Translate فتح الباري وتفسير بن كثير كيكي520.

الجمعة، 13 مايو 2022

مجلد 25. ومجلد 26.فتح الباري أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ)

 مجلد 25. ومجلد 26.فتح الباري أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ)

 25.

مجلد 25.فتح الباري أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ) 

 =وَقَالَ غُنْدَرٌ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ سَمِعْتُ ذَكْوَانَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم"
4389- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي أَخِي عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِي الْغَيْثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " الإِيمَانُ يَمَانٍ وَالْفِتْنَةُ هَا هُنَا هَا هُنَا يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَان" .
4390- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَتَاكُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ أَضْعَفُ قُلُوبًا وَأَرَقُّ أَفْئِدَةً الْفِقْهُ يَمَانٍ وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَة" .
الحديث الرابع حديث أبي مسعود "الإيمان هاهنا وأشار بيده إلى اليمن" أي إلى جهة اليمن؛ وهذا يدل على أنه أراد أهل البلد لا من ينسب إلى اليمن ولو كان من غير أهلها. قوله: "عن سليمان" هو الأعمش وذكوان هو ابن صالح. قوله: "وقال غندر عن شعبة إلخ" أورده لوقوع التصريح بقول الأعمش: "سمعت ذكوان" وقد وصله أحمد عن محمد بن جعفر غندر بهذا الإسناد. قوله: "حدثنا إسماعيل" هو ابن أبي أويس، وأخوه هو أبو بكر عبد الحميد، وسليمان هو ابن بلال، وثور بن زيد هو المدني، وأما ثور بن يزيد الشامي فأبوه بزيادة تحتانية مفتوحة في أوله، وأبو الغيث اسمه سالم. قوله: "الإيمان يمان" في رواية الأعرج التي بعدها "الفقه يمان" وفيها وفي رواية ذكوان "والحكمة يمانية" وفي أولها وأول رواية ذكوان "أتاكم أهل اليمن" وهو خطاب للصحابة الذين بالمدينة، وفي حديث أبي مسعود "والجفاء وغلظ القلوب في الفدادين إلخ" وفي رواية ذكوان عن أبي هريرة "والفخر والخيلاء في أصحاب الإبل" وزاد فيها "والسكينة والوقار في أهل الغنم" وزاد في رواية أبي الغيث "والفتنة هنا حيث يطلع قرن الشيطان" وهذا هو الحديث السادس، وسيأتي شرحه في كتاب الفتن إن شاء الله تعالى. وتقدم شرح سائر ذلك في أول المناقب وفي بدء الخلق، وأشرت هناك إلى أن الرواية التي فيها "أتاكم أهل اليمن" ترد قول من قال: إن المراد بقوله: "الإيمان يمان" الأنصار وغير ذلك. وقد ذكر ابن الصلاح قول أبي عبيد وغيره: إن معنى قوله: "الإيمان يمان" أن مبدأ الإيمان من مكة لأن مكة من تهامة وتهامة من اليمن، وقيل: المراد مكة والمدينة، لأن هذا الكلام صدر وهو صلى الله عليه وسلم بتبوك، فتكون المدينة حينئذ بالنسبة إلى المحل الذي هو فيه يمانية، والثالث واختاره أبو عبيد أن المراد بذلك الأنصار لأنهم يمانيون في الأصل فنسب الإيمان إليهم لكونهم أنصاره. وقال ابن الصلاح: ولو تأملوا ألفاظ الحديث لما احتاجوا إلى هذا التأويل، لأن قوله: "أتاكم أهل اليمن" خطاب للناس ومنهم الأنصار، فيتعين أن الذين جاءوا غيرهم، قال: ومعنى الحديث وصف الذين جاءوا بقوة الإيمان وكماله ولا مفهوم له، قال: ثم المراد الموجودون حينئذ منهم لا كل أهل اليمن في كل زمان انتهى. ولا مانع أن يكون المراد بقوله: "الإيمان يمان" ما هو أعم مما ذكره أبو عبيد وما ذكره ابن الصلاح، وحاصله أن قوله: "يمان" يشمل من ينسب إلى اليمن بالسكنى وبالقبيلة، لكن كون المراد به من ينسب بالسكنى أظهر. بل هو المشاهد في كل عصر من أحوال سكان جهة اليمن وجهة الشمال، فغالب من يوجد من جهة اليمن رقاق القلوب والأبدان، وغالب من يوجد من جهة الشمال غلاظ القلوب والأبدان، وقد قسم في حديث أبي مسعود أهل الجهات الثلاثة: اليمن والشام والمشرق، ولم يتعرض للمغرب

(8/99)


في هذا الحديث، وقد ذكره في حديث آخر، فلعله كان فيه ولم يذكره الراوي إما لنسيان أو غيره، والله أعلم. وأورد البخاري هذه الأحاديث في الأشعريين لأنهم من أهل اليمن قطعا، وكأنه أشار إلى حديث ابن عباس "بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة إذ قال: الله أكبر، إذا جاء نصر الله والفتح، وجاء أهل اليمن نقية قلوبهم، حسنة طاعتهم. الإيمان يمان والفقه يمال والحكمة يمانية" أخرجه البزار. وعن جبير بن مطعم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يطلع عليكم أهل اليمن كأنهم السحاب، هم خير أهل الأرض" الحديث أخرجه أحمد وأبو يعلى والبزار والطبراني، وفي الطبراني من حديث عمرو بن عبسة "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعيينة بن حصن: أي الرجال خير؟ قال رجال أهل نجد، قال: كذبت بل هم أهل اليمن، الإيمان يمان" الحديث. وأخرجه أيضا من حديث معاذ بن جبل، قال الخطابي: قوله: "هم أرق أفئدة وألين قلوبا" أي لأن الفؤاد غشاء القلب، فإذا رق نفذ القول وخلص إلى ما وراءه؛ وإذا غلظ بعد وصوله إلى داخل، وإذا كان القلب لينا علق كل ما يصادفه.
4391- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ: "كُنَّا جُلُوسًا مَعَ ابْنِ مَسْعُودٍ فَجَاءَ خَبَّابٌ فَقَالَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَيَسْتَطِيعُ هَؤُلاَءِ الشَّبَابُ أَنْ يَقْرَءُوا كَمَا تَقْرَأُ قَالَ أَمَا إِنَّكَ لَوْ شِئْتَ أَمَرْتُ بَعْضَهُمْ يَقْرَأُ عَلَيْكَ قَالَ أَجَلْ قَالَ اقْرَأْ يَا عَلْقَمَةُ فَقَالَ زَيْدُ بْنُ حُدَيْرٍ أَخُو زِيَادِ بْنِ حُدَيْرٍ أَتَأْمُرُ عَلْقَمَةَ أَنْ يَقْرَأَ وَلَيْسَ بِأَقْرَئِنَا قَالَ أَمَا إِنَّكَ إِنْ شِئْتَ أَخْبَرْتُكَ بِمَا قال النبي صلى الله عليه وسلم فِي قَوْمِكَ وَقَوْمِهِ فَقَرَأْتُ خَمْسِينَ آيَةً مِنْ سُورَةِ مَرْيَمَ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ كَيْفَ تَرَى قَالَ قَدْ أَحْسَنَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ مَا أَقْرَأُ شَيْئًا إِلاَّ وَهُوَ يَقْرَؤُهُ ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى خَبَّابٍ وَعَلَيْهِ خَاتَمٌ مِنْ ذَهَبٍ فَقَالَ أَلَمْ يَأْنِ لِهَذَا الْخَاتَمِ أَنْ يُلْقَى قَالَ أَمَا إِنَّكَ لَنْ تَرَاهُ عَلَيَّ بَعْدَ الْيَوْمِ فَأَلْقَاهُ" رَوَاهُ غُنْدَرٌ عَنْ شُعْبَة
الحديث السابع قوله: "فجاء خباب" بالمعجمة والموحدتين الأول ثقيلة، وهو ابن الأرت الصحابي المشهور. قوله: "يا أبا عبد الرحمن" هو كنية ابن مسعود. قوله: "أمرت بعضهم فيقرأ عليك" في رواية الكشميهني: "فقرأ: بصيغة الفعل الماضي. قوله:"فقال زيد بن حدير "بمهملة مصغر أخو زياد بن حدير، وزياد من كبار التابعين أدرك عمر وله رواية في سنن أبي داود ونزل الكوفة وولي إمرتها مرة، وهو أسدي من بني أسد بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر، وأما أخوه زيد فلا أعرف له رواية. قوله:"أما "بتخفيف الميم" إن شئت أخبرتك بما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "في قومك وفي قومه" كأنه يشير إلى ثناء النبي صلى الله عليه وسلم على النخع لأن علقمة نخعي، وإلى ذم بني أسد وزياد بن حدير أسدي، فأما ثناؤه على النخع ففيما أخرجه أحمد والبزار بإسناد حسن عن ابن مسعود قال: "شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو لهذا الحي من النخع أو يثني عليهم، حتى تمنيت أني رجل منهم" وأما ذمه لبني أسد فتقدم في المناقب حديث أبي هريرة وغيره: "إن جهينة وغيرها خير من بني أسد وغطفان" وأما النخعي فمنسوب إلى النخع قبيلة مشهورة من اليمن، واسم النخع حبيب بن عمرو بن علة بضم المهملة وتخفيف اللام ابن جلد بن مالك بن أدد بن زيد، وقيل له النخع لأنه نخع عن قومه أي بعد. وفي رواية شعبة عن الأعمش عند أبي نعيم في المستخرج "لتسكتن أو لأحدثنك

(8/100)


بما قيل في قومك وقومه" . قوله: "فقرأت خمسين آية من سورة مريم" في رواية شعبة "فقال عبد الله رتل فداك أبي وأمي" . قوله: "وقال عبد الله كيف ترى" هو موصول بالإسناد المذكور، وخاطب عبد الله بذلك خبابا لأنه هو الذي سأله أولا، وهو الذي قال: قد أحسن، وكذا ثبت في رواية أحمد عن يعلى عن الأعمش ففيه: "قال خباب أحسنت" . قوله: "قال عبد الله" هو موصل أيضا. قوله: "ما أقرأ شيئا إلا وهو يقرأه" يعني علقمة، وهي منقبة عظيمة لعلقمة حيث شهد له ابن مسعود أنه مثله في القراءة. قوله: "ثم التفت إلى خباب وعليه خاتم من ذهب فقال: ألم يأن لهذا الخاتم أن يلقى" بضم أوله وفتح القاف أي يرمى به. قوله: "رواه غندر عن شعبة" أي عن الأعمش بالإسناد المذكور، وقد وصلها أبو نعيم في "المستخرج" من طريق أحمد بن حنبل "حدثنا محمد بن جعفر" وهو غندر بإسناده هذا وكأنه في الزهد لأحمد إلا فلم أره في مسند أحمد إلا من طريق يعلى بن عبيد عن الأعمش، ووهم بعض من لقيناه فزعم أن هذا التعليق معاد في بعض النسخ وأن محله عقب حديث أبي هريرة، وقد ظهر لي أن لا إعادة وأنه في جميع النسخ، وأن الذي وقع في الموضعين من رواية غندر عن شعبة صواب، وأن المراد في الموضع الثاني أن شعبة رواه عن الأعمش بالإسناد الذي وصله به من طريق أبي حمزة عن الأعمش، وقد أثبت الإسماعيلي في مستخرجه رواية غندر عن شعبة فقال بعد أن أخرجه من طريق ابن شهاب عن الأعمش بالإسناد الذي وصله به "رواه جماعة عن الأعمش، ورواه غندر عن شعبة" وفي الحديث منقبة لابن مسعود وحسن تأنيه في الموعظة والتعليم، وأن بعض الصحابة كان يخفى عليه بعض الأحكام فإذا نبه عليها رجع، ولعل خبابا كان يعتقد أن النهي عن لبس الرجال خاتم الذهب للتنزيه، فنبهه ابن مسعود على تحريمه، فرجع إليه مسرعا.

(8/101)


75- باب قِصَّةُ دَوْسٍ وَالطُّفَيْلِ بْنِ عَمْرٍو الدَّوْسِيِّ
4392- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ ابْنِ ذَكْوَانَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: " جَاءَ الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ إِنَّ دَوْسًا قَدْ هَلَكَتْ عَصَتْ وَأَبَتْ فَادْعُ اللَّهَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: "اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا وَأْتِ بِهِم" .
4393- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ عَنْ قَيْسٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: "لَمَّا قَدِمْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْتُ فِي الطَّرِيقِ:
يَا لَيْلَةً مِنْ طُولِهَا وَعَنَائِهَا ... عَلَى أَنَّهَا مِنْ دَارَةِ الْكُفْرِ نَجَّتِ
وَأَبَقَ غُلاَمٌ لِي فِي الطَّرِيقِ فَلَمَّا قَدِمْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَايَعْتُهُ فَبَيْنَا أَنَا عِنْدَهُ إِذْ طَلَعَ الْغُلاَمُ فَقَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "يَا أَبَا هُرَيْرَةَ هَذَا غُلاَمُكَ فَقُلْتُ هُوَ لِوَجْهِ اللَّهِ فَأَعْتَقْتُه" .
قوله: "قصة دوس والطفيل بن عمرو الدوسي" بفتح المهملة وسكون الواو بعدها مهملة، تقدم نسبهم في غزوة ذي الخلصة، والطفيل بن عمرو أي ابن طريف بن العاص بن ثعلبة بن سليم بن فهم بن غنم بن دوس، كان يقال له ذو النور آخره راء؛ لأنه لما أتى النبي صلى الله عليه وسلم وأسلم بعثه إلى قومه فقال: اجعل لي آية، فقال: اللهم نور له،

(8/101)


فسطع نور بين عينيه، فقال: يا رب أخاف أن يقولوا إنه مثلة، فتحول إلي طرف سوطه، وكان يضيء في الليلة المظلمة؛ ذكره هشام بن الكلبي في قصة طويلة، وفيها أنه دعا قومه إلى الإسلام فأسلم أبوه ولم تسلم أمه، وأجابه أبو هريرة وحده. قلت: وهذا يدل على تقدم إسلامه، وقد جزم ابن أبي حاتم بأنه قدم مع أبي هريرة بخيبر وكأنها قدمته الثانية. قوله: "عن ابن ذكوان" هو عبد الله أبو الزناد. قوله: "اللهم اهد دوسا وائت بهم" وقع مصداق ذلك، فذكر ابن الكلبي أن حبيب بن عمرو بن حثمة الدوسي كان حاكما على دوس، وكذا كان أبوه من قبله، وعمر ثلاثمائة سنة، وكان حبيب يقول: إني لأعلم أن للخلق خالقا لكني لا أدري من هو، فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم خرج إليه ومعه خمسة وسبعون رجلا من قومه فأسلم وأسلموا. وذكر ابن إسحاق أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل الطفيل بن عمرو ليحرق صنم عمرو بن حثمة الذي كان يقال له ذو الكفين بفتح الكاف وكسر الفاء، فأحرقه. وذكر موسى بن عقبة عن ابن شهاب أن الطفيل بن عمرو استشهد بأجنادين في خلافة أبي بكر، وكذا قال أبو الأسود عن عروة، وجزم ابن سعد بأنه استشهد باليمامة، وقيل باليرموك. قوله: "حدثنا إسماعيل" هو ابن أبي خالد "عن قيس" هو ابن أبي حازم. قوله: "لما قدمت" أي أردت القدوم. قوله: "قلت في الطريق" تقدم شرحه مستوفى في كتاب العتق، وقوله في هذه الرواية: "وأبق غلام لي" لا يغاير قوله في الرواية الماضية في العتق "فأضل أحدهما صاحبه" لأن رواية أبق فسرت وجه الإضلال، وأن الذي أضل هو أبو هريرة، بخلاف غلامه فإنه أبق1 أبو هريرة مكانه لهربه، فلذلك أطلق أنه أضله، فلا يلتفت إلى إنكار ابن التين أنه أبق، وأما كونه عاد فحضر عند النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينافيه أيضا لأنه يحمل على أنه رحم عن الإباق وعاد إلى سيده ببركة الإسلام، ويحتمل أن يكون أطلق أبق بمعنى أنه أضل الطريق فلا تتنافى الروايتان.
ـــــــ
1 في العبارة غموض أو ساقط منها شيء.

(8/102)


باب قصة وفد طيء وحديث عدي بن حاتم
...
76- باب قِصَّةِ وَفْدِ طَيِّئ وَحَدِيثُ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ
4394- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ عَنْ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: "أَتَيْنَا عُمَرَ فِي وَفْدٍ فَجَعَلَ يَدْعُو رَجُلاً رَجُلاً وَيُسَمِّيهِمْ فَقُلْتُ أَمَا تَعْرِفُنِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ بَلَى أَسْلَمْتَ إِذْ كَفَرُوا وَأَقْبَلْتَ إِذْ أَدْبَرُوا وَوَفَيْتَ إِذْ غَدَرُوا وَعَرَفْتَ إِذْ أَنْكَرُوا فَقَالَ عَدِيٌّ فَلاَ أُبَالِي إِذاً" .
قوله: "وفد طيئ وحديث عدي بن حاتم" أي ابن عبد الله بن سعد بن الحشرج بمهملة ثم معجمة ثم راء ثم جيم بوزن جعفر ابن امرئ القيس بن عدي الطائي، منسوب إلى طيئ بفتح المهملة وتشديد التحتانية المكسورة بعدها همزة ابن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ، يقال كان اسمه جلهمة فسمي طيئا لأنه أول من طوى بئرا، ويقال أول من طوى المناهل. وأخرج مسلم من وجه آخر عن عدي بن حاتم قال: "أتيت عمر فقال: إن أول صدقة بيضت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجوه أصحابه صدقة طيء، جئت بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم:"وزاد أحمد في أوله: "أتيت عمر في أناس من قومي، فجعل يعرض عني، فاستقبلته فقلت: أتعرفني؟"فذكر نحو ما أورده

(8/102)


البخاري ونحو ما أورده مسلم جميعا. قوله: "حدثنا عبد الملك" هو ابن عمير، وعمرو بن حريث بالمهملة وبالمثلثة مصغر هو المخزومي صحابي صغير، وفي الإسناد ثلاثة من الصحابة في نسق. قوله: "أتيت عمر" أي في خلافته. قوله: "فجعل يدعو رجلا رجلا يسميهم" أي قبل أن يدعوهم. قوله: "بل أسلمت إذ كفروا إلخ" يشير بذلك إلى وفاء عدي بالإسلام والصدقة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه منع من أطاعه من الردة، وذلك مشهور عند أهل العلم بالفتوح قوله: "فقال عدي: فلا أبالي إذا" أي إذا كنت تعرف قدري فلا أبالي إذا قدمت على غيري، وفي "الأدب المفرد" للبخاري "أن عمر قال لعدي: حياك الله من معرفة" وروى أحمد في سبب إسلام عدي أنه قال: "لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم كرهته، فانطلقت إلى أقصى الأرض مما يلي الروم، ثم كرهت مكاني فقلت: لو أتيته، فإن كان كاذبا لم يخف علي، فأتيته فقال: " أسلم تسلم" . فقلت: إن لي دينا" وكان نصرانيا فذكر إسلامه. وذكر ذلك ابن إسحاق مطولا، وفيه أن خيل النبي صلى الله عليه وسلم أصابت أخت عدي وأن النبي صلى الله عليه وسلم من عليها فأطلقها بعد أن استعطفته بإشارة علي عليها فقالت له: هلك الوالد وغاب الوافد، فامنن علي من الله عليك. فقال: " ومن وافدك؟ قالت عدي بن حاتم، قال: الفار من الله ورسوله؟" فلما قدمت بنت حاتم على عدي أشارت عليه بالقدوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدم وأسلم وروى الترمذي من وجه آخر عن عدي بن حاتم قال: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد فقال: هذا عدي بن حاتم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قبل ذلك يقول: إني لأرجو الله أن يجعل يده في يدي" .

(8/103)


77- باب حَجَّةِ الْوَدَاعِ
4395- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَأَهْلَلْنَا بِعُمْرَةٍ ثُمَّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيُهْلِلْ بِالْحَجِّ مَعَ الْعُمْرَةِ ثُمَّ لاَ يَحِلَّ حَتَّى يَحِلَّ مِنْهُمَا جَمِيعًا" فَقَدِمْتُ مَعَهُ مَكَّةَ وَأَنَا حَائِضٌ وَلَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ وَلاَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَشَكَوْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "انْقُضِي رَأْسَكِ وَامْتَشِطِي وَأَهِلِّي بِالْحَجِّ وَدَعِي الْعُمْرَةَ" فَفَعَلْتُ فَلَمَّا قَضَيْنَا الْحَجَّ أَرْسَلَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ إِلَى التَّنْعِيمِ فَاعْتَمَرْتُ فَقَالَ هَذِهِ مَكَانَ عُمْرَتِكِ قَالَتْ فَطَافَ الَّذِينَ أَهَلُّوا بِالْعُمْرَةِ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ثُمَّ حَلُّوا ثُمَّ طَافُوا طَوَافًا آخَرَ بَعْدَ أَنْ رَجَعُوا مِنْ مِنًى وَأَمَّا الَّذِينَ جَمَعُوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ فَإِنَّمَا طَافُوا طَوَافًا وَاحِدًا" .
قوله: "باب حجة الوداع" بكسر الحاء المهملة وبفتحها، وبكسر الواو وبفتحها، ذكر جابر في حديثه الطويل في صفتها كما أخرجه مسلم وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم مكث تسع سنين - أي منذ قدم المدينة - لم يحج، ثم أذن في الناس في العاشرة أن النبي صلى الله عليه وسلم حاج، فقدم المدينة بشر كثير كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحديث. ووقع في حديث أبي سعيد الخدري ما يوهم أنه صلى الله عليه وسلم حج قبل أن يهاجر غير حجة الوداع ولفظه 1
ـــــــ
1 بياض بأصله ا هـ

(8/103)


وعند الترمذي من حديث جابر" حج قبل أن يهاجر ثلاث حجج "وعن ابن عباس مثله أخرجه ابن ماجه والحاكم، قلت: وهو مبني على عدد وفود الأنصار إلى العقبة بمنى بعد الحج، فإنهم قدموا أولا فتواعدوا، ثم قدموا ثانيا فبايعوا البيعة الأولى، ثم قدموا ثالثا فبايعوا البينة الثانية كما تقدم بيانه أول الهجرة، وهذا لا يقتضي نفي الحج قبل ذلك. وقد أخرج الحاكم بسند صحيح إلى الثوري" أن النبي صلى الله عليه وسلم حج قبل أن يهاجر حججا" وقال ابن الجوزي: حج حججا لا يعرف عددها. وقال ابن الأثير في النهاية: كان يحج كل سنة قبل أن يهاجر. وفي حديث ابن عباس أن خروجه من المدينة كان لخمس بقين من ذي القعدة أخرجه المصنف في الحج، وأخرجه هو ومسلم من حديث عائشة مثله، وجزم ابن حزم بأن خروجه كان يوم الخميس، وفيه نظر لأن أول ذي الحجة كان يوم الخميس قطعا لما ثبت وتواتر أن وقوفه بعرفة كان يوم الجمعة، فتعين أن أول الشهر يوم الخميس فلا يصح أن يكون خروجه يوم الخميس، بل ظاهر الخبر أن يكون يوم الجمعة، لكن ثبت في الصحيحين عن أنس "صلينا الظهر مع النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة أربعا والعصر بذي الخليفة ركعتين" فدل على أن خروجهم لم يكن يوم الجمعة، فما بقي إلا أن يكون خروجهم يوم السبت، ويحمل قول من قال: "لخمس بقين" أي إن كان الشهر ثلاثين فاتفق أن جاء تسعا وعشرين فيكون يوم الخميس أول ذي الحجة بعد مضي أربع ليال لا خمس، وبهذا تتفق الأخبار، هكذا جمع الحافظ عماد الدين بن كثير بين الروايات، وقوي هذا الجمع بقول جابر "إنه خرج لخمس بقين من ذي القعدة أو أربع" وكان دخوله صلى الله عليه وسلم مكة صبح رابعة كما ثبت في حديث عائشة، وذلك يوم الأحد، وهذا يؤيد أن خروجه من المدينة كان يوم السبت كما تقدم، فيكون مكانه في الطريق ثمان ليال، وهي المسافة الوسطى. ثم ذكر المصنف في الباب سبعة عشر حديثا تقدم غالبها في كتاب الحج مشروحة، وسأبين ذلك مع مزيد فائدة. حديث عائشة، وقد تقدم شرحه مستوفى في باب التمتع والقران من كتاب الحج.
4396- حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ حَدَّثَنِي عَطَاءٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ "إِذَا طَافَ بِالْبَيْتِ فَقَدْ حَلَّ فَقُلْتُ مِنْ أَيْنَ قَالَ هَذَا ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} وَمِنْ أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَحِلُّوا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ قُلْتُ إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ الْمُعَرَّفِ قَالَ كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَرَاهُ قَبْلُ وَبَعْدُ".
قوله: "عن ابن عباس إذا طاف بالبيت فقد حل فقلت: من أين قال هذا ابن عباس" القائل هو ابن جريج والمقول له عطاء، وذلك صريح في رواية مسلم، والمراد بالمعرف وهو بتشديد الراء الوقوف بعرفة وهو ظاهر في أن المراد بذلك من اعتمر مطلقا سواء كان قارنا أو متمتعا، وهو مذهب مشهور لابن عباس، وقد تقدم البحث فيه في أبواب الطواف في "باب من طاف بالبيت إذا قدم" من كتاب الحج.
4397- حَدَّثَنِي بَيَانٌ حَدَّثَنَا النَّضْرُ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَيْسٍ قَالَ سَمِعْتُ طَارِقًا عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "قَدِمْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْبَطْحَاءِ فَقَالَ: "أَحَجَجْتَ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ كَيْفَ أَهْلَلْتَ

(8/104)


قُلْتُ لَبَّيْكَ بِإِهْلاَلٍ كَإِهْلاَلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ طُفْ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ثُمَّ حِلَّ"، فَطُفْتُ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَأَتَيْتُ امْرَأَةً مِنْ قَيْسٍ فَفَلَتْ رَأْسِي" .
قوله: "حدثنا بيان" بفتح الموحدة وتخفيف التحتانية هو ابن عمرو البخاري، والنضر هو ابن شميل، وقيس هو ابن مسلم، وطارق هو ابن شهاب. وقد تقدم شرح المتن في "باب من أهل في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم" .
4398- حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ أَخْبَرَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَخْبَرَهُ أَنَّ حَفْصَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَزْوَاجَهُ أَنْ يَحْلِلْنَ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَقَالَتْ حَفْصَةُ فَمَا يَمْنَعُكَ فَقَالَ: لَبَّدْتُ رَأْسِي وَقَلَّدْتُ هَدْيِي فَلَسْتُ أَحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ هَدْيِي" . حديث حفصة وقد تقدم شرحه في "باب التمتع والقران" .
4399- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ حَدَّثَنِي شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ: حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ قَالَ أَخْبَرَنِي ابْنُ شِهَابٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "أَنَّ امْرَأَةً مِنْ خَثْعَمَ اسْتَفْتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَالْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ رَدِيفُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْتَوِيَ عَلَى الرَّاحِلَةِ فَهَلْ يَقْضِي أَنْ أَحُجَّ عَنْهُ قَالَ نَعَم" .
حديث ابن عباس "أن امرأة من خثعم استفتت رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع" الحديث في أمرها بالحج عن أبيها، وقد تقدم شرحه في كتاب الحج، وفيه الكلام على اسمها واسم أبيها. وأورده هنا لتصريح الراوي بأن ذلك كان في حجة الوداع، وقوله في أول الإسناد: وقال محمد بن يوسف هو الفريابي وهو من شيوخ البخاري، وكأنه لم يسمع هذا الحديث منه، وقد وصله أبو نعيم في "المستخرج" من طريقه، وساق المصنف الحديث هنا على لفظه، وأما لفظ شعيب فسيأتي في كتاب الاستئذان، وهو أتم سياقا من رواية الأوزاعي.
4400- حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ حَدَّثَنَا سُرَيْجُ بْنُ النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ "أَقْبَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْفَتْحِ وَهُوَ مُرْدِفٌ أُسَامَةَ عَلَى الْقَصْوَاءِ وَمَعَهُ بِلاَلٌ وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ حَتَّى أَنَاخَ عِنْدَ الْبَيْتِ ثُمَّ قَالَ لِعُثْمَانَ ائْتِنَا بِالْمِفْتَاحِ فَجَاءَهُ بِالْمِفْتَاحِ فَفَتَحَ لَهُ الْبَابَ فَدَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُسَامَةُ وَبِلاَلٌ وَعُثْمَانُ ثُمَّ أَغْلَقُوا عَلَيْهِمْ الْبَابَ فَمَكَثَ نَهَارًا طَوِيلاً ثُمَّ خَرَجَ وَابْتَدَرَ النَّاسُ الدُّخُولَ فَسَبَقْتُهُمْ فَوَجَدْتُ بِلاَلاً قَائِمًا مِنْ وَرَاءِ الْبَابِ فَقُلْتُ لَهُ أَيْنَ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ صَلَّى بَيْنَ ذَيْنِكَ الْعَمُودَيْنِ الْمُقَدَّمَيْنِ وَكَانَ

(8/105)


الْبَيْتُ عَلَى سِتَّةِ أَعْمِدَةٍ سَطْرَيْنِ صَلَّى بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ مِنْ السَّطْرِ الْمُقَدَّمِ وَجَعَلَ بَابَ الْبَيْتِ خَلْفَ ظَهْرِهِ وَاسْتَقْبَلَ بِوَجْهِهِ الَّذِي يَسْتَقْبِلُكَ حِينَ تَلِجُ الْبَيْتَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِدَارِ قَالَ وَنَسِيتُ أَنْ أَسْأَلَهُ كَمْ صَلَّى وَعِنْدَ الْمَكَانِ الَّذِي صَلَّى فِيهِ مَرْمَرَةٌ حَمْرَاء" .
الحديث السادس حديث ابن عمر في دخول النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة، تقدم شرحه مستوفى في "باب إغلاق البيت" من أبواب الطواف في كتاب الحج، وقوله في أول الإسناد "حدثني محمد" هو ابن رافع كما تقدم في الحج، وتقدم هناك بيان الاختلاف فيه، وقوله: "سطرين" بالمهملة، ووقع في رواية الأصيلي بالمعجمة وخطأه عياض، وقوله: "عند المكان الذي صلى فيه مرمرة" بسكون الراء والمهملتين والميمين المفتوحتين واحدة المرمر، وهو جنس من الرخام نفيس معروف، وكان ذلك في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم غير بناء الكعبة بعده في زمن ابن الزبير كما تقدم بسطه في كتاب الحج. وقد أشكل دخول هذا الحديث في "باب حجة الوداع" لأن فيه التصريح بأن القصة كانت عام الفتح، وعام الفتح كان سنة ثمان وحجة الوداع كانت سنة عشر، وفي أحاديث هذا الباب جميعها التصريح بحجة الوداع وبحجة النبي صلى الله عليه وسلم وهي حجة الوداع.
4401- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ حَدَّثَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ "أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَتْهُمَا أَنَّ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَاضَتْ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَحَابِسَتُنَا هِيَ فَقُلْتُ إِنَّهَا قَدْ أَفَاضَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَطَافَتْ بِالْبَيْتِ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم:"فَلْتَنْفِر" .
حديث عائشة في قصة صفية، وقد تقدم شرحه في "باب إذا حاضت بعدما أفاضت" من كتاب الحج.
4402- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ أَخْبَرَنِي ابْنُ وَهْبٍ قَالَ حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "كُنَّا نَتَحَدَّثُ بِحَجَّةِ الْوَدَاعِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَظْهُرِنَا وَلاَ نَدْرِي مَا حَجَّةُ الْوَدَاعِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ ذَكَرَ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ فَأَطْنَبَ فِي ذِكْرِهِ وَقَالَ: " مَا بَعَثَ اللَّهُ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَنْذَرَ أُمَّتَهُ أَنْذَرَهُ نُوحٌ وَالنَّبِيُّونَ مِنْ بَعْدِهِ وَإِنَّهُ يَخْرُجُ فِيكُمْ فَمَا خَفِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ شَأْنِهِ فَلَيْسَ يَخْفَى عَلَيْكُمْ أَنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ عَلَى مَا يَخْفَى عَلَيْكُمْ ثَلاَثًا إِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ وَإِنَّهُ أَعْوَرُ عَيْنِ الْيُمْنَى كَأَنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِيَة" .
4403- " أَلاَ إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ قَالُوا نَعَمْ قَالَ اللَّهُمَّ اشْهَدْ ثَلاَثًا وَيْلَكُمْ أَوْ وَيْحَكُمْ انْظُرُوا لاَ تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْض" .
قوله: "حدثني عمر بن محمد" أي ابن زيد بن عبد الله بن عمر. قوله: "كنا نتحدث بحجة الوداع

(8/106)


والنبي صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا" في رواية أبي عاصم عن عمر بن محمد عند الإسماعيلي: "كنا نسمع بحجة الوداع" . قوله: "ولا ندري ما حجة الوداع" كأنه شيء ذكره النبي صلى الله عليه وسلم فتحدثوا به وما فهموا أن المراد بالوداع وداع النبي صلى الله عليه وسلم، حتى وقعت وفاته صلى الله عليه وسلم بعدها بقليل فعرفوا المراد، وعرفوا أنه ودع الناس بالوصية التي أوصاهم بها أن لا يرجعوا بعده كفارا، وأكد التوديع بإشهاد الله عليهم بأنهم شهدوا أنه قد بلغ ما أرسل إليهم به، فعرفوا حينئذ المراد بقولهم حجة الوداع. وقد وقع في الحج في "باب الخطبة بمنى" من رواية عاصم بن محمد بن زيد عن أبيه عن ابن عمر في هذا الحديث: "فودع الناس" وقدمت هناك ما وقع عند البيهقي أن سورة {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} نزلت في وسط أيام التشريق، فعرف النبي صلى الله عليه وسلم أنه الوداع، فركب واجتمع الناس فذكر الخطبة. قوله: "فحمد الله وأثنى عليه" في رواية أبي نعيم في المستخرج "فحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم الله وحده وأثنى عليه" الحديث، وذكر فيه قصة الدجال وفيه: "ألا إن الله حرم عليكم دماءكم" وهذا يدل على أن هذه الخطبة كلها كانت في حجة الوداع وقد ذكر الخطبة في حجة الوداع جماعة من الصحابة لم يذكر أحد منهم قصة الدجال فيها إلا ابن عمر، بل اقتصر الجميع على حديث: "إن أموالكم عليكم حرام" الحديث، وقد أورد المصنف منها حديث جرير وأبي بكرة هنا وحديث ابن عباس في الحج، وقد تقدم في الحج من رواية عاصم بن محمد بن زيد وهو أخو عمر بن محمد بن زيد عن أبيه عن ابن عمر بدونها، وزيادة عمر بن محمد صحيحة لأنه ثقة، وكأنه حفظ ما لم يحفظه غيره، وسيأتي شرح ما تضمنته هذه الزيادة في كتاب الفتن إن شاء الله تعالى.
4404- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ قَالَ: "حَدَّثَنِي زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزَا تِسْعَ عَشْرَةَ غَزْوَةً وَأَنَّهُ حَجَّ بَعْدَ مَا هَاجَرَ حَجَّةً وَاحِدَةً لَمْ يَحُجَّ بَعْدَهَا حَجَّةَ الْوَدَاعِ" قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ وَبِمَكَّةَ أُخْرَى.
حديث زيد بن أرقم، تقدم شرحه في أول الهجرة، وقوله: "وأنه حج بعدما هاجر حجة واحدة لم يحج بعدها حجة الوداع" يعني ولا حج قبلها إلا أن يريد نفي الحج الأصغر وهو العمرة فلا، فإنه اعتمر قبلها قطعا. قوله: "قال أبو إسحاق: وبمكة أخرى" هو موصول بالإسناد المذكور، وغرض أبي إسحاق أن لقوله: "بعدما هاجر" مفهوما، وأنه قبل أن يهاجر كان قد حج لكن اقتصاره على قوله أخرى قد يوهم أنه لم يحج قبل الهجرة إلا واحدة وليس كذلك بل حج قبل أن يهاجر مرارا، بل الذي لا أرتاب فيه أنه لم يترك الحج وهو بمكة قط، لأن قريشا في الجاهلية لم يكونوا يتركون الحج، وإنما يتأخر منهم عنه من لم يكن بمكة أو عاقه ضعف، وإذا كانوا وهم على غير دين يحرصون على إقامة الحج ويرونه من مفاخرهم التي امتازوا بها على غيرهم من العرب فكيف يظن بالنبي صلى الله عليه وسلم أنه يتركه؟ وقد ثبت من حديث جبير بن مطعم أنه رآه في الجاهلية واقفا بعرفة، وأن ذلك من توفيق الله له، وثبت دعاؤه قبائل العرب إلى الإسلام بمنى ثلاث سنين متوالية كما بينته في الهجرة إلى المدينة.
4405- حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُدْرِكٍ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ عَنْ جَرِيرٍ "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ لِجَرِيرٍ: " اسْتَنْصِتْ النَّاسَ فَقَالَ لاَ تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّاراً يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْض" .

(8/107)


الحديث العاشر حديث جرير قوله: "عن علي بن مدرك" بضم الميم وسكون الدال وكسر الراء وهو نخعي كوفي ثقة، ذكره ابن حبان في ثقات التابعين، وما له في البخاري سوى هذا الحديث، لكنه أورده في مواضع. والله أعلم. قوله: "استنصت الناس" فيه دليل على وهم من زعم أن إسلام جرير كان قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بأربعين يوما، لأن حجة الوداع كانت قبل وفاته بأكثر من ثمانين يوما، وقد ذكر جرير أنه حج مع النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع.
4406- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ ابْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " الزَّمَانُ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَةِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ثَلاَثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ أَيُّ شَهْرٍ هَذَا قُلْنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ قَالَ أَلَيْسَ ذُو الْحِجَّةِ قُلْنَا بَلَى قَالَ فَأَيُّ بَلَدٍ هَذَا قُلْنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ قَالَ أَلَيْسَ الْبَلْدَةَ قُلْنَا بَلَى قَالَ فَأَيُّ يَوْمٍ هَذَا قُلْنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ قَالَ أَلَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ قُلْنَا بَلَى قَالَ فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ قَالَ مُحَمَّدٌ وَأَحْسِبُهُ قَالَ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا وَسَتَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ فَسَيَسْأَلُكُمْ عَنْ أَعْمَالِكُمْ أَلاَ فَلاَ تَرْجِعُوا بَعْدِي ضُلاَلاً يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ أَلاَ لِيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ فَلَعَلَّ بَعْضَ مَنْ يُبَلَّغُهُ أَنْ يَكُونَ أَوْعَى لَهُ مِنْ بَعْضِ مَنْ سَمِعَهُ فَكَانَ مُحَمَّدٌ إِذَا ذَكَرَهُ يَقُولُ صَدَقَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ مَرَّتَيْن" .
الحديث الحادي عشر حديث أبي بكرة قوله: "عبد الوهاب" هو ابن عبد المجيد الثقفي، ومحمد هو ابن سيرين، وابن أبي بكرة هو عبد الرحمن، وقد تقدم شرح الحديث في العلم وفي الحج، وقوله في الآية: "منها أربعة حرم" قيل الحكمة في جعل المحرم أول السنة أن يحصل الابتداء بشهر حرام ويختم بشهر حرام، وتتوسط السنة بشهر حرام وهو رجب، وإنما توالى شهران في الآخر لإرادة تفضيل الختام، والأعمال بالخواتيم.
4407- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ "أَنَّ أُنَاسًا مِنْ الْيَهُودِ قَالُوا لَوْ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِينَا لاَتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا فَقَالَ عُمَرُ أَيَّةُ آيَةٍ فَقَالُوا {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا} فَقَالَ عُمَرُ إِنِّي لاَعْلَمُ أَيَّ مَكَانٍ أُنْزِلَتْ أُنْزِلَتْ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاقِفٌ بِعَرَفَة" قوله: "أن أناسا من اليهود" تقدم في كتاب الإيمان بلفظ: "إن رجلا من اليهود" وبينت أن المراد به كعب الأحبار، وفيه إشكال من جهة أنه كان أسلم، ويجوز أن يكون السؤال صدر قبل إسلامه لكن قد قيل إنه أسلم وهو باليمن في حياة النبي صلى الله عليه وسلم على يد علي، فإن ثبت احتمل أن يكون الذين سألوا جماعة من اليهود

(8/108)


اجتمعوا مع كعب على السؤال وتولى هو السؤال عن ذلك عنهم، فتجتمع الروايات كلها، وقد تقدم ذلك في كتاب الإيمان بأوضح من هذا مع بقية شرحه.
4408- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نَوْفَلٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجَّةٍ وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ وَأَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَجِّ فَأَمَّا مَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ أَوْ جَمَعَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ فَلَمْ يَحِلُّوا حَتَّى يَوْمِ النَّحْرِ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ وَقَالَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ" حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنَا مَالِكٌ مِثْلَه .
ثم أورد المصنف حديث عائشة قالت: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمنا من أهل بعمرة" الحديث، وأورده من طرق عن مالك بسنده في طريقين، منها حجة الوداع وهو مقصود الترجمة، وقد تقدم من وجه آخر في أول الباب عن شيخ آخر لمالك بأتم من السياق المذكور هنا.
4409- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ هُوَ ابْنُ سَعْدٍ حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: "عَادَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ مِنْ وَجَعٍ أَشْفَيْتُ مِنْهُ عَلَى الْمَوْتِ فَقُلْتُ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ بَلَغَ بِي مِنْ الْوَجَعِ مَا تَرَى وَأَنَا ذُو مَالٍ وَلاَ يَرِثُنِي إِلاَّ ابْنَةٌ لِي وَاحِدَةٌ أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي قَالَ لاَ قُلْتُ أَفَأَتَصَدَّقُ بِشَطْرِهِ قَالَ لاَ قُلْتُ فَالثُّلُثِ قَالَ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ وَلَسْتَ تُنْفِقُ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلاَّ أُجِرْتَ بِهَا حَتَّى اللُّقْمَةَ تَجْعَلُهَا فِي فِي امْرَأَتِكَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ آأُخَلَّفُ بَعْدَ أَصْحَابِي قَالَ إِنَّكَ لَنْ تُخَلَّفَ فَتَعْمَلَ عَمَلاً تَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللَّهِ إِلاَّ ازْدَدْتَ بِهِ دَرَجَةً وَرِفْعَةً وَلَعَلَّكَ تُخَلَّفُ حَتَّى يَنْتَفِعَ بِكَ أَقْوَامٌ وَيُضَرَّ بِكَ آخَرُونَ اللَّهُمَّ أَمْضِ لأَصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ وَلاَ تَرُدَّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ لَكِنْ الْبَائِسُ سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ رَثَى لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُوُفِّيَ بِمَكَّة" .
حديث سعد وهو ابن أبي وقاص في الوصية بالثلث، وقد تقدم شرحه في الوصايا، وتقرير كون ذلك وقع في حجة الوداع، وبيان توجيه من قال إن ذلك في فتح مكة، ووجه الجمع بين الروايتين بما يغني عن إعادته.
4410- حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا أَبُو ضَمْرَةَ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَخْبَرَهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَلَقَ رَأْسَهُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاع" .
4411- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ أَخْبَرَهُ ابْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَلَقَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَأُنَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ وَقَصَّرَ بَعْضُهُم" .
4412- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ قَزَعَةَ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ

(8/109)


شِهَابٍ حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَخْبَرَهُ "أَنَّهُ أَقْبَلَ يَسِيرُ عَلَى حِمَارٍ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ بِمِنًى فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ يُصَلِّي بِالنَّاسِ فَسَارَ الْحِمَارُ بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِ الصَّفِّ ثُمَّ نَزَلَ عَنْهُ فَصَفَّ مَعَ النَّاس" .
4413- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ هِشَامٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: "سُئِلَ أُسَامَةُ وَأَنَا شَاهِدٌ عَنْ سَيْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّتِهِ فَقَالَ الْعَنَقَ فَإِذَا وَجَدَ فَجْوَةً نَص" .
4414- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْخَطْمِيِّ "أَنَّ أَبَا أَيُّوبَ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمِيعًا" .
الحديث الثالث عشر حديث سعد وهو ابن وأبي وقاص في الوصية بالثلث، وقد تقدم شرحه في الوصايا، وتقرير كون ذلك وقع في حجة الوداع، وبيان توجيه من قال إن ذلك في فتح مكة،ووجه الجمع بين الروايتين يما يغني عن إعادته، الحديث الخامس عشر حديث ابن عمر في الحلق في حجة الوداع. أورده من طريقين، وقد تقدم شرحه في الحج. تقدم شرحه في الحج. حديث ابن عباس في الصلاة بمنى، وقد تقدم شرحه في أبواب السترة في الصلاة. حديث أسامة بن زيد "كان يسير في حجته العنق" بفتح المهملة والنون والقاف، وقد تقدم شرحه في الحج أيضا. حديث أبي أيوب في الجمع بين المغرب والعشاء في حجة الوداع، وقد تقدم شرحه في الحج أيضا.

(8/110)


78- باب غَزْوَةِ تَبُوكَ وَهِيَ غَزْوَةُ الْعُسْرَةِ
4415- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "أَرْسَلَنِي أَصْحَابِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْأَلُهُ الْحُمْلاَنَ لَهُمْ إِذْ هُمْ مَعَهُ فِي جَيْشِ الْعُسْرَةِ وَهِيَ غَزْوَةُ تَبُوكَ فَقُلْتُ: "يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنَّ أَصْحَابِي أَرْسَلُونِي إِلَيْكَ لِتَحْمِلَهُمْ فَقَالَ وَاللَّهِ لاَ أَحْمِلُكُمْ عَلَى شَيْءٍ" وَوَافَقْتُهُ وَهُوَ غَضْبَانُ وَلاَ أَشْعُرُ وَرَجَعْتُ حَزِينًا مِنْ مَنْعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْ مَخَافَةِ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ عَلَيَّ فَرَجَعْتُ إِلَى أَصْحَابِي فَأَخْبَرْتُهُمْ الَّذِي قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فَلَمْ أَلْبَثْ إِلاَّ سُوَيْعَةً إِذْ سَمِعْتُ بِلاَلاً يُنَادِي أَيْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ فَأَجَبْتُهُ فَقَالَ أَجِبْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُوكَ فَلَمَّا أَتَيْتُهُ قَالَ: " خُذْ هَذَيْنِ الْقَرِينَيْنِ وَهَذَيْنِ الْقَرِينَيْنِ لِسِتَّةِ أَبْعِرَةٍ ابْتَاعَهُنَّ حِينَئِذٍ مِنْ سَعْدٍ فَانْطَلِقْ بِهِنَّ إِلَى أَصْحَابِكَ فَقُلْ إِنَّ اللَّهَ أَوْ قَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْمِلُكُمْ عَلَى هَؤُلاَءِ فَارْكَبُوهُنَّ" فَانْطَلَقْتُ إِلَيْهِمْ بِهِنَّ فَقُلْتُ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْمِلُكُمْ عَلَى هَؤُلاَءِ وَلَكِنِّي وَاللَّهِ لاَ أَدَعُكُمْ حَتَّى يَنْطَلِقَ مَعِي بَعْضُكُمْ إِلَى مَنْ سَمِعَ مَقَالَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ تَظُنُّوا أَنِّي حَدَّثْتُكُمْ شَيْئًا لَمْ يَقُلْهُ رَسُولُ

(8/110)


اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا لِي وَاللَّهِ إِنَّكَ عِنْدَنَا لَمُصَدَّقٌ وَلَنَفْعَلَنَّ مَا أَحْبَبْتَ فَانْطَلَقَ أَبُو مُوسَى بِنَفَرٍ مِنْهُمْ حَتَّى أَتَوْا الَّذِينَ سَمِعُوا قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْعَهُ إِيَّاهُمْ ثُمَّ إِعْطَاءَهُمْ بَعْدُ فَحَدَّثُوهُمْ بِمِثْلِ مَا حَدَّثَهُمْ بِهِ أَبُو مُوسَى".
قوله: "باب غزوة تبوك" هكذا أورد المصنف هذه الترجمة بعد حجة الوداع، وهو خطأ وما أظن ذلك إلا من النساخ، فإن غزوة تبوك كانت في شهر رجب من سنة تسع قبل حجة الوداع بلا خلاف، وعند ابن عائذ من حديث ابن عباس أنها كانت بعد الطائف بستة أشهر، وليس مخالفا لقول من قال في رجب إذا حذفنا الكسور؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قد دخل المدينة من رجوعه من الطائف في ذي الحجة. وتبوك مكان معروف هو نصف طريق المدينة إلى دمشق، ويقال بين المدينة وبينه أربع عشرة مرحلة. وذكرها في "المحكم" في الثلاثي الصحيح، وكلام ابن قتيبة يقتضي أنها من المعتل فإنه قال: جاءها النبي صلى الله عليه وسلم وهم يبكون مكان مائها بقدح فقال: ما زلتم تبوكونها، فسميت حينئذ تبوك. قوله: "وهي غزوة العسرة" وفي أول أحاديث الباب قول أبي موسى "في جيش العسرة" بمهملتين الأول مضمومة وبعدها سكون مأخوذ من قوله تعالى:{الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} وهي غزوة تبوك. وفي حديث ابن عباس "قيل لعمر حدثنا عن شأن ساعة العسرة، قال: خرجنا إلى تبوك في قيظ شديد فأصابنا عطش" الحديث أخرجه ابن خزيمة. وفي تفسير عبد الرزاق عن معمر عن ابن عقيل قال: "خرجوا في قلة من الظهر وفي حر شديد حتى كانوا ينحرون البعير فيشربون ما في كرشه من الماء، فكان ذلك عسرة من الماء وفي الظهر وفي النفقة، فسميت غزوة العسرة" . وتبوك المشهور فيها عدم الصرف للتأنيث والعلمية، ومن صرفها أراد الموضع. ووقعت تسميتها بذلك في الأحاديث الصحيحة: منها حديث مسلم: "إنكم ستأتون غدا عين تبوك" وكذا أخرجه أحمد والبزار من حديث حذيفة، وقيل: سميت بذلك لقوله صلى الله عليه وسلم للرجلين اللذين سبقاه إلى العين "ما زلتما تبوكانها منذ اليوم" ، قال ابن قتيبة: فبذلك سميت عين تبوك؛ والبوك كالحفر انتهى. والحديث المذكور عند مالك ومسلم بغير هذا اللفظ، أخرجاه من حديث معاذ بن جبل "أنهم خرجوا في عام تبوك مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنكم ستأتون غدا إن شاء الله تعالى عين تبوك، فمن جاءها فلا يمس من مائها شيئا، فجئناها وقد سبق إليها رجلان والعين مثل الشراك تبض بشيء من ماء" فذكر الحديث في غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهه ويديه بشيء من مائها ثم أعاده فيها فجرت العين بماء كثير فاستقى الناس، وبينها وبين المدينة من جهة الشام أربع عشرة مرحلة، وبينها وبين دمشق إحدى عشرة مرحلة، وكان السبب فيها ما ذكره ابن سعد وشيخه وغيره قالوا: بلغ المسلمين من الأنباط الذين يقدمون بالزيت من الشام إلى المدينة أن الروم جمعت جموعا، وأجلبت معهم لخم وجذام وغيرهم من متنصرة العرب، وجاءت مقدمتهم إلى البلقاء، فندب النبي صلى الله عليه وسلم الناس إلى الخروج، وأعلمهم بجهة غزوهم كما سيأتي في الكلام على حديث كعب بن مالك. وروى الطبراني من حديث عمران بن حصين قال: "كانت نصارى العرب كتبت إلى هرقل: أن هذا الرجل الذي خرج يدعي النبوة هلك وأصابتهم سنون فهلكت أموالهم، فبعث رجلا من عظمائهم يقال له قباذ وجهز معه أربعين ألفا، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ولم يكن للناس قوة، وكان عثمان قد جهز عيرا إلى الشام فقال: يا رسول الله هذه مائتا بعير بأقتابها وأحلاسها، ومائتا أوقية، قال فسمعته يقول: لا يضر عثمان ما عمل بعدها" وأخرجه الترمذي والحاكم من حديث عبد الرحمن بن حيان نحوه، وذكر أبو سعيد في "شرف المصطفى" والبيهقي في "الدلائل"

(8/111)


من طريق شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم "أن اليهود قالوا. يا أبا القاسم إن كنت صادقا فالحق بالشام فإنها أرض المحشر وأرض الأنبياء، فغزا تبوك لا يريد إلا الشام، فلما بلغ تبوك أنزل الله تعالى الآيات من سورة بني إسرائيل {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا} الآية" انتهى، وإسناده حسن مع كونه مرسلا. قوله: "أسأله الحملان لهم" بضم الحاء المهملة، أي الشيء الذي يركبون عليه ويحملهم. قوله: {لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} في رواية موسى بن عقبة عن ابن شهاب "وجاء نفر كلهم معسر يستحملونه لا يحبون التخلف عنه، فقال لا أجد. قال: ومن هؤلاء نفر من الأنصار ومن بني مزينة" وفي مغازي ابن إسحاق أن البكائين سبعة نفر1: سالم بن عمير، وأبو ليلى بن كعب، وعمرو بن الحمام، وعبد الله بن مغفل وقيل ابن غنمة، وعلية بن زيد، وهرمي بن عبد الله، وعرباض بن سارية، وسلمة بن صخر. قال: فبلغني أن أبا ياسر اليهودي وقيل ابن يامين - جهز أبا ليلى وابن مغفل، وقيل كان في البكائين بنو مقرن السبعة معقل إخوته. قوله: "خذ هذين القرينين" أي الجملين المشدودين أحدهما إلى الآخر، وقيل النظيرين المتساويين. وفي رواية أبي ذر عن المستملي: "هاتين القرينتين" أي الناقتين، وتقدم في قدوم الأشعريين أنه صلى الله عليه وسلم أمر لهم بخمس ذود وقال: هذا بستة أبعرة، فإما تعددت القصة أو زادهم على الخمس واحدا، وأما قوله: "هاتين القرينتين وهاتين القرينتين" فيحتمل أن يكون اختصارا من الراوي أو كان الأولى اثنتين والثانية أربعة لأن القرين يصدق على الواحد وعلى الأكثر، وأما الرواية التي فيها "هذين القرينين" فذكر ثم أنث فالأولى على إرادة البعير والثانية على إرادة الاختصاص لا على الوصفية. قوله: "ابتاعهن" في رواية الكشميهني: "ابتاعهم" وكذا "انطلق بهن" في روايته: "بهم" وهو تحريف، والصواب ما عند الجماعة لأنه جمع ما لا يعقل. قوله: "حينئذ من سعد" لم يتعين لي من هو سعد إلى الآن، إلا أنه يهجس في خاطري أنه سعد بن عبادة، وفي الحديث استحباب حنث الحالف في يمينه إذا رأى غيرها خيرا منها كما سيأتي البحث في الأيمان والنذور، وانعقاد اليمين في الغضب، وسنذكر هناك بقية فوائد حيث أبي موسى إن شاء الله تعالى.
4416- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ شُعْبَةَ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ إِلَى تَبُوكَ وَاسْتَخْلَفَ عَلِيًّا فَقَالَ أَتُخَلِّفُنِي فِي الصِّبْيَانِ وَالنِّسَاءِ قَالَ أَلاَ تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى إِلاَّ أَنَّهُ لَيْسَ نَبِيٌّ بَعْدِي وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الْحَكَمِ سَمِعْتُ مُصْعَبًا" .
قوله: "حدثنا يحيى" هو ابن سعيد القطان، والحكم هو ابن عتيبة بمثناة وموحدة مصغر. قوله: "بمنزلة هارون من موسى" في رواية عطاء بن أبي رباح مرسلا عند الحاكم في الإكليل "فقال: يا علي اخلفني في أهلي، واضرب وخذ وعظ. ثم دعا نساءه فقال: اسمعن لعلي وأطعن" . قوله: "وقال أبو داود: حدثنا شعبة إلخ" أراد بيان التصريح بالسماع في رواية الحكم عن مصعب، وطريق أبي داود هذه وهو الطيالسي وصلها أبو نعيم في "المستخرج" والبيهقي في "الدلائل" من طريقه.
4417- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ سَمِعْتُ عَطَاءً يُخْبِرُ قَالَ أَخْبَرَنِي صَفْوَانُ بْنُ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: "غَزَوْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعُسْرَةَ قَالَ كَانَ يَعْلَى يَقُولُ: تِلْكَ
ـــــــ
(1) المعدود ثمانية.

(8/112)


الْغَزْوَةُ أَوْثَقُ أَعْمَالِي عِنْدِي قَالَ عَطَاءٌ فَقَالَ صَفْوَانُ قَالَ يَعْلَى فَكَانَ لِي أَجِيرٌ فَقَاتَلَ إِنْسَانًا فَعَضَّ أَحَدُهُمَا يَدَ الآخَرِ قَالَ عَطَاءٌ فَلَقَدْ أَخْبَرَنِي صَفْوَانُ أَيُّهُمَا عَضَّ الْآخَرَ فَنَسِيتُهُ قَالَ فَانْتَزَعَ الْمَعْضُوضُ يَدَهُ مِنْ فِي الْعَاضِّ فَانْتَزَعَ إِحْدَى ثَنِيَّتَيْهِ فَأَتَيَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَهْدَرَ ثَنِيَّتَهُ" قَالَ عَطَاءٌ وَحَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَفَيَدَعُ يَدَهُ فِي فِيكَ تَقْضَمُهَا كَأَنَّهَا فِي فِي فَحْلٍ يَقْضَمُهَا" .
قوله: "غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العسرة" كذا للأكثر. وفي رواية السرخسي "العسيرة" بالتصغير. قال: "كان يعلى يقول تلك الغزوة أوثق أعمالي عندي" تقدم في الإجارة بلفظ إجمالي وبالعين المهملة أصح. قوله: "قال عطاء" هو موصول بالإسناد المذكور. قوله: "كان لي أجير، فقاتل إنسانا فعض أحدهما يد الآخر، قال عطاء: فلقد أخبرني صفوان أيهما عض الآخر فنسيته" سيأتي البحث في ذلك وتتمة شرح هذا الحديث في كتاب الديات إن شاء الله تعالى.

(8/113)


79- باب حَدِيثُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ
وَقَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلّ: [118 التوبة] {وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا}
قوله: "حديث كعب بن مالك، وقول الله تعالى {وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} سيأتي الكلام على قوله: "خلفوا" في آخر الحديث.
4418- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وَكَانَ قَائِدَ كَعْبٍ مِنْ بَنِيهِ حِينَ عَمِيَ قَالَ سَمِعْتُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ يُحَدِّثُ حِينَ تَخَلَّفَ عَنْ قِصَّةِ تَبُوكَ قَالَ كَعْبٌ لَمْ أَتَخَلَّفْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا إِلاَّ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ غَيْرَ أَنِّي كُنْتُ تَخَلَّفْتُ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ وَلَمْ يُعَاتِبْ أَحَدًا تَخَلَّفَ عَنْهَا إِنَّمَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ عِيرَ قُرَيْشٍ حَتَّى جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَدُوِّهِمْ عَلَى غَيْرِ مِيعَادٍ وَلَقَدْ شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ حِينَ تَوَاثَقْنَا عَلَى الإِسْلاَمِ وَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهَا مَشْهَدَ بَدْرٍ وَإِنْ كَانَتْ بَدْرٌ أَذْكَرَ فِي النَّاسِ مِنْهَا كَانَ مِنْ خَبَرِي أَنِّي لَمْ أَكُنْ قَطُّ أَقْوَى وَلاَ أَيْسَرَ حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْهُ فِي تِلْكَ الْغَزَاةِ وَاللَّهِ مَا اجْتَمَعَتْ عِنْدِي قَبْلَهُ رَاحِلَتَانِ قَطُّ حَتَّى جَمَعْتُهُمَا فِي تِلْكَ الْغَزْوَةِ وَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ غَزْوَةً إِلاَّ وَرَّى بِغَيْرِهَا حَتَّى كَانَتْ تِلْكَ الْغَزْوَةُ غَزَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَرٍّ شَدِيدٍ وَاسْتَقْبَلَ سَفَرًا بَعِيدًا وَمَفَازًا وَعَدُوًّا كَثِيرًا فَجَلَّى لِلْمُسْلِمِينَ أَمْرَهُمْ لِيَتَأَهَّبُوا أُهْبَةَ غَزْوِهِمْ فَأَخْبَرَهُمْ بِوَجْهِهِ الَّذِي يُرِيدُ وَالْمُسْلِمُونَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَثِيرٌ وَلاَ يَجْمَعُهُمْ كِتَابٌ حَافِظٌ يُرِيدُ الدِّيوَانَ قَالَ كَعْبٌ فَمَا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَتَغَيَّبَ إِلاَّ ظَنَّ أَنْ سَيَخْفَى لَهُ مَا لَمْ يَنْزِلْ فِيهِ وَحْيُ اللَّهِ وَغَزَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِلْكَ الْغَزْوَةَ حِينَ طَابَتْ الثِّمَارُ وَالظِّلاَلُ وَتَجَهَّزَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ فَطَفِقْتُ أَغْدُو لِكَيْ أَتَجَهَّزَ مَعَهُمْ فَأَرْجِعُ وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا فَأَقُولُ فِي نَفْسِي أَنَا قَادِرٌ عَلَيْهِ فَلَمْ يَزَلْ يَتَمَادَى بِي حَتَّى اشْتَدَّ بِالنَّاسِ الْجِدُّ فَأَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ

(8/113)


صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ وَلَمْ أَقْضِ مِنْ جَهَازِي شَيْئًا فَقُلْتُ أَتَجَهَّزُ بَعْدَهُ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ ثُمَّ أَلْحَقُهُمْ فَغَدَوْتُ بَعْدَ أَنْ فَصَلُوا لأَتَجَهَّزَ فَرَجَعْتُ وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا ثُمَّ غَدَوْتُ ثُمَّ رَجَعْتُ وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا فَلَمْ يَزَلْ بِي حَتَّى أَسْرَعُوا وَتَفَارَطَ الْغَزْوُ وَهَمَمْتُ أَنْ أَرْتَحِلَ فَأُدْرِكَهُمْ وَلَيْتَنِي فَعَلْتُ فَلَمْ يُقَدَّرْ لِي ذَلِكَ فَكُنْتُ إِذَا خَرَجْتُ فِي النَّاسِ بَعْدَ خُرُوجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَطُفْتُ فِيهِمْ أَحْزَنَنِي أَنِّي لاَ أَرَى إِلاَّ رَجُلاً مَغْمُوصًا عَلَيْهِ النِّفَاقُ أَوْ رَجُلاً مِمَّنْ عَذَرَ اللَّهُ مِنْ الضُّعَفَاءِ وَلَمْ يَذْكُرْنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَلَغَ تَبُوكَ فَقَالَ وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْقَوْمِ بِتَبُوكَ: "مَا فَعَلَ كَعْبٌ" فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ حَبَسَهُ بُرْدَاهُ وَنَظَرُهُ فِي عِطْفِهِ فَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ بِئْسَ مَا قُلْتَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ إِلاَّ خَيْرًا فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ فَلَمَّا بَلَغَنِي أَنَّهُ تَوَجَّهَ قَافِلاً حَضَرَنِي هَمِّي وَطَفِقْتُ أَتَذَكَّرُ الْكَذِبَ وَأَقُولُ بِمَاذَا أَخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ غَدًا وَاسْتَعَنْتُ عَلَى ذَلِكَ بِكُلِّ ذِي رَأْيٍ مِنْ أَهْلِي فَلَمَّا قِيلَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَظَلَّ قَادِمًا زَاحَ عَنِّي الْبَاطِلُ وَعَرَفْتُ أَنِّي لَنْ أَخْرُجَ مِنْهُ أَبَدًا بِشَيْءٍ فِيهِ كَذِبٌ فَأَجْمَعْتُ صِدْقَهُ وَأَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَادِمًا وَكَانَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ بَدَأَ بِالْمَسْجِدِ فَيَرْكَعُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ جَلَسَ لِلنَّاسِ فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ جَاءَهُ الْمُخَلَّفُونَ فَطَفِقُوا يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ وَيَحْلِفُونَ لَهُ وَكَانُوا بِضْعَةً وَثَمَانِينَ رَجُلاً فَقَبِلَ مِنْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلاَنِيَتَهُمْ وَبَايَعَهُمْ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ وَوَكَلَ سَرَائِرَهُمْ إِلَى اللَّهِ فَجِئْتُهُ فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَيْهِ تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ الْمُغْضَبِ ثُمَّ قَالَ: "تَعَالَ" فَجِئْتُ أَمْشِي حَتَّى جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ لِي مَا خَلَّفَكَ أَلَمْ تَكُنْ قَدْ ابْتَعْتَ ظَهْرَكَ فَقُلْتُ بَلَى إِنِّي وَاللَّهِ لَوْ جَلَسْتُ عِنْدَ غَيْرِكَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا لَرَأَيْتُ أَنْ سَأَخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ بِعُذْرٍ وَلَقَدْ أُعْطِيتُ جَدَلًا وَلَكِنِّي وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُ لَئِنْ حَدَّثْتُكَ الْيَوْمَ حَدِيثَ كَذِبٍ تَرْضَى بِهِ عَنِّي لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يُسْخِطَكَ عَلَيَّ وَلَئِنْ حَدَّثْتُكَ حَدِيثَ صِدْقٍ تَجِدُ عَلَيَّ فِيهِ إِنِّي لاَرْجُو فِيهِ عَفْوَ اللَّهِ لاَ وَاللَّهِ مَا كَانَ لِي مِنْ عُذْرٍ وَاللَّهِ مَا كُنْتُ قَطُّ أَقْوَى وَلاَ أَيْسَرَ مِنِّي حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْكَ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَمَّا هَذَا فَقَدْ صَدَقَ فَقُمْ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ فِيكَ" فَقُمْتُ وَثَارَ رِجَالٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ فَاتَّبَعُونِي فَقَالُوا لِي وَاللَّهِ مَا عَلِمْنَاكَ كُنْتَ أَذْنَبْتَ ذَنْبًا قَبْلَ هَذَا وَلَقَدْ عَجَزْتَ أَنْ لاَ تَكُونَ اعْتَذَرْتَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا اعْتَذَرَ إِلَيْهِ الْمُتَخَلِّفُونَ قَدْ كَانَ كَافِيَكَ ذَنْبَكَ اسْتِغْفَارُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكَ فَوَاللَّهِ مَا زَالُوا يُؤَنِّبُونِي حَتَّى أَرَدْتُ أَنْ أَرْجِعَ فَأُكَذِّبَ نَفْسِي ثُمَّ قُلْتُ لَهُمْ هَلْ لَقِيَ هَذَا مَعِي أَحَدٌ قَالُوا نَعَمْ رَجُلاَنِ قَالاَ مِثْلَ مَا قُلْتَ فَقِيلَ لَهُمَا مِثْلُ مَا قِيلَ لَكَ فَقُلْتُ مَنْ هُمَا قَالُوا مُرَارَةُ بْنُ الرَّبِيعِ الْعَمْرِيُّ وَهِلاَلُ بْنُ أُمَيَّةَ الْوَاقِفِيُّ فَذَكَرُوا لِي رَجُلَيْنِ صَالِحَيْنِ قَدْ شَهِدَا بَدْرًا فِيهِمَا أُسْوَةٌ فَمَضَيْتُ حِينَ ذَكَرُوهُمَا لِي وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

(8/114)


الْمُسْلِمِينَ عَنْ كَلاَمِنَا أَيُّهَا الثَّلاَثَةُ مِنْ بَيْنِ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ فَاجْتَنَبَنَا النَّاسُ وَتَغَيَّرُوا لَنَا حَتَّى تَنَكَّرَتْ فِي نَفْسِي الأَرْضُ فَمَا هِيَ الَّتِي أَعْرِفُ فَلَبِثْنَا عَلَى ذَلِكَ خَمْسِينَ لَيْلَةً فَأَمَّا صَاحِبَايَ فَاسْتَكَانَا وَقَعَدَا فِي بُيُوتِهِمَا يَبْكِيَانِ وَأَمَّا أَنَا فَكُنْتُ أَشَبَّ الْقَوْمِ وَأَجْلَدَهُمْ فَكُنْتُ أَخْرُجُ فَأَشْهَدُ الصَّلاَةَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ وَأَطُوفُ فِي الأَسْوَاقِ وَلاَ يُكَلِّمُنِي أَحَدٌ وَآتِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُسَلِّمُ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي مَجْلِسِهِ بَعْدَ الصَّلاَةِ فَأَقُولُ فِي نَفْسِي هَلْ حَرَّكَ شَفَتَيْهِ بِرَدِّ السَّلاَمِ عَلَيَّ أَمْ لاَ ثُمَّ أُصَلِّي قَرِيبًا مِنْهُ فَأُسَارِقُهُ النَّظَرَ فَإِذَا أَقْبَلْتُ عَلَى صَلاَتِي أَقْبَلَ إِلَيَّ وَإِذَا الْتَفَتُّ نَحْوَهُ أَعْرَضَ عَنِّي حَتَّى إِذَا طَالَ عَلَيَّ ذَلِكَ مِنْ جَفْوَةِ النَّاسِ مَشَيْتُ حَتَّى تَسَوَّرْتُ جِدَارَ حَائِطِ أَبِي قَتَادَةَ وَهُوَ ابْنُ عَمِّي وَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَوَاللَّهِ مَا رَدَّ عَلَيَّ السَّلاَمَ فَقُلْتُ يَا أَبَا قَتَادَةَ أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ هَلْ تَعْلَمُنِي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَسَكَتَ فَعُدْتُ لَهُ فَنَشَدْتُهُ فَسَكَتَ فَعُدْتُ لَهُ فَنَشَدْتُهُ فَقَالَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ فَفَاضَتْ عَيْنَايَ وَتَوَلَّيْتُ حَتَّى تَسَوَّرْتُ الْجِدَارَ قَالَ فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي بِسُوقِ الْمَدِينَةِ إِذَا نَبَطِيٌّ مِنْ أَنْبَاطِ أَهْلِ الشَّأْمِ مِمَّنْ قَدِمَ بِالطَّعَامِ يَبِيعُهُ بِالْمَدِينَةِ يَقُولُ مَنْ يَدُلُّ عَلَى كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ فَطَفِقَ النَّاسُ يُشِيرُونَ لَهُ حَتَّى إِذَا جَاءَنِي دَفَعَ إِلَيَّ كِتَابًا مِنْ مَلِكِ غَسَّانَ فَإِذَا فِيهِ أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَنَّ صَاحِبَكَ قَدْ جَفَاكَ وَلَمْ يَجْعَلْكَ اللَّهُ بِدَارِ هَوَانٍ وَلاَ مَضْيَعَةٍ فَالْحَقْ بِنَا نُوَاسِكَ فَقُلْتُ لَمَّا قَرَأْتُهَا وَهَذَا أَيْضًا مِنْ الْبَلاَءِ فَتَيَمَّمْتُ بِهَا التَّنُّورَ فَسَجَرْتُهُ بِهَا حَتَّى إِذَا مَضَتْ أَرْبَعُونَ لَيْلَةً مِنْ الْخَمْسِينَ إِذَا رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْتِينِي فَقَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَعْتَزِلَ امْرَأَتَكَ فَقُلْتُ أُطَلِّقُهَا أَمْ مَاذَا أَفْعَلُ قَالَ لاَ بَلْ اعْتَزِلْهَا وَلاَ تَقْرَبْهَا وَأَرْسَلَ إِلَى صَاحِبَيَّ مِثْلَ ذَلِكَ فَقُلْتُ لامْرَأَتِي الْحَقِي بِأَهْلِكِ فَتَكُونِي عِنْدَهُمْ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ فِي هَذَا الأَمْرِ قَالَ كَعْبٌ فَجَاءَتْ امْرَأَةُ هِلاَلِ بْنِ أُمَيَّةَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ هِلاَلَ بْنَ أُمَيَّةَ شَيْخٌ ضَائِعٌ لَيْسَ لَهُ خَادِمٌ فَهَلْ تَكْرَهُ أَنْ أَخْدُمَهُ قَالَ: "لاَ وَلَكِنْ لاَ يَقْرَبْكِ" قَالَتْ إِنَّهُ وَاللَّهِ مَا بِهِ حَرَكَةٌ إِلَى شَيْءٍ وَاللَّهِ مَا زَالَ يَبْكِي مُنْذُ كَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا كَانَ إِلَى يَوْمِهِ هَذَا فَقَالَ لِي بَعْضُ أَهْلِي لَوْ اسْتَأْذَنْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي امْرَأَتِكَ كَمَا أَذِنَ لامْرَأَةِ هِلاَلِ بْنِ أُمَيَّةَ أَنْ تَخْدُمَهُ فَقُلْتُ وَاللَّهِ لاَ أَسْتَأْذِنُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا يُدْرِينِي مَا يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا اسْتَأْذَنْتُهُ فِيهَا وَأَنَا رَجُلٌ شَابٌّ فَلَبِثْتُ بَعْدَ ذَلِكَ عَشْرَ لَيَالٍ حَتَّى كَمَلَتْ لَنَا خَمْسُونَ لَيْلَةً مِنْ حِينَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كَلاَمِنَا فَلَمَّا صَلَّيْتُ صَلاَةَ الْفَجْرِ صُبْحَ خَمْسِينَ لَيْلَةً وَأَنَا عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِنَا فَبَيْنَا أَنَا جَالِسٌ عَلَى الْحَالِ الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ قَدْ ضَاقَتْ عَلَيَّ نَفْسِي وَضَاقَتْ عَلَيَّ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ سَمِعْتُ صَوْتَ صَارِخٍ أَوْفَى عَلَى جَبَلِ سَلْعٍ بِأَعْلَى صَوْتِهِ يَا كَعْبُ بْنَ مَالِكٍ أَبْشِرْ قَالَ فَخَرَرْتُ

(8/115)


سَاجِدًا وَعَرَفْتُ أَنْ قَدْ جَاءَ فَرَجٌ وَآذَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَوْبَةِ اللَّهِ عَلَيْنَا حِينَ صَلَّى صَلاَةَ الْفَجْرِ فَذَهَبَ النَّاسُ يُبَشِّرُونَنَا وَذَهَبَ قِبَلَ صَاحِبَيَّ مُبَشِّرُونَ وَرَكَضَ إِلَيَّ رَجُلٌ فَرَسًا وَسَعَى سَاعٍ مِنْ أَسْلَمَ فَأَوْفَى عَلَى الْجَبَلِ وَكَانَ الصَّوْتُ أَسْرَعَ مِنْ الْفَرَسِ فَلَمَّا جَاءَنِي الَّذِي سَمِعْتُ صَوْتَهُ يُبَشِّرُنِي نَزَعْتُ لَهُ ثَوْبَيَّ فَكَسَوْتُهُ إِيَّاهُمَا بِبُشْرَاهُ وَاللَّهِ مَا أَمْلِكُ غَيْرَهُمَا يَوْمَئِذٍ وَاسْتَعَرْتُ ثَوْبَيْنِ فَلَبِسْتُهُمَا وَانْطَلَقْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَتَلَقَّانِي النَّاسُ فَوْجًا فَوْجًا يُهَنُّونِي بِالتَّوْبَةِ يَقُولُونَ لِتَهْنِكَ تَوْبَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ قَالَ كَعْبٌ حَتَّى دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ حَوْلَهُ النَّاسُ فَقَامَ إِلَيَّ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ يُهَرْوِلُ حَتَّى صَافَحَنِي وَهَنَّانِي وَاللَّهِ مَا قَامَ إِلَيَّ رَجُلٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ غَيْرَهُ وَلاَ أَنْسَاهَا لِطَلْحَةَ قَالَ كَعْبٌ فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَبْرُقُ وَجْهُهُ مِنْ السُّرُورِ: " أَبْشِرْ بِخَيْرِ يَوْمٍ مَرَّ عَلَيْكَ مُنْذُ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ قَالَ قُلْتُ أَمِنْ عِنْدِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ قَالَ لاَ بَلْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ" وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سُرَّ اسْتَنَارَ وَجْهُهُ حَتَّى كَأَنَّهُ قِطْعَةُ قَمَرٍ وَكُنَّا نَعْرِفُ ذَلِكَ مِنْهُ فَلَمَّا جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِ اللَّهِ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ" قُلْتُ فَإِنِّي أُمْسِكُ سَهْمِي الَّذِي بِخَيْبَرَ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ إِنَّمَا نَجَّانِي بِالصِّدْقِ وَإِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ لاَ أُحَدِّثَ إِلاَّ صِدْقًا مَا بَقِيتُ فَوَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَبْلاَهُ اللَّهُ فِي صِدْقِ الْحَدِيثِ مُنْذُ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْسَنَ مِمَّا أَبْلاَنِي مَا تَعَمَّدْتُ مُنْذُ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى يَوْمِي هَذَا كَذِبًا وَإِنِّي لاَرْجُو أَنْ يَحْفَظَنِي اللَّهُ فِيمَا بَقِيتُ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [117 التوبة] {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ إِلَى قَوْلِهِ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} فَوَاللَّهِ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ مِنْ نِعْمَةٍ قَطُّ بَعْدَ أَنْ هَدَانِي لِلْإِسْلاَمِ أَعْظَمَ فِي نَفْسِي مِنْ صِدْقِي لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لاَ أَكُونَ كَذَبْتُهُ فَأَهْلِكَ كَمَا هَلَكَ الَّذِينَ كَذَبُوا فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ لِلَّذِينَ كَذَبُوا حِينَ أَنْزَلَ الْوَحْيَ شَرَّ مَا قَالَ لِأَحَدٍ فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: [95 التوبة] {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ ـ إِلَى قَوْلِهِ ـ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَرْضَى عَنْ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} قَالَ كَعْبٌ وَكُنَّا تَخَلَّفْنَا أَيُّهَا الثَّلاَثَةُ عَنْ أَمْرِ أُولَئِكَ الَّذِينَ قَبِلَ مِنْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ حَلَفُوا لَهُ فَبَايَعَهُمْ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ وَأَرْجَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرَنَا حَتَّى قَضَى اللَّهُ فِيهِ فَبِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ [118 التوبة] {وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} وَلَيْسَ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ مِمَّا خُلِّفْنَا عَنْ الْغَزْوِ إِنَّمَا هُوَ تَخْلِيفُهُ إِيَّانَا وَإِرْجَاؤُهُ أَمْرَنَا عَمَّنْ حَلَفَ لَهُ وَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ فَقَبِلَ مِنْه" .
قوله "حَدِيثُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، وَقَوْلُ اللَّهِ تعالى: {وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} سياتي الكلام على قوله {خُلِّفُوا} قوله:"عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك أن عبد الله بن كعب "كذا عند الأكثر،

(8/116)


ووقع عن الزهري في بعض هذا الحديث رواية عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك وهو عم عبد الرحمن بن عبد الله الذي حدث به عنه هنا. وفي رواية عن عبد الله بن كعب نفسه، قال أحمد بن صالح فيما أخرجه ابن مردويه: كان الزهري سمع هذا القدر من عبد الله بن كعب نفسه، وسمع هذا الحديث بطوله من ولده عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب، وعنه أيضا رواية عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب عن عمه عبيد الله بالتصغير، ووقع عند ابن جرير من طريق يونس عن الزهري في أول الحديث بغير إسناد، قال الزهري: غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك وهو يريد نصارى العرب والروم بالشام، حتى إذا بلغ تبوك أقام بضع عشرة ليلة، ولقيه بها وفد أذرح ووفد أيلة، فصالحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجزية، ثم قفل من تبوك ولم يجاوزها، وأنزل الله تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} الآية" والثلاثة الذين خلفوا رهط من الأنصار في بضعة وثمانين رجلا، فلما رجع صدقه أولئك واعترفوا بذنوبهم، وكذب سائرهم فحلفوا ما حبسهم إلا العذر فقبل ذلك منهم، ونهى عن كلام الذين خلفوا. قال الزهري: "وأخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب" فساق الحديث بطوله. قوله: "وكان قائد كعب من بنيه" بفتح الموحدة وكسر النون بعدها تحتانية ساكنة، وقع في رواية القابسي هنا وكذا لابن السكن في الجهاد "من بيته" بفتح الموحدة وسكون التحتانية بعدها مثناة، والأول هو الصواب. وفي رواية معقل عن ابن شهاب عند مسلم: "وكان قائد كعب حين أصيب بصره وكان أعلم قومه وأوعاهم لأحاديث أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم" . قوله: "حين تخلف" أي زمان تخلفه. وقوله: "عن قصة" متعلق بقوله يحدث. قوله: "إلا في غزوة تبوك" زاد أحمد من رواية معمر "وهي آخر غزوة غزاها" وهذه الزيادة رواها موسى بن عقبة عن ابن شهاب بغير إسناد، ومثله في زيادات المغازي ليونس بن بكير من مرسل الحسن. وقوله: "ولم يعاتب أحدا" تقدم في غزوة بدر بهذا السند "ولم يعاتب الله أحدا" . قوله: "تواثقنا" بمثلثة وقاف أي أخذ بعضنا على بعض الميثاق لما تبايعنا على الإسلام والجهاد. قوله: "وما أحب أن لي بها مشهد بدر" أي أن لي بدلها. قوله: "وإن كانت بدر أذكر في الناس" أي أعظم ذكرا. وفي رواية يونس عن ابن شهاب عند مسلم: "وإن كانت بدر أكثر ذكرا في الناس منها" ولأحمد من طريق معمر ابن شهاب "ولعمري إن أشرف مشاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لبدر" . قوله: "أقوى ولا أيسر" زاد مسلم: "مني" . قوله: "ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غزوة إلا ورى بغيرها" أي أوهم غيرها، والتورية أن يذكر لفظا يحتمل معنيين أحدهما أقرب من الآخر فيوهم إرادة القريب وهو يريد البعيد. وزاد أبو داود من طريق محمد بن ثور عن معمر عن الزهري "وكان يقول: الحرب خدعة" . "تنبيه" : هذه القطعة من الحديث أفردت منه، وقد تقدمت في الجهاد بهذا الإسناد، وزاد فيه من طريق يونس عن الزهري "وقلما كان يخرج إذا خرج في سفر إلا يوم الخميس" . وللنسائي من طريق ابن وهب عن يونس "في سفر جهاد ولا غيره: "وله من وجه آخر" وخرج في غزوة تبوك يوم الخميس" . قوله: "وعدوا كثيرا" في رواية: "وغزو عدو كبير" . قوله: "فجلى" بالجيم وتشديد اللام ويجوز تخفيفها أي أوضح. قوله: "أهبة غزوهم" في رواية الكشميهني: "أهبة عدوهم" والأهبة بضم الهمزة وسكون الهاء ما يحتاج إليه في السفر والحرب. قوله: "ولا يجمعهم كتاب حافظ" بالتنوين فيهما. وفي رواية مسلم بالإضافة، وزاد في رواية معقل "يزيدون على عشرة آلاف، ولا يجمع ديوان حافظ" وللحاكم في "الإكليل" من حديث معاذ "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غزوة تبوك زيادة على ثلاثين ألفا" وبهذه العدة جزم ابن إسحاق

(8/117)


وأورده الواقدي بسند آخر موصول وزاد: "أنه كان معه عشرة آلاف فرس" فتحمل رواية معقل على إرادة عدد الفرسان. ولابن مردويه "ولا يجمعهم ديوان حافظ" يعني كعب بذلك الديوان يقول: لا يجمعهم ديوان مكتوب، وهو يقوي رواية التنوين، وقد نقل عن أبي زرعة الرازي أنهم كانوا في غزوة تبوك أربعين ألفا، ولا تخالف الرواية التي في "الإكليل" أكثر من ثلاثين ألفا لاحتمال أن يكون من قال أربعين ألفا جبر الكسر، وقوله يريد الديوان هو كلام الزهري، وأراد بذلك الاحتراز عما وقع في حديث حذيفة "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اكتبوا لي من تلفظ بالإسلام" وقد ثبت أن أول من دون الديوان عمر رضي الله عنه. قوله: "قال كعب" هو موصول بالإسناد المذكور. قوله: "فما رجل" في رواية مسلم: "فقل رجل" . قوله: "إلا ظن أنه سيخفى" في رواية الكشميهني: "أن سيخفى" بتخفيف النون بلا هاء. وفي رواية مسلم: "أن ذلك سيخفى له" . قوله: "حين طابت الثمار والظلال" في رواية موسى بن عقبة عن ابن شهاب "في قيظ شديد في ليالي الخريف والناس خارفون في نخيلهم" وفي رواية أحمد من طريق معمر "وأنا أقدر شيء في نفسي على الجهاز وخفة الحاذ، وأنا في ذلك أصغو إلى الظلال والثمار" وقوله: "الحاذ" بحاء مهملة وتخفيف الذال المعجمة هو الحال وزنا ومعنى. وقوله: "أصغو" بصاد مهملة وضم المعجمة أي أميل، ويروى "أصعر" بضم العين المهملة بعدها راء. وفي رواية ابن مردويه "فالناس إليها صعر" . قوله: "حتى اشتد الناس الجد" بكسر الجيم وهو الجد في الشيء والمبالغة فيه، وضبطوا الناس بالرفع على أنه الفاعل والجد بالنصب على نزع الخافض، أو هو نعت لمصدر محذوف أي اشتد الناس الاشتداد الجد، وعند ابن السكن "اشتد بالناس الجد" برفع الجد وزيادة الموحدة وهو الذي في رواية أحمد ومسلم وغيرهما. وفي رواية الكشميهني: "بالناس الجد" والجد على هذا فاعل وهو مرفوع وهي رواية مسلم، وعند ابن مردويه "حتى شمر الناس الجد" وهو يؤيد التوجيه الأول. قوله: "فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه ولم أقض من جهازي" بفتح الجيم وبكسرها وعند ابن أبي شيبة وابن جرير من وجه آخر عن كعب "فأخذت في جهازي، فأمسيت ولم أفرع، فقلت أتجهز في غد". قوله: "حتى أسرعوا" وفي رواية الكشميهني: "حتى شرعوا" بالشين المعجمة وهو تصحيف. قوله: "وليتني فعلت" زاد في رواية ابن مردويه "ولم أفعل" . قوله: "وتفارط" بالفاء والطاء والمهملة أي فات وسبق، والفرط السبق. وفي رواية ابن أبي شيبة: "حتى أمعن القوم وأسرعوا، فطفقت أغدو للتجهيز وتشغلني الرجال، فأجمعت القعود حين سبقني القوم" وفي رواية أحمد من طريق عمر بن كثير عن كعب "فقلت أيهات، سار الناس ثلاثا، فأقمت" . قوله: "مغموصا" بالغين المعجمة والصاد المهملة أي مطعونا عليه في دينه متهما بالنفاق، وقيل معناه مستحقرا، تقول غمصت فلانا إذا استحقرته. قوله: "حتى بلغ تبوك" بغير صرف للأكثر. وفي رواية: "تبوكا" على إرادة المكان. قوله: "فقال رجل من بني سلمة" بكسر اللام. وفي رواية معمر "من قومي" وعند الواقدي أنه عبد الله بن أنيس، وهذا غير الجهني الصحابي المشهور، وقد ذكر الواقدي فيمن استشهد باليمامة عبد الله بن أنيس السلمي بفتحتين فهو هذا، والذي رد عليه هو معاذ بن جبل اتفاقا إلا ما حكى الواقدي. وفي رواية أنه أبو قتادة، قال والأول أثبت. قوله: "حبسه برداه والنظر في عطفه" بكسر العين المهملة وكني بذلك عن حسنه وبهجته، والعرب نصف الرداء بصفة الحسن وتسميه عطفا لوقوعه على عطفي الرجل. قوله: "فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم" فبينما هو كذلك رأى رجلا منتصبا يزول به السراب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كن أبا خيثمة" فإذا هو أبو خيثمة

(8/118)


الأنصاري: قلت: واسم أبي خيثمة هذا سعد بن خيثمة، كذا أخرجه الطبراني من حديثه ولفظه: "تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخلت حائطا فرأيت عريشا قد رش بالماء، ورأيت زوجتي فقلت: ما هذا بإنصاف، رسول الله صلى الله عليه وسلم في السموم والحرور وأنا في الظل والنعيم، فقمت إلي ناضح لي وتمرات فخرجت، فلما طلعت على العسكر فرآني الناس قال النبي: كن أبا خيثمة، فجئت، فدعا لي" وذكره ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم مرسلا، وذكر الواقدي أن اسمه عبد الله بن خيثمة. وقال ابن شهاب: اسمه مالك بن قيس. قوله: "فلما بلغني أنه توجه قافلا" في رواية مسلم: "فلما بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"وذكر ابن سعد أن قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة كان في رمضان. قوله: "حضرني همي" في رواية الكشميهني: "همني" وفي رواية مسلم: "بثي" بالموحدة ثم المثلثة. وفي رواية ابن أبي شيبة: "فطففت أعد العذر لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جاء وأهيئ الكلام" . قوله: "وأجمعت صدقه" أي جزمت بذلك وعقدت عليه قصدي. وفي رواية ابن أبي شيبة: "وعرفت أنه لا ينجيني منه إلا الصدق" . قوله: "وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فيركع فيه ركعتين ثم جلس للناس" هذه القطعة من هذا الحديث أفردت في الجهاد، وقد أخرجه أحمد من طريق ابن جريج عن ابن شهاب بلفظ: "لا يقدم من سفر إلا في الضحى فيبدأ بالمسجد فيصلي فيه ركعتين ويقعد" وفي رواية ابن أبي شيبة ثم يدخل على أهله، وفي حديث أبي ثعلبة عند 1 والطبراني "كان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فصلى فيه ركعتين ثم يثني بفاطمة ثم يأتي أزواجه" وفي لفظ: "ثم بدأ ببيت فاطمة ثم أتى بيوت نسائه" . قوله: "جاءه المخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له، وكانوا بضعة وثمانين رجلا" ذكر الواقدي أن هذا العدد كان من منافقي الأنصار، وأن المعذرين من الأعراب كانوا أيضا اثنين وثمانين رجلا من بني غفار وغيرهم، وأن عبد الله بن أبي ومن أطاعه من قومه كانوا من غير هؤلاء وكانوا عددا كثيرا. قوله: "فلما سلمت عليه تبسم تبسم المغضب" وعند ابن عائذ في المغازي "فأعرض عنه، فقال: يا نبي الله لم تعرض عني؟ فوالله ما نافقت ولا ارتبت ولا بدلت، قال: فما خلفك"؟ . قوله: "والله لقد أعطيت جدلا" أي فصاحة وقوة كلام بحيث أخرج عن عهدة ما ينسب إلي بما يقبل ولا يرد. قوله: "تجد علي" بكسر الجيم أي تغضب. قوله: "حتى يقضي الله فيك، فقمت" زاد النسائي من طريق يونس عن الزهري "فمضيت" . قوله: "وثار رجال" أي وثبوا. قوله: "كافيك ذنبك" بالنصب على نزع الخافض أو على المفعولية أيضا، واستغفار بالرفع على أنه الفاعل. وعند ابن عائذ "فقال كعب. ما كنت لأجمع أمرين. أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكذبه. فقالوا: إنك شاعر جريء، فقال: أما على الكذب فلا" زاد في رواية ابن أبي شيبة: "كما صنع ذلك بغيرك فقبل منهم عذرهم واستغفر لهم" . قوله: "وقيل لهم مثل ما قيل لك" في رواية ابن مردويه "وقال لهما مثل ما قيل لك" . قوله: "يؤنبوني" بنون ثقيلة ثم موحدة من التأنيب وهو اللوم العنيف. قوله: "مرارة" بضم الميم وراءين الأولى خفيفة، و قوله: "العمري" بفتح المهملة وسكون الميم نسبة إلى بني عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس، ووقع لبعضهم العامري وهو خطأ. وقوله: "ابن الربيع" هو المشهور، ووقع في رواية المسلم: "ابن ربيعة" وفي حديث مجمع بن جارية عند ابن مردويه "مرارة بن ربعي" وهو خطأ، وكذا ما وقع عند ابن أبي حاتم من مرسل الحسن من تسميته "ربيع بن مرارة" وهو مقلوب، وذكر في هذا المرسل أن سبب تخلفه أنه كان له حائط حين زهي فقال في نفسه: قد
ـــــــ
1 بياض بأصله

(8/119)


غزوت قبلها، فلو أقمت عامي هذا. فلما تذكر ذنبه قال: اللهم إني أشهدك أني قد تصدقت به في سبيلك. وفيه أن الآخر يعني هلالا كان له أهل تفرقوا ثم اجتمعوا فقال: لو أقمت هذا العام عندهم، فلما تذكر قال: اللهم لك علي أن لا أرجع إلى أهل ولا مال. قوله: "وهلال بن أمية الواقفي" بقاف ثم فاء نسبة إلى بني واقف بن امرئ القيس بن مالك بن الأوس. قوله: "فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرا" هكذا وقع هنا. وظاهره أنه من كلام كعب بن مالك، وهو مقتضى صنيع البخاري، وقد قررت ذلك واضحا في غزوة بدر. وممن جزم بأنهما شهدا بدرا أبو بكر الأثرم، وتعقبه ابن الجوزي ونسبه إلى الغلط فلم يصب، واستدل بعض المتأخرين لكونهما لم يشهدا بدرا بما وقع في قصة حاطب، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يهجره ولا عاقبه مع كونه جس عليه، بل قال لعمر لما هم بقتله: "وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" . قال: وأين ذنب التخلف من ذنب الجس؟. قلت: وليس ما استدل به بواضح، لأنه يقتضي أن البدري عنده إذا جنى جناية ولو كبرت لا يعاقب عليها، وليس كذلك، فهذا عمر مع كونه المخاطب بقصة حاطب فقد جلد قدامة بن مظعون الحد لما شرب الخمر وهو بدري كما تقدم، وإنما لم يعاقب النبي صلى الله عليه وسلم حاطبا ولا هجره لأنه قبل عذره في أنه إنما كاتب قريشا خشية على أهله وولده، وأراد أن يتخذ له عندهم يدا فعذره بذلك، بخلاف تخلف كعب وصاحبيه فإنهم لم يكن لهم عذر أصلا. والله أعلم. قوله: "لي فيهما أسوة" بكسر الهمزة ويجوز ضمها، قال ابن التين: التأسي بالنظير ينفع في الدنيا بخلاف الآخرة، فقد قال تعالى: {وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ} الآية. قوله: "فمضيت حين ذكروهما لي" في رواية معمر "فقلت والله لا أرجع إليه في هذا أبدا" . قوله: "ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا أيها الثلاثة" بالرفع وهو في موضع نصب على الاختصاص أي متخصصين بذلك دون بقية الناس. قوله: "حتى تنكرت في نفسي الأرض فما هي بالتي أعرف" وفي رواية معمر "وتنكرت لنا الحيطان حتى ما هي بالحيطان التي نعرف، وتنكر لنا الناس حتى ما هم الذين نعرف" وهذا يجده الحزين والمهموم في كل شيء حتى قد يجده في نفسه، وزاد المصنف في التفسير من طريق إسحاق بن راشد عن الزهري "وما من شيء أهم إلي من أن أموت فلا يصلي علي رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يموت فأكون من الناس بتلك المنزلة فلا يكلمني أحد منهم ولا يصلي علي" ، وعند ابن عائذ "حتى وجلوا أشد الوجل وصاروا مثل الرهبان" . قوله: "هل حرك شفتيه برد السلام علي" لم يجزم كعب بتحريك شفتيه عليه السلام، ولعل ذلك بسبب أنه لم يكن يديم النظر إليه من الخجل. قوله: "فأسارقه" بالسين المهملة والقاف أي أنظر إليه في خفية. قوله: "من جفوة الناس" بفتح الجيم وسكون الفاء أي إعراضهم. وفي رواية ابن أبي شيبة: "وطفقنا نمشي في الناس، لا يكلمنا أحد ولا يرد علينا سلاما" . قوله: "حتى تسورت" أي علوت سور الدار. قوله: "جدار حائط أبي قتادة وهو ابن عمي وأحب الناس إلي" ذكر أنه ابن عمه لكونهما معا من بني سلمة، وليس هو ابن عمه أخي أبيه الأقرب. و قوله: "أنشدك" بضم المعجمة وفتح أوله أي أسألك، و قوله: "الله ورسوله أعلم" ليس هو تكليما لكعب لأنه لم ينو به ذلك كما سيأتي تقريره. قوله: "وتوليت حتى تسورت الحائط" وفي رواية معمر "فلم أملك نفسي أن بكيت، ثم اقتحمت الحائط خارجا" . قوله: "إذا نبطي" بفتح النون والموحدة. قوله: "من أنباط أهل الشام" نسبة إلى استنباط الماء واستخراجه، وهؤلاء كانوا في ذلك الوقت أهل الفلاحة وهذا النبطي الشامي كان نصرانيا كما وقع في رواية معمر "إذا نصراني جاء بطعام له يبيعه" ولم أقف على اسم هذا النصراني، ويقال إن النبط ينسبون إلى

(8/120)


نبط بن هانب بن أميم بن لاوذ بن سام بن نوح. قوله: "من ملك غسان" بفتح المعجمة وسين مهملة ثقيلة هو جبلة بن الأيهم، جزم بذلك ابن عائذ. وعند الواقدي الحارث بن أبي شمر، ويقال جبلة بن الأيهم. وفي رواية ابن مردويه "فكتب إلي كتابا في سرقة من حرير" . قوله: "ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة" بسكون المعجمة ويجوز كسرها، أي حيث يضيع حقك. وعند ابن عائذ "فإن لك متحولا" بالمهملة وفتح الواو، أي مكانا تتحول إليه. قوله: "فالحق بنا نواسك" بضم النون وكسر المهملة من المواساة، وزاد في رواية ابن أبي شيبة: "في أموالنا. فقلت: إنا لله، قد طمع في أهل الكفر" ونحوه لابن مردويه. قوله: "فتيممت" أي قصدت، والتنور ما يخبز فيه، وقوله فسجرته بسين مهملة وجيم أي أوقدته، وأنت الكتاب على معنى الصحيفة. وفي رواية ابن مردويه "فعمدت بها إلى تنور به فسجرته بها" . ودل صنيع كعب هذا على قوة إيمانه ومحبته لله ولرسوله، وإلا فمن صار في مثل حاله من الهجر والإعراض قد يضعف عن احتمال ذلك وتحمله الرغبة في الجاه والمال على هجران من هجره ولا سيما مع أمنه من الملك الذي استدعاه إليه أنه لا يكرهه على فراق دينه، لكن لما احتمل عنده أنه لا يأمن من الافتتان حسم المادة وأحرق الكتاب ومنع الجواب، هذا مع كونه من الشعراء الذين طبعت نفوسهم على الرغبة، ولا سيما بعد الاستدعاء والحث على الوصول إلى المقصود من الجاه والمال، ولا سيما والذي استدعاه قريب ونسيبه، ومع ذلك فغلب عليه دينه وقوي عنده يقينه، ورجح ما هو فيه من النكد والتعذيب على ما دعي إليه من الراحة والنعيم، حبا في الله ورسوله، كما قال صلى الله عليه وسلم: "وأن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما" وعند ابن عائذ أنه شكا حاله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ما زال إعراضك عني حتى رغب في أهل الشرك. قوله: "إذا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم" لم أقف على اسمه، ثم وجدت في رواية الواقدي أنه خزيمة بن ثابت، قال: وهو الرسول إلى هلال ومرارة بذلك. قوله: "أن تعتزل امرأتك" هي عميرة بنت جبير بن صخر بن أمية الأنصارية أم أولاده الثلاثة عبد الله وعبيد الله ومعبد، ويقال اسم امرأته التي كانت يومئذ عنده خيرة بالمعجمة المفتوحة ثم التحتانية. قوله: "الحقي بأهلك فتكوني عندهم حتى يقضي الله" زاد النسائي من طريق معقل بن عبيد الله عن الزهري "فلحقت بهم" . قوله: "فجاءت امرأة هلال" هي خولة بنت عاصم. قوله: "فقال لي بعض أهلي" لم أقف على اسمه، ويشكل مع نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن كلام الثلاثة، ويجاب بأنه لعله بعض ولده أو من النساء، ولم يقع النهي عن كلام الثلاثة للنساء اللائي في بيوتهم، أو الذي كلمه بذلك كان منافقا، أو كان ممن يخدمه ولم يدخل في النهي. قوله: "فأوفى" بالفاء مقصور أي أشرف واطلع. قوله: "على جبل سلع" بفتح المهملة وسكون اللام. وفي رواية معمر "من ذروة سلع" أي أعلاه، وزاد ابن مردويه "وكنت ابتنيت خيمة في ظهر سلع فكنت أكون فيها" ونحوه لابن عائذ وزاد: "أكون فيها نهارا" . قوله: "يا كعب بن مالك أبشر" في رواية عمر بن كثير عن كعب عند أحمد "إذ سمعت رجلا على الثنية يقول: كعبا كعبا، حتى دنا مني فقال: بشروا كعبا" . قوله: "فخررت ساجدا وقد عرفت أنه جاء فرج" وعند ابن عائذ "فخر ساجدا يبكي فرحا بالتوبة" . قوله: "وآذن" بالمد وفتح المعجمة أي أعلم، وللكشميهني بغير مد وبالكسر، ووقع في رواية إسحاق بن راشد وفي رواية معمر "فأنزل الله توبتنا على نبيه حين بقي الثلث الأخير من الليل، ورسول الله صلى الله عليه وسلم عند أم سلمة، وكانت أم سلمة محسنة في شأني معتنية بأمري فقال: يا أم سلمة تيب على كعب، قالت: أفلا أرسل إليه فأبشره؟ قال: إذا يحطمكم الناس فيمنعوكم النوم سائر

(8/121)


الليلة. حتى إذا صلى الفجر آذن بتوبة الله علينا" . قوله: "وركض إلي رجل فرسا" لم أقف على اسمه، ويحتمل أن يكون هو حمزة بن عمرو الأسلمي. قوله: "وسعى ساع من أسلم" هو حمزة بن عمرو ورواه الواقدي، وعند ابن عائذ أن اللذين سعيا أبو بكر وعمر، لكنه صدره بقوله: "زعموا" وعند الواقدي "وكان الذي أوفى على سلع أبا بكر الصديق فصاح: قد تاب الله على كعب. والذي خرج على فرسه الزبير بن العوام. قال: وكان الذي بشرني فنزعت له ثوبي حمزة بن عمرو الأسلمي. قال: وكان الذي بشر هلال بن أمية بتوبته سعيد بن زيد، قال: وخرجت إلى بني واقف فبشرته فسجد. قال سعيد: فما ظننته يرفع رأسه حتى تخرج نفسه" يعني لما كان فيه من الجهد فقد قيل إنه امتنع من الطعام حتى كان يواصل الأيام صائما ولا يفتر من البكاء، وكان الذي بشر مرارة بنويته سلكان بن سلامة أو سلمة بن سلامة بن وقش. قوله: "والله ما أملك غيرهما يومئذ" يريد من جنس الثياب، وإلا فقد تقدم أنه كان عنده راحلتان، وسيأتي أنه استأذن أن يخرج من ماله صدقة. ثم وجدت في رواية ابن أبي شيبة التصريح بذلك ففيها "ووالله ما أملك يومئذ ثوبين غيرهما:"وزاد ابن عائذ من وجه آخر عن الزهري "فلبسهما" . قوله: "واستعرت ثوبين" في رواية الواقدي "من أبي قتادة" . قوله: "وانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم" في رواية مسلم: "فانطلقت أتأمم رسول الله صلى الله عليه وسلم" . قوله: "فوجا فوجا" أي جماعة جماعة. قوله: "ليهنك بكسر النون" وزعم ابن التين أنه بفتحها، بل قال السفاقسي إنه أصوب لأنه من الهناء، وفيه نظر. قوله: "ولا أنساها لطلحة" قالوا سبب ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان آخى بينه وبين طلحة لما آخى بين المهاجرين والأنصار، والذي ذكره أهل المغازي أنه كان أخا الزبير لكن كان الزبير أخا طلحة في أخوه المهاجرين فهو أخو أخيه. قوله: "أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك " استشكل هذا الإطلاق بيوم إسلامه فإنه مر عليه بعد أن ولدته أمه وهو خير أيامه، فقيل هو مستثنى، تقديرا وإن لم ينطق به لعدم خفائه، والأحسن في الجواب أن يوم توبته مكمل ليوم إسلامه، فيوم إسلامه بداية سعادته ويوم توبته مكمل لها فهو خير جميع أيامه، وإن كان يوم إسلامه خيرها فيوم توبته المضاف إلى إسلامه خير من يوم إسلامه المجرد عنها. والله أعلم. قوله: "قال: لا، بل من عند الله" زاد في رواية ابن أبي شيبة: "إنكم صدقتم الله فصدقكم" . قوله: "حتى كأنه قطعة قمر" في رواية إسحاق بن راشد في التفسير "حتى كأنه قطعة من التمر" ويسأل عن السر في التقييد بالقطعة مع كثرة ما ورد في كلام البلغاء من تشبيه الوجه بالقمر بغير تقييد، وقد تقدم في صفة النبي صلى الله عليه وسلم تشبيههم له بالشمس طالعة وغير ذلك، وكان كعب بن مالك قائل هذا من شعراء الصحابة وحاله في ذلك مشهور، فلا بد في التقييد بذلك من حكمة. وما قيل في ذلك من الاحتراز من السواد الذي في القمر ليس بقوي، لأن المراد تشبيهه بما في القمر من الضياء والاستنارة، وهو في تمامه لا يكون فيها أقل مما في القطعة المجردة. وقد ذكرت في صفة النبي صلى الله عليه وسلم بذلك توجيهات: ومنها أنه للإشارة إلى موضع الاستنارة وهو الجبين وفيه يظهر السرور كما قالت عائشة: مسرورا تبرق أسارير وجهه، فكأن التشبيه وقع على بعض الوجه فناسب أن يشبه ببعض القمر. قوله: "وكنا نعرف ذلك منه" في رواية الكشميهني: "فيه" ، وفيه ما كان النبي صلى الله عليه وسلم عليه من كمال الشفقة على أمته والرأفة بهم والفرح بما يسرهم. وعند ابن مردويه من وجه آخر عن كعب بن مالك "لما نزلت توبتي أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقبلت يده وركبته" . قوله: "إن من توبتي أن أنخلع من مالي" أي أخرج من جميع مالي. قوله: "صدقة" هو مصدر في موضع الحال أي متصدقا، أو ضمن أنخلع معنى أتصدق وهو مصدر أيضاء وقوله: "أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك"

(8/122)


في رواية أبي داود عن كعب أنه قال: "إن من توبتي أن أخرج من مالي كله إلى الله ورسوله صدقة. قال: لا، قلت: نصفه. قال: لا، قلت: فثلثه. قال: نعم" ولابن مردويه من طريق ابن عيينة عن الزهري "فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يجزي عنك من ذلك الثلث" ونحوه لأحمد في قصة أبي لبابة حين قال: "إن من توبتي أن أنخلع من مالي كله صدقة لله ورسوله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يجزي عنك الثلث" . قوله: "فوالله ما أعلم أحدا من المسلمين أبلاه الله" أي أنعم عليه. وقوله: "في صدق الحديث مذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن مما أبلاني" وكذلك قوله بعد ذلك "فوالله ما أنعم الله علي من نعمة قط بعد أن هداني إلى الإسلام أعظم من صدقي لرسول الله صلى الله عليه وسلم:"ففي قوله: "أحسن وأعظم" شاهد على أن هذا السياق يورد ويراد به نفي الأفضلية لا المساواة، لأن كعبا شاركه في ذلك رفيقان، وقد نفى أن يكون لحد حصل له أحسن مما حصل له، وهو كذلك لكنه لم ينف المساواة. قوله: "أن لا أكون كذبته" لا زائدة كما نبه عليه عياض. قوله: "وكنا تخلفنا" بضم أوله وكسر اللام وفي رواية مسلم وغيره: "خلفنا" بضم المعجمة من غير شيء قبلها. قوله: "وأرجا" مهموزا أي أخر وزنا ومعنى، وحاصله أن كعبا فسر قوله تعالى: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} أي أخروا حتى تاب الله عليهم، لا أن المراد أنهم خلفوا عن الغزو، وفي تفسير عبد الرزاق عن معمر عمن سمع عكرمة في قوله تعالى: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} قال: خلفوا عن التوبة، ولابن جرير من طريق قتادة نحوه، قال ابن جرير: فمعنى الكلام لقد تاب الله على الذين أخرت توبتهم. وفي قصة كعب من الفوائد غير ما تقدم جواز طلب أموال الكفار من ذوي الحرب، وجواز الغزو في الشهر الحرام، والتصريح بجهة الغزو إذا لم تقتض المصلحة ستره، وأن الإمام إذا استنفر الجيش عموما لزمهم النفير ولحق اللوم بكل فرد فرد أن لو تخلف. وقال السهيلي: إنما اشتد الغضب على من تخلف وإن كان الجهاد فرض كفاية لكنه في حق الأنصار خاصة فرض عين لأنهم بايعوا على ذلك، ومصداق ذلك قولهم وهم يحفرون الخندق:
نحن الذين بايعوا محمدا ... على الجهاد ما بقينا أبدا
فكان تخلفهم عن هذه الغزوة كبيرة لأنها كالنكث لبيعتهم، كذا قال ابن بطال. قال السهيلي: ولا أعرف له وجها غير الذي قال. قلت: وقد ذكرت وجها غير الذي ذكره ولعله أقعد، ويؤيده قوله تعالى: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ} الآية. وعند الشافعية وجه أن الجهاد كان فرض عين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فعلى هذا فيتوجه العتاب على من تخلف مطلقا. وفيها أن العاجز عن الخروج بنفسه أو بماله لا لوم عليه، واستخلاف من يقوم مقام الإمام على أهله والضعفة، وفيها ترك قتل المنافقين، ويستنبط منه ترك قتل الزنديق إذا أظهر التوبة. وأجاب من أجازه بأن الترك كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لمصلحة التأليف على الإسلام. وفيها عظم أمر المعصية، وقد نبه الحسن البصري على ذلك فيما أخرجه ابن أبي حاتم عنه قال: يا سبحان الله ما أكل هؤلاء الثلاثة مالا حراما ولا سفكوا دما حراما ولا أفسدوا في الأرض، أصابهم ما سمعتم وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، فكيف بمن يواقع الفواحش والكبائر؟ وفيها أن القوي في الدين يؤاخذ بأشد مما يؤاخذ الضعيف في الدين، وجواز إخبار المرء عن تقصيره وتفريطه وعن سبب ذلك وما آل إليه أمره تحذيرا ونصيحة لغيره، وجواز مدح المرء بما فيه من الخير إذا أمن الفتنة، وتسلية نفسه بما لم يحصل له بما وقع لنظيره، وفضل أهل بدر والعقبة، والحلف للتأكيد من غير استحلاف، والتورية عن المقصد، ورد الغيبة، وجواز ترك وطء الزوجة مدة.

(8/123)


وفيه أن المرء إذا لاحت له فرصة في الطاعة فحقه أن يبادر إليها ولا يسوف بها لئلا يحرمها كما قال تعالى: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} ومثله قوله تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} ونسأل الله تعالى أن يلهمنا المبادرة إلى طاعته، وأن لا يسلبنا ما خولنا من نعمته. وفيها جواز تمني ما فات من الخير، وأن الإمام لا يهمل من تخلف عنه في بعض الأمور بل يذكره ليراجع التوبة. وجواز الطعن في الرجل بما يغلب على اجتهاد الطاعن عن حمية لله ورسوله. وفيها جواز الرد على الطاعن إذا غلب على ظن الراد وهم الطاعن أو غلطه. وفيها أن المستحب للقادم أن يكون على وضوء، وأن يبدأ بالمسجد قبل بيته فيصلي ثم يجلس لمن يسلم عليه، ومشروعية السلام على القادم وتلقيه، والحكم بالظاهر، وقبول المعاذير واستحباب بكاء العاصي أسفا على ما فاته من الخير. وفيها إجراء الأحكام على الظاهر ووكول السرائر إلى الله تعالى وفيها ترك السلام على من أذنب، وجواز هجره أكثر من ثلاث. وأما النهي عن الهجر فوق الثلاث فمحمول على من لم يكن هجرانه شرعيا، وأن التبسم قد يكون عن غضب كما يكون عن تعجب ولا يختص بالسرور. ومعاتبة الكبير أصحابه ومن يعز عليه دون غيره. وفيها فائدة الصدق وشؤم عاقبة الكذب. وفيها العمل بمفهوم اللقب إذا حفته قرينة، لقوله صلى الله عليه وسلم لما حدثه كعب "أما هذا فقد صدق" فإنه يشعر بأن من سواه كذب، لكن ليس على عمومه في حق كل أحد سواه، لأن مرارة وهلالا أيضا قد صدقا، فيختص الكذب بمن حلف واعتذر، لا بمن اعترف، ولهذا عاقب من صدق بالتأديب الذي ظهرت فائدته عن قرب، وأخر من كذب للعقاب الطويل، وفي الحديث الصحيح "إذا أراد الله بعبد خيرا عجل له عقوبته في الدنيا، وإذا أراد به شرا أمسك عنه عقوبته فيرد القيامة بذنوبه" قيل وإنما غلظ في حق هؤلاء الثلاثة لأنهم تركوا الواجب عليهم من غير عذر، ويدل عليه قوله تعالى: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ} وقول الأنصار:
نحن الذين بايعوا محمدا ... على الجهاد ما بقينا أبدا
وفيها تبريد حر المصيبة بالتأسي بالنظير، وفيها عظم مقدار الصدق في القول والفعل، وتعليق سعادة الدنيا والآخرة والنجاة من شرهما به، وأن من عوقب بالهجر يعذر في التخلف عن صلاة الجماعة لأن مرارة وهلالا لم يخرجا من بيوتهما تلك المدة. وفيها سقوط رد السلام على المهجور عمن سلم عليه إذ لو كان واجبا لم يقل كعب: هل حرك شفتيه برد السلام. وفيها جواز دخول المرء دار جاره وصديقه بغير إذنه ومن غير الباب إذا علم رضاه. وفيها أن قول المرء: "الله ورسوله أعلم" ليس بخطاب ولا كلام ولا يحنث به من حلف أن لا يكلم الأخر إذا لم ينو به مكالمته وإنما قال أبو قتادة ذلك لما ألح عليه كعب، وإلا فقد تقدم أن رسول ملك غسان لما سأل عن كعب جعل الناس يشيرون له إلى كعب ولا يتكلمون بقولهم مثلا هذا كعب مبالغة في هجره والإعراض عنه، وفيها أن مسارقة النظر في الصلاة لا تقدح في صحتها، وإيثار طاعة الرسول على مودة القريب، وخدمة المرأة زوجها، والاحتياط لمجانبة ما يخشى الوقوع فيه، وجواز تحريق ما فيه اسم الله للمصلحة. وفيها مشروعية سجود الشكر والاستباق إلى البشارة بالخير وإعطاء البشير أنفس ما يحضر الذي يأتيه بالبشارة، وتهنئة من تجددت له نعمة، والقيام إليه إذا أقبل، واجتماع الناس عند الإمام في الأمور المهمة، وسروره بما يسر أتباعه، ومشروعية العارية، ومصافحة القادم والقيام له، والتزام المداومة على الخير الذي ينتفع به، واستحباب الصدقة عند التوبة، وأن من نذر الصدقة

(8/124)


بكل ماله لم يلزمه إخراج جميعه. وسيأتي البحث فيه في كتاب النذر إن شاء الله تعالى. وقال ابن التين: فيه أن كعب بن مالك من المهاجرين الأولين الذين صلوا إلى القبلتين، كذا قال، وليس كعب من المهاجرين إنما هو من السابقين من الأنصار.

(8/125)


80- باب نُزُولِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحِجْرَ
4419- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجُعْفِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: " لَمَّا مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحِجْرِ قَالَ لاَ تَدْخُلُوا مَسَاكِنَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ أَنْ يُصِيبَكُمْ مَا أَصَابَهُمْ إِلاَّ أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ ثُمَّ قَنَّعَ رَأْسَهُ وَأَسْرَعَ السَّيْرَ حَتَّى أَجَازَ الْوَادِي" .
4420- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْن بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأَصْحَابِ الْحِجْرِ: "لاَ تَدْخُلُوا عَلَى هَؤُلاَءِ الْمُعَذَّبِينَ إِلاَّ أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَهُم" .
قوله: "باب نزول النبي صلى الله عليه وسلم الحجر" بكسر المهملة وسكون الجيم، وهي منازل ثمود. زعم بعضهم أنه مر به ولم ينزل، ويرده التصريح في حديث ابن عمر بأنه "لما نزل الحجر أمرهم أن لا يشربوا" وقد تقدم حديث ابن عمر في بئر ثمود، وقد تقدمت مباحثه في أحاديث الأنبياء. وقوله: "أن يصيبكم" بفتح الهمزة مفعول له، أي كراهة الإصابة. وقوله: "أجاز الوادي" أي قطعه. قوله: "قال النبي صلى الله عليه وسلم:"لأصحاب الحجر لا تدخلوا "قال الكرماني: أي قال لأصحابه الذين معه في ذلك الموضع، وأضيف إلى الحجر لعبورهم عليه. وقد تكلم في ذلك وتعسف، وليس كما قال، بل اللام في قوله: "لأصحاب الحجر" بمعنى عن، وحذف المقول لهم ليعم كل سامع، والتقدير: قال لأمته عن أصحاب الحجر وهم ثمود: لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين، أي ثمود: وهذا واضح لإخفاء به.

(8/125)


باب حديث للمغيرة بن شعبة وحديث لأنس
...
81- باب 4421- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ عَنْ اللَّيْثِ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ عَنْ أَبِيهِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: "ذَهَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبَعْضِ حَاجَتِهِ فَقُمْتُ أَسْكُبُ عَلَيْهِ الْمَاءَ لاَ أَعْلَمُهُ إِلاَّ قَالَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَذَهَبَ يَغْسِلُ ذِرَاعَيْهِ فَضَاقَ عَلَيْهِ كُمُّ الْجُبَّةِ فَأَخْرَجَهُمَا مِنْ تَحْتِ جُبَّتِهِ فَغَسَلَهُمَا ثُمَّ مَسَحَ عَلَى خُفَّيْه" .
4422- حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ قَالَ حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ يَحْيَى عَنْ عَبَّاسِ بْنِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ قَالَ: "أَقْبَلْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ حَتَّى إِذَا أَشْرَفْنَا عَلَى الْمَدِينَةِ قَالَ: هَذِهِ طَابَةُ وَهَذَا أُحُدٌ جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّه".

(8/125)


82- باب كِتَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى كِسْرَى وَقَيْصَرَ
4424- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ بِكِتَابِهِ إِلَى كِسْرَى مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ السَّهْمِيِّ فَأَمَرَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى عَظِيمِ الْبَحْرَيْنِ فَدَفَعَهُ عَظِيمُ الْبَحْرَيْنِ إِلَى كِسْرَى فَلَمَّا قَرَأَهُ مَزَّقَهُ فَحَسِبْتُ أَنَّ ابْنَ الْمُسَيَّبِ قَالَ فَدَعَا عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُمَزَّقُوا كُلَّ مُمَزَّق" .
4425- حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ الْهَيْثَمِ حَدَّثَنَا عَوْفٌ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ: "لَقَدْ نَفَعَنِي اللَّهُ بِكَلِمَةٍ سَمِعْتُهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيَّامَ الْجَمَلِ بَعْدَ مَا كِدْتُ أَنْ أَلْحَقَ بِأَصْحَابِ الْجَمَلِ فَأُقَاتِلَ مَعَهُمْ قَالَ لَمَّا بَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ أَهْلَ فَارِسَ قَدْ مَلَّكُوا عَلَيْهِمْ بِنْتَ كِسْرَى قَالَ: "لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمْ امْرَأَة" .
4426- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ عَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ يَقُولُ "أَذْكُرُ أَنِّي خَرَجْتُ مَعَ الْغِلْمَانِ إِلَى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ نَتَلَقَّى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" وَقَالَ سُفْيَانُ مَرَّةً مَعَ الصِّبْيَانِ"
4427- حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا سفيان عن الزهري عن السائب "أذكر أني خرجت مع

(8/126)


الصبيان نتلقى النبي صلى الله عليه وسلم إلى ثنية الوداع مقدمه من غزوة تبوك" .
قوله: "باب كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وقيصر" أما كسرى فهو ابن برويز بن هرمز بن أنو شروان. وهو كسرى الكبير المشهور، وقيل إن الذي بعث إليه النبي صلى الله عليه وسلم هو أنو شروان، وفيه نظر لما سيأتي أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن زربان ابنه يقتله، والذي قتله ابنه هو كسرى بن برويز بن هرمز. وكسرى بفتح الكاف وبكسرها لقب كل من تملك الفرس، ومعناه بالعربية المظفري وقد تقدم الكلام في ضبط كافه في "علامات النبوة" ، وأما قيصر فهو هرقل، وقد تقدم شأنه في أول الكتاب. قوله: "حدثنا إسحاق" هو ابن راهويه، ويعقوب بن إبراهيم أي ابن سعد، وصالح هو ابن كيسان، وقد تقدم للمصنف في العلم عاليا عن إبراهيم بن سعد. قوله: "مع عبد الله بن حذافة" هذا هو المعتمد، ووقع في رواية عمر بن شبة أنه خنيس بن حذافة، وهو غلط فإنه مات بأحد فتأيمت منه حفصة وبعث الرسل كان بعد الهدنة سنة سبع، ووقع في ترجمة عبد الله بن عيسى أخي كامل بن عدي من طريقه عن داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس في قصة اتخاذ الخاتم وفيه: "وبعث كتابا إلى كسرى بن هرمز بعث به مع عمر بن الخطاب" كذا قال، وعبد الله ضعيف فإن ثبت فلعله كتب إلى ملك فارس مرتين وذلك في أوائل سنة سبع. قوله: "إلى عظيم البحرين" هو المنذر ساوى العبدي. قوله: "فدفعه" الفاء عاطفة على محذوف تقدير فتوجه إليه فأعطاه الكتاب فأعطاه لقاصده عنده فتوجه به فدفعه إلى كسرى، ويحتمل أن يكون المنذر توجه بنفسه فلا يحتاج إلى القاصد، ويحتمل أن يكون القاصد لم يباشر إعطاء كسرى بنفسه كما هو الأغلب من حال الملوك فيزداد التقدير. قوله: "فلما قرا" كذا للأكثر بحذف المفعول، وللكشميهني: "فلما قرأه" وفيه مجاز فإنه لم يقرأه بنفسه وإنما قرئ عليه كما سيأتي. قوله: "مزقه" أي قطعه. قوله: "فحسبت أن ابن المسيب" القائل هو الزهري وهو موصول بالإسناد المذكور، ووقع في جميع الطرق مرسلا، ويحتمل أن يكون ابن المسيب سمعه من عبد الله بن حذافة صاحب القصة، فإن ابن سعد ذكر من حديثه أنه قال: "فقرأ عليه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذه فمزقه" . قوله: "فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي على كسرى وجنوده. قوله: "أن يمزقوا كل ممزق" بفتح الزاي أي يتفرقوا ويتقطعوا وفي حديث عبد الله بن حذافة "فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اللهم مزق ملكه" وكتب إلى باذان عامله على اليمن: ابعث من عندك رجلين إلى هذا الرجل الذي بالحجاز، فكتب باذان إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أبلغا صاحبكما أن ربي قتل ربه في هذه الليلة" ، قال: وكان ذلك ليلة الثلاثاء لعشر مضين من جمادى الأولى سنة سبع، وإن الله سلط عليه ابنه شيرويه فقتله. وعن الزهري قال: بلغني أن كسرى كتب إلى باذان بلغني أن رجلا من قريش يزعم أنه نبي، فسر إليه فإن تاب وإلا أبعث برأسه، فذكر القصة قال: فلما بلغ باذان أسلم هو ومن معه من الفرس.
" تنبيه " جزم ابن سعد بأن بعث عبد الله بن حذافة إلى كسرى كان في سنة سبع في زمن الهدنة، وهو عند الواقدي من حديث الشفاء بنت عبد الله بلفظ: "منصرفه من الحديبية" وصنيع البخاري يقتضي أنه كان في سنة تسع، فإنه ذكره بعد غزوة تبوك، وذكر في آخر الباب حديث السائب أنه تلقى النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع من تبوك إشارة إلى ما ذكرت، وقد ذكر أهل المغازي أنه صلى الله عليه وسلم لما كان بتبوك كتب إلى قيصر وغيره، وهي غير المرة التي كتب إليه مع دحية، فإنها كانت في زمن الهدنة كما صرح به في الخبر وذلك سنة سبع. ووقع عند مسلم عن أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى كسرى وقيصر" الحديث وفيه: "وإلى كل جبار عنيد" وروى الطبراني من حديث المسور بن مخرمة قال: "خرج

(8/127)


رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه فقال: " إن الله بعثني للناس كافة. فأدوا عني ولا تختلفوا علي". فبعث عبد الله بن حذافة إلى كسرى، وسليط بن عمرو إلى هوذة بن علي باليمامة، والعلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوى بهجر، وعمرو بن العاص إلى جيفر وعباد ابني الجلندي بعمان، ودحية إلى قيصر، وشجاع بن وهب إلى ابن أبي شمر الغساني، وعمرو بن أمية إلى النجاشي، فرجعوا جميعا قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، غير عمرو بن العاص" وزاد أصحاب السير أنه بعث المهاجرين أبي أمية بن الحارث بن عبد كلال وحريرا إلى ذي الكلاع، والسائب إلى مسيلمة، وحاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس. وفي حديث أنس الذي أشرت إليه عند مسلم أن النجاشي الذي بعث إليه مع هؤلاء غير النجاشي الذي أسلم. قوله: "حدثنا عوف" هو الأعرابي و "الحسن" هو البصري والإسناد كله بصريون، وسماع الحسن من أبي بكرة تقدم بيانه في الصلح. قوله: "نفعني الله بكلمة سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام الجمل" فيه تقديم وتأخير، والتقدير: نفعني الله أيام الجمل بكلمه سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم أي قبل ذلك، فأيام يتعلق بـ "نفعني" لا بـ "سمعتها" فإنه سمعها قبل ذلك قطعا، والمراد بأصحاب الجمل العسكر الذين كانوا مع عائشة. قوله: "بعدما كدت ألحق بأصحاب الجمل" يعني عائشة رضي الله عنها ومن معها، وسيأتي بيان هذه القصة في كتاب الفتن إن شاء الله تعالى، ومحصلها أن عثمان لما قتل وبويع علي بالخلافة خرج طلحة والزبير إلى مكة موجدا عائشة وكانت قد حجت، فاجتمع رأيهم على التوجه إلى البصرة يستنفرون الناس للطلب بدم عثمان، فبلغ ذلك عليا فخرج إليهم، فكانت وقعة الجمل، ونسبت إلى الجمل الذي كانت عائشة قد ركبته وهي في هودجها تدعو الناس إلى الإصلاح، والقائل: "لما بلغ" هو أبو بكرة، وهو تفسير لقوله: "بكلمة" وفيه إطلاق الكلمة على الكلام الكثير. قوله: "ملكوا عليهم بنت كسرى" هي بوران بنت شيرويه بن كسرى بن برويز، وذلك أن شيرويه لما قتل أباه كما تقدم كان أبوه لما عرف أن ابنه قد عمل على قتله احتال على قتل ابنه بعد موته فعمل في بعض خزائنه المختصة به حقا مسموما وكتب عليه: حق الجماع، من تناول منه كذا جامع كذا. فقرأه شيرويه، فتناول منه فكان فيه هلاكه، فلم يعش بعد أبيه سوى ستة أشهر، فلما مات لم يخلف أخا لأنه كان قتل إخوته حرصا على الملك ولم يخلف ذكرا، وكرهوا خروج الملك عن ذلك البيت فملكوا المرأة واسمها بوران بضم الموحدة. ذكر ذلك ابن قتيبة في المغازي. وذكر الطبري أيضا أن أختا أرزميدخت ملكت أيضا. قال الخطابي: في الحديث أن المرأة لا تلي الإمارة ولا القضاء، وفيه أنها لا تزوج نفسها، ولا تلي العقد على غيرها، كذا قال، وهو متعقب والمنع من أن تلي الإمارة والقضاء قول الجمهور، وأجازه الطبري وهي رواية عن مالك، وعن أبي حنيفة تلي الحكم فيما تجوز قيه شهادة النساء. ومناسبة هذا الحديث للترجمة من جهة أنه تتمة قصة كسرى الذي مزق كتاب النبي صلى الله عليه وسلم، فسلط الله عليه ابنه فقتله ثم قتل إخوته حتى أفضى الأمر بهم إلى تأمير المرأة، فجر ذلك إلى ذهاب ملكهم ومزقوا كما دعا به النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: "وقال سفيان مرة مع الصبيان" هو موصول، ولكن بين الراوي عنه أنه قال مرة الغلمان ومرة الصبيان، وهو بالمعنى. ثم ساقه عن شيخ آخر عن سفيان وزاد في آخره: "مقدمه من تبوك" فأنكر الداودي هذا وتبعه ابن القيم وقال: ثنية الوداع من جهة مكة لا من جهة تبوك، بل هي مقابلها كالمشرق والمغرب. قال: إلا أن يكون هناك ثنية أخرى في تلك الجهة، والثنية ما ارتفع في الأرض، وقيل الطريق في الجبل. قلت: لا يمنع كونها من جهة الحجاز أن يكون خروج المسافر إلى الشام من جهتها، وهذا واضح كما في دخول مكة من ثنية والخروج منها من أخرى، وينتهي

(8/128)


كلاهما إلى طريق واحدة، وقد روينا بسند منقطع في "الحلبيات" قول النسوة لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة: "طلع البدر علينا من ثنيات الوداع" فقيل: كان ذلك عند قدومه في الهجرة وقيل عند قدومه من غزوة تبوك.
" تنبيه " : في إيراد هذا الحديث آخر هذا الباب إشارة إلى أن إرسال الكتب إلى الملوك كان في سنة غزوة تبوك، ولكن لا يدفع ذلك قول من قال إنه كاتب الملوك في سنة الهدنة كقيصر، والجمع بين القولين أنه كاتب قيصر مرتين، وهذه الثانية قد وقع التصريح بها في "مسند أحمد" وكاتب النجاشي الذي أسلم وصلى عليه لما مات، ثم كاتب النجاشي الذي ولي بعده وكان كافرا، وقد روى مسلم من حديث أنس قال: كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى كل جبار يدعوهم إلى الله" وسمي منهم كسرى وقيصر والنجاشي، قال: وليس بالنجاشي الذي أسلم.

(8/129)


83- باب مَرَضِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَفَاتِهِ
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ}
وَقَالَ يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ عُرْوَةُ قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ: " يَا عَائِشَةُ مَا أَزَالُ أَجِدُ أَلَمَ الطَّعَامِ الَّذِي أَكَلْتُ بِخَيْبَرَ فَهَذَا أَوَانُ وَجَدْتُ انْقِطَاعَ أَبْهَرِي مِنْ ذَلِكَ السُّمِّ"
قوله: "باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته وقول الله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} سيأتي في الكلام على الحديث السادس عشر من هذا الباب وجه مناسبة هذه الآية لهذا الباب، وقد ذكر في الباب أيضا ما يدل على جنس مرضه كما سيأتي. وأما ابتداؤه فكان في بيت ميمونة كما سيأتي. ووقع في "السيرة لأبي معشر" في بيت زينب بنت جحش وفي "السيرة لسليمان التيمي" في بيت ريحانة؛ والأول المعتمد. وذكر الخطابي أنه ابتدأ به يوم الاثنين وقيل يوم السبت. وقال الحاكم أبو أحمد: يوم الأربعاء. واختلف في مدة مرضه، فالأكثر على أنها ثلاثة عشر يوما، وقيل بزيادة يوم وقيل بنقصه. والقولان في "الروضة" وصدر بالثاني، وقيل عشرة أيام وبه جزم "سليمان التيمي في مغازيه" وأخرجه البيهقي بإسناد صحيح. وكانت وفاته يوم الاثنين بلا خلاف من ربيع الأول وكاد يكون إجماعا، لكن في حديث ابن مسعود عند البزار في حادي عشر رمضان، ثم عند ابن إسحاق والجمهور أنها في الثاني عشر منه، وعند موسى بن عقبة والليث والخوارزمي وابن زبر: مات لهلال ربيع الأول، وعند أبي مخنف والكلبي في ثانيه ورجحه السهيلي. وعلى القولين يتنزل ما نقله الرافعي أنه عاش بعد حجته ثمانين يوما،. وقيل أحدا وثمانين، وأما على ما جزم به في "الروضة" فيكون عاش بعد حجته تسعين يوما أو أحدا وتسعين، وقد استشكل ذلك السهيلي ومن تبعه أعني كونه مات يوم الاثنين ثاني عشر شهر ربيع الأول، وذلك أنهم اتفقوا على أن ذا الحجة كان أوله يوم الخميس، فمهما فرضت الشهور الثلاثة توأم أو نواقص أو بعضها لم يصح، وهو ظاهر لمن تأمله. وأجاب البارزي ثم ابن كثير باحتمال وقوع الأشهر الثلاثة كوامل، وكان أهل مكة والمدينة اختلفوا في رؤية هلال ذي الحجة فرآه أهل مكة ليلة الخميس ولم يره أهل المدينة إلا ليلة الجمعة، فحصلت الوقفة برؤية أهل مكة، ثم رجعوا إلى المدينة فأرخوا برؤية أهلها فكان أول ذي الحجه الجمعة وآخره السبت، وأول المحرم الأحد وآخره الاثنين، وأول صفر الثلاثاء وآخره الأربعاء، وأول ربيع الأول الخميس فيكون ثاني عشره الاثنين، وهذا الجواب بعيد من حيث أنه يلزم توالي أربعة أشهر كوامل، وقد جزم سليمان التيمي أحد الثقات بأن ابتداء مرض رسول الله كان يوم السبت الثاني والعشرين من صفر ومات يوم الاثنين لليلتين خلتا من ربيع الأول، فعلى هذا كان صفر ناقصا، ولا يمكن أن يكون أول صفر السبت إلا إن كان ذو الحجة والمحرم ناقصين فيلزم منه نقص ثلاثة أشهر

(8/129)


متوالية، وأما على قول من قال: مات أول يوم من ربيع الأول فيكون اثنان ناقصين وواحد كاملا، ولهذا رجحه السهيلي. وفي "المغازي لأبي معشر" عن محمد بن قبس قال: اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأربعاء لإحدى عشرة مضت من صفر، وهذا موافق لقول سليمان التيمي المقتضي لأن أول صفر كان السبت، وأما ما رواه ابن سعد من طريق عمر بن علي بن أبي طالب قال: "اشتكى رسول الله يوم الأربعاء لليلة بقيت من صفر فاشتكى ثلاث عشرة ليلة، ومات يوم الاثنين لاثنتي عشرة مضت من ربيع الأول" فيرد على هذا الإشكال المتقدم، وكيف يصح أن يكون أول صفر الأحد يكون تاسع عشرينه الأربعاء؟ والغرض أن ذا الحجة أوله الخميس، فلو فرض هو والمحرم كاملين لكان أول صفر الاثنين، فكيف يتأخر إلى يوم الأربعاء، فالمعتمد ما قال أبو مخنف، وكأن سبب غلط غيره أنهم قالوا مات في ثاني شهر ربيع الأول فتغيرت فصارت ثاني عشر، واستمر الوهم بذلك يتبع بعضهم بعضا من غير تأمل، والله أعلم. وقد أجاب القاضي بدر الدين بن جماعة بجواب آخر فقال. يحمل قول الجمهور لاثنتي عشرة ليلة خلت أي بأيامها فيكون موته في اليوم الثالث عشر، ويفرض الشهور كوامل فيصح قول الجمهور. ويعكر عليه ما يعكر على الذي قبله مع زيادة مخالفة اصطلاح أهل اللسان في قولهم لاثنتي عشرة فإنهم لا يفهمون منها إلا مضي الليالي، ويكون ما أرخ بذلك واقعا في اليوم الثاني عشر. ثم ذكر المصنف في الباب ثلاثة وعشرين حديثا:
4429- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ أُمِّ الْفَضْلِ بِنْتِ الْحَارِثِ قَالَتْ: "سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِالْمُرْسَلاَتِ عُرْفًا ثُمَّ مَا صَلَّى لَنَا بَعْدَهَا حَتَّى قَبَضَهُ اللَّه" .
الحديث الأول قوله: "عن أم الفضل" هي والدة ابن عباس، وقد تقدم شرح حديثها في القراءة في الصلاة.
4430- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَرْعَرَةَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُدْنِي ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ إِنَّ لَنَا أَبْنَاءً مِثْلَهُ فَقَالَ إِنَّهُ مِنْ حَيْثُ تَعْلَمُ فَسَأَلَ عُمَرُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ فَقَالَ أَجَلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَمَهُ إِيَّاهُ فَقَالَ مَا أَعْلَمُ مِنْهَا إِلاَّ مَا تَعْلَم" .
الحديث الثاني قوله: "عن ابن عباس قال: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يدني ابن عباس" هو من إقامة الظاهر مقام المضمر، وقد أخرجه الترمذي من طريق شعبة المذكورة بلفظ: "كان عمر يسألني مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم:"وتقدم شرح حديث الباب في غزوة الفتح من طريق آخر عن أبي بشر أتم سياقا وأكثر فوائد، وأطلنا بشرحه على تفسير سورة النصر، وتقدم في حجة الوداع حديث ابن عمر "نزلت سورة" إذا جاء نصر الله "في أيام التشريق في حجة الوداع" وعند الطبراني عن ابن عباس من وجه آخر أنها "لما نزلت أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد ما كان اجتهادا في أمر الآخرة" وللطبراني من حديث جابر "لما نزلت هذه السورة قال النبي صلى الله عليه وسلم

(8/130)


لجبريل: "نعيت إلي نفسي". فقال له جبريل: والآخرة خير لك من الأولى".
4428- وقال يونس عن الزهري قال عروة: قالت عائشة رضي الله عنها: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في مرضه الذي مات فيه، يا عائشة، ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهرى من ذلك السم" .
الحديث الثالث قوله: "وقال يونس" هو ابن يزيد الأيلي، وهذا قد وصله البزار والحاكم والإسماعيلي من طريق عنبسة بن خالد عن يونس بهذا الإسناد. وقال البزار: تفرد به عنبسة عن يونس، أي بوصله، وألا فقد رواه موسى بن عقبة في المغازي عن الزهري لكنه أرسله، وله شاهدان مرسلان أيضا أخرجهما إبراهيم الحربي في "غرائب الحديث:"له أحدهما من طريق يزيد بن رومان والآخر من رواية أبي جعفر الباقر، وللحاكم موصول من حديث أم مبشر قالت: "قلت: يا رسول الله ما تتهم بنفسك؟ فإني لا أتهم بابني إلا الطعام الذي أكل بخيبر؛ وكان ابنها بشر بن البراء بن معرور مات، فقال: وأنا لا أتهم غيرها. وهذا أوان انقطاع أبهري" وروى ابن سعد عن شيخه الواقدي بأسانيد متعددة في قصة الشاة التي سمت له بخيبر، فقال في آخر ذلك: "وعاش بعد ذلك ثلاث سنين حتى كان وجعه الذي قبض فيه. وجعل يقول: ما زلت أحد ألم الأكلة التي أكلتها بخيبر عدادا حتى كان هذا أوان انقطاع أبهري" عرق في الظهر وتوفي شهيدا انتهى وقوله: "عرق في الظهر" من كلام الراوي، وكذا قوله: "وتوفي شهيدا" وقوله: "ما أزال أجد ألم الطعام" أي أحس الألم في جوفي بسبب الطعام. وقال الداودي: المراد أنه نقص من لذة ذوقه وتعقبه ابن التين. وقوله: "أوان" بالفتح على الظرفية، قال أهل اللغة: الأبهر عرق مستبطن بالظهر متصل بالقلب إذا انقطع مات صاحبه. وقال الخطابي. يقال إن القلب متصل به. وقد تقدم شرح حال الشاة التي سمت بخيبر في غزوه خيبر مفصلا.
4439- حَدَّثَنِي حِبَّانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَخْبَرَتْهُ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا اشْتَكَى نَفَثَ عَلَى نَفْسِهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ وَمَسَحَ عَنْهُ بِيَدِهِ فَلَمَّا اشْتَكَى وَجَعَهُ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ طَفِقْتُ أَنْفِثُ عَلَى نَفْسِهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ الَّتِي كَانَ يَنْفِثُ وَأَمْسَحُ بِيَدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْه" .
[الحديث 4439- أطرافه في: 5016، 5735، 5751]
الحديث الرابع حديث عائشة، قوله: "اشتكى" أي مرض، و "نفث" أي تفل بغير ريق أو مع ريق خفيف. قوله: "بالمعوذات" أي يقرأها ماسحا لجسده عند قراءتها، ووقع في رواية مالك عن ابن شهاب في فضائل القرآن بلفظ: "فقرأ على نفسه المعوذات" وسيأتي في الطب قول معمر بعد هذا الحديث. قلت للزهري: كيف ينفث؟ قال: ينفث على يديه ثم يمسح بهما وجهه. وسيأتي في الدعوات من طريق عقيل عن الزهري أنه صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك إذا أخذ مضجعه. هذه رواية الليث عن عقيل. وفي رواية المفضل بن فضالة عن عقيل في فضائل القرآن "كان إذا أوى إلى فراشه جمع كفيه ثم نفث فيهما ثم يقرأ قل هو الله أحد وقل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس" والمراد بالمعوذات سورة قل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس، وجمع إما باعتبار أن أقل الجمع اثنان أو باعتبار أن المراد الكلمات التي يقع التعوذ بها من السورتين، ويحتمل أن المراد بالمعوذات هاتان السورتان مع سورة

(8/131)


الإخلاص وأطلق ذلك تغليبا. وهذا هو المعتمد. قوله: "ومسح عنه بيده" في رواية معمر" وأمسح بيد نفسه لبركتها "وفي رواية مالك" وأمسح بيده رجاء بركتها "ولمسلم من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة" فلما مرض مرضه الذي مات قيه جعلت أنفث عليه وأمسح بيد نفسه لأنها كانت أعظم بركة من يدي" وسيأتي في آخر هذا الباب من طريق ابن أبي مليكة عن عائشة "فذهبت أعوذه، فرفع رأسه إلى السماء وقال: في الرفيق الأعلى" وللطبراني من حديث أبي موسى "فأفاق وهي تمسح صدره وتدعو بالشفاء، فقال: لا، ولكن أسأل الله الرفيق الأعلى" وسأذكر الكلام على الرفيق الأعلى في الحديث السابع.
4431- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ سُلَيْمَانَ الأَحْوَلِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: "قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَوْمُ الْخَمِيسِ وَمَا يَوْمُ الْخَمِيسِ اشْتَدَّ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعُهُ فَقَالَ: ائْتُونِي أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ أَبَدًا فَتَنَازَعُوا وَلاَ يَنْبَغِي عِنْدَ نَبِيٍّ تَنَازُعٌ فَقَالُوا مَا شَأْنُهُ أَهَجَرَ اسْتَفْهِمُوهُ فَذَهَبُوا يَرُدُّونَ عَلَيْهِ فَقَالَ دَعُونِي فَالَّذِي أَنَا فِيهِ خَيْرٌ مِمَّا تَدْعُونِي إِلَيْهِ وَأَوْصَاهُمْ بِثَلاَثٍ قَالَ أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَأَجِيزُوا الْوَفْدَ بِنَحْوِ مَا كُنْتُ أُجِيزُهُمْ وَسَكَتَ عَنْ الثَّالِثَةِ أَوْ قَالَ فَنَسِيتُهَا" .
4432- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "لَمَّا حُضِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي الْبَيْتِ رِجَالٌ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هَلُمُّوا أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لاَ تَضِلُّوا بَعْدَهُ" فَقَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ غَلَبَهُ الْوَجَعُ وَعِنْدَكُمْ الْقُرْآنُ حَسْبُنَا كِتَابُ اللَّهِ فَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْبَيْتِ وَاخْتَصَمُوا فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ قَرِّبُوا يَكْتُبُ لَكُمْ كِتَابًا لاَ تَضِلُّوا بَعْدَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَمَّا أَكْثَرُوا اللَّغْوَ وَالِاخْتِلاَفَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قُومُوا" قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ فَكَانَ يَقُولُ ابْنُ عَبَّاسٍ إِنَّ الرَّزِيَّةَ كُلَّ الرَّزِيَّةِ مَا حَالَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ أَنْ يَكْتُبَ لَهُمْ ذَلِكَ الْكِتَابَ لاخْتِلاَفِهِمْ وَلَغَطِهِم"
الحديث الخامس قوله: "يوم الخميس" هو خبر لمبتدأ محذوف أو عكسه، وقوله: "وما يوم الخميس" يستعمل عند إرادة تفخيم الأمر في الشدة والتعجب منه، زاد في أواخر الجهاد من هذا الوجه "ثم بكى حتى خضب دمعه الحصى" ولمسلم من طريق طلحة بن مصرف عن سعيد بن جبير "ثم جعل تسيل دموعه حتى رأيتها على خديه كأنها نظام اللؤلؤ"وبكاء ابن عباس يحتمل لكونه تذكر وفاة رسول الله فتجدد له الحزن عليه، ويحتمل أن يكون انضاف إلى ذلك ما فات في معتقده من الخير الذي كان يحصل لو كتب ذلك الكتاب، ولهذا أطلق في الرواية الثانية أن ذلك رزية، ثم بالغ فيها فقال: كل الرزية. وقد تقدم في كتاب العلم الجواب عمن امتنع من ذلك كعمر رضي الله عنه. قوله: "اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه" زاد في الجهاد "يوم الخميس" وهذا يؤيد أن ابتداء مرضه، كان قبل ذلك، ووقع في الرواية الثانية "لما حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم:"بضم الحاء المهملة وكسر الضاد المعجمة أي حضره الموت، وفي إطلاق

(8/132)


ذلك تجوز، فإنه عاش بعد ذلك إلى يوم الاثنين. قوله: "كتابا" قيل هو تعيين الخليفة بعده، وسيأتي شيء من ذلك في كتاب الأحكام في "باب الاستخلاف" منه. قوله: "لن تضلوا" في رواية الكشميهني: "لا تضلون" وتقدم في العلم وكذا في الرواية الثانية وتقدم توجيهه. قوله: "ولا ينبغي عند نبي تنازع" هو من جملة الحديث المرفوع، ويحتمل أن يكون مدرجا من قول ابن عباس. والصواب الأول، وقد تقدم في العلم بلفظ: " لا ينبغي عندي التنازع" . قوله: "فقالوا ما شأنه؟ أهجر" بهمزة لجميع رواة البخاري، وفي الرواية التي في الجهاد بلفظ: "فقالوا هجر" بغير همزة، ووقع للكشميهني هناك "فقالوا هجر، هجر رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أعاد هجر مرتين. قال عياض: معني أهجر أفحش، يقال هجر الرجل إذا هذى، وأهجر إذا أفحش. وتعقب بأنه يستلزم أن يكون بسكون الهاء والروايات كلها إنما هي بفتحها، وقد تكلم عياض وغيره على هذا الموضع فأطالوا، ولخصه القرطبي تلخيصا حسنا ثم لخصته من كلامه، وحاصله أن قوله هجر الراجح فيه إثبات همزة الاستفهام وبفتحات على أنه فعل ماض، قال: ولبعضهم أهجرا بضم الهاء وسكون الجيم والتنوين على أنه مفعول بفعل مضمر أي قال هجرا، والهجر بالضم ثم السكون الهذيان والمراد به هنا ما يقع من كلام المريض الذي لا ينتظم ولا يعتد به لعدم فائدته. ووقوع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم مستحيل لأنه معصوم في صحته ومرضه لقوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} ولقوله صلى الله عليه وسلم: "إني لا أقول في الغضب والرضا إلا حقا" وإذا عرف ذلك فإنما قاله من قاله منكرا على من يوقف في امتثال أمره بإحضار الكتف والدواة فكأنه قال: كيف تتوقف أتظن أنه كغيره يقول الهذيان في مرضه؟ امتثل أمره وأحضره ما طلب فإنه لا يقول إلا الحق، قال: هذا أحسن الأجوبة، قال: ويحتمل أن بعضهم قال ذلك عن شك عرض له، ولكن يبعده أن لا ينكره الباقون عليه مع كونهم من كبار الصحابة، ولو أنكروه عليه لنقل، ويحتمل أن يكون الذي قال ذلك صدر عن دهش وحيرة كما أصاب كثيرا منهم عند موته. وقال غيره: ويحتمل أن يكون قائل ذلك أراد أنه اشتد وجعه فأطلق اللازم وأراد الملزوم، لأن الهذيان الذي يقع للمريض ينشأ عن شدة وجعه. وقيل: قال ذلك لإرادة سكوت الذين لغطوا ورفعوا أصواتهم عنده، فكأنه قال: إن ذلك يؤذيه ويفضي في العادة إلى ما ذكر، ويحتمل أن يكون قوله أهجر فعلا ماضيا من الهجر بفتح الهاء وسكون الجيم والمفعول محذوف أي الحياة، وذكره بلفظ الماضي مبالغة لما رأى من علامات الموت. قلت: ويظهر لي ترجيح ثالث الاحتمالات التي ذكرها القرطبي ويكون قائل ذلك بعض من قرب دخوله في الإسلام وكان يعهد أن من اشتد عليه الوجع قد يشتغل به عن تحرير ما يريد أن يقوله لجواز وقوع ذلك، ولهذا وقع في الرواية الثانية "فقال بعضهم إنه قد غلبه الوجع" ووقع عند الإسماعيلي من طريق محمد بن خلاد عن سفيان في هذا الحديث: "فقالوا ما شأنه يهجر، استفهموه" وعن ابن سعد من طريق أخرى عن سعيد بن جبير "أن نبي الله ليهجر" ، ويؤيده أنه بعد أن قال ذلك استفهموه1 بصيغة الأمر بالاستفهام أي اختبروا أمره بأن يستفهموه عن هذا الذي أراده وابحثوا معه في كونه الأولى أولا. وفي قوله في الرواية الثانية: "فاختصموا فمنهم من يقول قربوا يكتب لكم" ما يشهر بأن بعضهم كان مصمما على الامتثال والرد على من امتنع منهم، ولما وقع منهم الاختلاف ارتفعت البركة كما جرت العادة بذلك عند وقوع التنازع والتشاجر. وقد مضى في الصيام أنه صلى الله عليه وسلم خرج يخبرهم بليلة القدر فرأى رجلين يختصمان فرفعت، قال المازري: إنما جاز للصحابة الاختلاف في هذا الكتاب مع صريح أمره لهم بذلك لأن الأوامر قد
ـــــــ
(1) في هامش طبعة بولاق: لعل فيه سقطا، ويكون تمامه "أنه بعد أن قال ذلك، قال استفهموه" .

