Translate فتح الباري وتفسير بن كثير كيكي520.

الجمعة، 13 مايو 2022

مجلد 33. و34.فتح الباري أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ)

 مجلد 33. و34.فتح الباري أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ)

33.

مجلد 33.فتح الباري أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ)
--------

5748- حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأُوَيْسِيُّ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ نَفَثَ فِي كَفَّيْهِ بِقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وَبِالْمُعَوِّذَتَيْنِ جَمِيعاً ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ وَمَا بَلَغَتْ يَدَاهُ مِنْ جَسَدِهِ قَالَتْ عَائِشَةُ فَلَمَّا اشْتَكَى كَانَ يَأْمُرُنِي أَنْ أَفْعَلَ ذَلِكَ بِهِ" . قَالَ يُونُسُ: كُنْتُ أَرَى ابْنَ شِهَابٍ يَصْنَعُ ذَلِكَ إِذَا أَتَى إِلَى فِرَاشِهِ.
5749- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ "أَنَّ رَهْطاً مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْطَلَقُوا فِي سَفْرَةٍ سَافَرُوهَا حَتَّى نَزَلُوا بِحَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ فَاسْتَضَافُوهُمْ فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمْ فَلُدِغَ سَيِّدُ ذَلِكَ الْحَيِّ فَسَعَوْا لَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ لاَ يَنْفَعُهُ شَيْءٌ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لَوْ أَتَيْتُمْ هَؤُلاَءِ الرَّهْطَ الَّذِينَ قَدْ نَزَلُوا بِكُمْ لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ شَيْءٌ فَأَتَوْهُمْ فَقَالُوا يَا أَيُّهَا الرَّهْطُ إِنَّ سَيِّدَنَا لُدِغَ فَسَعَيْنَا لَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ لاَ يَنْفَعُهُ شَيْءٌ فَهَلْ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْكُمْ شَيْءٌ فَقَالَ بَعْضُهُمْ نَعَمْ وَاللَّهِ إِنِّي لَرَاقٍ وَلَكِنْ وَاللَّهِ لَقَدْ اسْتَضَفْنَاكُمْ فَلَمْ تُضَيِّفُونَا فَمَا أَنَا بِرَاقٍ لَكُمْ حَتَّى تَجْعَلُوا لَنَا جُعْلاً فَصَالَحُوهُمْ عَلَى قَطِيعٍ مِنْ الْغَنَمِ فَانْطَلَقَ فَجَعَلَ يَتْفُلُ وَيَقْرَأُ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} حَتَّى لَكَأَنَّمَا نُشِطَ مِنْ عِقَالٍ فَانْطَلَقَ يَمْشِي مَا بِهِ قَلَبَةٌ قَالَ فَأَوْفَوْهُمْ جُعْلَهُمْ الَّذِي صَالَحُوهُمْ عَلَيْهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ اقْسِمُوا فَقَالَ الَّذِي رَقَى لاَ تَفْعَلُوا حَتَّى نَأْتِيَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَذْكُرَ لَهُ الَّذِي كَانَ فَنَنْظُرَ مَا يَأْمُرُنَا فَقَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرُوا لَهُ فَقَالَ: وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ؟ أَصَبْتُمْ اقْسِمُوا وَاضْرِبُوا لِي مَعَكُمْ بِسَهْمٍ" .
قوله: "باب النفث" بفتح النون وسكون الفاء بعدها مثلثة "في الرقية". في هذه الترجمة إشارة إلى الرد على من كره النفث مطلقا - كالأسود بن يزيد أحد التابعين - تمسكا بقوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} ، وعلى من كره النفث عند قراءة القرآن خاصة كإبراهيم النخعي، أخرج ذلك ابن أبي شيبة وغيره، فأما الأسود فلا حجة له في ذلك لأن المذموم ما كان من نفث السحرة وأهل الباطل، ولا يلزم منه ذم النفث مطلقا، ولا سيما بعد ثبوته في الأحاديث الصحيحة، وأما النخعي فالحجة عليه ما ثبت في حديث أبي سعيد الخدري ثالث أحاديث الباب، فقد قصوا على النبي صلى الله عليه وسلم القصة وفيها أنه قرأ بفاتحة الكتاب وتفل ولم ينكر ذلك صلى الله عليه وسلم فكان ذلك حجة، وكذا الحديث الثاني فهو واضح من قوله صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم بيان النفث مرارا، أو من قال إنه لا ريق فيه وتصويب أن فيه ريقا خفيفا. وذكر فيه ثلاثة أحاديث. قوله: "سليمان" هو ابن بلال، ويحيى بن سعيد هو الأنصاري، والإسناد كله مدنيون. قوله: "الرؤيا من الله" يأتي شرحه مستوفى في كتاب التعبير إن شاء الله تعالى. وقوله: "فلينفث" هو المراد من الحديث المذكور في هذه الترجمة لأنه دل على جدواها. قوله: "وقال أبو سلمة" هو موصول بالإسناد المذكور وقوله: "فإن كنت" في رواية الكشميهني بدون الفاء، وقوله: "أثقل علي من الجبل" أي لما كان يتوقع من

(10/209)


شرها. الحديث الثاني: قوله: "سليمان" هو ابن بلال أيضا، ويونس هو ابن يزيد. قوله: "إذا أوى إلى فراشه نفث في كفه بقل هو الله أحد وبالمعوذتين" أي يقرؤها وينفث حالة القراءة، وقد تقدم بيان ذلك في الوفاة النبوية. قوله: "ثم يمسح بهما وجهه وما بلغت يداه من جسده" في رواية المفضل بن فضالة عن عقيل "ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده يبدأ بهما على رأسه ووجهه وما أقبل من جسده يفعل ذلك ثلاث مرات". قوله: "فلما اشتكى كان يأمرني أن أفعل ذلك به" وهذا مما تفرد به سليمان بن بلال عن يونس، وقد تقدم في الوفاة النبوية من رواية عبد الله بن المبارك عن يونس بلفظ: "فلما اشتكى وجعه الذي توفي فيه طفقت أنفث عليه" وأخرجه مسلم من رواية ابن وهب عن يونس فلم يذكرها. قوله: "قال يونس: كنت أرى ابن شهاب يصنع ذلك إذا أوى إلى فراشه" وقع نحو ذلك في رواية عقيل عن ابن شهاب عند عبد بن حميد، وفيه إشارة إلى الرد على من زعم أن هذه الرواية شاذة، وأن المحفوظ أنه صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك إذا اشتكى كما في رواية مالك وغيره، فدلت هذه الزيادة على أنه كان يفعل ذلك إذا أوى إلى فراشه، وكان يفعله إذا اشتكى شيئا من جسده، فلا منافاة بين الروايتين. وقد تقدم في فضائل القرآن قول من قال إنهما حديثان عن الزهري بسند واحد. حديث أبي سعيد في قصة اللديغ الذي رقاه بفاتحة الكتاب، وتقدم شرحه مستوفى في كتاب الإجارة، وتقدمت الإشارة إليه قريبا. ووقع في هذه الرواية: "فجعل يتفل ويقرأ". وقد قدمت أن النفث دون التفل، وإذا جاز التفل جاز النفث بطريق الأولى. وفيها "ما به قلب" بفتح اللام بعدها موحدة. أي ما به ألم يقلب لأجله على الفراش، وقيل أصله من القلاب بضم القاف وهو داء يأخذ البعير فيمسك على قلبه فيموت من يومه.

(10/210)


40 - باب مَسْحِ الرَّاقِي الْوَجَعَ بِيَدِهِ الْيُمْنَى
5750- حدثني عبد الله بن أبي شيبة حدثنا يحيى عن سفيان عن الأعمش عن مسلم عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها قالت "كان النبي صلى الله عليه وسلم يعوذ بعضهم يمسحه بيمينه أذهب الباس رب الناس واشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقما" . فذكرته لمنصور فحدثني عن إبراهيم عن مسروق عن عائشة بنحوه.
قوله: "باب مسح الراقي الوجع بيده اليمنى" ذكر فيه حديث عائشة في ذلك وقد تقدم شرحه قريبا، والقائل "فذكرته لمنصور" هو سفيان الثوري كما تقدم التصريح به في "باب رقية النبي صلى الله عليه وسلم".

(10/210)


41 - باب الْمَرْأَة تَرْقِي الرَّجُلَ
5751- حدثني عبد الله بن محمد الجعفي حدثنا هشام أخبرنا معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفث على نفسه في مرضه الذي قبض فيه بالمعوذات فلما ثقل كنت أنا أنفث عليه بهن فأمسح بيد نفسه لبركتها فسألت بن شهاب كيف كان ينفث قال ينفث على يديه ثم يمسح بهما وجهه".

(10/210)


42 - باب مَنْ لَمْ يَرْقِ
5752- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا حُصَيْنُ بْنُ تميز عَنْ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ خبير عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "خَرَجَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْماً فَقَالَ: عُرِضَتْ عَلَيَّ الأُمَمُ فَجَعَلَ يَمُرُّ النَّبِيُّ مَعَهُ الرَّجُلُ وَالنَّبِيُّ مَعَهُ الرَّجُلاَنِ وَالنَّبِيُّ مَعَهُ الرَّهْطُ وَالنَّبِيُّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ وَرَأَيْتُ سَوَاداً كَثِيراً سَدَّ الأُفُقَ فَرَجَوْتُ أَنْ تَكُونَ أُمَّتِي فَقِيلَ هَذَا مُوسَى وَقَوْمُهُ ثُمَّ قِيلَ لِي انْظُرْ فَرَأَيْتُ سَوَاداً كَثِيراً سَدَّ الأُفُقَ فَقِيلَ لِي انْظُرْ هَكَذَا وَهَكَذَا فَرَأَيْتُ سَوَاداً كَثِيراً سَدَّ الأُفُقَ فَقِيلَ هَؤُلاَءِ أُمَّتُكَ وَمَعَ هَؤُلاَءِ سَبْعُونَ أَلْفاً يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ فَتَفَرَّقَ النَّاسُ وَلَمْ يُبَيَّنْ لَهُمْ فَتَذَاكَرَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا أَمَّا نَحْنُ فَوُلِدْنَا فِي الشِّرْكِ وَلَكِنَّا آمَنَّا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَلَكِنْ هَؤُلاَءِ هُمْ أَبْنَاؤُنَا فَبَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ هُمْ الَّذِينَ لاَ يَتَطَيَّرُونَ وَلاَ يَسْتَرْقُونَ وَلاَ يَكْتَوُونَ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ فَقَامَ عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ فَقَالَ أَمِنْهُمْ أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: نَعَمْ فَقَامَ آخَرُ فَقَالَ أَمِنْهُمْ أَنَا فَقَالَ سَبَقَكَ بِهَا عُكَاشَةُ" .
قوله: "باب من لم يرق" هو بفتح أوله وكسر القاف مبنيا للفاعل، وبضم أوله وفتح القاف مبنيا للمفعول. قوله: "حصين بن نمير" بنون مصغر هو الواسطي، ما له في البخاري سوى هذا الحديث، وقد تقدم بهذا الإسناد في أحاديث الأنبياء لكن باختصار، وتقدم الحديث بعينه من وجه آخر عن حصين بن عبد الرحمن في "باب من اكتوى" وذكرت من زاد في أوله قصة وأن شرحه سيأتي في كتاب الرقاق، والغرض منه هنا قوله: "هم الذين لا يتطيرون ولا يكتوون ولا يسترقون" فأما الطيرة فسيأتي ذكرها بعد هذا، وأما الكي فتقدم ذكرها فيه هناك، وأما الرقية فتمسك بهذا الحديث من كره الرقى والكي من بين سائر الأدوية وزعم أنهما قادحان في التوكل دون غيرهما، وأجاب العلماء عن ذلك بأجوبة: أحدها قاله الطبري والمازري وطائفة أنه محمول على من جانب اعتقاد الطبائعيين في أن الأدوية تنفع بطبعها كما كان أهل الجاهلية يعتقدون. وقال غيره: الرقى التي يحمد تركها ما كان من كلام الجاهلية وما الذي لا يعقل معناه لاحتمال أن يكون كفرا، بخلاف الرقى بالذكر ونحوه. وتعقبه عياض وغيره بأن الحديث يدل على أن للسبعين ألفا مزية على غيرهم وفضيلة انفردوا بها عمن شاركهم في أصل الفضل والديانة، ومن كان يعتقد أن الأدوية تؤثر بطبعها أو يستعمل رقى الجاهلية ونحوها فليس مسلما فلم يسلم هذا الجواب.
ثانيها قال الداودي وطائفة إن المراد بالحديث الذين يجتنبون فعل ذلك في الصحة خشية وقوع الداء، وأما من يستعمل الدواء بعد وقوع الداء به فلا، وقد قدمت هذا عن ابن قتيبة وغيره في "باب من اكتوى"، وهذا اختيار ابن عبد البر، غير أنه معترض بما قدمته من ثبوت الاستعاذة قبل وقوع الداء. ثالثها قال الحليمي: يحتمل أن يكون

(10/211)


المراد بهؤلاء المذكورين في الحديث من غفل عن أحوال الدنيا وما فيها من الأسباب المعدة لدفع العوارض، فهم لا يعرفون الاكتواء ولا الاسترقاء، وليس لهم ملجأ فيما يعتريهم إلا الدعاء والاعتصام بالله، والرضا بقضائه، فهم غافلون عن طب الأطباء ورقى الرقاة ولا يحسنون من ذلك شيئا، والله أعلم. رابعها أن المراد بترك الرقى والكي الاعتماد على الله في دفع الداء والرضا بقدره، لا القدح في جواز ذلك لثبوت وقوعه في الأحاديث الصحيحة وعن السلف الصالح لكن مقام الرضا والتسليم أعلى من تعاطي الأسباب، وإلى هذا نحا الخطابي ومن تبعه. قال ابن الأثير: هذا من صفة الأولياء المعرضين عن الدنيا وأسبابها وعلائقها، وهؤلاء هم خواص الأولياء. ولا يرد على هذا وقوع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم فعلا وأمرا، لأنه كان في أعلى مقامات العرفان ودرجات التوكل فكان ذلك منه للتشريع وبيان الجواز، ومع ذلك فلا ينقص ذلك من توكله، لأنه كان كامل التوكل يقينا فلا يؤثر فيه تعاطي الأسباب شيئا، بخلاف غيره ولو كان كثير التوكل، لكن من ترك الأسباب وفوض وأخلص في ذلك كان أرفع مقاما. قال الطبري: قيل: لا يستحق التوكل إلا من لم يخالط قلبه خوف من شيء البتة حتى السبع الضاري والعدو العادي، ولا من لم يسع في طلب رزق ولا في مداواة ألم، والحق أن من وثق بالله وأيقن أن قضاءه عليه ماض لم يقدح في توكله تعاطيه الأسباب اتباعا لسنته وسنة رسوله، فقد ظاهر صلى الله عليه وسلم في الحرب بين درعين، ولبس على رأسه المغفر، وأقعد الرماة على فم الشعب، وخندق حول المدينة، وأذن في الهجرة إلى الحبشة وإلى المدينة، وهاجر هو، وتعاطى أسباب الأكل والشرب، وادخر لأهله قوتهم ولم ينتظر أن ينزل عليه من السماء، وهو كان أحق الخلق أن يحصل له ذلك. وقال الذي سأله: أعقل ناقتي أو أدعها؟ قال: "اعقلها وتوكل" فأشار إلى أن الاحتراز لا يدفع التوكل، والله أعلم.

(10/212)


43 - باب الطِّيَرَةِ
5753- حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لاَ عَدْوَى وَلاَ طِيَرَةَ وَالشُّؤْمُ فِي ثَلاَثٍ فِي الْمَرْأَةِ وَالدَّارِ وَالدَّابَّةِ" .
5754- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "لاَ طِيَرَةَ وَخَيْرُهَا الْفَأْلُ قَالُوا وَمَا الْفَأْلُ قَالَ الْكَلِمَةُ الصَّالِحَةُ يَسْمَعُهَا أَحَدُكُمْ" .
[الحديث 5754 – طرفه في: 5755]
قوله: "باب الطيرة" بكسر المهملة وفتح التحتانية وقد تسكن، هي التشاؤم بالشين، وهو مصدر تطير مثل تحير حيرة. قال بعض أهل اللغة لم يجيء من المصادر هكذا غير هاتين، وتعقب بأنه سمع طيبة، وأورد بعضهم التولة وفيه نظر، وأصل التطير أنهم كانوا في الجاهلية يعتمدون على الطير فإذا خرج أحدهم لأمر فإن رأى الطير طار يمنة تيمن به واستمر، وإن رآه طار يسرة تشاءم به ورجع، وربما كان أحدهم يهيج الطير ليطير فيعتمدها، فجاء الشرع بالنهي عن ذلك، وكانوا يسمونه السانح بمهملة ثم نون ثم حاء مهملة، والبارح بموحدة وآخره مهملة. فالسانح

(10/212)


ما ولاك ميامنه بأن يمر عن يسارك إلى يمينك، والبارح بالعكس. وكانوا يتيمنون بالسانح ويتشاءمون بالبارح، لأنه لا يمكن رميه إلا بأن ينحرف إليه، وليس في شيء من سنوح الطير وبروحها ما يقتضي ما اعتقدوه، وإنما هو تكلف بتعاطي ما لا أصل له، إذ لا نطق للطير ولا تمييز فيستدل بفعله على مضمون معنى فيه، وطلب العلم من غير مظانه جهل من فاعله، وقد كان بعض عقلاء الجاهلية ينكر التطير ويتمدح بتركه، قال شاعر منهم:
ولقد غدوت وكنت لا ... أغدو على واق وحاتم
فإذا الأشائم كالأيا ... من والأيامن كالأشائم
وقال آخر:
الزجر والطير والكهان كلهم ... مضللون ودون الغيب أقفال
وقال آخر:
وما عاجلات الطير تدني من الفتى ... نجاحا، ولا عن ريثهن قصور
وقال آخر:
لعمرك ما تدري الطوارق بالحص ... ولا زاجرت الطير ما الله صانع
وقال آخر:
تخير طيرة فيها زياد ... لتخبره، وما فيها خبير
تعلم أنه لا طير إلا ... على متطير، وهو الثبور
بلى شيء يوافق بعض شيء ... أحايينا، وباطله كثير
وكان أكثرهم يتطيرون ويعتمدون على ذلك ويصح معهم غالبا لتزيين الشيطان ذلك، وبقيت من ذلك بقايا في كثير من المسلمين. وقد أخرج ابن حبان في صحيحه من حديث أنس رفعه: "لا طيرة، والطيرة على من تطير " وأخرج عبد الرزاق عن معمر عن إسماعيل بن أمية عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لا يسلم منهن أحد: الطيرة، والظن، والحسد. فإذا تطيرت فلا ترجع، وإذا حسدت فلا تبغ، وإذا ظننت فلا تحقق" وهذا مرسل أو معضل، لكن له شاهد من حديث أبي هريرة أخرجه البيهقي في "الشعب" وأخرج ابن عدي بسند لين عن أبي هريرة رفعه: "إذا تطيرتم فامضوا، وعلى الله فتوكلوا" وأخرج الطبراني عن أبي الدرداء رفعه: "لن ينال الدرجات العلا من تكهن، أو استقسم، أو رجع من سفر تطيرا" ورجاله ثقات، إلا أنني أظن أن فيه انقطاعا وله شاهد عن عمران بن حصين وأخرجه البزار في أثناء حديث بسند جيد. وأخرج أبو داود والترمذي وصححه هو وابن حبان عن ابن مسعود رفعه: "الطيرة شرك، وما منا إلا تطير، ولكن الله يذهبه بالتوكل " وقوله: "وما منا إلا" من كلام ابن مسعود أدرج في الخبر، وقد بينه سليمان بن حرب شيخ البخاري فيما حكاه الترمذي عن البخاري عنه، وإنما جعل ذلك شركا لاعتقادهم أن ذلك يجلب نفعا أو يدفع ضرا، فكأنهم أشركوه مع الله تعالى، وقوله: "ولكن الله يذهبه بالتوكل" إشارة إلى أن من وقع له فسلم لله ولم يعبأ بالطيرة أنه لا يؤاخذ بما عرض له من ذلك. وأخرج البيهقي في "الشعب" من حديث عبد الله بن عمرو موقوفا "من عرض له من هذه الطيرة شيء فليقل: اللهم لا طير إلا طيرك، ولا خير إلا خيرك، ولا إله غيرك" . قوله: "لا عدوى، ولا طيرة، والشؤم في ثلاث" قد تقدم شرح هذا الحديث وبيان اختلاف الرواة في سياقه في كتاب الجهاد، والتطير والتشاؤم بمعني واحد، فنفى أولا بطريق العموم كما نفى العدوى، ثم اثبت الشؤم في الثلاثة المذكورة، وقد ذكرت ما قيل في ذلك هناك. وقد وقع في حديث سعد بن أبي وقاص عند أبي داود بلفظ: "وإن كانت الطيرة في شيء " الحديث. قوله: "لا طيرة،

(10/213)


وخيرها الفأل" يأتي شرحه في الباب الذي بعده، وكأنه أشار بذلك إلى أن النفي في الطيرة على ظاهره لكن في الشر، ويستثنى من ذلك ما يقع فيه من الخير كما سأذكره.

(10/214)


44 - باب الْفَأْلِ
5755- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا هِشَامٌ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لاَ طِيَرَةَ وَخَيْرُهَا الْفَأْلُ قَالَ: وَمَا الْفَأْلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الْكَلِمَةُ الصَّالِحَةُ يَسْمَعُهَا أَحَدُكُمْ" .
5756- حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا هشام عن قتادة عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا عدوى ولا طيرة ويعجبني الفأل الصالح الكلمة الحسنة" .
[الحديث 5756 – طرفه في: 5776]
قوله: "باب الفأل" بفاء ثم همزة وقد تسهل، والجمع فئول بالهمزة جزما. قوله: "عن عبيد الله بن عبد الله" أي ابن عتبة بن مسعود، وقد صرح في رواية شعيب التي قبل هذه فيه بالإخبار. قوله: "قال وما الفأل؟" كذا للأكثر بالإفراد، وللكشميهني: "قالوا" كرواية شعيب. قوله: "الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم" وقال في حديث أنس ثاني حديثي الباب: "ويعجبني الفأل الصالح، الكلمة الحسنة". وفي حديث عروة بن عامر الذي أخرجه أبو داود قال: "ذكرت الطيرة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: خيرها الفأل، ولا ترد مسلما، فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بالله" وقوله: "وخيرها الفأل" قال الكرماني تبعا لغيره: هذه الإضافة تشعر بأن الفأل من جملة الطيرة، وليس كذلك بل هي إضافة توضيح، ثم قال: وأيضا فإن من جملة الطيرة كما تقدم تقريره التيامن، فبين بهذا الحديث أنه ليس كل التيامن مردودا كالتشاؤم، بل بعض التيامن مقبول. قلت: وفي جواب الأول دفع في صدر السؤال، وفي الثاني تسليم السؤال ودعوى التخصيص وهو أقرب وقد أخرج ابن ماجه بسند حسن عن أبي هريرة رفعه: "كان يعجبه الفأل ويكره الطيرة" وأخرج الترمذي من حديث حابس التميمي أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "العين حق، وأصدق الطيرة الفأل" ففي هذا التصريح أن الفأل من جملة الطيرة لكنه مستثنى. وقال الطيبي: الضمير المؤنث في قوله: "وخيرها" راجع إلى الطيرة، وقد علم أن الطيرة كلها لا خير فيها، فهو كقوله تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرّاً} وهو مبني على زعمهم، وهو من إرخاء العنان في المخادعة بأن يجري الكلام على زعم الخصم حتى لا يشمئز عن التفكر فيه، فإذا تفكر فأنصف من نفسه قبل الحق، فقوله: "خيرها الفأل" إطماع للسامع في الاستماع والقبول، لا أن في الطيرة خيرا حقيقة، أو هو من نحو قولهم "الصيف أحر من الشتاء" أي الفأل في بابه أبلغ من الطيرة في بابها. والحاصل أن أفعل التفضيل في ذلك إنما هو بين القدر المشترك بين الشيئين، والقدر المشترك بين الطيرة والفأل تأثير كل منهما فيما هو فيه، والفأل في ذلك أبلغ. قال الخطابي: وإنما كان ذلك لأن مصدر الفأل عن نطق وبيان، فكأنه خبر جاء عن غيب، بخلاف غيره فإنه مستند إلى حركة الطائر أو نطقه وليس فيه بيان أصلا، وإنما هو تكلف ممن

(10/214)


يتعاطاه. وقد أخرج الطبري عن عكرمة قال: كنت عند ابن عباس فمر طائر فصاح، فقال رجل: خير خير، فقال ابن عباس: ما عند هذا لا خير ولا شر. وقال أيضا: الفرق بين الفأل والطيرة أن الفأل من طريق حسن الظن بالله، والطيرة لا تكون إلا في السوء فلذلك كرهت. وقال النووي: الفأل يستعمل فيما يسوء وفيما يسر، وأكثره في السرور. والطيرة لا تكون إلا في الشؤم، وقد تستعمل مجازا في السرور. اهـ. وكأن ذلك بحسب الواقع، وأما الشرع فخص الطيرة بما يسوء والفأل بما يسر، ومن شرطه أن لا يقصد إليه فيصير من الطيرة. قال ابن بطال: جعل الله في فطر الناس محبة الكلمة الطيبة والأنس بها كما جعل فيهم الارتياح بالمنظر الأنيق والماء الصافي وإن كان لا يملكه ولا يشربه. وأخرج الترمذي وصححه من حديث أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج لحاجته يعجبه أن يسمع: يا نجيح يا راشد" وأخرج أبو داود بسند حسن عن بريدة "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يتطير من شيء، وكان إذا بعث عاملا يسأل عن اسمه، فإذا أعجبه فرح به، وإن كره اسمه رؤي كراهة ذلك في وجهه" وذكر البيهقي في "الشعب" عن الحليمي ما ملخصه: كان التطير في الجاهلية في العرب إزعاج الطير عند إرادة الخروج للحاجة، فذكر نحو ما تقدم ثم قال. وهكذا كانوا يتطيرون بصوت الغراب وبمرور الظباء فسموا الكل تطيرا، لأن أصله الأول. وقال. وكان التشاؤم في العجم إذا رأى الصبي ذاهبا إلى المعلم تشاءم أو راجعا تيمن، وكذا إذا رأى الجمل موقرا حملا تشاؤم فإن رآه واضعا حمله تيمن، ونحو ذلك، فجاء الشرع برفع ذلك كله. وقال: "من تكهن أورده عن سفر تطير فليس منا" ونحو ذلك من الأحاديث. وذلك إذا اعتقد أن الذي يشاهده من حال الطير موجبا ما ظنه ولم يضف التدبير إلى الله تعالى، فأما إن علم أن الله هو المدبر ولكنه اشفق من الشر لأن التجارب قضت بأن صوتا من أصواتها معلوما أو حالا من أحوالها معلومة يردفها مكروه فإن وطن نفسه على ذلك أساء، وإن سأل الله الخير واستعاذ به من الشر ومضى متوكلا لم يضره ما وجد في نفسه من ذلك، وإلا فيؤاخذ به، وربما وقع به ذلك المكروه بعينه الذي اعتقده عقوبة له كما كان يقع كثيرا لأهل الجاهلية. والله أعلم. قال الحليمي: وإنما كان صلى الله عليه وسلم يعجبه الفأل لأن التشاؤم سوء ظن بالله تعالى بغير سبب محقق، والتفاؤل حسن ظن به، والمؤمن مأمور بحسن الظن بالله تعالى على كل حال. وقال الطيبي: معنى الترخص في الفأل والمنع من الطيرة هو أن الشخص لو رأى شيئا فظنه حسنا محرضا على طلب حاجته فليفعل ذلك. وإن رآه بضد ذلك فلا يقبله بل يمضي لسبيله. فلو قبل وانتهى عن المضي فهو الطيرة التي اختصت بأن تستعمل في الشؤم. والله أعلم.

(10/215)


45 - باب لاَ هَامَةَ
5757- حدثنا محمد بن الحكم حدثنا النضر أخبرنا إسرائيل أخبرنا أبو حصين عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر" .
قوله: "باب لا هامة" كذا للجميع، وذكر فيه حديث أبي هريرة "لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر " ثم ترجم بعد سبعة أبواب "باب لا هامة" وذكر فيه الحديث المذكور مطولا وليس فيه: "ولا طيرة" وهذا من توارد ما اتفق له أن يترجم للحديث في موضعين بلفظ واحد، وسأذكر شرح الهامة في الموضع الثاني إن شاء الله تعالى، ثم ظهر لي أنه أشار بتكرار هذه الترجمة إلى الخلاف في تفسير الهامة كما سيأتي بيانه.

