُ غَيرُه.
وقوله : (قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ).
أَي إنما عَبَدْتموهَا عَلى طَريقِ الهَوَى لا على طريق البيِّنَةِ والبُرهان.
وقوله : (قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا).
معنى إِذَن معنى الشرط ، المعنى قَدْ ضَلَلتُ إِنْ عَبَدْتُها.
وقوله : (وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ).
أي وما أنا من النبيين الذين سلكوا طريق الهدى
* * *
وقوله : (قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57)

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أشعار النساء - ط عالم الكتب المؤلف المرزباني

  أشعار النساء للمرزباني ثالث ما ألف من الكتب في أشعار النساء، بعد (أشعار الجواري) للمفجع البصري المتوفى سنة 327هـ و(الإماء الشواعر)...