(8/133)


يقارنها ما ينقلها من الوجوب، فكأنه ظهرت منه قرينة دلت على أن الأمر ليس على التحتم بل على الاختيار فاختلف اجتهادهم، وصمم عمر على الامتناع لما قام عنده من القرائن بأنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك عن غير قصد جازم، وعزمه صلى الله عليه وسلم كان إما بالوحي وإما بالاجتهاد، وكذلك تركه إن كان بالوحي فبالوحي وإلا فبالاجتهاد أيضا، وفيه حجة لمن قال بالرجوع إلى الاجتهاد في الشرعيات. وقال النووي: اتفق قول العلماء على أن قول عمر "حسبنا كتاب الله" من قوة فقهه ودقيق نظره، لأنه خشي أن يكتب أمورا ربما عجزوا عنها فاستحقوا العقوبة لكونها منصوصة، وأراد أن لا ينسد باب الاجتهاد على العلماء. وفي تركه صلى الله عليه وسلم الإنكار على عمر إشارة إلى تصويبه رأيه، وأشار بقوله: "حسبنا كتاب الله" إلى قوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} . ويحتمل أن يكون قصد التخفيف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى ما هو فيه من شدة الكرب، وقامت عنده قرينة بأن الذي أراد كتابته ليس مما لا يستغنون عنه، إذ لو كان من هذا القبيل لم يتركه صلى الله عليه وسلم لأجل اختلافهم، ولا يعارض ذلك قول ابن عباس إن الرزية إلخ، لأن عمر كان أفقه منه قطعا. وقال الخطابي: لم يتوهم عمر الغلط فيما كان النبي صلى الله عليه وسلم يريد كتابته، بل امتناعه محمول على أنه لما رأى ما هو فيه من الكرب وحضور الموت خشي أن يجد المنافقون سبيلا إلى الطعن فيما يكتبه وإلى حمله على تلك الحالة التي جرت العادة فيها بوقوع بعض ما يخالف الاتفاق فكان ذلك سبب توقف عمر، لا أنه تعمد مخالفة قول النبي صلى الله عليه وسلم ولا جواز وقوع الغلط عليه حاشا وكلا. وقد تقدم شرح حديث ابن عباس في أواخر كتاب العلم، وقوله: "وقد ذهبوا يردون عنه" يحتمل أن يكون المراد يردون عليه أن يعيدون عليه مقالته ويستثبتونه فيها، ويحتمل أن يكون المراد يردون عنه القول المذكور على من قاله. قوله: "فقال دعوني: فالذي أنا فيه خير مما تدعونني إليه" قال ابن الجوزي وغيره: يحتمل أن يكون المعنى دعوني فالذي أعاينه من كرامة الله التي أعدها لي بعد فراق الدنيا خير مما أنا فيه في الحياة، أو أن الذي أنا فيه من المراقبة والتأهب للقاء الله والتفكر في ذلك ونحوه أفضل من الذي تسألونني فيه من المباحثة عن المصلحة في الكتابة أو عدمها. ويحتمل أن يكون المعنى فإن امتناعي من أن أكتب لكم خير مما تدعونني إليه من الكتابة. قلت: ويحتمل عكسه أي الذي أشرت عليكم به من الكتابة خير مما تدعونني إليه من عدمها بل هذا هو الظاهر، وعلى الذي قبله كان ذلك الأمر اختبارا وامتحانا فهدى الله عمر لمراده وخفي ذلك على غيره. وأما قول ابن بطال: عمر أفقه من ابن عباس حيث اكتفى بالقرآن ولم يكتف ابن عباس به، وتعقب بأن إطلاق ذلك مع ما تقدم ليس بجيد؛ فإن قول عمر: "حسبنا كتاب الله" لم يرد أنه يكتفي به عن بيان السنة، بل لما قام عنده من القرينة، وخشي من الذي يترتب على كتابة الكتاب مما تقدمت الإشارة إليه، فرأى أن الاعتماد على القرآن لا يترتب عليه شيء مما حشيه، وأما ابن عباس فلا يقال في حقه لم يكتف بالقرآن مع كونه حبر القرآن وأعلم الناس بتفسيره وتأويله، ولكنه أسف على ما فاته من البيان بالتنصيص عليه لكونه أولى من الاستنباط والله أعلم. وسيأتي في كفارة المرض في هذا الحديث زيادة لابن عباس وشرحها إن شاء الله تعالى. قوله: "وأوصاهم بثلاث" أي في تلك الحالة، وهذا يدل على أن الذي أراد أن يكتبه لم يكن أمرا متحتما لأنه لو كان مما أمر بتبليغه لم يكن يتركه لوقوع اختلافهم، ولعاقب الله من حال بينه وبين تبليغه، ولبلغه لهم لفظا كما أوصاهم بإخراج المشركين وغير ذلك، وقد عاش بعد هذه المقالة أياما وحفظوا عنه أشياء لفظا، فيحتمل أن يكون مجموعها ما أراد أن يكتبه والله أعلم. وجزيرة العرب تقدم بيانها في كتاب الجهاد. وقوله: "أجيزوا

(8/134)


الوفد" أي أعطوهم، والجائزة العطية، وقيل أصله أن ناسا وفدوا على بعض الملوك وهو قائم على قنطرة فقال: أجيزوهم فصاروا يعطون الرجل ويطلقونه فيجوز على القنطرة متوجها فسميت عطية من يقدم على الكبير جائزة، وتستعمل أيضا في إعطاء الشاعر على مدحه ونحو ذلك. وقوله بنحو: "ما كنت أجيزهم" أي بقريب منه، وكانت جائزة الواحد على عهده صلى الله عليه وسلم وقية من فضة وهي أربعون درهما. قوله: "وسكت عن الثالثة أو قال: فنسيتها" يحتمل أن يكون القائل ذلك هو سعيد بن جبير، ثم وجدت عند الإسماعيلي التصريح بأن قائل دلك هو ابن عيينة. وفي "مسند الحميدي" ومن طريقه أبو نعيم في "المستخرج" : قال سفيان: قال سليمان أي ابن أبي مسلم: لا أدري أذكر سعيد بن جبير الثالثة فنسيتها أو سكت عنها. وهذا هو الأرجح، قال الداودي: الثالثة الوصية بالقرآن، وبه جزم ابن التين وقال المهلب: بل هو تجهيز جيش أسامة، وقواه ابن بطال بأن الصحابة لما اختلفوا على أبي بكر في تنفيذ جيش أسامة قال لهم أبو بكر: أن النبي صلى الله عليه وسلم عهد بذلك عند موته. وقال عياض: يحتمل أن تكون هي قوله: "ولا تتخذوا قبري وثنا" فإنها ثبتت في الموطأ مقرونة بالأمر بإخراج اليهود، ويحتمل أن يكون ما وقع في حديث أنس أنها قوله: "الصلاة وما ملكت أيمانكم" . قوله: "فاختلف أهل البيت" أي من كان في البيت من الصحابة ولم يرد أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم. قوله فيها "فقال: قوموا" زاد ابن سعد من وجه آخر "فقال: قوموا عني" .
4433، 4434- حَدَّثَنَا يَسَرَةُ بْنُ صَفْوَانَ بْنِ جَمِيلٍ اللَّخْمِيُّ حدثنا إبراهيم بن سعد عن أبيه عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: "دعا النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة عليها السلام في شكواه الذي قبض فيه، فسارها بشيء فبكت، ثم دعاها فسارها بشيء فضحكت، فسألنا عن ذلك فقالت: سارني النبي صلى الله عليه وسلم أنه يقبض في وجعه الذي توفي فيه فبكيت، ثم سارني فأخبرني أني أول أهله يتبعه فضحكت" .
قوله "حدثنا يسرة" بفتح التحتانية والمهملة ووالد إبراهيم بن سعد هو إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف قوله "دعا النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة في شكواه الذي قبض فيه فسارها بشيء" وفي أول هذا الحديث من رواية مسروق عن عائشة كما مضت في علامات النبوة أقبلت فاطمة تمشي كأن مشيتها مشية النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم مرحبا ببنتي ثم أجلسها عن يمينه أو عن شماله ثم سارها ولأبي داود والترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم من طريق عائشة بنت طلحة عن عاشه قالت ما رأيت أحدا أشبه سمتا وهديا ودلا برسول الله صلى الله عليه وسلم بقيامها وقعودها من فاطمة وكانت إذا دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم قام إليها وقبلها وأجلسها في مجلسه وكان إذا دخل عليها فعلت ذلك فلما مرض دخلت عليه فأكبت عليه تقبله واتفقت الروايتان على أن الذي سارهابه أولا فبكت هو إعلامه إياها بأنه ميت من مرضه ذلك واختلفا قيما سارها به ثانيا فضحكت ففي رواية عروة أنه إخبار إياها بأنها أول أهله لحوقا به وفي رواية مسروق أنه إخباره إياها بأنها سيدة نساء أهل الجنة وجعل كونها أول أهله لحوقا به مضموما إلى الأول وهو الراجح فإن حديث مسروق يشتمل على زيادات ليست في حديث عروة وهو من الثقات الضابطين فما زاده مسروق قول عائشة فقلت ما رأيت كاليوم فرحا أقرب من حزن فسألتها عن ذلك فقالت ما كنت لأفشى سر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى توفى النبي صلى الله عليه وسلم فسألتها فقالت أسر إلى أن جبريل كان يعارضني

(8/135)


القرآن كل سنة مرة وأنه عارضني العام مرتين إلا حضر أجلى وأنك أول أهل بيتي لحوقا بي وقولها كأن مشيتها هو بكسر الميم لأن المراد الهيئة وقولها ما رأيت كاليوم فرحا تقدم توجيهه في الكسوف وأن التقدير ما رأيت كفرح اليوم فرحا أو ما رأيت فرحا كفرح رأيته اليوم وقولها حتى توفي متعلق بمحذوف تقديره فلم تقل لي شيئا حتى توفي وقد طوى عروة هذا كله فقال في روايته بعد قوله فضحكت فسألناها عن ذلك فقالت سارني أنه يقبض في وجعه الذي توفي فيه الحديث وفي رواية عائشة بنت طلحة من الزيادة أن عائشة لما رأت بكاءها وضحكها قالت إن كنت لأظن أن هذه المرأة أعقل النساء فإذا هي من النساء ويحتمل تعدد القصة ويؤيده الجزم في رواية عروة بأنه ميت من وجعه ذلك بخلاف رواية مسروق ففيها أنه ظن ذلك بطريق الاستنباط مما ذكره من معارضة القرآن وقد يقال لا منافاة بين الخبرين إلا بالزيادة ولا يمتنع أن يكون إخباره بأنها أول أهله لحوقا به سببا لبكائها أو ضحكها معا باعتبارين فذكر كل من الراويين ما لم يذكره الآخر وقد روىالنسائي من طريق أبي سلمة عن عائشة في سبب البكاء أنه ميت وفي سبب الضحك الأمرين الآخرين ولابن سعد من رواية أبي سلمة عنها أن سبب البكاء موته وسبب الضحك أنها سيدة النساء وفي رواية عائشة بنت طلحة عنها أن سبب البكاء موته وسبب الضحك لحاقها به وعند الطبري من وجه آخر عن عائشة أنه قال لفاطمة إن جبريل أخبرني أنه ليس امرأة من نساء المسلمين أعظم ذرية منك فلا تكوني أدنى امرأة منهن صبرا وفي الحديث إخباره صلى الله عليه وسلم بما سيقع فوقع كما قال فأنهم اتفقوا على أن فاطمة عليها السلام كانت أول من مات من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم بعده حتى من أزواجه
4435- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سَعْدٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: "كُنْتُ أَسْمَعُ أَنَّهُ لاَ يَمُوتُ نَبِيٌّ حَتَّى يُخَيَّرَ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَسَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ وَأَخَذَتْهُ بُحَّةٌ يَقُولُ: {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} الآيَةَ فَظَنَنْتُ أَنَّهُ خُيِّر"
[الحديث 4435- أطرافه في: 4436، 4437، 4586، 6348، 6509]
4436- حدثنا مسلم حدثنا شعبة عن سعد عن عروة عن عائشة قالت: "لما مرض النبي صلى الله عليه وسلم المرض الذي مات فيه جعل يقول: "في الرفيق الأعلى"
4437- حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري أخبرني عروة بن الزبير أن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صحيح يقول: " إنه لم يقبض نبي قط حتى يرى مقعده من الجنة ثم يحيا أو يخير" فلما اشتكى وحضره القبض ورأسه على فخذ عائشة غشي عليه فلما أفاق شخص بصره نحو سقف البيت ثم قال: "اللهم في الرفيق الأعلى" فقلت إذا لا يجاورنا فعرفت أنه حديثه الذي كان يحدثنا وهو صحيح"
الحديث السابع حديث عائشة ذكره من طريق شعبة عن سعد وهو ابن إبراهيم المذكور قبله، أورده عاليا مختصرا ونازلا تاما ثم أورده أتم منه من طريق الزهري عن عروة، فأما الرواية النازلة فإنه ساقها من طريق غندر

(8/136)


عن شعبة، وأما الرواية العالية فأخرجها عن مسلم وهو ابن إبراهيم ولفظه مغاير للرواية الأخرى: "قالت عائشة: لما مرض النبي صلى الله عليه وسلم المرض الذي مات فيه جعل يقول: الرفيق الأعلى" وهذا القدر ليس في رواية غندر منه شيء، وقد وقع لي من طريق أحمد بن حرب عن مسلم بن إبراهيم شيخ البخاري فيه بزيادة بعد قوله: "الذي قبض فيه:" "أصابته بحة فجعلت أسمعه يقول: في الرفيق الأعلى، مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين الآية، قالت: فعلمت أنه يخير" فكأن البخاري اقتصر من رواية مسلم بن إبراهيم على موضع الزيادة وهي قوله: "في الرفيق الأعلى" فإنها ليست من رواية غندر، وقد اقتصر الإسماعيلي على تخريج رواية غندر دون رواية مسلم بن إبراهيم، وأخرجه من طريق معاذ بن معاذ عن شعبة ولفظه: "مثل غندر قولها" . قوله: "كنت أسمع أنه لا يموت نبي حتى يخير" بضم أوله وفتح الخاء المعجمة، ولم تصرح عائشة بذكر من سمعت ذلك منه في هذه الرواية، وصرحت بذلك في الرواية التي تليها من طريق الزهري عن عروة عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صحيح يقول: إنه لم يقبض نبي قط حتى يرى مقعده من الجنة ثم يحيى أو يخير" وهو شك من الراوي هل قال يحيى بضم أوله وفتح المهملة وتشديد التحتانية بعدها أخرى أو يخير كما في رواية سعد بن إبراهيم. وعند أحمد من طريق المطلب بن عبد الله عن عائشة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: ما من نبي يقبض إلا يرى الثواب ثم يخير" ، ولأحمد أيضا من حديث أبي مويهبة قال: "قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني أوتيت مفاتيح خزائن الأرض والخلد ثم الجنة، فخيرت بين ذلك وبين لقاء ربي والجنة فاخترت لقاء ربي والجنة" وعند عبد الرزاق من مرسل طاوس رفعه: "خيرت بين أن أبقى حتى أرى ما يفتح على أمتي وبين التعجيل فاخترت التعجيل" . "تنبيه" : فهم عائشة من قوله صلى الله عليه وسلم: "في الرفيق الأعلى" أنه خير نظير فهم أبيها رضي الله عنها من قوله صلى الله عليه وسلم: " إن عبدا خيره الله بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عنده" أن العبد المراد هو النبي صلى الله عليه وسلم حتى بكى كما تقدم في مناقبه. قوله: "وأخذته بحة" بضم الموحدة وتشديد المهملة: شيء يعرض في الحلق فيتغير له الصوت فغلط، تقول: بححت بالكسر بحا، ورجل أبح: إذا كان ذلك فيه خلقة. قوله: {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} في رواية المطلب عن عائشة عند أحمد "فقال: مع الرفيق الأعلى، { مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ} - إلى قوله: {رَفِيقاً} وفي رواية أبي بردة عن أبي موسى عن أبيه عند النسائي وصححه ابن حبان:"فقال: أسأل الله الرفيق الأعلى الأسعد، مع جبريل وميكائيل وإسرافيل "وظاهره أن الرفيق المكان الذي تحصل المرافقة فيه مع المذكورين. وفي رواية الزهري" في الرفيق الأعلى "وفي رواية عباد عن عائشة بعد هذا قال: "اللهم اغفر لي وارحمني وألحقني بالرفيق" وفي رواية ذكوان عن عائشة "فجعل يقول: في الرفيق الأعلى حتى قبض" . وفي رواية ابن أبي مليكة عن عائشة "وقال: في الرفيق الأعلى، في الرفيق الأعلى" وهذه الأحاديث ترد على من زعم أن "الرفيق" تغيير من الراوي وأن الصواب الرقيع بالقاف والعين المهملة وهو من أسماء السماء. وقال الجوهري: الرفيق الأعلى الجنة. ويؤيده ما وقع عند أبي إسحاق: الرفيق الأعلى الجنة، وقيل بل الرفيق هنا اسم جنس يشمل الواحد وما فوقه والمراد الأنبياء ومن ذكر في الآية. وقد ختمت بقوله: {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} ونكتة الإتيان بهذه الكلمة بالإفراد الإشارة إلى أن أهل الجنة يدخلونها على قلب رجل واحد، نبه عليه السهيلي. وزعم بعض المغاربة أنه يحتمل أن يراد بالرفيق الأعلى الله عز وجل لأنه من أسمائه كما أخرج أبو داود من حديث عبد الله بن مغفل رفعه: "إن الله رفيق يحب الرفق" كذا اقتصر عليه، والحديث عند مسلم عن عائشة فعزوه إليه أولى. قال:

(8/137)


والرفيق يحتمل أن يكون صفة ذات كالحكيم، أو صفة فعل. قال: ويحتمل أن يراد به حضرة القدس، ويحتمل أن يراد به الجماعة المذكورون في آية النساء. ومعنى كونهم رفيقا تعاونهم على طاعة الله وارتفاق بعضهم ببعض، وهذا الثالث هو المعتمد. وعليه اقتصر أكثر الشراح. وقد غلط الأزهري القول الأول، ولا وجه لتغليطه من الجهة التي غلطه بها وهو قوله: مع الرفيق أو في الرفيق، لأن تأويله على ما يليق بالله سائغ. قال السهيلي: الحكمة في اختتام كلام المصطفى بهذه الكلمة كونها تتضمن التوحيد والذكر بالقلب حتى يستفاد منه الرخصة لغيره أنه لا يشترط أن يكوم الذكر باللسان لأن بعض الناس قد يمنعه من النطق مانع فلا يضره إذا كان قلبه عامرا بالذكر. انتهى ملخصا. قوله: "فظننت أنه خير" في رواية الزهري: "فقلت إذا لا يختارنا، فعرفت أنه حديثه الذي كان يحدثنا وهو صحيح" وعند أبي الأسود في المغازي عن عروة "أن جبريل نزل إليه في تلك الحالة فخيره" . "تنبيه" : قال السهيلي: وجدت في بعض كتب الواقدي أن أول كلمة تكلم بها صلى الله عليه وسلم وهو مسترضع عند حليمة "الله أكبر" وآخر كلمة تكلم بها كما في حديث عائشة "في الرفيق الأعلى" وروى الحاكم من حديث أنس "أن آخر ما تكلم به: جلال ربي الرفيع" .
4438- حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ حَدَّثَنَا عَفَّانُ عَنْ صَخْرِ بْنِ جُوَيْرِيَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ "دَخَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا مُسْنِدَتُهُ إِلَى صَدْرِي وَمَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ سِوَاكٌ رَطْبٌ يَسْتَنُّ بِهِ فَأَبَدَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَصَرَهُ فَأَخَذْتُ السِّوَاكَ فَقَصَمْتُهُ وَنَفَضْتُهُ وَطَيَّبْتُهُ ثُمَّ دَفَعْتُهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَنَّ بِهِ فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَنَّ اسْتِنَانًا قَطُّ أَحْسَنَ مِنْهُ فَمَا عَدَا أَنْ فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَفَعَ يَدَهُ أَوْ إِصْبَعَهُ ثُمَّ قَالَ: " فِي الرَّفِيقِ الأَعْلَى ثَلاَثًا" ثُمَّ قَضَى وَكَانَتْ تَقُولُ مَاتَ بَيْنَ حَاقِنَتِي وَذَاقِنَتِي"
4440- حدثنا معلى بن أسد، حدثنا عبد العزيز بن مختار، حدثنا هشام بن عروة عن عباد بن عبد الله بن الزبير أن عائشة أخبرته أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم وأصغت إليه قبل أن يموت وهو مسند إلي ظهره يقول: "اللهم اغفر لي وارحمني وألحقني بالرفيق الأعلى"
[الحديث 4440- طرفه في: 5674]
قوله: "حدثني محمد" جزم الحاكم بأنه محمد بن يحيي الذهلي، وسقط عند ابن السكن فصار من رواية البخاري عن عفان بلا واسطة، وعفان من شيوخ البخاري قد أخرج عنه بلا واسطة قليلا من ذلك في كتاب الجنائز. قوله: "ومع عبد الرحمن سواك رطب" في رواية ابن أبي مليكة عن عائشة "ومر عبد الرحمن وفي يده جريدة رطبة، فنظر إليه، فظننت أن له بها حاجة، فأخذتها فمضغت رأسها ونفضتها فدفعتها إليه" . قوله: "يستن به" أي يستاك، قال الخطابي: أصله من السن أي بالفتح، ومنه المسن الذي يسن عليه الحديد. قوله: "فأبده" بتشديد الدال أي مد نظره إليه، يقال أبددت فلانا النظر إذا طولته إليه. وفي رواية الكشميهني: "فأمده" بالميم. قوله: "فقضمته" بفتح القاف وكسر الضاد المعجمة أي مضغته، والقضم الأخذ بطرف الأسنان، يقال: قضمت الدابة بكسر الضاد شعيرها تقضم بالفتح إذا مضغته وحكى عياض أن الأكثر رووه بالصاد المهملة أي كسرته أو قطعته، وحكى ابن التين رواية بالفاء والمهملة، قال المحب الطبري: إن كان بالضاد المعجمة فيكون قولها: "فطيبته" تكرارا

(8/138)


وإن كان بالمهملة فلا لأنه يصير المعني كسرته لطوله، أو لإزالة المكان الذي تسوك به عبد الرحمن. قوله: "ثم لينته ثم طيبته" أي بالماء ويحتمل أن يكون طيبته تأكيدا للينته، وسيأتي من رواية ذكوان عن عائشة "فقلت آخذه لك؟ فأومأ برأسه أن نعم، فتناولته فأدخلته في فيه فاشتد، فتناولته فقلت: ألينه لك؟ فأومأ برأسه أن نعم" ويؤخذ منه العمل بالإشارة عند الحاجة إليها، وقوة فطنة عائشة. قوله: "ونفضته" بالفاء والضاد المعجمة، وقوله: "فيما عدا أن فرغ" أي من السواك. قوله: "وكانت تقول: مات ورأسه بين حاقنتي وذاقنتي" وفي رواية ذكوان عن عائشة "توفي في بيتي، وفي يومي، وبين سحري ونحري، وإن الله جمع ريقي وريقه عند موته في آخر يوم من الدنيا" والحاقنة بالمهملة والقاف: ما سفل من الذقن، والذاقنة ما علا منه. أو الحاقنة: نقرة الترقوة، هما حاقنتان. ويقال: إن الحاقنة المطمئن من الترقوة والحلق. وقيل ما دون الترقوة من الصدر، وقيل: هي تحت السرة. وقال ثابت: الذاقنة طرف الحلقوم: والسحر بفتح المهملة وسكون الحاء المهملة هو الصدر، وهو في الأصل الرئة. والنحر بفتح النون وسكون المهملة والمراد به موضع النحر. وأغرب الداودي فقال: هو ما بين الثديين. والحاصل أن ما بين الحاقنة والذاقنة هو ما بين السحر والنحر، والمراد أنه مات ورأسه بين حنكها وصدرها صلى الله عليه وسلم ورضي عنها. وهذا لا يغاير حديثها الذي قبل هذا أن رأسه كان على فخذها، لأنه محمول على أنها رفعته من فخذها إلى صدرها. وهذا الحديث يعارض ما أخرجه الحاكم وابن سعد من طرق "أن النبي صلى الله عليه وسلم مات ورأسه في حجر علي" وكل طريق منها لا يخلو من شيعي، فلا يلتفت إليهم. وقد رأيت بيان حال الأحاديث التي أشرت إليها دفعا لتوهم التعصب. قال ابن سعد: "ذكر من قال: توفي في حجر علي" وساق من حديث جابر: سأل كعب الأحبار عليا ما كان آخر ما تكلم به صلى الله عليه وسلم؟ فقال: أسندته إلى صدري، فوضع رأسه على منكبي فقال: "الصلاة الصلاة" . فقال كعب: كذلك آخر عهد الأنبياء. وفي سنده الواقدي وحرم بن عثمان وهما متروكان. وعن الواقدي عن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه: "ادعوا إلى أخي" ، فدعي له علي فقال: ادن مني، قال: فلم يزل مستندا إلي وأنه ليكلمني حتى نزل به. وثقل في حجري فصحت: يا عباس أدركني إني هالك، فجاء العباس، فكان جهدهما جميعا أن أضجعاه. فيه انقطاع مع الواقدي، وعبد الله فيه لين. وبه عن أبيه عن علي بن الحسين: قبض ورأسه في حجر على فيه انقطاع. وعن الواقدي عن أبي الحويرث عن أبيه عن الشعبي: مات ورأسه في حجر علي. فيه الواقدي والانقطاع، وأبو الحويرث اسمه عبد الرحمن بن معاوية بن الحارث المدني قال مالك: ليس بثقة، وأبوه لا يعرف حاله. وعن الواقدي عن سليمان بن داود بن الحصين عن أبيه عن أبي غطفان: سألت ابن عباس قال: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو إلى صدر علي، قال. فقلت: فإن عروة حدثني عن عائشة قالت: توفي النبي صلى الله عليه وسلم بين سحري ونحري، فقال ابن عباس: لقد توفي وإنه لمستند إلى صدر علي، وهو الذي غسله وأخي الفضل، وأبى أبي أن يحضر. فيه الواقدي، وسليمان لا يعرف حاله، وأبو غطفان بفتح المعجمة ثم المهملة اسمه سعد وهو مشهور بكنيته، وثقه النسائي. وأخرج الحاكم في "الإكليل" من طريق حبة العدني عن علي: أسندته إلى صدري فسألت نفسه وحبة ضعيف. ومن حديث أم سلمة قالت: علي آخرهم عهدا برسول الله صلى الله عليه وسلم والحديث عن عائشة أثبت من هذا، ولعلها أرادت آخر الرجال به عهدا. ويمكن الجمع بأن يكون علي آخرهم عهدا به وأنه لم يفارقه حتى مال فلما مال ظن أنه مات ثم أفاق بعد أن توجه فأسندته عائشة بعده إلى صدرها فقبض. ووقع عند أحمد من طريق يزيد بن بابنوس

(8/139)


بموحدتين بينهما ألف غير مهموز وبعد الثانية المفتوحة نون مضمومة ثم واو ساكنة ثم سين مهملة في أثناء حديث: "فبينما رأسه ذات يوم على منكبي إذ مال رأسه نحو رأسي فظننت أنه يريد من رأسي حاجة فخرجت من فيه نقطة باردة فوقعت على ثغرة نحري فاقشعر لها جلدي، وظننت أنه غشي عليه فسجيته ثوبا" .
4441- حَدَّثَنَا الصَّلْتُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ هِلاَلٍ الْوَزَّانِ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "قال النبي صلى الله عليه وسلم فِي مَرَضِهِ الَّذِي لَمْ يَقُمْ مِنْهُ: " لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ قَالَتْ عَائِشَةُ لَوْلاَ ذَلِكَ لاَبْرِزَ قَبْرُهُ خَشِيَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا"
4443، 4444- و أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ عَائِشَةَ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالاَ: "لَمَّا نَزَلَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَفِقَ يَطْرَحُ خَمِيصَةً لَهُ عَلَى وَجْهِهِ فَإِذَا اغْتَمَّ كَشَفَهَا عَنْ وَجْهِهِ وَهُوَ كَذَلِكَ يَقُولُ: "لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا" .
الحديث التاسع في النهي عن اتخاذ القبور مساجد، تقدم شرحه في المساجد من كتاب الصلاة وفي كتاب الجنائز.
4445- أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: "لَقَدْ رَاجَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ وَمَا حَمَلَنِي عَلَى كَثْرَةِ مُرَاجَعَتِهِ إِلاَّ أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ فِي قَلْبِي أَنْ يُحِبَّ النَّاسُ بَعْدَهُ رَجُلًا قَامَ مَقَامَهُ أَبَدًا وَلاَ كُنْتُ أُرَى أَنَّهُ لَنْ يَقُومَ أَحَدٌ مَقَامَهُ إِلاَّ تَشَاءَمَ النَّاسُ بِهِ فَأَرَدْتُ أَنْ يَعْدِلَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ وَأَبُو مُوسَى وَابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم"
4446- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ الْهَادِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: "مَاتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّهُ لَبَيْنَ حَاقِنَتِي وَذَاقِنَتِي فَلاَ أَكْرَهُ شِدَّةَ الْمَوْتِ لِأَحَدٍ أَبَدًا بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم"
قولها: "فلا أكره شدة الموت لأحد أبدا بعد النبي صلى الله عليه وسلم" سيأتي بيان الشدة المذكورة في الحديث الآتي أواخر الباب من رواية ذكوان عن عائشة ولفظه: "بين يديه ركوة أو علبة بها ماء فجعل يدخل يديه في الماء فيمسح بها وجهه يقول: لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات" وعند أحمد والترمذي وغيرهما من طريق القاسم عن عائشة قالت: "رأيته وعنده قدح فيه ماء وهو يموت، فيدخل يده في القدح ثم يمسح وجهه بالماء ثم يقول: اللهم أعني على سكرات الموت" وفي رواية شقيق عن مسروق عن عائشة قالت: "ما رأيت الوجع على أحد أشد منه على النبي صلى الله عليه وسلم:"وسيأتي في الطب. وبين في حديث ابن مسعود في الطب أن له بسبب ذلك أجرين. ولأبي يعلى من حديث أبي سعيد: " إنا معاشر الأنبياء يضاعف لنا البلاء كما يضاعف لنا الأجر" .

(8/140)


4442- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ قَالَ حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: "لَمَّا ثَقُلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاشْتَدَّ بِهِ وَجَعُهُ اسْتَأْذَنَ أَزْوَاجَهُ أَنْ يُمَرَّضَ فِي بَيْتِي فَأَذِنَّ لَهُ فَخَرَجَ وَهُوَ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ تَخُطُّ رِجْلاَهُ فِي الأَرْضِ بَيْنَ عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَبَيْنَ رَجُلٍ آخَرَ قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ فَأَخْبَرْتُ عَبْدَ اللَّهِ بِالَّذِي قَالَتْ عَائِشَةُ فَقَالَ لِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ هَلْ تَدْرِي مَنْ الرَّجُلُ الآخَرُ الَّذِي لَمْ تُسَمِّ عَائِشَةُ قَالَ قُلْتُ لاَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ هُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَكَانَتْ عَائِشَةُ زَوْجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا دَخَلَ بَيْتِي وَاشْتَدَّ بِهِ وَجَعُهُ قَالَ: "هَرِيقُوا عَلَيَّ مِنْ سَبْعِ قِرَبٍ لَمْ تُحْلَلْ أَوْكِيَتُ هُنَّ لَعَلِّي أَعْهَدُ إِلَى النَّاسِ" فَأَجْلَسْنَاهُ فِي مِخْضَبٍ لِحَفْصَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ طَفِقْنَا نَصُبُّ عَلَيْهِ مِنْ تِلْكَ الْقِرَبِ حَتَّى طَفِقَ يُشِيرُ إِلَيْنَا بِيَدِهِ أَنْ قَدْ فَعَلْتُنَّ قَالَتْ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى النَّاسِ فَصَلَّى بِهِمْ وَخَطَبَهُم"
الحديث الحادي عشر قوله: "لما ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي في وجعه. وفي رواية معمر عن الزهري أن ذلك كان في بيت ميمونة. قوله: "استأذن أزواجه أن يمرض" بضم أوله وفتح الميم وتشديد الراء، وذكر ابن سعد بإسناد صحيح عن الزهري أن فاطمة هي التي خاطبت أمهات المؤمنين بذلك فقالت لهن: أنه يشق عليه الاختلاف. وفي رواية ابن أبي مليكة عن عائشة أن دخوله بيتها كان يوم الاثنين، ومات يوم الاثنين الذي يليه. وقد مضى شرح هذا الحديث في أبواب الإمامة وفي كتاب الطهارة. وذكرت في أبواب الإمامة طرفا من الاختلاف في اسم الذي كان يتكئ عليه النبي صلى الله عليه وسلم مع العباس. وقد وقع في رواية لمسلم عن عائشة "فخرج بين الفضل بن العباس ورجل آخر" وفي أخرى "رجلين أحدهما أسامة" وعند الدار قطني "أسامة والفضل" وعند ابن حبان في آخره: "بريرة ونوبة" بضم النون وسكون الواو ثم موحدة ضبطه ابن ماكولا وأشار إلى هذه الرواية، واختلف هل هو اسم عبد أو أمة، فجزم سيف في الفتوح بأنه عند، وعند ابن سعد من وجه آخر "الفضل وثوبان" وجمعوا بين هذه الروايات على تقدير ثبوتها بأن خروجه تعدد فيتعدد من اتكأ عليه، وهو أولى من قول من قال: تناوبوا في صلاة واحدة. قوله: "في بيتي" وفي رواية يزيد بن بابنوس عن عائشة عند أحمد "أنه صلى الله عليه وسلم قال لنسائه: " إني لا أستطيع أن أدور بيوتكن، فإذا شئتن أذنتن لي" ، وسيأتي بعد قليل من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنه "كان يقول: أين أنا غدا؟ يريد يوم عائشة" وكان أول ما بدأ مرضه في بيت ميمونة. قوله: "من سبع قرب" قيل الحكمة في هذا العدد أن له خاصية في دفع ضرر السم والسحر، وقد ذكر في أوائل الباب: "هذا أوان انقطاع أبهري من ذلك السم" وتمسك به بعض من أنكر نجاسة سؤر الكلب وزعم أن الأمر بالغسل منه سبعا إنما هو لدفع التسمية التي في ريقه، وقد ثبت حديث: "من تصبح بسبع تمرات من عجوة لم يضره ذلك اليوم سم ولا سحر" وللنسائي في قراءة الفاتحة على المصاب سبع مرات وسنده صحيح، وفي صحيح مسلم القول لمن به وجع "أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر سبع مرات" وفي النسائي: "من قال عند مريض لم يحضر أجله: أسأل الله العظيم، رب العرش العظيم، أن يشفيك سبع مرات" وفي مرسل أبي جعفر عند ابن أبي

(8/141)


شيبة: "أنه صلى الله عليه وسلم قال: أين أكون غدا؟ كررها، فعرفت أزواجه أنه إنما يريد عائشة، فقلن: يا رسول الله قد وهبنا أيامنا لأختنا عائشة" وفي رواية هشام بن عروة عن أبيه عند الإسماعيلي: "كان يقول: أين أنا؟ حرصا على بيت عائشة، فلما كان يومي سكن، وأذن له نساؤه أن يمرض في بيتي" وقوله: "وكانت عائشة تحدث" هو موصول بالإسناد المذكور، وكذا قوله: أخبرنا عبيد الله بن عبد الله بن عتبة: هو مقول الزهري وهو موصول: وقد مضى القول فيه قريبا. قوله: "ثم خرج إلى الناس فصلى بهم وخطبهم" تقدم في فضل أبي بكر من حديث ابن عباس "أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب في مرضه - فذكر الحديث وقال فيه " لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر" ، الحديث وفيه: أنه آخر مجلس جلسه" ولمسلم من حديث جندب أن ذلك قبل موته بخمس، فعلى هذا يكون يوم الخميس، ولعله كان بعد أن وقع عنده اختلافهم ولغطهم كما تقدم قريبا وقال لهم: قوموا، فلعله وحد بعد ذلك خفة فخرج. وقوله: وأخبرني عبيد الله أن عائشة قالت إلخ. هو مقول الزهري أيضا وموصول أيضا، وإنما فصل ذلك ليبين ما هو عند شيخه عن ابن عباس وعائشة معا وعن عائشة فقط. حديث النهي عن اتخاذ القبور مساجد، تقدم شرحه في المساجد من كتاب الصلاة وفي كتاب الجنائز. قوله: "رواه ابن عمر وأبو موسى وابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم" كأنه يشير إلى ما يتعلق بصلاة أبي بكر، لا إلى جميع الحديث. فأما حديث ابن عمر فوصله المؤلف في أبواب الإمامة، وكذا حديث أبي موسى وصله أيضا في أحاديث الأنبياء في ترجمة يوسف الصديق، وأما حديث ابن عباس فوصله المؤلف في الإمامة أيضا من حديث عائشة.
4447- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا بِشْرُ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ الأَنْصَارِيُّ وَكَانَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ أَحَدَ الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ تِيبَ عَلَيْهِمْ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ "أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَرَجَ مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَجَعِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ فَقَالَ النَّاسُ يَا أَبَا حَسَنٍ كَيْفَ أَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَصْبَحَ بِحَمْدِ اللَّهِ بَارِئًا فَأَخَذَ بِيَدِهِ عَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَقَالَ لَهُ أَنْتَ وَاللَّهِ بَعْدَ ثَلاَثٍ عَبْدُ الْعَصَا وَإِنِّي وَاللَّهِ لاَرَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَوْفَ يُتَوَفَّى مِنْ وَجَعِهِ هَذَا إِنِّي لاَعْرِفُ وُجُوهَ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عِنْدَ الْمَوْتِ اذْهَبْ بِنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلْنَسْأَلْهُ فِيمَنْ هَذَا الأَمْرُ إِنْ كَانَ فِينَا عَلِمْنَا ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِنَا عَلِمْنَاهُ فَأَوْصَى بِنَا فَقَالَ عَلِيٌّ إِنَّا وَاللَّهِ لَئِنْ سَأَلْنَاهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَنَعَنَاهَا لاَ يُعْطِينَاهَا النَّاسُ بَعْدَهُ وَإِنِّي وَاللَّهِ لاَ أَسْأَلُهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم".
[الحديث 4447- طرفه في: 6266]
قوله: "حدثني إسحاق" هو ابن راهويه، وبه جزم أبو نعيم في "المستخرج" . قوله: "أخبرني عبد الله بن كعب" هذا يؤيد ما تقدم في غزوة تبوك أن الزهري سمع من عبد الله وهو من أخويه عبد الرحمن وعبيد الله ومن عبد الرحمن بن عبد الله، ولا معنى لتوقف الدمياطي فيه فإن الإسناد صحيح وسماع الزهري من عبد الله بن كعب ثابت ولم ينفرد به شعيب، وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق صالح عن ابن شهاب فصرح أيضا به، وقد رواه معمر عن الزهري عن ابن كعب بن مالك ولم يسمه أخرجه عبد الرزاق، وفي الإسناد لطيفة وهي رواية تابعي عن تابعي وصحابي عن صحابي. قوله: "بارئا" اسم فاعل من برأ بمعنى أفاق من

(8/142)


المرض. قوله: "أنت والله بعد ثلاث عبد العصا" هو كناية عمن يصير تابعا لغيره، والمعنى أنه يموت بعد ثلاث وتصير أنت مأمورا عليك، وهذا من قوة فراسة العباس رضي الله عنه. قوله: "لأرى" بفتح الهمزة من الاعتقاد وبضمها بمعنى الظن، وهذا قاله العماس مستندا إلى التجربة، لقوله بعد ذلك. "إني لأعرف وجوه بني عبد المطلب عند الموت" وذكر ابن إسحاق عن الزهري أن ذلك كان يوم قبض النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: "هذا الأمر" أي الخلافة. وفي مرسل الشعبي عند ابن سعد "فنسأله من يستخلف، فإن استحلف منا فذاك" . قوله: "فأوصى بنا" في مرسل الشعبي "وإلا أوصى بنا فحفظنا من بعده" وله من طريق أخرى "فقال علي: وهل يطمع في هذا الأمر غيرنا. قال: أظن والله سيكون" . قوله: "لا يعطيناها الناس بعده" أي يحتجون عليهم بمنع رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم، وصرح بذلك في رواية لابن سعد. قوله: "لا أسألها رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي لا أطلبها منه، وزاد ابن سعد في مرسل الشعبي في آخره: "فلما قبض النبي صلى الله عليه وسلم قال العباس لعلي: ابسط يدك أبايعك تبايعك الناس، فلم يفعل" وزاد عبد الرزاق عن ابن عيينة قال: "قال الشعبي: لو أن عليا سأله عنها كان خيرا له من ماله وولده" ورويناه في "فوائد أبي الطاهر الذهلي" بسند جيد عن ابن أبي ليلى قال: "سمعت عليا يقول: لقيني العباس - فذكر نحو القصة التي في هذا الحديث باختصار وفي آخرها - قال: سمعت عليا يقول بعد ذلك: يا ليتني أطعت عباسا، يا ليتني أطعت عباسا" وقال عبد الرزاق: "كان معمر يقول لنا: أيهما كان أصوب رأيا؟ فنقول العباس. فيأبى ويقول: لو كان أعطاها عليا فمنعه الناس لكفروا" .
4448- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ قَالَ حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ الْمُسْلِمِينَ بَيْنَا هُمْ فِي صَلاَةِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ الاثْنَيْنِ وَأَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي لَهُمْ لَمْ يَفْجَأْهُمْ إِلاَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كَشَفَ سِتْرَ حُجْرَةِ عَائِشَةَ فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ وَهُمْ فِي صُفُوفِ الصَّلاَةِ ثُمَّ تَبَسَّمَ يَضْحَكُ فَنَكَصَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى عَقِبَيْهِ لِيَصِلَ الصَّفَّ وَظَنَّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى الصَّلاَةِ فَقَالَ أَنَسٌ وَهَمَّ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يَفْتَتِنُوا فِي صَلاَتِهِمْ فَرَحًا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ بِيَدِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَتِمُّوا صَلاَتَكُمْ ثُمَّ دَخَلَ الْحُجْرَةَ وَأَرْخَى السِّتْر"
حديث أنس "أن المسلمين بينا هم في صلاة الفجر يوم الاثنين" فيه أنه لم يصل بهم ذلك اليوم، وأما ما أخرجه البيهقي من طريق محمد بن جعفر عن حميد عن أنس "آخر صلاة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع القوم" الحديث وفسرها بأنها صلاة الصبح فلا يصح لحديث الباب، ويشبه أن يكون الصواب صلاة الظهر. قوله: "ثم دخل الحجرة وأرخى الستر" زاد أبو اليمان عن شعيب "وتوفي من يومه ذلك" أخرجه المصنف في الصلاة. وللإسماعيلي من هذا الوجه "فلما توفي بكى الناس، فقام عمر في المسجد فقال: ألا لا أسمعن أحدا يقول مات محمد" الحديث بهذه القصة، وهي على شرط الصحيح. قوله: "وتوفي من آخر ذلك اليوم" يخدش في جزم ابن إسحاق بأنه مات حين اشتد الضحى، ويجمع بينهما بأن إطلاق الآخر بمعني ابتداء الدخول في أول النصف الثاني من النهار وذلك عند

(8/143)


الزوال، واشتداد الضحى يقع قبل الزوال ويستمر حتى يتحقق زوال الشمس. وقد جزم موسى بن عقبة عن ابن شهاب بأنه صلى الله عليه وسلم مات حين زاغت الشمس، وكذا لأبي الأسود عن عروة، فهذا يؤيد الجمع الذي أشرت إليه.
4449- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ عَنْ عُمَرَ بْنِ سَعِيدٍ قَالَ أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّ أَبَا عَمْرٍو ذَكْوَانَ مَوْلَى عَائِشَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ تَقُولُ "إِنَّ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيَّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُوُفِّيَ فِي بَيْتِي وَفِي يَوْمِي وَبَيْنَ سَحْرِي وَنَحْرِي وَأَنَّ اللَّهَ جَمَعَ بَيْنَ رِيقِي وَرِيقِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ دَخَلَ عَلَيَّ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَبِيَدِهِ السِّوَاكُ وَأَنَا مُسْنِدَةٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَأَيْتُهُ يَنْظُرُ إِلَيْهِ وَعَرَفْتُ أَنَّهُ يُحِبُّ السِّوَاكَ فَقُلْتُ آخُذُهُ لَكَ فَأَشَارَ بِرَأْسِهِ أَنْ نَعَمْ فَتَنَاوَلْتُهُ فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ وَقُلْتُ أُلَيِّنُهُ لَكَ فَأَشَارَ بِرَأْسِهِ أَنْ نَعَمْ فَلَيَّنْتُهُ فَأَمَرَّهُ وَبَيْنَ يَدَيْهِ رَكْوَةٌ أَوْ عُلْبَةٌ يَشُكُّ عُمَرُ فِيهَا مَاءٌ فَجَعَلَ يُدْخِلُ يَدَيْهِ فِي الْمَاءِ فَيَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ يَقُولُ: "لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ إِنَّ لِلْمَوْتِ سَكَرَاتٍ ثُمَّ نَصَبَ يَدَهُ فَجَعَلَ يَقُولُ فِي الرَّفِيقِ الأَعْلَى حَتَّى قُبِضَ وَمَالَتْ يَدُه".
4450- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ بِلاَلٍ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسْأَلُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ يَقُولُ: "أَيْنَ أَنَا غَدًا أَيْنَ أَنَا غَدًا" يُرِيدُ يَوْمَ عَائِشَةَ فَأَذِنَ لَهُ أَزْوَاجُهُ يَكُونُ حَيْثُ شَاءَ فَكَانَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ حَتَّى مَاتَ عِنْدَهَا قَالَتْ عَائِشَةُ فَمَاتَ فِي الْيَوْمِ الَّذِي كَانَ يَدُورُ عَلَيَّ فِيهِ فِي بَيْتِي فَقَبَضَهُ اللَّهُ وَإِنَّ رَأْسَهُ لَبَيْنَ نَحْرِي وَسَحْرِي وَخَالَطَ رِيقُهُ رِيقِي ثُمَّ قَالَتْ دَخَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ وَمَعَهُ سِوَاكٌ يَسْتَنُّ بِهِ فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ لَهُ أَعْطِنِي هَذَا السِّوَاكَ يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ فَأَعْطَانِيهِ فَقَضِمْتُهُ ثُمَّ مَضَغْتُهُ فَأَعْطَيْتُهُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَنَّ بِهِ وَهُوَ مُسْتَنِدٌ إِلَى صَدْرِي"
4451- حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها قالت: "توفي النبي صلى الله عليه وسلم في بيتي، وفي يومي، وبين سحري ونحري، وكانت إحدانا تعوذه بدعاء إذا مرض، فذهبت أعوذه فرفع رأسه إلى السماء وقال: في الرفيق الأعلى . ومر عبد الرحمن بن أبي بكر وفي يده جريدة رطبة، فنظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم فظننت أن له بها حاجة فأخذتها فمضغت رأسها ونفضتها فدفعتها إليه، فاستن بها كأحسن ما كان مستنا، ثم ناولنيها فسقطت سده – أو سقطت من يده – فجمع الله بين ريقي وريقه في آخر يوم من الدنيا وأول يوم من الآخرة"
الحديث الرابع عشر قوله: "ابن أبي مليكة أن ذكوان أخبره أن عائشة" سيأتي بعد حديث من رواية ابن أبي

(8/144)


مليكة عن عائشة بلا واسطة، لكن في كل من الطريقين ما ليس في الآخر، فالظاهر أن الطريقين محفوظان. قوله: "فلينته" أي لينت السواك. قوله: "فأمره" بفاء وفتح الميم وتشديد الراء، أي أمره على أسنانه فاستاك به. وللكشميهني والأصيلي والقابسي "بأمره" بموحدة وميم ساكنة وراء مكسورة، قال عياض: والأول أولى، وقد تقدم شرح ما تضمنه هذا الحديث في هذا الباب. تقدم شرح ما تضمنه وقوله: "فقبضه الله وإن رأسه لبين نحري وسحري" في رواية همام عن هشام بهذا الإسناد عند أحمد نحوه وزاد: "فلما خرجت نفسه لم أجد ريحا قط أطيب منها" .
4452، 4453- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْن بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ "أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَقْبَلَ عَلَى فَرَسٍ مِنْ مَسْكَنِهِ بِالسُّنْحِ حَتَّى نَزَلَ فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ فَلَمْ يُكَلِّمْ النَّاسَ حَتَّى دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ فَتَيَمَّمَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُغَشًّى بِثَوْبِ حِبَرَةٍ فَكَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ ثُمَّ أَكَبَّ عَلَيْهِ فَقَبَّلَهُ وَبَكَى ثُمَّ قَالَ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي وَاللَّهِ لاَ يَجْمَعُ اللَّهُ عَلَيْكَ مَوْتَتَيْنِ أَمَّا الْمَوْتَةُ الَّتِي كُتِبَتْ عَلَيْكَ فَقَدْ مُتَّهَا"
4454- قَالَ الزُّهْرِيُّ وَحَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ "أَنَّ أَبَا بَكْرٍ خَرَجَ وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يُكَلِّمُ النَّاسَ فَقَالَ اجْلِسْ يَا عُمَرُ فَأَبَى عُمَرُ أَنْ يَجْلِسَ فَأَقْبَلَ النَّاسُ إِلَيْهِ وَتَرَكُوا عُمَرَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ أَمَّا بَعْدُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ وَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لاَ يَمُوتُ قَالَ اللَّهُ {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} إِلَى قَوْلِهِ {الشَّاكِرِينَ} وَقَالَ وَاللَّهِ لَكَأَنَّ النَّاسَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ هَذِهِ الآيَةَ حَتَّى تَلاَهَا أَبُو بَكْرٍ فَتَلَقَّاهَا مِنْهُ النَّاسُ كُلُّهُمْ فَمَا أَسْمَعُ بَشَرًا مِنْ النَّاسِ إِلاَّ يَتْلُوهَا فَأَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ عُمَرَ قَالَ وَاللَّهِ مَا هُوَ إِلاَّ أَنْ سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ تَلاَهَا فَعَقِرْتُ حَتَّى مَا تُقِلُّنِي رِجْلاَيَ وَحَتَّى أَهْوَيْتُ إِلَى الأَرْضِ حِينَ سَمِعْتُهُ تَلاَهَا عَلِمْتُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ مَات"
الحديث السابع عشر قوله: "من مسكنه بالسنح" بضم المهملة وسكون النون وبضمها أيضا وآخره حاء مهملة، وتقدم ضبطه في الجنائز، وأنه مسكن زوجة أبي بكر الصديق. قوله: "لا يجمع الله عليك موتتين" تقدم الكلام عليه في أول الجنائز، وأغرب من قال: المراد بالموتة الأخرى موتة الشريعة أي لا يجمع الله عليك موتك وموت شريعتك. قال هذا القائل. ويؤيده قول أبي بكر بعد ذلك في خطبته "من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت" وقال الكرماني: فإن قلت ليس في القرآن أن النبي صلى الله عليه وسلم قد مات، ثم أجاب بأن أبا بكر تلاها لأجل أن النبي صلى الله عليه وسلم قد مات. قلت: ورواية ابن السكن قد أوضحت المراد. فإنه زاد لفظ: "علمت" . قوله: "قال: وحدثني أبو سلمة" القائل هو الزهري. قوله: "وعمر يكلم الناس" أي يقول لهم: ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعند أحمد من طريق يزيد بن بابنوس عن عائشة متصلا بما ذكرته في آخر الكلام على الحديث الثامن شيء دار بين المغيرة

(8/145)


وعمر. ففيه بعد قولها: "فسجيته ثوبا: فجاء عمر والمغيرة بن شعبة فاستأذنا فأذنت لهما، وجذبت الحجاب فنظر عمر إليه فقال: واغشيتاه، ثم قاما، فلما دنوا من الباب قال المغيرة: يا عمر مات. قال: كذبت، بل أنت رجل تحوشك فتنة إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يموت حتى يفني الله المنافقين. ثم جاء أبو بكر فرفعت الحجاب، فنظر إليه فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، مات رسول الله صلى الله عليه وسلم:"وروى ابن إسحاق وعبد الرزاق والطبراني من طريق عكرمة "أن العباس قال لعمر: هل عند أحد منكم عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك؟ قال: لا. قال: فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات، ولم يمت حتى حارب وسالم ونكح وطلق وترككم على محجة واضحة" وهذه من موافقات العباس للصديق في حديث ابن عمر عند ابن أبي شيبة: "أن أبا بكر مر بعمر وهو يقول: ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يموت حتى يقتل الله المنافقين، وكانوا أظهروا الاستبشار ورفعوا رءوسهم، فقال: أيها الرجل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات، ألم تسمع الله تعالى يقول: "إنك ميت وإنهم ميتون" وقال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} ثم أتى المنبر فصعد فحمد الله وأثنى عليه فذكر خطبته" . قوله: "وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل" زاد يزيد بن بابنوس عن عائشة "أن أبا بكر حمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن الله يقول : {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} حتى فرغ من الآية، ثم تلا: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ} الآية. وقال فيه: قال عمر. أو أنها في كتاب الله؟ ما شعرت أنها في كتاب الله" . وفي حديث ابن عمر نحوه وزاد: ثم نزل، فاستبشر المسلمون، وأخذ المنافقين الكآبة. قال ابن عمر وكأنما على وجوهنا أغطية فكشفت. قوله: "فأخبرني سعيد بن المسيب" هو مقول الزهري، وأغرب الخطابي فقال: ما أدري القائل: "فأخبرني سعيد بن المسيب" الزهري أو شيخه أبو مسلمة؟ فقلت: صرح عبد الرزاق عن معمر بأنه الزهري، وأثر ابن المسيب عن عمر هذا أهمله المزي في الأطراف مع أنه على شرطه. قوله: "فعقرت" بضم العين وكسر القاف أي هلكت. وفي رواية بفتح العين أي دهشت وتحيرت، ويقال سقطت، ورواه يعقوب بن السكيت بالفاء من العفر وهو التراب، ووقع في رواية الكشميهني: "فقعرت" بتقديم القاف على العين وهو خطأ والصواب الأول. قوله: "ما تقلني" بضم أوله وكسر القاف وتشديد اللام أي ما تحملني. قوله: "وحتى أهويت" في رواية الكشميهني: "هويت" بفتح أوله وثانيه. قوله: "إلى الأرض حين سمعته تلاها أن النبي صلى الله عليه وسلم قد مات" كذا للأكثر وقوله: "أن النبي صلى الله عليه وسلم:"على البدل من الهاء في قوله تلاها: أي تلا الآية التي معناها أن النبي صلى الله عليه وسلم قد مات، وهو قوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} وفي رواية ابن السكن "فعلمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد مات" وهي واضحة، وكذا عند عبد الرزاق عن معمر عن الزهري "فعقرت وأنا قائم حتى خررت إلى الأرض، فأيقنت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات" وفي الحديث قوة جأش أبي بكر وكثرة علمه، وقد وافقه على ذلك العباس كما ذكرنا، والمغيرة كما رواه ابن سعد وابن أم مكتوم كما في المغازي لأبي الأسود عن عروة قال: "إنه كان يتلو قوله تعالى {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} والناس لا يلتفتون إليه، وكان أكثر الصحابة على خلاف ذلك "فيؤخذ منه أن الأقل عددا في الاجتهاد قد يصيب ويخطئ الأكثر فلا يتعين الترجيح بالأكثر، ولا سيما إن ظهر أن بعضهم قلد بعضا.
4455، 4456، 4457- حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ "أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَبَّلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

(8/146)


بَعْدَ مَوْتِه"
[الحديث 4456- طرفه في: 5709]
حديث ابن عباس وعائشة "أن أبا بكر قبل النبي صلى الله عليه وسلم بعدما مات" تقدم في الحديث الذي قبله أنه كشف عن وجهه ثم أكب عليه فقبله. وفي رواية يزيد بن بابنوس عنها "أتاه من قبل رأسه فحدر فاه فقبل جبهته ثم قال: وأنبياه، ثم رفع رأسه فحدر فاه وقبل جبهته ثم قال: واصفياه، ثم رفع رأسه وحدر فاه وقبل جبهته ثم قال: واخليلاه" ولابن أبي شيبة عن ابن عمر: فوضع فاه على جبين رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يقبله ويبكي ويقول: "بأبي وأمي طبت حيا وميتا" وللطبراني من حديث جابر "أن أبا بكر قبل جبهته" وله من حديث سالم بن عتيك "أن أبا بكر دخل على النبي صلى الله عليه وسلم فمسه فقالوا: يا صاحب رسول الله، مات رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم" .
4458- حَدَّثَنَا عَلِيٌّ حَدَّثَنَا يَحْيَى وَزَادَ "قَالَتْ عَائِشَةُ: لَدَدْنَاهُ فِي مَرَضِهِ فَجَعَلَ يُشِيرُ إِلَيْنَا أَنْ لاَ تَلُدُّونِي فَقُلْنَا كَرَاهِيَةُ الْمَرِيضِ لِلدَّوَاءِ فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ أَلَمْ أَنْهَكُمْ أَنْ تَلُدُّونِي قُلْنَا كَرَاهِيَةَ الْمَرِيضِ لِلدَّوَاءِ فَقَالَ لاَ يَبْقَى أَحَدٌ فِي الْبَيْتِ إِلاَّ لُدَّ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلاَّ الْعَبَّاسَ فَإِنَّهُ لَمْ يَشْهَدْكُمْ" رَوَاهُ ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم"
[الحديث 4458- أطرافه في: 5712، 6886، 6897]
الحديث التاسع عشر قوله: "حدثنا علي حدثنا يحيى وزاد: قالت عائشة لددناه في مرضه" أما علي فهو ابن عبد الله بن المديني، وأما يحيي فهو ابن سعيد القطان، ومراده أن عليا وافق عبد الله بن أبي شيبة في روايته عن يحيي بن سعيد الحديث الذي قبله وزاد عليه قصة اللدود. قوله: "لددناه" أي جعلنا في جانب فمه دواء بغير اختياره، وهذا هو اللدود، فأما ما يصب في الحلق فيقال له الوجور، وقد وقع عند الطبراني من حديث العباس "أنهم أذابوا قسطا - أي بزيت - قلدوه به" . قوله: "فجعل يشير إلينا أن لا تلدوني، فقلنا: كراهية المريض للدواء" قال عياض: ضبطناه بالرفع أي هذا منه كراهية. وقال أبو البقاء: هو خبر مبتدأ محذوف أي هذا الامتناع كراهية، ويحتمل أن النصب على أنه مفعول له أي نهانا للكراهية للدواء، ويحتمل أن يكون مصدرا أي كرهه كراهية الدواء، قال عياض: الرفع أوجه من النصب على المصدر. قوله: "لا يبقى أحد في البيت إلا لد وأنا أنظر إلا العباس فإنه لم يشهدكم" قبل: فيه مشروعية القصاص في جميع ما يصاب به الإنسان عمدا، وفيه نظر، لأن الجميع لم يتعاطوا ذلك، وإنما فعل بهم ذلك عقوبة لهم لتركهم امتثال نهيه عن ذلك، أما من باشره فظاهر، وأما من لم يباشره فلكونهم تركوا نهيهم عما نهاهم هو عنه. ويستفاد منه أن التأويل البعيد لا يعذر به صاحبه وفيه نظر أيضا لأن الذي وقع في معارضة النهي، قال ابن العربي: أراد أن لا يأتوا يوم القيامة وعليهم حقه فيقعوا في خطب عظيم، وتعقب بأنه كان يمكن العفو لأنه كان لا ينتقم لنفسه، والذي يظهر أنه أراد بذلك تأديبهم لئلا يعودوا، فكان ذلك تأديبا لا قصاصا ولا انتقاما. قيل: وإنما كره اللد مع أنه كان يتداوى لأنه تحقق أنه يموت في مرضه، ومن حقق ذلك كره له التداوي. قلت: وفيه نظر، والذي يظهر أن ذلك كان قبل التخيير والتحقق، وإنما أنكر التداوي لأنه كان غير ملائم لدائه، لأنهم طنوا أن به ذات الجنب فداووه بما يلائمها، ولم يكن به ذلك كما هو ظاهر

(8/147)


في سياق الخبر كما ترى، والله أعلم. قوله: "رواه ابن أبي الزناد عن هشام عن أبيه عن عائشة" وصله محمد بن مسعد عن محمد بن الصباح عن عبد الرحمن بن أبي الزناد بهذا السند ولفظه: كانت تأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الخاصرة، فاشتدت به فأغمي عليه فلددناه، فلما أفاق قال: هذا من فعل نساء جئن من هنا، وأشار إلى الحبشة، وإن كنتم ترون أن الله يسلط علي ذات الجنب ما كان الله ليجعل لها علي سلطانا، والله لا يبقى أحد في البيت إلا لد، فما بقي أحد في البيت إلا لد، ولددنا ميمونة وهي صائمة" ومن طريق أبي بكر بن عبد الرحمن أن أم سلمة وأسماء بنت عميس أشارتا بأن يلدوه، ورواه عبد الرزاق بإسناد صحيح عن أسماء بنت عميس قالت: "إن أول ما اشتكى كان في بيت ميمونة، فاشتد مرضه حتى أغمي عليه، فتشاورن في لده فلدوه. فلما أفاق قال: هذا فعل نساء جئن من هنا - وأشار إلى الحبشة - وكانت أسماء منهن فقالوا: كنا نتهم بك ذات الجنب، فقال: ما كان الله ليعذبني به، لا يبقى أحد في البيت إلا لد. قال: فلقد التدت ميمونة وهي صائمة" وفي رواية ابن أبي الزناد هذه بيان ضعف ما رواه أبو يعلى بسند فيه ابن لهيعة من وجه آخر عن عائشة "أن النبي صلى الله عليه وسلم مات من ذات الجنب" ثم ظهر لي أنه يمكن الجمع بينهما بأن ذات الجنب تطلق بإزاء مرضين كما سيأتي بيانه في كتاب الطب: أحدهما ورم حار يعرض في الغشاء المستبطن، والآخر ريح محتقن بين الأضلاع، فالأول هو المنفي هنا، وقد وقع في رواية الحاكم في المستدرك "ذات الجنب من الشيطان" والثاني هو الذي أثبت هنا، وليس فيه محذور كالأول.
4459- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا أَزْهَرُ أَخْبَرَنَا ابْنُ عَوْنٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الأَسْوَدِ قَالَ: "ذُكِرَ عِنْدَ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْصَى إِلَى عَلِيٍّ فَقَالَتْ مَنْ قَالَهُ لَقَدْ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنِّي لَمُسْنِدَتُهُ إِلَى صَدْرِي فَدَعَا بِالطَّسْتِ فَانْخَنَثَ فَمَاتَ فَمَا شَعَرْتُ فَكَيْفَ أَوْصَى إِلَى عَلِي"
الحديث العشرون قوله: "أخبرني أزهر" هو ابن سعد السمان بصري، وشيخه عبد الله بن عون بصري أيضا، وأما إبراهيم وهو ابن يزيد النخعي والأسود فكوفيان. قوله: "ذكر" بضم أوله، وتقدم في الوصايا من وجه آخر بلفظ: "ذكروا" وفي رواية الإسماعيلي من هذا الوجه "قيل لعائشة إنهم يزعمون أنه أوصى إلى علي، فقالت: ومتى أوصى إليه؟ وقد رأيته دعا بالطست ليتفل فيها" وقد تقدم شرح ما يتعلق به هناك وما يتعلق ببقية الحديث في أثناء هذا الباب.
4460- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ مِغْوَلٍ عَنْ طَلْحَةَ قَالَ: "سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَوْصَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لاَ فَقُلْتُ كَيْفَ كُتِبَ عَلَى النَّاسِ الْوَصِيَّةُ أَوْ أُمِرُوا بِهَا قَالَ أَوْصَى بِكِتَابِ اللَّه"
الحديث الحادي والعشرون حديث عبد الله بن أبي أوفى، تقدم شرحه مستوفى في أوائل الوصايا.
4461- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: "مَا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِينَارًا وَلاَ دِرْهَمًا وَلاَ عَبْدًا وَلاَ أَمَةً إِلاَّ بَغْلَتَهُ الْبَيْضَاءَ الَّتِي كَانَ يَرْكَبُهَا وَسِلاَحَهُ وَأَرْضًا جَعَلَهَا لابْنِ

(8/148)


السَّبِيلِ صَدَقَة"
4462- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: "لَمَّا ثَقُلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ يَتَغَشَّاهُ فَقَالَتْ فَاطِمَةُ عَلَيْهَا السَّلاَم وَا كَرْبَ أَبَاهُ فَقَالَ: " لَهَا لَيْسَ عَلَى أَبِيكِ كَرْبٌ بَعْدَ الْيَوْمِ" فَلَمَّا مَاتَ قَالَتْ يَا أَبَتَاهُ أَجَابَ رَبًّا دَعَاهُ يَا أَبَتَاهْ مَنْ جَنَّةُ الْفِرْدَوْسِ مَأْوَاهْ يَا أَبَتَاهْ إِلَى جِبْرِيلَ نَنْعَاهْ فَلَمَّا دُفِنَ قَالَتْ فَاطِمَةُ عَلَيْهَا السَّلاَم يَا أَنَسُ أَطَابَتْ أَنْفُسُكُمْ أَنْ تَحْثُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التُّرَاب"
الحديث الثاني والعشرون حديث عمرو بن الحارث وهو المصطلقي أخو ميمونة بنت الحارث أم المؤمنين. وقد تقدم شرحه مستوفى في أوائل الوصايا. قوله: "واكرب أباه" في رواية مبارك بن فضالة عن ثابت عند النسائي: "واكرباه" والأول أصوب لقوله في نفس الخبر "ليس على أبيك كرب بعد اليوم" وهذا يدل أنها لم ترفع صوتها بذلك وإلا لكان ينهاها. قوله: "يا أبتاه" كأنها قالت: يا أبي والمثناة بدل من التحتانية والألف للندبة ولمد الصوت والهاء للسكت. قوله: "من جنة الفردوس مأواه" بفتح الميم في أوله على أنها موصولة، وحكى الطيبي عن نسخة من "المصابيح" بكسرها على أنها حرف جر، قال: والأول أولى. قوله: "إلى جبريل ننعاه" قيل: الصواب إلى جبريل نعاه، جزم بذلك سبط ابن الجوزي في "المرآة" ، والأول موجه فلا معنى لتغليظ الرواة بالظن وزاد الطبراني من طريق عارم والإسماعيلي من طريق سعيد بن سليمان كلاهما عن حماد في هذا الحديث: "يا أبتاه، من ربه ما أدناه" ومثله للطبراني من طريق معمر، ولأبي داود من طريق حماد بن سلمة كلاهما عن ثابت به، قال الخطابي: زعم بعض من لا يعد في أهل العلم أن المراد بقوله عليه الصلاة والسلام: "لا كرب على أبيك بعد اليوم" أن كربه كان شفقة على أمته لما علم من وقوع الفتن والاختلاف، وهذا ليس بشيء لأنه كان يلزم أن تنقطع شفقته على أمته بموته، والواقع أنها باقية إلى يوم القيامة لأنه مبعوث إلى من جاء بعده وأعمالهم تعرض عليه، وإنما الكلام على ظاهره، وأن المراد بالكرب ما كان يجده من شدة الموت، وكان فيما يصيب جسده من الآلام كالبشر ليتضاعف له الأجر كما تقدم. قوله: "فلما دفن قالت فاطمة: يا أنس إلخ" وهذا من رواية أنس عن فاطمة، وأشارت عليها السلام بذلك إلى عتابهم على إقدامهم على ذلك لأنه يدل على خلاف ما عرفته منهم من رقة قلوبهم عليه لشدة محبتهم له، وسكت أنس عن جوابها رعاية لها ولسان حاله يقول: لم تطب أنفسنا بذلك، إلا أنا قهرناها على فعله امتثالا لأمره. وقد قال أبو سعيد فيما أخرجه البزار بسند جيد: "وما نفضنا أيدينا من دفنه حتى أنكرنا قلوبنا" ومثله في حديث ثابت عن أنس عند الترمذي وغيره، يريد أنهم وجدوها تغيرت عما عهدوه في حياته من الألف والصفاء والرقة، لفقدان ما كان يمدهم به من التعليم والتأديب. ويستفاد من الحديث جواز التوجع للميت عند احتضاره بمثل قول فاطمة عليها السلام "وأكرب أباه" وأنه ليس من النياحة، لأنه صلى الله عليه وسلم أقرأها على ذلك. وأما قولها بعد أن قبض "واأبتاه إلخ" فيؤخذ منه أن تلك الألفاظ إذا كان الميت متصفا بها لا يمنع ذكره لها بعد موته، بخلاف ما إذا كانت فيه ظاهرا وهو في الباطن بخلافه أو لا يتحقق اتصافه بها فيدخل في المنع، ونبه هنا على أن المزي ذكر كلام فاطمة هذا في مسند أنس، وهو متعقب، فإنه وإن كان أوله في مسنده لأن الظاهر

(8/149)


أنه حضره، لكن الأخير إنما هو من كلام فاطمة فحقه أن يذكر في رواية أنس عنها.

(8/150)


84- باب آخِرِ مَا تَكَلَّمَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
4463- حدثنا بشر بن محمد حدثنا عبد الله قال يونس قال الزهري أخبرني سعيد بن المسيب في رجال من أهل العلم أن عائشة قالت: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول وهو صحيح: " ثم إنه لم يقبض نبي حتى يرى مقعده من الجنة ثم يخير" فلما نزل به ورأسه على فخذي غشي عليه ثم أفاق فأشخص بصره إلى سقف البيت ثم قال: اللهم الرفيق الأعلى" فقلت إذا لا يختارنا وعرفت أنه الحديث الذي كان يحدثنا وهو صحيح قالت فكانت آخر كلمة تكلم بها: "اللهم الرفيق الأعلى"
قوله: "باب آخر ما تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم" ذكر فيه حديث عائشة، وقد شرح في الحديث السابع من الباب الذي قبله، وقول الزهري: "أخبرني سعيد بن المسيب في رجال أهل العلم" قد تقدم منهم عروة بن الزبير، وكأن عائشة أشارت إلى ما أشاعته الرافضة أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى إلى علي بالخلافة وأن يوفي ديونه، وقد أخرج العقيلي وغيره في "الضعفاء" في ترجمة حكيم بن جبير من طريق عبد العزيز بن مروان عن أبي هريرة عن سلمان أنه قال: قلت: "يا رسول الله إن الله لم يبعث نبيا إلا بين له من يلي بعده فهل بين لك؟ قال: نعم علي بن أبي طالب" . ومن طريق جرير بن عبد الحميد عن أشياخ من قومه عن سلمان: قلت: " يا رسول الله من وصيك؟ قال: وصيي وموضع سري وخليفتي على أهلي وخير من أخلفه بعدي علي بن أبي طالب" . ومن طريق أبي ربيعة الإيادي عن ابن بريدة عن أبيه رفعه: لكل نبي وصي وإن عليا وصيي وولدي. ومن طريق عبد الله بن السائب عن أبي ذر رفعه: " أنا خاتم النبيين وعلي خاتم الأوصياء" . أوردها وغيرها ابن الجوزي في "الموضوعات" .

(8/150)


85- باب وَفَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
4464، 4465- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَبِثَ بِمَكَّةَ عَشْرَ سِنِينَ يُنْزَلُ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَبِالْمَدِينَةِ عَشْرًا"
[الحديث 4464 – طرفه في:4978]
4466- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُوُفِّيَ وَهُوَ ابْنُ ثَلاَثٍ وَسِتِّينَ "قَالَ ابْنُ شِهَابٍ وَأَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ مِثْلَه"
قوله: "باب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم" أي في أي السنين وقعت؟ قوله: "عن يحيى" هو ابن أبي كثير. قوله: "لبث بمكة عشر سنين ينزل عليه القرآن، وبالمدينة عشرا" هذا يخالف المروي عن عائشة عقبه أنه عاش ثلاثا وستين، إلا

(8/150)


باب توفي صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي
...
86- باب ـ 4467 حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "تُوُفِّيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ عِنْدَ يَهُودِيٍّ بِثَلاَثِين"
قوله: "باب" كذا للجميع بغير ترجمة. قوله: "ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين" كذا للأكثر بحذف التميز وللمستملي وحده "ثلاثين صاعا" ووجه إيراده هنا الإشارة إلى أن ذلك من آخر أحواله، وهو يناسب حديث عمرو بن الحارث في الباب الأول أنه لم يترك دينارا ولا درهما.

(8/151)


87- باب بَعْثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي مَرَضِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ
4468- حدثنا أبو عاصم الضحاك بن مخلد عن الفضيل بن سليمان حدثنا موسى بن عقبة عن سالم عن أبيه "استعمل النبي صلى الله عليه وسلم أسامة فقالوا فيه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " قد بلغني أنكم قلتم في أسامة وإنه أحب الناس إلي"
4469- حدثنا إسماعيل حدثنا مالك عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بعثا وأمر عليهم أسامة بن زيد فطعن الناس في إمارته فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إن تطعنوا في إمارته فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل وايم الله إن كان لخليقا للإمارة وإن كان لمن أحب الناس إلي وإن هذا لمن أحب الناس إلي بعده"
قوله: "باب بعث النبي صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد في مرضه الذي توفي فيه" إنما أخر المصنف هذه الترجمة لما جاء أنه كان تجهيز أسامة يوم السبت قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بيومين، وكان ابتداء ذلك قبل مرض النبي صلى الله عليه وسلم، فندب الناس لغزو الروم في آخر صفر، ودعا أسامة فقال: سر إلى موضع مقتل أبيك فأوطئهم الخيل، فقد وليتك هذا الجيش، وأغر صباحا على ابني، وحرق عليهم، وأسرع المسير تسبق الخبر، فإن ظفرك الله بهم فأقل الليث فيهم. فبدأ برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه في اليوم الثالث فعقد لأسامة لواء بيده، فأخذه أسامة فدفعه إلى بريدة وعسكر بالجرف، وكان ممن ندب مع أسامة كبار المهاجرين والأنصار، منهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة وسعد وسعيد وقتادة بن النعمان وسلمة بن أسلم، فتكلم في ذلك قوم منهم عياش بن أبي ربيعة المخزومي، فرد عليه عمر، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فخطب بما ذكر في هذا الحديث. ثم اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه فقال: " أنفذوا بعث أسامة" فجهزه أبو بكر بعد أن استخلف، فسار عشرين ليلة إلى الجهة التي أمر بها، وقتل قاتل أبيه، ورجع بالجيش سالما وقد غنموا. وقد قص أصحاب المغازي قصة مطولة فلخصتها، وكانت آخر سرية جهزها النبي صلى الله عليه وسلم، وأول شيء جهزه أبو بكر رضي الله عنه، وقد أنكر أبي تيمية في كتاب الرد على ابن المطهر أن يكون أبو بكر وعمر كانا في بعث أسامة؛ ومستند ما ذكره ما أخرجه الواقدي بأسانيده في المغازي وذكره ابن سند أواخر الترجمة النبوية بغير إسناد. وذكره ابن إسحاق في السيرة المشهورة ولفظه: "بدأ برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه يوم الأربعاء فأصبح يوم الخميس فعقد لأسامة فقال: اغز في سبيل الله وسر إلى موضع مقتل أبيك، فقد وليتك هذا الجيش" فذكر القصه وفيها "لم يبق أحد من المهاجرين الأولين إلا انتدب في تلك الغزوة منهم أبو بكر وعمر، ولما جهزه أبو بكر بعد أن استخلف سأله أبو بكر أن يأذن لهم بالإقامة فأذن، ذكر ذلك كله ابن الجوزي في "المنتظم" جازما به، وذكر الواقدي وأخرجه ابن عساكر من طريقه مع أبي بكر وعمر أبا عبيدة وسعدا وسعيدا وسلمة بن أسلم وقتادة بن النعمان، والذي باشر القول من نسب إليه الطعن في إمارته عياش بن أبي ربيعة، وعند الواقدي أيضا أن عدة ذلك الجيش كانت ثلاثة آلاف فيهم مائة من قريش، وفيه عن أبي هريرة "كانت عدة الجيش سبعمائة" .

(8/152)


باب حديث "دفنا النبي صلى الله عليه وسلم منذ خمس"
...
88- باب 4470- حَدَّثَنَا أَصْبَغُ قَالَ أَخْبَرَنِي ابْنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ عَنْ ابْنِ أَبِي حَبِيبٍ "عَنْ أَبِي الْخَيْرِ عَنْ الصُّنَابِحِيِّ أَنَّهُ قَالَ لَهُ مَتَى هَاجَرْتَ قَالَ خَرَجْنَا مِنْ الْيَمَنِ مُهَاجِرِينَ فَقَدِمْنَا الْجُحْفَةَ فَأَقْبَلَ رَاكِبٌ فَقُلْتُ لَهُ الْخَبَرَ فَقَالَ دَفَنَّا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْذُ خَمْسٍ قُلْتُ هَلْ سَمِعْتَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ شَيْئًا قَالَ نَعَمْ أَخْبَرَنِي بِلاَلٌ مُؤَذِّنُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ فِي السَّبْعِ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِر"
قوله: "باب" كذا للجميع بغير ترجمة. قوله: "عن ابن أبي حبيب" هو يزيد، وأبو الخير هو مرثد بن عبد الله، والصنابحي اسمه عبد الرحمن بن عسيلة، وليس له في صحيح البخاري سوى هذا الحديث، وعند أبي داود من وجه آخر عن الصنابحي أنه صلى الله عليه وسلم خلف أبا بكر الصديق. قوله: "فأقبل راكب" لم أقف على اسمه. قوله: "قلت هل سمعت"؟ القائل هو أبو الخير والمقول له الصنابحي، وقد تقدم الكلام على ليلة القدر في كتاب الصيام بما لا مزيد في التتبع عليه.

(8/153)


89- باب كَمْ غَزَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
4471- حدثني عبد الله بن رجاء حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق قال: "سألت زيد بن أرقم رضي الله عنه ثم كم غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال سبع عشرة قلت كم غزا النبي صلى الله عليه وسلم قال تسع عشرة" .
4472- حدثنا عبد الله بن رجاء حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق حدثنا البراء رضي الله عنه قال "غزوت مع النبي صلى الله عليه وسلم خمس عشرة"
قوله: "باب كم غزا النبي صلى الله عليه وسلم" ختم البخاري كتاب المغازي بنحو ما ابتدأه به، وقد تقدم الكلام في أول المغازي على حديث زيد بن أرقم، وزاد هنا عن أبي إسحاق حديث البراء قال: "غزوت مع النبي صلى الله عليه وسلم خمس عشرة غزوة" وكأن أبا إسحاق كان حريصا على معرفة عدد غزوات النبي صلى الله عليه وسلم فسأل زيد بن أرقم والبراء وغيرهما.
4473- حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ الحَسَنِ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلِ بْنِ هِلاَلٍ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ كَهْمَسٍ عَنْ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: "غَزَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِتَّ عَشْرَةَ غَزْوَة"
قوله: "حدثنا أحمد بن الحسن" هو ابن جنيدب بالجيم والنون وموحدة مصغرا الترمذي الحافظ، ليس له في البخاري سوى هذا الحديث، وهو من أقران البخاري. قوله: "عن كهمس" بمهملة وزن جعفر. وفي رواية الإسماعيلي من وجه آخر عن معتمر "سمعت كهمس بن الحسن" وابن بريدة هو عبد الله ولم يخرج البخاري لسليمان بن بريدة شيئا. قوله: "قال: غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ست عشرة غزوة" كذا وقع في مسند أحمد، وكذا أخرجه مسلم عن أحمد نفسه، وهو أحد الأحاديث الأربعة التي أخرجها مسلم عن شيوخ أخرج البخاري تلك الأحاديث بعينها عن أولئك الشيوخ بواسطة. ووقع من هذا النمط البخاري أكثر من مائتي حديث، وقد جردتها في جزء مفرد. وأخرج مسلم أيضا من وجه آخر عن عبد الله بن بريدة عن أبيه أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع عشرة غزوة قاتل منها في ثمان،

(8/153)


وقد تقدم في أول المغازي توجيه ذلك وتحرير عدد الغزوات. وأما السرايا فتقرب من سبعين، وقد استوعبها محمد بن سعد في الطبقات. وقرأت بخط مغلطاي أن مجموع الغزوات والسرايا مائة وهو كما قال، والله أعلم. "خاتمة" : اشتمل كتاب المغازي من الأحاديث المرفوعة وما في حكمها على خمسمائة وثلاثة وستين حديثا، المعلق منها ستة وسبعون حديثا والباقي موصول، المكرر منها فيه وفيما مضى أربعمائة حديث وعشرة أحاديث، والخالص مائه وثلاثة وخمسون حديثا، وافقه مسلم على تخريجها سوى ثلاثة وستين حديثا وهي: حديث ابن مسعود "شهدت من المقداد بن الأسود مشهدا" وحديث ابن عباس "لا يستوي القاعدون من المؤمنين عن بدر" وحديث علي "أنا أول من يجثو للخصومة" وحديث البراء "شهد علي بدرا وبارز وظاهر" وحديث ابن عمر في توجيهه إلى سعيد بن زيد وكان بدريا، وحديث محمد بن إياس بن البكير وكان أبوه شهد بدرا، وحديث رفاعة بن رافع في فضل أهل بدر، وحديث ابن عباس "هذا جبريل آخذ برأس فرسه وعليه أداة الحرب يوم بدر" وحديث أنس في أبي زيد البدري، وحديث قتادة بن النعمان في الأضاحي، وحديث الزبير في قتله العاصي بن سعيد ببدر، وحديث الربيع بنت معوذ في الضرب بالدف، وحديث علي في تكبيره على سهل بن حنيف، وحديث عمر "تأيمت حفصة" ، وحديث عمر مع قدامة بن مظعون، وحديث البراء في قتل أبي رافع اليهودي، وحديث عبد الرحمن بن عوف أنه أتي بطعام فقال: قتل مصعب بن عمير، وحديث زيد بن ثابت حين نسخ المصاحف، وحديث وحشي في قتل حمزة، وحديث ابن عمر في قتل مسيلمة، وحديث أبي هريرة في قصة خبيب بن عدي، وحديث بنت الحارث فيه، وحديث ابن عمر مع حفصة وفيه مراجعته مع حبيب بن سلمة، وحديث سليمان بن صرد "الآن نغزوهم" وحديث ابن عباس "صلى الخوف بذي قرد" وحديث أبي موسى فيه معلق، وحديث جابر فيه معلق، وحديث القاسم في أنمار معلق مرسل، وحديث عائشة في الولق، وحديث البراء في بر الحديبية، وحديث مرداس "يذهب الصالحون" وحديث بنت خفاف، وحديث عمر معها في شهود أبيها، وحديث البراء "لا ندري ما أحدثنا" وحديث زاهر في لحوم الحمر، وحديث أهبان بن أوس في السجود، وحديث عائذ بن عمرو في نقض الوتر، وحديث قتادة في المثلثة بلاغا، وحديث سلمة في الضرب يوم خيبر، وحديث أنس في الطيالسة، وحديث عائشة في تمر خيبر، وحديث ابن عمر فيه، وحديث ابن عمر في موتة، وحديث خالد بن الوليد فيه، وحديث عمرة بنت رواحة في البكاء، وحديث عروة في قصة الفتح مرسل، وحديث عبد الله بن ثعلبة في مسح وجهه، وحديث عمرو بن سلمة في الصلاة، وفيه حديثه عن أبيه، وحديث ابن أبي أوفى في ضربة حنين، وحديث ابن عمر في قصة بني جذيمة، وحديث أبي بردة في قصة اليهودي المرتد مرسل، وحديث البراء في قصة علي مع الجارية، وحديث بريدة فيه، وحديث جرير في بعثه إلى اليمن، وفيه روايته عن ذي عمرو، وحديث عبد الله بن الزبير في وفد بني تميم، وحديث أبي رجاء العطاردي في رجب، وحديثه فررنا إلى مسيلمة، وحديث ابن مسعود مع خباب وفيه قراءة علقمة، وحديث عدي مع عمر "أسلمت إذ كفروا" وحديث أبي بكرة "لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة" وحديث علي مع العباس في الوفاة النبوية، وحديث أنس مع فاطمة فيه، وحديث بلال في ليلة القدر. وفيه من الآثار عن الصحابة والتابعين اثنان وأربعون أثرا غير ما ذكرناه في المسند مما له حكم الرفع. والله سبحانه وتعالى أعلم.

(8/154)


كتاب التفسير
مدخل
...
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
65- كِتَاب تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ اسْمَانِ مِنْ الرَّحْمَةِ الرَّحِيمُ وَالرَّاحِمُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ كَالْعَلِيمِ وَالْعَالِمِ
قوله: "بسم الله الرحمن الرحيم - كتاب التفسير" في رواية أبي ذر "كتاب تفسير القرآن" وأخر غيره البسملة والتفسير تفعيل من الفسر وهو البيان، تقول: فسرت الشيء بالتخفيف أفسره فسرا، وفسرته بالتشديد أفسره تفسيرا إذا بينته. وأصل الفسر نظر الطبيب إلى الماء ليعرف العلة. وقيل: هو من فسرت الفرس إذا ركضتها محصورة لينطلق حصرها. وقيل هو مقلوب من سفر كجذب وجبذ، تقول: سفر إذا كشف وجهه، ومنه أسفر الصبح إذا أضاء. واختلفوا في التفسير والتأويل، قال أبو عبيدة وطائفة: هما بمعنى. وقيل التفسير هو بيان المراد باللفظ، والتأويل هو بيان المراد بالمعنى، وقيل في الفرق بينهما غير ذلك، وقد بسطته في أواخر كتاب التوحيد. قوله: "الرحمن الرحيم اسمان من الرحمة" أي مشتقان من الرحمة، والرحمة لغة الرقة والانعطاف، وعلى هذا فوصفه به تعالى مجاز عن إنعامه على عباده، وهي صفة فعل لا صفة ذات. وقيل: ليس الرحمن مشتقا لقولهم وما الرحمن؟ وأجيب بأنهم جهلوا الصفة والموصوف، ولهذا لم يقولوا: ومن الرحمن؟ وقيل: هو علم بالغلبة لأنه جاء غير تابع لموصوف في قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ} {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدا} وغير ذلك. وتعقب بأنه لا يلزم من مجيئه غير تابع أن لا يكون صفة، لأن الموصوف إذا علم جاز حذفه وإبقاء صفته. قوله: "الرحيم والراحم بمعنى واحد كالعليم والعالم" هذا بالنظر إلى أصل المعنى، وإلا فصيغة فعيل من صيغ المبالغة، فمعناها زائد على معنى الفاعل، وقد ترد صيغة فعيل بمعنى الصفة المشبهة، وفيها أيضا زيادة لدلالتها على الثبوت، بخلاف مجرد الفاعل فإنه يدل على الحدوث ويحتمل أن يكون المراد أن فعيلا بمعنى فاعل لا بمعنى مفعول لأنه قد يرد بمعنى مفعول فاحترز عنه، واختلف هل الرحمن والرحيم بمعنى واحد كالندمان والنديم فجمع بينهما تأكيدا؟ أو بينهما مغايرة بحسب المتعلق فهو رحمن الدنيا ورحيم الآخرة لأن رحمته في الدنيا تعم المؤمن والكافر وفي الآخرة تخص المؤمن، أو التغاير بجهة أخرى فالرحمن أبلغ لأنه يتناول جلائل النعم وأصولها. تقول فلان غضبان إذا امتلأ غضبا. وأردف بالرحيم ليكون كالتتمة ليتناول ما دق. وقيل الرحيم أبلغ لما يقتضيه صيغة فعيل، والتحقيق أن جهة المبالغة فيهما مختلفة. وروى ابن جرير من طريق عطاء الخراساني أن غير الله لما تسمى بالرحمن كمسيلمة جيء بلفظ الرحيم لقطع التوهم فإنه لم يوصف بهما أحد إلا الله، وعن ابن المبارك: الرحمن إذا سئل أعطى والرحيم إذا لم يسأل يغضب، ومن الشاذ ما روي عن المبرد وثعلب أن الرحمن عبراني والرحيم عربي، وقد ضعفه ابن الأنباري والزجاج وغيرهما، وقد وجد في اللسان العبراني لكن بالخاء المعجمة. والله أعلم

(8/155)


باب ما جاء في سورة الفاتحة
...
1- باب مَا جَاءَ فِي فَاتِحَةِ الْكِتَابِ
وَسُمِّيَتْ أُمَّ الْكِتَابِ أَنَّهُ يُبْدَأُ بِكِتَابَتِهَا فِي الْمَصَاحِفِ وَيُبْدَأُ بِقِرَاءَتِهَا فِي الصَّلاَةِ

(8/155)


وَالدِّينُ الْجَزَاءُ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ كَمَا تَدِينُ تُدَانُ وَقَالَ مُجَاهِدٌ بِالدِّينِ بِالْحِسَابِ مَدِينِينَ مُحَاسَبِينَ
قوله: "باب ما جاء في فاتحة الكتاب" أي من الفضل، أو من التفسير، أو أعم من ذلك، مع التقييد بشرطه في كل وجه. قوله: "وسميت أم الكتاب أنه" بفتح الهمزة "يبدأ بكتابتها في المصاحف، ويبدأ بقراءتها في الصلاة" هو كلام أبي عبيدة في أول "، مجاز القرآن" لكن لفظه: "ولسور القرآن أسماء: منها أن الحمد لله تسمى أم الكتاب لأنه يبدأ بها في أول القرآن، وتعاد قراءتها فيقرأ بها في كل ركعة قبل السورة، ويقال لها فاتحة الكتاب لأنه يفتتح بها في المصاحف فتكتب قبل الجميع" انتهى. وبهذا تبين المراد مما اختصره المصنف. وقال غيره: سميت أم الكتاب لأن أم الشيء ابتداؤه وأصله، ومنه سميت مكة أم القرى لأن الأرض دحيت من تحتها. وقال بعض الشراح: التعليل بأنها يبدأ بها يناسب تسميتها فاتحة الكتاب لا أم الكتاب، والجواب أنه يتجه ما قال بالنظر إلى أن الأم مبدأ الولد، وقيل سميت أم القرآن لاشتمالها على المعاني التي في القرآن من الثناء على الله تعالى والتعبد بالأمر والنهي والوعد ولوعيد. وعلى ما فيها من ذكر الذات والصفات والفعل. واشتمالها على ذكر المبدأ والمعاد والمعاش. ونقل السهيلي عن الحسن وابن سيرين ووافقهما بقي بن مخلد كراهية تسمية الفاتحة أم الكتاب، وتعقبه السهيلي. قلت وسيأتي في حديث الباب تسميتها بذلك، ويأتي في تفسير الحجر حديث أبي هريرة مرفوعا: "أم القرآن هي السبع المثاني" ولا فرق بين تسميتها بأم القرآن وأم الكتاب. ولعل الذي كره ذلك وقف عند لفظ الأم، وإذا ثبت النص طاح ما دونه. وللفاتحة أسماء أخرى جمعت من آثار أخرى: الكنز والوافية والشافعية والكافية وسورة الحمد لله وسورة الصلاة وسورة الشفاء والأساس وسورة الشكر وسورة الدعاء. قوله: "الدين الجزاء في الخير والشر. كما تدين تدان" هو كلام أبي عبيدة أيضا قال: الدين الحساب والجزاء، يقال في المثل: كما تدين تدان. انتهى، وقد ورد هذا في حديث مرفوع أخرجه عبد الرازق عن معمر عن أيوب عن أبي قلابة عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا وهو مرسل رجاله ثقات. ورواه عبد الرزاق بهذا الإسناد أيضا عن أبي قلابة عن أبي الدرداء موقوفا وأبو قلابة لم يدرك أبا الدرداء. وله شاهد موصول من حديث ابن عمر أخرجه ابن عدي وضعفه. قوله: "وقال مجاهد: بالدين بالحساب. مدينين محاسبين" وصله عبد بن حميد في التفسير من طريق منصور عن مجاهد في قوله تعالى: {كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ} قال: بالحساب. ومن طريق ورقاء بن عمر عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى: {فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ} غير محاسبين. والأثر الأول جاء موقوفا عن ناس من الصحابة أخرجه الحاكم من طريق السدي عن مرة الهمداني عن ابن مسعود وناس من الصحابة في قوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قال: هو يوم الحساب ويوم الجزاء وللدين معان أخرى: منها العادة والحكم والحال والخلق والطاعة والقهر والملة والشريعة والورع والسياسة، وشواهد ذلك يطول ذكرها.
4474- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ شُعْبَةَ قَالَ حَدَّثَنِي خُبَيْبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى قَالَ: " كُنْتُ أُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ فَدَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ أُجِبْهُ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي كُنْتُ أُصَلِّي فَقَالَ أَلَمْ يَقُلْ اللَّهُ {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} ثُمَّ قَالَ لِي لاَعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِيَ أَعْظَمُ السُّوَرِ فِي الْقُرْآنِ قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ الْمَسْجِدِ ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ قُلْتُ لَهُ أَلَمْ تَقُلْ

(8/156)


لاَعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِيَ أَعْظَمُ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ قَالَ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُوتِيتُه" .
[4474- أطرافه في: 4647، 4703، 5006]
قوله: "حدثني خبيب" بالمعجمة مصغر "ابن عبد الرحمن" أي ابن خبيب بن يساف الأنصاري، وحفص ابن عاصم أي ابن عمر بن الخطاب. قوله: "عن أبي سعيد بن المعلى" بين في رواية أخرى تأتي في تفسير الأنفال سماع خبيب له من حفص وحفص له من أبي سعيد، وليس لأبي سعيد هذا في البخاري سوى هذا الحديث. واختلف في اسمه فقيل: رافع، وقيل: الحارث وقواه ابن عبد البر ووهى الذي قبله. وقيل أوس وقيل بل أوس اسم أبيه والمعلى جده. ومات أبو سعيد سنة ثلاث أو أربع وسبعين من الهجرة، وأرخ ابن عبد البر وفاته سنة أربع وسبعين، وفيه نظر بينته في كتابي في الصحابة.
" تنبيهان " يتعلقان بإسناد هذا الحديث: " أحدهما " نسب الغزالي والفخر الرازي وتبعه البيضاوي هذه القصة لأبي سعيد الخدري، وهو وهم، وإنما هو أبو سعيد بن المعلى، " ثانيهما " روى الواقدي هذا الحديث عن محمد بن معاذ عن خبيب بن عبد الرحمن بهذا الإسناد فزاد في إسناده عن أبي سعيد بن المعلى عن أبي بن كعب. والذي في الصحيح أصح. والواقدي شديد الضعف إذا انفرد فكيف إذا خالف. وشيخه مجهول. وأظن الواقدي دخل عليه حديث في حديث فإن مالكا أخرج نحو الحديث المذكور من وجه آخر فيه ذكر أبي بن كعب فقال: عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبي سعيد مولى عامر "أن النبي صلى الله عليه وسلم نادى أبي بن كعب" ومن الرواة عن مالك من قال: "عن أبي سعيد عن أبي بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم ناداه" وكذلك أخرجه الحاكم، ووهم ابن الأثير حيث ظن أن أبا سعيد شيخ العلاء هو أبو سعيد بن المعلى، فإن ابن المعلى صحابي أنصاري من أنفسهم مدني، وذلك تابعي مكي من موالي قريش، وقد اختلف فيه على العلاء أخرجه الترمذي من طريق الدراوردي والنسائي من طريق روح بن القاسم وأحمد في طريق عبد الرحمن بن إبراهيم وابن خزيمة من طريق حفص بن ميسرة كلهم عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "خرج النبي صلى الله عليه وسلم على أبي بن كعب" فذكر الحديث وأخرجه الترمذي وابن خزيمة من طريق عبد الحميد بن جعفر والحاكم من طريق شعبة كلاهما عن العلاء مثله لكن قال: "عن أبي هريرة رضي الله عنه" ورجح الترمذي كونه من مسند أبي هريرة، وقد أخرجه الحاكم أيضا من طريق الأعرج عن أبي هريرة "أن النبي صلى الله عليه وسلم نادى أبي بن كعب" وهو مما يقوي ما رجحه الترمذي، وجمع البيهقي بأن القصة وقعت لأبي بن كعب ولأبي سعيد بن المعلى ويتعين المصير إلى ذلك لاختلاف مخرج الحديثين واختلاف سياقهما كما سأبينه. قوله: "كنت أصلي في المسجد فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أجبه" زاد في تفسير الأنفال من وجه آخر عن شعبة "فلم آته حتى صليت ثم أتيته" وفي رواية أبي هريرة "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي بن كعب وهو يصلي فقال: أي أبي، فألتفت فلم يجبه، ثم صلى فخفف. ثم انصرف فقال: سلام عليك يا رسول الله قال: ويحك ما منعك إذ دعوتك أن لا تجيبني" الحديث. قوله: "ألم يقل الله تعالى {اسْتَجِيبُوا} في حديث أبي هريرة " أو ليس تجد فيما أوحى الله إلي أن {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} الآية؟ فقلت: بلى يا رسول الله، لا أعود إن شاء الله" .
" تنبيه " نقل ابن التين عن الداودي أن في حديث الباب تقديما وتأخيرا، وهو قوله: "ألم يقل الله {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} قبل قول أبي سعيد" كنت في الصلاة "قال: فكأنه تأول أن من هو في الصلاة خارج عن هذا الخطاب قال: والذي تأول القاضيان عبد الوهاب وأبو الوليد أن إجابة النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة فرض يعصى المرء بتركه، وأنه

(8/157)


حكم يختص بالنبي صلى الله عليه وسلم قلت: وما ادعاه الداودي لا دليل عليه، وما جنح إليه القاضيان من المالكية هو قول الشافعية على اختلاف عندهم بعد قولهم بوجوب الإجابة هل تبطل الصلاة أم لا. قوله : "لأعلمنك سورة هي أعظم السور" في رواية روح في تفسير الأنفال " لأعلمنك أعظم سورة في القرآن " وفي حديث أبي هريرة أتحب أن أعلمك سورة لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها "قال ابن التين معناه أن ثوابها أعظم من غيرها، واستدل به على جواز تفضيل بعض القرآن على بعض وقد منع ذبك الأشعري وجماعة، لأن المفضول ناقص عن درجة الأفضل وأسماء الله وصفاته وكلامه لا نقص فيها، وأجابوا عن ذلك بأن معنى التفاضل أن ثواب بعضه أعظم من ثواب بعض، فالتفضيل إنما هو من حيث المعاني لا من حيث الصفة، ويؤيد التفضيل قوله تعالى: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} وقد روى ابن أبي حاتم من طريق علي ابن طلحة عن ابن عباس في قوله: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} أي في المنفعة والرفق والرفعة، وفي هذا تعقب على من قال: فيه تقديم وتأخير والتقدير نأت منها بخير، وهو كما قيل في قوله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} لكن قوله في آية الباب {أَوْ مِثْلِهَا} يرجح الاحتمال الأول، فهو المعتمد، والله أعلم. قوله: "ثم أخذ بيدي" زاد في حديث أبي هريرة "يحدثني وأنا أتباطأ مخافة أن يبلغ الباب قبل أن ينقضي الحديث" . قوله: "ألم تقل لأعلمنك سورة" في حديث أبي هريرة "قلت يا رسول الله ما السورة التي قد وعدتني؟ قال: كيف تقرأ في الصلاة؟ فقرأت عليه أم الكتاب" . قوله: "قال: الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني والقرآن العظيم" في رواية معاذ في تفسير الأنفال "فقال: هي الحمد لله رب العالمين، السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته" وفي حديث أبي هريرة "فقال: إنها السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته " وفي هذا تصريح بأن المراد بقوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي} هي الفاتحة. وقد روى النسائي بإسناد صحيح عن ابن عباس "أن السبع المثاني هي السبع الطوال" أي السور من أول البقرة إلى آخر الأعراف ثم براءة، وقيل يونس. وعلى الأول فالمراد بالسبع الآي لأن الفاتحة سبع آيات، وهو قول سعيد بن جبير. واختلف في تسميتها "مثاني" فقيل لأنها تثنى كل ركعة أي تعاد، وقيل لأنها يثنى بها على الله تعالى، وقيل لأنها استثنيت لهذه الأمة لم تنزل على من قبلها، قال ابن التين: فيه دليل على أن بسم الله الرحمن الرحيم ليست آية من القرآن، كذا قال، عكس غيره لأنه أراد السورة، ويؤيده أنه لو أراد { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} الآية لم يقل هي السبع المثاني لأن الآية الواحدة لا يقال لها سبع فدل على أنه لو أراد بها السورة. والحمد لله رب العالمين من أسمائها، وفيه قوة لتأويل الشافعي في حديث أنس قال: كانوا يفتتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين، قال الشافعي: أراد السورة وتعقب بأن هذه السورة تسمى سورة الحمد لله، ولا تسمى الحمد لله رب العالمين، وهذا الحديث يرد هذا التعقب، وفيه أن الأمر يقتضي الفور لأنه عاتب الصحابي على تأخير إجابته. وفيه استعمال صيغة العموم في الأحوال كلها قال الخطابي: فيه أن حكم لفظ العموم أن يجري على جميع مقتضاه، وأن الخاص والعام إذا تقابلا كان العام منزلا على الخاص، لأن الشارع حرم الكلام في الصلاة على العموم، ثم استثنى منه إجابة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة. وفيه أن إجابة المصلي دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لا تفسد الصلاة، هكذا صرح به جماعة من الشافعية وغيرهم. وفيه بحث لاحتمال أن تكون إجابته واجبة مطلقا سواء كان المخاطب مصليا أو غير مصل، أما كونه يخرج بالإجابة من الصلاة أو لا يخرج فليس من الحديث ما يستلزمه. فيحتمل أن تجب الإجابة ولو خرج

(8/158)


المجيب من الصلاة، وإلى ذلك جنح بعض الشافعية، وهل يختص هذا الحكم بالنداء أو يشمل ما هو أعم حتى تجب إجابته إذا سأل؟ فيه بحث وقد جزم ابن حبان بأن إجابة الصحابة في قصة ذي اليدين كان كذلك. قوله: "والقرآن العظيم الذي أوتيته" قال الخطابي: في قوله: "هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته" دلالة على أن الفاتحة هي القرآن العظيم، وأن الواو ليست بالعاطفة التي تفصل بين الشيئين. وإنما هي التي تجيء بمعنى التفصيل كقوله: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} وقوله: {مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} انتهى. وفيه بحث لاحتمال أن يكون قوله: "والقرآن العظيم" محذوف الخبر والتقدير ما بعد الفاتحة مثلا فيكون وصف الفاتحة انتهى بقوله: "هي السبع المثاني" ثم عطف قوله: "والقرآن العظيم" أب ما زاد على الفاتحة وذكر ذلك رعاية لنظم الآية ويكون التقدير: والقرآن العظيم هو الذي أوتيته زيادة على الفاتحة.
" تنبيه " يستنبط من تفسير السبع المثاني بالفاتحة أن الفاتحة مكية وهو قول الجمهور، خلافا لمجاهد. ووجه الدلالة أنه سبحانه أمتن على رسوله بها، وسورة الحجر مكية اتفاقا فيدل على تقديم نزول الفاتحة عليها. قال الحسين بن الفضل: هذه هفوة من مجاهد، لأن العلماء على خلاف قوله، وأغرب بعض المتأخرين فنسب القول بذنك لأبي هريرة والزهري وعطاء بن يسار، وحكى القرطبي أن بعضهم زعم أنها نزلت مرتين، وفيه دليل على أن الفاتحة سبع آيات، ونقلوا فيه الإجماع لكن جاء عن حسين بن علي الجعفي أنها ست آيات لأنه لم يعد البسملة وعن عمرو بن عبيد أنها ثمان آيات لأنه عدها وعد {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} وقيل لم يعدها وعد {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} وهذا أغرب الأقوال.

(8/159)


2- باب {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ}
4475- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ سُمَيٍّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إِذَا قَالَ الإِمَامُ {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} فَقُولُوا آمِينَ فَمَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ الْمَلاَئِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِه"
قوله: "باب {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} قال أهل العربية "لا" زائدة لتأكيد معنى النفي المفهوم من غير، لئلا يتوهم عطف الضالين على الذين أنعمت. وقيل لا بمعنى غير، ويؤيده قراءة عمر "غير المغضوب عليهم وغير الضالين" ذكرها أبو عبيد وسعيد بن منصور بإسناد صحيح، وهي للتأكيد أيضا وروى أحمد وابن حبان من حديث عدي بن حاتم "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: المغضوب عليهم اليهود، ولا الضالين النصارى" هكذا أورده مختصرا، وهو عند الترمذي في حديث طويل. وأخرجه ابن مردويه بإسناد حسن عن أبي ذر، وأخرجه أحمد من طريق عبد الله بن شقيق أنه أخبره من سمع النبي صلى الله عليه وسلم نحوه. وقال ابن أبي حاتم: لا أعلم بين المفسرين في ذلك اختلافا، قال السهيلي: وشاهد ذلك قوله تعالى في اليهود {فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ} وفي النصارى {قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً} . حديث أبي هريرة في موافقة الإمام في التأمين، وقد تقدم شرحه في صفة الصلاة، وروى أحمد وأبو داود والترمذي من حديث وائل بن حجر قال: "سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قرأ غير المغضوب عليهم ولا الضالين فقال: آمين، ومد بها صوته" وروى أبو داود وابن ماجه نحوه من حديث أبي هريرة.

(8/159)


سورة البقرة: باب قول الله {وعلم آدم الأسماء كلها}
...
2- سورة الْبَقَرَةِ 10- باب قَوْلِ اللَّهِ: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا}
4476- حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ح و قَالَ لِي خَلِيفَةُ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يَجْتَمِعُ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُونَ لَوْ اسْتَشْفَعْنَا إِلَى رَبِّنَا فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ أَنْتَ أَبُو النَّاسِ خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ وَأَسْجَدَ لَكَ مَلاَئِكَتَهُ وَعَلَّمَكَ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ فَاشْفَعْ لَنَا عِنْدَ رَبِّكَ حَتَّى يُرِيحَنَا مِنْ مَكَانِنَا هَذَا فَيَقُولُ لَسْتُ هُنَاكُمْ وَيَذْكُرُ ذَنْبَهُ فَيَسْتَحِي ائْتُوا نُوحًا فَإِنَّهُ أَوَّلُ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ فَيَأْتُونَهُ فَيَقُولُ لَسْتُ هُنَاكُمْ وَيَذْكُرُ سُؤَالَهُ رَبَّهُ مَا لَيْسَ لَهُ بِهِ عِلْمٌ فَيَسْتَحِي فَيَقُولُ ائْتُوا خَلِيلَ الرَّحْمَنِ فَيَأْتُونَهُ فَيَقُولُ لَسْتُ هُنَاكُمْ ائْتُوا مُوسَى عَبْدًا كَلَّمَهُ اللَّهُ وَأَعْطَاهُ التَّوْرَاةَ فَيَأْتُونَهُ فَيَقُولُ لَسْتُ هُنَاكُمْ وَيَذْكُرُ قَتْلَ النَّفْسِ بِغَيْرِ نَفْسٍ فَيَسْتَحِي مِنْ رَبِّهِ فَيَقُولُ ائْتُوا عِيسَى عَبْدَ اللَّهِ وَرَسُولَهُ وَكَلِمَةَ اللَّهِ وَرُوحَهُ فَيَقُولُ لَسْتُ هُنَاكُمْ ائْتُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدًا غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ فَيَأْتُونِي فَأَنْطَلِقُ حَتَّى أَسْتَأْذِنَ عَلَى رَبِّي فَيُؤْذَنَ لِي فَإِذَا رَأَيْتُ رَبِّي وَقَعْتُ سَاجِدًا فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ يُقَالُ ارْفَعْ رَأْسَكَ وَسَلْ تُعْطَهْ وَقُلْ يُسْمَعْ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأَحْمَدُهُ بِتَحْمِيدٍ يُعَلِّمُنِيهِ ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا فَأُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ ثُمَّ أَعُودُ إِلَيْهِ فَإِذَا رَأَيْتُ رَبِّي مِثْلَهُ ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا فَأُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ ثُمَّ أَعُودُ الرَّابِعَةَ فَأَقُولُ مَا بَقِيَ فِي النَّارِ إِلاَّ مَنْ حَبَسَهُ الْقُرْآنُ وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْخُلُود" قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ إِلاَّ مَنْ حَبَسَهُ الْقُرْآنُ يَعْنِي قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى خَالِدِينَ فِيهَا" .
قوله: "بسم الله الرحمن الرحيم سورة البقرة" كذا لأبي ذر وسقطت البسملة لغيره. واتفقوا على أنها مدنية وأنها أول سورة أنزلت بها. وسيأتي قول عائشة "ما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده صلى الله عليه وسلم:"ولم يدخل عليها إلا بالمدينة. قوله: "باب قول الله تعالى {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} كذا لأبي ذر وسقطت لغيره: "باب قول الله" . قوله: "حدثنا مسلم" هو ابن إبراهيم، وهشام هو الدستوائي، وساق المصنف حديث الشفاعة لقول أهل الموقف لآدم وعلمك أسماء كل شيء، واختلف في المراد بالأسماء: فقيل أسماء ذريته، وقيل أسماء الملائكة، وقيل أسماء الأجناس دون أنواعها، وقيل أسماء كل ما في الأرض، وقيل أسماء كل شيء حتى القصعة. وقد غفل المزي في "الأطراف" فنسب هذه الطريقة إلى كتاب الإيمان وليس لها فيه ذكر. وإنما هي في التفسير. وسيأتي شرح هذا الحديث مستوفى في كتاب الرقاق إن شاء الله تعالى. قوله: "قال أبو عبد الله" هو المصنف.

(8/160)


2- باب - قَالَ مُجَاهِدٌ {إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} أَصْحَابِهِمْ مِنْ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُشْرِكِينَ {مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ} اللَّهُ جَامِعُهُمْ عَلَى الْخَاشِعِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَقًّا قَالَ مُجَاهِدٌ {بِقُوَّةٍ} يَعْمَلُ بِمَا فِيهِ وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ مَرَضٌ شَكٌّ وَمَا خَلْفَهَا عِبْرَةٌ لِمَنْ بَقِيَ لاَ شِيَةَ لاَ بَيَاضَ وَقَالَ غَيْرُهُ {يَسُومُونَكُمْ} يُولُونَكُمْ الْوَلاَيَةُ مَفْتُوحَةٌ مَصْدَرُ الْوَلاَءِ وَهِيَ الرُّبُوبِيَّةُ إِذَا كُسِرَتْ الْوَاوُ فَهِيَ الإِمَارَةُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ الْحُبُوبُ الَّتِي تُؤْكَلُ كُلُّهَا {فُومٌ} وَقَالَ قَتَادَةُ {فَبَاءُوا} فَانْقَلَبُوا وَقَالَ غَيْرُهُ يَسْتَفْتِحُونَ يَسْتَنْصِرُونَ شَرَوْا بَاعُوا رَاعِنَا مِنْ الرُّعُونَةِ إِذَا أَرَادُوا أَنْ يُحَمِّقُوا إِنْسَانًا قَالُوا رَاعِنًا لاَ يَجْزِي لاَ يُغْنِي خُطُوَاتِ مِنْ الْخَطْوِ وَالْمَعْنَى آثَارَهُ ابْتَلَى اخْتَبَر"
قوله: "باب" كذا لهم بغير ترجمة. قوله: "قال مجاهد إلى آخر ما أورده عنه من التفاسير" سقط جميع ذلك للسرخسي. قوله: "إلى شياطينهم: أصحابهم من المنافقين والمشركين" وصله عبد بن حميد عن شبابة عن ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} قال: إلى أصحابهم، فذكره. ومن طريق شيبان عن قتادة قال: إلى إخوانهم من المشركين ورءوسهم وقادتهم في الشر. وروى الطبراني نحوه عن ابن مسعود، ومن طريق ابن عباس قال: كان رجال من اليهود إذا لقوا الصحابة قالوا إنا على دينكم، وإذا خلوا إلى شياطينهم - وهم أصحابهم - قالوا: إنا معكم. والنكتة في تعدية خلوا بإلى مع أن أكثر ما يتعدى بالباء أن الذي يتعدى بالباء يحتمل الانفراد والسخرية تقول: خلوت به إذا سخرت منه، والذي يتعدى بإلى نص في الانفراد، أفاد ذلك الطبري ويحتمل أن يكون ضمن "خلا" معنى ذهب. وعلى طريقة الكوفيين بأن حروف الجر تتناوب، فإلى بمعنى الباء أو بمعنى مع. قوله: "محيط بالكافرين: الله جامعهم" وصله عبد بن حميد بالإسناد المذكور عن مجاهد، ووصله الطبري من وجه آخر عنه وزاد: "في جهنم" ومن طريق ابن عباس في قوله: {مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ} قال منزل بهم النقمة. "تنبيه" قوله: {وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ} جملة مبتدأ وخبر اعترضت بين جملة {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ} وجملة "يكاد البرق يخطف أبصارهم" . قوله: {صبغة}: دين" وصله عبد بن حميد من طريق منصور عن مجاهد قال قوله صبغة الله أي دين الله، ومن طريق ابن أبي نجيح عنه قال: صبغة الله أي فطرة الله، ومن طريق قتادة قال: إن اليهود تصبغ أبناءها تهودا، وكذلك النصارى، وإن صبغة الله الإسلام، وهو دين الله الذي بعث به نوحا ومن بعده انتهى وقراءة الجمهور ضبغة بالنصب وهو مصدر انتصب عن قوله: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} على الأرجح، وقيل منصوب على الإغراء أي ألزموا، وكأن لفظ صبغة ورد بطريق المشاكلة لأن النصارى كانوا يغمسون من ولد منهم في ماء المعمودية ويزعمون أنهم يطهرونهم بذلك، فقيل للمسلمين ألزموا صبغة الله فإنها أطهر. قوله: {عَلَى الْخَاشِعِينَ} : على المؤمنين حقا" وصله عبد بن حميد عن شبابة بالسند المذكور عن مجاهد، وروى ابن أبي حاتم من طريق أبي العالية قال في قوله: {إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ} قال: يعني الخائفين، ومن طريق مقاتل بن حبان قال: يعني به المتواضعين. قوله: "بقوة يعمل بما فيه" وصله عبد بالسند المذكور، وروى ابن أبي حاتم والطبري من طريق أبي العالية قال القوة الطاعة، ومن طريق قتادة والسدي قال: القوة الجد والاجتهاد. قوله: "وقال أبو العالية: مرض شك" وصله ابن

(8/161)


أبي حاتم من طريق أبي جعفر الرازي عن أبي العالية في قوله تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} أي شك، ومن طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس مثله، ومن طريق عكرمة قال: الرياء. ومن طريق قتادة في قوله: {فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً} أي نفاقا وروى الطبري من طريق قتادة في قوله: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} قال ريبة وشك في أمر الله تعالى. قوله: "وما خلفها عبرة لمن بقي" وصله ابن أبي حاتم من طريق أبي جعفر الرازي عن أبي العالية في قوله: {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا} أي عقوبة لما خلا من ذنوبهم {مَا خَلْفَهَا} أي عبرة لمن بقي بعدهم من الناس. قوله: "لا شية فيها لا بياض فيها" تقدم في ترجمة موسى من أحاديث الأنبياء. قوله: "وقال غيره يسومونكم يولونكم" هو بضم أوله وسكون الواو والغير المذكور هو أبو عبيد القاسم بن سلام ذكره كذلك في "الغريب المصنف" وكذا قال أبو عبيدة معمر بن المثنى في "المجاز: ومنه قول عمرو بن كلثوم:
إذا ما الملك سام الناس خسفا ... أبينا أن نقر الخسف فينا
ويحتمل أن يكون السوم بمعنى الدوام أي يديمون تعذيبكم، ومنه سائمة الغنم لمداومتها الرعي. وقال الطبري معنى يسومونكم يوردونكم أو يذيقونكم أو يولونكم. قوله: "الولاية مفتوحة" أي مفتوحة الواو "مصدر الولاء وهي الربوبية وإذا كسرت الواو فهي الإمارة" هو معنى كلام أبي عبيدة، قال في قوله تعالى: {هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ} : الولاية بالفتح مصدر الولي. وبالكسر. ووليت العمل والأمر تليه. وذكر البخاري هذه الكلمة وإن كانت في الكهف لا في البقرة ليقوى تفسير يسومونكم يولونكم. قوله: "وقال بعضهم: الحبوب التي تؤكل كلها فوم" هذا حكاه الفراء في معاني القرآن عن عطاء وقتادة قال: الفوم كل حب يختبز وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما: أن الفوم الحنطة، وحكى ابن جرير أن في قراءة ابن مسعود الثوم بالمثلثة. وبه فسره سعيد بن جبير وغيره، فإن كان محفوظا فالفاء تبدل من الثاء في عدة أسماء فيكون هذا منها والله أعلم. قوله: "وقال قتادة فباءوا فانقلبوا" وصله عبد بن حميد من طريقه. قوله: "وقال غيره: {يَسْتَفْتِحُونَ} يستنصرون" هو تفسير أبي عبيدة، وروى مثله الطبري من طريق العوفي عن ابن عباس. ومن طريق، الضحاك عن ابن عباس قال: أي يستطهرون. وروى ابن إسحاق في السيرة النبوية عن عاصم بن عمر بن قتادة عن أشياخ لهم قالوا: فينا وفي اليهود نزلت، وذلك أنا كنا قد علوناهم في الجاهلية فكانوا يقولون: إن نبيا سيبعث قد أظل زمانه فنقتلكم معه، فلما بعث الله نبيه واتبعناه كفروا به. فنزلت. وأخرجه الحاكم من وجه آخر عن ابن عباس مطولا. قوله: {شَرَوْا} باعوا هو قول أبي عبيدة أيضا، قال في قوله: {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ} أي باعوا، وكذا أخرجه ابن أبي حاتم من طريق السدي. قوله: {رَاعِنَا} عن الرعونة، إذا أرادوا أن يحمقوا إنسانا قالوا راعنا" قلت هذا على قراءة من نون وهي قراءة الحسن البصري وأبي حيوة، ووجهه أنها صفة لمصدر محذوف أي لا تقولوا قولا راعنا أي قولا ذا رعونة. وروى ابن أبي حاتم من طريق عباد بن منصور عن الحسن قال: الراعن السخري من القول، نهاهم الله أن يسخروا من محمد. ويحتمل أن يضمن القول التسمية أي لا تسموا نبيكم راعنا. الراعن الأحمق والأرعن مبالغة فيه. وفي قراءة أبي بن كعب {لا تقولوا راعونا} وهي بلفظ الجمع. وكذا في مصحف ابن مسعود وفيه أيضا: "أرعونا" وقرأ الجمهور {رَاعِنَا} بغير تنوين على أنه فعل أمر من المراعاة. إنما نهوا عن ذلك لأنها كلمة تقتضي المساواة، وقد فسرها مجاهد: لا تقولوا اسمع منا ونسمع منك. وعن عطاء: كانت لغة تقولها

(8/162)


الأنصار فنهوا عنها. وعن السدي قال: كان رجل يهودي يقال له رفاعة بن زيد يأتي النبي صلى الله عليه وسلم فيقول له: ارعني سمعك واسمع غير مسمع، فكان المسلمون يحسبون أن في ذلك تفخيما للنبي صلى الله عليه وسلم فكانوا يقولون ذلك فنهوا عنه، وروى أبو نعيم في "الدلائل" بسند ضعيف جدا عن ابن عباس قال: راعنا بلسان اليهود السبب القبيح فسمع سعد بن معاذ ناسا من اليهود خاطبوا بها النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لئن سمعتها من أحد منكم لأضربن عنقه. قوله: "لا تجزي: لا تغني" هو قول أبي عبيدة في قوله تعالى: {لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً} أي لا تغني، وروى ابن أبي حاتم من طريق السدي قال: يعني لا تعني نفس مؤمنة عن نفس كافرة من المنفعة شيئا. قوله: "خطوات من الخطو والمعنى آثاره" قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} : هي الخطأ واحدتها خطوة ومعناها آثار الشيطان، وروى ابن أبي حاتم من طريق عكرمة قال: خطوات الشيطان نزغات الشيطان.
ومن طريق مجاهد خطوات الشيطان خطاه. ومن طريق القاسم بن الوليد: قلت لقتادة فقال: كل معصية الله فهي من خطوات الشيطان، وروى سعيد بن منصور عن أبي مجلز قال: خطوات الشيطان النذور في المعاصي. كذا قال. واللفظ أعم من ذلك فمن في كلامه مقدرة. قوله: "ابتلى اختبر" هو تفسير أبي عبيدة والأكثر. وقال الفراء: أمره، وثبت هذا في نسخة الصغاني

(8/163)


باب قول الله تعالى: {فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون}
...
3- باب قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلاَ تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}
4477- حَدَّثَنِي عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: "سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ قَالَ أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ قُلْتُ إِنَّ ذَلِكَ لَعَظِيمٌ قُلْتُ ثُمَّ أَيُّ قَالَ وَأَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ تَخَافُ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ قُلْتُ ثُمَّ أَيُّ قَالَ أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِك"
[الحديث 4477- أطرافه في: 4761، 6001، 6811، 6861، 7520، 7532]
قوله: "باب قوله تعالى: {فَلاَ تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} الأنداد جمع ند بكسر النون وهو النظير، وروى ابن أبي حاتم من طريق أبي العالية قال: الند العدل. ومن طريق الضحاك عن ابن عباس قال: الأنداد الأشباه وسقط لفظ: "باب" لأبي ذر. حديث ابن مسعود "أي الذنب أعظم" وسيأتي شرحه في كتاب التوحيد إن شاء الله تعالى.

(8/163)


4- باب {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمْ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} وَقَالَ مُجَاهِدٌ الْمَنُّ صَمْغَةٌ وَالسَّلْوَى الطَّيْرُ
4478- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ عَنْ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الْكَمْأَةُ مِنْ الْمَنِّ وَمَاؤُهَا شِفَاءٌ لِلْعَيْن"
[الحديث 4478- طرفاه في: 4639، 5708]

(8/163)


باب {وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها رغدا حيث شئتم...}
...
5- باب {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} رَغَدًا وَاسِعٌ كَثِيرٌ
4479- حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " قِيلَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ {ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ} فَدَخَلُوا يَزْحَفُونَ عَلَى أَسْتَاهِهِمْ فَبَدَّلُوا وَقَالُوا حِطَّةٌ حَبَّةٌ فِي شَعَرَة"
قوله: "باب {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ} الآية كذا لأبي ذر، وساق غيره الآية إلى قوله: {الْمُحْسِنِينَ} . قوله: "رغدا" واسعا كثيرا هو من تفسير أبي عبيدة قال: الرغد الكثير الذي لا يتعب يقال قد أرغد فلان إذا أصاب عيشا واسعا كثيرا. وعن الضحاك عن ابن عباس في قوله: {وَكُلا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا} قال: الرغد سعة المعيشة، أخرجه الطبري. وأخرج من طريق السدي عن رجاله قال: الرغد الهنيء، ومن طريق مجاهد قال: الرغد الذي لا حساب فيه. حديث أبي هريرة في قوله تعالى: {وَقُولُوا حِطَّةٌ} وقد تقدم ذكره في قصة موسى من أحاديث الأنبياء وأحلت بشرحه على تفسير سورة الأعراف، وسأذكره هناك إن شاء الله تعالى، وقوله في أول هذا الإسناد "حدثنا محمد" لم يقع منسوبا إلا في رواية أبي علي بن السكن عن الفربري فقال: "محمد بن سلام" ويحتمل عندي أن يكون محمد بن يحيى الذهلي، فإنه يروى عن عبد الرحمن بن مهدي

(8/164)


أيضا، وأما أبو على الجياني فقال: الأشبه أنه محمد بن بشار.

(8/165)


باب قوله {من كان عدوا لجبريل}
...
6- باب {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ}
وَقَالَ عِكْرِمَةُ جَبْرَ وَمِيكَ وَسَرَافِ عَبْدٌ إِيلْ اللَّهُ
4480- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُنِيرٍ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ بَكْرٍ حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: "سَمِعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلاَمٍ بِقُدُومِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهْوَ فِي أَرْضٍ يَخْتَرِفُ فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "إِنِّي سَائِلُكَ عَنْ ثَلاَثٍ لاَ يَعْلَمُهُنَّ إِلاَّ نَبِيٌّ فَمَا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ وَمَا أَوَّلُ طَعَامِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَمَا يَنْزِعُ الْوَلَدُ إِلَى أَبِيهِ أَوْ إِلَى أُمِّهِ قَالَ أَخْبَرَنِي بِهِنَّ جِبْرِيلُ آنِفًا قَالَ جِبْرِيلُ قَالَ نَعَمْ قَالَ ذَاكَ عَدُوُّ الْيَهُودِ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ فَقَرَأَ هَذِهِ الآيَةَ {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ} أَمَّا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ فَنَارٌ تَحْشُرُ النَّاسَ مِنْ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ وَأَمَّا أَوَّلُ طَعَامٍ يَأْكُلُهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ فَزِيَادَةُ كَبِدِ حُوتٍ، وَإِذَا سَبَقَ مَاءُ الرَّجُلِ مَاءَ الْمَرْأَةِ نَزَعَ الْوَلَدَ وَإِذَا سَبَقَ مَاءُ الْمَرْأَةِ نَزَعَتْ قَالَ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ الْيَهُودَ قَوْمٌ بُهُتٌ وَإِنَّهُمْ إِنْ يَعْلَمُوا بِإِسْلاَمِي قَبْلَ أَنْ تَسْأَلَهُمْ يَبْهَتُونِي فَجَاءَتْ الْيَهُودُ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَيُّ رَجُلٍ عَبْدُ اللَّهِ فِيكُمْ قَالُوا خَيْرُنَا وَابْنُ خَيْرِنَا وَسَيِّدُنَا وَابْنُ سَيِّدِنَا قَالَ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَسْلَمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلاَمٍ فَقَالُوا أَعَاذَهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ فَخَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ فَقَالَ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَقَالُوا شَرُّنَا وَابْنُ شَرِّنَا وَانْتَقَصُوهُ قَالَ فَهَذَا الَّذِي كُنْتُ أَخَافُ يَا رَسُولَ اللَّهِ"
قوله: "باب {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ} كذا لأبي ذر ولغيره. قوله: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ} قيل سبب عداوة اليهود لجبريل أنه أمر باستمرار النبوة فيهم فنقلها لغيرهم، وقيل لكونه يطلع على أسرارهم. قلت: وأصح منهما ما سيأتي بعد قليل لكونه الذي ينزل عليهم بالعذاب. قوله: "قال عكرمة: جبر وميك وسراف: عبد، إيل: الله" وصله الطبري في طريق عاصم عنه قال: جبريل عبد الله، وميكائيل عبد الله، إيل: الله. ومن وجه آخر عن عكرمة: جبر عبد، وميك عبد، وإيل الله. ومن طريق يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس نحو الأول وزاد: وكل اسم فيه إيل فهو الله. ومن طريق عبد الله بن الحارث البصري أحد التابعين قال. أيل الله بالعبرانية. ومن طريق علي بن الحسين قال: اسم جبريل عبد الله وميكائيل عبيد الله يعني بالتصغير وإسرافيل عبد الرحمن وكل اسم فيه إيل فهو معبد لله. وذكر عكس هذا وهو أن إيل معناه عبد وما قبله معناه اسم لله كما تقول عبد الله وعبد الرحمن وعبد الرحيم فلفظ عبد لا يتغير وما بعده يتغير لفظه وإن كان المعنى واحدا، ويؤيده أن الاسم المضاف في لغة غير العرب غالبا يتقدم فيه المضاف إليه على المضاف. وقال الطبري وغيره: في جبريل لغات، فأهل الحجاز يقولون بكسر الجيم بغير همز وعلى ذلك عامة القراء وبنو أسد مثله لكن آخره نون، وبعض أهل نجد وتميم وقيس

(8/165)


يقولون جبرئيل بفتح الجيم والراء بعدها همزة وهي قراءة حمزة والكسائي وأبي بكر وخلف واختيار أبي عبيد، وقراءة يحيى بن وثاب وعلقمة مثله لكن بزيادة ألف، وقراءة يحيى بن آدم مثله لكن بغير ياء، وذكر عن الحسن وابن كثير أنهما قرآ كالأول لكن بفتح الجيم، وهذا الوزن ليس في كلام العرب فزعم بعضهم أنه اسم أعجمي وعن يحيى بن يعمر جبرئيل بفتح الجيم والراء بعدها همزة مكسورة وتشديد اللام. ثم ذكر حديث أنس في قصة عبد الله بن سلام وقد تقدمت قبيل كتاب المغازي، وتقدم معظم شرحها هناك. وقوله ذاك عدو اليهود في الملائكة فقرأ هذه الآية {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ} ظاهر السياق أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي قرأ الآية ردا لقول اليهود. ولا يستلزم ذلك نزولها حينئذ وهذا هو المعتمد، فقد روى أحمد والترمذي والنسائي في سبب نزول الآية قصة غير قصة عبد الله بن سلام، فأخرجوا من طريق بكير بن شهاب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس "أقبلت يهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا القاسم. إنا نسألك عن خمسة أشياء. فإن أنبأتنا بها عرفنا أنك نبي واتبعناك - فذكر الحديث وفيه - أنهم سألوه عما حرم إسرائيل على نفسه، وعن علامة النبوة، وعن الرعد وصوته وكيف تذكر المرأة وتؤنث، وعمن يأتيه بالخبر من السماء فأخذ عليهم ما أخذ إسرائيل على بنيه" وفي رواية لأحمد والطبري من طريق شهر بن حوشب عن ابن عباس "عليكم عهد الله لئن أنا أنبأتكم لتبايعني؟ فأعطوه ما شاء من عهد وميثاق" فذكر الحديث لكن ليس فيه السؤال عن الرعد. وفي رواية شهر بن حوشب " لما سألوه عمن يأتيه من الملائكة قال: جبريل، قال: ولم يبعث الله نبيا قط إلا وهو وليه. فقالوا: فعندها نفارقك، لو كان وليك سواه من الملائكة لبايعناك وصدقناك. قال فما منعكم أن تصدقوه؟ قالوا: إنه عدونا، فنزلت" وفي رواية بكير بن شهاب" قالوا جبريل ينزل بالحرب والقتل والعذاب، لو كان ميكائيل الذي ينزل بالرحمة والنبات والقطر" فنزلت وروى الطبري من طريق الشعبي "أن عمر كان يأتي اليهود فيسمع من التوراة فيتعجب كيف تصدق ما في القرآن، قال فمر بهم النبي صلى الله عليه وسلم فقلت نشدتكم بالله أتعلمون أنه رسول الله؟ فقال له عالمهم: نعم نعلم أنه رسول الله. قال: فلم لا تتبعونه؟ قالوا: إن لنا عدوا من الملائكة وسلما، وإنه قرن بنبوته من الملائكة عدونا" فذكر الحديث وأنه لحق النبي صلى الله عليه وسلم فتلا عليه الآية. وأورده. من طريق قتادة عن عمر نحوه. وأورد ابن أبي حاتم والطبري أيضا من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى "أن يهوديا لقي عمر فقال: إن جبريل الذي يذكره صاحبكم عدو لنا. فقال عمر: من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين. فنزلت على وفق ما قال:"وهذه طرق يقوى بعضها بعضا، ويدل على أن سبب نزول الآية قول اليهودي المذكور لا قصة عبد الله ابن سلام، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لما قال له عبد الله بن سلام: إن جبريل عدو اليهود، تلا عليه الآية مذكرا له سبب نزولها والله أعلم. وحكى الثعلبي من ابن عباس أن سبب عداوة اليهود لجبريل أن نبيهم أخبرهم أن بختنصر سيخرب بيت المقدس، فبعثوا رجلا ليقتله فوجده شابا ضعيفا فمنعه جبريل من قتله وقال له: إن كان الله أراد هلاككم على يده فلن تسلط عليه. وإن كان غيره فعلى أي حق تقتله؟ فتركه، فكبر بختنصر وغزا بيت المقدس فقتلهم وخربه، فصاروا يكرهون جبريل لذلك، وذكر أن الذي خاطب النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك هو عبد الله بن صوريا. وقوله: "أما أول أشراط الساعة فنار " يأتي شرح ذلك في أواخر كتاب الرقاق إن شاء الله تعالى. وقوله: "أما أول أشراط الساعة فنار " يأتي شرح ذلك في أواخر كتاب الرقاق إن شاء الله تعالى.

(8/166)


7- باب قَوْلِهِ: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِأهَا}
4481- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ حَبِيبٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَقْرَؤُنَا أُبَيٌّ وَأَقْضَانَا عَلِيٌّ وَإِنَّا لَنَدَعُ مِنْ قَوْلِ أُبَيٍّ وَذَاكَ أَنَّ أُبَيًّا يَقُولُ لاَ أَدَعُ شَيْئًا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِأهَا} " .
[الحديث 4481- طرفه في: 5005]
قوله: "باب قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} كذا لأبي ذر ننسها بضم أوله كسر السين بغير همز، ولغيره: "ننسأها" والأول قراءة الأكثر واختارها أبو عبيدة وعليه أكثر المفسرين، والثانية قراءة ابن كثير وأبي عمرو وطائفة، وسأذكر توجيههما، وفيها قراءات أخرى في الشواذ. قوله: "حدثنا يحيى" هو القطان، وسفيان هو الثوري. قوله: "عن حبيب" هو ابن أبي ثابت، وورد منسوبا في رواية صدقة ابن الفضل عن يحيى القطان في فضائل القرآن. وفي رواية الإسماعيلي من طريق ابن خلاد "عن يحيى بن سعيد عن سفيان حدثنا حبيب" . قوله: "قال عمر أقرؤنا أبي وأقضانا علي" كذا أخرجه موقوفا، وقد أخرجه الترمذي وغيره من طريق أبي قلابة عن أنس مرفوعا في ذكر أبي وفيه ذكر جماعة وأوله "أرحم أمتي بأمتي أبو بكر - وفيه - وأقرؤهم لكتاب الله أبي بن كعب" الحديث وصححه، لكن قال غيره: إن الصواب إرساله، وأما قوله: "وأقضانا علي" فورد في حديث مرفوع أيضا عن أنس رفعه: "أقضي أمتي على بن أبي طالب" أخرجه البغوي، وعن عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا "أرحم أمتي بأمتي أبو بكر وأقضاهم علي" الحديث ورويناه موصولا في "فوائد أبي بكر محمد بن العباس بن نجيح" من حديث أبي سعيد الخدري مثله، وروى البزار من حديث ابن مسعود قال: "كنا نتحدث أن أقضي أهل المدينة على بن أبي طالب رضي الله عنه. قوله: "وإنا لندع من قول أبي" في رواية صدقة "من لحن أبي" واللحن اللغة. وفي رواية ابن خلاد "وإنا لنترك كثيرا من قراءة أبي" . قوله: "سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم" في رواية صدقة "أخذته من في رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أتركه لشيء" لأنه بسماعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم يحصل له العلم القطعي به، فإذا أخبره غيره عنه بخلافه لم ينتهض معارضا له حتى يتصل إلى درجة العلم القطعي، وقد لا يحصل ذلك غالبا. "تنبيه" هذا الإسناد فيه ثلاثة من الصحابة في نسق: ابن عباس عن عمر عن أبي بن كعب. قوله: "وقد قال الله تعالى إلخ" هو مقول عمر محتجا به على أبي بن كعب ومشيرا إلى أنه ربما قرأ ما نسخت تلاوته لكونه لم يبلغه النسخ، واحتج عمر لجواز وقوع ذلك بهذه الآية. وقد أخرج ابن أبي حاتم من وجه آخر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: "خطبنا عمر فقال: إن الله يقول: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِأهَا} أي نؤخرها" وهذا يرجح رواية من قرأ بفتح أوله وبالهمز، وأما قراءة من قرأ بضم أوله فمن النسيان، وكذلك كان سعيد بن المسيب يقرؤها فأنكر عليه سعد بن أبي وقاص أخرجه النسائي وصححه الحاكم، وكانت قراءة سعد "أو ننساها" بفتح المثناة خطابا للنبي صلى الله عليه وسلم واستدل بقوله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى} وروى ابن أبي حاتم من طريق عكرمة عن ابن عباس قال: "ربما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم الوحي بالليل ونسيه بالنهار فنزلت واستدل بالآية المذكورة على وقوع النسخ خلافا لمن شذ فمنعه، وتعقب بأنها قضية شرطية لا تستلزم الوقوع، وأجيب بأن السياق وسبب

(8/167)


النزول كان في ذلك لأنها نزلت جوابا لمن أنكر ذلك.

(8/168)


8- باب {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ}
4482- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ حَدَّثَنَا نَافِعُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "قَالَ اللَّهُ كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ وَشَتَمَنِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ فَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَزَعَمَ أَنِّي لاَ أَقْدِرُ أَنْ أُعِيدَهُ كَمَا كَانَ وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ لِي وَلَدٌ فَسُبْحَانِي أَنْ أَتَّخِذَ صَاحِبَةً أَوْ وَلَدًا"
قوله: "باب وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه" كذا للجميع وهي قراءة الجمهور، وقرأ ابن عامر "قالوا" بحذف الواو، واتفقوا على أن الآية نزلت فيمن زعم أن لله ولدا من يهود خيبر ونصارى نجران ومن قال من مشركي العرب الملائكة بنات الله فرد الله تعالى عليهم. قوله: "قال الله تعالى" هذا من الأحاديث القدسية. قوله: " وأما شتمه إياي فقوله لي ولد" إنما سماه شتما لما فيه من التنقيص لأن الولد إنما يكون عن والدة تحمله ثم تضعه ويستلزم ذلك سبق النكاح، والنكاح يستدعى باعثا له على ذلك. والله سبحانه منزه عن جميع ذلك، ويأتي شرحه في تفسير سورة الإخلاص.

(8/168)


9- باب قوله: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} {مَثَابَةً} يَثُوبُونَ: يَرْجِعُونَ
4483- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ قَالَ: "عُمَرُ وَافَقْتُ اللَّهَ فِي ثَلاَثٍ أَوْ وَافَقَنِي رَبِّي فِي ثَلاَثٍ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ اتَّخَذْتَ مَقَامَ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ يَدْخُلُ عَلَيْكَ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ فَلَوْ أَمَرْتَ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْحِجَابِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ الْحِجَابِ قَالَ وَبَلَغَنِي مُعَاتَبَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْضَ نِسَائِهِ فَدَخَلْتُ عَلَيْهِنَّ قُلْتُ إِنْ انْتَهَيْتُنَّ أَوْ لَيُبَدِّلَنَّ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرًا مِنْكُنَّ حَتَّى أَتَيْتُ إِحْدَى نِسَائِهِ قَالَتْ يَا عُمَرُ أَمَا فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَعِظُ نِسَاءَهُ حَتَّى تَعِظَهُنَّ أَنْتَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبَدِّلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ} الآيَة"
وَقَالَ ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ حَدَّثَنِي حُمَيْدٌ سَمِعْتُ أَنَسًا عَنْ عُمَر"
قوله: "باب {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} كذا لهم، والجمهور على كسر الخاء من قوله: "واتخذوا" بصيغة الأمر، وقرأ نافع وابن عامر بفتح الخاء بصيغة الخبر، والمراد في اتبع إبراهيم. وهو معطوف على قوله: "جعلنا" فالكلام جملة واحدة، وقيل على "وإذ جعلنا" فيحتاج إلى تقدير "إذ" ويكون الكلام جملتين، وقيل على محذوف تقديره فثابوا أي رجعوا واتخذوا، وتوجيه قراءة الجمهور أنه معطوف على ما تضمنه قوله: "مثابة" كأنه قال ثوبوا واتخذوا، أو معمول لمحذوف أي وقلنا اتخذوا، ويحتمل أن يكون الواو للاستئناف. قوله: {مَثَابَةً}

(8/168)


10- باب قوله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} الْقَوَاعِدُ أَسَاسُهُ وَاحِدَتُهَا قَاعِدَةٌ وَالْقَوَاعِدُ مِنْ النِّسَاءِ وَاحِدُهَا قَاعِدٌ

(8/169)


4484- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ أَخْبَرَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " أَلَمْ تَرَيْ أَنْ قَوْمَكِ بَنَوْا الْكَعْبَةَ وَاقْتَصَرُوا عَنْ قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلاَ تَرُدُّهَا عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ قَالَ لَوْلاَ حِدْثَانُ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ" فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ لَئِنْ كَانَتْ عَائِشَةُ سَمِعَتْ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أُرَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرَكَ اسْتِلاَمَ الرُّكْنَيْنِ اللَّذَيْنِ يَلِيَانِ الْحِجْرَ إِلاَّ أَنَّ الْبَيْتَ لَمْ يُتَمَّمْ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيم"
قوله: "باب {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ} ساق إلى - العليم. قوله: "القواعد أساسه. واحدتها قاعدة" قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ} قال: قواعده أساسه. وقال الفراء: يقال القواعد أساس البيت. قال الطبري: اختلفوا في القواعد التي رفعها إبراهيم وإسماعيل أهما أحدثاها أم كانت قبلهما ثم روى بسند صحيح عن ابن عباس قال: "كانت قواعد البيت قبل ذلك" ومن طريق عطاء قال: قال آدم أي رب لا أسمع أصوات الملائكة، قال: ابن لي بيتا ثم أحفف به كما رأيت الملائكة تحف ببيتي الذي في السماء. فيزعم الناس أنه بناه من خمسة أجبل حتى بناه إبراهيم بعد، وقد تقدم بزيادة فيه في قصة إبراهيم عليه السلام من أحاديث الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. قوله: "والقواعد من النساء واحدتها قاعد" أراد الإشارة إلى أن لفظ الجمع مشترك، وتظهر التفرقة بالواحد، فجمع النساء اللواتي قعدن عن الحيض والاستمتاع قاعد بلا هاء ولولا تخصيصهن بذلك لثبت الهاء نحو قاعدة من القعود المعروف. ثم ذكر المصنف حديث عائشة في بناء قريش البيت، وقد سبق بسطه في كتاب الحج. حديث عائشة في بناء قريش البيت، وقد سبق بسطه في كتاب الحج.

(8/170)


باب {قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا}
...
11- باب قوله تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا}
4485- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ بِالْعِبْرَانِيَّةِ وَيُفَسِّرُونَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ لأَهْلِ الإِسْلاَمِ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لاَ تُصَدِّقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَلاَ تُكَذِّبُوهُمْ وَقُولُوا {آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} الْآيَةَ
[الحديث 4485- طرفاه في: 7262، 7542]
قوله: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ} "سقط لفظ: "باب" لغير أبي ذر. قوله: "كان أهل الكتاب" أي اليهود. قوله: "لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم" أي إذا كان ما يخبرونكم به محتملا لئلا يكون في نفس الأمر صدقا فتكذبوه. أو كذبا فتصدقوه فتقعوا في الحرج. ولم يرد النهي عن تكذيبهم فيما ورد بخلافه. ولا عن تصديقهم فيما ورد شرعنا بوفائه. نبه على ذلك الشافعي رحمه الله ويؤخذ من هذا الحديث التوقف عن الخوض في المشكلات والجزم فيها بما يقع في الظن، وعلى هذا يحمل ما جاء عن السلف من ذلك. قوله: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} الآية" زاد في الاعتصام { وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} وزاد الإسماعيلي عن الحسن بن سفيان عن محمد بن المثنى

(8/170)


عن عثمان بن عمر بهذا الإسناد "وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون".

(8/171)


باب {سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها}
...
12- باب قَوْلِهِ تَعَالَى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنْ النَّاسِ مَا وَلاَهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة 142]
4486- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ سَمِعَ زُهَيْرًا عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْبَرَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا وَكَانَ يُعْجِبُهُ أَنْ تَكُونَ قِبْلَتُهُ قِبَلَ الْبَيْتِ وَأَنَّهُ صَلَّى أَوْ صَلاَهَا صَلاَةَ الْعَصْرِ وَصَلَّى مَعَهُ قَوْمٌ فَخَرَجَ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ صَلَّى مَعَهُ فَمَرَّ عَلَى أَهْلِ الْمَسْجِدِ وَهُمْ رَاكِعُونَ قَالَ أَشْهَدُ بِاللَّهِ لَقَدْ صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِبَلَ مَكَّةَ فَدَارُوا كَمَا هُمْ قِبَلَ الْبَيْتِ وَكَانَ الَّذِي مَاتَ عَلَى الْقِبْلَةِ قَبْلَ أَنْ تُحَوَّلَ قِبَلَ الْبَيْتِ رِجَالٌ قُتِلُوا لَمْ نَدْرِ مَا نَقُولُ فِيهِمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيم} "
قوله: "باب قوله تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ} الآية كذا لأبي ذر، وساق غيره إلى قوله: " {مُسْتَقِيمٍ} والسفهاء جمع سفيه وهو خفيف العقل، وأصله من قولهم ثوب سفيه أي خفيف النسج، واختلف في المراد بالسفهاء فقال البراء في حديث الباب وابن عباس ومجاهد: هم اليهود. وأخرج ذلك الطبري عنهم بأسانيد صحيحة، وروي من طريق السدي قال: هم المنافقون، والمراد بالسفهاء الكفار وأهل النفاق واليهود، أما الكفار فقالوا لما حولت القبلة: رجع محمد إلى قبلتنا وسيرجع إلى ديننا فإنه علم أنا على الحق، وأما أهل النفاق فقالوا، إن كان أولا على الحق فالذي انتقل إليه باطل وكذلك بالعكس، وأما اليهود فقالوا: خالف قبلة الأنبياء ولو كان نبيا لما خالف، فلما كثرت أقاويل هؤلاء السفهاء أنزلت هذه الآيات من قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} إلى قوله تعالى:َ {فلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي} الآية. قوله: "ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا" تقدم الكلام عليه وعلى شرح الحديث في كتاب الإيمان.

(8/171)


باب {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا}
...
13- باب قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}
4487- حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ رَاشِدٍ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ وَأَبُو أُسَامَةَ وَاللَّفْظُ لِجَرِيرٍ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ وَقَالَ أَبُو أُسَامَةَ حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يُدْعَى نُوحٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ يَا رَبِّ فَيَقُولُ هَلْ بَلَّغْتَ فَيَقُولُ نَعَمْ فَيُقَالُ لِأُمَّتِهِ هَلْ بَلَّغَكُمْ فَيَقُولُونَ مَا أَتَانَا مِنْ نَذِيرٍ فَيَقُولُ مَنْ يَشْهَدُ لَكَ فَيَقُولُ مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ فَتَشْهَدُونَ أَنَّهُ قَدْ بَلَّغَ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا

(8/171)


باب {وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه ...}
...
14- باب قَوْلِهِ: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [143 البقرة]
4488- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ سُفْيَانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "بَيْنَا النَّاسُ يُصَلُّونَ الصُّبْحَ فِي مَسْجِدِ قُبَاءٍ إِذْ جَاءَ جَاءٍ فَقَالَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُرْآنًا أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةَ فَاسْتَقْبِلُوهَا فَتَوَجَّهُوا إِلَى الْكَعْبَة"
قوله: "باب قول الله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ} الآية" كذا لأبي ذر، وساق غيره إلى قوله: {رَءُوفٌ رَحِيمٌ} حديث ابن عمر في تحويل القبلة، أورده مختصرا، وقد تقدم شرحه في أوائل الصلاة مستوفى.

(8/173)


15- باب: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ- إِلَى- عَمَّا تَعْمَلُونَ }
4489- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "لَمْ يَبْقَ مِمَّنْ صَلَّى الْقِبْلَتَيْنِ غَيْرِي"
قوله: "باب قوله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} الآية" وفي رواية كريمة إلى {عَمَّا تَعْمَلُونَ} .
قوله: "عن أنس" صرح في رواية الإسماعيلي وأبي نعيم بسماع سليمان له من أنس. قوله: "لم يبق ممن صلى القبلتين غيري" يعني الصلاة إلى بيت المقدس وإلى الكعبة، وفي هذا إشارة إلى أن أنسا آخر من مات ممن صلى إلى القبلتين، والظاهر أن أنسا قال ذلك وبعض الصحابة ممن تأخر إسلامه موجود، ثم تأخر أنس إلى أن كان آخر من مات بالبصرة في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله علي بن المديني والبزار وغيرهما. بل قال ابن عبد البر: هو آخر الصحابة موتا مطلقا، لم يبق بعده غيره أبي الطفيل، كذا قال وقيه نظر، فقد ثبت لجماعة ممن سكن البوادي من الصحابة تأخرهم عن أنس وكانت وفاة أنس سنة تسعين أو إحدى أو ثلاث وهو أصح ما قيل، وله مائة وثلاث سنين على الأصح أيضا، وقيل أكثر من ذلك، وقيل أقل. وقوله تعالى: { فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} هي الكعبة وروى الحاكم من حديث ابن عمر في قوله: {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} قال: نحو ميزاب الكعبة، وإنما قال ذلك لأن تلك الجهة قبلة أهل المدينة.

(8/173)


16- باب - {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ - إِلَى قَوْلِهِ- إِنَّكَ إِذًا لَمِنْ الظَّالِمِينَ}
4490- حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "بَيْنَمَا النَّاسُ فِي الصُّبْحِ بِقُبَاءٍ جَاءَهُمْ رَجُلٌ فَقَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ اللَّيْلَةَ قُرْآنٌ وَأُمِرَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةَ أَلاَ فَاسْتَقْبِلُوهَا وَكَانَ وَجْهُ النَّاسِ إِلَى الشَّأْمِ فَاسْتَدَارُوا بِوُجُوهِهِمْ إِلَى الْكَعْبَة"
قوله: "باب {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ} الآية" كذا لأبي ذر، ولغيره إلى "لمن الظالمين" ذكر فيه حديث ابن عمر المشار إليه قبل باب من وجه آخر.

(8/174)


17- باب- {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ- إِلَى قَوْلِهِ- فَلاَ تَكُونَنَّ مِنْ الْمُمْتَرِينَ}
4491- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ قَزَعَةَ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: "بَيْنَا النَّاسُ بِقُبَاءٍ فِي صَلاَةِ الصُّبْحِ إِذْ جَاءَهُمْ آتٍ فَقَالَ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ اللَّيْلَةَ قُرْآنٌ وَقَدْ أُمِرَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةَ فَاسْتَقْبِلُوهَا وَكَانَتْ وُجُوهُهُمْ إِلَى الشَّأْمِ فَاسْتَدَارُوا إِلَى الْكَعْبَة"
قوله: باب {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} كذا لأبي ذر ولغيره: "إلى آخر الآية" وساق فيه حديث ابن عمر المذكور من وجه آخر.

(8/174)


18- باب - {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَمَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمْ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
4492- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ سُفْيَانَ حَدَّثَنِي أَبُو إِسْحَاقَ قَالَ سَمِعْتُ الْبَرَاءَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "صَلَّيْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا ثُمَّ صَرَفَهُ نَحْوَ الْقِبْلَة"
قوله: "باب {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} الآية كذا لأبي ذر، ولغيره:"إلى {كُلِّ شَيْءٍ قَدِير} . قوله: "صلينا مع النبي صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهرا ثم صرفه نحو القبلة" في رواية الكشميهني: "ثم صرفوا" وهذا طرف من حديث البراء المشار إليه قريبا.

(8/174)


19- باب- {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} شَطْرُهُ تِلْقَاؤُهُ

(8/174)


20- باب- {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ -إِلَى قَوْلِهِ- وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}
4494- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ "بَيْنَمَا النَّاسُ فِي صَلاَةِ الصُّبْحِ بِقُبَاءٍ إِذْ جَاءَهُمْ آتٍ فَقَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ اللَّيْلَةَ وَقَدْ أُمِرَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةَ فَاسْتَقْبِلُوهَا وَكَانَتْ وُجُوهُهُمْ إِلَى الشَّأْمِ فَاسْتَدَارُوا إِلَى الْقِبْلَة"
قوله: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} الآية" كذا لأبي ذر ولغيره إلى {عَمَّا تَعْمَلُونَ} . قوله: "شطره تلقاؤه" قال الفراء في قوله تعالى: {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} يريد نحوه، قال: وفي بعض القراءات "تلقاءه" وروى الطبري من طريق أبي العالية قال: {شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} تلقاءه "ومن طريق قتادة نحوه. ثم ذكر حديث ابن عمر من طريق أخرى.

(8/175)


باب قوله {إن الصفا والمروة من شعائر الله...}
...
21- باب- قَوْلِه:ِ {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ}
شَعَائِرُ عَلاَمَاتٌ وَاحِدَتُهَا شَعِيرَةٌ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
الصَّفْوَانُ الْحَجَرُ وَيُقَالُ الْحِجَارَةُ الْمُلْسُ الَّتِي لاَ تُنْبِتُ شَيْئًا وَالْوَاحِدَةُ صَفْوَانَةٌ بِمَعْنَى الصَّفَا وَالصَّفَا لِلْجَمِيعِ.
4495- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ: "قُلْتُ لِعَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا يَوْمَئِذٍ حَدِيثُ السِّنِّ أَرَأَيْتِ قَوْلَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} فَمَا أُرَى عَلَى أَحَدٍ شَيْئًا أَنْ لاَ يَطَّوَّفَ بِهِمَا فَقَالَتْ عَائِشَةُ كَلاَ لَوْ كَانَتْ كَمَا تَقُولُ كَانَتْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ لاَ يَطَّوَّفَ بِهِمَا إِنَّمَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الأَنْصَارِ كَانُوا يُهِلُّونَ لِمَنَاةَ وَكَانَتْ مَنَاةُ حَذْوَ قُدَيْدٍ وَكَانُوا يَتَحَرَّجُونَ أَنْ يَطُوفُوا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَلَمَّا جَاءَ الإِسْلاَمُ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} "

(8/175)


22- باب: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا} أضدادا، واحدها ند
4497- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ شَقِيقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "كَلِمَةً وَقُلْتُ أُخْرَى قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ مَاتَ وَهْوَ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ نِدًّا دَخَلَ النَّارَ وَقُلْتُ أَنَا: مَنْ مَاتَ وَهْوَ لاَ يَدْعُو لِلَّهِ نِدًّا دَخَلَ الْجَنَّة"
قوله: "باب قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} يعني أضدادا واحدها ند" قد تقدم تفسير الأنداد في أوائل هذه السورة، وتفسير الأنداد بالأضداد لأبي عبيدة وهو تفسير باللازم، وذكر هنا أيضا حديث ابن مسعود "من مات وهو يجعل لله ندا" وقد مضى شرحه في أوائل كتاب الجنائز، ويأتي الإلمام بشيء منه الأيمان والنذور. حديث ابن مسعود "من مات وهو يجعل لله ندا" قد مضى شرحه في أوائل كتاب الجنائز، ويأتي الإلمام بشيء منه الأيمان والنذور.

(8/176)


23- باب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ} إِلَى قَوْلِهِ {عَذَابٌ أَلِيمٌ} عُفِيَ تُرِكَ
4498- حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ سَمِعْتُ مُجَاهِدًا قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ "كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ الْقِصَاصُ وَلَمْ تَكُنْ فِيهِمْ الدِّيَةُ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِهَذِهِ الأُمَّةِ: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} فَالْعَفْوُ أَنْ يَقْبَلَ الدِّيَةَ فِي الْعَمْدِ {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} يَتَّبِعُ بِالْمَعْرُوفِ وَيُؤَدِّي بِإِحْسَانٍ { ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ

(8/176)


24- باب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}
4501- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ أَخْبَرَنِي نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ "كَانَ عَاشُورَاءُ يَصُومُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ فَلَمَّا نَزَلَ رَمَضَانُ قَالَ مَنْ شَاءَ صَامَهُ وَمَنْ شَاءَ لَمْ يَصُمْه" .
4502- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَانَ عَاشُورَاءُ يُصَامُ قَبْلَ رَمَضَانَ فَلَمَّا نَزَلَ رَمَضَانُ قَالَ مَنْ شَاءَ صَامَ وَمَنْ شَاءَ أَفْطَر"

(8/177)


4503- حَدَّثَنِي مَحْمُودٌ أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: "دَخَلَ عَلَيْهِ الأَشْعَثُ وَهْوَ يَطْعَمُ فَقَالَ الْيَوْمُ عَاشُورَاءُ فَقَالَ كَانَ يُصَامُ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ رَمَضَانُ فَلَمَّا نَزَلَ رَمَضَانُ تُرِكَ فَادْنُ فَكُل"
4504- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا هِشَامٌ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "كَانَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ تَصُومُهُ قُرَيْشٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُهُ فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ صَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ فَلَمَّا نَزَلَ رَمَضَانُ كَانَ رَمَضَانُ الْفَرِيضَةَ وَتُرِكَ عَاشُورَاءُ فَكَانَ مَنْ شَاءَ صَامَهُ وَمَنْ شَاءَ لَمْ يَصُمْه"
قوله: "باب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} أما قوله:"كتب" فمعناه فرض، والمراد بالمكتوب فيه اللوح المحفوظ، وأما قوله: "كما" فاختلف في التشبيه الذي دلت عليه الكاف هل هو على الحقيقة فيكون صيام رمضان قد كتب على الذين من قبلنا؟ أو المراد مطلق الصيام دون وقته وقدره؟ فيه قولان. وورد في أول حديث مرفوع عن عمر أورده ابن أبي حاتم بإسناد فيه مجهول ولفظه: "صيام رمضان كتبه الله على الأمم قبلكم" وبهذا قال الحسن البصري والسدي وله شاهد آخر أخرجه الترمذي في طريق معقل النسابة وهو من المخضرمين ولم يثبت له صحبة، ونحوه عن الشعبي وقتادة. والقول الثاني أن التشبيه واقع على نفس الصوم وهو قول الجمهور، وأسنده ابن أبي حاتم والطبري عن معاذ وابن مسعود وغيرهما في الصحابة والتابعين، وزاد الضحاك "ولم يزل الصوم مشروعا من زمن نوح" وفي قوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} إشارة إلى أن من قبلنا كان فرض الصوم عليهم من قبيل الآصار والأثقال التي كلفوا بها، وأما هذه الأمة فتكليفها بالصوم ليكون سببا لاتقاء المعاصي وحائلا بينهم وبينها، فعلى هذا المفعول المحذوف يقدر بالمعاصي أو بالمنهيات. ثم ذكر المصنف في الباب ثلاثة أحاديث: حديث ابن عمر تقدم في كتاب الصيام من وجه آخر مع شرحه حديث عائشة أورده من وجهين عن عروة عنها وقد تقدم شرحه كذلك قوله: "حدثني محمود" هو ابن غيلان وثبت كذلك في رواية كذا قال أبو علي الجياني، وقد وقع في نسخة الأصيلي عن أبي أحمد الجرجاني "حدثنا محمد" بدل "محمود" وقد ذكر الكلاباذي أن البخاري روى عن محمود ابن غيلان وعن محمد وهو ابن يحيى الذهلي عن عبيد الله بن موسى، قال أبو علي الجياني: لكن هنا الاعتماد على ما قال الجماعة عن محمود بن غيلان المروزي. قوله: "عن عبد الله" هو ابن مسعود. قوله: "قال: دخل عليه الأشعث وهو يطعم" أي يأكل وفي رواية مسلم من وجه آخر عن إسرائيل بسنده المذكور إلى علقمة قال: "دخل الأشعث بن قيس على ابن مسعود وهو يأكل" وهو ظاهر في أن علقمة حضر القصة، ويحتمل أن يكون لم يحضرها وحملها عن ابن مسعود كما دل عليه سياق رواية الباب. ولمسلم أيضا من طريق عبد الرحمن بن يزيد قال: "دخل الأشعث بن قيس على عبد الله وهو يتغذى". قوله: "فقال: اليوم عاشوراء" كذا وقع مختصرا، وتمامه في رواية مسلم بلفظ: "فقال - أي الأشعث - يا أبا عبد الرحمن" وهي كنية ابن مسعود وأوضح في ذلك رواية عبد الرحمن بن يزيد المذكورة "فقال - أي ابن مسعود - يا أبا محمد" وهي كنية الأشعث "أدن إلى الغداء فقال: أو ليس اليوم يوم عاشوراء" . قوله: "كان يصام

(8/178)


قبل أن ينزل رمضان" في رواية عبد الرحمن بن يزيد "إنما هو يوم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه قبل أن ينزل شهر رمضان. قوله: "فلما نزل رمضان ترك" زاد مسلم في روايته فإن كنت مفطرا فأطعم، للنسائي من طريق عبد الرحمن بن يزيد عند عبد الله "كنا نصوم عاشوراء، فلما نزل رمضان لم نؤمر به ولم ننه عنه، وكنا نفعله" ولمسلم من حديث جابر بن سمرة نحو هذه الرواية واستدل بهذا الحديث على أن صيام عاشوراء كان مفترضا قبل أن ينزل فرض رمضان ثم نسخ، وقد تقدم القول فيه مبسوطا في أواخر كتاب الصيام، وإيراد هذا الحديث في هذه الترجمة يشعر بأن المصنف كان يميل إلى ترجيح القول الثاني، ووجهه أن رمضان لو كان مشروعا قبلنا لصامه النبي صلى الله عليه وسلم ولم يصم عاشوراء أولا، والظاهر أن صيامه عاشوراء ما كان إلا عن توقيف ولا يضرنا في هذه المسألة اختلافهم هل كان صومه فرضا أو نفلا.

(8/179)


25- باب {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}
وَقَالَ عَطَاءٌ يُفْطِرُ مِنْ الْمَرَضِ كُلِّهِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَ الْحَسَنُ وَإِبْرَاهِيمُ فِي الْمُرْضِعِ أَوْ الْحَامِلِ إِذَا خَافَتَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا أَوْ وَلَدِهِمَا تُفْطِرَانِ ثُمَّ تَقْضِيَانِ وَأَمَّا الشَّيْخُ الْكَبِيرُ إِذَا لَمْ يُطِقْ الصِّيَامَ فَقَدْ أَطْعَمَ أَنَسٌ بَعْدَ مَا كَبِرَ عَامًا أَوْ عَامَيْنِ كُلَّ يَوْمٍ مِسْكِينًا خُبْزًا وَلَحْمًا وَأَفْطَرَ قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ يُطِيقُونَهُ وَهْوَ أَكْثَر.
4505- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا رَوْحٌ حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ بْنُ إِسْحَاقَ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنْ عَطَاءٍ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقْرَأُ وَعَلَى الَّذِينَ يُطَوَّقُونَهُ فَلاَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ هُوَ الشَّيْخُ الْكَبِيرُ وَالْمَرْأَةُ الْكَبِيرَةُ لاَ يَسْتَطِيعَانِ أَنْ يَصُومَا فَيُطْعِمَانِ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا"
قوله: "باب قوله تعالى: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ} إلى قوله: { إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ساق الآية كلها، وانتصب "أياما" بفعل مقدر يدل عليه سياق الكلام كصوموا أو صاموا، وللزمخشري في إعرابه كلام متعقب ليس هذا موضعه. قوله: "وقال عطاء: يفطر من المرض كله كما قال الله تعالى" وصله عبد الرزاق عن ابن جريح قال: قلت لعطاء من أي وجع أفطر في رمضان؟ قال: في المرض كله، قلت: يصوم فإذا غلب عليه أفطر؟ قال: نعم. وللبخاري في هذا الأثر قصة مع شيخه إسحاق بن راهويه ذكرتها في ترجمة البخاري من "تعليق التعليق" وقد اختلف السلف في الحد الذي إذا وجده المكلف جاز له الفطر، والذي عليه الجمهور أنه المرض الذي يبيح له التيمم مع وجود الماء، وهو ما إذا خاف على نفسه لو تمادى على الصوم أو على عضو من أعضائه أو زيادة في المرض الذي بدأ به أو تماديه. وعن ابن سيرين: متى حصل للإنسان حال يستحق بها اسم المرض فله الفطر، وهو نحو قول عطاء، وعن الحسن والنخعي: إذا لم يقدر على الصلاة قائما يفطر. قوله: "وقال الحسن وإبراهيم في المرضع والحامل إذا خافتا على أنفسهما أو ولدهما تفطران ثم تقضيان" كذا وقع لأبي ذر، وللأصيلي بلفظ: "أو الحامل" ولغيرهما: "والحامل" بالواو وهو أظهر. وأما أثر الحسن فوصله عبد بن حميد من طريق يونس بن حميد

(8/179)


عن الحسن هو البصري قال: المرضع إذا خافت على ولدها أفطرت وأطعمت والحامل إذا خافت على نفسها أفطرت وقضت، وهي بمنزلة المريض. ومن طريق قتادة عن الحسن: تفطران وتقضيان. وأما قول إبراهيم وهو النخعي فوصله عبد بن حميد أيضا من طريق أبي معشر عن النخعي قال: الحامل والمرضع إذا خافتا أفطرنا وقضتا صوما. قوله: "وأما الشيخ الكبير إذا لم يطق الصيام فقد أطعم أنس بن مالك بعدما كبر عاما أو عامين كل يوم مسكينا خبزا ولحما وأفطر" وروى عبد حميد في طريق النضر بن أنس عن أنس أنه أفطر في رمضان وكان قد كبر، فأطعم مسكينا كان يوم. ورويناه في "فوائد محمد بن هشام بن ملاس" عن مروان عن معاوية عن حميد قال: ضعف أنس عن الصوم عام توفى، فسألت ابنه عمر بن أنس: أطاق الصوم؟ قال: لا، فلما عرف أنه لا يطيق القضاء أمر بجفان من خبز ولحم فأطعم العدة أو أكثر. "تنبيه" قوله: "أطعم" الفاء جواب الدليل الدال على جواز الفطر وتقدير الكلام وأما الشيخ الكبير إذا لم يطق الصيام فإنه يجوز له أن يفطر ويطعم، فقد أطعم إلخ. وقوله: "كبر" بفتح الكاف وكسر الموحدة أي أسن، وكان أنس حينئذ في عشر المائة كما تقدم التنبيه عليه قريبا. قوله: "قراءة العامة يطيقونه وهو أكثر" يعني من أطاق يطيق، وسأذكر ما خالف ذلك في الذي بعده. قوله: "حدثني إسحاق" هو ابن راهويه، وروح بفتح الراء هو ابن عبادة. قوله: "سمع ابن عباس يقول" في رواية الكشميهني: "يقرا" . قوله: {يُطِيقُونَهُ} بفتح الطاء بشديد الواو مبنيا للمفعول مخفف الطاء من طوق بضم أوله بوزن قطع، وهذه قراءة ابن مسعود أيضا، وقد وقع عند النسائي من طريق ابن أبي نجيح عن عمرو بن دينار: يطوقونه يكلفونه، وهو تفسير حسن أي يكلفون إطاقته. و قوله: {طَعَامُ مِسْكِينٍ} زاد في رواية النسائي: "واحد" وقوله: {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا} زاد في رواية النسائي: "فزاد مسكين آخر" . قوله: "قال ابن عباس: ليست بمنسوخة، هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة" هذا مذهب ابن عباس، وخالفه الأكثر، وفي هذا الحديث الذي بعده ما يدل على أنها منسوخة. وهذه القراءة تضعف تأويل من زعم أن "لا" محذوفة من القراءة المشهورة، وأن المعنى: وعلى الذين لا يطيقونه فدية، وأنه كقول الشاعر "فقلت يمين الله أبرح قاعدا" أي لا أبرح قاعدا، ورد بدلالة القسم على النفي بخلاف الآية، ويثبت هذا التأويل أن الأكثر على أن الضمير في قوله: {يُطِيقُونَهُ} للصيام فيصير تقدير الكلام وعلى الذين يطيقون الصيام فدية، والفدية لا تجب على المطيق وإنما تجب على غيره، والجواب عن ذلك أن في الكلام حذفا تقديره: وعلى الذين يطيقون الصيام إذا أفطروا فدية، وكان هذا في أول الأمر عند الأكثر، ثم نسخ وصارت الفدية للعاجز إذا أفطر، وقد تقدم في الصيام حديث ابن أبي ليلى قال: "حدثنا أصحاب محمد لما نزل رمضان شق عليهم فكان من أطعم كل يوم مسكينا ترك الصوم ممن يطيقه، ورخص لهم في ذلك فنسختها: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} وأما على قراءة ابن عباس فلا نسخ لأنه يجعل الفدية على من تكلف الصوم وهو لا يقدر عليه فيفطر ويكفر، وهذا الحكم باق. وفي الحديث حجة لقول الشافعي ومن وافقه أن الشيخ الكبير ومن ذكر معه إذا شق عليهم الصوم فأفطروا فعليهم الفدية خلافا لمالك ومن وافقه. واختلف في الحامل والمرضع ومن أفطر لكبر ثم قوى على القضاء بعد فقال الشافعي وأحمد: يقضون ويطعمون. وقال الأوزاعي والكوفيون: لا إطعام.

(8/180)


26- باب {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}
4506- حَدَّثَنَا عَيَّاشُ بْنُ الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ

(8/180)


عَنْهُمَا أَنَّهُ قَرَأَ فِدْيَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ قَالَ هِيَ مَنْسُوخَة"
4507- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ مُضَرَ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ عَنْ بُكَيْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ يَزِيدَ مَوْلَى سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ عَنْ سَلَمَةَ قَالَ "لَمَّا نَزَلَتْ {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} كَانَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُفْطِرَ وَيَفْتَدِيَ حَتَّى نَزَلَتْ الآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا فَنَسَخَتْهَا قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ مَاتَ بُكَيْرٌ قَبْلَ يَزِيدَ"
قوله: "باب {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} ذكر فيه حديث ابن عمر أنه قرأ: {فِدْيَةٌ طَعَامُ} بالإضافة و "مساكين" بلفظ الجمع وهي قراءة نافع وابن ذكوان، والباقون بتنوين "فدية" وتوحيد {مِسْكِينٍ} وطعام بالرفع على البدلية، وأما الإضافة فهي من إضافة الشيء إلى نفسه، والمقصود به البيان مثل خاتم حديد وثوب حرير، لأن الفدية تكون طعاما وغيره، ومن جمع مساكين فلمقابلة الجمع بالجمع ومن أفراد فمعناه فعلى كل واحد ممن يطيق الصوم، ويستفاد من الإفراد أن الحكم لكل يوم يفطر فيه إطعام مسكين، ولا يفهم ذلك من الجمع، والمراد بالطعام الإطعام. الحديث: قوله: "قال هي منسوخة" هو صريح في دعوى النسخ ورجحه ابن المنذر من جهة قوله: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} قال لأنها لو كانت في الشيخ الكبير الذي لا يطيق الصيام لم يناسب أن يقال له {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} مع أنه لا يطيق الصيام. قوله في حديث ابن الأكوع "لما نزلت {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} إلخ" هذا أيضا صريح في دعوى النسخ وأصرح منه ما تقدم من حديث ابن أبي ليلى، ويمكن إن كانت القراءة بتشديد الواو ثابتة أن يكون الوجهان ثابتين بحسب مدلول القرائن. والله أعلم. قوله: "مات أبو عبد الله" هو المصنف، وثبت هذا الكلام في رواية المستملى وحده. قوله: "مات بكير قبل يزيد" أي مات بكير بن عبد الله بن الأشج الراوي عن يزيد وهو ابن أبي عبيد قبل شيخه يزيد، وكانت وفاته سنة عشرين ومائة وقيل قبلها أو بعدها، ومات يزيد سنة ست أو سبع وأربعين ومائة.

(8/181)


27- باب {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ}
4508- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْبَرَاءِ ح و حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ حَدَّثَنَا شُرَيْحُ بْنُ مَسْلَمَةَ قَالَ حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ سَمِعْتُ الْبَرَاءَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "لَمَّا نَزَلَ صَوْمُ رَمَضَانَ كَانُوا لاَ يَقْرَبُونَ النِّسَاءَ رَمَضَانَ كُلَّهُ وَكَانَ رِجَالٌ يَخُونُونَ أَنْفُسَهُمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ}
قوله: "باب: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} إلى قوله: {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} كذا لأبي ذر، وساق في رواية كريمة الآية كلها. قوله: "لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء" قد تقدم في كتاب الصيام من حديث البراء أيضا أنهم كانوا لا يأكلون ولا يشربون إذا ناموا، وأن الآية نزلت في ذلك، وبينت هناك أن الآية نزلت في الأمرين معا، وظاهر سياق حديث الباب أن الجماع كان ممنوعا في جميع الليل والنهار، بخلاف الأكل

(8/181)


والشرب فكان مأذونا فيه ليلا ما لم يحصل النوم، لكن بقية الأحاديث الواردة في هذا المعنى تدل على عدم الفرق كما سأذكرها بعد، فيحمل قوله: "كانوا لا يقربون النساء" على الغالب جمعا بين الأخبار. قوله: "وكان رجال يخونون أنفسهم" سمي من هؤلاء عمر وكعب بن مالك رضي الله عنهما فروى أحمد وأبو داود والحاكم من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى عن معاذ بن جبل قال: "أحل الصيام ثلاثة أحوال: فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فجعل يصوم من كل شهر ثلاثة أيام، وصام عاشوراء. ثم إن الله فرض عليه الصيام وأنزل عليه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} فذكر الحديث إلى أن قال: "وكانوا يأكلون ويشربون ويأتون النساء ما لم يناموا، فإذا ناموا امتنعوا. ثم إن رجلا من الأنصار صلى العشاء ثم نام فأصبح مجهودا، وكان عمر أصاب من النساء بعدما نام، فأنزل الله عز وجل: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} إلى قوله: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} وهذا الحديث مشهور عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، لكنه لم يسمع من معاذ، وقد جاء عنه فيه: "حدثنا أصحاب محمد" كما تقدم التنبيه عليه قريبا، فكأنه سمعه من غير معاذ أيضا، وله شواهد: منها ما أخرجه ابن مردويه من طريق كريب عن ابن عباس قال: "بلغنا" ومن طريق عطاء عن أبي هريرة نحوه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه قال: "كان الناس في رمضان إذا صام الرجل فأمسى فنام حرم عليه الطعام والشراب والنساء حتى يفطر من الغد، فرجع عمر من عند النبي صلى الله عليه وسلم وقد سمر عنده، فأراد امرأته، فقالت: إني قد نمت، قال: ما نمت، ووقع عليها. وصنع كعب بن مالك مثل ذلك. فنزلت: وروى ابن جرير من طريق ابن عباس نحوه، ومن طريق أصحاب مجاهد وعطاء وعكرمة وغير واحد من غيرهم كالسدي وقتادة وثابت نحو هذا الحديث، لكن لم يزد واحد منهم في القصة على تسمية عمر إلا في حديث كعب بن مالك، والله أعلم.

(8/182)


باب وكلوا وشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ....}
...
28- باب {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} إِلَى قَوْلِهِ {يَتَّقُونَ} الْعَاكِفُ الْمُقِيمُ
4509- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ حُصَيْنٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَدِيٍّ قَالَ أَخَذَ عَدِيٌّ عِقَالاً أَبْيَضَ وَعِقَالاً أَسْوَدَ حَتَّى كَانَ بَعْضُ اللَّيْلِ نَظَرَ فَلَمْ يَسْتَبِينَا فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ جَعَلْتُ تَحْتَ وِسَادِي عِقَالَيْنِ قَالَ: "إِنَّ وِسَادَكَ إِذًا لَعَرِيضٌ أَنْ كَانَ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ وَالأَسْوَدُ تَحْتَ وِسَادَتِك"
4510- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مُطَرِّفٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: " قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ أَهُمَا الْخَيْطَانِ قَالَ إِنَّكَ لَعَرِيضُ الْقَفَا إِنْ أَبْصَرْتَ الْخَيْطَيْنِ ثُمَّ قَالَ لاَ بَلْ هُوَ سَوَادُ اللَّيْلِ وَبَيَاضُ النَّهَار"
4511- حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ مُحَمَّدُ بْنُ مُطَرِّفٍ حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ

(8/182)


قَالَ وَأُنْزِلَتْ {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ} وَلَمْ يُنْزَلْ مِنْ الْفَجْرِ وَكَانَ رِجَالٌ إِذَا أَرَادُوا الصَّوْمَ رَبَطَ أَحَدُهُمْ فِي رِجْلَيْهِ الْخَيْطَ الأَبْيَضَ وَالْخَيْطَ الأَسْوَدَ وَلاَ يَزَالُ يَأْكُلُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ رُؤْيَتُهُمَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ بَعْدَهُ {مِنْ الْفَجْرِ} فَعَلِمُوا أَنَّمَا يَعْنِي اللَّيْلَ مِنْ النَّهَار"
قوله: "باب وكلوا وأشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر" الآية. العاكف المقيم" ثبت هذا التفسير في رواية المستملى وحده، وهو تفسير أبي عبيدة، قال في قوله تعالى: {سَوَاءً العَاكفُ فِيهِ وَالبَادِ} أي المقيم والذي لا يقيم. حديث عدي بن حاتم من وجهين في تفسير الخيط الأبيض والأسود، وحديث سهل بن سعد في ذلك، وقد تقدما في الصيام مع شرحهما. حديث عدي بن حاتم من وجهين في تفسير الخيط الأبيض والأسود، وحديث سهل بن سعد في ذلك، وقد تقدما في الصيام مع شرحهما. حديث عدي بن حاتم من وجهين في تفسير الخيط الأبيض والأسود، وحديث سهل بن سعد في ذلك، وقد تقدما في الصيام مع شرحهما.

(8/183)


29- باب {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}
4512- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْبَرَاءِ قَالَ: "كَانُوا إِذَا أَحْرَمُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَتَوْا الْبَيْتَ مِنْ ظَهْرِهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} "
قوله باب {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ اتَّقَى} الآية" كذا لأبي ذر، وساق في رواية كريمة إلى آخرها، ثم ذكر حديث البراء في سبب نزولها، وقد تقدم شرحه في كتاب الحج. قوله باب {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ اتَّقَى} الآية" كذا لأبي ذر، وساق في رواية كريمة إلى آخرها، ثم ذكر حديث البراء في سبب نزولها، وقد تقدم شرحه في كتاب الحج.