(10/215)


46 - باب الْكِهَانَةِ
5758- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِي امْرَأَتَيْنِ مِنْ هُذَيْلٍ اقْتَتَلَتَا فَرَمَتْ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى بِحَجَرٍ فَأَصَابَ بَطْنَهَا وَهِيَ حَامِلٌ فَقَتَلَتْ وَلَدَهَا الَّذِي فِي بَطْنِهَا فَاخْتَصَمُوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَضَى أَنَّ دِيَةَ مَا فِي بَطْنِهَا غُرَّةٌ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ فَقَالَ وَلِيُّ الْمَرْأَةِ الَّتِي غَرِمَتْ كَيْفَ أَغْرَمُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ لاَ شَرِبَ وَلاَ أَكَلَ وَلاَ نَطَقَ وَلاَ اسْتَهَلَّ فَمِثْلُ ذَلِكَ يُطَلُّ. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إِنَّمَا هَذَا مِنْ إِخْوَانِ الْكُهَّانِ" .
[الحديث 5758 – أطرافه في: 5759، 5760، 6740، 6904، 6909، 6910]
5759- حدثنا قتيبة عن مالك عن بن شهاب عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه "أن امرأتين رمت إحداهما الأخرى بحجر فطرحت جنينها فقضى فيه النبي صلى الله عليه وسلم بغرة عبد أو وليدة".
5760- وعن بن شهاب عن سعيد بن المسيب "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في الجنين يقتل في بطن أمه بغرة عبد أو وليدة. فقال: الذي قضى عليه كيف أغرم من لا أكل ولا شرب ولا نطق ولا استهل ومثل ذلك بطل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما هذا من إخوان الكهان".
5761- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ: "نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ وَمَهْرِ الْبَغِيِّ وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ" .
5762- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ يَحْيَى بْنِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَاسٌ عَنْ الْكُهَّانِ فَقَالَ لَيْسَ بِشَيْءٍ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُمْ يُحَدِّثُونَا أَحْيَاناً بِشَيْءٍ فَيَكُونُ حَقّاً. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تِلْكَ الْكَلِمَةُ مِنْ الْحَقِّ يَخْطَفُهَا مِنْ الْجِنِّيِّ فَيَقُرُّهَا فِي أُذُنِ وَلِيِّهِ فَيَخْلِطُونَ مَعَهَا مِائَةَ كَذْبَةٍ" .
قَالَ عَلِيٌّ: قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: مُرْسَلٌ "الْكَلِمَةُ مِنْ الْحَقِّ" ثُمَّ بَلَغَنِي أَنَّهُ أَسْنَدَهُ بَعْدَهُ".
قوله: "باب الكهانة" وقع في ابن بطال هنا "والسحر" وليس هو في نسخ الصحيح فيما وقفت عليه، بل ترجمة السحر في باب مفرد عقب هذه، والكهانة - بفتح الكاف ويجوز كسرها - ادعاء علم الغيب كالإخبار بما سيقع في الأرض مع الاستناد إلى سبب، والأصل فيها استراق السمع من كلام الملائكة، فيلقيه في أذن الكاهن. والكاهن لفظ يطلق على العراف، والذي يضرب بالحصى، والمنجم، ويطلق على من يقوم بأمر آخر ويسعى في قضاء حوائجه. وقال في "المحكم": الكاهن القاضي بالغيب. وقال في "الجامع": العرب تسمي كل من أذن بشيء

(10/216)


قبل وقوعه كاهنا. وقال الخطابي: الكهنة قوم لهم أذهان حادة ونفوس شريرة وطباع نارية، فألفتهم الشياطين لما بينهم من التناسب في هذه الأمور، وساعدتهم بكل ما تصل قدرتهم إليه. وكانت الكهانة في الجاهلية فاشية خصوصا في العرب لانقطاع النبوة فيهم. وهي على أصناف: منها ما يتلقونه من الجن، فإن الجن كانوا يصعدون إلى جهة السماء فيركب بعضهم بعضا إلى أن يدنو الأعلى بحيث يسمع الكلام فيلقيه إلى الذي يليه، إلى أن يتلقاه من يلقيه في أذن الكاهن فيزيد فيه، فلما جاء الإسلام ونزل القرآن حرست السماء من الشياطين، وأرسلت عليهم الشهب، فبقي من استراقهم ما يتخطفه الأعلى فيلقيه إلى الأسفل قبل أن يصيبه الشهاب، إلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: {إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} . وكانت إصابة الكهان قبل الإسلام كثيرة جدا كما جاء في أخبار شق وسطيح ونحوهما، وأما في الإسلام فقد ندر ذلك جدا حتى كاد يضمحل ولله الحمد. ثانيها ما يخبر الجني به من يواليه بما غاب عن غيره مما لا يطلع عليه الإنسان غالبا، أو يطلع عليه من قرب منه لا من بعد. ثالثها ما يستند إلى ظن وتخمين وحدس، وهذا قد يجعل الله فيه لبعض الناس قوة مع كثرة الكذب فيه. رابعها ما يستند إلى التجربة والعادة، فيستدل على الحادث بما وقع قبل ذلك، ومن هذا القسم الأخير ما يضاهي السحر، وقد يعتضد بعضهم في ذلك بالزجر والطرق والنجوم، وكل ذلك مذموم شرعا. وورد في ذم الكهانة ما أخرجه أصحاب السنن وصححه الحاكم من حديث أبي هريرة رفعه: "من أتى كاهنا أو عرافا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد" وله شاهد من حديث جابر وعمران بن حصين أخرجهما البزار بسندين جيدين ولفظهما "من أتى كاهنا" وأخرجه مسلم من حديث امرأة من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم - ومن الرواة من سماها حفصة - بلفظ: "من أتى عرافا" وأخرجه أبو يعلى من حديث ابن مسعود بسند جيد، لكن لم يصرح برفعه، ومثله لا يقال بالرأي، ولفظه: "من أتى عرافا أو ساحرا أو كاهنا" واتفقت ألفاظهم على الوعيد بلفظ حديث أبي هريرة، إلا حديث مسلم فقال فيه: "لم يقبل لهما صلاة أربعين يوما". ووقع عند الطبراني من حديث أنس بسند لين مرفوعا بلفظ: "من أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد برئ مما أنزل على محمد، ومن أتاه غير مصدق له لم تقبل صلاته أربعين يوما" والأحاديث الأول مع صحتها وكثرتها أولى من هذا، والوعيد جاء تارة بعدم قبول الصلاة وتارة بالتكفير، فيحمل على حالين من الآتي أشار إلى ذلك القرطبي. والعراف بفتح المهملة وتشديد الراء من يستخرج الوقوف على المغيبات بضرب من فعل أو قول. ثم ذكر المصنف ثلاثة أحاديث: أحدها: حديث أبي هريرة. قوله: "عن ابن شهاب عن أبي سلمة عن أبي هريرة" وساقه بطوله، كذا قال عبد الرحمن بن خالد بن مسافر من رواية الليث عنه عن ابن شهاب، وفصل مالك عن ابن شهاب قصة ولي المرأة فجعله من رواية ابن شهاب عن سعيد بن المسيب مرسلا كما بينه المصنف في الطريق التي تلي طريق ابن مسافر هذه، وقد روى الليث عن ابن شهاب أصل الحديث بدون الزيادة عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة موصولا كما سيأتي في الديات، وكذا أخرج هناك طريق يونس عن ابن شهاب عن أبي سلمة وسعيد معا عن أبي هريرة بأصل الحديث دون الزيادة، ويأتي شرح ما يتعلق بالجنين والغرة هناك إن شاء الله تعالى. قوله: "فقال ولي المرأة" هو حمل بفتح المهملة والميم الخفيفة ابن مالك ابن النابغة الهذلي، بينه مسلم من طريق يونس عن ابن شهاب عن ابن المسيب وأبي سلمة معا عن أبي هريرة، وكنية حمل المذكور أبو نضلة، وهو صحابي نزل البصرة. وفي رواية مالك "فقال الذي قضي عليه" أي قضي على من هي منه بسبيل. وفي رواية

(10/217)


الليث عن ابن شهاب المذكورة أن المرأة من بني لحيان، وبنو لحيان حي من هذيل، وجاء تسمية الضرتين فيما أخرج أحمد من طريق عمرو بن تميم بن عويم عن أبيه عن جده قال: "كانت أختي مليكة وامرأة منا يقال لها أم عفيف بنت مسروح تحت حمل بن مالك ابن النابغة، فضربت أم عفيف مليكة بمسطح" الحديث، لكن قال فيه: "فقال العلاء بن مسروح: يا رسول الله، أنغرم من لا شرب ولا أكل" الحديث، وفي آخره: "أسجع كسجع الجاهلية" ويجمع بينهما بأن كلا من زوج المرأة وهو حمل وأخيها وهو العلاء قال ذلك تواردا معا عليه، لما تقرر عندهما أن الذي يودي هو الذي يخرج حيا، وأما السقط فلا يودي، فأبطل الشرع ذلك وجعل فيه غرة، وسيأتي بيانه في كتاب الديات إن شاء الله تعالى. ووقع في رواية للطبراني أيضا أن الذي قال ذلك عمران بن عويم، فلعلها قصة أخرى. وأم عفيف بمهملة وفاءين وزن عظيم، ووقع في المبهمات للخطيب، وأصله عند أبي داود والنسائي من طريق سماك عن عكرمة عن ابن عباس أنها أم غطيف بغين ثم طاء مهملة مصغر، فالله أعلم. قوله: "كيف أغرم يا رسول الله من لا شرب ولا أكل" في رواية مالك "من لا أكل ولا شرب" والأول أولى لمناسبة السجع. ووقع في رواية الكشميهني في رواية مالك "ما لا" بدل "من لا" وهذا هو الذي في "الموطأ". وقال أبو عثمان بن جني: معني قوله لا أكل أي لم يأكل، أقام الفعل الماضي مقام المضارع. قوله: "فمثل ذلك يطل" للأكثر بضم المثناة التحتانية وفتح الطاء المهملة وتشديد اللام أي يهدر، يقال دم فلان هدر إذا ترك الطلب بثأره، وطل الدم بضم الطاء وبفتحها أيضا، وحكي "أطل" ولم يعرفه الأصمعي: ووقع للكشميهني في رواية ابن مسافر "بطل" بفتح الموحدة والتخفيف من البطلان كذا رأيته في نسخة معتمدة من رواية أبي ذر، وزعم عياض أنه وقع هنا للجميع بالموحدة، قال: وبالوجهين في الموطأ، وقد رجح الخطابي أنه من البطلان، وأنكره ابن بطال فقال: كذا يقوله أهل الحديث، وإنما هو طل الدم إذا هدر. قلت: وليس لإنكاره معنى بعد ثبوت الرواية، وهو موجه، راجع إلى معنى الرواية الأخرى. قوله: " إنما هذا من إخوان الكهان" أي لمشابهة كلامه كلامهم، زاد مسلم والإسماعيلي من رواية يونس "من أجل سجعه الذي سجع" قال القرطبي: هو من تفسير الراوي، وقد ورد مستند ذلك فيما أخرجه مسلم في حديث المغيرة بن شعبة "فقال رجل من عصبة القاتلة يغرم" فذكر نحوه وفيه: "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أسجع كسجع الأعراب". والسجع هو تناسب آخر الكلمات لفظا، وأصله الاستواء، وفي الاصطلاح الكلام المقفى والجمع أسجاع وأساجيع، قال ابن بطال: فيه ذم الكفار وذم من تشبه بهم في ألفاظهم، وإنما لم يعاقبه لأنه صلى الله عليه وسلم كان مأمورا بالصفح عن الجاهلين، وقد تمسك به من كره السجع في الكلام، وليس على إطلاقه، بل المكروه منه ما يقع مع التكلف في معرض مدافعة الحق، وأما ما يقع عفوا بلا تكلف في الأمور المباحة فجائز، وعلى ذلك يحمل ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم، وسيأتي مزيد لذلك في كتاب الدعوات. والحاصل أنه إن جمع الأمرين من التكلف وإبطال الحق كان مذموما، وإن اقتصر على أحدهما كان أخف في الذم، ويخرج من ذلك تقسيمه إلى أربعة أنواع: فالمحمود ما جاء عفوا في حق، ودونه ما يقع متكلفا في حق أيضا، والمذموم عكسهما. وفي الحديث من الفوائد أيضا رفع الجناية للحاكم، ووجوب الدية في الجنين ولو خرج ميتا كما سيأتي تقريره في كتاب الديات مع استيفاء فوائده. حديث أبي مسعود، وهو عقبة بن عمرو، في النهي عن ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن، وقد تقدم شرحه في أواخر كتاب البيع. قوله: "عن يحيى بن عروة بن الزبير عن عروة" كأن هذا

(10/218)


مما فات الزهري سماعه من عروة فحمله عن ولده عنه، مع كثرة ما عن الزهري عن عروة، وقد وصفه الزهري بسعة العلم، ووقع في رواية معقل بن عبيد الله عند مسلم عن الزهري "أخبرني يحيى بن عروة أنه سمع عروة" وكذا للمصنف في التوحيد من طريق يونس، وفي الأدب من طريق ابن جريج كلاهما عن ابن شهاب، ولم أقف ليحيى بن عروة في البخاري إلا على هذا الحديث، وقد روى بعض هذا الحديث محمد بن عبد الرحمن أبو الأسود عن عروة وتقدم موصولا في بدء الخلق، وكذا هشام بن عروة عن أبيه به. قوله: "سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم" في رواية الكشميهني: "سأل ناس رسول الله صلى الله عليه وسلم" وكذا هو في رواية يونس، وعند مسلم من رواية معقل مثله ومن رواية معقل مثل الذي قبله، وقد سمي ممن سأل عن ذلك معاوية بن الحكم السلمي كما أخرجه مسلم من حديثه "قال: قلت يا رسول الله، أمورا كنا نصنعها في الجاهلية كنا نأتي الكهان، فقال: لا تأتوا الكهان" الحديث. وقال الخطابي هؤلاء الكهان فيما علم بشهادة الامتحان قوم لهم أذهان حادة ونفوس شريرة وطبائع نارية، فهم يفزعون إلى الجن في أمورهم ويستفتونهم في الحوادث فيلقون إليهم الكلمات، ثم تعرض إلى مناسبة ذكر الشعراء بعد ذكرهم في قوله تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ}. قوله: "فقال ليس بشيء" في رواية مسلم: "ليسوا بشيء"، وكذا في رواية يونس في التوحيد، وفي نسخة "فقال لهم ليسوا بشيء" أي ليس قولهم بشيء يعتمد عليه، والعرب تقول لمن عمل شيئا ولم يحكمه: ما عمل شيئا، قال القرطبي: كانوا في الجاهلية يترافعون إلى الكهان في الوقائع والأحكام ويرجعون إلى أقوالهم، وقد انقطعت الكهانة بالبعثة المحمدية، لكن بقي في الوجود من يتشبه بهم، وثبت النهي عن إتيانهم فلا يحل إتيانهم ولا تصديقهم. قوله: "إنهم يحدثوننا أحيانا بشيء فيكون حقا" في رواية يونس "فإنهم يتحدثون" هذا أورده السائل إشكالا على عموم قوله: "ليسوا بشيء" لأنه فهم أنهم لا يصدقون أصلا فأجابه صلى الله عليه وسلم عن سبب ذلك الصدق، وأنه إذا اتفق أن يصدق لم يتركه خالصا بل يشوبه بالكذب. قوله: "تلك الكلمة من الحق" كذا في البخاري بمهملة وقاف أي الكلمة المسموعة التي تقع حقا، ووقع في مسلم: "تلك الكلمة من الجن" قال النووي: كذا في نسخ بلادنا بالجيم والنون، أي الكلمة المسموعة من الجن أو التي تصح مما نقلته الجن. قلت: التقدير الثاني يوافق رواية البخاري، قال النووي: وقد حكى عياض أنه وقع يعني في مسلم بالحاء والقاف. قوله: "يخطفها الجني" كذا للأكثر. وفي رواية السرخسي "يخطفها من الجني" أي الكاهن يخطفها من الجني أو الجني الذي يلقى الكاهن يخطفها من جني آخر فوقه، ويخطفها بخاء معجمة وطاء مفتوحة وقد تكسر بعدها فاء ومعناه الأخذ بسرعة. وفي رواية الكشميهني: "يحفظها" بتقديم الفاء بعدها ظاء معجمة والأول هو المعروف والله أعلم. قوله: "فيقرها" بفتح أوله وثانيه وتشديد الراء أي يصبها، تقول قررت على رأسه دلوا إذا صببته، فكأنه صب في أذنه ذلك الكلام، قال القرطبي: ويصح أن يقال المعنى ألقاها في أذنه بصوت، يقال قر الطائر إذا صوت انتهى. ووقع في رواية يونس المذكورة "فيقرقرها" أي يرددها، يقال قرقرت الدجاجة تقرقر قرقرة إذا رددت صوتها، قال الخطابي: ويقال أيضا قرت الدجاجة تقر قرا وقريرا، وإذا رجعت في صوتها قيل قرقرت قرقرة وقرقريرة، قال: والمعني أن الجني إذا ألقى الكلمة لوليه تسامع بها الشياطين فتناقلوها كما إذا صوتت الدجاجة فسمعها الدجاج فجاوبتها. وتعقبه القرطبي بأن الأشبه بمساق الحديث أن الجني يلقي الكلمة إلى وليه بصوت خفي متراجع له زمزمة ويرجعه له، فلذلك يقع كلام الكهان غالبا على هذا النمط، وقد تقدم شيء من ذلك في أواخر الجنائز

(10/219)


في قصة ابن صياد وبيان اختلاف الرواة في قوله: "في قطيفة له فيها زمزمة" وأطلق على الكاهن ولي الجني لكونه يواليه أو عدل عن قوله الكاهن إلى قوله وليه للتعميم في الكاهن وغيره ممن يوالي الجن. قال الخطابي بين صلى الله عليه وسلم أن إصابة الكاهن أحيانا إنما هي لأن الجني يلقي إليه الكلمة التي يسمعها استراقا من الملائكة فيزيد عليها أكاذيب يقيسها على ما سمع، فربما أصاب نادرا وخطؤه الغالب، وقوله في رواية يونس "كقرقرة الدجاجة" يعني الطائر المعروف، ودالها مثلثة والأشهر فيها الفتح، ووقع في رواية المستملي: "الزجاجة" بالزاي المضمومة وأنكرها الدار قطني وعدها في التصحيف، لكن وقع في حديث الباب من وجه آخر تقدم في "باب ذكر الملائكة" في كتاب بدء الخلق "فيقرها في أذنه كما تقر القارورة" وشرحوه على أن معناه كما يسمع صوت الزجاجة إذا حلت على شيء أو ألقي فيها شيء. وقال القابسي: المعنى أنه يكون لما يلقيه الجني إلى الكاهن حس كحس القارورة إذا حركت باليد أو على الصفا. وقال الخطابي: المعنى أنه يطبق به كما يطبق رأس القارورة برأس الوعاء الذي يفرغ فيه منها ما فيها. وأغرب شارح "المصابيح" التوربشتي فقال: الرواية بالزاي أحوط لما ثبت في الرواية الأخرى "كما تقر القارورة" واستعمال قر في ذلك شائع بخلاف ما فسروا عليه الحديث فإنه غير مشهور ولم نجد له شاهدا في كلامهم، فدل على أن الرواية بالدال تصحيف أو غلط من السامع. وتعقبه الطيبي فقال: لا ريب أن قوله: "قر الدجاجة" مفعول مطلق، وفيه معنى التشبيه، فكما يصح أن يشبه إيراد ما اختطفه من الكلام في أذن الكاهن بصب الماء في القارورة يصح أن يشبه ترديد الكلام في أذنه بترديد الدجاجة صوتها في أذن صواحباتها، وهذا مشاهد، ترى الديك إذا رأى شيئا ينكره يقرقر فتسمعه الدجاج فتجتمع وتقرقر معه، وباب التشبيه واسع لا يفتقر إلى العلاقة، غير أن الاختطاف مستعار للكلام من فعل الطير كما قال الله تعالى: {فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ} فيكون ذكر الدجاجة هنا أنسب من ذكر الزجاجة لحصول الترشيح في الاستعارة. قلت: ويؤيده دعوى الدار قطني وهو إمام الفن أن الذي بالزاي تصحيف، وإن كنا ما قبلنا ذلك فلا أقل أن يكون أرجح. قوله: "فيخلطون معها مائة كذبة" في رواية ابن جريج "أكثر من مائة كذبة" وهو دال على أن ذكر المائة للمبالغة لا لتعيين العدد، وقوله كذبة هنا بالفتح وحكي الكسر، وأنكره بعضهم لأنه بمعنى الهيئة والحالة وليس هذا موضعه، وقد أخرج مسلم في حديث آخر أصل توصل الجني إلى الاختطاف فأخرج من حديث ابن عباس "حدثني رجال من الأنصار أنهم بينا هم جلوس ليلا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ رمي بنجم فاستنار، فقال: ما كنتم تقولون إذا رمي مثل هذا في الجاهلية؟ قالوا: كنا نقول ولد الليلة رجل عظيم أو مات رجل عظيم، فقال: إنها لا يرمى بها لموت أحد ولا لحياته. ولكن ربنا إذا قضى أمرا سبح حملة العرش ثم سبح الذين يلونهم حتى يبلغ التسبيح إلى أهل هذه السماء الدنيا فيقولون: ماذا قال ربكم؟ فيخبرونهم حتى يصل إلى السماء الدنيا، فيسترق منه الجني، فما جاءوا به على وجهه فهو حق، ولكنهم يزيدون فيه وينقصون" وقد تقدم في تفسير سبأ وغيرها بيان كيفيتهم عند استراقهم، وأما ما تقدم في بدء الخلق من وجه آخر عن عروة عن عائشة "أن الملائكة تنزل في العنان - وهو السحاب - فتذكر الأمر قضي في السماء فتسترق الشياطين السمع" فيحتمل أن يريد بالسحاب السماء كما أطلق السماء على السحاب، ويحتمل أن يكون على حقيقته وأن بعض الملائكة إذا نزل بالوحي إلى الأرض تسمع منهم الشياطين، أو المراد الملائكة الموكلة بإنزال المطر. قوله: "قال علي قال عبد الرزاق مرسل الكلمة من الحق، ثم بلغني أنه أسنده بعد" علي هذا هو ابن المديني شيخ البخاري فيه، ومراده أن عبد الرزاق كان يرسل هذا القدر من الحديث، ثم أنه بعد ذلك وصله

(10/220)


بذكر عائشة فيه، وقد أخرجه مسلم عن عبد بن حميد والإسماعيلي من طريق فياض بن زهير، وأبو نعيم من طريق عباس العنبري ثلاثتهم عن عبد الرزاق موصولا كرواية هشام بن يوسف عن معمر، وفي الحديث بقاء استراق الشياطين السمع، لكنه قل وندر حتى كاد يضمحل بالنسبة لما كانوا فيه من الجاهلية وفيه النهي عن إتيان الكهان قال القرطبي: يجب عل من قدر على ذلك من محتسب وغيره أن يقيم من يتعاطى شيئا من ذلك من الأسواق وينكر عليهم أشد النكير وعلى من يجيء إليهم ولا يغتر بصدقهم في بعض الأمور ولا بكثرة من يجيء إليهم ممن ينسب إلى العلم، فإنهم غير راسخين في العلم بل من الجهال بما في إتيانهم من المحذور.
" تنبيه ": إيراد باب الكهانة كتاب الطب لمناسبته لباب السحر لما يجمع بينهما من مرجع كل منهما للشياطين، وإيراد باب السحر في كتاب الطب لمناسبته ذكر الرقى وغيرها من الأدوية المعنوية، فناسب ذكر الأدواء التي تحتاج إلى ذلك، واشتمل كتاب الطب على الإشارة للأدوية الحسية كالحبة السوداء والعسل ثم على الأدوية المعنوية كالرقى بالدعاء والقرآن. ثم ذكرت الأدواء التي تنفع الأدوية المعنوية في دفعها كالسحر، كما ذكرت الأدواء التي تنفع الأدوية الحسية في دفعها كالجذام والله أعلم.

(10/221)


47 - باب السِّحْرِ
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنْ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ} وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} وَقَوْلِهِ: {أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} وَقَوْلِهِ: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} وَقَوْلِهِ: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} . وَالنَّفَّاثَاتُ: السَّوَاحِرُ. تُسْحَرُونَ: تُعَمَّوْنَ
5763- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ سَحَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ يُقَالُ لَهُ لَبِيدُ بْنُ الأَعْصَمِ حَتَّى كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُ الشَّيْءَ وَمَا فَعَلَهُ حَتَّى إِذَا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ أَوْ ذَاتَ لَيْلَةٍ وَهُوَ عِنْدِي لَكِنَّهُ دَعَا وَدَعَا ثُمَّ قَالَ: يَا عَائِشَةُ أَشَعَرْتِ أَنَّ اللَّهَ أَفْتَانِي فِيمَا اسْتَفْتَيْتُهُ فِيهِ أَتَانِي رَجُلاَنِ فَقَعَدَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي وَالْآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيَّ فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ مَا وَجَعُ الرَّجُلِ فَقَالَ مَطْبُوبٌ قَالَ مَنْ طَبَّهُ قَالَ لَبِيدُ بْنُ الأَعْصَمِ قَالَ فِي أَيِّ شَيْءٍ قَالَ فِي مُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ وَجُفِّ طَلْعِ نَخْلَةٍ ذَكَرٍ قَالَ وَأَيْنَ هُوَ قَالَ فِي بِئْرِ ذَرْوَانَ فَأَتَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَجَاءَ فَقَالَ يَا عَائِشَةُ كَأَنَّ مَاءَهَا نُقَاعَةُ الْحِنَّاءِ أَوْ كَأَنَّ رُءُوسَ نَخْلِهَا رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلاَ اسْتَخْرَجْتَهُ قَالَ قَدْ عَافَانِي اللَّهُ فَكَرِهْتُ أَنْ أُثِيرَ

(10/221)


عَلَى النَّاسِ فِيهِ شَرّاً فَأَمَرَ بِهَا فَدُفِنَتْ" . تَابَعَهُ أَبُو أُسَامَةَ وَأَبُو ضَمْرَةَ وَابْنُ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ هِشَامٍ. وَقَالَ اللَّيْثُ وَابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ هِشَامٍ "فِي مُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ" يُقَالُ الْمُشَاطَةُ مَا يَخْرُجُ مِنْ الشَّعَرِ إِذَا مُشِطَ وَالْمُشَاطَةُ مِنْ مُشَاطَةِ الْكَتَّانِ.
قوله: "باب السحر" قال الراغب وغيره: السحر يطلق على معان: أحدها: ما لطف ودق، ومنه سحرت الصبي خادعته واستملته، وكل من استمال شيئا فقد سحره ومنه إطلاق الشعراء سحر العيون لاستمالتها النفوس، ومنه قول الأطباء: الطبيعة ساحرة ومنه قوله تعالى: {بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} أي مصروفون عن المعرفة، ومنه حديث: "إن من البيان لسحرا" وسيأتي قريبا في باب مفرد. الثاني: ما يقع بخداع وتخييلات لا حقيقة لها، نحوها ما يفعله المشعوذ من صرف الأبصار عما يتعاطاه بخفة يده، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} وقوله تعالى: { سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ} ومن هناك سموا موسى ساحرا، وقد يستعين في ذلك بما يكون فيه خاصية كالحجر الذي يجذب الحديد المسمى المغنطيس. الثالث: ما يحصل بمعاونة الشياطين بضرب من التقرب إليهم، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} . الرابع: ما يحصل بمخاطبة الكواكب واستنزال روحانياتها بزعمهم. قال ابن حزم: ومنه ما يوجد من الطلسمات كالطابع المنقوش فيه صورة عقرب في وقت كون القمر في العقرب فينفع إمساكه من لدغة العقرب، وكالمشاهد ببعض بلاد الغرب - وهي سرقسطة - فإنها لا يدخلها ثعبان قط إلا إن كان بغير إرادته، وقد يجمع بعضهم بين الأمرين الأخيرين كالاستعانة بالشياطين ومخاطبة الكواكب فيكون ذلك أقوى بزعمهم. قال أبو بكر الرازي في الأحكام له: كان أهل بابل قوما صابئين يعبدون الكواكب السبعة ويسمونها آلهة ويعتقدون أنها الفعالة لكل ما في العالم، وعملوا أوثانا على أسمائها، ولكل واحد هيكل فيه صنمه يتقرب إليه بما يوافقه بزعمهم من أدعية وبخور، وهم الذين بعث إليهم إبراهيم عليه السلام وكانت علومهم أحكام النجوم، ومع ذلك فكان السحرة منهم يستعملون سائر وجوه السحر وينسبونها إلى فعل الكواكب لئلا يبحث عنها وينكشف تمويههم انتهى. ثم السحر يطلق ويراد به الآلة التي يسحر بها، ويطلق ويراد به فعل الساحر والآلة تارة تكون معنى من المعاني فقط كالرقى والنفث في العقد، وتارة تكون بالمحسوسات كتصوير الصورة على صورة المسحور. وتارة بجمع الأمرين الحسي والمعنوي وهو أبلغ. واختلف في السحر فقيل هو تخييل ولا حقيقة له وهذا اختيار أبي جعفر الأستراباذي من الشافعية وأبي بكر الرازي من الحنفية وابن حزم الظاهري وطائفة، قال النووي: والصحيح أن له حقيقة وبه قطع الجمهور وعليه عامة العلماء، ويدل عليه الكتاب والسنة الصحيحة المشهورة انتهى. لكن محل النزاع هل يقع بالسحر انقلاب عين أو لا؟ فمن قال إنه تخييل فقط منع ذلك، ومن قال إن له حقيقة اختلفوا هل له تأثير فقط بحيث يغير المزاج فيكون نوعا من الأمراض أو ينتهي إلى الإحالة بحيث يصير الجماد حيوانا مثلا وعكسه؟ فالذي عليه الجمهور هو الأول، وذهبت طائفة قليلة إلى الثاني. فإن كان بالنظر إلى القدرة الإلهية فمسلم، وإن كان بالنظر إلى الواقع فهو محل الخلاف، فإن كثيرا ممن يدعي ذلك لا يستطيع إقامة البرهان عليه، ونقل الخطابي أن قوما أنكروا السحر مطلقا وكأنه عني القائلين بأنه تخييل فقط وإلا فهي مكابرة. وقال المازري: جمهور العلماء على إثبات السحر وأن له حقيقة، ونفى بعضهم حقيقته وأضاف ما يقع منه إلى خيالات باطلة وهو مردود لورود النقل بإثبات السحر، ولأن العقل لا ينكر أن الله قد يخرق العادة عند نطق الساحر بكلام

(10/222)


ملفق أو تركيب أجسام أو مزج بين قوى على ترتيب مخصوص، ونظير ذلك ما يقع من حذاق الأطباء من مزج بعض العقاقير ببعض حتى ينقلب الضار منها بمفرده بالتركيب نافعا، وقيل لا يزيد تأثير السحر على ما ذكر الله تعالى في قوله: {يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} لكون المقام مقام تهويل، فلو جاز أن يقع به أكثر من ذلك لذكره. قال المازري: والصحيح من جهة العقل أنه يجوز أن يقع به أكثر من ذلك، قال: والآية ليست نصا في منع الزيادة، ولو قلنا إنها ظاهرة في ذلك. ثم قال: والفرق بين السحر والمعجزة والكرامة: أن السحر يكون بمعاناة أقوال وأفعال حتى يتم للساحر ما يريد، والكرامة لا تحتاج إلى ذلك بل إنما تقع غالبا اتفاقا، وأما المعجزة فتمتاز عن الكرامة بالتحدي. ونقل إمام الحرمين الإجماع على أن السحر لا يظهر إلا من فاسق، وأن الكرامة لا تظهر على فاسق. ونقل النووي في زيادات الروضة عن المتولي نحو ذلك. وينبغي أن يعتبر بحال من يقع الخارق منه، فإن كان متمسكا بالشريعة متجنبا للموبقات فالذي يظهر على يده من الخوارق كرامة، وإلا فهو سحر، لأنه ينشأ عن أحد أنواعه كإعانة الشياطين. وقال القرطبي: السحر حيل صناعية يتوصل إليها بالاكتساب، غير أنها لدقتها لا يتوصل إليها إلا آحاد الناس، ومادته الوقوف على خواص الأشياء والعلم بوجوه تركيبها وأوقاته، وأكثرها تخييلات بغير حقيقة وإيهامات بغير ثبوت فيعظم عند من لا يعرف ذلك كما قال الله تعالى عن سحرة فرعون: {وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} مع أن حبالهم وعصيهم لم تخرج عن كونها حبالا وعصيا. ثم قال: والحق أن لبعض أصناف السحر تأثيرا في القلوب كالحب والبغض وإلقاء الخير والشر، وفي الأبدان بالألم والسقم، وإنما المنكور أن الجماد ينقلب حيوانا أو عكسه بسحر الساحر أو نحو ذلك. قوله: "وقول الله تعالى: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} الآية" كذا للأكثر وساق في رواية كريمة إلى قوله: {مِنْ خَلاقٍ} وفي هذه الآية بيان أصل السحر الذي يعمل به اليهود، ثم هو مما وضعته الشياطين على سليمان بن داود عليه السلام ومما أنزل على هاروت وماروت بأرض بابل، والثاني متقدم العهد على الأول لأن قصة هاروت وماروت كانت من قبل زمن نوح عليه السلام على ما ذكر ابن إسحاق وغيره، وكان السحر موجودا في زمن نوح إذ أخبر الله عن قوم نوح أنهم زعموا أنه ساحر، وكان السحر أيضا فاشيا في قوم فرعون وكل ذلك قبل سليمان. واختلف في المراد بالآية: فقيل: إن سليمان كان جمع كتب السحر والكهانة فدفنها تحت كرسيه فلم يكن أحد من الشياطين يستطيع أن يدنو من الكرسي، فلما مات سليمان وذهبت العلماء الذين يعرفون الأمر جاءهم شيطان في صورة إنسان فقال لليهود: هل أدلكم على كنز لا نظير له؟ قالوا: نعم. قال: فاحفروا تحت الكرسي، فحفروا - وهو متنح عنهم - فوجدوا تلك الكتب، فقال لهم: إن سليمان كان يضبط الأنس والجن بهذا، ففشا فيهم أن سليمان كان ساحرا، فلما نزل القرآن بذكر سليمان في الأنبياء أنكرت اليهود ذلك وقالوا إنما كان ساحرا، فنزلت هذه الآية. أخرجه الطبري وغيره عن السدي، ومن طريق سعيد بن جبير بسند صحيح نحوه، ومن طريق عمران بن الحارث عن ابن عباس موصولا بمعناه. وأخرج من طريق الربيع بن أنس نحوه ولكن قال: إن الشياطين هي التي كتبت كتب السحر ودفنتها تحت كرسيه، ثم لما مات سليمان استخرجته وقالوا: هذا العلم الذي كان سليمان يكتمه الناس. وأخرجه من طريق محمد بن إسحاق وزاد أنهم نقشوا خاتما على نقش خاتم سليمان وختموا به الكتاب وكتبوا به الكتاب وكتبوا عنوانه "هذا ما كتب آصف بن برخياء الصديق للملك سليمان بن داود من ذخائر كنوز العلم" ثم دفنوه فذكر نحو ما تقدم. وأخرج من طريق العوفي عن ابن عباس نحو ما تقدم عن السدي

(10/223)


ولكن قال: أنهم لما وجدوا الكتب قالوا هذا مما أنزل الله على سليمان فأخفاه منا. وأخرج بسند صحيح عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: انطلقت الشياطين في الأيام التي ابتلي فيها سليمان، فكتبت كتبا فيها سحر وكفر، ثم دفنتها تحت كرسيه ثم أخرجوها بعده فقرؤوها على الناس. وملخص ما ذكر في تفسير هذه الآية أن المحكي عنهم أنهم اتبعوا ما تتلوا الشياطين هم أهل الكتاب، إذ تقدم قبل ذلك في الآيات إيضاح ذلك، والجملة معطوفة على مجموع الجمل السابقة من قوله تعالى: { وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ} إلى آخر الآية، و{مَا} في قوله: {مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ} موصولة على الصواب، وغلط من قال إنها نافية لأن نظم الكلام يأباه، و {تَتْلُوا} لفظه مضارع لكن هو واقع موقع الماضي وهو استعمال شائع، ومعنى تتلو تتقول، ولذلك عداه بعلي، وقيل معناه تتبع أو تقرأ، ويحتاج إلى تقدير قيل هو تقرأ على زمان ملك سليمان، وقوله: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} ما نافية جزما وقوله: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} هذه الواو عاطفة لجملة الاستدراك على ما قبلها، وقوله: {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} الناس مفعول أول والسحر مفعول ثان والجملة حال من فاعل كفروا، أي كفروا معلمين، وقيل هي بدل من كفروا، وقيل استئنافية، وهذا على إعادة ضمير يعلمون على الشياطين، ويحتمل عوده على الذين اتبعوا فيكون حالا من فاعل اتبعوا أو استئنافا، وقوله: {وَمَا أُنْزِلَ} ما موصولة ومحلها النصب عطفا على السحر، والتقدير يعلمون الناس السحر، والمنزل على الملكين، وقيل الجر عطفا على ملك سليمان أي تقولا على ملك سليمان وعلى ما أنزل، قيل بل هي نافية عطفا، على {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} والمعنى ولم ينزل على الملكين إباحة السحر. وهذان الإعرابان ينبنيا على ما جاء في تفسير الآية عن البعض، والجمهور على خلافه وأنها موصولة، ورد الزجاج على الأخفش دعواه أنها نافية وقال: الذي جاء في الحديث والتفسير أولى. وقوله: {بِبَابِلَ} متعلق بما أنزل أي في بابل، والجمهور على فتح لام الملكين، وقرئ بكسرها، وهاروت وماروت بدل من الملكين وجرا بالفتحة، أو عطف بيان، وقيل بل هما بدل من الناس وهو بعيد، وقيل من الشياطين على أن هاروت وماروت اسمان لقبيلتين من الجن وهو ضعيف، وقوله: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ} بالتشديد من التعليم، وقرئ في الشاذ بسكون العين من الإعلام بناء على أن التضعيف يتعاقب مع الهمزة، وذلك أن الملكين لا يعلمان الناس السحر بل يعلمانهم به وينهيانهم عنه، والأول أشهر، وقد قال علي الملكان يعلمان تعليم إنذار لا تعليم طلب، وقد استدل بهذه الآية على أن السحر كفر ومتعلمه كافر، وهو واضح في بعض أنواعه التي قدمتها وهو التعبد للشياطين أو للكواكب، وأما النوع الآخر الذي هو من باب الشعوذة فلا يكفر به من تعلمه أصلا، قال النووي: عمل السحر حرام وهو من الكبائر بالإجماع، وقد عده النبي صلى الله عليه وسلم من السبع الموبقات، ومنه ما يكون كفرا، ومنه لا يكون كفرا بل معصية كبيرة، فإن كان فيه قول أو فعل يقتضي الكفر فهو كفر وإلا فلا، وأما تعلمه وتعليمه فحرام، فإن كان فيه ما يقتضي الكفر كفر واستتيب منه ولا يقتل، فإن تاب قبلت توبته، وإن لم يكن فيه ما يقتضي الكفر عزر. وعن مالك: الساحر كافر يقتل بالسحر ولا يستتاب بل يتحتم قتله كالزنديق. قال عياض: وبقول مالك قال أحمد وجماعة من الصحابة والتابعين اهـ. وفي المسألة اختلاف كثير وتفاصيل ليس هذا موضع بسطها. وقد أجاز بعض العلماء تعلم السحر لأحد أمرين إما لتمييز ما فيه كفر من غيره إما لإزالته عمن وقع فيه، فأما الأول فلا محذور فيه إلا من جهة الاعتقاد فإذا سلم الاعتقاد فمعرفة الشيء بمجرده لا تستلزم منعا، كمن يعرف كيفية عبادة أهل الأوثان للأوثان لأن كيفية ما يعمله الساحر إنما هي

(10/224)


حكاية قول أو فعل، بخلاف تعاطيه والعمل به. وأما الثاني فإن كان لا يتم كما زعم بعضهم إلا بنوع من أنواع الكفر أو الفسق فلا يحل أصلا وإلا جاز للمعنى المذكور، وسيأتي مزيد لذلك في "باب هل يستخرج السحر" قريبا والله أعلم. وهذا فصل الخطاب في هذه المسألة.وفي إيراد المصنف هذه الآية إشارة إلى اختيار الحكم بكفر الساحر لقوله فيها: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} فإن ظاهرها أنهم كفروا بذلك، ولا يكفر بتعليم الشيء إلا وذلك الشيء كفر، وكذا قوله في الآية على لسان الملكين: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} فإن فيه إشارة إلى أن تعلم السحر كفر فيكون العمل به كفرا، وهذا كله واضح على ما قررته من العمل ببعض أنواعه. وقد زعم بعضهم أن السحر لا يصح إلا بذلك، وعلى هذا فتسمية ما عدا ذلك سحرا مجاز كإطلاق السحر على القول البليغ، وقصة هاروت وماروت جاءت بسند حسن من حديث ابن عمر في مسند أحمد، وأطنب الطبري في إيراد طرقها بحيث يقضي بمجموعها على أن للقصة أصلا، خلافا لمن زعم بطلانها كعياض ومن تبعه، ومحصلها أن الله ركب الشهوة في ملكين من الملائكة اختبارا لهما وأمرهما أن يحكما في الأرض، فنزلا على صورة البشر وحكما بالعدل مدة، ثم افتتنا بامرأة جميلة فعوقبا بسبب ذلك بأن حبسا في بئر ببابل منكسين وابتليا بالنطق بعلم السحر، فصار يقصدهما من يطلب ذلك فلا ينطقان بحضرة أحد حتى يحذراه وينهياه، فإذا أصر تكلما بذلك ليتعلم منهما ذلك وهما قد عرفا ذلك فيتعلم منهما ما قص الله عنهما، والله أعلم. قوله: "وقوله تعالى: {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} في الآية نفي الفلاح عن الساحر، وليست فيه دلالة على كفر الساحر مطلقا، وإن كثر في القرآن إثبات الفلاح للمؤمن ونفيه عن الكافر، لكن ليس فيه ما ينفي نفي الفلاح عن الفاسق وكذا العاصي. قوله: "وقوله: {أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} ؟ هذا يخاطب به كفار قريش يستبعدون كون محمد صلى الله عليه وسلم رسولا من الله لكونه بشرا من البشر، فقال قائلهم منكرا على من اتبعه: أفتأتون السحر، أي أفتتبعونه حتى تصيروا كمن اتبع السحر وهو يعلم أنه سحر. قوله: "وقوله: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} هذه الآية عمدة من زعم أن السحر إنما هو تخييل، ولا حجة له بها لأن هذه وردت في قصة سحرة فرعون، وكان سحرهم كذلك، ولا يلزم منه أن جميع أنواع السحر تخييل، قال أبو بكر الرازي في "الأحكام": أخبر الله تعالى أن الذي ظنه موسى من أنها تسعى لم يكن سعيا وإنما كان تخييلا، وذلك أن عصيهم كانت مجوفة قد ملئت زئبقا، وكذلك الحبال كانت من أدم محشوة زئبقا، وقد حفروا قبل ذلك أسرابا وجعلوا لها آزاجا وملؤوها نارا فلما طرحت على ذلك الموضع وحمي الزئبق حركها لأن من شأن الزئبق إذا أصابته النار أن يطير، فلما أثقلته كثافة الحبال والعصي صارت تتحرك بحركته فظن من رآها أنها تسعى، ولم تكن تسعى حقيقة. قوله: { وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} والنفاثات السواحر" هو تفسير الحسن البصري أخرجه الطبري بسند صحيح، وذكره أبو عبيدة أيضا في " المجاز" قال: النفاثات السواحر ينفثن. وأخرج الطبري أيضا عن جماعة من الصحابة وغيرهم أنه النفث في الرقية، وقد تقدم البحث في ذلك في "باب الرقية". وقد وقع في حديث ابن عباس فيما أخرجه البيهقي في "الدلائل" بسند ضعيف في آخر قصة السحر الذي سحر به النبي صلى الله عليه وسلم أنهم وجدوا وترا فيه إحدى عشرة عقدة وأنزلت سورة الفلق والناس وجعل كلما قرأ آية انحلت عقدة، وأخرجه ابن سعد بسند آخر منقطع عن ابن عباس "أن عليا وعمارا لما بعثهما النبي صلى الله عليه وسلم لاستخراج السحر وجدا طلعة فيها إحدى عشرة عقدة" فذكر نحوه. قوله: "تسحرون: تعمون" بضم أوله وفتح المهملة وتشديد الميم المفتوحة، وضبط أيضا بسكون العين

(10/225)


قال أبو عبيدة في كتاب "المجاز" في قوله تعالى: {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} أي كيف تعمون عن هذا وتصدون عنه؟ قال: ونراه من قوله سحرت أعيننا عنه فلم نبصره. وأخرج(1). في قوله: {فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} أي تخدعون أو تصرفون عن التوحيد والطاعة. قلت: وفي هذه الآية إشارة إلى الصنف الأول من السحر الذي قدمته. وقال ابن عطية: السحر هنا مستعار لما وقع منهم من التخليط ووضع الشيء في غير موضعه كما يقع من المسحور، والله أعلم. قوله: "حدثنا إبراهيم بن موسى" هو الرازي. وفي رواية أبي ذر "حدثني" بالإفراد، وهشام هو ابن عروة بن الزبير. قوله: "عن أبيه" وقع في رواية يحيى القطان عن هشام "حدثني أبي" وقد تقدمت في الجزية، وسيأتي في رواية ابن عيينة عن ابن جريج "حدثني آل عروة" ووقع في رواية الحميدي عن سفيان عن ابن جريج "حدثني بعض آل عروة عن عروة" وظاهره أن غير هشام أيضا حدث به عن عروة، وقد رواه غير عروة عن عائشة كما سأبينه. وجاء أيضا من حديث ابن عباس وزيد بن أرقم وغيرهما. قوله: "سحر النبي صلى الله عليه وسلم رجل من بني زريق" بزاي قبل الراء مصغر. قوله: "يقال له لبيد" بفتح اللام وكسر الموحدة بعدها تحتانية ساكنة ثم مهملة "ابن الأعصم" بوزن أحمر بمهملتين، ووقع في رواية عبد الله بن نمير عن هشام بن عروة عند مسلم: "سحر النبي صلى الله عليه وسلم يهودي من يهود بني زريق" ووقع في رواية ابن عيينة الآتية قريبا "رجل من بني زريق حليف اليهود وكان منافقا" ويجمع بينهما بأن من أطلق أنه يهودي نظر إلى ما في نفس الأمر، ومن أطلق عليه منافقا نظر إلى ظاهر أمره. وقال ابن الجوزي هذا يدل على أنه كان أسلم نفاقا وهو واضح، وقد حكى عياض في "الشفاء" أنه كان أسلم، ويحتمل أن يكون قيل له يهودي لكونه كان من حلفائهم لا أنه كان على دينهم. وبنو زريق بطن من الأنصار مشهور من الخزرج، وكان بين كثير من الأنصار وبين كثير من اليهود قبل الإسلام حلف وإخاء وود، فلما جاء الإسلام ودخل الأنصار فيه تبرءوا منهم، وقد بين الواقدي السنة التي وقع فيها السحر: أخرجه عنه ابن سعد بسند له إلى عمر بن الحكم مرسل قال: "لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية في ذي الحجة ودخل المحرم من سنة سبع جاءت رؤساء اليهود إلى لبيد بن الأعصم - وكان حليفا في بني زريق وكان ساحرا - فقالوا له: يا أبا الأعصم، أنت أسحرنا، وقد سحرنا محمدا فلم نصنع شيئا، ونحن نجعل لك جعلا على أن تسحره لنا سحرا ينكؤه. فجعلوا له ثلاثة دنانير" ووقع في رواية أبي ضمرة عند الإسماعيلي: "فأقام أربعين ليلة" وفي رواية وهيب عن هشام عند أحمد "ستة أشهر" ويمكن الجمع بأن تكون الستة أشهر من ابتداء تغير مزاجه والأربعين يوما من استحكامه. وقال السهيلي: لم أقف في شيء من الأحاديث المشهورة على قدر المدة التي مكث النبي صلى الله عليه وسلم فيها في السحر حتى ظفرت به في "جامع معمر" عن الزهري أنه لبث ستة أشهر، كذا قال، وقد وجدناه موصولا بإسناد الصحيح فهو المعتمد. قوله: "حتى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخيل إليه أنه كان يفعل الشيء وما فعله" قال المازري: أنكر المبتدعة هذا الحديث وزعموا أنه يحط منصب النبوة ويشكك فيها، قالوا وكل ما أدى إلى ذلك فهو باطل، وزعموا أن تجويز هذا يعدم الثقة بما شرعه من الشرائع إذ يحتمل على هذا أن يخيل إليه أنه يرى جبريل وليس هو ثم، وأنه يوحي إليه بشيء ولم يوح إليه بشيء، قال المازري: وهذا كله مردود، لأن الدليل قد قام على صدق النبي صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه
ـــــــ
(1) بياض بالأصل.

(10/226)


عن الله تعالى وعلى عصمته في التبليغ، والمعجزات شاهدات بتصديقه، فتجويز ما قام الدليل على خلافه باطل. وأما ما يتعلق ببعض الأمور الدنيا التي لم يبعث لأجلها ولا كانت الرسالة من أجلها فهو في ذلك عرضة لما يعترض البشر كالأمراض، فغير بعيد أن يخيل إليه في أمر من أمور الدنيا ما لا حقيقة له مع عصمته عن مثل ذلك في أمور الدين، قال: وقد قال بعض الناس إن المراد بالحديث أنه كان صلى الله عليه وسلم يخيل إليه أنه وطئ زوجاته ولم يكن وطأهن، وهذا كثيرا ما يقع تخيله للإنسان في المنام فلا يبعد أن يخيل إليه في اليقظة. قلت: وهذا قد ورد صريحا في رواية ابن عيينة في الباب الذي يلي هذا ولفظه: "حتى كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن" وفي رواية الحميدي "أنه يأتي أهله ولا يأتيهم" قال الداودي "يرى" بضم أوله أي يظن. وقال ابن التين ضبطت "يرى" بفتح أوله. قلت: وهو من الرأي لا من الرؤية، فيرجع إلى معنى الظن. وفي مرسل يحيى بن يعمر عند عبد الرزاق "سحر النبي صلى الله عليه وسلم عن عائشة حتى أنكر بصره" وعنده في مرسل سعيد بن المسيب "حتى كاد ينكر بصره" قال عياض: فظهر بهذا أن السحر إنما تسلط على جسده وظواهر جوارحه لا على تمييزه ومعتقده. قلت: ووقع في مرسل عبد الرحمن بن كعب عند ابن سعد "فقالت أخت لبيد بن الأعصم: إن يكن نبيا فسيخبر، إلا فسيذهله هذا السحر حتى يذهب عقله" قلت: فوقع الشق الأول كما في هذا الحديث الصحيح. وقد قال بعض العلماء. لا يلزم من أنه كان يظن أنه فعل الشيء ولم يكن فعله أن يجزم بفعله ذلك. وإنما يكون من جنس الخاطر يخطر ولا يثبت، فلا يبقى على هذا للملحد حجة. وقال عياض: يحتمل أن يكون المراد بالتخييل المذكور أنه يظهر له من نشاطه ما ألفه من سابق عادته من الاقتدار على الوطء، فإذا دنا من المرأة فتر عن ذلك كما هو شأن المعقود، ويكون قوله في الرواية الأخرى "حتى كاد ينكر بصره" أي صار كالذي أنكر بصره بحيث أنه إذا رأى الشيء يخيل أنه على غير صفته، فإذا تأمله عرف حقيقته. ويؤيد جميع ما تقدم أنه لم ينقل عنه في خبر من الأخبار أنه قال قولا فكان بخلاف ما أخبر به. وقال المهلب: صون النبي صلى الله عليه وسلم من الشياطين لا يمنع إرادتهم كيده، فقد مضى في الصحيح أن شيطانا أراد أن يفسد عليه صلاته فأمكنه الله منه، فكذلك السحر ما ناله من ضرره ما يدخل نقصا على ما يتعلق بالتبليغ، بل هو من جنس ما كان يناله من ضرر سائر الأمراض من ضعف عن الكلام، أو عجز عن بعض الفعل، أو حدوث تخيل لا يستمر، بل يزول ويبطل الله كيد الشياطين. واستدل ابن القصار على أن الذي أصابه كان من جنس المرض بقوله في آخر الحديث: "فأما أنا فقد شفاني الله" وفي الاستدلال بذلك نظر، لكن يؤيد المدعي أن في رواية عمرة عن عائشة عند البيهقي في الدلائل "فكان يدور ولا يدري ما وجعه" وفي حديث ابن عباس عند ابن سعد "مرض النبي صلى الله عليه وسلم وأخذ عن النساء والطعام والشراب، فهبط عليه ملكان" الحديث. قوله: "حتى إذا كان ذات يوم أو ذات ليلة" شك من الراوي، وأظنه من البخاري لأنه أخرجه في صفة إبليس من بدء الخلق فقال: "حتى كان ذات يوم" ولم يشك، ثم ظهر لي أن الشك فيه من عيسى بن يونس، وأن إسحاق بن راهويه أخرجه في مسنده عنه على الشك، ومن طريقه أخرجه أبو نعيم، فيحمل الجزم الماضي على أن إبراهيم بن موسى شيخ البخاري حدثه به تارة بالجزم وتارة بالشك، ويؤيده ما سأذكره من الاختلاف عنه، وهذا من نوادر ما وقع في البخاري أن يخرج الحديث تاما بإسناد واحد بلفظين. ووقع في رواية أبي أسامة الآتية قريبا "ذات يوم" بغير شك "وذات" بالنصب ويجوز الرفع، ثم قيل إنها مقحمة، وقيل بل هي من إضافة الشيء

(10/227)


لنفسه على رأي من يجيزه. قوله: "وهو عندي لكنه دعا ودعا" كذا وقع، وفي الرواية الماضية في بدء الخلق "حتى كان ذات يوم دعا ودعا" وكذا علقه المصنف لعيسى بن يونس في الدعوات، ومثله في رواية الليث. قال الكرماني: يحتمل أن يكون هذا الاستدراك من قولها "عندي" أي لم يكن مشتغلا بي بل اشتغل بالدعاء، ويحتمل أن يكون من التخيل، أي كان السحر أضره في بدنه لا في عقله وفهمه بحيث أنه توجه إلى الله ودعا على الوضع الصحيح والقانون المستقيم. ووقع في رواية ابن نمير عند مسلم: "فدعا، ثم دعا، ثم دعا" وهذا هو المعهود منه أنه كان يكرر الدعاء ثلاثا. وفي رواية وهيب عند أحمد وابن سعد "فرأيته يدعو". قال النووي: فيه استحباب الدعاء عند حصول الأمور المكروهات وتكريره الالتجاء إلى الله تعالى في دفع ذلك. قلت: سلك النبي صلى الله عليه وسلم في هذه القصة مسلكي التفويض وتعاطي الأسباب، ففي أول الأمر فوض وسلم لأمر ربه فاحتسب الأجر في صبره على بلائه، ثم لما تمادى ذلك وخشي من تماديه أن يضعفه عن فنون عبادته جنح إلى التداوي ثم إلى الدعاء، وكل من المقامين غاية في الكمال. قوله: "أشعرت" أي علمت؟ وهي رواية ابن عيينة كما في الباب الذي بعده. قوله: "أفتاني فيما استفتيته" في رواية الحميدي "أفتاني في أمر استفتيته فيه" أي أجابني فيما دعوته، فأطلق على الدعاء استفتاء لأن الداعي طالب والمجيب مفت، أو المعنى أجابني بما سألته عنه، لأن دعاءه كان أن يطلعه الله على حقيقة ما هو فيه لما اشتبه عليه من الأمر. ووقع في رواية عمرة عن عائشة "إن الله أنبأني بمرضي" أي أخبرني. قوله: "أتاني رجلان" وقع في رواية أبي أسامة "قلت: وما ذاك؟ قال: أتاني رجلان" ووقع في رواية معمر عند أحمد ومرجأ بن رجاء عند الطبراني كلاهما عن هشام "أتاني ملكان" وسماهما ابن سعد في رواية منقطعة جبريل وميكائيل، وكنت ذكرت في المقدمة ذلك احتمالا. قوله: "فقعد أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي" لم يقع لي أيهما قعد عند رأسه، لكنني أظنه جبريل لخصوصيته به عليهما السلام. ثم وجدت في "السيرة للدمياطي" الجزم بأنه جبريل قال: لأنه أفضل، ثم وجدت في حديث زيد بن أرقم عند النسائي وابن سعد وصححه الحاكم وعبد بن حميد "سحر النبي صلى الله عليه وسلم رجل من اليهود، فاشتكى لذلك أياما، فأتاه جبريل فقال: إن رجلا من اليهود سحرك، عقد لك عقدا في بئر كذا" فدل مجموع الطرق على أن المسئول هو جبريل والسائل ميكائيل. قوله: "فقال أحدهما لصاحبه" في رواية ابن عيينة الآتية بعد باب "فقال الذي عند رأسي للآخر" وفي رواية الحميدي "فقال الذي عند رجلي للذي عند رأسي" وكأنها أصوب، وكذا هو في حديث ابن عباس عند البيهقي. ووقع بالشك في رواية ابن نمير عند مسلم. قوله: "ما وجع الرجل؟" كذا للأكثر. وفي رواية ابن عيينة "ما بال الرجل؟" وفي حديث ابن عباس عند البيهقي "ما ترى" وفيه إشارة إلى أن ذلك وقع في المنام، إذ لو جاءا إليه في اليقظة لخاطباه وسألاه. ويحتمل أن يكون كان بصفة النائم وهو يقظان، فتخاطبا وهو يسمع. وأطلق في رواية عمرة عن عائشة أنه كان نائما، وكذا في رواية ابن عيينة عند الإسماعيلي: "فانتبه من نومه ذات يوم" وهو محمول على ما ذكرت، وعلى تقدير حملها على الحقيقة فرؤيا الأنبياء وحي. ووقع في حديث ابن عباس عند سعد بسند ضعيف جدا "فهبط عليه ملكان وهو بين النائم واليقظان". قوله: "فقال: مطبوب" أي مسحور، يقال طب الرجل بالضم إذا سحر، يقال كنوا عن السحر بالطب تفاؤلا كما قالوا للديغ سليم. وقال ابن الأنباري: الطب من الأضداد، يقال لعلاج الداء طب، والسحر من الداء ويقال له طب. وأخرج أبو عبيد من مرسل عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: "احتجم النبي صلى الله عليه وسلم على رأسه بقرن حين طب"

(10/228)


قال أبو عبيد يعني سحر. قال ابن القيم: بنى النبي صلى الله عليه وسلم الأمر أولا على أنه مرض، وأنه عن مادة مالت إلى الدماغ وغلبت على البطن المقدم منه فغيرت مزاجه، فرأى استعمال الحجامة لذلك مناسبا، فلما أوحي إليه أنه سحر عدل إلى العلاج المناسب له وهو استخراجه، قال: ويحتمل أن مادة السحر انتهت إلى إحدى قوى الرأس حتى صار يخيل إليه ما ذكر، فإن السحر قد يكون من تأثير الأرواح الخبيثة، وقد يكون من انفعال الطبيعة وهو أشد السحر، واستعمال الحجم لهذا الثاني نافع لأنه إذا هيج الأخلاط وظهر أثره في عضو كان استفراغ المادة الخبيثة نافعا في ذلك. وقال القرطبي: إنما قيل للسحر طب لأن أصل الطب الحذق بالشيء والتفطن له، فلما كان كل من علاج المرض والسحر إنما يتأتى عن فطنة وحذق أطلق على كل منهما هذا الاسم. قوله: "في مشط ومشاطة" أما المشط فهو بضم الميم، ويجوز كسرها أثبته أبو عبيد وأنكره أبو زيد، وبالسكون فيهما، وقد يضم ثانيه مع ضم أوله فقط وهو الآلة المعروفة التي يسرح بها شعر الرأس واللحية؛ وهذا هو المشهور. ويطلق المشط بالاشتراك على أشياء أخرى: منها العظم العريض في الكتف، وسلاميات ظهر القدم، ونبت صغير يقال له مشط الذنب. قال القرطبي: يحتمل أن يكون الذي سحر فيه النبي صلى الله عليه وسلم أحد هذه الأربع. قلت: وفاته آلة لها أسنان وفيها هراوة يقبض عليها ويغطى بها الإناة، قال ابن سيده في "المحكم": إنها تسمى المشط. والمشط أيضا سمة من سمات البعير تكون في العين الفخذ، ومع ذلك فالمراد بالمشط هنا هو الأول، فقد وقع في رواية عمرة عن عائشة "فإذا فيها مشط رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن مراطة رأسه" وفي حديث ابن عباس "من شعر رأسه ومن أسنان مشطه" وفي مرسل عمر بن الحكم "فعمد إلى مشط وما مشط من الرأس من شعر فعقد بذلك عقدا". قوله: "ومشاطة" سيأتي بيان الاختلاف هل هي بالطاء أو القاف في آخر الكلام على هذا الحديث حيث بينه المصنف. قوله: "وجف طلع نخلة ذكر" قال عياض: وقع للجرجاني - يعني في البخاري - والعذري - يعني في مسلم - بالفاء. ولغيرهما بالموحدة. قلت: أما رواية عيسى بن يونس هنا فوقع للكشميهني بالفاء ولغيره بالموحدة، وأما روايته في بدء الخلق فالجميع بالفاء، وكذا في رواية ابن عيينة للجميع، وللمستملي في رواية أبي أسامة بالموحدة، وللكشميهني بالفاء، قال القرطبي: روايتنا - يعني في مسلم - بالفاء. وقال النووي: في أكثر نسخ بلادنا بالباء يعني في مسلم، وفي بعضها بالفاء، وهما بمعني واحد وهو الغشاء الذي يكون على الطلع ويطلق على الذكر والأنثى، فلهذا قيده بالذكر في قوله: "طلعة ذكر" وهو بالإضافة انتهى. ووقع في روايتنا هنا بالتنوين فيهما على أن لفظ: "ذكر" صفة لجف، وذكر القرطبي أن الذي بالفاء هو وعاء الطلع وهو للغشاء الذي يكون عليه، وبالموحدة داخل الطلعة إذا خرج منها الكفري قاله شمر، قال: ويقال أيضا للداخل الركية من أسفلها إلى أعلاها جف، وقيل هو من القطع يعني ما قطع من قشورها. وقال أبو عمرو الشيباني: الجف بالفاء شيء ينقر من جذوع النخل. قوله: "قال وأين هو؟ قال: هو في بئر ذروان" زاد ابن عيينة وغيره: "تحت راعوفة" وسيأتي شرحها بعد باب، وذروان بفتح المعجمة وسكون الراء، وحكى ابن التين فتحها وأنه قرأه كذلك قال: ولكنه بالسكون أشبه. وفي رواية ابن نمير عند مسلم: "في بئر ذي أروان" ويأتي في رواية أبي ضمرة في الدعوات مثله، وفي نسخة الصغاني لكن بغير لفظ بئر، ولغيره: "في ذروان" وذروان بئر في بني زريق، فعلى هذا فقوله: "بئر ذروان" من إضافة الشيء لنفسه، ويجمع بينهما وبين رواية ابن نمير بأن الأصل "بئر ذي أروان"

(10/229)


ثم لكثرة الاستعمال سهلت الهمزة فصارت "ذروان" ويؤيده أن عبيد البكري صوب أن اسم البئر "أروان" بالهمز وأن من قال: "ذروان" أخطأ. وقد ظهر أنه ليس بخطأ على ما وجهته. ووقع في رواية أحمد عن وهيب وكذا في روايته عن ابن نمير "بئر أروان" كما قال البكري، فكأن رواية الأصيلي كانت مثلها فسقطت منها الراء، ووقع عند الأصيلي فيما حكاه عياض "في بئر ذي أوان" بغير راء قال عياض: هو وهم، فإن هذا موضع آخر على ساعة من المدينة، وهو الذي بني فيه مسجد الضرار. قوله: "فأتاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في ناس من أصحابه" وقع في حديث ابن عباس عند ابن سعد "فبعث إلى علي وعمار فأمرهما أن يأتيا البئر" وعنده في مرسل عمر بن الحكم "فدعا جبير بن أياس الزرقي وهو ممن شهد على موضعه في بئر ذروان فاستخرجه" قال: ويقال الذي استخرجه قيس بن محصن الزرقي، ويجمع بأنه أعان جبيرا على ذلك وباشره بنفسه فنسب إليه، وعند ابن سعد أيضا" أن الحارث بن قيس قال: يا رسول الله ألا يهور البئر" فيمكن تفسير من أبهم بهؤلاء أو بعضهم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم وجههم أولا ثم توجه فشاهدها بنفسه. قوله: "فجاء، فقال: يا عائشة" في رواية وهيب "فلما رجع، قال: يا عائشة" ونحوه في رواية أبي أسامة ولفظه: "فذهب النبي صلى الله عليه وسلم إلى البئر فنظر إليها ثم رجع إلى عائشة فقال" وفي رواية عمرة عن عائشة "فنزل رجل فاستخرجه" وفيه من الزيادة أنه "وجد في الطلعة تمثالا من شمع، تمثال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا فيه أبر مغروزة، وإذا وتر فيه إحدى عشرة عقدة، فنزل جبريل بالمعوذتين، فكلما قرأ آية انحلت عقدة، وكلما نزع إبرة وجد لها ألما ثم يجد بعدها راحة" وفي حديث ابن عباس نحوه كما تقدم التنبيه عليه، وفي حديث زيد بن أرقم الذي أشرت إليه عند عبد بن حميد وغيره: "فأتاه جبريل فنزل عليه بالمعوذتين" وفيه: "فأمره أن يحل العقد ويقرأ آية، فجعل يقرأ ويحل حتى قام كأنما نشط من عقال" وعند ابن سعد من طريق عمر مولى غفرة معضلا "فاستخرج السحر من الجف من تحت البئر ثم نزعه فحله فكشف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم". قوله: "كأن ماءها" في رواية ابن نمير "والله لكأن ماءها" أي البئر "نقاعة الحناء" بضم النون وتخفيف القاف، والحناء معروف وهو بالمد أي أن لون ماء البئر لون الماء الذي ينقع فيه الحناء. قال ابن التين: يعني أحمر. وقال الداودي: المراد الماء الذي يكون من غسالة الإناء الذي تعجن فيه الحناء. قلت: ووقع في حديث زيد بن أرقم عند ابن سعد وصححه الحاكم "فوجد الماء وقد اخضر" وهذا يقوي قول الداودي. قال القرطبي: كأن ماء البئر قد تغير إما لرداءته بطول إقامته، وإما لما خالطه من الأشياء التي ألقيت في البئر. قلت: ويرد الأول أن عند ابن سعد في مرسل عبد الرحمن بن كعب أن الحارث بن قيس هور البئر المذكورة وكان يستعذب منها وحفر بئرا أخرى فأعانه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حفرها. قوله: "وكأن رءوس نخلها رءوس الشياطين" كذا هنا، وفي الرواية التي في بدء الخلق "نخلها كأنه رءوس الشياطين" وفي رواية ابن عيينة وأكثر الرواة عن هشام "كأن نخلها" بغير ذكر "رءوس" أولا، والتشبيه إنما وقع على رءوس النخل فلذلك أفصح به في رواية الباب وهو مقدر في غيرها. ووقع في رواية عمرة عن عائشة "فإذا نخلها الذي يشرب من مائها قد التوى سعفه كأنه رءوس الشياطين" وقد وقع تشبيه طلع شجرة الزقوم في القرآن برءوس الشياطين، قال الفراء وغيره: يحتمل أن يكون شبه طلعها في قبحه برءوس الشياطين: لأنها موصوفة بالقبح، وقد تقرر في اللسان أن من قال: فلان شيطان أراد أنه خبيث أو قبيح، وإذا قبحوا مذكرا قالوا شيطان، أو مؤنثا قالوا غول، ويحتمل أن يكون المراد بالشياطين الحيات، والعرب تسمي بعض الحيات شيطانا وهو ثعبان قبيح الوجه،

(10/230)


ويحتمل أن يكون المراد نبات قبيح قيل إنه يوجد باليمن. قوله: "قلت يا رسول الله أفلا استخرجته" في رواية أبي أسامة "فقال: لا" ووقع في رواية ابن عيينة أنه استخرجه، وأن سؤال عائشة إنما وقع عن النشرة فأجابها بلا، وسيأتي بسط القول فيه بعد باب. قوله: " فكرهت أن أثير على الناس فيه شرا" في رواية الكشميهني: "سوءا" ووقع في رواية أبي أسامة "أن أثور" بفتح المثلثة وتشديد الواو وهما بمعني. والمراد بالناس التعميم في الموجودين قال النووي: خشي من إخراجه وإشاعته ضررا على المسلمين من تذكر السحر وتعلمه ونحو ذلك؛ وهو من باب ترك المصلحة خوف المفسدة. ووقع في رواية ابن نمير "على أمتي" وهو قابل أيضا للتعميم، لأن الأمة تطلق على أمة الإجابة وأمة الدعوة على ما هو أعم، وهو يرد على من زعم أن المراد بالناس هنا لبيد بن الأعصم لأنه كان منافقا فأراد صلى الله عليه وسلم أن لا يثير عليه شرا لأنه كان يؤثر الإغضاء عمن يظهر الإسلام ولو صدر منه ما صدر، وقد وقع أيضا في رواية ابن عيينة "وكرهت أن أثير على أحد من الناس شرا" نعم وقع في حديث عمرة عن عائشة "فقيل يا رسول الله لو قتلته، قال: ما وراءه من عذاب الله أشد" وفي رواية عمرة "فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم فاعترف فعفا عنه" وفي حديث زيد بن أرقم "فما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك اليهودي شيئا مما صنع به ولا رآه في وجهه" وفي مرسل عمر بن الحكم "فقال له: ما حملك على هذا؟ قال: حب الدنانير" وقد تقدم في كتاب الجزية قول ابن شهاب أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتله. وأخرج ابن سعد من مرسل عكرمة أيضا أنه لم يقتله، ونقل عن الواقدي أن ذلك أصح من رواية من قال إنه قتله، ومن ثم حكى عياض في "الشفاء" قولين: هل قتل، أم لم يقتل؟ وقال القرطبي لا حجة على مالك من هذه القصة، لأن ترك قتل لبيد بن الأعصم كان لخشية أن يثير بسبب قتله فتنة، أو لئلا ينفر الناس عن الدخول في الإسلام، وهو من جنس ما راعاه النبي صلى الله عليه وسلم من منع قتل المنافقين حيث قال: "لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه" . قوله: "فأمر بها" أي بالبئر "فدفنت" وهكذا وقع في رواية ابن نمير وغيره عن هشام، وأورده مسلم من طريق أبي أسامة عن هشام عقب رواية ابن نمير وقال: "لم يقل أبو أسامة في روايته فأمر بها فدفنت". قلت: وكأن شيخه لم يذكرها حين حدثه، وإلا فقد أوردها البخاري عن عبيد بن إسماعيل عن أبي أسامة، كما في الباب بعده. وقال في آخره: "فأمر بها فدفنت" وقد تقدم أن في مرسل عبد الرحمن بن كعب "أن الحارث بن قيس هورها". قوله: "تابعه أبو أسامة" هو حماد بن أسامة، وتأتي روايته موصولة بعد بابين. قوله: "وأبو ضمرة" هو أنس بن عياض، وستأتي روايته موصولة في كتاب الدعوات. قوله: "وابن أبي الزناد" هو عبد الرحمن بن عبد الله بن ذكوان، ولم أعرف من وصلها بعد. قوله: "وقال الليث وابن عيينة عن هشام في مشط ومشاطة" كذا لأبي ذر، ولغيره: "ومشاقة" وهو الصواب وإلا لاتحدت الروايات، ورواية الليث تقدم ذكرها في بدء الخلق، ورواية ابن عيينة تأتي موصولة بعد باب. وذكر المزي في "الأطراف" تبعا لخلف أن البخاري أخرجه في الطب عن الحميدي وعن عبد الله بن محمد عن ابن عيينة، وطريق الحميدي ما هي في الطب في شيء من النسخ التي وقفت عليها، وقد أخرجه أبو نعيم في "المستخرج" من طريق الحميدي وقال بعده "أخرجه البخاري عن عبيد الله بن محمد" لم يزد على ذلك، وكذا لم يذكر أبو مسعود في أطرافه الحميدي، والله أعلم. قوله: "ويقال المشاطة ما يخرج من الشعر إذا مشط" هذا لا اختلاف فيه بين أهل اللغة، قال ابن قتيبة: المشاطة: ما يخرج من الشعر الذي سقط من الرأس إذا سرح بالمشط، وكذا من اللحية. قوله: "والمشاطة من مشاطة الكتان" كذا لأبي

(10/231)


ذر كأن المراد أن اللفظ مشترك بين الشعر إذا مشط وبين الكتان إذا سرح، ووقع في رواية غير أبي ذر "والمشاقة" وهو أشبه، وقيل: المشاقة هي المشاطة بعينها، والقاف تبدل من الطاء لقرب المخرج، والله أعلم.