(8/183)


30– باب {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنْ انْتَهَوْا فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ} .
4513- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَتَاهُ رَجُلاَنِ فِي فِتْنَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ فَقَالاَ إِنَّ النَّاسَ صَنَعُوا وَأَنْتَ ابْنُ عُمَرَ وَصَاحِبُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَخْرُجَ فَقَالَ يَمْنَعُنِي أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ دَمَ أَخِي فَقَالاَ أَلَمْ يَقُلْ اللَّهُ: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} فَقَالَ قَاتَلْنَا حَتَّى لَمْ تَكُنْ فِتْنَةٌ وَكَانَ الدِّينُ لِلَّهِ وَأَنْتُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تُقَاتِلُوا حَتَّى تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِغَيْرِ اللَّه"
4514- وَزَادَ عُثْمَانُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي فُلاَنٌ وَحَيْوَةُ بْنُ شُرَيْحٍ عَنْ بَكْرِ بْنِ عَمْرٍو الْمَعَافِرِيِّ أَنَّ بُكَيْرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَهُ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ رَجُلاً أَتَى ابْنَ عُمَرَ فَقَالَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَا حَمَلَكَ عَلَى أَنْ تَحُجَّ عَامًا وَتَعْتَمِرَ عَامًا وَتَتْرُكَ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَقَدْ عَلِمْتَ مَا رَغَّبَ اللَّهُ فِيهِ قَالَ يَا ابْنَ أَخِي

(8/183)


باب {وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا والله يحب المحسنين}
...
31-باب {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} التَّهْلُكَةُ وَالْهَلاَكُ وَاحِدٌ
4516- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا النَّضْرُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سُلَيْمَانَ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا وَائِلٍ عَنْ حُذَيْفَةَ {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} قَالَ نَزَلَتْ فِي النَّفَقَة"
قوله: "باب قوله: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} "وساق إلى آخر الآية. قوله: "التهلكة والهلاك واحد" هو تفسير أبي عبيدة وزاد: والهلاك والهلك يعني بفتح الهاء وبضمها واللام ساكنة فيهما، وكل هذه مصادر هلك بلفظ الفعل الماضي، وقيل: التهلكة ما أمكن التحرز منه، والهلاك بخلافه. وقيل التهلكة نفس الشيء المهلك. وقيل ما تضر عاقبته، والمشهور الأول.
قوله باب قوله: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} وساق إلى آخر الآية قوله: {التَّهْلُكَةِ } والهلاك واحد هو تفسير أبي عبيدة وزاد والهلاك والهلك يعني بفتح الهاء وبضمها واللام ساكنة فيهما وكل هذه مصادر هلك بلفظ الفعل الماضي وقيل التهلكة ما أمكن التحرز منه والهلاك بخلافه وقيل التهلكة نفس الشيء المهلك وقيل ما تضر عاقبته والمشهور الأول ثم ذكر المصنف حديث حذيفة في هذه الآية قال: نزلت في النفقة، أي في ترك النفقة في سبيل الله عز وجل، وهذا الذي قاله حذيفة جاء مفسرا في حديث أبي أيوب الذي أخرجه مسلم والنسائي وأبو داود والترمذي وابن حبان والحاكم من طريق أسلم بن عمران قال: "كنا بالقسطنطينية، فخرج صف عظيم من الروم، فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيهم، ثم رجع مقبلا. فصاح الناس: سبحان الله، ألقى بيده إلى التهلكة. فقال أبو أيوب: أيها الناس، إنكم تؤولون هذه الآية على هذا التأويل، وإنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار: إنا لما أعز الله دينه وكثر ناصروه قلنا بيننا سرا: إن أموالنا قد ضاعت، فلو أنا أقمنا فيها وأصلحنا ما ضاع منها، فأنزل الله هذه الآية، فكانت التهلكة الإقامة التي أردناها. وصح عن ابن عباس وجماعة من التابعين نحو ذلك في تأويل الآية. وروى ابن أبي حاتم من طريق زيد بن أسلم أنها كانت نزلت في ناس كانوا يغزون بغير نفقة، فيلزم على قوله اختلاف المأمورين، فالذين قيل لهم {أنفقوا، وأحسنوا} أصحاب الأموال، والذين قيل لهم {وَلا تُلْقُوا} الغزاة بغير نفقة، ولا يخفى ما فيه. ومن طريق الضحاك بن أبي جبيرة" كان الأنصار يتصدقون، فأصابتهم سنة فأمسكوا، فنزلت: {وروى ابن جرير وابن المنذر بإسناد صحيح عن مدرك بن عوف قال: "إني لعند عمر، فقلت: إن لي جارا رمى بنفسه في الحرب فقتل، فقال ناس: ألقي بيده إلى التهلكة، فقال عمر: كذبوا، لكنه اشترى الآخرة بالدنيا" وجاء عن البراء بن عازب في الآية تأويل آخر أخرجه ابن جرير وابن المنذر وغيرهما عنه بإسناد صحيح عن أبي إسحاق قال: "قلت للبراء: أرأيت قول الله عز وجل: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} هو الرجل يحمل على الكتيبة فيها ألف؟ قال: لا، ولكنه الرجل يذنب فيلقى بيده فيقول لا توبة لي" وعن النعمان بن بشير نحوه، والأول أظهر لتصدير الآية بذكر النفقة فهو المعتمد في نزولها، وأما قصرها عليه ففيه نظر، لأن العبرة بعموم اللفظ، على أن أحمد أخرج الحديث المذكور من طريق أبي بكر - وهو ابن عياش - عن أبي إسحاق بلفظ آخر قال: "قلت للبراء: الرجل يحمل على المشركين أهو ممن ألقى بيده إلى التهلكة؟ قال: لا، لأن الله تعالى قد بعث محمدا فقال: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ} فإنما ذلك في النفقة" فإن كان محفوظا فلعل للبراء فيه جوابين، والأول من رواية الثوري وإسرائيل وأبي الأحوص ونحوهم وكل منهم أتقن من أبي بكر فكيف مع اجتماعهم وانفراده ا هـ. وأما مسألة حمل الواحد على العدد الكثير من العدو فصرح الجمهور بأنه إن كان لفرط شجاعته وظنه أنه يرهب العدو بذلك أو يجرئ المسلمين عليهم أو نحو ذلك من المقاصد الصحيحة

(8/185)


فهو حسن، ومتى. كان مجرد تهور فممنوع، ولا سيما إن ترتب على ذلك وهن في المسلمين، والله أعلم.

(8/186)


باب {فمن كان مريضا أو به أذى من رأسه}
...
32- باب {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ}
4517- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الأَصْبَهَانِيِّ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَعْقِلٍ قَالَ "قَعَدْتُ إِلَى كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ يَعْنِي مَسْجِدَ الْكُوفَةِ فَسَأَلْتُهُ عَنْ فِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ فَقَالَ حُمِلْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقَمْلُ يَتَنَاثَرُ عَلَى وَجْهِي فَقَالَ: " مَا كُنْتُ أُرَى أَنَّ الْجَهْدَ قَدْ بَلَغَ بِكَ هَذَا أَمَا تَجِدُ شَاةً قُلْتُ لاَ قَالَ صُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ طَعَامٍ وَاحْلِقْ رَأْسَكَ" فَنَزَلَتْ فِيَّ خَاصَّةً وَهْيَ لَكُمْ عَامَّة"
قوله: "باب قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ} حديث كعب بن عجرة في سبب نزول هذه الآية، وقد تقدم شرحه مستوفى في كتاب الحج.

(8/186)


33- باب {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ}
4518- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عِمْرَانَ أَبِي بَكْرٍ حَدَّثَنَا أَبُو رَجَاءٍ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "أُنْزِلَتْ آيَةُ الْمُتْعَةِ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَفَعَلْنَاهَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُنْزَلْ قُرْآنٌ يُحَرِّمُهُ وَلَمْ يَنْهَ عَنْهَا حَتَّى مَاتَ قَالَ رَجُلٌ بِرَأْيِهِ مَا شَاء"
قوله: باب {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} ذكر فيه حديث عمران بن حصين "أنزلت آية المتعة في كتاب الله" يعني متعة الحج. تقدم شرحه وأن المراد بالرجل في قوله هنا "قال رجل برأيه ما شاء" هو عمر.

(8/186)


34- باب {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ}
4519- حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ قَالَ أَخْبَرَنِي ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرٍو عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "كَانَتْ عُكَاظُ وَمَجَنَّةُ وَذُو الْمَجَازِ أَسْوَاقًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَتَأَثَّمُوا أَنْ يَتَّجِرُوا فِي الْمَوَاسِمِ فَنَزَلَتْ {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ} فِي مَوَاسِمِ الْحَج"
قوله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} ذكر فيه حديث ابن عباس، وقد تقدم شرحه مستوفى في كتاب الحج.

(8/186)


35- باب {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ}
4520- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَازِمٍ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا "كَانَتْ قُرَيْشٌ وَمَنْ دَانَ دِينَهَا يَقِفُونَ بِالْمُزْدَلِفَةِ وَكَانُوا يُسَمَّوْنَ الْحُمْسَ وَكَانَ سَائِرُ الْعَرَبِ يَقِفُونَ بِعَرَفَاتٍ

(8/186)


36-بَاب {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}
4522- حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:

(8/187)


اللَّهُمَّ {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}"
[الحديث 4522- طرفه في: 6389]
قوله: باب ومنهم من يقول {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً} الآية ذكر فيه حديث أنس في قوله ذلك، وسيأتي بأتم من هذا في الكتاب الدعوات. وعبد العزيز الراوي عنه هو ابن صهيب

(8/188)


37- باب {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} وَقَالَ عَطَاءٌ: النَّسْلُ الْحَيَوَانُ
4523- حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عَائِشَةَ تَرْفَعُهُ قَالَ: "أَبْغَضُ الرِّجَالِ إِلَى اللَّهِ الأَلَدُّ الْخَصِمُ" وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم"
قوله: باب {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} ألد أفعل تفضيل من اللدد وهو من شدة الخصومة، والخصام جمع خصم وزن كلب وكلاب، والمعنى وهو أشد المخاصمين مخاصمة، ويحتمل أن يكون مصدرا تقول خاصم خصاما كقاتل قتالا، والتقدير وخاصمه أشد الخصام مخاصمة، وقيل أفعل هنا ليست بالتفضيل بل بمعنى الفاعل أي وهو لديه الخصام أي شدة المخاصمة فيكون من إضافة الصفة المشبهة. قوله: "وقال عطاء: النسل الحيوان" وصله الطبري من طريق ابن جرير" قلت لعطاء في قوله تعالى: {وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ} قال: الحرث الزرع، النسل من الناس والأنعام" وزعم مغلطاي أن ابن أبي حاتم أخرجه من طريق العوفي عن عطاء، ووهم في ذلك، وإنما هو عند ابن أبي حاتم وغيره رواه عن العوفي عن ابن عباس. قوله: "عن عائشة ترفعه" أي إلى النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: "الألد الخصم" بفتح الخاء المعجمة وكسر الصاد أي الشديد اللدد الكثير الخصومة، وسيأتي شرح الحديث في كتاب الأحكام. قوله: "وقال عبد الله" هو ابن الوليد العدني، وسفيان هو الثوري. وأورده لتصريحه برفع الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو موصول بالإسناد في "جامع سفيان الثوري" من رواية عبد الله بن الوليد هذا، ويحتمل أن يكون عبد الله هو الجعفي شيخ البخاري، وسفيان هو ابن عيينة، فقد أخرج الحديث المذكور الترمذي وغيره من رواية ابن علية، لكن بالأول جزم خلف والمزي، وقد تقدم هذا الحديث في كتاب المظالم.

(8/188)


38- باب {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ} إِلَى {قَرِيبٌ}
4524- حدثنا إبراهيم بن موسى أخبرنا هشام عن بن جريج قال سمعت بن أبي مليكة يقول: "قال ابن عباس رضي الله عنهما: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} خفيفة ذهب بها هناك وتلا {حتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} فلقيت عروة بن الزبير فذكرت له ذلك"
4525- "فقال قالت عائشة معاذ الله والله ما وعد الله رسوله من شيء قط إلا علم أنه كائن

(8/188)


باب {نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم وقدم لأنفسكم}
...
39- باب {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ} الآيَةَ
4526- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ أَخْبَرَنَا ابْنُ عَوْنٍ عَنْ نَافِعٍ قَالَ: "كَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ لَمْ يَتَكَلَّمْ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهُ فَأَخَذْتُ عَلَيْهِ يَوْمًا فَقَرَأَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَكَانٍ قَالَ تَدْرِي فِيمَ أُنْزِلَتْ قُلْتُ لاَ قَالَ أُنْزِلَتْ فِي كَذَا وَكَذَا ثُمَّ مَضَى"
[الحدبث 4526- طرفه في: 4527]
4527- وَعَنْ عَبْدِ الصَّمَدِ حَدَّثَنِي أَبِي حَدَّثَنِي أَيُّوبُ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} قَالَ يَأْتِيهَا فِي. رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَر"
4528- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ سَمِعْتُ جَابِرًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "كَانَتْ الْيَهُودُ تَقُولُ إِذَا جَامَعَهَا مِنْ وَرَائِهَا جَاءَ الْوَلَدُ أَحْوَلَ فَنَزَلَتْ {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} "
قوله: باب {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} اختلف في معنى {أَنَّى} فقيل كيف، وقيل حيث، وقيل متى، ويحسب هذا الاختلاف جاء الاختلاف في تأويل الآية. قوله: "حدثني إسحاق" هو ابن راهويه. قوله: "فأخذت عليه يوما" أي أمسكت المصحف وهو يقرأ عن ظهر قلب، وجاء ذلك صريحا في رواية عبيد الله بن عمر عن نافع قال: "قال لي ابن عمر أمسك علي المصحف يا نافع، فقرأ: {أخرجه الدار قطني في "غرائب مالك" . قوله: "حتى انتهى إلى مكان قال: تدري فيما أنزلت؟ قلت: لا. قال: أنزلت في كذا وكذا ثم مضى" هكذا أورده مبهما لمكان الآية والتفسير، وسأذكر ما فيه بعد. قوله: "وعن عبد الصمد" هو معطوف على قوله: "أخبرنا النضر بن شميل" وهو عند المصنف أيضا عن إسحاق بن راهويه عن عبد الصمد وهو ابن عبد الوارث بن سعيد، وقد أخرج أبو نعيم في "المستخرج" هذا الحديث من طريق إسحاق بن راهويه عن النضر بن شميل بسنده، وعن عبد الصمد بسنده. قوله: "يأتيها في" هكذا وقع في جميع النسخ لم يذكر ما بعد الظرف وهو المجرور، ووقع في "الجمع بين الصحيحين للحميدي" يأتيها في الفرج، وهو من عنده بحسب ما فهمه. ثم وقفت على سلفه فيه وهو البرقاني فرأيت في نسخة الصغاني "زاد البرقاني يعني الفرج" وليس مطابقا لما في نفس الرواية عن ابن عمر لما سأذكره، وقد قال أبو بكر بن العربي في "سراج المريدين" : أورد البخاري هذا الحديث في التفسير فقال: "يأتيها في" وترك بياضا، والمسألة مشهورة صنف فيها محمد بن سحنون جزءا، وصنف فيها ابن شعبان كتابا، وبين أن حديث ابن عمر في

(8/189)


إتيان المرأة في دبرها. قوله: "رواه محمد بن يحيى بن سعيد" أي القطان" عن أبيه عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر" هكذا أعاد الضمير على الذي قبله، والذي قبله قد اختصره كما ترى، فأما الرواية الأولى وهي رواية ابن عون فقد أخرجها إسحاق بن راهويه في مسنده وفي تفسيره بالإسناد المذكور. وقال بدل قوله حتى انتهى إلى مكان" حتى انتهى إلى قوله: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} فقال: أتدرون فيما أنزلت هذه الآية؟ قلت لا. قال: نزلت في إتيان النساء في أدبارهن. وهكذا أورده ابن جرير من طريق إسماعيل بن علية عن ابن عون مثله، ومن طريق إسماعيل بن إبراهيم الكرابيسي عن ابن عون نحوه، أخرجه أبو عبيدة في "فضائل القرآن" عن معاذ عن ابن عون فأبهمه فقال في كذا وكذا. وأما رواية عبد الصمد فأخرجها ابن جرير في التفسير عن أبي قلابة الرقاشي عن عبد الصمد بن عبد الوارث حدثني أبي فذكره بلفظ يأتيها في الدبر، وهو يؤيد قول ابن العربي ويرد قول الحميدي. وهذا الذي استعمله البخاري نوع من أنواع البديع يسمى الاكتفاء، ولا بد له من نكتة يحس بسببها استعماله. وأما رواية محمد بن يحيى بن سعيد القطان فوصلها الطبراني في "الأوسط" من طريق أبي بكر الأعين عن محمد بن يحيى المذكور بالسند المذكور إلى ابن عمر قال: "إنما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} رخصة في إتيان الدبر، قال الطبراني: لم يروه عن عبد الله ابن عمر إلا يحيى بن سعيد، تفرد به ابنه محمد، كذا قال، ولم يتفرد به يحيى ابن سعيد فقد رواه عبد العزيز الدراوردي عن عبيد الله بن عمر أيضا كما سأذكره بعد، وقد روي هذا الحديث عن نافع أيضا جماعة غير ما ذكرنا ورواياتهم بذلك ثابتة عند ابن مردويه في تفسيره وفي "فوائد الأصبهانيين لأبي الشيخ" و "تاريخ نيسابور للحاكم" و "غرائب مالك للدار قطني" وغيرها. وقد عاب الإسماعيلي صنيع البخاري فقال: جميع ما أخرج عن ابن عمر مبهم لا فائدة فيه، وقد رويناه عن عبد العزيز - يعني الدراوردي - عن مالك وعبيد الله بن عمر وابن أبي ذئب ثلاثتهم عن نافع بالتفسير، وعن مالك من عدة أوجه ا هـ. كلامه. ورواية الدراوردي المذكورة قد أخرجها الدار قطني في "غرائب مالك" من طريقه عن الثلاثة عن نافع نحو رواية ابن عون عنه ولفظه: "نزلت في رجل من الأنصار أصاب امرأته في دبرها، فأعظم الناس في ذلك فنزلت. قال فقلت له من دبرها في قبلها، فقال: لا إلا في دبرها" . وتابع نافعا في ذلك على زيد بن أسلم عن ابن عمر وروايته عند النسائي بإسناد صحيح. وتكلم الأزدي في بعض رواته ورد عليه ابن عبد البر فأصاب قال: ورواية ابن عمر لهذا المعنى صحيحة مشهورة من رواية نافع عنه يغير نكير أن يرويها عنه زيد بن أسلم. قلت: وقد رواه عن عبد الله بن عمر أيضا ابنه عبد الله أخرجه النسائي أيضا وسعيد بن يسار وسالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه مثل ما قال نافع، وروايتهما عنه عند النسائي وابن جرير ولفظه: "عن عبد الرحمن بن القاسم قلت لمالك: إن ناسا يروون عن سالم: كذب العبد على أبي، فقال مالك: أشهد على زيد بن رومان أنه أخبرني عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه مثل ما قال نافع، فقلت له: إن الحارث بن يعقوب يروي عن سعيد بن يسار عن ابن عمر أنه قال أف، أو يقول ذلك مسلم؟ فقال مالك: أشهد على ربيعة لأخبرني عن سعيد بن يسار عن ابن عمر مثل ما قال نافع، وأخرجه الدار قطني من طريق عبد الرحمن بن القاسم عن مالك وقال: هذا محفوظ عن مالك صحيح اهـ. وروى الخطيب في "الرواة عن مالك" من طريق إسرائيل بن روح قال: سألت مالكا عن ذلك فقال: ما أنتم قوم عرب؟ هل يكون الحرث إلا موضع الزرع؟ وعلى هذه القصة اعتمد المتأخرون من المالكية، فلعل مالكا رجع عن قوله الأول، أو كان يرى أن العمل على خلاف حديث ابن

(8/190)


عمر فلم يعمل به، وإن كانت الرواية فيه صحيحة على قاعدته. ولم ينفرد ابن عمر بسبب هذا النزول، فقد أخرج أبو يعلى وابن مردويه وابن جرير والطحاوي من طريق زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخضري "أن رجلا أصاب امرأته في دبرها، فأنكر الناس ذلك عليه وقالوا: نعيرها، فأنزل الله عز وجل هذه الآية" وعلقه النسائي عن هشام بن سعيد عن زيد، وهذا السبب في نزول هذه الآية مشهور، وكأن حديث أبي سعيد لم يبلغ ابن عباس وبلغه حديث ابن عمر فوهمه فيه، فروى أبو داود من طريق مجاهد عن ابن عباس قال: "إن ابن عمر وهم والله يغفر له، إنما كان هذا الحي من الأنصار وهم أهل وثن مع هذا الحي من يهود وهم أهل كتاب فكانوا يأخذون بكثير من فعلهم، وكان أهل الكتاب لا يأتون النساء إلا على حرف، وذلك أستر ما تكون المرأة، فأخذ ذلك الأنصار عنهم، وكان هذا الحي من قريش يتلذذون بنسائهم مقبلات ومدبرات ومستلقيات، فتزوج رجل من المهاجرين امرأة من الأنصار فذهب يفعل فيها ذلك فامتنعت، فسرى أمرهما حتى بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} مقبلات ومدبرات ومستلقيات، في الفرج" أخرجه أحمد والترمذي من وجه آخر صحيح عن ابن عباس قال: "جاء عمر فقال: يا رسول الله هلكت. حولت رحلي البارحة، فأنزلت هذه الآية، {نسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} أقبل وأدبر، واتق الدبر والحيضة" وهذا الذي حمل عليه الآية موافق لحديث جابر المذكور في الباب في سبب نزول الآية كما سأذكر عند الكلام عليه. وروى الربيع في "الأم" عن الشافعي قال: احتملت الآية معنيين أحدهما أن تؤتى المرأة حيث شاء زوجها، لأن "أنى" بمعنى أين شئتم، واحتملت أن يراد بالحرث موضع النبات، والموضع الذي يراد به الولد هو الفرج دون ما سواه، قال فاختلف أصحابنا في ذلك، وأحسب أن كلا من الفريقين تأول ما وصفت من احتمال الآية، قال فطلبنا الدلالة فوجدنا حديثين: أحدهما ثابت وهو حديث خزيمة بن ثابت في التحريم، فقوى عنده التحريم. وروى الحاكم في "مناقب الشافعي" من طريق ابن عبد الحكم أنه حكى عن الشافعي مناظرة جرت بينه وبين محمد الحسن في ذلك، وأن ابن الحسن احتج عليه بأن الحرث إنما يكون في الفرج، فقال له: فيكون ما سوى الفرج محرما، فالتزمه. فقال أرأيت لو وطئها بين ساقها أو في أعكانها أنى ذلك حرث؟ قال: لا. قال أفيحرم؟ قال لا. قال: فكيف تحتج بما لا تقول به. قال الحاكم: لعل الشافعي كان يقول ذلك في القديم، وأما في الجديد فصرح بالتحريم اهـ. ويحتمل أن يكون ألزم محمدا بطريق المناظرة وإن كان لا يقول بذلك، وإنما انتصر لأصحابه المدنيين، والحجة عنده في التحريم غير المسلك الذي سلكه محمد كما يشير إليه كلامه في "الأم" . وقال المازري: اختلف الناس في هذه المسألة وتعلق في قال بالحل بهذه الآية، وانفصل عنها من قال يحرم بأنها نزلت بالسبب الوارد في حديث جابر في الرد على اليهود، يعنى كما في حديث الباب الآتي. قال: والعموم إذا خرج على سبب قصر عليه عند بعض الأصوليين، وعند الأكثر العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وهذا يقتضى أن تكون الآية حجة في الجواز، لكن وردت أحاديث كثيرة بالمنع فتكون مخصصة لعموم الآية، وفي تخصيص عموم القرآن ببعض خبر الآحاد خلاف ا هـ. وذهب جماعة من أئمة الحديث - كالبخاري والذهلي والبزار والنسائي وأبي علي النيسابوري - إلى أنه لا يثبت فيه شيء. قلت: لكن طرقها كثيرة فمجموعها صالح للاحتجاج به، ويؤيد القول بالتحريم أنا لو قدمنا أحاديث الإباحة للزم أنه أبيح بعد أن حرم والأصل عدمه، فمن الأحاديث الصالحة الإسناد حديث خزيمة بن ثابت أخرجه أحمد والنسائي وابن ماجه

(8/191)


وصححه ابن حبان، وحديث أبي هريرة أخرجه أحمد والترمذي وصححه ابن حبان أيضا، وحديث ابن عباس وقد تقدمت إشارة إليه. وأخرجه الترمذي من وجه آخر بلفظ: " لا ينظر الله إلى رجل أتى رجلا أو امرأة في الدبر" وصححه ابن حبان أيضا، وإذا كان ذلك صلح أن يخصص عموم الآية ويحمل على الإتيان في غير هذا المحل بناء على أن معنى "أنى" حيث وهو المتبادر إلى السياق، ويغني ذلك عن حملها على معنى آخر غير المتبادر، والله أعلم. قوله: "حدثنا سفيان" هو الثوري قوله: "كانت اليهود إذا جامعها من ورائها جاء الولد أحول، فنزلت" هذا السياق قد يوهم أنه مطابق لحديث ابن عمر، وليس كذلك، فقد أخرجه الإسماعيلي من طريق يحيى بن أبي زائدة عن سفيان الثوري بلفظ: "باركة مدبرة في فرجها من ورائها" وكذا أخرجه مسلم من طريق سفيان بن عيينة عن ابن المنكدر بلفظ: "إذا أتيت امرأة من دبرها في قبلها" ومن طريق أبي حازم عن ابن منكدر بلفظ: "إذا أتيت المرأة من دبرها فحملت" وقوله: "فحملت" يدل على أن مراده أن الإتيان في الفرج لا في الدبر، وهذا كله يؤيد تأويل ابن عباس الذي رد به على ابن عمر، وقد أكذب الله اليهود في زعمهم وأباح للرجال أن يتمتعوا بنسائهم كيف شاءوا، وإذا تعارض المجمل والمفسر قدم المفسر، وحديث جابر مفسر فهو أولى أن يعمل به من حديث ابن عمر، والله أعلم. وأخرج مسلم أيضا من حديث جابر زيادة في طريق الزهري عن ابن المنكدر بلفظ: "إن شاء محبية وإن شاء غير محبية غير أن ذلك في صمام واحد" وهذه الزيادة يشبه أن تكون من تفسير الزهري لخلوها من رواية غيره من أصحاب ابن المنكدر مع كثرتهم. وقوله: "محبية" بميم ثم موحدة أي باركة وقوله: "صمام" بكسر المهملة والتخفيف هو المنفذ.

(8/192)


باب {وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تضلوهن أن ينكحن أزواجهن}
...
40- باب {وَإِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ}
4529- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ رَاشِدٍ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ قَالَ حَدَّثَنِي مَعْقِلُ بْنُ يَسَارٍ قَالَ: "كَانَتْ لِي أُخْتٌ تُخْطَبُ إِلَيَّ وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ عَنْ يُونُسَ عَنْ الْحَسَنِ حَدَّثَنِي مَعْقِلُ بْنُ يَسَارٍ ح حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا يُونُسُ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّ أُخْتَ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا فَتَرَكَهَا حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَخَطَبَهَا فَأَبَى مَعْقِلٌ فَنَزَلَتْ {فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} "
[الحديث 4529- أطرافه في: 5130، 5330، 5331]
قوله: باب {وَإِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} اتفق أهل التفسير على أن المخاطب بذلك الأولياء، ذكره ابن جرير وغيره. وروى ابن المنذر من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: هي في الرجل يطلق امرأته فتقضى عدتها، فيبدو له أن يراجعها وتريد المرأة ذلك فيمنعه وليها. ثم ذكر المصنف حديث معقل بن يسار في سبب نزول الآية، لكنه ساقه مختصرا، وقد أورده في النكاح بتمامه وسيأتي شرحه، وكذا ما جاء في تسمية أخت معقل واسم زوجها هناك إن شاء الله تعالى. و قوله: "وقال إبراهيم عن يونس عن الحسن حدثني معقل" أراد بهذا التعليق بيان تصريح الحسن بالتحديث عن معقل، ورواية إبراهيم هذا وهو ابن طهمان وصلها المؤلف في النكاح كما سيأتي، وقد صرح الحسن بتحديث معقل له أيضا في رواية عباد بن راشد كما سيأتي أيضا.

(8/192)


باب {والذين يتوفون ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهرا وعشرا ...}
...
41- باب {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ـ إلى ـ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} يَعْفُونَ يَهَبْنَ
4530- حَدَّثَنِي أُمَيَّةُ بْنُ بِسْطَامٍ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ عَنْ حَبِيبٍ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ قُلْتُ لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} قَالَ قَدْ نَسَخَتْهَا الْآيَةُ الأُخْرَى فَلِمَ تَكْتُبُهَا أَوْ تَدَعُهَا قَالَ يَا ابْنَ أَخِي لاَ أُغَيِّرُ شَيْئًا مِنْهُ مِنْ مَكَانِه"
4531- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ حَدَّثَنَا رَوْحٌ حَدَّثَنَا شِبْلٌ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} قَالَ كَانَتْ هَذِهِ الْعِدَّةُ تَعْتَدُّ عِنْدَ أَهْلِ زَوْجِهَا وَاجِبٌ فَأَنْزَلَ اللَّهُ { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ} قَالَ جَعَلَ اللَّهُ لَهَا تَمَامَ السَّنَةِ سَبْعَةَ أَشْهُرٍ وَعِشْرِينَ لَيْلَةً وَصِيَّةً إِنْ شَاءَتْ سَكَنَتْ فِي وَصِيَّتِهَا وَإِنْ شَاءَتْ خَرَجَتْ وَهْوَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} فَالْعِدَّةُ كَمَا هِيَ وَاجِبٌ عَلَيْهَا زَعَمَ ذَلِكَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَقَالَ عَطَاءٌ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ نَسَخَتْ هَذِهِ الآيَةُ عِدَّتَهَا عِنْدَ أَهْلِهَا فَتَعْتَدُّ حَيْثُ شَاءَتْ وَهْوَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {غَيْرَ إِخْرَاجٍ} قَالَ عَطَاءٌ إِنْ شَاءَتْ اعْتَدَّتْ عِنْدَ أَهْلِهِ وَسَكَنَتْ فِي وَصِيَّتِهَا وَإِنْ شَاءَتْ خَرَجَتْ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ} قَالَ عَطَاءٌ ثُمَّ جَاءَ الْمِيرَاثُ فَنَسَخَ السُّكْنَى فَتَعْتَدُّ حَيْثُ شَاءَتْ وَلاَ سُكْنَى لَهَا وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ حَدَّثَنَا وَرْقَاءُ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ بِهَذَا وَعَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ نَسَخَتْ هَذِهِ الآيَةُ عِدَّتَهَا فِي أَهْلِهَا فَتَعْتَدُّ حَيْثُ شَاءَتْ لِقَوْلِ اللَّهِ {غَيْرَ إِخْرَاجٍ} نَحْوَه"
[الحديث 4531- طرفه في: 5344]
4532- حَدَّثَنَا حِبَّانُ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَوْنٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: "جَلَسْتُ إِلَى مَجْلِسٍ فِيهِ عُظْمٌ مِنْ الأَنْصَارِ وَفِيهِمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى فَذَكَرْتُ حَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ فِي شَأْنِ سُبَيْعَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَلَكِنَّ عَمَّهُ كَانَ لاَ يَقُولُ ذَلِكَ فَقُلْتُ إِنِّي لَجَرِيءٌ إِنْ كَذَبْتُ عَلَى رَجُلٍ فِي جَانِبِ الْكُوفَةِ وَرَفَعَ صَوْتَهُ قَالَ ثُمَّ خَرَجْتُ فَلَقِيتُ مَالِكَ بْنَ عَامِرٍ أَوْ مَالِكَ بْنَ عَوْفٍ قُلْتُ كَيْفَ كَانَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا وَهْيَ حَامِلٌ فَقَالَ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَتَجْعَلُونَ عَلَيْهَا التَّغْلِيظَ وَلاَ تَجْعَلُونَ لَهَا الرُّخْصَةَ لَنَزَلَتْ سُورَةُ النِّسَاءِ الْقُصْرَى بَعْدَ الطُّولَى"

(8/193)


وَقَالَ أَيُّوبُ عَنْ مُحَمَّدٍ لَقِيتُ أَبَا عَطِيَّةَ مَالِكَ بْنَ عَامِر"
[الحديث 4532- طرفه في: 4910]
قوله: "باب {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} ساق الآية إلى قوله: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} . قوله: "يعفون يهبن" ثبت هذا هنا في نسخة الصغاني، وهو تفسير أبو عبيدة قال: يعفون يتركن يهبن، وهو على رأي الحميدي خلافا لمحمد بن كعب فإنه قال المراد عفو الرجال، وهذه اللفظة ونظائرها مشتركة بين الجمع والمذكر والمؤنث، لكن في الرجال النون علامة الرفع، وفي النساء النون ضمير لهن، ووزن جمع المذكر يعفون وجمع المؤنث يفعلن. قوله: "عن حبيب" هو ابن الشهيد كما سيأتي بعد بابين. قوله: "عن ابن أبي مليكة" في رواية الإسماعيلي من طريق علي بن المديني عن يزيد بن زريع "حدثنا حبيب بن الشهيد حدثني عبد الله بن أبي مليكة" . قوله: "قال ابن الزبير" في رواية بن المديني المذكورة" عن عبد الله الزبير" وله من وجه آخر" عن يزيد بن زريع بسنده أن عبد الله ابن الزبير قال قلت لعثمان" . قوله: "فلم تكتبها أو تدعها" كذا في الأصول بصيغة الاستفهام الإنكاري كأنه قال لم تكتبها وقد عرفت أنها منسوخة، أو قال لم تدعها أي تتركها مكتوبة، وهو شك من الراوي أي اللفظين قال. ووقع في الرواية الآتية بعد بابين "فلم تكتبها؟ قال تدعها يا ابن أخي" وفي رواية الإسماعيلي: "لم تكتبها وقد نسخها الآية الأخرى" وهو يؤيد التقدير الذي ذكرته. وله من رواية أخرى "قلت لعثمان: هذه الآية {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} قال: نسختها الآية الأخرى. قلت: تكتبها أو تدعها؟ قال: يا ابن أخي لا أغير منها شيئا عن مكانه" . وهذا السياق أولى من الذي قبله. وأو للتخيير لا للشك. وفي جواب عثمان هذا دليل على أن ترتيب الآي توقيفي. وكأن عبد الله بن الزبير ظن أن الذي ينسخ حكمه لا يكتب، فأجابه عثمان بأن ذلك ليس بلازم والمتبع فيه التوقف، وله فوائد: منها ثواب التلاوة، والامتثال على أن من السلف من ذهب إلى أنها ليست منسوخة وإنما خص من الحول بعضه وبقي البعض وصية لها إن شاءت أقامت كما في الباب عن مجاهد، لكن الجمهور على خلافه. وهذا الموضع مما وقع فيه الناسخ مقدما في ترتيب التلاوة على المنسوخ. وقد قيل إنه لم يقع نظير ذلك إلا هنا وفي الأحزاب على قول من قال أن إحلال جميع النساء هو الناسخ، وسيأتي البحث فيه هناك إن شاء الله تعالى. وقد ظفرت بمواضع أخرى منها في البقرة أيضا قوله: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} فإنها محكمة في التطوع مخصصة لعموم قوله: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} كونها مقدمة في التلاوة، ومنها في البقرة أيضا قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} على قول من قال إن سبب نزولها أن اليهود طعنوا في تحويل القبلة، فإنه يقتضي أن تكون مقدمة في التلاوة متأخرة في النزول، وقد تتبعت من ذلك شيئا كثيرا ذكرته في غير هذا الموضع، ويكفي هنا الإشارة إلى هذا القدر. قوله وقول عثمان لعبد الله "يا ابن أخي" يريد في الإيمان أو بالنسبة إلى السن، وزاد الكرماني: أو على عادة مخاطبة العرب. ويمكن أن يتحد مع الذي قبله. قال أو لأنهما يجتمعان في قصي. قال: إلا أن عثمان وعبد الله في العدد إلى قصي سواء بين كل منهما وبينه أربعة آباء فلو أراد ذلك لقال يا أخي. قوله: "حدثني إسحاق" هو ابن راهويه. وروح هو ابن عبادة، وشبل هو ابن عباد، وابن أبي نجيح هو عبد الله. قوله: "زعم ذلك عن مجاهد" قائل ذلك هو شبل، وفاعل زعم هو ابن أبي نجيح، وبهذا جزم الحميدي في جمعه: وقوله: "وقال عطاء" هو عطف على قوله مجاهد، وهو من رواية ابن أبي نجيح عن

(8/194)


عطاء، ووهم من زعم أنه معلق، وقد أبدى المصنف ما نبهت عليه برواية ورقاء التي ذكرها بعد هذه، وقوله: "عن محمد بن يوسف" هو معطوف على قوله: "أنبأنا روح" وقد أورد أبو نعيم في "المستخرج" هذا الحديث من طريق محمد بن عبد الملك بن زنجويه عن محمد بن يوسف هو الفريابي عن ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد وعن عطاء بتمامه وقال: ذكره البخاري عن الفريابي، هذا يدل على أنه فهم أن البخاري علقه عن شيخه والله أعلم. ثم ذكر المصنف حديث ابن مسعود "أنزلت صورة النساء القصرى بعد الطولى" وسيأتي شرحه في تفسير سورة الطلاق، وقوله: "وقال أيوب" وصله هناك بتمامه.

(8/195)


42- باب {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى}
4533- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا يَزِيدُ أَخْبَرَنَا هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ عَبِيدَةَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال النبي صلى الله عليه وسلم ح. و حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ عَنْ عَبِيدَةَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ: " حَبَسُونَا عَنْ صَلاَةِ الْوُسْطَى حَتَّى غَابَتْ الشَّمْسُ مَلاَ اللَّهُ قُبُورَهُمْ وَبُيُوتَهُمْ أَوْ أَجْوَافَهُمْ شَكَّ يَحْيَى نَارًا"
قوله: "باب حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى" هي تأنيث الأوسط والأوسط الأعدل من كل شيء، وليس المراد به التوسط بين الشيئين لأن فعلى معناها التفضيل، ولا ينبني للتفضيل إلا ما يقبل الزيادة والنقص، والوسط بمعنى الخيار، والعدل يقبلهما، بخلاف المتوسط فلا يقبلهما فلا يبني منه أفعل تفضيل. قوله: "حدثني عبد الله بن محمد" هو الجعفي ويزيد هو ابن هارون وهشام هو ابن حسان ومحمد هو ابن سيرين وعبيدة بفتح العين هو ابن عمرو، وعبد الرحمن في الطريق الثانية هو ابن بشر بن الحكم ويحيى بن سعيد هو القطان. قوله: "حبسونا عن صلاة الوسطى" أي منعونا عن الصلاة الوسطى أي عن إيقاعها، زاد مسلم من طريق شتير بن شكل عن علي "شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر" وزاد في آخره: "ثم صلاها بين المغرب والعشاء" ولمسلم عن ابن مسعود نحو حديث علي، وللترمذي والنسائي من طريق زر بن حبيش عن على مثله، ولمسلم أيضا من طريق أبي حسان الأعرج عن عبيدة السلماني عن علي فذكر الحديث بلفظ: "كما حبسونا عن الصلاة الوسطى حتى غربت الشمس" يعني العصر، وروى أحمد والترمذي من حديث سمرة رفعه قال: "صلاة الوسطى صلاة العصر" وروى ابن جرير من حديث أبي هريرة رفعه: "الصلاة الوسطى صلاة العصر" ومن طريق كهيل بن حرملة "سئل أبو هريرة عن الصلاة الوسطى فقال. اختلفنا فيها ونحن بفناء بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفينا أبو هاشم بن عتبة فقال: أنا أعلم لكم، فقام فاستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم خرج إلينا فقال: أخبرنا أنها صلاة العصر" ومن طريق عبد العزيز بن مروان أنه أرسل إلى رجل فقال: أي شيء سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة الوسطى؟ فقال أرسلني أبو بكر وعمر أسأله وأنا غلام صغير فقال: هي العصر، ومن حديث أبي مالك الأشعري رفعه: "الصلاة الوسطى صلاة العصر" وروى الترمذي وابن حبان من حديث ابن مسعود مثله، وروى ابن جرير من طريق هشام بن عروة عن أبيه قال: كان في مصحف عائشة "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وهي صلاة العصر" وروى ابن المنذر من طريق مقسم عن ابن عباس قال: "شغل الأحزاب النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق عن صلاة العصر حتى غربت الشمس فقال: شغلونا عن الصلاة

(8/195)


الوسطى" وأخرج أحمد من حديث أم سلمة وأبي أيوب وأبي سعيد وزيد بن ثابت وأبي هريرة وابن عباس من قولهم إنها صلاة العصر، وقد اختلف السلف في المراد بالصلاة الوسطى، وجمع الدمياطي في ذلك جزءا مشهورا سماه "كشف الغطا عن الصلاة الوسطى". فبلغ تسعة عشر قولا: أحدها الصبح أو الظهر أو العصر أو المغرب أو جميع الصلوات، فالأول قول أبي أمامة وأنس وجابر وأبي العالية وعبيد بن عمير وعطاء وعكرمة ومجاهد وغيرهم نقله ابن أبي حاتم عنهم وهو أحد قولي ابن عمر وابن عباس ونقله مالك والترمذي عنهما ونقله مالك بلاغا عن علي والمعروف عنه خلافه، وروى ابن جرير من طريق عوف الأعرابي عن أبي رجاء العطاردي قال: "صليت خلف ابن عباس الصبح فقنت فيها ورفع يديه ثم قال: هذه الصلاة الوسطى التي أمرنا أن نقوم فيها قانتين" وأخرجه أيضا من وجه آخر عنه وعن ابن عمرو من طريق أبي العالية "صليت خلف عبد الله بن قيس بالبصرة في زمن عمر صلاة الغداة فقلت لهم: ما الصلاة الوسطى؟ قال هي هذه الصلاة. وهو قول مالك والشافعي فيما نص عليه في "الأم" واحتجوا له بأن فيها القنوت، وقد قال الله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} وبأنها لا تقصر في السفر، وبأنها بين صلاتي جهر وصلاتي سر. والثاني قول زيد بن ثابت أخرجه أبو داود من حديثه قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر بالهاجرة، ولم تكن صلاة أشد على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منها، فنزلت: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} الآية" وجاء عن أبي سعيد وعائشة القول بأنها الظهر أخرجه ابن المنذر وغيره، وروى مالك في "الموطا" عن زيد بن ثابت الجزم بأنها الظهر وبه قال أبو حنيفة في رواية، وروى الطيالسي من طريق زهرة بن معبد قال: "كنا عند زيد بن ثابت فأرسلوا إلى أسامة فسألوه عن الصلاة الوسطى فقال: هي الظهر" ورواه أحمد من وجه آخر وزاد: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر بالهجير فلا يكون وراءه إلا الصف أو الصفان والناس في قائلتهم وفي تجارتهم، فنزلت" . والثالث قول علي بن أبي طالب فقد روى الترمذي والنسائي من طريق زر بن حبيش قال: "قلنا لعبيدة سل عليا عن الصلاة الوسطى، فسأله فقال: كنا نرى أنها الصبح، حتى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم الأحزاب: "شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر" انتهى. وهذه الرواية تدفع دعوى من زعم أن قوله صلاة العصر مدرج من تفسير بعض الرواة وهي نص في أن كونها العصر من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وأن شبهة من قال إنها الصبح قوية، لكن كونها العصر هو المعتمد، وبه قال ابن مسعود وأبو هريرة، وهو الصحيح من مذهب أبي حنيفة وقول أحمد والذي صار إليه معظم الشافعية لصحة الحديث فيه، قال الترمذي: هو قول أكثر علماء الصحابة. وقال الماوردي: هو قول جمهور التابعين. قال ابن عبد البر: هو قول أكثر أهل الأثر، وبه قال من المالكية ابن حبيب وابن العربي وابن عطية، ويؤيده أيضا ما روى مسلم عن البراء بن عازب "نزل حافظوا على الصلوات وصلاة العصر فقرأناها ما شاء الله، ثم نسخت فنزلت {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى} فقال رجل: فهي إذن صلاة العصر، فقال: أخبرتك كيف نزلت" . والرابع نقله ابن أبي حاتم بإسناد حسن عن ابن عباس قال: "صلاة الوسطى هي المغرب، وبه قال قبيصة بن ذؤيب أخرجه أبو جرير، حجه وحجتهم أنها معتدلة في عدد الركعات وأنها لا تقصر في الأسفار وأن العمل مضى على المبادرة إليها والتعجيل لها في أول ما تغرب الشمس وأن قبلها صلاتا سر وبعدها صلاتا جهر. والخامس وهو آخر ما صححه ابن أبي حاتم أخرجه أيضا بإسناد حسن عن نافع قال: "سئل ابن عمر فقال: هي كلهن، فحافظوا عليهن" وبه قال معاذ بن جبل، واحتج له بأن قوله: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} يتناول الفرائض

(8/196)


والنوافل، فعطف عليه الوسطى وأريد بها كل الفرائص تأكيدا لها، واختار هذا القول ابن عبد البر. وأما بقية الأقوال فالسادس أنها الجمعة، ذكره ابن حبيب من المالكية واحتج بما اختصت به من الاجتماع والخطبة، وصححه القاضي حسين في صلاة الخوف من تعليقه، ورجحه أبو شامة. السابع الظهر في الأيام والجمعة يوم الجمعة. الثامن العشاء نقله ابن التين والقرطبي واحتج له بأنها بين صلاتين لا تقصران ولأنها تقع عند النوم فلذلك أمر بالمحافظة عليها واختاره الواحدي. التاسع الصبح والعشاء للحديث الصحيح في أنهما أثقل الصلاة على المنافقين، وبه قال الأبهري من المالكية. العاشر الصبح والعصر لقوة الأدلة في أن كلا منهما قيل إنه الوسطى، فظاهر القرآن الصبح ونص السنة العصر. الحادي عشر صلاة الجماعة. الثاني عشر الوتر وصنف فيه علم الدين السخاوي جزءا ورجحه القاضي تقي الدين الأخنائي واحتج له في جزء رأيته بخطه. الثالث عشر صلاة الخوف. الرابع عشر صلاة عيد الأضحى. الخامس عشر صلاة عيد الفطر. السادس عشر صلاة الضحى. السابع عشر واحدة من الخمس غير معينة قاله الربيع بن خثيم وسعيد بن جبير وشريح القاضي وهو اختيار إمام الحرمين من الشافعية ذكره في النهاية قال كما أخفيت ليلة القدر. الثامن عشر أنها الصبح أو العصر على الترديد وهو غير القول المتقدم الجازم بأن كلا منهما يقال له الصلاة الوسطى. التاسع عشر التوقف فقد روى ابن جرير بإسناد صحيح عن سعيد بن المسيب قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مختلفين في الصلاة الوسطى هكذا وشبك بين أصابعه. العشرون صلاة الليل وجدته عندي وذهلت الآن عن معرفة قائله، وأقوى شبهة لمن زعم أنها غير العصر مع صحة الحديث حديث البراء الذي ذكرته عند مسلم فإنه يشعر بأنها أبهمت بعدما عينت كذا قاله القرطبي، قال وصار إلى أنها أبهمت جماعة من العلماء المتأخرين، قال: وهو الصحيح لتعارض الأدلة وعسر الترجيح. وفي دعوى أنها أبهمت ثم عينت من حديث البراء نظر، بل فيه أنها عينت ثم وصفت، ولهذا قال الرجل فهي إذن العصر ولم ينكر عليه البراء، نعم جواب البراء يشعر بالتوقف لما نظر فيه من الاحتمال، وهذا لا يدفع التصريح بها في حديث علي، ومن حجتهم أيضا ما روى مسلم وأحمد من طريق أبي يونس عن عائشة أنها أمرته أن يكتب لها مصحفا، فلما بلغت {حافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} قال فأملت على "وصلاة العصر" قالت سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم وروى مالك عن عمرو ابن رافع قال كنت أكتب مصحفا لحفصة فقالت: إذا بلغت هذه الآية فآذني، فأملت على "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر" وأخرجه ابن جرير من وجه آخر حسن عن عمرو ابن رافع، وروى ابن المنذر من طريق عبيد الله ابن رافع "أمرتني أم سلمة أن أكتب لها مصحفا" فذكر مثل حديث عمرو ابن رافع سواء، ومن طريق سالم ابن عبد الله بن عمر أن حفصة أمرت إنسانا أن يكتب لها مصحفا نحوه ومن طريق نافع أن حفصة أمرت مولى لها أن يكتب لها مصحفا فذكر مثله وزاد: "كما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولها" قال نافع فقرأت ذلك المصحف فوجدت فيه الواو فتمسك قوم بأن العطف يقتضي المغايرة فتكون صلاة العصر غير الوسطى. وأجيب بأن حديث علي ومن وافقه أصح إسنادا وأصرح وبأن حديث عائشة قد عورض برواية عروة أنه كان في مصحفها "وهي العصر" فيحتمل أن تكون الواو زائدة، ويؤيده ما رواه أبو عبيدة بإسناد صحيح عن أبي بن كعب أنه كان يقرؤها "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر" بغير واو أو هي عاطفة لكن عطف صفة لا عطف ذات، وبأن قوله والصلاة الوسطى والعصر لم يقرأ بها أحد، ولعل أصل ذلك ما في حديث البراء أنها نزلت أولا والعصر ثم نزلت ثانيا بدلها والصلاة الوسطى، فجمع الراوي بينهما، ومع وجود

(8/197)


الاحتمال لا ينهض الاستدلال، فكيف يكون مقدما على النص الصريح بأنها صلاة العصر، قال شيخ شيوخنا الحافظ صلاح الدين العلائي: حاصل أدلة من قال إنها غير العصر يرجع إلى ثلاثة أنواع: أحدها تنصيص بعض الصحابة وهو معارض بمثله ممن قال منهم إنها العصر، ويترجح قول العصر بالنص الصريح المرفوع، وإذا اختلف الصحابة لم يكن قول بعضهم حجة على غيره فتبقى حجة المرفوع قائمة. ثانيها معارضة المرفوع بورود التأكيد على فعل غيرها كالحث على المواظبة على الصبح والعشاء وقد تقدم في كتاب الصلاة، وهو معارض بما هو أقوى منه وهو الوعيد الشديد الوارد في ترك صلاة العصر، وقد تقدم أيضا. ثالثها ما جاء عن عائشة وحفصة من قراءة "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر" فإن العطف يقتضي المغايرة، وهذا يرد عليه إثبات القرآن بخبر الآحاد وهو ممتنع، وكونه ينزل منزلة خبر الواحد مختلف فيه، سلمنا لكن لا يصلح معارضا للمنصوص صريحا، وأيضا فليس العطف صريحا في اقتضاء المغايرة لوروده في نسق الصفات كقوله تعالى: {الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} انتهى ملخصا. وقد تقدم شرح أحوال يوم الخندق في المغازي وما يتعلق بقضاء الفائتة في المواقيت من كتاب الصلاة. قوله: "ملأ الله قبورهم وبيوتهم - أو أجوافهم - نارا شك يحيى" هو القطان راوي الحديث، وأشعر هذا بأنه ساق المتن على لفظه، وأمل لفظ يزيد بن هارون فأخرجه أحمد عنه بلفظ: "ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارا" ولم يشك، وهو لفظ روح بن عبادة كما مضى في المغازي وعيسى بن يونس كما مضى في الجهاد، ولمسلم مثله عن أبي أسامة عن هشام، وكذا له في رواية أبي حسان الأعرج عن عبيدة بن عمرو، ومن طريق شتير ابن شكل عن على مثله، وله من رواية يحيى بن الجزار عن على "قبورهم وبيوتهم - أو قال - قبورهم وبطونهم" ومن حديث بن مسعود " ملأ الله أجوافهم - أو قبورهم - نارا، أو حشى الله أجوافهم وقبورهم نارا" ولا بن حبان من حديث حذيفة "ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارا أو قلوبهم " وهذه الروايات التي وقع فيها الشك مرجوحة بالنسبة إلى التي لا شك فيها. وفي هذا الحديث جواز الدعاء على المشركين بمثل ذلك. قال ابن دقيق العيد: تردد الراوي في قوله: " ملأ الله" أو "حشى" يشرط بأن شرط الرواية بالمعنى أن يتفق المعنى في اللفظين، وملأ ليس مرادفا لحشى، فإن حشى يقتضي التراكم وكثرة أجزاء المحشو بخلاف ملأ، فلا يكون في ذلك متمسك لمن منع الرواية بالمعنى، وقد استشكل هذا الحديث بأنه تضمن دعاء صدر من النبي صلى الله عليه وسلم على من يستحقه وهو من مات منهم مشركا، ولم يقع أحد الشقين وهو البيوت أما القبور فوقع في حق من مات منهم مشركا لا محالة. ويجاب بأن يحمل على سكانها وبه يتبين رجحان الرواية بلفظ قلوبهم أو أجوافهم.

(8/198)


43- باب {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} أَيْ مُطِيعِينَ
4534- حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن إسماعيل بن أبي خالد عن الحارث بن شبيل عن أبي عمرو الشيباني عن زيد بن أرقم قال: "كنا نتكلم في الصلاة يكلم أحدنا أخاه في حاجته حتى نزلت هذه الآية {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى} فأمرنا بالسكوت
قوله: "باب {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} ، أي مطيعين" هو تفسير ابن مسعود أخرجه ابن أبي حاتم بإسناد صحيح، ونقله أيضا عن ابن عباس وجماعة من التابعين. وذكر من وجه آخر عن ابن عباس قال: قانتين أي مصلين. وعن

(8/198)


مجاهد قال: من القنوت الركوع والخشوع وطول القيام وغض البصر وخفض الجناح والرهبة لله. وأصح ما دل عليه حديث الباب - وهو حديث زيد بن أرقم - في أن المراد بالقنوت في الآية السكوت، وقد تقدم شرحه في أبواب. العمل في الصلاة من أواخر كتاب الصلاة، والمراد به السكوت عن كلام الناس لا مطلق الصمت، لأن الصلاة لا صمت فيها بل جميعها قرآن وذكر، والله أعلم.

(8/199)


44- باب {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ}
وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ كُرْسِيُّهُ عِلْمُهُ يُقَالُ بَسْطَةً زِيَادَةً وَفَضْلاً أَفْرِغْ أَنْزِلْ وَلاَ يَئُودُهُ لاَ يُثْقِلُهُ آدَنِي أَثْقَلَنِي وَالْآدُ وَالأَيْدُ الْقُوَّةُ السِّنَةُ نُعَاسٌ يَتَسَنَّهْ يَتَغَيَّرْ فَبُهِتَ ذَهَبَتْ حُجَّتُهُ خَاوِيَةٌ لاَ أَنِيسَ فِيهَا عُرُوشُهَا أَبْنِيَتُهَا نُنْشِرُهَا نُخْرِجُهَا إِعْصَارٌ رِيحٌ عَاصِفٌ تَهُبُّ مِنْ الأَرْضِ إِلَى السَّمَاءِ كَعَمُودٍ فِيهِ نَارٌ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ صَلْدًا لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَابِلٌ مَطَرٌ شَدِيدٌ الطَّلُّ النَّدَى وَهَذَا مَثَلُ عَمَلِ الْمُؤْمِنِ يَتَسَنَّهْ يَتَغَيَّر"
4535- حدثنا عبد الله بن يوسف حدثنا مالك عن نافع "أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان إذا سئل عن صلاة الخوف قال يتقدم الإمام وطائفة من الناس فيصلي بهم الإمام ركعة وتكون طائفة منهم بينهم وبين العدو لم يصلوا فإذا صلى الذين معه ركعة استأخروا مكان الذين لم يصلوا ولا يسلمون ويتقدم الذين لم يصلوا فيصلون معه ركعة ثم ينصرف الإمام وقد صلى ركعتين فيقوم كل واحد من الطائفتين فيصلون لأنفسهم ركعة بعد أن ينصرف الإمام فيكون كل واحد من الطائفتين قد صلى ركعتين فإن كان خوف هو أشد من ذلك صلوا رجالا قياما على أقدامهم أو ركبانا مستقبلي القبلة مستقبليها" قال مالك قال نافع لا أرى عبد الله بن عمر ذكر ذلك إلا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم"
قوله: "باب قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً فَإِذَا أَمِنْتُمْ} الآية" ذكر فيه حديث بن عمر في صلاة الخوف، وقد تقدم البحث فيه في أبواب صلاة الخوف مبسوطا. قوله: "وقال ابن جبير: كرسيه علمه" وصله سفيان الثوري في تفسيره في رواية أبي حذيفة عنه بإسناد صحيح، وأخرجه عبد بن حميد وابن أبي حاتم من وجه آخر عن سعيد بن جبير فزاد فيه: "عن ابن عباس" وأخرجه العقيلي من وجه آخر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو عند الطبراني في "كتاب السنة" من هذا الوجه مرفوعا، وكذا رويناه في "فوائد أبي الحسن علي بن عمر الحربي" مرفوعا والموقوف أشبه. وقال العقيلي: إن رفعه خطأ، ثم هذا التفسير غريب، وقد روى ابن أبي حاتم من وجه آخر عن ابن عباس أن الكرسي موضوع القدمين. وروى ابن المنذر بإسناد صحيح عن أبي موسى مثله، وأخرجا عن السدي أن الكرسي بين يدي العرش، وليس ذلك مغايرا لما قبله، والله أعلم. قوله يقال: "بسطة زيادة وفضلا" هكذا ثبت لغير أبي ذر، وهو تفسير أبي عبيدة قال في قوله: {بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} أي زيادة وفضلا وكثرة، وجاء عن ابن عباس نحوه، وذكره ابن أبي حاتم من طريق السدي عن أبي مالك عن

(8/199)


ابن عباس قال في قوله: {وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً} يقول: فضيلة. قوله: "أفرغ: أنزل" ثبت هذا أيضا لغير أبي ذر، وهو تفسير أبي عبيدة، قال في قوله تعالى: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً} أي أنزع علينا. قوله: "ولا يئوده: لا يثقله" هو تفسير ابن عباس أخرجه ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وذكر مثله عن جماعة من التابعين، ولسقوط ما قبله من رواية أبي ذر صار كأنه من كلام سعيد ابن جبير لعطفه على تفسير الكرسي، ولم أره منقولا عنه. قوله: "آدني: أثقلني، والآد والأيد القوة" هو كلام أبي عبيدة، قال في قوله تعالى: {ولا يئوده} أي لا يثقله، تقول آدنى هذا الأمر أثقلني، وتقول ما آدك فهو لي آيد أي ما أثقلك فهو لي مثقل. وقال في قوله تعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ} أي ذا القوة. قوله: "السنة النعاس" أخرجه ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. قوله: " {َلمْ يَتَسَنَّهْ} لم يتغير" أخرجه ابن أبي حاتم من وجهين عن ابن عباس، وعن السدي مثله قال: لم يحمض التين والعنب ولم يختمر العصير بل هما حلوان كما هما، وعي هذا فالهاء فيه أصلية، وقيل هي هاء السكت، وقيل أصله يتسنن مأخوذ من الحمأ المسنون أي المستن، وفي قراءة يعقوب "لم يتسن" بتشديد النون بلا هاء أي لم تمضي عليه السنون الماضية كأنه ابن ليلة. قوله: "فبهت: ذهبت حجته" هو كلام أبي عبيدة قاله في قوله: {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} قال: انقطع وذهبت حجته. قوله: "خاوية لا أنيس فيها" ذكره ابن أبي حاتم بنحوه من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة في قوله: "وهي خاوية" قال: ليس فيها أحد. قوله: "عروشها: أبنيتها" ثبت هذا والذي بعده لغير أبي ذر، وقد ذكره ابن أبي حاتم من طريق الضحاك والسدي بمعناه. قوله: "ننشرها: نخرجها" أخرجه ابن أبي حاتم من طريق السدي بمعناه في قوله: {كَيْفَ نُنْشِزُهَا} يقول نخرجها، قال: فبعث الله ريحا فحملت عظامه من كل مكان ذهب به الطير والسباع فاجتمعت، فركب بعضها في بعض وهو ينظر، فصار عظما كله لا لحم له ولا دم. "تنبيه" : أخرج ابن أبي حاتم من حديث علي أن هذه القصة وقعت لعزيز، وهو قول عكرمة وقتادة والسدي والضحاك وغيرهم، وذكر بعضهم قصة في ذلك، وأن القرية بيت القدس، وأن ذلك لما خربه بختنصر. وقال وهب بن منبه ومن تبعه: هي أرمياء، وساق ابن إسحاق قصة في المبتدأ.
" تكملة " : استدل بهذه الآية بعض أئمة الأصول على مشروعية القياس بأنها تضمنت قياس إحياء هذه القرية وأهلها وعمارتها لما فيها من الرزق بعد خرابها على إحياء هذا المار وإحياء حماره بعد موتهما بما كان مع المار من الرزق. قوله: "إعصار: ريح عاصف تهب من الأرض إلى السماء كعمود نار" ثبت هذا لأبي ذر عن الحموي وحده، وهو كلام أبي عبيدة، قال في قوله: {إعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ} قال: الإعصار ريح عاصف إلخ، وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: الإعصار ريح فيها سموم شديدة. قوله: "وقال ابن عباس صلدا: ليس عليه شيء" سقط من هنا إلى آخر الباب من رواية أبي ذر، وتفسير قوله: "صلدا" وصله ابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة عنه، وروى ابن أبي حاتم من وجه آخر عن عباس قال: فتركه يابسا لا ينبت شيئا. قوله: "قال عكرمة وابل: مطر شديد، الطل الندى، وهذا مثل عمل المؤمن" وصله عبد بن حميد عن روح بن عبادة عن عثمان بن غياث سمعت عكرمة بهذا، وسيأتي شرح حديث ابن عباس مع عمر في ذلك قريبا. قوله: "يتسنه يتغير" تقدم تفسيره عن ابن عباس، وأما عن عكرمة فذكره ابن أبي حاتم من روايته.

(8/200)


45- باب {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا}
4536- حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الأَسْوَدِ حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ الأَسْوَدِ وَيَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ قَالاَ حَدَّثَنَا حَبِيبُ بْنُ الشَّهِيدِ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: "قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ قُلْتُ لِعُثْمَانَ هَذِهِ الآيَةُ الَّتِي فِي الْبَقَرَةِ {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} إِلَى قَوْلِهِ {غَيْرَ إِخْرَاجٍ} قَدْ نَسَخَتْهَا الأُخْرَى فَلِمَ تَكْتُبُهَا قَالَ تَدَعُهَا يَا ابْنَ أَخِي لاَ أُغَيِّرُ شَيْئًا مِنْهُ مِنْ مَكَانِهِ قَالَ حُمَيْدٌ أَوْ نَحْوَ هَذَا"
قوله: "باب {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} "حديث ابن الزبير مع عثمان، وقد تقدم قبل بابين، وسقطت الترجمة لغير أبي ذر فصار من الباب الذي قبله عندهم.

(8/201)


باب {وإذ قال إبراهيم ربي أرني كيف تحيي الموتى}
...
46- باب {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى}
4537- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ وَسَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}
قوله: "باب {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} فصرهن: قطعهن" ثبت هذا لأبي ذر وحده، وقد أخرجه ابن أبي حاتم من وجهين عن ابن عباس، ومن طريق جماعة من التابعين، ومن وجه آخر عن ابن عباس قال: صرهن أي أو ثقهن ثم اذبحهن. وقد اختلف نقلة القراءات في ضبط هذه اللفظة عن ابن عباس فقيل: بكسر أوله كقراءة حمزة، وقيل بضمه كقراءة الجمهور، وقيل بتشديد الراء مع ضم أوله وكسره من صره يصره إذا جمعه ونقل أبو البقاء تثليث الراء في هذه القراءة وهي شاذة، قال عياض تفسير صرهن بقطعهن غريب والمعروف أن معناها أملهن، يقال صاره يصيره ويصوره إذا أماله، قال ابن التين: صرهن بضم الصاد معناها ضمهن، وبكسرها قطعهن. قلت: ونقل أبو علي الفارسي أنهما بمعنى واحد، وعن الفراء الضم مشترك والكسر القطع فقط، وعنه أيضا هي مقلوبة من قوله صراه عن كذا أي قطعه، يقال صرت الشيء فانصار أي انقطع، وهذا يدفع قول من قال: يتعين حمل تفسير ابن عباس بالقطع على قراءة كسر الصاد، وذكر صاحب "المغرب" أن هذه اللفظة بالسريانية وقيل بالنبطية، لكن المنقول أولا يدل على أنها بالعربية، والعلم عند الله تعالى. حديث أبي هريرة "نحن أحق بالشك من إبراهيم" وقد تقدم شرحه مستوفى في أحاديث الأنبياء.

(8/201)


باب قوله {أيود أحدكم أن تكون له جنة ...}
...
47- باب ـ قَوْلِهِ: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ إِلَى قَوْلِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ}
4538- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ أَخْبَرَنَا هِشَامٌ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي مُلَيْكَةَ يُحَدِّثُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ وَسَمِعْتُ أَخَاهُ أَبَا بَكْرِ بْنَ أَبِي مُلَيْكَةَ يُحَدِّثُ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: "قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَوْمًا

(8/201)


48- باب {لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا}
يُقَالُ أَلْحَفَ عَلَيَّ وَأَلَحَّ عَلَيَّ وَأَحْفَانِي بِالْمَسْأَلَةِ فَيُحْفِكُمْ يُجْهِدْكُمْ
4539- حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ حَدَّثَنِي شَرِيكُ بْنُ أَبِي نَمِرٍ أَنَّ عَطَاءَ بْنَ يَسَارٍ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي عَمْرَةَ الأَنْصَارِيَّ قَالاَ سَمِعْنَا أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: "قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ الْمِسْكِينُ الَّذِي تَرُدُّهُ التَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ وَلاَ اللُّقْمَةُ وَلاَ اللُّقْمَتَانِ إِنَّمَا الْمِسْكِينُ الَّذِي يَتَعَفَّفُ وَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ يَعْنِي قَوْلَهُ : {لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا}
قوله: "باب {لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} يقال ألحف علي، وألح، وأحفاني بالمسألة" زاد في نسخة الصغاني

(8/202)


"فيحفكم يجهدكم" هو تفسير أبي عبيدة قال في قوله تعالى: {وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} يقال أحفاني بالمسألة وألحف علي وألح علي بمعنى واحد، واشتقاق ألحف من اللحاف لأنه يشتمل على وجوه الطلب في المسألة كاشتمال اللحاف في التغطية. وقال أبو عبيدة في قوله: {لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} قال: إلحاحا انتهى. وانتصب "إلحافا" على أنه مصدر في موضع الحال أي لا يسألون في حال الإلحاف، أو مفعول لأجله أي لا يسألون لأجل الإلحاف، وهل المراد نفي المسألة فلا يسألون أصلا، أو نفي السؤال بالإلحاف خاصة فلا ينتفي السؤال بغير إلحاف فيه احتمال، والثاني أكثر في الاستعمال. ويحتمل أن يكون المراد لو سألوا لم يسألوا إلحافا فلا يستلزم الوقوع. ثم ذكر المصنف حديث أبي هريرة "ليس المسكين الذي ترده التمرة" الحديث، وقد تقدم شرحه في كتاب الزكاة، وقوله: "اقرءوا إن شئتم، يعني قوله: {لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} ووقع عند الإسماعيلي بيان قائل "يعني" فإنه أخرجه عن الحسن بن سفيان عن حميد بن زنجويه عن سعيد بن أبي مريم بسنده وقال في آخره: "قلت لسعيد بن أبي مريم: ما تقرأ؟ قال: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} الآية" فيستفاد منه أن قائل يعني هو سعيد بن أبي مريم شيخ البخاري فيه. وقد أخرج مسلم والإسماعيلي هذا الحديث من طريق إسماعيل بن جعفر عن شريك بن أبي نمر بلفظ: اقرءوا إن شئتم {لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} فدل على صحة ما فسرها به سعيد بن أبي مريم. وكذا أخرجه الطبري من طريق صالح بن سويد عن أبي هريرة، لكنه لم يرفعه. وروى أحمد وأبو داود والنسائي وصححه ابن خزيمة وابن حبان من طريق عبد الرحمن بن أبي سعيد عن أبيه مرفوعا: "من سأل وله قيمة أوقية فقد ألحف" وفي رواية ابن خزيمة: "فهو ملحف" والأوقية أربعون درهما. لأحمد من حديث عطاء بن يسار عن رجل من بني أسد رفعه: "من سأل وله أوقية أو عدلها فقد سأل إلحافا" ولأحمد والنسائي من حديث عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده رفعه: "من سأل وله أربعون درهما فهو ملحف" .

(8/203)


49- باب {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} الْمَسُّ الْجُنُونُ
4540- حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "لَمَّا نَزَلَتْ الآيَاتُ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي الرِّبَا قَرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى النَّاسِ ثُمَّ حَرَّمَ التِّجَارَةَ فِي الْخَمْر"
قوله: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} إلى آخر الآية. قوله: "المس الجنون" هو تفسير الفراء، قال في قوله تعالى: {لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} أي لا يقوم في الآخرة، قال: والمس الجنون، والعرب تقول ممسوس أي مجنون انتهى. وقال أبو عبيدة: المس اللمم من الجن. وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: "آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنونا" ومن طريق ابن عبد الله بن مسعود عن أبيه "أنه كان يقرأ: {إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} يوم القيامة" وقوله تعالى {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} يحتمل أن يكون من تمام اعتراض الكفار حيث قالوا {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا} أي فلم أحل هذا وحرم هذا؟ ويحتمل أن يكون ردا عليهم ويكون اعتراضهم بحكم العقل والرد عليهم بحكم الشرع الذي لا معقب لحكمه، وعلى الثاني أكثر المفسرين، واستبعد بعض الحذاق الأول، وليس ببعيد إلا من جهة أن جوابهم بقوله: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ} إلى

(8/203)


آخره يحتاج إلى تقدير، والأصل عدمه. قوله: "فقرأها" أي الآيات. وفي رواية شعبة التي بعد هذه "في المسجد" وقد مضى ما يتعلق به في المساجد من كتاب الصلاة، واقتضى صنيع المصنف في هذه التراجم أن المراد بالآيات آيات الربا كلها إلى آية الدين. قوله: "ثم حرم التجارة في الخمر" تقدم توجيهه في البيوع، وأن تحريم التجارة في الربا وقع بعد تحريم الخمر بمدة فيحصل به جواب من استشكل الحديث بأن آيات الربا من آخر ما نزل من القرآن، وتحريم الخمر تقدم قبل ذلك بمدة.

(8/204)


50- باب {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا} يُذْهِبُهُ
4541- حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ الأَعْمَشِ سَمِعْتُ أَبَا الضُّحَى يُحَدِّثُ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: "لَمَّا أُنْزِلَتْ الْآيَاتُ الأَوَاخِرُ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَلاَهُنَّ فِي الْمَسْجِدِ فَحَرَّمَ التِّجَارَةَ فِي الْخَمْر"
قوله: "باب : {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا} : يذهبه" هو تفسير أبي عبيدة، قال في قوله تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا} أي يذهبه. وأخرج أحمد وابن ماجة وصححه الحاكم من حديث ابن مسعود رفعه: "أن الربا وإن كثر فإن عاقبته إلى قلة" . حديث عائشة المذكور قبله من وجه آخر عن الأعمش، ومراده الإشارة إلى أن هذه الآية من جملة الآيات التي ذكرتها عائشة.

(8/204)


51- باب {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَاعْلَمُوا}
4542- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: "لَمَّا أُنْزِلَتْ الآيَاتُ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ قَرَأَهُنَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ فِي الْمَسْجِدِ وَحَرَّمَ التِّجَارَةَ فِي الْخَمْر"
قوله: "باب {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} : فاعلموا" هو تفسير "فَأْذَنُوا" على القراءة المشهورة بإسكان الهمزة وفتح الذال، قال أبو عبيدة: معنى قوله: "فأذنوا" أيقنوا، وقرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم "فآذنوا" بالمد وكسر الذال أي آذنوا غيركم وأعلموهم، والأول أوضح في مراد السياق. حديث عائشة عن شيخ له آخر.

(8/204)


52- باب {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}
4543- وَ قَالَ لَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مَنْصُورٍ وَالأَعْمَشِ عَنْ أَبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ لَمَّا أُنْزِلَتْ الآيَاتُ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَأَهُنَّ عَلَيْنَا ثُمَّ حَرَّمَ التِّجَارَةَ فِي الْخَمْر"
قوله: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} الآية "كذا لأبي ذر، وساق غيره بقية الآية، وهي خبر بمعنى

(8/204)


53- باب {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ}
4544- حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ بْنُ عُقْبَةَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آيَةُ الرِّبَا"
قوله: "باب {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} قرأ الجمهور بضم التاء من ترجعون مبنيا للمجهول، وقرأ أبو عمرو وحده بفتحها مبنيا للفاعل. قوله: "سفيان" هو الثوري، وعاصم هو ابن سليمان الأحول. قوله: "عن ابن عباس" كذا قال عاصم عن الشعبي، وخالفه داود بن أبي هند عن الشعبي فقال: "عن عمر" أخرجه الطبري بلفظ: "كان من آخر ما نزل من القرآن آيات الربا" وهو منقطع فإن الشعبي لم يلق عمر. قوله: "آخر آية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم آية الربا" كذا ترجم المصنف بقوله: "واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله" وأخرج هذا الحديث بهذا اللفظ، ولعله أراد أن يجمع بين قولي ابن عباس فإنه جاء عنه ذلك من هذا الوجه، وجاء عنه من وجه آخر: آخر آية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} وأخرجه الطبري من طرق عنه، وكذا أخرجه من طرق جماعة من التابعين وزاد عن ابن جريج قال: "يقولون إنه مكث بعدها تسع ليال" ونحوه لابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير، وروي عن غيره أقل من ذلك وأكثر فقيل إحدى وعشرين، وقيل سبعا، وطريق الجمع بين هذين القولين أن هذه الآية هي ختام الآيات المنزلة في الربا إذ هي معطوفة عليهن، وأما ما سيأتي في آخر سورة النساء من حديث البراء "آخر سورة نزلت براءة وآخر آية نزلت يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة" فيجمع بينه وبين قول ابن عباس بأن الآيتين نزلتا جميعا، فيصدق أن كلا منهما آخر بالنسبة لما عداهما، ويحتمل أن تكون الآخرية في آية النساء مقيدة بما يتعلق بالمواريث مثلا، بخلاف آية البقرة، ويحتمل عكسه، والأول أرجح لما في آية البقرة من الإشارة إلى معنى الوفاة المستلزمة لخاتمة النزول، وحكى ابن عبد السلام أن النبي صلى الله عليه وسلم عاش بعد نزول الآية المذكورة إحدى وعشرين يوما، وقيل سبعا، وأما ما ورد في {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} أنها آخر سورة نزلت فسأذكر ما يتعلق به في تفسيرها إن شاء الله تعالى، والله أعلم.
" تنبيه " المراد بالآخرية في الربا تأخر نزول الآيات المتعلقة به من سورة البقرة، وأما حكم تحريم الربا فنزوله سابق لذلك بمدة طويلة على ما يدل عليه قوله تعالى في آل عمران في أثناء قصة أحد {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً} الآية.

(8/205)


54- باب {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
4545- حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ حَدَّثَنَا النُّفَيْلِيُّ حَدَّثَنَا مِسْكِينٌ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ عَنْ مَرْوَانَ الأَصْفَرِ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهْوَ ابْنُ عُمَرَ "أَنَّهَا قَدْ نُسِخَتْ {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ} الآيَة"

(8/205)


55- باب {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ}
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِصْرًا عَهْدًا وَيُقَالُ غُفْرَانَكَ مَغْفِرَتَكَ فَاغْفِرْ لَنَا"

(8/206)


4546- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ أَخْبَرَنَا رَوْحٌ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ عَنْ مَرْوَانَ الأَصْفَرِ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَحْسِبُهُ ابْنَ عُمَرَ {إِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ} قَالَ نَسَخَتْهَا الآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا"
قوله: "باب {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ} أي إلى آخر السورة. قوله: "وقال ابن عباس: إصرا عهدا" وصله الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً} أي عهدا، وأصل الإصر الشيء الثقيل، ويطلق على الشديد، وتفسيره بالعهد تفسير باللازم لأن الوفاء بالعهد شديد. وروى الطبري من طريق ابن جريج في قوله: {إِصْراً} قال: عهدا لا نطيق القيام به. قوله: "ويقال غفرانك مغفرتك فاغفر لنا" هو تفسير أبي عبيدة قال في قوله غفرانك أي مغفرتك أي اغفر لنا. وقال الفراء: غفرانك مصدر وقع في موضع أمر فنصب. وقال سيبوبه التقدير اغفر غفرانك، وقيل يحتمل أن يقدر جملة خبرية أي نستغفرك غفرانك والله أعلم. قوله: "نسختها الآية التي بعدها" قد عرف بيانه من حديثي ابن عباس وأبي هريرة والمراد بقوله نسختها أي أزالت ما تضمنته من الشدة وبينت أنه وإن وقعت المحاسبة به لكنها لا تقع المؤاخذة به أشار إلى ذلك الطبري فرارا من إثبات دخول النسخ في الأخبار. وأجيب بأنه وإن كان خبرا لكنه يتضمن حكما ومهما كان من الأخبار يتضمن الأحكام أمكن دخول النسخ فيه كسائر الأحكام وإنما الذي لا يدخله النسخ من الأخبار ما كان خبرا محضا لا يتضمن حكما كالإخبار عما مضى من أحاديث الأمم ونحو ذلك ويحتمل أن يكون المراد بالنسخ في الحديث التخصيص فإن المتقدمين يطلقون لفظ النسخ عليه كثيرا، والمراد بالمحاسبة بما يخفى الإنسان ما يصمم عليه ويشرع فيه دون ما يخطر له ولا يستمر عليه، والله أعلم.

(8/207)


3- سورة آلِ عِمْرَانَ
تُقَاةٌ وَتَقِيَّةٌ وَاحِدَةٌ صِرٌّ بَرْدٌ شَفَا حُفْرَةٍ مِثْلُ شَفَا الرَّكِيَّةِ وَهْوَ حَرْفُهَا تُبَوِّئُ تَتَّخِذُ مُعَسْكَرًا الْمُسَوَّمُ الَّذِي لَهُ سِيمَاءٌ بِعَلاَمَةٍ أَوْ بِصُوفَةٍ أَوْ بِمَا كَانَ رِبِّيُّونَ الْجَمِيعُ وَالْوَاحِدُ رِبِّيٌّ تَحُسُّونَهُمْ تَسْتَأْصِلُونَهُمْ قَتْلًا غُزًّا وَاحِدُهَا غَازٍ سَنَكْتُبُ سَنَحْفَظُ نُزُلاً ثَوَابًا وَيَجُوزُ وَمُنْزَلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ كَقَوْلِكَ أَنْزَلْتُهُ وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالْخَيْلُ الْمُسَوَّمَةُ الْمُطَهَّمَةُ الْحِسَانُ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى الرَّاعِيَةُ الْمُسَوَّمَةُ وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ وَحَصُورًا لاَ يَأْتِي النِّسَاءَ وَقَالَ عِكْرِمَةُ مِنْ فَوْرِهِمْ مِنْ غَضَبِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ وَقَالَ مُجَاهِدٌ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ مِنْ النُّطْفَةِ تَخْرُجُ مَيِّتَةً وَيُخْرِجُ مِنْهَا الْحَيَّ الإِبْكَارُ أَوَّلُ الْفَجْرِ وَالْعَشِيُّ مَيْلُ الشَّمْسِ أُرَاهُ إِلَى أَنْ تَغْرُب"
قوله: "سورة آل عمران - بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} كذا لأبي ذر ولم أر البسملة لغيره. قوله: "صر: برد" هو تفسير أبي عبيدة، قال في قوله تعالى: {كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ} : الصر شدة البرد. قوله: "شفا حفرة مثل شفا الركية" بفتح الراء كسر الكاف وتشديد التحتانية "وهو حرفها" كذا للأكثر بفتح المهملة وسكون الراء وللنسفي بضم

(8/207)


الجيم والراء والأول الصوب، والجرف الذي أضيف إليه شفا في الآية الأخرى غير شفا هنا، وقد قال أبو عبيدة في قوله تعالى:{شَفَا حُفْرَةٍ} شفا جرف، وهو يقتضي التسوية بينهما في الإضافة وإلا فمدلول جرف غير مدلول حفرة، فإن لفظ شفا يضاف إلى أعلى الشيء ومنه قوله: {شَفَا جُرُفٍ} وإلى أسفل الشيء منه "شفا حفرة" ويطلق شفا أيضا على القليل تقول ما بقي منه شيء غير شفا أي غير قليل، ويستعمل في القرب ومنه أشفى على كذا أي قرب منه. قوله: {تُبَوِّئُ} : تتخذ معسكرا "هو تفسير أبي عبيدة، قال في قوله: { وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} أي تتخذ لهم مصاف ومعسكرا. وقال غيره: تبوئ تنزل، بوأه أنزله، وأصله من المباءة وهي المرجع. والمقاعد جمع مقعد وهو مكان القعود، وقد تقدم شيء من ذلك في غزوة أحد. قوله: "ربيون: الجموع، واحدها ربي" هو تفسير أبي عبيدة قال في قوله: { وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} قال: الربيون الجماعة الكثيرة، واحدها ربي، وهو بكسر الراء في الواحد، والجمع قراءة الجمهور. وعن على وجماعة بضم الراء وهو من تغيير النسب في القراءتين إن كانت النسب إلى رب، وعليها قراءة ابن عباس ربيون بفتح الراء وقيل بل هو منسوب إلى الربة أي الجماعة وهو بضم الراء وبكسرها، فإن كان كذلك فلا تغيير والله أعلم. قوله: "تحسونهم: تستأصلونهم قتلا" وقع هذا بعد قوله: "واحدها ربي" وهو تفسير أبي عبيدة أيضا بلفظه وزاد: يقال حسسناهم من عند آخرهم أي استأصلناهم، وقد تقدم بيان ذلك في غزوة أحد. قوله: "غزا واحدها غاز: هو تفسير أبي عبيدة أيضا، قال في قوله: {أو كانوا غزاً} لا يدخلها رفع ولا جر لأن واحدها غاز، فخرجت مخرج قائل وقول انتهى. وقرأ الجمهور "غزا" بالتشديد جمع غاز وقياسه غزاة، لكن حملوا المعتل على الصحيح كما قال أبو عبيدة، وقرأ الحسن وغيره: "غزا" بالتخفيف فقيل خفف الزاي كراهية التثقيل، وقيل أصله غزاة وحذف الهاء. قوله: "سنكتب ما قالوا: سنحفظ" هو تفسير أبي عبيدة أيضا، لكنه ذكره بضم الياء التحتانية على البناء للمجهول وهي قراءة حمزة، وكذلك قرأ: {وقتلهم} بالرفع عطفا على الموصول لأنه منصوب المحل، وقراءة الجمهور بالنون للمتكلم العظيم، وقتلهم بالنصب على الموصول لأنه منصوب المحل، وتفسير الكتابة بالحفظ تفسير باللازم، وقد كثر ذلك في كلامهم كما مضى ويأتي. قوله: "نزلا: ثوابا: ويجوز ومنزل من عند الله كقولك أنزلته" هو قول أبي عبيدة أيضا بنصه، والنزل ما يهيأ للنزيل وهو الضيف، ثم اتسع فيه حتى سمى به الغداء وإن لم يكن للضيف. وفي نزل قولان: أحدهما مصدر والآخر أنه جمع نازل كقول الأعشى "أو تنزلون فإنا معشر نزل" أي نزول، وفي نصب نزلا في الآية أقوال: منها أنه منصوب على المصدر المؤكد لأنه معنى "لهم جنات" ننزلهم جنات نزلا، وعلى هذا يتخرج التأويل الأول لأن تقديره ينزلهم جنات رزقا وعطاء من عند الله. ومنها أنه حال من الضمير في "فيها" أي منزلة على أن نزلا مصدر بمعنى المفعول، وعليه يتخرج التأويل الثاني. قوله: {وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ} : المسوم الذي له سيماء بعلامة، أو بصوفة، أو بما كان. وقال مجاهد: الخيل المسومة المطهمة الحسان. وقال سعيد بن جبير وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبزي: المسومة الراعية "أما التفسير الأول فقال أبو عبيدة: الخيل المسومة المعلمة بالسيماء. وقال أيضا في قوله: {مِنَ الْمَلائِكَةُ مُسَوِّمِينَ} أي معلمين. والمسموم الذي له سيماء بعلامة أو بصوفة أو بما كان. وأما قول مجاهد فرويناه في تفسير الثوري رواية أبي حذيفة عنه بإسناد صحيح، وكذا أخرجه عبد الرزاق عن الثوري. وأما قول ابن جبير فوصله أبو حذيفة أيضا بإسناد صحيح إليه. وأما قول

(8/208)


ابن أبزي فوصله الطبري من طريقه، وأورد مثله عن ابن عباس من طريق للعوفي عنه. وقال أبو عبيدة أيضا يجوز أن يكون معنى {مُسَوَّمَةً} مرعاة، من أسمتها فصارت سائمة. قوله: "وقال سعيد جبير: وحصورا لا يأتي النساء" وقع هذا بعد ذكر المسومة، وصله الثوري في تفسيره عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير به، وأصل الحصر الحبس والمنع، يقال لمن لا يأتي النساء أعم من أن يكون ذلك بطبعة كالعنين أو بمجاهدة نفسه، وهو الممدوح والمراد في وصف السيد يحيى عليه السلام. قوله: "وقال عكرمة: من فورهم غضبهم يوم بدر" وصله الطبري من طريق داود بن أبي هند عن عكرمة في قوله: {وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا} قال: فورهم ذلك كان يوم أحد غضبوا ليوم بدر بما لقوا، وأخرجه عبد بن حميد من وجه آخر عن عكرمة في قولهم "من فورهم هذا" قال من وجوههم هذا، وأصل الفور العجلة والسرعة، ومنه فارت القدر، يعبر به عن الغضب لأن الغضبان يسارع إلى البطش. قوله: "وقال مجاهد: يخرج الحي من الميت" النطفة تخرج ميتة ويخرج منها الحي" وصله عبد بن حميد من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} قال: الناس الأحياء من النطف الميتة والنطف الميتة من الناس الأحياء. قوله: "الإبكار أول الفجر، والعشي ميل الشمس إلى أن تغرب" وقع هذا أيضا عند غير أبي ذر، وقد تقدم شرحه في بدء الخلق

(8/209)


1- باب {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} وَقَالَ مُجَاهِدٌ الْحَلاَلُ وَالْحَرَامُ {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ} وَكَقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ {وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ} وَكَقَوْلِهِ {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} {زَيْغٌ} شَكٌّ {ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} الْمُشْتَبِهَاتِ {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} يَعْلَمُونَ تأويله {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ}
4547- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ التُّسْتَرِيُّ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "تَلاَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الآيَةَ {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الأَلْبَابِ} قَالَتْ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فَإِذَا رَأَيْتِ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولَئِكِ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ فَاحْذَرُوهُم"
قوله: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} قال مجاهد: الحلال والحرام {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} يصدق بعضها بعضا، كقوله: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ} وكقوله: "ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون" وكقوله: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} هكذا وقع فيه، وفيه تغيير وبتحريره يستقيم الكلام. وقد أخرجه عبد بن حميد بالإسناد الذي ذكرته قريبا إلى مجاهد، قال في قوله تعالى: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} قال ما فيه من الحلال والحرام، وما سوى ذلك منه متشابه يصدق بعضه بعضا، هو مثل قوله: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ} إلى آخر ما ذكره. قوله: {زَيْغٌ} شك {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} المشتبهات "هو تفسير مجاهد أيضا وصله عبد بن حميد بهذا الإسناد كذلك ولفظه: وأما

(8/209)


{الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} قال: شك {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} المشتبهات، الباب الذي ضلوا منه وبه هلكوا. قوله: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} يعلمون و {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} الآية" وصله عبد بن حميد من الطريق المذكور عن مجاهد في قوله: "والراسخون في العلم يعلمون تأويله ويقولون آمنا به" ومن طريق قتادة قال: "قال الراسخون كما يسمعون آمنا به كل من عند ربنا المتشابه والمحكم، فآمنوا بمتشابهه وعملوا بمحكمه فأصابوا" وهذا الذي ذهب إليه مجاهد من تفسير الآية يقتضي أن تكون الواو والراسخون عاطفة على معمول الاستثناء، وقد روى عبد الرزاق بإسناد صحيح عن ابن عباس أنه كان يقرأ: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ} ، ويقول الراسخون في العلم آمنا به فهذا يدل على أن الواو للاستئناف لأن هذه الرواية وإن لم تثبت بها القراءة لكن أقل درجاتها أن تكون خبرا بإسناد صحيح إلى ترجمان القرآن فيقدم كلامه في ذلك على من دونه، ويؤيد ذلك أن الآية دلت على ذم متبعي المتشابه لوصفهم بالزيغ وابتغاء الفتنة، وصرح بوفق ذلك حديث الباب، ودلت الآية على مدح الذين فوضوا العلم إلى الله وسلموا إليه، كما مدح الله المؤمنين بالغيب. وحكى الفراء أن في قراءة أبي بن كعب مثل ذلك أعني ويقول الراسخون في العلم آمنا به.
" تنبيه " : سقط جميع هذه الآثار من أول السورة إلى هنا لأبي ذر عن السرخسي، وثبت عند أبي ذر عن شيخه قبل قوله منه آيات محكمات "باب" بغير ترجمة، ووقع عند أبي ذر آثار أخري: ففي أول السورة قوله: "تقاة وتقية واحد" هو تفسير أبي عبيده أي أنهما مصدران بمعنى واحد وقد قرأ عاصم في رواية عنه "إلا أن تتقوا منهم تقية" . قوله: "التستري" بضم المثناة وسكون المهملة وفتح المثناة. قوله: "عن ابن أبي مليكة عن القاسم بن محمد عن عائشة" قد سمع ابن أبي مليكة من عائشة كثيرا وكثيرا أيضا ما يدخل بينها وبينه واسطة، وقد اختلف عليه في هذا الحديث فأخرجه الترمذي من طريق أبي عامر الجزار عن ابن أبي مليكة عن عائشة، ومن طريق زيد بن إبراهيم كما في الباب بزيادة القاسم، ثم قال: روى غير واحد هذا الحديث عن ابن أبي ملكية عن عائشة ولم يذكروا القاسم، وإنما ذكره يزيد بن إبراهيم انتهى. وقد أخرجه ابن أبي حاتم من طريق أبي الوليد الطيالسي عن يزيد بن إبراهيم وحماد بن سلمة جميعا عن أبي مليكة عن القاسم، فلم ينفرد يزيد بزيادة القاسم: وممن رواه عن ابن أبي مليكة بغير ذكر القاسم أيوب أخرجه ابن ماجه من طريقه، ونافع بن عمر، وابن جريج وغيرهما. قوله: "تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي قرأ: هذه الآية: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} . قال أبو البقاء: أصل المتشابه أن يكون بين اثنين، فإذا اجتمعت الأشياء المتشابهة كان كل منها مشابها للآخر فصح وصفها بأنها متشابهة، وليس المراد أن الآية وحدها متشابهة في نفسها. وحاصله أنه ليس من شرط صحة الوصف في الجمع صحة انبساط مفردات الأوصاف على مفردات الموصوفات، وإن كان الأصل ذلك. قوله: "فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه" قال الطبري قبل إن هذه الآية نزلت في الذين جادلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر عيسى، وقيل في أمر مدة هذه الأمة، والثاني أولى لأن أمر عيسى قد بينه الله لنبيه فهو معلوم لأمته، بخلاف أمر هذه الأمة فإن علمه خفي عن العباد. وقال غيره: المحكم من القرآن ما وضح معناه، والمتشابه نقيضه. وسمى المحكم بذلك لوضوح مفردات كلامه وإتقان تركيبه، بخلاف المتشابه. وقيل المحكم ما عرف المراد منه إما بالظهور وإما بالتأويل، والمتشابه ما استأثر الله بعلمه كقيام الساعة، وخروج الدجال، والحروف المقطعة في أوائل السور. وقيل في تفسير المحكم والمتشابه أقوال أخرى غير هذه نحو العشرة ليس هذا موضع بسطها، وما ذكرته أشهرها وأقربها إلى الصواب

(8/210)


وذكر الأستاذ أبو منصور البغدادي أن الأخير هو الصحيح عندنا، وابن السمعاني أنه أحسن الأقوال والمختار على طريقة أهل السنة، وعلى القول الأول جرى المتأخرون والله أعلم. وقال الطيبي: المراد بالمحكم ما اتضح معناه، والمتشابه بخلافه، لأن اللفظ الذي يقبل معنى إما أن يقبل غيره أو لا، الثاني النص، والأول إما أن تكون دلالته على ذلك المعنى راجحة أو لا، والأول هو الظاهر، والثاني إما أن يكون مساويه أو لا، والأول هو المجمل، والثاني المؤول. فالمشترك هو النص، والظاهر هو المحكم، والمشترك بين المجمل والمؤول هو المتشابه. ويؤيد هذا التقسيم أنه سبحانه وتعالى أوقع المحكم مقابلا للمتشابه، فالواجب أن يفسر المحكم بما يقابله، ويؤيد ذلك أسلوب الآية وهو الجمع مع التقسيم لأنه تعالى فرق ما جمع في معنى الكتاب بأن قال: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} أراد أن يضيف إلى كل منهما ما شاء منهما من الحكم فقال أولا { فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} - إلى أن قال – {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} وكان يمكن أن يقال: وأما الذين في قلوبهم استقامة فيتبعون المحكم، لكنه وضع موضع ذلك الراسخون في العلم لإتيان لفظ الرسوخ لأنه لا يحصل إلا بعد التتبع التام والاجتهاد البليغ، فإذا استقام القلب على طريق الرشاد ورسخ القدم في العلم أفصح صاحبه النطق بالقول الحق، وكفى بدعاء الراسخين في العلم {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} إلخ شاهدا على أن {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} مقابل لقوله : {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} وفيه إشارة على أن الوقف على قوله: {إلاَّ الله} تام وإلى أن علم بعض المتشابه مختص بالله تعالى، وأن من حاول معرفته هو الذي أشار إليه في الحديث بقوله: "فاحذروهم" وقال بعضهم: العقل مبتلي باعتقاد حقيقة المتشابه كابتلاء البدن بأداء العبادة، كالحكيم إذا صنف كتابا أجمل فيه أحيانا ليكون موضع خضوع المتعلم لأستاذه، وكالملك يتخذ علامة يمتاز بها من يطلعه على سر وقيل: لو لم يقبل العقل الذي هو أشرف البدن لاستمر العالم في أبهة العلم على التمرد، فبذلك يستأنس إلى التذلل بعز العبودية، والمتشابه هو موضع خضوع العقول لباريها استسلاما واعترافا بقصورها، وفي ختم الآية بقوله تعالى: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الْأَلْبَابِ} تعريض بالزائغين ومدح للراسخين، يعني من لم يتذكر ويتعظ ويخالف هواه فليس من أولى العقول، ومن ثم قال الراسخون {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا} إلى آخر الآية، فخضعوا لباريهم لاشترك العلم اللدني بعد أن استعاذوا به من الزيغ النفساني وبالله التوفيق. وقال غيره. دلت الآية على أن بعض القرآن محكم وبعضه متشابه، ولا يعارض ذلك قوله: {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} ولا قوله: {كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ} حتى زعم بعضهم أن كله محكم، وعكس آخرون، لأن المراد بالإحكام في قوله: {أُحْكِمَتْ} الإتقان في النظم وأن كلها حق من عند الله، والمراد بالمتشابه كونه يشبه بعضه بعضا في حسن السياق والنظم أيضا، وليس المراد اشتباه معناه على سامعه. وحاصل الجواب أن المحكم ورد بإزاء معنيين، والمتشابه ورد بإزاء معنيين، والله أعلم. قوله: "فهم الذين سمى الله فاحذروهم" في رواية الكشميهني فاحذرهم "بالإقراد والأولى أولى، والمراد التحذير من الإصغار إلى الذين يتبعون المتشابه من القرآن، وأول ما ظهر ذلك من اليهود كما ذكره ابن إسحاق في تأويلهم الحروف المقطعة وأن عددها بالجمل مقدار مدة هذه الأمة، ثم أول ما ظهر في الإسلام من الخوارج حتى جاء ابن عباس أنه فسر بهم الآية، وقصة عمر في إنكاره على ضبيع لما بلغه أنه يتبع المتشابه فضربه على رأسه حتى أدماه، أخرجها الدارمي وغيره. وقال الخطابي: المتشابه على ضربين: أحدهما ما إذا رد إلى المحكم واعتبر به عرف معناه، والآخر ما لا سبيل إلى الوقوف على حقيقته، وهو الذي يتبعه أهل الزيغ

(8/211)


فيطلبون تأويله، ولا يبلغون كنهه، فيرتابون فيه فيفتنون، والله أعلم.

(8/212)


2- باب {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}
4548- حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلاَّ وَالشَّيْطَانُ يَمَسُّهُ حِينَ يُولَدُ فَيَسْتَهِلُّ صَارِخًا مِنْ مَسِّ الشَّيْطَانِ إِيَّاهُ إِلاَّ مَرْيَمَ وَابْنَهَا" ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ وَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}
قوله: "باب {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} أورد فيه حديث أبي هريرة" ما من مولود يولد إلا والشيطان يمسه" الحديث، وقد تقدم الكلام على شرحه واختلاف ألفاظه في أحاديث الأنبياء. وقد طعن صاحب "الكشاف" في معنى هذا الحديث وتوقف في صحته فقال: إن صح هذا الحديث فمعناه أن كل مولود يطمع الشيطان في إغوائه إلا مريم وابنها فإنهما كانا معصومين، وكذلك من كان في صفتهما، لقوله تعالى :{إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} قال: واستهلال الصبي صارخا من مس الشيطان تخييل لطمعه فيه كأنه يمسه ويضرب بيده عليه ويقول هذا ممن أغويه. وأما صفة النخس كما يتوهمه أهل الحشو فلا، ولو ملك إبليس على الناس نخسهم لامتلأت الدنيا صراخا انتهى. وكلامه متعقب من وجوه، والذي يقتضيه لفظ الحديث لا إشكال في معناه، ولا مخالفة لما ثبت من عصمة الأنبياء بل ظاهر الخبر أن إبليس ممكن من مس كل مولود عند ولادته، لكن من عباد الله المخلصين لم يضره ذلك المس أصلا، واستثنى من المخلصين مريم وابنها فإنه ذهب يمس على عادته فحيل بينه وبين ذلك، فهذا وجه الاختصاص، ولا يلزم منه تسلطه على غيرهما من المخلصين. وأما قوله: "لو ملك إبليس إلخ" فلا يلزم من كونه جعل له ذلك عند ابتداء الوضع أن يستمر ذلك في حق كل أحد، وقد أورد الفخر الرازي هذا الإشكال وبالغ في تقريره على عادته وأجمل الجواب فما زاد على تقريره أن الحديث خبر واحد ورد على خلاف الدليل، لأن الشيطان إنما يغوي من يعرف الخير والشر، والمولود بخلاف ذلك، وأنه لو مكن من هذا القدر لفعل أكثر من ذلك من إهلاك وإفساد، وأنه لا اختصاص لمريم وعيسى بذلك دون غيرهما، إلى آخر كلام "الكشاف" . ثم أجاب بأن هذه الوجوه محتملة، ومع الاحتمال لا يجوز دفع الخبر انتهى وقد فتح الله تعالى بالجواب كما تقدم، والجواب عن إشكال الإغواء يعرف مما تقدم أيضا، وحاصله أن ذلك جعل علامة في الابتداء على من يتمكن من إغوائه، والله أعلم.

(8/212)


3- باب {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً أُولَئِكَ لاَ خَلاَقَ} لَهُمْ لاَ خَيْرَ {أَلِيمٌ} مُؤْلِمٌ مُوجِعٌ مِنْ الأَلَمِ وَهْوَ فِي مَوْضِعِ مُفْعِلٍ
4549، 4550- حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ حَلَفَ يَمِينَ صَبْرٍ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَقِيَ

(8/212)


4- باب {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَنْ لاَ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ} سَوَاءٍ قَصْدٍ
4553- حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى عَنْ هِشَامٍ عَنْ مَعْمَرٍ ح و حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ "حَدَّثَنِي أَبُو سُفْيَانَ مِنْ فِيهِ إِلَى فِيَّ قَالَ انْطَلَقْتُ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنِي وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فَبَيْنَا أَنَا بِالشَّأْمِ إِذْ جِيءَ بِكِتَابٍ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى هِرَقْلَ قَالَ وَكَانَ دَحْيَةُ الْكَلْبِيُّ جَاءَ بِهِ فَدَفَعَهُ إِلَى عَظِيمِ بُصْرَى فَدَفَعَهُ عَظِيمُ بُصْرَى إِلَى هِرَقْلَ قَالَ فَقَالَ هِرَقْلُ هَلْ هَا هُنَا أَحَدٌ مِنْ قَوْمِ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ فَقَالُوا نَعَمْ قَالَ فَدُعِيتُ فِي نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ فَدَخَلْنَا عَلَى هِرَقْلَ فَأُجْلِسْنَا بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ أَيُّكُمْ أَقْرَبُ نَسَبًا مِنْ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ فَقُلْتُ أَنَا فَأَجْلَسُونِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَجْلَسُوا أَصْحَابِي خَلْفِي ثُمَّ دَعَا بِتَرْجُمَانِهِ فَقَالَ قُلْ لَهُمْ إِنِّي سَائِلٌ هَذَا عَنْ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ فَإِنْ كَذَبَنِي فَكَذِّبُوهُ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ وَايْمُ اللَّهِ لَوْلاَ أَنْ يُؤْثِرُوا عَلَيَّ الْكَذِبَ لَكَذَبْتُ ثُمَّ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ سَلْهُ كَيْفَ حَسَبُهُ فِيكُمْ قَالَ قُلْتُ هُوَ فِينَا ذُو حَسَبٍ قَالَ فَهَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مَلِكٌ قَالَ قُلْتُ لاَ قَالَ فَهَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ قُلْتُ لاَ قَالَ أَيَتَّبِعُهُ أَشْرَافُ النَّاسِ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ قَالَ قُلْتُ بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ قَالَ يَزِيدُونَ أَوْ يَنْقُصُونَ قَالَ قُلْتُ لاَ بَلْ يَزِيدُونَ قَالَ هَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنْ دِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ سَخْطَةً لَهُ قَالَ قُلْتُ لاَ قَالَ فَهَلْ قَاتَلْتُمُوهُ قَالَ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ فَكَيْفَ كَانَ قِتَالُكُمْ إِيَّاهُ قَالَ قُلْتُ تَكُونُ الْحَرْبُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ سِجَالاً يُصِيبُ مِنَّا وَنُصِيبُ مِنْهُ قَالَ فَهَلْ يَغْدِرُ قَالَ قُلْتُ لاَ وَنَحْنُ مِنْهُ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ لاَ نَدْرِي مَا هُوَ صَانِعٌ فِيهَا قَالَ وَاللَّهِ مَا أَمْكَنَنِي مِنْ كَلِمَةٍ أُدْخِلُ فِيهَا شَيْئًا غَيْرَ هَذِهِ قَالَ فَهَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ

(8/214)


أَحَدٌ قَبْلَهُ قُلْتُ لاَ ثُمَّ قَالَ لِتُرْجُمَانِهِ قُلْ لَهُ إِنِّي سَأَلْتُكَ عَنْ حَسَبِهِ فِيكُمْ فَزَعَمْتَ أَنَّهُ فِيكُمْ ذُو حَسَبٍ وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ فِي أَحْسَابِ قَوْمِهَا وَسَأَلْتُكَ هَلْ كَانَ فِي آبَائِهِ مَلِكٌ فَزَعَمْتَ أَنْ لاَ فَقُلْتُ لَوْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مَلِكٌ قُلْتُ رَجُلٌ يَطْلُبُ مُلْكَ آبَائِهِ وَسَأَلْتُكَ عَنْ أَتْبَاعِهِ أَضُعَفَاؤُهُمْ أَمْ أَشْرَافُهُمْ فَقُلْتَ بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ وَسَأَلْتُكَ هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ فَزَعَمْتَ أَنْ لاَ فَعَرَفْتُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَدَعَ الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ ثُمَّ يَذْهَبَ فَيَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنْ دِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ سَخْطَةً لَهُ فَزَعَمْتَ أَنْ لاَ وَكَذَلِكَ الإِيمَانُ إِذَا خَالَطَ بَشَاشَةَ الْقُلُوبِ وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ فَزَعَمْتَ أَنَّهُمْ يُزِيدُونَ وَكَذَلِكَ الإِيمَانُ حَتَّى يَتِمَّ وَسَأَلْتُكَ هَلْ قَاتَلْتُمُوهُ فَزَعَمْتَ أَنَّكُمْ قَاتَلْتُمُوهُ فَتَكُونُ الْحَرْبُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ سِجَالًا يَنَالُ مِنْكُمْ وَتَنَالُونَ مِنْهُ وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْتَلَى ثُمَّ تَكُونُ لَهُمْ الْعَاقِبَةُ وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَغْدِرُ فَزَعَمْتَ أَنَّهُ لاَ يَغْدِرُ وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ لاَ تَغْدِرُ وَسَأَلْتُكَ هَلْ قَالَ أَحَدٌ هَذَا الْقَوْلَ قَبْلَهُ فَزَعَمْتَ أَنْ لاَ فَقُلْتُ لَوْ كَانَ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ أَحَدٌ قَبْلَهُ قُلْتُ رَجُلٌ ائْتَمَّ بِقَوْلٍ قِيلَ قَبْلَهُ قَالَ ثُمَّ قَالَ بِمَ يَأْمُرُكُمْ قَالَ قُلْتُ يَأْمُرُنَا بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّلَةِ وَالْعَفَافِ قَالَ إِنْ يَكُ مَا تَقُولُ فِيهِ حَقًّا فَإِنَّهُ نَبِيٌّ وَقَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ خَارِجٌ وَلَمْ أَكُ أَظُنُّهُ مِنْكُمْ وَلَوْ أَنِّي أَعْلَمُ أَنِّي أَخْلُصُ إِلَيْهِ لاَحْبَبْتُ لِقَاءَهُ وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ عَنْ قَدَمَيْهِ وَلَيَبْلُغَنَّ مُلْكُهُ مَا تَحْتَ قَدَمَيَّ قَالَ ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَأَهُ فَإِذَا فِيهِ: " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ سَلاَمٌ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الإِسْلاَمِ أَسْلِمْ تَسْلَمْ وَأَسْلِمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الأَرِيسِيِّينَ وَ {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَنْ لاَ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ- إِلَى قَوْلِهِ- اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ الْكِتَابِ ارْتَفَعَتْ الأَصْوَاتُ عِنْدَهُ وَكَثُرَ اللَّغَطُ وَأُمِرَ بِنَا فَأُخْرِجْنَا قَالَ فَقُلْتُ لأَصْحَابِي حِينَ خَرَجْنَا لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ إِنَّهُ لَيَخَافُهُ مَلِكُ بَنِي الأَصْفَرِ فَمَا زِلْتُ مُوقِنًا بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سَيَظْهَرُ حَتَّى أَدْخَلَ اللَّهُ عَلَيَّ الإِسْلاَمَ قَالَ الزُّهْرِيُّ فَدَعَا هِرَقْلُ عُظَمَاءَ الرُّومِ فَجَمَعَهُمْ فِي دَارٍ لَهُ فَقَالَ يَا مَعْشَرَ الرُّومِ هَلْ لَكُمْ فِي الْفَلاَحِ وَالرَّشَدِ آخِرَ الأَبَدِ وَأَنْ يَثْبُتَ لَكُمْ مُلْكُكُمْ قَالَ فَحَاصُوا حَيْصَةَ حُمُرِ الْوَحْشِ إِلَى الأَبْوَابِ فَوَجَدُوهَا قَدْ غُلِّقَتْ فَقَالَ عَلَيَّ بِهِمْ فَدَعَا بِهِمْ فَقَالَ إِنِّي إِنَّمَا اخْتَبَرْتُ شِدَّتَكُمْ عَلَى دِينِكُمْ فَقَدْ رَأَيْتُ مِنْكُمْ الَّذِي أَحْبَبْتُ فَسَجَدُوا لَهُ وَرَضُوا عَنْه"

(8/215)


قوله: "باب قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَنْ لاَ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ} كذا للأكثر، ولأبي ذر "وبينكم الآية" . قوله: "سواء قصدا" كذا لأبي ذر بالنصب، ولغيره بالجر فيهما وهو أظهر على الحكاية، لأنه يفسر قوله: {إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ} وقد قرئ في الشواذ بالنصب وهي قراءة الحسن البصري قال الحوفي: أنتصب على المصدر، أي استوت استواء. والقصد بفتح القاف وسكون المهملة: الوسط المعتدل. قال أبو عبيدة في قوله: {إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ} أي عدل. وكذا أخرجه الطبري وابن أبي حاتم من طريق الربيع بن أنس. وأخرج الطبري عن قتادة مثله، ونسبها الفراء إلى قراءة ابن مسعود. وأخرج عن أبي العالية أن المراد بالكلمة لا إله إلا الله، وعلى ذلك يدل سياق الآية الذي تضمنه قوله: "أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله" فإن جميع ذلك داخل تحت كلمة الحق وهي لا إله إلا الله، والكلمة على هذا بمعنى الكلام، وذلك سائغ في اللغة، فتطلق الكلمة على الكلمات لأن بعضها ارتبط ببعض فصارت في قوة الكلمة الواحدة، بخلاف اصطلاح النحاة في تفريقهم بين الكلمة والكلام. ثم ذكر المصنف حديث أبي سفيان في قصة هرقل بطوله، وقد شرحته في بدء الوحي، وأحلت بقية شرحه على الجهاد فلم يقدر إيراده هناك. فأوردته هنا. وهشام في أول الإسناد هو ابن يوسف الصنعاني. قوله: "حدثني أبو سفيان من فيه إلى في" إنما لم يقل إلى أذني يشير إلى أنه كان متمكنا من الإصغاء إليه بحيث يجيبه إذا احتاج إلى الجواب، فلذلك جعل التحديث متعلقا بفمه، وهو في الحقيقة إنما يتعلق بأذنه. واتفق أكثر الروايات على أن الحديث كله من رواية ابن عباس عن أبي سفيان إلا ما وقع من رواية صالح بن كيسان عن الزهري في الجهاد فإنه ذكر أول الحديث عن ابن عباس إلى قوله: "فلما جاء قيصر كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين قرأه التمسوا لي هاهنا أحدا من قومه لأسألهم عنه، قال ابن عباس فأخبرني أبو سفيان أنه كان بالشام" الحديث. كذا وقع عند أبي يعلى من رواية الوليد بن محمد عن الزهري، وهذه الرواية المفصلة تشعر بأن فاعل "قال:"الذي وقع هنا من قوله: "قال وكان دحية إلخ" هو ابن عباس لا أبو سفيان، وفاعل "قال وقال هرقل هل هنا أحد" هو أبو سفيان. قوله: "هرقل" بكسر الهاء وفتح الراء وسكون القاف على المشهور في الروايات، وحكى الجوهري وغير واحد من أهل اللغة سكون الراء وكسر القاف، وهو اسم غير عربي فلا ينصرف للعلمية والعجمة. قوله: "فدعيت في نفر من قريش فدخلنا على هرقل" فيه حذف تقديره: فجاءنا رسوله، فتوجهنا معه، فاستأذن لنا فأذن فدخلنا. وهذه الفاء تسمى الفصيحة، وهي الدالة على محذوف قبلها هو سبب لما بعدها، سميت فصيحة لإفصاحها عما قبلها. وقيل لأنها تدل على فصاحة المتكلم بها فوصفت بالفصاحة على الإسناد المجازي، ولهذا لا تقع إلا في كلام بليغ. ثم إن ظاهر السياق أن هرقل أرسل إليه بعينه، وليس كذلك، وإنما كان المطلوب من يوجد من قريش. ووقع في الجهاد "قال أبو سفيان: فوجدنا رسول قيصر ببعض الشام، فانطلق بي وبأصحابي حتى قدمنا إلى إيلياء" وتقدم في بدء الوحي أن المراد بالبعض غزة، وقيصر هو هرقل وهرقل اسمه وقيصر لقبه. قوله: "فدخلنا على هرقل" تقدم في بدء الوحي بلفظ: "فأتوه وهو بإيلياء. وفي رواية هناك" وهم بإيلياء "واستشكلت ووجهت أن المراد الروم مع ملكهم، والأول أصوب. قوله: "فأجلسنا بين يديه فقال: أيكم أقرب نسبا من هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ فقال أبو سفيان: فقلت أنا. فأجلسوني بين يديه وأجلسوا أصحابي خلفي، ثم دعا بترجمانه" وهذا يقتضي أن هرقل خاطبهم أولا بغير ترجمان، ثم دعا بالترجمان،

(8/216)


لكن وقع في الجهاد بلفظ: "فقال لترجمانه: سلهم أيهم أقرب نسبا إلخ" فيجمع بين هذا الاختلاف بأن قوله: "ثم دعا بترجمانه" أي فأجلسه إلى جنب أبي سفيان، لا أن المراد أنه كان غائبا فأرسل في طلبه فحضر، وكأن الترجمان كان واقفا في المجلس كما جرت به عادة ملوك الأعاجم، فخاطبهم هرقل بالسؤال الأول، فلما تحرر له حال الذي أراد أن يخاطبه من بين الجماعة أمر الترجمان بالجلوس إليه ليعبر عنه بما أراد، والترجمان من يفسر لغة بلغة فعلى هذا لا يقال ذلك لمن فسر كلمة غريبة بكلمة واضحة، فإن اقتضى معنى الترجمان ذلك فليعرف أنه الذي يفسر لفظا بلفظ. وقد اختلف هل هو عربي أو معرب؟ والثاني أشهر، وعلى الأول فنونه زائدة اتفاقا. ثم قيل هو من ترجيم الظن، وقيل من الرجم، فعلى الثاني تكون التاء أيضا زائدة، ويوجب كونه من الرجم أن الذي يلقي الكلام كأنه يرجم الذي يلقيه إليه. قوله: "أقرب نسبا من هذا الرجل" من كأنها ابتدائية والتقدير "أيكم أقرب نسبا مبدؤه من هذا الرجل" أو هي بمعنى الباء ويؤيده أن في الرواية التي في بدء الوحي "بهذا الرجل" وفي رواية الجهاد "إلى هذا الرجل" ولا إشكال فيه فإن أقرب يتعدى بإلى، قال الله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} والمفضل عليه محذوف تقديره من غيره، ويحتمل أن يكون في رواية الباب بمعنى الغاية فقد ثبت ورودها للغاية مع قلة. قوله: "وأجلسوا أصحابي خلفي" في رواية الجهاد "عند كتفي" وهي أخص، وعند الواقدي "فقال لترجمانه: قل لأصحابه إنما جعلتكم عن كتفيه لتردوا عليه كذبا إن قاله. قوله:"عن هذا الرجل "أشار إليه إشارة القرب لقرب العهد بذكره، أو لأنه معهود في أذهانهم لاشتراك الجميع في معاداته. ووقع عند ابن إسحاق من الزيادة في هذه القصة" قال أبو سفيان: فجعلت أزهده في شأنه وأصغر أمره وأقول: إن شأنه دون ما بلغك، فجعل لا يلتفت إلى ذلك" . قوله: "فإن كذبني" بالتخفيف "فكذبوه" بالتشديد، أي قال لترجمانه: يقول لكم ذلك. ولما جرت العادة أن مجالس الأكابر لا يواجه أحد فيها بالتكذيب احتراما لهم، أذن لهم هرقل في ذلك للمصلحة التي أرادها. قال محمد بن إسماعيل التيمي: كذب بالتخفيف يتعدى إلى مفعولين مثل صدق، تقول كذبني الحديث وصدقني الحديث، قال الله تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ} وكذب بالتشديد يتعدى إلى مفعول واحد، وهما من غرائب الألفاظ لمخالفتهما الغالب لأن الزيادة تناسب الزيادة وبالعكس، والأمر هنا بالعكس. قوله: "وأيم الله" بالهمزة وبغير الهمزة وفيها لغات أخرى تقدمت. قوله: "يؤثر" بفتح المثلثة أي ينقل. قوله: "كيف حسبه" كذا هنا، وفي غيرها "كيف نسبه"؟ والنسب الوجه الذي يحصل به الأدلاء من جهة الآباء، والحسب ما يعده المرء من مفاخر آبائه وقوله: "هو فينا ذو حسب" في غيرها "ذو نسب" واستشكل الجواب لأنه لم يزد على ما في السؤال لأن السؤال تضمن أن له نسبا أو حسبا، والجواب كذلك. وأجيب بأن التنوين يدل على التعظيم كأنه قال: هو فينا ذو نسب كبير أو حسب رفيع. ووقع في رواية ابن إسحاق "كيف نسبه فيكم؟ قال في الذروة" وهي بكسر المعجمة وسكون الراء أعلى ما في البعير من السنام، فكأنه قال هو من أعلانا نسبا. وفي حديث دحية عند البزار "حدثني عن هذا الذي خرج بأرضكم ما هو؟ قال: شاب. قال: كيف حسبه فيكم؟ قال هو في حسب ما لا يفضل عليه أحد. قال: هذه آية" . قوله: "هل كان في آبائه ملك" في رواية الكشميهني: "من آبائه" وملك هنا بالتنوين وهي تؤيد أن الرواية السابقة في بدء الوحي بلفظ: "من ملك" ليست بلفظ الفعل الماضي. قوله: "قال يزيدون أم ينقصون" كذا فيه بإسقاط همزة الاستفهام، وقد جزم ابن مالك بجوازه مطلقا خلافا لمن خصه بالشعر. قوله: "قال هل يرتد إلخ" إنما لم

(8/217)


يستغن هرقل بقوله بل يزيدون عن هذا السؤال لأنه لا ملازمة بين الارتداد والنقص، فقد يرتد بعضهم ولا يظهر فيهم النقص باعتبار كثرة من يدخل وقلة من يرتد مثلا. قوله: "سخطة له" يريد أن من دخل في الشيء على بصيرة يبعد رجوعه عنه، بخلاف من لم يكن ذلك من صميم قلبه فإنه يتزلزل بسرعة، وعلى هذا يحمل حال من ارتد من قريش، ولهذا لم يعرج أبو سفيان على ذكرهم، وفيهم صهره زوج ابنته أم حبيبة وهو عبيد الله بن جحش، فإنه كان أسلم وهاجر إلى الحبشة بزوجته ثم تنصر بالحبشة ومات على نصرانيته، وتزوج النبي صلى الله عليه وسلم أم حبيبة بعده، وكأنه ممن لم يكن دخل في الإسلام على بصيرة، وكان أبو سفيان وغيره من قريش يعرفون ذلك منه ولذلك لم يعرج عليه خشية أن يكذبوه، ويحتمل أن يكونوا عرفوه بما وقع له من التنصر وفيه بعد، أو المراد بالارتداد الرجوع إلى الدين الأول، ولم يقع ذلك لعبيد الله بن جحش، ولم يطلع أبو سفيان على من وقع له ذلك. زاد في حديث دحية "أرأيت من خرج من أصحابه إليكم هل يرجعون إليه؟ قال نعم" . قوله: "فهل قاتلتموه" نسب ابتداء القتال إليهم ولم يقل قاتلكم فينسب ابتداء القتال إليه محافظة على احترامه، أو لاطلاعه على أن النبي لا يبدأ قومه بالقتال حتى يقاتلوه، أو لما عرفه من العادة من حمية من يدعي إلى الرجوع عن دينه. وفي حديث دحية "هل ينكب إذا قاتلكم؟ قال: قد قاتله قوم فهزمهم وهزموه هذه آية" . قوله: "يصيب منا ونصيب منه" وقعت المقاتلة بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قريش قبل هذه القصة في ثلاثة مواطن: بدر واحد والخندق، فأصاب المسلمون من المشركين في بدر وعكسه في أحد، وأصيب من الطائفتين ناس قليل في الخندق، فصح قول أبي سفيان يصيب منا ونصيب منه، ولم يصب من تعقب كلامه وأن فيه دسيسة لم ينبه عليها كما نبه على قوله: "ونحن منه في مدة لا ندري ما هو صانع فيها" والحق أنه لم يدس في هذه القصة شيئا وقد ثبت مثل كلامه هذا من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم كما أشرت إليه في بدء الوحي. قوله: "إني سألتك عن حسبه فيكم" ذكر الأسئلة والأجوبة على ترتيب ما وقعت، وأجاب عن كل جواب بما يقتضيه الحال، وحاصل الجميع ثبوت علامات النبوة في الجميع: فالبعض مما تلقفه من الكتب، والبعض مما استقرأه بالعادة، ووقع في بدء الوحي إعادة الأجوبة مشوشة الترتيب، وهو من الراوي، بدليل أنه حذف منها واحدة وهي قوله: "هل قاتلتموه إلخ" ووقع في رواية الجهاد شيء خالفت فيه ما في الموضعين، فإنه أضاف قوله: "بم يأمركم" إلى بقية الأسئلة فكملت بها عشرة، وأما هنا فإنه أخر قوله: "بم يأمركم" إلى ما بعد إعادة الأسئلة والأجوبة وما رتب عليها وقوله: "قال لترجمانه قل له - أي قل لأبي سفيان - إني سألتك" أي قل له حاكيا عن هرقل إني سألتك، أو المراد إني سألتك على لسان هرقل، لأن الترجمان يعيد كلام هرقل ويعيد لهرقل كلام أبي سفيان، ولا يبعد أن يكون هرقل كان يفقه بالعربية ويأنف من التكلم بغير لسان قومه كما جرت به عادة الملوك من الأعاجم. قوله: "قلت لو كان من آبائه" أي قلت في نفسي، وأطلق على حديث النفس قولا. قوله: "ملك أبيه" أفرده ليكون أعذر في طلب الملك، بخلاف ما لو قال ملك آبائه، أو المراد بالأب ما هو أعم من حقيقته ومجازه. قوله: "وكذلك الإيمان إذا خالط" يرجح أن الرواية التي في بدء الوحي بلفظ: "حتى يخالط" وهم والصواب "حين" كما للأكثر. قوله: "قلت يأمرنا بالصلاة إلخ" في بدء الوحي "فقلت يقول اعبدوا الله إلخ" واستدل به على إطلاق الأمر على صيغة افعل وعلى عكسه، وفيه نظر لأن الظاهر أنه من تصرف الرواة، ويستفاد منه أن المأمورات كلها كانت معروفة عند هرقل ولهذا لم يستفسره عن حقائقها. قوله: "إن يك ما تقول فيه حقا فإنه نبي" وقع في رواية الجهاد "وهذه صفة نبي"

(8/218)


وفي مرسل سعيد بن المسيب عند ابن أبي شيبة: "فقال هو نبي" ووقع في "أمالي المحاملي" رواية الأصبهانيين من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن أبي سفيان أن صاحب بصري أخذه وناسا معه وهم في تجارة فذكر القصة مختصرة دون الكتاب وما فيه وزاد في آخرها "قال فأخبرني هل تعرف صورته إذا رأيتها؟ قلت: نعم، فأدخلت كنيسة لهم فيها الصور فلم أره، ثم أدخلت أخرى فإذا أنا بصورة محمد وصورة أبي بكر إلا أنه دونه. وفي دلائل النبوة لأبي نعيم" بإسناد ضعيف "إن هرقل أخرج لهم سفطا من ذهب عليه قفل من ذهب فأخرج منه حريرة مطوية فيها صور فعرضها عليهم إلى أن كان آخرها صورة محمد، فقلنا بأجمعنا: هذه صورة محمد، فذكر لهم أنها صور الأنبياء وأنه خاتمهم صلى الله عليه وسلم. أرادها. قال: قوله: "وقد كنت أعلم أنه خارج، ولم أك أظنه منكم" أي أعلم أن نبيا سيبعث في هذا الزمان، لكن لم أعلم تعيين جنسه. وزعم بعض الشراح أنه كان يظن أنه من بني إسرائيل لكثرة الأنبياء فيهم، وفيه نظر لأن اعتماد هرقل في ذلك كان على ما اطلع عليه من الإسرائيليات، وهي طافحة بأن النبي الذي في آخر الزمان من ولد إسماعيل، فيحمل قوله: "لم أكن أظن أنه منكم" أي من قريش. قوله: "لأحببت لقاءه" في بدء الوحي "لتجشمت" بجيم ومعجمة أي تكلفت، ورجحها عياض لكن نسبها لرواية مسلم خاصة، وهي عند البخاري أيضا. وقال النووي: قوله: "لتجشمت لقاءه" أي تكلفت الوصول إليه وارتكبت المشقة في ذلك، ولكني أخاف أن أقتطع دونه. قال ولا عذر له في هذا لأنه عرف صفة النبي، لكنه شح بملكه ورغب في بقاء رياسته فآثرها. وقد جاء مصرحا به في صحيح البخاري، قال شيخنا شيخ الإسلام: كذا قال، ولم أر في شيء من طرق الحديث في البخاري ما يدل على ذلك. قلت: والذي يظهر لي أن النووي عنى ما وقع في آخر الحديث عند البخاري دون مسلم من القصة التي حكاها ابن الناطور، وأن في آخرها في بدء الوحي أن هرقل قال: "إني قلت مقالتي آنفا أختبر بها شدتكم على دينكم، فقد رأيت" وزاد في آخر حديث الباب: "فقد رأيت الذي أحببت" فكأن النووي أشار إلى هذا والله أعلم. وقد وقع التعبير بقوله: "شح بملكه" في الحديث الذي أخرجه. قوله: "ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأه" ظاهره أن هرقل هو الذي قرأ الكتاب، ويحتمل أن يكون الترجمان قرأه ونسبت قراءته إلى هرقل مجازا لكونه الآمر به، وقد تقدم في رواية الجهاد بلفظ: "ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرئ"وفي مرسل محمد بن كعب القرظي عند الواقدي في هذه القصة" فدعا الترجمان الذي يقرأ بالعربية فقرأه" ووقع في رواية الجهاد ما ظاهره أن قراءة الكتاب وقعت مرتين، فإن في أوله "فلما جاء قيصر كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين قرأه: التمسوا لي هاهنا أحدا من قومه لأسألهم عنه، قال ابن عباس: فأخبرني أبو سفيان أنه كان بالشام في رجال من قريش" فذكر القصة إلى أن قال: "ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرئ"والذي يظهر لي أن هرقل قرأه بنفسه أولا ثم لما جمع قومه وأحضر أبا سفيان ومن معه وسأله وأجابه أمر بقراءة الكتاب على الجميع، ويحتمل أن يكون المراد بقوله أولا "فقال حين قرأه" أي قرأ عنوان الكتاب لأن كتاب النبي صلى الله عليه وسلم كان مختوما بختمه وختمه محمد رسول الله، ولهذا قال إنه يسأل عن هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي، ويؤيد هذا الاحتمال أن من جملة الأسئلة قول هرقل "بم يأمركم؟ فقال أبو سفيان: يقول اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا" وهذا بعينه في الكتاب، فلو كان هرقل قرأه أولا ما احتاج إلى السؤال عنه ثانيا، نعم يحتمل أن يكون سأل عن ثانيا مبالغة في تقريره، قال النووي: في هذه القصة فوائد، منها جواز مكاتبة الكفار ودعاؤهم إلى الإسلام قبل القتال، وفيه

(8/219)


تفصيل: فمن بلغته الدعوة وجب إنذارهم قبل قتالهم، وإلا استحب. ومنها وجوب العمل بخبر الواحد وإلا لم يكن في بعث الكتاب مع دحية وحده فائدة. ومنها وجوب العمل بالخط إذا قامت القرائن بصدقه. قوله: "فإذا فيه بسم الله الرحمن الرحيم" قال النووي: فيه استحباب تصدير الكتب ببسم الله الرحمن الرحيم وإن كان المبعوث إليه كافرا، ويحمل قوله في حديث أبي هريرة "كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أقطع " أي بذكر الله كما جاء في رواية أخرى فإنه روى على أوجه بذكر الله ببسم الله بحمد الله. قال: وهذا الكتاب كان ذا بال من المهمات العظام ولم يبدأ فيه بلفظ الحمد بل بالبسملة انتهى والحديث الذي أشار إليه أخرجه أبو عوانة في صحيحه وصححه ابن حبان أيضا وفي إسناده مقال وعلى تقدير صحته فالرواية المشهورة فيه بلفظ حمد الله، وما عدا ذلك من الألفاظ التي ذكرها النووي وردت في بعض طرق الحديث بأسانيد واهية. ثم اللفظ وإن كان عاما لكن أريد به الخصوص وهي الأمور التي تحتاج إلى تقدم الخطبة، وأما المراسلات فلم تجر العادة الشرعية ولا العرفية بابتدائها بذلك، وهو نظير الحديث الذي أخرجه أبو داود من حديث أبي هريرة أيضا بلفظ: " كل خطبة ليس فيها شهادة فهي كاليد الجذماء" فالابتداء بالحمد واشتراط التشهد خاص بالخطبة، بخلاف بقية الأمور المهمة فبعضها يبدأ فيه بالبسملة تامة كالمراسلات، وبعضها ببسم الله فقط كما في أول الجماع والذبيحة، وبعضها بلفظ من الذكر مخصوص كالتكبير، وقد جمعت كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الملوك وغيرهم فلم يقع في واحد منها البداءة بالحمد بل بالبسملة، وهو يؤيد ما قررته والله أعلم. وقد تقدم في الحيض استدلال المصنف بهذا الكتاب على جواز قراءة الجنب القرآن وما يرد عليه، وكذا في الجهاد الاستدلال به على جواز السفر بالقرآن إلى أرض العدو وما يرد عليه بما أغنى عن الإعادة ووقع في مرسل سعيد بن المسيب عند ابن أبي شيبة: "أن هرقل لما قرأ الكتاب قال: هذا كتاب لم أسمعه بعد سليمان عليه السلام كأنه يريد الابتداء ببسم الله الرحمن الرحيم، وهذا يؤيد ما قدمناه أنه كان عالما بأخبار أهل الكتاب. قوله: "من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم" وقع في بدء الوحي وفي الجهاد "من محمد بن عبد الله ورسوله" وفيه إشارة إلى أن رسل الله وإن كانوا أكرم الخلق على الله فهم مع ذلك مقرون بأنهم عبيد الله، وكأن فيه إشارة إلى بطلان ما تدعيه النصارى في عيسى عليه السلام. وذكر المدائني أن القارئ لما قرأ من محمد رسول الله إلى عظيم الروم غضب أخو هرقل واجتذب الكتاب، فقال له هرقل: مالك؟ فقال: بدأ بنفسه وسماك صاحب الروم فقال هرقل: إنك لضعيف الرأي، أتريد أن أرمي بكتاب قبل أن أعلم ما فيه؟ لئن كان رسول الله إنه لأحق أن يبدأ بنفسه، ولقد صدق أنا صاحب الروم، والله مالكي ومالكهم. وأخرج الحسن بن سفيان في مسنده من طريق عبد الله بن شداد عن دحية "بعثني النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب إلى هرقل، فقدمت عليه فأعطيته الكتاب" وعنده ابن أخ له أحمر أزرق سبط الرأس، فلما قرأ الكتاب نخر ابن أخيه نخرة فقال: لا تقرأ، فقال قيصر: لم؟ قال: لأنه بدأ بنفسه وقال: صاحب الروم ولم يقل ملك الروم. قال: اقرأ فقرأ الكتاب" . قوله: "إلى هرقل عظيم الروم" عظيم بالجر على البدل ويجوز الرفع على القطع والنصب على الاختصاص، والمراد من تعظمه الروم وتقدمه للرياسة عليها. قوله: "أما بعد" تقدم في كتاب الجمعة في "باب من قال في الخطبة بعد الثناء أما بعد" الإشارة إلى عدد من روى من الصحابة هذه الكلمة وتوجيهها، ونقلت هناك أن سيبويه قال: إن معنى أما بعد مهما يكن من شيء. وأقول هنا: سيبويه لا يخص ذلك بقولنا أما بعد بل كل كلام أوله أما وفيه معنى الجزاء، قاله في مثل عبد الله فمنطلق، والفاء لازمة في أكثر الكلام،

(8/220)


وقد تحذف وهو نادر. قال الكرماني: "فإن قلت أم التفصيل فأين القسيم؟ ثم أجاب بأن التقدير أما الابتداء فهو بسم الله، وأما المكتوب فهو من محمد إلخ، وأما المكتوب به فهو ما ذكر في الحديث. وهو توجيه مقبول، لكنه لا يطرد في كل موضع، ومعناها الفصل بين الكلامين. واختلف في أول من قالها فقيل: داود عليه السلام، وقبل يعرب بن قحطان، وقيل كعب بن لؤي، وقيل قس بن ساعدة، وقيل سحبان. وفي "غرائب مالك للدار قطني" أن يعقوب عليه السلام قالها، فإن ثبت وقلنا إن قحطان من ذرية إسماعيل فيعقوب أول من قالها مطلقا، وإن قلنا إن قحطان قبل إبراهيم عليه السلام فيعرب أول من قالها، والله أعلم. قوله: "أسلم تسلم" فيه بشارة لمن دخل في الإسلام أنه يسلم من الآفات اعتبارا بأن ذلك لا يختص بهرقل، كما أنه لا يختص بالحكم الآخر وهو قوله أسلم يؤتك الله أجرك مرتين، لأن ذلك عام في حق من كان مؤمنا بنبيه ثم آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم. قوله: "وأسلم يؤتك" فيه تقوية لأحد الاحتمالين المتقدمين في بدء الوحي، وأنه أعاد أسلم تأكيدا، ويحتمل أن يكون قوله أسلم أولا أي لا تعتقد في المسيح ما تعتقده النصارى، وأسلم ثانيا أي ادخل في دين الإسلام، فلذلك قال بعد ذلك "يؤتك الله أجرك مرتين" .
" تنبيه " : لم يصرح في الكتاب بدعائه إلى الشهادة للنبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة، لكن ذلك منطو في قوله: "والسلام على من اتبع الهدى" وفي قوله: "أدعوك بدعاية الإسلام" وفي قوله: "أسلم" فإن جميع ذلك يتضمن الإقرار بالشهادتين. قوله: "إثم الأريسيين" تقدم ضبطه وشرحه في بدء الوحي، ووجدته هناك في أصل معتمد بتشديد الراء، وحكى هذه الرواية أيضا صاحب "المشارق" وغيره، وفي أخرى "الأريسين" بتحتانية واحدة، قال ابن الأعرابي: أرس يأرس بالتخفيف فهو أريس، وأرس بالتشديد يؤرس فهو إريس. وقال الأزهري: بالتخفيف وبالتشديد الأكار لغة شامية، وكان أهل السواد أهل فلاحة وكانوا مجوسا، وأهل الروم أهل صناعة فأعلموا بأنهم وإن كانوا أهل كتاب فإن عليهم إن لم يؤمنوا من الإثم إثم المجوس انتهى. وهذا توجيه آخر لم يتقدم ذكره. وحكى غيره أن الأريسيين ينسبون إلى عبد الله بن أريس رجل كان تعظمه النصارى ابتدع في دينهم أشياء مخالفة لدين عيسى، وقيل إنه من قوم بعث إليهم نبي فقتلوه، فالتقدير على هذا: فإن عليك مثل إثم الأريسيين. وذكر ابن حزم أن أتباع عبد الله بن أريس كانوا أهل مملكة هرقل، ورده بعضهم بأن الأريسيين كانوا قليلا وما كانوا يظهرون رأيهم، فإنهم كانوا ينكرون التثليث. وما أظن قول ابن حزم إلا عن أصل، فإنه لا يجازف في النقل. ووقع في رواية الأصيلي اليريسين بتحتانية في أوله، وكأنه بتسهيل الهمزة. وقال ابن سيده في "المحكم" : الأريس الأكار عند ثعلب، والأمين عند كراع، فكأنه من الأضداد، أي يقال للتابع والمتبوع، والمعنى في الحديث صالح على الرأيين، فإن كان المراد التابع فالمعنى إن عليك مثل إثم التابع لك على ترك الدخول في الإسلام، وإن كان المراد المتبوع فكأنه قال فإن عليك إثم المتبوعين، وإثم المتبوعين يضاعف باعتبار ما وقع لهم من عدم الإذعان إلى الحق من إضلال أتباعهم. وقال النووي: نبه بذكر الفلاحين على بقية الرعية لأنهم الأغلب، ولأنهم أسرع انقيادا. وتعقب بأن من الرعايا غير الفلاحين من له صرامة وقوة وعشيرة، فلا يلزم من دخول الفلاحين في الإسلام دخول بقية الرعايا حتى يصح أنه نبه بذكرهم على الباقين، كذا تعقبه شيخنا شيخ الإسلام. والذي يظهر أن مراد النووي أنه نبه طائفة من الطوائف على بقية الطوائف كأنه يقول إذا امتنعت كان عليك إثم كل من امتنع بامتناعك وكان يطيع لو أطعت الفلاحين، فلا وجه للتعقب عليه. نعم قول أبي عبيد في "كتاب الأموال" ليس المراد

(8/221)


بالفلاحين الزراعين فقط بل المراد به جميع أهل المملكة، إن أراد به على التقرير الذي قررت به كلام النووي فلا اعتراض عليه، وإلا فهو معترض. وحكى أبو عبيد أيضا أن الأريسيين هم الخول والخدم، وهذا أخص من الذي قبله، إلا أن يريد بالخول ما هو أعم بالنسبة إلى من يحكم الملك عليه. وحكى الأزهري أيضا أن الأريسيين قوم من المجوس كانوا يعبدون النار ويحرمون الزنا وصناعتهم الحراثة ويخرجون العشر مما يزرعون، لكنهم يأكلون الموقوذة. وهذا أثبت فمعنى الحديث فإن عليك مثل إثم الأريسيين كما تقدم. قوله: "فلما فرغ" أي القارئ، ويحتمل أن يريد هرقل ونسب إليه ذلك مجازا لكونه الآمر به، ويؤيده قوله بعده "عنده" فإن الضمير فيه وفيما بعده لهرقل جزما. قوله: "ارتفعت الأصوات عنده وكثر اللغط" ووقع في الجهاد "فلما أن قضى مقالته علت أصوات الذين حوله من عظماء الروم وكثر لغطهم، فلا أدري ما قالوا" لكن يعرف من قرائن الحال أن اللغط كان لما فهموه من هرقل من ميله إلى التصديق. قوله: "لقد أمر ابن أبي كبشة" تقدم ضبطه في بدء الوحي وأن "أمر" الأول بفتح الهمزة وكسر الميم، والثاني بفتح الهمزة وسكون الميم، وحكى ابن التين أنه روى بكسر الميم أيضا. وقد قال كراع في "المجرد" ورع أمر بفتح ثم كسر أي كثير فحينئذ يصير المعنى لقد كثر كثير ابن أبي كبشة وفيه قلق، وفي كلام الزمخشري ما يشعر بأن الثاني بفتح الميم فإنه قال أمرة على وزن بركة الزيادة، ومنه قول أبي سفيان "لقد أمر أمر محمد" انتهى. هكذا أشار إليه شيخنا شيخ الإسلام سراج الدين في شرحه ورده، والذي يظهر لي أن الزمخشري إنما أراد تفسير اللفظة الأولى وهي أمر بفتح ثم كسر وأن مصدرها أمر بفتحتين والأمر بفتحتين الكثرة والعظم والزيادة، ولم يرد ضبط اللفظة الثانية والله أعلم. قوله: "قال الزهري فدعا هرقل عظماء الروم فجمعهم إلخ" هذه قطعة من الرواية التي وقعت في بدء الوحي عقب القصة التي حكاها ابن الناطور، وقد بين هناك أن هرقل دعاهم في دسكرة له بحمص وذلك بعد أن رجع هذا من بيت المقدس وكاتب صاحبه الذي برومية فجاءه جوابه يوافقه على خروج النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا فالفاء في قوله: "فدعا" فصيحة، والتقدير قال الزهري فسار هرقل إلى حمص فكتب إلى صاحبه برومية فجاءه جوابه فدعا الروم.
" تنبيه " : وقع في "سيرة ابن إسحاق" من روايته عن الزهري بإسناد حديث الباب إلى أبي سفيان بعض القصة التي حكاها الزهري عن ابن الناطور، والذي يظهر لي أنه دخل عليه حديث في حديث، ويؤيده أنه حكى قصة الكتاب عن الزهري قال: "حدثني أسقف من النصارى قد أدرك ذلك الزمان" قلت: وهذا هو ابن الناطور، وقصة الكتاب إنما ذكرها الزهري من طريق أبي سفيان، وقد فصل شعيب بن أبي حمزة عن الزهري الحديث تفصيلا واضحا، وهو أوثق من ابن إسحاق وأتقن، فروايته هي المحفوظة ورواية ابن إسحاق شاذة، ومحل هذا التنبيه أن يذكر في الكلام على الحديث في بدء الوحي، لكن فات ذكره هناك فاستدركته هنا. قوله: "فجمعهم في دار له فقال" تقدم في بدء الوحي أنه جمعهم في مكان وكان هو في أعلاه فاطلع وصنع ذلك خوفا على نفسه أن ينكروا مقالته فيبادروا إلى قتله. قوله: "آخر الأبد" أي يدوم ملككم إلى آخر الزمان. لأنه عرف من الكتب أن لا أمة بعد هذه الأمة ولا دين بعد دينها، وأن من دخل فيه آمن على نفسه فقال لهم ذلك. قوله: "فقال علي بهم، فدعا بهم فقال" فيه حذف تقديره فردوهم فقال. قوله: "فقد رأيت منكم الذي أحببت" يفسرها ما وقع مختصرا في بدء الوحي مقتصرا على قوله: "فقد رأيت" واكتفى بذلك عما بعده. قوله: "فسجدوا له ورضوا عنه" يشعر بأنه كان من عائدهم السجود لملوكهم، ويحتمل أن يكون ذلك إشارة إلى تقبيلهم الأرض حقيقة. فإن الذي

(8/222)


يفعل ذلك ربما صار غالبا كهيئة الساجد، وأطلق أنهم رضوا عنه بناء على رجوعهم عما كانوا هموا به عند تفرقهم عنه من الخروج والله أعلم. وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدم: البداءة باسم الكاتب قبل المكتوب إليه، وقد أخرج أحمد وأبو داود عن العلاء بن الحضرمي أنه كتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكان عامله على البحرين فبدأ بنفسه "من العلاء إلى محمد رسول الله" وقال ميمون: كانت عادة ملوك العجم إذا كتبوا إلى ملوكهم بدعوا باسم ملوكهم فتبعتهم بنو أمية. قلت: وسيأتي في الأحكام أن ابن عمر كتب إلى معاوية فبدأ باسم معاوية، وإلى عبد الملك كذلك، وكذا جاء عن يزيد بن ثابت إلى معاوية، عند البزار بسند ضعيف عن حنظلة الكاتب أن النبي صلى الله عليه وسلم وجه عليا وخالد بن الوليد فكتب إليه خالد فبدأ بنفسه وكتب إليه علي فبدأ برسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يعب واحد منهما، وقد تقدم الكلام على "أما بعد" في كتاب الجمعة.

(8/223)


5- باب {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} ـ إِلَى ـ {بِهِ عَلِيمٌ}
4554- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: "كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ أَنْصَارِيٍّ بِالْمَدِينَةِ نَخْلاً وَكَانَ أَحَبَّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرُحَاءَ وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ الْمَسْجِدِ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ فَلَمَّا أُنْزِلَتْ {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} قَامَ أَبُو طَلْحَةَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءَ وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللَّهِ فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ حَيْثُ أَرَاكَ اللَّهُ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بَخْ ذَلِكَ مَالٌ رَايِحٌ ذَلِكَ مَالٌ رَايِحٌ وَقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الأَقْرَبِينَ" قَالَ أَبُو طَلْحَةَ أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ وَفِي بَنِي عَمِّهِ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ وَرَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ يَحْيَى قَالَ قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ مَالٌ رَايِح"
4555- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ ثُمَامَةَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "فَجَعَلَهَا لِحَسَّانَ وَأُبَيٍّ وَأَنَا أَقْرَبُ إِلَيْهِ وَلَمْ يَجْعَلْ لِي مِنْهَا شَيْئًا"
قوله: "باب {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} الآية" كذا لأبي ذر. ولغيره: إلى {بِهِ عَلِيمٌ} ثم ذكر المصنف حديث أنس في قصة بيرحاء، وقد تقدم ضبطها في الزكاة، وشرح الحديث في الوقف. قوله: "وقال عبد الله بن يوسف وروح بن عبادة عن مالك قال رابح" يعني أن المذكورين رويا الحديث عن مالك بإسناده فوافقا فيه إلا في هذه اللفظة، فأما رواية عبد الله بن يوسف فوصلها المؤلف في الوقف عنه، ووقع عند المزي أنه أوردها في التفسير موصولة عن عبد الله بن يوسف أيضا، وأما رواية روح بن عبادة فتقدم في الوكالة أن أحمد وصلها عنه، وذكرت هناك ما وقع للرواة عن مالك في ضبط هذه اللفظة وهل هي رايح بالموحدة أو التحتانية مع الشرح. قوله: "حدثنا يحيى بن يحيى قال قرأت على مالك رايح" كذا اختصره، وكان قد ساقه بتمامه من هذا الوجه في كتاب الوكالة.

(8/223)


" تنبيه " : وقع هنا لغير أبي ذر "حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري حدثني أبي عن ثمامة عن أنس قال: فجعلها لحسان وأبي بن كعب، وأنا أقرب إليه منهما، ولم يجعل لي منها شيئا" وهذا طرف من الحديث، وقد تقدم بتمامه في الوقف مع شرحه، وأغفل المزي التنبيه على هذا الطريق هنا، وممن عمل بالآية ابن عمر فروى البزار من طريقه أنه قرأها، قال فلم أجد شيئا أحب إلي من مرجانة جارية لي رومية فقلت: هي حرة لوجه الله، فلولا أني لا أعود في شيء جعلته لله لتزوجتها.

(8/224)


6- باب {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}
4556- حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا أَبُو ضَمْرَةَ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "أَنَّ الْيَهُودَ جَاءُوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَجُلٍ مِنْهُمْ وَامْرَأَةٍ قَدْ زَنَيَا فَقَالَ لَهُمْ: " كَيْفَ تَفْعَلُونَ بِمَنْ زَنَى مِنْكُمْ" قَالُوا نُحَمِّمُهُمَا وَنَضْرِبُهُمَا فَقَالَ: "لاَ تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ الرَّجْمَ " فَقَالُوا لاَ نَجِدُ فِيهَا شَيْئًا فَقَالَ لَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلاَمٍ كَذَبْتُمْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَوَضَعَ مِدْرَاسُهَا الَّذِي يُدَرِّسُهَا مِنْهُمْ كَفَّهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ فَطَفِقَ يَقْرَأُ مَا دُونَ يَدِهِ وَمَا وَرَاءَهَا وَلاَ يَقْرَأُ آيَةَ الرَّجْمِ فَنَزَعَ يَدَهُ عَنْ آيَةِ الرَّجْمِ فَقَالَ مَا هَذِهِ فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ قَالُوا هِيَ آيَةُ الرَّجْمِ فَأَمَرَ بِهِمَا فَرُجِمَا قَرِيبًا مِنْ حَيْثُ مَوْضِعُ الْجَنَائِزِ عِنْدَ الْمَسْجِدِ فَرَأَيْتُ صَاحِبَهَا يَحْنِي عَلَيْهَا يَقِيهَا الْحِجَارَة"
قوله: "باب {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} ذكر فيه حديث ابن عمر في قصة اليهوديين اللذين زنيا وسيأتي شرحه في الحدود. وقوله في هذه الرواية: "كيف تفعلون" في رواية الكشميهني: "كيف تعملون" وقوله: "نحممهما" بمهملة ثم ميم مثقلة أي نسكب عليهما الماء الحميم، وقيل نجعل في وجوهما الحمة بمهملة وميم خفيفة أي السواد، وسيأتي ما في ذلك عند شرح الحديث. وقوله: "فوضع مدراسها" بكسر أوله كذا للكشميهني. ولغيره: "مدارسها" بضم أوله وتقديم الألف بوزن المفاعلة من الدراسة، والأول أوجه. قوله: "فلما رأوا ذلك قالوا" في رواية الكشميهني بالإفراد فيهما. قوله: "يجنا" بجيم ساكنة ثم نون مفتوحة ثم همزة، وللكشميهني: "يجني" بالمهملة وكسر النون بغير همز

(8/224)


7- باب {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}
4557- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مَيْسَرَةَ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} قَالَ خَيْرَ النَّاسِ لِلنَّاسِ تَأْتُونَ بِهِمْ فِي السَّلاَسِلِ فِي أَعْنَاقِهِمْ حَتَّى يَدْخُلُوا فِي الإِسْلاَم"
قوله: "باب {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} ذكر فيه حديث أبي هريرة في تفسيرها غير مرفوع، وقد تقدم في أواخر الجهاد من وجه آخر مرفوعا، وهو يرد قول من تعقب البخاري فقال: هذا موقوف لا معنى لإدخاله في

(8/224)


8- باب {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ}
4558- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ قَالَ عَمْرٌو سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ: "فِينَا نَزَلَتْ {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا} قَالَ نَحْنُ الطَّائِفَتَانِ بَنُو حَارِثَةَ وَبَنُو سَلِمَةَ وَمَا نُحِبُّ وَقَالَ سُفْيَانُ مَرَّةً وَمَا يَسُرُّنِي أَنَّهَا لَمْ تُنْزَلْ لِقَوْلِ اللَّهِ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا"
قوله: "باب {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ} ذكر فيه حديث جابر، وقد تقدم مشروحا في غزوة أحد. وقوله: "والله وليهما" ذكر الفراء أن في قراءة ابن مسعود "والله وليهم" قال: وهو كقوله: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} . ذكر الفراء أن في قراءة ابن مسعود "والله وليهم" قال: وهو كقوله: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} .

(8/225)


9- باب {لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ}
4559- حَدَّثَنَا حِبَّانُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ حَدَّثَنِي سَالِمٌ عَنْ

(8/225)


10- باب {وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ}
وَهْوَ تَأْنِيثُ آخِرِكُمْ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ فَتْحًا أَوْ شَهَادَةً
4561- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "جَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الرَّجَّالَةِ يَوْمَ أُحُدٍ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جُبَيْرٍ وَأَقْبَلُوا مُنْهَزِمِينَ فَذَاكَ إِذْ يَدْعُوهُمْ الرَّسُولُ فِي أُخْرَاهُمْ وَلَمْ يَبْقَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرُ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلاً"
قوله: "باب قوله تعالى: {وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ} وهو تأنيث آخركم" كذا وقع فيه، وهو تابع لأبي عبيدة فإنه قال: أخراكم آخركم، وفيه نظر لأن أخرى تأنيث آخر بفتح الخاء لا كسرها، وقد حكى الفراء أن من العرب من يقول في أخراتكم بزيادة المثناة. قوله: "وقال ابن عباس: إحدى الحسنيين فتحا أو شهادة" كذا وقع هذا التعليق بهذه الصورة؛ ومحله في سورة براءة ولعله أورده هنا للإشارة إلى أن إحدى الحسنيين وقعت في أحد

(8/227)


وهي الشهادة، وقد وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن طلحة عن ابن عباس مثله. حديث البراء في قصة الرماة يوم أحد، وقد تقدم بتمامه مع شرحه في المغازي.

(8/228)


11- باب {أَمَنَةً نُعَاسًا}
4562- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَبُو يَعْقُوبَ حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ قَتَادَةَ حَدَّثَنَا أَنَسٌ "أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ قَالَ غَشِيَنَا النُّعَاسُ وَنَحْنُ فِي مَصَافِّنَا يَوْمَ أُحُدٍ قَالَ فَجَعَلَ سَيْفِي يَسْقُطُ مِنْ يَدِي وَآخُذُهُ وَيَسْقُطُ وَآخُذُه"
قوله: "باب قوله: {أَمَنَةً نُعَاسًا} قوله: "حدثني إسحاق بن إبراهيم بن عبد الرحمن أبو يعقوب "هو بغدادي لقبه لؤلؤ، ويقال يؤيؤ بتحتانيتين، وهو ابن عم أحمد بن منيع، وليس له في البخاري سوى هذا الحديث وآخر في كتاب الرقاق، وهو ثقة باتفاق، وعاش بعد البخاري ثلاث سنين، مات سنة تسع وخمسين. ثم ذكر حديث أبي طلحة في النعاس يوم أحد، وقد تقدم في المغازي من وجه آخر عن قتادة مع شرحه.

(8/228)


12- باب {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ} الْقَرْحُ الْجِرَاحُ اسْتَجَابُوا أَجَابُوا يَسْتَجِيبُ يُجِيبُ
قوله:"باب قوله تعالى: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ} ساق الآية إلى "عظيم" . قوله: "القرح الجراح" هو تفسير أبي عبيدة، وكذا أخرجه ابن جرير من طريق سعيد بن جبير مثله، وروى سعيد بن منصور بإسناد جيد عن ابن مسعود أنه قرأ: {القرح} بالضم. قلت: وهي قراءة أهل الكوفة. وذكر أبو عبيد عن عائشة أنها قالت أقرأها بالفتح لا بالضم" قال الأخفش: القرح بالضم وبالفتح المصدر، فالضم لغة أهل الحجاز والفتح لغة غيرهم كالضعف والضعف، وحكى الفراء أنه بالضم الجرح وبالفتح ألمه. وقال الراغب: القرح بالفتح أثر الجراحة وبالضم أثرها من داخل. قوله: {اسْتَجَابُوا} أجابوا، ويستجيب يجيب" هو قول أبي عبيدة، قال في قوله تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ} أي أجابهم، تقول العرب: استجبتك أي أجبتك، قال كعب الغنوي:
وداع دعا يا من يجيب إلى الندى ... فلم يستجبه عند ذاك مجيب
وقال في قوله تعالى: {وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي يجيب الذين آمنوا، وهذه في سورة الشورى وإنما أوردها المصنف استشهادا للآية الأخرى.
" تنبيه " : لم يسق البخاري في هذا الباب حديثا؛ وكأنه بيض له، واللائق به حديث عائشة أنها قالت لعروة في هذه الآية "يا ابن أختي كان أبواك منهم: الزبير وأبو بكر" وقد تقدم في المغازي مع شرحه. وروى ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس قال: "لما رجع المشركون عن أحد قالوا: لا محمدا قتلتم، ولا الكواعب ردفتم، بئسما صنعتم، فرجعوا، فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس فانتدبوا حتى بلغ حمراء الأسد، فبلغ المشركين فقالوا: نرجع من قابل، فأنزل الله تعالى: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} الآية" أخرجه النسائي وابن مردويه ورجاله رجال الصحيح، إلا أن المحفوظ إرساله عن عكرمة ليس فيه ابن عباس

(8/228)


13-باب {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} الْآيَةَ
4563- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ أُرَاهُ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ عَنْ أَبِي حَصِينٍ عَنْ أَبِي الضُّحَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلاَم حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالُوا: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}
[الحديث 4563- طرفه في: 4564]
4564- حدثنا مالك بن إسماعيل حدثنا إسرائيل عن أبي حصين عن أبي الضحى عن ابن عباس قال: "كان آخر قول إبراهيم حين ألقي في النار حسبي الله ونعم الوكيل"
قوله: "باب قوله: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} في رواية أبي ذر" باب {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} وزاد غيره: "الآية" . قوله: "حدثنا أحمد بن يونس أراه قال حدثنا أبو بكر" كذا وقع، القائل "أراه" هو البخاري، وهو بضم الهمزة بمعنى أظنه، وكأنه عرض له شك في اسم شيخ شيخه، وقد أخرجه الحاكم من طريق أحمد بن إسحاق "عن أحمد بن يونس حدثنا أبو بكر بن عياش" بإسناده المذكور بغير شك، لكن وهم الحاكم في استدراكه. قوله: "عن أبي حصين" بفتح المهملة واسمه عثمان بن عاصم، ولأبي بكر بن عياش في هذا الحديث إسناد آخر أخرجه ابن مردويه من وجه آخر عنه عن أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فنزلت هذه الآية" . قوله: "عن أبي الضحى" اسمه مسلم بن صبيح بالتصغير. قوله: "قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار" في الرواية التي بعدها" إن ذلك آخر ما قال: "وكذا وقع في رواية الحاكم المذكورة، ووقع عند النسائي من طريق يحيى بن أبي بكير عن أبي بكر كذلك، وعند أبي نعيم في "المستخرج" من طريق عبيد الله بن موسى عن إسرائيل بهذا الإسناد" أنها أول ما قال: "فيمكن أن يكون أول شيء وآخر شيء قال، والله أعلم. قوله: "حين قالوا إن الناس قد جمعوا لكم" فيه إشارة إلى ما أخرجه ابن إسحاق مطولا في هذه القصة، وأن أبا سفيان رجع بقريش بعد أن توجه من أحد فلقيه معبد الخزاعي فأخبره أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في جمع كثير، وقد اجتمع معه من كان تخلف عن أحد وندموا، فثنى ذلك أبا سفيان وأصحابه فرجعوا، وأرسل أبو سفيان ناسا فأخبروا النبي صلى الله عليه وسلم أن أبا سفيان وأصحابه يقصدونهم فقال: حسبنا الله ونعم الوكيل. ورواه الطبري من طريق السدي نحوه ولم يسم معبدا قال: "أعرابيا" ومن طريق ابن عباس موصولا لكن بإسناد لين قال: "استقبل أبو سفيان عيرا واردة المدينة" ومن طريق مجاهد أن ذلك كان من أبي سفيان في العام المقبل بعد أحد، وهي غزوة بدر الموعد، ورجح الطبري الأول. ويقال إن الرسول بذلك نعيم بن مسعود الأشجعي، ثم أسلم نعيم فحسن إسلامه. قيل إطلاق الناس على الواحد لكونه من جنسهم كما قال فلان يركب الخيل وليس له إذ ذاك إلا فرس واحد. قلت: وفي صحة هذا المثال نظر.

(8/229)


باب {ولا تحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله...}
...
14- باب {وَلاَ يَحْسِبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} {سَيُطَوَّقُونَ} كَقَوْلِكَ طَوَّقْتُهُ بِطَوْقٍ
4565- حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُنِيرٍ سَمِعَ أَبَا النَّضْرِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ مُثِّلَ لَهُ مَالُهُ شُجَاعًا أَقْرَعَ لَهُ زَبِيبَتَانِ يُطَوَّقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَأْخُذُ بِلِهْزِمَتَيْهِ يَعْنِي بِشِدْقَيْهِ يَقُولُ أَنَا مَالُكَ أَنَا كَنْزُكَ" ثُمَّ تَلاَ هَذِهِ الْآيَةَ {وَلاَ يَحْسِبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} إِلَى آخِرِ الآيَةِ"
قوله: {وَلاَ يَحْسِبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} الآية" ساق غير أبي ذر إلى قوله: "خبير" قال الواحدي: أجمع المفسرون على أنها نزلت في مانعي الزكاة، وفي صحة هذا النقل نظر، فقد قيل إنها نزلت في اليهود الذين كتموا صفة محمد، قاله ابن جريج، واختاره الزجاج: وقيل فيمن يبخل بالنفقة في الجهاد، وقيل على العيال وذي الرحم المحتاج، نعم الأول هو الراجح وإليه أشار البخاري. قوله: {سَيُطَوَّقُونَ} كقولك طوقته بطوق" قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي يلزمون، كقولك طوقته بالطوق. وروى عبد الرزاق وسعيد بن منصور من طريق إبراهيم النخعي بإسناد جيد في هذه الآية "سيطوقون" قال: بطوق من النار. ثم ذكر حديث أبي هريرة فيمن لم يؤد الزكاة، وقد تقدم مع شرحه في أوائل كتاب الزكاة، وكذا الاختلاف في التطويق المذكور هل يكون حسيا أو معنويا. وروى أحمد والترمذي والنسائي وصححه ابن خزيمة من طريق أبي وائل عن عبد الله مرفوعا: "لا يمنع عبد زكاة ماله إلا جعل له شجاعا أقرع يطوق في عنقه" . ثم قرأ مصداقه في كتاب الله {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} وقد قيل إن الآية نزلت في اليهود الذين سئلوا أن يخبروا بصفة محمد صلى الله عليه وسلم عندهم فبخلوا بذلك وكتموه، ومعنى قوله: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا} أي بإثمه.