(10/232)


48 - باب الشِّرْكُ وَالسِّحْرُ مِنْ الْمُوبِقَاتِ
5764- حَدَّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِي الْغَيْثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "اجْتَنِبُوا الْمُوبِقَاتِ الشِّرْكُ بِاللَّهِ وَالسِّحْرُ".
قوله: "باب الشرك والسحر من الموبقات" أي المهلكات. قوله: " اجتنبوا الموبقات: الشرك بالله والسحر" هكذا أورد الحديث مختصرا وحذف لفظ العدد، وقد تقدم في كتاب الوصايا بلفظ: "اجتنبوا السبع الموبقات" وساق الحديث بتمامه، ويجوز نصب الشرك بدلا من السبع، ويجوز الرفع على الاستئناف فيكون خبر مبتدأ محذوف، والنكتة في اقتصاره على اثنتين من السبع هنا الرمز إلى تأكيد أمر السحر، فظن بعض الناس أن هذا القدر هو جملة الحديث، فقال: ذكر الموبقات وهي صيغة جمع وفسرها باثنتين فقط، وهو من قبيل قوله تعالى: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} فاقتصر على اثنتين فقط، وهذا على أحد الأقوال في الآية، ولكن ليس الحديث كذلك فإنه في الأصل سبعة حذف البخاري منها خمسة وليس شأن الآية كذلك. وقال ابن مالك: تضمن هذا الحديث حذف المعطوف للعلم به، فإن تقدير اجتنبوا الموبقات الشرك بالله والسحر وأخواتهما وجاز الحذف لأن الموبقات سبع، وقد ثبتت في حديث آخر، واقتصر في هذا الحديث على ثنتين منها تنبيها على أنهما أحق بالاجتناب، ويجوز رفع الشرك والسحر على تقدير "منهن". قلت: وظاهر كلامه يقتضي أن الحديث ورد هكذا تارة وتارة ورد بتمامه، وليس كذلك، وإنما الذي اختصره البخاري نفسه كعادته في جواز الاقتصار على بعض الحديث، وقد أخرجه المصنف في كتاب الوصايا في "باب قول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً} عن عبد العزيز بن عبد الله شيخه في هذا الحديث بهذا الإسناد، وساقها سبعا فذكر بعد السحر وقتل النفس الخ، وأعاده في أواخر كتاب المحاربين بهذا الإسناد بعينه بتمامه، وأغفل المزي في "الأطراف" ذكر هذا الموضع في ترجمة سالم أبي الغيث عن أبي هريرة.

(10/232)


49 - باب هَلْ يَسْتَخْرِجُ السِّحْرَ
وَقَالَ قَتَادَةُ: قُلْتُ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: رَجُلٌ بِهِ طِبٌّ، أَوْ يُؤَخَّذُ عَنْ امْرَأَتِهِ، أَيُحَلُّ عَنْهُ أَوْ يُنَشَّرُ؟ قَالَ: لاَ بَأْسَ بِهِ، إِنَّمَا يُرِيدُونَ بِهِ الإِصْلاَحَ، فَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَلَمْ يُنْهَ عَنْهُ.
5765- حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عُيَيْنَةَ يَقُولُ أَوَّلُ مَنْ حَدَّثَنَا بِهِ ابْنُ جُرَيْجٍ يَقُولُ حَدَّثَنِي آلُ عُرْوَةَ عَنْ عُرْوَةَ فَسَأَلْتُ هِشَاماً عَنْهُ فَحَدَّثَنَا عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُحِرَ حَتَّى كَانَ يَرَى أَنَّهُ يَأْتِي النِّسَاءَ وَلاَ يَأْتِيهِنَّ". قَالَ سُفْيَانُ: وَهَذَا أَشَدُّ مَا يَكُونُ مِنْ السِّحْرِ إِذَا كَانَ كَذَا، فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ أَعَلِمْتِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَفْتَانِي فِيمَا اسْتَفْتَيْتُهُ فِيهِ أَتَانِي رَجُلاَنِ فَقَعَدَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي وَالْآخَرُ عِنْدَ

(10/232)


50 - باب السِّحْرِ
5766- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ سُحِرَ النَّبِيُّ

(10/235)


صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إِنَّهُ لَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَفْعَلُ الشَّيْءَ وَمَا فَعَلَهُ حَتَّى إِذَا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ وَهُوَ عِنْدِي دَعَا اللَّهَ وَدَعَاهُ ثُمَّ قَالَ: أَشَعَرْتِ يَا عَائِشَةُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَفْتَانِي فِيمَا اسْتَفْتَيْتُهُ فِيهِ قُلْتُ وَمَا ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ جَاءَنِي رَجُلاَنِ فَجَلَسَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي وَالْآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيَّ ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ مَا وَجَعُ الرَّجُلِ قَالَ مَطْبُوبٌ قَالَ وَمَنْ طَبَّهُ قَالَ لَبِيدُ بْنُ الأَعْصَمِ الْيَهُودِيُّ مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ قَالَ فِيمَا ذَا قَالَ فِي مُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ وَجُفِّ طَلْعَةٍ ذَكَرٍ قَالَ فَأَيْنَ هُوَ قَالَ فِي بِئْرِ ذِي أَرْوَانَ قَالَ فَذَهَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى الْبِئْرِ فَنَظَرَ إِلَيْهَا وَعَلَيْهَا نَخْلٌ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى عَائِشَةَ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَكَأَنَّ مَاءَهَا نُقَاعَةُ الْحِنَّاءِ وَلَكَأَنَّ نَخْلَهَا رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَأَخْرَجْتَهُ قَالَ لاَ أَمَّا أَنَا فَقَدْ عَافَانِيَ اللَّهُ وَشَفَانِي وَخَشِيتُ أَنْ أُثَوِّرَ عَلَى النَّاسِ مِنْهُ شَرّاً وَأَمَرَ بِهَا فَدُفِنَتْ" .
قوله: "باب السحر" كذا وقع هنا للكثير، وسقط لبعضهم، وعليه جرى ابن بطال والإسماعيلي وغيرهما، وهو الصواب لأن الترجمة قد تقدمت بعينها قبل ببابين، ولا يعهد ذلك للبخاري إلا نادرا عند بعض دون بعض. حديث عائشة من رواية أبي أسامة فاقتصر الكثير منه على بعضه من أوله إلى قوله: "يفعل الشيء وما فعله" وفي رواية الكشميهني: "أنه فعل الشيء وما فعله" ووقع سياق الحديث بكماله في رواية الكشميهني والمستملي، وكذا صنع النسفي وزاد في آخره طريق يحيى القطان عن هشام إلى قوله: "صنع شيئا ولم يصنعه" وقد تقدم سندا ومتنا لغيره في كتاب الجزية. وأغفل المزي في "الأطراف" ذكرها هنا، وذكر هنا رواية الحميدي عن سفيان ولم أرها ولا ذكرها أبو مسعود في أطرافه، واستدل بهذا الحديث على أن الساحر لا يقتل حدا إذا كان له عهد، وأما ما أخرجه الترمذي من حديث جندب رفعه قال: "حد الساحر ضربه بالسيف" ففي سنده ضعف، فلو ثبت لخص منه من له عهد، وتقدم في الجزية من رواية بجالة "أن عمر كتب إليهم أن اقتلوا كل ساحر وساحرة" وزاد عبد الرزاق عن ابن جريج عن عمرو بن دينار في روايته عن بجالة "فقتلنا ثلاث سواحر" أخرج البخاري أصل الحديث دون قصة قتل السواحر، قال ابن بطال: لا يقتل ساحر أهل الكتاب عند مالك والزهري إلا أن يقتل بسحره فيقتل، وهو قول أبي حنيفة والشافعي، وعن مالك إن أدخل بسحره ضررا على مسلم لم يعاهد عليه نقض العهد بذلك فيحل قتله، وإنما لم يقتل النبي صلى الله عليه وسلم لبيد بن الأعصم لأنه كان لا ينتقم لنفسه، ولأنه خشي إذا قتله أن تثور بذلك فتنة بين المسلمين وبين حلفائه من الأنصار، وهو من نمط ما راعاه من ترك قتل المنافقين، سواء كان لبيد يهوديا أو منافقا على ما مضى من الاختلاف فيه. قال: وعند مالك أن حكم الساحر حكم الزنديق فلا تقبل توبته، ويقتل حدا إذا ثبت عليه ذلك، وبه قال أحمد. وقال الشافعي: لا يقتل إلا إن اعترف بسحره فيقتل به، فإن اعترف أن سحره قد يقتل وقد لا يقتل وأنه سحره وأنه مات لم يجب عليه القصاص ووجبت الدية في ماله لا على عاقلته، ولا يتصور القتل بالسحر بالبينة، وادعى أبو بكر الرازي في "الأحكام" أن الشافعي تفرد بقوله إن الساحر يقتل قصاصا إذا اعترف أنه قتله بسحره، والله أعلم. قال النووي: إن كان السحر قول أو فعل يقتضي الكفر كفر الساحر وتقبل توبته إذا تاب عندنا، وإذا لم يكن في سحره ما يقتضي الكفر عزر واستتيب.

(10/236)


باب إن من البيان لسحرا
...
51 - باب إِنَّ مِنْ الْبَيَانِ سِحْراً
5767- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "أَنَّهُ قَدِمَ رَجُلاَنِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَخَطَبَا فَعَجِبَ النَّاسُ لِبَيَانِهِمَا. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إِنَّ مِنْ الْبَيَانِ لَسِحْراً أَوْ إِنَّ بَعْضَ الْبَيَانِ لَسِحْرٌ" .
قوله: "باب إن من البيان سحرا" في رواية الكشميهني والأصيلي: "السحر". قوله: "قدم رجلان" لم أقف على تسميتهما صريحا، وقد زعم جماعة أنهما الزبرقان بكسر الزاي والراء بينهما موحدة ساكنة وبالقاف واسمه الحصين ولقب الزبرقان لحسنه، والزبرقان من أسماء القمر، وهو ابن بدر بن امرئ القيس بن خلف، وعمرو بن الأهتم واسم الأهتم سنان بن سمي يجتمع مع الزبرقان في كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم، فهما تميميان، قدما في وفد بني تميم على النبي صلى الله عليه وسلم سنة تسع من الهجرة، واستندوا قي تعيينهما إلى ما أخرجه البيهقي في "الدلائل" وغيره من طريق مقسم عن ابن عباس قال: "جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبرقان بن بدر وعمرو بن الأهتم وقيس بن عاصم، ففخر الزبرقان فقال: يا رسول الله، أنا سيد بني تميم والمطاع فيهم والمجاب، أمنعهم من الظلم وآخذ منهم بحقوقهم، وهذا يعلم ذلك يعني عمرو بن الأهتم، فقال عمرو: إنه لشديد العارضة مانع لجانبه مطاع في أذنيه. فقال الزبرقان والله يا رسول الله لقد علم مني غير ما قال، وما منعه أن يتكلم إلا الحسد، فقال عمرو: أنا أحسدك؟ والله يا رسول الله إنه لئيم الخال، حديث المال، أحمق الوالد، مضيع في العشيرة. والله يا رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد صدقت في الأولى وما كذبت في الآخرة، ولكني رجل إذا رضيت قلت أحسن ما علمت، وإذا غضبت قلت أقبح ما وجدت. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن من البيان سحرا" . وأخرجه الطبراني من حديث أبي بكرة قال: "كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقدم عليه وفد بني تميم عليهم قيس بن عاصم والزبرقان وعمرو بن الأهتم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو: "ما تقول في الزبرقان؟" فذكر نحوه وهذا لا يلزم منه أن يكون الزبرقان وعمرو هما المراد بحديث ابن عمر، فإن المتكلم إنما هو عمرو بن الأهتم وحده، وكان كلامه في مراجعته الزبرقان، فلا يصح نسبة الخطبة إليهما إلا على طريق التجوز. قوله: "من المشرق" أي من جهة المشرق، وكانت سكنى بني تميم من جهة العراق وهي في شرقي المدينة. قوله: "فخطبا، فعجب الناس لبيانهما" قال الخطابي: البيان اثنان: أحدهما: ما تقع به الإبانة عن المراد بأي وجه كان، والآخر: ما دخلته الصنعة بحيث يروق للسامعين ويستميل قلوبهم، وهو الذي يشبه بالسحر إذا خلب القلب وغلب على النفس حتى يحول الشيء عن حقيقته ويصرفه عن جهته، فيلوح للناظر في معرض غيره. وهذا إذا صرف إلى الحق يمدح، وإذا صرف إلى الباطل يذم. قال: فعلى هذا فالذي يشبه بالسحر منه هو المذموم. وتعقب بأنه لا مانع من تسمية الآخر سحرا، لأن السحر يطلق على الاستمالة كما تقدم تقريره في أول باب السحر، وقد حمل بعضهم الحديث على المدح والحث على تحسين الكلام وتحبير الألفاظ، وهذا واضح إن صح أن الحديث ورد في قصة عمرو بن الأهتم، وحمله بعضهم على الذم لمن تصنع في الكلام وتكلف لتحسينه وصرف الشيء عن ظاهره، فشبه بالسحر الذي هو تخييل لغير حقيقة، وإلى هذا أشار مالك حيث أدخل الحديث في "الموطأ" في "باب ما يكره من الكلام بغير ذكر الله" وتقدم في "باب الخطبة" من كتاب النكاح في الكلام على حديث الباب من قول صعصعة بن صوحان في تفسير هذا

(10/237)


الحديث ما يؤيد ذلك، وهو أن المراد به الرجل يكون عليه الحق، وهو ألحن بالحجة من صاحب الحق فيسحر الناس ببيانه فيذهب بالحق، وحمل الحديث على هذا صحيح، لكن لا يمنع حمله على المعني الآخر إذا كان في تزيين الحق، وبهذا جزم ابن العربي وغيره من فضلاء المالكية. وقال ابن بطال: أحسن ما يقال في هذا أن هذا الحديث ليس ذما للبيان كله ولا مدحا لقوله من البيان، فأتى بلفظة "من" التي للتبعيض قال: وكيف يذم البيان وقد امتن الله به على عباده حيث قال: {خَلَقَ الْأِنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} انتهى. والذي يظهر أن المراد بالبيان في الآية المعنى الأول الذي نبه عليه الخطابي، لا خصوص ما نحن فيه. وقد اتفق العلماء على مدح الإيجاز، والإتيان بالمعاني الكثيرة بالألفاظ اليسيرة، وعلى مدح الإطناب في مقام الخطابة بحسب المقام، وهذا كله من البيان بالمعنى الثاني. نعم الإفراط في كل شيء مذموم، وخير الأمور أوسطها. والله أعلم
قد أتى بها، وهو مثل تغدى وتعشى إذا وقع

(10/238)


باب الدواء بالعجوة من السحر
...
52 - باب الدَّوَاءِ بِالْعَجْوَةِ لِلسِّحْرِ
5768- حَدَّثَنَا عَلِيٌّ حَدَّثَنَا مَرْوَانُ أَخْبَرَنَا هَاشِمٌ أَخْبَرَنَا عَامِرُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ اصْطَبَحَ كُلَّ يَوْمٍ تَمَرَاتٍ عَجْوَةً لَمْ يَضُرَّهُ سُمٌّ وَلاَ سِحْرٌ ذَلِكَ الْيَوْمَ إِلَى اللَّيْلِ" . وَقَالَ غَيْرُهُ: "سَبْعَ تَمَرَاتٍ" .
5769- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ أَخْبَرَنَا أَبُو أُسَامَةَ حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ هَاشِمٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَامِرَ بْنَ سَعْدٍ سَمِعْتُ سَعْداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَنْ تَصَبَّحَ سَبْعَ تَمَرَاتٍ عَجْوَةً لَمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ سُمٌّ وَلاَ سِحْرٌ" .
قوله: "باب الدواء بالعجوة للسحر" العجوة ضرب من أجود تمر المدينة وألينه. وقال الداودي: هو من وسط التمر. وقال ابن الأثير: العجوة ضرب من التمر أكبر من الصيحاني يضرب إلى السواد، وهو مما غرسه النبي صلى الله عليه وسلم بيده بالمدينة. وذكر هذا الأخير القزاز. قوله: "حدثنا علي" لم أره منسوبا في شيء من الروايات، ولا ذكره أبو علي الغساني، لكن جزم أبو نعيم في المستخرج بأنه علي بن عبد الله ابن المديني، وبذلك جزم المزي في "الأطراف" وجزم الكرماني بأنه علي بن سلمة اللبقي وما عرفت سلفه فيه. قوله: "حدثنا مروان" هو ابن معاوية الفزاري، جزم به أبو نعيم، وأخرجه مسلم عن محمد بن يحيى بن أبي عمر عن مروان الفزاري. قوله: "هاشم" هو ابن هاشم بن عتبة بن أبي وقاص وعامر بن سعد هو ابن عم أبيه، ووقع في رواية أبي أسامة في الطريق الثانية في الباب: "سمعت عامرا سمعت سعدا" ويأتي بعد قليل من وجه آخر "سمعت عامر بن سعد سمعت أبي" وهو سعد بن أبي وقاص. قوله: "من اصطبح" في رواية أبي أسامة "من تصبح" وكذا في رواية جمعة عن مروان الماضية في الأطعمة، وكذا لمسلم عن ابن عمر وكلاهما بمعنى التناول صباحا، وأصل الصبوح والاصطباح تناول الشراب صبحا، ثم استعمل في الأكل، ومقابله الغبوق والاغتباق بالغين المعجمة؛ وقد يستعمل في مطلق الغذاء أعم من الشرب والأكل، وقد يستعمل في أعم من ذلك كما قال الشاعر: صبحنا الخزرجية مرهفات وتصبح مطاوع صبحته بكذا إذا أتيته به صباحا، فكأن الذي يتناول العجوة صباحا قد أتى بها، وهو مثل تغدى وتعشى إذا وقع

(10/238)


ذلك في وقت الغداء أو العشاء. قوله: "كل يوم تمرات عجوة" كذا أطلق في هذه الرواية، ووقع مقيدا في غيرها، ففي رواية جمعة وابن أبي عمر سبع تمرات، وكذا أخرجه الإسماعيلي من رواية دحيم عن مروان، وكذا هو في رواية أبي أسامة في الباب، ووقع مقيدا بالعجوة في رواية أبي ضمرة أنس بن عياض عن هاشم بن هاشم عند الإسماعيلي، وكذا في رواية أبي أسامة، وزاد أبو ضمرة في روايته التقييد بالمكان أيضا ولفظه: "من تصبح بسبع تمرات عجوة من تمر العالية" والعالية القرى التي في الجهة العالية من المدينة وهي جهة نجد، وقد تقدم لها ذكر في المواقيت من كتاب الصلاة، وفيه بيان مقدار ما بينها وبين المدينة. وللزيادة شاهد عند مسلم من طريق ابن أبي مليكة عن عائشة بلفظ: "في عجوة العالية شفاء في أول البكرة" ووقع لمسلم أيضا من طريق أبي طوالة عبد الله بن عبد الرحمن الأنصاري عن عامر بن سعد بلفظ: "من أكل سبع تمرات مما بين لابتيها حين يصبح" وأراد لابتي المدينة وإن لم يجر لها ذكر للعلم بها. قوله: "لم يضره سم ولا سحر ذلك اليوم إلى الليل" السم معروف وهو مثلث السين، والسحر تقدم تحرير القول فيه قريبا؛ وقوله: "ذلك اليوم" ظرف وهو معمول ليضره، أو صفة لسحر. وقوله: "إلى الليل" فيه تقييد الشفاء المطلق في رواية ابن أبي مليكة حيث قال: "شفاء أول البكرة في أو ترياق" وتردده في ترياق شك من الراوي، والبكرة بضم الموحدة وسكون الكاف يوافق ذكر الصباح في حديث سعد، والشفاء أشمل من الترياق يناسب ذكر السم، والذي وقع في حديث سعد شيئان السحر والسم، فمعه زيادة علم. وقد أخرج النسائي من حديث جابر رفعه: "العجوة من الجنة، وهي شفاء من السم" وهذا يوافق رواية ابن أبي مليكة. والترياق بكسر المثناة وقد تضم وقد تبدل المثناة دالا أو طاء بالإهمال فيهما، وهو دواء مركب معروف يعالج به المسموم، فأطلق على العجوة اسم الترياق تشبيها لها به، وأما الغاية في قوله: "إلى الليل" فمفهومه أن السر الذي في العجوة من دفع ضرر السحر والسم يرتفع إذا دخل الليل في حق من تناوله من أول النهار، ويستفاد منه إطلاق اليوم على ما بين طلوع الفجر أو الشمس إلى غروب الشمس، ولا يستلزم دخول الليل، ولم أقف في شيء من الطرق على حكم من تناول ذلك في أول الليل هل يكون كمن تناوله أول النهار حتى يندفع عنه ضرر السم والسحر إلى الصباح، والذي يظهر خصوصية ذلك بالتناول أول النهار لأنه حينئذ يكون الغالب أن تناوله يقع على الريق، فيحتمل أن يلحق به من تناول الليل على الريق كالصائم، وظاهر الإطلاق أيضا المواظبة على ذلك. وقد وقع مقيدا فيما أخرجه الطبري من رواية عبد الله بن نمير عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها "كانت تأمر بسبع تمرات عجوة في سبع غدوات" وأخرجه ابن عدي من طريق محمد بن عبد الرحمن الطفاوي عن هشام مرفوعا، وذكر ابن عدي أنه تفرد به، ولعله أراد تفرده برفعه، وهو من رجال البخاري لكن في المتابعات. قوله: "وقال غيره سبع تمرات" وقع في نسخة الصغاني "يعني غير حديث علي" انتهى، والغير كأنه أراد به جمعة، وقد تقدم في الأطعمة عنه أو غيره ممن نبهت عليه ممن رواه كذلك. قوله في رواية أبي أسامة "سبع تمرات عجوة" في رواية الكشميهني: "بسبع تمرات" بزيادة الموحدة في أوله، ويجوز في تمرات عجوة الإضافة فتخفض كما تقول ثياب خز، ويجوز التنوين على أنه عطف بيان أو صفة لسبع أو تمرات ويجوز النصب منونا على تقدير فعل أو على التمييز. قال الخطابي: كون العجوة تنفع من السم والسحر إنما هو ببركة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لتمر المدينة لا لخاصية في التمر. وقال ابن التين: يحتمل أن يكون المراد نخلا خاصا بالمدينة لا يعرف الآن. وقال بعض شراح "المصابيح" نحوه وإنه ذلك لخاصية فيه، قال: ويحتمل أن يكون ذلك خاصا بزمانه صلى الله عليه وسلم،

(10/239)


وهذا يبعده وصف عائشة لذلك بعده صلى الله عليه وسلم. وقال بعض شراح "المشارق" أما تخصيص تمر المدينة بذلك فواضح من ألفاظ المتن. وأما تخصيص زمانه بذلك فبعيد، وأما خصوصية السبع فالظاهر أنه لسر فيها، وإلا فيستحب أن يكون ذلك وترا. وقال المازري: هذا مما لا يعقل معناه في طريق علم الطب، ولو صح أن يخرج لمنفعة التمر في السم وجه من جهة الطب لم يقدر على إظهار وجه الاقتصار على هذا العدد الذي هو السبع، ولا على الاقتصار على هذا الجنس الذي هو العجوة، ولعل ذلك كان لأهل زمانه صلى الله عليه وسلم خاصة أو لأكثرهم، إذ لم يثبت استمرار وقوع الشفاء في زماننا غالبا، وإن وجد ذلك في الأكثر حمل على أنه أراد وصف غالب الحال. وقال عياض: تخصيصه ذلك بعجوة العالية وبما بين لابتي المدينة يرفع هذا الإشكال ويكون خصوصا لها، كما وجد الشفاء لبعض الأدواء في الأدوية التي تكون في بعض تلك البلاد دون ذلك الجنس في غيره، لتأثير يكون في ذلك من الأرض أو الهواء. قال: وأما تخصيص هذا العدد فلجمعه بين الإفراد والإشفاع، لأنه زاد على نصف العشرة، وفيه أشفاع ثلاثة وأوتار أربعة، وهي من نمط غسل الإناء من ولوغ الكلب سبعا وقوله تعالى: {سَبْعَ سَنَابِلَ} وكما أن السبعين مبالغة في كثرة العشرات والسبعمائة مبالغة في كثرة المئين. وقال النووي: في الحديث تخصيص عجوة المدينة بما ذكر، وأما خصوص كون ذلك سبعا فلا يعقل معناه كما في أعداد الصلوات ونصب الزكوات. قال: وقد تكلم في ذلك المازري وعياض بكلام باطل فلا يغتر به. انتهى. ولم يظهر لي من كلامهما ما يقتضي الحكم عليه بالبطلان، بل كلام المازري يشير إلى محل ما اقتصر عليه النووي، وفي كلام عياض إشارة إلى المناسبة فقط، والمناسبات لا يقصد فيها التحقيق البالغ بل يكتفى منها بطرق الإشارة. وقال القرطبي: ظاهر الأحاديث خصوصية عجوة المدينة بدفع السم وإبطال السحر، والمطلق منها محمول على المقيد، وهو من باب الخواص التي لا تدرك بقياس ظني. ومن أئمتنا من تكلف لذلك فقال: إن السموم إنما تقتل لإفراط برودتها، فإذا داوم على التصبح بالعجوة تحكمت فيه الحرارة وأعانتها الحرارة الغريزية فقاوم ذلك برودة السم ما لم يستحكم. قال: وهذا يلزم منه رفع خصوصية عجوة المدينة بل خصوصية العجوة بل خصوصية التمر، فإن من الأدوية الحارة ما هو أولى بذلك من التمر، والأولى أن ذلك خاص بعجوة المدينة. ثم هل هو خاص بزمان نطقه أو في كل زمان؟ هذا محتمل، ويرفع هذا الاحتمال التجربة المتكررة. فمن جرب ذلك فصح معه عرف أنه مستمر، وإلا فهو مخصوص بذلك الزمان. قال وأما خصوصية هذا العدد فقد جاء في مواطن كثيرة من الطب كحديث: "صبوا علي من سبع قرب" وقوله للمفؤود الذي وجهه للحارث بن كلدة أن يلده بسبع تمرات، وجاء تعويذه سبع مرات، إلى غير ذلك. وأما في غير الطب فكثير، فما جاء من هذا العدد في معرض التداوي فذلك لخاصية لا يعلمها إلا الله أو من أطلعه على ذلك، وما جاء منه في غير معرض التداوي فإن العرب تضع هذا العدد موضع الكثرة وإن لم ترد عددا بعينه. وقال ابن القيم: عجوة المدينة من أنفع تمر الحجاز، وهو صنف كريم ملزز متين الجسم والقوة، وهو من ألين التمر وألذه. قال: والتمر في الأصل من أكثر الثمار تغذية لما فيه من الجوهر الحار الرطب، وأكله على الريق يقتل الديدان لما فيه من القوة الترياقية، فإذا أديم أكله على الريق جفف مادة الدود وأضعفه أو قتله انتهى. وفي كلامه إشارة إلى أن المراد نوع خاص من السم وهو ما ينشأ عن الديدان التي في البطن لا كل السموم، لكن سياق الخبر يقتضي التعميم لأنه نكرة في سياق النفي، وعلى تقدير التسليم في السم فماذا يصنع في السحر.