(8/230)


باب {ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كبيرا}
...
15باب {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا}
4566- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَخْبَرَهُ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكِبَ عَلَى حِمَارٍ عَلَى قَطِيفَةٍ فَدَكِيَّةٍ وَأَرْدَفَ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ وَرَاءَهُ يَعُودُ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ فِي بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ قَبْلَ وَقْعَةِ بَدْرٍ قَالَ حَتَّى مَرَّ بِمَجْلِسٍ فِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ فَإِذَا فِي الْمَجْلِسِ أَخْلاَطٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ عَبَدَةِ الأَوْثَانِ وَالْيَهُودِ وَالْمُسْلِمِينَ وَفِي الْمَجْلِسِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَلَمَّا غَشِيَتْ الْمَجْلِسَ عَجَاجَةُ الدَّابَّةِ خَمَّرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ أَنْفَهُ بِرِدَائِهِ ثُمَّ قَالَ لاَ تُغَبِّرُوا عَلَيْنَا فَسَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ ثُمَّ وَقَفَ فَنَزَلَ فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ وَقَرَأَ عَلَيْهِمْ الْقُرْآنَ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ أَيُّهَا الْمَرْءُ إِنَّهُ لاَ أَحْسَنَ مِمَّا تَقُولُ إِنْ كَانَ حَقًّا فَلاَ تُؤْذِنَا بِهِ

(8/230)


فِي مَجْلِسِنَا ارْجِعْ إِلَى رَحْلِكَ فَمَنْ جَاءَكَ فَاقْصُصْ عَلَيْهِ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَة:َ بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ فَاغْشَنَا بِهِ فِي مَجَالِسِنَا فَإِنَّا نُحِبُّ ذَلِكَ فَاسْتَبَّ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَالْيَهُودُ حَتَّى كَادُوا يَتَثَاوَرُونَ فَلَمْ يَزَلْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخَفِّضُهُمْ حَتَّى سَكَنُوا ثُمَّ رَكِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَابَّتَهُ فَسَارَ حَتَّى دَخَلَ عَلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا سَعْدُ أَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالَ أَبُو حُبَابٍ" يُرِيدُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ قَالَ كَذَا وَكَذَا قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ اعْفُ عَنْهُ وَاصْفَحْ عَنْهُ فَوَالَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ لَقَدْ جَاءَ اللَّهُ بِالْحَقِّ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ لَقَدْ اصْطَلَحَ أَهْلُ هَذِهِ الْبُحَيْرَةِ عَلَى أَنْ يُتَوِّجُوهُ فَيُعَصِّبُوهُ بِالْعِصَابَةِ فَلَمَّا أَبَى اللَّهُ ذَلِكَ بِالْحَقِّ الَّذِي أَعْطَاكَ اللَّهُ شَرِقَ بِذَلِكَ فَذَلِكَ فَعَلَ بِهِ مَا رَأَيْتَ فَعَفَا عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ يَعْفُونَ عَنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ كَمَا أَمَرَهُمْ اللَّهُ وَيَصْبِرُونَ عَلَى الأَذَى قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا} الْآيَةَ وَقَالَ اللَّهُ: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَأَوَّلُ الْعَفْوَ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ حَتَّى أَذِنَ اللَّهُ فِيهِمْ فَلَمَّا غَزَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَدْرًا فَقَتَلَ اللَّهُ بِهِ صَنَادِيدَ كُفَّارِ قُرَيْشٍ قَالَ ابْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَعَبَدَةِ الأَوْثَانِ: هَذَا أَمْرٌ قَدْ تَوَجَّهَ فَبَايَعُوا الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الإِسْلاَمِ فَأَسْلَمُوا"
قوله: "باب {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا} ذكر عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك أنها نزلت في كعب بن الأشرف فيما كان يهجو به النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من الشعر، وقد تقدم في المغازي خبره، وفيه شرح حديث:"من لكعب بن الأشرف، فإنه آذى الله ورسوله" وروى ابن أبي حاتم وابن المنذر بإسناد حسن عن ابن عباس أنها نزلت فيما كان بين أبي بكر وبين فنحاص اليهودي في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} تعالى الله عن قوله، فغضب أبو بكر فنزلت. قوله: "على قطيفة فدكية" أي كساء غليظ منسوب إلى فدك بفتح الفاء والدال، وهي بلد مشهور على مرحلتين من المدينة. قوله: "يعود سعد بن عبادة" فيه عيادة الكبير بعض أتباعه في داره. و قوله: "في بني الحارث بن الخزرج" أي في منازل بني الحارث وهم قوم سعد بن عبادة. قوله: "قبل وقعة بدر" في رواية الكشميهني: "وقيعة" . قوله: "وذلك قبل أن يسلم عبد الله بن أبي" أي قبل الإسلام. قوله: "فإذا في المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود والمسلمين" كذا فيه تكرار لفظ المسلمين آخرا بعد البداءة به، والأولى حذف أحدهما، وسقطت الثانية من رواية مسلم وغيره. وأما قوله: "عبدة الأوثان" فعلى البدل من المشركين، وقوله: "اليهود" يجوز أن يكون معطوفا على البدل أو على المبدل منه وهو أظهر لأن اليهود مقرون بالتوحيد، نعم من لازم قول من قال منهم عزيز ابن الله تعالى عن قولهم الإشراك، وعطفهم على أحد التقديرين تنويها بهم في الشر، ثم ظهر لي رجحان أن يكون عطفا على المبدل منه كأنه فسر المشركين بعبدة الأوثان وباليهود، ومنه يظهر توجيه إعادة لفظ المسلمين

(8/231)


كأنه فسر الأخلاط بشيئين المسلمين والمشركين، ثم لما فسر المشركين بشيئين رأى إعادة ذكر المسلمين تأكيدا، ولو كان قال: لا هن المسلمين والمشركين واليهود ما احتاج إلى إعادة، وإطلاق المشركين على الشهود لكونهم يضاهون قولهم ويرجحونهم على المسلمين ويوافقونهم في تكذيب الرسول عليه الصلاة والسلام ومعاداته وقتاله بعدما تبين لهم الحق، ويؤيد ذلك أنه قال في آخر الحديث: "قال عبد الله بن أبي بن سلول ومن معه من المشركين وعبدة الأوثان" فعطف عبدة الأوثان على المشركين، وبالله التوفيق. قوله: "عجاجة" بفتح المهملة وجيمين الأولى خفيفة أي غبارها وقوله: "خمر" أي غطى، وقوله: "أنفه" في رواية الكشميهني: "وجهه" . قوله: "فسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم" يؤخذ منه جواز السلام على المسلمين إذا كان معهم كفار وينوي حينئذ بالسلام المسلمين، ويحتمل أن يكون الذي سلم به عليهم صيغة عموم فيها تخصيص كقوله السلام على من اتبع الهدى. قوله: "ثم وقف فنزل" عبر عن انتهاء مسيره بالوقوف. قوله: "إنه لا أحسن مما تقول" بنصب أحسن وفتح أوله على أنه أفعل تفضيل، ويجوز في أحسن الرفع على أنه خير لا والاسم محذوف أي لا شيء أحسن من هذا، ووقع في رواية الكشميهني بضم أوله كسر السين وضم النون، ووقع في رواية أخرى لأحسن بحذف الألف لكن بفتح السين وضم النون على أنها لام القسم كأنه قال أحسن من هذا أن تقعد في بيتك، حكاه عياض عن أبي علي واستحسنه، وحكى ابن الجوزي تشديد السين المهملة بغير نون من الحس أي لا أعلم منه شيئا. قوله: "يتثاورون" بمثلثة أي يتواثبون، أي قاربوا أي يثب بعضهم على بعض فيقتتلوا، يقال ثار إذا قام بسرعة وانزعاج. قوله: "حتى سكنوا" بالنون كذا للأكثر، وعند الكشميهني بالمثناة، ووقع في حديث أنس أنه نزل في ذلك {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} الآية، وقد قدمت ما فيه من الإشكال وجوابه عند شرح حديث أنس في كتاب الصلح. قوله: "أيا سعد" في رواية مسلم: "أي سعد". قوله: "أبو حباب" بضم المهملة وبموحدتين الأول خفيفة وهي كنية عبد الله بن أبي، وكناه النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الحالة لكونه كان مشهورا بها أو لمصلحة التألف. قوله: "ولقد اصطلح" بثبوت الواو للأكثر وبحذفها لبعضهم. قوله: "أهل هذه البحرة" في رواية الحموي "البحيرة" بالتصغير، وهذا اللفظ يطلق على القرية وعلى البلد، والمراد به هنا المدينة النبوية، ونقل ياقوت أن البحرة من أسماء المدينة النبوية. قوله: "على أن يتوجوه فيعصبوه بالعصابة" يعني يرئسوه عليهم ويسودوه، وسمى الرئيس معصبا لما يعصب برأسه من الأمور، أو لأنهم يعصبون رءوسهم بعصابة لا تنبغي لغيرهم يمتازون بها، ووقع في غير البخاري "فيعصبونه" والتقدير فهم يعصبونه أو فإذا هم يعصبونه؛ وعند ابن إسحاق لقد جاءنا الله بك وإنا لننظم له الخرز لنتوجه، فهذا تفسير المراد وهو أولى مما تقدم. قوله: "شرق بذلك" بفتح المعجمة وكسر الراء أي غص به، وهو كناية عن الحسد، يقال غص بالطعام وشجي بالعظم وشرق بالماء إذا اعترض شيء من ذلك في الحلق فمنعه الإساغة. قوله: "وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب" هذا حديث آخر أفرده ابن حاتم في التفسير عن الذي قبله وإن كان الإسناد متحدا، وقد أخرج مسلم الحديث الذي قبله مقتصرا عليه ولم يخرج شيئا من هذا الحديث الآخر. قوله: "وقال الله: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} إلى آخر الآية" ساق في رواية أبي نعيم في "المستخرج" من وجه آخر عن أبي اليمان بالإسناد المذكور الآية وبما بعدما ساقه المصنف منها تتبين المناسبة وهو قوله تعالى: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا} . قوله: "حتى أذن الله فيهم" أي في قتالهم، أي فترك العفو عنهم، وليس المراد أنه تركه أصلا بل بالنسبة إلى ترك القتال أولا وقوعه آخرا، وإلا فعفوه صلى الله عليه وسلم كثير من المشركين واليهود

(8/232)


بالمن والفداء وصفحه عن المنافقين مشهور في الأحاديث والسير. قوله: "صناديد" بالمهملة ثم نون خفيفة جمع صنديد بكسر ثم سكون وهو الكبير في قومه. قوله: "هذا أمر قد توجه" أي ظهر وجهه. قوله: "فبايعوا" بلفظ الماضي، ويحتمل أن يكون بلفظ الأمر. والله أعلم.

(8/233)


باب {لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا}
...
16- باب {لاَ يَحْسِبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا}
4567- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ حَدَّثَنِي زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ رِجَالاً مِنْ الْمُنَافِقِينَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْغَزْوِ تَخَلَّفُوا عَنْهُ وَفَرِحُوا بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَذَرُوا إِلَيْهِ وَحَلَفُوا وَأَحَبُّوا أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَنَزَلَتْ لاَ يَحْسِبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا الْآيَة"
4568- حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا هِشَامٌ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّ عَلْقَمَةَ بْنَ وَقَّاصٍ أَخْبَرَهُ "أَنَّ مَرْوَانَ قَالَ لِبَوَّابِهِ اذْهَبْ يَا رَافِعُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقُلْ لَئِنْ كَانَ كُلُّ امْرِئٍ فَرِحَ بِمَا أُوتِيَ وَأَحَبَّ أَنْ يُحْمَدَ بِمَا لَمْ يَفْعَلْ مُعَذَّبًا لَنُعَذَّبَنَّ أَجْمَعُونَ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمَا لَكُمْ وَلِهَذِهِ إِنَّمَا دَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَهُودَ فَسَأَلَهُمْ عَنْ شَيْءٍ فَكَتَمُوهُ إِيَّاهُ وَأَخْبَرُوهُ بِغَيْرِهِ فَأَرَوْهُ أَنْ قَدْ اسْتَحْمَدُوا إِلَيْهِ بِمَا أَخْبَرُوهُ عَنْهُ فِيمَا سَأَلَهُمْ وَفَرِحُوا بِمَا أُوتُوا مِنْ كِتْمَانِهِمْ ثُمَّ قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} كَذَلِكَ حَتَّى قَوْلِهِ { يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} تَابَعَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ ح
حَدَّثَنَا ابْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا الْحَجَّاجُ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ مَرْوَانَ بِهَذَا"
قوله: "باب {لاَ يَحْسِبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا} سقط لفظ: "باب" لغير أبي ذر. قوله: "حدثنا محمد بن جعفر" أي ابن أبي كثير المدني، والإسناد كله مدنيون إلى شيخ البخاري. قوله: "إن رجالا من المنافقين" هكذا ذكره أبو سعيد الخدري في سبب نزول الآية وأن المراد من كان يعتذر عن التخلف من المنافقين، وفي حديث ابن عباس الذي بعده أن المراد من أجاب من اليهود بغير ما سئل عنه وكتموا ما عندهم من ذلك، ويمكن الجمع بأن تكون الآية نزلت في الفريقين معا، وبهذا أجاب القرطبي وغيره، وحكى الفراء أنها نزلت في قول اليهود نحن أهل الكتاب الأول والصلاة والطاعة، ومع ذلك لا يقرون بمحمد فنزلت: {وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} وروى ابن أبي حاتم من طرق أخرى عن جماعة من التابعين نحو ذلك ورجحه الطبري، ولا مانع أن تكون نزلت في كل ذلك، أو نزلت في أشياء خاصة وعمومها يتناول كل من أتى بحسنة ففرح بها فرح إعجاب وأحب أن يحمده الناس ويثنوا عليه بما ليس فيه، والله أعلم. قوله: "أخبرنا هشام" هو ابن يوسف الصنعاني. قوله: "عن ابن أبي مليكة" في رواية

(8/233)


عبد الرزاق عن ابن جريج "أخبرني ابن أبي مليكة" وسيأتي، وكذا أخرجه ابن أبي حاتم من طريق محمد بن ثور عن ابن جريج. قوله: "أن علقمة بن وقاص" هو الليثي من كبار التابعين وقد قيل إن له صحبة. وهو راوي حديث الأعمال عن عمر. قوله: "إن مروان" هو ابن الحكم بن أبي العاص الذي ولي الخلافة. وكان يومئذ أمير المدينة من قبل معاوية. قوله: "قال لبوابه اذهب يا رافع إلى ابن عباس فقل" رافع هذا لم أر له ذكرا في كتاب الرواة إلا بما جاء في هذا الحديث، والذي يظهر من سياق الحديث أنه توجه إلى ابن عباس فبلغه الرسالة ورجع إلى مروان بالجواب فلولا أنه معتمد عند مروان ما قنع برسالته، لكن قد ألزم الإسماعيلي البخاري أن يصحح حديث يسرة بن صفوان في نقض الوضوء من مس الذكر فإن عروة ومروان اختلفا في ذلك فبعث مروان حرسيه إلى يسرة فعاد إليه بالجواب عنها فضار الحديث من رواية عروة عن رسول مروان عن يسرة" ورسول مروان مجهول الحال فتوقف عن القول بصحة الحديث جماعة من الأئمة لذلك، فقال الإسماعيلي أن القصة التي في حديث الباب شبيهة بحديث يسرة، فإن كان رسول مروان معتمدا في هذه فليعتمد في الأخرى فإنه لا فرق بينهما. إلا أنه في هذه القصة سمى رافعا ولم يسم الحرسي، قال ومع هذا فاختلف على ابن جريج في شيخ شيخه فقال عبد الرزاق وهشام عنه عن ابن أبي مليكة عن علقمة. وقال حجاج بن محمد عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن حميد بن عبد الرحمن، ثم ساقه من رواية محمد بن عبد الملك بن جريج عن أبيه عن ابن أبي مليكة عن حميد بن عبد الرحمن، فصار لهشام متابع وهو عبد الرزاق ولحجاج بن محمد متابع وهو محمد، وأخرجه ابن أبي حاتم من طريق محمد بن ثور عن ابن جريج كما قال عبد الرزاق: والذي يتحصل لي من الجواب عن هذا الاحتمال أن يكون علقمة بن وقاص كان حاضرا عند ابن عباس لما أجاب، فالحديث من رواية علقمة عن ابن عباس، وإنما قص علقمة سبب تحديث ابن عباس بذلك فقط، وكذا أقول في حميد بن عبد الرحمن فكأن ابن أبي مليكة حمله عن كل منهما، وحدث به ابن جريج عن كل منهما، فحدث به ابن جريج تارة عن هذا وتارة عن هذا. وقد روى ابن مردويه في حديث أبي سعيد ما يدل على سبب إرساله لابن عباس فأخرج من طريق الليث عن هشام بن سعد عن زيد بن أسلم قال: كان أبو سعيد وزيد بن ثابت ورافع بن خديج عند مروان فقال: يا أبا سعيد أرأيت قول الله - فذكر الآية - فقال: إن هذا ليس من ذاك، إنما ذاك أن ناسا من المنافقين - فذكر نحو حديث الباب وفيه - فإن كان لهم نصر وفتح حلفوا لهم على سرورهم بذلك ليحمدوهم على فرحهم وسرورهم، فكأن مروان توقف في ذلك، فقال أبو سعيد: هذا يعلم بهذا، فقال: أكذلك يا زبد؟ قال: نعم صدق. ومن طريق مالك عن زيد ابن أسلم عن رافع بن خديج أن مروان سأله عن ذلك فأجابه بنحو ما قال أبو سعيد فكأن مروان أراد زيادة الاستظهار، فأرسل بوابه رافعا إلى ابن عباس يسأله عن ذلك، والله أعلم. وأما قول البخاري عقب الحديث: تابعه عبد الرزاق عن ابن جريج، فيريد أنه تابع هشام بن يوسف على روايته إياه عن ابن جريج. عن ابن أبي مليكة عن علقمة، ورواية عبد الرزاق وصلها في التفسير وأخرجها الإسماعيلي والطبري وأبو نعيم وغيرهم من طريقه، وقد ساق البخاري إسناد حجاج عقب هذا ولم يسق المتن بل قال: عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف أنه أخبره أن مروان بهذا، وساقه مسلم والإسماعيلي من هذا الوجه بلفظ: "أن مروان قال لبوابه اذهب يا رافع إلى ابن عباس فقال له" فذكر نحو حديث هشام. قوله: "لنعذبن أجمعون" في رواية حجاج بن محمد "لنعذبن أجمعين" . قوله: "إنما دعا النبي صلى الله عليه وسلم يهودا فسألهم عن شيء" في رواية حجاج بن محمد "إنما نزلت هذه الآية في أهل

(8/234)


الكتاب" . قوله: "فأروه أن قد استحمدوا إليه بما أخبروه عنه فيما سألهم" في رواية حجاج بن محمد" فخرجوا قد أروه أنهم أخبروه بما سألهم عنه واستحمدوا بذلك إليه" وهذا أوضح. قوله: {بِمَا أَتَوْا} كذا للأكثر بالقصر بمعنى جاءوا أي بالذي فعلوه، وللحموي "بما أوتوا" بضم الهمزة بعدها واو أي أعطوا، أي من العلم الذي كتموه، كما قال تعالى: {فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} والأول أولى لموافقته التلاوة المشهورة، على أن الأخرى قراءة السلمي وسعيد بن جبير، وموافقة المشهورة أولى مع موافقته لتفسير ابن عباس. قوله: "ثم قرأ ابن عباس وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب" فيه إشارة إلى أن الذين أخبر الله عنهم في الآية المسئول عنها هم المذكورون في الآية التي قبلها. وأن الله ذمهم بكتمان العلم الذي أمرهم أن لا يكتموه، وتوعدهم بالعذاب على ذلك ووقع في رواية محمد بن ثور المذكورة" فقال ابن عباس: قال الله جل ثناؤه في التوراة إن الإسلام دين الله الذي افترضه على عباده وإن محمدا رسول الله" .
" تنبيه " الشيء الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم عنه اليهود لم أره مفسرا، وقد قيل إنه سألهم عن صفته عندهم بأمر واضح، فأخبروه عنه بأمر مجمل. وروى عبد الرزاق من طريق سعيد بن جبير في قوله: {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} قال: محمد: وفي قوله: {يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا} قال: بكتمانهم محمدا. وفي قوله: {أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} قال: قولهم نحن على دين إبراهيم.

(8/235)


باب {إن في خلق السوات والأرض}
...
17- باب {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} الآية
4569- حدثنا سعيد بن أبي مريم أخبرنا محمد بن جعفر قال أخبرني شريك بن عبد الله بن أبي نمر عن كريب عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "بت عند خالتي ميمونة فتحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أهله ساعة ثم رقد فلما كان ثلث الليل الآخر قعد فنظر إلى السماء فقال: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآياتٍ لأُولِي الْأَلْبَابِ} ثم قام فتوضأ واستن فصلى إحدى عشرة ركعة ثم أذن بلال فصلى ركعتين ثم خرج فصلى الصبح"
قوله: "باب قوله: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} ساق إلى "الألباب" وذكر حديث ابن عباس في بيت ميمونة أورده مختصرة، وقد تقدم شرحه مستوفى في أبواب الوتر. وورد في سبب نزول هذه الآية ما أخرجه ابن أبي حاتم والطبراني من طريق جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس "أتت قريش اليهود فقالوا أيما جاء به موسى؟ قالوا: العصا ويده" الحديث، إلى أن قال: "فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: اجعل لنا الصفا ذهبا، فنزلت هذه الآية" ورجاله ثقات، إلا الحماني فإنه تكلم فيه. وقد خالفه الحسن بن موسى فرواه عن يعقوب عن جعفر عن سعيد مرسلا وهو أشبه، وعلى تقدير كونه محفوظا وصله ففيه إشكال من جهة أن هذه السورة مدنية وقريش من أهل مكة. قلت: ويحتمل أن يكون سؤالهم لذلك بعد أن هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ولا سيما في زمن الهدنة.

(8/235)


باب {الذين يذكرون الله قياما وقعودا ويتفكرون في خلق السماوات والأرض}
...
18- باب {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} الآية

(8/235)


19- باب {رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلْ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ}
4571- حدثنا علي بن عبد الله حدثنا ينعقد بن عيسى حدثنا مالك عن مخرمة بن سليمان عن كريب مولى عبد الله بن عباس أن عبد الله بن عباس أخبره أنه بات عند ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وهي خالته قال فاضطجعت في عرض الوسادة واضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهله في طولها فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل ثم استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يمسح النوم عن وجهه بيديه ثم قرأ العشر الآيات الخواتم من سورة آل عمران ثم قام إلى شن معلقة فتوضأ منها فأحسن الدفع ثم قام يصلي فصنعت مثل ما صنع ثم ذهبت فقمت إلى جنبه فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده اليمنى على رأسي وأخذ بيده اليمنى يفتلها فصلى ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم أوتر ثم اضطجع حتى جاءه المؤذن فقام فصلى ركعتين خفيفتين ثم خرج فصلى الصبح"
قوله: "باب {رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} "ذكر فيه حديث ابن عباس المذكور، وليس فيه إلا تغيير شيخ شيخه فقط، وسياق الرواية في هذا الباب أتم من تلك. ووقع في رواية الأصلي هنا" وأخذ بيدي اليمنى" وهو وهم والصواب "بأذني" كما في سائر الروايات.

(8/236)


20- باب {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ} الْآيَةَ
4572- حدثنا قتيبة بن سعيد عن مالك عن مخرمة بن سليمان عن كريب مولى بن عباس أن بن عباس رضي الله عنهما أخبره ثم أنه بات عند ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وهي خالته قال فاضطجعت في عرض الوسادة واضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهله في طولها فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا انتصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم والحاصل يمسح النوم عن وجهه بيده ثم قرأ العشر الآيات الخواتم من سورة آل عمران ثم قام إلى شن معلقة فتوضأ منها فأحسن الدفع ثم قام يصلي قال بن عباس فقمت فصنعت مثل ما صنع ثم ذهبت فقمت إلى جنبه فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده اليمنى على رأسي وأخذ بأذني اليمنى يفتلها فصلى ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم أوتر ثم اضطجع حتى جاءه المؤذن فقام فصلى ركعتين خفيفتين ثم خرج فصلى الصبح"
قوله: "باب {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ} الآية" ذكر فيه الحديث المذكور عن شيخ له آخر عن مالك، وساقه أيضا بتمامه.

(8/237)


4- سورة النِّسَاءِ
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَسْتَنْكِفُ يَسْتَكْبِرُ قِوَامًا قِوَامُكُمْ مِنْ مَعَايِشِكُمْ لَهُنَّ سَبِيلاً يَعْنِي الرَّجْمَ لِلثَّيِّبِ وَالْجَلْدَ لِلْبِكْرِ وَقَالَ غَيْرُهُ مَثْنَى وَثُلاَثَ يَعْنِي اثْنَتَيْنِ وَثَلاَثًا وَأَرْبَعًا وَلاَ تُجَاوِزُ الْعَرَبُ رُبَاعَ
قوله: "سورة النساء - بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم" سقطت البسملة لغير أبي ذر. قوله: "قال ابن عباس: يستنكف يستكبر" وقع هذا في رواية المستملي والكشميهني حسب، وقد وصله ابن أبي حاتم بإسناد صحيح من طريق ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ} قال يستكبر، وهو عجيب، فإن في الآية عطف الاستكبار على الاستنكاف فالظاهر أنه غيره، ويمكن أن يحمل على التوكيد. وقال الطبري: معنى يستنكف يأنف، وأسند عن قتادة قال: يحتشم. وقال الزجاج: هو استفعال من النكف وهو الأنفة، والمراد دفع ذلك عنه، ومنه نكفت الدمع بالإصبع إذا منعته من الجري على الخد. قوله: "قواما قوامكم من معايشكم" هكذا وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، ووصله الطبري من هذا الوجه بلفظ {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً} يعني قوامكم من معايشكم، يقول لا تعمد إلى مالك الذي جعله الله لك معيشة فتعطيه امرأتك ونحوها، وقوله: {قِيَاماً} القراءة المشهورة بالتحتانية بدل الواو، لكنهما بمعنى، قال أبو عبيدة: يقال قيام أمركم وقوام أمركم، والأصل بالواو فأبدلوها ياء لكسرة القاف، قال بعض الشراح: فأورده المصنف على الأصل. قلت: ولا حاجة لذلك لأنه ناقل لها عن ابن عباس، وقد ورد عنه كلا الأمرين: وقيل إنها أيضا قراءة ابن عمر أعني بالواو، وقد قرئ في المشهور عن أهل المدينة أيضا: "قيما" بلا ألف، وفي

(8/237)


الشواذ قراءات أخرى. وقال أبو ذر الهروي قوله: "قوامكم" إنما قاله تفسيرا لقوله: {قِيَاماً} على القراءة الأخرى. قلت: ومن كلام أبي عبيدة يحصل جوابه. قوله: {مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} يعني اثنتين وثلاثا وأربعا، ولا تجاوز العرب رباع" كذا وقع لأبي ذر فأوهم أنه عن ابن عباس أيضا كالذي قبله، ووقع لغيره. وقال غيره مثنى إلخ" وهو الصواب فإن ذلك لم يرو عن ابن عباس وإنما هو تفسير أبي عبيدة قال: لا تنوين في مثنى لأنه مصروف عن حده، والحد أن يقولوا اثنين وكذلك ثلاث ورباع لأنه ثلاث وأربع، ثم أنشد شواهد لذلك ثم قال: ولا تجاوز العرب رباع غير أن الكميت قال:
فلم يستريثوك حتى رمي ... ت فوق الرجال خصالا عشارا
انتهى وقيل: بل يجوز إلى سداس، وقيل إلى عشار. قال الحريري في "درة الغواص" غلط المتنبي في قوله: "أحاد أم سداس في أحاد" لم يسمع في الفصيح إلا مثنى وثلاث ورباع، والخلاف في خماس إلى عشار. ويحكى عن خلف الأحمر أنه أنشد أبياتا من خماس إلى عشار. وقال غيره: في هذه الألفاظ المعدولة هل يقتصر فيها على السماع أو يقاس عليها؟ قولان أشهرهما الاقتصار، قال ابن الحاجب: هذا هو الأصح، ونص عليه البخاري في صحيحه. كذا قال. قلت: وعلى الثاني يحمل بيت الكميت، وكذا قول الآخر:
ضربت خماس ضربة عبشمي ... أراد سداس أن لا تستقيما
وهذه المعدولات لا تقع إلا أحوالا كهذه الآية، أو أوصافا كقوله تعالى: {أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} أو إخبارا كقوله عليه الصلاة والسلام الليل مثنى" ولا يقال فيها مثناة وثلاثة، بل تجري مجرى واحدا، وهل يقال موحد كما يقال مثنى؟ الفصيح لا. وقيل يجوز. وكذا مثلث إلخ. وقول أبي عبيدة إن معنى مثنى اثنتين فيه اختصار وإنما معناه اثنتين اثنتين وثلاث ثلاث، وكأنه ترك ذلك لشهرته، أو كان لا يرى التكرار فيه، وسيأتي ما يتعلق بعدد ما ينكح من النساء في أوائل النكاح إن شاء الله تعالى. قوله: {لَهُنَّ سَبِيلاً} يعني الرجم للثيب والجلد للبكر" ثبت هذا أيضا في رواية المستملي والكشميهني حسب، وهو من تفسير ابن عباس أيضا وصله عبد بن حميد عنه بإسناد صحيح، وروى مسلم وأصحاب السنن من حديث عبادة بن الصامت "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا، والبكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم" والمراد الإشارة إلى قوله تعالى: {حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً} وقد روى الطبراني من حديث ابن عباس قال: فلما نزلت سورة النساء قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا حبس بعد سورة النساء" وسيأتي البحث في الجمع بين الجلد والرجم للثيب في كتاب الحدود إن شاء الله تعالى.

(8/238)


1- باب {وَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ لاَ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى}
4573- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا هِشَامٌ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا "أَنَّ رَجُلاً كَانَتْ لَهُ يَتِيمَةٌ فَنَكَحَهَا وَكَانَ لَهَا عَذْقٌ وَكَانَ يُمْسِكُهَا عَلَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ لَهَا مِنْ نَفْسِهِ شَيْءٌ فَنَزَلَتْ فِيهِ {وَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ لاَ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} أَحْسِبُهُ قَالَ كَانَتْ شَرِيكَتَهُ فِي ذَلِكَ الْعَذْقِ

(8/238)


وَفِي مَالِه"
4574- حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ "أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ لاَ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} فَقَالَتْ يَا ابْنَ أُخْتِي هَذِهِ الْيَتِيمَةُ تَكُونُ فِي حَجْرِ وَلِيِّهَا تَشْرَكُهُ فِي مَالِهِ وَيُعْجِبُهُ مَالُهَا وَجَمَالُهَا فَيُرِيدُ وَلِيُّهَا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِغَيْرِ أَنْ يُقْسِطَ فِي صَدَاقِهَا فَيُعْطِيَهَا مِثْلَ مَا يُعْطِيهَا غَيْرُهُ فَنُهُوا عَنْ أَنْ يَنْكِحُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يُقْسِطُوا لَهُنَّ وَيَبْلُغُوا لَهُنَّ أَعْلَى سُنَّتِهِنَّ فِي الصَّدَاقِ فَأُمِرُوا أَنْ يَنْكِحُوا مَا طَابَ لَهُمْ مِنْ النِّسَاءِ سِوَاهُنَّ قَالَ عُرْوَةُ قَالَتْ عَائِشَةُ وَإِنَّ النَّاسَ اسْتَفْتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ هَذِهِ الآيَةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قَالَتْ عَائِشَةُ وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} رَغْبَةُ أَحَدِكُمْ عَنْ يَتِيمَتِهِ حِينَ تَكُونُ قَلِيلَةَ الْمَالِ وَالْجَمَالِ قَالَتْ فَنُهُوا أَنْ يَنْكِحُوا عَنْ مَنْ رَغِبُوا فِي مَالِهِ وَجَمَالِهِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ إِلاَّ بِالْقِسْطِ مِنْ أَجْلِ رَغْبَتِهِمْ عَنْهُنَّ إِذَا كُنَّ قَلِيلاَتِ الْمَالِ وَالْجَمَال"
قوله: "باب {وَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ لاَ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} سقطت هذه الترجمة لغير أبي ذر، ومعنى "خفتم" ظننتم، ومعنى "تقسطوا" تعدلوا، وهو من أقسط يقال قسط إذا جار وأقسط إذا عدل، وقيل الهمزة فيه للسلب أي أزال القسط، ورجحه ابن التين بقوله تعالى: {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} لأن أفعل في أبنية المبالغة لا تكون في المشهور إلا من الثلاثي، نعم حكى السيرافي في جواز التعجب بالرباعي، وحكى غيره أن أقسط من الأضداد، والله أعلم. قوله: "أخبرنا هشام" هو ابن يوسف، وهذه الترجمة من لطائف أنواع الإسناد، وهي ابن جريج عن هشام، وهشام الأعلى هو ابن عروة والأدنى ابن يوسف. قوله: "إن رجلا كانت له يتيمة فنكحها" هكذا قال هشام عن ابن جريج فأوهم أنها نزلت في شخص معين، والمعروف عن هشام بن عروة التعميم، وكذلك أخرجه الإسماعيلي من طريق حجاج بن محمد عن ابن جريج ولفظه: "أنزلت في الرجل يكون عنده اليتيمة إلخ" وكذا هو عند المصنف في الرواية التي تلي هذه من طريق ابن شهاب عن عروة، وفيه شيء آخر نبه عليه الإسماعيلي وهو قوله: "فكان لها عذق فكان يمسكها عليه" فإن هذا نزل في التي يرغب عن نكاحها، وأما التي يرغب في نكاحها فهي التي يعجبه مالها وجمالها فلا يزوجها لغيره ويريد أن يتزوجها بدون صداق مثلها، وقد وقع في رواية ابن شهاب التي بعد هذه التنصيص على القصتين، ورواية حجاج بن محمد سالمة من هذا الاعتراض فإنه قال فيها "أنزلت في الرجل يكون عنده اليتيمة وهي ذات مال إلخ" وكذا أخرجه المصنف في أواخر هذه السورة من طريق أبي أسامة، وفي النكاح من طريق وكيع كلاهما عن هشام. قوله: "عذق" بفتح العين المهملة وسكون المعجمة: النخلة، وبالكسر الكباسة والقنو، وهو من النخلة كالعنقود من الكرمة، والمراد هنا الأول. وأغرب الداودي ففسر العذق في حديث عائشة هذا بالحائط. قوله: "وكان يمسكها عليه" أي لأجله. وفي رواية الكشميهني: "فيمسك بسببه" قوله: "أحسبه قال: كانت شريكته في ذلك العذق" هو شك من هشام بن يوسف، ووقع مبينا مجزوما به في رواية أبي أسامة ولفظه: "هو الرجل يكون

(8/239)


عنده اليتيمة هو وليها وشريكته في ماله حتى في العذق فيرغب أن ينكحها ويكره أن يزوجها رجلا فيشركه في ماله فيعضلها، فنهوا عن ذلك" ورواية ابن شهاب شاملة للقصتين، وقد تقدمت في الوصايا من رواية شعيب عنه. قوله: "اليتيمة" أي التي مات أبوها. قوله: "في حجر وليها" أي الذي يلي مالها. قوله: "بغير أن يقسط في صداقها" في النكاح من رواية عقيل عن ابن شهاب "ويريد أن ينتقص من صداقها" . قوله: "فيعطيها مثل ما يعطينها غيره" هو معطوف على معمول بغير أي يريد أن يتزوجها بغير أن يعطيها مثل ما يعطيها غيره، أي ممن يرغب في نكاحها سواه، ويدل على هذا قوله بعد ذلك "فنهول عن ذلك إلا أن يبلغوا بهن أعلى سنتهن في الصداق" وقد تقدم في الشركة من رواية يونس عن ابن شهاب بلفظ: "بغير أن يقسط في صداقها فيعطيها مثل ما يعطيها غيره" . قوله: "فأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن" أي بأي مهر توافقوا عليه، وتأويل عائشة هذا جاء عن ابن عباس مثله أخرجه الطبري، وعن مجاهد مناسبة ترتب قوله: "فانكحوا ما طاب لكم من النساء" على قوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ لاَ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} شيء آخر، قال في معنى قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ لاَ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} أي إذا كنتم تخافون أن لا تعدلوا في مال اليتامى فتحرجتم أن لا تلوها فتحرجوا من الزنا وانكحوا ما طاب لكم من النساء، وعلى تأويل عائشة يكون المعنى وإن خفتم أن لا تقسطوا في نكاح اليتامى. قوله: "قال عروة قالت عائشة" هو معطوف على الإسناد المذكور وإن كان بغير أداة عطف. وفي رواية عقيل وشعيب المذكورين "قالت عائشة فاستفتى الناس" إلخ. قوله: "بعد هذه الآية" أي بعد نزول هذه الآية بهذه القصة. وفي رواية عقيل "بعد ذلك" . قوله: "فأنزل الله {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ} قالت عائشة وقول الله تعالى في آية أخرى {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} كذا وقع في رواية صالح وليس ذلك في آية أخرى وإنما هو في نفس الآية وهي قوله: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ} ووقع في رواية شعيب وعقيل" فأنزل الله تعالى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ} إلى قوله: {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} ثم ظهر لي أنه سقط من رواية البخاري شيء اقتضى هذا الخطأ، ففي صحيح مسلم والإسماعيلي والنساء واللفظ له من طريق يعقوب بن إبراهيم بن سعد عن أبيه بهذا الإسناد في هذا الموضع" فأنزل الله {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} فذكر الله أن يتلى عليكم في الكتاب الآية الأولى وهي قوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} قالت عائشة: وقول الله في الآية الأخرى {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} رغبة أحدكم إلخ كذا أخرجه مسلم من طريق يونس عن ابن شهاب، وتقدم للمصنف أيضا في الشركة من طريق يونس عن ابن شهاب مقرونا بطريق صالح بن كيسان المذكورة هنا، فوضح بهذا في رواية صالح أن في الباب اختصارا، وقد تكلف له بعض الشراح فقال: معنى قوله: "في آية أخرى" أي بعد قوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ} وما أوردناه أوضح والله أعلم.
" تنبيه " : أغفل المزي في الأطراف عزو هذه الطريق أي طريق صالح عن ابن شهاب إلى كتاب التفسير واقتصر على عزوها إلى كتاب الشركة. قوله: "وترغبون أن تنكحوهن، رغبة أحدكم عن يتيمته" فيه تعيين أحد الاحتمالين في قوله: "وترغبون" لأن رغب يتغير معناه بمتعلقه يقال رغب فيه إذا أراده ورغب عنه إذا لم يرده، لأنه يحتمل أن تحذف في وأن تحذف عن، وقد تأوله سعيد بن جبير على المعنيين فقال: نزلت في الغنية والمعدمة، والمروي هنا عن عائشة أوضح في أن الآية الأولى نزلت في الغنية، وهذه الآية نزلت في المعدمة. قوله: "فنهوا" أي نهوا

(8/240)


عن نكاح المرغوب فيها لجمالها ومالها لأجل زهدهم فيها إذا كانت قليلة المال والجمال، فينبغي أن يكون نكاح اليتيمتين على السواء في العدل، وفي الحديث اعتبار مهر المثل في المحجورات وأن غيرهن يجوز نكاحها بدون ذلك، وفيه أن للولي أن يتزوج من هي تحت حجره لكن يكون العاقد غيره، وسيأتي البحث فيه في النكاح، وفيه جواز تزويج اليتامى قبل البلوغ لأنهن بعد البلوغ لا يقال لهن يتيمات إلا أن يكون أطلق استصحابا لحالهن، وسيأتي البحث فيه أيضا في كتاب النكاح.

  2- باب {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ} الآية { وَبِدَارًا} مُبَادَرَةً {أَعْتَدْنَا} أَعْدَدْنَا أَفْعَلْنَا مِنْ الْعَتَادِ
4575- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي وَالِي الْيَتِيمِ إِذَا كَانَ فَقِيرًا أَنَّهُ يَأْكُلُ مِنْهُ مَكَانَ قِيَامِهِ عَلَيْهِ بِمَعْرُوف"
قوله: "باب {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} ساق إلى قوله: "حسيبا" . قوله: "وبدارا مبادرة" هو تفسير أول الآية المترجم بها. وقال أبو عبيدة في قوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً} : الإسراف الإفراط، وبدارا مبادرة، وكأنه فسر المصدر بأشهر منه، يقال بادرت بدارا ومبادرة. وأخرج الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: يعني يأكل مال اليتيم ويبادر إلى أن يبلغ فيحول بينه وبين ماله. قوله: "أعتدنا أعددنا أفعلنا من العتاد" كذا للأكثر، وهو تفسير أبي عبيدة، ولأبي ذر عن الكشميهني اعتددنا: افتعلنا والأول هو الصواب، والمراد أن أعتدنا وأعددنا بمعنى واحد، لأن العتيد هو الشيء المعد.
" تنبيه " : وقعت هذه الكلمة في هذا الموضع سهوا من بعض نساخ الكتاب، ومحلها بعد هذا قبل "باب {لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً} . قوله: "حدثني إسحاق" هو ابن راهويه، وأما أبو نعيم في "المستخرج" فأخرجه من طريق ابن راهويه ثم قال: أخرجه البخاري عن إسحاق بن منصور. قوله: "في مال اليتيم" في رواية الكشميهني: "في والي اليتيم" والمراد بوالي اليتيم المتصرف في ماله بالوصية ونحوها، والضمير في كان على الرواية الأولى ينصرف إلى مصرف المال بقرينة المقام، ووقع في البيوع من طريق عثمان ابن فرقد عن هشام بن عروة بلفظ: "أنزلت في والي اليتيم الذي يقوم عليه ويصلح ماله، إن كان فقيرا أكل منه بالمعروف" وفي الباب حديث مرفوع أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه وابن خزيمة وابن الجارود وابن أبي حاتم من طريق حسين المكتب عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: "جاء جل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن عندي يتيما له مال، وليس عندي شيء، أفآكل من ماله؟ قال: بالمعروف " وإسناده قوي. قوله: "إذا كان فقيرا" مصير منه إلى أن الذي يباح له الأجرة من مال اليتيم من اتصف بالفقر، وقد قدمت البحث في ذلك في كتاب الوصايا، وذكر الطبري من طريق السدي "أخبرني من سمع ابن عباس يقول في قوله: {وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوف} قال: بأطراف أصابعه. ومن طريق عكرمة" يأكل ولا يكتسى" ومن طريق إبراهيم النخعي "يأكل ما سد الجوعة ووارى العورة" وقد مضى بقية نقل الخلاف فيه في الوصايا. وقال الحسن بن حي: يأكل وصي الأب بالمعروف، وأما قيم الحاكم فله أجرة فلا يأكل شيئا. وأغرب ربيعة فقال: المراد خطاب الوفي بما يصنع باليتيم إن كان غنيا وسع عليه، وإن كان فقيرا أنفق عليه بقدره، وهذا أبعد الأقوال كلها.
" تنبيه " : وقع لبعض الشراح ما نصه: قوله: "فمن كان غنيا فليستعفف" التلاوة ومن كان بالواو انتهى، وأنا ما رأيته في النسخ التي وقفت عليها إلا بالواو.

  3- باب {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ} الآيَةَ
4576- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حُمَيْدٍ أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ الأَشْجَعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ الشَّيْبَانِيِّ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ} قَالَ هِيَ مُحْكَمَةٌ وَلَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ تَابَعَهُ سَعِيدٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاس"
قوله: "باب {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ} الآية" سقط "باب" لغير أبي ذر. قوله: "حدثنا أحمد بن حميد" هو القرشي الكوفي صهر عبيد الله بن موسى قال له دار أم سلمة لقب بذلك لجمعه حديث أم سلمة وتتبعه لذلك. وقال ابن عدي: كان له اتصال بأم سلمة يعني زوج السفاح الخليفة فلقب بذلك، ووهم الحاكم فقال: يلقب جار أم سلمة، وثقه مطين وقال: كان يعد في حفاظ أهل الكوفة، ومات سنة عشرين ومائتين، ووهم من قال خلاف ذلك، وما له في البخاري سوى هذا الحديث الواحد، وشيخه عبيد الله الأشجعي هو ابن عبيد الرحمن الكوفي، وأبوه فرد في الأسماء مشهور في أصحاب سفيان الثوري، والشيباني هو أبو إسحاق، والإسناد إلى عكرمة كوفيون. قوله: "هي محكمة وليست بمنسوخة" زاد الإسماعيلي من وجه آخر عن الأشجعي" وكان ابن عباس إذا ولى رضخ، وإذا كان في المال قلة اعتذر إليهم، فذلك القول بالمعروف" . وعند الحاكم من طريق عمرو بن أبي قيس عن الشيباني بالإسناد المذكور في هذه الآية قال: "ترضخ لهم وإن كان في المال تقصير اعتذر إليهم" . قوله: "تابعه سعيد بن جبير عن ابن عباس" وصله في الوصايا بلفظ: "إن ناسا يزعمون أن هذه الآية نسخت، ولا والله ما نسخت، ولكنها مما تهاون الناس بها، هما واليان: وال يرث وذلك الذي يرزق، ووال لا يرث وذلك الذي يقال له بالمعروف يقول: لا أملك لك أن أعطيك" وهذان الإسنادان الصحيحان عن ابن عباس هما المعتمدان، وجاءت عنه روايات من أوجه ضعيفة عند ابن أبي حاتم وابن مردويه أنها منسوخة، نسختها آية الميراث، وصح ذلك عن سعيد بن المسيب، وهو قول القاسم بن محمد وعكرمة وغير واحد، وبه قال الأئمة الأربعة وأصحابهم، وجاء عن ابن عباس قول آخر أخرجه عبد الرزاق بإسناد صحيح عن القاسم بن محمد "أن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر قسم ميراث أبيه عبد الرحمن في حياة عائشة، فلم يدع في الدار ذا قرابة ولا مسكينا إلا أعطاه من ميراث أبيه" وتلا الآية قال القاسم فذكرته لابن عباس فقال: ما أصاب، ليس ذلك له، إنما ذلك إلى الوصي، وإنما ذلك في العصبة أي ندب للميت أن يوصى لهم. قلت: وهذا لا ينافي حديث الباب، وهو أن الآية محكمة وليست بمنسوخة. وقيل معنى الآية: وإذا حضر قسمة الميراث قرابة الميت ممن لا يرث واليتامى والمساكين فإن نفوسهم تتشوف إلى أخذ شيء منه، ولا سيما إن كان جزيلا، فأمر الله سبحانه أن يرضخ لهم بشيء على سبيل البر والإحسان. واختلف من قال بذلك هل الأمر فيه على الندب أو الوجوب؟ فقال مجاهد وطائفة: هي على الوجوب وهو قول ابن حزم أن على الوارث أن يعطي هذه الأصناف ما طابت به نفسه. ونقل ابن الجوزي عن أكثر أهل العلم أن المراد بأولى القرابة من لا يرث، وأن معنى {فَارزُقُوهُمْ} أعطوهم من المال. وقال آخرون: أطعموهم، وأن ذلك على سبيل الاستحباب وهو المعتمد، لأنه لو كان على الوجوب لاقتضى استحقاقا في التركة ومشاركة في الميراث بجهة مجهولة فيفضي إلى التنازع والتقاطع، وعلى القول بالندب فقد قبل: يفعل ذلك ولي المحجور، وقيل لا بل يقول: ليس المال لي وإنما هو لليتيم، وأن هذا هو المراد بقوله: {وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً} وعلى هذا فتكون الواو في قوله: { وَقُولُوا} للتقسيم وعن ابن سيرين وطائفة: المراد بقوله: {فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ } اصنعوا لهم طعاما يأكلونه، وأنها على العموم في مال المحجور وغيره، والله أعلم

  4- باب {يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ}
4577- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا هِشَامٌ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ قَالَ أَخْبَرَنِي ابْنُ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "عَادَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ فِي بَنِي سَلِمَةَ مَاشِيَيْنِ فَوَجَدَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ أَعْقِلُ شَيْئًا فَدَعَا بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ مِنْهُ ثُمَّ رَشَّ عَلَيَّ فَأَفَقْتُ فَقُلْتُ مَا تَأْمُرُنِي أَنْ أَصْنَعَ فِي مَالِي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَنَزَلَتْ {يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ}
قوله: "باب {يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ} سقط لغير أبي ذر "باب" و "في أولاكم" والمراد بالوصية هنا بيان قسمة الميراث. قوله: "أخبرنا هشام" هو ابن يوسف، وابن المنكدر هو محمد. قوله: "عن جابر" في رواية شعبة عن ابن المنكدر "سمعت جابرا" وتقدمت في الطهارة. قوله: "عادني النبي صلى الله عليه وسلم" سيأتي ما يتعلق بذلك في كتاب المرضى قبيل كتاب الطب. قوله: "في بني سلمة" بفتح المهملة وكسر اللام هم قوم جابر، وهم بطن من الخزرج. قوله: "لا أعقل" زاد الكشميهني: "شيئا" . قوله: "ثم رش على" بينت في الطهارة الرد على من زعم أنه رش عليه من الذي فضل، وسيأتي في الاعتصام التصريح بأنه صب عليه نفس الماء الذي توضأ به. قوله: "فقلت ما تأمرني أن أصنع في مالي" في رواية شعبة المذكورة "فقلت يا رسول الله لمن الميراث، إنما يرثني كلالة" وسيأتي بيان ذلك في الفرائض. قوله: {فنزلت يوصيكم الله في أولادكم" هكذا وقع في رواية ابن جريج، وقيل إنه وهم في ذلك وأن الصواب أن الآية التي نزلت في قصة جابر هذه الآية الأخيرة من النساء وهي {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} لأن جابرا يومئذ لم يكن له ولد ولا والد، والكلالة من لا ولد له ولا والد، وقد أخرجه مسلم عن عمرو الناقد، والنسائي عن محمد بن منصور كلاهما عن ابن عيينة عن ابن المنكدر فقال في هذا الحديث:"حتى نزلت عليه آية الميراث: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} ولمسلم أيضا من طريق شعبة عن ابن المنكدر قال في آخر هذا الحديث: "فنزلت آية الميراث، فقلت لمحمد بن المنكدر: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} ؟ قال: هكذا أنزلت: {وقد تفطن البخاري بذلك فترجم في أول الفرائض" قوله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} - إلى قوله: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ} ثم ساق حديث جابر المذكور عن قتيبة عن ابن عيينة وفي آخره: "حتى نزلت آية الميراث" ولم يذكر ما زاده الناقد، فأشعر بأن الزيادة عنده مدرجة من كلام ابن عيينة. وقد أخرجه أحمد عن ابن عيينة مثل رواية الناقد وزاد في آخره: "كان ليس له ولد وله أخوات" وهذا من كلام ابن عيينة أيضا، وقد اضطرب فيه فأخرجه

(8/243)


ابن خزيمة عن عبد الجبار بن العلاء عنه بلفظ: "حتى نزلت آية الميراث: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} وقال مرة "حتى نزلت آية الكلالة" وأخرجه عبد بن حميد، الترمذي عنه عن يحيى بن آدم عن ابن عيينة بلفظ: "حتى نزلت {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} وأخرجه الإسماعيلي من طريق إسحاق بن أبي إسرائيل عنه فقال في آخره:"حتى نزلت آية الميراث: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} "فمراد البخاري بقوله في الترجمة" إلى قوله: {واللهُ عليم حليم} الإشارة إلى أن مراد جابر من آية الميراث قوله: "إن كان رجل يورث كلالة" وأما الآية الأخرى وهي قوله: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} فسيأتي في آخر تفسير هذه السورة أنها من آخر ما نزل، فكأن الكلالة لما كانت مجملة في آية المواريث استفتوا عنها فنزلت الآية الأخيرة. ولم ينفرد ابن جريج بتعين الآية المذكورة، فقد ذكرها ابن عيينة أيضا على الاختلاف عنه، وكذا أخرجه الترمذي والحاكم من طريق عمرو بن أبي قيس عن ابن المنكدر، وفيه نزلت: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} وقد أخرجه البخاري أيضا عن ابن المديني وعن الجعفي مثل رواية قتيبة بدون الزيادة وهو المحفوظ، كذا أخرجه مسلم من طريق سفيان الثوري عن ابن المنكدر بلفظ: "حتى نزلت آية الميراث" فالحاصل أن المحفوظ عن ابن المنكدر أنه قال: "آية الميراث أو آية الفرائض" والظاهر أنها "يوصيكم الله" كما صرح به في رواية ابن جريج ومن تابعه، وأما من قالها إنها "يستفتونك" فعمدته أن جابرا لم يكن له حينئذ ولد وإنما يورث كلالة فكان المناسب لقصته نزول الآية الأخيرة، لكن ليس ذلك بلازم، لأن الكلالة مختلف في تفسيرها: فقيل هي اسم المال الموروث، وقيل اسم الميت، قيل اسم الإرث، وقيل ما تقدم. فلما لم يعين تفسيرها بمن لا ولد له ولا والد لم يصح الاستدلال لما قدمته أنها نزلت في آخر الأمر وآية المواريث نزلت قبل ذلك كما أخرج أحمد وأصحاب السنن وصححه الحاكم من طريق عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر قال: "جاءت امرأة سعد بن الربيع فقالت: " يا رسول الله هاتان ابنتا سعد بن الربيع قتل أبوهما معك في أحد، إن عمهما أخذ مالهما. قال: يقضي الله في ذلك" . فنزلت آية الميراث. فأرسل إلى عمها فقال: أعط ابنتا سعد الثلثين وأمهما الثمن فما بقي فهو لك" وهذا ظاهر في تقدم نزولها. نعم وبه احتج من قال إنها لم تنزل في قصة جابر إنما نزلت في قصة ابنتا سعد بن الربيع، وليس ذلك بلازم إذ لا مانع أن تنزل في الأمرين معا. ويحتمل أن يكون نزول أولها في قصة البنتين وآخرها وهي قوله: "وإن كان رجل يورث كلالة" في قصة جابر، ويكون مراد جابر فنزلت: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} أي ذكر الكلالة المتصل بهذه الآية والله أعلم. وإذا تقرر جميع ذلك ظهر أن ابن جريج لم يهم كما جزم به الدمياطي ومن تبعه، وأن من وهمه هو الواهم والله أعلم. وسيأتي بقية ما يتعلق بشرح هذا الحديث في الفرائض إن شاء الله تعالى

(8/244)


5- باب {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ}
4578- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ وَرْقَاءَ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "كَانَ الْمَالُ لِلْوَلَدِ وَكَانَتْ الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ فَنَسَخَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ مَا أَحَبَّ فَجَعَلَ لِلذَّكَرِ مِثْلَ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ وَجَعَلَ لِلأَبَوَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسَ وَالثُّلُثَ وَجَعَلَ لِلْمَرْأَةِ الثُّمُنَ وَالرُّبُعَ وَللزَّوْجِ الشَّطْرَ وَالرُّبُع"

(8/244)


قوله: "باب قوله: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} سقط قوله: "باب" لغير أبي ذر، وثبت قوله: "قوله: "للمستملي فقط. قوله: "كان المال للولد" يشير إلى ما كانوا عليه قبل، وقد روى الطبري من وجه آخر عن ابن عباس أنها" لما نزلت قالوا يا رسول الله أنعطي الجارية الصغيرة نصف الميراث وهي لا تركب الفرس ولا تدافع العدو؟ قال وكانوا في الجاهلية لا يعطون الميراث إلا لمن قاتل القوم" . قوله: "فنسخ الله من ذلك ما أحب" هذا يدل على أن الأمر الأول استمر إلى نزول الآية، وفيه رد على من أنكر النسخ، ولم ينقل ذلك عن أحد من المسلمين إلا عن أبي مسلم الأصبهاني صاحب التفسير فإنه أنكر النسخ مطلقا، ورد عليه بالإجماع على أن شريعة الإسلام ناسخة لجميع الشرائع، أجيب عنه بأنه يرى أن الشرائع الماضية مستقرة الحكم إلى ظهور هذه الشريعة، قال فسمي ذلك تخصيصا لا نسخا، ولهذا قال ابن السمعاني: إن كان أبو مسلم لا يعترف بوقوع الأشياء التي نسخت في هذه الشريعة فهو مكابر، وإن قال لا أسميه نسخا كان الخلاف لفظيا، والله أعلم. قوله: "وجعل للأبوين لكل واحد منهما السدس والثلث" قال الدمياطي: قوله والثلث زيادة هنا، وقد أخرج المصنف هذا الحديث بهذا الإسناد في كتاب الفرائض فلم يذكرها قلت: اختصرها هناك، ولكنها ثابتة في تفسير محمد بن يوسف الفريابي شيخه فيه، والمعنى أن لكل واحد منهما السدس في حال وللأم الثلث في حال، ووزان ذلك ما ذكره في بقية الحديث: "وللزوج النصف والربع" أي كل منهما في حال.

(8/245)


باب {لايحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن}
...
6- باب {لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} الْآيَةَ وَيُذْكَرُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ {لاَ تَعْضُلُوهُنَّ} لاَ تَقْهَرُوهُنَّ {حُوبًا} إِثْمًا {تَعُولُوا} تَمِيلُوا {نِحْلَةً} النِّحْلَةُ الْمَهْرُ
4579- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا الشَّيْبَانِيُّ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ الشَّيْبَانِيُّ وَذَكَرَهُ أَبُو الْحَسَنِ السُّوَائِيُّ وَلاَ أَظُنُّهُ ذَكَرَهُ إِلاَّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} قَالَ كَانُوا إِذَا مَاتَ الرَّجُلُ كَانَ أَوْلِيَاؤُهُ أَحَقَّ بِامْرَأَتِهِ إِنْ شَاءَ بَعْضُهُمْ تَزَوَّجَهَا وَإِنْ شَاءُوا زَوَّجُوهَا وَإِنْ شَاءُوا لَمْ يُزَوِّجُوهَا فَهُمْ أَحَقُّ بِهَا مِنْ أَهْلِهَا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي ذَلِك"
[الحديث 4579- طرفه في: 6948]
قوله: "باب قوله: {لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} الآية" سقط "باب" وما بعد "كرها" لغير أبي ذر، وقوله: "كرها" مصدر في موضع الحال، قرأها حمزة والكسائي بالضم والباقون بالفتح. قوله: "ويذكر عن ابن عباس: لا تعضلوهن لا تقهروهن" في رواية الكشميهني: "تنتهروهن" بنون بعدها مثناة من الانتهار، وهي رواية القابسي أيضا، وهذه الرواية وهم والصواب ما عند الجماعة. وهذا الأثر وصله الطبري وابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: "لا تعضلوهن" لا تقهروهن {لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} يعني الرجل تكون له المرأة وهو كاره لصحبتها ولها عليه مهر فيضرها لتفتدي وأسند عن السدي والضحاك نحوه. وعن مجاهد أن المخاطب بذلك أولياء المرأة كالعضل المذكور

(8/245)


في سورة البقرة، ثم ضعف ذلك ورجح الأول. قوله: "حوبا إثما" وصله ابن أبي حاتم بإسناد صحيح عن داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ حُوباً} قال: إثما عظيما. ووصله الطبري من طريق مجاهد والسدي والحسن وقتادة مثله. والجمهور على ضم الحاء، وعن الحسن بفتحها. قوله: "تعولوا تميلوا" وصله سعيد بن منصور بإسناد صحيح عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله: "ذلك أدنى أن لا تعولوا" قال أن لا تميلوا. ورويناه في "فوائد أبي بكر الآجري" بإسناد آخر صحيح إلى الشعبي عن ابن عباس، ووصله الطبري من طريق الحسن ومجاهد وعكرمة والنخعي والسدي وقتادة وغيرهم مثله، وأنشد في رواية عكرمة لأبي طالب من أبيات "بميزان صدق وزنه غير عائل" وجاء مثله مرفوعا صححه ابن حبان من حديث عائشة، وروى ابن المنذر عن الشافعي "أن لا تعولوا" أن لا يكثر عيالكم، وأنكره المبرد وابن داود والثعلبي وغيرهم، لكن قد جاء عن زيد بن أسلم نحو ما قال الشافعي أسنده الدار قطني، وإن كان الأول أشهر، واحتج من رده أيضا من حيث المعنى بأنه أحل من ملك اليمين ما شاء الرجل بلا عدد، ومن لازم ذلك كثرة العيال، وإنما ذكر النساء وما يحل منهن، فالجور والعدل يتعلق بهن. وأيضا فإنه لو كان المراد كثرة العيال لكان أعال يعيل من الرباعي. وأما تعولوا فمن الثلاثي، لكن نقل الثعلبي عن أبي عمرو الدوري قال وكان من أئمة اللغة قال: هي لغة حمير. ونقل عن طلحة ابن مصرف أنه قرأ: {أن لا تعيلوا}. قوله: "نحلة فالنحلة المهر" كذا لأبي ذر، ولغيره بغير فاء "قال الإسماعيلي: إن كان ذلك من تفسير البخاري ففيه نظر، فقد قيل فيه غير ذلك، وأقرب الوجوه أن النحلة ما يعطونه من غير عوض وقيل المراد نحلة ينتحلونها أي يتدينون بها ويعتقدون ذلك. قلت: والتفسير الذي ذكره البخاري قد وصله ابن أبي حاتم والطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} قال: النحلة المهر. وروى الطبري عن قتادة قال: نحلة أي فريضة. ومن طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال: النحلة في كلام العرب الواجب، قال: ليس ينبغي لأحد أن ينكح إلا بصداق. كذا قال. والنحلة في كلام العرب العطية لا كما قال ابن زيد، ثم قال الطبري: وقيل إن المخاطب بذلك أولياء النساء، كان الرجل إذا زوج امرأة أخذ صداقها دونها فنهوا عن ذلك. ثم أسنده إلى سيار عن أبي صالح بذلك، واختار الطبري القول الأول، واستدل له.
" تنبيه " : محل هذه التفاسير من قوله: "حوبا" إلى آخرها في أول السورة، وكأنه من بعض نساخ الكتاب كما قدمناه غير مرة، وليس هذا خاصا بهذا الموضع ففي التفسير في غالب السور أشباه هذا. قوله: "حدثنا أسباط بن محمد" هو بفتح الهمزة وسكون المهملة بعدها موحدة، كوفي ثقة، ليس له في البخاري سوى هذا الحديث. وأورده في كتاب الإكراه عن حسين بن منصور عنه أيضا. وقد قال الدوري عن ابن معين: كان يخطئ عن سفيان، فذكره لأجل ذلك ابن الجوزي في الضعفاء، لكن قال: كان ثبتا فيما يروى عن الشيباني ومطرف. وذكره العقيلي وقال: ربما وهم في الشيء. وقد أدركه البخاري بالسن لأنه مات في أول سنة مائتين. قوله: "قال الشيباني" سماه في كتاب الإكراه سليمان بن فيروز. قوله: "وذكره أبو الحسن السوائي، ولا أظنه ذكره إلا عن ابن عباس" حاصله أن للشيباني فيه طريقين إحداهما موصولة وهي عكرمة عن ابن عباس، والأخرى مشكوك في وصلها وهي أبو الحسن السوائي عن ابن عباس. والشيباني هو أبو إسحاق، والسوائي بضم المهملة وتخفيف الواو ثم ألف ثم همزة واسمه عطاء، ولم أقف له على ذكر إلا في هذا الحديث. قوله: "كانوا إذا مات الرجل" في رواية السدي تقييد

(8/246)


ذلك بالجاهلية. وفي رواية الضحاك تخصيص ذلك بأهل المدينة، وكذلك أورده الطبري من طريق العوفي عن ابن عباس، لكن لا يلزم من كونه في الجاهلية أن لا يكون استمر في أول الإسلام إلى أن نزلت الآية، فقد جزم الواحدي أن ذلك كان في الجاهلية وفي أول الإسلام، وساق القصة مطولة، وكأنه نقله من تفسير الشعبي، ونقل عن تفسير مقاتل نحوه إلا أنه خالف في اسم ابن أبي قيس فالأول قال قيس ومقاتل قال حصين، روى الطبري من طريق ابن جريح عن عكرمة أنها نزلت في قصة خاصة قال: نزلت في كبشة بنت معن بن عاصم من الأوس وكانت تحت أبي قيس بن الأسلت فتوفي عنها، فجنح عليها ابنه، فجاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا نبي الله لا أنا ورثت زوجي ولا تركت فأنكح، فنزلت هذه الآية. وبإسناد حسن عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه قال: "لما توفي أبو قيس بن الأسلت أراد ابنه أن يتزوج امرأته، وكان ذلك لهم في الجاهلية فأنزل الله هذه الآية" . قوله: "كان أولياؤه أحق بامرأته" في رواية أبي معاوية عن الشيباني عن عكرمة وحده عن ابن عباس في هذا الحديث تخصيص ذلك بمن مات زوجها قبل أن يدخل بها. قوله: "إن شاء بعضهم تزوجها وإن شاءوا زوجوها وإن شاءوا لم يزوجوها وهم أحق بها من أهلها" في رواية أبي معاوية المذكورة "حبسها عصبته أن تنكح أحدا حتى تموت فيرثوها" قال الإسماعيلي: هذا مخالف لرواية أسباط. قلت ويمكن ردها إليها بأن يكون المراد أن تنكح إلا منهم أو بإذنهم، نعم هي مخالفة لها في التخصيص السابق، وقد روى الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس "كان الرجل إذا مات وترك امرأة ألقى عليها حميمه ثوبا فمنعها من الناس، فإن كانت جميلة تزوجها وإن كانت دميمة حبسها حتى تموت ويرثها" وروى الطبري أيضا من طريق الحسن والسدي وغيرهما: "كان الرجل يرث امرأة ذي قرابته فيعضلها حتى تموت أو ترد إليه الصداق" وزاد السدي "إن سبق الوارث فألقي عليها ثوبه كان أحق بها، وإن سبقت هي إلى أهلها فهي أحق بنفسها" .

(8/247)


7- باب {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا}
وَقَالَ مَعْمَرٌ: أَوْلِيَاءُ مَوَالِي وَأَوْلِيَاءُ وَرَثَةٌ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ هُوَ مَوْلَى الْيَمِينِ وَهْوَ الْحَلِيفُ وَالْمَوْلَى أَيْضًا ابْنُ الْعَمِّ وَالْمَوْلَى الْمُنْعِمُ الْمُعْتِقُ وَالْمَوْلَى الْمُعْتَقُ وَالْمَوْلَى الْمَلِيكُ وَالْمَوْلَى مَوْلًى فِي الدِّينِ
4580- حَدَّثَنِي الصَّلْتُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ إِدْرِيسَ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} قَالَ وَرَثَةً {وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} كَانَ الْمُهَاجِرُونَ لَمَّا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ يَرِثُ الْمُهَاجِرِيُّ الأَنْصَارِيَّ دُونَ ذَوِي رَحِمِهِ لِلْأُخُوَّةِ الَّتِي آخَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمْ فَلَمَّا نَزَلَتْ {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} نُسِخَتْ ثُمَّ قَالَ {وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} مِنْ النَّصْرِ وَالرِّفَادَةِ وَالنَّصِيحَةِ وَقَدْ ذَهَبَ الْمِيرَاثُ وَيُوصِي لَهُ سَمِعَ أَبُو أُسَامَةَ إِدْرِيسَ وَسَمِعَ إِدْرِيسُ طَلْحَة"
قوله: "باب {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ} ساق إلى قوله: {شَهِيدًا} وسقط ذلك لغير أبي

(8/247)


ذر. قوله: "وقال معمر أولياء {مَوَالِيَ} أولياء ورثة" عاقدت أيمانكم "هو مولى اليمين وهو الحليف، والمولى أيضا ابن العم، والمولى المنعم المعق" أي بكسر المثناة "والمولى المعتق" أي بفتحها "والمولى المليك، والمولى مولى في الدين" انتهى. ومعمر هذا بسكون المهملة وكنت أظنه معمر بن راشد إلى أن رأيت الكلام المذكور في المجاز لأبي عبيدة واسمه معمر بن المثنى، ولم أره عن معمر بن راشد، وإنما أخرج عبد الرزاق عنه في قوله: "ولكل جعلنا موالي" قال: الموالي الأولياء، الأب والأخ والابن وغيرهم من العصبة. وكذا أخرجه إسماعيل القاضي في "الأحكام" من طريق محمد بن ثور عن معمر. وقال أبو عبيدة { وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} أولياء ورثة "والذين عاقدت أيمانكم" فالمولى ابن العم. وساق ما ذكره البخاري، وأنشد في المولى ابن العم "مهلا بني عمنا مهلا موالينا" ومما لم يذكره وذكره غيره من أهل اللغة: المولى المحب، والمولى الجار، والمولى الناصر، والمولى الصهر، والمولى التابع، والمولى القرار، والمولى الولي، والمولى الموازي. وذكروا أيضا العم والعبد وابن الأخ والشريك والنديم، ويلتحق بهم معلم القرآن جاء فيه حديث مرفوع "من علم عبدا آية من كتاب الله فهو مولاه" الحديث أخرجه الطبراني من حديث أبي أمامة، ونحوه قول شعبة: من كتبت عنه حديثا فأنا له عبد. وقال أبو إسحاق الزجاج: كل من يليك أو والاك فهو مولى. قوله: "حدثنا الصلت بن محمد" تقدم هذا الحديث سندا ومتنا في الكفالة، وأحيل بشرحه على هذا الموضع. قوله: "عن إدريس" هو ابن يزيد الأودي بفتح الألف وسكون الواو والد عبد الله بن إدريس الفقيه الكوفي، وإدريس ثقة عندهم، وما له في البخاري سوى هذا الحديث. ووقع في رواية الطبري عن أبي كريب عن أبي أسامة "حدثنا إدريس بن يزيد". قوله: "عن طلحة بن مصرف" وقع في الفرائض "عن إسحاق بن إبراهيم عن أبي أسامة عن إدريس حدثنا طلحة" . قوله: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} قال: ورثة" هذا متفق عليه بين أهل التفسير من السلف، أسنده الطبري عن مجاهد وقادة والسدي وغيرهم، ثم قال: وتأويل الكلام ولكلكم أيها الناس جعلنا عصبة يرثونه مما ترك والده وأقربوه من ميراثهم له. وذكر غيره الآية تقديرا غير ذلك فقيل: التقدير جعلنا لكل ميت ورثة ترث مما ترك الوالدان والأقربون. وقيل: التقدير ولكل مال مما ترك الوالدان والأقربون جعلنا ورثة يجوزونه. فعلى هذا "كل" متعلقة بجعل و "مما ترك" صفة لكل و "الوالدان" فاعل ترك، ويلزم عليه الفصل بين الموصوف وصفته، وقد سمع كثيرا، وفي القرآن {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ} فإن فاطر صفة الله اتفاقا، وقيل: التقدير ولكل قوم جعلناهم مولى أي ورثة نصيب مما ترك والداهم وأقربوهم، وهذا يقتضي أن "لكل" خبر مقدم و "نصيب" مبتدأ مؤخر و "جعلناهم" صفة لقوم و "مما ترك" صفة للمبتدأ الذي حذف و "نصيب" صفته، وكذا حذف ما أضيفت إليه كل وبقيت صفته، وكذا حذف العائد على الموصوف، هذا حاصل ما ذكره المعربون، وذكروا غير ذلك مما ظاهره التكلف. وأوضح من ذلك أن الذي يضاف إليه كل هو ما تقدم في الآية التي قبلها وهو قوله: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ} ثم قال: "ولكل" أي من الرجال والنساء "جعلنا" أي قدرنا "نصيبا" أي ميراثا "مما ترك الوالدان والأقربون، والذين عاقدت أيمانكم" أي بالحلف أو الموالاة والمؤاخاة {فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} خطاب لمن يتولى ذلك أي من ولي على ميراث أحد فليعط لكل من يرثه نصيبه، وعلى هذا المعنى المتضح ينبغي أن يقع الإعراب ويترك ما عداه من التعسف. قوله: "والذين عاقدت أيمانكم: كان المهاجرون لما قدموا المدينة يرث المهاجري

(8/248)


الأنصاري دون من ذوي رحمه لأخوة" هكذا حملها ابن عباس على من آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينهم، وحملها غيره على أعم من ذلك فأسند الطبري عنه قال: كان الرجل يحالف الرجل ليس بينهم نسب فيرث أحدهما الآخر، فنسخ ذلك. ومن طريق سعيد بن جبير قال: كان الرجل يعاقد الرجل فيرثه، وعاقد أبو بكر مولى فورثه. قوله: "فلما نزلت: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} نسخت" هكذا وقع في هذه الرواية أن ناسخ ميراث الحليف هذه الآية. وروى الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: "كان الرجل يعاقد الرجل، فإذا مات ورثه الأخر، فأنزل الله عز وجل: {وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفاً} يقول إلا أن توصوا لأوليائكم الذين عاقدتم. ومن طريق قتادة: كان الرجل يعاقد الرجل في الجاهلية فيقول دمي دمك وترثني وأرثك، فلما جاء الإسلام أمروا أن يؤتوهم نصيبهم من الميراث وهو السدس، ثم نسخ بالميراث فقال: {وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} ، ومن طرق شتى عن جماعة من العلماء كذلك، وهذا هو المعتمد ويحتمل أن يكون النسخ وقع مرتين: الأولى حيث كان المعاقد يرث وحده دون العصبة فنزلت: {وَلُِكلٍّ} وهي آية الباب فصاروا جميعا يرثون، وعلى هذا يتنزل حديث ابن عباس، ثم نسخ ذلك آية الأحزاب وخص الميراث بالعصبة وبقي للمعاقد النصر والأرفاد ونحوهما، وعلى هذا يتنزل بقية الآثار. وقد تعرض له ابن عباس في حديثه أيضا لكن لم يذكر الناسخ الثاني، ولا بد منه، والله أعلم. قوله:"ثم قال: "والذين عاقدت أيمانكم" من النصر والرفادة والنصيحة وقد ذهب الميراث ويوصى له "كذا وقع فيه، وسقط منه شيء بينه الطبري في روايته عن أبي كريب عن أبي أسامة بهذا الإسناد ولفظه: ثم قال: { والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم} من النصر إلخ، فقوله من النصر يتعلق بأتوهم لا بعاقدت ولا بأيمانكم، وهو وجه الكلام. والرفادة بكسر الراء بعدها فاء خفيفة الإعانة بالعطية. قوله: "سمع أبو أسامة إدريس وسمع إدريس طلحة" وقع هذا في رواية المستملي وحده، وقد قدمت التنبيه على من وقع عنده التصريح بالتحديث لأبي أسامة من إدريس ولإدريس من طلحة في هذا الحديث بعينه، وإلى ذلك أشار المصنف، والله أعلم.

(8/249)


8- باب {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} يَعْنِي زِنَةَ ذَرَّةٍ
4581- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ حَدَّثَنَا أَبُو عُمَرَ حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ أُنَاسًا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "نَعَمْ هَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ بِالظَّهِيرَةِ ضَوْءٌ لَيْسَ فِيهَا سَحَابٌ قَالُوا لاَ قَالَ وَهَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ ضَوْءٌ لَيْسَ فِيهَا سَحَابٌ قَالُوا لاَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَا تُضَارُونَ فِي رُؤْيَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلاَّ كَمَا تُضَارُونَ فِي رُؤْيَةِ أَحَدِهِمَا إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ تَتْبَعُ كُلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ فَلاَ يَبْقَى مَنْ كَانَ يَعْبُدُ غَيْرَ اللَّهِ مِنْ الأَصْنَامِ وَالأَنْصَابِ إِلاَّ يَتَسَاقَطُونَ فِي النَّارِ حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ إِلاَّ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ بَرٌّ أَوْ فَاجِرٌ وَغُبَّرَاتُ أَهْلِ الْكِتَابِ فَيُدْعَى الْيَهُودُ فَيُقَالُ لَهُمْ مَنْ كُنْتُمْ

(8/249)


تَعْبُدُونَ قَالُوا كُنَّا نَعْبُدُ عُزَيْرَ ابْنَ اللَّهِ فَيُقَالُ لَهُمْ كَذَبْتُمْ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ صَاحِبَةٍ وَلاَ وَلَدٍ فَمَاذَا تَبْغُونَ فَقَالُوا عَطِشْنَا رَبَّنَا فَاسْقِنَا فَيُشَارُ أَلاَ تَرِدُونَ فَيُحْشَرُونَ إِلَى النَّارِ كَأَنَّهَا سَرَابٌ يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا فَيَتَسَاقَطُونَ فِي النَّارِ ثُمَّ يُدْعَى النَّصَارَى فَيُقَالُ لَهُمْ مَنْ كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ قَالُوا كُنَّا نَعْبُدُ الْمَسِيحَ ابْنَ اللَّهِ فَيُقَالُ لَهُمْ كَذَبْتُمْ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ صَاحِبَةٍ وَلاَ وَلَدٍ فَيُقَالُ لَهُمْ مَاذَا تَبْغُونَ فَكَذَلِكَ مِثْلَ الأَوَّلِ حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ إِلاَّ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ مِنْ بَرٍّ أَوْ فَاجِرٍ أَتَاهُمْ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي أَدْنَى صُورَةٍ مِنْ الَّتِي رَأَوْهُ فِيهَا فَيُقَالُ مَاذَا تَنْتَظِرُونَ تَتْبَعُ كُلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ قَالُوا فَارَقْنَا النَّاسَ فِي الدُّنْيَا عَلَى أَفْقَرِ مَا كُنَّا إِلَيْهِمْ وَلَمْ نُصَاحِبْهُمْ وَنَحْنُ نَنْتَظِرُ رَبَّنَا الَّذِي كُنَّا نَعْبُدُ فَيَقُولُ أَنَا رَبُّكُمْ فَيَقُولُونَ لاَ نُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا"
قوله: "باب قوله: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} يَعْنِي زِنَةَ ذَرَّةٍيعني زنة ذرة" هو تفسير أبي عبيدة قال في قوله تعالى: {مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} أي زنة ذرة، ويقال هذا مثقال هذا أي وزنه وهو مفعال من الثقل والذرة النملة الصغيرة ويقال واحدة الهباء، والذرة يقال زنتها ربع ورقة نخالة وورقة النخالة وزن ربع خردلة وزنة الخردلة ربع سمسمة. ويقال الذرة لا وزن لها وإن شخصا ترك رغيفا حتى علاه الذر فوزنه فلم يزد شيئا حكاه الثعلبي. حديث أبي سعيد في الشفاعة وسيأتي شرحه مستوفي في كتاب الرقاق إن شاء الله تعالى مع حديث أبي هريرة المذكور هناك وهو بطوله في معناه، وقد وقع ذكرهما بتمامهما متواليين في كتاب التوحيد. وشيخه محمد بن عبد العزيز هو الرملي يعرف بابن الواسطي وثقه العجلي ولينه أبو زرعة وأبو حاتم، وليس له في البخاري سوى هذا الحديث وآخر في الاعتصام. إن شخصا ترك رغيفا حتى علاه الذر فوزنه فلم يزد شيئا حكاه الثعلبي. ثم ذكر المصنف حديث أبي سعيد في الشفاعة وسيأتي شرحه مستوفي في كتاب الرقاق إن شاء الله تعالى مع حديث أبي هريرة المذكور هناك وهو بطوله في معناه، وقد وقع ذكرهما بتمامهما متواليين في كتاب التوحيد. وشيخه محمد بن عبد العزيز هو الرملي يعرف بابن الواسطي وثقه العجلي ولينه أبو زرعة وأبو حاتم، وليس له في البخاري سوى هذا الحديث وآخر في الاعتصام.

(8/250)


9- باب {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاَءِ شَهِيدًا}
الْمُخْتَالُ وَالْخَتَّالُ وَاحِدٌ نَطْمِسَ وُجُوهًا نُسَوِّيَهَا حَتَّى تَعُودَ كَأَقْفَائِهِمْ طَمَسَ الْكِتَابَ مَحَاهُ جَهَنَّمَ سَعِيرًا وُقُودًا
4582- حَدَّثَنَا صَدَقَةُ أَخْبَرَنَا يَحْيَى عَنْ سُفْيَانَ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَبِيدَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ يَحْيَى بَعْضُ الْحَدِيثِ "عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ قَالَ قَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اقْرَأْ عَلَيَّ قُلْتُ آقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ قَالَ فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ سُورَةَ النِّسَاءِ حَتَّى بَلَغْتُ فَكَيْفَ {إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاَءِ شَهِيدًا} قَالَ: أَمْسِكْ فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَان"
[الحديث 4582- أطرافه في: 5049، 5050، 5055، 5056]
قوله: "باب {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاَءِ شَهِيدًا} وقع في الباب تفاسير لا تتعلق بالآية، وقد قدمت الاعتذار عن ذلك. قوله: "المختال والختال واحد" كذا للأكثر بمثناة فوقانية ثقيلة. وفي رواية الأصيلي: "المختال والخال واحد" وصوبه ابن مالك، وكذلك هو في كلام أبي عبيدة، قال في قوله تعالى :{مُخْتَالاً فَخُوراً} : المختال ذو الخيلاء والخال واحد. قال: ويجئ مصدرا قال العجاج" والخال ثوب من ثياب الجبال" . قلت: والخال يطلق لمعان كثيرة نظمها بعضهم في قصيدة فبلغ نحوا من العشرين، ويقال إنه وجدت قصيدة، تزيد على ذلك عشرين أخرى، وكلام عياض يقتضي أن الذي في رواية الأكثر بالمثناة التحتانية لا. الفوقانية

(8/250)


ولهذا قال كله صحيح، لكنه أورده في الخاء والتاء الفوقانية، والختال بمثناة فوقانية لا معنى له هنا كما قال ابن مالك وإنما هو فعال من الختل وهو العذر، ولأن عينه ياء تحتانية لا فوقانية، والاسم الخلاء، والمعنى أنه يختل في صورة من هو أعظم منه على سبيل التكبير والتعاظم. قوله: "نطمس وجوها نسويها حتى تعود كأقفائهم، طمس الكتاب محاه" هو مختصر من كلام أبي عبيدة، قال في قوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً} أي نسويها حتى تعود كأقفائهم، يقال للريح طمست الآثار أي محتها، وطمس الكتاب أي محاه. وأسند الطبري عن قتادة: المراد أن تعود الأوجه في الأقفية. وقيل هو تمثيل وليس المراد حقيقته حسا. قوله: "بجهنم سعيرا وقودا" هو قول أبي عبيدة أيضا، قال في قوله تعالى: {وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً} أي وقودا. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق السدي عن أبي مالك مثله.
" تنبيه " : هذه التفاسير ليست لهذه الآية، وكأنه من النساخ كما نبهت عليه غير مرة. قوله: "حدثنا صدقة" هو ابن الفضل، ويحيى هو القطان، وسفيان هو الثوري، وسليمان هو الأعمش، وإبراهيم هو النخعي، وعبيدة بفتح أوله هو ابن عمرو، وعبد الله بن مسعود. والإسناد كله سوى شيخ البخاري وشيخه كوفيون، فيه ثلاثة من التابعين في نسق أولهم الأعمش. قوله: "قال يحيى" هو القطان، وهو موصول بالإسناد المذكور. قوله: "بعض الحديث عن عمرو بن مرة" أي من رواية الأعمش عن عمرو بن مرة عن إبراهيم، وقد ورد ذلك واضحا في فضائل القرآن حيث أخرجه المصنف عن مسدد عن يحيى القطان بالإسناد المذكور وقال بعده "قال الأعمش وبعض الحديث حدثني عمرو بن مرة عن إبراهيم" يعني بإسناده، ويأتي شرح الحديث هناك إن شاء الله تعالى. وقال الكرماني: إسناد عمرو مقطوع، وبعض الحديث مجهول. قلت: عبر عن المقتطع بالمقطوع لقلة اكتراثه بمراعاة الاصطلاح، وأما قوله مجهول فيزيد ما حدثه به عمرو بن مرة فكأنه ظن أنه أراد أن البعض عن هذا والبعض عن هذا، وليس كذلك وإنما هو عنده كله في الرواية الآتية، وبعضه في أثنائه أيضا

(8/251)


10- باب {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ}
{صَعِيدًا} وَجْهَ الأَرْضِ وَقَالَ جَابِرٌ كَانَتْ الطَّوَاغِيتُ الَّتِي يَتَحَاكَمُونَ إِلَيْهَا فِي جُهَيْنَةَ وَاحِدٌ وَفِي أَسْلَمَ وَاحِدٌ وَفِي كُلِّ حَيٍّ وَاحِدٌ كُهَّانٌ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ الشَّيْطَانُ وَقَالَ عُمَرُ الْجِبْتُ السِّحْرُ وَالطَّاغُوتُ الشَّيْطَانُ وَقَالَ عِكْرِمَةُ الْجِبْتُ بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ شَيْطَانٌ وَالطَّاغُوتُ الْكَاهِنُ
4583- حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ "هَلَكَتْ قِلاَدَةٌ لأَسْمَاءَ فَبَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي طَلَبِهَا رِجَالاً فَحَضَرَتْ الصَّلاَةُ وَلَيْسُوا عَلَى وُضُوءٍ وَلَمْ يَجِدُوا مَاءً فَصَلَّوْا وَهُمْ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ فَأَنْزَلَ اللَّهُ يَعْنِي آيَةَ التَّيَمُّم"
قوله: "باب قوله {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ} هذا القدر مشترك في آيتي النساء والمائدة، وإيراد المصنف له في تفسير سورة النساء يشعر بأن آية النساء نزلت في قصة عائشة، وقد سبق ما فيه في كتاب التيمم. قوله: " {صَعِيداً} وجه الأرض" قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} : تيمموا أي

(8/251)


تعمدوا. قال والصعيد وجه الأرض. قال الزجاج: لا أعلم خلافا بين أهل اللغة أن الصعيد وجه الأرض، سواء كان عليها تراب أم لا، ومنه قوله تعالى: {صَعِيداً} جرزا "و" صعيدا زلقا" وإنما سمي صعيدا لأنه نهاية ما يصعد من الأرض. وقال الطبري بعد أن روى من طريق قتادة قال: الصعيد الأرض التي ليس فيها شجر ولا نبات. ومن طريق عمرو بن قيس قال: الصعيد التراب. ومن طريق ابن زيد قال: الصعيد الأرض المستوية. الصواب أن الصعيد وجه الأرض المستوية الخالية من الغرس والنبات والبناء، وأما الطيب فهو الذي تمسك به من اشترط في التيمم التراب، لأن الطيب هو التراب المنبت، قال الله تعالى: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ} وروى عبد الرزاق من طريق ابن عباس: الصعيد الطيب الحرث. قوله: "وقال جابر: كانت الطواغيت التي يتحاكمون إليها في جهينة واحد وفي أسلم واحد وفي كل حي واحد، كهان ينزل عليهم الشيطان" وصله ابن أبي حاتم من طريق وهب بن منبه قال: سألت جابر بن عبد الله عن الطواغيت فذكر مثله وزاد: "وفي هلال واحد" وقد تقدم نسب جهينة وأسلم في غزوة الفتح، وأما هلال فقبيلة ينتسبون إلى هلال بن عامر بن صعصعة، منهم ميمونة بنت الحارث أم المؤمنين وجماعة من الصحابة وغيرهم. قوله: "الجبت السحر والطاغوت الشيطان" وصله عبد بن حميد في تفسيره ومسدد في مسنده وعبد الرحمن بن رستة في كتاب الإيمان كلهم من طريق أبي إسحاق عن حسان بن فائد عن عمر مثله وإسناده قوي، وقد وقع التصريح بسماع أبي إسحاق له من حسان وسماع حسان من عمر في رواية رستة وحسان بن فائد بالفاء عبسا بالموحدة، قال أبو حاتم شيخ، وذكره ابن حبان في الثقات. وروى الطبري عن مجاهد مثل قول عمر وزاد: والطاغوت الشيطان له صورة إنسان يتحاكمون إليه، ومن طريق سعيد بن جبير وأبي العالية قال: الجبت الساحر، والطاغوت الكاهن. وهذا يمكن رده بالتأويل إلى الذي قبله. قوله: "وقال عكرمة: الجبت بلسان الحبشة شيطان، والطاغوت الكاهن" وصله عبد بن حميد بإسناد صحيح عنه، وروى الطبري من طريق قتادة مثله بغير ذكر الحبشة قال: كنا نتحدث أن الجبت الشيطان، والطاغوت الكاهن. ومن طريق العوفي عن ابن عباس قال: الجبت الأصنام، والطواغيت الذين كانوا يعبرون عن الأصنام بالكذب. قال: وزعم. رجال أن الجبت الكاهن، والطاغوت رجل من اليهود يدعى كعب بن الأشرف. ومن طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: الجبت حيي بن أخطب، والطاغوت كعب بن الأشرف. واختار الطبري أن المراد بالجبت والطاغوت جنس من كان يعبد من دون الله سواء كان صنما أو شيطانا جنيا أو آدميا، فيدخل فيه الساحر والكاهن، والله أعلم. وأما قول عكرمة إن الجبت بلسان الحبشة الشيطان فقد وافقه سعيد بن جبير على ذلك، لكن عبر عنه بالساحر، أخرجه الطبري بإسناد صحيح عن سعيد بن جبير قال: الجبت الساحر بلسان الحبشة، والطاغوت الكاهن. وهذا مصير منهما إلى وقوع المعرب في القرآن، وهي مسألة اختلف فيها، فبالغ الشافعي وأبو عبيدة اللغوي وغيرهما في إنكار ذلك، فحملوا ما ورد من ذلك على توارد اللغتين، وأجاز ذلك جماعة واختاره ابن الحاجب واحتج له بوقوع أسماء الأعلام فيه كإبراهيم فلا مانع من وقوع أسماء الأجناس، وقد وقع في صحيح البخاري جملة من هذا، وتتبع القاضي تاج الدين السبكي ما وقع في القرآن من ذلك ونظمه في أبيات ذكرها في شرحه على المختصر، وعبر بقوله يجمعها هذه الأبيات فذكرها، وقد تتبعت بعده زيادة كثيرة على ذلك تقرب من عدة ما أورد، ونظمتها أيضا، وليس جميع ما أورده هو متفقا على أنه من ذلك، لكن اكتفى بإيراد ما نقل في الجملة فتبعته في ذلك، وقد رأيت إيراد الجميع للفائدة، فأول بيت منها من نظمي والخمسة التي تليه له وباقيها لي أيضا فقلت:

(8/252)


من المعرب عد التاج "كز: وقد ... ألحقت "كد" وضمتها الأساطير
السلسبيل وطه كورت بيع ... روم وطوبي وسجيل وكافور
والزنجيل ومشكاة سرادق مع ... استبرق صلوات سندس طور
كذا قراطيس ربانيهم وغسا ... ق ثم دينار القسطاس مشهور
كذاك كسورة واليم ناشئة ... ويؤت كفلين مذكور ومستور
له مقاليد فردوس يعد كذا فيما ... حكى ابن دريد منه تنور
وزدت حرم ومهل والسجل كذا ... السرى والأب ثم الجبت مذكور
وقطنا بناه ثم متكأ ... دارست يصهر منه فهو مصهور
وهيت والسكر الأواه مع حصب ... وأوبي معه والطاغوت منظور
صرهن أصرى وغيض الماء مع وزر ... ثم الرقيم مناص والسنا النور
والمراد بقولي "كز: أن عدة ما ذكره التاج سبعة وعشرون وبقولي "كد" أن عدة ما ذكرته أربعة وعشرون وأنا معترف أنني لم أستوعب ما يستدرك عليه، فقد ظفرت بعد نظمي هذا بأشياء تقدم منها في هذا الشرح الرحمن وراعنا، وقد عزمت أني إذا أتيت على آخر شرح هذا التفسير إن شاء الله تعالى ألحق ما وقفت عليه من زيادة في ذلك منظوما إن شاء الله تعالى. ثم أورد المصنف طرفا من حديث عائشة في سقوط عقدها ونزول آية التيمم، وقد مضى شرحه مستوفي في كتاب التيمم.

(8/253)


11- باب {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} ذَوِي الأَمْرِ
4584- حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ أَخْبَرَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ يَعْلَى بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} قَالَ "نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَدِيٍّ إِذْ بَعَثَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَرِيَّة"
قوله: "باب {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} ذوي الأمر" كذا لأبي ذر ولغيره: "أولي الأمر منكم ذوي الأمر" وهو تفسير أبي عبيدة قال ذلك في هذه الآية وزاد: والدليل على ذلك أن واحدها ذو أي واحد أولى لأنها لا واحد لها من لفظها. قوله: "حدثنا صدقة بن الفضل" كذا للأكثر. وفي رواية ابن السكن وحده عن الفربري عن البخاري "حدثنا سنيد" وهو ابن داود المصيصي واسمه الحسين وسنيد لقب، وهو من حفاظ الحديث وله تفسير مشهور، لكن ضعفه أبو حاتم والنسائي، وليس له في البخاري ذكر إلا في هذا الموضع إن كان ابن السكن حفظه، ويحتمل أن يكون البخاري أخرج الحديث عنهما جميعا، واقتصر الأكثر على صدقة لإتقانه، واقتصر ابن السكن على سنيد بقرينة التفسير، وقد ذكر أحمد أن سنيدا ألزم حجاجا - يعني حجاج بن محمد شيخه في

(8/253)


هذا الحديث إلا أنه كان يحمله على تدليس التسوية، وعابه بذلك وكأن هذا هو السبب في تضعيف من ضعفه. والله أعلم. قوله: "عن يعلى بن مسلم" في رواية الإسماعيلي من طريق حجاج عن ابن جريج "أخبرني يعلى بن مسلم" . قوله: "نزلت في عبد الله بن حذافة" كذا ذكره مختصرا، والمعنى نزلت في قصة عبد الله بن حذافة أي المقصود منها في قصته قوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ} الآية، وقد غفل الداودي عن هذا المراد فقال: هذا وهم على بن عباس، فإن عبد الله بن حذافة خرج على جيش فغضب فأوقدوا نارا وقال اقتحموها فامتنع بعض، وهم بعض أن يفعل. قال: فإن كانت الآية نزلت قبل فكيف يخص عبد الله بن حذافة بالطاعة دون غيره، وإن كانت نزلت بعد فإنما قيل لهم إنما الطاعة في المعروف، وما قيل لهم لم لم تطيعوا؟ انتهى. وبالحمل الذي قدمته يظهر المراد، وينتفي الإشكال الذي أبداه، لأنهم تنازعوا في امتثال ما أمرهم به، وسببه أن الذين هموا أن يطيعوه وقفوا عند امتثال الأمر بالطاعة، والذين امتنعوا عارضه عندهم الفرار من النار، فناسب أن ينزل في ذلك ما يرشدهم إلى ما يفعلونه عند التنازع وهو الرد إلى الله وإلى رسوله، أي إن تنازعتم في جواز الشيء وعدم جوازه فارجعوا إلى الكتاب والسنة، والله أعلم. وقد روى الطبري أن هذه الآية في قصة جرت لعمار بن ياسر مع خالد بن الوليد وكان خالد أميرا فأجار عمار رجلا بغير أمره فتخاصما فنزلت، فالله أعلم. وقد تقدم شرح حال هذه السرية والاختلاف في اسم أميرها في المغازي بعد غزوة حنين بقليل. واختلف في المراد بأولى الأمر في الآية، فعن أبي هريرة قال: هم الأمراء أخرجه الطبري بإسناد صحيح. وأخرج عن ميمون بن مهران وغيره نحوه، وعن جابر بن عبد الله قال: هم أهل العلم والخير، وعن مجاهد وعطاء والحسن وأبي العالية: هم العلماء، ومن وجه آخر أصح منه عن مجاهد قال: هم الصحابة، وهذا أخص. وعن عكرمة قال: أبو بكر وعمر، وهذا أخص من الذي قبله، ورجح الشافعي الأول واحتج له بأن قريشا كانوا لا يعرفون الإمارة ولا ينقادون إلى أمير، فأمروا بالطاعة لمن ولي الأمر، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: "من أطاع أميري فقد أطاعني" متفق عليه. واختار الطبري حملها على العموم وإن نزلت في سبب خاص، والله أعلم.

(8/254)


12- باب {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ}
4585- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: "خَاصَمَ الزُّبَيْرُ رَجُلاً مِنْ الأَنْصَارِ فِي شَرِيجٍ مِنْ الْحَرَّةِ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ أَرْسِلْ الْمَاءَ إِلَى جَارِكَ فَقَالَ الأَنْصَارِيُّ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ احْبِسْ الْمَاءَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى الْجَدْرِ ثُمَّ أَرْسِلْ الْمَاءَ إِلَى جَارِكَ" وَاسْتَوْعَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلزُّبَيْرِ حَقَّهُ فِي صَرِيحِ الْحُكْمِ حِينَ أَحْفَظَهُ الأَنْصَارِيُّ كَانَ أَشَارَ عَلَيْهِمَا بِأَمْرٍ لَهُمَا فِيهِ سَعَةٌ قَالَ الزُّبَيْرُ فَمَا أَحْسِبُ هَذِهِ الآيَاتِ إِلاَّ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ}
قوله: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} سقط "باب" لغير أبي ذر وذكر فيه قصة الزبير مع الأنصاري الذي خاصمه في شراج الحرة، وقد تقدم شرحه مستوفي في كتاب الشرب، بينت هناك الاختلاف على

(8/254)


عروة في وصله وإرساله بحمد الله تعالى. وقوله هنا "أن كان ابن عمتك" بفتح أن للجميع أي من أجل، ووقع عند أبي ذر "وأن" بزيادة واو، وفي روايته عن الكشميهني: "آن" بزيادة همزة ممدودة وهي الاستفهام. وقوله هنا "أن كان ابن عمتك" بفتح أن للجميع أي من أجل، ووقع عند أبي ذر "وأن" بزيادة واو، وفي روايته عن الكشميهني: "آن" بزيادة همزة ممدودة وهي الاستفهام.

(8/255)


13- باب {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ}
4586- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَوْشَبٍ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَا مِنْ نَبِيٍّ يَمْرَضُ إِلاَّ خُيِّرَ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ" وَكَانَ فِي شَكْوَاهُ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ أَخَذَتْهُ بُحَّةٌ شَدِيدَةٌ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} فَعَلِمْتُ أَنَّهُ خُيِّر"
قوله: "باب فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين" ذكر فيه حديث عائشة، وقد تقدم شرحه في الوفاة النبوية ولله الحمد. وقوله: "في شكواه الذي قبض فيه، في رواية الكشميهني: "التي قبض فيها" .

(8/255)


باب قوله {وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله ...}
...
14- باب {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ - إلى - الظَّالِمِ أَهْلُهَا}
4587-حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ: "سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: كُنْتُ أَنَا وَأُمِّي مِنْ الْمُسْتَضْعَفِين"
4588- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ "أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ تَلاَ إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ قَالَ كُنْتُ أَنَا وَأُمِّي مِمَّنْ عَذَرَ اللَّهُ وَيُذْكَرُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ حَصِرَتْ ضَاقَتْ تَلْوُوا أَلْسِنَتَكُمْ بِالشَّهَادَةِ وَقَالَ غَيْرُهُ الْمُرَاغَمُ الْمُهَاجَرُ رَاغَمْتُ هَاجَرْتُ قَوْمِي مَوْقُوتًا مُوَقَّتًا وَقْتَهُ عَلَيْهِم"
قوله: "باب {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ - إلى - الظَّالِمِ أَهْلُهَا} ولأبي ذر {وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ} الآية، والأظهر أن المستضعفين مجرور بالعطف على اسم الله أي وفي سبيل المستضعفين، أو على سبيل الله أي وفي خلاص المستضعفين، وجوز الزمخشري أن يكون منصوبا على الاختصاص. قوله:"عن عبيد الله" هو ابن أبي يزيد، وفي مسند أحمد عن سفيان. حدثني عبيد الله بن أبي يزيد". قوله: "كنت أنا وأمي من المستضعفين" كذا للأكثر، زاد أبو ذر {وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ} وأراد حكاية الآية، وإلا فهو الولدان وأمه من المستضعفين، ولم يذكر في هذا الحديث من الرجال أحدا، وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق إسحاق بن موسى عن ابن عيينة بلفظ: "كنت أنا وأمي من المستضعفين: أنا من الولدان، وأمي من النساء" . قوله في الطريق الأخرى "أن ابن عباس تلا" في رواية المستملي: "عن ابن عباس أنه تلا" . قوله: "كنت أنا وأمي ممن عذر الله" أي في الآية المذكورة. وفي رواية لأبي نعيم في "المستخرج" من طريق محمد بن عبيد عن حماد بن زيد "كنت أنا وأمي من المستضعفين" قلت: واسم أمه لبابة بنت الحارث الهلالية أم الفضل أخت ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم،

(8/255)


15- باب {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ بَدَّدَهُمْ فِئَةٌ جَمَاعَةٌ
4589- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ قَالاَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَدِيٍّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ} فِئَتَيْنِ رَجَعَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أُحُدٍ وَكَانَ النَّاسُ فِيهِمْ فِرْقَتَيْنِ فَرِيقٌ يَقُولُ اقْتُلْهُمْ وَفَرِيقٌ يَقُولُ لاَ فَنَزَلَتْ {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} وَقَالَ: "إِنَّهَا طَيْبَةُ تَنْفِي الْخَبَثَ كَمَا تَنْفِي النَّارُ خَبَثَ الْفِضَّةِ" {أَذَاعُوا بِهِ} أَيْ أَفْشَوْهُ {يَسْتَنْبِطُونَهُ} يَسْتَخْرِجُونَهُ {حَسِيبًا} كَافِيًا {إِلاَّ إِنَاثًا} يَعْنِي الْمَوَاتَ حَجَرًا أَوْ مَدَرًا وَمَا أَشْبَهَهُ {مَرِيدًا} مُتَمَرِّدًا {فَلَيُبَتِّكُنَّ} بَتَّكَهُ قَطَّعَهُ قِيلاً ـ وَقَوْلاً وَاحِدٌ {طَبَعَ} خَتَم"
قوله: "باب {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} قال ابن عباس: بددهم" وصله الطبري من طريق ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس في قوله: {أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} قال: بددهم. ومن طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: أوقعهم. ومن طريق قتادة قال: أهلكهم، وهو تفسير باللازم، لأن الركس الرجوع، فكأنه

(8/256)


16- باب {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ}
4590- حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا مُغِيرَةُ بْنُ النُّعْمَانِ قَالَ سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ قَالَ: "آيَةٌ اخْتَلَفَ فِيهَا أَهْلُ الْكُوفَةِ فَرَحَلْتُ فِيهَا إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَسَأَلْتُهُ عَنْهَا فَقَالَ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} هِيَ آخِرُ مَا نَزَلَ وَمَا نَسَخَهَا شَيْء"

(8/257)


17- باب {وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} السِّلْمُ وَالسَّلَمُ وَالسَّلاَمُ وَاحِدٌ
4591- حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا " {وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} قَالَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ كَانَ رَجُلٌ فِي غُنَيْمَةٍ لَهُ فَلَحِقَهُ الْمُسْلِمُونَ فَقَالَ السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ فَقَتَلُوهُ وَأَخَذُوا غُنَيْمَتَهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ إِلَى قَوْلِهِ {تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} تِلْكَ الْغُنَيْمَةُ قَالَ قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ السَّلاَم"
قوله: "باب {وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} السلم والسلام والسلم واحد" يعني أن الأول بفتحتين والثالث بكسر ثم سكون، فالأول قراءة نافع وابن عامر وحمزة، والثاني قراءة الباقين، والثالث قراءة رويت عن عاصم بن أبي النجود. وروي عن عاصم الجحدري بفتح ثم سكون، فأما الثاني فمن التحية، وأما ما عداه فمن الانقياد. قوله: "عن عمرو" هو ابن دينار. وفي رواية ابن أبي عمر عن سفيان "حدثنا عمرو بن دينار" كذا أخرجها أبو نعيم في مستخرجه من طريقه. قوله: "كان رجل في غنيمة" بالتصغير. وفي رواية سماك عن عكرمة عن ابن عباس عند أحمد والترمذي وحسنه والحاكم وصححه "مر رجل من بني سليم بنفر من الصحابة وهو يسوق غنما له فسلم عليهم" . قوله: "فقتلوه" زاد في رواية سماك "وقالوا ما سلم علينا إلا ليتعوذ منا" . قوله: "وأخذوا غنيمته" في رواية سماك "وأتوا بغنمه النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت. وروى البزار من طريق حبيب بن أبي عمرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في سبب نزول هذه الآية قصة أخرى قال:"بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية فيها المقداد، فلما أتوا القوم وجدوهم قد تفرقوا وبقي رجل له مال كثير فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، فقتله المقداد، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: كيف لك بلا إله إلا الله غدا . وأنزل الله هذه الآية "وهذه القصة يمكن الجمع بينها وبين التي قبلها، ويستفاد منها تسمية القاتل، وأما المقتول فروى الثعلبي من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، وأخرجه عبد بن حميد من طريق قتادة نحوه واللفظ للكلبي، أن اسم المقتول مرداس بن نهيك من أهل فدك، وأن اسم القاتل أسامة بن زيد، وأن اسم أمير السرية غالب بن فضالة الليثي، وأن قوم مرداس لما انهزموا بقي هو وحده وكان ألجأ غنمه بجبل، فلما لحقوه قال لا إله إلا الله محمد رسول الله السلام عليكم، فقتله أسامة بن زيد، فلما رجعوا نزلت الآية" وكذا

(8/258)


أخرج الطبري من طريق السدي نحوه، وفي آخر رواية قتادة "لأن تحية المسلمين السلام بها يتعارفون" وأخرج ابن أبي حاتم من طريق ابن لهيعة عن أبي الزبير عن جابر قال: "أنزلت هذه الآية {وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلاَمَ} في مرداس" وهذا شاهد حسن. وورد في سبب نزولها عن غير ابن عباس شيء آخر، فروى ابن إسحاق في "المغازي" وأخرجه أحمد من طريقه عن عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي قال: "بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من المسلمين فيهم أبو قتادة ومحلم بن جثامة، فمر بنا عامر بن الأضبط الأشجعي فسلم علينا، فحمل عليه محلم فقتله، فلما قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم وأخبرناه الخبر نزل القرآن" فذكر هذه الآية. وأخرجها ابن إسحاق من طريق ابن عمر أتم سياقا من هذا وزاد أنه كان بين عامر ومحلم عداوة في الجاهلية، وهذه عندي قصة أخرى، ولا مانع أن تنزل الآية في الأمرين معا. قوله في آخر الحديث "قال قرأ ابن عباس السلام" هو مقول عطاء، وهو موصول بالإسناد المذكور، وقد قدمت أنها قراءة الأكثر، وفي الآية دليل على أن من أظهر شيئا من علامات الإسلام لم يحل دمه حتى يختبر أمره، لأن السلام تحية المسلمين، وكانت تحيتهم في الجاهلية بخلاف ذلك. فكانت هذه علامة. وأما على قراءة السلم على اختلاف ضبطه فالمراد به الانقياد وهو علامة الإسلام لأن معنى الإسلام في اللغة الانقياد، ولا يلزم من الذي ذكرته الحكم بإسلام من اقتصر على ذلك وإجراء أحكام المسلمين عليه، بل لا بد من التلفظ بالشهادتين على تفاصيل في ذلك بين أهل الكتاب وغيرهم، والله أعلم.

(8/259)


18- باب {لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ - وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}
4592- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ حَدَّثَنِي سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ السَّاعِدِيُّ أَنَّهُ رَأَى مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ فِي الْمَسْجِدِ فَأَقْبَلْتُ حَتَّى جَلَسْتُ إِلَى جَنْبِهِ فَأَخْبَرَنَا أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ أَخْبَرَهُ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْلَى عَلَيْهِ {لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ - وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} فَجَاءَهُ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ وَهْوَ يُمِلُّهَا عَلَيَّ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاللَّهِ لَوْ أَسْتَطِيعُ الْجِهَادَ لَجَاهَدْتُ وَكَانَ أَعْمَى فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَخِذُهُ عَلَى فَخِذِي فَثَقُلَتْ عَلَيَّ حَتَّى خِفْتُ أَنْ تَرُضَّ فَخِذِي ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ {غَيْرَ أُولِي الضَّرَرِ} "
4593- حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْبَرَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "لَمَّا نَزَلَتْ {لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ} دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْدًا فَكَتَبَهَا فَجَاءَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ فَشَكَا ضَرَارَتَهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ {غَيْرَ أُولِي الضَّرَرِ} "
4594- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْبَرَاءِ قَالَ: "لَمَّا نَزَلَتْ {لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ} قال النبي صلى الله عليه وسلم: " ادْعُوا فُلاَنًا فَجَاءَهُ وَمَعَهُ الدَّوَاةُ وَاللَّوْحُ أَوْ الْكَتِفُ فَقَالَ اكْتُبْ {لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} وَخَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ فَقَالَ:

(8/259)


يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا ضَرِيرٌ فَنَزَلَتْ مَكَانَهَا {لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرَ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} "
4595- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا هِشَامٌ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ ح و حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي عَبْدُ الْكَرِيمِ أَنَّ مِقْسَمًا مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ أَخْبَرَهُ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَخْبَرَهُ {لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ} عَنْ بَدْرٍ وَالْخَارِجُونَ إِلَى بَدْر"
قوله: "باب {يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ} الآية" كذا لأبي ذر، ولغيره: {وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ} "واختلفت القراءة في {غيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} فقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم بالرفع على البدل من القاعدون، وقرأ الأعمش بالجر على الصفة للمؤمنين، وقرأ الباقون بالنصب على الاستثناء. قوله: "عن صالح" هو ابن كيسان. قوله: "حدثني سهل بن سعد" كذا قال صالح، وتابعه عبد الرحمن بن إسحاق عن ابن شهاب عند الطبري، وخالفهما معمر فقال: "عن ابن شهاب عن قبيصة بن ذؤيب عن زيد بن ثابت" أخرجه أحمد. قوله: "أنه رأى مروان بن الحكم" أي ابن أبي العاص أمير المدينة الذي صار بعد ذلك خليفة. قوله: "فأقبلت حتى جلست إلى جنبه. فأخبرنا" قال الترمذي في هذا الحديث رواية رجل من الصحابة وهو سهل بن سعد عن رجل من التابعين وهو مروان بن الحكم، ولم يسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو من التابعين. قلت: لا يلزم من عدم السماع عدم الصحة، والأولى ما قال فيه البخاري: لم ير النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ذكره ابن عبد البر في الصحابة لأنه ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم قبل عام أحد وقيل عام الخندق وثبت عن مروان أنه قال لما طلب الخلافة فذكروا له ابن عمر فقال: ليس ابن عمر بأفقه مني. ولكنه أسن مني وكانت له صحبة. فهذا اعتراف منه بعدم صحبته وإنما لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان سماعه منه ممكنا لأن النبي صلى الله عليه وسلم نفى أباه إلى الطائف فلم يرده إلا عثمان لما استخلف، وقد تقدمت روايته عن النبي صلى الله عليه وسلم في كتاب الشروط مقرونة بالمسور بن مخرمة، ونبهت هناك أيضا على أنها مرسلة، والله الموفق. قوله: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أملي عليه: {لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} في رواية قبيصة المذكورة عن زيد بن ثابت" كنت أكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "وفي رواية خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه" إني لقاعد إلى جنب النبي صلى الله عليه وسلم إذ أوحى إليه وغشيته السكينة فوضع فخذه على فخذي قال زيد: فلا والله ما وجدت شيئا قط أثقل منها "وفي حديث البراء بن عازب الذي في الباب بعد هذا" لما نزلت قال النبي صلى الله عليه وسلم: ادع لي فلانا، فجاءه ومعه الدواة واللوح والكتف" وفي الرواية الأخرى عنه في الباب أيضا: "دعا زيدا فكتبها" فيجمع بينهما بأن المراد بقوله: "لما نزلت" كادت أن تنزل لتصريح رواية خارجة بأن نزولها كان بحضرة زيد. قوله: "فجاءه ابن أم مكتوم "في رواية قبيصة المذكورة" فجاء عبد الله بن أم مكتوم "وعند الترمذي من طريق الثوري وسليمان التيمي كلاهما عن أبي إسحاق عن البراء" جاء عمرو بن أم مكتوم "وقد نبه الترمذي على أنه يقال له عبد الله وعمرو، وأن اسم أبيه زائدة وأن أم مكتوم أمه. قلت: واسمها عاتكة، وقد تقدم شيء من خبره في كتاب الأذان. قوله: "وهو يملها" بضم أوله وكسر الميم وتشديد اللام هو مثل يمليها، يملى ويملل بمعنى، ولعل الياء منقلبة من إحدى اللامين. قوله: "والله لو أستطيع الجهاد معك لجاهدت" أي لو استطعت، وعبر بالمضارع إشارة إلى الاستمرار واستحضارا

(8/260)


لصورة الحال، قال وكان أعمى، هذا يفسر ما في حديث البراء "فشكا ضرارته" وفي الرواية الأخرى عنه "فقال أنا ضرير" وفي رواية خارجة "فقام حين سمعها ابن أم مكتوم وكان أعمى فقال: يا رسول الله، فكيف بمن لا يستطيع الجهاد ممن هو أعمى وأشباه ذلك" وفي رواية قبيصة "فقال إني أحب الجهاد في سبيل الله، ولكن بي من الزمانة ما ترى، ذهب بصري" . قوله: "أن ترض فخذي" أي تدقها. قوله: "ثم سرى" بضم المهملة وتشديد الراء أي كشف. قوله: "فأنزل الله: {غيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} في رواية قبيصة" ثم قال اكتب: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} وزاد في رواية خارجة بن زيد "قال زيد بن ثابت: فوالله لكأني أنظر إلى ملحقها عند صدع كان في الكتف. قوله في الحديث الثاني" عن أبي إسحاق" هو السبيعي. قوله: "عن البراء" في رواية محمد بن جعفر عن شعبة عن أبي إسحاق "أنه سمع البراء" أخرجه أحمد عنه، ووقع في رواية الطبراني من طريق أبي سنان الشيباني عن أبي إسحاق عن زيد بن أرقم، وأبو سنان اسمه ضرار بن مرة، وهو ثقة إلا أن المحفوظ "عن أبي إسحاق عن البراء" كذا اتفق الشيخان عليه من طريق شعبة ومن طريق إسرائيل، وأخرجه الترمذي وأحمد من رواية سفيان الثوري، والترمذي أيضا والنسائي وابن حبان من رواية سليمان التيمي، وأحمد أيضا من رواية زهير، والنسائي أيضا من رواية أبي بكر بن عياش، وأبو عوانة من طريق زكريا بن أبي زائدة ومسعر ثمانيتهم عن أبي إسحاق. قوله: "ادعوا فلانا" كذا أبهمه إسرائيل في روايته وسماه غيره كما تقدم. قوله: "وخلف النبي صلى الله عليه وسلم ابن أم مكتوم" كذا في رواية إسرائيل. وفي رواية شعبة التي قبلها "دعا زيدا فكتبها فجاء ابن أم مكتوم" فيجمع بأن معنى قوله جاء أنه قام من مقامه خلف النبي صلى الله عليه وسلم حتى جاء مواجهه فخاطبه. قوله: "فنزلت مكانها" قال ابن التين: يقال إن جبريل هبط ورجع قبل أن يجف القلم. قوله: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} قال ابن المنير: لم يقتصر الراوي في الحال الثاني على ذكر الكلمة الزائدة وهي {غيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} فإن كان الوحي نزل بزيادة قوله: {غيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} فقط فكأنه رأى إعادة الآية من أولها حتى يتصل الاستثناء بالمستثنى منه، وإن كان الوحي نزل بإعادة الآية بالزيادة بعد أن نزل بدونها فقد حكى الراوي صورة الحال. قلت: الأول أظهر، فإن في رواية سهل بن سعد" فأنزل الله {غيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} وأوضح من ذلك رواية خارجة بن زيد عن أبيه ففيها: ثم سرى عنه فقال: اقرأ، فقرأت عليه "لا يستوي القاعدون من المؤمنين" فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {غيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} وفي حديث الفلتان - بفتح الفاء واللام وبمثناة فوقانية - ابن عاصم في هذه القصة "قال فقال الأعمى: ما ذنبنا؟ فأنزل الله، فقلنا له إنه يوحى إليه فخاف أن ينزل في أمره شيء، فجعل يقول: أتوب إلى الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"للكاتب أكتب {غيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} أخرجه البزار والطبراني وصححه ابن حبان، ووقع في غير هذا الحديث ما يؤيد الثاني وهو في حديث البراء بن عازب "فأنزلت هذه الآية: حافظوا على الصلوات وصلاة العصر، فقرأناها ما شاء الله، ثم نزلت: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} . قوله: "وحدثني إسحاق" جزم أبو نعيم في "المستخرج" وأبو مسعود في "الأطراف" بأنه إسحاق بن منصور وكنت أظن أنه ابن راهويه لقوله: "أخبرنا عبد الرزاق" ثم أريت في أصل النسفي "حدثني إسحاق حدثنا عبد الرزاق" فعرفت أنه ابن منصور، لأن ابن راهويه لا يقول في شيء من حديثه "حدثنا" . قوله: "أخبرني عبد الكريم" تقدم في غزوة بدر أنه الجزوي. قوله: "أن مقسما مولى عبد الله بن الحارث أخبره" أما مقسم فتقدم

(8/261)


ذكره في غزوة بدر، وأما عبد الله بن الحارث فهو ابن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، لأبيه ولجده صحبة وله هو رؤية، وكان يلقب ببة بموحدتين مفتوحتين الثانية ثقيلة. قوله: "لا يستوي القاعدون من المؤمنين عن بدر والخارجون إلى بدر" كذا أورده مختصرا، وظن ابن التين أنه مغاير لحديثي سهل والبراء فقال: القرآن ينزل في الشيء ويشتمل على ما في معناه، وقد أخرجه الترمذي من طريق حجاج بن محمد عن ابن جريج بهذا مثله، وزاد: "لما نزلت غزوة بدر قال عبد الله بن جحش وابن أم مكتوم الأعميان: يا رسول الله هل لنا رخصة؟ فنزلت: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً} فهؤلاء القاعدون غير أولي الضرر {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً دَرَجَاتٍ مِنْهُ} على القاعدين من المؤمنين غير أولي الضرر، هكذا أورده سياقا واحدا، ومن قوله: "درجة إلخ" مدرج في الخبر من كلام ابن جريج، بينه الطبري، فأخرج من طريق حجاج نحو ما أخرجه الترمذي إلى قوله: "درجة" ووقع عنده "فقال عبد الله بن أم مكتوم وأبو أحمد بن جحش وهو الصواب في ابن جحش" فإن عبد الله أخوه، وأما هو فاسمه عبد بغير إضافة وهو مشهور بكنيته. ثم أخرجه بالسند المذكور عن ابن جريج قال: {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً دَرَجَاتٍ مِنْهُ} قال: على القاعدين من المؤمنين غير أولي الضرر "وحاصل تفسير ابن جريج أن المفضل عليه غير أولي الضرر، وأما أولو الضرر فملحقون في الفضل بأهل الجهاد إذا صدقت نياتهم كما تقدم في المغازي من حديث أنس" إن بالمدينة لأقواما ما سرتم من مسير ولا قطعتم من واد إلا وهم معكم حسبهم العذر" . ويحتمل أن يكون المراد بقوله: "فضل الله المجاهدين على القاعدين درجة" أي من أولى الضرر وغيرهم، وقوله: {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً دَرَجَاتٍ مِنْهُ} أي على القاعدين من غير أولي الضرر، ولا ينافي ذلك الحديث المذكور عن أنس، ولا ما دلت عليه الآية من استواء أولي الضرر مع المجاهدين لأنها استثنت أولي الضرر من عدم الاستواء فأفهمت إدخالهم في الاستواء، إذ لا واسطة بين الاستواء وعدمه، لأن المراد منه استواؤهم في أصل الثواب لا في المضاعفة لأنها تتعلق بالفعل. ويحتمل أن يلتحق بالجهاد في ذلك سائر الأعمال الصالحة. وفي أحاديث الباب من الفوائد أيضا اتخاذ الكاتب، وتقريبه، وتقييد العلم بالكتابة.

(8/262)


باب {الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيما كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض...}
...
19- باب {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} الآيَةَ
4596- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الْمُقْرِئُ حَدَّثَنَا حَيْوَةُ وَغَيْرُهُ قَالاَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَبُو الأَسْوَدِ قَالَ قُطِعَ عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ بَعْثٌ فَاكْتُتِبْتُ فِيهِ فَلَقِيتُ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَأَخْبَرْتُهُ فَنَهَانِي عَنْ ذَلِكَ أَشَدَّ النَّهْيِ ثُمَّ قَالَ أَخْبَرَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ نَاسًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا مَعَ الْمُشْرِكِينَ يُكَثِّرُونَ سَوَادَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْتِي السَّهْمُ فَيُرْمَى بِهِ فَيُصِيبُ أَحَدَهُمْ فَيَقْتُلُهُ أَوْ يُضْرَبُ فَيُقْتَلُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} الآيَةَ رَوَاهُ اللَّيْثُ عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ"
[الحديث 4596- طرفه في: 7085]

(8/262)


قوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ} الآية" كذا لأبي ذر، وساق غيره إلى {فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} وليس عند الجميع لفظ: "باب" . قوله: "حدثنا حيوة" بفتح المهملة وسكون التحتانية وفتح الواو وهو ابن شريح المصري يكنى أبا زرعة. قوله: "وغيره" هو ابن لهيعة أخرجه الطبري، وقد أخرجه إسحاق بن راهويه عن المقرئ عن حيوة وحده، وكذا أخرجه النسائي عن زكريا بن يحيى عن إسحاق، والإسماعيلي من طريق يوسف بن موسى عن المقرئ كذلك. قوله: "قالا حدثنا محمد بن عبد الرحمن" هو أبو الأسود الأسدي يتيم عروة بن الزبير. قوله: "قطع" بضم أوله. قوله: "بعث" أي جيش، والمعنى أنهم ألزموا بإخراج جيش لقتال أهل الشام، وكان ذلك في خلافة عبد الله بن الزبير على مكة. قوله: "فاكتتبت" بضم المثناة الأولى وكسر الثانية بعدها موحدة ساكنة على البناء للمجهول. قوله: "أن ناسا من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سواد المشركين" سمي منهم في رواية أشعث بن سوار عن عكرمة عن ابن عباس قيس بن الوليد بن المغيرة وأبو قيس بن الفاكه بن المغيرة والوليد بن عتبة بن ربيعة وعمرو بن أمية بن سفيان وعلي بن أمية بن خلف، وذكر في شأنهم أنهم خرجوا إلى بدر، فلما رأوا قلة المسلمين دخلهم شك وقالوا غر هؤلاء دينهم فقتلوا ببدر، أخرجه ابن مردويه. ولابن أبي حاتم من طريق ابن جريج عن عكرمة نحوه وذكر فيهم الحارث بن زمعة بن الأسود والعاص بن منبه بن الحجاج وكذا ذكرهما ابن إسحاق. قوله: "يرمى به" بضم أوله على البناء المجهول. قوله: "فأنزل الله" هكذا جاء في سبب نزولها. وفي رواية عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس عند ابن المنذر والطبري، "كان قوم من أهل مكة قد أسلموا وكانوا يخفون الإسلام، فأخرجهم المشركون معهم يوم بدر فأصيب بعضهم فقال المسلمون هؤلاء كانوا مسلمين فأكرهوا فاستغفروا لهم فنزلت، فكتبوا بها إلى من بقي بمكة منهم وأنهم لا عذر لهم، فخرجوا فلحقهم المشركون ففتنوهم فرجعوا فنزلت: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} فكتب إليهم المسلمون بذلك فحزنوا، فنزلت: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا} الآية، فكتبوا إليهم بذلك، فخرجوا فلحقوهم، فنجا من نجا وقتل من قتل" . قوله: "رواه الليث عن أبي الأسود" وصله الإسماعيلي والطبراني في "الأوسط" من طريق أبي صالح كاتب الليث عن الليث عن أبي الأسود عن عكرمة فذكره بدون قصة أبي الأسود، قال الطبراني: لم يروه عن أبي الأسود إلا الليث وابن لهيعة. قلت: ورواية البخاري من طريق حيوة ترد على، ورواية ابن لهيعة أخرجها ابن أبي حاتم أيضا، وفي هذه القصة دلالة على براءة عكرمة مما ينسب إليه من رأى الخوارج لأنه بالغ في النهي عن قتال المسلمين وتكثير سواد من يقاتلهم. وغرض عكرمة أن الله ذم من كثر سواد المشركين مع أنهم كانوا لا يريدون بقلوبهم موافقتهم، قال فكذلك أنت لا تكثر سواد هذا الجيش وإن كنت لا تريد موافقتهم لأنهم لا يقاتلون في سبيل الله، وقوله: "فيم كنتم" سؤال توبيخ وتقريع، واستنبط سعيد بن جبير من هذه الآية وجوب الهجرة من الأرض التي يعمل فيها بالمعصية.

(8/263)


20- باب {إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً}
4597- حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ} قَالَ كَانَتْ أُمِّي مِمَّنْ عَذَرَ اللَّه"

(8/263)


قوله: {إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ} الآية" فيه معذرة من اتصف بالاستضعاف من المذكورين، وقد ذكروا في الآية الأخرى في سياق الحث على القتال عنهم. وتقدم حديث ابن عباس المذكور والكلام عليه قبل ستة أبواب.

(8/264)


21- باب {فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا}
4598- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ بَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الْعِشَاءَ إِذْ قَالَ: "سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ ثُمَّ قَالَ قَبْلَ أَنْ يَسْجُدَ اللَّهُمَّ نَجِّ عَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ اللَّهُمَّ نَجِّ سَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ اللَّهُمَّ نَجِّ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ اللَّهُمَّ نَجِّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا سِنِينَ كَسِنِي يُوسُف"
قوله: "باب قوله {فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ} الآية" كذا لأبي ذر، ولغيره: "فعسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا" كذا وقع عند أبي نعيم في "المستخرج" وهو خطأ من النساخ بدليل وقوعه على الصواب في رواية أبي ذر "فأولئك عسى الله" وهي التلاوة. ووقع في "تنقيح الزركشي" هنا "وكان الله غفورا رحيما" قال وهو خطأ أيضا. قلت: لكن لم أقف عليه في رواية. حديث أبي هريرة في الدعاء للمستضعفين، وقد تقدم الكلام عليه في أول الاستسقاء.

(8/264)


22- باب {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ}
4599- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَبُو الْحَسَنِ أَخْبَرَنَا حَجَّاجٌ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي يَعْلَى عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى} قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَكَانَ جَرِيحًا"
قوله: "باب {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ} الآية" كذا لأبي ذر، وله عن المستملي: "باب قوله ولا جناح إلخ" وسقط لغيره: "باب" وزادوا {أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ} . قوله: "حجاج" هو ابن محمد، ويعلى هو ابن مسلم. قوله: {نْ كَانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى} قال عبد الرحمن بن عوف وكان جريحا" في رواية: "كان" بغير واو، كذا وقع عنده مختصرا، ومقول ابن عباس ما ذكر عن عبد الرحمن، وقوله: "كان جريحا" أي فنزلت الآية فيه. وقال الكرماني: يحتمل هذا ويحتمل أن التقدير قال ابن عباس وعبد الرحمن بن عوف يقول من كان جريحا فحكمه كذلك فكان عطف الجريح على المريض إلحاقا به على سبيل القياس، أو لأن الجرح نوع من المرض فيكون كله مقول عبد الرحمن وهو مروي عن ابن عباس. قلت: وسياق ما أورده غير البخاري يدفع هذا الاحتمال، فقد وقع عند أبي نعيم في "المستخرج" من طريق إبراهيم بن سعيد الجوهري عن حجاج بن محمد قال: كان عبد الرحمن بن عوف جريحا" وهو ظاهر في أن فاعل قال هو ابن عباس، وأنه لا رواية لابن عباس في هذا عن عبد الرحمن. قوله في الآية الكريمة {أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ} رخص لهم في وضع السلاح لثقلها عليهم

(8/264)


23- باب {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ}
4600- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ قَالَ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا {يَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} قَالَتْ عَائِشَةُ هُوَ الرَّجُلُ تَكُونُ عِنْدَهُ الْيَتِيمَةُ هُوَ وَلِيُّهَا وَوَارِثُهَا فَأَشْرَكَتْهُ فِي مَالِهِ حَتَّى فِي الْعَذْقِ فَيَرْغَبُ أَنْ يَنْكِحَهَا وَيَكْرَهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا رَجُلًا فَيَشْرَكُهُ فِي مَالِهِ بِمَا شَرِكَتْهُ فَيَعْضُلُهَا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ
قوله: "باب {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ} كذا لأبي ذر وله عن غير المستملي: "باب {وَيَسْتَفْتُونَكَ} وسقط لغيره: "باب" وقوله: {وَيَسْتَفْتُونَكَ} أي يطلبون الفتيا أو الفتوى وهما بمعنى واحد، أي جواب السؤال عن الحادثة التي تشكل على السائل وهي مشتقة من الفتى، ومنه الفتى وهو الشاب القوي. حديث عائشة في قصة الرجل يكون عنده اليتيمة فتشركه في ماله، وقد تقدم الكلام عليه في أوائل هذه السورة مستوفي، وروى ابن أبي حاتم من طريق السدي قال: كان لجابر بنت عم دميمة ولها مال ورثته عن أبيها، وكان جابر يرغب عن نكاحها ولا ينكحها خشية أن يذهب الزوج بمالها، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فنزلت.

(8/265)


باب {وإن إمرأة خافت من بعلها نشورا أو إعراضا}
...
24- باب {وَإِنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} َقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ شِقَاقٌ تَفَاسُدٌ {وَأُحْضِرَتْ الأَنْفُسُ الشُّحَّ} هَوَاهُ فِي الشَّيْءِ يَحْرِصُ عَلَيْهِ {كَالْمُعَلَّقَةِ} لاَ هِيَ أَيِّمٌ وَلاَ ذَاتُ زَوْجٍ {نُشُوزًا} بُغْضًا
4601- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا {وَإِنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} قَالَتْ الرَّجُلُ تَكُونُ عِنْدَهُ الْمَرْأَةُ لَيْسَ بِمُسْتَكْثِرٍ مِنْهَا يُرِيدُ أَنْ يُفَارِقَهَا فَتَقُولُ أَجْعَلُكَ مِنْ شَأْنِي فِي حِلٍّ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي ذَلِك"
قوله: {وَإِنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} كذا للجميع بغير باب. قوله: "وقال ابن عباس: شقاق تفاسد" وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. وقال غيره: الشقاق العداوة لأن كلا من المتعاديين في شق خلاف شق صاحبه. قوله: "وأحضرت الأنفس الشح، قال هواه في الشيء يحرص عليه" وصله ابن أبي حاتم أيضا بهذا الإسناد عن ابن عباس. قوله: "كالمعلقة لا هي أيم ولا ذات زوج" وصله ابن أبي حاتم بإسناد صحيح من طريق يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى: {فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} : قال لا هي أيم ولا ذات زوج انتهى، والأيم بفتح الهمزة وتشديد التحتانية هي التي لا زوج لها. قوله: {نُشُوزًا} بغضا" وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {وَإِنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا} قال يعني البغض.

(8/265)


25- باب {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي اَلدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّار}
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَسْفَلَ النَّارِ نَفَقًا سَرَبًا
4602- حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ عَنْ الأَسْوَدِ قَالَ كُنَّا فِي حَلْقَةِ عَبْدِ اللَّهِ فَجَاءَ حُذَيْفَةُ حَتَّى قَامَ عَلَيْنَا فَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ لَقَدْ أُنْزِلَ النِّفَاقُ عَلَى قَوْمٍ خَيْرٍ مِنْكُمْ قَالَ الأَسْوَدُ سُبْحَانَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي اَلدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ} فَتَبَسَّمَ عَبْدُ اللَّهِ وَجَلَسَ حُذَيْفَةُ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ فَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ فَتَفَرَّقَ أَصْحَابُهُ فَرَمَانِي بِالْحَصَا فَأَتَيْتُهُ فَقَالَ حُذَيْفَةُ عَجِبْتُ مِنْ ضَحِكِهِ وَقَدْ عَرَفَ مَا قُلْتُ لَقَدْ أُنْزِلَ النِّفَاقُ عَلَى قَوْمٍ كَانُوا خَيْرًا مِنْكُمْ ثُمَّ تَابُوا فَتَابَ اللَّهُ عَلَيْهِم"
قوله: "باب {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي اَلدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّار} كذا لأبي ذر، وسقط لغيره: "باب" . قوله: "قال ابن عباس أسفل النار" وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: الدرك الأسفل أسفل النار. قال العلماء: عذاب المنافق أشد من عذاب الكافر لاستهزائه بالدين. قوله: "نفقا سربا" وصله ابن أبي حاتم من طريق ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس به، وهذه الكلمة ليست من سورة النساء، وإنما هي من سورة الأنعام، ولعل مناسبة ذكرها هنا للإشارة إلى اشتقاق النفاق لأن النفاق إظهار غير ما يبطن، كذا وجهه الكرماني، وليس ببعيد مما قالوه في اشتقاق النفاق أنه من النافقاء وهو جحر اليربوع. وقيل هو من النفق وهو السرب حكاه في النهاية. قوله: "إبراهيم" هو النخعي، والأسود خاله وهو ابن يزيد النخعي. قوله: "كنا في حلقة عبد الله" يعني ابن مسعود. قوله: "فجاء حذيفة" هو ابن اليمان. قوله: "لقد أنزل النفاق على قوم خير منكم" أي ابتلوا به لأنهم كانوا من طبقة الصحابة فهم خير من طبقة التابعين، لكن الله ابتلاهم فارتدوا ونافقوا فذهبت الخيرية منهم، ومنهم من تاب فعادت له الخيرية، فكأن حذيفة حذر الذين خاطبهم وأشار لهم أن لا يغتروا فإن القلوب تتقلب، فحذرهم من

(8/266)


الخروج من الإيمان لأن الأعمال بالخاتمة، وبين لهم أنهم وإن كانوا في غاية الوثوق بإيمانهم فلا ينبغي لهم أن يأمنوا مكر الله، فإن الطبقة الذين من قبلهم وهم الصحابة كانوا خيرا منهم، ومع ذلك وجد بينهم من ارتد ونافق، فالطبقة التي هي من بعدهم أمكن من الوقوع في مثل ذلك. وقوله: "فتبسم عبد الله" كأنه تبسم تعجبا من صدق مقالته. قوله: "فرماني" أي حذيفة رمى الأسود يستدعيه إليه. قوله: "عجبت من ضحكه" أي من اقتصاره على ذلك، وقد عرف ما قلت أي فهم مرادي وعرف أنه الحق. قوله: "ثم تابوا فتاب الله عليهم" أي رجعوا عن النفاق. ويستفاد من حديث حذيفة أن الكفر والإيمان والإخلاص والنفاق كل بخلق الله تعالى وتقديره وإرادته، ويستفاد من قوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ} صحة توبة الزنديق وقبولها على ما عليه الجمهور، فإنها مستثناة من المنافقين من قوله: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} وقد استدل بذلك جماعة منهم أبو بكر الرازي في أحكام القرآن، والله أعلم.

(8/267)


26- باب {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} إِلَى قَوْلِهِ {وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ}
4603- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ سُفْيَانَ قَالَ حَدَّثَنِي الأَعْمَشُ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَا يَنْبَغِي لأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى"
4604- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ حَدَّثَنَا هِلاَلٌ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى فَقَدْ كَذَب"
قوله: "باب قوله: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ} إلى قوله: {وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ} كذا لأبي ذر وزاد في رواية أبي الوقت "والنبيين من بعده" والباقي سواء لكن سقط لغير أبي ذر "باب" . قوله: "ما ينبغي لأحد" في رواية المستملي والحموي "لعبد" . قوله: "أن يقول أنا خير من يونس" يحتمل أن يكون المراد أن العبد القائل هو الذي لا ينبغي له أن يقول ذلك، ويحتمل أن يكون المراد بقوله: "أنا" رسول الله صلى الله عليه وسلم وقاله تواضعا، ودل حديث أبي هريرة ثاني حديثي الباب على أن الاحتمال الأول أولى. قوله: "فقد كذب" أي إذا قال ذلك بغير توقيف، وقد تقدم شرح هذا الحديث في أحاديث الأنبياء بما أغنى عن إعادته هنا، والله المستعان.

(8/267)


27- باب {يَسْتَفْتُونَكَ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ إِنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} وَالْكَلاَلَةُ مَنْ لَمْ يَرِثْهُ أَبٌ أَوْ ابْنٌ وَهُوَ مَصْدَرٌ مِنْ تَكَلَّلَهُ النَّسَبُ
4605- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ سَمِعْتُ الْبَرَاءَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ آخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ بَرَاءَةَ وَآخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ {يَسْتَفْتُونَكَ}
قوله: "باب {يَسْتَفْتُونَكَ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ} ساقوا الآية إلى قوله: {إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} وسقط "باب" لغير أبي ذر، والمراد بقوله: {يَسْتَفْتُونَكَ} أي عن مواريث الكلالة، وحذف لدلالة السياق عليه في قوله: {قُلْ

(8/267)


سورة المائدة: باب{حرم}
...
5- سورة الْمَائِدَةِ
1- باب {حُرُمٌ} وَاحِدُهَا حَرَامٌ {فَبِمَا نَقْضِهِمْ} بِنَقْضِهِمْ {الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ} جَعَلَ اللَّهُ {تَبُوءُ} تَحْمِلُ {دَائِرَةٌ} دَوْلَةٌ وَقَالَ غَيْرُهُ الإِغْرَاءُ التَّسْلِيطُ {أُجُورَهُنَّ} مُهُورَهُنَّ {الْمُهَيْمِنُ} الأَمِينُ الْقُرْآنُ أَمِينٌ عَلَى كُلِّ كِتَابٍ قَبْلَهُ.
قوله: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} سورة المائدة" سقطت البسملة لأبي ذر، والمائدة فاعلة بمعنى مفعولة أي ميد بها صاحبها، وقيل على بابها، وسيأتي ذكر ذلك مبينا بعد. قوله: {وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} واحدها حرام" هو قول أبي عبيدة، وزاد: حرام بمعنى محرم. وقرأ الجمهور بضم الراء ويحيى بن وثاب بإسكانها وهي لغة كرسل ورسل. قوله: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} بنقضهم" هو تفسير قتادة، أخرجه الطبري من طريقه، وكذا قال أبو عبيدة {فَبِمَا نَقْضِهِمْ} أي فبنقضهم قال: والعرب تستعمل ما في كلامهم توكيدا، فإن كان الذي قبلها يجر أو يرفع أو ينصب

(8/268)


عمل فيما بعدها. قوله: {الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ} أي جعل الله، قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} أي جعل الله لكم وقضى، وعن ابن إسحاق: كتب لكم أي وهب لكم أخرجه الطبري. وأخرج من طريق السدي أن معناه أمر، قال الطبري: والمراد أنه قدرها لسكنى بني إسرائيل في الجملة فلا يرد كون المخاطبين بذلك لم يسكنوها لأن المراد جنسهم بل قد سكنها بعض أولئك كيوشع وهو ممن خوطب بذلك قطعا. قوله: "تبوء تحمل" قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بإِثْمِي وَإِثْمِكَ} أي تحمل إثمي وإثمك. قال: وله تفسير آخر تبوء أي تقر، وليس مرادا هنا. وروى الطبري من طريق مجاهد قال: إني أريد أن تبوء أن تكون عليك خطيئتك ودمي، قال: والجمهور على أن المراد بقوله إثمي أي إثم قتلى، ويحتمل أن يكون على بابه من جهة أن القتل يمحو خطايا المقتول، وتحمل على القاتل إذا لم تكن له حسنات يوفي منها المقتول. قوله: "وقال غيره الإغراء التسليط" هكذا وقع في النسخ التي وقفت عليها، ولم أعرف الغير ولا من عاد عليه الضمير لأنه لم يفصح بنقل ما تقدم عن أحد، نعم سقط "وقال غيره:"من رواية النسفي، وكأنه أصوب، ويحتمل أن يكون المعنى: وقال غير من فسر ما تقدم ذكره. وفي رواية الإسماعيلي عن الفربري بالإجازة وقال ابن عباس: مخمصة مجاعة. وقال غيره: الإغراء التسليط. وهذا أوجه. تفسير المخمصة وقع في النسخ الأخرى بعد هذا، وقد وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وكذا فسره أبو عبيدة، والحاصل أن التقديم والتأخير في وضع هذه التفاسير وقع ممن نسخ كتاب البخاري كما قدمناه غير مرة، ولا يضر ذلك غالبا. تفسير الإغراء بالتسليط يلازم معنى الإغراء حقيقة الإغراء كما قال أبو عبيدة التهنيج للإفساد، وقد روى ابن أبي حاتم من طريق مجاهد في قوله: "وأغرينا" قال ألقينا، وهذا تفسير بما وقع في الآية الأخرى. قوله: "أجورهن مهورهن" هو تفسير أبي عبيدة. قوله: "المهيمن القرآن أمين على كل كتاب قبله" أورد ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} قال القرآن أمين على كل كتاب كان قبله. وروى عبد بن حميد من طريق أربدة التميمي عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} قال: مؤتمنا عليه. وقال ابن قتيبة وتبعه جماعة "مهيمنا" مفيعل من أيمن قلبت همزته هاء، وقد أنكر ذلك ثعلب فبالغ حتى نسب قائله إلى الكفر لأن المهيمن من الأسماء الحسنى وأسماء الله تعالى لا تصغر، والحق أنه أصل بنفسه ليس مبدلا من شيء، وأصل الهيمنة الحفظ والارتقاب تقول: هيمن فلان على فلا إذا صار رقيبا عليه فهو مهيمن، قال أبو عبيدة. لم يجيء في كلام العرب على هذا البناء إلا أربعة ألفاظ: مبيطر ومسيطر ومهيمن ومبيقر. قوله: "وقال سفيان: ما في القرآن آية أشد علي من {لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} يعني أن من لم يعمل بما أنزل الله في كتابه فليس على شيء، ومقتضاه أن من أخل ببعض الفرائض فقد أخل بالجميع، ولأجل ذلك أطلق كونها أشد من غيرها، ويحتمل أن يكون هذا مما كان على أهل الكتاب من الإصر. وقد روى ابن أبي حاتم أن الآية نزلت في سبب خاص، فأخرج بإسناد حسن من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: "جاء مالك بن الصيف وجماعة من الأحبار فقالوا: يا محمد ألست تزعم أنك على ملة إبراهيم، تؤمن بما في التوراة، تشهد أنها حق؟ قال: بلى، ولكنكم كتمتم منها ما أمرتم ببيانه، فأنا أبرأ مما أحدثتموه. قالوا: فإنا نتمسك بما في أيدينا من الهدى والحق ولا نؤمن بك ولا بما جئت به، فأنزل الله هذه الآية. وهذا يدل على أن المراد بما أنزل إليكم

(8/269)


من ربكم أي القرآن. ويؤيد هذا التفسير قوله تعالى في الآية التي قبلها {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا} - إلى قوله: {أَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ} ا لآية
" تنبيه " : سفيان المذكور وقع في بعض النسخ أنه الثوري، ولم يقع لي إلى الآن موصولا. قوله: {مَنْ أحْيَاهَا} يعني من حرم قتلها إلا بحق حيا الناس منه جميعا" وصله ابن أبي حاتم من طريق علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس. قوله: "شرعة ومنهاجا سبيلا وسنة" وقد تقدم في الإيمان. وقال أبو عبيدة {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً} أي سنة "ومنهاجا" أي سبيلا بينا واضحا. قوله: "عثر ظهر الأوليان وأحدهما أولى" أي أحق به طعامهم وذبائحهم، كذا ثبت في بعض النسخ هنا، وقد تقدم في الوصايا إلا الأخير فسيأتي في الذبائح.

(8/270)


2- باب {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} وقال ابن عباس: مخمصة مجاعة
4604- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ قَيْسٍ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَتْ الْيَهُودُ لِعُمَرَ إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ آيَةً لَوْ نَزَلَتْ فِينَا لاَتَّخَذْنَاهَا عِيدًا فَقَالَ عُمَرُ إِنِّي لاَعْلَمُ حَيْثُ أُنْزِلَتْ وَأَيْنَ أُنْزِلَتْ وَأَيْنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أُنْزِلَتْ يَوْمَ عَرَفَةَ وَإِنَّا وَاللَّهِ بِعَرَفَةَ قَالَ سُفْيَانُ وَأَشُكُّ كَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَمْ لاَ {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}
قوله: "باب قوله {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} سقط "باب" لغير أبي ذر. قوله: "وقال ابن عباس: مخمصة مجاعة" كذا ثبت لغير أبي ذر هنا، وتقدم قريبا. قوله: "حدثنا عبد الرحمن" هو ابن مهدي. قوله: "عن قيس" هو ابن مسلم. قوله: "قالت اليهود" في رواية أبي العميس عن قيس في كتاب الإيمان "أن رجلا من اليهود" وقد تقدمت تسميته هناك وأنه كعب الأحبار، واحتمل أن يكون الراوي حيث أفرد السائل أراد تعيينه، وحيث جمع أراد باعتبار من كان معه على رأيه، وأطلق على كعب هذه الصفة إشارة إلى أن سؤاله عن ذلك وقع قبل إسلامه لأن إسلامه كان في خلافة عمر على المشهور، وأطلق عليه ذلك باعتبار ما مضى. قوله: "إني لأعلم" وقع في هذه الرواية اختصار، وقد تقدم في الإيمان من وجه آخر عن قيس بن مسلم: "فقال عمر أي آية إلخ" . قوله: "حيث أنزلت وأين أنزلت" في رواية أحمد عن عبد الرحمن بن مهدي "حيث أنزلت وأي يوم أنزلت" . وبها يظهر أن لا تكرار في قوله حيث وأين، بل أراد بإحداهما المكان وبالأخرى الزمان. قوله: "وأين رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أنزلت يوم عرفة" كذا لأبي ذر ولغيره: "حين" بدل حيث. وفي رواية أحمد "وأين رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزلت، أنزلت يوم عرفه "بتكرار" أنزلت: وهي أوضح، وكذا لمسلم عن محمد بن المثنى عن عبد الرحمن في الموضعين. قوله: "وإنا والله بعرفة" كذا للجميع، وعند أحمد "ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف بعرفة" وكذا لمسلم، وكذا أخرجه الإسماعيلي من طريق محمد بن بشار وبندار شيخ البخاري فيه. قوله: "قال سفيان وأشك كان يوم الجمعة أم لا" قد تقدم في الإيمان من وجه آخر عن قيس بن مسلم الجزم بأن ذلك كان يوم الجمعة، وسيأتي الجزم بذلك من رواية مسعر عن قيس في كتاب الاعتصام، وقد تقدم في كتاب الإيمان بيان مطابقة جواب عمر للسؤال لأنه سأله عن اتخاذه عيدا فأجاب بنزولها بعرفة يوم الجمعة، ومحصله أن في بعض الروايات "وكلاهما بحمد الله لنا عيد" قال الكرماني: أجاب بأن النزول كان يوم عرفة، ومن المشهور أن اليوم الذي بعد عرفة هو عيد للمسلمين، فكأنه قال:

(8/270)


جعلناه عيدا بعد إدراكنا استحقاق ذلك اليوم للتعبد فيه، قال: وإنما لم يجعله يوم النزول لأنه ثبت أن النزول كان بعد العصر، ولا يتحقق العيد إلا من أول النهار، ولهذا قال الفقهاء: إن رؤية الهلال نهارا تكون لليلة المستقبلة انتهى. والتنصيص على أن تسمية يوم عرفة يوم عيد يغني عن هذا التكلف. فإن العيد مشتق من العود وقيل له ذلك لأنه يعود في كل عام. وقد نقل الكرماني عن الزمخشري أن العيد هو السرور العائد وأقر ذلك، فالمعنى أن كل يوم شرع تعظيمه يسمى عيدا انتهى. ويمكن أن يقال هو عيد لبعض الناس دون بعض وهو للحجاج خاصة ولهذا يكره لهم صومه، بخلاف غيرهم فيستحب، ويوم العيد لا يصام. وقد تقدم في شرح هذا الحديث في كتاب الإيمان بيان من روى في حديث الباب أن الآية نزلت يوم عيد وأنه عند الترمذي من حديث ابن عباس، وأما تعليله لترك جعله عيدا بأن نزول الآية كان بعد العصر فلا يمنع أن يتخذ عيدا، ويعظم ذلك اليوم من أوله لوقوع موجب التعظيم في أثنائه، والتنظير الذي نظر به ليس بمستقيم، لأن مرجع ذلك من جهة سير الهلال، وإني لأتعجب من خفاء ذلك عليه. وفي الحديث بيان ضعف ما أخرجه الطبري بسند فيه ابن لهيعة عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت يوم الاثنين، وضعف ما أخرجه من طريق العوفي عن ابن عباس أن اليوم المذكور ليس بمعلوم، وعلى ما أخرجه البيهقي بسند منقطع أنها نزلت يوم التروية ورسول الله صلى الله عليه وسلم بفناء الكعبة فأمر الناس أن يروحوا إلى منى وصلى الظهر بها، قال البيهقي: حديث عمر أولى، هو كما قال. واستدل بهذا الحديث على مزية الوقوف بعرفة يوم الجمعة على غيره من الأيام، لأن الله تعال إنما يختار لرسوله الأفضل، وأن الأعمال تشرف بشرف الأزمنة كالأمكنة، ويوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع، وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة مرفوعا: "خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة" الحديث، ولأن في يوم الجمعة الساعة المستجاب فيها الدعاء ولا سيما على قول من قال إنها بعد العصر، وأما ما ذكره رزين في جامعه مرفوعا: "خير يوم طلعت فيه الشمس يوم عرفة وافق يوم الجمعة، وهو أفضل من سبعين حجة من في غيرها" فهو حديث لا أعرف حاله لأنه لم يذكر صحابيه ولا من أخرجه بل أدرجه في حديث الموطأ الذي ذكره مرسلا عن طلحة بن عبد الله بن كريز، وليست الزيادة المذكورة في شيء من الموطآت فإن كان له أصل احتمل أن يراد بالسبعين التحديد أو المبالغة، وعلى كل منهما فثبتت المزية بذلك، والله أعلم

(8/271)


باب {فلم تجدوا فتيمموا صعيدا طيبا}
...
3- باب {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} تَيَمَّمُوا تَعَمَّدُوا آمِّينَ عَامِدِينَ
أَمَّمْتُ وَتَيَمَّمْتُ وَاحِدٌ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَمَسْتُمْ وَ تَمَسُّوهُنَّ وَ اللاَتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ وَالإِفْضَاءُ النِّكَاحُ
4607- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْبَيْدَاءِ أَوْ بِذَاتِ الْجَيْشِ انْقَطَعَ عِقْدٌ لِي فَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْتِمَاسِهِ وَأَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ فَأَتَى النَّاسُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ فَقَالُوا أَلاَ تَرَى مَا صَنَعَتْ عَائِشَةُ أَقَامَتْ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِالنَّاسِ وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاضِعٌ رَأْسَهُ عَلَى فَخِذِي قَدْ نَامَ فَقَالَ حَبَسْتِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّاسَ وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ قَالَتْ عَائِشَةُ فَعَاتَبَنِي أَبُو بَكْرٍ وَقَالَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ وَجَعَلَ

(8/271)


يَطْعُنُنِي بِيَدِهِ فِي خَاصِرَتِي وَلاَ يَمْنَعُنِي مِنْ التَّحَرُّكِ إِلاَّ مَكَانُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى فَخِذِي فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَصْبَحَ عَلَى غَيْرِ مَاءٍ فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ التَّيَمُّمِ فَتَيَمَّمُوا فَقَالَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ مَا هِيَ بِأَوَّلِ بَرَكَتِكُمْ يَا آلَ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ فَبَعَثْنَا الْبَعِيرَ الَّذِي كُنْتُ عَلَيْهِ فَإِذَا الْعِقْدُ تَحْتَه"
4608- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَمْرٌو أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْقَاسِمِ حَدَّثَهُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا سَقَطَتْ قِلاَدَةٌ لِي بِالْبَيْدَاءِ وَنَحْنُ دَاخِلُونَ الْمَدِينَةَ فَأَنَاخَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَزَلَ فَثَنَى رَأْسَهُ فِي حَجْرِي رَاقِدًا أَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ فَلَكَزَنِي لَكْزَةً شَدِيدَةً وَقَالَ حَبَسْتِ النَّاسَ فِي قِلاَدَةٍ فَبِي الْمَوْتُ لِمَكَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ أَوْجَعَنِي ثُمَّ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَيْقَظَ وَحَضَرَتْ الصُّبْحُ فَالْتُمِسَ الْمَاءُ فَلَمْ يُوجَدْ فَنَزَلَتْ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ} الآيَةَ فَقَالَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ لَقَدْ بَارَكَ اللَّهُ لِلنَّاسِ فِيكُمْ يَا آلَ أَبِي بَكْرٍ مَا أَنْتُمْ إِلاَّ بَرَكَةٌ لَهُم"
قوله: "باب قوله {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} كذا في الأصول، وزعم ابن التين وتبعه بعض الشراح المتأخرين أنه وقع هنا "فإن لم تجدوا ماء" ورد عليه بأن التلاوة "فلم تجدوا ماء" وهذا الذي أشار إليه إنما وقع في كتاب الطهارة، وهو في بعض الروايات دون بعض كما تقدم التنبيه عليه. قوله: "تيمموا تعمدوا، آمين عامدين، أممت وتيممت واحد" قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} أي فتعمدوا. وقال في قوله تعالى: {وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} أي ولا عامدين، ويقال أممت، وبعضهم يقول تيممت، قال الشاعر:
إني كذاك إذا ما ساءني بلد ... يممت صدر بعيري غيره بلدا
" تنبيه " : قرأ الجمهور {وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ} بإثبات النون، وقرأ الأعمش بحذف النون مضافا كقوله محلى الصيد. قوله: "وقال ابن عباس لمستم وتمسوهن، واللاتي دخلتم بهن، والإفصاء النكاح" أما قوله: "لمستم" فروى إسماعيل القاضي في "أحكام القرآن" من طريق مجاهد عن ابن عباس في قوله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} قال: هو الجماع. وأخرجه ابن أبي حاتم من طريق سعيد بن جبير بإسناد صحيح، وأخرجه عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن ابن عباس قال: هو الجماع، ولكن الله يعفو ويكنى. وأما قوله: { تَمَسُّوهُنَّ} فروى ابن أبي حاتم من طريق عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى: { مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} أي تنكحوهن. وأما قوله: {دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} فروى ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: { اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} قال: الدخول النكاح. وأما قوله: "والإفضاء" فروى ابن أبي حاتم من طريق بكر بن عبد الله المزني عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} قال: الإفضاء الجماع. وروى عبد بن حميد من طريق عكرمة عن ابن عباس قال: الملامسة والمباشرة والإفضاء والرفث والغشيان والجماع كله النكاح، ولكن الله يكنى. وروى عبد الرزاق من طريق بكر المزني عن ابن عباس: إن الله حيي كريم يكنى عما شاء، فذكر مثله. لكن قال: "التغشي" بدل الغشيان، وإسناده صحيح. قال الإسماعيلي: أراد بالتغشي قوله تعالى :{فَلَمَّا تَغَشَّاهَا} وسيأتي شيء من هذا في النكاح. والذي يتعلق =

26.

مجلد26. أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ)
------

بالباب قوله: "لمَسْتُم" وهي قراءة الكوفيين حمزة والكسائي والأعمش ويحيى بن وثاب، وخالفهم عاصم من الكوفيين فوافق أهل الحجاز فقرءوا {أَوْ لامَسْتُمُ} بالألف ووافقهم أبو عمرو بن العلاء من البصريين. ذكر المصنف حديث عائشة في سبب نزول الآية المذكورة من وجهين، وقد تقدم الكلام عليها مستوفي في كتاب. التيمم، واستدل به على أن قيام الليل لم يكن واجبا عليه صلى الله عليه وسلم، وتعقب باحتمال أن يكون صلى الله عليه وسلم صلى أول ما نزل ثم نام، وفيه نظر لأن التهجد القيام إلى الصلاة بعد هجعة، ثم يحتمل أنه هجع فلم ينتقض وضوءه لأن قلبه لا ينام، ثم قام فصلى ثم نام، والله أعلم.

(8/273)


باب {فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون}
...
4- باب {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ}
4609- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ مُخَارِقٍ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ سَمِعْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ شَهِدْتُ مِنْ الْمِقْدَادِ ح و حَدَّثَنِي حَمْدَانُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ حَدَّثَنَا الأَشْجَعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مُخَارِقٍ عَنْ طَارِقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ الْمِقْدَادُ يَوْمَ بَدْرٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا لاَ نَقُولُ لَكَ كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ} وَلَكِنْ امْضِ وَنَحْنُ مَعَكَ فَكَأَنَّهُ سُرِّيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَوَاهُ وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مُخَارِقٍ عَنْ طَارِقٍ أَنَّ الْمِقْدَادَ قَالَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم"
قوله: "باب قوله {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ} كذا للمستملي، ولغيره: "باب فاذهب إلخ" وأغرب الداودي فقال: مرادهم بقولهم "وربك" أخوه هارون لأنه كان أكبر منه سنا، وتعقبه ابن التين بأنه خلاف قول أهل التفسير كلهم. قوله: "وحدثني حمدان بن عمر" هو أبو جعفر البغدادي واسمه أحمد وحمدان لقبه، وليس له في البخاري إلا هذا الموضع، وهو من صغار شيوخه وعاش بعد البخاري سنتين، وقد تقدم الكلام على الحديث في غزوة بدر. قوله: "ورواه وكيع عن سفيان إلخ" يريد بذلك أن صورة سياقه أنه مرسل، بخلاف سياق الأشجعي، لكن استظهر المصنف لرواية الأشجعي الموصولة برواية إسرائيل التي ذكرها قبل. وطريق وكيع هذه وصلها أحمد وإسحاق في مسنديهما عنه، وكذا أخرجها ابن أبي خيثمة من طريقه.
" تنبيه " : وقع قوله: "ورواه وكيع إلخ" مقدما في الباب على بقية ما فيه عند أبي ذر، مؤخرا عند الباقين، وهو أشبه بالصواب.

(8/273)


5- باب {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا} إِلَى قَوْلِهِ {أَوْ يُنْفَوْا مِنْ الأَرْضِ} الْمُحَارَبَةُ لِلَّهِ الْكُفْرُ بِهِ
4610- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيُّ حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ قَالَ حَدَّثَنِي سَلْمَانُ أَبُو رَجَاءٍ مَوْلَى أَبِي قِلاَبَةَ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ أَنَّهُ كَانَ جَالِسًا خَلْفَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَذَكَرُوا وَذَكَرُوا فَقَالُوا وَقَالُوا قَدْ أَقَادَتْ بِهَا الْخُلَفَاءُ فَالْتَفَتَ إِلَى أَبِي قِلاَبَةَ وَهْوَ خَلْفَ ظَهْرِهِ فَقَالَ مَا تَقُولُ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ زَيْدٍ أَوْ قَالَ مَا تَقُولُ يَا أَبَا قِلاَبَةَ قُلْتُ مَا عَلِمْتُ نَفْسًا حَلَّ قَتْلُهَا فِي الإِسْلاَمِ إِلاَّ رَجُلٌ زَنَى بَعْدَ إِحْصَانٍ أَوْ قَتَلَ نَفْسًا

(8/273)


6- باب {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ}
4611- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ أَخْبَرَنَا الْفَزَارِيُّ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كَسَرَتْ الرُّبَيِّعُ وَهْيَ عَمَّةُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ثَنِيَّةَ جَارِيَةٍ مِنْ الأَنْصَارِ فَطَلَبَ الْقَوْمُ الْقِصَاصَ فَأَتَوْا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقِصَاصِ فَقَالَ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ عَمُّ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ لاَ وَاللَّهِ لاَ تُكْسَرُ سِنُّهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَا أَنَسُ كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ" فَرَضِيَ الْقَوْمُ وَقَبِلُوا الأَرْشَ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لاَبَرَّه"

(8/274)


قوله: "باب قوله {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} كذا للمستملي، ولغيره: "باب والجروح قصاص" وأورد فيه حديث أنس "أن الربيع" أي بالتشديد عمته "كسرت ثنية جارية" وسيأتي شرحه مستوفي في الديات.
" تنبيه " : الفزاري المذكور في هذا الإسناد هو مروان بن معاوية، ووهم من زعم أنه أبو إسحاق ".

(8/275)


باب {يا أيها الرسول بلغ ما أرسل إليك من ربك}
...
7 - باب {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} الآية"
4612- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ إِسْمَاعِيلَ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَمَ شَيْئًا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَقَدْ كَذَبَ وَاللَّهُ يَقُولُ: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} الآية.
قوله باب {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} ذكر فيه طرفا من حديث عائشة من "حدثك أن محمد كتم شيئا مما انزل الله عليه فقد كذب" وسيأتي بتمامه مع كمال شرحه في كتاب التوحيد إن شاء الله تعالى

(8/275)


8- باب {لاَ يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ}
4613- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ سَلَمَةَ حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ سُعَيْرٍ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ {لاَ يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} فِي قَوْلِ الرَّجُلِ لاَ وَاللَّهِ وَبَلَى وَاللَّه"
[الحديث 4613- طرفه في: 6663]
4614- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ ابْنُ أَبِي رَجَاءٍ حَدَّثَنَا النَّضْرُ عَنْ هِشَامٍ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ أَبَاهَا كَانَ لاَ يَحْنَثُ فِي يَمِينٍ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ لاَ أَرَى يَمِينًا أُرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلاَّ قَبِلْتُ رُخْصَةَ اللَّهِ وَفَعَلْتُ الَّذِي هُوَ خَيْر"
[الحديث 4616- طرفه في: 6631]
قوله: "باب قوله {لاَ يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} سقط "باب" قوله: "لغير أبي ذر، وفسرت عائشة لغو اليمين بما يجري على لسان المكلف من غير قصد، وقيل هو الحلف على غلبة الظن، وقيل في الغضب، وقيل في المعصية، وفيه خلاف آخر سيأتي بيانه في الأيمان، والنذور إن شاء الله تعالى. وقولها "لا والله وبلى والله" أي كل واحد منهما إذا قالها لغو، فلو أن رجلا قال الكلمتين معا فالأولى لغو والثانية منعقدة لأنها استدراك مقصودة، قاله الماوردي. قوله: "حدثنا علي بن عبد الله" كذا لأبي ذر عن الكشميهني والحموي، وله عن المستملي: "حدثنا علي بن سلمة" وهي رواية الباقين إلا النسفي فقال: "حدثنا علي" فلم ينسبه. وعلي بن سلمة هذا يقال له اللبقي بفتح اللام والموحدة الخفيفة بعدها قاف خفيفة وهو ثقة من صغار شيوخ البخاري، ولم يقع له عنده ذكر إلا في هذا الموضع وقد نبهت على موضع آخر في الشفعة، ويأتي آخر في الدعوات. قوله: "حدثنا مالك بن سعير" بمهملتين مصغر، ضعفه أبو داود. وقال أبو حاتم وأبو زرعة والدار قطني: صدوق وليس له في البخاري سوى هذا الحديث وآخر في الدعوات،

(8/275)


باب {لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم}
...
9- باب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ}
4615- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ إِسْمَاعِيلَ عَنْ قَيْسٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنَّا نَغْزُو مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسَ مَعَنَا نِسَاءٌ فَقُلْنَا أَلاَ نَخْتَصِي فَنَهَانَا عَنْ ذَلِكَ فَرَخَّصَ لَنَا بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ نَتَزَوَّجَ الْمَرْأَةَ بِالثَّوْبِ ثُمَّ قَرَأَ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ}
[الحديث 4615- طرفه في: 5071، 5075]
قوله: "باب قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} سقط "باب قوله: "لغير أبي ذر. قوله: "خالد" هو ابن عبد الله الطحان، وإسماعيل هو ابن أبي خالد، وقيس هو ابن أبي حازم، وعبد الله هو ابن مسعود. وسيأتي شرح الحديث في كتاب النكاح وفي الترمذي محسنا من حديث ابن عباس "أن رجلا أتي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إذا أكلت من هذا اللحم انتشرت، وإني حرمت علي اللحم فنزلت" وروى ابن أبي حاتم من وجه آخر عن ابن عباس أنها نزلت في ناس قالوا "نترك شهوات الدنيا ونسيح في الأرض" الحديث. وسيأتي ما يتعلق به أيضا في كتاب النكاح إن شاء الله تعالى.

(8/276)


10- باب {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ}
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {الأَزْلاَمُ} الْقِدَاحُ يَقْتَسِمُونَ بِهَا فِي الأُمُورِ وَالنُّصُبُ أَنْصَابٌ يَذْبَحُونَ عَلَيْهَا وَقَالَ غَيْرُهُ الزَّلَمُ الْقِدْحُ لاَ رِيشَ لَهُ وَهُوَ وَاحِدُ الأَزْلاَمِ وَالاسْتِقْسَامُ أَنْ يُجِيلَ الْقِدَاحَ فَإِنْ نَهَتْهُ انْتَهَى وَإِنْ أَمَرَتْهُ فَعَلَ مَا تَأْمُرُهُ بِهِ يُجِيلُ يُدِيرُ وَقَدْ أَعْلَمُوا الْقِدَاحَ أَعْلاَمًا بِضُرُوبٍ يَسْتَقْسِمُونَ بِهَا وَفَعَلْتُ مِنْهُ قَسَمْتُ وَالْقُسُومُ الْمَصْدَرُ
4616- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ حَدَّثَنِي نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ وَإِنَّ فِي الْمَدِينَةِ يَوْمَئِذٍ لَخَمْسَةَ أَشْرِبَةٍ مَا فِيهَا

(8/276)


11- باب {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا -إِلَى قَوْلِهِ - وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}
4620- حدثنا أبو النعمان حدثنا حماد بن زيد حدثنا ثابت عن أنس رضي الله عنه ثم أن الخمر التي أهريقت الفضيخ وزادني محمد عن أبي النعمان قال كنت ساقي القوم أبي طلحة فنزل تحريم الخمر فأمر مناديا فنادى فقال أبو طلحة أخرج فانظر ما هذا الصوت قال فخرجت فقلت هذا منادي ينادي ألا إن الخمر قد حرمت فقال لي اذهب فأهرقها قال فجرت في سكك المدينة قال وكانت خمرهم يومئذ الفضيخ فقال بعض القوم قتل قوم وهي في بطونهم قال فأنزل الله {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} "

(8/278)


قوله: "باب {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} الآية" كذا لأبي ذر، ولغيره: "إلى قوله: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} وذكر في حديث أنس" أن الخمر التي هريقت الفضيخ" وسيأتي شرحه الأشربة. وقوله: "وزادني محمد البيكندي عن أبي النعمان" كذا ثبت لأبي ذر وسقط لغيره البيكندي، ومراده أن البيكندي سمعه من شيخهما أبي النعمان بالإسناد المذكور فزاده فيه زيادة. والحاصل أن البخاري سمع الحديث من أبي النعمان مختصرا ومن محمد بن سلام البيكندي عن أبي النعمان مطولا، وتصرف الزركشي فيه غافلا عن زيادة أبي ذر فقال: القائل "وزادني" هو الفربري، ومحمد هو البخاري. وليس كما ظن رحمه الله وإنما هو كما قدمته. قوله: "فنزلت تحريم الخمر فأمر مناديا" الآمر بذلك هو النبي صلى الله عليه وسلم، والمنادي لم أر التصريح باسمه، والوقت الذي وقع ذلك فيه زعم الواحدي أنه عقب قول حمزة "إنما أنتم عبيد لأبي" وحديث جابر يرد عليه. والذي يظهر أن تحريمها كان عام الفتح سنة ثمان، لما روى أحمد من طريق عبد الرحمن بن وعلة قال: "سألت ابن عباس عن بيع الخمر فقال: "كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم صديق من ثقيف أو دوس فلقيه يوم الفتح براوية خمر يهديها إليه، فقال: يا فلان أما علمت أن الله حرمها؟ فأقبل الرجل على غلامه فقال: بعها. فقال: إن الذي حرم شربها حرم بيعها " . وأخرجه مسلم من وجه آخر عن أبي وعلة نحوه، ولكن ليس فيه تعيين الوقت. وروى أحمد من طريق نافع بن كيسان الثقفي عن أبيه "أنه كان يتجر في الخمر، وأنه أقبل من الشام فقال: يا رسول الله إني جئتك بشراب جيد، فقال: يا كيسان إنها حرمت بعدك، قال: فأبيعها؟ قال، إنها حرمت وحرم ثمنها" وروى أحمد وأبو يعلى من حديث تميم الداري أنه كان يهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم كل عام رواية خمر، فلما كان عام حرمت جاء براوية فقال: أشعرت أنها قد حرمت بعدك؟ قال: أفلا أبيعها وأنتفع بثمنها؟ فنهاه. ويستفاد من حديث كيسان تسمية المبهم في حديث ابن عباس، ومن حديث تميم تأييد الوقت المذكور فإن إسلام تميم كان بعد الفتح، وقوله: "فقال بعض القوم قتل قوم وهي في بطونهم، فأنزل الله تعالى إلخ" لم أقف على اسم القائل.
" فائدة " : في رواية الإسماعيلي عن ابن ناجية عن أحمد بن عبيدة ومحمد بن موسى عن حماد في آخر هذا الحديث: "قال حماد فلا أدري هذا في الحديث - أي عن أنس - أو قاله ثابت" أي مرسلا يعني قوله: "فقال بعض القوم" إلى آخر الحديث. وكذا عند مسلم عن أبي الربيع الزهراني عن حماد نحو هذا. وتقدم للمصنف في المظالم عن أنس بطوله من طريق عفان عن حماد كما وقع عنده في هذا الباب فالله أعلم. وأخرجه ابن مردويه من طريق قتادة عن أنس بطوله وفيه الزيادة المذكورة. وروى النسائي والبيهقي من طريق ابن عباس قال: "نزل تحريم الخمر في ناس شربوا، فلما ثملوا وعبثوا، فلما صحوا جعل بعضهم يرى الأثر بوجه الآخر فنزلت، فقال ناس من المكلفين هي رجس وهي في بطن فلان وقد قتل بأحد، فنزلت {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ} إلى آخرها. وروى البزار من حديث جابر أن الذين قالوا ذلك كانوا من اليهود، وروى أصحاب السنن من طريق أبي ميسرة عن عمر أنه قال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت الآية التي في البقرة {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} فقرئت عليه، فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا، فنزلت التي في النساء {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} فقرئت عليه، فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا، فنزلت التي في المائدة {فَاجْتَنِبُوهُ} - إلى قوله: {مُنْتَهُونَ} فقال عمر: انتهينا انتهينا" وصححه علي بن المديني والترمذي. وأخرج أحمد من حديث أبي هريرة نحوه دون قصة عمر، لكن قال عند نزول آية البقرة" فقال الناس: ما حرم علينا، فكانوا

(8/279)


يشربون، حتى أم رجل أصحابه في المغرب فخلط في قراءته فنزلت الآية التي في النساء، فكانوا يشربون ولا يقرب الرجل الصلاة حتى يفيق، ثم نزلت آية المائدة فقالوا: يا رسول الله ناس قتلوا في سبيل الله وماتوا على فرشهم وكانوا يشربونها، فأنزل الله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ} الآية. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو حرم عليهم لتركوه كما تركتموه" وفي مسند الطيالسي من حديث ابن عمر نحوه. وقال: "في الآية الأولى قيل حرمت الخمر، فقالوا دعنا يا رسول الله ننتفع بها، وفي الثانية فقيل حرمت الخمر، فقالوا لا أنا لا نشربها قرب الصلاة. وقال في الثالثة فقالوا يا رسول الله حرمت الخمر" قال ابن التين وغيره: في حديث أنس وجوب قبول خبر الواحد والعمل به في النسخ وغيره، وفيه عدم مشروعية تخليل الخمر، لأنه لو جاز لما أراقوها، وسيأتي مزيد لذلك في الأشربة إن شاء الله تعالى. "تنبيه" : في رواية عبد العزيز بن صهيب "أن رجلا أخبرهم أن الخمر حرمت فقالوا: أرق يا أنس" وفي رواية ثابت عن أنس "أنهم سمعوا المنادي فقال أبو طلحة: أخرج يا أنس فانظر ما هذا الصوت" وظاهرهما التعارض لأن الأول يشعر بأن المنادي بذلك شافههم، والثاني يشعر بأن الذي نقل لهم ذلك غير أنس، فنقل ابن التين عن الداودي أنه قال لا اختلاف بين الروايتين، لأن الآتي أخبر أنسا وأنس أخبر القوم. وتعقبه ابن التين بأن نص الرواية الأولى أن الآتي أخبر القوم مشافهة بذلك. قلت: فيمكن الجمع بوجه آخر، وهو أن المنادي غير الذي أخبرهم، أو أن أنسا لما أخبرهم عن المنادي جاء المنادي أيضا في أثره فشافههم.

(8/280)


12- باب {لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}
4621- حَدَّثَنَا مُنْذِرُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْجَارُودِيُّ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مُوسَى بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُطْبَةً مَا سَمِعْتُ مِثْلَهَا قَطُّ قَالَ: "لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلاً وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيراً" قَالَ فَغَطَّى أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وُجُوهَهُمْ لَهُمْ خَنِينٌ فَقَالَ رَجُلٌ مَنْ أَبِي قَالَ فُلاَنٌ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ {لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} رَوَاهُ النَّضْرُ وَرَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ عَنْ شُعْبَة"
4622- حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ سَهْلٍ حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ حَدَّثَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ حَدَّثَنَا أَبُو الْجُوَيْرِيَةِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ كَانَ قَوْمٌ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتِهْزَاءً فَيَقُولُ الرَّجُلُ مَنْ أَبِي وَيَقُولُ الرَّجُلُ تَضِلُّ نَاقَتُهُ أَيْنَ نَاقَتِي فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ هَذِهِ الآيَةَ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} حَتَّى فَرَغَ مِنْ الآيَةِ كُلِّهَا"
قوله: "باب قوله {لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} سقط" باب قوله: "لغير أبي ذر، وقد تعلق بهذا النهي من كره السؤال عما لم يقع. وقد أسنده الدارمي في مقدمة كتابه عن جماعة من الصحابة والتابعين. وقال ابن العربي: اعتقد قوم من الغافلين منع أسئلة النوازل حتى تقع تعلقا بهذه الآية، وليس كذلك، لأنها مصرحة بأن المنهي عنه ما تقع المساءة في جوابه، ومسائل النوازل ليست كذلك. وهو كما قال، إلا أنه أساء في قوله الغافلين على

(8/280)


عادته كما نبه عليه القرطبي. وقد روى مسلم عن سعد بن أبي وقاص رفعه: "أعظم المسلمين بالمسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته" وهذا يبين المراد من الآية، ليس مما أشار إليه ابن العربي في شيء. قوله: "حدثنا منذر بن الوليد بن عبد الرحمن" أي ابن حبيب بن علياء بن حبيب بن الجارود العبدي البصري الجارودي نسبة إلى جده الأعلى، وهو ثقة، وليس له في البخاري إلا هذا الحديث وآخر في كفارات الأيمان، وأبوه ما له في البخاري ذكر إلا في هذا الموضع، ولا رأيت عنه راويا إلا ولده، وحديثه هذا في المتابعات، فإن المصنف أورده في الاعتصام من رواية غيره كما سأبينه.
" تنبيه " : وقع في كلام أبي علي الغساني فيما حكاه الكرماني أن البخاري روى هذا الحديث عن محمد غير منسوب عن منذر هذا وأن محمدا المذكور هو ابن يحيى الذهلي، ولم أر ذلك في شيء من الروايات التي عندنا من البخاري، وأظنه وقع في بعض النسخ "حدثنا محمد" غير منسوب والمراد به البخاري المصنف والقائل ذلك الراوي عنه وظنوه شيخا للبخاري، وليس كذلك، والله أعلم. قوله: "عن أنس" في رواية روح بن عبادة عن شعبة في الاعتصام "أخبرني موسى قال سمعت أنس بن مالك يقول" . قوله: "خطب النبي صلى الله عليه وسلم خطبة ما سمعت مثلها قط قال: لو تعلمون ما أعلم" وقع عند مسلم من طريق النضر بن شميل عن شعبة في أوله زيادة يظهر منها سبب الخطبة ولفظه: "بلغ صلى الله عليه وسلم عن أصحابه شيء، فخطب فقال: عرضت على الجنة والنار فلم أر كاليوم في الخير والشر، ولن تعلمون ما أعلم" . قوله: "لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا ، قال فغطى" في رواية النضر بن شميل "قال فما أتى على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم كان أشد من ذلك، غطوا رءوسهم" . قوله: "لهم حنين" بالحاء المهملة للأكثر، وللكشهميني بالخاء المعجمة، والأول الصوت الذي يرتفع بالبكاء من الصدر، والثاني من الأنف. وقال الخطابي: الحنين بكاء دون الانتحاب، وقد يجعلون الحنين والخنين واحدا إلا أن الحنين من الصدر أي المهملة والحنين من الأنف بالمعجمة. وقال عياض 13 قوله: "فقال رجل من أبي؟ قال: أبوك فلان" تقدم في العلم أنه عبد الله بن حذافة. وفي رواية للعسكري "نزلت في قيس بن حذافة" وفي رواية للإسماعيلي يأتي التنبيه عليها في كتاب الفتن "خارجة بن حذافة" والأول أشهر، وكلهم له صحبة، وتقدم فيه أيضا زيادة من حديث أبي موسى وأحدث بشرحه على كتاب الاعتصام، وسيأتي إن شاء الله تعالى، فاقتصر هنا على بيان الاختلاف في سبب نزول الآية. قوله: "فنزلت هذه الآية" هكذا أطلق ولم يقع ذلك في سياق الزهري عن أنس مع أنه أشبع سياقا من رواية موسى بن أنس كما تقدم في أوائل المواقيت، ولذا لم يذكر ذلك هلال بن علي عن أنس كما سيأتي في كتاب الرقاق. ووقع في الفتن من طريق قتادة عن أنس في آخر هذا الحديث بعد أن ساقه مطولا قال: "فكان قتادة يذكر هذا الحديث عند هذه الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ} وروى ابن أبي حاتم من وجه آخر عن قتادة عن أنس قال: "سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحفوه بالمسألة، فصعد المنبر فقال: لا تسألوني عن شيء إلا أنبأتكم به ، فجعلت ألتفت عن يمين وشمال فإذا كان رجل لاف ثوبه برأسه يبكي" الحديث، وفيه قصة عبد الله بن حذافة، وقول عمر روى الطبري من طريق أبي صالح عن أبي هريرة قال: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم غضبان محمار وجهه حتى جلس على المنبر، فقام إليه رجل فقال: "أين أنا قال: في النار. فقام آخر فقال: من أبي؟ فقال: حذافة" . فقام عمر - فذكر كلامه وزاد فيه - وبالقرآن إماما، قال فسكن غضبه ونزلت هذه الآية" وهذا شاهد جيد لحديث موسى بن أنس
ـــــــ
1 بياض في الأصل.

(8/281)


المذكور. وأما ما روى الترمذي من حديث علي قال: "لما نزلت: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} قالوا: يا رسول الله في كل عام؟ فسكت. ثم قالوا: يا رسول الله في كل عام؟ فقال: لا، ولو قلت نعم لوجبت. فأنزل الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا} فهذا لا ينافي حديث أبي هريرة لاحتمال أن تكون نزلت في الأمرين، ولعل مراجعتهم له في ذلك هي سبب غضبه. وقد روى أحمد من حديث أبي هريرة والطبري من حديث أبي أمامة نحو حديث على هذا، وكذا أخرجه من وجه ضعيف ومن آخر منقطع عن ابن عباس، وجاء في سبب نزولها قول ثالث وهو ما يدل عليه حديث ابن عباس في الباب عقب هذا وهو أصح إسنادا، لكن لا مانع أن يكون الجميع سبب نزولها والله أعلم. وجاء في سبب نزولها قولان آخران، فأخرج الطبري وسعيد بن منصور من طريق خصيف عن مجاهد عن ابن عباس: أن المراد بالأشياء البحيرة والوصيلة والسائبة والحام. قال فكان عكرمة يقول: إنهم كانوا يسألون عن الآيات، فنهوا عن ذلك. قال: والمراد بالآيات نحو سؤال قريش أن يجعل الصفا لهم ذهبا، وسؤال اليهود أن ينزل عليهم كتابا من السماء ونحو ذلك. أخرج ابن أبي حاتم من طريق عبد الكريم عن عكرمة قال: "نزلت في الذي سأل عن أبيه. وعن سعيد بن جبير في الذين سألوا عن البحيرة وغيرها، وعن مقسم فيما سأل الأمم أنبياءها عن الآيات. قلت: وهذا الذي قاله محتمل، وكذا ما أخرج ابن أبي حاتم من طريق عطية قال: "نهوا أن يسألوا مثل ما سأل النصارى من المائدة فأصبحوا بها كافرين" وقد رجحه الماوردي، وكأنه من حيث المعنى، لوقوع قصة المائدة في السورة بعد ذلك، واستبعد نزولها في قصة من سأل عن أبيه أو عن الحج كل عام، وهو إغفال منه لما في الصحيح، ورجح ابن المنير نزولها في النهي عن كثرة المسائل عما كان وعما لم يكن، واستند إلى كثير مما أورده المصنف في "باب ما يكره من كثرة السؤال" في كتاب الاعتصام وهو متجه، لكن لا مانع أن تتعدد الأسباب، وما في الصحيح أصح. وفي الحديث إيثار الستر على المسلمين، وكراهة التشديد عليهم، وكراهة التنقيب عما لم يقع، وتكلف الأجوبة لمن يقصد بذلك التمرن على التفقه، فالله أعلم. وسيأتي مزيد لذلك في كتاب الاعتصام إن شاء الله تعالى. قوله: "رواه النضر" هو ابن شميل "وروح بن عبادة عن شعبة" أي بإسناده، ورواية النضر وصلها مسلم، ورواية روح بن عبادة وصلها المؤلف في كتاب الاعتصام. قوله: "حدثني الفضل بن سهل" هو البغدادي، وليس له في البخاري سوى هذا الموضع وشيء تقدم الصلاة وأبو النضر هاشم بن القاسم، وأبو خيثمة هو زهير بن معاوية، وأبو الجويرية بالجيم مصغر اسمه حطان بكسر المهملة وتشديد الطاء ابن خفاف بضم المعجمة وفاءين الأولى خفيفة، ثقة ما له في البخاري سوى هذا الحديث وآخر تقدم في الزكاة ويأتي في الأشربة له ثالث. قوله: "عن ابن عباس" في رواية ابن أبي حاتم من طريق أبي النضر عن أبي خيثمة حدثنا أبو الجويرية سمعت أعرابيا من بني سليم سأله يعني ابن عباس. قوله: "كان قوم يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم استهزاء" قد تقدم طريق الجمع بينه وبين الذي قبله، والحاصل أنها نزلت بسبب كثرة المسائل إما على سبيل الاستهزاء أو الامتحان وإما على سبيل التعنت عن الشيء الذي لو لم تسأل عنه لكان على الإباحة، وفي أول رواية الطبري من طريق حفص بن نفيل عن أبي خيثمة عن أبي الجويرية" قال ابن عباس: قال أعرابي من بني سليم: هل تدري فيم أنزلت هذه الآية" فذكره ووقع عند أبي نعيم في "المستخرج" من وجه آخر عن أبي خيثمة عن أبي الجويرية عن ابن عباس أنه سئل عن الضالة فقال ابن عباس: "من أكل الضالة فهو ضال" .

(8/282)


13- باب {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلاَ سَائِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ} {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ} يَقُولُ قَالَ اللَّهُ وَإِذْ هَا هُنَا صِلَةٌ الْمَائِدَةُ أَصْلُهَا مَفْعُولَةٌ كَعِيشَةٍ رَاضِيَةٍ وَتَطْلِيقَةٍ بَائِنَةٍ وَالْمَعْنَى مِيدَ بِهَا صَاحِبُهَا مِنْ خَيْرٍ يُقَالُ مَادَنِي يَمِيدُنِي وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مُتَوَفِّيكَ مُمِيتُكَ
4623- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ الْبَحِيرَةُ الَّتِي يُمْنَعُ دَرُّهَا لِلطَّوَاغِيتِ فَلاَ يَحْلُبُهَا أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ وَالسَّائِبَةُ كَانُوا يُسَيِّبُونَهَا لِآلِهَتِهِمْ لاَ يُحْمَلُ عَلَيْهَا شَيْءٌ قَالَ وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ عَامِرٍ الْخُزَاعِيَّ يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ كَانَ أَوَّلَ مَنْ سَيَّبَ السَّوَائِبَ" وَالْوَصِيلَةُ النَّاقَةُ الْبِكْرُ تُبَكِّرُ فِي أَوَّلِ نِتَاجِ الإِبِلِ ثُمَّ تُثَنِّي بَعْدُ بِأُنْثَى وَكَانُوا يُسَيِّبُونَهَا لِطَوَاغِيتِهِمْ إِنْ وَصَلَتْ إِحْدَاهُمَا بِالأُخْرَى لَيْسَ بَيْنَهُمَا ذَكَرٌ وَالْحَامِ فَحْلُ الإِبِلِ يَضْرِبُ الضِّرَابَ الْمَعْدُودَ فَإِذَا قَضَى ضِرَابَهُ وَدَعُوهُ لِلطَّوَاغِيتِ وَأَعْفَوْهُ مِنْ الْحَمْلِ فَلَمْ يُحْمَلْ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَسَمَّوْهُ الْحَامِيَ و قَالَ لِي أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ سَمِعْتُ سَعِيدًا قَالَ يُخْبِرُهُ بِهَذَا قَالَ وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَهُ وَرَوَاهُ ابْنُ الْهَادِ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم"
4624- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي يَعْقُوبَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْكَرْمَانِيُّ حَدَّثَنَا حَسَّانُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رَأَيْتُ جَهَنَّمَ يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَرَأَيْتُ عَمْرًا يَجُرُّ قُصْبَهُ وَهْوَ أَوَّلُ مَنْ سَيَّبَ السَّوَائِب"
قوله: "باب {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلاَ سَائِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ} أي ما حرم، ولم يرد حقيقة الجعل لأن الكل خلقه وتقديره، ولكن المراد بيان ابتداعهم ما صنعوه من ذلك. قوله: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ} يقول قال الله، وإذ هاهنا صلة" كذا ثبت هذا وما بعده هنا، وليس بخاص به وهو على ما قدمنا من ترتيب بعض الرواة، وهذا الكلام ذكره أبو عبيدة في قوله تعالى : {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} قال مجازه يقول الله، وإذ من حروف الزوائد، وكذلك قوله {وَإِذْ عَلَّمْتُكَ} أي وعلمتك. قوله: "المائدة أصلها مفعولة كعيشة راضية وتطليقة بائنة، والمعنى ميد بها صاحبها من خير يقال مادني يميدني" قال ابن التين: هو قول أبي عبيدة. وقال غيره: هي من ماد يمتد إذا تحرك، وقيل من ماد يمتد إذا أطعم. قال ابن التين: وقوله تطليقة بائنة غير واضح إلا أن يريد أن الزوج أبان المرأة بها، وإلا فالظاهر أنها فرقت بين الزوجين فهي فاعل على بابها. قوله: "وقال ابن عباس: {مُتَوَفِّيكَ} مميتك" هكذا ثبت هذا هنا، وهذه اللفظة إنما هي في سورة آل عمران، فكأن بعض الرواة ظنها من سورة المائدة فكتبها فيها، أو ذكرها المصنف هنا لمناسبة قوله في هذه السورة { فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ} ثم ذكر المصنف حديث ابن

(8/283)


شهاب عن سعيد بن المسيب في تفسير البحيرة والسائبة، والاختلاف في وقفه ورفعه. قوله: "البحيرة التي يمنع درها للطواغيت" وهي الأصنام، فلا يحلبها أحد من الناس، والبحيرة فعيلة بمعنى مفعولة، وهي التي بحرت أذنها أي حرمت. قال أبو عبيدة: جعلها قوم من الشاة خاصة إذا ولدت خمسة أبطن بحروا أذنها أي شقوها وتركت فلا يمسها أحد. وقال آخرون: بل البحيرة الناقة كذلك، وخلوا عنها فلم تركب ولم يضربها فحل، وأما قوله: "فلا يحلبها أحد من الناس" فهكذا أطلق نفي الحلب، وكلام أبي عبيدة يدل على أن المنفي إنما هو الشرب الخاص، قال أبو عبيدة: كانوا يحرمون وبرها ولحمها وظهرها ولبنها على النساء ويحلون ذلك للرجال، وما ولدت فهو بمنزلتها، وإن ماتت اشترك الرجال والنساء في أكل لحمها. وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: البحيرة من الإبل كانت الناقة إذا نتجت خمس بطون فإن كان الخامس ذكرا كان للرجال دون النساء، وإن كانت أنثى بتكت أذنها ثم أرسلت فلم يجزوا لها وبرا ولم يشربوا لها لبنا ولم يركبوا لها ظهرا، وإن تكن ميتة فهم فيه شركاء الرجال والنساء. ونقل أهل اللغة في تفسير البحيرة هيأت أخرى تزيد بما ذكرت على العشر. وهي فعيلة بمعنى مفعولة، والبحر شق الأذن، كان ذلك علامة لها. قوله: "والسائبة كانوا يسيبونها لآلهتهم فلا يحمل عليها شيء" قال أبو عبيدة: كانت السائبة من جميع الأنعام، وتكون من النذور للأصنام فتسيب فلا تحبس عن مرعى ولا عن ماء ولا يركبها أحد، قال: وقيل السائبة لا تكون إلا من الإبل، كان الرجل ينذر إن برئ من مرضه أو قدم من سفره ليسيبن بعيرا. وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: السائبة كانوا يسيبون بعض إبلهم فلا تمنع حوضا أن تشرب فيه. قوله: "قال وقال أبو هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رأيت عمر بن عامر الخزاعي إلخ" هكذا وقع في الرواية إيراد القدر المرفوع من الحديث في أثناء الموقوف، وسأبين ما فيه بعد. قوله: "والوصيلة الناقة البكر تبكر في أول نتاج الإبل بأنثى، ثم تثنى بعد بأنثى" هكذا أورده متصلا بالحديث المرفوع، وهو يوهم أنه من جملة المرفوع، وليس كذلك، بل هو بقية تفسير سعيد بن المسيب، والمرفوع من الحديث إنما هو ذكر عمرو بن عامر فقط، وتفسير البحيرة وسائر الأربعة المذكورة في الآية عن سعيد بن المسيب ووقع في رواية الإسماعيلي من طريق يعقوب بن إبراهيم بن سعد عن أبيه بهذا الإسناد مثل رواية الباب، إلا أنه بعد إيراد المرفوع قال: "وقال ابن المسيب: والوصيلة الناقة إلخ" فأوضح أن التفسير جميعه موقوف، وهذا هو المعتمد، وهكذا أخرجه ابن مردويه من طريق يحيى بن سعيد وعبيد الله بن زياد عن ابن شهاب مفصلا. قوله: "أن وصلت" أي من أجل. وقال أبو عبيدة: كانت السائبة مهما ولدته فهو بمنزلة أمها إلى ستة أولاد، فإن ولدت السابع أنثيين تركتا فلم تذبحا، وإن ولدت ذكرا ذبح وأكله الرجال دون النساء، وكذا إذا ولدت ذكرين، وإن أتت بتوأم ذكر وأنثى سموا الذكر وصيلة فلا يذبح لأجل أخته، وهذا كله إن لم تلد ميتا، فإن ولدت بعد البطن السابع ميتا أكله النساء دون الرجال. وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: الوصيلة الشاة كانت إذا ولدت سبعة فإن كان السابع ذكرا ذبح وأكل وإن كان أنثى تركت وإن كان ذكرا وأنثى قالوا: وصلت أخاها فترك ولم يذبح. قوله: "والحام فحل الإبل يضرب الضراب المعدود إلخ" وكلام أبي عبيدة يدل على أن الحام إنما يكون من ولد السائبة. وقال أيضا: كانوا إذا ضرب فحل من ولد البحيرة فهو عندهم حام. وقال أيضا: الحام من فحول الإبل خاصة إذا نتجوا منه عشرة أبطن قالوا: قد حمى ظهره، فأحموا ظهره ووبره وكل شيء منه فلم يركب ولم يطرق. وعرف بهذا بيان العدد المبهم في رواية سعيد. وقيل الحام فحل الإبل إذا ركب ولد ولده، قال الشاعر:

(8/284)


حماها أبو قابوس في غير ملكه ... كما قد حمى أولاد أولاده الفحلا
وقال الفراء: اختلف في السائبة فقيل كان الرجل يسيب من ماله ما شاء يذهب به إلى السدنة وهم الذين يقومون على الأصنام. وقيل: السائبة الناقة إذا ولدت عشرة أبطن كلهن إناث سيبت فلم تركب ولم يجز لها وبر ولم يشرب لها لبن. وإذا ولدت بنتها بحرت أي شقت أذنها، فالبحيرة ابنة السائبة وهي بمنزلة أمها. والوصيلة من الشاة إذا ولدت سبعة أبطن إذا ولدت في آخرها ذكرا وأنثى قيل وصلت أخاه فلا تشرب النساء لبن الأم وتشربه الرجال وجرت مجرى السائبة إلا في هذا. وأما الحام فهو فحل الإبل كان إذا لقح ولد ولده قيل حمى ظهره فلا يركب ولا يجز له وبر ولا يمنع من مرعى. قوله: "وقال لي أبو اليمان" عند غير أبي ذر "وقال أبو اليمان" بغير مجاورة. قوله: "سمعت سعيدا يخبره بهذا قال وقال أبو هريرة سمعت النبي صلى الله عليه وسلم نحوه" هكذا للأكثر يخبر بصيغة الفعل المضارع من الخبر متصل بهاء الضمير، ووقع لأبي ذر عن الحموي والمستملي بحيرة بفتح الموحدة وكسر المهملة، وكأنه أشار إلى تفسير البحيرة وغيرها كما في رواية إبراهيم بن سعد، وأن المرفوع منه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر عمرو ابن عامر حسب، وهذا هو المعتمد، فإن المصنف أخرجه في مناقب قريش قال حدثنا أبو اليمان أنبأنا شعيب عن الزهري سمعت سعيد بن المسيب قال: البحيرة التي يمنع درها إلخ، لكنه أورده باختصار قال: "وقال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم رأيت عمرو بن عامر إلخ" . قوله: "ورواه ابن الهاد عن ابن شهاب عن سعيد عن أبي هريرة سمعت النبي صلى الله عليه وسلم" أما طريق ابن الهاد فأخرجها ابن مردويه من طريق خالد بن حميد المهري عن ابن الهاد - وهو يزيد بن عبد الله ابن أسامة بن الهاد الليثي - بهذا الإسناد، ولفظ المتن "رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه في النار" وكان أول من سيب السوائب، والسائبة التي كانت تسيب فلا يحمل عليها شيء إلى آخر التفسير المذكور، وقد أخرجه أبو عوانة وابن أبي عاصم في "الأوائل" والبيهقي والطبراني من طريق عن الليث عن ابن الهاد بالمرفوع فقط، وظهر أن في رواية خالد بن حميد إدراجا وأن التفسير من كلام سعيد بن المسيب والله أعلم. قوله في المرفوع "وهو أول من سيب السوائب" زاد في رواية أبي صالح عن أبي هريرة عند مسلم: "وبحر البحيرة وغير دين إسماعيل" وروى عبد الرزاق عن معمر عن يزيد بن أسلم مرسلا "أول من سيب السوائب عمرو بن لحي، وأول من بحر البحائر رجل من بني مدلج جدع أذن ناقته وحرم شرب ألبانها" والأول أصح، والله أعلم. ثم ذكر المصنف حديث عائشة "رأيت جهنم يحطم بعضها بعضا، ورأيت عمرا يجر قصبه في النار، وهو أول من سيب السوائب " هكذا وقع هنا مختصرا، وتقدم في أبواب العمل في الصلاة من وجه آخر عن يونس عن زيد مطولا وأوله "خسفت الشمس، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ سورة طويلة" الحديث وفيه: " لقد رأيت في مقامي هذا كل شيء" وفيه القدر المذكور هنا، وأورده في أبواب الكسوف من وجه آخر عن يونس بدون الزيادة، وكذا من طريق عقيل عن الزهيري، وقد تقدم بيان نسب عمرو الخزاعي في مناقب قريش، وكذا بيان كيفية تغييره لملة إبراهيم عليه السلام ونصبه الأصنام وغير ذلك

(8/285)


باب {ةكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم ....}
...
14- باب {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}

(8/285)


4625- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ أَخْبَرَنَا الْمُغِيرَةُ بْنُ النُّعْمَانِ قَالَ سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ مَحْشُورُونَ إِلَى اللَّهِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاً ثُمَّ قَالَ: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ ثُمَّ قَالَ: "أَلاَ وَإِنَّ أَوَّلَ الْخَلاَئِقِ يُكْسَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِبْرَاهِيمُ أَلاَ وَإِنَّهُ يُجَاءُ بِرِجَالٍ مِنْ أُمَّتِي فَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ فَأَقُولُ يَا رَبِّ أُصَيْحَابِي فَيُقَالُ إِنَّكَ لاَ تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ فَأَقُولُ كَمَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} فَيُقَالُ: إِنَّ هَؤُلاَءِ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ مُنْذُ فَارَقْتَهُم"
قوله: "باب {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ} ذكر فيه حديث ابن عباس "إنكم محشورون إلى الله حفاة" الحديث، وسيأتي شرحه في الرقاق، والغرض منه" فأقول كما قال العبد الصالح: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ} وقوله أصيحابي كذا للأكثر بالتصغير، وللكشميهني بغير تصغير، قال الخطابي: فيه إشارة إلى قلة عدد من وقع لهم ذلك، وإنما وقع لبعض جفاة العرب، ولم يقع من أحد الصحابة المشهورين.

(8/286)


15- باب {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}
قوله: "باب قوله: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} الآية" ذكر فيه حديث ابن عباس المذكور قبل، أورده مختصرا.
4626- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا الْمُغِيرَةُ بْنُ النُّعْمَانِ قَالَ حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّكُمْ مَحْشُورُونَ وَإِنَّ نَاسًا يُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ فَأَقُولُ كَمَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ} إِلَى قَوْلِهِ {الْعَزِيزُ الْحَكِيم} "
قوله: "باب قوله: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} الآية" ذكر فيه حديث ابن عباس المذكور قبل، أورده مختصرا.

(8/286)


6- سورة الأَنْعَامِ
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ} مَعْذِرَتُهُمْ {مَعْرُوشَاتٍ} مَا يُعْرَشُ مِنْ الْكَرْمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ {حَمُولَةً} مَا يُحْمَلُ عَلَيْهَا {وَلَلَبَسْنَا} لَشَبَّهْنَا { لأُنْذِرَكُمْ بِهِ} أَهْلَ مَكَّةَ {يَنْأَوْنَ} يَتَبَاعَدُونَ {تُبْسَلُ} تُفْضَحُ {أُبْسِلُوا} أُفْضِحُوا {بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ} الْبَسْطُ الضَّرْبُ وَقَوْلُهُ {اسْتَكْثَرْتُمْ مِنْ الإِنْسِ} أَضْلَلْتُمْ كَثِيرًا {مِمَّا ذَرَأَ مِنْ الْحَرْثِ} جَعَلُوا لِلَّهِ مِنْ ثَمَرَاتِهِمْ وَمَالِهِمْ نَصِيبًا وَلِلشَّيْطَانِ وَالأَوْثَانِ نَصِيبًا {أَكِنَّةً} وَاحِدُهَا كِنَانٌ {أَمَّا اشْتَمَلَتْ} يَعْنِي هَلْ تَشْتَمِلُ إِلاَّ عَلَى ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى فَلِمَ تُحَرِّمُونَ بَعْضًا وَتُحِلُّونَ بَعْضًا {مَسْفُوحًا} مُهْرَاقًا {صَدَفَ} أَعْرَضَ {أُبْلِسُوا} أُويِسُوا وَ أُبْسِلُوا أُسْلِمُوا {سَرْمَدًا} دَائِمًا {اسْتَهْوَتْهُ} أَضَلَّتْهُ {تَمْتَرُونَ} تَشُكُّونَ {وَقْرٌ} صَمَمٌ وَأَمَّا الْوِقْرُ فَإِنَّهُ الْحِمْلُ {أَسَاطِيرُ} وَاحِدُهَا أُسْطُورَةٌ وَإِسْطَارَةٌ وَهْيَ

(8/286)


1- باب {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ}
4627- حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "مَفَاتِحُ الْغَيْبِ خَمْسٌ {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنْزِلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} "
قوله: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} المفاتح جمع مفتح بكسر الميم الآلة التي يفتح بها، مثل منجل ومناجل، وهي لغة قليلة في الآلة، والمشهور مفتاح بإثبات الألف وجمعه مفاتيح بإثبات الياء، وقد قرئ بها في الشواذ، قرأ ابن السميع {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} وقيل بل هو جمع مفتح بفتح الميم وهو المكان. ويؤيده تفسير السدي فيما رواه الطبري قال: مفاتح الغيب خزائن الغيب، وجوز الواحدي أنه جمع مفتح بفتح الميم على أنه مصدر بمعنى الفتح، أي وعنده فتوح الغيب أي يفتح الغيب على من يشاء من عباده، ولا يخفى بعد هذا التأويل للحديث المذكور في الباب، وأن مفاتح الغيب لا يعلمها أحد إلا الله سبحانه وتعالى. وروى الطبري من طريق ابن مسعود قال: أعطي نبيكم صلى الله عليه وسلم علم كل شيء إلا مفاتح الغيب، ويطلق المفتاح على ما كان محسوسا مما يحل غلقا كالقفل، وعلى ما كان معنويا كما جاء في الحديث: "إن من الناس مفاتيح للخير" الحديث صححه ابن حبان من حديث أنس ثم ذكر المصنف في الباب حديث ابن عمر "مفاتح الغيب خمس " أورده مختصرا، وساقه في تفسير سورة لقمان مطولا، وسيأتي شرحه هناك مستوفى إن شاء الله تعالى.

(8/291)


2- باب {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} الآيَةَ
يَلْبِسَكُمْ يَخْلِطَكُمْ مِنْ الالْتِبَاسِ يَلْبِسُوا يَخْلِطُوا شِيَعًا فِرَقًا
4628- حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أَعُوذُ بِوَجْهِكَ" قَالَ {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} قَالَ: "أَعُوذُ بِوَجْهِكَ" {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هَذَا أَهْوَنُ أَوْ هَذَا أَيْسَر"
[الحديث 4628- طرفاه في: 7313، 7406]
قوله: "باب {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ} الآية، يلبسكم يخلطكم من الالتباس يلبسوا يخلطوا" هو من كلام أبي عبيدة في الموضعين "وعند ابن أبي حاتم من طريق أسباط بن نصر عن السدي مثله. قوله: "شيعا فرقا" هو كلام أبي عبيدة أيضا وزاد: واحدتها شيعة، وللطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن

(8/291)


3- باب {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ}
4629- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} قَالَ أَصْحَابُهُ وَأَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ فَنَزَلَتْ {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} "
قوله: "باب {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} ذكر فيه حديث سليمان وهو الأعمش عن إبراهيم وهو النخعي عن علقمة وهو ابن قيس عن عبد الله وهو ابن مسعود قال: "لما نزلت: {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} قال أصحابه" أي أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. وقد تقدم شرحه مستوفى في كتاب الإيمان بما أغنى عن إعادته.

(8/294)


4- باب {وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ}
4630- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا ابْنُ مَهْدِيٍّ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ عَمِّ نَبِيِّكُمْ يَعْنِي ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَا يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى"
4631- حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ أَخْبَرَنَا سَعْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ سَمِعْتُ حُمَيْدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَا يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى"
قوله: "باب قوله {وَيُونُسَ وَلُوطًا} ذكر فيه حديثي ابن عباس وأبي هريرة " ما ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى" وقد تقدم شرحه في أحاديث الأنبياء. قوله: "باب قوله: {وَيُونُسَ وَلُوطًا} ذكر فيه حديثي ابن عباس وأبي هريرة "ما ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى" وقد تقدم شرحه في أحاديث الأنبياء.

(8/264)


باب {أولائك الذين هدى الله فبهداهم اقتده}
...
5- باب {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}
4632- حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا هِشَامٌ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ قَالَ أَخْبَرَنِي سُلَيْمَانُ الأَحْوَلُ أَنَّ مُجَاهِدًا أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ أَفِي "ص" سَجْدَةٌ فَقَالَ نَعَمْ ثُمَّ تَلاَ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ إِلَى قَوْلِهِ {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} ثُمَّ قَالَ هُوَ مِنْهُمْ زَادَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ وَمُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ وَسَهْلُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ الْعَوَّامِ عَنْ مُجَاهِدٍ قُلْتُ لابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ نَبِيُّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّنْ أُمِرَ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِم"
قوله: "باب قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} ذكر فيه حديث ابن عباس في السجود في "ص" ، وسيأتي شرحه في تفسير "ص" . قوله: "زاد يزيد بن هارون ومحمد بن عبيد وسهل بن يوسف عن العوام" هو ابن حوشب "عن مجاهد قلت لابن عباس فقال: نبيكم صلى الله عليه وسلم ممن أمر أن يقتدي بهم" حاصله أن الزيادة لفظية، وإلا فالكلام

(8/294)


المذكور داخل في قوله في الرواية الأولى "هو منهم" أي داود ممن أمر نبيكم أن يقتدي به في قوله تعالى: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} وطريق يزيد بن هارون المذكورة وصلها الإسماعيلي، وطريق محمد بن عبيد وصلها المصنف في تفسير "ص" . وطريق سهل بن يوسف وصلها المصنف في أحاديث الأنبياء. وقد اختلف: هل كان عليه الصلاة والسلام متعبدا بشرع من قبله حتى نزل عليه ناسخه؟ فقيل: نعم، وحجتهم هذه الآية ونحوها. وقيل لا، وأجابوا عن الآية بأن المراد اتباعهم فيما أنزل عليه وفاقه ولو على طريق الإجمال فيتبعهم في التفصيل، وهذا هو الأصح عند كثير من الشافعية، واختاره إمام الحرمين ومن تبعه، واختار الأول ابن الحاجب، والله أعلم.

(8/295)


باب {وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومها}
...
6- باب {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنْ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا} الآيَةَ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ كُلَّ ذِي ظُفُرٍ الْبَعِيرُ وَالنَّعَامَةُ الْحَوَايَا الْمَبْعَرُ وَقَالَ غَيْرُهُ هَادُوا صَارُوا يَهُودًا وَأَمَّا قَوْلُهُ هُدْنَا تُبْنَا هَائِدٌ تَائِبٌ
4633- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ قَالَ عَطَاءٌ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ لَمَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ شُحُومَهَا جَمَلُوهُ ثُمَّ بَاعُوهُ فَأَكَلُوهَا" وَقَالَ أَبُو عَاصِمٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ حَدَّثَنَا يَزِيدُ كَتَبَ إِلَيَّ عَطَاءٌ سَمِعْتُ جَابِرًا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَه"
قوله: "باب {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} زاد أبو ذر في روايته:"إلى قوله: {وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} . قوله: "كل ذي ظفر البعير والنعامة" وصله ابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس مثله، وروي من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد مثله، وروى ابن أبي حاتم من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: "كل ذي ظفر هو الذي ليس بمنفرج الأصابع، يعني ليس بمشقوق الأصابع، منها الإبل والنعام، وإسناده حسن. وأخرجه ابن جرير من طريق سعيد بن جبير مثله مفرقا وليس فيها ابن عباس، ومن طريق قتادة قال: البعير والنعامة وأشباهه من الطير والحيوانات والحيتان. قوله: "الحوايا المبعر" في رواية أبي الوقت المباعر، وصله ابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، قال: الحوايا هو المبعر، وأخرجه عبد الرزاق عن معمر عن قتادة مثله. وقال سعيد بن جبير الحوايا المباعر أخرجه ابن جرير وقال: الحوايا جمع حوية وهي ما تحوى واجتمع واستدار من البطن وهي نبات اللبن وهي المباعر وفيها الأمعاء. قال: ومعنى الكلام إلا ما حملت ظهورهما وإلا ما حملت الحوايا، أي فهو حلال لهم.
" تنبيه " : المبعر بفتح الميم ويجوز كسرها. ثم ذكر المصنف حديث جابر "قاتل الله اليهود حرمت عليهم شحومها" الحديث، وقد تقدم شرحه في أواخر كتاب البيوع، وقد تقدم أيضا بيان من وصل رواية أبي عاصم المذكور هنا، ونبه ابن التين على أنه وقع في الرواية هنا "لحومها" قال: والصواب شحومها. قوله: "هادوا تابوا، هدنا تبنا، هائد تائب" هو كلام أبي عبيدة وقد تقدم في أوائل الهجرة.

(8/295)


7- باب {وَلاَ تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ}
4634- حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَمْرٍو عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:

(8/295)


8- باب وَكِيلٌ حَفِيظٌ وَمُحِيطٌ بِهِ. قُبُلاً جَمْعُ قَبِيلٍ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ ضُرُوبٌ لِلْعَذَابِ كُلُّ ضَرْبٍ مِنْهَا قَبِيلٌ زُخْرُفَ الْقَوْلِ كُلُّ شَيْءٍ حَسَّنْتَهُ وَوَشَّيْتَهُ وَهُوَ بَاطِلٌ فَهُوَ زُخْرُفٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ حَرَامٌ وَكُلُّ مَمْنُوعٍ فَهْوَ حِجْرٌ مَحْجُورٌ وَالْحِجْرُ كُلُّ بِنَاءٍ بَنَيْتَهُ وَيُقَالُ لِلأُنْثَى مِنْ الْخَيْلِ حِجْرٌ وَيُقَالُ لِلْعَقْلِ حِجْرٌ وَحِجًى وَأَمَّا الْحِجْرُ فَمَوْضِعُ ثَمُودَ وَمَا حَجَّرْتَ عَلَيْهِ مِنْ الأَرْضِ فَهُوَ حِجْرٌ وَمِنْهُ سُمِّيَ حَطِيمُ الْبَيْتِ حِجْرًا كَأَنَّه مُشْتَقٌّ مِنْ مَحْطُومٍ مِثْلُ قَتِيلٍ مِنْ مَقْتُولٍ وَأَمَّا حَجْرُ الْيَمَامَةِ فَهْوَ مَنْزِل"
قوله: "وكيل حفيظ محيط به" قال أبو عبيدة في قوله: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} أي حفيظ محيط. قوله: "قبلا جمع قبيل، والمعنى أنه ضروب للعذاب كل ضرب منها قبيل" انتهى. هو من كلام أبي عبيدة أيضا لكن بمعناه، قال في قوله تعالى: {وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً} قال فمعنى حشرنا جمعنا وقبلا جمع قبيل أي صنف. وروى ابن جرير عن مجاهد قال: قبلا أي أفواجا قال ابن جرير: أي حشرنا عليهم كل شيء قبيلة قبيلة صنفا صنفا وجماعة جماعة، فيكون القبل جمع قبيل الذي جمع قبيلة، فيكون القبل جمع الجمع. قال أبو عبيدة: ومن قرأها قبلا أي بكسر القاف فإنه يقول معناها عيانا انتهى. ويجوز أن يكون بمعنى ناحية يقول: لي قبل فلان كذا، أي من جهته، فهو نصب على الظرفية. وقال آخرون: قبلا أي مقابلا انتهى. وقد روى ابن أبي حاتم وابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً} أي معاينة، فكأنه قرأها بكسر القاف وهي قراءة أهل المدينة وابن عامر، مع أنه يجوز أن يكون بالضم ومعناه المعاينة يقول: رأيته قبلا لا دبرا إذا أتيته من قبل وجهه وتستوي على هذا القراءتان. قال ابن جرير: ويحتمل أن يكون القبل جمع قبيل وهو الضمين والكفيل، أي وحشرنا عليهم كل شيء كفيلا يكفلون لهم أن الذي نعدهم حق، وهو بمعنى قوله في الآية الأخرى {أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً} انتهى، ولم أر من فسر بأصناف العذاب، فليحرر هذا.
" تنبيه " : ثبت هذا والذي بعده لأبي ذر عن المستملي والكشميهني حسب. قوله: "زخرف القول كل شيء حسنته، وزينته وهو باطل فهو زخرف" هو كلام أبي عبيدة، وزاد: يقال زخرف فلان كلامه وشهادته. وقيل أصل الزخرف في اللغة التزيين والتحسين، ولذلك سموا الذهب زخرفا. قوله: "وحرث حجر حرام إلخ" تقدم الكلام عليه في قصة ثمود من أحاديث الأنبياء مستوفى، وسقط هنا من رواية أبي ذر والنسفي وهو أولى.

(8/296)


9- باب {هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ} لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ هَلُمَّ لِلْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالْجَمِيعِ
4635- حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا عبد الواحد حدثنا عمارة حدثنا أبو زرعة حدثنا أبو هريرة

(8/296)


10- باب {لاَ يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا}
4636- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا فَإِذَا طَلَعَتْ وَرَآهَا النَّاسُ آمَنُوا أَجْمَعُونَ وَذَلِكَ حِينَ لاَ يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا ثُمَّ قَرَأَ الآيَةَ"
قوله: "باب {لاَ يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا} ذكر فيه حديث أبي هريرة في طلوع الشمس من المغرب، وسيأتي شرحه مستوفى في كتاب الرقاق إن شاء الله تعالى. وإسحاق في الطريق الأخرى جزم خلف بأنه ابن نصر، وأبو مسعود بأنه ابن منصور، وقول خلف أقوى. والله أعلم.

(8/297)


7- سورة الأَعْرَافِ
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَرِيَاشًا الْمَالُ {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} فِي الدُّعَاءِ وَفِي غَيْرِهِ عَفَوْا كَثُرُوا وَكَثُرَتْ أَمْوَالُهُمْ الْفَتَّاحُ الْقَاضِي {افْتَحْ بَيْنَنَا} اقْضِ بَيْنَنَا {نَتَقْنَا الْجَبَلَ} رَفَعْنَا {انْبَجَسَتْ} انْفَجَرَتْ {مُتَبَّرٌ} {خُسْرَانٌ} آسَى أَحْزَنُ تَأْسَ تَحْزَنْ وَقَالَ غَيْرُهُ {مَا مَنَعَكَ أَنْ لاَ تَسْجُدَ} يَقُولُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ {يَخْصِفَانِ} أَخَذَا الْخِصَافَ {مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} يُؤَلِّفَانِ الْوَرَقَ يَخْصِفَانِ الْوَرَقَ بَعْضَهُ إِلَى بَعْضٍ {سَوْآتِهِمَا} كِنَايَةٌ عَنْ فَرْجَيْهِمَا {وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} هُوَ هَا هُنَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَالْحِينُ عِنْدَ الْعَرَبِ مِنْ سَاعَةٍ إِلَى مَالاَ يُحْصَى عَدَدُهُ الرِّيَاشُ وَالرِّيشُ وَاحِدٌ وَهْوَ مَا ظَهَرَ مِنْ اللِّبَاسِ {قَبِيلُهُ} جِيلُهُ الَّذِي هُوَ مِنْهُمْ {ادَّارَكُوا} اجْتَمَعُوا وَمَشَاقُّ الإِنْسَانِ وَالدَّابَّةِ كُلُّهَا يُسَمَّى سُمُومًا وَاحِدُهَا سَمٌّ وَهِيَ عَيْنَاهُ وَمَنْخِرَاهُ وَفَمُهُ وَأُذُنَاهُ وَدُبُرُهُ وَإِحْلِيلُهُ {غَوَاشٍ} مَا غُشُّوا بِهِ نُشُرًا مُتَفَرِّقَةً {نَكِدًا} قَلِيلاً {يَغْنَوْا} يَعِيشُوا {حَقِيقٌ} حَقٌّ {اسْتَرْهَبُوهُمْ} مِنْ الرَّهْبَةِ {تَلَقَّفُ} تَلْقَمُ {طَائِرُهُمْ} حَظُّهُمْ {طُوفَانٌ} مِنْ السَّيْلِ وَيُقَالُ لِلْمَوْتِ الْكَثِيرِ الطُّوفَانُ {الْقُمَّلُ} الْحُمْنَانُ يُشْبِهُ صِغَارَ الْحَلَمِ {عُرُوشٌ} وَعَرِيشٌ بِنَاءٌ سُقِطَ كُلُّ مَنْ نَدِمَ فَقَدْ سُقِطَ فِي يَدِهِ {الأَسْبَاطُ} قَبَائِلُ بَنِي إِسْرَائِيلَ {يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ} يَتَعَدَّوْنَ لَهُ يُجَاوِزُونَ تَجَاوُزٌ بَعْدَ تَجَاوُزٍ تَعْدُ تُجَاوِزْ {شُرَّعًا} شَوَارِعَ {بَئِيسٍ} شَدِيدٍ {أَخْلَدَ} قَعَدَ

(8/297)


باب {إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن}
...
1- باب {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ}
4637- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قُلْتُ أَنْتَ سَمِعْتَ هَذَا مِنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ نَعَمْ وَرَفَعَهُ قَالَ: "لاَ أَحَدَ أَغْيَرُ مِنْ اللَّهِ فَلِذَلِكَ حَرَّمَ

(8/301)


الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْمِدْحَةُ مِنْ اللَّهِ فَلِذَلِكَ مَدَحَ نَفْسَه"
قوله: "باب قول الله عز وجل: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} ذكر فيه حديث ابن مسعود "لا أحد أغير من الله فلذلك حرم الفواحش" وسيأتي شرحه في كتاب التوحيد، وقد حكى ابن جرير أن أهل التأويل اختلفوا في المراد بالفواحش، فمنهم من حملها على العموم وساق ذلك عن قتادة قال: المراد سر الفواحش وعلانيتها، ومنهم من حملها على نوع خاص وساق عن ابن عباس قال: كانوا في الجاهلية لا يرون بالزنا بأسا في السر ويستقبحونه في العلانية، فحرم الله الزنا في السر والعلانية. ومن طريق سعيد بن جبير ومجاهد: ما ظهر نكاح الأمهات، وما بطن الزنا. ثم اختار ابن جرير القول الأول قال: وليس ما روي عن ابن عباس وغيره بمدفوع، ولكن الأولى الحمل على العموم، والله أعلم.

(8/302)


2- باب {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنْ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنْ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَرِنِي أَعْطِنِي
4638- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى الْمَازِنِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ الْيَهُودِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ لُطِمَ وَجْهُهُ وَقَالَ يَا مُحَمَّدُ إِنَّ رَجُلاً مِنْ أَصْحَابِكَ مِنْ الأَنْصَارِ لَطَمَ فِي وَجْهِي قَالَ ادْعُوهُ فَدَعَوْهُ قَالَ لِمَ لَطَمْتَ وَجْهَهُ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي مَرَرْتُ بِالْيَهُودِ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عَلَى الْبَشَرِ فَقُلْتُ وَعَلَى مُحَمَّدٍ وَأَخَذَتْنِي غَضْبَةٌ فَلَطَمْتُهُ قَالَ لاَ تُخَيِّرُونِي مِنْ بَيْنِ الأَنْبِيَاءِ فَإِنَّ النَّاسَ يَصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى آخِذٌ بِقَائِمَةٍ مِنْ قَوَائِمِ الْعَرْشِ فَلاَ أَدْرِي أَفَاقَ قَبْلِي أَمْ جُزِيَ بِصَعْقَةِ الطُّورِ"
قوله: "باب {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} الآية. قال ابن عباس: أرني أعطني" . وصله ابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} قال أعطني. وأخرج من طريق السدي قال: لما كلم الله موسى أحب أن ينظر إليه قال: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} . "تكملة" : تعلق بقوله تعالى: {لَنْ تَرَانِي} نفاه رؤية الله تعالى مطلقا من المعتزلة فقالوا لن لتأكيد النفي الذي يدل عليه لا فيكون النفي على التأييد. وأجاب أهل السنة بأن التعميم في الوقت مختلف فيه، سلمنا لكن خص بحالة الدنيا التي وقع فيها الخطاب، وجاز في الآخرة لأن أبصار المؤمنين فيها باقية فلا استحالة أن يرى الباقي بالباقي. بخلاف حالة الدنيا فإن أبصارهم فيها فانية فلا يرى الباقي بالفاني، وتواترت الأخبار النبوية بوقوع هذه الرؤية للمؤمنين في الآخرة وبإكرامهم بها في الجنة، ولا استحالة فيها فوجب الإيمان بها، وبالله التوفيق. وسيأتي مزيد لهذا في كتاب التوحيد حيث ترجم المصنف {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} . قوله: "جاء رجل من اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم قد لطم وجهه" الحديث تقدم شرحه مستوفى في أحاديث الأنبياء، وقوله فيه: "أم جزي" كذا للأكثر ولأبي ذر

(8/302)


عن الحموي والمستملي: "جوزي" وهو المشهور في غير هذا الموضع.
الْمَنَّ وَالسَّلْوَى 4639- حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ عَنْ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " الْكَمْأَةُ مِنْ الْمَنِّ وَمَاؤُهَا شِفَاءُ الْعَيْن"
ذكر فيه حديث سعيد بن زيد في الكمأة، وسيأتي شرحه في الطب، وقوله: "شفاء من العين" أي وجع العين. وفي رواية الكشميهني: "شفاء للعين" تقدم شرح المن والسلوى في تفسير البقرة، وهو المشهور في غير هذه. وقوله في أول الإسناد "حدثنا مسلم:"وقع لأبي ذر غير منسوب، وعند غيره مسلم ابن إبراهيم

(8/303)


3- باب {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}
4640- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَمُوسَى بْنُ هَارُونَ قَالاَ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْعَلاَءِ بْنِ زَبْرٍ قَالَ حَدَّثَنِي بُسْرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو إِدْرِيسَ الْخَوْلاَنِيُّ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا الدَّرْدَاءِ يَقُولُ كَانَتْ بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ مُحَاوَرَةٌ فَأَغْضَبَ أَبُو بَكْرٍ عُمَرَ فَانْصَرَفَ عَنْهُ عُمَرُ مُغْضَبًا فَاتَّبَعَهُ أَبُو بَكْرٍ يَسْأَلُهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُ فَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى أَغْلَقَ بَابَهُ فِي وَجْهِهِ فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ وَنَحْنُ عِنْدَهُ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَمَّا صَاحِبُكُمْ هَذَا فَقَدْ غَامَرَ" قَالَ وَنَدِمَ عُمَرُ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ فَأَقْبَلَ حَتَّى سَلَّمَ وَجَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَصَّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَبَرَ قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ وَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعَلَ أَبُو بَكْرٍ يَقُولُ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لاَنَا كُنْتُ أَظْلَمَ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هَلْ أَنْتُمْ تَارِكُونَ لِي صَاحِبِي هَلْ أَنْتُمْ تَارِكُونَ لِي صَاحِبِي إِنِّي قُلْتُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا فَقُلْتُمْ كَذَبْتَ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ صَدَقْتَ" قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ غَامَرَ سَبَقَ بِالْخَيْر"
قوله: "باب {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} ذكر فيه حديث أبي الدرداء فيما كان بين أبي بكر وعمر، وقد تقدم شرحه مستوفى في مناقب أبي بكر، وقوله في أول الإسناد" حدثني عبد الله "كذا وقع غير منسوب عند الأكثر، ووقع عند ابن السكن عن الفربري عن البخاري" حدثني عبد الله بن حماد "وبذلك جزم الكلاباذي وطائفة وعبد الله بن حماد هذا هو الآملي بالمد وضم الميم الخفيفة يكنى أبا عبد الرحمن قال الأصيلي: هو من تلامذة البخاري، وكان يورق بين يديه. قلت: وقد شاركه في كثير من شيوخه، وكان من الحفاظ، مات قبل السبعين، أو بعدها فقال غنجار في" تاريخ بخاري "مات ستة تسع وستين وقيل سنة ثلاث وسبعين. وسليمان بن عبد الرحمن هو الدمشقي من شيوخ البخاري، وأما موسى بن هارون فهو البني بضم الموحدة وتشديد النون. والبردي وهو بضم الموحدة وسكون الراء، كوفي قدم مصر ثم سكن الفيوم ومات بها سنة أربع وعشرين ومائتين، وما له في

(8/303)


البخاري سوى هذا الموضع. قوله: "قال أبو عبد الله: غامر سبق بالخير" تقدم شرحه أيضا في مناقب أبي بكر.

(8/304)


4- بَاب {وَقُولُوا حِطَّةٌ}
4641- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قِيلَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ فَبَدَّلُوا فَدَخَلُوا يَزْحَفُونَ عَلَى أَسْتَاهِهِمْ وَقَالُوا حَبَّةٌ فِي شَعَرَة"
"حدثني إسحاق" هو ابن إبراهيم الحنظلي ابن راهويه. قوله: "قيل لبني إسرائيل ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة" قال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله: {وَقُولُوا حِطَّةٌ} قال الحسن: أي احطط عنا خطايانا، وهذا يليق بقراءة من قرأ حطة بالنصب، وهي قراءة إبراهيم بن أبي عبلة، وقرأ الجمهور بالرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف أي مسألتنا حطة، وقيل أمروا أن يقولوا على هذه الكيفية، فالرفع على الحكاية، وهي في محل نصب بالقول، وإنما منع النصب حركة الحكاية، وقيل رفعت لتعطي معنى الثبات كقوله سلام، واختلف في معنى هذه الكلمة فقيل: هي اسم للهيئة من الحط كالجلسة، وقيل هي التوبة كما قال الشاعر:
فاز بالحطة التي صير اللـ ... ـه بها ذنب عبده مغفورا
وقيل لا يدري معناها، وإنما تعبدوا بها. وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس وغيره قال: قيل لهم قولوا مغفرة. قوله: "فبدلوا" أي غيروا، وقوله سبحانه وتعالى: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} التقدير فبدل الذين ظلموا بالذي قيل لهم قولا غير الذي قيل لهم، ويحتمل أن يكون ضمن بدل معنى قال. قوله: "فدخلوا يزحفون على أستاههم وقالوا: حبة في شعرة" كذا للأكثر، وكذا في رواية الحسن المذكورة بفتحتين، وللكشميهني: "في شعيرة" يكسر المهملة وزيادة تحتانية بعدها. والحاصل أنهم خالفوا ما أمروا به من الفعل والقول فإنهم أمروا بالسجود عند انتهائهم شكرا لله تعالى وبقولهم حطة، فبدلوا السجود بالزحف وقالوا حنطة بدل حطة، أو قالوا حطة وزادوا فيها حبة في شعيرة. وروى الحاكم من طريق السدي عن مرة عن ابن مسعود قال: "قالوا هطى سمقا" وهي بالعربية حنطة حمراء قوية فيها شعيرة سوداء، ويستنبط منه أن الأقوال المنصوصة إذا تعبد بلفظها لا يجوز تغييرها ولو وافق المعنى. وليست هذه مسألة الرواية بالمعنى بل هي متفرعة منها، وينبغي أن يكون ذلك قيدا في الجواز، أعني يزاد في الشرط أن لا يقع التعبد بلفظه ولا بد منه، ومن أطلق فكلامه محمول عليه.

(8/304)


5- باب {خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ} الْعُرْفُ الْمَعْرُوفُ
قوله باب {خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ} العرف: المعروف" وصله عبد الرزاق من طريق هشام بن عروة عن أبيه بهذا، وكذا أخرجه الطبري من طريق السدي وقتادة.
4642- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَدِمَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ فَنَزَلَ عَلَى ابْنِ أَخِيهِ الْحُرِّ بْنِ قَيْسٍ وَكَانَ مِنْ النَّفَرِ الَّذِينَ يُدْنِيهِمْ عُمَرُ وَكَانَ الْقُرَّاءُ أَصْحَابَ مَجَالِسِ عُمَرَ وَمُشَاوَرَتِهِ كُهُولاً كَانُوا أَوْ شُبَّانًا فَقَالَ عُيَيْنَةُ لابْنِ أَخِيهِ يَا ابْنَ أَخِي هَلْ لَكَ وَجْهٌ عِنْدَ هَذَا الأَمِيرِ فَاسْتَأْذِنْ لِي عَلَيْهِ قَالَ سَأَسْتَأْذِنُ لَكَ عَلَيْهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَاسْتَأْذَنَ

(8/304)


سورة الأنفال: باب {يسألونك عن الأنفال ...}
...
8- سورة الأَنْفَالِ
1- باب قَوْلُهُ: {يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَنْفَالِ قُلْ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ الأَنْفَالُ الْمَغَانِمُ قَالَ قَتَادَةُ رِيحُكُمْ الْحَرْبُ يُقَالُ نَافِلَةٌ عَطِيَّةٌ
4645- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ أَخْبَرَنَا أَبُو بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا سُورَةُ الأَنْفَالِ قَالَ نَزَلَتْ فِي بَدْرٍ الشَّوْكَةُ الْحَدُّ مُرْدَفِينَ فَوْجًا بَعْدَ فَوْجٍ رَدِفَنِي وَأَرْدَفَنِي جَاءَ بَعْدِي ذُوقُوا بَاشِرُوا وَجَرِّبُوا وَلَيْسَ هَذَا مِنْ ذَوْقِ الْفَمِ فَيَرْكُمَهُ يَجْمَعَهُ شَرِّدْ فَرِّقْ وَإِنْ جَنَحُوا طَلَبُوا السِّلْمُ وَالسَّلْمُ وَالسَّلاَمُ وَاحِدٌ يُثْخِنَ يَغْلِبَ وَقَالَ مُجَاهِدٌ مُكَاءً إِدْخَالُ أَصَابِعِهِمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَتَصْدِيَةً الصَّفِيرُ لِيُثْبِتُوكَ لِيَحْبِسُوك"
قوله: "سورة الأنفال - بسم الله الرحمن الرحيم" سقطت البسملة لغير أبي ذر. قوله: "قال ابن عباس الأنفال المغانم" وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: "الأنفال المغانم، كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خالصة ليس لأحد فيها شيء" وروى أبو داود والنسائي وابن حبان من طريق دواد بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس قال: "لما كان يوم بدر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من صنع كذا فله كذا ، الحديث فنزلت: {يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَنْفَالِ قُلْ الأَنْفَالُ} قوله: "نافلة عطية" قال في رواية النسفي "يقال:"فذكره. وقد قال أبو عبيدة في قوله: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} أي غنيمة. قوله: "وإن جنحوا طلبوا" قال أبو عبيدة في قوله: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ} أي رجعوا إلى المسالمة وطلبوا الصلح. قوله: "السلم والسلم والسلام واحد" ثبت هذا لأبي ذر وحده، وقد تقدم في تفسير سورة النساء. قوله: "يثخن" أي يغلب. قال أبو عبيدة في قوله: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} يثخن أي يبالغ ويغلب. قوله: "وقال مجاهد: مكاء إدخالهم أصابعهم في أفواههم" وصله عبد ابن حميد والفريابي من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد. قوله: "وتصدية الصفير" وصله عبد بن حميد أيضا كذلك.
" تنبيه " : وقع هذا في رواية أبي ذر متراخيا عن الذي قبله، وعند غيره بعقبه وهو أولى، وقد قال الفريابي "حدثنا ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: {وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاءً} قال: إدخالهم أصابعهم في أفواههم وتصدية الصفير، يخلطون على محمد صلاته" وقال أبو عبيدة: المكاء الصفير والتصدية صفق الأكف

(8/306)


ووصله ابن مردويه من حديث ابن عمر مثله من قوله. قوله: "وقال قتادة ريحكم الحرب" تقدم في الجهاد. قوله: "الشوكة الحد" ثبت لغير أبي ذر، قال أبو عبيدة في قوله: {وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} مجاز الشوكة الحد، يقال ما أشد شوكة بني فلان أي حدهم. قوله: "مردفين فوجا بعد فوج، يقال ردفني وأردفني جاء بعدي" وقال أبو عبيدة في قوله: {مُرْدِفِينَ} بكسر الدال فاعلين من أردفوا أي جاءوا بعد قوم قبلهم، وبعضهم يقول ردفني جاء بعدي وهما لغتان، ومن قرأ بفتح الدال فهو من أردفهم الله من بعد من قبلهم انتهى. وقراءة الجمهور بكسر الدال ونافع بفتحها. وقال الأخفش: بنو فلان يردفوننا أي يجيئون بعدنا. قوله: "فيركمه يجمعه" قال أبو عبيدة في قوله: {فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً} أي فيجمعه بعضه فوق بعض. قوله: "شرد فرق" هو قول أبي عبيدة أيضا. قوله: "ليثبتوك يحبسوك" وصله ابن أبي حاتم من طريق ابن جريج عن عطاء عنه، وروى أحمد والطبراني من حديث ابن عباس قال: "تشاورت قريش فقال بعضهم: إذا أصبح محمد فأثبتوه بالوثاق" الحديث. قوله: "ذوقوا باشروا وجربوا، وليس هذا من ذوق الفم" هو قول أبي عبيدة أيضا، ونظيره قوله تعالى: {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ} . قوله: "حدثني محمد بن عبد الرحيم" كذا ثبت هذا الحديث في آخر هذه التفاسير عند أبي ذر، وثبت عند غيره في أثنائها والخطب فيه سهل. والحديث المذكور سيأتي بأتم من هذا في تفسير سورة الحشر، ويأتي شرحه هناك، وقد تقدم طرف منه أيضا في المغازي.

(8/307)


باب {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ}
4646- حدثنا محمد بن يوسف حدثنا ورقاء عن بن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ} قال: هم نفر من بني عبد الدار"
قوله: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ} ذكر فيه حديث مجاهد عن ابن عباس قال: هم نفر من بني عبد الدار. وفي رواية الإسماعيلي: "نزلت في نفر" زاد ابن جرير من طريق شبل بن عباد عن ابن أبي نجيح "لا يتبعون الحق" ثم أورد من طريق ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: "لا يعقلون" : لا يتبعون الحق، قال مجاهد قال ابن عباس: هم نفر من بني عبد الدار.

(8/307)


2- باب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} اسْتَجِيبُوا: أَجِيبُوا لِمَا يُحْيِيكُمْ يُصْلِحُكُمْ
4647- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا رَوْحٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ خُبَيْبِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ سَمِعْتُ حَفْصَ بْنَ عَاصِمٍ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنْتُ أُصَلِّي فَمَرَّ بِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَانِي فَلَمْ آتِهِ حَتَّى صَلَّيْتُ ثُمَّ أَتَيْتُهُ فَقَالَ: "مَا مَنَعَكَ أَنْ تَأْتِيَ أَلَمْ يَقُلْ اللَّهُ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ} ثُمَّ قَالَ لاَعَلِّمَنَّكَ أَعْظَمَ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ قَبْلَ أَنْ أَخْرُجَ فَذَهَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَخْرُجَ فَذَكَرْتُ لَهُ" وَقَالَ مُعَاذٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ خُبَيْبِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ سَمِعَ حَفْصًا سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ رَجُلاً مِنْ أَصْحَابِ

(8/307)


باب {وإذ قالوا اللهم إن كان هذا الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء...}
...
3- باب {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنْ السَّمَاءِ أَوْ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ مَا سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى مَطَرًا فِي الْقُرْآنِ إِلاَّ عَذَابًا وَتُسَمِّيهِ الْعَرَبُ الْغَيْثَ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يُنْزِلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا}
4648- حَدَّثَنِي أَحْمَدُ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ هُوَ ابْنُ كُرْدِيدٍ صَاحِبُ الزِّيَادِيِّ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ أَبُو جَهْلٍ: { اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنْ السَّمَاءِ أَوْ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} فَنَزَلَتْ {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وَمَا لَهُمْ أَنْ لاَ يُعَذِّبَهُمْ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} الآيَةَ
[الحديث 4648- طرفه في: 4649]
قوله: "باب قوله: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ} الآية" كذا لأبي ذر، وساق غيره الآية. قوله: "قال ابن عيينة إلخ" كذا في تفسير ابن عيينة رواية سعيد بن عبد الرحمن المخزومي عنه قال: ويقول ناس ما سمى الله المطر في القرآن إلا عذابا، ولكن تسميه العرب الغيث يريد قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ} كذا وقع في تفسير حم عسق، وقد تعقب كلام ابن عيينة بورود المطر بمعنى الغيث في القرآن في قوله تعالى : {إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ} فالمراد به هنا الغيث قطعا، معنى التأذي به البلل الحاصل منه للثوب والرجل وغير ذلك. وقال أبو عبيدة: إن كان من العذاب فهو أمطرت، وإن كان من الرحمة فهو مطرت. وفيه مطرت. وفيه نظر أيضا. قوله: "حدثني أحمد" كذا في جميع الروايات غير منسوب، وجزم الحاكمان أبو أحمد وأبو عبد الله أنه ابن النضر بن عبد الوهاب النيسابوري، وقد روى البخاري الحديث المذكور بعينه عقب هذا عن محمد بن النضر أخي أحمد هذا، قال الحاكم: بلغني أن البخاري كان ينزل عليهما ويكثر الكمون عندهما إذا قدم نيسابور. قلت: وهما من طبقة مسلم وغيره من تلامذة البخاري وإن شاركوه في بعض شيوخه. وقد أخرج مسلم هذا الحديث بعينه عن شيخهما عبيد الله بن معاذ نفسه، وعبيد الله بن معاذ المذكور من الطبقة الوسطى من شيوخ البخاري، فنزل في هذا الإسناد درجتين لأن عنده الكثير عن أصحاب شعبة بواسطة واحدة بينه وبين شعبة، قال الحاكم: أحمد بن النضر يكنى أبا

(8/308)


الفضل وكان من أركان الحديث انتهى. وليس له في البخاري ولا لأخيه سوى هذا الموضع. وقد روى البخاري عن أحمد في التاريخ الصغير ونسبه. قوله: "عن عبد الحميد صاحب الزيادي" هو عبد الحميد بن دينار تابعي صغير، ويقال له ابن كرديد بضم الكاف وسكون الراء وكسر الدال المهملة ثم تحتانية ساكنة ثم دال أخرى، ووقع كذلك في بعض النسخ، والزيادي الذي نسب إليه من ولد زياد الذي يقال له ابن أبي سفيان. قوله: "قال أبو جهل: اللهم إن كان هذا إلخ" ظاهر في أنه القائل ذلك، وإن كان هذا القول نسب إلى جماعة فعله بدأ به ورضي الباقون فنسب إليهم، وقد روى الطبراني من طريق ابن عباس أن القائل ذلك هو النضر بن الحارث قال: فأنزل الله تعالى: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} وكذا قال مجاهد وعطاء والسدي، ولا ينافي ذلك ما في الصحيح لاحتمال أن يكونا قالاه، ولكن نسبته إلى أبي جهل. وعن قتادة قال: قال ذلك سفهة هذه الأمة وجهلتها. وروى ابن جرير من طريق يزيد بن رومان أنهم قالوا ذلك ثم لما أمسوا ندموا فقالوا غفرانك اللهم، فأنزل الله {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} وروى ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أن معنى قوله: {وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} أي من سبق له من الله أنه سيؤمن، وقيل المراد من كان بين أظهرهم حينئذ من المؤمنين، قاله الضحاك وأبو مالك ويؤيده ما أخرجه الطبري من طريق ابن أبزى قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، فأنزل الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} ثم خرج إلى المدينة فأنزل الله {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} وكان من بقي من المسلمين بمكة يستغفرون، فلما خرجوا أنزل الله {وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} الآية، فأذن الله في فتح مكة فهو العذاب الذي وعدهم الله تعالى. وروى الترمذي من حديث أبي موسى رفعه قال: "أنزل الله على أمتي أمانين" فذكر هذه الآية. قال: "فإذا مضيت تركت فيهم الاستغفار" ، وهو يقوي القول الأول والحمل عليه أولى، وأن العذاب حل بهم لما تركوا الندم على ما وقع منهم وبالغوا في معاندة المسلمين ومحاربتهم وصدهم عن المسجد الحرام، والله أعلم.

(8/309)


4- باب {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}
4649- حدثنا محمد بن النضر حدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا أبي حدثنا شعبة عن عبد الحميد صاحب الزيادي سمع أنس بن مالك قال قال أبو جهل: {اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم} فنزلت {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ومَا لَهُمْ أنْ لا يُعَذِبَهُمُ الله وهُم يَصُدّونَ عن المَسْجِدِ الحَرَامِ} الآية
قوله: "باب قوله {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} تقدم شرحه في الذي قبله.

(8/309)


باب {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله}
...
5- باب {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ}
4650- حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا حَيْوَةُ عَنْ بَكْرِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ بُكَيْرٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَجُلاً جَاءَهُ فَقَالَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَلاَ تَسْمَعُ مَا ذَكَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ

(8/309)


6- باب {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَفْقَهُونَ}
4652- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَمَّا نَزَلَتْ {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} فَكُتِبَ عَلَيْهِمْ أَنْ لاَ يَفِرَّ وَاحِدٌ مِنْ عَشَرَةٍ فَقَالَ سُفْيَانُ غَيْرَ مَرَّةٍ أَنْ لاَ يَفِرَّ عِشْرُونَ مِنْ مِائَتَيْنِ ثُمَّ نَزَلَتْ {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} الآيَةَ فَكَتَبَ أَنْ لاَ يَفِرَّ مِائَةٌ مِنْ مِائَتَيْنِ وَزَادَ سُفْيَانُ مَرَّةً نَزَلَتْ {حَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ} قَالَ سُفْيَانُ وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ وَأُرَى الأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ مِثْلَ هَذَا"
[الحديث 4652- طرفه في: 4653]
قوله: "باب {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ} الآية" ساق غير أبي ذر الآية إلى {يَفْقَهُونَ} وسقط عندهم "باب" . قوله: "عن عمرو" هو ابن دينار. قوله: "فكتب عليهم أن لا يفر" أي فرض عليهم، والسياق وإن كان بلفظ الخبر لكن المراد منه الأمر لأمرين: أحدهما أنه لو كان خبرا محضا للزم وقوع خلاف المخبر به وهو محال فدل على أنه أمر، والثاني لقرينة التخفيف فإنه لا يقع إلا بعد تكليف، والمراد بالتخفيف هنا التكليف بالأخف لا رفع الحكم أصلا. قوله: "أن لا يفر واحد من عشرة، فقال سفيان غير مرة أن لا يفر عشرون من مائتين" أي أن سفيان كان يرويه بالمعنى، فتارة يقول باللفظ الذي وقع في القرآن محافظة على التلاوة وهو الأكثر، وتارة يرويه بالمعنى

(8/311)


وهو أن لا يفر واحد من العشرة، ويحتمل أن يكون سمعه باللفظين ويكون التأويل من غيره، ويؤيده الطريق التي بعد هذه فإن ذلك ظاهر في أنه من تصرف ابن عباس. وقد روى الطبري من طريق ابن جريج عن عمرو بن دينار عن ابن عباس قال: "جعل على الرجل عشرة من الكفار، ثم خفف عنهم فجعل على الرجل رجلان" وروى أيضا الطبري من طريق علي بن أبي طلحة ومن طريق العوفي وغيرهما عن ابن عباس نحوه مطولا ومختصرا. قوله: "وزاد سفيان" كأنه حدث مرة بالزيادة ومرة بدونها. وقد روى ابن مردويه من طريق محمد بن مسلم عن عمرو بن دينار عن ابن عباس قال: "كان الرجل لا ينبغي له أن يفر من عشرة، ثم أنزل الله {الآنَ خَفْفَ اللهُ عَنْكُم} الآية فجعل الرجل منهم لا ينبغي له أن يفر من اثنين" وهذا يؤيد ما قلناه أنه من تصرف ابن عباس لا ابن عيينة، فكأنه سمعه من عمرو بن دينار باللفظين، وسأذكر ما فيه في الباب الذي يليه إن شاء الله تعالى. قوله: "قال سفيان وقال ابن شبرمة" هو عبد الله قاضي الكوفة وهو موصول، ووهم من زعم أنه معلق فإن في رواية ابن أبي عمر عن سفيان عند أبي نعيم في المستخرج" قال سفيان فذكرته لابن شبرمة فذكر مثله" . قوله: "وأرى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثل هذا" أي أنه عنده في حكم الجهاد، لجامع ما بينهما من إعلاء كلمة الحق وإخماد كلمة الباطل

(8/312)


7- باب {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضُعْفًا} الآيَةَ إِلَى قَوْلِهِ: {وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}
4653- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ السُّلَمِيُّ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ أَخْبَرَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ قَالَ أَخْبَرَنِي الزُّبَيْرُ بْنُ خِرِّيتٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} شَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ حِينَ فُرِضَ عَلَيْهِمْ أَنْ لاَ يَفِرَّ وَاحِدٌ مِنْ عَشَرَةٍ فَجَاءَ التَّخْفِيفُ فَقَالَ {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضُعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} قَالَ فَلَمَّا خَفَّفَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنْ الْعِدَّةِ نَقَصَ مِنْ الصَّبْرِ بِقَدْرِ مَا خُفِّفَ عَنْهُم"
قوله باب {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضُعْفًا} الآية "زاد غير أبي ذر" إلى قوله: {وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} . قوله: "أخبرني الزبير بن الخريت" بكسر المعجمة وتشديد الراء بعدها تحتانية ساكنة ثم مثناة فوقانية بصري ثقة من صغار التابعين، وقد تقدم ذكره في كتاب المظالم. ولجرير بن حازم راوي هذا الحديث عن الزبير بن الخريت شيخ آخر أخرجه ابن مردويه من طريق إسحاق بن إبراهيم بن راهويه في تفسيره عن وهب ابن جرير بن حازم عن أبيه عن محمد بن إسحاق" حدثني عبد الله بن أبي نجيح عن عطاء عن ابن عباس" وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق زياد بن أيوب عن وهب بن جرير عن أبيه عن الزبير، وهو مما يؤيد أن لجرير فيه طريقين، ولفظ رواية عطاء "افترض الله عليهم أن يقاتل الواحد عشرة، فشق عليهم، فوضع الله عنهم إلى أن يقاتل الواحد الرجلين" ثم ذكر الآية وزاد بعدها "ثم قال لولا كتاب من الله سبق" فذكر تفسيرها ثم قال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأَسْرَى} فذكر قول العباس في العشرين وفي قوله: "فأعطاني عشرين عبدا كلهم قد تاجر بمالي مع ما أرجوه من مغفرة الله تعالى". قلت: وفي سند طريق عطاء محمد بن إسحاق، وليست هذه القصة عنده مسندة بل معضلة، وصنيع ابن إسحاق - وتبعه الطبراني وابن مردويه - يقتضي أنها موصولة، والعلم عند الله تعالى.
قوله:

(8/312)


"شق ذلك على المسلمين" زاد الإسماعيلي من طريق سفيان بن أبي شيبة عن جرير "جهد الناس ذلك وشق عليهم" . قوله: "فجاء التخفيف" في رواية الإسماعيلي:"فنزلت الآية الأخرى - وزاد - ففرض عليهم أن لا يفر رجل من رجلين ولا قوم من مثلهم" واستدل بهذا الحديث على وجوب ثبات الواحد المسلم إذا قاوم رجلين من الكفار وتحريم الفرار عليه منهما، سواء طلبه أو طلبهما، سواء وقع ذلك وهو واقف في الصف مع العسكر أو لم يكن هناك عسكر، وهذا هو ظاهر تفسير ابن عباس ورجحه ابن الصباغ من الشافعية وهو المعتمد لوجود نص الشافعي عليه في الرسالة الجديدة رواية الربيع ولفظه ومن نسخة عليها خط الربيع نقلت قال بعد أن ذكر للآية آيات في كتابه أنه وضع عنهم أن يقوم الواحد بقتال العشرة وأثبت عليهم أن يقوم الواحد بقتال الاثنين، ثم ذكر حديث ابن عباس المذكور في الباب وساق الكلام عليه، لكن المنفرد لو طلباه وهو على غير أهبة جاز له التولي عنهما جزما، وإن طلبهما فهل يحرم؟ وجهان أصحهما عند المتأخرين لا، لكن ظاهر هذه الآثار المتضافرة عن ابن عباس يأباه وهو ترجمان القرآن وأعرف الناس بالمراد، لكن يحتمل أن يكون ما أطلقه إنما هو في صورة ما إذا قاوم الواحد المسلم من جملة الصف في عسكر المسلمين اثنين من الكفار، أما المنفرد وحده بغير العسكر فلا، لأن الجهاد إنما عهد بالجماعة دون الشخص المنفرد، وهذا فيه نظر، فقد أرسل النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه سرية وحده. وقد استوعب الطبري وابن مردويه طرق هذا الحديث عن ابن عباس وفي غالبها التصريح بمنع تولي الواحد عن الاثنين، واستدل ابن عباس في بعضها بقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} وبقوله تعالى: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ} . قوله: "فلما خفف الله عنهم من العدة نقص من الصبر" كذا في رواية ابن المبارك. وفي رواية وهب بن جرير عن أبيه عند الإسماعيلي: "نقص من النصر" وهذا قاله ابن عباس توقيفا على ما يظهر، ويحتمل أن يكون قاله بطريق الاستقراء.

(8/313)


9- سورة بَرَاءَةَ
{وَلِيجَةً} كُلُّ شَيْءٍ أَدْخَلْتَهُ فِي شَيْءٍ {الشُّقَّةُ} السَّفَرُ الْخَبَالُ الْفَسَادُ وَالْخَبَالُ الْمَوْتُ وَلاَ تَفْتِنِّي لاَ تُوَبِّخْنِي كَرْهًا وَ كُرْهًا وَاحِدٌ مُدَّخَلًا يُدْخَلُونَ فِيهِ يَجْمَحُونَ يُسْرِعُونَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ ائْتَفَكَتْ انْقَلَبَتْ بِهَا الأَرْضُ أَهْوَى أَلْقَاهُ فِي هُوَّةٍ عَدْنٍ خُلْدٍ عَدَنْتُ بِأَرْضٍ أَيْ أَقَمْتُ وَمِنْهُ مَعْدِنٌ وَيُقَالُ فِي مَعْدِنِ صِدْقٍ فِي مَنْبَتِ صِدْقٍ الْخَوَالِفُ الْخَالِفُ الَّذِي خَلَفَنِي فَقَعَدَ بَعْدِي وَمِنْهُ يَخْلُفُهُ فِي الْغَابِرِينَ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النِّسَاءُ مِنْ الْخَالِفَةِ وَإِنْ كَانَ جَمْعَ الذُّكُورِ فَإِنَّهُ لَمْ يُوجَدْ عَلَى تَقْدِيرِ جَمْعِهِ إِلاَّ حَرْفَانِ فَارِسٌ وَفَوَارِسُ وَهَالِكٌ وَهَوَالِكُ الْخَيْرَاتُ وَاحِدُهَا خَيْرَةٌ وَهِيَ الْفَوَاضِلُ مُرْجَئُونَ مُؤَخَّرُونَ الشَّفَا شَفِيرٌ وَهُوَ حَدُّهُ وَالْجُرُفُ مَا تَجَرَّفَ مِنْ السُّيُولِ وَالأَوْدِيَةِ هَارٍ هَائِرٍ يُقَالُ تَهَوَّرَتْ الْبِئْرُ إِذَا انْهَدَمَتْ وَانْهَارَ مِثْلُهُ لاَوَّاهٌ شَفَقًا وَفَرَقًا وَقَالَ:
إِذَا ما قُمْتُ أَرْحَلُهَا بِلَيْلٍ ... تَأَوَّهُ آهَةَ الرَّجُلِ الْحَزِينِ

(8/313)


قوله: "سورة براءة" هي سورة التوبة وهي أشهر أسمائها، ولها أسماء أخرى تزيد على العشرة، واختلف في ترك البسملة أولها فقيل لأنها نزلت بالسيف والبسملة أمان، وقيل لأنهم لما جمعوا القرآن شكوا هل هي والأنفال واحدة أو ثنتان ففصلوا بينهما بسطر لا كتابة فيه ولم يكتبوا فيه البسملة. وروى ذلك ابن عباس عن عثمان وهو المعتمد، وأخرجه أحمد والحاكم وبعض أصحاب السنن. قوله: "مرصد طريق" كذا في بعض النسخ، وسقط للأكثر وهو قول أبو عبيدة قال في قوله تعالى: {وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} أي كل طريق، والمراصد الطرق. قوله: "إلا: الإل القرابة والذمة والعهد" تقدم في الجزية. قوله: "وليجة: كل شيء أدخلته في شيء" تقدم في بدء الخلق وسقط هو والذي قبله لأبي ذر. قوله: "الشقة السفر" هو كلام أبي عبيدة وزاد: "البعيد" وقيل الشقة الأرض التي يشق سلوكها. قوله: "الخبال الفساد" قال أبو عبيدة في قوله تعالى: { مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالاً} : الخبال الفساد. قوله: "والخبال الموت" كذا لهم والصواب الموتة بضم الميم وزيادة هاء في آخره وهو ضرب من الجنون. قوله: "ولا تفتني لا توبخني" كذا للأكثر بالموحدة والخاء المعجمة من التوبيخ، وللمستملي والجرجاني "توهني" بالهاء وتشديد النون من الوهن وهو الضعف، ولابن السكن "تؤثمني" بمثلثة ثقيلة وميم ساكنة من الإثم، قال عياض وهو الصواب، وهي الثابتة في كلام أبي عبيدة الذي يكثر المصنف النقل عنه، وأخرجه الطبري من طريق سعيد عن قتادة في قوله: "ولا تفتني" قال: لا تؤثمني {أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} ألا في الإثم سقطوا. قوله: "كرها وكرها واحد" أي بالضم والفتح وهو كلام أبي عبيدة أيضا، وسقط لأبي ذر، وبالضم قرأ الكوفيون حمزة والأعمش ويحيى بن وثاب والكسائي والباقون بالفتح. قوله: "مدخلا يدخلون فيه" قال أبو عبيدة في قوله: "ملجأ يلجئون إليه أو مغارات أو مدخلا" يدخلون فيه ويتغيبون انتهى، وأصل مدخلا مدتخلا فأدغم وقرأ الأعمش وعيسى بن عمر بتشديد الخاء أيضا، وعن ابن كثير في رواية مدخلا بفتحتين بينهما سكون "يجمحون" يسرعون هو قول أبي عبيدة وزاد: لا يرد وجوههم شيء، ومنه فرس جموح. قوله: "والمؤتفكات ائتفكت انقلبت بها الأرض" قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ} هم قوم لوط ائتفكت بهم الأرض أي انقلبت بهم. قوله: "أهوى ألقاه في هوة" هذه اللفظة لم تقع في سورة براءة وإنما هي في سورة النجم، ذكرها المصنف هنا استطرادا من قوله: {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى} . قوله: "عدن خلد إلخ" واقتصر أبو ذر على ما هنا، قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {جَنَّاتِ عَدْنٍ} أي خلد يقال: عدن فلان بأرض كذا أي أقام، ومنه المعدن، عدنت بأرض أقمت، ويقال في معدن صدق. قوله: "الخوالف الخالف الذي خلفني فقعد بعدي، ومنه يخلفه في الغابرين" قال أبو عبيدة في قوله: {مَعَ الْخَالِفِينَ} الخالف الذي خلف بعد شاخص فقعد في رحله، وهو من تخلف عن القوم، ومنه اللهم اخلفني في ولدي. وأشار بقوله: "ومنه يخلفه في الغابرين" إلى حديث عوف بن مالك في الصلاة على الجنازة. قوله: "ويجوز أن يكون النساء من الخالفة، وإن كان جمع الذكور فإنه لم يوجد على تقدير جمعه إلا حرفان فارس وفوارس وهالك وهوالك" قال أبو عبيدة في قوله: {رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ} يجوز أن يكون الخوالف هاهنا النساء، ولا يكادون يجمعون الرجال على فواعل، غير أنهم قد قالوا فارس وفوارس وهالك وهوالك انتهى. وقد استدرك عليه ابن مالك شاهق وشواهق وناكس ونواكس وداجن ودواجن، وهذه الثلاثة مع الاثنين جمع فاعل وهو شاذ، والمشهور في فواعل جمع فاعلة، فإن كان من صفة النساء فواضح وقد تحذف الهاء في صفة المفرد

(8/314)


من النساء وإن كان من صفة الرجال فالهاء للمبالغة يقال رجل خالفة لا خير فيه: والأصلي في جمعه بالنون. واستدرك بعض الشراح على الخمسة المتقدمة كأهل وكواهل وجائح وجوائح وغارب وغوارب وغاش وغواش، ولا يرد شيء منها لأن الأولين ليسا من صفات الآدميين، والآخران جمع غارب وغاشية والهاء للمبالغة إن وصف بها المذكر، وقد قال المبرد في الكامل في قول الفرزدق:
وإذا الرجال رأوا يزيد رأيتهم ... خضع الرقاب نواكس الأذقان
احتاج الفرزدق لضرورة الشعر فأجرى نواكس على أصله، ولا يكون مثل هذا أبدا إلا في ضرورة، ولا تجمع النجاة ما كان من فاعل نعتا على فواعل لئلا يلتبس بالمؤنث، ولم يأت ذا إلا في حرفين فارس وفوارس، وهالك وهوالك، أما الأول فإنه لا يستعمل في الفرد فأمن فيه اللبس، وأما الثاني فلأنه جرى مجرى المثل يقولون هالك في الهوالك فأجروه على أصله لكثرة الاستعمال. قلت: فظهر أن الضابط في هذا أن يؤمن اللبس أو يكثر الاستعمال أو تكون الهاء للمبالغة أو يكون في ضرورة الشعر والله أعلم. وقال ابن قتيبة: الخوالف النساء ويقال خساس النساء ورذالتهم، ويقال فلان خالفه أهله إذا كان دينا فيهم. والمراد بالخوالف في الآية النساء والرجال العاجزون والصبيان فجمع جمع المؤنث تغليبا لكونهن أكثر في ذلك من غيرهن. وأما قوله: {مَعَ الْخَالِفِينَ} فجمع جمع الذكور تغليبا لأنه الأصل. قوله: "الخيرات واحدها خيرة وهي الفواضل" قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ} جمع خيرة ومعناها الفاضلة من كل شيء. قوله: "مرجون مؤخرون" سقط هذا لأبي ذر. قوله: "الشفا الشفير وهو حده" في رواية الكشميهني وهو حرفه. قوله: "والجرف ما تجرف من السيول والأودية" قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {شَفَا جُرُفٍ} الشفا الشفير، والجرف ما لم بين من الركايا، قال: والآية على التمثيل لأن الذي يبني على الكفر فهو على شفا جرف وهو ما تجرف من السيول والأودية ولا يثبت البناء عليه. قوله: "هار هائر، تهورت البئر إذا انهدمت، وانهار مثله" قال أبو عبيدة في قوله تعالى :{هَارٍ} أي هائر: والعرب تنزع الياء التي في الفاعل، وقيل لا قلب فيه وإنما هو بمعنى ساقط، وقد تقدم شيء من هذا في آل عمران قوله: "لأواه شفقا وفرقا، قال الشاعر:
إذا ما قمت أرحلها بليل ... تأوه آهة الرجل الحزين
قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ} : هو فعاله من التأوه ومعناه متضرع شفقا وفرقا لطاعة ربه قال الشاعر فذكره. وقوله: "أرحلها" هو بفتح الهمزة والحاء المهملة، وقوله: "آهة" بالمد للأكثر وفي رواية الأصيلي بتشديد الهاء بلا مد. "تنبيه" هذا الشعر للمثقب العبدي واسمه جحاش بن عائذ، وقيل ابن نهار وهو من جملة قصيدة أولها:
أفاطم قبل بينك متعيني ... ومنعك ما سألت كأن تبيني
ولا تعدي مواعد كاذبات ... تمر بها رياح الصيف دوني
فإني لو تخالفني شمالي ... لما أتبعتها أبدا يميني
ويقول فيها:
فأما أن تكون أخي بحق ... فأعرف منك غثي من سميني

(8/315)


وإلا فاطرحني واتخذني ... عدوا أتقيك وتتقيني
وهي كثيرة الحكم والأمثال. وكان أبو محمد بن العلاء يقول: لو كان الشعر مثلها وجب على الناس أن يتعلموه.

(8/316)


1- باب {بَرَاءَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ} أَذَانٌ إِعْلاَمٌ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أُذُنٌ يُصَدِّقُ تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَنَحْوُهَا كَثِيرٌ وَالزَّكَاةُ الطَّاعَةُ وَالإِخْلاَصُ لاَ يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ لاَ يَشْهَدُونَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يُضَاهُونَ يُشَبِّهُون"
قوله: "باب قوله: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} - إلى – {الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} . أذان إعلام" قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} قال علم من الله، وهو مصدر من قولك أذنتهم أي أعلمتهم. قوله: "وقال ابن عباس: أذن يصدق" وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: "ويقولون هو أذن" يعني أنه يسمع من كل أحد، قال الله {قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ} يعني يصدق بالله، وظهر أن يصدق تفسير يؤمن لا تفسير أذن كما يفهمه صنيع المصنف حيث اختصره. قوله: "تطهرهم وتزكيهم بها ونحوها كثير" وفي بعض النسخ "ومثل هذا كثير" أي في القرآن، ويقال التزكية "والزكاة الطاعة والإخلاص" وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ} قال: الزكاة طاعة الله والإخلاص. قوله: "لا يؤتون الزكاة لا يشهدون أن لا إله إلا الله" وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} قال: هم الذين لا يشهدون أن لا إله إلا الله. وهذه الآية من تفسير فصلت ذكرها هنا استطرادا. وفي تفسير ابن عباس الزكاة بالطاعة والتوحيد دفع لاحتجاج من احتج بالآية على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة. قوله: "يضاهون يشبهون" وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: {يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي يشبهون. وقال أبو عبيدة: المضاهاة التشبيه. ثم ذكر حديث البراء في آخر آية نزلت وآخر سورة نزلت، فأما الآية فتقدم حديث ابن عباس في سورة البقرة وأن آخر آية نزلت آية الربا، ويجمع بأنهما لم ينقلاه وإنما ذكراه عن استقراء بحسب ما اطلعا عليه، وأولى من ذلك أن كلا منهما أراد آخرية مخصوصة، وأما السورة فالمراد بعضها أو معظمها وإلا ففيها آيات كثيرة نزلت قبل سنة الوفاة النبوية، وأوضح من ذلك أن أول براءة نزل عقب فتح مكة في سنة تسع عام حج أبي بكر وقد نزل {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} وهي في المائدة في حجة الوداع سنة عشر، فالظاهر أن المراد. معظمها، ولا شك أن غالبها نزل في غزوة تبوك وهي آخر غزوات النبي صلى الله عليه وسلم، وسيأتي في تفسير {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ} أنها آخر سورة نزلت وأذكر الجمع هناك إن شاء الله تعالى. وقد قيل في آخرية نزول براءة أن المراد بعضها، فقيل قوله: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ} الآية وقيل {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} وأصح

(8/316)


الأقوال في آخرية الآية قوله تعالى: {واتْقُوا يَومَاً تُرْجَعُونَ فِيهِ إلى اللهِ} كما تقدم في البقرة، ونقل ابن عبد السلام "آخر آية نزلت آية الكلالة، فعاش بعدها خمسين يوما ثم نزلت آية البقرة" والله أعلم.

(8/317)


باب {فسيحوا في الأرض أربعة أشهرا...}
...
2- باب {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ} سِيحُوا: سِيرُوا
4655- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ قَالَ حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ وَأَخْبَرَنِي حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ بَعَثَنِي أَبُو بَكْرٍ فِي تِلْكَ الْحَجَّةِ فِي مُؤَذِّنِينَ بَعَثَهُمْ يَوْمَ النَّحْرِ يُؤَذِّنُونَ بِمِنًى أَنْ لاَ يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلاَ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ قَالَ حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ثُمَّ أَرْدَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَأَمَرَهُ أَنْ يُؤَذِّنَ بِبَرَاءَةَ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَأَذَّنَ مَعَنَا عَلِيٌّ يَوْمَ النَّحْرِ فِي أَهْلِ مِنًى بِبَرَاءَةَ وَأَنْ لاَ يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلاَ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَان"
قوله: "باب {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} ساق إلى "الكافرين" . "فسيحوا سيروا" هو كلام أبي عبيدة بزيادة قال في قوله تعالى:{فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ} قال: سيروا وأقبلوا وأدبروا. قوله: "حدثني الليث عن عقيل" في الرواية التي بعدها "حدثني الليث حدثني عقيل" ولليث فيه شيخ آخر تقدم في كتاب الحج عن يحيى بن بكير عن الليث عن يونس. قوله: "عن ابن شهاب وأخبرني حميد" قال الكرماني: بواو العطف إشعارا بأنه أخبره أيضا بغير ذلك، وقيل فهو عطف على مقدر. قلت: لم أر في طرق حديث أبي هريرة عن أبي بكر الصديق زيادة إلا ما وقع في رواية شعيب عن الزهري، فإن فيه: "كان المشركون يوافون بالتجارة فينتفع بها المسلمون، فلما حرم الله على المشركين أن يقربوا المسجد الحرام وجد المسلمون في أنفسهم مما قطع عنهم من التجارة، فنزلت: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً} الآية ثم أحل في الآية الأخرى الجزية" الحديث أخرجه الطبراني وابن مردويه مطولا من طريق شعيب، وهو عند المصنف في كتاب الجزية من هذا الوجه. قوله: "أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: بعثني" في رواية صالح بن كيسان عن ابن شهاب في الباب الذي يليه "أن أبا هريرة أخبره" .

(8/317)


3- باب {وَأَذَانٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرْ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} آذَنَهُمْ أَعْلَمَهُمْ
4656- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ فَأَخْبَرَنِي حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ بَعَثَنِي أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي تِلْكَ الْحَجَّةِ فِي الْمُؤَذِّنِينَ بَعَثَهُمْ يَوْمَ النَّحْرِ يُؤَذِّنُونَ بِمِنًى أَنْ لاَ يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلاَ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ قَالَ حُمَيْدٌ ثُمَّ أَرْدَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

(8/317)


4- بَاب {إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ}
4657- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ حُمَيْدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَعَثَهُ فِي الْحَجَّةِ الَّتِي أَمَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهَا قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ فِي رَهْطٍ يُؤَذِّنُونَ فِي النَّاسِ أَنْ لاَ يَحُجَّنَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلاَ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ فَكَانَ حُمَيْدٌ يَقُولُ يَوْمُ النَّحْرِ يَوْمُ الْحَجِّ الأَكْبَرِ مِنْ أَجْلِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَة"
قوله: "حدثني إسحاق" هو ابن منصور كما جزم به المزي ويعقوب بن إبراهيم أي ابن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، وصالح هو ابن كيسان، وقد تقدم في أوائل الصلاة من رواية يعقوب بن إبراهيم بن سعد عن

(8/320)


ابن أخي ابن شهاب عن عمه، فله فيه طريقان، وسياقه عن ابن أخي ابن شهاب موافق لسياق عقيل، وأما رواية صالح فوقع في آخرها "فكان حميد يقول: يوم النحر يوم الحج الأكبر، من أجل حديث أبي هريرة" وهذه الزيادة قد أدرجها شعيب عن الزهري كما تقدم في الجزية ولفظه عن أبي هريرة "بعثني أبو بكر فيمن يؤذن يوم النحر بمنى: لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان، ويوم الحج الأكبر يوم النحر، وإنما قيل الأكبر من أجل قول الناس الحج الأصغر، فنبذ أبو بكر إلى الناس في ذلك العام فلم يحج عام حجة الوداع التي حج فيها النبي صلى الله عليه وسلم مشرك" انتهى وقوله: "ويوم الحج الأكبر يوم النحر" هو قول حميد بن عبد الرحمن استنبطه من قوله تعالى: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ} ومن مناداة أبي هريرة بذلك بأمر أبي بكر يوم النحر، فدل على أن المراد بيوم الحج الأكبر يوم النحر، وسياق رواية شعيب يوهم أن ذلك مما نادى به أبو بكر، وليس كذلك فقد تضافرت الروايات عن أبي هريرة بأن الذي كان ينادي به هو ومن معه من قبل أبي بكر شيئان: منع حج المشركين، ومنع طواف العريان، وأن عليا أيضا كان ينادي بهما، وكان يزيد: من كان له عهد فعهده إلى مدته، وأن لا يدخل الجنة إلا مسلم. وكأن هذه الأخيرة كالتوطئة لأن لا يحج البيت مشرك، وأما التي قبلها فهي التي اختص علي بتبليغها، ولهذا قال العلماء: إن الحكمة في إرسال علي بعد أبي بكر أن عادة العرب جرت بأن لا ينقض العهد إلا من عقده أو من هو منه بسبيل من أهل بيته، فأجراهم في ذلك على عادتهم، ولهذا قال: "لا يبلغ عني إلا أنا أو رجل من أهل بيتي" وروى أحمد والنسائي من طريق محرر بن أبي هريرة عن أبيه قال كنت مع علي حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ببراءة، فكنا ننادي أن لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة ولا يطوف بالبيت عريان ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فأجله أربعة أشهر فإذا مضت فإن الله بريء من المشركين ورسوله، ولا يحج بعد العام مشرك. فكنت أنادي حتى صحل صوتي "وقوله وإنما قيل الأكبر إلخ في حديث ابن عمر عند أبي داود وأصله في هذا الصحيح رفعه:"أي يوم هذا؟ قالوا: هذا يوم النحر، قال: هذا يوم الحج الأكبر" واختلف في المراد بالحج الأصغر فالجمهور على أنه العمرة، وصل ذلك عبد الرزاق من طريق عبد الله بن شداد أحد كبار التابعين، ووصله الطبري عن جماعة منهم عطاء والشعبي، وعن مجاهد: الحج الأكبر القران والأصغر الإفراد. وقيل يوم الحج الأصغر يوم عرفة ويوم الحج الأكبر يوم النحر لأن فيه تتكمل بقية المناسك. وعن الثوري: أيام الحج تسمى يوم الحج الأكبر كما يقال يوم الفتح. وأيده السهيلي بأن عليا أمر بذلك في الأيام كلها. وقيل لأن أهل الجاهلية كانوا يقفون بعرفة وكانت قريش تقف بالمزدلفة، فإذا كانت صبيحة النحر وقف الجميع بالمزدلفة فقيل له الأكبر لاجتماع الكل فيه، وعن الحسن: سمي بذلك لاتفاق حج جميع الملل فيه: وروى الطبري من طريق أبي جحيفة وغيره: أن يوم الحج الأكبر يوم عرفة. ومن طريق سعيد بن جبير أنه النحر. واحتج بأن اليوم التاسع وهو يوم عرفة إذا انسلخ قبل الوقوف لم يفت الحج بخلاف العاشر فإن الليل إذا انسلخ قبل الوقوف فات. وفي رواية الترمذي من حديث علي مرفوعا وموقوفا "يوم الحج الأكبر يوم النحر" ورجح الموقوف، وقوله: "فنبذ أبو بكر إلخ" وهو أيضا مرسل من قول حميد بن عبد الرحمن، والمراد أن أبا بكر أفصح لهم بذلك، وقيل إنما لم يقتصر النبي صلى الله عليه وسلم على تبليغ أبي بكر عنه ببراءة لأنها تضمنت مدح أبي بكر، فأراد أن يسمعوها من غير أبي بكر، وهذه غفلة من قائله حمله عليها ظنة أن المراد تبليغ براءة كلها، وليس الأمر كذلك

(8/321)


لما قدمناه، وإنما أمر بتبليغه منها أوائلها فقط، وقد قدمت حديث جابر وفيه: "أن عليا قرأها حتى ختمها" وطريق الجمع فيه، واستدل به علي أن حجة أبي بكر كانت في ذي الحجة على خلاف المنقول عن مجاهد وعكرمة بن خالد، وقد قدمت النقل عنهما بذلك في المغازي، ووجه الدلالة أن أبا هريرة قال: "بعثني أبو بكر في تلك الحجة يوم النحر" وهذا لا حجة فيه لأن قول مجاهد إن ثبت فالمراد بيوم النحر الذي هو صبيحة يوم الوقوف سواء كان الوقوف وقع في ذي القعدة أو في ذي الحجة. نعم روى ابن مردويه من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: "كانوا يجعلون عاما شهرا وعاما شهرين" يعنى يحجون في شهر واحد مرتين في سنتين ثم يحجون في الثالث في شهر آخر غيره، قال: فلا يقع الحج في أيام الحج إلا في كل خمسة وعشرين سنة، فلما كان حج أبي بكر وافق ذلك العام شهر الحج فسماه الله الحج الأكبر. "تنبيه" : اتفقت الروايات على أن حجة أبي بكر كانت سنة تسع، ووقع في حديث لعبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة في قوله: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} قال: "لما كان زمن خيبر اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجعرانة. ثم أمر أبا بكر الصديق على تلك الحجة. قال الزهري: وكان أبو هريرة يحدث أن أبا بكر أمره أن يؤذن ببراءة، ثم أتبع النبي صلى الله عليه وسلم عليا، الحديث. قال الشيخ عماد الدين بن كثير: هذا فيه غرابة من جهة أن الأمير في سنة عمرة الجعرانة كان عتاب بن أسيد، وأما حجة أبي بكر فكانت سنة تسع. قلت: يمكن رفع الإشكال بأن المراد بقوله: "ثم أمر أبا بكر" يعني بعد أن رجع إلى المدينة وطوى ذلك من ولي الحج سنة ثمان. فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع من العمرة إلى الجعرانة فأصبح بها توجه هو ومن معه إلى المدينة، إلى أن جاء أوان الحج فأمر أبا بكر وذلك سنة تسع. وليس المراد أنه أمر أبا بكر أن يحج في السنة التي كانت فيها عمرة الجعرانة. وقوله: "على تلك الحجة" يريد الآتية بعد رجوعهم إلى المدينة.

(8/322)


5- باب {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ}
4658- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ وَهْبٍ قَالَ كُنَّا عِنْدَ حُذَيْفَةَ فَقَالَ مَا بَقِيَ مِنْ أَصْحَابِ هَذِهِ الآيَةِ إِلاَّ ثَلاَثَةٌ وَلاَ مِنْ الْمُنَافِقِينَ إِلاَّ أَرْبَعَةٌ فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ إِنَّكُمْ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُخْبِرُونَا فَلاَ نَدْرِي فَمَا بَالُ هَؤُلاَءِ الَّذِينَ يَبْقُرُونَ بُيُوتَنَا وَيَسْرِقُونَ أَعْلاَقَنَا قَالَ أُولَئِكَ الْفُسَّاقُ أَجَلْ لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إِلاَّ أَرْبَعَةٌ أَحَدُهُمْ شَيْخٌ كَبِيرٌ لَوْ شَرِبَ الْمَاءَ الْبَارِدَ لَمَا وَجَدَ بَرْدَه"

(8/322)


6- باب {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}
4659- حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ الأَعْرَجَ حَدَّثَهُ أَنَّهُ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "يَكُونُ كَنْزُ أَحَدِكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَع"
4660- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ حُصَيْنٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ قَالَ مَرَرْتُ عَلَى أَبِي ذَرٍّ بِالرَّبَذَةِ فَقُلْتُ مَا أَنْزَلَكَ بِهَذِهِ الأَرْضِ قَالَ كُنَّا بِالشَّأْمِ فَقَرَأْتُ {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ

(8/322)


7- باب {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ}
4661- وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ شَبِيبِ بْنِ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ خَالِدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ خَرَجْنَا مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فَقَالَ هَذَا قَبْلَ أَنْ تُنْزَلَ الزَّكَاةُ فَلَمَّا أُنْزِلَتْ جَعَلَهَا اللَّهُ طُهْرًا لِلأَمْوَالِ
قوله: "باب قوله: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} الآية" . قوله: "يكون كنز أحدكم يوم القيامة شجاعا أقرع" كذا أورده مختصرا، وهو عند أبي نعيم في "المستخرج" من وجه آخر عن أبي اليمان وزاد: "يفر منه صاحبه ويطلبه، أنا كنزك، فلا يزال به حتى يلقمه إصبعه" وكذا أخرجه النسائي من طريق علي بن عياش عن شعيب، وقد تقدم من وجه آخر عن أبي هريرة في كتاب الزكاة مع شرح حديث أبي ذر في قصته مع معاوية في تأويل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّه} وقد تقدم في الزكاة أيضا مع شرحه. قوله باب قوله عز وجل: { يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا} الآية" قوله: "وقال أحمد بن شبيب" كذا أورده مختصرا، وتقدم بأتم منه في كتاب الزكاة مع شرحه.

(8/324)


8- باب {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} هُوَ الْقَائِمُ
4662- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ ابْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ الزَّمَانَ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ثَلاَثٌ مُتَوَالِيَاتٌ ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَان"
قوله: "باب قوله: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} أي إن الله سبحانه وتعالى لما ابتدأ خلق السموات والأرض جعل السنة اثني عشر شهرا. قوله: "منها أربعة حرم" قد ذكر تفسيرها في حديث الباب. قوله: {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} قال أبو عبيدة في قوله: {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} مجازة القائم أي المستقيم، فخرج مخرج سيد، من ساد يسود كقام يقوم. قوله: {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} أي في الأربعة باستحلال القتال، وقيل بارتكاب المعاصي. قوله: "إن الزمان قد استدار كهيئته" تقدم الكلام عليه في أوائل بدء الخلق، وأن المراد بالزمان السنة. وقوله: "كهيئته" أي استدار استدارة مثل حالته. ولفظ: "الزمان" يطلق على قليل الوقت وكثيره، والمراد باستدارته وقوع تاسع ذي الحجة في الوقت الذي حلت فيه الشمس برج الحمل حيث يستوي الليل والنهار. ووقع في حديث ابن عمر عند ابن مردويه "أن الزمان قد استدار فهو اليوم كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض" . قوله: "السنة اثنا عشر شهرا" أي السنة العربية الهلالية،

(8/324)


9- باب {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}
أَيْ نَاصِرُنَا السَّكِينَةُ فَعِيلَةٌ مِنْ السُّكُونِ
4663- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا حَبَّانُ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ حَدَّثَنَا ثَابِتٌ حَدَّثَنَا أَنَسٌ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْغَارِ فَرَأَيْتُ آثَارَ الْمُشْرِكِينَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ رَفَعَ قَدَمَهُ رَآنَا قَالَ مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا"

(8/325)


4664- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ حِينَ وَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ابْنِ الزُّبَيْرِ قُلْتُ أَبُوهُ الزُّبَيْرُ وَأُمُّهُ أَسْمَاءُ وَخَالَتُهُ عَائِشَةُ وَجَدُّهُ أَبُو بَكْرٍ وَجَدَّتُهُ صَفِيَّةُ فَقُلْتُ لِسُفْيَانَ إِسْنَادُهُ فَقَالَ حَدَّثَنَا فَشَغَلَهُ إِنْسَانٌ وَلَمْ يَقُلْ ابْنُ جُرَيْج"
[الحديث 4664- طرفه في: 4665، 4666]
4665- حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ وَكَانَ بَيْنَهُمَا شَيْءٌ فَغَدَوْتُ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقُلْتُ أَتُرِيدُ أَنْ تُقَاتِلَ ابْنَ الزُّبَيْرِ فَتُحِلَّ حَرَمَ اللَّهِ فَقَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ ابْنَ الزُّبَيْرِ وَبَنِي أُمَيَّةَ مُحِلِّينَ وَإِنِّي وَاللَّهِ لاَ أُحِلُّهُ أَبَدًا قَالَ قَالَ النَّاسُ بَايِعْ لابْنِ الزُّبَيْرِ فَقُلْتُ وَأَيْنَ بِهَذَا الأَمْرِ عَنْهُ أَمَّا أَبُوهُ فَحَوَارِيُّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ الزُّبَيْرَ وَأَمَّا جَدُّهُ فَصَاحِبُ الْغَارِ يُرِيدُ أَبَا بَكْرٍ وَأُمُّهُ فَذَاتُ النِّطَاقِ يُرِيدُ أَسْمَاءَ وَأَمَّا خَالَتُهُ فَأُمُّ الْمُؤْمِنِينَ يُرِيدُ عَائِشَةَ وَأَمَّا عَمَّتُهُ فَزَوْجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ خَدِيجَةَ وَأَمَّا عَمَّةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَدَّتُهُ يُرِيدُ صَفِيَّةَ ثُمَّ عَفِيفٌ فِي الإِسْلاَمِ قَارِئٌ لِلْقُرْآنِ وَاللَّهِ إِنْ وَصَلُونِي وَصَلُونِي مِنْ قَرِيبٍ وَإِنْ رَبُّونِي رَبُّونِي أَكْفَاءٌ كِرَامٌ فَآثَرَ التُّوَيْتَاتِ وَالأُسَامَاتِ وَالْحُمَيْدَاتِ يُرِيدُ أَبْطُنًا مِنْ بَنِي أَسَدٍ بَنِي تُوَيْتٍ وَبَنِي أُسَامَةَ وَبَنِي أَسَدٍ إِنَّ ابْنَ أَبِي الْعَاصِ بَرَزَ يَمْشِي الْقُدَمِيَّةَ يَعْنِي عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ وَإِنَّهُ لَوَّى ذَنَبَهُ يَعْنِي ابْنَ الزُّبَيْر"
4666- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ مَيْمُونٍ حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ عَنْ عُمَرَ بْنِ سَعِيدٍ قَالَ أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ دَخَلْنَا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ أَلاَ تَعْجَبُونَ لِابْنِ الزُّبَيْرِ قَامَ فِي أَمْرِهِ هَذَا فَقُلْتُ لاَحَاسِبَنَّ نَفْسِي لَهُ مَا حَاسَبْتُهَا لِأَبِي بَكْرٍ وَلاَ لِعُمَرَ وَلَهُمَا كَانَا أَوْلَى بِكُلِّ خَيْرٍ مِنْهُ وَقُلْتُ ابْنُ عَمَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَابْنُ أَبِي بَكْرٍ وَابْنُ أَخِي خَدِيجَةَ وَابْنُ أُخْتِ عَائِشَةَ فَإِذَا هُوَ يَتَعَلَّى عَنِّي وَلاَ يُرِيدُ ذَلِكَ فَقُلْتُ مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنِّي أَعْرِضُ هَذَا مِنْ نَفْسِي فَيَدَعُهُ وَمَا أُرَاهُ يُرِيدُ خَيْرًا وَإِنْ كَانَ لاَ بُدَّ لاَنْ يَرُبَّنِي بَنُو عَمِّي أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَرُبَّنِي غَيْرُهُم"
قوله: "باب قوله: {ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} أي ناصرنا" قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} أي ناصرنا وحافظنا. قوله: "السكينة فعيلة من السكون" هو قول أبي عبيدة أيضا. قوله: "حدثنا عبد الله بن محمد" هو الجعفي وهو المذكور في جميع أحاديث الباب إلا الطريق الأخير، وفي شيوخه عبد الله بن محمد جماعة منهم أبو بكر بن أبي شيبة، ولكن حيث يطلق ذلك فالمراد به الجعفي لاختصاصه به وإكثاره عنه. وحبان بفتح أوله ثم الموحدة الثقيلة هو ابن هلال، وقد تقدم الحديث مع شرحه في مناقب أبي بكر. قوله: "حين وقع بينه وبين ابن الزبير" أي بسبب البيعة، وذلك أن ابن الزبير حين مات معاوية امتنع من البيعة

(8/326)


ليزيد بن معاوية وأصر على ذلك حتى أغرى يزيد بن معاوية مسلم بن عقبة بالمدينة فكانت وقعة الحرة، ثم توجه الجيش إلى مكة فمات أميرهم مسلم بن عقبة وقام بأمر الجيش الشامي حصين بن نمير فحصر ابن الزبير بمكة، ورموا الكعبة بالمنجنيق حتى احترقت. ففجأهم الخبر بموت يزيد بن معاوية فرجعوا إلى الشام، وقام ابن الزبير في بناء الكعبة، ثم دعا إلى نفسه فبويع بالخلافة وأطاعه أهل الحجاز ومصر والعراق وخراسان وكثير من أهل الشام، ثم غلب مروان على الشام وقتل الضحاك بن قيس الأمير من قبل ابن الزبير بمرج راهط، ومضى مروان إلى مصر وغلب عليها، وذلك كله في سنة أربع وستين، وكمل بناء الكعبة في سنة خمس، ثم مات مروان في سنة خمس وستين وقام عبد الملك ابنه مقامه، وغلب المختار بن أبي عبيد على الكوفة ففر منه من كان من قبل ابن الزبير، وكان محمد بن علي بن أبي طالب المعروف بابن الحنفية وعبد الله بن عباس مقيمين بمكة منذ قتل الحسين، فدعاهما ابن الزبير إلى البيعة له فامتنعا وقالا: لا نبايع حتى يجتمع الناس على خليفة، وتبعهما جماعة على ذلك، فشدد عليهم ابن الزبير وحصرهم، فبلغ المختار فجهز إليهم جيشا فأخرجوهما واستأذنوهما في قتال ابن الزبير فامتنعا، وخرجا إلى الطائف فأقاما بها حتى مات ابن عباس سنة ثمان وستين، ورحل ابن الحنفية بعده إلى جهة رضوى جبل بينبع فأقام هناك، ثم أراد دخول الشام فتوجه إلى نحو أيلة فمات في آخر سنة ثلاث أو أول سنة أربع وسبعين، وذلك عقب قتل ابن الزبير على الصحيح، وقيل عاش إلى سنة ثمانين أو بعد ذلك، وعند الواقدي أنه مات بالمدينة سنة إحدى وثمانين، وزعمت الكيسانية أنه حي لم يمت وأنه المهدي وأنه لا يموت حتى يملك الأرض، في خرافات لهم كثيرة ليس هذا موضعها. وإنما لخصت ما ذكرته من طبقات ابن سعد وتاريخ الطبري وغيره لبيان المراد بقول ابن أبي مليكة" حين وقع بينه وبين ابن الزبير" ، ولقوله في الطريق الأخرى" فغدوت على ابن عباس فقلت: أتريد أن تقاتل ابن الزبير؟ وقول ابن عباس: قال الناس بايع لابن الزبير، فقلت: وأين بهذا الأمر عنه" أي أنه مستحق لذلك لما له من المناقب المذكورة، ولكن امتنع ابن عباس من المبايعة له لما ذكرناه. وروى الفاكهي من طريق سعيد بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال:"كان ابن عباس وابن الحنفية بالمدينة ثم سكنا مكة، وطلب منهما ابن الزبير البيعة فأبيا حتى يجتمع الناس على رجل، فضيق عليهما فبعث رسولا إلى العراق فخرج إليهما جيش في أربعة آلاف فوجدوهما محصورين، وقد أحضر الحطب فجعل على الباب يخوفهما بذلك، فأخرجوهما إلى الطائف" وذكر ابن سعد أن هذه القصة وقعت بين ابن الزبير وابن عباس في سنة ست وستين. قوله:"وأمه أسماء" أي بنت أبي بكر الصديق، وقوله:"وجدته صفية" أي بنت عبد المطلب، وقوله في الرواية الثانية" وأما عمته فزوج النبي صلى الله عليه وسلم يريد خديجة أطلق عليها عمته تجوزا وإنما هي عمة أبيه لأنها خديجة بنت خويلد أي ابن أسد، والزبير هو ابن العوام بن خويلد بن أسد، وكذا تجوز في الرواية الثالثة حيث قال: "ابن أبي بكر" وإنما هو ابن بنته، وحيث قال: "ابن أخي خديجة" وإنما هو ابن ابن أخيها العوام. قوله: "فقلت لسفيان إسناده" بالنصب أي اذكر إسناده، أو بالرفع أي ما إسناده. فقال: "حدثنا فشغله إنسان ولم يقل ابن جريج" ظاهر هذا أنه صرح له بالتحديث لكن لما يقل ابن جريج احتمل أن يكون أراد أن يدخل بينهما واسطة، واحتمل عدم الواسطة، ولذلك استظهر البخاري بإخراج الحديث من وجه آخر عن ابن جريج، ثم من وجه آخر عن شيخه. قوله في الطريق الثانية "حجاج" هو ابن محمد المصيصي. قوله: "قال ابن أبي مليكة وكان بينهما شيء" كذا أعاد الضمير بالتثنية على غير مذكور اختصارا

(8/327)


ومراده ابن عباس وابن الزبير، وهو صريح في الرواية الأولى حيث قال قال ابن عباس حين وقع بينه وبين ابن الزبير. قوله: "فتحل ما حرم الله" أي من القتال في الحرم. قوله: "كتب" أي قدر. قوله: "محلين" أي أنهم كانوا يبيحون القتال في الحرم، وإنما نسب ابن الزبير إلى ذلك وإن كان بنو أمية هم الذين ابتدءوه بالقتال وحصروه وإنما بدأ منه أولا دفعهم عن نفسه لأنه بعد أن ردهم الله عنه حصر بني هاشم ليبايعوه، فشرع فيما يؤذن بإباحته القتال في الحرم، وكان بعض الناس يسمى ابن الزبير "المحل" لذلك، قال الشاعر يتغزل في أخته رملة:
ألا من لقلب معنى غزل ... بحب المحلة أخت المحل
وقوله لا أحله أبدا أي لا أبيح القتال فيه، وهذا مذهب ابن عباس أنه لا يقاتل في الحرم ولو قوتل فيه. قوله: "قال قال الناس" القائل هو ابن عباس وناقل ذلك عنه ابن أبي مليكة فهو متصل، والمراد بالناس من كان من جهة ابن الزبير وقوله: "بايع" بصيغة الأمر وقوله: "وأين بهذا الأمر" أي الخلافة أي ليست بعيدة عنه لما له من الشرف بأسلافه الذين ذكرهم ثم صفته التي أشار إليها بقوله عفيف في الإسلام قارئ للقرآن. وفي رواية ابن قتيبة من طريق محمد بن الحكم عن عوانة ومن طريق يحيى بن سعد عن الأعمش قال: "قال ابن عباس لما قيل له بايع لابن الزبير: أين المذهب عن ابن الزبير وسيأتي الكلام على قوله في الرواية الثانية ابن أبي بكر في تفسير الحجرات. قوله: "والله إن وصلوني وصلوني من قريب" أي بسبب القرابة. قوله: "وإن ربوني" بفتح الراء وضم الموحدة الثقيلة من التربية. قوله: "ربوني" في رواية الكشميهني ربني بالإفراد، وقوله: "أكفاء" أي أمثال واحدها كفء، وقوله: "كرام" أي في أحسابهم، وظاهر هذا أن مراد ابن عباس بالمذكورين بنو أسد رهط ابن الزبير وكلام أبي مخنف الإخباري يدل على أنه أراد بني أمية، فإنه ذكر من طريق أخرى أن ابن عباس لما حضرته الوفاة بالطائف جمع بنيه فقال: "يا بني إن ابن الزبير لما خرج بمكة شددت أزره ودعوت الناس إلى بيعته وتركت بني عمنا من بني أمية الذين إن قبلونا قبلونا أكفاء، وإن ربونا ربونا كراما. فلما أصاب ما أصاب جفاني" ويؤيد هذا ما في آخر الرواية الثالثة حيث قال: "وإن كان لا بد لأن يربني بنو عمي أحب إلي من أن يربني غيرهم" فإن بني عمه هم بنو أمية ابن عبد شمس بن عبد مناف لأنهم من بني عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف فعبد المطلب جد عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عم أمية جد مروان بن الحكم بن أبي العاص، وكان هاشم وعبد شمس شقيقين، قال الشاعر:
عبد شمس كان يتلو هاشما ... وهما بعد لأم ولأب
وأصرح من ذلك ما في خبر أبي مخنف فإن في آخره: "أن ابن عباس قال لبنيه: فإذا دفنتموني فالحقوا ببني عمكم بني أمية" ثم رأيت بيان ذلك واضحا فيما أخرجه ابن أبي خيثمة في تاريخه في الحديث المذكور فإنه قال بعد قوله ثم عفيف في الإسلام قارئ للقرآن "وتركت بني عمي إن وصلوني وصلوني عن قريب" أي أذعنت له وتركت بني عمي فآثر على غيري، وبهذا يستقيم الكلام، وأصرح من ذلك في رواية ابن قتيبة المذكورة أن ابن عباس قال لابنه علي "الحق بابن عمك، فإن أنفك منك وإن كان أجدع، فلحق علي بعبد الملك فكان آثر الناس عنده" . قوله: "فآثر علي" بصيغة الفعل الماضي من الأثرة، ووقع في رواية الكشميهني فأين بتحتانية ساكنة ثم نون وهو

(8/328)


تصحيف. وفي رواية ابن قتيبة المذكورة "فشددت على عضده فآثر علي فلم أرض بالهوان" . قوله: "التويتات والأسامات والحميدات يريد أبطنا من بني أسد" أما التويتات فنسبة إلى بني تويت بن أسد ويقال تويت بن الحارث بن عبد العزى بن قصي، وأما الأسامات فنسبة إلى بني أسامة بن أسد بن عبد العزي، وأما الحميدات فنسبة إلى بني حميد بن زهير بن الحارث بن أسد بن عبد العزى، قال الفاكهي: حدثنا الزبير بن بكار عن محمد بن الضحاك في آخرين أن زهير بن الحارث دفن في الحجر. قال وحدثنا الزبير قال: كان حميد بن زهير أول من بنى بمكة بيتا مربعا، وكانت قريش تكره ذلك لمضاهاة الكعبة، فلما بنى حميد بيته قال قائلهم:
اليوم يبني لحميد بيته ... إما حياته وإما موته
فلما لم يصبه شيء تابعوه على ذلك. وتجتمع هذه الأبطن مع خويلد بن أسد جد ابن الزبير، قال الأزرقي: كان ابن الزبير إذا دعا الناس في الإذن بدأ ببني أسد على بني هاشم وبني عبد شمس وغيرهم، فهذا معنى قول ابن عباس "فآثر على التويتات إلخ" قال: فلما ولي عبد الملك بن مروان قدم بني عبد شمس ثم بني هاشم وبني المطلب وبني نوفل ثم أعطى بني الحارث بن فهر قبل بني أسد وقال: لأقدمن عليهم أبعد بطن من قريش، فكان يصنع ذلك مبالغة منه في مخالفة ابن الزبير. وجمع ابن عباس البطون المذكورة جمع القلة تحقيرا لهم. قوله: "يريد أبطنا من بني أسد بن تويت" كذا وقع وصوابه يريد أبطنا من بني تويت بن أسد إلخ نبه على ذلك عياض. قلت: وكذا وقع في مستخرج أبي نعيم على الصواب. وفي رواية أبي مخنف المذكورة أفخاذا صغارا من بني أسد بن عبد العزى، وهذا صواب. قوله: "أن ابن أبي العاص" يعني عبد المطلب بن مروان بن الحكم بن أبي العاص. قوله: "برز: أي ظهر. قوله: "يمشي القدمية" يضم القاف وفتح الدال وقد تضم أيضا وقد تسكن وكسر الميم وتشديد التحتانية، قال الخطابي وغيره: معناها التبختر، وهو مثل يريد أنه برز يطلب معالي الأمور. قال ابن الأثير: الذي في البخاري "القدمية" وهي التقدمة في الشرف والفضل، والذي في كتب الغريب "اليقدمية" بزيادة تحتانية في أوله ومعناها التقدمة في الشرف، وقيل التقدم بالهمة والفعل. قلت: وفي رواية أبي مخنف مثل ما وقع في الصحيح. قوله: "وإنه لوى ذنبه" يعني ابن الزبير، لوى بتشديد الواو وبتخفيفها أي ثناه، وكني بذلك عن تأخره وتخلفه عن معالي الأمور، وقيل كني به عن الجبن وإيثار الدعة كما تفعل السباع إذا أرادت النوم، والأول أولى، وفي مثله قال الشاعر:
مشى ابن الزبير القهقرى وتقدمت ... أمية حتى أحرزوا القصبات
وقال الداودي: المعنى أنه وقف فلم يتقدم ولم يتأخر، ولا وضع مواضعها فأدنى الناصح وأقصى الكاشح. وقال ابن التين، معنى "لوى ذنبه" لم يتم له ما أراده. وفي رواية أبي مخنف المذكورة "وإن ابن الزبير يمشي القهقرى" وهو المناسب لقوله في عبد الملك، يمشي القدمية، وكان الأمر كما قال ابن عباس، فإن عبد الملك لم يزل في تقدم من أمره إلى أن استنقذ العراق من ابن الزبير وقتل أخاه مصعبا، ثم جهز العساكر إلى ابن الزبير بمكة فكان من الأمر ما كان، ولم يزل أمر ابن الزبير في تأخر إلى أن قتل رحمه الله تعالى. قوله في الرواية الثالثة "عن عمر بن سعيد" أي ابن أبي حسين المكي، وقوله: "لأحاسبن نفسي" أي لأناقشنها في معونته ونصحه، قاله الخطابي. وقال الداودي: معناه لأذكرن من مناقبه ما لم أذكر من مناقبهما، وإنما صنع ابن عباس ذلك لاشتراك

(8/329)


الناس في معرفة مناقب أبي بكر وعمر، بخلاف ابن الزبير فما كانت مناقبه في الشهرة كمناقبهما فأظهر ذلك ابن عباس وبينه للناس إنصافا منه له، فلما لم ينصفه هو رجع عنه. قوله: "فإذا هو يتعلى عني" أي يترفع علي متنحيا عني. قوله: "ولا يريد ذلك" أي لا يريد أن أكون من خاصته. وقوله: "ما كنت أظن أني أغرض هذا من نفسي" أي أبدؤه بالخضوع له ولا يرضى مني بذلك، وقوله: "وما أراه يريد خيرا" أي لا يريد أن يصنع بي خيرا. وفي رواية الكشميهني: "وإنما أراه يريد خيرا" وهو تصحيف، ويوضحه ما تقدم. وقوله: "لأن يربني" أي يكون علي ربا أي أميرا، أو ربه بمعنى رباه وقام بأمره وملك تدبيره، قال التيمي: معناه لأن أكون في طاعة بني أمية أحب إلي من أن أكون في طاعة بني أسد، لأن بني أمية أقرب إلى بني هاشم من بني أسد كما تقدم، والله أعلم

(8/330)


10- باب {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ} قَالَ مُجَاهِدٌ يَتَأَلَّفُهُمْ بِالْعَطِيَّةِ
4667- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ أَبِي نُعْمٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ بُعِثَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَيْءٍ فَقَسَمَهُ بَيْنَ أَرْبَعَةٍ وَقَالَ: "أَتَأَلَّفُهُمْ فَقَالَ رَجُلٌ مَا عَدَلْتَ فَقَالَ: "يَخْرُجُ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا قَوْمٌ يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّين"
قوله باب قوله: {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ} قال مجاهد يتألفهم بالعطية" وصله الفريابي عن ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد، وسقط قوله: {وَفِي الرِّقَابِ} من غير رواية أبي ذر وهو أوجه، إذ لم يذكر ما يتعلق بالرقاب. حديث سعيد إلى "بعث النبي صلى الله عليه وسلم بشيء فقسمه بين أربعة وقال أتألفهم، فقال رجل ما عدلت" أورده مختصرا جدا وأبهم الباعث والمبعوث وتسمية الأربعة والرجل القائل، وقد تقدم بيان جميع ذلك في غزوة حنين من المغازي.

(8/330)


11- باب {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ}
يَلْمِزُونَ يَعِيبُونَ وَ جُهْدَهُمْ وَجَهْدَهُمْ طَاقَتَهُمْ
4668- حَدَّثَنِي بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ أَبُو مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ لَمَّا أُمِرْنَا بِالصَّدَقَةِ كُنَّا نَتَحَامَلُ فَجَاءَ أَبُو عَقِيلٍ بِنِصْفِ صَاعٍ وَجَاءَ إِنْسَانٌ بِأَكْثَرَ مِنْهُ فَقَالَ الْمُنَافِقُونَ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنْ صَدَقَةِ هَذَا وَمَا فَعَلَ هَذَا الآخَرُ إِلاَّ رِئَاءً فَنَزَلَتْ {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ} الآيَة"
4669- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ قُلْتُ لِأَبِي أُسَامَةَ أَحَدَّثَكُمْ زَائِدَةُ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ شَقِيقٍ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيِّ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُ بِالصَّدَقَةِ فَيَحْتَالُ أَحَدُنَا حَتَّى يَجِيءَ بِالْمُدِّ وَإِنَّ لأَحَدِهِمْ الْيَوْمَ مِائَةَ أَلْفٍ كَأَنَّهُ يُعَرِّضُ بِنَفْسِه"

(8/330)


باب {استغفر لهم أو لا تسغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم}
...
12- باب {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ}
4670- حَدَّثَنِي عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ لَمَّا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ جَاءَ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ قَمِيصَهُ يُكَفِّنُ فِيهِ أَبَاهُ فَأَعْطَاهُ ثُمَّ سَأَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ فَقَامَ عُمَرُ فَأَخَذَ بِثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " يَا رَسُولَ اللَّهِ تُصَلِّي عَلَيْهِ وَقَدْ نَهَاكَ رَبُّكَ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَيْهِ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا خَيَّرَنِي اللَّهُ فَقَالَ {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} وَسَأَزِيدُهُ عَلَى السَّبْعِينَ قَالَ إِنَّهُ مُنَافِقٌ قَالَ فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ}
4671- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ و قَالَ غَيْرُهُ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لَمَّا مَاتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ دُعِيَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ فَلَمَّا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَثَبْتُ إِلَيْهِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتُصَلِّي عَلَى ابْنِ أُبَيٍّ وَقَدْ قَالَ يَوْمَ كَذَا كَذَا وَكَذَا قَالَ أُعَدِّدُ عَلَيْهِ قَوْلَهُ فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: أَخِّرْ عَنِّي يَا عُمَرُ فَلَمَّا أَكْثَرْتُ عَلَيْهِ قَالَ" إِنِّي خُيِّرْتُ فَاخْتَرْتُ لَوْ أَعْلَمُ أَنِّي إِنْ زِدْتُ عَلَى السَّبْعِينَ يُغْفَرْ لَهُ لَزِدْتُ عَلَيْهَا" قَالَ فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ انْصَرَفَ فَلَمْ يَمْكُثْ إِلاَّ يَسِيرًا حَتَّى نَزَلَتْ الْآيَتَانِ مِنْ بَرَاءَةَ {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} إِلَى قَوْلِهِ {وَهُمْ فَاسِقُونَ} قَالَ فَعَجِبْتُ بَعْدُ مِنْ جُرْأَتِي عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاللَّهُ

(8/333)


وَرَسُولُهُ أَعْلَم"
قوله: "باب {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} كذا لأبي ذر ورواية غيره مختصرة. قوله: "عن عبيد الله" هو ابن عمر. قوله: "لما توفي عبد الله بن أبي" ذكر الواقدي ثم الحاكم في "الإكليل" أنه مات بعد منصرفهم من تبوك وذلك في ذي القعدة سنة تسع، وكانت مدة مرضه عشرين يوما ابتداؤها من ليال بقيت من شوال، قالوا: وكان قد تخلف هو ومن تبعه من غزوة تبوك، وفيهم نزلت: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً} وهذا يدفع قول ابن التين أن هذه القصة كانت في أول الإسلام قبل تقرير الأحكام. قوله: "جاء ابنه عبد الله بن عبد الله" وقع في رواية الطبري من طريق الشعبي: لما اختصر عبد الله جاء ابنه عبد الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله إن أبي قد احتضر فأحب أن تشهده وتصلي عليه، قال: ما اسمك؟ قال: الحباب - يعني بضم المهملة وموحدتين مخففا - قال: بل أنت عبد الله الحباب اسم الشيطان . وكان عبد الله بن عبد الله بن أبي هذا من فضلاء الصحابة وشهد بدرا وما بعدها واستشهد يوم اليمامة في خلافة أبي بكر الصديق، ومن مناقبه أنه بلغه بعض مقالات أبيه فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه في قتله، قال: " بل أحسن صحبته" ، أخرجه ابن منده من حديث أبي هريرة بإسناد حسن، وفي الطبراني من طريق عروة بن الزبير عن عبد الله بن عبد الله بن أبي أنه استأذن نحوه، وهذا منقطع لأن عروة لم يدركه وكأنه كان يحمل أمر أبيه على ظاهر الإسلام فلذلك التمس من النبي صلى الله عليه وسلم أن يحضر عنده ويصلي عليه، ولا سيما وقد ورد ما يدل على أنه فعل ذلك بعهد من أبيه، ويؤيد ذلك ما أخرجه عبد الرزاق عن معمر والطبري من طريق سعيد كلاهما عن قتادة قال: "أرسل عبد الله ابن أبي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما دخل عليه قال: أهلكك حب يهود ، فقال: يا رسول الله إنما أرسلت إليك لتستغفر لي ولم أرسل إليك لتوبخني. ثم سأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه فأجابه" وهذا مرسل مع ثقة رجاله، ويعضده ما أخرجه الطبراني من طريق الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس قال: "لما مرض عبد الله بن أبي جاءه النبي صلى الله عليه وسلم فكلمه فقال: قد فهمت ما تقول، فامنن علي فكفني في قميصك وصل علي ففعل" وكأن عبد الله بن أبي أراد بذلك دفع العار عن ولده وعشيرته بعد موته فأظهر الرغبة في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، ووقعت إجابته إلى سؤاله بحسب ما ظهر من حاله إلى أن كشف الله الغطاء عن ذلك كما سيأتي، وهذا من أحسن الأجوبة فيما يتعلق بهذه القصة. قوله: "فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه، فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم" في حديث ابن عباس عن عمر ثاني حديث الباب: "فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وفي حديث الترمذي من هذا الوجه "فقام إليه فلما وقف عليه يريد الصلاة عليه وثبت إليه فقلت: يا رسول الله أتصلي على ابن أبي وقد قال يوم كذا كذا وكذا أعدد عليه قوله: "يشير بذلك إلى مثل قوله: {لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} وإلى مثل قوله: {لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} وسيأتي بيانه في تفسير المنافقين. قوله: "فقال: يا رسول الله أتصلي عليه وقد نهاك ربك أن تصلي عليه" كذا في هذه الرواية إطلاق النهي عن الصلاة، وقد استشكل جدا حتى أقدم بعضهم فقال: هذا وهم من بعض رواته، وعاكسه غيره فزعم أن عمر اطلع على نهي خاص في ذلك. وقال القرطبي: لعل ذلك وقع في خاطر عمر فيكون من قبيل الإلهام، ويحتمل أن يكون فهم ذلك من قوله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} . قلت: الثاني يعني ما قاله القرطبي أقرب من الأول، لأنه لم يتقدم النهي عن الصلاة على المنافقين، بدليل أنه قال في آخر هذا الحديث:

(8/334)


"قال فأنزل الله {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ} والذي يظهر أن في رواية الباب تجوزا بينته الرواية التي في الباب بعده من وجه آخر عن عبيد الله بن عمر بلفظ: "فقال تصلي عليه وقد نهاك الله أن تستغفر لهم" وروى عبد بن حميد والطبري من طريق الشعبي عن ابن عمر عن عمر قال: "أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي على عبد الله بن أبي فأخذت بثوبه فقلت: والله ما أمرك الله بهذا، لقد قال: { إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم} " ووقع عند ابن مردويه من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس "فقال عمر: أتصلي عليه وقد نهاك الله أن تصلي عليه؟ قال: أين؟ قال قال: {استغفر لهم} " الآية، وهذا مثل رواية الباب، فكأن عمر قد فهم من الآية المذكورة ما هو الأكثر الأغلب من لسان العرب من أن "أو" ليست للتخيير، بل للتسوية في عدم الوصف المذكور أي أن الاستغفار لهم وعدم الاستغفار سواء، وهو كقوله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} لكن الثانية أصرح، ولهذا ورد أنها نزلت بعد هذه القصة كما سأذكره، وفهم عمر أيضا من قوله: {سَبْعِينَ مَرَّةً} أنها للمبالغة وأن العدد المعين لا مفهوم له، بل المراد نفي المغفرة لهم ولو كثر الاستغفار، فيحصل من ذلك النهي عن الاستغفار فأطلقه، وفهم أيضا أن المقصود الأعظم من الصلاة على الميت طلب المغفرة للميت والشفاعة له فلذلك استلزم عنده النهي عن الاستغفار ترك الصلاة، فلذلك جاء عنه في هذه الرواية إطلاق النهي عن الصلاة، ولهذه الأمور استنكر إرادة الصلاة على عبد الله بن أبي. هذا تقرير ما صدر عن عمر مع ما عرف من شدة صلابته في الدين وكثرة بغضه للكفار والمنافقين، وهو القائل في حق حاطب بن أبي بلتعة مع ما كان له من الفضل كشهوده بدرا وغير ذلك لكونه كاتب قريشا قبل الفتح "دعني يا رسول الله أضرب عنقه فقد نافق" فلذلك أقدم على كلامه للنبي صلى الله عليه وسلم بما قال، ولم يلتفت إلى احتمال إجراء الكلام على ظاهره لما غلب عليه من الصلابة المذكورة. قال الزبير بن المنير: وإنما قال ذلك عمر حرصا على النبي صلى الله عليه وسلم ومشورة لا إلزاما، وله عوائد بذلك، ولا يبعد أن يكون النبي كان أذن له في مثل ذلك فلا يستلزم ما وقع من عمر أنه اجتهد مع وجود النص كما تمسك به قوم في جواز ذلك، وإنما أشار بالذي ظهر له فقط، ولهذا احتمل منه النبي صلى الله عليه وسلم أخذه بثوبه ومخاطبته له في مثل ذلك المقام، حتى التفت إليه متبسما كما في حديث ابن عباس بذلك في هذا الباب. قوله: "إنما خيرني الله فقال {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة}، وسأزيده على السبعين" في حديث ابن عباس عن عمر من الزيادة "فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أخر عني يا عمر، فلما أكثرت عليه قال: إني خيرت فاخترت" أي خيرت بين الاستغفار وعدمه، وقد بين ذلك حديث ابن عمر حيث ذكر الآية المذكورة. وقوله في حديث ابن عباس عن عمر "لو أعلم أني إن زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها" وحديث ابن عمر جازم بقصة الزيادة، وآكد منه ما روى عبد بن حميد من طريق قتادة قال: "لما نزلت: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ} قال النبي صلى الله عليه وسلم: قد خيرني ربي، فوالله لأزيدن على السبعين" وأخرجه الطبري من طريق مجاهد مثله، والطبري أيضا وابن أبي حاتم من طريق هشام بن عروة عن أبيه مثله، وهذه طرق وإن كانت مراسيل فإن بعضها يعضد بعضا. وقد خفيت هذه اللفظة على من خرج أحاديث المختصر والبيضاوي واقتصروا على ما وقع في حديثي الباب، ودل ذلك على أنه صلى الله عليه وسلم أطال في حال الصلاة عليه من الاستغفار له، وقد ورد ما يدل على ذلك، فذكر الواقدي أن مجمع بن جارية قال: "ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أطال على جنازة قط ما أطال على جنازة عبد الله بن أبي من الوقوف" وروى الطبري من طريق مغيرة عن الشعبي قال:

(8/335)


"قال النبي صلى الله عليه وسلم: قال الله {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} فأنا أستغفر لهم سبعين وسبعين وسبعين" وقد تمسك بهذه القصة من جعل مفهوم العدد حجة، وكذا مفهوم الصفة من باب الأولى. ووجه الدلالة أنه صلى الله عليه وسلم فهم أن ما زاد على السبعين بخلاف السبعين فقال: "سأزيد على السبعين" ، وأجاب من أنكر القول بالمفهوم بما وقع في بقية القصة، وليس ذلك بدافع للحجة، لأنه لو لم يقم الدليل على أن المقصود بالسبعين المبالغة لكان الاستدلال بالمفهوم باقيا. قوله: "قال إنه منافق فصلى عليه" أما جزم عمر بأنه منافق فجرى على ما كان يطلع عليه من أحواله: وإنما لم يأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بقوله وصلى عليه إجراء له على ظاهر حكم الإسلام كما تقدم تقريره، واستصحابا لظاهر الحكم، ولما فيه من إكرام ولده الذي تحققت صلاحيته، ومصلحة الاستئلاف لقومه ودفع المفسدة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم في أول الأمر يصبر على أذى المشركين ويعفو ويصفح، ثم أمر بقتال المشركين فاستمر صفحه وعفوه عما يظهر الإسلام ولو كان باطنه على خلاف ذلك لمصلحة الاستئلاف وعدم التنفير عنه، ولذلك قال: "لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه" فلما حصل الفتح ودخل المشركون في الإسلام وقل أهل الكفر وذلوا أمر بمجاهرة المنافقين وحملهم على حكم مر الحق، ولا سيما وقد كان ذلك قبل نزول النهي الصريح عن الصلاة على المنافقين وغير ذلك مما أمر فيه بمجاهرتهم، وبهذا التقرير يندفع الإشكال عما وقع في هذه القصة بحمد الله تعالى. قال الخطابي: إنما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع عبد الله بن أبي ما فعل لكمال شفقته على من تعلق بطرف من الدين، ولتطييب قلب ولده عبد الله الرجل الصالح، ولتألف قومه من الخزرج لرياسته فيهم، فلو لم يجب سؤال ابنه وترك الصلاة عليه قبل ورود النهي الصريح لكان سبة على ابنه وعارا على قومه، فاستعمل أحسن الأمرين في السياسة إلى أن نهى فانتهى. وتبعه ابن بطال وعبر بقوله: ورجا أن يكون معتقدا لبعض ما كان يظهر في الإسلام. وتعقبه وابن المنير بأن الإيمان لا يتبعض. وهو كما قال، لكن مراد ابن بطال أن إيمانه كان ضعيفا. قلت: وقد مال بعض أهل الحديث إلى تصحيح إسلام عبد الله بن أبي لكون النبي صلى الله عليه وسلم صلى عليه، وذهل عن الوارد من الآيات والأحاديث المصرحة في حقه بما ينافي ذلك، ولم يقف على جواب شاف في ذلك، فأقدم على الدعوى المذكورة. وهو محجوج بإجماع من قبله على نقيض ما قال، وإطباقهم على ترك ذكره في كتب الصحابة مع شهرته وذكر من هو دونه في الشرف والشهرة بأضعاف مضاعفة. وقد أخرج الطبري من طريق سعيد عن قتادة في هذه القصة قال: فأنزل الله تعالى: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} قال: فذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: وما يغنى عنه قميصي من الله، وإني لأرجو أن يسلم بذلك ألف من قومه" . قوله: "فأنزل الله تعالى: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} زاد عن مسدد في حديثه عن يحيى القطان عن عبيد الله بن عمر في آخره: "فترك الصلاة عليهم" أخرجه ابن أبي حاتم عن أبيه عن مسدد وحماد بن زاذان عن يحيى، وقد أخرجه البخاري في الجنائز عن مسدد بدون هذه الزيادة، وفي حديث ابن عباس "فصلى عليه ثم انصرف، فلم يمكث إلا يسيرا حتى نزلت" زاد ابن إسحاق في المغازي قال حدثني الزهري بسنده في ثاني حديثي الباب قال :"فما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على منافق بعده حتى قبضه الله" ومن هذا الوجه أخرجه ابن أبي حاتم، وأخرجه الطبري من وجه آخر عن ابن إسحاق فزاد فيه: "ولا قام على قبره" وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: "لما نزلت: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} قال النبي صلى الله عليه وسلم: لأزيدن على السبعين ، فأنزل الله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ

(8/336)


لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} ورجاله ثقات مع إرساله، ويحتمل أن تكون الآيتان معا نزلتا في ذلك. قوله: "حدثنا يحيى بن بكير حدثنا الليث عن عقيل. وقال غيره حدثني الليث حدثني عقيل" كذا وقع هنا، والغير المذكور هو أبو صالح كاتب الليث واسمه عبد الله بن صالح أخرجه الطبري عن المثنى بن معاذ عنه عن الليث قال حدثني عقيل. قوله: "لما مات عبد الله بن أبي بن سلول" بفتح المهملة وضم اللام وسكون الواو بعدها لام هو اسم امرأة، وهي والدة عبد الله المذكور وهي خزاعية، وأما هو فمن الخزرج أحد قبيلتي الأنصار، وابن سلول يقرأ بالرفع لأنه صفة عبد الله لا صفة أبيه. قوله: "فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أخر عني" أي كلامك، واستشكل الداودي تبسمه صلى الله عليه وسلم في تلك الحالة مع ما ثبت أن ضحكه صلى الله عليه وسلم كان تبسما ولم يكن عند شهود الجنائز يستعمل ذلك، وجوابه أنه عبر عن طلاقة وجهه بذلك تأنيسا لعمر وتطبيقا لقلبه كالمعتذر عن ترك قبول كلامه ومشورته. قوله: "إن زدت على السبعين يغفر له" كذا للأكثر يغفر بسكون الراء جوابا للشرط. وفي رواية الكشميهني فغفر له بفاء وبلفظ الفعل الماضي وضم أوله والراء مفتوحة، والأول أوجه. قوله: "فعجبت بعد" بضم الدال "من جرأتي" بضم الجيم وسكون الراء بعدها همزة أي إقدامي عليه، وقد بينا توجيه ذلك. قوله: "والله ورسوله أعلم" ظاهره أنه قول عمر، ويحتمل أن يكون قول ابن عباس، وقد روى الطبري من طريق الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس في نحو هذه القصة" قال ابن عباس فالله أعلم أي صلاة كانت، وما خادع محمد أحدا قط" وقال بعض الشراح يحتمل أن يكون عمر ظن أن النبي صلى الله عليه وسلم حين تقدم للصلاة على عبد الله بن أبي كان ناسيا لما صدر من عبد الله بن أبي وتعقب بما في السياق من تكرير المراجعة فهي دافعة لاحتمال النسيان، وقد صرح في حديث الباب بقوله: "فلما أكثرت عليه قال: "فدل على أنه كان ذاكرا.

(8/337)


13- باب {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ}
4672- حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ لَمَّا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ جَاءَ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْطَاهُ قَمِيصَهُ وَأَمَرَهُ أَنْ يُكَفِّنَهُ فِيهِ ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي عَلَيْهِ فَأَخَذَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بِثَوْبِهِ فَقَالَ تُصَلِّي عَلَيْهِ وَهُوَ مُنَافِقٌ وَقَدْ نَهَاكَ اللَّهُ أَنْ تَسْتَغْفِرَ لَهُمْ قَالَ: إِنَّمَا خَيَّرَنِي اللَّهُ أَوْ أَخْبَرَنِي اللَّهُ فَقَالَ {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} فَقَالَ: "سَأَزِيدُهُ عَلَى سَبْعِينَ" قَالَ فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَلَّيْنَا مَعَهُ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} "
قوله: "باب {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} ظاهر الآية أنها نزلت في جميع المنافقين. لكن ورد ما يدل على أنها نزلت في عدد معين منهم، قال الواقدي "أنبأنا معمر عن الزهري قال: قال حذيفة قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني مسر إليك سرا فلا تذكره لأحد، إني نهيت أن أصلي على فلان وفلان رهط ذوي عدد من

(8/337)


المنافقين" ؛ قال فلذلك كان عمر إذا أراد أن يصلي على أحد استتبع حذيفة، فإن مشى معه وإلا لم يصل عليه" ومن طريق أخرى عن جبير بن مطعم أنهم اثنى عشر رجلا، وقد تقدم حديث حذيفة قريبا أنه لم يبق منهم غير رجل واحد. ولعل الحكمة في اختصاص المذكورين بذلك أن الله علم أنهم يموتون على الكفر، بخلاف من سواهم فإنهم تابوا. ثم أورد المصنف حديث ابن عمر المذكور في الباب قبله من وجه آخر، وقوله فيه: " إنما خيرني الله أو أخبرني الله" كذا وقع بالشك، والأول بمعجمة مفتوحة وتحتانية ثقيلة من التخيير والثاني بموحدة من الإخبار، وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق إسماعيل بن أبي أويس عن أبي ضمرة الذي أخرجه البخاري من طريقه بلفظ: "إنما خيرني الله" بغير شك، وكذا في أكثر الروايات بلفظ التخيير أي بين الاستغفار وعدمه كما تقدم، واستشكل فهم التخيير من الآية حتى أقدم جماعة من الأكابر على الطعن في صحة هذا الحديث مع كثرة طرقه واتفاق الشيخين وسائر الذين خرجوا الصحيح على تصحيحه، وذلك ينادي على منكري صحته بعدم معرفة الحديث وقلة الاطلاع على طرقه، قال ابن المنير: مفهوم الآية زلت فيه الأقدام، حتى أنكر القاضي أبو بكر صحة الحديث وقال: لا يجوز أن يقبل هذا ولا يصح أن الرسول قاله انتهى. ولفظ القاضي أبي بكر الباقلاني في "التقريب" : هذا الحديث من أخبار الآحاد التي لا يعلم ثبوتها. وقال إمام الحرمين في "مختصره" : هذا الحديث غير مخرج في الصحيح. وقال في "البرهان" : لا يصححه أهل الحديث. وقال الغزالي في "المستصفى": الأظهر أن هذا الخبر غير صحيح. وقال الداودي الشارح: هذا الحديث غير محفوظ. والسبب في إنكارهم صحته ما تقرر عندهم مما قدمناه، وهو الذي فهمه عمر رضي الله عنه من حمل "أو" على التسوية لما يقتضيه سياق القصة، وحمل السبعين على المبالغة. قال ابن المنير: ليس عند أهل البيان تردد أن التخصيص بالعدد في هذا السياق غير مراد انتهى. وأيضا فشرط القول بمفهوم الصفة وكذا العدد عندهم مماثلة المنطوق للمسكوت وعدم فائدة أخرى وهنا للمبالغة فائدة واضحة، فأشكل قوله سأزيد على السبعين مع أن حكم ما زاد عليها حكمها. وقد أجاب بعض المتأخرين عن ذلك بأنه إنما قال: "سأزيد على السبعين" استمالة لقلوب عشيرته. لا أنه أراد إن زاد على السبعين يغفر له، ويؤيده تردده في ثاني حديثي الباب حيث قال: "لو أعلم أني إن زدت على السبعين يغفر له لزدت" لكن قدمنا أن الرواية ثبتت بقوله: "سأزيد" ووعده صادق، ولا سيما وقد ثبت قوله: "لأزيدن" بصيغة المبالغة في التأكيد. وأجاب بعضهم باحتمال أن يكون فعل ذلك استصحابا للحال، لأن جواز المغفرة بالزيادة كان ثابتا قبل مجيء الآية فجاز أن يكون باقيا على أصله في الجواز، وهذا جواب حسن، وحاصله أن العمل بالبقاء على حكم الأصل مع فهم المبالغة لا يتنافيان، فكأنه جوز أن المغفرة تحصل بالزيادة على السبعين لا أنه جازم بذلك، ولا يخفى ما فيه. وقيل إن الاستغفار يتنزل منزلة الدعاء، والعبد إذا سأل ربه حاجة فسؤاله إياه يتنزل منزلة الذكر لكنه من حيث طلب تعجيل حصول المطلوب ليس عبادة، فإذا كان كذلك والمغفرة في نفسها ممكنة، وتعلق العلم بعدم نفعها لا بغير ذلك، فيكون طلبها لا لغرض حصولها بل لتعظيم المدعو فإذا تعذرت المغفرة عوض الداعي عنها ما يليق به من الثواب أو دفع السوء كما ثبت في الخبر، وقد يحصل بذلك عن المدعو لهم تخفيف كما في قصة أبي طالب. هذا معنى ما قاله ابن المنير وفيه نطر لأنه يستلزم مشروعية طلب المغفرة لمن تستحيل المغفرة له شرعا وقد ورد إنكار ذلك في قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} ووقع في أصل هذه القصة إشكال آخر وذلك أنه صلى الله عليه وسلم أطلق أنه خير بين الاستغفار لهم وعدمه بقوله تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا

(8/338)


تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} وأخذ بمفهوم العدد من السبعين فقال: "سأزيد عليها" مع أنه قد سبق قبل ذلك بمدة طويلة نزول قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} فإن هذه الآية كما سيأتي في تفسير هذه السورة قريبا نزلت في قصة أبي طالب حين قال صلى الله عليه وسلم: "لأستغفرن لك ما لم أنه عنك" فنزلت، وكانت وفاة أبي طالب بمكة قبل الهجرة اتفاقا وقصة عبد الله بن أبي هذه في السنة التاسعة من الهجرة كما تقدم، فكيف يجوز مع ذلك الاستغفار للمنافقين مع الجزم بكفرهم في نفس الآية؟ وقد وقفت على جواب لبعضهم عن هذا حاصله أن المنهي عنه استغفار ترجى إجابته حتى يكون مقصوده تحصيل المغفرة لهم كما في قصة أبي طالب، بخلاف الاستغفار لمثل عبد الله بن أبي فإنه استغفار لقصد تطييب قلوب من بقي منهم، وهذا الجواب ليس بمرضي عندي. ونحوه قول الزمخشري فإنه قال: فإن قلت كيف خفي على أفصح الخلق وأخبرهم بأساليب الكلام وتمثيلاته أن المراد بهذا العدد أن الاستغفار ولو كثر لا يجدي، ولا سيما وقد تلاه قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} الآية، فبين الصارف عن المغفرة لهم؟ قلت: لم يخف عليه ذلك، ولكنه فعل ما فعل وقال ما قال إظهارا لغاية رحمته ورأفته على من بعث إليه، وهو كقول إبراهيم عليه السلام {وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وفي إظهار النبي صلى الله عليه وسلم الرأفة المذكورة لطف بأمته، وباعث على رحمة بعضهم بعضا انتهى. وقد تعقبه ابن المنير وغيره وقالوا لا يجوز نسبة ما قاله إلى الرسول، لأن الله أخبر أنه لا يغفر للكفار، وإذا كان لا يغفر لهم فطلب المغفرة لهم مستحيل، وطلب المستحيل لا يقع من النبي صلى الله عليه وسلم. ومنهم من قال: إن النهي عن الاستغفار لمن مات مشركا لا يستلزم النهي عن الاستغفار لمن مات مظهرا للإسلام، لاحتمال أن يكون معتقده صحيحا. وهذا جواب جيد، وقد قدمت البحث في هذه الآية في كتاب الجنائز. والترجيح أن نزولها كان متراخيا عن قصة أبي طالب جدا، وأن الذي نزل في قصته {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} وحررت دليل ذلك هناك، إلا أن في بقية هذه الآية من التصريح بأنهم كفروا بالله ورسوله ما يدل على أن نزول ذلك وقع متراخيا عن القصة، ولعل الذي نزل أولا وتمسك النبي صلى الله عليه وسلم به قوله تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} إلى هنا خاصة، ولذلك اقتصر في جواب عمر على التخيير وعلى ذكر السبعين، فلما وقعت القصة المذكورة كشف الله عنهم الغطاء، وفضحهم على رءوس الملأ، ونادى عليهم بأنهم كفروا بالله ورسوله. ولعل هذا هو السر في اقتصار البخاري في الترجمة من هذه الآية على هذا القدر إلى قوله: {فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} ولم يقع في شيء من نسخ كتابه تكميل الآية كما جرت به العادة من اختلاف الرواة عنه في ذلك. وإذا تأمل المتأمل المنصف وجد الحامل على من رد الحديث أو تعسف في التأويل ظنه بأن قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} نزل مع قوله: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ} أي نزلت الآية كاملة، لأنه لو فرض نزلها كاملة لاقترن بالنهي العلة وهي صريحة في أن قليل الاستغفار وكثيره لا يجدي، وإلا فإذا فرض ما حررته أن هذا القدر نزل متراخيا عن صدر الآية ارتفع الإشكال، وإذا كان الأمر كذلك فحجة المتمسك من القصة بمفهوم العدد صحيح، وكون ذلك وقع من النبي صلى الله عليه وسلم متمسكا بالظاهر على ما هو المشروع في الأحكام إلى أن يقوم الدليل الصارف عن ذلك لا إشكال فيه، فلله الحمد على ما ألهم وعلم. وقد وقفت لأبي نعيم الحافظ صاحب "حلية الأولياء" على جزء جمع فيه طرق هذا الحديث وتكلم على معانيه فلخصته، فمن ذلك أنه قال: وقع في رواية أبي أسامة وغيره عن عبيد الله العمري في قول عمر "أتصلي عليه وقد نهاك الله عن

(8/339)


الصلاة على المنافقين" ولم يبين محل النهي، فوقع بيانه في رواية أبي ضمرة عن العمري، وهو أن مراده بالصلاة عليهم الاستغفار لهم ولفظه: "وقد نهاك الله أن تستغفر لهم" قال وفي قول ابن عمر "فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلينا معه" أن عمر ترك رأي نفسه وتابع النبي صلى الله عليه وسلم، ونبه على أن ابن عمر حمل هذه القصة عن النبي صلى الله عليه وسلم بغير واسطة، بخلاف ابن عباس فإنه إنما حملها عن عمر إذ لم يشهدها. قال: وفيه جواز الشهادة على المرء بما كان عليه حيا وميتا، لقول عمر "إن عبد الله منافق" ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم قوله. ويؤخذ أن المنهي عنه من سب الأموات ما قصد به الشتم لا التعريف، وأن المنافق تجرى عليه أحكام الإسلام الظاهرة، وأن الإعلام بوفاة الميت مجردا لا يدخل في النعي المنهي عنه. وفيه جواز سؤال الموسر من المال من ترجى بركته شيئا من ماله لضرورة دينية. وفيه رعاية الحي المطيع بالإحسان إلى الميت العاصي. وفيه التكفين بالمخيط، وجواز تأخير البيان عن وقت النزول إلى وقت الحاجة، والعمل بالظاهر إذا كان النص محتملا. وفيه جواز تنبيه المفضول للفاضل على ما يظن أنه سها عنه، وتنبيه الفاضل المفضول على ما يشكل عليه، وجواز استفسار السائل المسئول وعكسه عما يحتمل ما دار بينهما، وفيه جواز التبسم في حضور الجنازة عند وجود ما يقتضيه. وقد استحب أهل العلم عدم التبسم من أجل تمام الخشوع، فيستثنى منه ما تدعو إليه الحاجة، وبالله التوفيق

(8/340)


باب {سيحلفون بالله إذا أنقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم ...}
...
14- باب {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}
4673- حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ سَمِعْتُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ حِينَ تَخَلَّفَ عَنْ تَبُوكَ وَاللَّهِ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ مِنْ نِعْمَةٍ بَعْدَ إِذْ هَدَانِي أَعْظَمَ مِنْ صِدْقِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لاَ أَكُونَ كَذَبْتُهُ فَأَهْلِكَ كَمَا هَلَكَ الَّذِينَ كَذَبُوا حِينَ أُنْزِلَ الْوَحْيُ {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ} إِلَى قَوْلِهِ {الْفَاسِقِينَ}
قوله: "باب قوله: {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ} الآية" سقط {لَكُمْ} من رواية الأصيلي والصواب إثباتها. ثم ذكر فيه طرفا من حديث كعب بن مالك الطويل في قصة توبته يتعلق بالترجمة، وقوله فيه: "ما أنعم الله علي من نعمة" كذا للأكثر وللمستملي وحده "على عبد نعمة" والأول هو الصواب، وقد سبق شرح الحديث بطوله في كتاب المغازي.

(8/340)


باب {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ} إلى قوله {الْفَاسِقِينَ}
قوله باب قوله {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ} إلى قوله {الْفَاسِقِينَ} كذا ثبت لأبي ذر وحده الترجمة بغير حديث وسقطت لللباقين وقد أخرج بن أبي حاتم من طريق بن أبي نجيح عن مجاهد أنها نزلت في المنافقين.

(8/340)


15- باب {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
4674- حَدَّثَنَا مُؤَمَّلٌ هُوَ ابْنُ هِشَامٍ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا عَوْفٌ حَدَّثَنَا أَبُو رَجَاءٍ حَدَّثَنَا سَمُرَةُ بْنُ جُنْدَبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لَنَا: " أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتِيَانِ فَابْتَعَثَانِي فَانْتَهَيْنَا إِلَى مَدِينَةٍ مَبْنِيَّةٍ بِلَبِنِ ذَهَبٍ وَلَبِنِ فِضَّةٍ فَتَلَقَّانَا رِجَالٌ شَطْرٌ مِنْ خَلْقِهِمْ كَأَحْسَنِ مَا أَنْتَ رَاءٍ وَشَطْرٌ كَأَقْبَحِ مَا أَنْتَ رَاءٍ قَالاَ لَهُمْ اذْهَبُوا فَقَعُوا فِي ذَلِكَ النَّهْرِ فَوَقَعُوا فِيهِ ثُمَّ رَجَعُوا إِلَيْنَا قَدْ ذَهَبَ ذَلِكَ السُّوءُ عَنْهُمْ فَصَارُوا فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ قَالاَ لِي هَذِهِ جَنَّةُ عَدْنٍ وَهَذَاكَ مَنْزِلُكَ قَالاَ أَمَّا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَانُوا شَطْرٌ مِنْهُمْ حَسَنٌ وَشَطْرٌ مِنْهُمْ قَبِيحٌ فَإِنَّهُمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا تَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهُم"
قوله: "باب قوله: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ} الآية كذا لأبي ذر، وساق غيره الآية إلى {رَحِيمٌ} وذكر فيه طرفا من حديث سمرة بن جندب في المنام الطويل، وسيأتي بتمامه مع شرحه في التعبير. قوله: "حدثنا مؤمل" زاد في رواية الأصيلي وغيره: "هو ابن هشام" وإسماعيل بن إبراهيم هو المعروف بابن علية. وقوله فيه: "كانوا شطر منهم حسن" قيل الصواب "حسنا" لأنه خبر كان، وخرجوه على أن كان تامة وشطر وحسن مبتدأ وخبره.