(10/240)


53 - باب لاَ هَامَةَ
5770- حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لاَ عَدْوَى وَلاَ صَفَرَ وَلاَ هَامَةَ فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا بَالُ الإِبِلِ تَكُونُ فِي الرَّمْلِ كَأَنَّهَا الظِّبَاءُ فَيُخَالِطُهَا الْبَعِيرُ الأَجْرَبُ فَيُجْرِبُهَا؟ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فَمَنْ أَعْدَى الأَوَّلَ؟" .
5771- وَعَنْ أَبِي سَلَمَةَ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ بَعْدُ يَقُولُ: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لاَ يُورِدَنَّ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ " وَأَنْكَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ حَدِيثَ الأَوَّلِ. قُلْنَا: أَلَمْ تُحَدِّثْ أَنَّهُ لاَ عَدْوَى؟ فَرَطَنَ بِالْحَبَشِيَّةِ. قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: فَمَا رَأَيْتُهُ نَسِيَ حَدِيثاً غَيْرَهُ.
[الحديث 5771 – طرفه في: 5774]
قوله: "باب لا هامة" قال أبو زيد: هي بالتشديد، وخالفه الجميع فخففوها، وهو المحفوظ في الرواية، وكأن من شددها ذهب إلى واحدة الهوام وهي ذوات السموم، وقيل: دواب الأرض التي تهم بأذى الناس، وهذا لا يصح فيه إلا إن أريد أنها لا تضر لذواتها وإنما تضر إذا أراد الله إيقاع الضرر بمن أصابته. وقد ذكر الزبير بن بكار في "الموفقيات" أن العرب كانت في الجاهلية تقول: إذا قتل الرجل ولم يؤخذ بثأره خرجت من رأسه هامة - وهي دودة - فتدور حول قبره فتقول: اسقوني اسقوني، فإن أدرك بثأره ذهبت وإلا بقيت، وفي ذلك يقول شاعرهم:
يا عمرو إلا تدع شتمي ومنقصتي ... أضربك حتى تقول الهامة اسقوني
وكانت اليهود تزعم أنها تدور حول قبره سبعة أيام ثم تذهب. وذكر ابن فارس وغيره من اللغويين نحو الأول، إلا أنهم لم يعينوا كونها دودة، بل قال القزاز: الهامة طائر من طير الليل، كأنه يعني البومة. وقال ابن الأعرابي: كانوا يتشاءمون بها، إذا وقعت على بيت أحدهم يقول: نعت إلي نفسي أو أحدا من أهل داري. وقال أبو عبيد: كانوا يزعمون أن عظام الميت تصير هامة فتطير، ويسمون ذلك الطائر الصدى. فعلى هذا فالمعني في الحديث: لا حياة لهامة الميت، وعلى الأول: لا شؤم بالبومة ونحوها، ولعل المؤلف ترجم "لا هامة" مرتين بالنظر لهذين التفسيرين والله أعلم. قوله: "عن أبي سلمة" في رواية شعيب عن الزهري "حدثني أبو سلمة" وهي في الباب الذي بعده. قوله: "لا عدوى" تقدم شرحه مستوفى في "باب الجذام" وكيفية الجمع بين قوله: "لا عدوى" وبين قوله: "لا يورد ممرض على مصح" وكذا تقدم شرح قوله: "ولا صفر ولا هامة". قوله: "فقال أعرابي" لم أقف على اسمه. قوله: "تكون في الرمل كأنها الظباء" في رواية شعيب عن الزهري في الباب الذي يليه "أمثال الظباء" بكسر المعجمة بعدها موحدة وبالمد جمع ظبي، شبهها بها في النشاط والقوة والسلامة من الداء. قوله: "فيجربها" في رواية مسلم: "فيدخل فيها ويجربها" بضم أوله، وهو بناء على ما كانوا يعتقدون من العدوى، أي يكون سببا لوقوع الجرب بها، وهذا من أوهام الجهال، كانوا يعتقدون أن المريض إذا دخل في الأصحاء أمرضهم

(10/241)


فنفى الشارع ذلك وأبطله، فلما أورد الأعرابي الشبهة رد عليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "فمن أعدى الأول؟" وهو جواب في غاية البلاغة والرشاقة. وحاصله من أين الجرب للذي أعدى بزعمهم؟ فإن أجيب من بعير آخر لزم التسلسل أو سبب آخر فليفصح به، فإن أجيب بأن الذي فعله في الأول هو الذي فعله في الثاني ثبت المدعي، وهو أن الذي فعل بالجميع ذلك هو الخالق القادر على كل شيء وهو الله سبحانه وتعالى. قوله: "وعن أبي سلمة سمع أبا هريرة بعد يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يوردن ممرض على مصح" كذا فيه بتأكيد النهي عن الإيراد. ولمسلم من رواية يونس عن الزهري "لا يورد" بلفظ النفي، وكذا تقدم من رواية صالح وغيره، وهو خبر بمعنى النهي بدليل رواية الباب. والممرض بضم أوله وسكون ثانيه وكسر الراء بعدها ضاد معجمة هو الذي له إبل مرضى، والمصح بضم الميم وكسر الصاد المهملة بعدها مهملة من له إبل صحاح، نهى صاحب الإبل المريضة أن يوردها على الإبل الصحيحة. قال أهل اللغة: الممرض اسم فاعل من أمرض الرجل إذا أصاب ماشيته مرض، والمصح اسم فاعل من أصح إذا أصاب ماشيته عاهة ثم ذهب عنها وصحت. قوله: "وأنكر أبو هريرة الحديث الأول" وقع في رواية المستملي والسرخسي "حديث الأول" وهو كقولهم مسجد الجامع. وفي رواية يونس عن الزهري عن أبي سلمة "كان أبو هريرة يحدثهما كليهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صمت أبو هريرة بعد ذلك عن قوله لا عدوى". قوله: "وقلنا ألم تحدث أنه لا عدوى" في رواية يونس "فقال الحارث بن أبي ذئاب" بضم المعجمة وموحدتين وهو ابن عم أبي هريرة "قد كنت أسمعك يا أبا هريرة تحدثنا مع هذا الحديث حديث لا عدوى، فأبى أن يعرف ذلك" ووقع عند الإسماعيلي من رواية شعيب "فقال الحارث: إنك حدثتنا" فذكره "قال: فأنكر أبو هريرة وغضب وقال: لم أحدثك ما تقول".
قوله: "فرطن بالحبشية" في رواية يونس "فما رآه الحارث في ذلك حتى غضب أبو هريرة حتى رطن بالحبشية فقال للحارث: أتدري ماذا قلت؟ قال: لا. قال: إني قلت أبيت". قوله: "فما رأيته" في رواية الكشميهني: "فما رأيناه نسي حديثا غيره" في رواية يونس "قال أبو سلمة: ولعمري لقد كان يحدثنا به فما أدري أنسي أبو هريرة أم نسخ أحد القولين للآخر"، وهذا الذي قاله أبو سلمة ظاهر في أنه كان يعتقد أن بين الحديثين تمام التعارض، وقد تقدم وجه الجمع بينهما في "باب الجذام" وحاصله أن قوله: "لا عدوى" نهي عن اعتقادها وقوله: "لا يورد" سبب النهي عن الإيراد خشية الوقوع في اعتقاد العدوى، أو خشية تأثير الأوهام، كما تقدم نظيره في حديث: "فر من المجذوم" لأن الذي لا يعتقد أن الجذام يعدي يجد في نفسه نفرة، حتى لو أكرهها على القرب منه لتألمت بذلك، فالأولى بالعاقل أن لا يتعرض لمثل ذلك بل يباعد أسباب الآلام ويجانب طرق الأوهام والله أعلم. قال ابن التين: لعل أبا هريرة كان يسمع هذا الحديث قبل أن يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم حديث: "من بسط رداءه ثم ضمه إليه لم ينس شيئا سمعه من مقالتي" وقد قيل في الحديث المذكور إن المراد أنه لا ينسى تلك المقالة التي قالها ذلك اليوم لا أنه ينتفي عنه النسيان أصلا. وقيل: كان الحديث الثاني ناسخا للأول فسكت عن المنسوخ، وقيل: معنى قوله: "لا عدوى" النهي عن الاعتداء، ولعل بعض من أجلب عليه إبلا جرباء أراد تضمينه فاحتج عليه في إسقاط الضمان بأنه إنما أصابها ما قدر عليها وما لم تكن تنجو منه، لأن العجماء جبار، ويحتمل أن يكون قال هذا على ظنه ثم تبين له خلاف ذلك انتهى. فأما دعوى نسيان أبي هريرة للحديث فهو بحسب ما ظن أبو سلمة، وقد بينت ذلك رواية يونس التي أشرت إليها، وأما دعوى النسخ فمردودة لأن النسخ لا يصار إليه بالاحتمال، ولا سيما مع

(10/242)


إمكان الجمع. وأما الاحتمال الثالث فبعيد من مساق الحديث، والذي بعده أبعد منه، ويحتمل. أيضا أنهما لما كانا خبرين متغايرين عن حكمين مختلفين لا ملازمة بينهما جاز عنده أن يحدث بأحدهما ويسكت عن الآخر حسبما تدعو إليه الحاجة، قاله القرطبي في "المفهم". قال: ويحتمل أن يكون خاف اعتقاد جاهل يظنهما متناقضين فسكت عن أحدهما، وكان إذا أمن ذلك حدث بهما جميعا. قال القرطبي: وفي جواب النبي صلى الله عليه وسلم للأعرابي جواز مشافهة من وقعت له شبهة في اعتقاده بذكر البرهان العقلي إذا كان السائل أهلا لفهمه، وأما من كان قاصرا فيخاطب بما يحتمله عقله من الإقناعيات. قال: وهذه الشبهة التي وقعت للأعرابي هي التي وقعت للطبائعيين أولا وللمعتزلة ثانيا، فقال الطبائعيون بتأثير الأشياء بعضها في بعض وإيجادها إياها، وسموا المؤثر طبيعة. وقال المعتزلة بنحو ذلك في الحيوانات والمتولدات وأن قدرهم مؤثرة فيها بالإيجاد، وأنهم خالقون لأفعالهم مستقلون باختراعها، واستند الطائفتان إلى المشاهدة الحسية، ونسبوا من أنكر ذلك إلى إنكار البديهة، وغلط من قال ذلك منهم غلطا فاحشا لالتباس إدراك الحس بإدراك العقل، فإن المشاهد إنما هو تأثير شيء عند شيء آخر، وهذا حظ الحس، فأما تأثيره فهو فيه حظ العقل، فالحس أدرك وجود شيء عند وجود شيء وارتفاعه عند ارتفاعه، أما إيجاده به فليس للحس فيه مدخل، فالعقل هو الذي يفرق فيحكم بتلازمهما عقلا أو عادة مع جواز التبدل عقلا والله أعلم. وفيه وقوع تشبيه الشيء بالشيء إذا جمعهما وصف خاص ولو تباينا في الصورة. وفيه شدة ورع أبي هريرة لأنه مع كون الحارث أغضبه حتى تكلم بغير العربية خشي أن يظن الحارث أنه قال فيه شيئا يكرهه ففسر له في الحال ما قال، والله أعلم.

(10/243)


54 - باب لاَ عَدْوَى
5772- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَحَمْزَةُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لاَ عَدْوَى وَلاَ طِيَرَةَ إِنَّمَا الشُّؤْمُ فِي ثَلاَثٍ: فِي الْفَرَسِ وَالْمَرْأَةِ وَالدَّارِ" .
5773- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "لاَ عَدْوَى" .
5774- قَالَ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لاَ تُورِدُوا الْمُمْرِضَ عَلَى الْمُصِحِّ" .
5775- وَعَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي سِنَانُ بْنُ أَبِي سِنَانٍ الدُّؤَلِيُّ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لاَ عَدْوَى" فَقَامَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: أَرَأَيْتَ الإِبِلَ تَكُونُ فِي الرِّمَالِ أَمْثَالَ الظِّبَاءِ فَيَأْتِيهَا الْبَعِيرُ الأَجْرَبُ فَتَجْرَبُ؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فَمَنْ أَعْدَى الأَوَّلَ؟ ".

(10/243)


5776- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ سَمِعْتُ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لاَ عَدْوَى وَلاَ طِيَرَةَ وَيُعْجِبُنِي الْفَأْلُ. قَالُوا: وَمَا الْفَأْلُ؟ قَالَ: كَلِمَةٌ طَيِّبَةٌ" .
قوله: "باب لا عدوى" تقدم تفسيرها. قوله: "أخبرني سالم بن عبد الله" أي ابن عمر. قوله: "وحمزة" هو أخو سالم. قوله: "أن عبد الله بن عمر" قال في رواية مسلم عن أبي الطاهر وحرملة كلاهما عن ابن وهب بهذا السند عن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وتقدم في أوائل النكاح من طريق مالك عن الزهري عن حمزة وسالم ابني عبد الله بن عمر عن عبد الله بن عمر، وفي تصريح الزهري بالإخبار فيه في هذه الرواية دفع لتوهم انقطاعه بسبب ما رواه ابن أبي ذئب عن الزهري فأدخل بين الزهري وسالم رجلا وهو محمد بن زيد بن قنفذ، ويحمل إن كان محفوظا على أن الزهري حمله عن محمد بن زيد عن سالم ثم سمعه من سالم. قوله: "لا عدوى ولا طيرة، إنما الشؤم في ثلاث" الحديث. تقدم الكلام على حديث: "الشؤم في ثلاث" في النكاح، وجمع ابن عمر بين الحديثين يدل على أنه قوى عنده أحد الاحتمالات في المراد بالشؤم، وذكر مسلم أنه لم يقل أحد من أصحاب الزهري عنه في أول هذا الحديث: "لا عدوى ولا طيرة" إلا يونس بن يزيد. قلت: وقد أخرجه النسائي من رواية القاسم بن مبرور عن يونس بدونها. فكان المنفرد بالزيادة عبد الله بن وهب. قوله: "أن أبا هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا عدوى" قال أبو سلمة بن عبد الرحمن "سمعت أبا هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا توردوا الممرض على المصح" وعن الزهري قال أخبرني سنان بن أبي سنان أن أبا هريرة قال: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا عدوى، فقام أعرابي" فذكر القصة الماضية في الباب قبله، هكذا أورده من رواية شعيب عن الزهري، وقد أخرجه مسلم من روايته عن الزهري عن أبي سلمة بالحديثين، لكن لم يسق لفظه، أحال به على رواية صالح بن كيسان ولفظه: "لا عدوى" ويحدث مع ذلك "لا يورد الممرض على المصح" قاله بمثل حديث يونس، وقد بينت ما في رواية يونس من فائدة زائدة في الباب الذي قبله، وأورد أيضا رواية شعيب عن الزهري عن سنان بن أبي سنان بالقصة وأحال بسياقه على رواية يونس، فظهر بذلك أنها كلها موصولة. وسنان بن أبي سنان مدني ثقة واسم أبيه يزيد بن أمية وليس له في البخاري عن أبي هريرة سوى هذا الحديث الواحد، وله آخر عن جابر قرنه في كل منهما بأبي سلمة بن عبد الرحمن والله أعلم. حديث أنس بلفظ: "لا عدوى ولا طيرة، ويعجبني الفأل " وفيه تفسيره، وقد تقدم شرحه مستوفى في باب مفرد.

(10/244)


55 - باب مَا يُذْكَرُ فِي سُمِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
رَوَاهُ عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
5777- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: "لَمَّا فُتِحَتْ خَيْبَرُ أُهْدِيَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاةٌ فِيهَا سَمٌّ. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اجْمَعُوا لِي مَنْ كَانَ هَا هُنَا مِنْ الْيَهُودِ، فَجُمِعُوا لَهُ. فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِّي سَائِلُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَهَلْ أَنْتُمْ صَادِقِيَّ عَنْهُ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ يَا أَبَا

(10/244)


الْقَاسِمِ. فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَبُوكُمْ؟ قَالُوا: أَبُونَا فُلاَنٌ. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كَذَبْتُمْ بَلْ أَبُوكُمْ فُلاَنٌ. فَقَالُوا: صَدَقْتَ وَبَرِرْتَ. فَقَالَ: هَلْ أَنْتُمْ صَادِقِيَّ عَنْ شَيْءٍ إِنْ سَأَلْتُكُمْ عَنْهُ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ وَإِنْ كَذَبْنَاكَ عَرَفْتَ كَذِبَنَا كَمَا عَرَفْتَهُ فِي أَبِينَا. قَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَهْلُ النَّارِ؟ فَقَالُوا: نَكُونُ فِيهَا يَسِيراً ثُمَّ تَخْلُفُونَنَا فِيهَا. فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اخْسَئُوا فِيهَا وَاللَّهِ لاَ نَخْلُفُكُمْ فِيهَا أَبَداً. ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: فَهَلْ أَنْتُمْ صَادِقِيَّ عَنْ شَيْءٍ إِنْ سَأَلْتُكُمْ عَنْهُ؟ قَالُوا: نَعَمْ. فَقَالَ: هَلْ جَعَلْتُمْ فِي هَذِهِ الشَّاةِ سَمّاً؟ فَقَالُوا: نَعَمْ. فَقَالَ: مَا حَمَلَكُمْ عَلَى ذَلِكَ؟ فَقَالُوا: أَرَدْنَا إِنْ كُنْتَ كَذَّاباً نَسْتَرِيحُ مِنْكَ وَإِنْ كُنْتَ نَبِيّاً لَمْ يَضُرَّكَ" .
قوله: "باب ما يذكر في سم النبي صلى الله عليه وسلم" الإضافة فيه إلى المفعول. قوله: "رواه عروة عن عائشة" كأنه يشير إلى ما علقه في الوفاة النبوية آخر المغازي فقال: "قال يونس عن ابن شهاب قال عروة قالت عائشة كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في مرضه الذي مات فيه: يا عائشة ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان انقطاع أبهري ذلك السم" وقد ذكرت هناك من وصله وهو البزار وغيره، وتقدم شرحه مستوفى، وقوله: "أجد ألم الطعام" أي الألم الناشىء عن ذلك الأكل، لا أن الطعام نفسه بقي إلى تلك الغاية. وأخرج الحاكم من حديث أم مبشر نحو حديث عائشة ثم ذكر حديث أبي هريرة في قصة الشاة المسمومة التي أهديت للنبي صلى الله عليه وسلم بخيبر وقد تقدم ذكره في غزوة خيبر وأنه أخرجه مختصرا وفي أواخر الجزية مطولا. قوله: "أهديت" بضم أوله على البناء للمجهول، تقدم في الهبة من رواية هشام بن زيد عن أنس "أن يهودية أتت النبي صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة فأكل منها فجيء بها" الحديث، فعرف أن التي أهدت الشاة المذكورة امرأة، وقدمت في المغازي أنها زينب بنت الحارث امرأة سلام بن مشكم أخرجه ابن إسحاق بغير إسناد. وأورده ابن سعد من طرق عن ابن عباس بسند ضعيف، ووقع في مرسل الزهري أنها أكثرت السم في الكتف والذراع لأنه بلغها أن ذلك كان أحب أعضاء الشاة إليه، وفيه: "فتناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتف فنهش منها" وفيه: "فلما ازدرد لقمته قال: إن الشاة تخبرني" يعني أنها مسمومة وبينت هناك الاختلاف هل قتلها النبي صلى الله عليه وسلم أو تركها. ووقع في حديث أنس المشار إليه "فقيل: ألا تقتلها؟ قال: لا. قال: فما زلت أعرفها في لهوات رسول الله صلى الله عليه وسلم" وتقدم كيفية الجمع بين الاختلاف المذكور. ومن المستغرب قول محمد بن سحنون: أجمع أهل الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتلها. قوله: " اجمعوا لي" لم أقف على تعيين المأمور بذلك. قوله: "إني سائلكم عن شيء، فهل أنتم صادقوني عنه؟" كذا وقع في هذا الحديث في ثلاثة مواضع، قال ابن التين: ووقع في بعض النسخ "صادقي" بتشديد الياء بغير نون، وهو الصواب في العربية لأن أصله صادقوني فحذفت النون للإضافة فاجتمع حرفا علة سبق الأول بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت، ومثله {وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} وفي حديث بدء الوحي "أو مخرجي هم" انتهى. وإنكاره الرواية من جهة العربية ليس بجيد، فقد وجهها غيره، قال ابن مالك: مقتضى الدليل أن تصحب نون الوقاية اسم الفاعل وأفعل التفضيل والأسماء المعربة المضافة إلى ياء المتكلم لتقيها خفاء الإعراب، فلما منعت ذلك كانت كأصل متروك، فنبهوا عليه في بعض الأسماء المعربة المشابهة للفعل كقول الشاعر:
وليس الموافيني ليرتد خائبا ... فإن له أضعاف ما كان أملا

(10/245)


ومنه في الحديث: "غير الدجال أخوفني عليك" والأصل فيه: أخوف مخوفاتي عليكم، فحذف المضاف إلى الياء وأقيمت هي مقامه، فاتصل أخوف بها مقرونة بالنون، وذلك أن أفعل التفضيل شبيه بفعل التعجب. وحاصل كلامه أن النون الباقية هي نون الوقاية ونون الجمع حذفت كما تدل عليه الرواية الأخرى بلفظ: "صادقي" ويمكن تخريجه أيضا على أن النون الباقية هي نون الجمع فإن بعض النجاة أجاز في الجمع المذكر السالم أن يعرب بالحركات على النون مع الواو، ويحتمل أن تكون الياء في محل نصب بناء على أن مفعول اسم الفاعل إذا كان ضميرا بارزا متصلا به كان في محصل نصب وتكون النون على هذا أيضا نون الجمع. قوله: "من أبوكم؟ قالوا: أبونا فلان. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كذبتم، بل أبوكم فلان. فقالوا صدقت وبررت" بكسر الراء الأولى وحكي فتحها وهو من البر. قوله: "نكون فيها يسيرا ثم تخلفوننا فيها" بضم اللام مخففا أي تدخلون فتقيمون في المكان الذي كنا فيه. وضبطه الكرماني بتشديد اللام، وقد أخرج الطبري من طريق عكرمة قال: خاصمت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فقالوا: لن ندخل النار إلا أربعين ليلة؛ وسيخلفنا إليها قوم آخرون - يعنون محمدا وأصحابه - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بيده على رءوسهم: بل أنتم خالدون مخلدون لا يخلفكم فيها أحد ، فأنزل الله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً} الآية ومن طريق ابن إسحاق عن سيف بن سليم عن مجاهد عن ابن عباس "أن اليهود كانوا يقولون: هذه الدنيا سبعة آلاف سنة، وإنما نعذب بكل ألف سنة يوما في النار، وإنما هي سبعة أيام فنزلت. وهذا سند حسن. وأخرج الطبري أيضا من وجه آخر عن عكرمة قال: "اجتمعت يهود تخاصم النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: لن تصيبنا النار" فذكر نحوه وزاد: "فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كذبتم، بل أنتم خالدون مخلدون، لا نخلفكم فيها أبدا إن شاء الله تعالى. فنزل القرآن تصديقا للنبي صلى الله عليه وسلم" ومن طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم حدثني أبي زيد بن أسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ليهود: "أنشدكم الله من أهل النار الذين ذكرهم الله في التوراة؟ قالوا: إن الله غضب علينا غضبة فنمكث في النار أربعين يوما ثم نخرج فتخلفوننا فيها. فقال: كذبتم، والله لا نخلفكم فيها أبدا، فنزل القرآن تصديقا له" وهذان خبران مرسلان يقوي أحدهما الآخر، ويستفاد منهما تعيين مقدار الأيام المعدودة المذكورة في الآية، وكذا في حديث أبي هريرة حيث قال فيه: "أياما يسيرة" وأخرج الطبري أيضا من رواية قتادة وغيره أن حكمة العدد المذكور - وهو الأربعون - أنها المدة التي عبدوا فيها العجل. قوله: "اخسئوا فيها" هو زجر لهم بالطرد والإبعاد، أو دعاء عليهم بذلك. قوله: "والله لا نخلفكم فيها أبدا" أي لا تخرجون منها ولا تقيم بعدكم فيها، لأن من يدخل النار من عصاة المسلمين يخرج منها فلا يتصور أنه يخلف غيره أصلا. قوله: "أردنا إن كنت كاذبا" في رواية المستملي والسرخسي "إن كنت كذابا". قوله: "وإن كنت نبيا لم يضرك" يعني على الوجه المعهود من السم المذكور. وفي حديث أنس المشار إليه "فقالت: أردت لأقتلك. فقال: ما كان الله ليسلطك على ذلك" وفي رواية سفيان بن حسين عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة في نحو هذه القصة "فقالت: أردت أن أعلم إن كنت نبيا فسيطلعك الله عليه، وإن كنت كاذبا فأريح الناس منك" أخرجه البيهقي وأخرج نحوه موصولا عن جابر، وأخرجه ابن سعد بسند صحيح عن ابن عباس، ووقع عند ابن سعد عن الواقدي بأسانيده المتعددة أنها قالت: "قتلت أبي وزوجي وعمي وأخي ونلت من قومي ما نلت، فقلت: إن كان نبيا فسيخبره الذراع، وإن كان ملكا استرحنا منه" وفي الحديث إخباره صلى الله عليه وسلم عن الغيب، وتكليم الجماد له، ومعاندة اليهود لاعترافهم بصدقه فيما أخبر به عن اسم أبيهم وبما وقع منهم من دسيسة

(10/246)


السم، ومع ذلك فعاندوا واستمروا على تكذيبه. وفيه قتل من قتل بالسم قصاصا، وعن الحنفية إنما تجب فيه الدية، ومحل ذلك إذا استكرهه عليه اتفاقا، وأما إذا دسه عليه فأكله ففيه اختلاف للعلماء، فإن ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قتل اليهودية ببشر بن البراء ففيه حجة لمن يقول بالقصاص في ذلك، والله أعلم. وفيه أن الأشياء - كالسموم وغيرها - لا تؤثر بذواتها بل بإذن الله، لأن السم أثر في بشر فقيل: إنه مات في الحال، وقيل: إنه مات بعد حول، ووقع فيه مرسل الزهري في مغازي موسى بن عقبة "أن لونه صار في الحال كالطيلسان" يعني أصفر شديد الصفرة، وأما قول أنس "فما زلت أعرفها في لهوات رسول الله صلى الله عليه وسلم" فاللهوات جمع لهاة ويجمع أيضا على لهي بضم أوله والقصر منون، ولهيان وزن إنسان، وقد تقدم بيانها فيما مضى في الطب في الكلام على العذرة وهي اللحمة المعلقة في أصل الحنك، وقيل: هي ما بين منقطع اللسان إلى منقطع أصل الفم، وهذا هو الذي يوافق الجمع المذكور. ومراد أنس أنه صلى الله عليه وسلم كان يعتريه المرض من تلك الأكلة أحيانا، وهو موافق لقوله في حديث عائشة: "ما أزال أجد ألم الطعام" ووقع في مغازي موسى بن عقبة عن الزهري مرسلا "ما زلت أجد من الأكلة التي أكلت بخيبر عدادا حتى كان هذا أوان انقطاع أبهري " ومثله في الرواية المذكورة عند ابن سعد. والعداد بكسر المهملة والتخفيف ما يعتاد، والأبهر عرق في الظهر تقدم بيانه في الوفاة النبوية، ويحتمل أن يكون أنس أراد أنه يعرف ذلك في اللهوات بتغير لونها أو بنتوء فيها أو تحفير، قاله القرطبي.

(10/247)


باب شرب السم والدواء به وما يخاف منه والخبيث
...
56 - باب شُرْبِ السُّمِّ وَالدَّوَاءِ بِهِ وَبِمَا يُخَافُ مِنْهُ وَالْخَبِيثِ
5778- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سُلَيْمَانَ قَالَ: سَمِعْتُ ذَكْوَانَ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ يَتَرَدَّى فِيهِ خَالِداً مُخَلَّداً فِيهَا أَبَداً وَمَنْ تَحَسَّى سُمّاً فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَسُمُّهُ فِي يَدِهِ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِداً مُخَلَّداً فِيهَا أَبَداً وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَجَأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِداً مُخَلَّداً فِيهَا أَبَداً" .
5779- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ بَشِيرٍ أَبُو بَكْرٍ أَخْبَرَنَا هَاشِمُ بْنُ هَاشِمٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَامِرُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَنْ اصْطَبَحَ بِسَبْعِ تَمَرَاتِ عَجْوَةٍ لَمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ سَمٌّ وَلاَ سِحْرٌ" .
قوله: "باب شرب السم والدواء به وما يخاف منه" هو بضم أوله. وقال الكرماني يجوز فتحه، وهو عطف على السم. قوله: "والخبيث" أي الدواء الخبيث، وكأنه يشير بالدواء بالسم إلى ما ورد من النهي عن التداوي بالحرام، وقد تقدم بيانه في كتاب الأشربة في "باب الباذق" في شرح حديث: " إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم" وزعم بعضهم أن المراد بقوله: "به" منه. والمراد ما يدفع ضرر السم، وأشار بذلك إلى ما تقدم قبل من حديث: "من تصبح بسبع تمرات" الحديث، وفيه: "لم يضره سم" فيستفاد منه استعمال ما يدفع ضرر السم قبل وصوله، ولا يخفى بعدما قال، لكن يستفاد منه مناسبة ذكر حديث العجوة في هذا الباب. وأما قوله: "وما يخاف

(10/247)


منه" فهو معطوف على الضمير المجرور العائد على السم، وقوله: "منه" أي من الموت به أو استمرار المرض، فيكون فاعل ذلك قد أعان على نفسه، وأما مجرد شرب السم فليس بحرام على الإطلاق لأنه يجوز استعمال اليسير منه إذا ركب معه ما يدفع ضرره إذا كان فيه نفع، أشار إلى ذلك ابن بطال. وقد أخرج ابن أبي شيبة وغيره أن خالد بن الوليد لما نزل الحيرة قيل له احذر السم لا تسقيكه الأعاجم، فقال: ائتوني به فأتوه به، فأخذه بيده ثم قال. بسم الله، واقتحمه، فلم يضره. فكأن المصنف رمز إلى أن السلامة من ذلك وقعت كرامة لخالد بن الوليد، فلا يتأسى به في ذلك لئلا يفضي إلى قتل المرء نفسه. ويؤيد ذلك حديث أبي هريرة في الباب، ولعله كان عند خالد في ذلك عهد عمل به. وأما قول: "والخبيث" فيجوز جره، والتقدير والتداوي بالخبيث، ويجوز الرفع على أن الخبر محذوف والتقدير ما حكمه؟ أو هل يجوز التداوي به؟ وقد ورد النهي عن تناوله صريحا، أخرجه أبو داود والترمذي وغيرهما وصححه ابن حبان من طريق مجاهد عن أبي هريرة مرفوعا، قال الخطابي: خبث الدواء يقع بوجهين: أحدهما: من جهة نجاسته كالخمر ولحم الحيوان الذي لا يؤكل، وقد يكون من جهة استقذاره فتكون كراهته لإدخال المشقة على النفس، وإن كان كثير من الأدوية تكره النفس تناوله، لكن بعضها في ذلك أيسر من بعض. قلت: وحمل الحديث على ما ورد في بعض طرقه أولى، وقد ورد في آخر الحديث متصلا به يعني السم، وأهل البخاري أشار في الترجمة إلى ذلك. قوله: "عن سليمان" هو الأعمش. قوله: "سمعت ذكوان" هو أبو صالح السمان وقد أخرجه مسلم من رواية وكيع عن الأعمش عن أبي صالح، ثم أردفه برواية شعبة عن سليمان قال: "سمعت ذكوان" مثله. وأخرجه الترمذي من رواية أبي داود الطيالسي عن شعبة فقال عن الأعمش "سمعت أبا صالح" به، وقدم في رواية وكيع "من قتل نفسه بحديدة" وثلث بقصة "من تردى" عكس رواية شعبة هنا. ووقع في رواية أبي داود الطيالسي المذكورة كرواية وكيع، وكذا عند الترمذي من طريق عبيدة بن حميد عن الأعمش ولم يذكر قصة. قوله: "من تردى من جبل" أي أسقط نفسه منه، لما يدل عليه قوله: "فقتل نفسه" على أنه تعمد ذلك، وإلا فمجرد قوله تردى لا يدل على التعمد. قوله: "ومن تحسى" بمهملتين بوزن تندى أي تجرع. قوله: "يجأ" بفتح أوله وتخفيف الجيم وبالهمز، أي يطعن بها، وقد تسهل الهمزة، والأصل في يجأ يوجأ قال ابن التين: في رواية الشيخ أبي الحسن يجأ بضم أوله، ولا وجه له، وإنما يبني للمجهول بإثبات الواو ويوجأ بوزن يوجد انتهى. ووقع في رواية مسلم: "يتوجأ" بمثناة وواو مفتوحتين وتشديد الجيم بوزن يتكبر وهو بمعنى الطعن، ووقع في رواية أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة في أواخر الجنائز بلفظ: "الذي يطعن نفسه يطعنها في النار" وقد تقدم شرحه هناك وبيان تأويل الخلود والتأبيد المذكورين. وحكى ابن التين عن غيره أن هذا الحديث ورد في حق رجل بعينه، وأولى ما حمل عليه هذا الحديث ونحوه من أحاديث الوعيد أن المعنى المذكور جزاء فاعل ذلك إلا أن يتجاوز الله تعالى عنه. قوله: "أحمد بن بشير أبو بكر" هو الكوفي المخزومي مولاهم، ليس له عند البخاري سوى هذا الموضع، قال ابن معين: لا بأس به، هكذا روى عباس الدوري عنه. وقال عثمان الدارمي عن ابن معين: متروك، وتعقب ذلك الخطيب بأنه التبس على عثمان بآخر يقال له أحمد بن بشير لكن كنيته أبو جعفر، وهو بغدادي من طبقة صاحب الترجمة، وكأن هذا هو السر في تكنية المصنف له ليمتاز عن قرينه الضعيف، وقد تقدم شرح حديث سعد قريبا، وقوله في أول السند "حدثنا محمد" كذا للأكثر، ووقع لأبي ذر

(10/248)


عن المستملي: "محمد بن سلام".

(10/249)


57 - باب أَلْبَانِ الأُتُنِ
5780- حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلاَنِيِّ عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السَّبُعِ".
قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَلَمْ أَسْمَعْهُ حَتَّى أَتَيْتُ الشَّأْمَ.
5781- وَزَادَ اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: وَسَأَلْتُهُ هَلْ نَتَوَضَّأُ أَوْ نَشْرَبُ أَلْبَانَ الأُتُنِ؟ أَوْ مَرَارَةَ السَّبُعِ؟ أَوْ أَبْوَالَ الإِبِلِ؟ قَالَ: قَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَتَدَاوَوْنَ بِهَا فَلاَ يَرَوْنَ بِذَلِكَ بَأْساً. فَأَمَّا أَلْبَانُ الأُتُنِ: فَقَدْ بَلَغَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ لُحُومِهَا وَلَمْ يَبْلُغْنَا عَنْ أَلْبَانِهَا أَمْرٌ وَلاَ نَهْيٌ. وَأَمَّا مَرَارَةُ السَّبُعِ: قَالَ ابْنُ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي أَبُو إِدْرِيسَ الْخَوْلاَنِيُّ أَنَّ أَبَا ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيَّ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السَّبُعِ".
قوله: "باب ألبان الأتن" بضم الهمزة والمثناة الفوقانية بعدها نون جمع أتان. قوله: "حدثني عبد الله بن محمد" هو الجعفي، وسفيان هو ابن عيينة. قوله: "من السباع" كذا للأكثر، وللمستملي والسرخسي "من السبع" بلفظ الإفراد والمراد الجنس. قوله: "قال الزهري: ولم أسمعه حتى أتيت الشام" تقدم الكلام على ذلك في الطب. قوله: "وزاد الليث: حدثني يونس عن ابن شهاب" هو الزهري، وهذه الزيادة وصلها الذهلي في "الزهريات" وأوردها أبو نعيم في "المستخرج" مطولة من طريق أبي ضمرة أنس بن عياض عن يونس بن يزيد. قوله: "عن ابن شهاب قال وسألته هل نتوضأ؟" هذه الجملة حالية، ووقع في رواية أبي ضمرة "سئل الزهري وأعرض الزهري في جوابه عن الوضوء فلم يجب عنه لشذوذ القول به" وقد تقدمت في الطهارة الإشارة إلى من أجاز الوضوء باللبن والخل. قوله: "قد كان المسلمون" في رواية أبي ضمرة "أما أبوال الإبل فقد كان المسلمون". قوله: "ولم يبلغنا عن ألبانها أمر ولا نهي" في رواية أبي ضمرة "ولا أرى ألبانها إلا تخرج من لحومها". قوله: "وأما مرارة السبع: قال ابن شهاب حدثني أبو إدريس" في رواية أبي ضمرة "وأما مرارة السبع فإنه أخبرني أبو إدريس" والباقي مثله، وزاد أبو ضمرة في آخره ولم أسمعه من علمائنا، فإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها فلا خير في مرارتها. ويؤخذ من هذه الزيادة أن الزهري كان يتوقف في صحة هذا الحديث لكونه لم يعرف له أصلا بالحجاز كما هي طريقة كثير من علماء الحجاز. وقال ابن بطال: استدل الزهري على منع مرارة السبع بالنهي عن أكل كل ذي ناب من السباع، ويلزمه مثل ذلك في ألبان الأتن، وغفل رحمه الله عن الزيادة التي أفادتها رواية أبي ضمرة. وقد اختلف في ألبان الأتن، فالجمهور على التحريم، وعند المالكية قول في حلها من القول بحل أكل لحمها، وقد تقدم بسطه في الأطعمة.