(8/341)


16- بَاب {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ}
4675- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ دَخَلَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَيْ عَمِّ قُلْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ" فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ يَا أَبَا طَالِبٍ أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لاَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ" فَنَزَلَتْ {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}
قوله بَاب {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} ذكر فيه حديث سعيد بن المسيب عن أبيه في قصة وفاة أبي طالب، وقد سبق شرحه في كتاب الجنائز، ويأتي الإلمام بشيء منه في تفسير القصص إن شاء الله تعالى.

(8/341)


17- باب {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ تَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}
4676- حدثنا أحمد بن صالح قال حدثني بن وهب قال أخبرني يونس قال أحمد وحدثنا

(8/341)


18- باب {وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لاَ مَلْجَأَ مِنْ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}
4677- حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ ابْنُ أَبِي شُعَيْبٍ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ أَعْيَنَ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ رَاشِدٍ أَنَّ الزُّهْرِيَّ حَدَّثَهُ قَالَ أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ سَمِعْتُ أَبِي كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ وَهُوَ أَحَدُ الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ تِيبَ عَلَيْهِمْ أَنَّهُ لَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا قَطُّ غَيْرَ غَزْوَتَيْنِ غَزْوَةِ الْعُسْرَةِ وَغَزْوَةِ بَدْرٍ قَالَ فَأَجْمَعْتُ صِدْقِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضُحًى وَكَانَ قَلَّمَا يَقْدَمُ مِنْ سَفَرٍ سَافَرَهُ إِلاَّ ضُحًى وَكَانَ يَبْدَأُ بِالْمَسْجِدِ فَيَرْكَعُ رَكْعَتَيْنِ وَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كَلاَمِي وَكَلاَمِ صَاحِبَيَّ وَلَمْ يَنْهَ عَنْ كَلاَمِ أَحَدٍ مِنْ الْمُتَخَلِّفِينَ غَيْرِنَا فَاجْتَنَبَ النَّاسُ كَلاَمَنَا فَلَبِثْتُ كَذَلِكَ حَتَّى طَالَ عَلَيَّ الأَمْرُ وَمَا مِنْ شَيْءٍ أَهَمُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَمُوتَ فَلاَ يُصَلِّي عَلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ يَمُوتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَكُونَ مِنْ النَّاسِ بِتِلْكَ الْمَنْزِلَةِ فَلاَ يُكَلِّمُنِي أَحَدٌ مِنْهُمْ وَلاَ يُصَلِّي وَلاَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَوْبَتَنَا عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ بَقِيَ الثُّلُثُ الْآخِرُ مِنْ اللَّيْلِ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ أُمِّ سَلَمَةَ وَكَانَتْ أُمُّ سَلَمَةَ مُحْسِنَةً فِي شَأْنِي مَعْنِيَّةً فِي أَمْرِي فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَا أُمَّ

(8/342)


سَلَمَةَ تِيبَ عَلَى كَعْبٍ قَالَتْ أَفَلاَ أُرْسِلُ إِلَيْهِ فَأُبَشِّرَهُ قَالَ إِذًا يَحْطِمَكُمْ النَّاسُ فَيَمْنَعُونَكُمْ النَّوْمَ سَائِرَ اللَّيْلَةِ" حَتَّى إِذَا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلاَةَ الْفَجْرِ آذَنَ بِتَوْبَةِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَكَانَ إِذَا اسْتَبْشَرَ اسْتَنَارَ وَجْهُهُ حَتَّى كَأَنَّهُ قِطْعَةٌ مِنْ الْقَمَرِ وَكُنَّا أَيُّهَا الثَّلاَثَةُ الَّذِينَ خُلِّفُوا عَنْ الأَمْرِ الَّذِي قُبِلَ مِنْ هَؤُلاَءِ الَّذِينَ اعْتَذَرُوا حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ لَنَا التَّوْبَةَ فَلَمَّا ذُكِرَ الَّذِينَ كَذَبُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمُتَخَلِّفِينَ وَاعْتَذَرُوا بِالْبَاطِلِ ذُكِرُوا بِشَرِّ مَا ذُكِرَ بِهِ أَحَدٌ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: {يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لاَ تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} الآيَةَ
قوله: {وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ} الآية" كذا لأبي ذر، ساق غيره إلى "الرحيم" . قوله: "حدثني محمد حدثنا أحمد بن أبي شعيب" كذا للأكثر، وسقط محمد من رواية ابن السكن فصار للبخاري عن أحمد بن أبي شعيب بلا واسطة، وعلى قول الأكثر فاختلف في محمد فقال الحاكم هو محمد بن النضر النيسابوري، يعني الذي تقدم ذكره في تفسير الأنفال. وقال مرة هو محمد بن إبراهيم البوشنجي لأن هذا الحديث وقع له من طريقه. وقال أبو علي الغساني: هو الذهلي، وأيد ذلك أن الحديث في "علل حديث الزهري للذهلي" عن أحمد بن أبي شعيب، والبخاري يستمد منه كثيرا، وهو يهمل نسبه غالبا. وأما أحمد بن أبي شعيب فهو الحراني نسبه المؤلف إلى جده، واسم أبيه عبد الله بن مسلم وأبو شعيب كنية مسلم لا كنية عبد الله وكنية أحمد أبو الحسن، وهو ثقة باتفاق وليس له في البخاري سوى هذا الموضع. ثم ذكر المصنف قطعا من قصة توبة كعب بن مالك، وقد تقدم شرحه مستوفى في المغازي. وقوله: "فلا يكلمني أحد منهم ولا يصلي علي" في رواية الكشميهني: "ولا يسلم" وحكى عياض أنه وقع لبعض الرواة "فلا يكلمني أحد منهم ولا يسلمني" واستبعده لأن المعروف أن السلام إنما يتعدى بحرف جر، وقد يوجه بأن يكون اتباعا، أو يرجع إلى قول من فسر السلام بأن معناه أنت مسلم مني. وقوله: "وكانت أم سلمة معنية في أمري" كذا للأكثر بفتح الميم وسكون المهملة وكسر النون بعدها تحتانية ثقيلة من الاعتناء. وفي رواية الكشميهني: "معينة" بضم الميم وكسر العين وسكون التحتانية بعدها نون من العون. والأول أنسب. وقوله: "يحطمكم" في رواية أبي ذر عن الكشميهني والمستملي: "يخطفكم"

(8/343)


19- باب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}
4678- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وَكَانَ قَائِدَ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ سَمِعْتُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ يُحَدِّثُ حِينَ تَخَلَّفَ عَنْ قِصَّةِ تَبُوكَ فَوَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ أَحَدًا أَبْلاَهُ اللَّهُ فِي صِدْقِ الْحَدِيثِ أَحْسَنَ مِمَّا أَبْلاَنِي مَا تَعَمَّدْتُ مُنْذُ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى يَوْمِي هَذَا كَذِبًا وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ} إِلَى قَوْلِهِ {وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} "

(8/343)


قوله: "باب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} ذكر فيه طرفا مختصرا من قصة توبة كعب أيضا.

(8/344)


20- باب {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} مِنْ الرَّأْفَةِ
46779- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي ابْنُ السَّبَّاقِ أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ الأَنْصَارِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَانَ مِمَّنْ يَكْتُبُ الْوَحْيَ قَالَ أَرْسَلَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ مَقْتَلَ أَهْلِ الْيَمَامَةِ وَعِنْدَهُ عُمَرُ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ إِنَّ عُمَرَ أَتَانِي فَقَالَ إِنَّ الْقَتْلَ قَدْ اسْتَحَرَّ يَوْمَ الْيَمَامَةِ بِالنَّاسِ وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَسْتَحِرَّ الْقَتْلُ بِالْقُرَّاءِ فِي الْمَوَاطِنِ فَيَذْهَبَ كَثِيرٌ مِنْ الْقُرْآنِ إِلاَّ أَنْ تَجْمَعُوهُ وَإِنِّي لاَرَى أَنْ تَجْمَعَ الْقُرْآنَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ قُلْتُ لِعُمَرَ كَيْفَ أَفْعَلُ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ عُمَرُ هُوَ وَاللَّهِ خَيْرٌ فَلَمْ يَزَلْ عُمَرُ يُرَاجِعُنِي فِيهِ حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ لِذَلِكَ صَدْرِي وَرَأَيْتُ الَّذِي رَأَى عُمَرُ قَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَعُمَرُ عِنْدَهُ جَالِسٌ لاَ يَتَكَلَّمُ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ إِنَّكَ رَجُلٌ شَابٌّ عَاقِلٌ وَلاَ نَتَّهِمُكَ كُنْتَ تَكْتُبُ الْوَحْيَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَتَبَّعْ الْقُرْآنَ فَاجْمَعْهُ فَوَاللَّهِ لَوْ كَلَّفَنِي نَقْلَ جَبَلٍ مِنْ الْجِبَالِ مَا كَانَ أَثْقَلَ عَلَيَّ مِمَّا أَمَرَنِي بِهِ مِنْ جَمْعِ الْقُرْآنِ قُلْتُ كَيْفَ تَفْعَلاَنِ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ هُوَ وَاللَّهِ خَيْرٌ فَلَمْ أَزَلْ أُرَاجِعُهُ حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِلَّذِي شَرَحَ اللَّهُ لَهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فَقُمْتُ فَتَتَبَّعْتُ الْقُرْآنَ أَجْمَعُهُ مِنْ الرِّقَاعِ وَالأَكْتَافِ وَالْعُسُبِ وَصُدُورِ الرِّجَالِ حَتَّى وَجَدْتُ مِنْ سُورَةِ التَّوْبَةِ آيَتَيْنِ مَعَ خُزَيْمَةَ الأَنْصَارِيِّ لَمْ أَجِدْهُمَا مَعَ أَحَدٍ غَيْرِهِ {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} إِلَى آخِرِهِمَا وَكَانَتْ الصُّحُفُ الَّتِي جُمِعَ فِيهَا الْقُرْآنُ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ ثُمَّ عِنْدَ عُمَرَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ ثُمَّ عِنْدَ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ تَابَعَهُ عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ وَاللَّيْثُ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ وَقَالَ مَعَ أَبِي خُزَيْمَةَ الأَنْصَارِيِّ وَقَالَ مُوسَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ مَعَ أَبِي خُزَيْمَةَ وَتَابَعَهُ يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ وَقَالَ أَبُو ثَابِتٍ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ وَقَالَ مَعَ خُزَيْمَةَ أَوْ أَبِي خُزَيْمَة"
قوله: "باب قوله: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} الآية" كذا لأبي ذر، وساق غيره إلى {رَءُوفٌ رَحِيمٌ} . قوله: "من الرأفة" ثبت هذا لغير أبي ذر، وهو كلام أبي عبيد، قال في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} هو فعول من الرأفة، وهي أشد الرحمة قوله: "أخبرني ابن السباق" بمهملة وتشديد الموحدة، اسمه عبيد، وسيأتي شرح الحديث مستوفى في فضائل القرآن، وتقدم في أوائل الجهاد التنبيه على اختلاف عبيد بن السباق وخارجة بن زيد في تعيين الآية. قوله: "تابعه عثمان بن عمر والليث بن سعد عن

(8/344)


يونس عن ابن شهاب" أما متابعة عثمان بن عمر فوصلها أحمد وإسحاق في مسنديهما عنه، وأما متابعة الليث عن يونس فوصلها المؤلف في فضائل القرآن وفي التوحيد. قوله: "وقال الليث حدثني عبد الرحمن بن خالد عن ابن شهاب وقال: مع أبي خزيمة" يريد أن الليث فيه شيخا آخر عن ابن شهاب، وأنه رواه عنه بإسناده المذكور لكن خالف في قوله: "مع خزيمة الأنصاري" فقال: "مع أبي خزيمة:"ورواية الليث هذه وصلها أبو القاسم البغوي في "معجم الصحابة" من طريق أبي صالح كاتب الليث عنه به. قوله: "وقال موسى عن إبراهيم حدثنا ابن شهاب وقال مع أبي خزيمة، وتابعه يعقوب بن إبراهيم عن أبيه" أما موسى فهو ابن إسماعيل، وأما إبراهيم فهو ابن سعد، ويعقوب هو ولده، ومتابعة موسى وصلها المؤلف في فضائل القرآن. وقال في آية التوبة "مع أبي خزيمة:"وفي آية الأحزاب "مع خزيمة بن ثابت الأنصاري" ومما ننبه عليه أن آية التوبة وجدها زيد بن ثابت لما جمع القرآن في عهد أبي بكر، وآية الأحزاب وجدها لما نسخ المصاحف في عهد عثمان، وسيأتي بيان ذلك واضحا في فضائل القرآن. وأما رواية يعقوب بن إبراهيم فوصلها أبو بكر بن أبي داود في "كتاب المصاحف" من طريقه، وكذا أخرجها أبو يعلى من هذا الوجه لكن باختصار، ورواها الذهلي في "الزهريات" عنه لكن قال: "مع خزيمة:"وكذا أخرجه الجوزقي من طريقه. قوله: "وقال أبو ثابت حدثنا إبراهيم وقال: مع خزيمة أو أبي خزيمة" فأما أبو ثابت فهو محمد بن عبيد الله المدني، وأما إبراهيم فهو ابن سعد، ومراده أن أصحاب إبراهيم بن سعد اختلفوا فقال بعضهم "مع أبي خزيمة:"وقال بعضهم "مع خزيمة:"وشك بعضهم والتحقيق ما قدمناه عن موسى بن إسماعيل أن آية التوبة مع أبي خزيمة آية الأحزاب مع خزيمة وستكون لنا عودة إلى تحقيق هذا في تفسير سورة الأحزاب إن شاء الله تعالى. ورواية أبي ثابت المذكورة وصلها المؤلف في الأحكام بالشك كما قال.

(8/345)


10- سورة يُونُسَ
1- باب وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {فَاخْتَلَطَ} بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَنَبَتَ بِالْمَاءِ مِنْ كُلِّ لَوْنٍ {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ} وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ {أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ} مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ مُجَاهِدٌ خَيْرٌ يُقَالُ تِلْكَ آيَاتُ يَعْنِي هَذِهِ أَعْلاَمُ الْقُرْآنِ وَمِثْلُهُ {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} الْمَعْنَى بِكُمْ {دَعْوَاهُمْ} دُعَاؤُهُمْ {أُحِيطَ بِهِمْ} دَنَوْا مِنْ الْهَلَكَةِ {أَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} فَاتَّبَعَهُمْ وَأَتْبَعَهُمْ وَاحِدٌ {عَدْوًا} مِنْ الْعُدْوَانِ وَقَالَ مُجَاهِدٌ {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ} قَوْلُ الإِنْسَانِ لِوَلَدِهِ وَمَالِهِ إِذَا غَضِبَ اللَّهُمَّ لاَ تُبَارِكْ فِيهِ وَالْعَنْهُ {لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} لاَهْلِكُ مَنْ دُعِيَ عَلَيْهِ وَلاَمَاتَهُ {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى} مِثْلُهَا حُسْنَى {وَزِيَادَةٌ} مَغْفِرَةٌ وَرِضْوَانٌ وَقَالَ غَيْرُهُ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِهِ {الْكِبْرِيَاءُ} الْمُلْكُ
قوله: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} سورة يونس" أخر أبو ذر البسملة. قوله: "وقال ابن عباس فاختلط فنبت بالماء من كل لون" وصله ابن جرير من طريق آخر عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس في قوله: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ} قال: اختلط فنبت بالماء كل لون مما يأكل الناس

(8/345)


كالحنطة والشعير وسائر حبوب الأرض. قوله: {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ} كذا ثبت هذا لغير أبي ذر ترجمة خالية من الحديث، ولم أر في هذه الآية حديثا مسندا، ولعله أراد أن يخرج فيها طريقا للحديث الذي في التوحيد مما يتعلق بذم من زعم ذلك فبيض له. قوله: "وقال زيد بن أسلم {نَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} محمد صلى الله عليه وسلم. وقال مجاهد خير" أما قول زيد بن أسلم فوصله ابن جرير من طريق ابن عيينة عنه بهذا الحديث، وهو في تفسير ابن عيينة "أخبرت عن زيد بن أسلم" وأخرج الطبري من طريق الحسن وقتادة قال: "محمد صلى الله عليه وسلم شفيع لهم" وهذا وصله ابن مردويه من حديث علي ومن حديث أبي سعيد بإسنادين ضعيفين، وأما قول مجاهد فوصله الفريابي من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى :{وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ} قال: خير. وروى ابن جرير من وجه عن مجاهد في قوله: {قَدَمَ صِدْقٍ} قال: صلاتهم وصومهم وصدقتهم وتسبيحهم، ولا تنافي بين القولين. ومن طريق الربيع بن أنس {قَدَمَ صِدْقٍ} أي ثواب صدق. ومن طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: {أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ} قال سبقت لهم السعادة في الذكر الأول، ورجح ابن جرير قول مجاهد ومن تبعه العرب لفلان قدم صدق في كذا أي قدم فيه خير، أو قدم سوء في كذا أي قدم فيه شر. وجزم أبو عبيدة بأن المراد بالقدم السابقة. وروى الحاكم من طريق أنس عن أبي بن كعب في قوله: {قَدَمَ صِدْقٍ} قال سلف صدق، وإسناده حسن. "تنبيه" : ذكر عياض أنه وقع في رواية أبي ذر "وقال مجاهد بن جبير" قال وهو خطأ. قلت لم أره في النسخة التي وقعت لنا من رواية أبي ذر إلا على الصواب كما قدمته، ذكر ابن التين أنها وقعت كذلك في رواية الشيخ أبي الحسن يعني القابسي، ومجاهد بن جبر بفتح الجيم وسكون الموحدة، لكن المراد هنا أنه فسر القدم بالخير ولو كان وقع بزيادة ابن مع التصحيف لكان عاريا عن ذكر القول المنسوب لمجاهد في تفسير القدم. قوله: "يقال تلك آيات يعني هذه أعلام القرآن ومثله {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} المعنى بكم" هذا وقع لغير أبي ذر، وسيأتي للجميع في التوحيد. وقائل ذلك هو أبو عبيدة بن المثنى، وفي تفسير السدي آيات الكتاب الأعلام، والجامع بينهما أن في كل منهما صرف الخطاب عن الغيبة إلى الحضور وعكسه. قوله: {دَعْوَاهُمْ} دعاؤهم "هو قول أبي عبيدة، قاله في معنى قوله: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ} وروى الطبري من طريق الثوري قال في قوله: "دعواهم فيها قال: إذا أرادوا الشيء قالوا اللهم فيأتيهم ما دعوا به، ومن طريق ابن جريج قال: أخبرت، فذكر نحوه وسياقه أتم، وكل هذا يؤيد أن معنى {دَعْوَاهُمْ} دعاؤهم لأن اللهم معناها يا الله أو معنى الدعوى العبادة أي كلامهم في الجنة هذا اللفظ بعينه. قوله: "أحيط بهم دنوا من الهلكة، أحاطت به خطيئته" قال أبو عبيدة في قوله: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ} أي دنوا للهلكة، يقال قد أحيط به أي أنه لهالك انتهى. وكأنه من إحاطة العدو بالقوم، فإن ذلك يكون سببا للهلاك غالبا لجعل كناية عنه، ولها أردفه المصنف بقوله: {أَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} إشارة إلى ذلك. قوله: "وقال مجاهد {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ} قوله الإنسان لولده وماله إذا غضب: اللهم لا تبارك فيه والعنه" وقوله: {قُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} أي لأهلك من دعى عليه ولأماته" هكذا وصله الفريابي وعبد بن حميد وغيرهما من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد في تفسير هذه الآية، ورواه الطبري بلفظ مختصر قال: فلو يعجل الله لهم الاستجابة في ذلك كما يستجاب في الخير لأهلكهم.
ومن طريق قتادة قال: هو دعاء الإنسان على نفسه وماله بما يكره أن يستجاب له، انتهى. وقد ورد في النهي عن

(8/346)


ذلك حديث مرفوع أخرجه مسلم في أثناء حديث طويل وأفرده أبو داود من طريق عبادة بن الوليد عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله ساعة يسأل فيها عطاء فيستجيب لكم" . قوله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى} مثلها حسنى وزيادة مغفرة ورضوان" هو قول مجاهد، وصله الفريابي وعبد وغيرهما من طريق ابن أبي نجيح عنه. قوله: "وقال غيره النظر إلى وجهه" ثبت هذا لأبي ذر وأبي الوقت خاصة، والمراد بالغير هنا فيما أظن قتادة، فقد أخرج الطبري من طريق سعيد بن أبي عروبة عنه قال: الحسنى هي الجنة، والزيادة النظر إلى وجه الرحمن، وعند عبد الرزاق عن معمر عن قتادة. الحسنى الجنة، والزيادة فيما بلغنا النظر إلى وجه الله. ولسعيد ابن منصور من طريق عبد الرحمن بن سابط مثله موقوفا أيضا. ولعبد بن حميد عن الحسن مثله. وله عن عكرمة قال: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا} قالوا لا إله إلا الله، الحسنى الجنة، وزيادة النظر إلى وجه الله الكريم. وقد ورد ذلك في حديث مرفوع أخرجه مسلم والترمذي وغيرهما من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا دخل أهل الجنة الجنة نودوا إن لكم عند الله وعدا فيقولون ألم يبيض وجوهنا ويزحزحنا عن النار ويدخلنا الجنة؟ قال فيكشف الحجاب فينظرون إليه، فوالله ما أعطاهم شيئا هو أحب إليهم منه" ثم قرأ: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} قال الترمذي: إنما أسنده حماد ابن سلمة ورواه سليمان بن المغيرة عن ثابت عن عبد الرحمن بن أبي ليلى. قلت: وكذا قال معمر، أخرجه عبد الرزاق عنه، وحماد بن زيد عن ثابت أخرجه الطبري، وأخرجه أيضا من طريق أبي موسى الأشعري نحوه موقوفا عليه، ومن طريق كعب بن عجرة مرفوعا قال: الزيادة النظر إلى وجه الرب، ولكن في إسناده ضعف، ومن تحديث حذيفة موقوفا مثله، ومن طريق أبي إسحاق عن عامر بن سعد عن أبي سعد عن أبي بكر الصديق مثله وصله قيس بن الربيع وإسرائيل عنه، ووقفه سفيان وشعبة وشريك على عامر بن سعد. وجاء في تفسير الزيادة أقوال أخر: منها قول علقمة والحسن إن الزيادة التضعيف، ومنها قول علي: إن الزيادة غرفة من لؤلؤة واحدة لها أربعة أبواب أخرج جميع ذلك الطبري. وأخرج عبد بن حميد رواية حذيفة ورواية أبي بكر من طريق إسرائيل أيضا، وأشار الطبري إلى أنه لا تعارض بين هذه الأقوال لأن الزيادة تحتمل كلا منها، والله أعلم. قوله: "الكبرياء الملك" هو قول مجاهد وصله عبد بن حميد من طريق ابن أبي نجيح عنه. وقال الفراء "قوله {وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ} لأن النبي إذا صدق صارت مقاليد أمته وملكهم إليه. قوله: "فاتبعهم وأتبعهم واحد" يعني بهمزة القطع والتشديد، وبالثاني قرأ الحسن. وقال أبو عبيدة: فأتبعهم مثل تبعهم بمعنى واحد، وهو كردفته وأردفته بمعنى، وعن الأصمعي: المهموز بمعنى أدرك، وغير المهموز بمعنى مضى وراءه أدركه أو لم يدركه، وقيل اتبعه بالتشديد في الأمر اقتدى به وأتبعه بالهمز تلاه. قوله: "عدوا من العدوان" هو قول أبي عبيدة أيضا، وهو وما قبله نعتان منصوبان على أنهما مصدران أو على الحال أي باغين متعدين، ويجوز أن يكونا مفعولين أي لأجل البغي والعدوان، وقرأ الحسن بتشديد الواو وضم أوله.

(8/347)


2- باب {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ}

(8/347)


{نُنَجِّيكَ} نُلْقِيكَ عَلَى نَجْوَةٍ مِنْ الأَرْضِ وَهُوَ النَّشَزُ الْمَكَانُ الْمُرْتَفِعُ
4680- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ وَالْيَهُودُ تَصُومُ عَاشُورَاءَ فَقَالُوا هَذَا يَوْمٌ ظَهَرَ فِيهِ مُوسَى عَلَى فِرْعَوْنَ. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لأَصْحَابِهِ أَنْتُمْ أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْهُمْ فَصُومُوا"
قوله: "باب {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ} سقط للأكثر "باب" وساقوا الآية إلى {مِنْ الْمُسْلِمِينَ} . قوله: {نُنَجِّيكَ} نلقيك على نجوة من الأرض، وهو النشز، المكان المرتفع" قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ} أي نلقيك على نجوة أي ارتفاع ا هـ، والنجوة هي الربوة المرتفعة وجمعها نجا بكسر النون والقصر، وليس قوله ننجيك من النجاة بمعنى السلامة، وقد قيل هو بمعناها والمراد مما وقع فيه قومك من قعر البحر، وقيل هو 1 وقد قرأ ابن مسعود وابن السميفع وغيرهما {نُنَجِّيكَ} بالتشديد والحاء المهملة أي نلقيك بناحية، وورد سبب ذلك فيما أخرجه عبد الرزاق عن ابن التيمي عن أبيه عن أبي السليل عن قيس بن عباد أو غيره قال: قلا بنو إسرائيل لم يمت فرعون فأخرجه الله إليهم ينظرون إليه كالثور الأحمر، وهذا موقوف رجاله ثقات. وعن معمر عن قتادة قال: لما أغرق الله فرعون لم يصدق طائفة من الناس بذلك فأخرجه الله ليكون لهم عظة وآية. وروى ابن أبي حاتم من طريق الضحاك عن ابن عباس قال: فلما خرج موسى وأصحابه قال من تخلف من قوم فرعون: ما غرق فرعون وقومه، ولكنهم في جزائر البحر يتصيدون. فأوحى الله إلى البحر أن لفظ فرعون عريانا، فلفظه عريانا أصلع أخنس قصيرا، فهو قوله: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ} ومن طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد {بِبَدَنِكَ} قال بجسدك. ومن طريق أبي صخر المدني قال: البدن الدرع الذي كان عليه. ثم ذكر المصنف حديث ابن عباس في صيام عاشوراء وقد تقدم شرحه في الصيام، ومناسبته للترجمة قوله في بعض طرقه: ذاك يوم نجى فيه موسى وأغرق فرعون. ثم ذكر المصنف حديث ابن عباس في صيام عاشوراء وقد تقدم شرحه في الصيام، ومناسبته للترجمة قوله في بعض طرقه: ذاك يوم نجى فيه موسى وأغرق فرعون.
ـــــــ
(1) بيااض بالأصل

(8/348)


11- سورة هُودٍ
وَقَالَ أَبُو مَيْسَرَةَ الأَوَّاهُ الرَّحِيمُ بِالْحَبَشِيَّةِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {بَادِئَ الرَّأْيِ} مَا ظَهَرَ لَنَا وَقَالَ مُجَاهِدٌ {الْجُودِيُّ} جَبَلٌ بِالْجَزِيرَةِ وَقَالَ الْحَسَنُ {إِنَّكَ لاَنْتَ الْحَلِيمُ} يَسْتَهْزِئُونَ بِهِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {أَقْلِعِي} أَمْسِكِي {عَصِيبٌ} شَدِيدٌ {لاَ جَرَمَ} بَلَى {وَفَارَ التَّنُّورُ} نَبَعَ الْمَاءُ وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَجْهُ الأَرْضِ
قوله سورة هود {بسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قوله: "قال ابن عباس: عصيب شديد" وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال في قوله: {قَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} قال: شديد. وأخرجه الطبري من طرق عن مجاهد وقتادة وغيرهما مثله. وقال: ومنه قول الراجز "يوم عصيب يعصب الأبطالا" ويقولون: عصب يومنا يعصب عصبا أي اشتد. قوله: "لا جرم بلى" وصله ابن أبي حاتم من طريق

(8/348)


علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ} قال أي بلى إن الله يعلم. وقال الطبري معنى جرم أي كسب الذنب ثم كثر استعماله في موضع لا بد كقولهم لا جرم أنك ذاهب، وفي موضع حقا كقولك لا جرم لتقومن. قوله: "وقال غيره وحاق نزل يحيق ينزل" قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {وَحَاقَ بِهِمْ} أي نزل بهم وأصابهم. قوله: "يئوس فعول من يئست" هو قول أبي عبيدة أيضا، قال في قوله تعالى: {يَؤُوسٌ كَفُورٌ} هو فعول من يئست. قوله: "وقال مجاهد تبتئس تحزن" وصله الطبري من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد أيضا قال في قوله: {فَلا تَبْتَئِسْ} قال: لا تحزن، ومن طريق قتادة وغير واحد نحوه. قوله: "يثنون صدورهم شك وامتراء في الحق ليستخفوا منه من الله إن استطاعوا" وهو قول مجاهد أيضا قال في قوله: {أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ} قال شك وامتراء في الحق ليستخفوا من الله إن استطاعوا، وصله الطبري من طرق عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عنه، ومن طريق معمر عن قتادة قال: أخفى ما يكون الإنسان إذا أسر في نفسه شيئا بثوبه، والله مع ذلك يعلم ما يسرون وما يعلنون. ومن طريق عكرمة عن ابن عباس في قوله: {يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ} الشك في الله وعمل السيئات يستغشي بثيابه ويستكن من الله، والله يراه ويعلم ما يسر وما يعلن. والثني يعبر به عن الشك في الحق والإعراض عنه. ومن طريق عبد الله بن شداد أنها نزلت في المنافقين، كان أحدهم إذا مر برسول الله صلى الله عليه وسلم ثنى صدره وطأطأ رأسه وتغشى بثوبه لئلا يراه، أسنده الطبري من طرق عنه، وهو بعيد فإن الآية مكية، وسيأتي عن ابن عباس ما يخالف القول الأول، لكن الجمع بينهما ممكن.
" تنبيه " : قدمت هذه التفاسير من أول السورة إلى هنا في رواية أبي ذر، وهي عند الباقين مؤخرة عما سيأتي إلى قوله: "أقلعي أمسكي" . قوله: "وقال أبو ميسرة: الأواه الرحيم بالحبشية" تقدم في ترجمة إبراهيم من أحاديث الأنبياء، وسقط هنا من رواية أبي ذر. قوله: "وقال ابن عباس: بادئ الرأي ما ظهر لنا. وقال مجاهد: الجودي جبل بالجزيرة. وقال الحسن {إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} يستهزئون به. وقال ابن عباس: أقلعي أمسكي، وفار التنور نبع الماء. وقال عكرمة وجه الأرض" تقدم جميع ذلك في أحاديث الأنبياء وسقط هنا لأبي ذر.

(8/349)


1- باب {أَلاَ إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلاَ حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} وَقَالَ غَيْرُهُ وَحَاقَ نَزَلَ يَحِيقُ يَنْزِلُ يَئُوسٌ فَعُولٌ مِنْ يَئِسْتُ وَقَالَ مُجَاهِدٌ تَبْتَئِسْ تَحْزَنْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ شَكٌّ وَامْتِرَاءٌ فِي الْحَقِّ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ مِنْ اللَّهِ إِنْ اسْتَطَاعُوا"
4681- حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ صَبَّاحٍ حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ قَالَ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقْرَأُ (أَلاَ إِنَّهُمْ تَثْنَوْنِي صُدُورُهُمْ) قَالَ سَأَلْتُهُ عَنْهَا فَقَالَ أُنَاسٌ كَانُوا يَسْتَحْيُونَ أَنْ يَتَخَلَّوْا فَيُفْضُوا إِلَى السَّمَاءِ وَأَنْ يُجَامِعُوا نِسَاءَهُمْ فَيُفْضُوا إِلَى السَّمَاءِ فَنَزَلَ ذَلِكَ فِيهِم"
[الحديث 4681- طرفاه في: 4682، 4683]
4682- حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا هِشَامٌ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ وَأَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَرَأَ (أَلاَ إِنَّهُمْ تَثْنَوْنِي صُدُورُهُمْ) قُلْتُ يَا أَبَا الْعَبَّاسِ مَا تَثْنَوْنِي صُدُورُهُمْ قَالَ كَانَ الرَّجُلُ يُجَامِعُ

(8/349)


امْرَأَتَهُ فَيَسْتَحِي أَوْ يَتَخَلَّى فَيَسْتَحِي فَنَزَلَتْ {أَلاَ إِنَّهُمْ يثنون صُدُورُهُمْ} "
4683- حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ { أَلاَ إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلاَ حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ} و قَالَ غَيْرُهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ يَسْتَغْشُونَ يُغَطُّونَ رُءُوسَهُمْ سِيءَ بِهِمْ سَاءَ ظَنُّهُ بِقَوْمِهِ وَضَاقَ بِهِمْ بِأَضْيَافِهِ بِقِطْعٍ مِنْ اللَّيْلِ بِسَوَادٍ وَقَالَ مُجَاهِدٌ إِلَيْهِ أُنِيبُ أَرْجِع"
قوله: "أخبرني محمد بن عباد بن جعفر" هكذا رواه هشام بن يوسف عن ابن جريج، وتابعه حجاج عند أحمد. وقال أبو أسامة عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس أخرجه الطبري. قوله: "أنه سمع ابن عباس يقرأ {أَلاَ إِنَّهُمْ يَثْنُونَ} يعني بفتح أوله بتحتانية وفي رواية بفوقانية وسكون المثلثة وفتح النون وسكون الواو وكسر النون بعدها ياء على وزن تفعوعل، وهو بناء مبالغة كأعشوشب، لكن جعل الفعل للصدور، وأنشد الفراء لعنترة:
وقولك للشيء الذي لا تناله ... إذا ما هو احلولي ألا ليت ذا ليا
وحكى أهل القراآت عن ابن عباس في هذه الكلمة قراآت أخرى وهي يثنون بفتح أوله وسكون المثلثة وفتح النون وكسر الواو وتشديد النون من الثني بالمثلثة والنون وهو ما هش وضعف من النبات، وقراءة ثالثة عنه أيضا بوزن يرعوي. وقال أبو حاتم السجستاني: في هذه القراءة غلط إذ لا يقال ثنوته فانثوى كرعوته فارعوى. قلت: وفي الشواذ قراآت أخرى ليس هذا موضع بسطها. قوله: "أناس كانوا يستخفون أن يتخلوا" أي أن يقضوا الحاجة في الخلاء وهم عراة، وحكى ابن التين أنه روى يتحلوا بالمهملة. وقال الشيخ أبو الحسن يعني القابسي أنه أحسن أي يرقد على حلاوة قفاه. قلت: والأول أولى. وفي رواية أبي أسامة: كانوا لا يأتون النساء ولا الغائط إلا وقد تغشوا بثيابهم كراهة أن يفضوا بفروجهم إلى السماء. قوله: "في رواية عمرو "هو ابن دينار" قال قرأ ابن عباس ألا إنهم يثنون صدورهم" ضبط أوله بالياء التحتانية وبنون آخره وصدورهم بالنصب على المفعولية وهي قراءة الجمهور، كذا للأكثر ولأبي ذر كالذي قبله، ولسعيد بن منصور عن ابن عيينة يثنوني أوله تحتانية وآخره تحتانية أيضا، وزاد وعن حميد الأعرج عن مجاهد أنه كان يقرؤها كذلك. قوله: "وقال غيره" أي عن ابن عباس "يستغشون يغطون رءوسهم" الضمير في غيره يعود على عمرو بن دينار، وقد وصله الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس وتفسير التغشي بالتغطية متفق عليه. وتخصيص ذلك بالرأس يحتاج إلى توقيف، وهذا مقبول من مثل ابن عباس، يقال منه استغشى بثوبه وتغشاه. وقال الشاعر "وتارة أتغشى فضل أطماري" . قوله: "سيء بهم ساء ظنه بقومه وضاق بهم بأضيافه" هو تفسير ابن عباس، وصله الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عنه في هذه الآية {لَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً} ساء ظنا بقومه وضاق زرعا بأضيافه، ويلزم منه اختلاف الضميرين، وأكثر المفسرين على اتحادهما. وصله ابن أبي حاتم من طريق الضحاك قال: ساءه مكانهم لما رأى بهم من الجمال. قوله: {بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ} بسواد" وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. وقال أبو عبيدة معناه ببعض من الليل. وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة بطائفة من الليل. قوله: "وقال مجاهد إليه أنيب أرجع"

(8/350)


كذا للأكثر، وسقط لأبي ذر نسبته إلى مجاهد فأوهم أنه عن ابن عباس كما قبله، وقد وصله عبد بن حميد من طريق ابن نجيح عن مجاهد بهذا، ووقع للأكثر قبيل قوله: "باب وكان عرشه على الماء" . قوله سجيل الشديد الكبير سجيل وسجين واحد بن واللام والنون أختان وقال تميم بن مقبل:
ورجلة يضربون البيض ضاحية ... ضربا تواصى به الأبطال سجينا
هو كلام أبي قال في قوله تعالى {حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} هو الشديد من الحجارة الصلب ومن الضرب أيضا قال بن مقبل فذكره قال وقوله سجيلا أي شديدا وبعضهم يحول اللام نونا وقال في موضع آخر السجيل الشديد الكثير وقد تعقبه بن قتيبة بأنه لو كان معنى السجيل الشديد لما دخلت عليه من وكان يقول حجارة سجيلا لأنه لا يقال حجارة من شديد ويمكن أن يكون الموصوف حذف أبي عبيدة البيت المذكور فأبدل قوله ضاحية بقوله عن عرض وهو بضمتين وضاد معجمة وسيأتي قول بن عباس ومن تبعه إن الكلمة فارسية في تفسير سورة الفيل وقد قال الأزهري أن ثبت أنها فارسية فقد تكلمت بها العرب فصارت وقيل هو اسم لسماء الدنيا وقيل بحر معلق بين السماء والأرض نزلت منه الحجارة وقيل هي جبال في السماء تنبيه تميم بن مقبل هو بن خبيب بن عوف بن قتيبة بن العجلان بن كعب بن عامر بن صعصعة العامري ثم العجلاني شاعر مخضرم أدرك في الجاهلية والإسلام وكان أعرابيا جافيا وله قصة مع عمر ذكره المرزباني ورجله بفتح الراء ويجوز كسرها على تقدير ذوي رجلة والجيم ساكنة وحكى بن التين في هذه الحاء المهملة والبيض بفتح الموحدة جمع بيضة وهي الخوذة أو بكسرها جمع أبيض وهو السيف فعلى الأول المراد مواضع البيض وهي الرءوس وعلى الثاني المراد يضربون بالبيص على نزع الخافض والأول أوجه وضاحية أي ظاهرة أو المراد في وقت الضحوة وتواصى أصله تتواصى فحذفت إحدى التاءين وروى تواصت بمثناة بدل التحتانية في آخره وقوله سجينا بكسر المهملة وتشديد الجيم قال الحسن بن المظفر هو فعيل من السجن كأنه يثبت من وقع فيه فلا يبرح مكانه وعن بن الأعرابي أنه رواه بالخاء المعجمة بدل الجيم أي ضربا حارا قوله استعمركم جعلكم عمارا أعمرته الدار فهي عمري سقط هذا لغير أبي ذر وقد تقدم شرحه في كتاب الهبة قوله نكرهم وأنكرهم واستنكرهم واحد هو قول أبي عبيدة وأنشد وأنكرتني وما كان الذي نكرت قوله حميد مجيد كأنه فعيل من ماجد محمود من حمد كذا وقع هنا والذي في كلام أبي عبيدة حميد مجيد أي محمود وهذا هو الصواب والحميد فعيل من حمد فهو حامد أي يحمد من يطيعه أو هو حميد بمعنى محمود والمجيد فعيل من مجد بضم الجيم يمجد كشرف يشرف وأصله الرفعة قوله اجرامى مصدر أجرمت وبعضهم يقول جرمت هو كلام أبي عبيدة وأنشد:
طريد عشيرة ورهين ذنب ... بما جرمت يدي وجنى لساني
وجرمت بمعنى كسبت وقد تقدم قريبا قوله الفلك والفلك واحد والسفن كذا وقع لبعضهم بضم الفاء فيهما وسكون اللام في الأولى وفتحها في الثانية ولآخرين بفتحتين في الأولى وبضم ثم سكون في الثانية ورجحه بن التين وقال الأول واحد والثاني جمع مثل أسد وأسد قال عياض: ولبعضهم بضم ثم سكون فيهما

(8/351)


جميعا وهو الصواب والمراد أن الجمع والواحد بلفظ واحد وقد ورد ذلك في القرآن فقد قال في الواحد في الفلك المشحون وقال في الجمع {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} والذي في كلام أبي عبيدة الفلك واحد وجمع والسفن وهذا أوضح في المراد قوله مجراها مدفعها وهو مصدر أجريت وأرسيت حبست ويقرأ مجراها من جرت هي ومرسيها من رست ومجريها ومرسيها من فعل به قال أبو عبيدة في قوله تعالى بسم الله مجراها أي مسيرها وهي من جرت بهم ومن قرأها بالضم فهو من أجريتها أنا ومرساها أي وقفها وهو مصدر أي ارسيتها أنا انتهى ووقع في بعض الشروح مجراها موقفها بواو وقاف وفاء وهو تصحيف لم أره في شيء من النسخ ثم وجدت بن التين حكاها عن رواية الشيخ أبي الحسن يعني القابسي قال وليس بصحيح لأنه فاسد المعنى والصواب ما في الأصل بدال ثم فاء ثم عين تنبيه الذي قرأ بضم الميم في مجراها الجمهور وقرأ الكوفيون حمزة روينا وحفص عن عاصم بالفتح وأبو بكر عن عاصم كالجمهور وقرءوا كلهم في المشهور بالضم في مرساها وعن بن مسعود فتحها أيضا رواه سعيد بن منصور بإسناد حسن وفي قراءة يحيى بن وثاب مجريها ومرسيها بضم أولهما وكسر الراء والسين أي الله فاعل ذلك قوله {رَاسِيَاتٍ} ثابتات قال أبو عبيدة في قوله تعالى {وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} أي ثقال ثابتات عظام وكأن المصنف ذكرها استطرادا لما ذكر مرساها قوله ثم وعنود وعاند واحد هو تأكيد التجبر هو قول أبي لكن قال وهو العادل عن الحق وقال بن قتيبة المعارض المخالف قوله ويقول الأشهاد واحدة شاهد مثل صاحب وأصحاب هو كلام أبي عبيدة أيضا واختلف في المراد بهم هنا فقيل الأنبياء وقيل الملائكة أخرجه عبد بن حميد عن مجاهد وعن زيد بن أسلم الأنبياء والملائكة والمؤمنون وهذا أعم وعن قتادة فيما أخرجه عبد الرزاق الخلائق وهذا أعم من الجميع.

(8/352)


2- باب {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ}
4684- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ وَقَالَ يَدُ اللَّهِ مَلأَى لاَ تَغِيضُهَا نَفَقَةٌ سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَقَالَ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَاءَ وَالأَرْضَ فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِي يَدِهِ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ وَبِيَدِهِ الْمِيزَانُ يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ" اعْتَرَاكَ افْتَعَلَكَ مِنْ عَرَوْتُهُ أَيْ أَصَبْتُهُ وَمِنْهُ يَعْرُوهُ وَاعْتَرَانِي آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا أَيْ فِي مِلْكِهِ وَسُلْطَانِهِ عَنِيدٌ وَعَنُودٌ وَعَانِدٌ وَاحِدٌ هُوَ تَأْكِيدُ التَّجَبُّرِ اسْتَعْمَرَكُمْ جَعَلَكُمْ عُمَّارًا أَعْمَرْتُهُ الدَّارَ فَهِيَ عُمْرَى جَعَلْتُهَا لَهُ نَكِرَهُمْ وَأَنْكَرَهُمْ وَاسْتَنْكَرَهُمْ وَاحِدٌ حَمِيدٌ مَجِيدٌ كَأَنَّهُ فَعِيلٌ مِنْ مَاجِدٍ مَحْمُودٌ مِنْ حَمِدَ سِجِّيلٌ الشَّدِيدُ الْكَبِيرُ سِجِّيلٌ وَسِجِّينٌ وَاللاَمُ وَالنُّونُ أُخْتَانِ وَقَالَ تَمِيمُ بْنُ مُقْبِلٍ:
وَرَجْلَةٍ يَضْرِبُونَ الْبَيْضَ ضَاحِيَةً ... ضَرْبًا تَوَاصَى بِهِ الأَبْطَالُ سِجِّينَا
[الحديث 4684- أطرافه في: 5352، 7411، 7419، 7496]

(8/352)


قوله:"باب قوله {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} "ذكر فيه حديث أبي هريرة، وفيه قوله: "وكان عرشه على الماء وبيده الميزان يخفض ويرفع" وسيأتي شرحه في كتاب التوحيد إن شاء الله تعالى، وقوله: "لا يغيضها" بالغين المعجمة والضاد المعجمة الساقطة أي لا ينقصها، وسحاء بمهملتين مثقلا ممدود أي دائمة، ويروي سحا بالتنوين فكأنها لشدة امتلائها تغيض أبدا، والليل والنهار بالنصب على الظرفية، والميزان كناية عن العدل.

(8/353)


3- باب {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} أَيْ إِلَى أَهْلِ مَدْيَنَ لأَنَّ مَدْيَنَ بَلَدٌ وَمِثْلُهُ وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ وَاسْأَلْ الْعِيرَ يَعْنِي أَهْلَ الْقَرْيَةِ وَأَصْحَابَ الْعِيرِ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا يَقُولُ لَمْ تَلْتَفِتُوا إِلَيْهِ وَيُقَالُ إِذَا لَمْ يَقْضِ الرَّجُلُ حَاجَتَهُ ظَهَرْتَ بِحَاجَتِي وَجَعَلْتَنِي ظِهْرِيًّا وَالظِّهْرِيُّ هَا هُنَا أَنْ تَأْخُذَ مَعَكَ دَابَّةً أَوْ وِعَاءً تَسْتَظْهِرُ بِهِ أَرَاذِلُنَا سُقَّاطُنَا إِجْرَامِي هُوَ مَصْدَرٌ مِنْ أَجْرَمْتُ وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ جَرَمْتُ الْفُلْكُ وَالْفَلَكُ وَاحِدٌ وَهْيَ السَّفِينَةُ وَالسُّفُنُ مُجْرَاهَا مَدْفَعُهَا وَهُوَ مَصْدَرُ أَجْرَيْتُ وَأَرْسَيْتُ حَبَسْتُ وَيُقْرَأُ مَرْسَاهَا مِنْ رَسَتْ هِيَ وَمَجْرَاهَا مِنْ جَرَتْ هِيَ وَمُجْرِيهَا وَمُرْسِيهَا مِنْ فُعِلَ بِهَا رَاسِيَاتٌ ثَابِتَات"

(8/353)


4- باب {وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاَءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ}
واحد الأَشْهَادُ شَاهِدٌ مِثْلُ صَاحِبٍ وَأَصْحَابٍ
4685- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ وَهِشَامٌ قَالاَ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ قَالَ بَيْنَا ابْنُ عُمَرَ يَطُوفُ إِذْ عَرَضَ رَجُلٌ فَقَالَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَوْ قَالَ يَا ابْنَ عُمَرَ سَمِعْتَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّجْوَى فَقَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "يُدْنَى الْمُؤْمِنُ مِنْ رَبِّهِ- وَقَالَ هِشَامٌ- يَدْنُو الْمُؤْمِنُ حَتَّى يَضَعَ عَلَيْهِ كَنَفَهُ فَيُقَرِّرُهُ بِذُنُوبِهِ تَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا يَقُولُ أَعْرِفُ يَقُولُ رَبِّ أَعْرِفُ مَرَّتَيْنِ فَيَقُولُ سَتَرْتُهَا فِي الدُّنْيَا وَأَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ ثُمَّ تُطْوَى صَحِيفَةُ حَسَنَاتِهِ وَأَمَّا الْآخَرُونَ أَوْ الْكُفَّارُ فَيُنَادَى عَلَى رُءُوسِ الأَشْهَادِ {هَؤُلاَءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} " وَقَالَ شَيْبَانُ عَنْ قَتَادَةَ حَدَّثَنَا صَفْوَان"
قوله: "باب قوله تعالى: {وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاَءِ الَّذِينَ كَذَبُوا} الآية" ذكر فيه حديث ابن عمر في النجوى يوم القيامة، وسيأتي شرحه في كتاب الأدب. حدثنا مسدد حدثنا يزيد بن زريع لمسدد فيه إسناد آخر يأتي في الأدب وفي التوحيد وهو أعلى من هذا رواه عنه مسدد عن أبي عوانة عن قتادة وقوله في الإسناد حدثنا سعيد وهشام أما سعيد فهو بن أبي عروبة وأما هشام فهو بن عبد الله الدستوائي وصفوان بن محرز بالحاء المهملة والراء ثم الزاي قوله وقال شيبان عن قتادة حدثنا صفوان وصله بن مردويه من طريق شيبان وسيأتي بيان ذلك في كتاب التوحيد إن شاء الله تعالى. قوله: "اعتراك افتعلك من عروته أي أصبته، ومنه يعروه واعتراني" هو كلام أبي عبيدة، وقد تقدم شرحه في فرض الخمس، وثبت هنا للكشميهني وحده، ووقع في بعض

(8/353)


5- باب {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} {الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ} الْعَوْنُ الْمُعِينُ رَفَدْتُهُ أَعَنْتُهُ تَرْكَنُوا تَمِيلُوا فَلَوْلاَ كَانَ فَهَلاَ كَانَ أُتْرِفُوا أُهْلِكُوا وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ شَدِيدٌ وَصَوْتٌ ضَعِيفٌ
4686- حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ حَدَّثَنَا بُرَيْدُ بْنُ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ قَالَ ثُمَّ قَرَأَ {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}
قوله باب قوله {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} الكاف في ذلك لتشبيه الأخذ المستقبل بالأخذ الماضي وأتى باللفظ الماضي موضع المضارعة على قراءة طلحة بن مصرف وأخذ بفتحتين في الأول كالثاني مبالغة في تحققه قوله الرفد المرفود العون المعين رفدته أعنته كذا وقع فيه وقال أبو عبيدة الرفد المرفود العون المعين يقال رفدته ثم الأمير أي أعنته قال الكرماني وقع في النسخة التي عندنا العون المعين والذي يدل عليه التفسير المعان فأما أن يكون الفاعل بمعنى المفعول أو المعنى ذو إعانة قوله تركنوا تميلوا قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} لا تعدلوا إليهم ولا تميلوا يقال ركنت إلى قولك أي أردته وقبلته وروى عبد بن حميد من طريق الربيع بن أنس لا تركنوا إلى الذين ظلموا لا ترضوا أعمالهم قوله: {فَلَوْلا كَانَ} فهلا كان سقط هذا والذي قبله من رواية أبي ذر وهو قول أبي عبيدة قال في قوله تعالى: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ} مجازه فهلا كان من القرون وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله: فلولا قال في حرف بن مسعود فهلا قوله أترفوا أهلكوا هو تفسير باللازم أي كان الترف سببا لاهلاكهم وقال أبو عبيدة في قوله تعالى: {وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ} أي ما تجبروا وتكبروا

(8/354)


عن أمر الله وصدوا عنه قوله: "زفير وشهيق إلخ" تقدم في بدء الخلق. قوله: "أنبأنا بريد بن أبي بردة عن أبيه" كذا وقع لأبي ذر ووقع لغيره: "عن أبي بردة" بدل عن أبيه وهو أصوب لأن بريد هو ابن عبد الله بن أبي بردة فأبو بردة جده لا أبوه، لكن يجوز إطلاق الأب عليه مجازا. قوله: "إن الله ليملي للظالم" أي بمهملة، ووقع في رواية الترمذي عن أبي كريب عن أبي معاوية "إن الله يملي" وربما قال: "يمهل" ورواه عن إبراهيم بن سعيد الجوهري عن أبي أسامة عن يزيد قال: "يملي" ولم يشك. قلت: قد رواه مسلم وابن ماجه والنسائي من طرق عن أبي معاوية "يملي" ولم يشك. قوله: "حتى إذا أخذه لم يفلته" بضم أوله من الرباعي أي لم يخلصه، أي إذا أهلكه لم يرفع عنه الهلاك، وهذا على تفسير الظلم بالشرك على إطلاقه، وإن فسر بما هو أعم فيحمل كل على ما يليق به، وقيل معنى لم يفلته لم يؤخره، وفيه نظر لأنه يتبادر منه أن الظالم إذا صرف عن منصبه وأهين لا يعود إلى عزه، والمشاهد في بعضهم بخلاف ذلك، فالأولى حمله على ما قدمته. والله أعلم.

(8/355)


باب {أقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل...}
...
6- باب {وَأَقِمْ الصَّلاَةَ طَرَفَيْ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} وَزُلَفًا سَاعَاتٍ بَعْدَ سَاعَاتٍ وَمِنْهُ سُمِّيَتْ الْمُزْدَلِفَةُ الزُّلَفُ مَنْزِلَةٌ بَعْدَ مَنْزِلَةٍ وَأَمَّا زُلْفَى فَمَصْدَرٌ مِنْ الْقُرْبَى ازْدَلَفُوا اجْتَمَعُوا أَزْلَفْنَا جَمَعْنَا
4687- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَزِيدُ هُوَ ابْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا أَصَابَ مِنْ امْرَأَةٍ قُبْلَةً فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَأُنْزِلَتْ عَلَيْهِ {وَأَقِمْ الصَّلاَةَ طَرَفَيْ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} قَالَ الرَّجُلُ أَلِيَ هَذِهِ قَالَ لِمَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ أُمَّتِي"
قوله: "باب {وَأَقِمْ الصَّلاَةَ طَرَفَيْ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} الآية" كذا لأبي ذر، وأكمل غيره الآية. واختلف في المراد بطرفي النهار فقيل الصبح والمغرب، وقيل الصبح والعصر، وعن مالك وابن حبيب الصبح طرف والظهر والعصر طرف. قوله: "وزلفا ساعات بعد ساعات، ومنه سميت المزدلفة، الزلف منزلة بعد منزلة وأما زلفى فمصدر من القربى، ازدلفوا اجتمعوا، أزلفنا جمعنا" انتهى. قال أبو عبيدة في قوله: {وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ} : ساعات واحدتها زلفة أي ساعة ومنزلة وقربة، ومنها سميت المزدلفة، قال العجاج:
ناج طواه مما وجفا ... طي الليالي زلفا فزلفا
وقال في قوله تعالى: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ} أي قربت وأدنيت، وله عندي زلفى أي قربى. وفي قوله: {وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ} أي جمعنا، ومنه ليلة المزدلفة، واختلف في المراد بالزلف فعن مالك المغرب والعشاء، واستنبط منه بعض الحنفية وجوب الوتر لأن زلفا جمع أقلة ثلاثة فيضاف إلى المغرب والعشاء الوتر، ولا يخفى ما فيه. وفي رواية معمر المقدم ذكرها قال قتادة: طرفي النهار الصبح والعصر، وزلفا من الليل المغرب والعشاء. قوله: "حدثنا مسدد حدثنا يزيد بن زريع عن سليمان التيمي" كذا وقع فيه، وأخرجه الطبراني عن معاذ بن المثنى

(8/355)


عن مسدد عن سلام بن أبي مطيع عن سليمان التيمي، وكان لمسدد فيه شيخان قوله: "عن أبي عثمان" هو النهدي، في رواية للإسماعيلي وأبي نعيم "حدثنا أبو عثمان" . قوله: "إن رجلا أصاب من امرأة قبلة، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له" في رواية معتمر بن سليمان التيمي عن أبيه عند مسلم والإسماعيلي فذكر أنه أصاب من امرأة قبلة أو مسا بيد أو شيئا، كأنه يسأل عن كفارة ذلك. وعند عبد الرزاق عن معمر عن سليمان التيمي بإسناده "ضرب رجل على كفل امرأة" الحديث. وفي رواية مسلم وأصحاب السنن من طريق سماك بن حرب عن إبراهيم النخعي عن علقمة والأسود عن ابن مسعود "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني وجدت امرأة في بستان ففعلت بها كل شيء غير أني لم أجامعها، قبلتها ولزمتها، فافعل بي ما شئت" الحديث. وللطبري من طريق الأعمش عن إبراهيم النخعي قال: "جاء فلان بن معتب الأنصاري فقال: يا رسول الله دخلت على امرأة فنلت منها ما ينال الرجل من أهله إلا أني لم أجامعها" الحديث، وأخرجه ابن أبي خيثمة لكن قال: "إن رجلا من الأنصار يقال له معتب" وقد جاء أن اسمه كعب بن عمرو وهو أبو اليسر بفتح التحتانية والمهملة الأنصاري أخرجه الترمذي والنسائي والبزار من طريق موسى بن طلحة عن أبي اليسر بن عمرو أنه أتته امرأة وزوجها قد بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعث، فقالت له: بعني تمرا بدرهم، قال فقلت لها وأعجبتني إن في البيت تمرا أطيب من هذا، فانطلق بها معه فغمزها وقبلها ثم فرغ، فخرج فلقي أبا بكر فأخبره، فقال تب ولا تعد. ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم الحديث، وفي روايته أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم العصر فنزلت. وفي رواية ابن مردويه من طريق أبي بريدة عن أبيه "جاءت امرأة من الأنصار إلى رجل يبيع التمر بالمدينة وكانت حسناء جميلة فلما نظر إليها أعجبته" فذكر نحوه، ولم يسم الرجل ولا المرأة ولا زوجها، وذكر بعض الشراح في اسم هذا الرجل بيهان التمار، وقيل عمرو بن غزية وقيل أبو عمرو زيد بن عمرو بن غزية وقيل عامر بن قيس وقيل عباد. قلت: وقصة نبهان التمار ذكرها عبد الغني بن سعيد الثقفي أحد الضعفاء في تفسيره عن ابن عباس، وأخرجه الثعلبي وغيره من طريق مقاتل عن الضحاك عن ابن عباس "أن نبهانا التمار أتته امرأة حسناء جميلة تبتاع منه تمرا فضرب على عجيزتها ثم ندم، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " إياك أن تكون امرأة غاز في سبيل الله" ، فذهب يبكي ويصوم ويقوم، فأنزل الله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ} الآية فأخبره، فحمد الله وقال: يا رسول الله هذه توبتي قبلت، فكيف لي بأن يتقبل شكري؟ فنزلت: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ} الآية" ، قلت: وهذا إن ثبت حمل على واقعة أخرى، لما بين السياقين من المغايرة. وأما قصة ابن غزية فأخرجها ابن منده من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ} قال: نزلت في عمرو بن غزية وكان يبيع التمر، فأتته امرأة تبتاع تمرا فأعجبته. الحديث. والكلبي ضعيف. فإن ثبت حمل أيضا على التعدد. وظن الزمخشري أن عمرو بن غزية اسم أبي اليسر فجزم به فوهم. وأما ما أخرجه أحمد وعبد بن حميد وغيرهما من حديث أبي أمامة قال: "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "إني أصبت حدا فأقمه علي فسكت عنه ثلاثا فأقيمت الصلاة فدعا الرجل فقال: أرأيت حين خرجت من بيتك ألست قد توضأت فأحسنت الوضوء؟ قال: بلى، قال: ثم شهدت الصلاة معنا؟ قال: نعم. قال: فإن الله قد غفر لك" . وتلا هذه الآية. فهي قصة أخرى ظاهر سياقها أنها متأخرة عن نزول الآية، ولعل الرجل ظن أن كل خطيئة فيها حد، فأطلق على ما فعل حدا، والله أعلم. وسيأتي مزيد لهذا في كتاب الحدود إن شاء الله تعالى. وأما قصة عامر بن قيس

(8/356)


فذكرها مقاتل بن سليمان في تفسيره. وأما قصة عباد فحكاها القرطبي ولم يعزها، وعباد اسم جد أبي اليسر فلعله نسب ثم سقط شيء. وأقوى الجميع أنه أبو اليسر والله أعلم. قوله: "فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم" في رواية عبد الرزاق أنه أتى أبا بكر وعمر أيضا. وقال فيها "فكل من سأله عن كفارة ذلك قال: أمعزبة هي؟ قال نعم. قال: لا أدري. حتى أنزل. فذكر بقية الحديث. وهذه الزيادة وقعت في حديث يوسف بن مهران عن ابن عباس عند أحمد بمعناه دون قوله لا أدري. قوله: "قال الرجل ألي هذه"؟ أي الآية يعني خاصة بي بأن صلاتي مذهبة لمعصيتي. وظاهر هذا أن صاحب القصة هو السائل عن ذلك. ولأحمد والطبراني من حديث ابن عباس "قال يا رسول الله ألي خاصة أم للناس عامة؟ فضرب عمر صدره وقال: لا ولا نعمة عين، بل للناس عامة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صدق عمر" وفي حديث أبي اليسر "فقال إنسان: يا رسول الله له خاصة" وفي رواية إبراهيم النخعي عند مسلم: "فقال معاذ يا رسول الله أله وحده أم للناس كافة" وللدار قطني مثله من حديث معاذ نفسه، ويحمل على تعدد السائلين عن ذلك. وقوله: "ألي" بفتح الهمزة استفهاما، وقوله: "هذا" مبتدأ تقدم خبره عليه، وفائدته التخصيص.
قوله: "قال: لمن عمل بها من أمتي" تقدم في الصلاة من هذا الوجه بلفظ: "قال: لجميع أمتي كلهم" وتمسك بظاهر قوله تعالى: {إنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} المرجئة وقالوا: إن الحسنات تكفر كل سيئة كبيرة كانت أو صغيرة، وحمل الجمهور هذا المطلق على المقيد في الحديث الصحيح " إن الصلاة إلى الصلاة كفارة لما بينهما ما اجتنبت الكبائر" فقال طائفة: إن اجتنبت الكبائر كانت الحسنات كفارة لما عدا الكبائر من الذنوب، وإن لم تجتنب الكبائر لم تحط الحسنات شيئا. وقال آخرون: إن لم تجتنب الكبائر لم تحط الحسنات شيئا منها وتحط الصغائر. وقيل: المراد أن الحسنات تكون سببا في ترك السيئات كقوله تعالى: { إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} لا أنها تكفر شيئا حقيقة، وهذا قول بعض المعتزلة. وقال ابن عبد البر: ذهب بعض أهل العصر إلى أن الحسنات تكفر الذنوب، واستدل بهذه الآية وغيرها من الآيات والأحاديث الظاهرة في ذلك. قال: ويرد الحث على التوبة في أي كبيرة، فلو كانت الحسنات تكفر جميع السيئات لما احتاج إلى التوبة. واستدل بهذا الحديث على عدم وجوب الحد في القبلة واللمس ونحوهما، وعلى سقوط التعزيز عمن أتى شيئا منها وجاء تائبا نادما. واستنبط منه ابن المنذر أنه لا حد على من وجد مع امرأة أجنبية في ثوب واحد.

(8/357)


12- سورة يُوسُفَ
وَقَالَ فُضَيْلٌ عَنْ حُصَيْنٍ عَنْ مُجَاهِدٍ {مُتَّكَأً} الأُتْرُجُّ قَالَ فُضَيْلٌ الأُتْرُجُّ بِالْحَبَشِيَّةِ مُتْكًا وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ رَجُلٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مُتْكًا قَالَ كُلُّ شَيْءٍ قُطِعَ بِالسِّكِّينِ وَقَالَ قَتَادَةُ {لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ} عَامِلٌ بِمَا عَلِمَ وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ {صُوَاعَ الْمَلِكِ} مَكُّوكُ الْفَارِسِيِّ الَّذِي يَلْتَقِي طَرَفَاهُ كَانَتْ تَشْرَبُ بِهِ الأَعَاجِمُ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {تُفَنِّدُونِ} تُجَهِّلُونِ وَقَالَ غَيْرُهُ {غَيَابَةٌ} كُلُّ شَيْءٍ غَيَّبَ عَنْكَ شَيْئًا فَهُوَ غَيَابَةٌ {وَالْجُبُّ} الرَّكِيَّةُ الَّتِي لَمْ تُطْوَ {بِمُؤْمِنٍ لَنَا} بِمُصَدِّقٍ أَشُدَّهُ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَ فِي النُّقْصَانِ يُقَالُ {بَلَغَ أَشُدَّهُ} وَبَلَغُوا أَشُدَّهُمْ وَقَالَ بَعْضُهُمْ وَاحِدُهَا شَدٌّ وَالْمُتَّكَأُ مَا اتَّكَأْتَ عَلَيْهِ لِشَرَابٍ أَوْ لِحَدِيثٍ أَوْ لِطَعَامٍ وَأَبْطَلَ الَّذِي قَالَ الأُتْرُجُّ وَلَيْسَ فِي كَلاَمِ الْعَرَبِ

(8/357)


الأُتْرُجُّ فَلَمَّا احْتُجَّ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُ الْمُتَّكَأُ مِنْ نَمَارِقَ فَرُّوا إِلَى شَرٍّ مِنْهُ فَقَالُوا إِنَّمَا هُوَ الْمُتْكُ سَاكِنَةَ التَّاءِ وَإِنَّمَا الْمُتْكُ طَرَفُ الْبَظْرِ وَمِنْ ذَلِكَ قِيلَ لَهَا مَتْكَاءُ وَابْنُ الْمَتْكَاءِ فَإِنْ كَانَ ثَمَّ أُتْرُجٌّ فَإِنَّهُ بَعْدَ الْمُتَّكَإِ شَغَفَهَا يُقَالُ بَلَغَ شِغَافَهَا وَهُوَ غِلاَفُ قَلْبِهَا وَأَمَّا شَعَفَهَا فَمِنْ الْمَشْعُوفِ أَصْبُ أَمِيلُ صَبَا مَالَ {أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ} مَا لاَ تَأْوِيلَ لَهُ وَالضِّغْثُ مِلْءُ الْيَدِ مِنْ حَشِيشٍ وَمَا أَشْبَهَهُ وَمِنْهُ {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا} لاَ مِنْ قَوْلِهِ {أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ} وَاحِدُهَا ضِغْثٌ نَمِيرُ مِنْ الْمِيرَةِ {وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ} مَا يَحْمِلُ بَعِيرٌ أَوَى إِلَيْهِ ضَمَّ إِلَيْهِ السِّقَايَةُ مِكْيَالٌ {تَفْتَأُ} لاَ تَزَالُ. {اسْتَيْأَسُوا} يَئِسُوا {لاَ تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ} مَعْنَاهُ الرَّجَاءُ {خَلَصُوا نَجِيًّا} اعْتَزَلُوا نَجِيًّا وَالْجَمِيعُ أَنْجِيَةٌ يَتَنَاجَوْنَ الْوَاحِدُ نَجِيٌّ وَالاثْنَانِ وَالْجَمِيعُ نَجِيٌّ وَأَنْجِيَةٌ {حَرَضًا} مُحْرَضًا يُذِيبُكَ الْهَمُّ {تَحَسَّسُوا} تَخَبَّرُوا {مُزْجَاةٍ} قَلِيلَةٍ {غَاشِيَةٌ} مِنْ عَذَابِ اللَّهِ عَامَّةٌ مُجَلِّلَةٌ.
قوله: "سورة يوسف {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} سقطت البسملة لغير أبي ذر. قوله: "وقال فضيل عن حصين عن مجاهد متكأ الأترج بالحبشية متكا" كذا لأبي ذر، ولغيره: متكا الأترج. قال فضيل: الأترج بالحبشية متكا. وهذا وصله ابن أبي حاتم من طريق يحيى بن يمان عن فضيل بن عياض. وأما روايته عن حصين فرويناه في مسند مسدد رواية معاذ بن المثنى عنه عن فضيل عن حصين عن مجاهد في قوله تعالى: {وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً} قال: أترج. ورويناه في تفسير ابن مردويه من هذا الوجه فزاد فيه عن مجاهد عن ابن عباس، ومن طريقه أخرجه الحافظ الضياء في المختارة، وقد روى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله: {وأعتدت لهن متكا} قال: طعاما. قوله: "وقال ابن عيينة: عن رجل عن مجاهد متكا كل شيء قطع بالسكين" هكذا رويناه في "تفسير ابن عيينة" رواية سعيد بن عبد الرحمن المخزومي عنه بهذا. وأخرج ابن أبي حاتم من وجه آخر عن مجاهد: المتكأ بالتثقيل الطعام وبالتخفيف الأترج، والرواية الأولى عنه أعم. قوله: "يقال بلغ أشده قبل أن يأخذ في النقصان. ويقال بلغوا أشدهم. وقال بعضهم واحدها شد. والمتكا ما اتكأت عليه لشراب أو لحديث أو لطعام وأبطل الذي قال الأترج، وليس في كلام العرب الأترج، فلما احتج عليهم بأن المتكا من نمارق فروا إلى شر منه وقالوا إنما هو المتك ساكنة التاء، وإنما المتك طرف البظر ومن ذلك قيل لها متكاء وابن المتكاء، فإن كان ثم أترج فإنه بعد المتكا" قلت: وقع هذا متراخيا عما قبله عند الأكثر، والصواب إيراده تلوه، فأما الكلام على الأشد فقال أبو عبيدة هو جمع لا واحد له من لفظه، وحكى الطبري أنه واحد لا نظير له في الآحاد. وقال سيبويه واحده شدة، وكذا قال الكسائي لكن بلا هاء. واختلف النقلة في قدر الأشد الذي بلغه يوسف فالأكثر أنه الحلم، وعن سعيد بن جبير ثمان عشرة وقيل سبع عشرة وقيل عشرون وقيل خمسة وعشرون وقيل ما بين ثمان عشرة إلى ثلاثين، وفي غيره قيل الأكثر أربعون وقيل ثلاثون وقيل ثلاثة وثلاثون وقيل خمسة وثلاثون وقيل ثمانية وأربعون وقيل ستون. وقال ابن التين: الأظهر أنه أربعون لقوله تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً} وكان النبي لا ينبأ حتى يبلغ أربعين، وتعقب بأن عيسى عليه السلام نبئ لدون أربعين ويحيى كذلك لقوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً} وسليمان لقوله تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} إلى غير ذلك. والحق أن المراد بالأشد بلوغ سن الحلم.

(8/358)


ففي حق يوسف عليه السلام ظاهر ولهذا جاء بعده {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا} وفي حق موسى عليه السلام لعله بعد ذلك كبلوغ الأربعين ولهذا جاء بعده {وَاسْتَوَى} ووقع في قوله: {آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً} في الموضعين فدل على أن الأربعين ليست حدا لذلك. وأما المتكأ فقال أبو عبيدة أعتدت أفعلت من العتاد ومعناه أعتدت لهن متكأ أي نمرقا يتكأ عليه، وزعم قوم أنه الترنج وهذا أبطل باطل في الأرض، ولكن عسى أن يكون مع المتكأ ترنج يأكلونه، ويقال ألقى له متكأ يجلس عليه انتهى. وقوله: "ليس في كلام العرب الأترج" يريد أنه ليس في كلام العرب تفسير المتكأ بالأترج، قال صاحب "المطالع" وفي الأترج ثلاث لغات ثانيها بالنون وثالثها مثلها بحذف الهمزة وفي المفرد كذلك، وعند بعض المفسرين أعتدت لهن البطيخ والموز، وقيل كان مع الأترج عسل، وقيل كان للطعام المذكور بزماورد، لكن ما نفاه المؤلف رحمه الله تبعا لأبي عبيدة قد أثبته غيره. قد روى عبد بن حميد من طريق عوف الأعرابي حديث ابن عباس أنه كان يقرأها متكا مخففة ويقال هو الأترج، وقد حكاها الفراء وتبعه الأخفش وأبو حنيفة الدينوري والقالي وابن فارس وغيرهم كصاحب "المحكم" و "الجامع" و "الصحاح" ، وفي الجامع أيضا: أهل عمان يسمون السوسن المتكأ، وقيل بضم أوله الأترج وبفتحه السوسن. وقال الجوهري: المتكأ ما تبقيه الخاتنة بعد الختان من المرأة، والمتكاء التي لم تختن، وعن الأخفش المتكأ الأترج.
" تنبيه " : متكا بضم أوله وسكون ثانيه وبالتنوين على المفعولية هو الذي فسره مجاهد وغيره بالأترج أو غيره وهي قراءة، وأما القراءة المشهورة فهو ما يتكأ عليه من وسادة وغيرها كما جرت به عادة الأكابر عند الضيافة. وبهذا التقرير لا يكون بين النقلين تعارض. وقد روى عبد بن حميد عن طريق منصور عن مجاهد قال: من قرأها مثقلة قال الطعام، ومن قرأها مخففة قال الأترج، ثم لا مانع أن يكون المتكأ مشتركا بين الأترج وطرف البظر، والبظر بفتح الموحدة وسكون الظاء المشالة موضع الختان من المرأة، وقيل البظراء التي لا تحبس بولها. قال الكرماني: أراد البخاري أن المتكأ في قوله: {وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً} اسم مفعول من الاتكاء، وليس هو متكأ بمعنى الأترج ولا بمعنى طرف البظر، فجاء فيها بعبارات معجرفة. كذا قال فوقع في أشد مما أنكره فإنها إساءة على مثل هذا الإمام الذي لا يليق لمن يتصدى لشرح كلامه، وقد ذكر جماعة من أهل اللغة أن البظر في الأصل يطلق على ما له طرف من الجسد كالثدي. قوله: "وقال قتادة {لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ} عامل بما علم" وصله ابن أبي حاتم من طريق ابن عيينة عن سعيد بن أبي عروبة عنه بهذا. قوله: "وقال سعيد بن جبير "صواع الملك" مكوك الفارسي الذي يلتقي طرفاه، كانت تشرب الأعاجم به" وصله ابن أبي حاتم من طريق أبي عوانة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير مثله، ورواه ابن منده في "غرائب شعبة" وابن مردويه من طريق عمرو بن مرزوق عن شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله: {صُوَاعَ الْمَلِكِ} قال كان كهيئة المكوك من فضة يشربون فيه، وقد كان للعباس مثله في الجاهلية. وكذا أخرجه أحمد وابن أبي شيبة عن محمد بن جعفر عن شعبة وإسناده صحيح. والمكوك بفتح الميم وكافين الأولى مضمومة ثقيلة بينهما واو ساكنة هو مكيال معروف لأهل العراق. "تنبيه" : قراءة الجمهور "صواع" ، وعن أبي هريرة أنه قرأ: {صاع الملك "عن أبي رجاء" وصوع الملك" بسكون الواو، وعن يحيى بن يعمر مثله لكن بغين معجمة حكاها الطبري. قوله: "وقال ابن عباس {تُفَنِّدُونِ} تجهلون" وروى ابن أبي حاتم من طريق أبي سنان عن عبد الله بن أبي الهذيل عن ابن عباس في قوله: {لَوْلا أَنْ

(8/359)


تُفَنِّدُونِ} أي تسفهون، كذا قال أبو عبيدة وكذا أخرجه عبد الرزاق. وأخرج أيضا عن معمر عن قتادة مثله، وأخرجه ابن مردويه من طريق ابن أبي الهذيل أيضا أتم منه قال في قوله: {وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ} قال لما خرجت العير هاجت ريح فأتت يعقوب بريح يوسف فقال: {نِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ} قال لولا أن تسفهون، قال فوجد ريحه من مسيرة ثلاثة أيام، وقوله: {تُفَنِّدُونِ} مأخوذ من الفند محركا وهو الهرم. قوله: "غيابة الجب كل شيء غيب عنك فهو غيابة، والجب الركية التي لم تطو" كذا وقع لأبي ذر فأوهم أنه من كلام ابن عباس لعطفه عليه، وليس كذلك وإنما هو كلام أبي عبيدة كما هو سأذكره. ووقع في رواية غير أبي ذر "وقال غيره غيابة إلخ" وهذا هو الصواب. قوله: {بِمُؤْمِنٍ لَنَا} بمصدق قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} : أي بمصدق. قوله: {شَغَفَهَا حُبّاً} يقال بلغ شغفاها وهو غلاف قلبها، وأما شعفها يعني بالعين المهملة فمن الشعوف" قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {شَغَفَهَا حُبّاً} أي وصل الحب إلى شغاف قلبها وهو غلافه، قال ويقرأه قوم "شعفها" أي بالعين المهملة وهو من الشعوف انتهى. والذي قرأها بالمهملة أبو رجاء والأعرج وعوف رواه الطبري، ورويت عن علي والجمهور بالمعجمة، يقال مشغوف بفلان إذا بلغ الحب أقصى المذاهب، وشعاف الجبال أعلاها، والشغاف بالمعجمة حبة القلب، وقيل علقة سوداء في صميمه. وروى عبد بن حميد من طريق قرة عن الحسن قال: الشغف - يعني بالمعجمة - أن يكون قذف في بطنها حبه، والشعف يعني بالمهملة أن يكون مشعوفا بها. وحكى الطبري عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم أن الشعف بالعين المهملة البغض وبالمعجمة الحب، وغلطه الطبري وقال: إن الشعف بالعين المهملة بمعنى عموم الحب أشهر من أن يجهله ذو علم بكلامهم. قوله: {أَصْبُ إِلَيْهِنَّ} أميل إليهن حبا قال أبو عبيدة في قوله تعالى: { وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ} أي أهواهن وأميل إليهن، قال الشاعر:
إلى هند صبا قلبي ... وهند مثلها يصبى
أي يمال. قوله: " {أَضْغَاثُ أَحْلامٍ} ما لا تأويل له، الضغث ملء اليد من حشيش وما أشبهه، ومنه {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً} لا من قوله أضغاث أحلام واحدها ضغث" كذا وقع لأبي ذر، وتوجيهه أنه أراد أن ضغثا في قوله تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً} بمعنى ملء الكف من الحشيش لا بمعنى ما لا تأويل له، ووقع عند أبي عبيدة في قوله تعالى: {قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ} : واحدها ضغث بالكسر وهي ما لا تأويل له من الرؤيا، وأراه جماعات تجمع من الرؤيا كما يجمع الحشيش فيقول ضغث أي ملء كف منه، وفي آية أخرى {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ} وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله: "أضغاث أحلام" قال: أخلاط أحلام، ولأبي يعلى من حديث ابن عباس في قوله: {أَضْغَاثُ أَحْلامٍ} قال: هي الأحلام الكاذبة. قوله: "نمير من الميرة، ونزداد كيل بعير ما يحمل بعير" قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {وَنَمِيرُ أَهْلَنَا} : من مرت تمير ميرا وهي الميرة نأتيهم ونشتري لهم الطعام، و قوله: {كَيْلَ بَعِيرٍ} أي حمل بعير يكال له ما حمل بعيره. وروى الفريابي من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد قوله: {كَيْلَ بَعِيرٍ} أي كيل حمار. وقال ابن خالويه في كتاب "ليس" : هذا حرف نادر، ذكر مقاتل عن الزبور البعير كل ما يحمل بالعبرانية، ويؤيد ذلك أن إخوة يوسف كانوا من أرض كنعان وليس بها إبل. كذا

(8/360)


قال. قوله: {آوَى إِلَيْهِ} ضم" قال أبو عبيدة في قوله: {آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ} أي ضمه، آواه فهو يؤوى إليه إيواء. قوله: "السقاية مكيال" هي الإناء الذي كان يشرب به، قيل جعله يوسف عليه السلام مكيالا لئلا يكتالوا بغيره فيظلموا، وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله: {جَعَلَ السِّقَايَةَ} قال إناء الملك الذي يشرب به. قوله: "تفتأ لا تزال" قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ} أي لا تزال تذكره، وروى الطبري من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد {تَفْتَأُ} أي لا تفتر عن حبه. وقيل معنى {تَفْتَأُ} تزال فحذف حرف النفي. قوله: "تحسسوا تخبروا" قال أبو عبيدة في قوله تعالى:{اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ} يقول تخيروا والتمسوا في المظان. قوله: "مزجاة قليلة" قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ} أي يسيرة قليلة، قيل فاسدة. وروى عبد الرزاق عن قتادة {مُزْجَاةٍ} قال: يسيرة، ولسعيد بن منصور عن عكرمة في قوله: {مُزْجَاةٍ} قال: قليلة. واختلف في بضاعتهم فقيل: كانت من صوف ونحوه، وقيل دراهم رديئة، وروى عبد الرزاق بإسناد حسن عن ابن عباس وسئل عن قوله: {بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ} قال: رثة الحبل والغرارة والشن. قوله: "غاشية من عذاب الله عامة مجللة" بالجيم، وهو تأكيد لقوله عامة. وقال أبو عبيدة "غاشية من عذاب الله" مجللة، وهي الجيم وتشديد اللام أي تعمهم، وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله: {غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ} أي وقيعة تغشاهم. قوله: "حرضا محرضا يذيبك الهم" قال أبو عبيدة في قوله تعالى:{حَتَّى تَكُونَ}: الحرض الذي أذابه الحزن أو الحب، وهو موضع محرض، قال الشاعر "إني امرؤ لج بي حزن فأحرضني" أي أذابني. قوله: "استيأسوا يئسوا {وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ} معناه الرجاء" ثبت هذا لأبي ذر عن المستملي والكشميهني، وسقط لغيرهما، وقد تقدم في ترجمة يوسف من أحاديث الأنبياء. قوله: {خَلَصُوا نَجِيّاً} أي اعتزلوا نجيا والجمع أنجية يتناجون الواحد نجي والاثنان والجمع نجي وأنجية" ثبت هذا لأبي ذر عن المستملي والكشميهني، ووقع في رواية المستملي: "اعترفوا" بدل اعتزلوا والصواب الأول، قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {خَلَصُوا نَجِيّاً}: أي اعتزلوا نجيا يتناجون، والنجي يقع لفظه على الواحد والجمع أيضا، وقد يجمع فيقال أنجية.

(8/361)


1- باب {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ}
4688- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْكَرِيمُ ابْنُ الْكَرِيمِ ابْنِ الْكَرِيمِ ابْنِ الْكَرِيمِ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيم"
قوله باب قوله: {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ} الآية" ذكر فيه حديث ابن عمر "الكريم ابن الكريم" الحديث. وأخرج الحاكم مثله من حديث أبي هريرة، وهو دال على فضيلة خاصة وقعت ليوسف عليه السلام لم يشركه فيها أحد، ومعنى قوله أكرم الناس أي من جهة النسب، ولا يلزم من ذلك أن يكون أفضل من غيره مطلقا. وقوله في أول الإسناد "حدثنا عبد الله بن محمد" هو الجعفي شيخه المشهور، ووقع في "أطراف خلف" هنا: وقال عبد الله بن محمد، والأول أولى.

(8/361)


2- باب {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ}
4689- حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَيُّ النَّاسِ أَكْرَمُ قَالَ أَكْرَمُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ قَالَ فَأَكْرَمُ النَّاسِ يُوسُفُ نَبِيُّ اللَّهِ ابْنُ نَبِيِّ اللَّهِ ابْنِ نَبِيِّ اللَّهِ ابْنِ خَلِيلِ اللَّهِ قَالُوا لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ قَالَ فَعَنْ مَعَادِنِ الْعَرَبِ تَسْأَلُونِي قَالُوا نَعَمْ قَالَ فَخِيَارُكُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُكُمْ فِي الإِسْلاَمِ إِذَا فَقِهُوا" تَابَعَهُ أَبُو أُسَامَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّه"
قوله: "باب {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ} ذكر ابن جرير وغيره أسماء إخوة يوسف وهم: روبيل وشمعون ولاوي ويهوذا وريالون ويشجر ودان ونيال وجاد واشر وبنيامين، وأكبرهم أولهم. ثم ذكر المصنف في حديث أبي هريرة "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الناس أكرم" الحديث، وقد تقدم شرحه مستوفى في أحاديث الأنبياء. ومحمد في أول الإسناد هو ابن سلام كما تقدم مصرحا به في أحاديث الأنبياء، وعبده هو ابن سليمان، وعبيد الله هو العمري. وفي الجمع بين قول يعقوب {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ} وبين قوله: {وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ} غموض، لأنه جزم بالاجتباء، وظاهره فيما يستقبل، فكيف يخاف عليه أن يهلك قبل ذلك؟ وأجيب بأجوبة: لا يلزم من جواز أكل الذئب له أكل جميعه بحيث يموت. ثانيها أراد بذلك دفع إخوته عن التوجه به فخاطبهم بما جرت عادتهم لا على ما هو في معتقده. ثالثها أن قوله: {يَجْتَبِيكَ} لفظه خبر ومعناه الدعاء كما يقال فلان يرحمه الله فلا ينافي وقوع هلاكه قبل ذلك. رابعها أن الاجتباء الذي ذكر يعقوب أنه سيحصل له كان حصل قبل أن يسأل إخوته أباهم أن يوجهه معهم، بدليل قوله بعد أن ألقوه في الجب {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} ولا بعد في أن يؤتى النبوة في ذلك السن فقد قال في قصة يحيى {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً} ولا اختصاص لذلك بيحيى فقد قال عيسى وهو في المهد {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً} وإذا حصل الاجتباء الموعود به لم يمتنع عليه الهلاك. خامسها أن يعقوب أخبر بالاجتباء مستندا إلى ما أوحى إليه به، والخبر يجوز أن يدخله النسخ عند قوم فيكون هذا من أمثلته، وإنما قال: {وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ} تجويزا لا وقوعا، وقريب منه أنه صلى الله عليه وسلم أخبرنا بأشياء من علامات الساعة كالدجال ونزول عيسى وطلوع الشمس من المغرب، ومع ذلك فإنه لما كسفت الشمس يجر رداءه فزعا يخشى أن تكون الساعة، وقوله: "تابعه أبو أسامة عن عبيد الله" وصله المؤلف في أحاديث الأنبياء.

(8/362)


باب {قل بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبرا جميل}
...
3- باب {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} سَوَّلَتْ زَيَّنَتْ
4690- حدثنا عبد العزيز بن عبد الله حدثنا إبراهيم بن سعد عن صالح عن بن شهاب قال وحدثنا الحجاج حدثنا عبد الله بن عمر النميري حدثنا يونس بن يزيد الأيلي قال سمعت الزهري سمعت عروة بن الزبير وسعيد بن المسيب وعلقمة بن وقاص وعبيد الله بن عبد الله عن حديث عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم حين قال

(8/362)


لها أهل الإفك ما قالوا فبرأها الله كل حدثني طائفة من الحديث قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن كنت بريئة فسيبرئك الله وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه" قلت اني والله لا أجد مثلا إلا أبا يوسف {فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون} وأنزل الله {إن الذين جاءوا بالإفك} العشر الآيات"
4691- حدثنا موسى حدثنا أبو عوانة عن حصين عن أبي وائل قال حدثني مسروق بن الأجدع قال حدثتني أم رومان وهي أم عائشة قالت: بينا أنا وعائشة أخذتها الحمى فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لعل في حديث تحدث" قالت نعم وقعدت عائشة قالت مثلي ومثلكم كيعقوب وبنيه {والله المستعان على ما تصفون} ".
قوله باب قوله: {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} سَوَّلَتْ زَيَّنَت" قال أبو عبيدة في قوله: {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ} : أي زينت وحسنت. ثم ذكر المصنف طرفا من حديث الإفك، وسيأتي شرحه بتمامه في تفسير سورة النور. وذكر أيضا من طريق مسروق حدثتني أم رومان "وهي أم عائشة فذكر أيضا من حديث الإفك طرفا، وقد تقدم بأتم سياقا من هذا في ترجمة يوسف من أحاديث الأنبياء، وتقدم شرح ما قيل في الإسناد المذكور من الانقطاع والجواب عنه مستوفى، ويأتي التنبيه على ما فيه من فائدة في تفسير سورة النور إن شاء الله تعالى.

(8/363)


4- باب {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتْ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ وَقَالَ عِكْرِمَةُ هَيْتَ لَكَ} بِالْحَوْرَانِيَّةِ هَلُمَّ وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ تَعَالَهْ
4692- حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ هَيْتَ لَكَ قَالَ وَإِنَّمَا نَقْرَؤُهَا كَمَا عُلِّمْنَاهَا مَثْوَاهُ مُقَامُهُ وَأَلْفَيَا وَجَدَا أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ أَلْفَيْنَا وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ {بَلْ عَجِبْتُ وَيَسْخَرُونَ}
4693- حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ مُسْلِمٍ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ قُرَيْشًا لَمَّا أَبْطَئُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالإِسْلاَمِ قَالَ: "اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِسَبْعٍ كَسَبْعِ يُوسُفَ" فَأَصَابَتْهُمْ سَنَةٌ حَصَّتْ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى أَكَلُوا الْعِظَامَ حَتَّى جَعَلَ الرَّجُلُ يَنْظُرُ إِلَى السَّمَاءِ فَيَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا مِثْلَ الدُّخَانِ قَالَ اللَّهُ: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} قَالَ اللَّهُ: {إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَائِدُونَْ} أَفَيُكْشَفُ عَنْهُمْ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقَدْ مَضَى الدُّخَانُ وَمَضَتْ الْبَطْشَة"
قوله: "باب {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ} اسم هذه المرأة في المشهور زليخا، وقيل راعيل، واسم سيدها العزيز قطفير بكسر أوله، وقيل بهمزة بدل القاف. قوله: {وَغَلَّقَتْ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ} . وقال عكرمة

(8/363)


{هَيْتَ} بالحورانية هلم. وقال ابن جبير: تعاله" أما قول عكرمة فوصله عبد بن حميد من طريقه. وأخرج من وجه آخر عن عكرمة قال: {هَيْتَ لَكَ} يعني بضم الهاء وتشديد التحتانية بعدها أخرى مهموزة. وأخرج ابن مردويه من طريق مسروق عن عبد الله قال: "أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم هيت لك يعني هلم لك" وعند عبد الرزاق من وجه آخر عن عكرمة قال: معناها تهيأت لك. وعن قتادة قال: يقول بعضهم هلم لك. وأما قول سعيد بن جبير فوصله الطبري وأبو الشيخ من طريقه. وقال أبو عبيدة في قوله: "وقالت هيت لك" أي هلم، وأنشدني أبو عمرو بن العلاء:
إن العراق وأهله ... عنق إليك فهيت هيتا
قال ولفظ: "هيت" للواحد والاثنين والجمع من الذكر والأنثى سواء، إلا أن العدد فيما بعد، تقول هيت لك وهيت لكما. قال وشهدت أبا عمرو بن العلاء وسأله رجل عمن قرأ هئت لك أي بكسر الهاء وضم المثناة مهموزا. فقال: باطل، لا يعرف هذا أحد من العرب، انتهى. وقد أثبت ذلك الفراء، وساقه من طريق الشعبي عن ابن مسعود، وسيأتي تحرير النقل عن ابن مسعود في ذلك قريبا. قوله: "عن سليمان" هو الأعمش. قوله: "عن عبد الله بن مسعود "قالت هيت لك" وقال إنما نقرؤها كما علمناها" هكذا أورده مختصرا، وأخرجه عبد الرزاق عن الثوري عن الأعمش بلفظ: إني سمعت الفراء فسمعهم متقاربين، فاقرءوا كما علمتم وإياكم والتنطع والاختلاف، فإنما هو كقول الرجل: هلم وتعال، ثم قرأ: {وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ} فقلت: إن ناسا يقرءونها {هَيْتَ لَكَ} قال: لا، لأن أقرأها كما علمت أحب إلى وكذا أخرجه ابن مردويه من طريق شيبان وزائدة عن الأعمش نحوه، ومن طريق طلحة بن مصرف عن أبي وائل أن ابن مسعود قرأها "هيت لك بالفتح، ومن طريق سليمان التيمي عن الأعمش. بإسناده لكن قال بالضم، وروى عبد بن حميد من طريق أبي وائل قال: قرأها عبد الله بالفتح، قلت له إن الناس يقرءونها بالضم فذكره. وهذا أقوى. قلت: وقراءة ابن مسعود بكسر الهاء وبالضم وبالفتح بغير همز، وروى عبد بن حميد عن أبي وائل أنه كان يقرؤها كذلك، لكن بالهمز، وقد تقدم إنكار أبي عمرو ذلك، لكن ثبت ما أنكره في قراءة هشام في السبعة، وجاء عنه الضم والفتح أيضا، وقرأ ابن كثير بفتح الهاء وبالضم، وقرأ نافع وابن ذكوان بكسر أوله وفتح آخره، وقرأ الجمهور بفتحهما، وقرأ ابن محصين بفتح أوله وكسر آخره وهي عن ابن عباس أيضا والحسن، وقرأ ابن أبي إسحاق أحد مشايخ النحو بالبصرة بكسر أوله وضم آخره، وحكى النحاس أنه قرأ بكسرهما. وأما ما نقل عن عكرمة أنها بالحورانية فقد وافقه عليه الكسائي والفراء وغيرهما كما تقدم، وعن السدي أنها لغة قبطية معناها هلم لك، وعن الحسن أنها بالسريانية كذلك. وقال أبو زيد الأنصاري هي بالعبرانية وأصلها هيت لج أي تعاله فعربت. وقال الجمهور هي عربية معناها الحث على الإقبال، والله أعلم. قوله: "مثواه مقامه" ثبت هذا لأبي ذر وحده وكذا الذي بعده، قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ} أي مقامه الذي ثواه، ويقال لمن نزل عليه الشخص ضيفا: أبو مثواه. قوله: "وألفيا وجدا ألفوا آباءهم وألفى1" قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} أي وجداه. وفي قوله: {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ} أي
ـــــــ
(1) الذي في المتن "وألفينا"

(8/364)


وجدوا. وفي قوله: "ألفى" أي وجد. قوله: "وعن ابن مسعود بل عجبت ويسخرون" هكذا وقع في هذا الموضع معطوفا على الإسناد الذي قبله وصله الحاكم في "المستدرك" من طريق جرير عن الأعمش بهذا، وقد أشكلت مناسبة إيراد هذه الآية في هذا الموضع فإنها من سورة والصافات، وليس في هذه السورة من معناها شيء. لكن أورد البخاري في الباب حديث عبد الله وهو ابن مسعود "أن قريشا لما أبطئوا على النبي صلى الله عليه وسلم قال: اللهم أكفنيهم بسبع كسبع يوسف" الحديث ولا تظهر مناسبته أيضا للترجمة المذكورة وهي قوله: "باب قوله وراودته التي هو في بيتها عن نفسه" وقد تكلف لها أبو الإصبع عيسى بن سهل في شرحه فيما نقلته من رحلة أبي عبد الله بن رشيد عنه ما ملخصه: ترجم البخاري "باب قوله وراودته التي هو في بيتها عن نفسه" وأدخل حديث ابن مسعود "أن قريشا لما أبطئوا" الحديث وأورد قبل ذلك في الترجمة عن ابن مسعود {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ} قال فانتهى إلى موضع الفائدة ولم يذكرها وهو قوله: {وَإِذَا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ} قال: ويؤخذ من ذلك مناسبة التبويب المذكورة، ووجهه أنه شبه ما عرض ليوسف عليه السلام مع إخوته ومع امرأة العزيز بما عرض لمحمد صلى الله عليه وسلم مع قومه حين أخرجوه من وطنه كما أخرج يوسف إخوته وباعوه لمن استعبده فلم يعنف النبي صلى الله عليه وسلم قومه لما فتح مكة كما لم يعنف يوسف إخوته حين قالوا له {تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا} ودعا النبي صلى الله عليه وسلم بالمطر لما سأله أبو سفيان أن يستسقى لهم كما دعا يوسف لإخوته لما جاءوه نادمين فقال: {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ} قال: فمعنى الآية بل عجبت من حلمي عنهم مع سخريتهم بك وتماديهم على غيهم، وعلى قراءة ابن مسعود بالضم بل عجبت من حلمك عن قومك إذ أتوك متوسلين بك فدعوت فكشف عنهم، وذلك كحلم يوسف عن إخوته إذ أتوه محتاجين، وكحلمه عن امرأة العزيز حيث أغرت به سيدها وكذبت عليه ثم سجنته ثم عفا عنها بعد ذلك ولم يؤاخذها. قال: فظهر تناسب هاتين الآيتين في المعنى مع بعد الظاهر بينهما. قال: ومثل هذا كثير في كتابه - مما عابه به من لم يفتح الله عليه - والله المستعان. ومن تمام ذلك أن يقال: تظهر المناسبة أيضا بين القصتين من قوله في الصافات: وإذا رأوا آية يستسخرون، فإن فيها إشارة إلى تماديهم على كفرهم وغيهم، ومن قوله في قصة يوسف "ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين" . وقول البخاري "وعن ابن مسعود" هو موصول بالإسناد الذي قبله، وقد روى الطبري وابن أبي حاتم من طريق الأعمش عن أبي وائل عن شريح أنه أنكر قراءة "عجبت" بالضم ويقول إن الله لا يعجب وإنما يعجب من لا يعلم، قال فذكرته لإبراهيم النخعي فقال: إن شريحا كان معجبا برأيه، وإن ابن مسعود كان يقرؤها بالضم وهو أعلم منه. قال الكرماني: أورد البخاري هذه الكلمة وإن كانت في الصافات هنا إشارة إلى أن ابن مسعود كان يقرؤها بالضم كما يقرأ هيت بالضم انتهى. وهي مناسبة لا بأس بها إلا أن الذي تقدم عن ابن سهل أدق والله أعلم. وقرأ بالضم أيضا سعيد بن جبير وحمزة والكسائي، والباقون بالفتح، وهو ظاهر وهو ضمير الرسول، وبه صرح قتادة. ويحتمل أن يراد به كل من يصح منه، وأما الضم فحكاية شريح تدل على أنه حمله على الله، وليس لإنكاره معنى لأنه إذا ثبت حمل على ما يليق به سبحانه وتعالى. ويحتمل أن يكون مصروفا للسامع أي قل بل عجبت ويسخرون، والأول هو المعتمد، وقد أقره إبراهيم النخعي وجزم بذلك سعيد بن جبير فيما رواه ابن أبي حاتم قال في قوله: {بَلْ عَجِبْتَ} الله عجب، ومن طريق أخرى عن الأعمش عن أبي وائل عن ابن مسعود أنه قرأ: {بَلْ عَجِبْتَ} بالرفع ويقول نظيرها {وَإِنْ

(8/365)


تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ} ومن طريق الضحاك عن ابن عباس قال سبحان الله عجب. ونقل ابن أبي حاتم في "كتاب الرد على الجهمية" عن محمد بن عبد الرحمن المقري ولقبه مت قال وكان يفضل على الكسائي في القراءة أنه قال: يعجبني أن أقرأ: {بَلْ عَجِبْتَ} بالضم خلافا للجهمية. قوله: "حدثنا الحميدي حدثنا سفيان عن الأعمش عن مسلم" وهو ابن صبيح بالتصغير وهو أبو الضحى وهو بكنيته أشهر، ووقع في "مسند الحميدي" عن سفيان" أخبرني الأعمش - أو أخبرت عنه - عن مسلم: "كذا عنده بالشك، وكذا أخرجه أبو نعيم في "المستخرج" من طريقه، وأخرجه الإسماعيلي من طريق ابن أبي عمر عن سفيان قال: "سمعت من الأعمش أو أخبرته عنه عن مسلم بن صبيح" وهذا الشك لا يقدح في صحة الحديث فإنه قد تقدم في الاستسقاء من طريق أخرى عن الأعمش من غير رواية ابن عيينة، فتكون هذه معدودة في المتابعات، والله أعلم.

(8/366)


5- باب {فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ} وَحَاشَ وَحَاشَى تَنْزِيهٌ وَاسْتِثْنَاءٌ حَصْحَصَ وَضَحَ
4694- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ تَلِيدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ عَنْ بَكْرِ بْنِ مُضَرَ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَرْحَمُ اللَّهُ لُوطًا لَقَدْ كَانَ يَأْوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ وَلَوْ لَبِثْتُ فِي السِّجْنِ مَا لَبِثَ يُوسُفُ لاَجَبْتُ الدَّاعِيَ وَنَحْنُ أَحَقُّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لَهُ {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}
قوله: "باب قوله {فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ} - إلى قوله: {قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ} كذا لأبي ذر، وكأن الترجمة انقضت عند قوله ربك، ثم فسر قوله حاش لله. وساق غيره من أول الآية إلى قوله: {عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ} . قوله: "حاش وحاشا تنزيه واستثناء" قال أبو عبيدة في قوله: {حَاشَ لِلَّهِ} الشين مفتوحة بغير ياء، وبعضهم يدخلها في آخره كقول الشاعر "حاشى أبي ثوبان إن به" ومعناه التنزيه والاستثناء عن الشر، تقول حاشيته أي استثنيته، وقد قرأ الجمهور بحذف الألف بعد الشين وأبو عمرو بإثباتها في الوصل، وفي حذف الألف بعد الحاء لغة وقرأ بها الأعمش، واختلف في أنها حرف أو اسم أو فعل وشرح ذلك يطول، والذي يظهر أن من حذفها رجح فعليتها بخلاف من نفاها، ويؤيد فعليتها قول النابغة "ولا أحاشي من الأقوام من أحد" فإن تصرف الكلمة من الماضي إلى المستقبل دليل فعليتها، واقتضى كلامه أن إثبات الألف وحذفها سواء لغة، وقيل إن حذف الألف الأخيرة لغة أهل الحجاز دون غيرهم.
" تنبيه " : قوله: "تنزيه" في رواية الأكثر بفتح أوله وسكون النون بعدها زاي مكسورة ثم تحتانية ساكنة ثم هاء وفي رواية حكاها عياض موحدة ساكنة بعد أوله وكسر الراء بعدها تحتانية مفتوحة مهموزة ثم تاء تأنيث. قوله: "حصحص وضح" قال أبو عبيدة في قوله: {الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ} أي الساعة وضح الحق وتبين. وقال الخليل: معناه تبين وظهر بعد خفاء، ثم قيل هو مأخوذ من الحصة أي ظهرت حصة الحق

(8/366)


من حصة الباطل، وقيل من حصة إذا قطعه، ومنه أحص الشعر وحص وحصحص مثل كف وكفكف. قوله: "حدثنا سعيد بن تليد" بفتح المثناة وكسر اللام بعدها تحتانية ساكنة ثم مهملة هو سعيد بن عيسى بن تليد، مصري يكنى أبا عثمان، تقدم ذكره في بدء الخلق، نسبه البخاري إلى جده. قوله: "حدثنا عبد الرحمن بن القاسم" هو العتقي بضم المهملة وفتح المثناة بعدها قاف المصري الفقيه المشهور صاحب مالك وراوي المدونة من علم مالك، وليس له في البخاري سوى هذا الموضع. والإسناد مسلسل بالمصريين إلى يونس بن يزيد والباقون مدنيون، وفيه رواية الأقران لأن عمرو بن الحارث المصري الفقيه المشهور من أقران يونس بن يزيد، وقد تقدم شرح حديث الباب في ترجمتي إبراهيم ولوط من أحاديث الأنبياء.

(8/367)


6- باب {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ}
4695- حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ لَهُ وَهُوَ يَسْأَلُهَا عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ} قَالَ قُلْتُ أَكُذِبُوا أَمْ كُذِّبُوا قَالَتْ عَائِشَةُ كُذِّبُوا قُلْتُ فَقَدْ اسْتَيْقَنُوا أَنَّ قَوْمَهُمْ كَذَّبُوهُمْ فَمَا هُوَ بِالظَّنِّ قَالَتْ أَجَلْ لَعَمْرِي لَقَدْ اسْتَيْقَنُوا بِذَلِكَ فَقُلْتُ لَهَا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا قَالَتْ مَعَاذَ اللَّهِ لَمْ تَكُنْ الرُّسُلُ تَظُنُّ ذَلِكَ بِرَبِّهَا قُلْتُ فَمَا هَذِهِ الْآيَةُ قَالَتْ هُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ الَّذِينَ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَصَدَّقُوهُمْ فَطَالَ عَلَيْهِمْ الْبَلاَءُ وَاسْتَأْخَرَ عَنْهُمْ النَّصْرُ حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ مِمَّنْ كَذَّبَهُمْ مِنْ قَوْمِهِمْ وَظَنَّتْ الرُّسُلُ أَنَّ أَتْبَاعَهُمْ قَدْ كَذَّبُوهُمْ جَاءَهُمْ نَصْرُ اللَّهِ عِنْدَ ذَلِك"
4696- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ فَقُلْتُ لَعَلَّهَا كُذِبُوا مُخَفَّفَةً قَالَتْ مَعَاذَ اللَّهِ نَحْوَه"
قوله: "باب قوله {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ} استيأس استفعل من اليأس ضد الرجاء، قال أبو عبيدة في قوله: {فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ} استفعلوا من يئست، ومثله في هذه الآية، وليس مراده باستفعل إلا الوزن خاصة وإلا فالسين والتاء زائدتان، واستيأس بمعنى يئس كاستعجب وعجب وفرق بينهما الزمخشري بأن الزيادة تقع في مثل هذا للتنبيه على المبالغة في ذلك الفعل، واختلف فيما تعلقت به الغاية من قوله: "حتى" فاتفقوا على أنه محذوف، فقيل التقدير {مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ} فتراخى النصر عنهم "حتى إذا" وقيل التقدير فلم تعاقب أممهم حتى إذا، وقيل فدعوا قومهم فكذبوهم فطال ذلك حتى إذا. قوله: "عن صالح" هو ابن كيسان. قوله: "عن عائشة قالت له وهو يسألها عن قول الله عز وجل" في رواية عقيل عن ابن شهاب في أحاديث الأنبياء "أخبرني عروة أنه سأل عائشة عن قوله تعالى" فذكره. قوله: "قلت كذبوا أم كذبوا" أي مثقلة أو مخففة؟ ووقع ذلك صريحا في رواية الإسماعيلي من طريق صالح ابن كيسان هذه. قوله: "قالت عائشة كذبوا" أي بالتثقيل في رواية الإسماعيلي مثقلة. قوله:"فما هو بالظن؟ قالت أجل" زاد الإسماعيلي: "قلت فهي مخففة، قالت معاذ الله" وهذا ظاهر في أنها

(8/367)


أنكرت القراءة بالتخفيف بناء على أن الضمير للرسل، وليس الضمير للرسل على ما بينته ولا لإنكار القراءة بذلك معنى بعد ثبوتها. ولعلها لم يبلغها ممن يرجع إليه في ذلك. وقد قرأها بالتخفيف أئمة الكوفة من القراء عاصم ويحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي، ووافقهم من الحجازيين أبو جعفر بن القعقاع، وهي قراءة ابن مسعود وابن عباس وأبي عبد الرحمن السلمي والحسن البصري ومحمد بن كعب القرظي في آخرين. وقال الكرماني: لم تنكر عائشة القراءة، وإنما أنكرت تأويل ابن عباس. كذا قال، وهو خلاف الظاهر، وظاهر السياق أن عروة كان يوافق ابن عباس في ذلك قبل أن يسأل عائشة، ثم لا يدري رجع إليها أم لا. روى ابن أبي حاتم من طريق يحيى بن سعيد الأنصاري قال: جاء رجل إلى القاسم بن محمد فقال له إن محمد بن كعب القرظي يقرأ: {كذبوا" بالتخفيف فقال: أخبره عني أني سمعت عائشة تقول "كذبوا" مثقلة أي كذبتهم أتباعهم. وقد تقدم في تفسير البقرة من طريق ابن أبي مليكة قال: "قال ابن عباس { حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} خفيفة قال ذهب بها هنالك" وفي رواية الأصيلي: "بما هنالك" بميم بدل الهاء وهو تصحيف. وقد أخرجه النسائي والإسماعيلي من هذا الوجه بلفظ: "ذهب هاهنا - وأشار إلى السماء - وتلا حتى يقول الرسول والذين معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب" وزاد الإسماعيلي في روايته: "ثم قال ابن عباس كانوا بشرا ضعفوا وأيسوا وظنوا أنهم قد كذبوا" وهذا ظاهره أن ابن عباس كان يذهب إلى أن قوله: {مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} مقول الرسول، وإليه ذهب طائفة. ثم اختلفوا فقيل الجميع مقول الجميع، وقيل الجملة الأولى مقول الجميع والأخيرة من كلام الله. وقال آخرون الجملة الأولى وهي {مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} مقول الذين آمنوا معه. والجملة الأخيرة وهي {أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} مقول الرسول، وقدم الرسول في الذكر لشرفه وهذا أولى، وعلى الأول فليس قول الرسول {مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} شكا بل استبطاء للنصر وطلبا له، وهو مثل قوله صلى الله عليه وسلم يوم بدر "اللهم أنجز لي ما وعدتني" قال الخطابي: لا شك أن ابن عباس لا يجيز على الرسل أنها تكذب بالوحي، ولا يشك في صدق المخبر، فيحمل كلامه على أنه أراد أنهما لطول البلاء عليهم وإبطاء النصر وشدة استنجاز من وعدوه به توهموا أن الذي جاءهم من الوحي كان حسبانا من أنفسهم، وظنوا عليها الغلط في تلقي ما ورد عليهم من ذلك، فيكون الذي بنى له الفعل أنفسهم لا الآتي بالوحي، والمراد بالكذب الغلط لا حقيقة الكذب كما يقول القائل كذبتك نفسك. قلت: ويؤيده قراءة مجاهد {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} بفتح أوله مع التخفيف أي غلطوا، ويكون فاعل "وظنوا" الرسل، ويحتمل أن يكون أتباعهم. ويؤيده ما رواه الطبري بأسانيد متنوعة من طريق عمران بن الحارث وسعيد بن جبير وأبي الضحى وعلي بن أبي طلحة والعوفي كلهم عن ابن عباس في هذه الآية قال: أيس الرسل من إيمان قومهم، وظن قومهم أن الرسل كذبوا. وقال الزمخشري: إن صح هذا عن ابن عباس فقد أراد بالظن ما يخطر بالبال ويهجس في النفس من الوسوسة وحديث النفس على ما عليه البشرية، وأما الظن وهو ترجيح أحد الطرفين فلا يظن بالمسلم فضلا عن الرسول. وقال أبو نصر القشيري ولا يبعد أن المراد خطر بقلب الرسل فصرفوه عن أنفسهم، أو المعنى قربوا من الظن كما يقال بلغت المنزل إذا قربت منه. وقال الترمذي الحكيم: وجهه أن الرسل كانت تخاف بعد أن وعدهم الله النصر أن يتخلف النصر، لا من تهمة بوعد الله بل لتهمة النفوس أن تكون قد أحدثت حدثا ينقض ذلك الشرط، فكان الأمر إذا طال واشتد البلاء عليهم دخلهم الظن من هذه الجهة. قلت: ولا يظن بابن عباس أنه يجوز على الرسول أن نفسه تحدثه بأن الله

(8/368)


يخلف وعده، بل الذي يظن بابن عباس أنه أراد بقوله: "كانوا بشرا" إلى آخر كلامه من آمن من أتباع الرسل لا نفس الرسل، وقول الراوي عنه "ذهب بها هناك" أي إلى السماء معناه أن أتباع الرسل ظنوا أن ما وعدهم به الرسل على لسان الملك تخلف، ولا مانع أن يقع ذلك في خواطر بعض الأتباع. وعجب لابن الأنباري في جزمه بأنه لا يصح. ثم الزمخشري في توقفه عن صحة ذلك عن ابن عباس، فإنه صح عنه، لكن لم يأت عنه التصريح بأن الرسل هم الذين ظنوا ذلك، ولا يلزم ذلك من قراءة التخفيف، بل الضمير في {وَظَنُّوا} عائد على المرسل إليهم، وفي "وكذبوا" عائد على الرسل أي وظن المرسل إليهم أن الرسل كذبوا، أو الضمائر للرسل والمعنى يئس الرسل من النصر وتوهموا أن أنفسهم كذبتهم حين حدثتهم بقرب النصر، أو كذبهم رجاؤهم. أو الضمائر كلها للمرسل إليهم أي يئس الرسل من إيمان من أرسلوا إليه، وظن المرسل إليهم أن الرسل كذبوهم في جميع ما ادعوه من النبوة والوعد بالنصر لمن أطاعهم والوعيد بالعذاب لمن لم يجبهم، وإذا كان ذلك محتملا وجب تنزيه ابن عباس عن تجويزه ذلك على الرسل، ويحمل إنكار عائشة على ظاهر مساقهم من إطلاق المنقول عنه. وقد روى الطبري أن سعيد ابن جبير سئل عن هذه الآية فقال: يئس الرسل من قومهم أن يصدقوهم، وظن المرسل إليهم أن الرسل كذبوا. فقال الضحاك بن مزاحم لما سمعه: لو رحلت إلى اليمن في هذه الكلمة لكان قليلا. فهذا سعيد بن جبير وهو من أكابر أصحاب ابن عباس العارفين بكلامه حمل الآية على الاحتمال الأخير الذي ذكرته. وعن مسلم بن يسار أنه سأل سعيد بن جبير فقال له: آية بلغت مني كل مبلغ، فقرأ هذه الآية بالتخفيف، قال في هذا ألوت أن تظن الرسل ذلك، فأجابه بنحو ذلك، فقال: فرجت عني فرج الله عنك، وقام إليه فاعتنقه. وجاء ذلك من رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس نفسه، فعند النسائي من طريق أخرى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله: {قَدْ كُذِبُوا} قال: استيأس الرسل من إيمان قومهم، وظن قومهم أن الرسل قد كذبوهم. وإسناده حسن. فليكن هو المعتمد في تأويل ما جاء عن ابن عباس في ذلك، وهو أعلم بمراد نفسه من غيره. ولا يرد على ذلك ما روى الطبري من طريق ابن جريج في قوله: {قَدْ كُذِبُوا} خفيفة أي أخلفوا، ألا إنا إذا قررنا أن الضمير للمرسل إليهم لم يضر تفسير كذبوا بأخلفوا، أي ظن المرسل إليهم أن الرسل أخلفوا ما وعدوا به، والله أعلم. وروى الطبري من طريق تميم بن حذلم. سمعت ابن مسعود يقول في هذه الآية: استيأس الرسل من إيمان قومهم، وظن قومهم حين أبطأ الأمر أن الرسل كذبوهم. ومن طريق عبد الله بن الحارث: استيأس الرسل من إيمان قومهم، وظن القوم أنهم قد كذبوا فيما جاءوهم به. وقد جاء عن ابن مسعود شيء موهم كما جاء عن ابن عباس، فروى الطبري من طريق صحيح عن مسروق عن ابن مسعود أنه قرأ: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} مخففة قال أبو عبد الله: هو الذي يكره. وليس في هذا أيضا ما يقطع به على أن ابن مسعود أراد أن الضمير للرسل، بل يحتمل أن يكون الضمير عنده لمن أمن من أتباع الرسل، فإن صدور ذلك ممن أمن مما يكره سماعه، فلم يتعين أنه أراد الرسل. قال الطبري: لو جاز أن يرتاب الرسل بوعد الله ويشكوا في حقيقة خبره لكان المرسل إليهم أولى بجواز ذلك عليهم. وقد اختار الطبري قراءة التخفيف ووجهها بما تقدم ثم قال: وإنما اخترت هذا لأن الآية وقعت عقب قوله: {فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} فكان في ذلك إشارة إلى أن يأس الرسل كان من إيمان قومهم الذين كذبوهم فهلكوا، أو أن المضمر في قوله: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} إنما هو للذين من قبلهم من الأمم

(8/369)


الهالكة. ويزيد ذلك وضوحا أن في بقية الآية الخبر عن الرسل ومن آمن بهم بقوله تعالى:{فننجي من نشاء} أي الذين هلكوا هم الذين ظنوا أن الرسل قد كذبوا فكذبوهم، والرسل ومن اتبعهم هم الذين نجوا، انتهى كلامه، ولا يخلو من نظر. قوله :"قالت أجل" أي نعم. ووقع في رواية عقيل في أحاديث الأنبياء في هذا الموضع "فقالت يا عرية" وهو بالتصغير وأصله عريوة فاجتمع حرفا علة فأبدلت الواو ياء ثم أدغمت في الأخرى. قوله: "لعمري لقد استيقنوا بذلك" فيه إشعار بحمل عروة الظن على حقيقته وهو رجحان أحد الطرفين، ووافقته عائشة. لكن روى الطبري من طريق سعيد عن قتادة أن المراد بالظن هنا اليقين. ونقله نفطويه هنا عن أكثر أهل اللغة وقال: هو كقوله في آية أخرى {وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ} وأنكر ذلك الطبري وقال: إن الظن لا تستعمله العرب في موضع العلم إلا فيما كان طريقه غير المعاينة، فأما ما كان طريقه المشاهدة فلا، فإنها لا تقول أظنني إنسانا ولا أظنني حيا بمعنى إنسانا أو حيا. قوله في الطريق الثانية عن الزهري "أخبرني عروة فقلت لعلها كذبوا مخففة قالت معاذ الله. نحوه" هكذا أورده مختصرا، وقد ساقه أبو نعيم في "المستخرج" بتمامه ولفظه عن عروة أنه سأل عائشة فذكر نحو حديث صالح بن كيسان. "فائدة" : قوله تعالى في بقية الآية "فننجي من نشاء" قرأ الجمهور بنونين الثانية ساكنة والجيم خفيفة وسكون آخره مضارع أنجي، وقرأ عاصم وابن عامر بنون واحدة وجيم مشددة وفتح آخره على أنه فعل ماض مبني للمفعول ومن قائمة مقام الفاعل، وفيها قراءات أخرى. قال الطبري كل من قرأ بذلك فهو منفرد بقراءته والحجة في قراءة غيره، والله أعلم.

(8/370)


13- سورة الرَّعْدِ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ} مَثَلُ الْمُشْرِكِ الَّذِي عَبَدَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ غَيْرَهُ كَمَثَلِ الْعَطْشَانِ الَّذِي يَنْظُرُ إِلَى ظِلِّ خَيَالِهِ فِي الْمَاءِ مِنْ بَعِيدٍ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَتَنَاوَلَهُ وَلاَ يَقْدِرُ وَقَالَ غَيْرُهُ سَخَّرَ ذَلَّلَ {مُتَجَاوِرَاتٌ} مُتَدَانِيَاتٌ وَقَالَ غَيْرُهُ {الْمَثُلاَتُ} وَاحِدُهَا مَثُلَةٌ وَهِيَ الأَشْبَاهُ وَالأَمْثَالُ وَقَالَ { إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا} {بِمِقْدَارٍ} بِقَدَرٍ يُقَالُ {مُعَقِّبَاتٌ} مَلاَئِكَةٌ حَفَظَةٌ تُعَقِّبُ الأُولَى مِنْهَا الأُخْرَى وَمِنْهُ قِيلَ الْعَقِيبُ أَيْ عَقَّبْتُ فِي إِثْرِهِ {الْمِحَالِ} الْعُقُوبَةُ {كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ} لِيَقْبِضَ عَلَى الْمَاءِ {رَابِيًا} مِنْ رَبَا يَرْبُو أَوْ {مَتَاعٍ زَبَدٌ} الْمَتَاعُ مَا تَمَتَّعْتَ بِهِ {جُفَاءً} يُقَالُ أَجْفَأَتْ الْقِدْرُ إِذَا غَلَتْ فَعَلاَهَا الزَّبَدُ ثُمَّ تَسْكُنُ فَيَذْهَبُ الزَّبَدُ بِلاَ مَنْفَعَةٍ فَكَذَلِكَ يُمَيِّزُ الْحَقَّ مِنْ الْبَاطِلِ {الْمِهَادُ} الْفِرَاشُ {يَدْرَءُونَ} يَدْفَعُونَ دَرَأْتُهُ عَنِّي دَفَعْتُهُ {سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ} أَيْ يَقُولُونَ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ {وَإِلَيْهِ مَتَابِ} تَوْبَتِي {أَفَلَمْ يَيْئَسْ} أَفَلَمْ يَتَبَيَّنْ {قَارِعَةٌ} دَاهِيَةٌ {فَأَمْلَيْتُ} أَطَلْتُ مِنْ الْمَلِيِّ وَالْمِلاَوَةِ وَمِنْهُ {مَلِيًّا} وَيُقَالُ لِلْوَاسِعِ الطَّوِيلِ مِنْ الأَرْضِ مَلًى مِنْ الأَرْضِ {أَشَقُّ} أَشَدُّ مِنْ الْمَشَقَّةِ {مُعَقِّبَ} مُغَيِّرٌ وَقَالَ مُجَاهِدٌ {مُتَجَاوِرَاتٌ} طَيِّبُهَا وَخَبِيثُهَا السِّبَاخُ {صِنْوَانٌ} النَّخْلَتَانِ أَوْ أَكْثَرُ فِي أَصْلٍ وَاحِدٍ {وَغَيْرُ صِنْوَانٍ} وَحْدَهَا {بِمَاءٍ وَاحِدٍ} كَصَالِحِ بَنِي آدَمَ

(8/370)


وَخَبِيثِهِمْ أَبُوهُمْ وَاحِدٌ {السَّحَابُ الثِّقَالُ} الَّذِي فِيهِ الْمَاءُ {كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ} يَدْعُو الْمَاءَ بِلِسَانِهِ وَيُشِيرُ إِلَيْهِ بِيَدِهِ فَلاَ يَأْتِيهِ أَبَدًا {َسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} تَمْلاَ بَطْنَ كُلِّ وَادٍ {زَبَدًا رَابِيًا} الزَّبَدُ زَبَدُ السَّيْلِ {زَبَدٌ مِثْلُهُ} خَبَثُ الْحَدِيدِ وَالْحِلْيَةِ
قوله: "سورة الرعد {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ثبت البسملة لأبي ذر وحده. قوله :"قال ابن عباس {كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ} مثل المشرك الذي عبد مع الله إلها آخر غيره كمثل العطشان الذي ينظر إلى ظل خياله في الماء من بعيد وهو يريد أن يناوله ولا يقدر" وصله ابن أبي حاتم وابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ} الآية، فذكر مثله وقال في آخره: ولا يقدر عليه.
" تنبيه " : وقع في رواية الأكثر "فلا يقدر" بالراء وهو الصواب، وحكى عياض أن في رواية غير القابسي "يقدم" بالميم وهو تصحيف وإن كان له وجه من جهة المعنى. وروى الطبري أيضا من طريق العوفي عن ابن عباس في هذه الآية قال: "مثل الأوثان التي تعبد من دون الله كمثل رجل قد بلغه العطش حتى كربه الموت وكفاه في الماء قد وضعهما لا يبلغان فاه، يقول الله لا يستجيب له الأوثان ولا تنفعه حتى تبلغ كفا هذا فاء وما هما ببالغتين فاه أبدا. ومن طريق أبي أيوب عن علي قال: كالرجل العطشان يمد يده إلى البئر ليرتفع الماء إليه وما هو بمرتفع. ومن طريق سعيد عن قتادة: الذي يدعو من دون الله إلها لا يستجيب له بشيء أبدا من نفع أو ضر حتى يأتيه الموت، مثله كمثل الذي بسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه ولا يصل ذلك إليه فيموت عطشا. ومن طريق معمر عن قتادة نحوه ولكن قال: وليس الماء ببالغ فاه ما دام باسطا كفيه لا يقبضهما، وسيأتي قول مجاهد في ذلك فيما بعد. قوله: "وقال غيره: متجاورات متداينات. وقال غيره: المثلات واحدها مثلة وهي الأمثال والأشباه. وقال: إلا مثل أيام الذين خلوا" هكذا وقع في رواية أبي ذر، ولغيره: وقال غيره سخر ذلل، متجاورات متدانيات، المثلات واحدها مثلة إلى آخره، فجعل الكل لقاتل واحد. وقوله: "وسخر" هو بفتح المهملة وتشديد الخاء المعجمة. وذلل بالذال المعجمة وتشديد اللام تفسير سخر، وكل هذا كلام أبي عبيدة قال في قوله: {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} أي ذللهما فانطاعا، قال: والتنوين في كل بدل من الضمير للشمس والقمر، وهو مرفوع على الاستئناف فلم يعمل فيه وسخر. وقال في قوله: {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ} أي متدانيات متقاربات. وقال في قوله: {وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ} قال: الأمثال والأشباه والنظير. وروى الطبري من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: {الْمَثُلاتُ} قال: الأمثال. ومن طريق معمر عن قتادة قال: المثلات العقوبات. ومن طريق زيد بن أسلم: المثلات ما مثل الله به من الأمم من العذاب، وهو جمع مثلة كقطع الأذن والأنف.
" تنبيه " : المثلات والمثلة كلاهما بفتح الميم وضم المثلثة مثل سمرة وسمرات، وسكن يحيى بن وثاب المثلثة في قراءته وضم الميم، وكذا طلحة بن مصرف لكن فتح أوله، وقرأ الأعمش بفتحهما. وفي رواية أبي بكر بن عياش بضمهما، وبهما قرأ عيسى بن عمر. قوله: "بمقدار بقدر" هو كلام أبي عبيدة أيضا وزاد: مفعال من القدر، وروى الطبري من طريق سعيد عن قتادة: أي جعل لهم أجلا معلوما. قوله: "يقال معقبات ملائكة حفظة تعقب الأولى منها الأخرى ومنه قيل العقيب أي عقبت في أثره" سقط لفظ: "يقال: "من رواية غير أبي ذر وهو أولى فإنه كلام أبي عبيدة أيضا قال في قوله تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ} أي ملائكة تعقب بعد ملائكة،

(8/371)


حفظة بالليل تعقب بعد حفظة النهار وحفظة النهار تعقب بعد حفظة الليل، ومنه قولهم فلان عقبني وقولهم عقبت في أثره. وروى الطبري بإسناد حسن عن ابن عباس في قوله تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} قال: ملائكة يحفظونه من بين يديه ومن خلفه، فإذا جاء قدره خلوا عنه. ومن طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} يقول بإذن الله، فالمعقبات هن من أمر الله وهي الملائكة. ومن طريق سعيد بن جبير قال: حفظهم إياه بأمر الله. ومن طريق إبراهيم النخعي قال: يحفظونه من الجن. ومن طريق كعب الأحبار قال: لولا أن الله وكل بكم ملائكة يذبون عنكم في مطعمكم ومشربكم وعوراتكم لتخطفتم. وأخرج الطبري من طريق كنانة العدوي أن عثمان سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن عدد الملائكة الموكلة بالآدمي فقال: لكل آدمي عشرة بالليل وعشرة بالنهار، واحد عن يمينه وآخر عن شماله واثنان من بين يديه ومن خلفه واثنان على جنبيه وآخر قابض على ناصيته فإن تواضع رفعه وإن تكبر وضعه واثنان على شفتيه ليس يحفظان عليه إلا الصلاة على محمد والعاشر يحرسه من الحية أن تدخل فاه يعني إذا نام. وجاء في تأويل قول آخر رجحه ابن جرير فأخرج بإسناد صحيح عن ابن عباس في قوله: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ} قال: ذلك ملك من ملوك الدنيا له حرس ومن دونه حرس. ومن طريق عكرمة في قوله: {مُعَقِّبَاتٌ} قال: المراكب. "تنبيه" : عقبت يجوز فيه تخفيف القاف وتشديدها، وحكى ابن التين عن رواية بعضهم كسر القاف مع التخفيف فيكشف عن ذلك لاحتمال أن يكون لغة. قوله: "المحال العقوبة" هو قول أبي عبيدة أيضا، وروى ابن أبي حاتم من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: "شديد المحال" قال شديد القوة، ومثله عن قتادة ونحوه عن السدي. وفي رواية عن مجاهد: شديد الانتقام، وأصل المحال بكسر الميم القوة، وقيل أصله المحل وهو المكر، وقيل الحيلة والميم مزيدة وغلطوا قائله، ويؤيد التأويل الأول قوله في الآية {وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ} ، وروى النسائي في سبب نزولها من طريق علي بن أبي سارة عن ثابت عن أنس قال: "بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى رجل من فراعنة العرب يدعوه - الحديث وفيه - فأرسل الله صاعقة فذهبت بقحف رأسه، فأنزل الله هذه الآية" وأخرجه البزار من طريق أخرى عن ثابت والطبراني من حديث ابن عباس مطولا. قوله: "كباسط كفيه إلى الماء ليقبض على الماء" هو كلام أبي عبيدة أيضا قال في قوله: {إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ} أي أن الذي يبسط كفيه ليقبض على الماء حتى يؤديه إلى فمه لا يتم له ذلك ولا تجمعه أنامله، قال صابئ بن الحارث:
وإني وإياكم وشوقا إليكم ... كقابض ماء لم تسقه أنامله
تسقه بكسر المهملة وسكون القاف أي لم تجمعه. قوله: "رابيا من ربا يربو" قال أبو عبيدة في قوله: {فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَابِياً} من ربا يربو أي ينتفخ، وسيأتي تفسير قتادة قريبا. قوله: {أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ} ، المتاع ما تمتعت به" هو قول أبي عبيدة أيضا، وسيأتي تفسير مجاهد لذلك قريبا. قوله: "جفاه يقال أجفأت القدر إذا غلت فعلاها الزبد ثم تسكن فيذهب الزبد بلا منفعة فكذلك يميز الحق من الباطل" قال أبو عبيدة في قوله: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً} . قال أبو عمرو بن العلاء: يقال أجفأت القدر وذلك إذا غلت وانتصب زبدها، فإذا سكنت لم يبق منه شيء. ونقل الطبري عن بعض أهل اللغة من البصريين أن معنى قوله: {فَيَذْهَبُ جُفَاء} تنشفه

(8/372)


الأرض، يقال جفا الوادي وأجفى في معنى نشف، وقرأ رؤبة بن العجاج "فيذهب جفالا" باللام بدل الهمزة وهي من أجفلت الريح الغيم إذا قطعته. قوله: "المهاد الفراش" ثبت هذا لغير أبي ذر وهو قول أبي عبيدة أيضا. قوله: "يدرءون يدفعون درأته عني دفعته" هو قول أبي عبيدة أيضا. قوله: "الأغلال واحدها غل، ولا تكون إلا في الأعناق" هو قول أبي عبيدة أيضا. قوله: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ} أي يقولون سلام عليكم" قال أبو عبيدة في قوله: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلامٌ} قال: مجازه مجاز المختصر الذي فيه ضمير، تقديره يقولون سلام عليكم. وقال الطبري: حذفت يقولون لدلالة الكلام، كما حذفت في قوله: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا} والأولى أن المحذوف حال من فاعل يدخلون، أي يدخلون قائلين. وقوله: {بِمَا صَبَرْتُمْ} يتعلق بما يتعلق به عليكم، وما مصدرية أي بسبب صبركم. قوله: "والمتاب إليه توبتي" قال أبو عبيدة: المتاب مصدر تبت إليه وتوبتي، وروى ابن أبي حاتم من طريق ابن أبي نجيح في قوله: {وَإِلَيْهِ مَتَابِ} قال: توبتي. قوله: "أفلم ييأس أفلم يتبين" قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {أفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا} أي أفلم يعلم ويتبين قال سحيم اليربوعي: "ألم تيأسوا أني ابن فارس زهدم" أي لم تبينوا. وقال آخر:
ألم ييأس الأقوام أني أنا ابنه ... وإن كنت عن أرض العشيرة نائيا
ونقل الطبري عن القاسم بن معن أنه كان يقول: إنها لغة هوازن تقول: يئست كذا أي علمته، قال: وأنكره بعض الكوفيين - يعني الفراء - لكنه سلم أنه هنا بمعنى علمت وإن لم يكن مسموعا، ورد عليه بأن من حفظ حجه على من لم يحفظ، ووجهوه بأن اليأس إنما استعمل بمعنى العلم، لأن الآيس عن الشيء عالم بأنه لا يكون. وروى الطبري من طرق عن مجاهد وقتادة وغيرهما {أفَلَمْ يَيْأَسِ} أي أفلم يعلم، وروى الطبري وعبد بن حميد بإسناد صحيح كلهم من رجال البخاري عن ابن عباس أنه كان يقرؤها "أفلم يتبين" ويقول: كتبها الكاتب وهو ناعس ومن طريق ابن جريج قال: زعم ابن كثير وغيره أنها القراءة الأولى، وهذه القراءة جاءت عن علي وابن عباس وعكرمة وابن مليكة وعلي بن بديمة وشهر بن حوشب بن الحسين وابنه زيد وحفيده جعفر بن محمد في آخر من قرءوا كلهم "أفلم يتبين" وأما ما أسنده الطبري عن ابن عباس فقد اشتد إنكار جماعة ممن لا علم له بالرجال صحته، وبالغ الزمخشري في ذلك كعادته إلى أن قال: وهي والله فرية ما فيها مرية. وتبعه جماعة بعده، والله المستعان. وقد جاء عن ابن عباس نحو ذلك في قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ} قال: "ووصى" التزقت الواو في الصاد، أخرجه سعيد بن منصور بإسناد جيد عنه. وهذه الأشياء وإن كان غيرها المعتمد، لكن تكذيب المنقول بعد صحته ليس من دأب أهل التحصيل، فلينظر في تأويله بما يليق به. قوله: "قارعة داهية" قال أبو عبيدة في قوله: {تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ} أي داهية مهلكة. تقول قرعت عظمة أي صدعته، وفسره غيره بأخص من ذلك: فأخرج الطبري بإسناد حسن عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ} قال سرية أو تحل قريبا من دارهم قال أنت يا محمد حتى يأتي وعد الله فتح مكة، ومن طريق مجاهد وغيره نحوه. قوله: "فأمليت أطلت، من الملي والملاوة. ومنه مليا، ويقال للواسع الطويل من الأرض ملي" كذا فيه، والذي قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} أي أطلت لهم، ومنه الملي والملاوة من الدهر، ويقال لليل والنهار الملوان لطولهما، ويقال للخرق الواسع من الأرض ملي، قال الشاعر "ملي لا تخطاه

(8/373)


العيون رغيب" انتهى. والملي بفتح ثم كسر تم تشديد بغير همزة. قوله: "أشق أشد من المشقة" هو قول أبي عبيدة أيضا، ومراده أنه أفعل تفضيل. قوله: "معقب مغير" قال أبو عبيدة في قوله: {لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} أي لا راد لحكمه ولا مغير له عن الحق، وروى ابن أبي حاتم من طريق زيد بن أسلم في قوله: {لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} أي لا يتعقب أحد حكمه فيرده. قوله: "وقال مجاهد متجاورات طيبها وخبيثها السباخ" كذا للجميع، وسقط خبر طيبها وقد وصله الفريابي من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ} قال: طيها عذبها، وخبيثها السباخ. وعند الطبري من وجه آخر عن مجاهد: القطع المتجاورات العذبة والسبخة والمالح والطيب ومن طريق أبي سنان عن ابن عباس مثله، ومن وجه آخر منقطع عن ابن عباس مثله وزاد: تنبت هذه وهذه إلى جنبها لا تنبت. ومن طريق أخرى متصلة عن ابن عباس قال: تكون هذه حلوة وهذه حامضة وتسقى بماء واحد وهن متجاورات. قوله: "صنوان النخلتان أو أكثر في أصل واحد، وغير صنوان وحدها تسقى بماء واحد كصالح بني آدم وخبيثهم أبوهم واحد" وصله الفريابي أيضا عن مجاهد مثله، لكن قال: تسقى بماء واحد قال بماء السماء والباقي سواء. وروى الطبري من طريق سعيد بن جبير في قوله: {صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ} مجتمع وغير مجتمع. وعن سعيد بن منصور عن البراء بن عازب قال: الصنوان أن يكون أصلها واحدا ورءوسها متفرقة، وغير الصنوان أن تكون النخلة منفردة ليس عندها شيء انتهى. وأصل الصنو المثل، والمراد به هنا فرع يجمعه وفرعا آخر أو أكثر أصل واحد، ومنه عم الرجل صنوا أبيه لأنهما يجمعهما أصل واحد. قوله: "السحاب الثقال الذي فيه الماء" وصله الفريابي أيضا عن مجاهد مثله. قوله: {كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ} يدعو الماء بلسانه ويشير إليه بيده فلا يأتيه أبدا" وصله الفريابي والطبري من طرق عن مجاهد أيضا، وقد تقدم قول غيره في أول السورة. قوله: "فسالت أودية بقدرها، تملأ بطن كل واد زيدا رابيا.
الزبد السيل، زبد مثله خبث الحديد والحلية" وصله الفريابي أيضا عن مجاهد في قوله: {زَبَداً رَابِياً} قال الزبد السيل. وفي قوله: {زَبَدٌ مِثْلُهُ} قال خبث الحلية والحديد وأخرجه الطبري من وجهين عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} قال: بملئها {فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَابِياً} قال: الزبد السيل" ومما توقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله" قال: خبث الحديث والحلية {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً} قال جمودا في الأرض {وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} قال الماء، وهما مثلان للحق والباطل. وأخرجه من طريقين عن ابن عباس نحوه، ووجه المماثلة في قوله: {زَبَدٌ مِثْلُهُ} أن كلا من الزبدين ناشئ عن الأكدار. ومن طريق سعيد عن قتادة في قوله: {بِقَدَرِهَا} قال: الصغير بصغره والكبير بكبره. وفي قوله: {رَابِياً} أي عاليا. وفي قوله: {ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ} الذهب والفضة. وفي قوله: أو متاع الحديد والصفر الذي ينتفع به. والجفاء ما يتعلق بالشجر، وهي ثلاثة أمثال ضربها الله في مثل واحد يقول: كما اضمحل هذا الزبد فصار لا ينتفع به كذلك يضمحل الباطل عن أهله، وكما مكث هذا الماء في الأرض فأمرعت وأخرجت نباتها كذلك يبقى الحق لأهله. ونظيره بقاء خالص الذهب والفضة إذا دخل النار وذهب خبثه وبقي صفوه، كذلك يبقى الحق لأهله ويذهب الباطل.
" تنبيه " : وقع للأكثر "يملأ بطن واد" وفي رواية الأصيلي: "يملأ كل واحد" وهو أشبه، ويروي ماء بطن واد

(8/374)


1- باب {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ} غِيضَ نُقِصَ

(8/374)


4697- حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا مَعْنٌ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " مَفَاتِحُ الْغَيْبِ خَمْسٌ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ اللَّهُ لاَ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ إِلاَّ اللَّهُ وَلاَ يَعْلَمُ مَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ إِلاَّ اللَّهُ وَلاَ يَعْلَمُ مَتَى يَأْتِي الْمَطَرُ أَحَدٌ إِلاَّ اللَّهُ وَلاَ تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ وَلاَ يَعْلَمُ مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ إِلاَّ اللَّه"
قوله: "باب قوله: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ} غيض نقص" قال أبو عبيدة في قوله: "وغيض الماء" أي ذهب وقل. وهذا تفسير سورة هود. وإنما ذكره هنا لتفسير قوله، تغيض الأرحام، فإنها من هذه المادة. وروى عبد بن حميد من طريق أبي بشر عن مجاهد في قوله: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ} قال: إذا حاضت المرأة وهي حامل كان نقصانا من الولد، فإن زادت على تسعة أشهر كان تماما لما نقص من ولدها. ثم روى من طريق منصور عن الحسن قال: الغيض ما دون تسعة أشهر، والزيادة ما زادت عليها يعني في الوضع. ثم ذكر المصنف حديث ابن عمر في مفاتح الغيب وقد تقدم في سورة الأنعام، ويأتي له تفسير سورة لقمان ويشرح هناك إن شاء الله تعالى. قوله: "حدثني إبراهيم بن المنذر حدثنا معن عن مالك" قال أبو مسعود: تفرد به إبراهيم بن المنذر، وهو غرب عن مالك. قلت: قد أخرجه الدار قطني رواية عبد الله بن جعفر البرمكي عن معن، ورواه أيضا من طريق القعنبي عن مالك لكنه اختصره. قلت: وكذا أخرجه الإسماعيلي من طريق ابن القاسم عن مالك قال الدار قطني: ورواه أحمد بن أبي طيبة عن مالك عن نافع عن ابن عمر فوهم فيه إسنادا ومتنا.

(8/375)


14- سورة إِبْرَاهِيمَ
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {هَادٍ} دَاعٍ وَقَالَ مُجَاهِدٌ {صَدِيدٌ} قَيْحٌ وَدَمٌ وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ {اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} أَيَادِيَ اللَّهِ عِنْدَكُمْ وَأَيَّامَهُ وَقَالَ مُجَاهِدٌ {مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} رَغِبْتُمْ إِلَيْهِ فِيهِ {تَبْغُونَهَا عِوَجًا} يَلْتَمِسُونَ لَهَا عِوَجًا {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ} أَعْلَمَكُمْ آذَنَكُمْ {رَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ} هَذَا مَثَلٌ كَفُّوا عَمَّا أُمِرُوا بِهِ {مَقَامِي} حَيْثُ يُقِيمُهُ اللَّهُ بَيْنَ يَدَيْهِ {مِنْ وَرَائِهِ} قُدَّامَهُ جَهَنَّمُ {لَكُمْ تَبَعًا} وَاحِدُهَا تَابِعٌ مِثْلُ غَيَبٍ وَغَائِبٍ {بِمُصْرِخِكُمْ} اسْتَصْرَخَنِي اسْتَغَاثَنِي يَسْتَصْرِخُهُ مِنْ الصُّرَاخِ {وَلاَ خِلاَلَ} مَصْدَرُ خَالَلْتُهُ خِلاَلًا وَيَجُوزُ أَيْضًا جَمْعُ خُلَّةٍ وَخِلاَلٍ {اجْتُثَّتْ} اسْتُؤْصِلَتْ
قوله: "سورة إبراهيم عليه الصلاة والسلام {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} سقطت البسملة لغير أبي ذر. قوله: "وقال ابن عباس: هاد داع" كذا في جميع النسخ، وهذه الكلمة إنما وقعت في السورة التي قبلها في قوله تعالى: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} واختلف أهل التأويل في تفسيرها بعد اتفاقهم على أن المراد بالمنذر محمد صلى الله عليه وسلم، فروى الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} أي داع، ومن طريق قتادة مثله،

(8/375)


ومن طريق العوفي عن ابن عباس قال: الهادي الله، وهذا بمعنى الذي قبله كأنه لحظ قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} . ومن طريق أبي العالية قال: الهادي القائد. ومن طريق مجاهد وقتادة أيضا: الهادي نبي، وهذا أخص من الذي قبله. ويحمل القوم في الآية في هذه الأقوال على العموم. ومن طريق عكرمة وأبي الضحى ومجاهد أيضا قال: الهادي محمد، وهذا أخص من الجميع، والمراد بالقوم على هذا الخصوص أي هذه الأمة. والمستغرب ما أخرجه الطبري بإسناد حسن من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: "لما نزلت هذه الآية وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على صدره وقال: أنا المنذر، وأومأ إلى علي وقال أنت الهادي بك يهتدي المهتدون بعدي" فإن ثبت هذا فالمراد بالقوم أخص من الذي قبله أي بني هاشم مثلا. وأخرج ابن أبي حاتم وعبد الله بن أحمد في زيادات المسند وابن مردويه من طريق السدي عن عبد خير عن علي قال: الهادي رجل من بني هاشم. قال بعض رواته: هو علي. وكأنه أخذه من الحديث الذي قبله. وفي إسناد كل منهما بعض الشيعة، ولو كان ذلك ثابتا ما تخالفت رواته. قوله: "وقال مجاهد: صديد قيح ودم" سقط هذا لأبي ذر، وصله الفريابي بسنده إليه في قوله: {وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ} قال: قيح ودم. قوله: "وقال ابن عيينة {اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} أيادي الله عندكم وأيامه" وصله الطبري من طريق الحميدي عنه، وكذا رويناه في "تفسير ابن عيينة" رواية سعيد بن عبد الرحمن عنه. وأخرج عبد الله بن أحمد في زيادات المسند والنسائي، وكذا ذكره ابن أبي حاتم من طريق ابن عباس عن أبي بن كعب قال: إن الله أوحى إلى موسى وذكرهم بأيام الله، قال: نعم الله. وأخرجه عبد الرزاق من حديث ابن عباس بإسناد صحيح فلم يقل عن أبي بن كعب. قوله: "وقال مجاهد من كل ما سألتموه رغبتم إليه فيه" وصله الفريابي في قوله: {وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} قال: رغبتم إليه فيه. قوله: "تبغونها عوجا تلتمسون لها عوجا" كذا وقع هنا للأكثر، ولأبي ذر قبل الباب الذي يليه وصنيعهم أولى لأن هذا من قول مجاهد فذكره مع غيره من تفاسيره أولى، وقد وصله عبد بن حميد من طريق ابن نجيح عن مجاهد في قوله: {وَتَبْغُونَهَا عِوَجاً} قال تلتمسون لها الزيغ، وذكر يعقوب بن السكيت أن العوج بكسر العين في الأرض والدين، وبفتحها في العود ونحوه مما كان منتصبا. قوله: "ولا خلال مصدر خاللته خلالا، ويجوز أيضا جمع خلة وخلال" كذا وقع فيه فأوهم أنه من تفسير مجاهد، وإنما هو من كلام أبي عبيدة، قال في قوله تعالى: {لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ} أي لا مخالة خليل، قال وله معنى آخر جمع خلة مثل حلة والجمع خلال وقلة والجمع قلال. وروى الطبري من طريق قتادة قال: علم الله أن في الدنيا بيوعا وخلالا يتخالون بها في الدنيا، فمن كان يخالل الله فليدم عليه وإلا فسينقطع ذلك عنه، وهذا يوافق من جعل الخلال في الآية جمع خلة. قوله: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ} : أعلمكم آذنكم "كذا للأكثر، ولأبي ذر أعلمكم ربكم، قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ} إذ زائدة، وتأذن تفعل من آذن أي أعلم، وهو قول أكثر أهل اللغة أن تأذن من الإيذان وهو الإعلام، ومعنى تفعل عزم عزما جازما، ولهذا أجيب بما يجاب به القسم. ونقل أبو علي الفارسي أن بعض العرب يجعل أذن وتأذن بمعنى واحد. قلت: ومثله قولهم تعلم موضع أعلم وأوعد وتوعد وقيل إن إذ زائدة فإن المعنى اذكروا حين تأذن ربكم وفيه نظر. قوله: "أيديهم في أفواههم، هذا مثل كفوا عما أمروا به" قال أبو عبيدة في قوله: " {فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ} مجازه مجاز المثل ومعناه كقوله عما أمروا بقبوله من الحق ولم يؤمنوا به يقال رد يده في فمه إذا أمسك ولم يجب. وقد تعقبوا كلام أبي عبيدة فقيل: لم يسمع من

(8/376)


العرب رد يده في فيه إذا ترك الشيء الذي كان يريد أن يفعله، وقد روى عبد بن حميد من طريق أبي الأحوص عن عبد الله قال: عضوا على أصابعهم، وصححه الحاكم وإسناده صحيح، ويؤيده الآية الأخرى {إِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ} . وقال الشاعر "يردون في فيه غيظ الحسود" أي يغيظون الحسود حتى يعض على أصابعه وقيل المعنى رد الكفار أيدي الرسل في أفواههم بمعنى أنهم امتنعوا من قبول كلامهم، أو المراد بالأيدي النعم أي ردوا نعمة الرسل وهي نصائحهم عليهم لأنهم إذا كذبوها كأنهم ردوها من حيث جاءت. قوله: "مقامي حيث يقيمه الله بين يديه" قال أبو عبيدة في قوله: {ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي} قال: حيث أقيمه بين يدي للحساب. قلت: وفيه قول آخر قال الفراء أيضا إنه مصدر لكن قال إنه مضاف للفاعل أي قيامي عليه بالحفظ. قوله: "من ورائه قدامه جهنم" قال أبو عبيدة في قوله: {مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ} مجازه قدامه وأمامه يقال: الموت من ورائك أي قدامك وهو اسم لكل ما توارى عن الشخص، نقله ثعلب، ومنه قول الشاعر:
أليس ورائي إن تراخت منيتي ... لزوم العصا تحتي عليها الأصابع
وقول النابغة "وليس وراء الله للمرء مذهب" أي بعد الله ونقل قطرب وغيره أنه من الأضداد، وأنكره إبراهيم ابن عرفة نفطويه وقال: لا يقع وراء بمعنى أمام إلا في زمان أو مكان. قوله: "لكم تبعا واحدها تابع مثل غيب وغائب" هو قول أبي عبيدة أيضا، وغيب بفتح الغين المعجمة والتحتانية بعدها موحدة. قوله: "بمصرخكم، استصرخني استغاثني، يستصرخه من الصراخ" سقط هذا لأبي ذر، قال أبو عبيدة {مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ} أي ما أنا بمغيثهم، ويقال استصرخني فأصرخته أي استغاثني فأغثته. قوله: "اجتثت استؤصلت" هو قول أبي عبيدة أيضا أي قطعت جثثها بكمالها. وأخرجه الطبري من طريق سعيد عن قتادة مثله، ومن طريق العوفي عن ابن عباس: ضرب الله مثل الشجرة الخبيثة بمثل الكافر، يقول: الكافر لا يقبل عمله ولا يصعد، فليس له أصل ثابت في الأرض ولا فرع في السماء ومن طريق الضحاك قال في قوله ما لها من قرار أي ما لها أصل ولا فرع ولا ثمرة ولا منفعة، كذلك الكافر ليس يعمل خيرا ولا يقول خيرا، ولم يجعل الله فيه بركة ولا منفعة

(8/377)


باب {كشجرة كجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء}
...
1- باب {كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكْلَهَا كُلَّ حِينٍ}
4698- حَدَّثَنِي عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " أَخْبِرُونِي بِشَجَرَةٍ تُشْبِهُ أَوْ كَالرَّجُلِ الْمُسْلِمِ لاَ يَتَحَاتُّ وَرَقُهَا وَلاَ وَلاَ وَلاَ تُؤْتِي أُكْلَهَا كُلَّ حِينٍ" قَالَ ابْنُ عُمَرَ فَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ وَرَأَيْتُ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ لاَ يَتَكَلَّمَانِ فَكَرِهْتُ أَنْ أَتَكَلَّمَ فَلَمَّا لَمْ يَقُولُوا شَيْئًا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هِيَ النَّخْلَةُ" فَلَمَّا قُمْنَا قُلْتُ لِعُمَرَ يَا أَبَتَاهُ وَاللَّهِ لَقَدْ كَانَ وَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ فَقَالَ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَكَلَّمَ قَالَ لَمْ أَرَكُمْ تَكَلَّمُونَ فَكَرِهْتُ أَنْ أَتَكَلَّمَ أَوْ أَقُولَ شَيْئًا قَالَ عُمَرُ لاَنْ تَكُونَ قُلْتَهَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كَذَا وَكَذَا"
قوله: "باب قوله {كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ} الآية" كذا لأبي ذر، وساق غيره إلى {حِينٍ} وسقط عندهم

(8/377)


"باب قوله:"ثم ذكر حديث ابن عمر. قوله: "تشبه أو كالرجل المسلم" شك من أحد رواته، وأخرجه الإسماعيلي من الطريق التي أخرجها منها البخاري بلفظ: "تشبه الرجل المسلم:"ولم يشك، وقد تقدم شرح الحديث مستوفي في كتاب العلم، وقد تقدم هناك البيان الواضح بأن المراد بالشجرة في هذه الآية النخلة، وفيه رد على من زعم أن المراد بها شجرة الجوز الهندي. وقد أخرجه ابن مردويه من حديث ابن عباس بإسناد ضعيف في قوله: {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ} قال: هي شجرة جوز الهند لا تتعطل من ثمرة تحمل كل شهر، ومعنى قوله: "طيبة" أي لذيذة الثمر أو حسنة الشكل أو نافعة، فتكون طيبة بما يئول إليه نفعها. وقوله: {أَصْلُهَا ثَابِتٌ} أي لا ينقطع، وقوله: {وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} أي هي نهاية في الكمال، لأنها إذا كانت مرتفعة بعدت عن عفونات الأرض. وللحاكم من حديث أنس "الشجرة الطيبة النخلة والشجرة الخبيثة الحنظلة" .

(8/378)


2- بَاب {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ}
4699- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبَرَنِي عَلْقَمَةُ بْنُ مَرْثَدٍ قَالَ سَمِعْتُ سَعْدَ بْنَ عُبَيْدَةَ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "الْمُسْلِمُ إِذَا سُئِلَ فِي الْقَبْرِ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَذَلِكَ قَوْلُهُ : {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} "
قوله بَاب {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} ذكر فيه حديث البراء مختصرا، وقد تقدم في الجنائز أتم سياقا واستوفيت شرحه في ذلك الباب.

(8/378)


3- باب {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا} أَلَمْ تَرَ {أَلَمْ تَعْلَمْ}
كَقَوْلِهِ {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا} {الْبَوَارُ} الْهَلاَكُ بَارَ يَبُورُ {قَوْمًا بُورًا} هَالِكِينَ
4700- حدثنا علي بن عبد الله حدثنا سفيان عن عمرو عن عطاء سمع ابن عباس {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا} قال هم كفار أهل مكة"
قوله: "باب {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا} : ألم تر ألم تعلم، كقوله {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا} زاد غير أبي ذر "ألم تر كيف" وهذا قول أبي عبيدة بلفظه. قوله: "البوار الهلاك، بار يبور بورا، قوما بورا: هالكين" هو كلام أبي عبيدة. ثم ذكر حديث ابن عباس فيمن نزلت فيه الآية مختصرا، وقد تقدم مستوفي مع شرحه في غزوة بدر. وروى الطبري من طريق أخرى عن ابن عباس أنه سأل عمر عن هذه الآية فقال: من هم قال هم الأفجران من بني مخزوم وبني أمية أخوالي وأعمامك، فأما أخوالي فاستأصلهم الله يوم بدر، وأما أعمامك فأملى الله لهم إلى حين. ومن طريق علي قال: هم الأفجران بنو أمية وبنو المغيرة، فأما بنو المغيرة فقطع الله دابرهم يوم بدر، وأما بنو أمية فمتعوا إلى حين. وهو عند عبد الرزاق أيضا والنسائي وصححه الحاكم. قلت: المراد بعضهم لا جميع بني أمية وبني بني مخزوم لم يستأصلوا يوم بدر، بل المراد بعضهم كأبي جهل من بني مخزوم وأبي سفيان من بني أمية

(8/378)


15- سورة الْحِجْرِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ الْحَقُّ يَرْجِعُ إِلَى اللَّهِ وَعَلَيْهِ طَرِيقُهُ {لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ} عَلَى الطَّرِيقِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {لَعَمْرُكَ} لَعَيْشُكَ {قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} أَنْكَرَهُمْ لُوطٌ وَقَالَ غَيْرُهُ {كِتَابٌ مَعْلُومٌ} أَجَلٌ {لَوْ مَا} تَأْتِينَا هَلاَ تَأْتِينَا {شِيَعٌ} أُمَمٌ وَلِلأَوْلِيَاءِ أَيْضًا شِيَعٌ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {يُهْرَعُونَ} مُسْرِعِينَ {لِلْمُتَوَسِّمِينَ} لِلنَّاظِرِينَ {سُكِّرَتْ} غُشِّيَتْ {بُرُوجًا} مَنَازِلَ لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ {لَوَاقِحَ} مَلاَقِحَ مُلْقَحَةً {حَمَإٍ} جَمَاعَةُ حَمْأَةٍ وَهُوَ الطِّينُ الْمُتَغَيِّرُ وَالْمَسْنُونُ الْمَصْبُوبُ {تَوْجَلْ} تَخَفْ {دَابِرَ} آخِرَ {لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ} الإِمَامُ كُلُّ مَا ائْتَمَمْتَ وَاهْتَدَيْتَ بِهِ الصَّيْحَةُ الْهَلَكَة"
قوله: "تفسير سورة الحجر {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} كذا لأبي ذر عن المستملي، وله عن غيره بدون لفظ: "تفسير" وسقطت البسملة للباقين. قوله: "وقال مجاهد صراط على مستقيم الحق يرجع إلى الله وعليه طريقه" وصله الطبري من طرق عنه مثله وزاد: "لا يعرض على شيء" ومن طريق قتادة ومحمد بن سيرين وغيرهما أنهم قرءوا على بالتنوين على أنه صفة للصراط أي رفيع. قلت: وهي قراءة يعقوب. قوله: "لبإمام مبين على الطريق" وروى الطبري من طرق عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: {وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ} قال: بطريق معلم. ومن رواية سعيد عن قتادة قال. طريق واضح، وسيأتي له تفسير آخر.
" تنبيه " : سقط هذا والذي قبله لأبي ذر إلا عن المستملي. قوله: "وقال ابن عباس: لعمرك لعيشك" وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. قوله: "قوم منكرون، أنكرهم لوط" وصله ابن أبي حاتم أيضا من الوجه المذكور.
" تنبيه " : سقط هذا والذي قبله لأبي ذر قوله: "كتاب معلوم أجل" كذا لأبي ذر فأوهم أنه من تفسير مجاهد، ولغيره: وقال غيره كتاب معلوم أجل، وهو تفسير أبي عبيدة قال في قوله: {إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ} أي أجل ومدة، معلوم أي مؤقت. قوله: "لوما هلا تأتينا" قال أبو عبيدة في قوله: "لوما تأتينا" مجازها هلا تأتينا. قوله: "شيع أمم والأولياء أيضا شيع" قال أبو عبيدة في قوله: {شِيَعِ الأَوَّلِينَ} أي أمم الأولين واحدتها شيعة، والأولياء أيضا شيع أي يقال لهم شيع. وروى الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأَوَّلِينَ} يقول: أمم الأولين. قال الطبري. وقال لأولياء الرجل أيضا شيعة. قوله: "وقال ابن عباس يهرعون مسرعين" كذا أوردها هنا، وليست من هذه السورة وإنما هي في سورة هود، وقد وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. قوله: "للمتوسمين للناظرين" تقدم شرحه في قصة لوط من أحاديث الأنبياء.
" تنبيه " : سقط هذا والذي قبله لأبي ذر أيضا. قوله: "سكرت غشيت" كذا لأبي ذر فأوهم أنه من تفسير مجاهد، وغيره يوهم أنه من تفسير ابن عباس، لكنه قول أبي عبيدة، وهو بمهملة ثم معجمة1 وذكر الطبري عن أبي عمرو بن العلاء أنه كان يقول: هو مأخوذ من سكر الشراب، قال: ومعناه غشني أبصارنا
ـــــــ
(1) بمهملة أي في سكرت، ثم معجمة أي في غشيت. ا هـ من هامش الأصل

(8/379)


مثل السكر. ومن طريق مجاهد والضحاك قوله سكرت أبصارنا قال سدت. ومن طريق قتادة قال: سحرت. ومن وجه آخر عن قتادة قال: سكرت بالتشديد سددت وبالتخفيف سحرت انتهى. وهما قراءتان مشهورتان، فقرأها بالتشديد الجمهور، وابن كثير بالتخفيف، وعن الزهري بالتخفيف، لكن بناها للفاعل. قوله: "لعمرك لعيشك" كذا ثبت هنا لبعضهم، وسيأتي لهم في الأيمان والنذور مع شرحه. قوله: "وإنا له لحافظون قال مجاهد عندنا" وصله ابن المنذر، ومن طريق ابن أبي نجيح عنه وهو في بعض نسخ الصحيح. قوله: "بروجا منازل للشمس والقمر، لواقح ملافح، حمأ جماعة حماة وهو الطين المتغير، والمسنون المصبوب" كذا ثبت لغير أبي ذر وسقط له، وقد تقدم مع شرحه في بدء الخلق. قوله: "لا توجل لا تخف، دابر آخر" تقدم شرح الأول في قصة إبراهيم وشرح الثاني في قصة لوط من أحاديث الأنبياء. وسقط لأبي ذر هنا. قوله: "لبإمام مبين، الإمام ما ائتممت به واهتديت" هو تفسير أبي عبيدة. قوله: "الصيحة الهلكة" هو تفسير أبي عبيدة، وقد تقدمت الإشارة إليه في قصة لوط من أحاديث الأنبياء

(8/380)


1- بَاب {إِلاَّ مَنْ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ}
4701- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا قَضَى اللَّهُ الأَمْرَ فِي السَّمَاءِ ضَرَبَتْ الْمَلاَئِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خُضْعَانًا لِقَوْلِهِ كَالسِّلْسِلَةِ عَلَى صَفْوَانٍ قَالَ عَلِيٌّ وَقَالَ غَيْرُهُ صَفْوَانٍ يَنْفُذُهُمْ ذَلِكَ فَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا لِلَّذِي قَالَ الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ فَيَسْمَعُهَا مُسْتَرِقُو السَّمْعِ وَمُسْتَرِقُو السَّمْعِ هَكَذَا وَاحِدٌ فَوْقَ آخَرَ - وَوَصَفَ سُفْيَانُ بِيَدِهِ وَفَرَّجَ بَيْنَ أَصَابِعِ يَدِهِ الْيُمْنَى نَصَبَهَا بَعْضَهَا فَوْقَ بَعْضٍ- فَرُبَّمَا أَدْرَكَ الشِّهَابُ الْمُسْتَمِعَ قَبْلَ أَنْ يَرْمِيَ بِهَا إِلَى صَاحِبِهِ فَيُحْرِقَهُ وَرُبَّمَا لَمْ يُدْرِكْهُ حَتَّى يَرْمِيَ بِهَا إِلَى الَّذِي يَلِيهِ إِلَى الَّذِي هُوَ أَسْفَلَ مِنْهُ حَتَّى يُلْقُوهَا إِلَى الأَرْضِ -وَرُبَّمَا قَالَ سُفْيَانُ حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى الأَرْضِ- فَتُلْقَى عَلَى فَمْ السَّاحِرِ فَيَكْذِبُ مَعَهَا مِائَةَ كَذْبَةٍ فَيُصَدَّقُ فَيَقُولُونَ أَلَمْ يُخْبِرْنَا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا يَكُونُ كَذَا وَكَذَا فَوَجَدْنَاهُ حَقًّا لِلْكَلِمَةِ الَّتِي سُمِعَتْ مِنْ السَّمَاءِ" حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا عَمْرٌو عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ إِذَا قَضَى اللَّهُ الأَمْرَ وَزَادَ وَالْكَاهِنِ و حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ فَقَالَ قَالَ عَمْرٌو سَمِعْتُ عِكْرِمَةَ حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ إِذَا قَضَى اللَّهُ الأَمْرَ وَقَالَ عَلَى فَمْ السَّاحِرِ قُلْتُ لِسُفْيَانَ آنْتَ سَمِعْتَ عَمْرًا قَالَ سَمِعْتُ عِكْرِمَةَ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ نَعَمْ قُلْتُ لِسُفْيَانَ إِنَّ إِنْسَانًا رَوَى عَنْكَ عَنْ عَمْرٍو عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَيَرْفَعُهُ أَنَّهُ قَرَأَ فُرِّغَ قَالَ سُفْيَانُ هَكَذَا قَرَأَ عَمْرٌو فَلاَ أَدْرِي سَمِعَهُ هَكَذَا أَمْ لاَ قَالَ سُفْيَانُ وَهِيَ قِرَاءَتُنَا"
[الحدبث 4701- طرفه في: 4800، 7481]
قوله بَاب {إِلاَّ مَنْ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ} ذكر فيه حديث أبي هريرة في قصة مسترقي السمع،

(8/380)


2- باب {وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ}
4702- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا مَعْنٌ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لأَصْحَابِ الْحِجْرِ : "لاَ تَدْخُلُوا عَلَى هَؤُلاَءِ الْقَوْمِ إِلاَّ أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا بَاكِينَ فَلاَ تَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَهُم"
قوله: "باب قوله {وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ} ذكر فيه حديث ابن عمر في النهي عن الدخول على المعذبين، وقوله: "إلا أن تكونوا باكين" ذكر ابن التين أنه عند الشيخ أبي الحسن بائين بهمزة بدل الكاف، قال: ولا وجه له

(8/381)


3- باب {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنْ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ}
4703- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ خُبَيْبِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى قَالَ مَرَّ بِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أُصَلِّي فَدَعَانِي فَلَمْ آتِهِ حَتَّى صَلَّيْتُ ثُمَّ أَتَيْتُ فَقَالَ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَأْتِيَنِي فَقُلْتُ كُنْتُ أُصَلِّي فَقَالَ أَلَمْ يَقُلْ اللَّهُ : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} ثُمَّ قَالَ أَلاَ أُعَلِّمُكَ أَعْظَمَ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ قَبْلَ أَنْ أَخْرُجَ مِنْ الْمَسْجِدِ فَذَهَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَخْرُجَ مِنْ الْمَسْجِدِ فَذَكَّرْتُهُ فَقَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُوتِيتُه"
4704- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ الْمَقْبُرِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أُمُّ الْقُرْآنِ هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيم"
قوله باب قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنْ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} ثم ساقه من حديث أبي هريرة في قصة أبي بن كعب كما تقدم في تفسير الفاتحة. ثم ذكر حديث أبي هريرة مختصرا بلفظ أم القرآن هي السبع المثاني في رواية الترمذي من هذا الوجه الحمد لله أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني وقد تقدم في تفسير الفاتحة من وجه آخر عن أبي هريرة ورفعه أتم من هذا وللطبري من وجه آخر عن سعيد المقبري عن أبي هريرة رفعه الركعة التي لا يقرأ فيها كالخداج قال فقلت لأبي هريرة فإن لم يكن معي إلا أم القرآن قال هي حسبك هي أم الكتاب وهي أم القرآن وهي السبع المثاني قال الخطابي وفي الحديث رد على بن سيرين حيث قال إن الفاتحة لا يقال لها أم القرآن وإنما يقال لها فاتحة الكتاب ويقول أم الكتاب هو اللوح المحفوظ قال وأم الشيء أصله وسميت الفاتحة أم القرآن لأنها أصل القرآن وقيل لأنها متقدمة كأنها تؤمه قوله "هي السبع

(8/381)


المثاني والقرآن العظيم" هو معطوف على قوله أم القرآن وهو مبتدأ وخبره محذوف أو خبر مبتدأ محذوف تقديره والقرآن العظيم ما عداها، وليس هو معطوفا على قوله: "السبع المثاني" لأن الفاتحة ليست هي القرآن العظيم، وإنما جاز إطلاق القرآن عليها لأنها من القرآن لكنها ليست هي القرآن كله. ثم وجدت في تفسير ابن أبي حاتم من طريق أخرى عن أبي هريرة مثله لكن بلفظ: "والقرآن العظيم الذي أعطيتموه أي هو الذي أعطيتموه" فيكون هذا هو الخبر. وقد روى الطبري بإسنادين جيدين عن عمر ثم علي قال: "السبع المثاني فاتحة الكتاب" زاد عن عمر "تثني في كل ركعة" وبإسناد منقطع عن ابن مسعود مثله، وبإسناد حسن عن ابن عباس أنه قرأ الفاتحة ثم قال: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي} قال: هي فاتحة الكتاب، وبسم الله الرحمن الرحيم الآية السابعة، ومن طريق جماعة من التابعين: السبع المثاني هي فاتحة الكتاب. ومن طريق أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية قال: السبع المثاني فاتحة الكتاب. قلت للربيع: إنهم يقولون إنها السبع الطوال، قال: لقد أنزلت هذه الآية وما نزل من الطوال شيء. وهذا الذي أشار إليه هو قول آخر مشهور في السبع الطوال، وقد أسنده النسائي والطبري والحاكم عن ابن عباس أيضا بإسناد قوي، وفي لفظ للطبري: البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف، قال الراوي: ذكر السابعة فنسيتها. وفي رواية صحيحة عند ابن أبي حاتم عن مجاهد وسعيد ابن جبير أنها يونس. وعند الحاكم أنها الكهف، وزاد: قيل له ما المثاني؟ قال: تثني فيهن القصص. ومثله عن سعيد بن جبير عن سعيد بن منصور. وروى الطبري أيضا من طريق خضيف عن زياد بن أبي مريم قال في قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي} قال مروان وبشر وأنذر واضرب الأمثال واعدد النعم والأنباء. ورجح الطبري القول الأول لصحة الخبر فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. حديث أبي هريرة في قصة أبي بن كعب كما تقدم في تفسير الفاتحة.