(10/249)


58 - باب إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي الإِنَاءِ
5782- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ عُتْبَةَ بْنِ مُسْلِمٍ مَوْلَى بَنِي تَيْمٍ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ حُنَيْنٍ مَوْلَى بَنِي زُرَيْقٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْمِسْهُ كُلَّهُ ثُمَّ لِيَطْرَحْهُ فَإِنَّ فِي أَحَدِ جَنَاحَيْهِ شِفَاءً وَفِي الْآخَرِ دَاءً" .
قوله: "باب إذا وقع الذباب في الإناء" الذباب بضم المعجمة وموحدتين وتخفيف، قال أبو هلال العسكري: الذباب واحد والجمع ذبان كغربان، والعامة تقول ذباب للجمع وللواحد ذبابة بوزن قرادة، وهو خطأ، وكذا قال أبو حاتم السجستاني إنه خطأ. وقال الجوهري: الذباب واحدة ذبابة ولا تقل ذبانة، ونقل في "المحكم" عن أبي عبيدة عن خلف الأحمر تجويز ما زعم العسكري أنه خطأ، وحكى سيبويه في الجمع ذب. وقرأته بخط البحتري مضبوطا بضم أوله والتشديد. قوله: "عن عتبة بن مسلم مولى بني تميم" هو مدني، وأبوه يكنى أبا عتبة، وما لعتبة في البخاري سوى هذا الموضع. قوله: "عن عبيد بن حنين" مضى في بدء الخلق من طريق سليمان بن بلال عن عتبة بن مسلم: "أخبرني عبيد بن حنين" وهو بالمهملة والنونين مصغر وكنيته أبو عبد الله. قوله: "مولى بني زريق" بزاي ثم راء ثم قاف مصغر، وحكى الكلاباذي أنه مولى زيد بن الخطاب؛ وعن ابن عيينة أنه مولى العباس، وهو خطأ كأنه ظن أنه أخو عبد الله بن حنين وليس كذلك، وما لعبيد أيضا في البخاري سوى هذا الحديث أورده في موضعين.
قوله: "إذا وقع الذباب" قيل سمي ذبابا لكثرة حركته واضطرابه، وقد أخرج أبو يعلى عن ابن عمر مرفوعا: "عمر الذباب أربعون ليلة، والذباب كله في النار إلا النحل" وسنده لا بأس به، وأخرجه ابن عدي دون أوله من وجه آخر ضعيف، قال الجاحظ: كونه في النار ليس تعذيبا له، بل ليعذب أهل النار به. قال الجوهري: يقال إنه ليس شيء من الطيور يلغ إلا الذباب. وقال أفلاطون: الذباب أحرص الأشياء، حتى إنه يلقي نفسه في كل شيء ولو كان فيه هلاكه. ويتولد من العفونة. ولا جفن للذبابة لصغر حدقتها، والجفن يصقل الحدقة، فالذبابة تصقل بيديها فلا تزال تمسح عينيها. ومن عجيب أمره أن رجيعه يقع على الثوب الأسود أبيض وبالعكس. وأكثر ما يظهر في أماكن العفونة، ومبدأ خلقه منها ثم من التوالد. وهو من أكثر الطيور سفادا، ربما بقي عامة اليوم على الأنثى. ويحكى أن بعض الخلفاء سأل الشافعي: لأي علة خلق الذباب؟ فقال: مذلة للملوك. وكانت ألحت عليه ذبابة، فقال الشافعي: سألني ولم يكن عندي جواب فاستنبطته من الهيئة الحاصلة. وقال أبو محمد المالقي: ذباب الناس يتولد من الزبل. وإن أخذ الذباب الكبير فقطعت رأسها وحك بجسدها الشعرة التي في الجفن حكا شديدا أبرأته وكذا داء الثعلب. وإن مسح لسعة الزنبور بالذباب سكن الوجع. قوله: "في إناء أحدكم" تقدم في بدء الخلق بلفظ: "شراب" ووقع في حديث أبي سعيد عند النسائي وابن ماجه وصححه ابن حبان "إذا وقع في الطعام" والتعبير بالإناء أشمل، وكذا وقع في حديث أنس عند البزار. قوله: "فليغمسه كله" أمر إرشاد لمقابلة الداء بالدواء. وفي قوله: "كله" رفع توهم المجاز في الاكتفاء بغمس بعضه. قوله: "ثم ليطرحه" في رواية سليمان بن بلال "ثم لينزعه" وقد وقع في رواية عبد الله بن المثنى عن عمه ثمامة أنه حدثه قال: "كنا عند أنس، فوقع ذباب في إناء فقال أنس بإصبعه فغمسه في ذلك الإناء ثلاثا ثم قال: بسم الله. وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يفعلوا ذلك" أخرجه البزار ورجاله ثقات، ورواه حماد بن سلمة عن ثمامة فقال: "عن أبي هريرة" ورجحها أبو حاتم، وأما

(10/250)


الدار قطني فقال: الطريقان محتملان. قوله: "فإن في إحدى جناحيه" في رواية أبي داود "فإن في أحد" والجناح يذكر ويؤنث وقيل: أنث باعتبار اليد، وجزم الصغاني بأنه لا يؤنث وصوب رواية: "أحد" وحقيقته للطائر، ويقال لغيره على سبيل المجاز كما في قوله: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ} ووقع في رواية أبي داود وصححه ابن حبان من طريق سعيد المقبري عن أبي هريرة: "وأنه يتقي بجناحه الذي فيه الداء"، ولم يقع لي في شيء من الطرق تعيين الجناح الذي فيه الشفاء من غيره، لكن ذكر بعض العلماء أنه تأمله فوجده يتقي بجناحه الأيسر فعرف أن الأيمن هو الذي فيه الشفاء، والمناسبة في ذلك ظاهرة. وفي حديث أبي سعيد المذكور أنه يقدم السم ويؤخر الشفاء. ويستفاد من هذه الرواية تفسير الداء الواقع في حديث الباب وأن المراد به السم فيستغنى عن التخريج الذي تكلفه بعض الشراح فقال: إن في اللفظ مجازا وهو كون الداء في أحد الجناحين، فهو إما من مجاز الحذف والتقدير فإن في جناحيه سبب داء، إما مبالغة بأن يجعل كل الداء في أحد جناحيه لما كان سببا له. وقال آخر يحتمل أن يكون الداء ما يعرض في نفس المرء من التكبر عن أكله حتى ربما كان سببا لترك ذلك الطعام وإتلافه، والدواء ما يحصل من قمع النفس وحملها على التواضع. قوله: "وفي الآخر شفاء" في رواية أبي ذر "وفي الأخرى" وفي نسخة "والأخرى" بحذف حرف الجر، وكذا وقع في رواية سليمان بن بلال "في إحدى جناحيه داء والآخر شقاء" واستدل به لمن يجيز العطف على معمولي عاملين كالأخفش، وعلى هذا فيقرأ بخفض الآخر وبنصب شفاء فعطف الآخر على الأحد وعطف شفاء على داء، والعامل في إحدى حرف في، والعامل في داء إن، وهما عاملان في الآخر وشفاء، وسيبويه لا يجيز ذلك ويقول: إن حرف الجر حذف وبقي العمل وقد وقع صريحا في الرواية الأخرى "وفي الأخرى شفاء" ويحوز رفع شفاء على الاستئناف. واستدل بهذا الحديث على أن الماء القليل لا ينجس بوقوع ما لا نفس له سائلة فيه ووجه الاستدلال - كما رواه البيهقي عن الشافعي - أنه صلى الله عليه وسلم لا يأمر بغمس ما ينجس الماء إذا مات فيه لأن ذلك إفساد. وقال بعض من خالف في ذلك: لا يلزم من غمس الذباب موته فقد يغمسه برفق فلا يموت، والحي لا ينجس ما يقع فيه كما صرح البغوي باستنباطه من هذا الحديث. وقال أبو الطيب الطبري: لم يقصد النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث بيان النجاسة والطهارة، وإنما قصد بيان التداوي من ضرر الذباب، وكذا لم يقصد بالنهي عن الصلاة في معاطن الإبل والإذن في مراح الغنم طهارة ولا نجاسة وإنما أشار إلى أن الخشوع لا يوجد مع الإبل دون الغنم. قلت: وهو كلام صحيح، إلا أنه لا يمنع أن يستنبط منه حكم آخر، فإن الأمر بغمسه يتناول صورا منها أن يغمسه محترزا عن موته كما هو المدعى هنا، وأن لا يحترز بل يغمسه سواء مات أو لم يمت. ويتناول ما لو كان الطعام حارا فإن الغالب أنه في هذه الصورة يموت بخلاف الطعام البارد، فلما لم يقع التقييد حمل على العموم، لكن فيه نظر لأنه مطلق يصدق بصورة فإذا قام الدليل على صورة معينة حمل عليها. واستشكل ابن دقيق العيد إلحاق غير الذباب به في الحكم المذكور بطريق أخر فقال: ورد النص في الذباب فعدوه إلى كل ما لا نفس له سائلة، وفيه نظر، لجواز أن تكون العلة في الذباب قاصرة وهي عموم البلوى، وهذه مستنبطة. أو التعليل بأن في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء، وهذه منصوصة، وهذان المعنيان لا يوجدان في غيره فيبعد كون العلة مجرد كونه لا دم له سائل، بل الذي يظهر أنه جزء علة لا علة كاملة انتهى. وقد رجح جماعة من المتأخرين أن ما يعم وقوعه في الماء كالذباب والبعوض لا ينجس الماء، وما لا يعم كالعقارب ينجس، وهو قوي. وقال الخطابي: تكلم على هذا

(10/251)


الحديث من لا خلاق له فقال: كيف يجتمع الشفاء والداء في جناحي الذباب؟ وكيف يعلم ذلك من نفسه حتى يقدم جناح الداء؟ وما ألجأه إلى ذلك؟ قال: وهذا سؤال جاهل أو متجاهل، فإن كثيرا من الحيوان قد جمع الصفات المتضادة. وقد ألف الله بينها وقهرها على الاجتماع وجعل منها قوى الحيوان، وإن الذي ألهم النحلة اتخاذ البيت العجيب الصنعة للتعسيل فيه، وألهم النملة أن تدخر قوتها أوان حاجتها، وأن تكسر الحبة نصفين لئلا تستنبت، لقادر على إلهام الذبابة أن تقدم جناحا وتؤخر آخر. وقال ابن الجوزي: ما نقل عن هذا القائل ليس بعجيب، فإن النحلة تعسل من أعلاها وتلقي السم من أسفلها، والحية القاتل سمها تدخل لحومها في الترياق الذي يعالج به السم، والذبابة تسحق مع الإثمد لجلاء البصر. وذكر بعض حذاق الأطباء أن في الذباب قوة سمية يدل عليها الورم والحكة العارضة عن لسعه، وهي بمنزلة السلاح له، فإذا سقط الذباب فيما يؤذيه تلقاه بسلاحه، فأمر الشارع أن يقابل تلك السمية بما أودعه الله تعالى في الجناح الآخر من الشفاء فتتقابل المادتان فيزول الضرر بإذن الله تعالى. واستدل بقوله: "ثم لينزعه" على أنها تنجس بالموت كما هو أصح القولين للشافعي، والقول الأخر كقول أبي حنيفة، أنها لا تنجس، والله أعلم.
"خاتمة": اشتمل كتاب الطب من الأحاديث المرفوعة على مائة حديث وثمانية عشر حديثا، المعلق منها ثمانية عشر طريقا، والبقية موصولة، المكرر منها فيه وفيما مضى خمسة وثمانون طريقا، والخالص ثلاثة وثلاثون، وافقه مسلم على تخريجها سوى حديث أبي هريرة في نزول الداء والشفاء، وحديث ابن عباس "الشفاء في ثلاث"، وحديث عائشة في الحبة السوداء، وحديث أبي هريرة "فر من المجذوم"، وحديث أنس "رخصن لأهل بيت في الرقية"، وحديثه أن أبا طلحة كواه، وحديث عائشة في الصبر على الطاعون، وحديث أنس "اشف وأنت الشافي". وفيه من الآثار عن الصحابة فمن بعدهم ستة عشر أثرا، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.

(10/252)


كتاب اللباس
باب قول الله تعالى: {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده}
...
بسمِ الله الرَّحمنِ الرَّحيمِ
77 - كتاب اللباس
1 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ}
وَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كُلُوا وَاشْرَبُوا وَالْبَسُوا وَتَصَدَّقُوا فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلاَ مَخِيلَةٍ" .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُلْ مَا شِئْتَ وَالْبَسْ مَا شِئْتَ مَا أَخْطَأَتْكَ اثْنَتَانِ سَرَفٌ أَوْ مَخِيلَةٌ.
5783- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ يُخْبِرُونَهُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لاَ يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَى مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلاَءَ" .
قوله: "بسم الله الرحمن الرحيم - كتاب اللباس" وقول الله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} كذا للأكثر، وزاد ابن نعيم "{وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} ". وللنسفي "قال الله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ} الآية"

(10/252)


وكأنه أشار إلى سبب نزول الآية، وقد أخرجه الطبري من طريق جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: "كانت قريش تطوف بالبيت عراة يصفرون ويصفقون، فأنزل الله تعالى: { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ} الآية" وسنده صحيح. وأخرج الطبري وابن أبي حاتم بأسانيد جياد عن أصحاب ابن عباس كمجاهد وعطاء وغيرهما نحوه، وكذا عن إبراهيم النخعي والسدي والزهري وقتادة وغيرهم أنها نزلت في طواف المشركين بالبيت وهم عراة. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق عبد الله بن كثير عن طاوس في هذه الآية قال: "لم يأمرهم بالحرير والديباج ولكن كانوا إذا طاف أحدهم وعليه ثيابه ضرب وانتزعت منه" يعني فنزلت. وأخرج مسلم وأبو داود من حديث المسور بن مخرمة "سقط عني ثوبي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: خذ عليك ثوبك، ولا تمشوا عراة" . قوله: "وقال النبي صلى الله عليه وسلم: كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا، في غير إسراف ولا مخيلة" ثبت هذا التعليق للمستملي والسرخسي فقط وسقط للباقين. وهذا الحديث من الأحاديث التي لا توجد في البخاري إلا معلقة. ولم يصله في مكان آخر، وقد وصله أبو داود الطيالسي والحارث بن أبي أسامة في مسنديهما من طريق همام بن يحيى عن قتادة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، ولم يقع الاستثناء في رواية الطيالسي، وذكره الحارث ولم يقع في روايته: "وتصدقوا" وزاد في آخره: "فإن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عباده" ، ووقع لنا موصولا أيضا في "كتاب الشكر" لأبن أبي الدنيا بتمامه. وأخرج الترمذي في الفصل الأخير منه - وهي الزيادة المشار إليها - من طريق قتادة بهذا الإسناد، وهذا مصير من البخاري إلى تقوية شيخه عمرو بن شعيب، ولم أر في الصحيح إشارة إليها إلا في هذا الموضع. وقد قلب هذا الإسناد بعض الرواة فصحف والد عمرو بن شعيب، وقوله: "عن أبيه" ذكر ابن أبي حاتم في "العلل" أنه سأل أباه عن حديث رواه أبو عبيدة الحداد عن همام عن قتادة عن عمرو بن سعيد عن أنس فذكر هذا الحديث فقال: هذا خطأ، والصواب عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. ومناسبة ذكر هذا الحديث والأثر الذي بعده للآية ظاهرة، لأن في التي قبلها {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} والإسراف مجاوزة الحد في كل فعل أو قول، وهو في الإنفاق أشهر، وقد قال الله تعالى: { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} وقال تعالى: {فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} والمخيلة بوزن عظيمة وهي بمعنى الخيلاء وهو التكبر. وقال ابن التين هي بوزن مفعلة من اختال إذا تكبر قال والخيلاء بضم أوله وقد يكسر ممدودا التكبر. وقال الراغب: الخيلاء التكبر ينشأ عن فضيلة يتراءاها الإنسان من نفسه، والتخيل تصوير خيال الشيء في النفس، ووجه الحصر في الإسراف والمخيلة أن الممنوع من تناوله أكلا ولبسا وغيرهما إما لمعنى فيه وهو مجاوزة الحد وهو الإسراف. وإما للتعبد كالحرير إن لم تثبت علة النهي عنه وهو الراجح، ومجاوزة الحد تتناول مخالفة ما ورد به الشرع فيدخل الحرام، وقد يستلزم الإسراف الكبر وهو المخيلة قال الموفق عبد اللطيف البغدادي: هذا الحديث جامع لفضائل تدبير الإنسان نفسه، وفيه تدبير مصالح النفس والجسد في الدنيا والآخرة، فإن السرف في كل شيء يضر بالحسد ويضر بالمعيشة فيؤدي إلى الإتلاف ويضر بالنفس إذ كانت تابعة للجسد في أكثر الأحوال، والمخيلة تضر بالنفس حيث تكسبها العجب وتضر بالآخرة حيث تكسب الإثم، وبالدنيا حيث تكسب المقت من الناس. قوله: "وقال ابن عباس: كل ما شئت واشرب ما شئت ما أخطأتك اثنتان: سرف أو مخيلة" وصله ابن أبي شيبة في مصنفه والدينوري في "المجالسة" من رواية ابن عيينة عن إبراهيم بن ميسرة عن طاوس عن ابن عباس. أما ابن أبي شيبة فذكره بلفظه. وأما الدينوري فلم يذكر السرف. وأخرجه عبد الرزاق

(10/253)


عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه بلفظ: "أحل الله الأكل والشرب ما لم يكن سرف أو مخيلة" وكذا أخرجه الطبري من رواية محمد بن ثور عن معمر به. وقوله: "ما أخطأتك" كذا للجميع بإثبات الهمزة بعد الطاء، وأورده ابن التين بحذفها قال: والصواب إثباتها. قال صاحب "الصحاح" أخطأت ولا تقل أخطيت. وبعضهم يقوله: ومعنى قوله ما أخطأتك أي تناول ما شئت من المباحات ما دامت كل خصلة من هاتين تجاوزك. قال الكرماني: ويحتمل أن تكون "ما" نافية أي لم يوقعك في الخطأ اثنتان. قلت: وفيه بعد، ورواية معمر ترده حيث قال: "ما لم تكن سرف أو مخيلة" وقوله: "أو" قال الكرماني أتى بأو موضع الواو كقوله تعالى: {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} على تقدير النفي، أي أن انتفاء الأمرين لازم فيه. وحاصله أن اشتراط منع كل واحد منهما يستلزم اشتراط منعهما مجتمعين بطريق الأولى، قال ابن مالك: هو جائز عند أمن اللبس كما قال الشاعر:
فقالوا لنا ثنتان لا بد منهما ... صدور رماح أشرعت أو سلاسل
قوله: "إسماعيل" هو ابن أبي أويس. قوله: "عن نافع وعبد الله بن دينار وزيد بن أسلم" في "الموطأ" عن نافع وعن عبد الله بن دينار وعن زيد بن أسلم بتكرير "عن" وعند الترمذي من رواية معن عن مالك "سمع كلهم يحدث" هكذا جمع مالك رواية الثلاثة، وقد روى داود بن قيس رواية زيد بن أسلم عنه بزيادة قصة قال: "أرسلني أبي إلى ابن عمر قلت: أدخل؟ فعرف صوتي فقال: أي بني إذا جئت إلى قوم فقل: السلام عليكم، فإن ردوا عليك فقل أدخل؟" قال: "ثم رأى ابنه وقد انجر إزاره فقال: ارفع إزارك فقد سمعت" فذكر الحديث. وأخرجه أحمد والحميدي جميعا عن سفيان بن عيينة عن زيد نحوه، ساقه الحميدي، واختصره أحمد، وسميا الابن عبد الله بن واقد بن عبد الله بن عمر. وأخرجه أحمد أيضا من طريق معمر عن زيد بن أسلم "سمعت ابن عمر" فذكره بدون هذه القصة، وزاد قصة أبي بكر المذكورة في الباب الذي بعده، وقصة أخرى لابن عمر تأتي الإشارة إليها بعد بابين، وحديث نافع أخرجه مسلم من رواية أيوب والليث وأسامة بن زيد كلهم عن نافع قال مثل حديث مالك وزادوا فيه: "يوم القيامة". وقلت: وهذه الزيادة ثابتة عند رواة "الموطأ" عن مالك أيضا، وأخرجها أبو نعيم في "المستخرج" من طريق القعنبي. وأخرج الترمذي والنسائي الحديث من طريق أيوب عن نافع وفيه زيادة تتعلق بذيول النساء، وحديث عبد الله بن دينار أخرجه أحمد من طريق عبد العزيز بن مسلم عنه وفيه: "يوم القيامة" وكذا في رواية سالم وغير واحد عن ابن عمر كما سيأتي في الباب الذي بعده.

(10/254)


2 - باب مَنْ جَرَّ إِزَارَهُ مِنْ غَيْرِ خُيَلاَءَ
5784- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلاَءَ لَمْ يَنْظُرْ اللَّهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَحَدَ شِقَّيْ إِزَارِي يَسْتَرْخِي إِلاَّ أَنْ أَتَعَاهَدَ ذَلِكَ مِنْهُ؟ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لَسْتَ مِمَّنْ يَصْنَعُهُ خُيَلاَءَ" .
5785- حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الأَعْلَى عَنْ يُونُسَ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:

(10/254)


"خَسَفَتْ الشَّمْسُ وَنَحْنُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَامَ يَجُرُّ ثَوْبَهُ مُسْتَعْجِلاً حَتَّى أَتَى الْمَسْجِدَ وَثَابَ النَّاسُ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ فَجُلِّيَ عَنْهَا ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا وَقَالَ: إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهَا شَيْئاً فَصَلُّوا وَادْعُوا اللَّهَ حَتَّى يَكْشِفَهَا" .
قوله: "باب من جر إزاره من غير خيلاء" أي فهو مستثنى من الوعيد المذكور، لكن إن كان لعذر فلا حرج عليه، وإن كان لغير عذر فيأتي البحث فيه. وقد سقطت هذه الترجمة لابن بطال. قوله: "زهير بن معاوية" هو أبو خيثمة الجعفي. قوله: "من جر ثوبه" سيأتي شرحه بعد ثلاثة أبواب. قوله: "فقال أبو بكر" هو الصديق "إن أحد شقي إزاري" كذا بالتثنية للنسفي والكشميهني، ولغيرهما: "شق" بالإفراد، والشق بكسر المعجمة الجانب ويطلق أيضا على النصف. قوله: "يسترخي" بالخاء المعجمة، وكان سبب استرخائه نحافة جسم أبي بكر. قوله: "إلا أن أتعاهد ذلك منه" أي يسترخي إذا غفلت عنه، ووقع في رواية معمر عن زيد بن أسلم عند أحمد "إن إزاري يسترخي أحيانا" فكأن شده كان ينحل إذا تحرك بمشي أو غيره بغير اختياره، فإذا كان محافظا عليه لا يسترخي لأنه كلما كاد يسترخي شده. وأخرج ابن سعد من طريق طلحة بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر عن عائشة قالت: "كان أبو بكر أحنى لا يستمسك إزاره يسترخي عن حقويه" ومن طريق قيس بن أبي حازم قال: "دخلت على أبي بكر وكان رجلا نحيفا". قوله: "لست ممن يصنعه خيلاء" في رواية زيد بن أسلم "لست منهم" وفيه أنه لا حرج على من انجر إزاره بغير قصده مطلقا، وأما ما أخرجه ابن أبي شيبة عن ابن عمر أنه كان يكره جر الإزار على كل حال فقال ابن بطال هو من تشديداته، وإلا فقد روى هو حديث الباب فلم يخف عليه الحكم. قلت: بل كراهة ابن عمر محمولة على من قصد ذلك سواء كان عن مخيلة أم لا، وهو المطابق لروايته المذكورة، ولا يظن بابن عمر أنه يؤاخذ من لم يقصد شيئا وإنما يريد بالكراهة من انجر إزاره بغير اختياره ثم تمادى على ذلك ولم يتداركه وهذا متفق عليه، وإن اختلفوا هل الكراهة فيه للتحريم أو للتنزيه. وفي الحديث اعتبار أحوال الأشخاص في الأحكام باختلافها، وهو أصل مطرد غالبا. قوله: "حدثني محمد" لم أره منسوبا لأحد من الرواة، وأغفلت التنبيه على هذا الموضع بخصوصه في المقدمة، وقد صرح ابن السكن في موضعين غير هذا بأن محمدا الراوي عن عبد الأعلى هو ابن سلام، فيحمل هذا أيضا على ذلك. وقد أخرجه الإسماعيلي من رواية محمد بن المثنى عن عبد الأعلى فيحتمل أن يكون هو المراد هنا والله أعلم. وعبد الأعلى هو ابن عبد الأعلى السامي بالمهملة البصري بالموحدة، ويونس هو ابن عبيد، والحسن هو البصري، وقد تقدم الحديث في صلاة الكسوف مع شرحه، والغرض منه هنا قوله: "فقام يجر ثوبه مستعجلا" فإن فيه أن الجر إذا كان بسبب الإسراع لا يدخل في النهي، فيشعر بأن النهي يختص بما كان للخيلاء، لكن لا حجة فيه لمن قصر النهي على ما كان للخيلاء حتى أجاز لبس القميص الذي ينجر على الأرض لطوله كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. وقوله: "وثاب الناس" بمثلثة ثم موحدة أي رجعوا إلى المسجد بعد أن كانوا خرجوا منه.

(10/255)


3 - باب التَّشمُّرِ فِي الثِّيَابِ
5786- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا ابْنُ شُمَيْلٍ أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ أَبِي زَائِدَةَ أَخْبَرَنَا عَوْنُ بْنُ أَبِي جُحَيْفَةَ عَنْ أَبِيهِ أَبِي جُحَيْفَةَ قَالَ: "... فَرَأَيْتُ بِلاَلاً جَاءَ بِعَنَزَةٍ فَرَكَزَهَا ثُمَّ أَقَامَ الصَّلاَةَ فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ فِي حُلَّةٍ مُشَمِّراً فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ إِلَى الْعَنَزَةِ وَرَأَيْتُ النَّاسَ وَالدَّوَابَّ يَمُرُّونَ بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ وَرَاءِ الْعَنَزَةِ".
قوله: "باب التشمر في الثياب" هو بالشين المعجمة وتشديد الميم: رفع أسفل الثوب. قوله: "حدثني إسحاق" هو ابن راهويه جزم بذلك أبو نعيم في "المستخرج" وابن شميل هو النضر، وعمر بن أبي زائدة هو الهمداني بسكون الميم الكوفي أخو زكريا، واسم أبي زائدة خالد ويقال هبيرة، ولعمر في البخاري أحاديث يسيرة. قوله: "قال فرأيت" كذا للأكثر هو معطوف على جمل من الحديث، فإن أوله "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في قبة حمراء من أدم" الحديث، وفيه: "ثم رأيت بلالا الخ " هكذا أخرجه المصنف في أوائل الصلاة عن محمد بن عرعرة عن عمر بن أبي زائدة، فلما اختصره أشار إلى أن المذكور ليس أول الحديث. ووقع للكشميهني في أوله "رأيت" وكذا في رواية النسفي، وكذا أخرجه أبو نعيم من مسند إسحاق بن راهويه عن النضر، وأخرجه من وجه آخر عن إسحاق قال: أخبرنا أبو عامر العقدي حدثنا عمر بن أبي زائدة. وذكر أن رواية إسحاق عن النضر لم يقع فيها قوله: "مشمرا" ووقع في روايته عن أبي عامر، وقد وقعت في الباب عن إسحاق عن النضر فيحتمل أن يكون إسحاق هو ابن منصور، ولم يقع لفظ: "مشمرا" للإسماعيلي فإنه أخرجه من طريق يحيى بن زكريا بن أبي زائدة عن عمه عمر بلفظ: "فخرج النبي صلى الله عليه وسلم كأني أنظر إلى وبيص ساقيه" ثم قال: ورواه الثوري عن عون بن أبي جحيفة فقال في حديثه "كأني أنظر إلى بريق ساقيه" قال الإسماعيلي: وهذا هو التشمير ويؤخذ منه أن النهي عن كف الثياب في الصلاة محله في غير ذيل الإزار، ويحتمل أن تكون هذه الصورة وقعت اتفاقا، فإنها كانت في حالة السفر وهو محل التشمير.

(10/256)


4 - باب مَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ فَهُوَ فِي النَّارِ
5787- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ مِنْ الإِزَارِ فَفِي النَّارِ" .
قوله: "باب" بالتنوين "ما أسفل من الكعبين فهو في النار" كذا أطلق في الترجمة لم يقيده بالإزار كما في الخبر إشارة إلى التعميم في الإزار والقميص وغيرهما، وكأنه أشار إلى لفظ حديث أبي سعيد، وقد أخرجه مالك وأبو داود والنسائي وابن ماجه وصححه أبو عوانة وابن حبان كلهم من طريق العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب عن أبيه عن أبي سعيد ورجاله رجال مسلم، وكأنه أعرض عنه لاختلاف فيه وقع على العلاء وعلى أبيه فرواه أكثر أصحاب العلاء عنه هكذا، وخالفهم زيد بن أبي أنيسة فقال: "عن العلاء عن نعيم المجمر عن أبي عمر" أخرجه الطبراني، ورواه محمد بن عمرو ومحمد بن إبراهيم التيمي جميعا عن عبد الرحمن بن يعقوب عن أبي هريرة أخرجه النسائي، وصحح الطريقين النسائي ورجح الدار قطني الأول. وأخرج أبو داود والنسائي وصححه الحاكم من حديث أبي جري بالجيم والراء مصغر واسمه جابر بن سليم رفعه قال في أثناء حديث مرفوع "وارفع إزارك إلى نصف الساق، فإن أبيت فإلى الكعبين، إياك وإسبال الإزار فإنه من المخيلة، وإن الله لا يحب المخيلة" وأخرج النسائي وصحح الحاكم

(10/256)


أيضا من حديث حذيفة بلفظ: "الإزار إلى أنصاف الساقين، فإن أبيت فأسفل، فإن أبيت فمن وراء الساقين، ولا حق للكعبين في الإزار". قوله: "عن أبي هريرة" في رواية الإسماعيلي من طريق عبد الرحمن بن مهدي عن شعبة "سمعت سعيدا المقبري سمعت أبا هريرة". قوله: "ما أسفل من الكعبين من الإزار في النار" "ما" موصولة وبعض الصلة محذوف وهو كان، وأسفل خبره، وهو منصوب ويجوز الرفع، أي ما هو أسفل وهو أفعل تفضيل، ويحتمل أن يكون فعلا ماضيا، ويجوز أن تكون "ما" نكرة موصوفة بأسفل، قال الخطابي: يريد أن الموضع الذي يناله الإزار من أسفل الكعبين في النار، فكنى بالثوب عن بدن لابسه، ومعناه أن الذي دون الكعبين من القدم يعذب عقوبة، وحاصله أنه من تسمية الشيء باسم ما جاوره أو حل فيه، وتكون "من" بيانية، ويحتمل أن تكون سببية، ويكون المراد الشخص نفسه، أو المعنى ما أسفل من الكعبين من الذي يسامت الإزار في النار، أو التقدير لابس ما أسفل من الكعبين الخ، أو التقدير أن فعل ذلك محسوب في أفعال أهل النار. أو فيه فقديم وتأخير أي ما أسفل من الإزار من الكعبين في النار، وكل هذا استبعاد ممن قاله لوقوع الإزار حقيقة في النار، وأصله ما أخرج عبد الرزاق عن عبد العزيز بن أبي رواد "أن نافعا سئل عن ذلك فقال: وما ذنب الثياب؟ بل هو من القدمين" اهـ. لكن أخرج الطبراني من طريق عبد الله بن محمد بن عقيل عن ابن عمر قال: "رآني النبي صلى الله عليه وسلم أسبلت إزاري فقال: يا ابن عمر، كل شيء يمس الأرض من الثياب في النار" وأخرج الطبراني بسند حسن عن ابن مسعود أنه "رأى أعرابيا يصلي قد أسبل فقال: المسبل في الصلاة ليس من الله في حل ولا حرام" ومثل هذا لا يقال بالرأي، فعلى هذا لا مانع من حمل الحديث على ظاهره، ويكون من وادي {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} ، أو يكون في الوعيد لما وقعت به المعصية إشارة إلى أن الذي يتعاطى المعصية أحق بذلك. قوله: "في النار" في رواية النسائي من طريق أبي يعقوب وهو عبد الرحمن بن يعقوب "سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تحت الكعبين من الإزار ففي النار" بزيادة فاء، وكأنها دخلت لتضمين ما معنى الشرط أي ما دون الكعبين من قدم صاحب الإزار المسبل فهو في النار عقوبة له على فعله، وللطبراني من حديث ابن عباس رفعه: "كل شيء جاوز الكعبين من الإزار في النار" وله من حديث عبد الله بن مغفل رفعه: "أزرة المؤمن إلى أنصاف الساقين، وليس عليه حرج فيما بينه وبين الكعبين، وما أسفل من ذلك ففي النار" وهذا الإطلاق محمول على ما ورد من قيد الخيلاء، فهو الذي ورد فيه الوعيد بالاتفاق، وأما مجرد الإسبال فسيأتي البحث فيه في الباب الذي يليه، ويستثنى من إسبال الإزار مطلقا ما أسبله لضرورة كمن يكون بكعبيه جرح مثلا يؤذيه الذباب مثلا إن لم يستره بإزاره حيث لا يجد غيره، نبه على ذلك شيخنا في "شرح الترمذي" واستدل على ذلك بإذنه صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن عوف في لبس القميص الحرير من أجل الحكة. والجامع بينهما جواز تعاطي ما نهي عنه من أجل الضرورة، كما يجوز كشف العورة للتداوي، ويستثنى أيضا من الوعيد في ذلك النساء كما سيأتي البحث فيه في الباب الذي يليه إن شاء الله تعالى.