(8/382)


باب قوله {الذين جعلوا القرآن عضين}
...
4- باب {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ}{الْمُقْتَسِمِينَ} الَّذِينَ حَلَفُوا وَمِنْهُ {لاَ أُقْسِمُ} أَيْ أُقْسِمُ وَتُقْرَأُ لاَقْسِمُ و {قَاسَمَهُمَا} حَلَفَ لَهُمَا وَلَمْ يَحْلِفَا لَهُ وَقَالَ مُجَاهِدٌ تَقَاسَمُوا تَحَالَفُوا.
4705- حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ أَخْبَرَنَا أَبُو بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ قَالَ هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ جَزَّءُوهُ أَجْزَاءً فَآمَنُوا بِبَعْضِهِ وَكَفَرُوا بِبَعْضِه"
4706- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي ظَبْيَانَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ قَالَ آمَنُوا بِبَعْضٍ وَكَفَرُوا بِبَعْضٍ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى"
قوله: "باب {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} قيل إن {عِضِينَ} جمع عضو، فروى الطبري من طريق الضحاك قال في قوله: {جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} أي جعلوه أعضاء كأعضاء الجزور، وقيل هي جمع عضة وأصلها عضهة فحذفت الهاء كما حذفت من الشفة وأصلها شفهة وجمعت بعد الحذف على عضين مثل برة وبرين وكرة كرين، وروى

(8/382)


الطبري من طريق قتادة قال: عضين عضهوه وبهتوه. ومن طريق عكرمة قال: العضه السحر بلسان قريش، تقول للساحرة العاضهة، أخرجه ابن أبي حاتم. وروى ابن أبي حاتم أيضا من طريق عطاء مثل قول الضحاك ولفظه: عضوا القرآن أعضاء، فقال بعضهم ساحر وقال آخر مجنون وقال آخر كاهن، فذلك العضين. ومن طريق مجاهد مثله وزاد: وقالوا أساطير الأولين. ومن طريق السدي قال: قسموا القرآن واستهزءوا به فقالوا: ذكر محمد البعوض والذباب والنمل والعنكبوت، فقال بعضهم أنا صاحب البعوض وقال آخر أنا صاحب النمل وقال آخر أنا صاحب العنكبوت، وكان المستهزئون خمسة: الأسود بن عبد يغوث والأسود بن المطلب والعاصي بن وائل والحارث بن قيس والوليد بن المغيرة. ومن طريق عكرمة وغيره في عد المستهزئين مثله، ومن طريق الربيع بن أنس مثله وزاد بيان كيفية هلاكهم في ليلة واحدة. قوله: "المقتسمين الذين حلفوا، ومنه لا أقسم أي أقسم، وتقرأ لأقسم، وقاسها حلف لهما ولم يحلفا له. وقال مجاهد: تقاسموا تحالفوا" قلت هكذا جعل المقتسمين من القسم بمعنى الحلف والمعروف أنه من القسمة وبه جزم الطبري وغيره، وسياق الكلام يدل عليه، وقوله: {الَّذِينَ جَعَلُوا} هو صفة للمقتسمين، وقد ذكرنا أن المراد أنهم قسموه وفرقوه. وقال أبو عبيدة: وقاسهما، حلف لهما. وقال أيضا أبو عبيدة الذي يكثر المصنف نقل كلامه: من المقتسمين الذين اقتسموا وفرقوا، قال: وقوله عضين أي فرقوه عضوه أعضاء. قال رؤبة "وليس دين الله بالمعضي" أي بالمفرق، وأما قوله: "ومنه لا أقسم إلخ" فليس كذلك، أي فليس هو من الاقتسام بل هو من القسم، وإنما قال ذلك بناء على ما اختاره من أن المقتسمين من القسم. وقال أبو عبيدة في قوله: {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} : مجازها أقسم بيوم القيامة. واختلف المعربون في "لا" فقيل زائدة وإلى هذا يشير كلام أبي عبيدة، وتعقب بأنها لا تزاد إلا في أثناء الكلام، وأجيب بأن القرآن كله كالكلام الواحد، وقيل هو جواب شيء محذوف، وقيل نفي على بابها وجوابها محذوف والمعنى لا أقسم بكذا بل بكذا، وأما قراءة لأقسم بغير ألف فهي رواية عن ابن كثير، واختلف في اللام فقيل هي لام القسم وقيل لام التأكيد، واتفقوا على إثبات الألف في التي بعدها {وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ} وعلى إثباتها في {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} اتباعا لرسم المصحف في ذلك. وأما قول مجاهد تقاسموا تحالفوا فهو كما قال، وقد أخرجه الفريابي من طريق ابن أبي نجيح عنه في قوله: {تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ} قال تحالفوا على هلاكه فلم يصلوا إليه حتى هلكوا جميعا، وهذا أيضا لا يدخل في المقتسمين إلا على رأي زيد بن أسلم، فإن الطبري روى عنه أن المراد بقوله: "المقتسمين" قوم صالح الذين تقاسموا على هلاكه فلعل المصنف اعتمد على ذلك. قوله: "عن ابن عباس الذين جعلوا القرآن عضين" يعني في تفسير هذه الكلمة، وقد ذكرت ما قيل في أصل اشتقاقها أول الباب. قوله: "هم أهل الكتاب" فسره في الرواية الثانية فقال: "اليهود والنصارى" وقوله: "جزءوه أجزاء" فسره في الرواية الثانية فقال: "آمنوا ببعض وكفروا ببعض" قوله في الرواية الثانية "عن أبي ظبيان" بمعجمة ثم موحدة هو حصين بن جندب، وليس له في البخاري عن ابن عباس سوى هذا الحديث

(8/383)


5- باب {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ قَالَ سَالِمٌ الْيَقِينُ الْمَوْتُ}
قوله: "باب قوله: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ قَالَ سَالِمٌ الْيَقِينُ الْمَوْتُ} قال سالم: اليقين الموت" وصله الفريابي وعبد بن حميد وغيرهما من طريق طارق بن عبد الرحمن عن سالم بن أبي الجعد بهذا، وأخرجه الطبري من طرق عن مجاهد وقتادة

(8/383)


وغيرهما مثله، واستشهد الطبري لذلك بحديث أم العلاء في قصة عثمان بن مظعون "أما هو فقد جاءه اليقين، وإني لأرجو له الخير" وقد تقدم في الجنائز مشروحا، وقد اعترض بعض الشراح على البخاري لكونه لم يخرج هنا هذا الحديث وقال: كان ذكره أليق من هذا؛ قال ولأن اليقين ليس من أسماء الموت.
قلت: لا يلزم البخاري ذلك، وقد أخرج النسائي حديث بعجة عن أبي هريرة رفعه: "خير ما عاش الناس به رجل ممسك بعنان فرسه" الحديث، وفي آخره: " حتى يأتيه اليقين ليس هو من الناس إلا في خير" فهذا شاهد جيد لقول سالم، ومنه قوله تعالى: {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} وإطلاق اليقين على الموت مجاز، لأن الموت لا يشك فيه.

(8/384)


16- سورة النَّحْلِ
{رُوحُ الْقُدُسِ} جِبْرِيلُ {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} {فِي ضَيْقٍ} يُقَالُ أَمْرٌ ضَيْقٌ وَضَيِّقٌ مِثْلُ هَيْنٍ وَهَيِّنٍ وَلَيْنٍ وَلَيِّنٍ وَمَيْتٍ وَمَيِّتٍ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ { تَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ} تَتَهَيَّأُ {سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلا} لاَ يَتَوَعَّرُ عَلَيْهَا مَكَانٌ سَلَكَتْهُ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {فِي تَقَلُّبِهِمْ} اخْتِلاَفِهِمْ وَقَالَ مُجَاهِدٌ {تَمِيدُ} تَكَفَّأُ {مُفْرَطُونَ} مَنْسِيُّونَ وَقَالَ غَيْرُهُ { فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} هَذَا مُقَدَّمٌ وَمُؤَخَّرٌ وَذَلِكَ أَنَّ الاسْتِعَاذَةَ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ وَمَعْنَاهَا الِاعْتِصَامُ بِاللَّهِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {تُسِيمُونَ} تَرْعَوْنَ {شَاكِلَتِهِ} نَاحِيَتِهِ {قَصْدُ السَّبِيلِ} الْبَيَانُ الدِّفْءُ مَا اسْتَدْفَأْتَ {تُرِيحُونَ} بِالْعَشِيِّ {وَتَسْرَحُونَ} بِالْغَدَاةِ {بِشِقِّ} يَعْنِي الْمَشَقَّةَ {عَلَى تَخَوُّفٍ} تَنَقُّصٍ {الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً} وَهِيَ تُؤَنَّثُ وَتُذَكَّرُ وَكَذَلِكَ النَّعَمُ {الأَنْعَامُ} جَمَاعَةُ النَّعَمِ أَكْنَانٌ وَاحِدُهَا كِنٌّ مِثْلُ حِمْلٍ وَأَحْمَالٍ {سَرَابِيلَ} قُمُصٌ {تَقِيكُمْ الْحَرَّ} وَأَمَّا {سَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ} فَإِنَّهَا الدُّرُوعُ {دَخَلًا بَيْنَكُمْ} كُلُّ شَيْءٍ لَمْ يَصِحَّ فَهُوَ دَخَلٌ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {حَفَدَةً} مَنْ وَلَدَ الرَّجُلُ {السَّكَرُ} مَا حُرِّمَ مِنْ ثَمَرَتِهَا وَالرِّزْقُ الْحَسَنُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ صَدَقَةَ {أَنْكَاثًا} هِيَ خَرْقَاءُ كَانَتْ إِذَا أَبْرَمَتْ غَزْلَهَا نَقَضَتْهُ وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ الأُمَّةُ مُعَلِّمُ الْخَيْرِ
قوله: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ - سورة النحل" سقطت البسملة لغير أبي ذر. قوله: "روح القدس جبريل، نزل به الروح الأمين" أما قوله روح القدس جبريل فأخرجه ابن أبي حاتم بإسناد رجاله ثقات عن عبد الله بن مسعود، وروى الطبري من طريق محمد بن كعب القرظي قال: روح القدس جبريل، وكذا جزم به أبو عبيدة وغير واحد. وأما قوله: "نزل به الروح الأمين" فذكره استشهادا لصحة هذا التأويل، فإن المراد به جبريل اتفاقا، وكأنه أشار إلى رد ما رواه الضحاك عن ابن عباس قال: روح القدس الاسم الذي كان عيسى يحيي به الموتى، أخرجه ابن أبي حاتم وإسناده ضعيف. قوله: "وقال ابن عباس: في تقلبهم في اختلافهم" وصله الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عنه مثله، ومن طريق سعيد عن قتادة "في تقلبهم" يقول في أسفارهم. قوله: "وقال مجاهد: تميد تكفا" هو بالكاف وتشديد الفاء مهموز، وقيل بضم أوله وسكون الكاف. وقد وصله الفريابي من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} قال: تكفأ بكم، ومعنى تكفأ تقلب. وروى

(8/384)


الطبري من حديث علي بإسناد حسن موقوفا قال: لما خلق الله الأرض قمصت، قال فأرسى الله فيها الجبال، وهو عند أحمد والترمذي من حديث أنس مرفوع. قوله: "مفرطون منسيون" وصله الطبري من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: {لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ} قال: منسيون، ومن طريق سعيد بن جبير قال: مفرطون أي متروكون في النار منسيون فيها. ومن طريق سعيد عن قتادة قال: معجلون. قال الطبري: ذهب قتادة إلى أنه من قولهم أفرطنا فلانا إذا قدموه فهو مفرط ومنه "أنا فرطكم على الحوض" قلت وهذا كله على قراءة الجمهور بتخفيف الراء وفتحها وقرأها نافع بكسرها وهو من الإفراط، وقرأها أبو جعفر بن القعقاع بفتح الفاء وتشديد الراء مكسورة أي مقصرون في أداء الواجب مبالغون في الإساءة. قوله: "في ضيق يقال أمر ضيق وأمر ضيق مثل هين وهين ولين ولين وميت وميت" قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ} بفتح أوله وتخفيف ضيق كميت وهين ولين فإذا خففتها قلت ميت وهين ولين فإذا كسرت أوله فهو مصدر ضيق انتهى. وقرأ ابن كثير هنا وفي النمل بالكسر والباقون بالفتح، فقيل على لغتين، وقيل المفتوح مخفف من ضيق أي في أمر ضيق. واعترضه الفارسي بأن الصفة غير خاصة بالموصوف فلا يدعى الحذف. قوله: "قال ابن عباس: تتقيأ ظلاله تتهيا" كذا فيه والصواب تتميل، وقد تقدم بيانه في كتاب الصلاة. قوله: "سبل ربك ذللا لا يتوعر عليها مكان سلكته" رواه الطبري من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد مثله، ويتوعر بالعين المهملة، وذللا حال في السبل أي ذللها الله لها، وهو جمع ذلول قال تعالى: {جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً} ومن طريق قتادة من قوله تعالى: {ذُلُلاً} أي مطيعة، وعلى هذا فقوله ذللا حال من فاعل اسلكي، وانتصاب سبل على الظرفية أو على أنه مفعول به. قوله: "القانت المطيع" سيأتي في آخر السورة، قوله: "وقال غيره {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} هذا مقدم ومؤخر، وذلك أن الاستعاذة قبل القراءة" المراد بالغير أبو عبيدة، فإن هذا كلامه بعينه، وقرره غيره فقال إذا وصلة بين الكلامين، والتقدير فإذا أخذت في القراءة فاستعذ، وقيل هو على أصله لكن فيه إضمار، أي إذا أردت القراءة لأن الفعل يوجد عند القصد من غير فاصل، وقد أخذ بظاهر الآية ابن سيرين، ونقل عن أبي هريرة وعن مالك وهو مذهب حمزة الزيات فكانوا يستعيذون بعد القراءة، وبه قال داود الظاهري. قوله: "ومعناها" أي معنى الاستعاذة "الاعتصام بالله" هو قول أبي عبيدة أيضا. قوله: "وقال ابن عباس تسيمون ترعون" روى الطبري من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ} قال: ترعون فيه أنعامكم، ومن طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: تسيمون أي ترعون، ومن طريق عكرمة مولى ابن عباس مثله. وقال أبو عبيدة، أسمت الإبل رعيتها، وسامت هي رعت. قوله: "شاكلته ناحيته" كذا وقع هنا وإنما هو في السورة التي تليها، وقد أعاده فيها. ووقع في رواية أبي ذر عن الحموي "نيته" بدل ناحيته وسيأتي الكلام عليها هناك. قوله: "قصد السبيل البيان" وصله الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن أبي عباس في قوله: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} قال: البيان. ومن طريق العوفي عن ابن عباس مثله وزاد: البيان بيان الضلالة والهدى. قوله: "الدفء ما استدفأت به" قال أبو عبيدة: الدفء ما استدفأت به من أوبارها ومنافع ما سوى ذلك، وروى الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ} قال: الثياب. ومن طريق مجاهد قال: لباس ينسج. ومن طريق قتادة مثله. قوله: "تخوف تنقص" وصله الطبري من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد في

(8/385)


قوله: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} قال: على تنقص. وروى بإسناد فيه مجهول عن عمر أنه سأل عن ذلك فلم يجب. فقال عمر: ما رأى إلا أنه على ما ينتقصون من معاصي الله، قال فخرج رجل فلقي أعرابيا فقال: ما فعل فلان؟ قال تخوفته - أي تنقصته - فرجع فأخبر عمر، فأعجبه" وفي شعر أبي كثير الهذلي ما يشهد له. وروى ابن أبي حاتم من طريق الضحاك عن ابن عباس {عَلَى تَخَوُّفٍ} قال: على تنقص من أعمالهم، وقيل التخوف تفعل من الخوف. قوله: "تريحون بالعشي وتسرحون بالغداة" قال أبو عبيدة في قوله: {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ} أي بالعشي، {وَحِينَ تَسْرَحُونَ} أي بالغداة. قوله: "الأنعام لعبرة، هي تؤنث وتذكر، وكذلك النعم الأنعام جماعة النعم" قال أبو عبيدة في قوله: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ} : فذكر وأنث، فقيل الأنعام تذكر وتؤنث، وقيل المعنى على النعم فهي تذكر وتؤنث، والعرب تظهر الشيء ثم تخبر عنه بما هو منه بسبب وإن لم يظهره كقول الشاعر:
قبائلنا سبع وأنتم ثلاثة ... وللسبع أولى من ثلاث وأطيب
أي ثلاثة أحياء، ثم قال: "من ثلاث" أي قبائل انتهى. وأنكر الفراء تأنيث النعم وقال: إنما يقال: هذا نعم، ويجمع على نعمان بضم أوله مثل حمل وحملان. قوله: "أكنانا واحدها كن، مثل حمل وأحمال" هو تفسير أبي عبيدة، وروى الطبري من طريق سعيد عن قتادة في قوله: {أَكْنَاناً} قال: غيرانا من الجبال يسكن فيها. قوله: "بشق يعني المشقة" قال أبو عبيدة في قوله: {لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ} أي بمشقة {الأَنْفُسِ} . وروى الطبري من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: {إِلاَّ بِشِقِّ الأَنْفُسِ} قال: المشقة عليكم، ومن طريق سعيد عن قتادة {إِلاَّ بِشِقِّ الأَنْفُسِ} إلا بجهد الأنفس. "تنبيه" قرأ الجمهور بكسر الشين من شق، وقرأها أبو جعفر بن القعقاع بفتحها، قال أبو عبيدة: هما بمعنى، وأنشد.
وذو إبل تسعى ويحبسها له ... أخو نصب من شقها وذءوب
قال الأثرم صاحب أبي عبيدة: سمعته بالكسر والفتح. وقال الفراء: معناهما مختلف، فبالكسر معناه ذابت حتى صارت على نصف ما كانت وبالفتح المشقة انتهى. وكلام أهل التفسير يساعد الأول. قوله: "سرابيل قمص تقيكم الحر، وأما سرابيل تقيكم بأسكم فإنها الدروع" قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} أي قمصا {وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ} أي دروعا. وروى الطبري من طريق سعيد عن قتادة في قوله تعالى: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} قال القطن والكتان {وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ} قال: دروع من حديد. قوله: "دخلا بينكم، كل شيء لم يصح فهو دخل" هو قول أبي عبيدة أيضا، وروى ابن أبي حاتم من طريق سعيد عن قتادة قال: "دخلا" خيانة، وقيل الدخل الداخل في الشيء ليس منه. قوله: "وقال ابن عباس: حفدة من ولد الرجل" وصله الطبري من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله: {بَنِينَ وَحَفَدَةً} قال: الولد وولد الولد، وإسناده صحيح. وفيه عن ابن عباس قول آخر أخرجه من طريق العوفي عنه قال: هم بنو امرأة الرجل. وفيه عنه قول ثالث أخرجه من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: الحفدة والأصهار. ومن طريق عكرمة عن ابن عباس قال: الأختان. وأخرج هذا الأخير عن ابن مسعود بإسناد صحيح، ومن طريق أبي الضحى وإبراهيم وسعيد بن جبير وغيرهم مثله، وصحح الحاكم حديث

(8/386)


ابن مسعود. وفيه قول رابع عن ابن عباس أخرجه الطبري من طريق أبي حمزة عنه قال: من أعانك فقد حفدك. ومن طريق عكرمة قال: الحفدة الخدام. ومن طريق الحسن قال: الحفدة البنون وبنو البنين، ومن أعانك من أهل أو خادم فقد حفدك. وهذا أجمع الأقوال، وبه تجتمع، وأشار إلى ذلك الطبري. وأصل الحفد مداركة الخطو والإسراع في المشي، فأطلق على من يسعى في خدمة الشخص ذلك. قوله: "السكر ما حرم من ثمرتها، والرزق الحسن ما أحل" وصله الطبري بأسانيد من طريق عمرو بن سفيان عن ابن عباس مثله وإسناده صحيح، وهو عند أبي داود في "الناسخ" وصححه الحاكم، ومن طريق سعيد بن جبير عنه قال: الرزق الحسن الحلال، والسكر الحرام، ومن طريق سعيد بن جبير ومجاهد مثله وزاد أن ذلك كان قبل تحريم الخمر، وهو كذلك لأن سورة النحل مكية. ومن طريق قتادة: السكر خمر الأعاجم. ومن طريق الشعبي وقيل له في قوله: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً} أهو هذا الذي تصنع النبط؟ قال لا، هذا خمر، وإنما السكر نقيع الزبيب، والرزق الحسن التمر والعنب. واختار الطبري هذا القول وانتصر له. قوله: "وقال ابن عيينة عن صدقة {أَنْكَاثاً} هي خرقاء كانت إذا أبرمت غزلها نقضته" وصله ابن أبي حاتم عن أبيه عن ابن عمر العدني، والطبري من طريق الحميدي كلاهما عن ابن عيينة عن صدقة عن السدي قال: كانت بمكة امرأة تسمى خرقاء، فذكر مثله. وفي "تفسير مقاتل" أن اسمها بطة بنت عمرو بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم، وعند البلاذري أنها والدة أسد" بن عبد العزى بن قصي، وأنها بنت سعد بن تميم بن مرة. وفي "غرر التبيان" أنها كانت تغزل هي وجواريها من الغداة إلى نصف النهار ثم تأمرهن بنقض ذلك، هذا دأبها لا تكف عن الغزل ولا تبقي ما غزلت. وروى الطبري من طريق ابن جريج عن عبد الله بن كثير مثل رواية صدقة المذكور، ومن طريق سعيد عن قتادة قال: هو مثل ضربه الله تعالى لمن نكث عهده. وروى ابن مردويه بإسناد ضعيف عن ابن عباس أنها نزلت في أم زفر الآتي ذكرها في كتاب الطب، والله أعلم. وصدقة هذا لم أر من ذكره في رجال البخاري، وقد أقدم الكرماني فقال: صدقة هذا هو ابن الفضل المروزي شيخ البخاري، وهو يروي عن سفيان بن عيينة، وهنا روى عنه سفيان، ولا سلف له فيما ادعاه من ذلك، ويكفي في الرد عليه ما أخرجناه من تفسير ابن جرير وابن أبي حاتم من رواية صدقة هذا عن السدي، فإن صدقة بن الفضل المروزي ما أدرك السدي ولا أصحاب السدي، وكنت أظن أن صدقة هذا هو ابن أبي عمران قاضي الأهواز لأن لابن عيينة عنه رواية، إلى أن رأيت في "تاريخ البخاري" صدقة أبو الهذيل، روى عن السدي قوله روى عنه ابن عيينة، وكذا ذكره ابن حبان في "الثقات" من غير زيادة، وكذا ابن أبي حاتم عن أبيه لكن قال: صدقة بن عبد الله بن كثير القارئ صاحب مجاهد، فظهر أنه غير ابن أبي عمران، ووضح أنه من رجال البخاري تعليقا، فيستدرك على من صنف في رجاله فإن الجميع أغفلوه، والله أعلم. قوله: "وقال ابن مسعود: الأمة معلم الخير؛ والقانت المطيع" وصله الفريابي وعبد الرزاق وأبو عبيد الله في "المواعظ" والحاكم كلهم من طريق الشعبي عن مسروق عن عبد الله بن مسعود قال: "قرئت عنده هذه الآية {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ} فقال ابن مسعود: إن معاذا كان أمة قانتا لله، فسئل عن ذلك فقال: هل تدرون ما الأمة؟ الأمة الذي يعلم الناس الخير، والقانت الذي يطيع الله ورسوله" .

(8/387)


1- باب {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ}
4707- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ مُوسَى أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الأَعْوَرُ عَنْ شُعَيْبٍ عَنْ أَنَسِ

(8/387)


بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَدْعُو "أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْبُخْلِ وَالْكَسَلِ وَأَرْذَلِ الْعُمُرِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ وَفِتْنَةِ الدَّجَّالِ وَفِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَات"
قوله: "باب قوله تعالى: {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ} ذكر فيه حديث أنس في الدعاء بالاستعاذة من ذلك وغيره، وسيأتي شرحه في الدعوات شعيب الراوي عن أنس هو ابن الحبحاب بمهملتين وموحدتين، وروى ابن أبي حاتم من طريق السدي قال: أرذل العمر هو الخرف. وروى ابن مردويه من حديث أنس أنه مائة سنة.

(8/388)


17- سُورَةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ
1- باب 4708- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ يَزِيدَ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ وَالْكَهْفِ وَمَرْيَمَ إِنَّهُنَّ مِنْ الْعِتَاقِ الأُوَلِ وَهُنَّ مِنْ تِلاَدِي {فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَهُزُّونَ وَقَالَ غَيْرُهُ نَغَضَتْ سِنُّكَ أَيْ تَحَرَّكَت"
[الحديث 4708- طرفاه في: 4739، 4994]
قوله: "سورة بني إسرائيل - بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم" ثبتت البسملة لأبي ذر. قوله سمعت بن مسعود قال في بني إسرائيل والكهف ومريم إنهن من العتاق بكسر المهملة وتخفيف الشاة جمع عتيق وهو القديم أو هو كل ما بلغ الغاية في الجودة وبالثاني جزم جماعة في هذا الحديث وبالأول جزم أبو الحسين بن فارس وقوله الأول بتخفيف الواو وقوله هن من تلادي بكسر الشاة وتخفيف اللام أي مما حفظ قديما والتلاد قديم الملك وهو بخلاف الطارف ومراد بن مسعود أنهن من أول ما تعلم من القرآن وأن لهن فضلا لما فيهن من القصص وأخبار الأنبياء والأمم وسيأتي الحديث في فضائل القرآن بأتم من هذا السياق إن شاء الله تعالى قوله فسينغضون إليك رءوسهم قال بن عباس يهزون وصله الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن بن عباس ومن طريق العوفي عن بن عباس قال يحركونها استهزاء ومن طريق بن جريج عن عطاء عن بن عباس نحوه ومن طريق سعيد عن قتادة مثله قوله وقال غيره نغضت سنك أي تحركت قال أبو عبيدة في قوله: {فسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ} أي يحركونها استهزاء يقال نغضت سنة أي تحركت وارتفعت من أصلها وقال بن قتيبة المراد أنهم يحركون رءوسهم استبعادا وروى سعيد بن منصور من طريق محمد بن كعب في قوله {فسَيُنْغِضُونَ} قال يحركون.

(8/388)


باب {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} أَخْبَرْنَاهُمْ أَنَّهُمْ سَيُفْسِدُونَ وَالْقَضَاءُ عَلَى وُجُوهٍ {وَقَضَى رَبُّكَ} أَمَرَ رَبُّكَ وَمِنْهُ الْحُكْمُ {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ} وَمِنْهُ الْخَلْقُ {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ} خَلَقَهُنَّ {نَفِيرًا} مَنْ يَنْفِرُ مَعَهُ {وَلِيُتَبِّرُوا} يُدَمِّرُوا {مَا عَلَوْا} {حَصِيرًا} مَحْبِسًا مَحْصَرًا {حَقَّ} وَجَبَ {مَيْسُورًا} لَيِّنًا {خِطْئًا} إِثْمًا وَهُوَ اسْمٌ مِنْ خَطِئْتَ وَالْخَطَأُ مَفْتُوحٌ مَصْدَرُهُ مِنْ الإِثْمِ خَطِئْتُ بِمَعْنَى أَخْطَأْتُ {تَخْرِقَ} تَقْطَعَ {وَإِذْ هُمْ} نَجْوَى مَصْدَرٌ مِنْ نَاجَيْتُ فَوَصَفَهُمْ بِهَا وَالْمَعْنَى يَتَنَاجَوْنَ {رُفَاتًا}

(8/388)


3- باب {أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}
4709- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ ح و حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا عَنْبَسَةُ حَدَّثَنَا يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: " أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ بِإِيلِيَاءَ بِقَدَحَيْنِ مِنْ خَمْرٍ وَلَبَنٍ فَنَظَرَ إِلَيْهِمَا فَأَخَذَ اللَّبَنَ قَالَ جِبْرِيلُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَاكَ لِلْفِطْرَةِ لَوْ أَخَذْتَ الْخَمْرَ غَوَتْ أُمَّتُك "
4710- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَبُو سَلَمَةَ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "لَمَّا كَذَّبَتْنِي قُرَيْشٌ قُمْتُ فِي الْحِجْرِ فَجَلَّى اللَّهُ لِي بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَطَفِقْتُ أُخْبِرُهُمْ عَنْ آيَاتِهِ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ" زَادَ يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَمِّهِ " لَمَّا كَذَّبَتْنِي قُرَيْشٌ حِينَ أُسْرِيَ بِي إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ.." نَحْوَهُ قَاصِفًا رِيحٌ تَقْصِفُ كُلَّ شَيْء"
قوله: "باب قوله: {أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} لم يختلف القراء في "أسرى" بخلاف قوله في قصة لوط "فأسر" فقرئت بالوجهين، وفيه تعقب على من قال من أهل اللغة أن أسرى وسرى بمعنى واحد، قال السهيلي: السرى من سريت إذا سرت ليلا يعني فهو لازم، والإسراء يتعدى في المعني لكن حذف مفعوله حتى ظن من ظن أنهما بمعنى واحد، وإنما معني {أَسْرَى بِعَبْدِهِ} جعل البراق يسري به كما تقول أمضيت كذا بمعنى جعلته يمضي، لكن حسن حذف المفعول لقوة الدلالة عليه أو الاستغناء عن ذكره، لأن المقصود بالذكر المصطفى لا الدابة التي سارت به. وأما قصة لوط فالمعنى سر بهم على ما يتحملون عليه من دابة ونحوها، هذا معنى القراءة بالقطع، ومعنى الوصل سر بهم ليلا، ولم يأت مثل ذلك في الإسراء لأنه لا يجوز أن يقال سرى بعبده بوجه من

(8/391)


الوجوه انتهى. والنفي الذي جزم به إنما هو من هذه الحيثية التي قصد فيها الإشارة إلى أنه سار ليلا على البراق، وإلا فلو قال قائل: سرت بزيد بمعنى صاحبته لكان المعنى صحيحا. حديث أبي هريرة "أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به بإيلياء بقدحين" وقد تقدم شرحه في السيرة النبوية، ويأتي في الأشربة. وذكر فيه أيضا حديث جابر قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لما كذبتني قريش" كذا للأكثر، وللكشميهني كدبني بغير مثناة. حديث أبي هريرة "أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به بإيلياء بقدحين" وقد تقدم شرحه في السيرة النبوية، ويأتي في الأشربة. وذكر فيه أيضا حديث جابر قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لما كذبتني قريش" كذا للأكثر، وللكشميهني كدبني بغير مثناة. قوله فجلى الله لي بيت مقدس تقدم شرحه أيضا في السيرة النبوية والذي اقترح على النبي صلى الله عليه وسلم أن يصف لهم بيت المقدس هو المطعم بن عدي أخرجه أبو يعلى من حديث أم هانئ وأخرج النسائي من طريق بينها بن أبي أوفى عن بن عباس هذه القصة مطولة وقد ذكرت طرفا منها في أول شرح حديث الإسراء معزوا إلى أحمد والبزار ولفظ النسائي " لما كان ليلة أسرى بي ثم أصبحت بمكة قطعت بأمري وعرفت أن الناس مكذبي فقعدت معتزلا حزينا فمر بن عدو الله أبو جهل فجاء حتى جلس إليه فقال له كالمستهزئ هل كان من شيء قال نعم قال ما هو قال إني أسرى بي الليله قال إلى أين قال الى بيت المقدس قال ثم أصبحت بين أظهرنا قال نعم قال فلم ير أن يكذبه مخافة أن يجحد ما قال إن دعا قومه قال إن دعوت قومك لك تحدثهم قال نعم قال أبو جهل يا معشر بني كعب بن لؤي هلم قال فانقضت إليه المجالس فجاءوا حتى جلسوا إليهما قال حدث قومك بما حدثتني فحدثهم قال فمن مصفق ومن واضع يده على رأسه متعجبا وفي القوم من سافر إلى ذلك البلد ورأى المسجد قال فهل تستطيع أن تنعت لنا المسجد قال النبي صلى الله عليه وسلم فذهبت أنعت لهم قال فما زلت أنعت حتى التبس على بعض النعت فجيء بالمسجد حتى وضع فنعته وأنا انظر إليه قال فقال القوم أما النعت فقد أصاب" قوله زاد يعقوب بن إبراهيم حدثنا بن أخي بن شهاب عن عمه لما كذبتني قريش حين أسرى إلى بيت المقدس وصله الذهلي في الزهريات عن يعقوب بهذا الإسناد وأخرجه قاسم بن ثابت في الدلائل من طريقه ولفظه جاء ناس من قريش إلى أبي بكر فقالوا هل لك في صاحبك يزعم أنه أتى بيت المقدس ثم رجع إلى مكة في ليلة واحدة قال أبو بكر أو قال ذلك قالوا نعم قال لقد صدق وروى الذهلي أيضا وأحمد في مسنده جميعا عن يعقوب بن إبراهيم المذكور عن أبيه عن صالح بن كيسان عن بن شهاب بسنده لما كذبتني قريش الحديث فلعله دخل إسناد في إسناد أو لما كان الحديثان في قصة واحدة أدخل ذلك

(8/392)


4- باب {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} كَرَّمْنَا وَأَكْرَمْنَا وَاحِدٌ {ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} عَذَابَ الْحَيَاةِ عَذَابَ الْمَمَاتِ خِلاَفَكَ وَخَلْفَكَ سَوَاءٌ {وَنَأَى} تَبَاعَدَ {شَاكِلَتِهِ} نَاحِيَتِهِ وَهِيَ مِنْ شَكْلِهِ {صَرَّفْنَا} وَجَّهْنَا {قَبِيلًا} مُعَايَنَةً وَمُقَابَلَةً وَقِيلَ الْقَابِلَةُ لأَنَّهَا مُقَابِلَتُهَا وَتَقْبَلُ وَلَدَهَا {خَشْيَةَ الإِنْفَاقِ} أَنْفَقَ الرَّجُلُ أَمْلَقَ وَنَفِقَ الشَّيْءُ ذَهَبَ {قَتُورًا} مُقَتِّرًا {لِلأَذْقَانِ} مُجْتَمَعُ اللَّحْيَيْنِ وَالْوَاحِدُ ذَقَنٌ وَقَالَ مُجَاهِدٌ {مَوْفُورًا} وَافِرًا {تَبِيعًا} ثَائِرًا وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ نَصِيرًا {خَبَتْ} طَفِئَتْ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {لاَ تُبَذِّرْ} لاَ تُنْفِقْ فِي الْبَاطِلِ {ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ} رِزْقٍ {مَثْبُورًا} مَلْعُونًا {لاَ تَقْفُ} لاَ تَقُلْ {فَجَاسُوا} تَيَمَّمُوا {يُزْجِي الْفُلْكَ} يُجْرِي الْفُلْكَ {يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ} لِلْوُجُوهِ.

(8/392)


قوله: باب قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} كرمنا وأكرمنا واحد "أي في الأصل، وإلا فالتشديد أبلغ، قال أبو عبيد: كرمنا أي أكرمنا إلا أنها أشد مبالغة في الكرامة انتهى. وهي من كرم بضم الراء مثل شرف وليس من الكرم الذي هو في المال. قوله: {ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} عذاب الحياة وعذاب الممات" قال أبو عبيدة في قوله: {ضِعْفَ الْحَيَاةِ} مختصر، والتقدير ضعف عذاب الحياة وضعف عذاب الممات. وروى الطبري من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: {ضِعْفَ الْحَيَاةِ} قال: عذابها "وضعف الممات" قال: عذاب الآخرة. ومن طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: ضعف عذاب الدنيا والآخرة. ومن طريق سعيد عن قتادة مثله. وتوجيه ذلك أن عذاب النار يوصف بالضعف، قال: لقوله تعالى: { عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ} أي عذابا مضاعفا، فكأن الأصل لأذقناك عذابا ضعفا في الحياة ثم حذف الموصوف وأقام الصفة مقامه ثم أضيفت الصفة إضافة الموصوف؛ فهو كما لو قيل أليم الحياة مثلا. قوله: "خلافك وخلفك سواء" قال أبو عبيدة في قوله: {وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً} أي بعدك قال: خلافك وخلقك سواء، وهما لغتان بمعنى؛ وقرئ بهما. قلت: والقراءتان مشهورتان، فقرأ خلفك الجمهور، وقرأ خلافك ابن عامر والإخوان، وهي رواية حفص عن عاصم. قوله: "ونأى تباعد" هو قول أبي عبيدة، قال في قوله: {وَنَأَى بِجَانِبِه} أي تباعد. قوله: "شاكلته ناحيته وهي من شكلته" وصله الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {عَلَى شَاكِلَتِهِ} قال: على ناحيته، ومن طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: على طبيعته وعلى حدته، ومن طريق سعيد عن قتادة قال: يقول على ناحيته وعلى ما ينوي. وقال أبو عبيدة: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} أي على ناحيته وخلقته، ومنها قولهم هذا من شكل هذا. قوله: "صرفنا وجهنا" قال أبو عبيدة في قوله: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ} أي وجهنا وبينا. قوله: "حصيرا محبسا1"هو قول أبي عبيدة أيضا، وهو بفتح الميم وكسر الموحدة، وروى ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: "حصيرا" أي سجنا. قوله: "قبيلا معاينة ومقابلة. وقيل القابلة لأنها مقابلتها وتقبل ولدها" قال أبو عبيدة: {وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً} مجاز مقابلة أي معاينة، قال الأعشى: "كصرخة حبلى بشرتها قبيلها" أي قابلتها. وقال ابن التين: ضبط بعضهم تقبل ولدها بضم الموحدة وليس بشيء، وروى ابن أبي حاتم من طريق سعيد عن قتادة "قبيلا أي جندا تعاينهم معاينة" . قوله: "خشية الإنفاق، يقال أنفق الرجل أملق ونفق الشيء ذهب" كذا ذكره هنا، والذي قاله أبو عبيدة في قوله: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ} أي من ذهاب مال، يقال أملق فلان ذهب ماله. وفي قوله: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} أي فقر، وقوله: "نفق الشيء ذهب" هو بفتح الفاء ويجوز كسرها هو قول أبي عبيدة، وروى ابن أبي حاتم من طريق السدي قال: خشية الإنفاق أي خشية أن ينفقوا فيفتقروا. قوله: "قتورا مقترا" هو قول أبي عبيدة أيضا. قوله: "للأذقان مجتمع اللحيين، الواحد ذقن" هو قول أبي عبيدة أيضا، وسيأتي له تفسير آخر قريبا، واللحيين بفتح اللام ويجوز كسرها تثنية لحية. قوله: "وقال مجاهد: موفورا وافرا" وصله الطبري من طريق ابن أبي نجيح عنه سواء. قوله: "تبيعا ثائرا. وقال ابن عباس: نصيرا" أما قول مجاهد فوصله الطبري من طريق ابن أبي نجيح عنه في قوله: {ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا
ـــــــ
(1) في هامش طبعة بولاق: تقدم ذلك وكتب عليه الشارح، وليس بالمتن الذي بأيدينا.

(8/393)


بِهِ تَبِيعاً} أي ثائرا؛ وهو اسم فاعل من الثأر، يقال لكل طالب ثأر وغيره تبيع وتابع، ومن طريق سعيد عن قتادة أي لا تخاف أن تتبع بشيء من ذلك. وأما قول ابن عباس فوصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عنه في قوله: {تَبِيعاً} قال: نصيرا. قوله: "لا تبذر لا تنفق في الباطل" وصله الطبري من طريق عطاء الخراساني عن ابن عباس في قوله: "ولا تبذر" : لا تنفق في الباطل، والتبذير السرف في غير حق. ومن طريق عكرمة قال: المبذر المنفق في غير حق، ومن طرق متعددة عن أبي العبيدين - وهو بلفظ التصغير والتثنية - عن ابن مسعود مثله وزاد في بعضها "كنا أصحاب محمد نتحدث أن التبذير النفقة في غير حق" . قوله: "ابتغاء رحمة رزق" وصله الطبري من طريق عطاء عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ} قال: ابتغاء رزق، ومن طريق عكرمة مثله، ولابن أبي حاتم من طريق إبراهيم النخعي في قوله: {ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا} قال فضلا. قوله: "مثبورا ملعونا" وصله الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، ومن وجه آخر عن سعيد بن جبير عنه، ومن طريق العوفي عنه قال: مغلوبا، ومن طريق الضحاك مثله، ومن طريق مجاهد قال: هالكا، ومن طريق قتادة قال: مهلكا، ومن طريق عطية قال: مغيرا مبدلا؛ ومن طريق ابن زيد بن أسلم قال: مخبولا لا عقل له. قوله: "فجاسوا تيمموا" أخرجه ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: {فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ} أي فمشوا. وقال أبو عبيدة: جاس يجوس أي نقب، وقيل: نزل وقيل قتل وقيل تردد وقيل هو طلب الشيء باستقصاء وهو بمعني نقب. قوله: "يزجي الفلك يجري الفلك" وصله الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عنه به، ومن طريق سعيد عن قتادة {يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ} أي يسيرها في البحر. قوله: "يخرون للأذقان للوجوه" وصله الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عنه، وكذا أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن قتادة مثله. وعن معمر عن الحسن للحي، وهذا يوافق قول أبي عبيدة الماضي، والأول على المجاز.

(8/394)


باب {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} الْآيَةَ
4711- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ أَخْبَرَنَا مَنْصُورٌ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ كُنَّا نَقُولُ لِلْحَيِّ إِذَا كَثُرُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَمِرَ بَنُو فُلاَنٍ حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ وَقَالَ أَمَر"
قوله: "باب {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} الآية" حديث عبد الله وهو ابن مسعود "كنا نقول للحي إذا كثروا في الجاهلية: أمر بنو فلان" ثم ذكره عن شيخ آخر عن سفيان يعني بسنده قال: أمر، فالأولى بكسر الميم والثانية بفتحها وكلاهما لغتان. وأنكر ابن التين فتح الميم في أمر بمعني كثر، وغفل في ذلك ومن حفظه حجة عليه كما سأوضحه، وضبط الكرماني أحدهما بضم الهمزة وهو غلط منه، وقراءة الجمهور بفتح الميم. وحكى أبو جعفر عن ابن عباس أنه قرأها بكسر الميم وأثبتها أبو زيد لغة وأنكرها الفراء، وقرأ أبو رجاء في آخرين بالمد وفتح الميم، ورويت عن أبي عمرو وابن كثير وغيرهما واختارها يعقوب ووجهها الفراء بما ورد من تفسير ابن مسعود وزعم أنه لا يقال أمرنا بمعنى كثرنا إلا بالمد، واعتذر عن حديث: "أفضل المال مهرة مأمورة" فإنها ذكرت للمزاوجة لقوله فيه: "أو سكة مأبورة" وقرأ أبو عثمان النهدي كالأول لكن بتشديد الميم بمعنى الإمارة، واستشهد الطبري بما أسنده من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {مَرْنَا مُتْرَفِيهَا} قال: سلطنا

(8/394)


شرارها. ثم ساق عن أبي عثمان وأبي العالية ومجاهد أنهم قرءوا بالتشديد، وقيل التضعيف للتعدية والأصل أمرنا بالتخفيف أي كثرنا كما وقع في هذا الحديث الصحيح، ومنه حديث: "خير المال مهرة مأمورة" أي كثيرة النتاج أخرجه أحمد، ويقال أمر بنو فلان أي كثروا وأمرهم الله كثرهم وأمروا أي كثروا، وقد تقدم قول أبي سفيان في أول هذا الشرح في قصة هرقل حيث قال: "لقد أمر أمر ابن أبي كبشة" أي عظم، واختار الطبري قراءة الجمهور، واختار في تأويلها حملها على الظاهر وقال: المعنى أمرنا مترفيها بالطاعة فعصوا، ثم أسنده عن ابن عباس ثم سعيد بن جبير. وقد أنكر الزمخشري هذا التأويل وبالغ كعادته، وعمدة إنكاره أن حذف ما لا دليل عليه غير جائز، وتعقب بأن السياق يدل عليه، وهو كقولك أمرته فعصاني أي أمرته بطاعتي فعصاني وكذا أمرته فامتثل.

(8/395)


5- باب {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا}
4712- حدثنا محمد بن مقاتل أخبرنا عبد الله أخبرنا أبو حيان التيمي عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير عن أبي هريرة رضي الله عنه قال ثم أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بلحم فرفع إليه الذراع وكانت تعجبه فنهس منها نهسة ثم قال: "أنا سيد الناس يوم القيامة وهل تدرون مم ذلك يجمع الله الناس الأولين والآخرين في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر وتدنو الشمس فيبلغ الناس من الغم والكرب مالا يطيقون ولا يحتملون فيقول الناس ألا ترون ما قد بلغكم ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم فيقول بعض الناس لبعض عليكم بآدم فيأتون آدم عليه السلام فيقولون له أنت أبو البشر خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأمر الملائكة فسجدوا لك اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه ألا ترى إلى ما قد بلغنا فيقول آدم إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وإنه نهاني عن الشجرة فعصيته نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى نوح فيأتون نوحا فيقولون يا نوح إنك أنت أول الرسل إلى أهل الأرض وقد سماك الله عبدا شكورا اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه فيقول إن ربي عز وجل قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وإنه قد كانت لي دعوة دعوتها على قومي نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى إبراهيم فيأتون إبراهيم فيقولون يا إبراهيم أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه فيقول لهم إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وإني قد كنت كذبت ثلاث كذبات -فذكرهن أبو حيان في الحديث- نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى موسى فيأتون موسى فيقولون يا موسى أنت رسول الله فضلك الله برسالته وبكلامه على الناس اشفع لنا

(8/395)


إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه فيقول إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وإني قد قتلت نفسا لم أو مر بقتلها نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى عيسى فيأتون عيسى فيقولون يا عيسى أنت رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه وكلمت الناس في المهد صبيا اشفع لنا ألا ترى إلى ما نحن فيه فيقول عيسى إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله قط ولن يغضب بعده مثله ولم يذكر ذنبا نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم فيأتون محمد صلى الله عليه وسلم فيقولون يا محمد أنت رسول الله وخاتم الأنبياء وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه فأنطلق فآتي تحت العرش فأقع ساجدا لربي عز وجل ثم يفتح الله علي من محامده وحسن الثناء عليه شيئا لم يفتحه على أحد قبلي ثم يقال يا محمد ارفع رأسك سل تعطه واشفع تشفع فأرفع رأسي فأقول أمتي يا رب أمتي يا رب فيقال يا محمد أدخل من أمتك من لا نجاسة عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنة وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب ثم قال والذي نفسي بيده إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وحمير أو كما بين مكة وبصرى"
قوله: باب {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} ذكر فيه حديث أبي هريرة في الشفاعة من طريق أبي زرعة بن عمرو عنه، وسيأتي في شرحه في الرقاق؛ وأورده هنا لقوله فيه: "يقولون يا نوح أنت أول الرسل إلى أهل الأرض، وقد سماك الله عبدا شكورا" وقد مضى البحث في كونه أول الرسل في كتاب التيمم، وقوله فيه في ذكر إبراهيم "وإني قد كنت كذبت ثلاث كذبات" فذكرهن أبو حيان في الحديث، يشير إلى أن من دون أبي حيان اختصر ذلك، وأبو حيان هو الراوي له عن أبي زرعة، وقد مضى ذلك في أحاديث الأنبياء. وفي الحديث رد على من زعم أن الضمير في قوله: {إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} لموسى عليه السلام، وقد صحح ابن حبان من حديث سلمان الفارسي "كان نوح إذا طعم أو لبس حمد الله، فسمي عبدا شكورا" وله شاهد عند ابن مردويه من حديث معاذ بن أنس، وآخر من حديث أبي فاطمة. وقوله: "ينفذهم البصر" بفتح أوله وضم الفاء من الثلاثي أي يخرقهم وبضم أوله وكسر الفاء من الرباعي أي يحيط بهم، والذال معجمة في الرواية. وقال أبو حاتم السجستاني: أصحاب الحديث يقولونه بالمعجمة، وإنما هو بالمهملة، ومعناه يبلغ أولهم وآخرهم. وأجيب بأن المعني يحيط بهم الرائي لا يخفى عليه منهم شيء لاستواء الأرض، فلا يكون فيها ما يستتر به أحد من الرائي، وهذا أولى من قول أبي عبيدة "يأتي عليهم بصر الرحمن" إذ رؤية الله تعالى محيطة بجميعهم في كل حال سواء الصعيد المستوى وغيره، ويقال نفذه البصر إذا بلغه وجاوزه، والنفاذ الجواز والخلوص من الشيء، ومنه نفذ السهم إذا خرق الرمية وخرج منها.

(8/396)


6- باب {وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا}
4713- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "خُفِّفَ عَلَى دَاوُدَ الْقِرَاءَةُ فَكَانَ يَأْمُرُ بِدَابَّتِهِ لِتُسْرَجَ فَكَانَ يَقْرَأُ قَبْلَ أَنْ يَفْرُغَ يَعْنِي الْقُرْآن"
قوله: "باب قوله: وآتينا داود زبورا" حديث أبي هريرة "خفف على داود القرآن" ووقع في رواية لأبي ذر "القراءة" والمراد بالقرآن مصدر القراءة لا القرآن المعهود لهذه الأمة، وقد تقدم إشباع القول فيه في ترجمة داود عليه السلام من أحاديث الأنبياء.

(8/397)


7- باب {قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً}
4714- حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ {إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ} قَالَ كَانَ نَاسٌ مِنْ الإِنْسِ يَعْبُدُونَ نَاساً مِنْ الْجِنِّ فَأَسْلَمَ الْجِنُّ وَتَمَسَّكَ هَؤُلاَءِ بِدِينِهِمْ زَادَ الأَشْجَعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ الأَعْمَشِ {قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ}
[الحديث 4714-طرفه في: 4717]
قوله: باب {قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ} الآية" كذا لأبي ذر، وساق غيره إلى {تَحْوِيلاً} . قوله: "يحيي" هو القطان، وسفيان هو الثوري، وسليمان هو الأعمش، وإبراهيم هو النخعي، وأبو معمر هو عبد الله الأزدي، وعبد الله هو ابن مسعود. قوله: "عن عبد الله {إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} قال: كان ناس" في رواية النسائي من هذا الوجه عن عبد الله في قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} قال: كان ناس إلخ، والمراد بالوسيلة القربة أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن قتادة، وأخرجه الطبري من طريق أخرى عن قتادة، ومن طريق ابن عباس أيضا. قوله: "فأسلم الجن وتمسك هؤلاء بدينهم" أي استمر الإنس الذين كانوا يعبدون الجن على عبادة الجن، والجن لا يرضون بذلك لكونهم أسلموا، وهم الذين صاروا يبتغون إلى ربهم الوسيلة. وروى الطبري من وجه آخر عن ابن مسعود فزاد فيه: "والإنس الذين كانوا يعبدونهم لا يشعرون بإسلامهم" وهذا هو المعتمد في تفسير هذه الآية، وأما ما أخرجه الطبري من وجه آخر عن ابن مسعود قال: "كان قبائل العرب يعبدون صنفا من الملائكة يقال لهم الجن، ويقولون هم بنات الله، فنزلت هذه الآية" فإن ثبت فهو محمول على أنها نزلت في الفريقين، وإلا فالسياق يدل على أنهم قبل الإسلام كانوا راضين بعبادتهم، وليست هذه من صفات الملائكة. وفي رواية سعيد بن منصور عن ابن مسعود في حديث الباب: "فعيرهم الله بذلك" وكذا ما أخرجه من طريق أخرى ضعيفة عن ابن عباس أن المراد من كان يعبد الملائكة والمسيح وعزيرا.
" تنبيه " : استشكل ابن التين قوله: "ناسا من الجن" من حيث أن الناس ضد الجن، وأجيب بأنه على قول من قال: إنه من ناس إذا تحرك أو ذكر للتقابل حيث قال: ناس من الإنس وناسا من الجن، ويا ليت شعري على من يعترض. قوله: "زاد الأشجعي" هو عبيد الله بن عبيد الرحمن بالتصغير فيهما. قوله: "عن سفيان عن الأعمش قل ادعوا الذين زعمتم" أي روى الحديث بإسناده

(8/397)


وزاد في أوله من أول الآية التي قبلها، وروى الطبري من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ} إلى آخر الآية. قال: كان أهل الشرك يقولون نعبد الملائكة وهم الذين يدعون.

(8/398)


8- باب {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ} الآيَةَ
4715- حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي هَذِهِ الآيَةِ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ قَالَ كَانَ نَاسٌ مِنْ الْجِنِّ يُعْبَدُونَ فَأَسْلَمُوا"
قوله: باب قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ} الآية ذكر فيه الحديث قبله من وجه آخر عن الأعمش مختصرا، ومفعول يدعون محذوف تقديره أولئك الذين يدعونهم آلهة يبتغون إلى ربهم الوسيلة، وقرأ ابن مسعود "تدعون" بالمثناة الفوقانية على أن الخطاب للكفار وهو واضح، وقوله: {يُّهُمْ أَقْرَبُ} معناه يبتغون من هو أقرب منهم إلى ربهم. وقال أبو البقاء: مبتدأ والخبر أقرب، وهو استفهام في موضع نصب يدعون، ويجوز أن يكون بمعنى الذين وهو بدل من الضمير في يدعون. كذا قال، وكأنه ذهب إلى أن فاعل يدعون ويبتغون واحد، والله أعلم.

(8/398)


9- باب {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ}
4716- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ قَالَ هِيَ رُؤْيَا عَيْنٍ أُرِيَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ شَجَرَةُ الزَّقُّوم"
قوله: "باب {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ} سقط "باب" لغير أبي ذر. قوله: "عن عمرو" هو ابن دينار. قوله: "هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به" لم يصرح بالمرئي، وعند سعيد بن منصور من طريق أبي مالك قال: هو ما أري في طريقه إلى بيت المقدس. قلت: وقد بينت ذلك واضحا في الكلام على حديث الإسراء في السيرة النبوية من هذا الكتاب. قوله: "أريها ليلة أسري به" زاد سعيد بن منصور عن سفيان في آخر الحديث: "وليست رؤيا منام" وقوله: "ليلة أسري به" جاء فيه قول آخر، فروى ابن مردويه من طريق العوفي عن ابن عباس قال: أري أنه دخل مكة هو وأصحابه، فلما رده المشركون كان لبعض الناس بذلك فتنة، وجاء فيه قول آخر: فروى ابن مردويه من حديث الحسين بن علي رفعه: "إني أريت كأن بني أمية يتعاورون منبري هذا، فقيل هي دنيا تنالهم، ونزلت هذه الآية" وأخرجه ابن أبي حاتم من حديث عمرو بن العاص ومن حديث يعلى بن مرة ومن مرسل ابن المسيب نحوه وأسانيد الكل ضعيفة واستدل به على إطلاق لفظ الرؤيا على ما يرى بالعين في اليقظة، وقد أنكره الحريري تبعا لغيره وقالوا: إنما يقال رؤيا في المنام، وأما التي في اليقظة فيقال رؤية. وممن استعمل الرؤيا في اليقظة المتنبي في قوله: "ورؤياك أحلى في العيون من الغمض" وهذا التفسير يرد

(8/398)


10- باب {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} قَالَ مُجَاهِدٌ صَلاَةَ الْفَجْرِ
4717- حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ وَابْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "فَضْلُ صَلاَةِ الْجَمِيعِ عَلَى صَلاَةِ الْوَاحِدِ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ دَرَجَةً وَتَجْتَمِعُ مَلاَئِكَةُ اللَّيْلِ وَمَلاَئِكَةُ النَّهَارِ فِي صَلاَةِ الصُّبْحِ" يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} "
قوله: باب قوله: {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} قال مجاهد: صلاة الفجر" وصله الطبري من طريق ابن أبي نجيح عنه وزاد: يجتمع بها ملائكة الليل وملائكة النهار. ومن طريق العوفي عن ابن عباس نحوه. حديث أبي هريرة وقد تقدم شرحه في صفة الصلاة.

(8/399)


11- باب {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُوداً}
4718- حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبَانَ حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ عَنْ آدَمَ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ إِنَّ النَّاسَ يَصِيرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ جُثًا كُلُّ أُمَّةٍ تَتْبَعُ نَبِيَّهَا يَقُولُونَ يَا فُلاَنُ اشْفَعْ يَا فُلاَنُ اشْفَعْ حَتَّى تَنْتَهِيَ الشَّفَاعَةُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَلِكَ يَوْمَ يَبْعَثُهُ اللَّهُ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ"
4719- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَيَّاشٍ حَدَّثَنَا شُعَيْبُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ وَالصَّلاَةِ الْقَائِمَةِ آتِ مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدْتَهُ حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَة"ِ رَوَاهُ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم"
قوله: "باب قوله: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُوداً} روى النسائي بإسناد صحيح من حديث حذيفة قال: "يجتمع الناس في صعيد واحد، فأول مدعو محمد فيقول: لبيك وسعديك، والخير في يديك، والشر ليس إليك؛ المهدي

(8/399)


12- باب {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} يَزْهَقُ يَهْلِكُ
4720- حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ وَحَوْلَ الْبَيْتِ سِتُّونَ وَثَلاَثُ مِائَةِ نُصُبٍ فَجَعَلَ يَطْعُنُهَا بِعُودٍ فِي يَدِهِ وَيَقُولُ: "جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ "
قوله: باب {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} الآية. يزهق يهلك" قال أبو عبيدة في قوله: "تزهق أنفسهم وهم كارهون" أي تخرج وتموت وتهلك، ويقال: زهق ما عندك أي ذهب كله. وروى ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس "إن الباطل كان زهوقا" أي ذاهبا. ومن طريق سعيد عن قتادة "زهق الباطل" أي هلك. قوله: "عن ابن أبي نجيح" كذا لهم، وفي بعض النسخ "حدثنا ابن أبي نجيح" . قوله: "دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم" في حديث أبي هريرة عند مسلم والنسائي أن ذلك كان في فتح مكة وأوله في قصة فتح مكة إلى أن قال: "فجاء رسول الله حتى طاف بالبيت، فجعل يمر بتلك الأصنام فجعل يطعنها بسية القوس ويقول: جاء الحق

(8/400)


وزهق الباطل" الحديث بطوله. وقد تقدم شرح ذلك مستوفى في غزوة الفتح بحمد الله تعالى. وقوله: "وحول البيت ستون وثلاثمائة نصب" كذا للأكثر هنا بغير ألف، وكذا وقع في رواية سعيد بن منصور لكن بلفظ: "صنم" والأوجه نصبه على التمييز إذ لو كان مرفوعا لكان صفة، والواحد لا يقع صفة للجمع. ويحتمل أن يكون خبرا لمبتدأ محذوف والجملة صفة، أو هو منصوب لكنه كتب بغير ألف على بعض اللغات.

(8/401)


13- باب {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ}
4721- حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ بَيْنَا أَنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَرْثٍ وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى عَسِيبٍ إِذْ مَرَّ الْيَهُودُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ سَلُوهُ عَنْ الرُّوحِ فَقَالَ مَا رَأْيُكُمْ إِلَيْهِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ لاَ يَسْتَقْبِلُكُمْ بِشَيْءٍ تَكْرَهُونَهُ فَقَالُوا سَلُوهُ فَسَأَلُوهُ عَنْ الرُّوحِ فَأَمْسَكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ شَيْئًا فَعَلِمْتُ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ فَقُمْتُ مَقَامِي فَلَمَّا نَزَلَ الْوَحْيُ قَالَ {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} "
قوله: "باب {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ} ذكر فيه حديث إبراهيم - وهو النخعي - عن علقمة عن عبد الله وهو ابن مسعود. قوله: "في حرث" بفتح المهملة وسكون الراء بعدها مثلثة، ووقع في كتاب العلم من وجه آخر بخاء معجمه وموحدة، وضبطوه بفتح أوله وكسر ثانيه وبالعكس، والأول أصوب فقد أخرجه مسلم من طريق مسروق عن ابن مسعود بلفظ: "كان في نخل" وزاد في رواية العلم "بالمدينة" ولابن مردويه من وجه آخر عن الأعمش "في حرث للأنصار" وهذا يدل على أن نزول الآية وقع بالمدينة، لكن روى الترمذي من طريق داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس قال: "قالت قريش لليهود: أعطونا شيئا نسأل هذا الرجل، فقالوا: سلوه عن الروح، فسألوه فأنزل الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} ورجاله رجال مسلم، وهو عند ابن إسحاق من وجه آخر عن ابن عباس نحوه، ويمكن الجمع بأن يتعدد النزول بحمل سكوته في المرة الثانية على توقع مزيد بيان في ذلك، وإن ساغ هذا وإلا فما في الصحيح أصح. قوله: "يتوكا" أي يعتمد. قوله: "على عسيب" بمهملتين وآخره موحدة بوزن عظيم وهي الجريدة التي لا خوص فيها، ووقع في رواية ابن حبان: "ومعه جريدة" قال ابن فارس: العسبان من النخل كالقضبان من غيرها. قوله: "إذ مر اليهود" كذا فيه اليهود بالرفع على الفاعلية، وفي بقية الروايات في العلم والاعتصام والتوحيد وكذا عند مسلم: "إذ مر بنفر من اليهود" وعند الطبري من وجه آخر عن الأعمش "إذ مررنا على يهود" ويحمل هذا الاختلاف على أن الفريقين تلاقوا فيصدق أن كلا مر بالآخر، وقوله: "يهود" هذا اللفظ معرفة تدخله اللام تارة وتارة يتجرد، وحذفوا منه ياء النسبة ففرقوا بين مفرده وجمعه كما قالوا زنج وزنجي، ولم أقف في شيء من الطرق على تسمية أحد من هؤلاء اليهود. قوله: "ما رأيكم إليه" كذا للأكثر بصيغة الفعل الماضي من الريب، ويقال فيه رابه كذا وأرابه كذا بمعنى. وقال أبو زيد: رابه إذا علم

(8/401)


منه الريب، وأرابه إذا ظن ذلك به. ولأبي ذر عن الحموي وحده بهمزة وضم الموحدة من الرأب وهو الإصلاح، يقال فيه رأب بين القوم إذا أصلح بينهم. وفي توجيهه هنا بعد. وقال الخطابي: الصواب ما أربكم بتقديم الهمزة وفتحتين من الأرب وهو الحاجة، وهذا واضح المعنى لو ساعدته الرواية. نعم رأيته في رواية المسعودي عن الأعمش عند الطبري كذلك. وذكر ابن التين أن رواية القابسي كرواية الحموي، لكن بتحتانية بدل الموحدة من الرأي. والله أعلم. قوله: "وقال بعضهم: لا يستقبلكم بشيء تكرهونه" في رواية العلم "لا يجيء فيه بشيء تكرهونه" وفي الاعتصام "لا يسمعكم ها تكرهون" وهي بمعني، وكلها بالرفع على الاستئناف، ويجوز السكون وكذا النصب أيضا. قوله: "فقالوا سلوه" في رواية التوحيد "فقال بعضهم لنسألنه" واللام جواب قسم محذوف. قوله: "فسألوه عن الروح" في رواية التوحيد "فقام رجل منهم فقال: يا أبا القاسم ما الروح"؟ وفي رواية العوفي عن ابن عباس عند الطبري "فقالوا: أخبرنا عن الروح" قال ابن التين: اختلف الناس في المراد بالروح المسئول عنه في هذا الخبر على أقوال: الأول روح الإنسان، الثاني روح الحيوان، الثالث جبريل، الرابع عيسى، الخامس القرآن، السادس الوحي، السابع ملك يقوم وحده صفا يوم القيامة، الثامن ملك له أحد عشر ألف جناح ووجه وقيل ملك له سبعون ألف لسان، وقيل له سبعون ألف وجه في كل وجه سبعون ألف لسان لكل لسان ألف لغة يسبح الله تعالى يخلق الله بكل تسبيحة ملكا يطير مع الملائكة، وقيل ملك رجلاه في الأرض السفلي ورأسه عند قائمة العرش، التاسع خلق كخلق بني آدم يقال لهم الروح يأكلون ويشربون، لا ينزل ملك من السماء إلا نزل معه، وقيل بل هم صنف من الملائكة يأكلون ويشربون، انتهى كلامه ملخصا بزيادات من كلام غيره. وهذا إنما اجتمع من كلام أهل التفسير في معنى لفظ الروح الوارد في القرآن، لا خصوص هذه الآية. فمن الذي في القرآن {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} ، {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا} ، {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ} ، {وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً}، {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا} : فالأول جبريل، والثاني القرآن، والثالث الوحي، والرابع القوة، والخامس والسادس محتمل لجبريل ولغيره. ووقع إطلاق روح الله على عيسى. وقد روى ابن إسحاق في تفسيره بإسناد صحيح عن ابن عباس قال: الروح من الله، وخلق من خلق الله وصور كبني آدم، لا ينزل ملك إلا ومعه واحد من الروح. وثبت عن ابن عباس أنه كان لا يفسر الروح، أي لا يعين المراد به في الآية وقال الخطابي: حكوا في المراد بالروح في الآية أقوالا: قيل سألوه عن جبريل، وقيل عن ملك له ألسنة. وقال الأكثر: سألوه عن الروح التي تكون بها الحياة في الجسد. وقال أهل النظر: سألوه عن كيفية مسلك الروح في البدن وامتزاجه به، وهذا هو الذي استأثر الله بعلمه. وقال القرطبي: الراجح أنهم سألوه عن روح الإنسان لأن اليهود لا تعترف بأن عيسى روح الله ولا تجهل أن جبريل ملك وأن الملائكة أرواح. وقال الإمام فخر الدين الرازي: المختار أنهم سألوه عن الروح الذي هو سبب الحياة، وأن الجواب وقع على أحسن الوجوه، وبيانه أن السؤال عن الروح يحتمل عن ماهيته وهل هي متحيزة أم لا، وهل هي حالة في متحيز أم لا، وهل هي قديمة أو حادثة، وهل تبقى بعد انفصالها من الجسد أو تفنى، وما حقيقة تعذيبها وتنعيمها، وغير ذلك من متعلقاتها. قال: وليس في السؤال ما يخصص أحد هذه المعاني، إلا أن الأظهر أنهم سألوه عن الماهية، وهل الروح قديمة أو حادثة والجواب يدل على أنها شيء موجود مغاير للطبائع والأخلاط وتركيبها، فهو جوهر بسيط مجرد لا يحدث إلا بمحدث

(8/402)


وهو قوله تعالى: {كُنْ} فكأنه قال: هي موجودة محدثة بأمر الله وتكوينه، ولها تأثير في إفادة الحياة للجسد، ولا يلزم من عدم العلم بكيفيتها المخصوصة نفيه. قال: ويحتمل أن يكون المراد بالأمر في قوله: {مِنْ أَمْرِ رَبِّي} الفعل، كقوله: {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} أي فعله فيكون الجواب الروح من فعل ربي، وإن كان السؤال هل هي قديمة أو حادثة فيكون الجواب إنها حادثة. إلى أن قال: وقد سكت السلف عن البحث في هذه الأشياء والتعمق فيها ا ه. وقد تنطع قوم فتباينت أقوالهم، فقيل: هي النفس الداخل والخارج، وقيل الحياة، وقيل جسم لطيف يحل في جميع البدن، وقيل هي الدم، وقيل هي عرض، حني قيل إن الأقوال فيها بلغت مائة. ونقل ابن منده عن بعض المتكلمين أن لكل نبي خمسة أرواح، وأن لكل مؤمن ثلاثة، ولكل حي واحدة. وقال ابن العربي: اختلفوا في الروح والنفس، فقيل متغايران وهو الحق، وقيل هما شيء واحد، قال: وقد يعبر بالروح عن النفس وبالعكس، كما يعبر عن الروح وعن النفس بالقلب وبالعكس، وقد يعبر عن الروح بالحياة حتى يتعدى ذلك إلى غير العقلاء بل إلى الجماد مجازا. وقال السهيلي: يدل على مغايرة الروح والنفس قوله تعالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} وقوله تعالى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} فإنه لا يصح جعل أحدهما موضع الأخر ولولا التغاير لساغ ذلك. قوله: "فأمسك النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرد عليهم" في رواية الكشميهني عليه بالإفراد. وفي رواية العلم "فقام متوكئا على العسيب وأنا خلفه" . قوله: "فعلمت أنه يوحي إليه" في رواية التوحيد "فظننت أنه يوحي إليه" وفي الاعتصام "فقلت: إنه يوحى إليه" وهي متقاربة، وإطلاق العلم على الظن مشهور، وكذا إطلاق القول على ما يقع في النفس. ووقع عند ابن مردويه من طريق ابن إدريس عن الأعمش "فقام وحنى من رأسه، فظننت أنه يوحي إليه" . قوله: "فقمت مقامي" في رواية الاعتصام "فتأخرت عنه" أي أدبا معه لئلا يتشوش بقربي منه. قوله: "فلما نزل الوحي قال" في رواية الاعتصام "حتى صعد الوحي فقال: "وفي رواية العلم "فقمت فلما انجلى". قوله: {مِنْ أَمْرِ رَبِّي} قال الإسماعيلي: يحتمل أن يكون جوابا وأن الروح من جملة أمر الله وأن يكون المراد أن الله اختص بعلمه ولا سؤال لأحد عنه. وقال ابن القيم: ليس المراد هنا بالأمر الطلب اتفاقا، وإنما المراد به المأمور، والأمر يطلق على المأمور كالخلق على المخلوق، ومنه {لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ} وقال ابن بطال: معرفة حقيقة الروح مما استأثر الله بعلمه بدليل هذا الخبر، قال: والحكمة في إبهامه اختبار الخلق ليعرفهم عجزهم عن علم ما لا يدركونه حني يضطرهم إلى رد العلم إليه. وقال القرطبي: الحكمة في ذلك إظهار عجز المرء، لأنه إذا لم يعلم حقيقة نفسه مع القطع بوجوده كان عجزه عن إدراك حقيقة الحق من باب الأولى. وجنح ابن القيم في "كتاب الروح" إلى ترجيح أن المراد بالروح المسئول عنها في الآية ما وقع في قوله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً} قال: وأما أرواح بني آدم فلم يقع تسميتها في القرآن إلا نفسا. كذا قال، ولا دلالة في ذلك لما رجحه، بل الراجح الأول، فقد أخرج الطبري من طريق العوفي عن ابن عباس في هذه القصة أنهم قالوا عن الروح: وكيف يعذب الروح الذي في الجسد، وإنما الروح من الله؟ فنزلت الآية. وقال بعضهم: ليس في الآية دلالة على أن الله لم يطلع نبيه على حقيقة الروح، بل يحتمل أن يكون أطلعه ولم يأمره أنه يطلعهم، وقد قالوا في علم الساعة نحو هذا والله أعلم. وممن رأى الإمساك عن الكلام في الروح أستاذ الطائفة أبو القاسم فقال فيما نقله في "عوارف المعارف" عنه بعد أن نقل كلام الناس في الروح: وكان الأولى الإمساك عن ذلك والتأدب بأدب النبي صلى الله عليه وسلم ثم نقل عن الجنيد

(8/403)


أنه قال: الروح استأثر الله تعالى بعلمه ولم يطلع عليه أحدا من خلقه، فلا تجوز العبارة عنه بأكثر من موجود. وعلى ذلك جرى ابن عطية وجمع من أهل التفسير. وأجاب من خاض في ذلك بأن اليهود سألوا عنها سؤال تعجيز وتغليط لكونه يطلق على أشياء فأضمروا أنه بأي شيء أجاب قالوا: ليس هذا المراد، فرد الله كيدهم، وأجابهم جوابا مجملا مطابقا لسؤالهم المجمل. وقال السهروردي في "العوارف" : يجوز أن يكون من خاض فيها سلك سبيل التأويل لا التفسير، إذ لا يسوغ التفسير إلا نقلا، وأما التأويل فتمتد العقول إليه بالباع الطويل، وهو ذكر ما لا يحتمل إلا به من غير قطع بأنه المراد، فمن ثم يكون القول فيه، قال: وظاهر الآية المنع من القول فيها لختم الآية بقوله: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} أي اجعلوا حكم الروح من الكثير الذي لم تؤتوه فلا تسألوه عنه فإنه من الأسرار. وقيل: المراد بقوله: {أَمْرِ رَبِّي} كون الروح من عالم الأمر الذي هو عالم الملكوت، لا عالم الخلق الذي هو عالم الغيب والشهادة. وقد خالف الجنيد ومن تبعه من الأئمة جماعة من متأخري الصوفية فأكثروا من القول في الروح، وصرح بعضهم بمعرفة حقيقتها، وعاب من أمسك عنها. ونقل ابن منده في "كتاب الروح" له عن محمد بن نصر المروزي الإمام المطلع على اختلاف الأحكام من عهد الصحابة إلى عهد فقهاء الأمصار أنه نقل الإجماع على أن الروح مخلوقة، وإنما ينقل القول بقدمها عن بعض غلاة الرافضة والمتصوفة. واختلف هل تفني عند فناء العالم قبل البعث أو تستمر باقية؟ على قولين، والله أعلم. ووقع في بعض التفاسير أن الحكمة في سؤال اليهود عن الروح أن عندهم في التوراة أن روح بني آدم لا يعلمها إلا الله، فقالوا: نسأله، فإن فسرها فهو نبي، وهو معنى قولهم: لا يجيء بشيء تكرهونه وروى الطبري من طريق مغيرة عن إبراهيم في هذه القصة" فنزلت الآية فقالوا: هكذا نجده عندنا" ورجاله ثقات، إلا أنه سقط من الإسناد علقمة. قوله: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ} كذا للكشميهني هنا، وكذا لهم في الاعتصام، ولغير الكشميهني هنا "وما أوتوا" وكذا لهم في العلم، وزاد: "قال الأعمش: هكذا قراءتنا" وبين مسلم اختلاف الرواة عن الأعمش فيها، وهي مشهورة عن الأعمش أعني بلفظ: "وما أوتوا" ولا مانع أن يذكرها بقراءة غيره، وقراءة الجمهور "وما أوتيتم" والأكثر على أن المخاطب بذلك اليهود فتتحد القراءتان. نعم وهي تتناول جميع علم الخلق بالنسبة إلى علم الله. "ووقع في حديث ابن عباس الذي أشرت إليه أول الباب: "أن اليهود لما سمعوا ما قالوا: أوتينا علما كثيرا التوراة، ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيرا كثيرا" فنزلت: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي} الآية. قال الترمذي: حسن صحيح. قوله: {إِلاَّ قَلِيلاً} هو استثناء من العلم أي إلا علما قليلا، أو من الإعطاء أي الإعطاء قليلا، أو من ضمير المخاطب أو الغائب على القراءتين أي إلا قليلا منهم أو منكم. وفي الحديث من الفوائد غير ما سبق جواز سؤال العالم في حال قيامه ومشيه إذا كان لا يثقل ذلك عليه. وأدب الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم، والعمل بما يغلب على الظن، والتوقف عن الجواب بالاجتهاد لمن يتوقع النص، وأن بعض المعلومات قد استأثر الله بعلمه حقيقة، وأن الأمر يرد لغير الطلب، والله أعلم.

(8/404)


14- باب {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا}
4722- حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ حَدَّثَنَا أَبُو بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا} قَالَ نَزَلَتْ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُخْتَفٍ بِمَكَّةَ

(8/404)


كَانَ إِذَا صَلَّى بِأَصْحَابِهِ رَفَعَ صَوْتَهُ بِالْقُرْآنِ فَإِذَا سَمِعَهُ الْمُشْرِكُونَ سَبُّوا الْقُرْآنَ وَمَنْ أَنْزَلَهُ وَمَنْ جَاءَ بِهِ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ} أَيْ بِقِرَاءَتِكَ فَيَسْمَعَ الْمُشْرِكُونَ فَيَسُبُّوا الْقُرْآنَ {وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا} عَنْ أَصْحَابِكَ فَلاَ تُسْمِعُهُمْ {وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} "
4723- حَدَّثَنِي طَلْقُ بْنُ غَنَّامٍ حَدَّثَنَا زَائِدَةُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ أُنْزِلَ ذَلِكَ فِي الدُّعَاء"
[الحديث 4723- طرفاه في: 6327، 7526]
قوله: "باب {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا} سقط "باب" لغير أبي ذر. قوله: "حدثنا يعقوب بن إبراهيم" هو الدورقي. قوله: "أخبرنا أبو بشر" في رواية غير أبي ذر "حدثنا أبو بشر" وهو جعفر بن أبي وحشية، وذكر الكرماني أنه وقع في نسخته "يونس" بدل قوله أبو بشر وهو تصحيف. قال الفربري: أنبأنا محمد بن عياش قال: لم يخرج محمد بن إسماعيل البخاري في هذا الكتاب من حديث هشيم إلا ما صرح فيه بالإخبار. قلت: يريد في الأصول، وسبب ذلك أن هشيما مذكور بتدليس الإسناد. قوله: "عن ابن عباس" كذا وصله هشيم وأرسله شعبة أخرجه الترمذي من طريق الطيالسي عن شعبة وهشيم مفصلا. قوله: "نزلت ورسول الله مختف بمكة" يعني في أول الإسلام. قوله: "رفع صوته بالقرآن" في رواية الطبري من وجه آخر عن ابن عباس "فكان إذا صلى بأصحابه وأسمع المشركين فآذوه" وفسرت رواية الباب الأذى بقوله: سبوا القرآن. وللطبري من وجه آخر عن سعيد بن جبير "فقالوا له: لا تجهر فتؤذي آلهتنا فنهجو إلهك" ومن طريق داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا جهر بالقرآن وهو يصلي تفرق عنه أصحابه، وإذا خفض صوته لم يسمعه من يريد أن يسمع قراءته فنزلت" . قوله: "ولا تجهر بصلاتك أي بقراءتك" وفي رواية الطبري "لا تجهر بصلاتك" أي لا تعلن بقراءة القرآن إعلانا شديدا فيسمعك المشركون فيؤذونك، {وَلا تُخَافِتْ بِهَا} أي لا تخفض صوتك حتى لا تسمع أذنيك "وابتغ بين ذلك سبيلا" أي طريقا وسطا. قوله: "حدثنا طلق" بفتح المهملة وسكون اللام "ابن غنام" بالمعجمة والنون وهو النخعي، من كبار شيوخ البخاري، وروايته عنه في هذا الكتاب قليلة. وشيخه زائدة هو ابن قدامة. قوله: "عن عائشة" تابعه الثوري عن هشام، وأرسله سعيد بن منصور عن يعقوب بن عبد الرحيم الإسكندراني عن هشام، وكذلك أرسله مالك. قوله: "أنزل ذلك في الدعاء" هكذا أطلقت عائشة، وهو أعم من أن يكون ذلك داخل الصلاة أو خارجها. وقد أخرجه الطبري وابن خزيمة والعمري والحاكم من طريق حفص بن غياث عن هشام فزاد في الحديث: "في التشهد" ومن طريق عبد الله بن شداد قال: "كان أعرابي من بني تميم إذا سلم النبي صلى الله عليه وسلم قال: اللهم ارزقنا مالا وولدا" ورجح الطبري حديث ابن عباس قال: لأنه أصح مخرجا. ثم أسند عن عطاء قال: "يقول قوم: إنها في الصلاة، وقوم إنها في الدعاء" وقد جاء عن ابن عباس نحو تأويل عائشة أخرجه الطبري من طريق أشعث بن سوار عن عكرمة عن ابن عباس قال: "نزلت في الدعاء" ومن وجه آخر عن ابن عباس مثله، ومن طريق عطاء ومجاهد وسعيد ومكحول مثله، ورجح النووي وغيره قول ابن عباس كما رجحه الطبري، لكن

(8/405)


يحتمل الجمع بينهما بأنها نزلت في الدعاء داخل الصلاة وقد روى ابن مردويه من حديث أبي هريرة قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى عند البيت رفع صوته بالدعاء، فنزلت: {وجاء عن أهل التفسير في ذلك أقوال أخر، منها ما روى سعيد بن منصور من طريق صحابي لم يسم رفعه في هذه الآية" لا ترفع صوتك في دعائك فتذكر ذنوبك فتعير بها "ومنها ما روى الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس "لا تجهر بصلاتك" أي لا تصل مراآة للناس "ولا تخافت بها" أي لا تتركها مخافة منهم. ومن طرق عن الحسن البصري نحوه. وقال الطبري: لولا أننا لا نستجيز مخالفة أهل التفسير فيما جاء عنهم لاحتمل أن يكون المراد "لا تجهر بصلاتك" أي بقراءتك نهارا {وَلا تُخَافِتْ بِهَا} أى ليلا، وكان ذلك وجها لا يبعد من الصحة، انتهى. وقد أثبته بعض المتأخرين قولا. وقيل: الآية في الدعاء، وهي منسوخة بقوله: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} .

(8/406)


18- سورة الْكَهْفِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ {تَقْرِضُهُمْ} تَتْرُكُهُمْ {وَكَانَ لَهُ ثُمُرٌ} ذَهَبٌ وَفِضَّةٌ وَقَالَ غَيْرُهُ جَمَاعَةُ الثَّمَرِ {بَاخِعٌ} مُهْلِكٌ {أَسَفًا} نَدَمًا {الْكَهْفُ} الْفَتْحُ فِي الْجَبَلِ {وَالرَّقِيمُ} الْكِتَابُ مَرْقُومٌ مَكْتُوبٌ مِنْ الرَّقْمِ {رَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ} أَلْهَمْنَاهُمْ صَبْرًا {لَوْلاَ أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} {شَطَطًا} إِفْرَاطًا {الْوَصِيدُ} الْفِنَاءُ جَمْعُهُ وَصَائِدُ وَوُصُدٌ وَيُقَالُ الْوَصِيدُ الْبَابُ مُؤْصَدَةٌ مُطْبَقَةٌ آصَدَ الْبَابَ وَأَوْصَدَ {بَعَثْنَاهُمْ} أَحْيَيْنَاهُمْ {أَزْكَى} أَكْثَرُ وَيُقَالُ أَحَلُّ وَيُقَالُ أَكْثَرُ رَيْعًا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {أُكْلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ} لَمْ تَنْقُصْ وَقَالَ سَعِيدٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ {الرَّقِيمُ} اللَّوْحُ مِنْ رَصَاصٍ كَتَبَ عَامِلُهُمْ أَسْمَاءَهُمْ ثُمَّ طَرَحَهُ فِي خِزَانَتِهِ فَضَرَبَ اللَّهُ عَلَى آذَانِهِمْ فَنَامُوا وَقَالَ غَيْرُهُ وَأَلَتْ تَئِلُ تَنْجُو وَقَالَ مُجَاهِدٌ {مَوْئِلاً} مَحْرِزًا {لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا} لاَ يَعْقِلُونَ
سورة الكهف بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ "ثبتت البسملة لغير أبي ذر. قوله: "وقال مجاهد {تَقْرِضُهُمْ} تتركهم" وصله الفريابي عنه، وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة نحوه، وسقط هنا لأبي ذر. قوله: "وقال مجاهد: وَكَانَ لَهُ ثُمُرٌ} ذهب وفضة" وصله الفريابي بلفظه. وأخرج الفراء من وجه آخر عن مجاهد قال: ما كان في القرآن ثمر بالضم فهو المال، وما كان بالفتح فهو النبات. قوله: "وقال غيره: جماعة الثمر" كأنه عنى به قتادة فقد أخرج الطبري من طريق أبي سفيان المعمري عن معمر عن قتادة قال: الثمر المال كله، وكل مال إذا اجتمع فهو ثمر إذا كان من لون الثمرة وغيرها من المال كله. وروى ابن المنذر من وجه آخر عن قتادة قال: قرأ ابن عباس {ثُمُرٌ} يعني بفتحتين وقال: يريد أنواع المال، انتهى. والذي قرأ هنا بفتحتين عاصم، وبضم ثم سكون أبو عمرو، والباقون بضمتين. قال ابن التين: معني قوله: "جماعة الثمر" أن ثمرة يجمع على ثمار، وثمار على ثمر. قوله: "باخع مهلك" هو قول أبي عبيدة، وأنشد لذي الرمة" ألا أيهذا الباخع الوجد نفسه" وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة {بَاخِعٌ نَفْسَكَ} أي قاتل نفسك. قوله: "أسفا ندما" هو قول أبي عبيدة. وقال قتادة: حزنا.

(8/406)


قوله: "الكهف الفتح في الجبل، والرقيم الكتاب، مرقوم مكتوب من الرقم" تقدم جميع ذلك في أحاديث الأنبياء مشروحا. قوله: "أمدا غاية، طال عليهم الأمد" سقط هذا لأبي ذر وهو قول أبي عبيدة، وروى عبد بن حميد من طريق مجاهد في قوله: "أمدا" قال: عددا. قوله: "وقال سعيد - يعني ابن جبير - عن ابن عباس: الرقيم لوح من رصاص كتب عاملهم أسماءهم ثم طرحه في خزانته، فضرب الله على آذانهم" وصله عبد بن حميد من طريق يعلى بن مسلم عن سعيد بن جبير مطولا، وقد لخصته في أحاديث الأنبياء، وإسناده صحيح على شرط البخاري. وقد روى ابن مردويه من طريق عكرمة عن ابن عباس أنه قال: ما كنت أعرف الرقيم، ثم سألت عنه فقيل لي هي القرية التي خرجوا منها. وإسناده ضعيف. قوله: "وقال غيره: ربطنا على قلوبهم ألهمناهم صبرا" تقدم شرحه في أحاديث الأنبياء. قوله: {لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} أي ومن هذه المادة هذا الموضع، ذكره استطرادا وإنما هو في سورة القصص، وهو قول أبي عبيدة أيضا. وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: لولا أن ربطنا على قلبها بالإيمان. قوله: "مرفقا كل شيء ارتفقت به" هو قول أبي عبيدة وزاد: ويقرأه قوم بفتح الميم وكسر الفاء انتهى. وهي قراءة نافع وابن عامر. واختلف هل هما بمعنى أم لا؟ فقيل: هو بكسر الميم للجارحة وبفتحها للأمر، وقد يستعمل أحدهما موضع الآخر، وقيل لغتان فيما يرتفق به وأما الجارحة فبالكسر فقط وقيل لغتان في الجارحة أيضا. وقال أبو حاتم: هو بفتح الميم الموضع كالمسجد، وبكسرها الجارحة. قوله: "تزاور من الزور، والأزور الأميل" هو قول أبي عبيدة، قوله: "فجوة متسع والجمع فجوات وفجى، كقولك زكوات وزكاة" هو قول أبي عبيدة أيضا، قوله: "شططا إفراطا، الوصيد الفناء إلخ" تقدم كله في أحاديث الأنبياء، قوله: "بعثناهم أحييناهم" هو قول أبي عبيدة، وروى عبد الرزاق من طريق عكرمة قال: كان أصحاب الكهف أولاد ملوك اعتزلوا قومهم في الكهف فاختلفوا في بعث الروح والجسد فقال قائل يبعثان. وقال قائل: تبعث الروح فقط وأما الجسد فتأكله الأرض، فأماتهم الله ثم أحياهم، فذكر القصة. قوله: "أزكى أكثر، ويقال أحل، ويقال أكثر ريعا" تقدم أيضا. وروى سعيد بن منصور من طريق عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: أحل ذبيحة، وكانوا يذبحون للطواغيت.
" تنبيه " : سقط من قوله: "الكهف الفتح" إلى هنا من رواية أبي ذر هنا، وكأنه استغنى بتقديم جل ذلك هناك. قوله: "وقال غيره: لم يظلم لم ينقص" كذا لأبي ذر، ولغيره: وقال ابن عباس، فذكره، وقد وصله ابن أبي حاتم من طريق ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس، وكذا الطبري من طريق سعيد عن قتادة. قوله: "وقال مجاهد: موئلا محرزا" وصله الفريابي. وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله: {مَوْئِلاً} قال: ملجأ، ورجحه ابن قتيبة وقال: هو من وأل إذا لجأ إليه، وهو هنا مصدر، وأصل الموئل المرجع. قوله: "وألت تئل تنجو" قال أبو عبيدة في قوله: "موئلا" : ملجأ منجأ، قال الشاعر: "فلا وألت نفس عليها تحاذر" أي لا نجت.
قوله: {لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً} أي "لا يعقلون" وصله الفريابي من طريق مجاهد مثله.

(8/407)


باب {وكان الإنسان أكثر شيئا جدلا}
...
1- باب {وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً}
4724- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَلِيُّ بْنُ حُسَيْنٍ أَنَّ حُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ أَخْبَرَهُ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَرَقَهُ وَفَاطِمَةَ

(8/407)


قَالَ: "أَلاَ تُصَلِّيَانِ". {رَجْمًا بِالْغَيْبِ} لَمْ يَسْتَبِنْ {فُرُطًا} يُقَالُ نَدَمًا {سُرَادِقُهَا} مِثْلُ السُّرَادِقِ وَالْحُجْرَةِ الَّتِي تُطِيفُ بِالْفَسَاطِيطِ {يُحَاوِرُهُ} مِنْ الْمُحَاوَرَةِ {لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي} أَيْ لَكِنْ أَنَا هُوَ اللَّهُ رَبِّي ثُمَّ حَذَفَ الأَلِفَ وَأَدْغَمَ إِحْدَى النُّونَيْنِ فِي الأُخْرَى {وَفَجَّرْنَا خِلاَلَهُمَا نَهَراً} يَقُولُ بَيْنَهُمَا {زَلَقًا} لاَ يَثْبُتُ فِيهِ قَدَمٌ {هُنَالِكَ الْوِلاَيَةُ} مَصْدَرُ الْوَلِيِّ {عُقُبًا} عَاقِبَةً وَعُقْبَى وَعُقْبَةً وَاحِدٌ وَهِيَ الآخِرَةُ {قِبَلاً} وَقُبُلًا وَقَبَلًا اسْتِئْنَافًا {لِيُدْحِضُوا} لِيُزِيلُوا الدَّحْضُ الزَّلَق"
قوله: "باب {وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} ذكر فيه حديث علي مختصرا، ولم يذكر مقصود الباب على عادته في التعمية، وقد تقدم شرحه مستوفى في صلاة الليل، وفيه ذكر الآية المذكورة، وقوله في آخره: "ألا تصليان" زاد في نسخة الصغاني" وذكر الحديث والآية إلى قوله: {وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} . قوله: "رجما بالغيب: لم يستبن" سقط هذا لأبي ذر هنا، وقد تقدم في أحاديث الأنبياء. ولقتادة عند عبد الرزاق {رَجْمًا بِالْغَيْبِ} قال: قذفا بالظن. قوله: "فرطا ندما" وصله الطبري من طريق داود بن أبي هند في قوله: {فُرُطًا} قال: ندامة. وقال أبو عبيدة في قوله: {وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} أي تضييعا وإسرافا. وللطبري عن مجاهد قال: ضياعا. وعن السدي قال: إهلاكا. وعن ابن جريج: نزلت في عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري قبل أن يسلم. قوله: "سرادقها مثل السرادق والحجرة التي تطيف بالفساطيط" هو قول أبي عبيدة لكنه تصرف فيه، قال أبو عبيدة في قوله: {أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} كسرادق الفسطاط، وهي الحجرة التي تطوف بالفسطاط، قال الشاعر: "سرادق المجد عليك ممدود" وروى الطبري من طريق ابن عباس بإسناد منقطع قال: سرادقها حائط من نار، قوله: "يحاوره من المحاورة" قال أبو عبيدة: يحاوره أي يكلمه من المحاورة أي المراجعة. قوله: {لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي} أي لكن أنا هو الله ربي، ثم حذف الألف وأدغم إحدى النونين في الأخرى" هو قول أبي عبيدة. وقال الفراء: ترك الألف من أنا كثير في الكلام ثم أدغمت نون أنا في نون لكن، وأنشد:
وترمقني بالطرف أي أنت مذنب ... وتقلينني لكن إياك لا أقلي
أي لكن أنا إياك لا أقلي. قال: ومن العرب من يشبع ألف أنا فجاءت القراءة على تلك اللغة. قوله: {وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً} تقول بينهما" ثبت لأبي ذر، وهو قول أبي عبيدة، وقراءة الجمهور بالتشديد، ويعقوب وعيسى بن عمر بالتخفيف. قوله: "هنالك الولاية مصدر ولي الولي ولاء" كذا لأبي ذر وللباقين "مصدر الولي" وهو أصوب، وهو قول أبي عبيدة قاله في تفسير سورة البقرة، وقرأ الجمهور بفتح الواو، والأخوان بكسرها، وأنكره أبو عمرو والأصمعي لأن الذي بالكسر الإمارة ولا معنى له هنا. وقال غيرهما: الكسر لغة بمعني الفتح كالدلالة بفتح دالها وكسرها بمعنى.
" تنبيه " : يأتي قوله: {وَخَيْرٌ عُقْباً} في الدعوات. قوله: "قبلا وقبلا وقبل استثنافا" قال أبو عبيدة في قوله: {وْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلاً} أي أولا، فإن فتحوا أولها فالمعنى استئنافا، وغفل ابن التين فقال: لا أعرف للاستئناف هنا معنى، وإنما هو استقبالا، وهو يعود على قبلا بفتح القاف، انتهى. والمؤتنف قريب من المقبل فلا معنى لا دعاء تفسيره. قوله: {لِيُدْحِضُوا} ليزيلوا، الدحض الزلق "قال أبو عبيدة في قوله:

(8/408)


{لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} : أي ليزيلوا، يقال: مكان دحض أي مزل مزلق لا يثبت فيه خف ولا حافر.

(8/409)


2- باب {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لاَ أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا} زَمَانًا وَجَمْعُهُ أَحْقَابٌ
4725- حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ قَالَ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ قَالَ قُلْتُ لابْنِ عَبَّاسٍ إِنَّ نَوْفًا الْبِكَالِيَّ يَزْعُمُ أَنَّ مُوسَى صَاحِبَ الْخَضِرِ لَيْسَ هُوَ مُوسَى صَاحِبَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ كَذَبَ عَدُوُّ اللَّهِ حَدَّثَنِي أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّ مُوسَى قَامَ خَطِيبًا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فَسُئِلَ أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ فَقَالَ أَنَا فَعَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ إِذْ لَمْ يَرُدَّ الْعِلْمَ إِلَيْهِ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ إِنَّ لِي عَبْدًا بِمَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ قَالَ مُوسَى يَا رَبِّ فَكَيْفَ لِي بِهِ قَالَ تَأْخُذُ مَعَكَ حُوتًا فَتَجْعَلُهُ فِي مِكْتَلٍ فَحَيْثُمَا فَقَدْتَ الْحُوتَ فَهُوَ ثَمَّ فَأَخَذَ حُوتًا فَجَعَلَهُ فِي مِكْتَلٍ ثُمَّ انْطَلَقَ وَانْطَلَقَ مَعَهُ بِفَتَاهُ يُوشَعَ بْنِ نُونٍ حَتَّى إِذَا أَتَيَا الصَّخْرَةَ وَضَعَا رُءُوسَهُمَا فَنَامَا وَاضْطَرَبَ الْحُوتُ فِي الْمِكْتَلِ فَخَرَجَ مِنْهُ فَسَقَطَ فِي الْبَحْرِ فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا وَأَمْسَكَ اللَّهُ عَنْ الْحُوتِ جِرْيَةَ الْمَاءِ فَصَارَ عَلَيْهِ مِثْلَ الطَّاقِ فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ نَسِيَ صَاحِبُهُ أَنْ يُخْبِرَهُ بِالْحُوتِ فَانْطَلَقَا بَقِيَّةَ يَوْمِهِمَا وَلَيْلَتَهُمَا حَتَّى إِذَا كَانَ مِنْ الْغَدِ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا قَالَ وَلَمْ يَجِدْ مُوسَى النَّصَبَ حَتَّى جَاوَزَا الْمَكَانَ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فَقَالَ لَهُ فَتَاهُ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهِ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا قَالَ فَكَانَ لِلْحُوتِ سَرَبًا وَلِمُوسَى وَلِفَتَاهُ عَجَبًا فَقَالَ مُوسَى ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِي فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا قَالَ رَجَعَا يَقُصَّانِ آثَارَهُمَا حَتَّى انْتَهَيَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِذَا رَجُلٌ مُسَجًّى ثَوْبًا فَسَلَّمَ عَلَيْهِ مُوسَى فَقَالَ الْخَضِرُ وَأَنَّى بِأَرْضِكَ السَّلاَمُ قَالَ أَنَا مُوسَى قَالَ مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالَ نَعَمْ أَتَيْتُكَ لِتُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رَشَدًا قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا يَا مُوسَى إِنِّي عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَنِيهِ لاَ تَعْلَمُهُ أَنْتَ وَأَنْتَ عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَكَهُ اللَّهُ لاَ أَعْلَمُهُ فَقَالَ مُوسَى سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلاَ أَعْصِي لَكَ أَمْرًا فَقَالَ لَهُ الْخَضِرُ فَإِنْ اتَّبَعْتَنِي فَلاَ تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا فَانْطَلَقَا يَمْشِيَانِ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ فَمَرَّتْ سَفِينَةٌ فَكَلَّمُوهُمْ أَنْ يَحْمِلُوهُمْ فَعَرَفُوا الْخَضِرَ فَحَمَلُوهُمْ بِغَيْرِ نَوْلٍ فَلَمَّا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ لَمْ يَفْجَأْ إِلاَّ وَالْخَضِرُ قَدْ قَلَعَ لَوْحًا مِنْ أَلْوَاحِ السَّفِينَةِ بِالْقَدُومِ فَقَالَ لَهُ مُوسَى قَوْمٌ قَدْ حَمَلُونَا بِغَيْرِ نَوْلٍ عَمَدْتَ إِلَى سَفِينَتِهِمْ فَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا قَالَ لاَ تُؤَاخِذْنِي

(8/409)


بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا قَالَ وَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وَكَانَتْ الأُولَى مِنْ مُوسَى نِسْيَانًا قَالَ وَجَاءَ عُصْفُورٌ فَوَقَعَ عَلَى حَرْفِ السَّفِينَةِ فَنَقَرَ فِي الْبَحْرِ نَقْرَةً فَقَالَ لَهُ الْخَضِرُ مَا عِلْمِي وَعِلْمُكَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ إِلاَّ مِثْلُ مَا نَقَصَ هَذَا الْعُصْفُورُ مِنْ هَذَا الْبَحْرِ ثُمَّ خَرَجَا مِنْ السَّفِينَةِ فَبَيْنَا هُمَا يَمْشِيَانِ عَلَى السَّاحِلِ إِذْ أَبْصَرَ الْخَضِرُ غُلاَمًا يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ فَأَخَذَ الْخَضِرُ رَأْسَهُ بِيَدِهِ فَاقْتَلَعَهُ بِيَدِهِ فَقَتَلَهُ فَقَالَ لَهُ مُوسَى أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَاكِيَةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا قَالَ وَهَذِهِ أَشَدُّ مِنْ الأُولَى قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ قَالَ مَائِلٌ فَقَامَ الْخَضِرُ فَأَقَامَهُ بِيَدِهِ فَقَالَ مُوسَى قَوْمٌ أَتَيْنَاهُمْ فَلَمْ يُطْعِمُونَا وَلَمْ يُضَيِّفُونَا لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ إِلَى قَوْلِهِ ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وَدِدْنَا أَنَّ مُوسَى كَانَ صَبَرَ حَتَّى يَقُصَّ اللَّهُ عَلَيْنَا مِنْ خَبَرِهِمَا" قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقْرَأُ وَكَانَ أَمَامَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ صَالِحَةٍ غَصْبًا وَكَانَ يَقْرَأُ وَأَمَّا الْغُلاَمُ فَكَانَ كَافِرًا وَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْن"
قوله: "باب قوله: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لاَ أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ} اختلف في مكان مجمع البحرين، فروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: بحر فارس والروم، وعن الربيع بن أنس مثله أخرجه عبد بن حميد، وروى ابن أبي حاتم من طريق السدي قال: هما الكر والرس حيث يصبان في البحر. قال ابن عطية: مجمع البحرين ذراع في أرض فارس من جهة أذربيجان يخرج من البحر المحيط من شماليه إلى جنوبيه وطرفيه مما يلي بر الشام. وقيل هما بحر الأردن والقلزم. وقال محمد بن كعب القرظي: مجمع البحرين بطنجة. وعن ابن المبارك قال: قال بعضهم: بحر أرمينية. وعن أبي بن كعب قال: بإفريقية أخرجهما ابن أبي حاتم لكن السند إلى أبي بن كعب ضعيف. وهذا اختلاف شديد. وأغرب من ذلك ما نقله القرطبي عن ابن عباس قال: المراد بمجمع البحرين اجتماع موسى والخضر لأنهما بحرا علم، وهذا غير ثابت ولا يقتضيه اللفظ، وإنما يحسن أن يذكر في مناسبة اجتماعهما بهذا المكان المخصوص، كما قال السهيلي: اجتمع البحران بمجمع البحرين. قوله: "أو أمضى حقبا زمانا، وجمعه أحقاب" هو قول أبي عبيدة قال: ويقال فيه أيضا حقبة أي بكسر أوله والجمع حقب. وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: الحقب الزمان. وعن ابن: عباس: الحقب الدهر. وعن سعيد بن جبير: الحقب الحين أخرجهما ابن المنذر. وجاء تقديره عن غيرهم، فروى ابن المنذر عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه ثمانون سنة، وروى عبد بن حميد عن مجاهد أنه سبعون. ثم ذكر المصنف قصة موسى والخضر، وسأذكر شرح ذلك في الباب الذي يليه.

(8/410)


باب {فلما بلغ مجمع بينهما نسيا حوتهما فاتخذ سبيله في البحر سربا}
...
3- باب {فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا} مَذْهَبًا يَسْرُبُ يَسْلُكُ وَمِنْهُ {وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ}

(8/410)


4726- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ قَالَ أَخْبَرَنِي يَعْلَى بْنُ مُسْلِمٍ وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ يَزِيدُ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ وَغَيْرُهُمَا قَدْ سَمِعْتُهُ يُحَدِّثُهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ إِنَّا لَعِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي بَيْتِهِ إِذْ قَالَ سَلُونِي قُلْتُ أَيْ أَبَا عَبَّاسٍ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ بِالْكُوفَةِ رَجُلٌ قَاصٌّ يُقَالُ لَهُ نَوْفٌ يَزْعُمُ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَمَّا عَمْرٌو فَقَالَ لِي قَالَ قَدْ كَذَبَ عَدُوُّ اللَّهِ وَأَمَّا يَعْلَى فَقَالَ لِي قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ حَدَّثَنِي أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مُوسَى رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلاَم قَالَ ذَكَّرَ النَّاسَ يَوْمًا حَتَّى إِذَا فَاضَتْ الْعُيُونُ وَرَقَّتْ الْقُلُوبُ وَلَّى فَأَدْرَكَهُ رَجُلٌ فَقَالَ أَيْ رَسُولَ اللَّهِ هَلْ فِي الأَرْضِ أَحَدٌ أَعْلَمُ مِنْكَ قَالَ لاَ فَعَتَبَ عَلَيْهِ إِذْ لَمْ يَرُدَّ الْعِلْمَ إِلَى اللَّهِ قِيلَ بَلَى قَالَ أَيْ رَبِّ فَأَيْنَ قَالَ بِمَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ قَالَ أَيْ رَبِّ اجْعَلْ لِي عَلَمًا أَعْلَمُ ذَلِكَ بِهِ فَقَالَ لِي عَمْرٌو قَالَ: حَيْثُ يُفَارِقُكَ الْحُوتُ وَقَالَ لِي يَعْلَى قَالَ: خُذْ نُونًا مَيِّتًا حَيْثُ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ فَأَخَذَ حُوتًا فَجَعَلَهُ فِي مِكْتَلٍ فَقَالَ لِفَتَاهُ لاَ أُكَلِّفُكَ إِلاَّ أَنْ تُخْبِرَنِي بِحَيْثُ يُفَارِقُكَ الْحُوتُ قَالَ مَا كَلَّفْتَ كَثِيرًا فَذَلِكَ قَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ} يُوشَعَ بْنِ نُونٍ -لَيْسَتْ عَنْ سَعِيدٍ- قَالَ فَبَيْنَمَا هُوَ فِي ظِلِّ صَخْرَةٍ فِي مَكَانٍ ثَرْيَانَ إِذْ تَضَرَّبَ الْحُوتُ وَمُوسَى نَائِمٌ فَقَالَ فَتَاهُ لاَ أُوقِظُهُ حَتَّى إِذَا اسْتَيْقَظَ نَسِيَ أَنْ يُخْبِرَهُ وَتَضَرَّبَ الْحُوتُ حَتَّى دَخَلَ الْبَحْرَ فَأَمْسَكَ اللَّهُ عَنْهُ جِرْيَةَ الْبَحْرِ حَتَّى كَأَنَّ أَثَرَهُ فِي حَجَرٍ -قَالَ لِي عَمْرٌو هَكَذَا كَأَنَّ أَثَرَهُ فِي حَجَرٍ وَحَلَّقَ بَيْنَ إِبْهَامَيْهِ وَاللَّتَيْنِ تَلِيَانِهِمَا- {لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} قَالَ قَدْ قَطَعَ اللَّهُ عَنْكَ النَّصَبَ -لَيْسَتْ هَذِهِ عَنْ سَعِيدٍ- أَخْبَرَهُ فَرَجَعَا فَوَجَدَا خَضِرًا قَالَ لِي عُثْمَانُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ عَلَى طِنْفِسَةٍ خَضْرَاءَ عَلَى كَبِدِ الْبَحْرِ -قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ مُسَجًّى بِثَوْبِهِ قَدْ جَعَلَ طَرَفَهُ تَحْتَ رِجْلَيْهِ وَطَرَفَهُ تَحْتَ رَأْسِهِ- فَسَلَّمَ عَلَيْهِ مُوسَى فَكَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ وَقَالَ هَلْ بِأَرْضِي مِنْ سَلاَمٍ مَنْ أَنْتَ قَالَ أَنَا مُوسَى قَالَ مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَمَا شَأْنُكَ قَالَ جِئْتُ لِتُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رَشَدًا قَالَ أَمَا يَكْفِيكَ أَنَّ التَّوْرَاةَ بِيَدَيْكَ وَأَنَّ الْوَحْيَ يَأْتِيكَ يَا مُوسَى إِنَّ لِي عِلْمًا لاَ يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَعْلَمَهُ وَإِنَّ لَكَ عِلْمًا لاَ يَنْبَغِي لِي أَنْ أَعْلَمَهُ فَأَخَذَ طَائِرٌ بِمِنْقَارِهِ مِنْ الْبَحْرِ وَقَالَ وَاللَّهِ مَا عِلْمِي وَمَا عِلْمُكَ فِي جَنْبِ عِلْمِ اللَّهِ إِلاَّ كَمَا أَخَذَ هَذَا الطَّائِرُ بِمِنْقَارِهِ مِنْ الْبَحْرِ حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ وَجَدَا مَعَابِرَ صِغَارًا تَحْمِلُ أَهْلَ هَذَا السَّاحِلِ إِلَى أَهْلِ هَذَا السَّاحِلِ الْآخَرِ عَرَفُوهُ فَقَالُوا عَبْدُ اللَّهِ الصَّالِحُ قَالَ قُلْنَا لِسَعِيدٍ خَضِرٌ قَالَ نَعَمْ لاَ نَحْمِلُهُ بِأَجْرٍ فَخَرَقَهَا وَوَتَدَ فِيهَا وَتِدًا قَالَ مُوسَى: {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} -قَالَ مُجَاهِدٌ مُنْكَرًا- قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا كَانَتْ

(8/411)


الأُولَى نِسْيَانًا وَالْوُسْطَى شَرْطًا وَالثَّالِثَةُ عَمْدًا {قَالَ لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا} {لَقِيَا غُلاَمًا فَقَتَلَهُ} قَالَ يَعْلَى قَالَ سَعِيدٌ وَجَدَ غِلْمَانًا يَلْعَبُونَ فَأَخَذَ غُلاَمًا كَافِرًا ظَرِيفًا فَأَضْجَعَهُ ثُمَّ ذَبَحَهُ بِالسِّكِّينِ {قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ} لَمْ تَعْمَلْ بِالْحِنْثِ وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَرَأَهَا زَكِيَّةً زَاكِيَةً مُسْلِمَةً كَقَوْلِكَ غُلاَمًا زَكِيًّا فَانْطَلَقَا فَوَجَدَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ سَعِيدٌ بِيَدِهِ هَكَذَا وَرَفَعَ يَدَهُ فَاسْتَقَامَ قَالَ يَعْلَى حَسِبْتُ أَنَّ سَعِيدًا قَالَ فَمَسَحَهُ بِيَدِهِ فَاسْتَقَامَ لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا قَالَ سَعِيدٌ أَجْرًا نَأْكُلُهُ وَكَانَ وَرَاءَهُمْ وَكَانَ أَمَامَهُمْ قَرَأَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ أَمَامَهُمْ مَلِكٌ يَزْعُمُونَ عَنْ غَيْرِ سَعِيدٍ أَنَّهُ هُدَدُ بْنُ بُدَدَ وَالْغُلاَمُ الْمَقْتُولُ اسْمُهُ يَزْعُمُونَ جَيْسُورٌ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا فَأَرَدْتُ إِذَا هِيَ مَرَّتْ بِهِ أَنْ يَدَعَهَا لِعَيْبِهَا فَإِذَا جَاوَزُوا أَصْلَحُوهَا فَانْتَفَعُوا بِهَا وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ سَدُّوهَا بِقَارُورَةٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بِالْقَارِ كَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ وَكَانَ كَافِرًا فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا أَنْ يَحْمِلَهُمَا حُبُّهُ عَلَى أَنْ يُتَابِعَاهُ عَلَى دِينِهِ {فَأَرَدْنَا أَنْ يُبَدِّلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً} لِقَوْلِهِ {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً} {وَأَقْرَبَ رُحْمًا} هُمَا بِهِ أَرْحَمُ مِنْهُمَا بِالأَوَّلِ الَّذِي قَتَلَ خَضِرٌ وَزَعَمَ غَيْرُ سَعِيدٍ أَنَّهُمَا أُبْدِلاَ جَارِيَةً وَأَمَّا دَاوُدُ بْنُ أَبِي عَاصِمٍ فَقَالَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ إِنَّهَا جَارِيَة"
قوله: "باب قوله: {فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا} ووقع في رواية الأصيلي: "فلما بلغ مجمع بينهما" والأول هو الموافق للتلاوة. قوله: {فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا} : مذهبا، يسرب يسلك. ومنه: وسارب بالنهار" قال أبو عبيده في قوله تعالى: {فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا} أي مسلكا ومذهبا يسرب فيه، وفي آية أخرى {وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} وقال أيضا في قوله: {وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} : سالك في سربه أى مذهبه، ومنه أصبح فلان آمنا في سربه، ومنه انسرب فلان إذا مضى. قوله: "يزيد أحدهما على صاحبه" يستفاد بيان زيادة أحدهما على الآخر من الإسناد الذي قبله، فإن الأول من رواية سفيان عن عمرو بن دينار فقط وهو أحد شيخي ابن جريج فيه. قوله: "وغيرهما قد سمعته يحدثه" أي يحدث الحديث المذكور، وعداه بغير الباء. ووقع في رواية الكشميهني يحدث بحذف المفعول، وقد عين ابن جريج بعض من أبهمه كعثمان بن أبي سليمان، وروى شيئا من هذه القصة عن سعيد بن جبير من مشايخ ابن جريج عبد الله بن عثمان بن خثيم وعبد الله بن هرمز وعبد الله بن عبيد بن عمير، وممن روى هذا الحديث عن سعيد بن جبير أبو إسحاق السبيعي وروايته عند مسلم وأبي داود وغيرهما، والحكم بن عتيبة وروايته في السيرة الكبرى لابن إسحاق، وسأذكر بيان ما في رواياتهم من فائدة. قوله: "إذ قال: سلوني" فيه جواز قول العالم ذلك، ومحله إذا أمن العجب أو دعت الضرورة إليه كخشية نسيان العلم.
قوله: "أي أبا عباس" هي كنية عبد الله بن عباس. وقوله: "جعلني الله فداءك" فيه حجة لمن أجاز ذلك خلافا لمن منعه، وسيأتي البحث فيه في كتاب الأدب. قوله: "إن بالكوفة رجلا قاصا" في رواية الكشميهني: "بالكوفة رجل قاص" بحذف إن من أوله، والقاص بتشديد المهملة الذي يقص على الناس الأخبار من المواعظ وغيرها. قوله: "يقال له نوف" بفتح النون وسكون الواو

(8/412)


بعدها فاء. وفي رواية سفيان "أن نوفا البكالي" وهو بكسر الموحدة مخففا وبعد الألف لام، ووقع عند بعض رواة مسلم بفتح أوله والتشديد والأول هو الصواب، واسم أبيه فضالة بفتح الفاء وتخفيف المعجمة، وهو منسوب إلى بني بكال بن دعمي بن سعد بن عوف بطن من حمير، ويقال إنه ابن امرأة كعب الأحبار وقيل ابن أخيه وهو تابعي صدوق. وفي التابعين جبر بفتح الجيم وسكون الموحدة ابن نوف البكيلي بفتح الموحدة وكسر الكاف مخففا بعدها تحتانية بعدها لام منسوب إلى بكيل بطن من همدان، ويكني أبا الوداك بتشديد الدال، وهو مشهور بكنيته، ومن زعم أن ولد نوف البكالي فقد وهم. قوله: "يزعم أنه ليس بموسى بني إسرائيل" في رواية سفيان يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس هو موسى صاحب بني إسرائيل. ووقع في رواية ابن إسحاق عن سعيد بن جبير عند النسائي قال: "كنت عند ابن عباس وعنده قوم من أهل الكتاب فقال بعضهم: يا أبا عباس إن نوفا يزعم عن كعب الأحبار أن موسى الذي طلب العلم إنما هو موسى بن ميشا أي ابن أفرائيم بن يوسف عليه السلام، فقال ابن عباس: أسمعت ذلك منه يا سعيد؟ قلت: نعم. قال: كذب نوف" وليس بين الروايتين تعارض لأنه يحمل على أن سعيدا أبهم نفسه في هذه الرواية ويكون قوله: فقال بعضهم أي بعض الحاضرين، لا أهل الكتاب، ووقع عند مسلم من هذا الوجه" قيل لابن عباس" بدل قوله: "فقال بعضهم" وعند أحمد في رواية أبي إسحاق" وكان ابن عباس متكئا فاستوى جالسا وقال: أكذاك يا سعيد؟ قلت: نعم أنا سمعته" وقال ابن إسحاق في "المبتدا" : كان موسى بن ميشا قبل موسى بن عمران نبيا في بني إسرائيل، ويزعم أهل الكتاب أنه الذي صحب الخضر. قوله: "أما عمرو" ابن دينار "قال لي: كذب عدو الله" أراد ابن جريج أن هذه الكلمة وقعت في رواية عمرو بن دينار دون رواية يعلى بن مسلم، وهو كما قال، فإن سفيان رواها أيضا عن عمرو بن دينار كما مضى، وسقط ذلك من رواية يعلى بن مسلم. وقوله: كذب وقوله: عدو الله محمولان على إرادة المبالغة في الزجر والتنفير عن تصديق تلك المقالة، وقد كانت هذه المسألة دارت أولا بين ابن عباس والحر بن قيس الفزاري وسألا عن ذلك أبي بن كعب، لكن لم يفصح في تلك الرواية ببيان ما تنازعا فيه، وقد تقدم بيان ذلك في كتاب العلم. قوله: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" في رواية سفيان أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله: "قال: ذكر" هو بتشديد الكاف أي وعظهم. وفي رواية ابن إسحاق عند النسائي: "فذكرهم بأيام الله. وأيام الله نعماؤه" ولمسلم من هذا الوجه "يذكرهم بأيام الله وآلاء الله نعماؤه وبلاؤه" وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك في تفسير سورة إبراهيم. وفي رواية سفيان "قام خطيبا في بني إسرائيل" . قوله: "حتى إذا فاضت العيون ورقت القلوب" يظهر لي إن هذا القدر من زيادة يعلى بن مسلم على عمرو بن دينار، لأن ذلك لم يقع في رواية سفيان عن عمرو وهو أثبت الناس فيه، وفيه أن الواعظ إذا أثر وعظه في السامعين فخشعوا وبكوا ينبغي أن يخفف لئلا يملوا. قوله: "فأدركه رجل" لم أقف على اسمه، وهو يقتضي أن السؤال عن ذلك وقع بعد أن فرغ من الخطبة وتوجه، ورواية سفيان توهم أن ذلك وقع في الخطبة، لكن يمكن حملها على هذه الرواية، فإن لفظه: "قام خطيبا في بني إسرائيل فسئل" فتحمل على أن فيه حذفا تقديره: قام خطيبا فخطب ففرغ فتوجه فسئل، والذي يظهر أن السؤال وقع وموسى بعد لم يفارق المجلس، ويؤيده أن في منازعة ابن عباس والحر بن قيس "بينما موسى في ملأ بني إسرائيل جاءه رجل فقال: هل تعلم أحدا أعلم منك" الحديث. قوله: "هل في الأرض أحد أعلم منك؟ قال: لا" في رواية سفيان "فسئل أي الناس أعلم؟ فقال: أنا" وبين الروايتين فرق،

(8/413)


لأن رواية سفيان تقتضي الجزم بالأعلمية له ورواية الباب تنفي الأعلمية عن غيره عليه فيبقى احتمال المساواة، ويؤيد رواية الباب أن في قصة الحر بن قيس "فقال: هل تعلم أحدا أعلم منك؟ قال: لا" وفي رواية أبي إسحاق عند مسلم: "فقال: ما أعلم في الأرض رجلا خيرا وأعلم مني، فأوحى الله إليه: إني أعلم بالخير عند من هو، وإن في الأرض رجلا هو أعلم منك" وقد تقدم في كتاب العلم البحث عما يتعلق بقوله: "فعتب الله عليه" وهذا اللفظ في العلم، ووقع هنا "فعتب" بحذف الفاعل، وقوله في رواية الباب: "قيل بلى" وقع في رواية سفيان" فأوحى الله إليه: إن لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك" وفي قصة الحر بن قيس "فأوحى الله إلى موسى" بلى عبدنا خضر" وفي رواية أبي إسحاق عند مسلم: "أن في الأرض رجلا هو أعلم منك" وعند عبد بن حميد من طريق هارون بن عنترة عن أبيه عن ابن عباس "أن موسى قال: أي رب، أي عبادك أعلم؟ قال: الذي يبتغي علم الناس إلى علمه، قال: من هو وأين هو؟ قال: الخضر، تلقاه عند الصخرة" وذكر له حليته. وفي هذه القصة "وكان موسى حدث نفسه بشيء من فضل علمه أو ذكره على منبره" وتقدم في كتاب العلم شرح هذه اللفظة وبيان ما فيها من إشكال والجواب عنه مستوفى. ووقع في رواية أبي إسحاق عند النسائي: "أن من عبادي من آتيته من العلم ما لم أوتك" وهو يبين المراد أيضا. وعند عبد بن حميد من طريق أبي العالية ما يدل على أن الجواب وقع في نفس موسى قبل أن يسأل ولفظه: "لما أوتي موسى التوراة وكلمه الله وجد في نفسه أن قال من أعلم مني" ونحوه عند النسائي من وجه آخر عن ابن عباس وأن ذلك وقع في حال الخطبة ولفظه: "قام موسى خطيبا في بني إسرائيل فأبلغ في الخطبة، فعرض في نفسه أن أحدا لم يؤت من العلم ما أوتي" . قوله: "قال: أي رب فأين" في رواية سفيان "قال: يا رب فكيف لي به" وفي رواية النسائي المذكورة" قال: فادللني على هذا الرجل حتى أتعلم منه" . قوله: "اجعل لي علما" بفتح العين واللام أي علامة، وفي قصة الحر بن قيس: فجعل الله له الحوت آية" وفي رواية سفيان "فكيف لي به" وفي قصة الحر بن قيس "فسأل موسى السبيل إلى لقيه" . قوله: "أعلم ذلك به" أي المكان الذي أطلب فيه. قوله: "فقال لي عمرو" هو ابن دينار، والقائل هو ابن جريج. قوله: "قال: حيث يفارقك الحوت" يعني فهو ثم، وقع ذلك مفسرا في رواية سفيان عن عمرو قال: "تأخذ معك حوتا فتجعله في مكتل، فحيث ما فقدت الحوت فهو ثم" ونحوه في قصة الحر بن قيس ولفظه: "وقيل له إذا فقدت الحوت فارجع فإنك ستلقاه" . قوله: "وقال لي يعلى" هو ابن مسلم، والقائل أيضا هو ابن جريج. قوله: "قال: خذ حوتا" في رواية الكشميهني: "نونا" وفي رواية أبي إسحاق عند مسلم: "فقيل له تزود حوتا مالحا، فإنه حيث تفقد الحوت" ويستفاد من هذه الرواية أن الحوت كان ميتا لأنه لا يملح وهو حي، ومنه تعلم الحكمة في تخصيص الحوت دون غيره من الحيوانات لأن غيره لا يؤكل ميتا، ولا يرد الجراد لأنه قد يفقد وجوده لا سيما بمصر. قوله: "حيث ينفخ فيه الروح" هو بيان لقوله في الروايات الأخرى: "حيث تفقده" . قوله: "فأخذ حوتا فجعله في مكتل" في رواية الربيع بن أنس عند ابن أبي حاتم أنهما اصطاداه، يعني موسى وفتاه. قوله: "فقال لفتاه" في رواية سفيان "ثم انطلق وانطلق معه بفتاه" . قوله: "ما كلفت كثيرا" للأكثر بالمثلثة وللكشميهني بالموحدة. قوله. "فلذلك قوله: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ} يوشع بن نون، ليست عن سعيد" القائل ليست عن سعيد هو ابن جريج، ومراده أن تسمية الفتى ليست عنده في رواية سعيد بن جبير، ويحتمل أن يكون الذي نفاه صورة السياق لا التسمية فإنها وقعت في رواية سفيان عن عمرو بن دينار عن سعيد بن جبير ولفظه: "ثم انطلق

(8/414)


وانطلق معه فتاه يوشع بن نون" وقد تقدم بيان نسب يوشع في أحاديث الأنبياء، وأنه الذي قام في بني إسرائيل بعد موت موسى، ونقل ابن العربي أنه كان ابن أخت موسى، وعلى القول الذي نقله نوف بن فضالة من أن موسى صاحب هذه القصة ليس هو ابن عمران فلا يكون فتاه يوشع بن نون، وقد روى الطبري من طريق عكرمة قال: قيل لابن عباس: لم نسمع لفتى موسى بذكر من حين لقي الخضر، فقال ابن عباس: إن الفتى شرب من الماء الذي شرب منه الحوت فخلد، فأخذه العالم فطابق به بين لوحين ثم أرسله في البحر فإنها لتموج به إلى يوم القيامة، وذلك أنه لم يكن له أن يشرب منه. قال أبو نصر بن القشيري: إن ثبت هذا فليس هو يوشع. قلت: لم يثبت، فإن إسناده ضعيف. وزعم ابن العربي أن ظاهر القرآن يقتضي أن الفتى ليس هو يوشع، وكأنه أخذ بن لفظ الفتى أو أنه خاص بالرقيق، وليس بجيد لأن الفتى مأخوذ من الفتى وهو الشباب، وأطلق ذلك على من يخدم المرء سواء كان شابا أو شيخا، لأن الأغلب أن الخدم تكون شبانا. قوله: "فبينما هو في ظل صخرة" في رواية سفيان "حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رءوسهما فناما" . قوله: "في مكان ثريان" بمثلثة مفتوحة وراء ساكنة ثم تحتانية أي مبلول. قوله: "إذ تضرب الحوت" بضاد معجمة وتشديد وهو تفعل من الضرب في الأرض وهو السير. وفي رواية سفيان "واضطرب الحوت في المكتل فخرج منه فسقط في البحر" وفي رواية أبي إسحاق عند مسلم: "فاضطرب الحوت في الماء" ولا مغايرة بينهما، لأنه اضطرب أولا في المكتل فلما سقط في الماء اضطرب أيضا، فاضطرابه الأول فيما في مبدأ ما حيي، والثاني في سيره في البحر حيث اتخذ فيه مسلكا. وفي رواية قتيبة عن سفيان في الباب الذي يليه من الزيادة قال سفيان: وفي غير حديث عمرو "وفي أصل الصخرة عين يقال لها الحياة لا يصيب من مائها شيء إلا حيي، فأصاب الحوت من ماء تلك العين فتحرك وانسل من المكتل فدخل البحر" وحكى ابن الجوزي أن في روايته في البخاري "الحيا" بغير هاء قال: وهو ما يحيى به الناس، وهذه الزيادة التي ذكر سفيان أنها في حديث غير عمرو قد أخرجها ابن مردويه من رواية إبراهيم بن يسار عن سفيان مدرجة في حديث عمرو ولفظه: "حتى انتهينا إلى الصخرة فقال موسى عندها - أي نام - قال: وكان عند الصخرة عين ماء يقال لها: عين الحياة لا يصيب من ذلك الماء ميت إلا عاش، فقطرت من ذلك الماء على الحوت قطرة فعاش، وخرج من المكتل فسقط في البحر" وأظن أن ابن عيينة أخذ ذلك عن قتادة، فقد أخرج ابن أبي حاتم من طريقه قال: "فأتى على عين في البحر يقال لها عين الحياة، فلما أصاب تلك العين رد الله روح الحوت إليه" وقد أنكر الداودي فيما حكاه ابن التين هذه الزيادة فقال: لا أرى هذا يثبت، فإن كان محفوظا فهو من خلق الله وقدرته. قال: لكن في دخول الحوت العين دلالة على أنه كان حيي قبل دخوله، فلو كان كما في هذا الخبر لم يحتج إلى العين. قال: والله قادر على أن يحييه بغير العين انتهى. قال: ولا يخفى ضعف كلامه دعوى واستدلالا، وكأنه ظن أن الماء الذي دخل فيه الحوت هو ماء العين، وليس كذلك بل الأخبار صريحة في أن العين عند الصخرة وهي غير البحر وكأن الذي أصاب الحوت من الماء كان شيئا من رشاش، ولعل هذا العين إن ثبت النقل فيها مستند من زعم أن الخضر شرب من عين الحياة فخلد، وذلك مذكور عن وهب بن منبه وغيره ممن كان ينقل من الإسرائيليات. وقد صنف أبو جعفر بن المنادي في ذلك كتابا وقرر أنه لا يوثق بالنقل فيما يوجد من الإسرائيليات. قوله: "وموسى نائم، فقال فتاه: لا أوقظه، حتى إذا استيقظ فنسي أن يخبره" في الكلام حذف تقديره حتى إذا استيقظ سار فنسي. وأما قوله تعالى: {نَسِيَا حُوتَهُمَا} فقيل نسب

(8/415)


النسيان إليهما تغليبا، والناسي هو الفتى، نسي أن يخبر موسى كما في هذا الحديث. وقيل: بل المراد أن الفتى نسي أن يخبر موسى بقصة الحوت، ونسي موسى أن يستخبره عن شأن الحوت بعد أن استيقظ لأنه حينئذ لم يكن معه وكان بصدد أن يسأله أين هو فنسي ذلك. وقيل: بل المراد بقوله: "نسيا" أخرا، مأخوذ من النسي بكسر النون وهو التأخير، والمعنى أنهما أخرا افتقاده لعدم الاحتياج إليه، فلما احتاجا إليه ذكراه. وهو بعيد، بل صريح الآية يدل على صحة صريح الخبر، وأن الفتى اطلع على ما جرى للحوت ونسي أن يخبر موسى بذلك. ووقع عند مسلم في رواية أبي إسحاق "أن موسى تقدم فتاه لما استيقظ فسار، فقال فتاه: ألا ألحق نبي الله فأخبر، قال: فنسي أن يخبره" وذكر ابن عطية أنه رأى سمكة أحد جانبيها شوك وعظم وجلد رقيق على أحشائها ونصفها الثاني صحيح، ويذكر أهل ذلك المكان أنها من نسل حوت موسى، إشارة إلى أنه لما حيي بعد أن أكل منه استمرت فيه تلك الصفة ثم في نسله، والله أعلم. قوله: "فأمسك الله عنه جرية البحر حتى كان أثره في حجر" كذا فيه بفتح الحاء المهملة والجيم. وفي رواية جحر بضم الجيم وسكون المهملة وهو واضح. قوله: "قال لي عمرو" القائل هو ابن جريج "كأن أثره في حجر وحلق بين إبهاميه والتي" في رواية الكشميهني: "واللتين تليانهما" يعني السبابتين. وفي رواية سفيان عن عمرو "فصار عليه مثل الطاق" وهو يفسر ما أشار إليه من الصفة. وفي رواية أبي إسحاق عند مسلم: "فاضطرب الحوت في الماء فجعل لا يلتئم عليه، صار مثل الكوة" . قوله: {لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً} كذا وقع هنا مختصرا. وفي رواية سفيان "فانطلقا بقية يومهما وليلتهما حتى إذا كان من الغد قال موسى لفتاه: آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا" قال الداودي: هذه الرواية وهم. وكأنه فهم أن الفتى لم يخبر موسى إلا بعد يوم وليلة، وليس ذلك المراد بل المراد أن ابتداءها من يوم خرجا لطلبه، ويوضح ذلك ما في رواية أبي إسحاق عند مسلم: "فلما تجاوزا قال لفتاه: {آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً} قال: ولم يصبه نصب حتى تجاوزا" وفي رواية سفيان المذكورة "ولم يجد موسى النصب حتى جاوز المكان الذي أمر الله به" . قوله: "قال: قد قطع الله عنك النصب، ليست هذه عن سعيد" هو قول ابن جريج، ومراده أن هذه اللفظة ليست في الإسناد الذي ساقه. قوله: "أخره" كذا عند أبي ذر بهمزة ومعجمة وراء وهاء، ثم في نسخة منه بمد الهمزة وكسر الخاء وفتح الراء بعدها هاء ضمير أي إلى آخر الكلام وأحال ذلك على سياق الآية، وفي أخرى بفتحات وتاء تأنيث منونة منصوبة. وفي رواية غير أبي ذر "أخبره" بفتح الهمزة وسكون الخاء ثم موحدة من الإخبار، أي أخبر الفتى موسى بالقصة. ووقع في رواية سفيان "فقال له فتاه: {أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ} فساق الآية إلى "عجبا" قال: فكان للحوت سربا ولموسى عجبا" ولابن أبي حاتم من طريق قتادة قال: عجب موسى أن تسرب حوت مملح في مكتل. قوله: "فرجعا فوجدا خضرا" في رواية سفيان "فقال موسى: {ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ} أي نطلب" وفي رواية للنسائي: "هذه حاجتنا" وذكر موسى ما كان الله عهد إليه يعني في أمر الحوت. قوله: {فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً} قال: رجعا يقصان آثارهما1 "أي آثار سيرهما" حتى انتهيا إلى الصخرة(1) "زاد النسائي في رواية له" التي فعل فيها الحوت ما فعل" وهذا يدل على أن الفتى لم يخبر موسى حتى سارا زمانا، إذ لو أخبره أول ما استيقظ ما احتاجا إلى اقتصاص آثارهما. قوله:
ـــــــ
(1) في هامش طبعة بولاق: هكذا بالنسخ، وليست بالمتن هنا.

(8/416)


"فوجدا خضرا" تقدم ذكر نسبه وشرح حاله في أحاديث الأنبياء. وفي رواية سفيان "حتى انتهيا إلى الصخرة فإذا رجل" ، وزعم الداودي أن هذه الرواية وهم وأنهما إنما وجداه في جزيرة البحر. قلت: ولا مغايرة بين الروايتين، فإن المراد أنهما لما انتهيا إلى الصخرة تتبعاه إلى أن وجداه في الجزيرة. ووقع في رواية أبي إسحاق عند مسلم: "فأراه مكان الحوت فقال: هاهنا وصف لي، فذهب يلتمس فإذا هو بالخضر" . وروى ابن أبي حاتم من طريق الربيع بن أنس قال: انجاب الماء عن مسلك الحوت فصار كوة، فدخلها موسى على أثر الحوت فإذا هو بالخضر. وروى ابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس قال: فرجع موسى حتى أتى الصخرة فوجد الحوت، فجعل موسى يقدم عصاه يفرج بها عنه الماء ويتبع الحوت، وجعل الحوت لا يمس شيئا من البحر إلا يبس حتى يصير: صخرة، فجعل موسى يعجب من ذلك حتى انتهى إلى جزيرة في البحر فلقي الخضر. ولابن أبي حاتم من طريق السدي قال: بلغنا عن ابن عباس أن موسى دعا ربه ومعه ماء في سقاء يصب منه في البحر فيصير حجرا فيأخذ فيه، حتى انتهى إلى صخر فصعدها وهو يتشوف هل يرى الرجل، ثم رآه. قوله: "قال لي عثمان بن أبي سليمان: على طنفسة خضراء" القائل هو ابن جريج، وعثمان هو ابن أبي سليمان بن جبير بن مطعم وهو ممن أخذ هذا الحديث عن سعيد بن جبير، وروى عبد بن حميد من طريق ابن المبارك عن ابن جريج عن عثمان بن أبي سليمان قال: رأى موسى الخضر على طنفسة خضراء على وجه الماء انتهى. والطنفسة فرش صغير وهي بكسر الطاء والفاء بينهما نون ساكنة وبضم الطاء والفاء وبكسر الطاء وبفتح الفاء لغات. قوله: "قال سعيد بن جبير: مسجى بثوبه" هو موصول بالإسناد المذكور. وفي رواية سفيان "فإذا رجل مسجى بثوب" وفي رواية مسلم: "مسجى ثوبا مستلقيا على القفا" ولعبد بن حميد من طريق أبي العالية "فوجده نائما في جزيرة من جزائر البحر ملتفا بكساء" ولابن أبي حاتم من وجه آخر عن السدي "فرأى الخضر وعليه جبة من صوف وكساء من صوف ومعه عصا قد ألقى عليها طعامه، قال: وإنما سمي الخضر لأنه كان إذا أقام في مكان نبت العشب حوله" انتهى. وقد تقدم في أحاديث الأنبياء حديث أبي هريرة رفعه: "إنما سمي الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء فإذا هي تهتز تحته خضراء" والمراد بالفروة وجه الأرض. قوله: "فسلم عليه موسى فكشف عن وجهه" في رواية أبي إسحاق عند مسلم: "فقال: السلام عليكم، فكشف الثوب عن وجهه وقال: وعليكم السلام" . قوله: "وقال: هل بأرضي من سلام" في رواية الكشميهني: "بأرض" بالتنوين. وفي رواية سفيان "قال: وأني بأرضك السلام" وهي بمعنى أين أو كيف، وهو استفهام استبعاد يدل على أن أهل تلك الأرض لم يكونوا إذ ذاك مسلمين، ويجمع بين الروايتين بأنه استفهمه بعد أن رد عليه السلام. قوله: "من أنت؟ قال أنا موسى. قال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم" وسقط من رواية سفيان قوله: "من أنت" وفي رواية أبي إسحاق "قال: من أنت؟ قال: موسى. قال: من موسى؟ قال: موسى بني إسرائيل" ويجمع بينهما بأن الخضر أعاد ذلك تأكيدا. وأما ما أخرجه عبد بن حميد من طريق الربيع بن أنس في هذه القصة. فقال موسى: السلام عليك يا خضر، فقال: وعليك السلام يا موسى، قال: وما يدريك أني موسى؟ قال: أدراني بك الذي أدراك بي وهذا إن ثبت فهو من الحجج على أن الخضر نبي، لكن يبعد ثبوته قوله في الرواية التي في الصحيح "من أنت؟ قال: أنا موسى. قال: موسى بني إسرائيل" الحديث. قوله: "قال: فما شأنك" في رواية أبي إسحاق "قال: ما جاء بك"؟ قوله: "جئت لتعلمني مما علمت رشدا" قرأ أبو عمرو بفتحتين والباقون كلهم بضم أوله وسكون ثانيه، والجمهور على أنهما

(8/417)


بمعنى كالبخل والبخل، وقيل بفتحتين: الدين، وبضم ثم سكون: صلاح النظر. وهو منصوب على أنه مفعول ثان لتعلمني، وأبعد من قال إنه لقوله: "علمت" . قوله: "أما يكفيك أن التوراة بيديك وأن الوحي يأتيك" سقطت هذه الزيادة من رواية سفيان، فالذي يظهر أنها من رواية يعلى بن مسلم. قوله: "يا موسى إن لي علما لا ينبغي لك أن تعلمه" أي جميعه "وإن لك علما لا ينبغي لي أن أعلمه" أي جميعه، وتقدير ذلك متعين لأن الخضر كان يعرف من الحكم الظاهر ما لا غني بالمكلف عنه، وموسى كان يعرف من الحكم الباطن ما يأتيه بطريق الوحي. ووقع في رواية سفيان "يا موسى إني على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه أنت" وهو بمعنى الذي قبله، وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك في كتاب العلم. قوله في رواية سفيان "قال: إنك لن تستطيع معي صبرا" كذا أطلق بالصيغة الدالة على استمرار النفي لما أطلعه الله عليه من أن موسى لا يصبر على ترك الإنكار إذا رأى ما يخالف الشرع، لأن ذلك شأن عصمته ولذلك لم يسأله موسى عن شيء من أمور الديانة بل مشى معه ليشاهد منه ما أطلع به على منزلته في العلم الذي اختص به. وقوله: "وكيف تصبر" استفهام عن سؤال تقديره: لم قلت إني لا أصبر وأنا سأصبر، قال: كيف تصبر؟ وقوله: "ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك" قيل. استثنى في الصبر فصبر ولم يستثن في العصيان فعصاه، وفيه نظر، وكأن المراد بالصبر أنه صبر عن اتباعه والمشي معه وغير ذلك، لا الإنكار عليه فيما يخالف ظاهر الشرع. وقوله: "فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا" في رواية العوفي عن ابن عباس "حتى أبين لك شأنه" . قوله: "فأخذ طائر بمنقاره" تقدم شرحه في كتاب العلم، وظاهر هذه الرواية أن الطائر نقر في البحر عقب قول الخضر لموسى ما يتعلق بعلمهما، ورواية سفيان تقتضي أن ذلك وقع بعدما خرق السفينة، ولفظه: "كانت الأولى من موسى نسيانا" قال: "وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر في البحر نقرة فقال له الخضر إلخ" فيجمع بأن قوله فأخذ طائر بمنقاره معقب بمحذوف وهو ركوبهما السفينة لتصريح سفيان بذكر السفينة، وروى النسائي من وجه آخر عن ابن عباس أن الخضر قال لموسى: "أتدري ما يقول هذا الطائر؟ قال: لا. قال: يقول: ما علمكما الذي تعلمان في علم الله إلا مثل ما أنقص بمنقاري من جميع هذا البحر" وفي رواية هارون بن عنترة عند عبد بن حميد في هذه القصة قال: "أرسل ربك الخطاف فجعل يأخذ بمنقاره من الماء" ولابن أبي حاتم من طريق السدي قال: الخطاف ولعبد بن حميد من طريق أبي العالية قال: رأى هذا الطائر الذي يقال له النمر، ونقل بعض من تكلم على البخاري أنه الصرد. قوله: "وجدا معابر" هو تفسير لقوله: {رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ} لا أن قوله: "وجدا" جواب "إذا" لأن وجودهما المعابر كان قبل ركوبهما السفينة. ووقع في رواية سفيان "فانطلقا يمشيان على ساحل البحر، فمرا في سفينة فكلموهم أن يحملوهم" والمعابر بمهملة وموحدة جمع معبر وهي السفن الصغار، ولابن أبي حاتم من طريق الربيع بن أنس قال: "مرت بهم سفينة ذاهب فناداهم خضر" . قوله: "عرفوه فقالوا: عبد الله الصالح، قال: قلنا لسعيد بن جبير: خضر؟ قال. نعم" القائل فيما أظن يعلى بن مسلم. وفي رواية سفيان عن عمرو بن دينار "فكلموهم أن يحملوهم، فعرفوا الخضر فحملوا" . قوله: "بأجر" أي أجرة. وفي رواية سفيان "فحملوا بغير نول" بفتح النون وسكون الواو وهو الأجرة، ولابن أبي حاتم من رواية الربيع بن أنس "فناداهم خضر وبين لهم أن يعطي عن كل واحد ضعف ما حملوا به غيرهم، فقالوا لصاحبهم: إنا نرى رجالا في مكان مخوف نخشى أن يكونوا لصوصا، فقال: لأحملنهم، فإني أرى على وجوههم النور، فحملهم بغير أجرة" وذكر النقاش في تفسيره أن أصحاب السفينة

(8/418)


كانوا سبعة بكل واحد زمانة ليست في الآخر. قوله: "فخرقها ووتد فيها" بفتح الواو وتشديد المثناة أي جعل فيها وتدا. وفي رواية سفيان "فلما ركبوا في السفينة لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحا من ألواح السفينة بالقدوم" والجمع بين الروايتين أنه قلع اللوح وجعل مكانه وتدا، وعند عبد بن حميد من رواية ابن المبارك عن ابن جريج عن يعلى بن مسلم: "جاء بود حين خرقها" والود بفتح الواو وتشديد الدال لغة في الوتد. وفي رواية أبي العالية "فخرق السفينة فلم يره أحد إلا موسى، ولو رآه القوم لحالوا بينه وبين ذلك" . قوله: "لقد جئت شيئا إمرا. قال مجاهد: منكرا" هو من رواية ابن جريج عن مجاهد، وقيل لم يسمع منه، وقد أخرجه عبد بن حميد من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد مثله، وروى ابن أبي حاتم هن طريق خالد بن قيس عن قتادة في قوله: "إمرا" قال: عجبا ومن طريق أبي صخر في قوله: "إمرا" قال: عظيما. وفي رواية الربيع بن أنس عند ابن أبي حاتم "أن موسى لما رأى ذلك امتلأ غضبا وشد ثيابه وقال: أردت إهلاكهم، ستعلم أنك أول هالك. فقال له يوشع: ألا تذكر العهد؟ فأقبل عليه الخضر فقال: ألم أقل لك؟ فأدرك موسى الحلم فقال: لا تؤاخذني. وإن الخضر لما خلصوا قال لصاحب السفينة: إنما أردت الخير، فحمدوا رأيه، وأصلحها الله على يده" . قوله: "كانت الأولى نسيانا والوسطى شرطا والثالثة عمدا" في رواية سفيان قال: "وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وكانت الأولى من موسى نسيانا" ولم يذكر الباقي، وروى ابن مردويه من طريق عكرمة عن ابن عباس مرفوعا قال: "الأولى نسيان والثانية عذر والثالثة فراق" وعند ابن أبي حاتم من طريق الربيع بن أنس قال: "قال الخضر لموسى: إن عجلت علي في ثلاث فذلك حين أفارقك" وروى الفراء من وجه آخر عن أبي بن كعب قال: "لم ينس موسى، ولكنه من معاريض الكلام" وإسناده ضعيف، والأول هو المعتمد، ولو كان هذا ثابتا لاعتذر موسى عن الثانية وعن الثالثة بنحو ذلك. قوله: "لقيا غلاما" في رواية سفيان "فبينما هما يمشيان على الساحل إذ أبصر الخضر غلاما" . قوله: "فقتله" الفاء عاطفة على لقيا وجزاء الشرط قال: أقتلت، والقتل من جملة الشرط إشارة إلى أن قتل الغلام يعقب لقاءه من غير مهلة، وهو بخلاف قوله: {حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا} فإن الخرق وقع جواب الشرط لأنه تراخى عن الركوب. قوله: "قال يعلى" هو ابن مسلم وهو بالإسناد المذكور" قال سعيد "هو ابن جبير" وجد غلمانا يلعبون، فأخذ غلاما كافرا ظريفا" في رواية أخرى عن ابن جريج عند عبد بن حميد "غلاما وضيء الوجه فأضجعه ثم ذبحه بالسكين" وفي رواية سفيان "فأخذ الخضر برأسه فاقتلعه بيده فقتله" وفي روايته في الباب الذي يليه "فقطعه" ويجمع بينهما بأنه ذبحه ثم اقتلع رأسه. وفي رواية أخرى عند الطبري "فأخذ صخرة فثلغ رأسه" وهي بمثلثة ثم معجمة، والأول أصح. ويمكن أن يكون ضرب رأسه بالصخرة ثم ذبحه وقطع رأسه. قوله: "قال: أقتلت نفسا زكية بغير نفس لم تعمل الحنث" بكسر المهملة وسكون النون وآخره مثلثة، ولأبي ذر بفتح المعجمة والموحدة، وقوله: "لم تعمل" تفسير لقوله: "زكية" والتقدير: أقتلت نفسا زكية لم تعمل الحنث بغير نفس. قوله: "وابن عباس قرأها" كذا لأبي ذر ولغيره: "وكان ابن عباس يقرأها زكية" وهي قراءة الأكثر، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو زاكية، والأولى أبلغ لأن فعيلة من صيغ المبالغة. قوله: "زاكية مسلمة كقولك غلاما زاكيا" هو تفسير من الراوي، ويشير إلى القراءتين، أي أن قراءة ابن عباس بصيغة المبالغة والقراءة الأخرى باسم الفاعل بمعني مسلمة، وإنما أطلق ذلك على موسى على حسب ظاهر حال الغلام، لكن اختلف في ضبط "مسلمة" فالأكثر بسكون السين وكسر اللام، ولبعضهم بفتح السين

(8/419)


وتشديد اللام المفتوحة، وزاد سفيان في روايته هنا {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} قال: وهذه أشد من الأولى، زاد مسلم من رواية أبي إسحاق عن سعيد بن جبير في هذه القصة" فقال النبي صلى الله عليه وسلم: رحمة الله علينا وعلى موسى، لولا أنه عجل لرأى العجب، ولكنه أخذته ذمامة من صاحبه فقال: إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني" ولابن مردويه من طريق عبد الله بن عبيد بن عمير عن سعيد بن جبير "فاستحيا عند ذلك موسى وقال: إن سألتك عن شيء بعدها" وهذه الزيادة وقع مثلها في رواية عمرو بن دينار من رواية سفيان في آخر الحديث: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وددنا أن موسى صبر حني يقص الله علينا من أمرهما" زاد الإسماعيلي من طريق عثمان بن أبي شيبة عن سفيان "أكثر مما قص" قوله: "فانطلقا فوجدا جدارا" في رواية سفيان "فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية" وفي رواية أبي إسحاق عند مسلم: "أهل قرية لئاما. فطافا في المجالس فاستطعما أهلها" قيل هي الأبلة وقيل إنطاكية وقيل أذربيجان وقيل برقة وقيل ناصرة وقيل جزيرة الأندلس، وهذا الاختلاف قريب من الاختلاف في المراد بمجمع البحرين، وشدة المباينة في ذلك تقتضي أن لا يوثق بشيء من ذلك. قوله: "قال سعيد بيده هكذا ورفع يده فاستقام" هو من رواية ابن جريج عن عمرو بن دينار عن سعيد، ولهذا قال بعده "قال يعلى هو ابن مسلم حسبت أن سعيدا قال: فمسحه بيده فاستقام" وفي رواية سفيان "فوجدا جدارا يريد أن ينقض - قال مائل - فقال الخضر بيده فأقامه" وذكر الثعلبي أن عرض ذلك الجدار كان خمسين ذراعا في مائة ذراع بذراعهم. قوله: "قال: لو شئت لاتخذت عليه أجرا، قال سعيد: أجرا نأكله" زاد سفيان في روايته: "فقال موسى: قوم أتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيفونا، لو شئت لاتخذت عليه أجرا" وفي رواية أبي إسحاق "قال: هذا فراق بيني وبينك، فأخذ موسى بطرف ثوبه فقال: حدثني" وذكر الثعلبي أن الخضر قال لموسى: أتلومني على خرق السفينة وقتل الغلام وإقامة الجدار، ونسيت نفسك حين ألقيت في البحر، وحين قتلت القبطي، وحين سقيت أغنام ابنتي شعيب احتسابا. قوله: "وكان وراءهم ملك، وكان أمامهم، قرأها ابن عباس أمامهم ملك" وفي رواية سفيان "وكان ابن عباس يقرأ: وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصبا" وقد تقدم الكلام في "وراء" في تفسير إبراهيم. قوله: "يزعمون عن غير سعيد أنه هدد بن بدد" القائل ذلك هو ابن جريج، ومراده أن تسمية الملك الذي كان يأخذ السفن لم تقع في رواية سعيد. قلت: وقد عزاه ابن خالويه في "كتاب ليس" لمجاهد؛ قال: وزعم ابن دريد أن هدد اسم ملك من ملوك حمير زوجه سليمان بن داود بلقيس. قلت: إن ثبت هذا حمل على التعدد والاشتراك في الاسم لبعد ما بين مدة موسى وسليمان، وهدد في الروايات بضم الهاء وحكى ابن الأثير فتحها والدال مفتوحة اتفاقا، ووقع عند ابن مردويه بالميم بدل الهاء، وأبوه بدد بفتح الموحدة، وجاء في "تفسير مقاتل" أن اسمه منولة بن الجلندي بن سعيد الأزدي، وقيل: هو الجلندي وكان بجزيرة الأندلس. قوله: "الغلام المقتول اسمه يزعمون حيسور" القائل ذلك هو ابن جريج، وحيسور في رواية أبي ذر عن الكشميهني بفتح المهملة أوله ثم تحتانية ساكنة ثم مهملة مضمومة وكذا في رواية ابن السكن، وفي روايته عن غيره بجيم أوله، وعند القابسي بنون بدل التحتانية، وعند عبدوس بنون بدل الراء، وذكر السهيلي أنه رآه في نسخة بفتح المهملة والوحدة ونونين الأولى مضمومة بينهما الواو الساكنة، وعند الطبري من طريق شعيب الجبائي كالقابسي، وفي "تفسير الضحاك بن مزاحم" اسمه حشرد، ووقع في تفسير الكلبي اسم الغلام شمعون. قوله: {مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} في رواية النسائي: "وكان

(8/420)


أبي يقرأ يأخذ كل سفينة صالحة غصبا" وفي رواية إبراهيم بن يسار عن سفيان "وكان ابن مسعود يقرأ كل سفينة صحيحة غصبا" . قوله: "فأردت إذا هي مرت به أن يدعها لعيبها" في رواية النسائي: "فأردت أن أعيبها حتى لا يأخذها" . قوله: "فإذا جاوزوا أصلحوها فانتفعوا بها" في رواية النسائي: "فإذا جاوزوه رقعوها فانتفعوا بها وبقيت لهم" . قوله: "ومنهم من يقول سدوها بقارورة، ومنهم من يقول بالقار" أما القار فهو بالقاف وهو الزفت، وأما قارورة فضبطت في الروايات بالقاف، لكن في رواية ابن مردويه ما يدل على أنها بالفاء لأنه وقع في روايته: "ثارورة" بالمثلثة والمثلثة تقع في موضع الفاء في كثير من الأسماء ولا تقع بدل القاف، قال الجوهري: يقال فار فورة مثل ثار ثورة، فإن كان محفوظا فلعله فاعولة من ثوران القدر الذي يغلي فيها القار أو غيره، وقد وجهت رواية القارورة بالقاف بأنها فاعولة من القار، وأما التي من الزجاج فلا يمكن السد بها، وجوز الكرماني احتمال أن يسحق الزجاج ويلت بشيء ويلصق به ولا يخفى بعده، ووقع في رواية مسلم: "وأصلحوها بخشبة" ولا إشكال فيها. قوله: "كان أبواه مؤمنين وكان كافرا" يعني الغلام المقتول، في رواية سفيان "وأما الغلام فطبع يوم طبع كافرا، وكان أبواه قد عطفا عليه" وفي "المبتدأ لوهب بن منبه" كان اسم أبيه ملاس واسم أمه رحما، وقيل اسم أبيه كاردي واسم أمه سهوى. قوله: {فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً} : أن يحملها حبه على أن يتابعاه على دينه" هذا من تفسير ابن جريج عن يعلى بن مسلم عن سعيد بن جبير. وأخرج ابن المنذر من طريق سالم الأفطس عن سعيد بن جبير مثله. وقال أبو عبيدة في قوله: {يُرْهِقَهُمَا} أي يغشاهما. قوله: {خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً} لقوله: {أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً} يعني أن قوله زكاة ذكر للمناسبة المذكورة. وروى ابن المنذر من طريق حجاج بن محمد عن ابن جريج في قوله: {خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً} قال: إسلاما. ومن طريق عطية العوفي قال: دينا. قوله: "وأقرب رحما هما به أرحم منهما بالأول الذي قتل خضر" وروى ابن المنذر من طريق إدريس الأودي عن عطية نحوه. وعن الأصمعي قال: الرحم بكسر الحاء القرابة، وبسكونها فرج الأنثى، وبضم الراء ثم السكون الرحمة. وعن أبي عبيد القاسم بن سلام: الرحم والرحم - يعني بالضم والفتح مع السكون فيهما - بمعني، وهو مثل العمر والعمر، وسيأتي قوله: "رحما" في الباب الذي بعده أيضا. قوله: "وزعم غير سعيد أنهما أبدلا جارية" هو قول ابن جريج، وروى ابن مردويه من وجه آخر عن ابن جريج قال. وقال يعلى بن مسلم أيضا عن سعيد بن جبير: إنها جارية. وفي رواية الإسماعيلي من هذا الوجه، قال: ويقال أيضا عن سعيد بن جبير: إنها جارية. وللنسائي من طريق أبي إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس "فأبدلهما ربهما خيرا منه زكاة قال: أبدلهما جارية فولدت نبيا من الأنبياء" وللطبري من طريق عمرو بن قيس نحوه، ولابن المنذر من طريق بسطام بن حميل قال: أبدلهما مكان الغلام جارية ولدت نبيين، ولعبد بن حميد من طريق الحكم بن أبان عن عكرمة: ولدت جارية، ولابن أبي حاتم من طريق السدي قال: ولدت جارية فولدت نبيا، وهو الذي كان بعد موسى فقالوا له: ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله، واسم هذا النبي شمعون، واسم أمه حنة. وعند ابن مردويه من حديث أبي بن كعب أنها ولدت غلاما، لكن إسناده ضعيف. وأخرجه ابن المنذر بإسناد حسن عن عكرمة عن ابن عباس نحوه. وفي تفسير ابن الكلبي: ولدت جارية ولدت عدة أنبياء فهدى الله بهم أمما. وقيل عدة من جاء من ولدها من الأنبياء سبعون نبيا. قوله: "وأما داود بن أبي عاصم فقال عن غير واحد: إنها جارية" هو قول ابن جريج أيضا. وروى الطبري من طريق حجاج

(8/421)


بن محمد عن ابن جريج أخبرني إسماعيل بن أمية عن يعقوب بن عاصم أنهما أبدلا جارية. قال: وأخبرني عبد الله بن عثمان بن خثيم عن سعيد بن جبير: أنها جارية. قال ابن جريج: وبلغني أن أمه يوم قتل كانت حبلى بغلام. ويعقوب بن عاصم هو أخو داود وهما ابنا عاصم بن عروة بن مسعود الثقفي وكل منهما ثقة من صغار التابعين. وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدم: استحباب الحرص على الازدياد من العلم، - والرحلة فيه، ولقاء المشايخ وتجشم المشاق في ذلك، والاستعانة في ذلك بالأتباع، وإطلاق الفتى على التابع، واستخدام الحر، وطواعية الخادم لمخدومه وعذر الناسي، وقبول الهبة من غير المسلم. واستدل به على أن الخضر نبي لعدة معان قد نبهت عليها فيما تقدم كقوله: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} وكاتباع موسى رسول الله له ليتعلم منه، وكإطلاق أنه أعلم منه، وكإقدامه على قتل النفس لما شرحه بعد وغير ذلك. وأما من استدل به على جواز دفع أغلظ الضررين بأخفهما، والإغضاء على بعض المنكرات مخافة إن يتولد منه ما هو أشد، وإفساد بعض المال لإصلاح معظمه كخصاء البهيمة للسمن وقطع أذنها لتتميز، ومن هذا مصالحة ولي اليتيم السلطان على بعض مال اليتيم خشية ذهابه بجميعه فصحيح، لكن فيما لا يعارض منصوص الشرع، فلا يسوغ الأقدام على قتل النفس ممن يتوقع منه أن يقتل أنفسا كثيرة قبل أن يتعاطى شيئا من ذلك. وإنما فعل الخضر ذلك لاطلاع الله تعالى عليه. وقال ابن بطال: قول الخضر: وأما الغلام فكان كافرا هو باعتبار ما يؤول إليه أمره أن لو عاش حتى يبلغ، واستحباب مثل هذا القتل لا يعلمه إلا الله، ولله أن يحكم في خلقه بما يشاء قبل البلوغ وبعده انتهى. ويحتمل أن يكون جواز تكليف المميز قبل أن يبلغ كان في تلك الشريعة فيرتفع الإشكال. وفيه جواز الإخبار بالتعب ويلحق به الألم من مرضى ونحوه، ومحل ذلك إذا كان على غير سخط من المقدور، وفيه أن المتوجه إلى ربه يعان فلا يسرع إليه النصب والجوع، بخلاف المتوجه إلى غيره كما في قصة موسى في توجهه إلى ميقات ربه وذلك في طاعة ربه فلم ينقل عنه أنه تعب ولا طلب غداء ولا رافق أحدا، وأما في توجهه إلى مدين فكان في حاجة نفسه فأصابه الجوع، وفي توجهه إلى الخضر لحاجة نفسه أيضا فتعب وجاع. وفيه جواز طلب القوت وطلب الضيافة، وفيه قيام العذر بالمرة الواحدة وقيام الحجة بالثانية، قال ابن عطية: يشبه أن يكون هذا أصل مالك في ضرب الآجال في الأحكام إلى ثلاثة أيام، وفي التلوم ونحو ذلك. وفيه حسن الأدب مع الله وأن لا يضاف إليه ما يستهجن لفظه وإن كان الكل بتقديره وخلقه لقول الخضر عن السفينة {أَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} وعن الجدار "فأراد ربك" ومثل هذا قوله صلى الله عليه وسلم: "والخير بيدك، والشر ليس إليك" .

(8/422)


4- باب {فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} إلى قوله {قَصَصًا} صُنْعًا عَمَلاً حِوَلاً تَحَوُّلاً قَالَ {ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} إِمْرًا وَ نُكْراً دَاهِيَةً يَنْقَضَّ يَنْقَاضُ كَمَا تَنْقَاضُ السِّنُّ لَتَخِذْتَ وَاتَّخَذْتَ وَاحِدٌ رُحْمًا مِنْ الرُّحْمِ وَهِيَ أَشَدُّ مُبَالَغَةً مِنْ الرَّحْمَةِ وَنَظُنُّ أَنَّهُ مِنْ الرَّحِيمِ وَتُدْعَى مَكَّةُ أُمَّ رُحْمٍ أَيْ الرَّحْمَةُ تَنْزِلُ بِهَا

(8/422)


باب {قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ}
4727- حدثني قتيبة بن سعيد قال حدثني سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن سعيد بن جبير قال

(8/422)


5- باب {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً}
4728- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ سَأَلْتُ أَبِي {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً} هُمْ الْحَرُورِيَّةُ قَالَ لاَ هُمْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى أَمَّا الْيَهُودُ فَكَذَّبُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَّا النَّصَارَى فَكَفَرُوا بِالْجَنَّةِ وَقَالُوا لاَ طَعَامَ فِيهَا وَلاَ شَرَابَ وَالْحَرُورِيَّةُ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَكَانَ سَعْدٌ يُسَمِّيهِمْ الْفَاسِقِينَ
قوله: "باب {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً} ذكر فيه حديث مصعب بن سعد" سألت أبي - يعني سعد بن أبي وقاص - عن هذه الآية" وهذا الحديث رواه جماعة من أهل الكوفة عن مصعب بن سعد بألفاظ مختلفة ننبه على ما تيسر منها، ووقع في رواية يزيد بن هارون عن شعبة بهذا الإسناد عند النسائي: "سأل رجل أبي" فكأن الراوي نسي اسم السائل فأبهمه، وقد تبين من رواية غيره أنه مصعب راوي الحديث. قوله: "هم الحرورية"؟ بفتح المهملة وضم الراء نسبة إلى حروراء وهي القرية التي كان ابتداء خروج الخوارج على علي منها، ولابن مردويه من طريق حصين بن مصعب "لما خرجت الحرورية قلت لأبي: أهؤلاء الذين أنزل الله فيهم"؟ وله من طريق القاسم بن أبي بزة عن أبي الطفيل عن علي في هذه الآية قال: "أظن أن بعضهم الحرورية" وللحاكم من وجه آخر عن أبي الطفيل قال: "قال علي منهم أصحاب النهروان" وذلك قبل أن يخرجوا. وأصله عند عبد الرزاق بلفظ: "قام ابن الكواء إلى علي فقال: ما الأخسرين أعمالا؟ قال: ويلك، منهم أهل حروراء" ولعل هذا هو السبب في سؤال مصعب أباه عن ذلك، وليس الذي قاله علي ببعيد، لأن اللفظ يتناوله وإن كان السبب مخصوصا. قوله: "قال: لا هم اليهود والنصارى" وللحاكم "قال: لا، أولئك أصحاب الصوامع" ولابن أبي حاتم من طريق هلال بن يساف عن مصعب "هم أصحاب الصوامع" وله من طريق أبي خميصة بفتح المعجمة وبالصاد المهملة واسمه عبيد الله بن قيس قال: "هم الرهبان الذين حبسوا أنفسهم في السواري" . قوله: "وأما النصارى كفروا بالجنة وقالوا: ليس فيها طعام ولا شراب"

(8/425)


في رواية ابن أبي حاتم من طريق عمرو بن مرة عن مصعب قال: "هم عباد النصارى قالوا: ليس في الجنة طعام ولا شراب" . قوله: "والحرورية الذين ينقضون إلخ" في رواية النسائي: "والحرورية الذين قال الله:"ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل - إلى - الفاسقين "قال يزيد: هكذا حفظت. قلت: وهو غلط منه أو ممن حفظه عنه، وكذا وقع عند ابن مردويه" أولئك هم الفاسقون "والصواب "الخاسرون" ووقع على الصواب كذلك في رواية الحاكم. قوله: "وكان سعد يسميهم الفاسقين" لعل هذا السبب في الغلط المذكور. وفي رواية للحاكم "الخوارج قوم زاغوا فأزاغ الله قلوبهم" وهذه الآية هي التي آخرها الفاسقين فلعل الاختصار اقتضى ذلك الغلط، وكأن سعدا ذكر الآيتين معا التي في البقرة والتي في الصف، وقد روى ابن مردويه من طريق أبي عون عن مصعب قال: "نظر رجل من الخوارج إلى سعد فقال: هذا من أئمة الكفر، فقال له سعد: كذبت، أنا قاتلت أئمة الكفر. فقال له آخر: هذا من الأخسرين أعمالا، فقال له سعد: كذبت، أولئك الذين كفروا بآيات ربهم الآية" قال ابن الجوزي: وجه خسرانهم أنهم تعبدوا على غير أصل، فابتدعوا، فخسروا الأعمار والأعمال

(8/426)


6- باب {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} الْآيَةَ
4729- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ أَخْبَرَنَا الْمُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّهُ لَيَأْتِي الرَّجُلُ الْعَظِيمُ السَّمِينُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لاَ يَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ وَقَالَ اقْرَءُوا {فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} وَعَنْ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ مِثْلَه"
قوله: "باب {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ} الآية" تقدم من حديث سعد بن أبي وقاص في الذي قبله بيان أنها نزلت في الأخسرين أعمالا. قوله: "حدثنا محمد بن عبد الله" هو الذهلي نسبة إلى جد أبيه، وقوله: "حدثنا سعيد بن أبي مريم" هو شيخ البخاري، أكثر عنه في هذا الكتاب، وربما حدث عنه بواسطة كما هنا. قوله: "الرجل العظيم السمين" في رواية ابن مردويه من وجه آخر عن أبي هريرة "الطويل العظيم الأكول الشروب" . قوله: "وقال: اقرأوا فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا" القائل يحتمل أن يكون الصحابي، أو هو مرفوع من بقية الحديث. قوله: "وعن يحيي بن بكير" هو معطوف على سعيد بن أبي مريم، والتقدير حدثنا محمد بن عبد الله عن سعيد بن أبي مريم وعن يحيى بن بكير، وبهذا جزم أبو مسعود، ويحيى بن بكير هو ابن عبد الله بن بكير، نسب لجده، وهو من شيوخ البخاري أيضا، وربما أدخل بينهما واسطة كهذا، وجوز غير أبي مسعود أن تكون طريق يحيى هذه معلقة، وقد وصلها مسلم عن محمد بن إسحاق الصغاني عنه.

(8/426)


19- سورة كهيعص
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} اللَّهُ يَقُولُهُ وَهُمْ الْيَوْمَ لاَ يَسْمَعُونَ وَلاَ يُبْصِرُونَ {فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ} يَعْنِي قَوْلَهُ: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} الْكُفَّارُ يَوْمَئِذٍ أَسْمَعُ شَيْءٍ وَأَبْصَرُهُ {لاَرْجُمَنَّكَ} لاَشْتِمَنَّكَ {وَرِئْيًا}

(8/426)


1- باب {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ}
4730- حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يُؤْتَى بِالْمَوْتِ كَهَيْئَةِ كَبْشٍ أَمْلَحَ فَيُنَادِي مُنَادٍ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ فَيَقُولُ هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا فَيَقُولُونَ نَعَمْ هَذَا الْمَوْتُ وَكُلُّهُمْ قَدْ رَآهُ ثُمَّ يُنَادِي يَا أَهْلَ النَّارِ فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ فَيَقُولُ هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا فَيَقُولُونَ نَعَمْ هَذَا الْمَوْتُ وَكُلُّهُمْ قَدْ رَآهُ فَيُذْبَحُ ثُمَّ يَقُولُ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ خُلُودٌ فَلاَ مَوْتَ وَيَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ فَلاَ مَوْتَ ثُمَّ قَرَأَ {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ} وَهَؤُلاَءِ فِي غَفْلَةٍ أَهْلُ الدُّنْيَا {وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُون} "
قوله: "باب قوله عز وجل: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ} ذكر فيه حديث أبي سعيد في ذبح الموت، وسيأتي في الرقاق مشروحا، وقوله فيه: "فيشرئبون" بمعجمة وراء مفتوحة ثم همزة مكسورة ثم موحدة ثقيلة مضمومة أي يمدون أعناقهم ينظرون. وقوله: "أملح" قال القرطبي: الحكمة في ذلك أن يجمع بين صفتي أهل الجنة والنار السواد والبياض. قوله: "ثم قرأ وأنذرهم" في رواية سعيد بن منصور عن أبي معاوية عن الأعمش في آخر الحديث: "ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم" فيستفاد منه انتفاء الإدراج. وللترمذي من وجه آخر عن الأعمش في أول الحديث: "قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأنذرهم يوم الحسرة، فقال: يؤتى بالموت إلخ" .

(8/428)


2- باب {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ}
4731- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ ذَرٍّ قَالَ سَمِعْتُ أَبِي عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لِجِبْرِيلَ: "مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَزُورَنَا أَكْثَرَ مِمَّا تَزُورُنَا" فَنَزَلَتْ {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ

(8/428)


3- باب {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لاَوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا}
4732- حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ سَمِعْتُ خَبَّاباً قَالَ جِئْتُ الْعَاصَ بْنَ وَائِلٍ السَّهْمِيَّ أَتَقَاضَاهُ حَقّاً لِي عِنْدَهُ فَقَالَ لاَ أُعْطِيكَ حَتَّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ لاَ حَتَّى تَمُوتَ ثُمَّ تُبْعَثَ قَالَ وَإِنِّي لَمَيِّتٌ ثُمَّ مَبْعُوثٌ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ إِنَّ لِي هُنَاكَ مَالاً وَوَلَداً فَأَقْضِيكَهُ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا} رَوَاهُ الثَّوْرِيُّ وَشُعْبَةُ وَحَفْصٌ وَأَبُو مُعَاوِيَةَ وَوَكِيعٌ عَنْ الأَعْمَشِ
قوله: "باب قوله: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لاَوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا} قراءة الأكثر بفتحتين، والكوفيين سوى عاصم بضم ثم سكون، قال الطبري: لعلهم أرادوا التفرقة بين الواحد والجمع، لكن قراءة الفتح أشمل وهي أعجب إلي. قوله: "عن الأعمش عن أبي الضحى" كذا رواه بشر بن موسى وغير واحد عن الحميدي، وأخرجه ابن مردويه من وجه آخر عن الحميدي بهذا الإسناد فقال: "عن أبي وائل" بدل أبي الضحى والأول أصوب، وشذ حماد بن شعيب فقال أيضا عن الأعمش عن أبي وائل، وأخرجه ابن مردويه أيضا. قوله: "جئت العاص بن وائل السهمي" هو والد عمرو بن العاص الصحابي المشهور، وكان له قدر في الجاهلية ولم يوفق للإسلام، قال ابن الكلبي: كان من حكام قريش، وقد تقدم في ترجمة عمر بن الخطاب أنه أجار عمر بن الخطاب حين أسلم.

(8/429)


وقد أخرج الزبير بن بكار هذه القصة مطولة وفيها "أن العاص بن وائل قال: رجل اختار لنفسه أمرا، فما لكم وله؟ فرد المشركين عنه" وكان موته بمكة قبل الهجرة، وهو أحد المستهزئين. قال عبد الله بن عمرو: سمعت أبي يقول: عاش أبي خمسا وثمانين، وإنه ليركب حمارا إلى الطائف فيمشي عنه أكثر مما يركب، ويقال أن حماره رماه على شوكة أصابت رجله فانتفخت فمات منها. قوله: "أتقاضاه حقا لي عنده" بين في الرواية التي بعده هذه أنه أجره سيفا عمله له. وقال فيها: "كنت قينا" وهو بفتح القاف وسكون التحتانية بعدها نون وهو الحداد، ولأحمد من وجه آخر عن الأعمش "فاجتمعت لي عند العاص بن وائل دراهم" . قوله: "فقلت لا" أي لا أكفر. قوله: "حتى تموت ثم تبعث" مفهومه أنه يكفر حينئذ لكنه لم يرد ذلك لأن الكفر حينئذ لا يتصور، فكأنه قال: لا أكفر أبدا. والنكتة في تعبيره بالبعث تعيير العاص بأنه لا يؤمن به، وبهذا التقرير يندفع إيراد من استشكل قوله هذا فقال: علق الكفر، ومن علق الكفر كفر، وأجاب بأنه خاطب العاص بما ينتقده فعلق على ما يستحيل بزعمه، والتقرير الأول يغني عن هذا الجواب. قوله: "فأقضيك، فنزلت" زاد ابن مردويه من وجه آخر عن الأعمش "فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت" . قوله: "رواه الثوري وشعبة وحفص وأبو معاوية ووكيع عن الأعمش" أما رواية الثوري فوصلها بعد هذا، وكذا رواية شعبة ووكيع، وأما رواية حفص وهو ابن غياث فوصلها في الإجارة، وأما رواية أبي معاوية فوصلها أحمد قال: "حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش به - وفيه - قال: فإني إذا مت ثم بعثت جئتني ولي ثم مال وولد فأعطيك، فأنزل الله: {أفرأيت الذي كفر بآياتتا} - إلى قوله: {يَأْتِينَا فَرْداً} وأخرجه مسلم والترمذي والنسائي من رواية أبي معاوية.

(8/430)


4- باب {أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمْ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً} قَالَ مَوْثِقاً
4733- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ خَبَّابٍ قَالَ كُنْتُ قَيْنًا بِمَكَّةَ فَعَمِلْتُ لِلْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ السَّهْمِيِّ سَيْفًا فَجِئْتُ أَتَقَاضَاهُ فَقَالَ لاَ أُعْطِيكَ حَتَّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ قُلْتُ لاَ أَكْفُرُ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى يُمِيتَكَ اللَّهُ ثُمَّ يُحْيِيَكَ قَالَ إِذَا أَمَاتَنِي اللَّهُ ثُمَّ بَعَثَنِي وَلِي مَالٌ وَوَلَدٌ فَأَنْزَلَ اللَّهُ {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لاَوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمْ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} قَالَ مَوْثِقًا لَمْ يَقُلْ الأَشْجَعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ سَيْفًا وَلاَ مَوْثِقًا
قوله: "باب {أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمْ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} قال: موثقا" سقط قوله. "موثقا" من رواية أبي ذر، وساق المؤلف الحديث من رواية الثوري وقال في آخره: {أَمْ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} ، قال: موثقا" وكذا أخرجه ابن أبي حاتم عن أبيه عن محمد بن كثير شيخ البخاري فيه. قوله: "لم يقل الأشجعي عن سفيان سيفا ولا موثقا" هو كذلك في تفسير الثوري رواية الأشجعي عنه.

(8/430)


5- باب {كَلاَ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنْ الْعَذَابِ مَدًّا}
4734- حدثنا بشر بن خالد حدثنا محمد بن جعفر عن شعبة عن سليمان سمعت أبا الضحى يحدث عن

(8/430)


6- باب قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا} وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {الْجِبَالُ هَدًّا} هَدْمًا
4735- حدثنا يحيى حدثنا وكيع عن الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق عن خباب قال ثم كنت رجلا قينا وكان لي على العاصي بن وائل دين فأتيته أتقاضاه فقال لي لا أقضيك حتى تكفر بمحمد قال قلت لن أكفر به حتى تموت ثم تبعث قال وإني لمبعوث من بعد الموت فسوف أقضيك إذا رجعت إلى مال وولد قال فنزلت {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداًأَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً كَلاَّ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدّاً وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا} "
قوله: "باب {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا} ساق فيه الحديث المذكور من رواية وكيع وسياقه أتم كسياق أبي معاوية، ويحيى شيخه هو ابن موسى، ويؤخذ من هذا السياق الجواب عن إيراد المصنف الآيات المذكورة في هذه الأبواب مع أن القصة واحدة، فكأنه أشار إلى أنها كلها نزلت في هذه القصة بدليل هذه الرواية وما وافقها. قوله في الترجمة" وقال ابن عباس: هدا هدما "وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عنه.

(8/431)


20- سورة طه
قَالَ عِكْرِمَةُ وَالضَّحَّاكُ بِالنَّبَطِيَّةِ أَيْ طَهْ يَا رَجُلُ يُقَالُ كُلُّ مَا لَمْ يَنْطِقْ بِحَرْفٍ أَوْ فِيهِ تَمْتَمَةٌ أَوْ فَأْفَأَةٌ فَهِيَ عُقْدَةٌ وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَلْقَى صَنَعَ {أَزْرِي} ظَهْرِي {فَيَسْحَتَكُمْ} يُهْلِكَكُمْ {الْمُثْلَى} تَأْنِيثُ الأَمْثَلِ يَقُولُ بِدِينِكُمْ يُقَالُ خُذْ الْمُثْلَى خُذْ الأَمْثَلَ {ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا} يُقَالُ هَلْ أَتَيْتَ الصَّفَّ الْيَوْمَ يَعْنِي الْمُصَلَّى الَّذِي يُصَلَّى فِيهِ {فَأَوْجَسَ} فِي نَفْسِهِ خَوْفًا فَذَهَبَتْ الْوَاوُ مِنْ {خِيفَةً} لِكَسْرَةِ الْخَاءِ {فِي جُذُوعِ} أَيْ عَلَى جُذُوعِ النَّخْلِ {خَطْبُكَ} بَالُكَ {مِسَاسَ} مَصْدَرُ مَاسَّهُ مِسَاسًا {لَنَنْسِفَنَّهُ} لَنَذْرِيَنَّهُ {قَاعًا} يَعْلُوهُ الْمَاءُ وَالصَّفْصَفُ الْمُسْتَوِي مِنْ الأَرْضِ وَقَالَ مُجَاهِدٌ {أَوْزَارًا} أَثْقَالًا {مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ} وَهِيَ الْحُلِيُّ الَّتِي اسْتَعَارُوا مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ وَهِيَ الأَثْقَالُ {فَقَذَفْتُهَا} فَأَلْقَيْتُهَا {أَلْقَى} صَنَعَ

(8/431)


1- باب {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي}
4736- حَدَّثَنَا الصَّلْتُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا مَهْدِيُّ بْنُ مَيْمُونٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْتَقَى آدَمُ وَمُوسَى فَقَالَ مُوسَى لآدَمَ آنْتَ الَّذِي أَشْقَيْتَ النَّاسَ وَأَخْرَجْتَهُمْ مِنْ الْجَنَّةِ قَالَ آدَمُ أَنْتَ مُوسَى الَّذِي اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِرِسَالَتِهِ وَاصْطَفَاكَ لِنَفْسِهِ وَأَنْزَلَ عَلَيْكَ التَّوْرَاةَ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَوَجَدْتَهَا كُتِبَ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي قَالَ نَعَمْ فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى" الْيَمُّ الْبَحْرُ
قوله: "باب {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} وقع في رواية أبي أحمد الجرجاني "واصطفيتك" وهو تصحيف، ولعلها ذكرت على سبيل التفسير؛ حديث أبي هريرة في محاجة موسى وآدم عليهما السلام وسيأتي شرحه في كتاب القدر.

(8/434)


2- باب {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لاَ تَخَافُ دَرَكًا وَلاَ تَخْشَى فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنْ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى}
4737- حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا رَوْحٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا أَبُو بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ وَالْيَهُودُ تَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ فَسَأَلَهُمْ فَقَالُوا هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي ظَهَرَ فِيهِ مُوسَى عَلَى فِرْعَوْنَ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: " نَحْنُ أَوْلَى بِمُوسَى مِنْهُمْ فَصُومُوه"
قوله: "باب {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى} إلخ" وقع عند غير أبي ذر " {أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى} " وهو خلاف التلاوة. قوله: "اليم البحر" وصله ابن أبي حاتم من طريق أسباط بن نصر عن السدي ابن عباس في صيام عاشوراء، وقد سبق شرحه في كتاب الصيام مستوفى.

(8/434)


3- باب {فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنْ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى}
4738- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ بْنُ النَّجَّارِ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ

(8/434)


21- سُورَةُ الأَنْبِيَاءِ
4739- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ يَزِيدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَالْكَهْفُ وَمَرْيَمُ وَطه وَالأَنْبِيَاءُ هُنَّ مِنْ الْعِتَاقِ الأُوَلِ وَهُنَّ مِنْ تِلاَدِي وَقَالَ قَتَادَةُ {جُذَاذاً} قَطَّعَهُنَّ وَقَالَ الْحَسَنُ {فِي فَلَكٍ} مِثْلِ فَلْكَةِ الْمِغْزَلِ {يَسْبَحُونَ} يَدُورُونَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {نَفَشَتْ} رَعَتْ لَيْلاً {يُصْحَبُونَ} يُمْنَعُونَ {أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} قَالَ دِينُكُمْ دِينٌ وَاحِدٌ وَقَالَ عِكْرِمَةُ {حَصَبُ} حَطَبُ بِالْحَبَشِيَّةِ وَقَالَ غَيْرُهُ {أَحَسُّوا} تَوَقَّعُوا مِنْ أَحْسَسْتُ {خَامِدِينَ} هَامِدِينَ وَالْحَصِيدُ مُسْتَأْصَلٌ يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالاثْنَيْنِ وَالْجَمِيعِ {لاَ يَسْتَحْسِرُونَ} لاَ يُعْيُونَ وَمِنْهُ حَسِيرٌ وَحَسَرْتُ بَعِيرِي عَمِيقٌ بَعِيدٌ {نُكِّسُوا} رُدُّوا {صَنْعَةَ لَبُوسٍ} الدُّرُوعُ {تَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ} اخْتَلَفُوا الْحَسِيسُ وَالْحِسُّ وَالْجَرْسُ وَالْهَمْسُ وَاحِدٌ وَهُوَ مِنْ الصَّوْتِ الْخَفِيِّ {آذَنَّاكَ} أَعْلَمْنَاكَ آذَنْتُكُمْ إِذَا أَعْلَمْتَهُ فَأَنْتَ وَهُوَ عَلَى سَوَاءٍ لَمْ تَغْدِرْ وَقَالَ مُجَاهِدٌ {لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ} تُفْهَمُونَ ارْتَضَى رَضِيَ التَّمَاثِيلُ الأَصْنَامُ السِّجِلُّ الصَّحِيفَة"
قوله: "سورة الأنبياء - بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ذكر فيه حديث ابن مسعود قال: بني إسرائيل كذا فيه، وزعم بعض الشراح أنه وهم وليس كذلك بل له وجه وهو أن الأصل سورة بني إسرائيل فحذف المضاف وبقي المضاف إليه على هيئته، ثم وجدت في رواية الإسماعيلي: "سمعت ابن مسعود يقول في بني إسرائيل إلخ" وقد تقدم شرحه مستوفى في تفسير سبحان، وزاد في هذه الرواية ما لم يذكره في تلك، وحاصله أنه ذكر خمس سور متوالية، ومقتضى ذلك أنهن نزلن بمكة، لكن اختلف في بعض آيات منهن أما في سبحان فقوله: { وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً} الآية، وقوله: {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ} - إلى – {تَحْوِيلاً} وقوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ} الآية، وقوله: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ} الآية. وفي الكهف قوله: { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} الآية، وقيل من أولها إلى {حْسَنُ عَمَلاً} وفي مريم {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} الآية. وفي طه {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} الآية، وفي الأنبياء {أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا} الآية، قيل في جميع ذلك إنه مدني، ولا يثبت شيء من ذلك، والجمهور على أن الجميع مكيات، وشذ من قال خلاف ذلك. قوله: "وقال قتادة: جذاذا قطعهن" وصله الطبري من طريق سعيد عن قتادة في قوله: {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً} أي قطعا.

(8/435)


" تنبيه " : قرأ الجمهور {جُذَاذاً} بضم أوله وهو اسم للشيء المكسر كالحطام في المحطم، وقيل جمع جذاذة كزجاج وزجاجة، وقرأ الكسائي وابن محيصن بكسر أوله فقيل هو جمع جذيذ ككرام وكريم، فيها قراءات أخرى في الشواذ. قوله: "وقال الحسن: في فلك مثل فلكة المغزل" وصله ابن عيينة عن عمرو عن الحسن في قوله: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} مثل فلكة المغزل. قوله: "يسبحون يدورون" وصله ابن المنذر من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {كلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} قال: يدورون حوله. ومن طريق مجاهد {فِي فَلَكٍ} كهيئة حديدة الرحى {يَسْبَحُونَ} يجرون. وقال الفراء: قال يسبحون لأن السباحة من أفعال الآدميين فذكرت بالنون مثل {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} . قوله: "وقال ابن عباس: نفشت رعت ليلا" سقط "ليلا" لغير أبي ذر، وقد وصله ابن أبي حاتم من طريق ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس بهذا وهو قول أهل اللغة: نفشت إذا رعت ليلا بلا راع، وإذا رعت نهارا بلا راع قيل هملت. قوله: "يصحبون يمنعون" وصله ابن المنذر من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ} قال: يمنعون. ومن وجه آخر منقطع عن ابن عباس "يمنعون" قال: ينصرون، وهو قول مجاهد رواه الطبري. قوله: {أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} : دينكم دين واحد" قال قتادة في هذه الآية: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ} قال: دينكم، أخرجه الطبري وابن المنذر من طريقه. قوله: "وقال عكرمة: حصب جهنم حطب بالحبشة" سقط هذا لأبي ذر وقد تقدم في بدء الخلق، وروى الفراء بإسنادين عن علي وعائشة أنهما قرآا حطب بالطاء، وعن ابن عباس أنه قرأها بالضاد الساقطة المنقوطة قال وهو ما هيجت به النار. قوله: "وقال غيره: أحسوا توقعوا من أحسست" كذا لهم وللنسفي. وقال معمر: أحسوا إلخ، ومعمر هذا هو بالسكون وهو أبو عبيدة معمر بن المثنى اللغوي، وقد أكثر البخاري نقل كلامه، فتارة يصرح بعزوه وتارة يبهمه. وقال أبو عبيدة في قوله: {فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا} لقوه يقال هل أحسست فلانا أي هل وجدته، وهل أحسست من نفسك ضعفا أو شرا. قوله: "خامدين هامدين" قال أبو عبيدة في قوله: {حَصِيداً خَامِدِينَ} مجاز خامد أي هامد، كما يقال للنار إذا طفئت خمدت، قال: والحصيد المستأصل، وهو يوصف بلفظ الواحد والاثنين والجمع من الذكر والأنثى سواء كأنه أجري مجرى المصدر، قال: ومثله {انَتَا رَتْقاً} ومثله "فجعلهم جذاذا" . قوله: "والحصيد مستأصل يقع على الواحد والاثنين والجميع" كذا لأبي ذر، ولغيره حصيدا مستأصلا وهو قول أبي عبيدة كما ذكرته قبل.
" تنبيه " : هذه القصة نزلت في أهل حضور بفتح المهملة وضم المعجمة قرية بصنعاء من اليمن، وبه جزم ابن الكلبي. وقيل بناحية الحجاز من جهة الشام، بعث إليهم نبي من حمير يقال له شعيب وليس صاحب مدين بين زمن سليمان وعيسى فكذبوه فقصمهم الله تعالى، ذكره الكلبي. وقد روى قصته ابن مردويه من حديث ابن عباس ولم يسمه. قوله: {وَلا يَسْتَحْسِرُونَ} لا يعيبون، ومنه حسير وحسرت بعيري" هو قول أبي عبيدة أيضا، وكذا روى الطبري من طريق سعيد عن قتادة في قوله: {وَلا يَسْتَحْسِرُونَ} قال: لا يعيبون.
" تنبيه " : وقع في رواية أبي ذر "يعيون" بفتح أوله ورواه ابن التين وقال: هو من أعيي أي الصواب بضم أوله. قوله: "عميق بعيد" كذا ذكره هنا، وإنما وقع ذلك في السورة التي بعدها وهو قول أبي عبيدة. وكأنه لما وقع في هذه السورة {فِجَاجاً} وجاء في التي بعدها {مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} كأنه استطرد من هذه لهذه أو كان في طرة فنقلها الناسخ إلى غير موضعها. قوله: {نُكِسُوا} ردوا قال أبو عبيدة في قوله: {ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ} أي قلبوا، وتقول نكسته على رأسه إذا قهرته. وقال

(8/436)


الفراء: نكسوا رجعوا. وتعقبه الطبري بأنه لم يتقدم شيء يصح أن يرجعوا إليه، ثم اختاروا ما رواه ابن إسحاق وحاصله أنهم قلبوا في الحجة فاحتجوا على إبراهيم بما هو حجة لإبراهيم عليه السلام. وهذا كله على قراءة الجمهور. وقرأ ابن أبي عبلة {نُكِسُوا} بالفتح وفيه حذف تقديره نكسوا أنفسهم على رءوسهم. قوله: "{صَنْعَةَ لَبُوسٍ} الدروع" قال أبو عبيدة: اللبوس السلاح كله من درع إلى رمح. وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: اللبوس الدروع كانت صفائح، وأول من سردها وحلقها داود. وقال الفراء: من قرأ: {لِتُحْصِنَكُمْ} بالمثناة فلتأنيث الدروع، ومن قرأ بالتحتانية فلتذكير اللبوس. قوله: "تقطعوا أمرهم اختلفوا" هو قول أبي عبيدة وزاد: وتفرقوا. وروى الطبري من طريق زيد بن أسلم مثله وزاد: "في الدين" . قوله: "الحسيس والحس والجرس والهمس واحد، وهو من الصوت الخفي" سقط لأبي ذر "والهمس" . وقال أبو عبيدة في قوله: {لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} أي صوتها، والحسيس والحس واحد، وقد تقدم في أواخر سورة مريم. قوله: "آذناك أعلمناك، آذنتكم إذا أعلمته فأنت وهو على سواء لم تغدر" قال أبو عبيدة في قوله: {آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ} : إذا أنذرت عدوك وأعلمته ذلك ونبذت إليه الحرب حتى تكون أنت وهو على سواء فقد آذنته. وقد تقدم في تفسير سورة إبراهيم عليه السلام. وقوله: "آذناك" هو في سورة حم فصلت ذكره هنا استطرادا. قوله: "وقال مجاهد: لعلكم تسألون تفهمون" وصله الفريابي من طريقه، ولابن المنذر من وجه آخر عنه "تفقهون" . قوله: "ارتضى رضي" وصله الفريابي من طريقه بلفظ: "رضي عنه" وسقط لأبي ذر. قوله: "التماثيل الأصنام" وصله الفريابي من طريقه أيضا. قوله: "السجل الصحيفة" وصله الفريابي من طريقه وجزم به الفراء، وروى الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {طَيِّ السِّجِلِّ} يقول: كطي الصحيفة على الكتاب، قال الطبري: معناه كطي السجل على ما فيه من الكتاب وقيل على بمعنى من أي من أجل الكتاب لأن الصحيفة تطوي حسناته لما فيها من الكتابة. وجاء عن ابن عباس أن السجل اسم كاتب كان للنبي صلى الله عليه وسلم أخرجه أبو داود والنسائي والطبري من طريق عمرو بن مالك عن أبي الجوزاء عن ابن عباس بهذا، وله شاهد من حديث ابن عمر عند ابن مردويه، وفي حديث ابن عباس المذكور عند ابن مردويه: والسجل الرجل بلسان الحبش. وعند ابن المنذر من طريق السدي قال: السجل الملك. وعند الطبري من وجه آخر عن ابن عباس مثله. وعند عبد بن حميد من طريق عطية مثله. وبإسناد ضعيف عن على مثله. وذكر السهيلي عن النقاش أنه ملك في السماء الثانية ترفع الحفظة إليه الأعمال كل خميس واثنين. وعند الطبري من حديث ابن عمر بعض معناه. وقد أنكر الثعلبي والسهيلي أن السجل اسم الكاتب بأنه لا يعرف في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم ولا في أصحابه من اسمه السجل، قال السهيلي: ولا وجد إلا في هذا الخبر، وهو حصر مردود، فقد ذكره في الصحابة ابن منده وأبو نعيم وأوردا من طريق ابن نمير عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال: "كان للنبي صلى الله عليه وسلم كاتب يقال له سجل" وأخرجه ابن مردويه من هذا الوجه.

(8/437)


2- بَاب {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا}
4740- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ النُّعْمَانِ شَيْخٌ مِنْ النَّخَعِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ خَطَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "إِنَّكُمْ مَحْشُورُونَ إِلَى اللَّهِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاً

(8/437)


{كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} ثُمَّ إِنَّ أَوَّلَ مَنْ يُكْسَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِبْرَاهِيمُ أَلاَ إِنَّهُ يُجَاءُ بِرِجَالٍ مِنْ أُمَّتِي فَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ فَأَقُولُ يَا رَبِّ أَصْحَابِي فَيُقَالُ لاَ تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ فَأَقُولُ كَمَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ} إِلَى قَوْلِهِ {شَهِيدٌ} فَيُقَالُ إِنَّ هَؤُلاَءِ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ مُنْذُ فَارَقْتَهُم"
ثم ذكر المصنف حديث ابن عباس "إنكم محشورون إلى الله حفاة عراة" الحديث، وسيأتي شرحه في كتاب الرقاق إن شاء الله تعالى.

(8/438)


22- سورة الْحَجِّ
وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ الْمُخْبِتِينَ الْمُطْمَئِنِّينَ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي {إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} إِذَا حَدَّثَ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي حَدِيثِهِ فَيُبْطِلُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ وَيُحْكِمُ آيَاتِهِ وَيُقَالُ {أُمْنِيَّتُهُ} قِرَاءَتُهُ {إِلاَّ أَمَانِيَّ} يَقْرَءُونَ وَلاَ يَكْتُبُونَ وَقَالَ مُجَاهِدٌ {مَشِيدٌ} بِالْقَصَّةِ جِصٌّ وَقَالَ غَيْرُهُ يَسْطُونَ يَفْرُطُونَ مِنْ السَّطْوَةِ وَيُقَالُ يَسْطُونَ يَبْطِشُونَ {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ} أُلْهِمُوا وَقَالَ ابْنُ أَبِي خَالِدٍ إِلَى الْقُرْآنِ {وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} الإِسْلاَمِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {بِسَبَبٍ} بِحَبْلٍ إِلَى سَقْفِ الْبَيْتِ {ثَانِيَ عِطْفِهِ} مُسْتَكْبِرٌ {تَذْهَلُ} تُشْغَل"
قوله: "سورة الحج - بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم" . قوله: "قال ابن عيينة: المخبتين المطمئنين" هو كذلك في "تفسير ابن عيينة" لكن أسنده عن ابن أبي نجيح عن مجاهد، وكذا هو عند ابن المنذر من هذا الوجه، ومن وجه آخر عن مجاهد قال: المصلين، ومن طريق الضحاك قال: المتواضعين. والمخبت من الإخبات؛ وأصله الخبت بفتح أوله وهو المطمئن من الأرض. قوله: "وقال ابن عباس {إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه، فيبطل الله ما يلقي الشيطان ويحكم آياته" ، وصله الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس مقطعا. قوله: "ويقال أمنيته قراءته، إلا أماني: يقرؤون ولا يكتبون" هو قول الفراء قال: التمني التلاوة قال: وقوله: {لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ} قال: الأماني أن يفتعل الأحاديث، وكانت أحاديث يسمعونها من كبرائهم وليست من كتاب الله، قال: ومن شواهد ذلك قول الشاعر:
تمنى كتاب الله أول ليلة ... تمني داود الزبور على رسل
قال الفراء والتمني أيضا حديث النفس انتهى. قال أبو جعفر النحاس في كتاب "معاني القرآن" له بعد أن ساق رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في تأويل الآية: هذا من أحسن ما قيل في تأويل الآية وأعلاه وأجله. ثم أسند عن أحمد بن حنبل قال: بمصر صحيفة في التفسير رواها علي بن أبي طلحة لو رحل رجل فيها إلى مصر قاصدا ما كان كثيرا انتهى. وهذه النسخة كانت عند أبي صالح كاتب الليث رواها عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة

(8/438)


عن ابن عباس وهي عند البخاري عن أبي صالح وقد اعتمد عليها في صحيحه هذا كثيرا على ما بيناه في أماكنه وهي عند الطبري وابن أبي حاتم وابن المنذر بوسائط بينهم وبين أبي صالح انتهى. وعلى تأويل ابن عباس هذا يحمل ما جاء عن سعيد بن جبير، وقد أخرج ابن أبي حاتم والطبري وابن المنذر من طرق عن شعبة عن أبي بشر عنه قال: "قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة والنجم، فلما بلغ {أفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} ألقى الشيطان على لسانه: تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى، فقال المشركون: ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم، فسجد وسجدوا، فنزلت هذه الآية" وأخرجه البزار وابن مردويه من طريق أمية بن خالد عن شعبة فقال في إسناده: "عن سعيد بن جبير عن ابن عباس" فيما أحسب، ثم ساق الحديث. وقال البزار: لا يروى متصلا إلا بهذا الإسناد، تفرد بوصله أمية بن خالد وهو ثقة مشهور، قال: وإنما يروى هذا من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس انتهى. والكلبي متروك ولا يعتمد عليه، وكذا أخرجه النحاس بسند آخر فيه الواقدي، وذكره ابن إسحاق في السيرة مطولا وأسندها عن محمد بن كعب، وكذلك موسى بن عقبة في المغازي عن ابن شهاب الزهري، وكذا ذكره أبو معشر في السيرة له عن محمد بن كعب القرظي ومحمد بن قيس وأورده من طريقه الطبري، وأورده ابن أبي حاتم من طريق أسباط عن السدي؛ ورواه ابن مردويه من طريق عباد بن صهيب عن يحيى بن كثير عن الكلبي عن أبي صالح وعن أبي بكر الهذلي وأيوب عن عكرمة وسليمان التيمي عمن حدثه ثلاثتهم عن ابن عباس، وأوردها الطبري أيضا من طريق العوفي عن ابن عباس، ومعناهم كلهم في ذلك واحد، وكلها سوى طريق سعيد بن جبير إما ضعيف وإلا منقطع، لكن كثرة الطرق تدل على أن للقصة أصلا، مع أن لها طريقين آخرين مرسلين رجالهما على شرط الصحيحين أحدهما ما أخرجه الطبري من طريق يونس بن يزيد عن ابن شهاب حدثني أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام فذكر نحوه، والثاني ما أخرجه أيضا من طريق المعتمر بن سليمان وحماد بن سلمة فرقهما عن داود بن أبي هند عن أبي العالية، وقد تجرأ أبو بكر بن العربي كعادته فقال: ذكر الطبري في ذلك روايات كثيرة باطلة لا أصل لها، وهو إطلاق مردود عليه. وكذا قول عياض هذا الحديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة ولا رواه ثقة بسند سليم متصل مع ضعف نقلته واضطراب رواياته وانقطاع إسناده، وكذا قوله: ومن حملت عنه هذه القصة من التابعين والمفسرين لم يسندها أحد منهم ولا رفعها إلى صاحب، وأكثر الطرق عنهم في ذلك ضعيفة واهية، قال وقد بين البزار أنه لا يعرف من طريق يجوز ذكره إلا طريق أبي بشر عن سعيد بن جبير مع الشك الذي وقع في وصله، وأما الكلبي فلا تجوز الرواية عنه لقوة ضعفه. ثم رده من طريق النظر بأن ذلك لو وقع لارتد كثير ممن أسلم، قال: ولم ينقل ذلك انتهى، وجميع ذلك لا يتمشى على القواعد، فإن الطرق إذا كثرت وتباينت مخارجها دل ذلك على أن لها أصلا، وقد ذكرت أن ثلاثة أسانيد منها على شرط الصحيح وهي مراسيل يحتج بمثلها من يحتج بالمرسل وكذا من لا يحتج به لاعتضاد بعضها ببعض، وإذا تقرر ذلك تعين تأويل ما وقع فيها مما يستنكر وهو قوله: "ألقى الشيطان على لسانه: تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى" فإن ذلك لا يجوز حمله على ظاهره لأنه يستحيل عليه صلى الله عليه وسلم أن يزيد في القرآن عمدا ما ليس منه، وكذا سهوا إذا كان مغايرا لما جاء به من التوحيد لمكان عصمته - وقد سلك العلماء في ذلك مسالك، فقيل جرى ذلك على لسانه حين أصابته سنة وهو لا يشعر، فلما علم بذلك أحكم الله آياته. وهذا أخرجه الطبري عن قتادة، ورده عياض بأنه لا يصح لكونه لا يجوز على النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ولا

(8/439)


ولاية للشيطان عليه في النوم، وقيل إن الشيطان ألجأه إلى أن قال ذلك بغير اختياره، ورده ابن العربي بقوله تعالى حكاية عن الشيطان: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ} الآية قال: فلو كان للشيطان قوة على ذلك لما بقي لأحد قوة في طاعة. وقيل: إن المشركين كانوا إذا ذكروا آلهتهم وصفوهم بذلك، فعلق ذلك بحفظه صلى الله عليه وسلم فجرى على لسانه لما ذكرهم سهوا. وقد رد ذلك عياض فأجاد. وقيل لعله قالها توبيخا للكفار، قال عياض: وهذا جائز إذا كانت هناك قرينة تدل على المراد. ولا سيما وقد كان الكلام في ذلك الوقت في الصلاة جائزا - وإلى هذا نحا الباقلاني. وقيل إنه لما وصل إلى قوله: {وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} خشي المشركون أن يأتي بعدها بشيء يذم آلهتهم به فبادروا إلى ذلك الكلام فخلطوه في تلاوة النبي صلى الله عليه وسلم على عادتهم في قولهم. {لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ} ونسب ذلك للشيطان لكونه الحامل لهم على ذلك، أو المراد بالشيطان شيطان الإنس، وقيل: المراد بالغرانيق العلى الملائكة وكان الكفار يقولون: الملائكة بنات الله ويعبدونها، فسيق ذكر الكل ليرد عليهم بقوله تعالى: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَى} فلما سمعه المشركون حملوه على الجميع وقالوا: قد عظم آلهتنا، ورضوا بذلك، فنسخ الله تلك الكلمتين وأحكم آياته. وقيل: كان النبي صلى الله عليه وسلم يرتل القرآن فارتصده الشيطان في سكتة من السكتات ونطق بتلك الكلمات محاكيا نغمته بحيث سمعه من دنا إليه فظنها من قوله وأشاعها. قال: وهذا أحسن الوجوه. ويؤيده ما تقدم في صدر الكلام عن ابن عباس من تفسير "تمنى" بتلا. وكذا استحسن ابن العربي هذا التأويل وقال قبله: أن هذه الآية نص في مذهبنا في، براءة النبي صلى الله عليه وسلم مما نسب إليه - قال: ومعنى قوله: "في أمنيته" أي في تلاوته، فأخبر تعالى في هذه الآية أن سنته في رسله إذا قالوا قولا زاد الشيطان فيه من قيل نفسه، فهذا نص في أن الشيطان زاده في قول النبي صلى الله عليه وسلم لا أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله قال: وقد سبق إلى ذلك الطبري لجلالة قدره وسعة علمه وشدة ساعده في النظر فصوب على هذا المعنى وحوم عليه. "تنبيه" : هذه القصة وقعت بمكة قبل الهجرة اتفاقا فتمسك بذلك من قال إن سورة الحج مكية، لكن تعقب بأن فيها أيضا ما يدل على أنها مدنية كما في حديث علي وأبي ذر في {هَذَانِ خَصْمَانِ} فإنها نزلت في أهل بدر، وكذا قوله: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ} الآية وبعدها {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ} فإنها نزلت في الذين هاجروا من مكة إلى المدينة فالذي يظهر أن أصلها مكي ونزل منها آيات بالمدينة ولها نظائر، والله أعلم. قوله: "وقال مجاهد: مشيد بالقصة، جص" وصله الطبري من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: {وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} قال: بالقصة يعني الجص والقصة بفتح القاف وتشديد الصاد هي الجص بكسر الجيم وتشديد المهملة. ومن طريق عكرمة قال: المشيد المجصص، قال: والجص في المدينة يسمى الشيد، وأنشد الطبري قول امرئ القيس:
وتيماء لم يترك بها جذع نخلة ... ولا أجما إلا مشيدا بجندل
ومن طريق قتادة قال: كان أهله شيدوه وحصنوه. وقصة القصر المشيد ذكر أهل الأخبار أنه من بناء شداد بن عاد فصار معطلا بعد العمران لا يستطيع أحد أن يدنو منه على أميال مما يسمع فيه من أصوات الجن المنكرة.
قوله: "وقال غيره: {يَسْطُونَ} يفرطون من السطوة، ويقال يسطون يبطشون" قال أبو عبيدة في قوله: {يكَادُونَ يَسْطُونَ} أي يفرطون عليه من السطوة. وقال الفراء كان مشركو قريش إذا سمعوا المسلم يتلو القرآن كادوا يبطشون به وتقدم في تفسير طه. وقال عبد بن حميد أخبرني شبابة عن ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: {يكَادُونَ}

(8/440)


أي كفار قريش {يَسْطُونَ} أي يبطشون بالذين يتلون القرآن. وروى ابن المنذر من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {يَسْطُونَ} فقال: يبطشون. قوله: {وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} : الإسلام" هكذا لهم، وسيأتي تحريره من رواية النسفي قريبا. قوله: "وقال ابن عباس: "بسبب" بحبل إلى سقف البيت" وصله عبد بن حميد من طريق أبي إسحاق عن التميمي عن ابن عباس بلفظ: {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ} إلى سماء بيته فليختنق به. قوله: {ثَانِيَ عِطْفِهِ} : مستكبر" ثبت هذا للنسفي، وسقط للباقين. وقد وصله ابن المنذر من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {ثَانِيَ عِطْفِهِ} قال: مستكبر في نفسه. قوله: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ} : ألهموا إلى القرآن "سقط قوله: "إلى القرآن" لغير أبي ذر، ووقع في رواية النسفي {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ} ألهموا" وقال ابن أبي خالد: "إلى القرآن، وهدوا إلى صراط الحميد: الإسلام" وهذا هو التحرير. وقد أخرج الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ} : قال: ألهموا. وروى ابن المنذر من طريق سفيان عن إسماعيل بن أبي خالد في قوله: {إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ} : قال: القرآن: وفي قوله: {وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} الإسلام. قوله: "تذهل تشغل" روى ابن المنذر من طريق الضحاك قال في قوله: {تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ} أي تسلو من شدة خوف ذلك اليوم. وقال أبو عبيدة في قوله: {تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ} أي تسلو، قال الشاعر: "صحا قلبه يا عز أو كاد يذهل" وقيل: الذهول الاشتغال عن الشيء مع دهش.

(8/441)


1- باب {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى}
4741- حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَا آدَمُ يَقُولُ لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ فَيُنَادَى بِصَوْتٍ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تُخْرِجَ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ بَعْثًا إِلَى النَّارِ قَالَ يَا رَبِّ وَمَا بَعْثُ النَّارِ قَالَ مِنْ كُلِّ أَلْفٍ أُرَاهُ قَالَ تِسْعَ مِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ فَحِينَئِذٍ تَضَعُ الْحَامِلُ حَمْلَهَا وَيَشِيبُ الْوَلِيدُ {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ حَتَّى تَغَيَّرَتْ وُجُوهُهُمْ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مِنْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ تِسْعَ مِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ وَمِنْكُمْ وَاحِدٌ ثُمَّ أَنْتُمْ فِي النَّاسِ كَالشَّعْرَةِ السَّوْدَاءِ فِي جَنْبِ الثَّوْرِ الأَبْيَضِ أَوْ كَالشَّعْرَةِ الْبَيْضَاءِ فِي جَنْبِ الثَّوْرِ الأَسْوَدِ وَإِنِّي لاَرْجُو أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَكَبَّرْنَا ثُمَّ قَالَ ثُلُثَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَكَبَّرْنَا ثُمَّ قَالَ شَطْرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَكَبَّرْنَا قَالَ أَبُو أُسَامَةَ عَنْ الأَعْمَشِ تَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَقَالَ مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَ مِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ وَقَالَ جَرِيرٌ وَعِيسَى بْنُ يُونُسَ وَأَبُو مُعَاوِيَةَ سَكْرَى وَمَا هُمْ بِسَكْرَى"
قوله: "باب قوله: {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى} سقط الباب والترجمة لغير أبي ذر، وقدم عندهم الطريق الموصول على

(8/441)


التعاليق، وعكس ذلك في رواية أبي ذر، وسيأتي شرح الحديث الموصول في كتاب الرقاق إن شاء الله تعالى. قوله: "وقال أبو أسامة عن الأعمش: {سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى} " يعني أنه وافق حفص بن غياث في رواية هذا الحديث عن الأعمش بإسناده ومتنه، وقد أخرجه أحمد عن وكيع عن الأعمش كذلك. قوله: "قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين" أي أنه جزم بذلك، بخلاف حفص فإنه وقع في روايته: "من كل ألف أراه قال: "فذكره. ورواية أبي أسامة هذه وصلها المؤلف في قصة يأجوج ومأجوج من أحاديث الأنبياء. قوله: "وقال جرير وعيسى بن يونس وأبو معاوية: سكرى وما هم بسكرى" يعني أنهم رووه عن الأعمش بإسناده هذا ومتنه لكنهم خالفوا في هذه اللفظة، فأما رواية جرير فوصلها المؤلف في الرقاق كما قال، وأما رواية عيسى بن يونس فوصلها إسحاق بن راهويه عنه كذلك، وأما رواية أبي معاوية فاختلف عليه فيها، فرواها بلفظ سكرى أبو بكر من أبي شيبة عنه، وقد أخرجها سعيد بن منصور عن أبي معاوية والنسائي عن أبي كريب عن أبي معاوية فقالا في روايتهما: {سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى} وكذا عند الإسماعيلي من طريق أخرى عن أبي معاوية، وأخرجها مسلم عن أبي كريب عنه مقرونة برواية وكيع وأحال بهما على رواية جرير، وروى ابن مردويه من طريق محاضر والطبري من طريق المسعودي كلاهما عن الأعمش بلفظ: "سكرى" وقال الفراء: أجمع القراء على {سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى} ثم روي بإسناده عن ابن مسعود "سكرى وما هم بسكرى" قال: وهو جيد في العربية انتهى. ونقله الإجماع عجب، مع أن أصحابه الكوفيين يحيى بن وثاب وحمزة والأعمش والكسائي قرؤوا بمثل ما نقل عن ابن مسعود، ونقلها أبو عبيد أيضا عن حذيفة وأبي زرعة بن عمرو واختارها أبو عبيد، وقد اختلف أهل العربية في "سكرى" هل هي صيغة جمع على فعلى مثل مرضى أو صيغة مفرد فاستغني بها عن وصفه الجماعة.

(8/442)


2 - باب {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} شَكٍّ {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ} إِلَى قَوْلِهِ {ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ} أَتْرَفْنَاهُمْ وَسَّعْنَاهُمْ
4742- حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَارِثِ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي حَصِينٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} قَالَ كَانَ الرَّجُلُ يَقْدَمُ الْمَدِينَةَ فَإِنْ وَلَدَتْ امْرَأَتُهُ غُلاَمًا وَنُتِجَتْ خَيْلُهُ قَالَ هَذَا دِينٌ صَالِحٌ وَإِنْ لَمْ تَلِدْ امْرَأَتُهُ وَلَمْ تُنْتَجْ خَيْلُهُ قَالَ هَذَا دِينُ سُوء"
قوله: "باب {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} شك" سقط لفظ شك لغير أبي ذر، وأراد بذلك تفسير قوله: "حرف" وهو تفسير مجاهد أخرجه ابن أبي حاتم من طريقه. وقال أبو عبيدة: كل شاك في شيء فهو على حرف لا يثبت ولا يدوم، وزاد غير أبي ذر بعد حرف {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ} إِلَى قَوْلِهِ {ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ} قوله: "أترفناهم وسعناهم" كذا وقع هنا عندهم، وهذه الكلمة من السورة التي تليها وهو تفسير أبي عبيدة، قال في قوله تعالى: {وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} : مجازه وسعنا عليهم، وأترفوا بغوا وكفروا. قوله: "يحيى بن أبي بكير" هو الكرماني، وهو غير يحيي بن بكير المصري

(8/442)


يلتبسان لكنهما يفترقان من أربعة أوجه: أحدها النسبة، الثاني أبو هذا فيه أداة الكنية بخلاف المصري، الثالث ولا يظهر غالبا أن بكيرا جد المصري وأبا بكير والد الكرماني، الرابع المصري شيخ المصنف والكرماني شيخ شيخه. قوله: "حدثنا إسرائيل" كذا رواه يحيى عنه بهذا الإسناد موصولا، ورواه أبو أحمد الزبيري عن إسرائيل بهذا الإسناد فلم يجاوز سعيد بن جبير أخرجه ابن أبي شيبة عنه، وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق محمد بن إسماعيل بن سالم الصائغ عن يحيى بن أبي بكير كما أخرجه البخاري وقال في آخره: قال محمد بن إسماعيل بن سالم هذا حديث حسن غريب. وقد أخرجه ابن أبي حاتم من وجه آخر عن جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير فذكر فيه ابن عباس. قوله: "كان الرجل يقدم المدينة فيسلم" في رواية جعفر "كان ناس من الأعراب يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيسلمون" . قوله: "فإن ولدت امرأته غلاما ونتجت خيله" هو بضم نون نتجت فهي منتوجة مثل نفست فهي منفوسة، زاد العوفي عن ابن عباس "وصح جسمه" أخرجه ابن أبي حاتم. ولابن المنذر من طريق الحسن البصري "كان الرجل يقدم المدينة مهاجرا فإن صح جسمه" الحديث. وفي رواية جعفر "فإن وجدوا عام خصب وغيث وولاد" وقوله: "قال: هذا دين صالح" في رواية العوفي "رضي واطمأن وقال: ما أصبت في ديني إلا خيرا" وفي رواية الحسن "قال لنعم الدين هذا" وفي رواية جعفر "قالوا إن ديننا هذا لصالح فتمسكوا به" . قوله: "وإن لم تلد إلخ" في رواية جعفر "وإن وجدوا عام جدب وقحط وولاد سوء قالوا ما في ديننا هذا خير" وفي رواية العوفي "وإن أصابه وجع المدينة وولدت امرأته جارية وتأخرت عنه الصدقة أتاه الشيطان فقال: والله ما أصبت على دينك هذا إلا شرا، وذلك الفتنة" وفي رواية الحسن "فإن سقم جسمه وحبست عنه الصدقة وأصابته الحاجة قال: والله ليس الدين هذا، ما زلت أتعرف النقصان في جسمي وحالي" وذكر الفراء أنها نزلت في أعاريب من بني أسد انتقلوا إلى المدينة بذراريهم وامتنوا بذلك على النبي صلى الله عليه وسلم. ثم ذكر نحو ما تقدم. وروى ابن مردويه من حديث أبي سعيد بإسناد ضعيف أنها نزلت في رجل من اليهود أسلم فذهب بصره وماله وولده، فتشاءم بالإسلام فقال: لم أصب في ديني خيرا.

(8/443)


3- باب {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ}
4743- حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ أَخْبَرَنَا أَبُو هَاشِمٍ عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ عُبَادٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يُقْسِمُ قَسَمًا إِنَّ هَذِهِ الآيَةَ {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} نَزَلَتْ فِي حَمْزَةَ وَصَاحِبَيْهِ وَعُتْبَةَ وَصَاحِبَيْهِ يَوْمَ بَرَزُوا فِي يَوْمِ بَدْرٍ رَوَاهُ سُفْيَانُ عَنْ أَبِي هَاشِمٍ وَقَالَ عُثْمَانُ عَنْ جَرِيرٍ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي هَاشِمٍ عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ قَوْلَه"
4744- حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ سَمِعْتُ أَبِي قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو مِجْلَزٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ عُبَادٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ أَنَا أَوَّلُ مَنْ يَجْثُو بَيْنَ يَدَيْ الرَّحْمَنِ لِلْخُصُومَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ قَيْسٌ وَفِيهِمْ نَزَلَتْ {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} قَالَ هُمْ الَّذِينَ بَارَزُوا يَوْمَ بَدْرٍ

(8/443)


عَلِيٌّ وَحَمْزَةُ وَعُبَيْدَةُ وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ وَعُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ وَالْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَة"
قوله: "باب {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} الخصمان تثنية خصم، وهو يطلق على الواحد وغيره، وهو من تقع منه المخاصمة. قوله: "يقسم قسما" كذا للأكثر، ولأبي ذر عن الكشميهني: "يقسم فيها" وهو تصحيف. قوله: "نزلت في حمزة" أي ابن عبد المطلب، وقد تقدم مشروحا في غزوة بدر مستوفى، ونقتصر هنا على بيان الاختلاف في إسناده. قوله: "رواه سفيان" أي الثوري "عن أبي هاشم" أي شيخ هشيم فيه، وهو الرماني بضم الراء وتشديد الميم أي بإسناده ومتنه، وقد تقدمت روايته موصولة في غزوة بدر. ولسفيان فيه شيخ آخر أخرجه الطبري من طريق محمد بن مجيب عن سفيان عن منصور عن هلال بن يساف قال: نزلت هذه الآية في الذين تبارزوا يوم بدر. قوله: "وقال عثمان" أي ابن أبي شيبة "عن جرير" أي ابن عبد الحميد "عن منصور" أي ابن المعتمر "عن أبي هاشم عن أبي مجلز قوله" أي موقوفا عليه. قوله: "عن قيس بن عباد" بضم المهملة وتخفيف الموحدة. قوله: "عن علي قال: أنا أول من يجثو للخصومة بين يدي الرحمن يوم القيامة قال قيس" هو ابن عباد الراوي المذكور "وفيهم نزلت" ، وهذا ليس باختلاف على قيس بن عباد في الصحابي، بل رواية سليمان التيمي عن أبي مجلز تقتضي أن عند قيس عن علي هذا القدر المذكور هنا فقط، ورواية أبي هاشم عن أبي مجلز تقتضي أن عند قيس عن أبي ذر ما سبق، لكن يعكر على هذا أن النسائي أخرج من طريق يوسف بن يعقوب عن سليمان التيمي بهذا الإسناد إلى علي قال: "فينا نزلت هذه الآية وفي مبارزتنا يوم بدر: {هذان خصمان} " ورواه أبو نعيم في "المستخرج" من هذا الوجه وزاد في أوله ما في رواية معتمر بن سليمان، وكذا أخرجه الحاكم من طريق أبي جعفر الرازي، وكذا ذكر الدار قطني في "العلل" أن كهمس بن الحسن رواه كلاهما عن سليمان التيمي، وأشار الدار قطني إلى أن روايتهم مدرجة وأن الصواب رواية معتمر. قلت: وقد رواه عبد بن حميد عن يزيد بن هارون وعن حماد بن مسعدة كلاهما عن سليمان التيمي كرواية معتمر، فإن كان محفوظا فيكون الحديث عند قيس عن أبي ذر وعن علي معا بدليل اختلاف سياقهما. ثم ينظر بعد ذلك في الاختلاف الواقع عن أبي مجلز في إرساله حديث أبي ذر ووصله، فوصله عنه أبو هاشم في رواية الثوري وهشيم عنه، وأما سليمان التيمي فوقفه على قيس، وأما منصور فوقفه على أبي مجلز، ولا يخفى أن الحكم للواصل إذا كان حافظا، وسليمان وأبو هاشم متقاربان في الحفظ فتقدم رواية من معه زيادة، والثوري أحفظ من منصور فتقدم روايته، وقد وافقه شعبة عن أبي هاشم أخرجه الطبراني، على أن الطبري أخرجه من وجه آخر عن جرير عن منصور موصولا، فبهذا التقرير يرتفع اعتراض من ادعى أنه مضطرب كما أشرت إلى ذلك في المقدمة، وإنما أعيد مثل هذا لبعد العهد به والله المستعان. وقد روى الطبري من طريق العوفي عن ابن عباس أنها نزلت في أهل الكتاب والمسلمين، ومن طريق الحسن قال: هم الكفار والمؤمنون، ومن طريق مجاهد هو اختصام المؤمن والكافر في البعث، واختار الطبري هذه الأقوال في تعميم الآية قال: ولا يخالف المروي عن علي وأبي ذر لأن الذين تبارزوا ببدر كانوا فريقين مؤمنين وكفار، إلا أن الآية إذا نزلت في سبب من الأسباب لا يمتنع أن تكون عامة في نظير ذلك السبب.

(8/444)


23- سورة المؤمنون
قال بن عيينة {سَبْعَ طَرَائِقَ} سبع سماوات {لهَا سَابِقُونَ} سبقت لهم السعادة {وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ}

(8/444)


خائفين قال بن عباس {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ} بعيد بعيد {فاسْأَلِ الْعَادِّينَ} الملائكة {لَنَاكِبُونَ} لعادلون {كَالِحُونَ} عابسون وقال غيره {مِنْ سُلالَةٍ} الولد والنطفة السلالة والجنة والجنون واحد والغثاء الزبد وما ارتفع عن الماء وما لا ينتفع به {يَجْأَرُونَ} يرفعون أصواتهم كما تجأر البقرة {عَلَى أَعْقَابِكُمْ} رجع على عقبيه {سَامِراً} من السمر والجميع السمار والسامر ها هنا في موضع الجمع {تُسْحَرُونَ} تعمون من السحر"
قوله وقال بن عيينة سبع طرائق سبع سماوات هو في تفسير بن عيينة من رواية سعد بن عبد الرحمن المخزومي عنه وأخرجه الطبري من طريق بن زيد بن أسلم مثله قوله سابقون سبقت لهم السعادة ثبتت لغير أبي ذر وصله بن أبي حاتم من طريق على بن أبي طلحة عن بن عباس قوله قلوبهم وجلة خائفين وصله بن أبي حاتم من طريق على بن أبي طلحة عن بن عباس في قوله {وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} قال يعملون خائفين وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله وقلوبهم وجلة قال خائفة وللطبري من طريق يزيد النحوي عن عكرمة مثله وفي الباب عن عائشة قالت يا رسول الله في قوله تعالى وقلوبهم وجلة أهو الرجل يزني ويسرق وهو مع ذلك يخاف الله قال لا بل هو الرجل وهو مع ذلك يخاف الله أخرجه الترمذي وأحمد وابن ماجة وصححه الحاكم قوله وقال بن عباس هيهات هيهات بعيد بعيد وصله الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن بن عباس مثله وروى عبد بن حميد عن سعيد عن قتادة قال تباعد ذلك في أنفسهم وقال الفراء إنما دخلت اللام في لما توعدون لأن هيهات أداة ليست بمأخوذة من فعل بمنزلة قريب وبعيد كما تقول هلم لك فإذا قلت أقبل لم تقل لك قوله فاسأل العادين الملائكة كذا لأبي ذر فأوهم أنه من تفسير بن عباس ولأبي ذر والنسفي وقال مجاهد فاسأل الخ وهو أولى فقد أخرجه الفريابي من طريقه وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله العادين قال الحساب أي بضم أوله والتشديد قوله تنكصون تستأخرون ثبت ثم النسفي وحده ووصله الطبري من طريق مجاهد قوله لناكبون لعادلون في رواية أبي ذر وقال بن عباس لناكبون الخ ووصله الطبري من طريق على بن أبي طلحة عنه وفي كلام أبي عبيدة مثله زاد ويقال نكب عن الطريق أي عدل عنه قوله كالحون عابسون وصله الطبري من طريق على بن أبي طلحة عن بن عباس مثله ومن طريق أبي الأحوص عن بن مسعود قال مثل كلوح الرأس النضيخ وكشر عن ثغره وأخرجه الحاكم وصححه من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعا تشويه النار فتقلص شفته العليا وتسترخي السفلى قوله وقال غيره من سلالة الولد والنطفة السلالة سقط وقال غيره لغير أبي ذر فأوهم أنه من تفسير بن عباس أيضا وليس كذلك وإنما هو قول أبي عبيدة قال في قوله {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ} السلالة الولد والنطفة السلالة قال الشاعر:
وهل هند إلا مهرة عربية ... سلالة أفراس تحللها بغل
انتهى وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله {مِنْ سُلالَةٍ} استل آدم من طين وخلقت ذريته من

(8/445)


ماء مهين وقد استشكل الكرماني ما وقع في البخاري فقال لا يصح تفسير السلالة بالولد لأن الإنسان ليس من الولد بل الأمر بالعكس ثم قال لم يفسر السلالة بالولد بل الولد مبتدأ وخبره السلالة والمعنى السلالة وما يستل من الشيء كالولد والنطفة انتهى وهو جواب ممكن في إيراد البخاري وكلام أبي عبيدة يأباه ولم يرد أبو عبيدة تفسير السلالة بالولد أنه المراد في الآية وإنما أشار إلى أن لفظ السلالة مشترك بين الولد والنطفة والشيء الذي يستل من الشيء وهذا الأخير هو الذي في الآية ولم يذكره استغناء بما ورد فيها وتنبيها على أن هذه اللفظة تطلق أيضا على ما ذكر قوله والجنة والجنون واحد هو قول أبي عبيدة أيضا قوله والغثاء الزبد وما ارتفع عن الماء وما لا ينتفع به قال أبو عبيدة في قوله تعالى فجعلناهم غثاء الغثاء الزبد وما ارتفع على الماء من الجيف مما لا ينتفع به وفي رواية عنه وما أشبه ذلك مما لا ينتفع به في شيء وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله غثاء قال هو الشيء البالي قوله يجأرون يرفعون أصواتهم كما تجأر البقرة ثبت هذا هنا للنسفي وتقدم في أواخر الزكاة وسيأتي في كتاب الأحكام لغيره مثله قوله على أعقابكم رجع على عقبيه هو قول أبي عبيدة قوله سامرا من السمر والجمع السمار والسامر ههنا في موضع الجمع ثبت هنا للنسفي وقد تقدم في أواخر المواقيت قوله تسحرون تعمون من السحر

(8/446)


24- سورة النُّورِ
{مِنْ خِلاَلِهِ} مِنْ بَيْنِ أَضْعَافِ السَّحَابِ {سَنَا بَرْقِهِ} وَهُوَ الضِّيَاءُ {مُذْعِنِينَ} يُقَالُ لِلْمُسْتَخْذِي مُذْعِنٌ {أَشْتَاتاً} وَشَتَّى وَشَتَاتٌ وَشَتٌّ وَاحِدٌ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا} بَيَّنَّاهَا وَقَالَ غَيْرُهُ سُمِّيَ الْقُرْآنُ لِجَمَاعَةِ السُّوَرِ وَسُمِّيَتْ السُّورَةُ لأَنَّهَا مَقْطُوعَةٌ مِنْ الأُخْرَى فَلَمَّا قُرِنَ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ سُمِّيَ قُرْآنًا وَقَالَ سَعْدُ بْنُ عِيَاضٍ الثُّمَالِيُّ الْمِشْكَاةُ الْكُوَّةُ بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} تَأْلِيفَ بَعْضِهِ إِلَى بَعْضٍ {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} فَإِذَا جَمَعْنَاهُ وَأَلَّفْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ أَيْ مَا جُمِعَ فِيهِ فَاعْمَلْ بِمَا أَمَرَكَ وَانْتَهِ عَمَّا نَهَاكَ اللَّهُ وَيُقَالُ لَيْسَ لِشِعْرِهِ قُرْآنٌ أَيْ تَأْلِيفٌ وَسُمِّيَ الْفُرْقَانَ لأَنَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَيُقَالُ لِلْمَرْأَةِ مَا قَرَأَتْ بِسَلا قَطُّ أَيْ لَمْ تَجْمَعْ فِي بَطْنِهَا وَلَدًا وَقَال {فَرَّضْنَاهَا} أَنْزَلْنَا فِيهَا فَرَائِضَ مُخْتَلِفَةً وَمَنْ قَرَأَ {فَرَضْنَاهَا} يَقُولُ فَرَضْنَا عَلَيْكُمْ وَعَلَى مَنْ بَعْدَكُمْ وَقَالَ مُجَاهِدٌ {أَوْ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا} لَمْ يَدْرُوا لِمَا بِهِمْ مِنْ الصِّغَرِ وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: {أُولِي الإِرْبَةِ} مَنْ لَيْسَ لَهُ أَرَبٌ وَقَالَ طَاوُسٌ هُوَ الأَحْمَقُ الَّذِي لاَ حَاجَةَ لَهُ فِي النِّسَاءِ وَقَالَ مُجَاهِدٌ لاَ يُهِمُّهُ إِلاَّ بَطْنُهُ وَلاَ يَخَافُ عَلَى النِّسَاءِ
قوله: "سورة النور - بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}{مِنْ خِلاَلِهِ} من بين أضعاف السحاب، هو قول أبي عبيدة، ولفظة أضعاف أو بين مزيدة فإن المعنى ظاهر بأحدهما، وروى الطبري من طريق ابن عباس أنه قرأ: {يخرج من خلله" قال هارون أحد رواته: فذكرته لأبي عمرو فقال: إنها لحسنة ولكن خلاله أعم. قوله: "سنا برقه وهو الضياء" قال أبو عبيدة في قوله: {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ} مقصور أي ضياء، والسناء ممدود في الحسب. وروى الطبري من طريق ابن عباس في قوله: {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ} يقول: ضوء برقه. ومن طريق قتادة قال: لمعان البرق. قوله:

(8/446)


"مذعنين يقال للمستخذي مذعن" قال أبو عبيدة في قوله: {أْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} أي مستخذين، وهو بالخاء والذال المعجمتين. وروى الطبري من طريق مجاهد في قوله: {مُذْعِنِينَ} قال: سراعا. وقال الزجاج: الإذعان الإسراع في الطاعة. قوله: "أشتاتا وشتى وشتات وشت واحد" هو قول أبي عبيدة بلفظه. وقال غيره: أشتات جمع ومفرد. قوله: "وقال مجاهد: لو إذا خلافا" وصله الطبري من طريقه، واللواذ مصدر لاوذت. قوله: "وقال سعد بن عياض الثمالي" بضم المثلثة وتخفيف الميم نسبة إلى ثمالة قبيلة من الأزد، وهو كوفي تابعي، ذكر مسلم أن أبا إسحاق تفرد بالرواية عنه، وزعم بعضهم أن له صحبة ولم يثبت، وما له في البخاري إلا هذا الموضع، وله حديث عن ابن مسعود عند أبي داود والنسائي، قال ابن سعد: كان قليل الحديث. وقال البخاري: مات غازيا بأرض الروم. قوله: "المشكاة الكوة بلسان الحبشة" وصله ابن شاهين من طريقه، ووقع لنا بعلو في "فوائد جعفر السراج" وقد روى الطبري من طريق كعب الأحبار قال: المشكاة الكوة والكوة بضم الكاف وبفتحها وتشديد الواو وهي الطاقة للضوء، وأما قوله بلسان الحبشة فمضى الكلام فيه في تفسير سورة النساء. وقال غيره: المشكاة موضع الفتيلة رواه الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. وأخرج الحاكم من وجه آخر عن ابن عباس في قوله: "كمشكاة" قال: يعني الكوة. قوله: "وقال ابن عباس: سورة أنزلناها بيناها" قال عياض: كذا في النسخ والصواب "أنزلناها وفرضناها" بيناها، فبيناها تفسير فرضناها، ويدل عليه قوله بعد هذا: "ويقال في فرضناها أنزلنا فيها فرائض مختلفة" فإنه يدل على أنه تقدم له تفسير آخر انتهى. وقد روى الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {وَفَرَضْنَاهَا} يقول بيناها، وهو يؤيد قول عياض. قوله: "وقال غيره: سمي القرآن لجماعة السور، وسميت السورة لأنها مقطوعة من الأخرى. فلما قرن بعضها إلى بعض سمي قرآنا" هو قول أبي عبيدة قاله في أول "المجاز: . وفي رواية أبي جعفر المصادري عنه: سمي القرآن لجماعة السور، فذكر مثله سواء وجوز الكرماني في قراءة هذه اللفظة - وهي الجماعة - وجهين: إما بفتح الجيم وآخرها تاء تأنيث بمعنى الجميع، وإما بكسر الجيم وآخرها ضمير يعود على القرآن. قوله: "وقوله {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} : تأليف بعضه إلى بعض إلخ" يأتي الكلام عليه في تفسير سورة القيامة إن شاء الله تعالى. قوله: "ويقال ليس لشعره قرآن أي تأليف" هو قول أبي عبيدة. قوله: "ويقال للمرأة ما قرأت بسلاقط، أي لم تجمع ولدا في بطنها" هو قول أبي عبيدة أيضا قاله في "المجاز: رواية أبي جعفر المصادري عنه، وأنشد قول الشاعر "هجان اللون لم يقرأ جنينا" والسلا بفتح المهملة وتخفيف اللام، وحاصله أن القرآن عنده من قرأ بمعنى جمع، لا من قرأ بمعني تلا. قوله: "وقال: "فرضناها" أنزلنا فيها فرائض مختلفة، ومن قرأ فرضناها يقول فرضنا عليكم وعلى من بعدكم" فيها كذا وقال الفراء: من قرأ: {فرضناها "يقول فرضنا فيها فرائض مختلفة، وإن شئت فرضناها عليكم وعلى من بعدكم إلى يوم القيامة، قال: فالتشديد بهذين الوجهين حسن. وقال أبو عبيدة في قوله: "فرضناها" حددنا فيها الحلال والحرام، وفرضنا من الفريضة. وفي رواية له ومن خففها جعلها من الفريضة قوله: "وقال الشعبي:"أولي الإربة "من ليس له أرب" ثبت هذا للنسفي، وسيأتي بعضه في النكاح، وقد وصله الطبري من طريق شعبة عن مغيرة عن الشعبي مثله. ومن وجه آخر عنه قال: الذي لم يبلغ أربه أن يطلع على عورة النساء. قوله: "وقال طاوس: هو الأحمق الذي لا حاجة له في النساء" وصله عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه مثله. قوله: "وقال مجاهد لا يهمه إلا بطنه ولا يخاف على

(8/447)


النساء" {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا} لم يدروا لما بهم من الصغر" وصله الطبري من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: "أو التابعين غير أولي الإربة" قال: الذي يريد الطعام ولا يريد النساء، ومن وجه آخر عنه قال: الذين لا يهمهم إلا بطونهم ولا يخافون على النساء. وفي قوله: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} قال: لم يدروا ما هي من الصغر قبل الحلم.

(8/448)


1- باب {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ}
4745- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ عُوَيْمِرًا أَتَى عَاصِمَ بْنَ عَدِيٍّ وَكَانَ سَيِّدَ بَنِي عَجْلاَنَ فَقَالَ كَيْفَ تَقُولُونَ فِي رَجُلٍ وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلاً أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ أَمْ كَيْفَ يَصْنَعُ سَلْ لِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَأَتَى عَاصِمٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسَائِلَ فَسَأَلَهُ عُوَيْمِرٌ فَقَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَرِهَ الْمَسَائِلَ وَعَابَهَا قَالَ عُوَيْمِرٌ وَاللَّهِ لاَ أَنْتَهِي حَتَّى أَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَجَاءَ عُوَيْمِرٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ رَجُلٌ وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلاً أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ أَمْ كَيْفَ يَصْنَعُ، فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ الْقُرْآنَ فِيكَ وَفِي صَاحِبَتِكَ فَأَمَرَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمُلاَعَنَةِ بِمَا سَمَّى اللَّهُ فِي كِتَابِهِ فَلاَعَنَهَا ثُمَّ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ حَبَسْتُهَا فَقَدْ ظَلَمْتُهَا فَطَلَّقَهَا" فَكَانَتْ سُنَّةً لِمَنْ كَانَ بَعْدَهُمَا فِي الْمُتَلاَعِنَيْنِ ثُمَّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "انْظُرُوا فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَسْحَمَ أَدْعَجَ الْعَيْنَيْنِ عَظِيمَ الأَلْيَتَيْنِ خَدَلَّجَ السَّاقَيْنِ فَلاَ أَحْسِبُ عُوَيْمِرًا إِلاَّ قَدْ صَدَقَ عَلَيْهَا وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أُحَيْمِرَ كَأَنَّهُ وَحَرَةٌ فَلاَ أَحْسِبُ عُوَيْمِرًا إِلاَّ قَدْ كَذَبَ" عَلَيْهَا فَجَاءَتْ بِهِ عَلَى النَّعْتِ الَّذِي نَعَتَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ تَصْدِيقِ عُوَيْمِرٍ فَكَانَ بَعْدُ يُنْسَبُ إِلَى أُمِّه"

(8/448)


2- بَاب {وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنْ الْكَاذِبِينَ}
4746- حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ أَبُو الرَّبِيعِ حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ رَجُلًا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ رَجُلاً رَأَى مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلاً أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ أَمْ كَيْفَ يَفْعَلُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمَا مَا ذُكِرَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ التَّلاَعُنِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قَدْ قُضِيَ فِيكَ وَفِي امْرَأَتِكَ" قَالَ فَتَلاَعَنَا وَأَنَا شَاهِدٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَفَارَقَهَا فَكَانَتْ سُنَّةً أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ الْمُتَلاَعِنَيْنِ وَكَانَتْ حَامِلاً فَأَنْكَرَ حَمْلَهَا وَكَانَ ابْنُهَا يُدْعَى إِلَيْهَا ثُمَّ جَرَتْ السُّنَّةُ فِي الْمِيرَاثِ أَنْ يَرِثَهَا وَتَرِثَ مِنْهُ مَا فَرَضَ اللَّهُ لَهَا"

(8/448)


3- باب {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنْ الْكَاذِبِينَ}
4747- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ هِلاَلَ بْنَ أُمَيَّةَ قَذَفَ امْرَأَتَهُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَرِيكِ ابْنِ سَحْمَاءَ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الْبَيِّنَةَ أَوْ حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ" فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِذَا رَأَى أَحَدُنَا عَلَى امْرَأَتِهِ رَجُلًا يَنْطَلِقُ يَلْتَمِسُ الْبَيِّنَةَ فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "الْبَيِّنَةَ وَإِلاَ حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ" فَقَالَ هِلاَلٌ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ إِنِّي لَصَادِقٌ فَلَيُنْزِلَنَّ اللَّهُ مَا يُبَرِّئُ ظَهْرِي مِنْ الْحَدِّ فَنَزَلَ جِبْرِيلُ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} فَقَرَأَ حَتَّى بَلَغَ {إِنْ كَانَ مِنْ الصَّادِقِينَ} فَانْصَرَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا فَجَاءَ هِلاَلٌ فَشَهِدَ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ" ثُمَّ قَامَتْ فَشَهِدَتْ فَلَمَّا كَانَتْ عِنْدَ الْخَامِسَةِ وَقَّفُوهَا وَقَالُوا إِنَّهَا مُوجِبَةٌ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَتَلَكَّأَتْ وَنَكَصَتْ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهَا تَرْجِعُ ثُمَّ قَالَتْ لاَ أَفْضَحُ قَوْمِي سَائِرَ الْيَوْمِ فَمَضَتْ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَبْصِرُوهَا فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَكْحَلَ الْعَيْنَيْنِ سَابِغَ الأَلْيَتَيْنِ خَدَلَّجَ السَّاقَيْنِ فَهُوَ لِشَرِيكِ ابْنِ سَحْمَاءَ فَجَاءَتْ بِهِ كَذَلِكَ. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لَوْلاَ مَا مَضَى مِنْ كِتَابِ اللَّهِ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْن"
قوله: "باب {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ} الآية" ذكر فيه حديث ابن عباس في قصة المتلاعنين من رواية عكرمة عنه، وقد ذكره في اللعان من رواية القاسم بن محمد عنه، وبينهما في سياقه اختلاف سأبينه هناك، وأقتصر هنا على بيان الراجح من الاختلاف في سبب نزول آيات اللعان دون أحكامه فأذكرها في بابها إن شاء الله تعالى. وقوله: "عن هشام بن حسان حدثنا عكرمة" هكذا قال ابن عدي عنه. وقال عبد الأعلى ومخلد بن حسين "عن هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أنس" فمنهم من أعل حديث ابن عباس بهذا ومنهم من حمله على أن لهشام فيه شيخين، وهذا هو المعتمد، فإن البخاري أخرج طريق عكرمة، ومسلما أخرج طريق ابن سيرين، ويرجح هذا الحمل اختلاف السياقين كما سنبينه إن شاء الله تعالى. قوله: "البينة أو حد في ظهرك" قال ابن مالك: ضبطوا البينة بالنصب على تقدير عامل أي أحضر البينة. وقال غيره: روي بالرفع والتقدير إما البينة وإما حد. وقوله في الرواية المشهورة: "أو حد في ظهرك" قال ابن مالك: حذف منه فاء الجواب وفعل الشرط بعد إلا والتقدير وإلا تحضرها فجزاؤك حد في ظهرك، قال: وحذف مثل هذا لم يذكر النحاة أنه يجوز إلا في الشعر، لكن يرد عليهم وروده في هذا الحديث الصحيح. قوله: "فقال هلال: والذي بعثك بالحق إني لصادق، ولينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد، فنزل جبريل وأنزل

(8/449)


عليه: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} كذا في هذه الرواية أن آيات اللعان نزلت في قصة هلال بن أمية، وفي حديث سعد الماضي أنها نزلت في عويمر ولفظه: "فجاء عويمر فقال: يا رسول الله رجل وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه، أم كيف يصنع؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد أنزل الله فيك وفي صاحبتك، فأمرهما بالملاعنة" وقد اختلف الأئمة في هذا الموضع: فمنهم من رجح أنها نزلت في شأن عويمر، ومنهم من رجح أنها نزلت في شأن هلال، ومنهم من جمع بينهما بأن أول من وقع له ذلك هلال وصادف مجيء عويمر أيضا فنزلت في شأنهما معا في وقت واحد. وقد جنح النووي إلى هذا، وسبقه الخطيب فقال: لعلهما اتفق كونهما جاآ في وقت واحد. ويؤيد التعدد أن القائل في قصة هلال سعد بن عبادة كما أخرجه أبو داود والطبري من طريق عباد بن منصور عن عكرمة عن ابن عباس مثل رواية هشام بن حسان بزيادة في أوله "لما نزلت: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} الآية قال سعد بن عبادة: لو رأيت لكاعا قد تفخذها رجل لم يكن لي أن أهيجه حتى آتي أربعة شهداء، ما كنت لآتي بهم حتى يفرغ من حاجته، قال: فما لبثوا إلا يسيرا حتى جاء هلال بن أمية" الحديث. وعند الطبري من طريق أيوب عن عكرمة مرسلا فيه نحوه وزاد: "فلم يلبثوا أن جاء ابن عم له فرمى امرأته" الحديث. والقائل في قصة عويمر عاصم بن عدي كما في حديث سهل بن سعد في الباب الذي قبله. وأخرج الطبري من طريق الشعبي مرسلا قال: "لما نزلت: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} الآية قال عاصم بن عدي: إن أنا رأيت فتكلمت جلدت، وإن سكت سكت على غيظ" الحديث، ولا مانع أن تتعدد القصص ويتحد النزول.
وروى البزار من طريق زيد بن تبيع عن حذيفة قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لأبي بكر: لو رأيت مع أم رومان رجلا ما كنت فاعلا به؟ قال: كنت فاعلا به شرا. قال: فأنت يا عمر؟ قال: كنت أقول لعن الله الأبعد، قال: فنزلت: {ويحتمل أن النزول سبق بسبب هلال، فلما جاء عويمر ولم يكن علم بما وقع لهلال أعلمه النبي صلى الله عليه وسلم بالحكم، ولهذا قال في قصة هلال: "فنزل جبريل" وفي قصة عويمر "قد أنزل الله فيك فيؤول قوله: قد أنزل الله فيك أي وفيمن كان مثلك" وبهذا أجاب ابن الصباغ في الشامل قال: نزلت الآية في هلال، وأما قوله لعويمر: "قد نزل فيك وفي صاحبتك" فمعناه ما نزل في قصة هلال، ويؤيده أن في حديث أنس عند أبي يعلى قال: "أول لعان كان في الإسلام أن شريك بن سحماء قذفه هلال بن أمية بامرأته" الحديث، وجنح القرطبي إلى تجويز نزول الآية مرتين، قال: وهذه الاحتمالات وإن بعدت أولى من تغليط الرواة الحفاظ وقد أنكر جماعة ذكر هلال فيمن لاعن، قال القرطبي: أنكره أبو عبد الله بن أبي صفرة أخو المهلب وقال: هو خطأ، والصحيح أنه عويمر. وسبقه إلى نحو ذلك الطبري وقال ابن العربي: قال الناس: هو وهم من هشام بن حسان، وعليه دار حديث ابن عباس وأنس بذلك. وقال عياض في "المشارق" كذا جاء من رواية هشام بن حسان ولم يقله غيره، وإنما القصة لعويمر العجلاني، قال: ولكن وقع في "المدونة" في حديث العجلاني ذكر شريك. وقال النووي في مبهماته: اختلفوا في الملاعن على ثلاثة أقوال عويمر العجلاني، وهلال بن أمية، وعاصم بن عدي. ثم نقل عن الواحدي أن أظهر هذه الأقوال أنه عويمر. وكلام الجميع متعقب أما قول ابن أبي صفرة فدعوى مجردة، وكيف يجزم بخطأ حديث ثابت في الصحيحين مع إمكان الجمع؟ وما نسبه إلى الطبري لم أره في كلامه. وأما قول ابن العربي إن ذكر هلال دار على هشام بن حسان، وكذا جزم عياض بأنه لم يقله غيره، فمردود لأن هشام بن حسان لم ينفرد به، فقد وافقه عباد بن منصور كما قدمته، وكذا جرير بن حازم عن أيوب أخرجه الطبري وابن مردويه موصولا قال: "لما قذف هلال بن أمية امرأته"

(8/450)


وأما قول النووي تبعا للواحدي وجنوحه إلى الترجيح فمرجوح لأن الجمع مع إمكانه أولى من الترجيح. ثم قوله: "وقيل عاصم بن عدي" فيه نظر لأنه ليس لعاصم فيه قصة أنه الذي لاعن امرأته، وإنما الذي وقع من عاصم نظير الذي وقع من سعد بن عبادة. ولما روى ابن عبد البر في "التمهيد" طريق جرير بن حازم تعقبه بأن قال: قد رواه القاسم بن محمد عن ابن عباس كما رواه الناس. وهو يوهم أن القاسم سمى الملاعن عويمرا، والذي في الصحيح "فأتاه رجل من قومه" أي من قوم عاصم، والنسائي من هذا الوجه "لاعن بين العجلاني وامرأته" والعجلاني هو عويمر.

(8/451)


4- باب {وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنْ الصَّادِقِينَ}
4748- حَدَّثَنَا مُقَدَّمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى حَدَّثَنَا عَمِّي الْقَاسِمُ بْنُ يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ وَقَدْ سَمِعَ مِنْهُ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَجُلاً رَمَى امْرَأَتَهُ فَانْتَفَى مِنْ وَلَدِهَا فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَ بِهِمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَلاَعَنَا كَمَا قَالَ اللَّهُ ثُمَّ قَضَى بِالْوَلَدِ لِلْمَرْأَةِ وَفَرَّقَ بَيْنَ الْمُتَلاَعِنَيْن"
[الحديث 4748- أطرافه في: 5306، 5313، 5314، 5315، 6748]
قوله: "باب قوله: {وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنْ الصَّادِقِينَ} ، حدثنا مقدم" هو بوزن محمد، وهو ابن محمد بن يحيى بن عطاء بن مقدم الهلالي المقدمي الواسطي، وليس له في البخاري سوى هذا الحديث وآخر في التوحيد وكلاهما في المتابعات. قوله: "حدثني عمي القاسم بن يحيى" هو ثقة وهو ابن عم أبي بكر بن علي المقدمي والد محمد شيخ البخاري أيضا، وليس للقاسم عند البخاري سوى الحديثين المذكورين. قوله: "عن عبيد الله وقد سمع منه" هو كلام البخاري وأشار بذلك إلى حديث غير هذا صرح فيه القاسم بن يحيى بسماعه من عبيد الله بن عمر، وأما هذا الحديث فقد رواه الطبراني عن أبي بكر بن صدقة عن يقدم بن محمد بهذا الإسناد معنعنا. قوله: "أن رجلا رمى امرأته فانتفى من ولدها" سيأتي البحث فيه مفصلا في كتاب اللعان إن شاء الله تعالى.

(8/451)


باب {إن الذين جاءو بالإفك عصبة منكم ...}
...
5- باب {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لاَ تَحْسِبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنْ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} أَفَّاكٌ كَذَّابٌ
4749- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ} قَالَتْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُول"
قوله: "باب قوله: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} كذا لأبي ذر، وساق غيره الآية إلى قوله: "عذاب عظيم" وهو أولى لأنه اقتصر في الباب على تفسير الذي تولى كبره فقط. قوله: "أفاك كذاب" هو تفسير أبي عبيدة وغيره. قوله: "حدثنا أبو نعيم حدثنا سفيان" هو الثوري، وقد صرح به ابن مردويه من وجه آخر عن أبي نعيم شيخ البخاري فيه، ورواه عبد الرزاق عن معمر مطولا في جملة حديث الإفك، وقد تقدم في غزوة المريسيع من المغازي من رواية معمر أيضا وغيره عن الزهري، وفي القصة التي دارت بينه وبين الوليد بن عبد الملك في ذلك

(8/451)


6- باب {وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ}
{لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ}
4750- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَعَلْقَمَةُ بْنُ وَقَّاصٍ وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالَ لَهَا أَهْلُ الإِفْكِ مَا قَالُوا فَبَرَّأَهَا اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكُلٌّ حَدَّثَنِي طَائِفَةً مِنْ الْحَدِيثِ وَبَعْضُ حَدِيثِهِمْ يُصَدِّقُ بَعْضًا وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ أَوْعَى لَهُ مِنْ بَعْضٍ الَّذِي حَدَّثَنِي عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ أَقْرَعَ بَيْنَ أَزْوَاجِهِ فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُ قَالَتْ عَائِشَةُ فَأَقْرَعَ بَيْنَنَا فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا فَخَرَجَ سَهْمِي فَخَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَمَا نَزَلَ الْحِجَابُ فَأَنَا أُحْمَلُ فِي هَوْدَجِي وَأُنْزَلُ فِيهِ فَسِرْنَا حَتَّى إِذَا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَزْوَتِهِ تِلْكَ وَقَفَلَ وَدَنَوْنَا مِنْ الْمَدِينَةِ قَافِلِينَ آذَنَ لَيْلَةً بِالرَّحِيلِ فَقُمْتُ حِينَ آذَنُوا بِالرَّحِيلِ فَمَشَيْتُ حَتَّى جَاوَزْتُ الْجَيْشَ فَلَمَّا قَضَيْتُ شَأْنِي أَقْبَلْتُ إِلَى رَحْلِي فَإِذَا عِقْدٌ لِي مِنْ جَزْعِ ظَفَارِ قَدْ انْقَطَعَ فَالْتَمَسْتُ عِقْدِي وَحَبَسَنِي ابْتِغَاؤُهُ وَأَقْبَلَ الرَّهْطُ الَّذِينَ كَانُوا يَرْحَلُونَ لِي فَاحْتَمَلُوا هَوْدَجِي فَرَحَلُوهُ عَلَى بَعِيرِي الَّذِي كُنْتُ رَكِبْتُ وَهُمْ يَحْسِبُونَ أَنِّي فِيهِ وَكَانَ النِّسَاءُ إِذْ ذَاكَ خِفَافًا لَمْ يُثْقِلْهُنَّ اللَّحْمُ إِنَّمَا تَأْكُلُ الْعُلْقَةَ مِنْ الطَّعَامِ فَلَمْ يَسْتَنْكِرْ الْقَوْمُ خِفَّةَ الْهَوْدَجِ حِينَ رَفَعُوهُ وَكُنْتُ جَارِيَةً حَدِيثَةَ السِّنِّ فَبَعَثُوا الْجَمَلَ وَسَارُوا فَوَجَدْتُ عِقْدِي بَعْدَمَا اسْتَمَرَّ الْجَيْشُ فَجِئْتُ مَنَازِلَهُمْ وَلَيْسَ بِهَا دَاعٍ وَلاَ مُجِيبٌ فَأَمَمْتُ مَنْزِلِي الَّذِي كُنْتُ بِهِ وَظَنَنْتُ أَنَّهُمْ سَيَفْقِدُونِي فَيَرْجِعُونَ إِلَيَّ فَبَيْنَا أَنَا جَالِسَةٌ فِي مَنْزِلِي غَلَبَتْنِي عَيْنِي فَنِمْتُ وَكَانَ صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطَّلِ السُّلَمِيُّ ثُمَّ الذَّكْوَانِيُّ مِنْ وَرَاءِ الْجَيْشِ فَأَدْلَجَ فَأَصْبَحَ عِنْدَ مَنْزِلِي فَرَأَى سَوَادَ إِنْسَانٍ نَائِمٍ فَأَتَانِي فَعَرَفَنِي حِينَ رَآنِي وَكَانَ رَآنِي قَبْلَ الْحِجَابِ فَاسْتَيْقَظْتُ بِاسْتِرْجَاعِهِ حِينَ عَرَفَنِي فَخَمَّرْتُ وَجْهِي بِجِلْبَابِي وَ وَاللَّهِ مَا كَلَّمَنِي كَلِمَةً وَلاَ سَمِعْتُ مِنْهُ كَلِمَةً غَيْرَ اسْتِرْجَاعِهِ حَتَّى أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ فَوَطِئَ عَلَى يَدَيْهَا فَرَكِبْتُهَا فَانْطَلَقَ يَقُودُ بِي الرَّاحِلَةَ حَتَّى أَتَيْنَا الْجَيْشَ بَعْدَمَا نَزَلُوا مُوغِرِينَ فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ فَهَلَكَ مَنْ هَلَكَ وَكَانَ الَّذِي تَوَلَّى الإِفْكَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ

(8/452)


أُبَيٍّ ابْنَ سَلُولَ فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فَاشْتَكَيْتُ حِينَ قَدِمْتُ شَهْرًا وَالنَّاسُ يُفِيضُونَ فِي قَوْلِ أَصْحَابِ الإِفْكِ لاَ أَشْعُرُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ يَرِيبُنِي فِي وَجَعِي أَنِّي لاَ أَعْرِفُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّطَفَ الَّذِي كُنْتُ أَرَى مِنْهُ حِينَ أَشْتَكِي إِنَّمَا يَدْخُلُ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُسَلِّمُ ثُمَّ يَقُولُ: "كَيْفَ تِيكُمْ" ثُمَّ يَنْصَرِفُ فَذَاكَ الَّذِي يَرِيبُنِي وَلاَ أَشْعُرُ بِالشَّرِّ حَتَّى خَرَجْتُ بَعْدَمَا نَقَهْتُ فَخَرَجَتْ مَعِي أُمُّ مِسْطَحٍ قِبَلَ الْمَنَاصِعِ وَهُوَ مُتَبَرَّزُنَا وَكُنَّا لاَ نَخْرُجُ إِلاَّ لَيْلًا إِلَى لَيْلٍ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ نَتَّخِذَ الْكُنُفَ قَرِيبًا مِنْ بُيُوتِنَا وَأَمْرُنَا أَمْرُ الْعَرَبِ الأُوَلِ فِي التَّبَرُّزِ قِبَلَ الْغَائِطِ فَكُنَّا نَتَأَذَّى بِالْكُنُفِ أَنْ نَتَّخِذَهَا عِنْدَ بُيُوتِنَا فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأُمُّ مِسْطَحٍ وَهِيَ ابْنَةُ أَبِي رُهْمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ وَأُمُّهَا بِنْتُ صَخْرِ بْنِ عَامِرٍ خَالَةُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَابْنُهَا مِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ فَأَقْبَلْتُ أَنَا وَأُمُّ مِسْطَحٍ قِبَلَ بَيْتِي وَقَدْ فَرَغْنَا مِنْ شَأْنِنَا فَعَثَرَتْ أُمُّ مِسْطَحٍ فِي مِرْطِهَا فَقَالَتْ تَعِسَ مِسْطَحٌ فَقُلْتُ لَهَا بِئْسَ مَا قُلْتِ أَتَسُبِّينَ رَجُلًا شَهِدَ بَدْرًا قَالَتْ أَيْ هَنْتَاهْ أَوَلَمْ تَسْمَعِي مَا قَالَ قَالَتْ قُلْتُ وَمَا قَالَ فَأَخْبَرَتْنِي بِقَوْلِ أَهْلِ الإِفْكِ فَازْدَدْتُ مَرَضًا عَلَى مَرَضِي فَلَمَّا رَجَعْتُ إِلَى بَيْتِي وَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعْنِي سَلَّمَ ثُمَّ قَالَ كَيْفَ تِيكُمْ فَقُلْتُ أَتَأْذَنُ لِي أَنْ آتِيَ أَبَوَيَّ قَالَتْ وَأَنَا حِينَئِذٍ أُرِيدُ أَنْ أَسْتَيْقِنَ الْخَبَرَ مِنْ قِبَلِهِمَا قَالَتْ فَأَذِنَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجِئْتُ أَبَوَيَّ فَقُلْتُ لِأُمِّي يَا أُمَّتَاهْ مَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ قَالَتْ يَا بُنَيَّةُ هَوِّنِي عَلَيْكِ فَوَاللَّهِ لَقَلَّمَا كَانَتْ امْرَأَةٌ قَطُّ وَضِيئَةٌ عِنْدَ رَجُلٍ يُحِبُّهَا وَلَهَا ضَرَائِرُ إِلاَّ كَثَّرْنَ عَلَيْهَا قَالَتْ فَقُلْتُ سُبْحَانَ اللَّهِ أَوَلَقَدْ تَحَدَّثَ النَّاسُ بِهَذَا قَالَتْ فَبَكَيْتُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ حَتَّى أَصْبَحْتُ لاَ يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ وَلاَ أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ حَتَّى أَصْبَحْتُ أَبْكِي فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَأُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا حِينَ اسْتَلْبَثَ الْوَحْيُ يَسْتَأْمِرُهُمَا فِي فِرَاقِ أَهْلِهِ قَالَتْ فَأَمَّا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ فَأَشَارَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالَّذِي يَعْلَمُ مِنْ بَرَاءَةِ أَهْلِهِ وَبِالَّذِي يَعْلَمُ لَهُمْ فِي نَفْسِهِ مِنْ الْوُدِّ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَهْلَكَ وَلاَ نَعْلَمُ إِلاَّ خَيْرًا وَأَمَّا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَمْ يُضَيِّقْ اللَّهُ عَلَيْكَ وَالنِّسَاءُ سِوَاهَا كَثِيرٌ وَإِنْ تَسْأَلْ الْجَارِيَةَ تَصْدُقْكَ قَالَتْ فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَرِيرَةَ فَقَالَ أَيْ بَرِيرَةُ هَلْ رَأَيْتِ مِنْ شَيْءٍ يَرِيبُكِ قَالَتْ بَرِيرَةُ لاَ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ إِنْ رَأَيْتُ عَلَيْهَا أَمْرًا أَغْمِصُهُ عَلَيْهَا أَكْثَرَ مِنْ أَنَّهَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ تَنَامُ عَنْ عَجِينِ أَهْلِهَا فَتَأْتِي الدَّاجِنُ فَتَأْكُلُهُ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَعْذَرَ يَوْمَئِذٍ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ قَالَتْ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ: " يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَعْذِرُنِي مِنْ رَجُلٍ قَدْ بَلَغَنِي أَذَاهُ فِي أَهْلِ بَيْتِي فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ عَلَى أَهْلِي إِلاَّ خَيْرًا وَلَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلًا مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ إِلاَّ خَيْرًا وَمَا كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أَهْلِي إِلاَّ مَعِي" فَقَامَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ الأَنْصَارِيُّ فَقَالَ يَا رَسُولَ

(8/453)


اللَّهِ أَنَا أَعْذِرُكَ مِنْهُ إِنْ كَانَ مِنْ الأَوْسِ ضَرَبْتُ عُنُقَهُ وَإِنْ كَانَ مِنْ إِخْوَانِنَا مِنْ الْخَزْرَجِ أَمَرْتَنَا فَفَعَلْنَا أَمْرَكَ قَالَتْ فَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَهُوَ سَيِّدُ الْخَزْرَجِ وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ رَجُلاً صَالِحًا وَلَكِنْ احْتَمَلَتْهُ الْحَمِيَّةُ فَقَالَ لِسَعْدٍ كَذَبْتَ لَعَمْرُ اللَّهِ لاَ تَقْتُلُهُ وَلاَ تَقْدِرُ عَلَى قَتْلِهِ فَقَامَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ وَهُوَ ابْنُ عَمِّ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فَقَالَ لِسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ كَذَبْتَ لَعَمْرُ اللَّهِ لَنَقْتُلَنَّهُ فَإِنَّكَ مُنَافِقٌ تُجَادِلُ عَنْ الْمُنَافِقِينَ فَتَثَاوَرَ الْحَيَّانِ الأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ حَتَّى هَمُّوا أَنْ يَقْتَتِلُوا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ عَلَى الْمِنْبَرِ فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخَفِّضُهُمْ حَتَّى سَكَتُوا وَسَكَتَ قَالَتْ فَبَكَيْتُ يَوْمِي ذَلِكَ لاَ يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ وَلاَ أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ قَالَتْ فَأَصْبَحَ أَبَوَايَ عِنْدِي وَقَدْ بَكَيْتُ لَيْلَتَيْنِ وَيَوْمًا لاَ أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ وَلاَ يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ يَظُنَّانِ أَنَّ الْبُكَاءَ فَالِقٌ كَبِدِي قَالَتْ فَبَيْنَمَا هُمَا جَالِسَانِ عِنْدِي وَأَنَا أَبْكِي فَاسْتَأْذَنَتْ عَلَيَّ امْرَأَةٌ مِنْ الأَنْصَارِ فَأَذِنْتُ لَهَا فَجَلَسَتْ تَبْكِي مَعِي قَالَتْ فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلَّمَ ثُمَّ جَلَسَ قَالَتْ وَلَمْ يَجْلِسْ عِنْدِي مُنْذُ قِيلَ مَا قِيلَ قَبْلَهَا وَقَدْ لَبِثَ شَهْرًا لاَ يُوحَى إِلَيْهِ فِي شَأْنِي قَالَتْ فَتَشَهَّدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ جَلَسَ ثُمَّ قَالَ: "أَمَّا بَعْدُ يَا عَائِشَةُ فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي عَنْكِ كَذَا وَكَذَا فَإِنْ كُنْتِ بَرِيئَةً فَسَيُبَرِّئُكِ اللَّهُ وَإِنْ كُنْتِ أَلْمَمْتِ بِذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرِي اللَّهَ وَتُوبِي إِلَيْهِ فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا اعْتَرَفَ بِذَنْبِهِ ثُمَّ تَابَ إِلَى اللَّهِ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ" قَالَتْ فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقَالَتَهُ قَلَصَ دَمْعِي حَتَّى مَا أُحِسُّ مِنْهُ قَطْرَةً فَقُلْتُ لأَبِي أَجِبْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا قَالَ قَالَ وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ لأُمِّي أَجِيبِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ فَقُلْتُ وَأَنَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ لاَ أَقْرَأُ كَثِيرًا مِنْ الْقُرْآنِ إِنِّي وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُ لَقَدْ سَمِعْتُمْ هَذَا الْحَدِيثَ حَتَّى اسْتَقَرَّ فِي أَنْفُسِكُمْ وَصَدَّقْتُمْ بِهِ فَلَئِنْ قُلْتُ لَكُمْ إِنِّي بَرِيئَةٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ لاَ تُصَدِّقُونِي بِذَلِكَ وَلَئِنْ اعْتَرَفْتُ لَكُمْ بِأَمْرٍ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي مِنْهُ بَرِيئَةٌ لَتُصَدِّقُنِّي وَاللَّهِ مَا أَجِدُ لَكُمْ مَثَلا إِلاَّ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ قَالَ {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} قَالَتْ ثُمَّ تَحَوَّلْتُ فَاضْطَجَعْتُ عَلَى فِرَاشِي قَالَتْ وَأَنَا حِينَئِذٍ أَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ مُبَرِّئِي بِبَرَاءَتِي وَلَكِنْ وَاللَّهِ مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ مُنْزِلٌ فِي شَأْنِي وَحْيًا يُتْلَى وَلَشَأْنِي فِي نَفْسِي كَانَ أَحْقَرَ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ فِيَّ بِأَمْرٍ يُتْلَى وَلَكِنْ كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَرَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّوْمِ رُؤْيَا يُبَرِّئُنِي اللَّهُ بِهَا قَالَتْ فَوَاللَّهِ مَا رَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلاَ خَرَجَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ حَتَّى أُنْزِلَ عَلَيْهِ فَأَخَذَهُ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ مِنْ الْبُرَحَاءِ حَتَّى إِنَّهُ لَيَتَحَدَّرُ مِنْهُ مِثْلُ الْجُمَانِ مِنْ الْعَرَقِ وَهُوَ فِي يَوْمٍ شَاتٍ مِنْ ثِقَلِ الْقَوْلِ الَّذِي يُنْزَلُ عَلَيْهِ قَالَتْ فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُرِّيَ عَنْهُ وَهُوَ يَضْحَكُ فَكَانَتْ أَوَّلُ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا: " يَا عَائِشَةُ أَمَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَقَدْ بَرَّأَكِ" فَقَالَتْ أُمِّي قُومِي إِلَيْهِ

(8/454)


قَالَتْ فَقُلْتُ لاَ وَاللَّهِ لاَ أَقُومُ إِلَيْهِ وَلاَ أَحْمَدُ إِلاَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لاَ تَحْسِبُوهُ} الْعَشْرَ الآيَاتِ كُلَّهَا فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ هَذَا فِي بَرَاءَتِي قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحِ بْنِ أُثَاثَةَ لِقَرَابَتِهِ مِنْهُ وَفَقْرِهِ وَاللَّهِ لاَ أُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ شَيْئًا أَبَدًا بَعْدَ الَّذِي قَالَ لِعَائِشَةَ مَا قَالَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ {وَلاَ يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: بَلَى وَاللَّهِ إِنِّي أُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِي فَرَجَعَ إِلَى مِسْطَحٍ النَّفَقَةَ الَّتِي كَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ وَقَالَ وَاللَّهِ لاَ أَنْزِعُهَا مِنْهُ أَبَدًا قَالَتْ عَائِشَةُ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُ زَيْنَبَ ابْنَةَ جَحْشٍ عَنْ أَمْرِي فَقَالَ: "يَا زَيْنَبُ مَاذَا عَلِمْتِ أَوْ رَأَيْتِ" فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَحْمِي سَمْعِي وَبَصَرِي مَا عَلِمْتُ إِلاَّ خَيْرًا قَالَتْ: وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ تُسَامِينِي مِنْ أَزْوَاجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَصَمَهَا اللَّهُ بِالْوَرَعِ وَطَفِقَتْ أُخْتُهَا حَمْنَةُ تُحَارِبُ لَهَا فَهَلَكَتْ فِيمَنْ هَلَكَ مِنْ أَصْحَابِ الإِفْك"
قوله: "باب {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً} إلى قوله: {الْكَاذِبُونَ} كذا لأبي ذر، وقد وقع عند غيره سياق آيتين غير متواليتين: الأولى قوله: {وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا} - إلى قوله: {عَظِيمٌ} والأخرى وله: {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} إلى قوله: {الْكَاذِبُونَ} واقتصر النسفي على الآية الأخيرة. ثم ساق المصنف حديث الإفك بطوله من طريق الليث عن يونس بن يزيد عن الزهري عن مشايخه الأربعة، وقد ساقه بطوله أيضا في الشهادات من طريق فليح بن سليمان، وفي المغازي من طريق صالح بن كيسان كلاهما عن الزهري، وأورده في مواضع أخرى باختصار. فأول ما أخرجه في الجهاد ثم في الشهادات ثم في التفسير ثم في الإيمان والنذر ثم في التوحيد من طريق عبد الله النميري عن يونس باختصار في هذه المواضع، وأخرجه في التوحيد وعلقه في الشهادات باختصار أيضا من رواية الليث أيضا، وأخرجه في التفسير والأيمان والنذور والاعتصام من طريق صالح بن كيسان باختصار في هذه المواضيع أيضا. وأخرج طرفا منه معلقا في المغازي عن طريق النعمان بن راشد عن الزهري، ومن طريق معمر عن الزهري طرفا آخر. وأخرجه مسلم من رواية عبد الله بن المبارك عن يونس، ومن رواية عبد الرزاق عن معمر كلاهما عن الزهري ساقه على لفظ معمر ثم ساقه من طريق فليح وصالح بإسنادهما قال. مثله، غير أنه بين الاختلاف في "احتملته الحمية" أو "اجتهلته" وفي "موغرين" كما سيأتي. وذكر في رواية صالح زيادة كما سأنبه عليها. وأخرجه النسائي في عشرة النساء من طريق صالح، وأخرجه في التفسير من طريق محمد بن ثور عن معمر لكنه اقتصر على نحو نصف أوله ثم قال. وساق الحديث. وأخرج من طريق ابن وهب عن يونس وذكر آخر كلاهما عن الزهري بسنده "ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا وأسامة يستشيرهما إلى قوله - فتأتي الداجن فتأكله" أخرجه في القضاء. وأخرج أبو داود من طريق ابن وهب عن يونس طرفا منه في السنة، وهو قول عائشة: "ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله في بوحي يتلى" وذكره الترمذي عن يونس ومعمر وغيرهما عن الزهري معلقا عقب رواية هشام بن عروة عن أبيه، فهذه جميع طرقه في هذه الكتب. وقد

(8/455)


جاء عن الزهري من غير رواية هؤلاء، فأخرجه أبو عوانة في صحيحه والطبراني من رواية يحيي بن سعيد الأنصاري وعبيد الله بن عمر العمري وإسحاق بن راشد وعطاء الخراساني وعقيل وابن جريج. وأخرجه أبو عوانة أيضا من رواية محمد بن إسحاق وبكر بن وائل ومعاوية بن يحيى وحميد الأعرج، وعند أبي داود طرف من رواية حميد هذا، والطبراني أيضا من رواية زياد بن سعد وابن أبي عتيق وصالح بن أبي الأخضر وأفلح بن عبد الله بن المغيرة وإسماعيل بن رافع ويعقوب بن عطاء، وأخرجه ابن مردويه من رواية ابن عيينة وعبد الرحمن بن إسحاق كلهم وعدتهم ثمانية عشر نفسا عن الزهري، منهم من طوله ومنهم من اختصره، وأكثرهم يقدم عروة على سعيد وبعد سعيد علقمة ويختم بعبيد الله، وقدم معمر ويونس من رواية ابن وهب عنه، وعقيل وابن إسحاق في رواية معاوية وزياد وأفلح وإسماعيل ويعقوب سعيد بن المسيب على عروة، وقدم ابن وهب علقمة على عبيد الله، وقدم ابن إسحاق في رواية علقمة وثنى بسعيد وثلث بعروة وأخر عبيد الله، وقدم عطاء الخراساني عبيد الله على عروة في رواية وحذف من أخرى سعيدا، وكذا قدم صالح بن أبي الأخضر عبيد الله لكن ثنى بأبي سلمة بن عبد الرحمن بدل سعيد وثلث بعلقمة وختم بعروة، واقتصر بكر على سعيد. قوله "وكل حدثني طائفة من الحديث" أي بعضه هو مقول الزهري كما في رواية فليح قال الزهري الخ وفي رواية بن إسحاق قال الزهري كل حدثني بعض هذا الحديث وقد جمعت لك كل الذي حدثوني ولما ضم بن إسحاق إلى رواية الزهري عن الأربعة روايته هو عن عبد الله بن أبي بكر عن عمرة وعن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه كلاهما عن عائشة قال دخل حديث هؤلاء جميعا يحدث بعضهم ما لم يحدث صاحبه وكل كان ثقة فكل حدث عنها ما سمع قال فذكره قال عياض انتقدوا على الزهري ما صنعه من روايته لهذا الحديث ملفقا عن هؤلاء الأربعة وقالوا كان ينبغي له أن يفرد حديث كل واحد منهم عن الآخر انتهى وقد تتبعت الإشارة فوجدته من رواية عروة على انفرداه ومن رواية علقمة بن وقاص على انفرداه وفي سياق كل منهما مخالفات ونقص وبعض زيادة لما في سياق الزهري عن الأربعة فأما رواية عروة فأخرجها المصنف في الشهادات من رواية فليح بن سليمان عن هشام بن عروة عن أبيه عقب رواية فليح عن الزهري قال مثله ولم يسق لفظه وبينهما تفاوت كبير بالحق فليحا تجوز في قوله مثله وقد علقها المصنف كما سيأتي قريبا لأبي أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه بتمامه ووصلها مسلم لأبي أسامة إلا أنه لم يسقه بتمامه ووصله أحمد وأبو بكر بن أبي شيبة عن أبي أسامة بتمامه وكذا أخرجه الترمذي والطبري والإسماعيلي من رواية أبي أسامة وأخرجه أبو عوانة والطبراني من رواية حماد بن سلمة وأبي أويس وأبي عوانة وابن مردويه من رواية يونس بن بكير والدارقطني في الغرائب من رواية مالك وأبو عوانة من رواية على بن مسهر وسعيد بن أبي هلال ووصلها المصنف باختصار في الاعتصام من رواية يحيى بن أبي زكريا كلهم عن هشام بن عروة مطولا ومختصرا وأما رواية علقمة بن وقاص فوصلها الطبري والطبراني من طريق يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عنه وأما رواية سعيد بن المسيب وعبيد الله فلم أجدهما إلا من رواية الزهري عنهما وقد رواه عن هؤلاء الأربعة فأخرجه المصنف في الشهادات من رواية عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة ولم يسق لفظها وقد ساقه أبو عوانة في صحيحه والطبراني من طريق أبي أويس وأبو عوانة والطبري أيضا من طريق محمد بن إسحاق كلاهما عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم عنها وأخرجه أبو عوانة أيضا من رواية أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة والمصنف من رواية القاسم

(8/456)


ابن محمد بن أبي بكر عن عائشة إلا أنه لم يسق لفظه أخرجه في الشهادات وكذا رواية عمرة عقب رواية فليح عن الزهري وأخرجه أبو عوانة والطبراني من طريق الأسود بن يزيد وعباد بن عبد الله بن الزبير ومقسم مولى بن عباس ثلاثتهم عن عائشة وقد روى هذا الحديث من عائشة جماعة منهم عبد الله بن الزبير وحديثه أيضا عقب رواية فليح ثم المصنف في الشهادات ولم يسق لفظه وأم رومان قد تقدم حديثها في قصة يوسف وفي المغازي ويأتي باختصار قريبا وابن عباس وابن عمر وحديثهما ثم الطبراني وابن مردويه وأبو هريرة وحديثه ثم البزار وأبو اليسر وحديثه باختصار ثم بن مردويه فجميع من رواه من عائشة ستة ومن التابعين عن عائشة عشرة وأورده بن أبي حاتم من طريق سعيد بن جبير مرسلا بإسناد واه وأورده الحاكم في الأكليل من رواية مقاتل بن حيان وهو بالمهملة والتحتانية مرسلا أيضا وسأذكر في أثناء شرح هذا الحديث ما في رواية هؤلاء من فائدة زائدة أن شاء الله تعالى قوله "وبعض حديثهم يصدق بعضا" كأنه مقلوب والمقام يقتضى أن يقول وحديث بعضهم يصدق بعضا ويحتمل أن يكون على ظاهره والمراد أن بعض حديث كل منهم يدل على صدق الراوي في بقية حديثه لحسن سياقه وجودة حفظه قوله وان كان بعضهم أوعى له من بعض هو إشارة إلى أن بعض هؤلاء الأربعة أميز في سياق الحديث من بعض من جهة حفظ أكثره لا أن بعضهم أضبط من بعض مطلقا ولهذا قال أوعى له أي للحديث المذكور خاصة زاد في رواية فليح وأثبت اقتصاصا أي سياقا وقد وعيت عن كل واحد منهم الحديث الذي حدثني عن عائشة أي القدر الذي حدثني به ليطابق قوله وكل حدثني طائفة من الحديث وحاصله أن جميع الحديث عن مجموعهم لا أن مجموعه عن كل واحد منهم ووقع في رواية أفلح وبعض القوم أحسن سياقا وأما قوله في رواية الباب الذي حدثني عروة عن عائشة فهكذا في رواية الليث عن يونس وأما رواية بن المبارك وابن وهب وعبد الله النميري فلم يقل واحد منهم عن يونس الذي حدثني عروة وإنما قالوا عن عائشة فاقتضت رواية الليث أن سياق الحديث عن عروة ويحتمل أن يكون المراد أول شيء منه ويؤيده أنه تقدم في الهبة وفي الشهادات من طريق يونس عن الزهري عن عروة وحده عن عائشة أول هذا الحديث ثم إرادة السفر وكذلك أفردها أبو داود والنسائي من طريق يونس وكذا يحيى بن يمان عن معمر عن الزهري عن عروة ثم بن ماجة والاحتمال الأول أولى لما ثبت أن الرواة اختلفوا في تقديم بعض شيوخ الزهري على بعض فلو كان الاحتمال الثاني متعينا لامتنع عروة على عروة ولأشعر أيضا أن الباقين لم يرووا عن عائشة وليس كذلك فقد أخرج النسائي خاصة من طريق محمد بن على بن شافع عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله وحده عن عائشة وستأتي القصة من رواية هشام بن عروة وحده وفي سياقه مخالفة كثيرة للسياق الذي هنا للزهري عن عروة وهو مما يتأيد به الاحتمال الأول والله اعلم قوله "عروة عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت "ليس المراد أن عائشة تروي عن نفسها بل معنى قوله عن عائشة أي عن حديث عائشة في قصة الإفك ثم شرع يحدث عن عائشة فقال أن عائشة قالت ووقع في رواية فليح زعموا أن عائشة قالت والزعم قد يقع موضع القول وأن لم يكن فيه تردد لكن لعل السر فيه أن جميع مشايخ الزهري لم يصرحوا له بذلك كذا أشار إليه الكرماني قوله "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج" زاد معمر سفرا أي إلى سفر فهو سيما بنزع الخافض أو ضمن يخرج معنى ينشئ

(8/457)


فيكون سفرا نصبا على المفعولية وفي رواية فليح وصالح بن كيسان كان إذا أراد سفرا قوله "أقرع بين أزواجه" فيه والرد على من منع منها وقد تقدم التعريف بها وحكمها في أواخر كتاب الشهادات في في المشكلات قوله "فأيتهن" وقع في رواية الأصيلي من طريق فليح فأيهن بغير مثناة والأولى أولى قوله في غزوة غزاها هي غزوة بني المصطلق وصرح بذلك محمد بن إسحاق في روايته وكذا أفلح بن عبد الله ثم الطبراني وعنده في رواية أبي أويس فخرج سهم عائشة في غزوة بني المصطلق من خزاعة وعند البزار من حديث أبي هريرة فأصابت في غزوة بني المصطلق وفي رواية بكر بن وائل ثم أبي عوانة ما يشعر بأن تسمية الغزوة في حديث عائشة مدرج في الخبر قوله "فخرج سهمي" هذا يشعر بأنها كانت في تلك الغزوة وحدها لكن ثم الواقدي من طريق عباد بن عبد الله عنها أنها خرجت معه في تلك الغزوة أيضا أم سلمة وكذا في حديث بن عمر وهو ضعيف ولم يقع لأم سلمة في تلك الغزوة ذكر ورواية بن إسحاق من رواية عباد ظاهره في تفرد عائشة بذلك ولفظه فخرج سهمي عليهن فخرج بي معه قوله بعد ما نزل الحجاب أي بعد ما نزل الأمر بالحجاب والمراد حجاب النساء عن رؤية الرجال لهن وكن قبل ذلك لا يمنعن وهذا قالته كالتوطئة للسبب في كونها كانت مستترة في الهودج حتى أفضى ذلك إلى تحميله وهي ليست فيه وهم يظنون أنها فيه بخلاف ما كان قبل الحجاب فلعل النساء حينئذ كن يركبن ظهور الرواحل بغير هوادج أو يركبن مستترات فما كان يقع لها الذي يقع بل كان يعرف الذي كان يخدم بعيرها إن كانت ركبت أم لا قوله "فأنا أحمل في هودجي وأنزل فيه" في رواية بن إسحاق فكنت إذا رحلوا بعيري جلست في هودجي ثم يأخذون بأسفل الهودج فيضعونه على ظهر البعير والهودج بفتح الهاء والدال بينهما واو ساكنة وآخره جيم محمل له قبة تستر بالثياب ونحوه يوضع عن ظهر البعير يركب عليه النساء ليكون أستر لهن ووقع في رواية أبي أويس بلفظ المحفة قوله "فسرنا حتى إذا فرغ" كذا اقتصرت القصة لأن مراد سياق قصة الإفك خاصة وإنما ذكرت ما ذكرت ذلك كالتوطئة لما أرادت اقتصاصه ويحتمل أن تكون ذكرت جميع ذلك فاختصره الراوي للغرض المذكور ويؤيده أنه قد جاء عنها في قصة غزوة بني المصطلق هذا ويؤيد الأول أن في رواية الواقدي عن عباد قلت لعائشة يا أمتاه حدثينا عن قصة الإفك قال نعم وعنده فخرجنا فغنمه الله أموالهم وأنفسهم ورجعنا قوله "وقفل" بقاف وفاء أي رجع من غزوته قوله "ودنونا من المدينة قافلين" أي راجعين أي أن قصتها وقعت حال رجوعهم من الغزوة قرب دخولهم المدينة قوله "آذن" بالمد والتخفيف وبغير مد والتشديد كلاهما بمعنى أعلم بالرحيل وفي رواية بن إسحاق فنزل منزلا فبات به بعض الليل ثم آذن بالرحيل قوله "بالرحيل" في رواية بعضهم الرحيل بغير موحدة وبالنصب وكأنه حكاية قولهم الرحيل بالنصب على الإغراء قوله فمشيت جتى جاوزت الجيش أي لتقضي حاجتها منفردة قوله فلما قضيت شأني الذي توجهت بسببه ووقع في حديث بن عمر خلاف ما في الصحيح وأن سبب توجهها لقضاء حاجتها أن رحل أم سلمة مال فأناخوا بعيرها ليصلحوا رحلها قالت عائشة فقلت إلى أن يصلحوا رحلها قضيت حاجتي فتوجهت ولم يعلموا بن فقضيت حاجتي فانقطعت قلادتي فأقمت في جمعها ونظامها وبعث القوم إبلهم ومضوا ولم يعلموا بنزولي وهذا شاذ منكر قوله "عقد" بكسر العين قلادة تعلق في العنق للتزين بها قوله "من جزع" بفتح الجيم وسكون الزاي بعدها مهملة خرز معروف في سواده

(8/458)


بياض كالعروق قال بن القطاع هو واحد لا جمع له وقال بن سيده هو جمع واحدة جزعة وهو بالفتح فأما الجزع بالكسر فهو جانب الوادي ونقل كراع أن جانب الوادي بالكسر فقط وأن الآخر يقال بالفتح وبالكسر وأغرب بن التين فحكى فيه الضم قال التيفاشي يوجد في معادن العقيق ومنه ما يؤتى به من الصين قال وليس في الحجارة أصلب جسما منه ويزداد حسنة إذا طبخ بالزيت لكنهم لا يتيمنون بلبسه ويقولون من تقلده الغرماء همومه ورأى منامات رديئة وإذا علق على طفل سأل لعابه ومن منافعه إذا أمر على شعر المطلقة سهلت ولادتها قوله "جزع أظفار" كذا في هذه الرواية أظفار بزيادة ألف وكذا في رواية فليح لكن في رواية الكشميهني من طريقه ظفار وكذا في رواية معمر وصالح وقال بن بطال الرواية أظفار بألف وأهل اللغة لا يعرفونه بألف ويقولون ظفار قال بن قتيبة جزع ظفاري وقال القرطبي وقع في بعض روايات مسلم أظفار وهي خطأ قلت لكنها في أكثر روايات أصحاب الزهري حتى إن في رواية صالح بن أبي الأخضر ثم الطبراني جزع الأظافير فأما ظفار بفتح الظاء المعجمة ثم فاء بعدها راء مبنية على الكسر فهي مدينة ظاهرا وقيل جبل وقيل سميت به المدينة وهي في أقصى اليمن إلى جهة الهند وفي المثل من دخل ظفار حمر أي تكلم بالحميرية لأن أهلها كانوا من حمير وأن ثبتت الرواية أن جزع أظفار فلعل عقدها كان من الظفر أحد أنواع القسط وهو طيب الرائحة يتبخر به فلعله عمل مثل الخرز فأطلقت عليه جزعا تشبيها به ونظمته قلادة إما لحسن لونه أو لطيب ريحه وقد حكى بن التين أن قيمته كانت أثنى عشر درهما وهذا يؤيد أنه ليس جزعا ظفاريا إذ لو كان كذلك لكانت قيمته أكثر من ذلك ووفع في رواية الواقدي فكان في عنقي عقد من جزع ظفار كانت أمي أدخلتني به على رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله "فلما قضيت شأني" أي فرغت من قضاء حاجتي أقبلت إلى رحلى أي رجعت إلى المكان الذي كانت نازلة فيه قوله "فإذا عقد لي" في رواية فليح "فلمست صدري" فإذا عقدي قوله "قد انقطع" في رواية بن إسحاق قد انسل من عنقي وأنا لا أدري قوله "فالتمست عقدي" في رواية فليح "فرجعت فالتمست وحبسني ابتغاؤه" أي طلبه وفي رواية بن إسحاق فرجعت عودي على بدئي إلى المكان الذي ذهبت إليه وفي رواية الواقدي وكنت أظن أن القوم لو لبثوا شهرا لم يبعثوا بعيري حتى أكون في هودجي قوله "وأقبل الرهط" هو عدد من ثلاثة إلى عشرة ذلك كما تقدم في أول الكتاب في حديث أبي سفيان الطويل ولم أعرف منهم هنا أحدا إلا أن في رواية الواقدي أن أحدهم أبو موهوبة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أبو مويهبة الذي روى عنه عبد الله بن عمرو بن العاص حديثا في مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم ووفاته أخرجه أحمد وغيره قال البلاذري شهد أبو مويهبة غزوة المريسيع وكان يخدم بعير عائشة وكان من مولدي بني مزبنة وكأنه في الأصل أبو موهوبة ويصغر فيقال أبو مويهبة قوله "يرحلون" بفتح أوله والتخفيف رحلت البعير إذا شددت عليه الرحل ووقع في رواية أبي ذر هنا بالتشديد في هذا وفي فرحلوه قوله "إلى" في رواية معمر بن وحكى النووي عن أكثر نسخ صحيح مسلم "يرحلون لي" قال وهو أجود وقال غيره بالباء أجود لأن المراد وضعها وهي في الهودج فشبهت الهودج الذي هي فيه بالرحل الذي يوضع على البعير قوله "فرحلوه" في وضعوه وفيه تجوز وإنما الرحل هو الذي يوضع على ظهر البعير ثم يوضع الهودج فوقه قوله "وكان النساء إذ ذاك خفافا" قالت هذا كالتفسير لقولها "وهم يحسبون إني فيه" قوله "لم يثقلهن اللحم" في رواية فليح لم يثقلهن ولم يغشهن اللحم قال بن أبي

(8/459)


جمرة ليس هذا تكرارا لأن كل سمين ثقيل عكس لأن الهزيل قد يمتلئ بطنه طعاما فيقل بدنه فأشارت إلى أن المعنيين لم يكونا في نساء ذلك الزمان وقال الخطابي معنى قولها لم يغشهن أي لم يكثر عليهن فيركب بعضه بعضا وفي رواية معمر لم يهبلهن وضبطه بن الخشاب فيما حكاه بن الجوزي بفتح أوله وسكون الهاء وكسر الموحدة ومثله القرطبي لكن الموحدة قال لأن ماضيه بفتحتين مخففا وقال النووي المشهور في ضبطه بضم أوله وفتح الهاء وتشديد الموحدة وبفتح أوله وثالثه أيضا وبضم أوله وكسر ثالثه من الرباعي يقال هبله اللحم وأهبله إذا أثقله وأصبح فلان مهبلا أي كثير اللحم أو رام الوجه قلت وفي رواية بن جريج "لم يهبلهن اللحم" وحكى القرطبي أنها في رواية لابن الحذاء في مسلم أيضا وأشار إليها بن الجوزي وقال المهبل الكثير اللحم الثقيل الحركة من السمن وفلان مهبل أي مهيج كأن به ورما قوله "إنما يأكلن" كذا للأكثر وفي رواية الكشميهني هنا إنما نأكل بالنون أوله وباللام فقط قوله العلقة بضم العين المهملة وسكون اللام ثم قاف أي القليل قال القرطبي كأن المراد الشيء القليل الذي يسكن الرمق كذا قال وقد قال الخليل العلقة ما فيه بلغة من الطعام إلى وقت الغداء حكاه بن بطال قال وأصلها شجر يبقى في الشتاء تتبلغ به الإبل حتى يدخل زمن الربيع قوله "فلم يستنكر القوم خفة الهودج" وقع في رواية فليح ومعمر ثقل الهودج والأول أوضح لأن مرادها إقامة عذرهم في تحميل هودجها وهي ليست فيه فكأنها تقول كأنها لخفة جسمها بحيث أن الذين يحملون هودجها لا فرق عندهم بين وجودها فيه وعدمها ولهذا أردفت ذلك بقولها وكنت جارية حديثه السن أي أنها مع نحافتها صغيرة السن فذلك أبلغ في خفتها وقد وجهت الرواية الأخرى بأن المراد لم يستنكروا الثقل الذي اعتادوه لأن ثقله في الأصل إنما هو ركب الهودج منه من خشب وحبال وستور وغير ذلك وأما هي فلشدة نحافتها كان لا يظهر بوجودها فيه زيادة ثقل والحاصل أن الثقل والخفة من الأمور الاضافية فيتفاوتان بالنسبة ويستفاد من ذلك أيضا أن الذين كانوا يرحلون بعيرها كانوا في غاية الأدب معها والمبالغة في ترك التنقيب عما في الهودج بحيث أنها لم تكن فيه وهم يظنون أنها فيه وكأنهم جوزوا أنها نائمة قوله "وكنت جارية حديثه السن" هو كما قالت لأنها أدخلت على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة في شوال ولها تسع سنين وأكثر ما قبل في المريسيع كما سيأتي أنها ثم بن إسحاق كانت في شعبان سنة ست فتكون لم تكمل خمس عشرة فإن كانت المريسيع قبل ذلك فتكون أصغر من ذلك وقد أشرت إلى فائدة ذكرها ذلك قبل ويحتمل أن تكون أشارت بذلك إلى بيان عذرها فيما فعلته من الحرص على العقد الذي انقطع ومن استقلالها بالتفتيش عليه في تلك الحال وترك إعلام أهلها بذلك وذلك لصغر سنها وعدم تجاربها للأمور بخلاف ما لو كانت ليست صغيرة لكانت تتفطن لعاقبة ذلك وقد وقع لها بعد ذلك في ضياع العقد أيضا أنها أعلمت النبي صلى الله عليه وسلم بأمره فأقام بالناس ماء حتى وجدته ونزلت آية التيمم بسبب ذلك فظهر تفاوت حال من جرب الشيء ومن لم يجربه وقد تقدم إيضاحه في كتاب التيمم قوله "فبعثوا الجمل" أي أثاروه قوله "بعد ما استمر الجيش" أي ذهب ماضيا وهو استفعل من مر قوله "فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب" في رواية فليح وليس فيها أحد فإن قيل لم لم تستصحب عائشة معها غيرها فكان ادعى لأمنها مما يقع للمنفرد ولكانت لما تأخرت للبحث عن العقد ترسل من رافقها لينتظروها إن أرادوا الرحيل والجواب أن هذا من جملة ما يستفاد من قوله حديثه السن لأنها لم يقع لها

(8/460)


تجربة مثل ذلك وقد صارت بعد ذلك إذا خرجت لحاجتها تستصحب كما سيأتي في قصتها مع أم مسطح وقوله فأممت منزلي بالتخفيف أي قصدت وفي رواية أبي ذر هنا بتشديد الميم الأولى قال الداودي ومنه قوله تعالى {ولا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} قال بن التين هذا على أنه بالتخفيف انتهى وفي رواية صالح بن كيسان فتيممت قوله وظننت أنهم سيعقدونني في رواية فليح سيفقدوني بنون واحدة فأما أن تكون حذفت تخفيفا أو هي مثقلة قوله فيرجعون إلى وقع في رواية معمر فيرجعوا بغير نون وكأنه على لغة من يحذفها مطلقا قال عياض الظن هنا بمعنى العلم وتعقب باحتمال أن يكون على بابه فإنهم أقاموا إلى وقت الظهر ولم يرجح أحد منهم إلى المنزل الذي كانت به ولا نقل أن أحدا لاقاها في الطريق لكن يحتمل أن يكونوا استمروا في السير إلى قرب الظهر فلما نزلوا إلى أن يشتغلوا بحط رحالهم وربط رواحلهم واستصحبوا حالهم في ظنهم أنها في هودجها لم يفتقدوها إلى أن وصلت على قرب ولو فقدوها لرجعوا كما ظنته وقد وقع في رواية بن إسحاق وعرفت أن لو افتقدوني لرجعوا إلى وهذا ظاهر في أنها لم تتبعهم ووقع في حديث بن عمر خلاف ذلك فإن فيه فجئت فاتبعتهم حتى أعييت فقمت على بعض الطريق فمر بن صفوان وهذا السياق ليس بصحيح لمخالفته لما في الصحيح وأنها أقامت في منزلها إلى أن أصبحت وكأنه تعارض عندها أن تتبعهم فلا تأمن أن يختلف عليها الطرق فتهلك قبل أن تدركهم ولا سيما وقد كانت في الليل أو تقيم في منزلها لعلهم إذا فقدوها عادوا إلى مكانها الذي فارقوها فيه وهكذا ينبغي لمن فقد شيئا أن يرجع بفكره القهقرى إلى الحد الذي يتحقق وجوده ثم يأخذ من هناك في التنقيب عليه وأرادت بمن يفقدها من هو منها بسبب كزوجها أو أبيها والغالب الأول لأنه كان من شأنه صلى الله عليه وسلم أن يساير بعيرها ويتحدث معها بالحق ذلك لم يتفق في تلك الليلة ولما لم يتفق ما توقعته من رجوعهم إليها ساق الله إليها من حملها بغير حول منها ولا قوة قوله "فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت" يحتمل أن يكون سبب النوم شدة الغم الذي حصل لها في تلك الحالة ومن شأن الغم وهو وقوع ما يكره غلبة النوم بخلاف الهم وهو توقع ما يكره فأنه يقتضي السهر أو لما وقع من برد السحر لها مع رطوبة بدنها وصغر سنها وعند بن إسحاق فتلففت بجلبابي ثم اضطجعت في مكاني أو أن الله سبحانه وتعالى لطف بها فألقى عليها النوم لتستريح من وحشة الانفراد في البرية بالليل قوله "وكان صفوان بن المعطل" بفتح الطاء المهملة المشددة السلمي بضم المهملة ثم الذكوائي منسوب إلى ذكوان بن ثعلبة بن بهثة بضم الموحدة وسكون الهاء بعدها مثلثة بن سليم وذكوان بطن من بني سليم وكان صحابيا فاضلا أول مشاهده ثم الواقدي الخندق وعند المريسيع وسيأتي في أثناء شرح هذا الحديث ما يدل على تقدم إسلامه ويأتي أيضا بعد خمسة أبواب قول عائشة أنه قتل كلاهما في سبيل الله ومرادها أنه قتل بعد ذلك لا أنه في تلك الأيام وقد ذكر بن إسحاق أنه استشهد في غزاة ارمينية في خلافة عمر سنة تسع عشرة وقيل بل عاش إلى سنة أربع وخمسين فاستشهد بأرض الروم في خلافة معاوية قوله "من وراء الجيش" في رواية معمر "قد عرس من وراء الجيش" وعرس بمهملات مشددا أي نزل قال أبو زيد التعريس النزول في السفر في أي وقت كان وقال غيره أصله النزول من آخر الليل في السفر للراحة ووقع في حديث بن عمر بيان سبب تأخر صفوان ولفظه سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعله على الساقة فكان إذا رحل الناس قام يصلي ثم اتبعهم فمن سقط له شيء أتاه به وفي حديث أبي هريرة وكان صفوان يتخلف عن الناس فيصيب القدح والجراب

(8/461)


والإداوة وفي مرسل مقاتل بن حيان فيحمله فيقدم به فيعرفه في أصحابه وكذا في مرسل سعيد بن جبير نحوه قوله "فأدلج فأصبح عند منزلي" أدلج بسكون الدال في روايتنا وهو كادلج بتشديدها وقيل بالسكون سار من أوله وبالتشديد سار من آخره وعلى هذا فيكون الذي هنا بالتشديد لأنه كان في آخر الليل وكأنه تأخر في مكانه حتى قرب الصبح فركب ليظهر له ما يسقط من الجيش مما يخفيه الليل ويحتمل أن يكون سبب تأخيره ما جرت به عادته من غلبة النوم عليه ففي سنن أبي داود والبزار وابن سعد وصحيح بن حبان والحاكم من طريق الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد إن امرأة صفوان بن المعطل جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله "إن زوجي يضربني إذا صليت ويفطرني إذا صمت ولا يصلي صلاة الفجر حتى تطلع الشمس قال: وصفوان عنده فسأله فقال: أما قولها يضربني إذا صليت فإنها تقرأ سورتي وقد نهيتها عنها وأما قولها يفطرني إذا صمت فأنا رجل شاب لا أصبر وأما قولها إني لا أصلي حتى تطلع الشمس" الحديث قال البزار هذا الحديث كلامه منكر ولعل الأعمش أخذه ثقة فدلسه فصار ظاهر سنده الصحة وليس للحديث عندي أصل انتهى وما أعله به ليس بقادح لأن بن سعد صرح في روايته بالتحديث بين الأعمش وأبي صالح وأما رجاله فرجال الصحيح ولما أخرجه أبو داود قال بعده رواه حماد بن سلمة عن حميد عن ثابت عن أبي المتوكل عن النبي صلى الله عليه وسلم وهذه متابعة جيدة تؤذن بأن للحديث أصلا وغفل من جعل هذه الطريقة الثانية علة للطريق الأولى وأما استنكار البزار ما وقع في متنه فمراده أنه مخالف للحديث الآتي قريبا من رواية أبي أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة في قصة الإفك قالت "فبلغ الأمر ذلك الرجل فقال سبحان الله والله ما كشفت كنف أنثى قط" أي ما جامعتها والكنف بفتحتين الثوب الساتر ومنه قولهم أنت في كنف الله أي في ستره والجمع بينه وبين حديث أبي سعيد على ما ذكر القرطبي أن مراده بقوله "ما كشفت كنف أنثى قط" أي بزنا قلت وفيه نظر لأن في رواية سعيد بن أبي هلال عن هشام بن عروة في قصة الإفك أن الرجل الذي قيل فيه ما قيل لما بلغه الحديث قال: "والله ما أصبت امرأة قط حلالا ولا حراما" وفي حديث بن عباس ثم الطبراني "وكان لا يقرب النساء" فالذي يظهر أن مراده بالنفي المذكور ما قبل هذه القصة ولا مانع أن يتزوج بعد ذلك فهذا الجمع لا اعتراض عليه إلا بما جاء عن بن إسحاق أنه كان حصورا لكنه لم يثبت فلا يعارض الحديث الصحيح ونقل القرطبي أنه هو الذي جاءت امرأته تشكوه ومعها ابنان لها منه فقال النبي صلى الله عليه وسلم لهما: "أشبه به من الغراب بالغراب ولم صليت" على مستند القرطبي في ذلك وسيأتي هذا الحديث في كتاب النكاح وأبين هناك أن المقول فيه صفوان وهو المعتمد أن شاء الله تعالى قوله "فرأى سواد إنسان" بلفظ ضد البياض يطلق على الشخص أي شخص كان فكأنها قالت رأى شخص آدمي لكن لا يظهر أهو رجل أو امرأة قوله "فعرفني حين رآني" هذا يشعر بأن وجهها انكشف لما نامت لأنه تقدم أنها تلففت بجلبابها ونامت فلما انتبهت باسترجاع صفوان بادرت إلى تغطية وجهها قوله "وكان يراني قبل الحجاب" أي قبل نزول آية الحجاب وهذا يدل على قدم إسلام صفوان فإن الحجاب كان في قول أبي عبيدة وطائفة في ذي القعدة سنة ثلاث وعند آخرين فيها سنة أربع وصححه الدمياطي وقيل بل كان فيها سنة خمس وهذا مما تناقض فيه الواقدي فإنه ذكر أن المريسيع كان في شعبان سنة خمس وأن الخندق كانت في شوال منها وأن الحجاب كان في ذي القعدة منها

(8/462)


مع روايته حديث عائشة هذا وتصريحها فيه بأن قصة الإفك التي وقعت في المريسيع كانت بعد الحجاب وسلم من هذا بن إسحاق قال المريسيع عنده في شعبان لكن سنة ست وسلم الواقدي من التناقض في قصة سعد بن معاذ الآتي ذكرها نعم وسلم منها بن إسحاق فإنه لم يذكر سعد بن معاذ في القصة أصلا كما سأبينه ومما يؤيد صحة ما وقع في هذا الحديث أن الحجاب كان قبل قصة الإفك قول عائشة أيضا في هذا الحديث ان النبي صلى الله عليه وسلم "سأل زينب بنت جحش عنها" وفيه "وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم" وفيه "وطفقت أختها حمنة تحارب لها" فكل ذلك دال على أن زينب كانت حينئذ زوجته ولا خلاف أن آية الحجاب نزلت حين دخوله صلى الله عليه وسلم بها فثبت أن الحجاب كان قبل قصة الإفك وقد كنت أمليت في أوائل كتاب الوضوء أن قصة الإفك وقعت قبل نزول الحجاب وهو أخذها والصواب بعد نزول الحجاب فليصلح هناك قوله "فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني" أي بقوله إنا لله وإنا إليه راجعون وصرح بها بن إسحاق في روايته وكأنه شق عليه ما جرى لعائشة أو خشي أن يقع ما وقع أو أنه اكتفى بالاسترجاع رافعا به صوته عن مخاطبتها بكلام آخر صيانة لها عن المخاطبة في الجملة وقد كان عمر يستعمل التكبير ثم إرادة الإيقاظ وفيه دلالة على فطنة صفوان وحسن أدبه قوله "فخمرت" أي غطيت وجهي بجلبابي أي الثوب الذي كان عليها وقد تقدم شرحه في الطهارة قوله "والله ما كلمني كلمة" عبرت بهذه الصيغة إشارة إلى أنه استمر منه ترك المخاطبة لئلا يفهم لو عبرت بصيغة الماضي اختصاص النفي بحال الاستيقاظ فعبرت بصيغة المضارعة قوله "ولا سمعت منه استرجاعه حتى أناخ راحلته" في رواية الكشميهني "حين أناخ راحلته" ووقع في رواية فليح حتى للاصيلي و حين للباقين وكذا ثم مسلم عن معمر وعلى التقديرين فليس فيه نفى أنه كلمها بغير الاسترجاع لأن النفي على رواية حين مقيد بحال إناخة الراحلة فلا يمنع ما قبل الاناخة ولا ما بعدها وعلى رواية حتى معناها بجميع حالاته إلى أن أناخ ولا يمنع ما بعد الإناخة وقد فهم كثير من الشراح أنها أرادت بهذه العبارة نفي المكالمة البتة فقالوا استعمل معها الصمت اكتفاء بقرائن الحال مبالغة منه في الأدب وإعظاما لها وإجلالا انتهى وقد وقع في رواية بن سحق أنه قال لها ما خلفك وأنه قال لها اركبي واستأخر وفي رواية أبي أويس فاسترجع وأعظم مكاني أي حين رآني وحدي وقد كان يعرفني قبل أن يضرب علينا الحجاب فسألني عن أمري فسترت وجهي عنه بجلبابي وأخبرته بأمري فقرب بعيره فوطيء على ذراعه فولاني قفاه فركبت وفي حديث بن عمر "فلما رآني ظن أني رجل فقال يا نومان قم فقد سار الناس" وفي مرسل سعيد بن جبير "فاسترجع ونزل عن بعيره وقال ما شأنك يا أم المؤمنين فحدثته بأمر القلادة" قوله "فوطيء على يدها" أي ليكون أسهل لركوبها ولا يحتاج إلى مسها ثم ركوبها وفي حديث أبي هريرة "فغطى وجهه عنها ثم أدنى بعيره منها" قوله "فانطلق يقود بن الراحلة حتى أتينا الجيش" هكذا وقع في جميع الروايات إلا في مرسل مقاتل بن حيان فإن فيه أنه ركب معها مردفا لها والذي في الصحيح هو الصحيح قوله بعد ما نزلوا موغرين بضم الميم وكسر الغين المعجمة والراء المهملة أي نازلين في وقت الوغرة بفتح الواو وسكون الغين وهي شدة الحر لما تكون الشمس في كبد السماء ومنه أخذ وغر الصدر وهو توقده من الغيظ بالحقد وأوغر فلان إذا دخل في ذلك الوقت كأصبح وأمسى وقد وقع ثم مسلم عن عبد بن حميد قال قلت لعبد الرزاق ما قوله "موغرين" قال الوغرة شدة الحر ووقع في مسلم من طريق يعقوب بن إبراهيم عن أبيه عن صالح بن كيسان

(8/463)


موعزين بعين مهملة وزاي قال القرطبي كأنه من وعزت إلى فلان بكذا أي تقدمت والأول أولى قال وصحفه بعضهم بمهلتين وهو غلط قلت وروى مغورين بتقديم الغين المعجمة وتشديد الواو والتغوير النزول وقت القائلة ووقع في رواية فليح معرسين بفتح العين المهملة وتشديد الراء ثم سين مهملة والتعريس نزول المسافر في آخر الليل وقد استعمل في النزول مطلقا كما تقدم وهو المراد هنا قوله "في نحر الظهيرة" تأكيد لقوله "موغرين" فإن نحر الظهيرة أولها وهو وقت شدة الحر ونحر كل شيء أوله كأن الشمس لما بلغت غايتها في الارتفاع كأنها وصلت إلى النحر الذي هو أعلى الصدر ووقع في رواية بن إسحاق "فوالله ما أدركنا الناس وإلا افتقدت حتى نزلوا واطمأنوا طلع الرجل يقودني قوله "فهلك من هلك" زاد صالح في روايته "في شأني" وفي رواية أبي أويس فهنالك قال في وفيه أهل الإفك ما قالوا فأبهمت القائل وما قال وأشارت بذلك إلى الذين تكلموا بالإفك وخاضوا في ذلك وأما أسماؤهم فالمشهور في الروايات الصحيحة عبد الله بن أبي ومسطح بن أثاثة وحسان بن ثابت وحمنة بنت جحش وقد وقع في المغازي من طريق صالح بن كيسان عن الزهري قال قال عروة لم يسم من أهل الإفك عبد الله بن أبي إلا حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش في ناس آخرين لا علم لي أنهم عصبة كما قال الله تعالى انتهى والعصبة من ثلاثة إلى عشرة وقد تطلق على الجماعة حصر في عدد وزاد أبو الربيع بن سالم فيهم تبعا لأبي الخطاب بن دحية عبد الله وأبا أحمد ابنا جحش وزاد فيهم الزمخشري زيد بن رفاعة ولم أره لغيره وعند بن مردويه من طريق بن سيرين حلف أبو بكر أن لا ينفق على يتيمين كانا عنده خاضا في أمر عائشة أحدهما مسطح انتهى ولم صليت على تسمية رفيق مسطح وأما القول فوقع في حديث بن عمر فقال عبد الله بن أبي فجربها ورب الكعبة وأعانه على ذلك جماعة وشاع ذلك في العسكر وفي مرسل سعيد بن جبير وقذفها عبد الله بن أبي فقال ما برئت عائشة من صفوان ولا بريء منها وخاض بعضهم وبعضهم أعجبه قوله وكان الذي تولى كبره أي تصدى لذلك وتقلده وكبره أي كبر الإفك وكبر الشيء معظمه وهو قراءة الجمهور بكسر الكاف وقرأ حميد الأعرج بضمها قال الفراء وهي قراءة جيدة في العربية وقيل المعنى الذي تولى أئمة قوله عبد الله بن أبي تقدمت ترجمته في تفسير سورة براءة وقد بينت قوله في ذلك من قبل وقد اقتصر بعضهم من قصة الإفك على هذه القصة كما تقدم في الباب الذي قبل هذا وسيأتي بعد أربعة أبواب نقل الخلاف في المراد بالذي تولى كبره في الآية ووقع في المغازي من طريق صالح بن كيسان عن الزهري عن عروة قال أخبرت أنه كان يشاع ويتحدث به عنده فيقره بضم أوله وكسر القاف ويستمعه ويستوشيه بمهملة ثم معجمة أي يستخرجه بالبحث عنه والتفتيش ومنهم من ضبطه يقره بفتح القاف وفي رواية بن إسحاق وكان الذي تولى كبر ذلك عبد الله بن أبي في رجال من الخزرج قوله فقدمنا المدينة فاشتكيت حين قدمت شهرا والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك ولا أشعر بشيء من ذلك وفي رواية بن إسحاق وقد انتهى الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى أبوي ولا يذكرون لي شيئا من ذلك وفيها أنها مرضت بضعا وعشرين ليلة وهذا فيه رد على ما وقع في مرسل مقاتل بن حيان أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغه قول أهل الإفك وكان شديد الغيرة قال لا تدخل عائشة رحلي فخرجت تبكي حتى أتت أباها فقال أنا أحق أن أخرجك فانطلقت تجول لا يؤويها أحد حتى أنزل الله عذرها وإنما ذكرته مع ظهور نكارته لا يراد الحاكم له في الإكليل وتبعه بعض من تأخر غير

(8/464)


متأمل لما فيه من النكارة والمخالفة للحديث الصحيح من عدة أوجه فهو باطل ووقع في حديث بن عمر فشاع ذلك في العسكر فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فلما قدموا المدينة أشاع عبد الله بن أبي ذلك في الناس فاشتد على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله "والناس يفيضون" بضم أوله أي يخوضون من أفاض في قول إذا أكثر منه قوله "وهو يريني في وجعي" بفتح أوله من الريب ويجوز الضم من الرباعي يقال رأبه وأرابه وقد تقدم تقريبا قوله اللطف بضم أوله وسكون ثانيه وبفتحهما لغتان والمراد الرفق ووقع في رواية بن إسحاق أنكرت بعض لطفه قوله "الذي كنت أرى منه حين أشتكى" أي حين أمرض قوله "إنما يدخل فيسلم ثم يقول كيف تيكم" وفي رواية بن إسحاق "فكان إذا دخل قال لامي وهي تمرضني كيف تيكم" بالمثناة المكسورة وهي للمؤنث مثل ذاكم للمذكر واستدلت عائشة بهذه الحالة على أنها استشعرت منه بعض جفاء ولكنها لما لم تكن تدري السبب لم تبالغ في التنقيب عن ذلك حتى عرفته ووقع في رواية أبي أويس إلا أنه يقول وهو مار كيف تيكم ولا يدخل عندي ولا يعودني ويسأل عني أهل البيت وفي حديث بن عمر وكنت أرى منه جفوة ولا أدري من أي شيء قوله "نقهت" بفتح القاف وقد تكسر والأول أشهر والناقه بكسر القاف الذي أفاق من مرضه ولم تتكامل صحته وقيل إن الذي بكسر القاف بمعنى فهمت لكنه هنا لا يتوجه لأنها ما فهمت ذلك إلا فيما بعد وقد أطلق الجوهري وغيره أنه بفتح القاف وكسرها لغتان في برأ من المرض وهو قريب العهد لم يرجع إليه كمال صحته قوله "فخرجت مع أم مسطح" في رواية أبي أويس "فقلت يا أم مسطح خذي الإداوة فاملئيها ماء فاذهبي بنا إلى المناصع" قوله قبل المناصع أي جهتها تقدم شرحه في أوائل كتاب الوضوء وأن المناصع صعيد أفيح خارج المدينة قوله متبرزنا بفتح الراء قبل الزاي موضع التبرز وهو الخروج إلى البراز وهو الفضاء وكله كناية عن الخروج إلى قضاء الحاجة والكنف بضمتين جمع كنيف وهو الساتر والمراد به هنا المكان المتخذ لقضاء الحاجة وفي رواية بن إسحاق الكنف التي يتخذها الأعاجم قوله "وأمرنا أمر العرب الأول" بضم الهمزة وتخفيف الراء صفة العرب وبفتح الهمزة وتشديد الراء صفة الأمر قال النووي كلاهما صحيح تريد أنهم لم يتخلقوا بأخلاق العجم قلت ضبطه بن الحاجب بالوجه الثاني وصرح بمنع وصف الجمع باللفظ الأول ثم قال إن ثبتت الرواية خرجت على أن العرب اسم جمع تحته جموع فتصير مفردة بهذا التقدير قوله "في التبرز قبل الغائط" في رواية فليح في البرية بفتح الموحدة وتشديد الراء ثم التحتانية أو في التنزه بمثناة ثم نون ثم زاي ثقيلة هكذا على الشك والتنزه طلب النزاهة والمراد البعد عن البيوت قوله "فانطلقت أنا وأم مسطح" بكسر الميم وسكون السين وفتح الطاء بعدها حاء مهملات قيل عدا سلمى وفيه نظر لأن سلمى اسم أم أبي بكر ثم ظهر لي أن لا وهم فيه فإن أم أبي بكر خالتها فسميت باسمها قوله "وهي بنت أبي رهم" بضم الراء وسكون الهاء قوله "بن عبد مناف" كذا هنا ولم ينسبه فليح وفي رواية صالح بنت أبي رهم بن المطلب بن عبد مناف وهو الصواب واسم أبي رهم أنيس قوله وأمها بنت صخر بن عامر أي بن كعب بن سعد بن تيم من رهط أبي بكر قوله "خالة أبي بكر الصديق" عدا رائطة حكاه أبو نعيم قوله "وابنها مسطح بن أثاثة" بضم الهمزة ومثلثتين الأولى خفيفة بينهما ألف بن عباد بن المطلب فهو المطلبي من أبيه وأمه والمسطح عود من أعواد الخباء وهو لقب واسمه عوف وقيل عامر والأول هو المعتمد وقد أخرج الحاكم من حديث بن عباس قال قال أبو بكر يعاتب مسطحا في قصة عائشة

(8/465)


يا عوف ويحك هل لا قلت عارفة ... من الكلام ولم تبتغ به طعما
وكان هو وأمه من المهاجرين الأولين وكان أبوه مات وهو صغير فكفله أبو بكر لقرابة أم مسطح منه وكانت وفاة مسطح سنة أربع وثلاثين وقيل سنة سبع وثلاثين بعد أن شهد صفين مع على قوله "فأقبلت أنا وأم مسطح قبل بيتي وقد فرغنا من شأننا فعثرت" بالمهملة والمثلثة أم مسطح في مرطها بكسر الميم وفي رواية مقسم عن عائشة أنها وطئت على عظم أو شوكة وهذا ظاهره أنها عثرت بعد أن قضت عائشة حاجتها ثم أخبرتها الخبر بعد ذلك لكني في رواية هشام بن عروة الآتية قريبا أنها عثرت قبل أن تقضي عائشة حاجتها وأنها لما أخبرتها الخبر رجعت كأن الذي خرجت له لا تجد منه لا قليلا ولا كثيرا وكذا وقع في رواية بن إسحاق قالت فوالله ما قدرت أن أقضي حاجتي وفي رواية بن أويس فذهب عني ما كنت أجد من الغائط ورجعت عودي على بدئي وفي حديث بن عمر فأخذتني الحمى وتقلص ما كان مني ويجمع بينهما بأن معنى قولها "وقد فرغنا من شأننا" أي من شأن المسير لاقضاء الحاجه قوله "فقالت تعس مسطح" بفتح الشاة وكسر العين المهملة وبفتحها أيضا بعدها سين مهملة أي كب لوجهه أو هلك ولزمه الشر أو بعد أقوال وقد تقدم شرحها أيضا في الجهاد قوله "فقلت لها بئس ما قلت أتسبين رجلا شهد بدرا" في رواية هشام بن عروة أنها عثرت ثلاث مرات كل ذلك تقول تعس مسطح وأن عائشة تقول لها أي أم أتسبين ابنك وأنها انتهرتها في الثالثة فقالت والله ما أسبه إلا فيك وعند الطبراني "فقلت أتسبين ابنك وهو من المهاجرين الأولين" وفي رواية بن حاطب عن علقمة بن وقاص فقلت أتقولين هذا لابنك وهو صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ففعلت مرتين فأعدت عليها فحدثتني بالخبر فذهب عني الذي خرجت له حتى ما أجد منه شيئا قال أبو محمد بن أبي جمرة يحتمل أن يكون قول أم مسطح هذا عمدا لتتوصل إلى إخبار عائشة بما قيل فيها وهي غافلة ويحتمل أن يكون اتفاقا أجراه الله على لسانها لتستيقظ عائشة من غفلتها عما قيل فيها قوله "قالت أي هنتاه" أي حرف نداء للبعيد وقد يستعمل للقريب حيث ينزل البعيد والنكتة فيه هنا أن أم مسطح نسبت عائشة إلى الغفلة عما قيل فيها لإنكارها سب مسطح فخاطبتها خطاب البعيد وهنتاه بفتح الهاء وسكون النون وقد تفتح بعدها مثناة وآخره هاء ساكنة وقد تضم أي هذه وقيل امرأة وقيل بلهى كأنها نسبتها إلى قلة المعرفة بمكائد الناس وهذه اللفظة تختص بالنداء وهي عبارة عن كل نكرة وإذا خوطب المذكر قيل ياهنة وقد تشبع النون فيقال يا هناه وحكى بعضهم تشديد النون فيه وأنكره الأزهري قوله "قالت قلت وما قال في" رواية أبي أويس "فقالت لها إنك لغافلة عما يقول الناس" وفيها أن مسطحا وفلانا وفلانا يجتمعون في بيت عبد الله بن أبي يتحدثون عنك وعن صفوان يرمونك به وفي رواية مقسم عن عائشة أشهد إنك من الغافلات المؤمنات وفي رواية هشام بن عروة الآتيه فنقرت لي الحديث وهي بنون وقاف ثقيلة أي شرحته ولبعضهم بموحدة وقاف خفيفة أي أعلمتنيه قوله "فازددت مرضا على مرضي" ثم سعيد بن منصور من مرسل أبي صالح "فقالت وما تدرين ما قال قالت لا والله فأخبرتها بما خاض فيه الناس فأخذتها الحمى" وعند الطبراني بإسناد صحيح عن أيوب عن بن أبي مليكة "عن عائشة قالت لما بلغني ما تكلموا به هممت أن آتي قليبا فأطرح نفسي فيه" وأخرجه أبو عوانة أيضا قوله "فلما رجعت إلى بيتي ودخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم" في رواية معمر فدخل قيل الفاء زائدة والأولى أن في الكلام حذفا تقديره فلما دخلت بيتي استقريت فيه فدخل قوله

(8/466)


"فقلت أتأذن لي أن آتي أبوي" في رواية هشام بن عروة المعلقة "فقلت أرسلني إلى بيت أبي فأرسل معي الغلام" وسيأتي نحوه موصولا في الاعتصام ولم صليت على اسم هذا الغلام قوله "فقلت لأمي يا أمتاه ما يتحدث الناس قالت يا بنية هوني عليك" في رواية هشام بن عروة "فقالت يا بنية خففي عليك الشأن" قوله "وضيئة" بوزن عظيمة من الوضاءة أي حسنة جميلة وعند مسلم من رواية بن ماهان حظية بمهملة ثم معجمة من الحظوة أي رفيعة المنزلة وفي رواية هشام "ما كانت امرأة حسناء" قوله "ضرائر" جمع ضرة وقيل للزوجات ضرائر لأن كل واحدة يحصل لها الضرر من الأخرى بالغيرة قوله "أكثرن عليها" في رواية الكشميهني كثرن بالتشديد أي القول في عيبها وفي رواية بن حاطب لقلما أحب رجل امرأته إلا قالوا لها نحو ذلك وفي رواية هشام إلا حسدنها وقيل فيها وفي هذا الكلام من فطنة أمها وحسن تأتيها في تربيتها ما لا مزيد عليه فإنها علمت أن ذلك يعظم عليها فهونت عليها الأمر بإعلامها بأنها لم تنفرد بذلك لأن المرء يتأسى بغيره فيما يقع له وأدمجت في ذلك ما تطيب به خاطرها من أنها فائقة في الجمال والحظوة وذلك مما يعجب المرأة أن توصف به مع ما فيه من الإشارة إلى ما وقع من حمنة بنت جحش وأن الحامل لها على ذلك كون عائشة ضرة أختها زينب بنت جحش وعرف من هذا أن الاستثناء في قولها "إلا أكثرن عليها" متصل لأنها لم تقصد قصتها بعينها بل ذكرت شأن الضرائر وأما ضرائرها هي فإنهن وإن كن لم يصدر منهن في حقها شيء مما يصدر من الضرائر لكن لم يعدم ذلك ممن هو منهن بسبيل كما وقع من حمنة لأن ورع أختها منعها من القول في عائشة كما منع بقية العالمين المؤمنات وإنما اختصت زينب بالذكر لأنها التي كانت تضاهي عائشة في المنزلة قوله "فقلت سبحان الله أو لقد تحدث الناس بهذا" زاد الطبري من طريق معمر عن الزهري وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت نعم وفي رواية هشام "فقلت وقد علم به أبي قالت نعم قلت ورسول الله قلت نعم ورسول الله صلى الله عليه وسلم" وفي رواية بن إسحاق "فقلت لأمي غفر الله لك يتحدث الناس بهذا ولا تذكرين لي" وفي رواية بن حاطب عن علقمة "ورجعت إلى أبوي فقلت أما اتقيتما الله في وما وصلتما رحمي يتحدث الناس بهذا ولم تعلماني" وفي رواية هشام بن عروة فاستعبرت "فبكيت فسمع أبو بكر صوتي وهو فوق البيت يقرأ فقال لأمي ما شأنها فقالت بلغها الذي ذكر من شأنها ففاضت عيناه فقال أقسمت عليك يا بنية إلا رجعت إلى بيتك فرجعت" وفي رواية معمر ثم الطبراني "فقالت أمي لم تكن علمت ما قيل لها فأكبت تبكي ساعة ثم قال اسكتي يا بنية" قوله "فقلت سبحان الله" استغاثت بالله متعجبة من وقوع مثل ذلك في حقها مع براءتها المحققة عندها قوله "لا يرقأ لي دمع" بالقاف بعدها همزة أي لا ينقطع قوله "ولا أكتحل بنوم" استعارة للسهر ووقع في رواية مسروق عن أم رومان كما مضى في المغازي "فخرت مغشيا عليها فما استفاقت إلا وعليها حمى بنافض فطرحت عليها ثيابها فغطيتها" وفي رواية الأسود عن عائشة فألقت على أمي كل ثوب في البيت تنبيه طرق حديث الإفك مجتمعة على أن عائشة بلغها الخبر من أم مسطح لكن وقع في حديث أم رومان ما يخالف ذلك ولفظه "بينا أنا قاعدة أنا وعائشة إذ ولجت علينا امرأة من الأنصار فقالت فعل الله بفلان وفعل فقلت وما ذاك قالت ابني ومن حدث الحديث قالت وما ذلك قالت كذا وكذا هذا" لفظ المصنف في المغازي ولفظه في قصة يوسف قالت إنه ثمى الحديث فقالت عائشة أي حديث فأخبرتها قالت فسمعه أبو بكر قالت نعم قالت ورسول الله صلى الله عليه وسلم قالت نعم فخرت مغشيا عليها وطريق الجمع

(8/467)


بينهما أنها سمعت ذلك أولا من أم مسطح ثم ذهبت لبيت أمها لتستيقن الخبر منها فأخبرتها أمها بالأمر مجملا كما مضى من قولها "هوني عليك وما أشبه ذلك ثم دخلت عليها الأنصارية فأخبرتها بمثل ذلك بحضرة أمها فقوي عندها القطع بوقوع ذلك فسألت هل سمعه أبوها وزوجها ترجيا منها أن لا يكونا سمعا ذلك ليكون أسهل عليها فلما قالت لها إنهما سمعاه غشي عليها ولم صليت على اسم هذه المرأة الأنصارية ولا على اسم ولدها قوله "فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا" ظاهره أن السؤال وقع بعد ما علمت بالقصة لأنها عقبت بكاءها تلك الليلة بهذا ثم عقبت هذا بالخطبة ورواية هشام بن عروة تشعر بأن السؤال والخطبة وقعا قبل أن تعلم عائشة بالأمر فإن في أول رواية هشام عن أبيه عن عائشة لما ذكر من شأني الذي ذكر وما علمت به قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا فذكر قصة الخطبة الآتية ويمكن الجمع بأن الفاء في قوله فدعا عاطفة على شيء محذوف تقديره وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك قد سمع ما قيل فدعا على قوله على بن أبي طالب وأسامة بن زيد في حديث بن عمر وكان إذا أراد أن يستشير أحدا في أمر أهله لم يعد عليا وأسامة لكن وقع في رواية الحسن العربي عن بن عباس ثم الطبراني أنه صلى الله عليه وسلم استشار زيد بن ثابت فقال دعها فلعل الله يحدث لك فيها أمرا وأظن في قوله بن ثابت تغيير وأنه كان في الأصل بن حارثة وفي رواية الواقدي أنه سأل أم أيمن فبرأتها وأم أيمن هي والدة أسامة بن زيد وسيأتي أنه سأل زينب بنت جحش أيضا قوله حين استلبث الوحي بالرفع أي طال لبث نزوله وبالنصب أي أستبطأ النبي صلى الله عليه وسلم نزوله قوله في فراق أهله عدلت عن قولها في فراقي إلى قولها فراق أهله لكراهتها التصريح بإضافة الفراق إليها قوله أهلك بالرفع فإن في رواية معمر هم أهلك ولو لم تقع هذه الرواية لجاز النصب أي أمسك ومعناه هم أهلك أي العفيفة اللائقة بك ويحتمل أن يكون قال ذلك متبرئا من المشورة ووكل الأمر إلى رأى النبي صلى الله عليه وسلم ثم لم يكتف بذلك حتى أخبر بما عنده فقال ولا نعلم إلا خيرا وإطلاق الأهل على الزوجة شائع قال بن التين أطلق عليها أهلا وذكرها بصيغة الجمع حيث قال: "هم أهلك" إشارة إلى تعميم الأزواج بالوصف المذكور انتهى ويحتمل أن يكون جمع لإرادة تعظيمها قوله "وأما على بن أبي طالب فقال يا رسول الله لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثير" كذا للجميع بصيغة التذكير كأنه أراد الجنس مع أن لفظ فعيل يشترك فيه المذكر والمؤنث افرادا وجمعا وفي رواية الواقدي "قد أحل لك وأطاب طلقها وأنكح غيرها" وهذا الكلام الذي قاله علي حمله عليه ترجيح جانبا النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى عنده من القلق بسبب القول الذي قيل وكان صلى الله عليه وسلم شديد الغيرة فرأى علي أنه إذا فارقها سكن ما عنده من القلق بسببها إلى أن يتحقق براءتها فيمكن رجعتها ويستفاد منه ارتكاب أخف الضررين لذهاب أشدهما وقال الثوري رأى ذلك هو المصلحة في حق النبي صلى الله عليه وسلم واعتقد ذلك لما رأى من انزعاجه فبذل جهده في النصيحة لإرادة راحة خاطره صلى الله عليه سلم وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة لم يجزم علي بالإشارة بفراقها لأنه عقب ذلك بقوله "وسل الجارية تصدقك" ففوض الأمر في ذلك إلى نظر النبي صلى الله عليه وسلم فكأنه قال إن أردت تعجيل الراحة ففارقها وأن أردت خلاف ذلك فابحث عن حقيقة الأمر إلى أن تطلع على براءتها لأنه كان يتحقق أن بريرة لا تخبره إلا بما علمته وهي لم تعلم من عائشة إلا البراءة المحضة والعلة في اختصاص على أسامة بالمشاورة أن عليا كان عنده كالولد لأنه رباه من حال صغره ثم لم يفارقه بل وازداد اتصاله بتزويج فاطمة فلذلك كان مخصوصا بالمشاورة فيما يتعلق بأهله لمزيد اطلاعه على أحواله أكثر من غيره وكان أهل ==

=

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أشعار النساء - ط عالم الكتب المؤلف المرزباني

  أشعار النساء للمرزباني ثالث ما ألف من الكتب في أشعار النساء، بعد (أشعار الجواري) للمفجع البصري المتوفى سنة 327هـ و(الإماء الشواعر)...