(10/257)


5 - باب مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ مِنْ الْخُيَلاَءِ
5788- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ

(10/257)


اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لاَ يَنْظُرُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى مَنْ جَرَّ إِزَارَهُ بَطَراً" .
5789- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ قال النبي صلى الله عليه وسلم أَوْ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي فِي حُلَّةٍ تُعْجِبُهُ نَفْسُهُ مُرَجِّلٌ جُمَّتَهُ إِذْ خَسَفَ اللَّهُ بِهِ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ" .
5790- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "بَيْنَا رَجُلٌ يَجُرُّ إِزَارَهُ إِذْ خُسِفَ بِهِ فَهُوَ يَتَجَلَّلُ فِي الأَرْضِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ" تَابَعَهُ يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ وَلَمْ يَرْفَعْهُ شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ أَخْبَرَنَا أَبِي عَنْ عَمِّهِ جَرِيرِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ كُنْتُ مَعَ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَلَى بَابِ دَارِهِ فَقَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ... نَحْوَهُ".
5791- حَدَّثَنَا مَطَرُ بْنُ الْفَضْلِ حَدَّثَنَا شَبَابَةُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ لَقِيتُ مُحَارِبَ بْنَ دِثَارٍ عَلَى فَرَسٍ وَهُوَ يَأْتِي مَكَانَهُ الَّذِي يَقْضِي فِيهِ فَسَأَلْتُهُ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَحَدَّثَنِي فَقَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ مَخِيلَةً لَمْ يَنْظُرْ اللَّهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" فَقُلْتُ لِمُحَارِبٍ أَذَكَرَ إِزَارَهُ قَالَ مَا خَصَّ إِزَاراً وَلاَ قَمِيصاً تَابَعَهُ جَبَلَةُ بْنُ سُحَيْمٍ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَزَيْدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ اللَّيْثُ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مِثْلَهُ وَتَابَعَهُ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ وَعُمَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَقُدَامَةُ بْنُ مُوسَى عَنْ سَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خيلاء" .
قوله: "باب من جر ثوبه من الخيلاء" أي بسبب الخيلاء. حديث أبي هريرة بلفظ: "لا ينظر الله إلى من جر إزاره بطرا" ومثله لأبي داود والنسائي في حديث أبي سعيد المذكور قريبا. والبطر بموحدة ومهملة مفتوحتين قال عياض: جاء في الرواية: "بطرا" بفتح الطاء على المصدر وبكسرها على الحال من فاعل جر أي جره تكبرا وطغيانا، وأصل البطر الطغيان عند النعمة، واستعمل بمعنى التكبر. وقال الراغب: أصل البطر دهش يعتري المرء عند هجوم النعمة عن القيام بحقها. قوله: "لا ينظر الله" أي لا يرحمه، فالنظر إذا أضيف إلى الله كان مجازا، وإذا أضيف إلى المخلوق كان كناية، ويحتمل أن يكون المراد لا ينظر الله إليه نظر رحمة. وقال شيخنا في "شرح الترمذي" عبر عن المعنى الكائن عند النظر بالنظر لأن من نظر إلى متواضع رحمه ومن نظر إلى متكبر مقته، فالرحمة والمقت متسببان عن النظر. وقال الكرماني: نسبة النظر لمن يجوز عليه النظر كناية، لأن من اعتد بالشخص التفت إليه، ثم كثر حتى صار عبارة عن الإحسان وإن لم يكن هناك نظر، ولمن لا يجوز عليه حقيقة النظر وهو تقليب الحدقة والله منزه عن ذلك، فهو بمنعى الإحسان مجاز عما وقع في حق غيره كناية، وقوله:

(10/258)


"يوم القيامة" إشارة إلى أنه محل الرحمة المستمرة، بخلاف رحمة الدنيا فإنها قد تنقطع بما يتجدد من الحوادث. ويؤيد ما ذكر من حمل النظر على الرحمة أو المقت ما أخرجه الطبراني وأصله في أبي داود من حديث أبي جري "إن رجلا ممن كان قبلكم لبس بردة فتبختر فيها، فنظر الله إليه فمقته، فأمر الأرض فأخذته" الحديث. قوله: "من" يتناول الرجال والنساء في الوعيد المذكور على هذا الفعل المخصوص، وقد فهمت ذلك أم سلمة رضي الله عنها فأخرج النسائي والترمذي وصححه من طريق أيوب عن نافع عن ابن عمر متصلا بحديثه المذكور في الباب الأول "فقالت أم سلمة: فكيف تصنع النساء بذيولهن؟ فقال: يرخين شبرا، فقالت: إذا تنكشف أقدامهن؛ قال: فيرخينه ذراعا لا يزدن عليه" لفظ الترمذي. وقد عزا بعضهم هذه الزيادة لمسلم فوهم، فإنها ليست عنده، وكأن مسلما أعرض عن هذه الزيادة للاختلاف فيها على نافع، فقد أخرجه أبو داود والنسائي وغيرهما من طريق عبيد الله بن عمر عن سليمان بن يسار عن أم سلمة، وأخرجه أبو داود من طريق أبي بكر بن نافع والنسائي من طريق أيوب بن موسى ومحمد بن إسحاق ثلاثتهم عن نافع عن صفية بنت أبي عبيد عن أم سلمة، وأخرجه النسائي من رواية يحيى بن أبي كثير عن نافع عن أم سلمة نفسها وفيه اختلافات أخرى، ومع ذلك فله شاهد من حديث ابن عمر أخرجه أبو داود من رواية أبي الصديق عن ابن عمر قال: "رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمهات المؤمنين شبرا، ثم استزدنه فزادهن شبرا، فكن يرسلن إلينا فنذرع لهن ذراعا" وأفادت هذه الرواية قدر الذراع المأذون فيه وأنه شبران بشبر اليد المعتدلة، ويستفاد من هذا الفهم التعقب على من قال: إن الأحاديث المطلقة في الزجر عن الإسبال مقيدة بالأحاديث الأخرى المصرحة بمن فعله خيلاء، قال النووي: ظواهر الأحاديث في تقييدها بالجر خيلاء يقتضي أن التحريم مختص بالخيلاء، ووجه التعقب أنه لو كان كذلك لما كان في استفسار أم سلمة عن حكم النساء في جر ذيولهن معنى، بل فهمت الزجر عن الإسبال مطلقا سواء كان عن مخيلة أم لا، فسألت عن حكم النساء في ذلك لاحتياجهن إلى الإسبال من أجل ستر العورة، لأن جميع قدمها عورة، فبين لها أن حكمهن في ذلك خارج عن حكم الرجال في هذا المعنى فقط وقد نقل عياض الإجماع على أن المنع في حق الرجال دون النساء، ومراده منع الإسبال لتقريره صلى الله عليه وسلم أم سلمة على فهمها. إلا أنه بين لها أنه عام مخصوص لتفرقته في الجواب بين الرجال والنساء في الإسبال، وتبيينه القدر الذي يمنع ما بعده في حقهن كما بين ذلك في حق الرجال. والحاصل أن للرجال حالين: حال استحباب، وهو أن يقتصر بالإزار على نصف الساق وحال جواز وهو إلى الكعبين. وكذلك للنساء حالان حال استحباب وهو ما يزيد على ما هو جائز للرجال بقدر الشبر وحال جواز بقدر ذراع. ويؤيد هذا التفصيل في حق النساء ما أخرجه الطبراني في "الأوسط" من طريق معتمر عن حميد عن أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم شبر لفاطمة من عقبها شبرا وقال: هذا ذيل المرأة" وأخرجه أبو يعلى بلفظ: "شبر من ذيلها شبرا أو شبرين وقال لا تزدن على هذا" ولم يسم فاطمة. قال الطبراني: تفرد به معتمر عن حميد. قلت: و"أو" شك من الراوي، والذي جزم بالشبر هو المعتمد، ويؤيده ما أخرجه الترمذي من حديث أم سلمة "أن النبي صلى الله عليه وسلم شبر لفاطمة شبرا" ويستنبط من سياق الأحاديث أن التقييد بالجر خرج للغالب، وأن البطر والتبختر مذموم ولو لمن شمر ثوبه، والذي يجتمع من الأدلة أن من قصد بالملبوس الحسن إظهار نعمة الله عليه مستحضرا لها شاكرا عليها غير محتقر لمن ليس له مثله لا يضره ما لبس من المباحات، ولو كان في غاية النفاسة. ففي صحيح مسلم عن ابن مسعود "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة

(10/259)


من كبر، فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة، فقال: "إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس" . وقوله: "وغمط" بفتح المعجمة وسكون الميم ثم مهملة: الاحتقار. وأما ما أخرجه الطبري من حديث علي "إن الرجل يعجبه أن يكون شراك نعله أجود من شراك صاحبه" فيدخل في قوله تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ} الآية فقد جمع الطبري بينه وبين حديث ابن مسعود بأن حديث علي محمول على من أحب ذلك ليتعظم به على صاحبه، لا من أحب ذلك ابتهاجا بنعمة الله عليه، فقد أخرج الترمذي وحسنه من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رفعه: "إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده" وله شاهد عند أبي يعلى من حديث أبي سعيد. وأخرج النسائي وأبو داود وصححه ابن حبان والحاكم من حديث أبي الأحوص عوف بن مالك الجشمي عن أبيه "إن النبي صلى الله عليه وسلم قال له ورآه رث الثياب: إذا آتاك الله مالا فلير أثره عليك" أي بأن يلبس ثيابا تليق بحاله من النفاسة والنظافة ليعرفه المحتاجون للطلب منه، مع مراعاة القصد وترك الإسراف جمعا بين الأدلة. "تكمله": الرجل الذي أبهم في حديث ابن مسعود هو سواد بن عمرو الأنصاري، وأخرجه الطبري من طريقه، ووقع ذلك لجماعة غيره. قوله: "قال النبي صلى الله عليه وسلم، أو قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم" شك من آدم شيخ البخاري، وقد أخرجه مسلم من رواية غندر وغيره عن شعبة "فقالوا: عن النبي صلى الله عليه وسلم". وكذا أخرجه من رواية الربيع بن مسلم عن محمد بن زياد. قوله: "بينما رجل" زاد مسلم من طريق أبي رافع عن أبي هريرة "ممن كان قبلكم" ومن ثم أخرجه البخاري في ذكر بني إسرائيل كما مضى، وخفي هذا على بعض الشراح، وقد أخرجه أحمد من حديث أبي سعيد وأبو يعلى من حديث أنس وفي روايتهما أيضا: "ممن كان قبلكم" وبذلك جزم النووي، وأما ما أخرجه أبو يعلى من طريق كريب قال: "كنت أقود ابن عباس فقال: حدثني العباس قال: بينا أنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أقبل رجل يتبختر بين ثوبين" الحديث فهو ظاهر في أنه وقع في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فسنده ضعيف، والأول صحيح، ويحتمل التعدد، أو الجمع بأن المراد من كان قبل المخاطبين بذلك كأبي هريرة، فقد أخرج أبو بكر بن أبي شيبة وأبو يعلى وأصله عند أحمد ومسلم: "أن رجلا من قريش أتى أبا هريرة في حلة يتبختر فيها فقال: يا أبا هريرة إنك تكثر الحديث، فهل سمعته يقول في حلتي هذه شيئا؟ فقال: والله إنكم لتؤذوننا، ولولا ما أخذ الله على أهل الكتاب ليبيننه للناس ولا يكتمونه ما حدثتكم بشيء، سمعت" فذكر الحديث وقال في آخره: "فوالله ما أدري لعله كان من قومك" وذكر السهيلي في "مبهمات القرآن" في سورة والصافات عن الطبري أن اسم الرجل المذكور الهيزن وأنه من أعراب فارس. قلت: وهذا أخرجه الطبري في التاريخ من طريق ابن جريج عن شعيب الجياني وجزم الكلاباذي في "معاني الأخبار" بأنه قارون، وكذا ذكر الجوهري في "الصحاح" وكأن المستند في ذلك ما أخرجه الحارث بن أبي أسامة من حديث أبي هريرة وابن عباس بسند ضعيف جدا قالا "خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم" فذكر الحديث الطويل وفيه: "ومن لبس ثوبا فاختال فيه خسف به من شفير جهنم فيتجلجل فيها" لأن قارون لبس حلة فاختال فيها فخسف به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة. وروى الطبري في التاريخ من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة قال: "ذكر لنا أنه يخسف بقارون كل يوم قامة، وأنه يتجلجل فيها لا يبلغ قعرها إلى يوم القيامة". قوله: "يمشي في حلة" الحلة ثوبان أحدهما فوق الآخر، وقيل: إزار ورداء وهو الأشهر، ووقع في رواية الأعرج وهمام جميعا عن أبي هريرة عند مسلم: "بينما رجل يتبختر في برديه". قوله:

(10/260)


"تعجبه نفسه" في رواية الربيع بن مسلم: "فأعجبته جمته وبرداه" ومثله لأحمد في رواية أبي رافع، وفي حديث ابن عمر "بينا رجل يجر إزاره" هكذا هنا، وتقدم في أواخر ذكر بني إسرائيل بزيادة "من الخيلاء" والاقتصار على الإزار لا يدفع وجود الرداء، وإنما خص الإزار بالذكر لأنه هو الذي يظهر به الخيلاء غالبا. ووقع في حديث أبي سعيد عند أحمد وأنس عند أبي يعلى "خرج في بردين يختال فيهما" قال القرطبي: إعجاب المرء بنفسه هو ملاحظته لها بعين الكمال مع نسيان نعمة الله، فإن احتقر غيره مع ذلك فهو الكبر المذموم. قوله: "مرجل" بتشديد الجيم "جمته" بضم الجيم وتشديد الميم هي مجتمع الشعر إذا تدلى من الرأس إلى المنكبين وإلى أكثر من ذلك، وأما الذي لا يتجاوز الأذنين فهو الوفرة، وترجيل الشعر تسريحه ودهنه. قوله: "إذ خسف الله به" في رواية الأعرج "فخسف الله به الأرض" والأول أظهر في سرعة وقوع ذلك به. قوله: "فهو يتجلجل إلى يوم القيامة" في حديث ابن عمر "فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة" وفي رواية الربيع بن مسلم عند مسلم: "فهو يتجلجل في الأرض حتى تقوم الساعة" ومثله في رواية أبي رافع، ووقع في رواية همام عن أبي هريرة عند أحمد "حتى يوم القيامة" والتجلجل بجيمين التحرك، وقيل: الجلجلة الحركة مع صوت. وقال ابن دريد: كل شيء خلطت بعضه ببعض فقد جلجلته. وقال ابن فارس: التجلجل أن يسوخ في الأرض مع اضطراب شديد ويندفع من شق إلى شق، فالمعنى يتجلجل في الأرض أي ينزل فيها مضطربا متدافعا. وحكى عياض أنه روي "يتجلل" بجيم واحدة ولام ثقيلة وهو بمعنى يتغطى، أي تغطيه الأرض. وحكى عن بعض الروايات أيضا: "يتخلخل" بخاءين معجمتين واستبعدها إلا أن يكون من قولهم خلخلت العظم إذا أخذت ما عليه من اللحم، وجاء في غير الصحيحين "يتخلخل" بحاءين مهملتين. قلت: والكل تصحيف إلا الأول، ومقتضى هذا الحديث أن الأرض لا تأكل جسد هذا الرجل فيمكن أن يلغز به فيقال: كافر لا يبلى جسده بعد الموت. قوله: "فهو يتجلجل إلى يوم القيامة" في حديث ابن عمر "فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة" وفي رواية الربيع بن مسلم عند مسلم: "فهو يتجلجل في الأرض حتى تقوم الساعة" ومثله في رواية أبي رافع، ووقع في رواية همام عن أبي هريرة عند أحمد "حتى يوم القيامة" والتجلجل بجيمين التحرك، وقيل: الجلجلة الحركة مع صوت. وقال ابن دريد: كل شيء خلطت بعضه ببعض فقد جلجلته. وقال ابن فارس: التجلجل أن يسوخ في الأرض مع اضطراب شديد ويندفع من شق إلى شق، فالمعنى يتجلجل في الأرض أي ينزل فيها مضطربا متدافعا. وحكى عياض أنه روي "يتجلل" بجيم واحدة ولام ثقيلة وهو بمعنى يتغطى، أي تغطيه الأرض. وحكى عن بعض الروايات أيضا: "يتخلخل" بخاءين معجمتين واستبعدها إلا أن يكون من قولهم خلخلت العظم إذا أخذت ما عليه من اللحم، وجاء في غير الصحيحين "يتخلخل" بحاءين مهملتين. قلت: والكل تصحيف إلا الأول، ومقتضى هذا الحديث أن الأرض لا تأكل جسد هذا الرجل فيمكن أن يلغز به فيقال: كافر لا يبلى جسده بعد الموت. قوله: "تابعه يونس" يعني ابن يزيد "عن الزهري" وروايته تقدمت موصولة في أواخر ذكر بني إسرائيل. قوله: "ولم يرفعه شعيب عن الزهري" وصله الإسماعيلي من طريق أبي اليمان عنه بتمامه ولفظه: "جر إزاره مسبلا من الخيلاء". قوله: "وهب بن جرير حدثنا أبي" هو جرير بن أبي حازم بن زيد الأزدي. قوله: "عن عمه جرير بن زيد" هو أبو سلمة البصري قاله أبو حاتم الرازي، وليس لجرير بن زيد في البخاري سوى هذا الحديث، وقد خالف فيه الزهري فقال عن سالم عن أبي هريرة والزهري يقول: "عن سالم عن أبيه" لكن قوى عند البخاري أنه عن سالم عن أبيه وعن أبي هريرة معا لشدة إتقان الزهري ومعرفته بحديث سالم ولقول جرير بن زيد في روايته: "كنت مع سالم على باب داره فقال: سمعت أبا هريرة" فإنها قرينة في أنه حفظ ذلك عنه. ووقع عند أبي نعيم في "المستخرج" من طريق علي بن سعيد عن وهب بن جرير "فمر به شاب من قريش يجر إزاره فقال: حدثنا أبو هريرة" وهذا أيضا مما يقوي أن جرير بن زيد ضبطه، لأن مثل هذه القصة لأبي هريرة قد رواها أبو رافع عنه كما قدمت أن مسلما أخرجها كذلك، وقد أخرجه النسائي في الزينة من "السنن" من رواية علي بن المديني عن وهب بن جرير بهذا السند فقال في روايته: "عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبي هريرة" وأورده ابن عساكر في ترجمة عبد الله بن عمر عن أبي هريرة، وهو وهم نبه عليه المزي، وكأنه وقع في نسخته تصحيف "ابن عبد الله" فصارت عن عبد الله بن عمر. قوله: "سمع النبي صلى الله عليه وسلم نحوه" في رواية أبي نعيم المذكورة "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بينما رجل يتبختر في حلة تعجبه نفسه خسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم

(10/261)


القيامة". ذكر طرق أخرى للحديث الثاني. قوله: "محارب" بالمهملة والموحدة وزن مقاتل، ودثار بكسر المهملة وتخفيف المثلثة. قوله: "مكانه الذي يقضي فيه" كان محارب قد ولي قضاء الكوفة، قال عبد الله بن إدريس الأودي عن أبيه "رأيت الحكم وحمادا في مجلس قضائه" وقال سماك بن حرب "كان أهل الجاهلية إذا كان في الرجل ست خصال سودوه: الحلم والعقل والسخاء والشجاعة والبيان والتواضع، ولا يكملن في الإسلام إلا بالعفاف، وقد اجتمعن في هذا الرجل" يعني محارب بن دثار. وقال الداودي: لعل ركوبه الفرس كان ليغيظ به الكفار ويرهب به العدو. وتعقبه ابن التين بأن ركوب الخيل جائز فلا معنى للاعتذار عنه. قلت: لكن المشي أقرب إلى التواضع، ويحتمل أن منزله كان بعيدا عن منزل حكمه. قوله: "فقلت لمحارب: أذكر إزاره؟ قال: ما خص إزارا ولا قميصا" كان سبب سؤال شعبة عن الإزار أن أكثر الطرق جاءت بلفظ الإزار، وجواب محارب حاصله أن التعبير بالثوب يشمل الإزار وغيره، وقد جاء التصريح بما اقتضاه ذلك، فأخرج أصحاب السنن إلا الترمذي واستغربه ابن أبي شيبة من طريق عبد العزيز بن أبي داود عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الإسبال في الإزار والقميص والعمامة من جر منها شيئا خيلاء" الحديث كحديث الباب. وعبد العزيز فيه مقال. وقد أخرج أبو داود من رواية يزيد بن أبي سمية عن ابن عمر قال: "ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: في الإزار فهو في القميص" وقال الطبري: إنما ورد الخبر بلفظ الإزار لأن أكثر الناس في عهده كانوا يلبسون الإزار والأردية، فلما لبس الناس القميص والدراريع كان حكمها حكم الإزار في النهي. قال ابن بطال: هذا قياس صحيح لو لم يأت النص بالثوب، فإنه يشمل جميع ذلك، وفي تصوير جر العمامة نظر، إلا أن يكون المراد ما جرت به عادة العرب من إرخاء العذبات، فمهما زاد على العادة في ذلك كان من الإسبال. وقد أخرج النسائي من حديث جعفر بن عمرو بن أمية عن أبيه قال: "كأني أنظر الساعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر وعليه عمامة قد أرخى طرفها بين كتفيه" وهل يدخل في الزجر عن جر الثوب تطويل أكمام القميص ونحوه؟ محل نظر، والذي يظهر أن من أطالها حتى خرج عن العادة كما يفعله بعض الحجازيين دخل في ذلك. قال شيخنا في "شرح الترمذي" ما مس الأرض منها خيلاء لا شك في تحريمه. قال: ولو قيل بتحريم ما زاد على المعتاد لم يكن بعيدا، ولكن حدث للناس اصطلاح بتطويلها، وصار لكل نوع من الناس شعار يعرفون به، ومهما كان من ذلك على سبيل الخيلاء فلا شك في تحريمه، وما كان على طريق العادة فلا تحريم فيه ما لم يصل إلى جر الذيل الممنوع. ونقل عياض عن العلماء كراهة كل ما زاد على العادة وعلى المعتاد في اللباس من الطول والسعة. قلت: وسأذكر البحث فيه قريبا. قوله: "تابعه جبلة" بفتح الجيم والموحدة "ابن سحيم" بمهملتين مصغر، وقد وصل روايته النسائي من طريق شعبة عنه عن ابن عمر بلفظ: "من جر ثوبا من ثيابه من مخيلة فإن الله لا ينظر إليه" وأخرجه مسلم من طريق شعبة عن محارب بن دثار وجبلة بن سحيم جميعا عن ابن عمر ولم يسق لفظه. قوله: "وزيد بن أسلم" تقدم الكلام عليه في أول اللباس. قوله: "وزيد بن عبد الله" أي ابن عمر يعني تابعوا محارب بن دثار في روايته عن ابن عمر بلفظ: "الثوب" لا بلفظ الإزار، جزم بذلك الإسماعيلي، ولم تقع لي رواية زيد موصولة بعد. وقد أخرج أبو عوانة هذا الحديث من رواية ابن وهب عن عمر بن محمد بن زيد بن عبد الله عن أبيه بلفظ: "إن الذي يجر ثيابه من الخيلاء لا ينظر الله إليه يوم القيامة" وسيأتي لمسلم مقرونا بسالم ونافع. وأخرج البخاري من رواية ابن وهب عن عمر بن محمد بن زيد عن جده حديثا آخر. فلعل مراده

(10/262)


بقوله هنا عن أبيه جده والله أعلم. قوله: "وقال الليث عن نافع يعني عن ابن عمر مثله" وصله مسلم عن قتيبة عنه، ولم يسق لفظه بل قال مثل حديث مالك، وأخرجه النسائي عن قتيبة فذكره بلفظ الثوب، وكذا أخرجه من رواية عبيد الله بن عمر عن نافع. قوله: "وتابعه موسى بن عقبة وعمر بن محمد وقدامة بن موسى عن سالم عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: من جر ثوبه خيلاء" أما رواية موسى بن عقبة فتقدمت في أول الباب الثاني من كتاب اللباس، وأما رواية عمر بن محمد وهو ابن زيد بن عبد الله بن عمر فوصلها مسلم من طريق ابن وهب "أخبرني عمر بن محمد عن أبيه وسالم ونافع عن ابن عمر" بلفظ: "الذي يجر ثيابه من المخيلة" الحديث. وأما رواية قدامة بن موسى وهو ابن عمر بن قدامة بن مظعون الجمحي وهو مدني تابعي صغير وكان إمام المسجد النبوي وليس له في البخاري سوى هذا الموضع فوصلها أبو عوانة في صحيحه، ووقعت لنا بعلو في "الثقفيات" بلفظ حديث مالك المذكور أول كتاب اللباس. قلت: وكذا أخرجه مسلم من رواية حنظلة بن أبي سفيان عن سالم، وقد رواه جماعة عن ابن عمر بلفظ: "من جر إزاره" منهم مسلم بن يناق بفتح التحتانية وتشديد النون وآخره قاف ومحمد بن عباد بن جعفر كلاهما عند مسلم وعطية العوفي عند ابن ماجه، ورواه آخرون بلفظ: "الإزار" والرواية بلفظ: "الثوب" أشمل والله أعلم. وفي هذه الأحاديث أن إسبال الإزار للخيلاء كبيرة، وأما الإسبال لغير الخيلاء فظاهر الأحاديث تحريمه أيضا، لكن استدل بالتقييد في هذه الأحاديث بالخيلاء على أن الإطلاق في الزجر الوارد في ذم الإسبال محمول على المقيد هنا، فلا يحرم الجر والإسبال إذا سلم من الخيلاء. قال ابن عبد البر: مفهومه أن الجر لغير الخيلاء لا يلحقه الوعيد، إلا أن جر القميص وغيره من الثياب مذموم على كل حال. وقال النووي: الإسبال تحت الكعبين للخيلاء، فإن كان لغيرها فهو مكروه، وهكذا نص الشافعي على الفرق بين الجر للخيلاء ولغير الخيلاء، قال: والمستحب أن يكون الإزار إلى نصف الساق، والجائز بلا كراهة ما تحته إلى الكعبين، وما نزل عن الكعبين ممنوع منع تحريم إن كان للخيلاء وإلا فمنع تنزيه، لأن الأحاديث الواردة في الزجر عن الإسبال مطلقة فيجب تقييدها بالإسبال للخيلاء انتهى. والنص الذي أشار إليه ذكره البويطي في مختصره عن الشافعي قال: لا يجوز السدل في الصلاة ولا في غيرها للخيلاء، ولغيرها خفيف لقول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر، اهـ، وقوله: "خفيف" ليس صريحا في نفي التحريم بل هو محمول على أن ذلك بالنسبة للجر خيلاء، فأما لغير الخيلاء فيختلف الحال، فإن كان الثوب على قدر لابسه لكنه يسدله فهذا لا يظهر فيه تحريم، ولا سيما إن كان عن غير قصد كالذي وقع لأبي بكر، وإن كان الثوب زائدا على قدر لابسه فهذا قد يتجه المنع فيه من جهة الإسراف فينتهي إلى التحريم، وقد يتجه المنع فيه من جهة التشبه بالنساء وهو أمكن فيه من الأول، وقد صحح الحاكم من حديث أبي هريرة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن الرجل يلبس لبسة المرأة" وقد يتجه المنع فيه من جهة أن لابسه لا يأمن من تعلق النجاسة به، وإلى ذلك يشير الحديث الذي أخرجه الترمذي في "الشمائل" والنسائي من طريق أشعث بن أبي الشعثاء - واسم أبيه سليم - المحاربي عن عمته واسمها رهم بضم الراء وسكون الهاء وهي بنت الأسود بن حنظلة عن عمها واسمه عبيد بن خالد قال: "كنت أمشي وعلي برد أجره، فقال لي رجل: ارفع ثوبك فإنه أنقى وأبقى، فنظرت فإذا هو النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: إنما هي بردة ملحاء، فقال: أما لك في أسوة؟ قال: فنظرت فإذا إزاره إلى أنصاف ساقيه" وسنده قبلها جيد، وقوله: "ملحاء" بفتح الميم وبمهملة قبلها سكون ممدودة أي فيها خطوط سود وبيض، وفي قصة قتل عمر أنه قال للشاب الذي دخل عليه "ارفع ثوبك فإنه

(10/263)


أنقى لثوبك وأتقى لربك" وقد تقدم في المناقب، ويتجه المنع أيضا في الإسبال من جهة أخرى وهي كونه مظنة الخيلاء، قال ابن العربي: لا يجوز للرجل أن يجاوز بثوبه كعبه، ويقول لا أجره خيلاء، لأن النهي قد تناوله لفظا، ولا يجوز لمن تناوله اللفظ حكما أن يقول لا أمتثله لأن تلك العلة ليست في، فإنها دعوى غير مسلمة، بل إطالته ذيله دالة على تكبره. اهـ ملخصا. وحاصله أن الإسبال يستلزم جر الثوب وجر الثوب يستلزم الخيلاء ولو لم يقصد اللابس الخيلاء، ويؤيده ما أخرجه أحمد بن منيع من وجه آخر عن ابن عمر في أثناء حديث رفعه: "وإياك وجر الإزار فإن جر الإزار من المخيلة" وأخرج الطبراني من حديث أبي أمامة "بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ لحقنا عمرو بن زرارة الأنصاري في حلة إزار ورداء قد أسبل، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ بناحية ثوبه ويتواضع لله ويقول: عبدك وابن عبدك وأمتك، حتى سمعها عمرو فقال: يا رسول الله إني حمش الساقين، فقال: يا عمرو إن الله قد أحسن كل شيء خلقه، يا عمرو إن الله لا يحب المسبل" الحديث. وأخرجه أحمد من حديث عمرو نفسه لكن قال في روايته: "عن عمرو بن فلان" وأخرجه الطبراني أيضا فقال: "عن عمرو بن زرارة" وفيه: "وضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع أصابع تحت ركبة عمرو فقال: يا عمرو هذا موضع الإزار، ثم ضرب بأربع أصابع تحت الأربع فقال: يا عمرو هذا موضع الإزار" الحديث ورجاله ثقات وظاهره أن عمرا المذكور لم يقصد بإسباله الخيلاء، وقد منعه من ذلك لكونه مظنة. وأخرج الطبراني من حديث الشريد الثقفي قال: "أبصر النبي صلى الله عليه وسلم رجلا قد أسبل إزاره فقال: ارفع إزارك، فقال: إني أحنف تصطك ركبتاي، قال: ارفع إزارك، فكل خلق الله حسن" وأخرجه مسدد وأبو بكر بن أبي شيبة من طرق عن رجل من ثقيف لم يسم، وفي آخره: "ذاك أقبح مما بساقك" وأما ما أخرجه ابن أبي شيبة عن ابن مسعود بسند جيد "أنه كان يسبل إزاره، فقيل له في ذلك فقال: إني حمش الساقين" فهو محمول على أنه أسبله زيادة على المستحب، وهو أن يكون إلى نصف الساق، ولا يظن به أنه جاوز به الكعبين والتعليل يرشد إليه، ومع ذلك فلعله لم تبلغه قصة عمرو بن زرارة والله أعلم. وأخرج النسائي وابن ماجه وصححه ابن حبان من حديث المغيرة بن شعبة "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ برداء سفيان بن سهيل وهو يقول: يا سفيان لا تسبل، فإن الله لا يحب المسبلين".

(10/264)


6 - باب الإِزَارِ الْمُهَدَّبِ
وَيُذْكَرُ عَنْ الزُّهْرِيِّ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَحَمْزَةَ بْنِ أَبِي أُسَيْدٍ وَمُعَاوِيَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ أَنَّهُمْ لَبِسُوا ثِيَاباً مُهَدَّبَةً
5792- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: جَاءَتْ امْرَأَةُ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا جَالِسَةٌ وَعِنْدَهُ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي كُنْتُ تَحْتَ رِفَاعَةَ فَطَلَّقَنِي فَبَتَّ طَلاَقِي فَتَزَوَّجْتُ بَعْدَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الزُّبَيْرِ وَإِنَّهُ وَاللَّهِ مَا مَعَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلاَّ مِثْلُ هَذِهِ الْهُدْبَةِ وَأَخَذَتْ هُدْبَةً مِنْ جِلْبَابِهَا فَسَمِعَ خَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ قَوْلَهَا وَهُوَ بِالْبَابِ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ قَالَتْ فَقَالَ خَالِدٌ يَا أَبَا بَكْرٍ أَلاَ تَنْهَى هَذِهِ عَمَّا تَجْهَرُ بِهِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلاَ وَاللَّهِ مَا يَزِيدُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى التَّبَسُّمِ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَعَلَّكِ تُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إِلَى رِفَاعَةَ؟ لاَ، حَتَّى

(10/264)


يَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ وَتَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ فَصَارَ سُنَّةً بَعْده".
قوله: "باب الإزار المهدب" بدال مهملة ثقيلة مفتوحة، أي الذي له هدب؛ وهي أطراف من سدي بغير لحمة ربما قصد بها التجمل، وقد تفتل صيانة لها من الفساد. وقال الداودي: هي ما يبقى من الخيوط من أطراف الأردية. قوله: "ويذكر عن الزهري وأبي بكر بن محمد وحمزة بن أبي أسيد ومعاوية بن عبد الله بن جعفر أنهم لبسوا ثيابا مهدبة" قال ابن التين: قيل يريد أنها غير مكفوفة الأسفل، وهذه الآثار لم يقع لي أكثرها موصولا. أما الزهري فهو ابن شهاب الإمام المعروف، وأما أبو بكر بن محمد فهو ابن عمرو بن حزم الأنصاري قاضي المدينة، وأما حمزة بن أبي أسيد وهو بالتصغير الأنصاري الساعدي فوصله ابن سعد قال: "أخبرنا معن بن عيسى حدثنا سلمة بن ميمون مولى أبي أسيد قال: رأيت حمزة بن أبي أسيد الساعدي عليه ثوب مفتول الهدب". وسلمة هذا لم يزد للبخاري في ترجمته على ما في هذا السند. وذكره ابن حبان في " الثقات". وأما معاوية بن عبد الله بن جعفر أي ابن أبي طالب فهو مدني تابعي ما له في البخاري سوى هذا الموضع. حديث عائشة في قصة امرأة رفاعة، والغرض منه قولها: "ما معه إلا مثل الهدبة" وقد تقدم شرحه مستوفى في كتاب الطلاق، والمراد بالهدبة الخصلة من الهدب ووقع في هذا الباب حديث مرفوع أخرجه أبو داود من حديث أبي جري جابر بن سليم قال: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو محتب بشملة، وقد وقع هدبها على قدميه" وقوله في آخر هذه الطريق: "فصار سنة بعده" في رواية الكشميهني: "بعد" بغير ضمير، وهو من قول الزهري فيما أحسب.

(10/265)


7 - باب الأَرْدِيَةِ
وَقَالَ أَنَسٌ: جَبَذَ أَعْرَابِيٌّ رِدَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
5793- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي عَلِيُّ بْنُ حُسَيْنٍ أَنَّ حُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَلِيّاً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "... فَدَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرِدَائِهِ ثُمَّ انْطَلَقَ يَمْشِي وَاتَّبَعْتُهُ أَنَا وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ حَتَّى جَاءَ الْبَيْتَ الَّذِي فِيهِ حَمْزَةُ فَاسْتَأْذَنَ فَأَذِنُوا لَهُمْ ...".
قوله: "باب الأردية" جمع رداء بالمد وهو ما يوضع على العاتق أو بين الكتفين من الثياب على أي صفة كان. قوله: "وقال أنس جبذ أعرابي رداء النبي صلى الله عليه وسلم" بجيم وموحدة ومعجمة. وهذا طرف من حديث وصله المؤلف بعد أبواب في "باب البرود والحبرة" ذكر طرفا من حديث علي قال: "فدعا النبي صلى الله عليه وسلم بردائه فارتدى" وهو طرف من حديثه في قصة حمزة والشارفين، وقد تقدم بتمامه في فرض الخمس، وقوله: "فدعا" عطف على ما ذكر في أول الحديث وهو قول علي "كان لي شارف من نصيبي من المغنم يوم بدر" الحديث بطوله وقوله هنا: "فاستأذن فأذنوا لهم" كذا للأكثر بصيغة الجمع والمراد حمزة ومن معه. وفي رواية المستملي: "فأذن" بالإفراد والمراد حمزة لكونه كان كبير القوم.

(10/265)


8 - باب لُبْسِ الْقَمِيصِ
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ يُوسُفَ: {اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً}

(10/265)


9 - باب جَيْبِ الْقَمِيصِ مِنْ عِنْدِ الصَّدْرِ وَغَيْرِهِ
5797- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ نَافِعٍ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَثَلَ الْبَخِيلِ وَالْمُتَصَدِّقِ كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُبَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ قَدْ اضْطُرَّتْ أَيْدِيهِمَا إِلَى ثُدِيِّهِمَا وَتَرَاقِيهِمَا فَجَعَلَ الْمُتَصَدِّقُ كُلَّمَا تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ انْبَسَطَتْ عَنْهُ حَتَّى تَغْشَى أَنَامِلَهُ وَتَعْفُوَ أَثَرَهُ وَجَعَلَ الْبَخِيلُ كُلَّمَا هَمَّ بِصَدَقَةٍ قَلَصَتْ وَأَخَذَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ بِمَكَانِهَا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَأَنَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "بِإِصْبَعِهِ هَكَذَا فِي جَيْبِهِ فَلَوْ رَأَيْتَهُ يُوَسِّعُهَا وَلاَ تَتَوَسَّعُ". تَابَعَهُ ابْنُ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ وَأَبُو الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ فِي الْجُبَّتَيْنِ. وَقَالَ حَنْظَلَةُ: سَمِعْتُ طَاوُساً سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: "جُبَّتَانِ". وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ حَيَّانَ عَنْ الأَعْرَجِ: "جُبَّتَانِ".
قوله: "باب جيب القميص من عند الصدر وغيره" الجيب بفتح الجيم وسكون التحتانية بعدها موحدة هو ما يقطع من الثوب ليخرج منه الرأس أو اليد أو غير ذلك، واعترضه الإسماعيلي فقال: الجيب الذي يحيط بالعنق، جيب الثوب أي جعل فيه ثقب، وأورده البخاري على أنه ما يجعل في الصدر ليوضع فيه الشيء، وبذلك فسره أبو عبيد، لكن ليس هو المراد هنا، وإنما الجيب الذي أشار إليه في الحديث هو الأول، كذا قال، وكأنه يعني ما وقع في الحديث من قوله: "ويقول بإصبعه هكذا في جيبه" فإن الظاهر أنه كان لابس قميص، وكان في طوقه فتحة إلى صدره، ولا مانع من حمله على المعنى الآخر، بل استدل به ابن بطال على أن الجيب في ثياب السلف كان عند الصدر، قال: وهو الذي تصنعه النساء بالأندلس.
وموضع الدلالة منه أن البخيل إذا أراد إخراج يده أمسكت في الموضع الذي ضاق عليها وهو الثدي والتراقي، وذلك في الصدر، قال: فبان أن جيبه كان في صدره، لأنه لو كان في يده لم تضطر يداه إلى ثدييه وتراقيه. قلت: وفي حديث قرة بن إياس الذي أخرجه أبو داود والترمذي وصححه هو وابن حبان لما بايع النبي صلى الله عليه وسلم: "قال فأدخلت يدي في جيب قميصه فمسست الخاتم" ما يقتضي أن جيب قميصه كان في صدره لأن في أول الحديث أنه رآه مطلق القميص أي غير مزرور. حديث أبي هريرة مثل البخيل والمتصدق، وقد مضى شرحه مستوفى في كتاب الزكاة، وقوله في هذه الرواية: "مادت" بتخفيف الدال أي مالت، ولبعض الرواة "مارت" بالراء بدل الدال أي سالت وقوله: "ثديهما" بضم المثلثة على الجمع وبفتحها على التثنية،

(10/267)


وقوله: "يغشى" بضم أوله والتشديد ويجوز فتح أول وسكون ثانيه بمعنى، وعبد الله بن محمد هو الجعفي وأبو عامر هو القعدي والحسن هو ابن مسلم بن يناق وقد تقدم ضبط اسم جده قريبا. قوله: "وتراقيهما" جمع ترقوة بفتح المثناة وضم القاف هي العظم الذي بين ثغرة النحر والعاتق. وقال ثابت بن قاسم في "الدلائل" الترقوتان العظمان المشرفان في أعلى الصدر إلى طرف ثغرة النحر. قوله: "فلو رأيته" جوابه محذوف وتقديره لتعجبت منه، أو هو للتمني. والأول أوضح. قوله: "يقول بإصبعه هكذا في جيبه" كذا للأكثر بفتح الجيم وهو الموافق للترجمة، وكذا في رواية مسلم وعليه اقتصر الحميدي، وللكشميهني وحده بضم الجيم وتشديد الموحدة بعدها مثناة ثم ضمير، والأول أولى لدلالته على الموضع بخصوصه بخلاف الثاني. والله أعلم. قوله: "تابعه ابن طاوس" يعني عبد الله "عن أبيه" يعني عن أبي هريرة، وقد تقدم موصولا في الزكاة، ولم يسقه بتمامه فيه بل ساقه في الجهاد. قوله: "وأبو الزناد عن الأعرج" يعني عن أبي هريرة. قوله: "في الجبتين" يعني بالموحدة وقد بينت اختلاف الرواة في ذلك هل هو بالموحدة أو النون في كتاب الزكاة، ورواية أبي الزناد وصلها المؤلف في الزكاة. قوله: "وقال حنظلة" هو ابن أبي سفيان، وقد سبق القول فيه أيضا في الزكاة. قوله: "وقال جعفر بن ربيعة" كذا للأكثر وهو الصواب، ووقع في رواية أبي ذر: وقال جعفر بن حبان وكذا وقع عند ابن بطال وهو خطأ، وقد ذكرها في الزكاة أيضا تعليقا بزيادة فقال: "وقال الليث حدثني جعفر" وبينت هناك أن لليث فيه إسنادا آخر من رواية عيسى بن حماد عنه عن محمد بن عجلان عن أبي الزناد.

(10/268)


10 - باب مَنْ لَبِسَ جُبَّةً ضَيِّقَةَ الْكُمَّيْنِ فِي السَّفَرِ
5798- حَدَّثَنَا قَيْسُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو الضُّحَى قَالَ حَدَّثَنِي مَسْرُوقٌ قَالَ حَدَّثَنِي الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ قَالَ: "انْطَلَقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَاجَتِهِ ثُمَّ أَقْبَلَ فَتَلَقَّيْتُهُ بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ شَأْمِيَّةٌ فَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَغَسَلَ وَجْهَهُ فَذَهَبَ يُخْرِجُ يَدَيْهِ مِنْ كُمَّيْهِ فَكَانَا ضَيِّقَيْنِ فَأَخْرَجَ يَدَيْهِ مِنْ تَحْتِ الْجُبَّةِ فَغَسَلَهُمَا وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ وَعَلَى خُفَّيْهِ".
قوله: "باب من لبس جبة ضيقة الكمين في السفر" ترجم له في الصلاة "في الجبة الشامية" وفي الجهاد "الجبة في السفر والحرب" وكأنه يشير إلى أن لبس النبي صلى الله عليه وسلم الجبة الضيقة إنما كان لحال السفر لاحتياج المسافر إلى ذلك وأن السفر يغتفر فيه لبس غير المعتاد في الحضر، وقد تواردت الأحاديث عمن وصف وضوء النبي صلى الله عليه وسلم وليس في شيء منها أن كميه ضاقا عن إخراج يديه منهما، أشار إلى ذلك ابن بطال. حديث المغيرة في مسح الخفين، تقدم شرحه في الطهارة وفيه القصة المذكورة، وفيه: "وعليه جبة شامية" وهي بتشديد الياء ويجوز تخفيفها، وعبد الواحد المذكور في سنده هو ابن زياد، وقوله فيه: "فأخرج يديه من تحت بدنه" بفتح الموحدة والمهملة بعدها نون أي جبته، ووقع كذلك في رواية أبي علي بن السكن، والبدن درع ضيقة الكمين.

(10/268)


11 - باب لُبْسِ جُبَّةِ الصُّوفِ فِي الْغَزْوِ
5799- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ عَنْ عَامِرٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:

(10/268)


باب القباء وفروج حرير وهو القباء ، ويقال الذي له شق من خلفه
...
12 - باب الْقَبَاءِ وَفَرُّوجِ حَرِيرٍ وَهُوَ الْقَبَاءُ وَيُقَالُ هُوَ الَّذِي لَهُ شَقٌّ مِنْ خَلْفِهِ
5800- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ قَالَ قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْبِيَةً وَلَمْ يُعْطِ مَخْرَمَةَ شَيْئاً فَقَالَ مَخْرَمَةُ يَا بُنَيِّ انْطَلِقْ بِنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ فَقَالَ ادْخُلْ فَادْعُهُ لِي قَالَ فَدَعَوْتُهُ لَهُ فَخَرَجَ إِلَيْهِ وَعَلَيْهِ قَبَاءٌ مِنْهَا فَقَالَ: خَبَأْتُ هَذَا لَكَ قَالَ: فَنَظَرَ إِلَيْهِ فَقَالَ: رَضِيَ مَخْرَمَةُ".
5801- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: " أُهْدِيَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرُّوجُ حَرِيرٍ فَلَبِسَهُ ثُمَّ صَلَّى فِيهِ ثُمَّ انْصَرَفَ فَنَزَعَهُ نَزْعاً شَدِيداً كَالْكَارِهِ لَهُ ثُمَّ قَالَ لاَ يَنْبَغِي هَذَا لِلْمُتَّقِينَ" .
تَابَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ عَنْ اللَّيْثِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: "فَرُّوجٌ حَرِيرٌ".
قوله: "باب القباء" بفتح القاف وبالموحدة ممدود فارسي معرب، وقيل: عربي واشتقاقه من القبو وهو الضم. قوله: "وفروج حرير" بفتح الفاء وتشديد الراء المضمومة وآخره جيم. قوله: "وهو القباء" قلت ووقع كذلك مفسرا في بعض طرق الحديث كما سأبينه. قوله: "ويقال هو الذي له شق من خلفه" أي فهو قباء مخصوص، وبهذا جزم أبو عبيد ومن تبعه من أصحاب الغريب نظرا لاشتقاقه. وقال ابن فارس: هو قميص الصبي الصغير. وقال القرطبي: القباء والفروج كلاهما ثوب ضيق الكمين والوسط مشقوق من خلف يلبس في السفر والحرب لأنه أعون على الحركة. قوله: "عن ابن أبي مليكة" في رواية أحمد عن أبي النضر هاشم عن الليث حدثني عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة وسيأتي كذلك في "باب المزرور بالذهب" معلقا. قوله: "عن المسور بن مخرمة" هكذا أسنده الليث، وتابعه حاتم بن وردان عن أيوب عن ابن أبي مليكة على وصله كما تقدم في الشهادات، وأرسله حماد بن زيد كما تقدم في الخمس، وإسماعيل بن علية كما سيأتي في الأدب، كلاهما عن أيوب، وقد تقدم الكلام على ذلك في "باب قسمة الإمام ما يقدم عليه" من كتاب الخمس. قوله: "قسم النبي صلى الله عليه وسلم أقبية" في

(10/269)


رواية حاتم قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم أقبية وفي رواية حماد "أهديت للنبي صلى الله عليه وسلم أقبية من ديباج مزرورة بالذهب فقسمها في ناس من أصحابه". قوله: "ولم يعط مخرمة شيئا" أي في حال تلك القسمة. وإلا فقد وقع في رواية حماد بن زيد متصلا بقوله من أصحابه "وعزل منها واحدا لمخرمة" ومخرمة هو والد المسور، وهو ابن نوفل الزهري، كان من رؤساء قريش ومن العارفين بالنسب وأنصاب الحرم، وتأخر إسلامه إلى الفتح، وشهد حنينا وأعطي من تلك الغنيمة مع المؤلفة، ومات سنة أربع وخمسين وهو ابن مائة وخمس عشرة سنة ذكره ابن سعد. قوله: "انطلق بنا" في رواية حاتم "عسى أن يعطينا منها شيئا". قوله: "ادخل فادعه لي" في رواية حاتم "فقام أبي على الباب فتكلم فعرف النبي صلى الله عليه وسلم صوته" قال ابن التين: لعل خروج النبي صلى الله عليه وسلم عند سماع صوت مخرمة صادف دخول المسور إليه. قوله: "فخرج إليه وعليه قباء منها" ظاهره استعمال الحرير، قيل: ويجوز أن يكون قبل النهي، ويحتمل أن يكون المراد أنه نشره على أكتافه ليراه مخرمة كله ولم يقصد لبسه. قلت: ولا يتعين كونه على أكتافه بل يكفي أن يكون منشورا على يديه فيكون قوله عليه من إطلاق الكل على البعض، وقد وقع في رواية حاتم "فخرج ومعه قباء وهو يريه محاسنه" وفي رواية حماد "فتلقاه به واستقبله بأزراره". قوله: "خبأت هذا لك" في رواية حاتم تكرار ذلك، زاد في رواية حماد "يا أبا المسور" هكذا دعاه أبا المسور وكأنه على سبيل التأنيس له بذكر ولده الذي جاء صحبته، وإلا فكنيته في الأصل أبو صفوان وهو أكبر أولاده، ذكر ذلك ابن سعد. قوله: "فنظر إليه فقال رضي مخرمة" زاد في رواية هاشم "فأعطاه إياه"، وجزم الداودي أن قوله: "رضي مخرمة" من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وقد رجحت في الهبة أنه من كلام مخرمة، زاد حماد في آخر الحديث: "وكان في خلقه شدة" قال ابن بطال: يستفاد منه استئلاف أهل اللسن ومن في معناهم بالعطية والكلام الطيب، وفيه الاكتفاء في الهبة بالقبض، وقد تقدم البحث فيه هناك، وتقدم في كتاب الشهادات الاستدلال به على جواز شهادة الأعمى لأن النبي صلى الله عليه وسلم عرف صوت مخرمة فاعتمد على معرفته به، وخرج إليه ومعه القباء الذي خبأه له، واستنبط بعض المالكية منه جواز الشهادة على الخط، وتعقب بأن الخطوط تشتبه أكثر مما تشتبه الأصوات، وقد تقدم بقية ما يتعلق بذلك في الشهادات، وفيه رد على من زعم أن المسور لا صحبة له. قوله: "عن يزيد بن أبي حبيب" في رواية أحمد عن حجاج هو ابن محمد، وهاشم هو ابن القاسم عن الليث "حدثني يزيد بن أبي حبيب". قوله: "عن أبي الخير" هو مرثد بن عبد الله اليزني وثبت كذلك في رواية أحمد المذكورة. قوله: "عن عقبة بن عامر" هو الجهني وصرح به في رواية عبد الحميد بن جعفر ومحمد بن إسحاق كلاهما عن يزيد بن أبي حبيب عند أحمد. قوله: "فروج حرير" في رواية ابن إسحاق عند أحمد فروج من حرير. قوله: "ثم صلى فيه" زاد في رواية ابن إسحاق وعبد الحميد عند أحمد "ثم صلى فيه المغرب". قوله: "ثم انصرف" في رواية ابن إسحاق "فلما قضى صلاته" وفي رواية عبد الحميد "فلما سلم من صلاته" وهو المراد بالانصراف في رواية الليث. قوله: "فنزعه نزعا شديدا" زاد أحمد في روايته عن حجاج وهاشم "عنيفا" أي بقوة ومبادرة لذلك على خلاف عادته في الرفق والتأني، وهو مما يؤكد أن التحريم وقع حينئذ. قوله: "كالكاره له" زاد أحمد في رواية عبد الحميد بن جعفر "ثم ألقاه، فقلنا يا رسول الله قد لبسته وصليت فيه". قوله: "ثم قال لا ينبغي هذا" يحتمل أن تكون الإشارة للبس، ويحتمل أن تكون للحرير فيتناول غير اللبس من الاستعمال كالافتراش. قوله: "للمتقين" قال ابن بطال: يمكن أن يكون نزعه لكونه كان حريرا صرفا، ويمكن أن يكون نزعه لأنه من جنس لباس الأعاجم، وقد ورد حديث ابن

(10/270)


عمر رفعه: "من تشبه بقوم فهو منهم" قلت: أخرجه أبو داود بسند حسن. وهذا التردد مبني على تفسير المراد بالمتقين، فإن كان المراد به مطلق المؤمن حمل على الأول وإن كان المراد به قدرا زائدا على ذلك حمل على الثاني والله أعلم. قال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة: اسم التقوى يعم جميع المؤمنين، لكن الناس فيه على درجات، قال الله {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} الآية، فكل من دخل في الإسلام فقد اتقى، أي وقى نفسه من الخلود في النار، وهذا مقام العموم، وأما مقام الخصوص فهو مقام الإحسان كما قال صلى الله عليه وسلم: "أن تعبد الله كأنك تراه" انتهى. وقد رجح عياض أن المنع فيه لكونه حريرا، واستدل لذلك بحديث جابر الذي أخرجه مسلم في الباب من حديث عقبة، وقد قدمت ذكره في كتاب الصلاة، وبينت هناك أن هذه القصة كانت مبتدأ تحريم لبس الحرير. وقال القرطبي في "المفهم": المراد بالمتقين المؤمنون، لأنهم الذين خافوا الله تعالى واتقوه بإيمانهم وطاعتهم له. وقال غيره: لعل هذا من باب التهييج للمكلف على الأخذ بذلك، لأن من سمع أن من فعل ذلك كان غير متق فهم منه أنه لا يفعله إلا المستخف فيأنف من فعل ذلك لئلا يوصف بأنه غير متق، واستدل به على تحريم الحرير على الرجال دون النساء لأن اللفظ لا يتناولهن على الراجح، ودخولهن بطريق التغليب مجاز يمنع منه ورود الأدلة الصريحة على إباحته لهن، وسيأتي في باب مفرد بعد قريب من عشرين بابا، وعلى أن الصبيان لا يحرم عليهم لبسه لأنهم لا يوصفون بالتقوى. وقد قال الجمهور بجواز إلباسهم ذلك في نحو العيد، وأما في غيره فكذلك في الأصح عند الشافعية، وعكسه عند الحنابلة، وفي وجه ثالث يمنع بعد التمييز. وفي الحديث أن لا كراهة في لبس الثياب الضيقة والمفرجة لمن اعتادها أو احتاج إليها، وقد أشرت إلى ذلك قريبا في "باب لبس الجبة الضيقة". قوله: "تابعه عبد الله بن يوسف عن الليث. وقال غيره" يعني بسنده "فروج حرير". أما رواية عبد الله بن يوسف فوصلها المؤلف رحمه الله في أوائل الصلاة، وأما رواية غيره فوصلها أحمد عن حجاج بن محمد وهاشم وهو أبو النضر ومسلم والنسائي عن قتيبة والحارث عن يونس بن محمد المؤدب كلهم عن الليث. وقد اختلف في المغايرة بين الروايتين على خمسة أوجه: أحدها التنوين والإضافة كما يقال ثوب خز بالإضافة وثوب خز بتنوين ثوب قاله ابن التين احتمالا. ثانيها: ضم أوله وفتحه حكاه ابن التين رواية، قال: والفتح أوجه لأن فعولا لم يرد إلا في سبوح وقدوس وفروخ يعني الفرخ صن الدجاج انتهى، وقد قدمت في كتاب الصلاة حكاية جواز الضم عن أبي العلاء المعري. وقال القرطبي في "المفهم" حكي الضم والفتح والضم هو المعروف. ثالثها: تشديد الراء وتخفيفها حكاه عياض ومن تبعه. رابعها: هل هو بجيم آخره أو خاء معجمة حكاه عياض أيضا. خامسها: حكاه الكرماني قال: الأول فروج من حرير بزيادة من والثاني بحذفها. قلت: وزيادة "من" ليست في الصحيحين، وقد ذكرناها عن رواية لأحمد.

(10/271)


13 - باب الْبَرَانِسِ
5802- وَقَالَ لِي مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ سَمِعْتُ أَبِي قَالَ: "رَأَيْتُ عَلَى أَنَسٍ بُرْنُساً أَصْفَرَ مِنْ خَزٍّ".
5803- حدثنا إسماعيل قال حدثني مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رجلا قال: " يا رسول الله ما يلبس المحرم من الثياب؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تلبسوا القمص ولا العمائم ولا السراويلات ولا

(10/271)


البرانس ولا الخفاف إلا أحد لا يجد النعلين فليلبس خفين وليقطعهما أسفل من الكعبين ولا تلبسوا من الثياب شيئا مسه الزعفران ولا الورس" .
قوله: "باب البرانس" جمع برنس بضم الموحدة والنون بينهما راء ساكنة وآخره مهملة، تقدم تفسيره في كتاب الحج وكذا شرح حديث ابن عمر المذكور فيه. قوله: "وقال لي مسدد حدثنا معتمر" يعني ابن التيمي وقوله: "من خز" بفتح المعجمة وتشديد الزاي هو ما غلظ من الديباج وأصله من وبر الأرنب، ويقال لذكر الأرنب خزز بوزن عمر، وسيأتي شرحه وحكمه في "باب ليس القسي" بعد أربعة عشر بابا. وهذا الأثر موصول لتصريح المصنف بقوله: "قال لي" لكن لم يقع في رواية النسفي لفظ لي فهو تعليق، وقد رويناه موصولا في مسند مسدد رواية معاذ بن المثنى عن مسدد، وكذا وصله ابن أبي شيبة عن ابن علية عن يحيى بن أبي إسحاق قال: "رأيت على أنس" فذكر مثله. وقد كره بعض السلف لبس البرنس لأنه كان من لباس الرهبان، وقد سئل مالك عنه فقال: لا بأس به. قيل: فإنه من لبوس النصارى. قال: كان يلبس هاهنا. وقال عبد الله بن أبي بكر: ما كان أحد من القراء إلا له برنس. وأخرج الطبراني من حديث أبي قرصافة قال: "كساني رسول الله صلى الله عليه وسلم برنسا فقال: البسه" وفي سنده من لا يعرف. ولعل من كرهه أخذ بعموم حديث علي رفعه: "إياكم ولبوس الرهبان، فإنه من تزيا بهم أو تشبه فليس مني" أخرجه الطبراني في "الأوسط" بسند لا بأس به.

(10/272)


14 - باب السَّرَاوِيلِ
5804- حدثنا أبو نعيم حدثنا سفيان عن عمرو عن جابر بن زيد عن بن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من لم يجد إزارا فليلبس سراويل ومن لم يجد نعلين فليلبس خفين" .
5805- حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا جويرية عن نافع عن عبد الله قال قام رجل فقال: "يا رسول الله ما تأمرنا أن نلبس إذا أحرمنا؟ قال: لا تلبسوا القميص والسراويل والعمائم والبرانس والخفاف إلا أن يكون رجل ليس له نعلان فليلبس الخفين أسفل من الكعبين ولا تلبسوا شيئا من الثياب مسه زعفران ولا ورس" .
قوله: "باب السراويل" ذكر فيه حديث ابن عباس رفعه: "من لم يجد إزارا فليلبس سراويل" وحديث ابن عمر فيما لا يلبس المحرم من الثياب وقد تقدما وشرحهما في كتاب الحج، ولم يرد فيه حديث على شرطه. وقد أخرج حديث الدعاء للمتسرولات البزار من حديث علي بسند ضعيف، وصح أنه صلى الله عليه وسلم اشترى رجل سراويل من سويد بن قيس أخرجه الأربعة وأحمد وصححه ابن حبان من حديثه، وأخرجه أحمد أيضا من حديث مالك بن عميرة الأسدي قال: "قدمت قبل مهاجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاشترى مني سراويل فأرجح لي" وما كان ليشتريه عبثا وإن كان غالب لبسه الإزار. وأخرج أبو يعلى والطبراني في "الأوسط" من حديث أبي هريرة "دخلت يوما السوق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس إلى البزاز فاشترى سراويل بأربعة دراهم" الحديث وفيه: "قلت يا رسول الله

(10/272)


وإنك لتلبس السراويل؟ قال: أجل، في السفر والحضر والليل والنهار، فإني أمرت بالتستر" وفيه يونس بن زياد البصري وهو ضعيف. قال ابن القيم في "الهدى": اشترى صلى الله عليه وسلم السراويل، والظاهر أنه إنما اشتراه ليلبسه ثم قال: وروي في حديث أنه لبس السراويل، وكانوا يلبسونه في زمانه وبإذنه. قلت: وتؤخذ أدلة ذلك كله مما ذكرته. ووقع في الإحياء للغزالي أن الثمن ثلاثة دراهم والذي تقدم أنه أربعة دراهم أولى.

(10/273)


3 - باب فِي الْعَمَائِمِ
5806- حدثنا علي بن عبد الله حدثنا سفيان قال: سمعت الزهري قال أخبرني سالم عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يلبس المحرم القميص ولا العمامة ولا السراويل ولا البرنس ولا ثوبا مسه زعفران ولا ورس ولا الخفين إلا لمن لم يجد النعلين فإن لم يجدهما فليقطعهما أسفل من الكعبين" .
قوله: "باب العمائم" ذكر فيه حديث ابن عمر المذكور قبله من وجه آخر، وقد سبق في الحج، وكأنه لم يثبت عنده على شرطه في العمامة شيء، وقد ورد فيها الحديث الماضي في آخر "باب من جر ثوبه من الخيلاء" من حديث عمرو بن حريث أنه قال: "كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه عمامة سوداء قد أرخى طرفها بين كتفيه" أخرجه مسلم، وعن أبي المليح بن أسامة عن أبيه رفعه: "اعتموا تزدادوا حلما" أخرجه الطبراني والترمذي في "العلل المفرد" وضعفه البخاري؛ وقد صححه الحاكم فلم يصب، وله شاهد عند البزار عن ابن عباس ضعيف أيضا، وعن ركانة رفعه: "فرق ما بيننا وبين المشركين العمائم" أخرجه أبو داود والترمذي، وعن ابن عمر "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اعتم سدل عمامته بين كتفيه" أخرجه الترمذي، وفيه أن ابن عمر كان يفعله والقاسم وسالم، وأما مالك فقال: إنه لم ير أحدا يفعله إلا عامر بن عبد الله بن الزبير. والله أعلم.

(10/273)


16 - باب التَّقَنُّعِ .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِ عِصَابَةٌ دَسْمَاءُ".
وَقَالَ أَنَسٌ: "عَصَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَأْسِهِ حَاشِيَةَ بُرْدٍ".
5807- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا هِشَامٌ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ هَاجَرَ نَاسٌ إِلَى الْحَبَشَةِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَتَجَهَّزَ أَبُو بَكْرٍ مُهَاجِراً. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "عَلَى رِسْلِكَ فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ يُؤْذَنَ لِي فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ أَوَ تَرْجُوهُ بِأَبِي أَنْتَ قَالَ نَعَمْ فَحَبَسَ أَبُو بَكْرٍ نَفْسَهُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِصُحْبَتِهِ وَعَلَفَ رَاحِلَتَيْنِ كَانَتَا عِنْدَهُ وَرَقَ السَّمُرِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ قَالَ عُرْوَةُ قَالَتْ عَائِشَةُ فَبَيْنَا نَحْنُ يَوْماً جُلُوسٌ فِي بَيْتِنَا فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ فَقَالَ قَائِلٌ لِأَبِي بَكْرٍ هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُقْبِلاً مُتَقَنِّعاً فِي سَاعَةٍ لَمْ يَكُنْ يَأْتِينَا فِيهَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ فِداً لَكَ أَبِي وَأُمِّي وَاللَّهِ إِنْ جَاءَ بِهِ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ إِلاَّ لِأَمْرٍ فَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَأْذَنَ فَأَذِنَ لَهُ فَدَخَلَ فَقَالَ حِينَ دَخَلَ لِأَبِي بَكْرٍ أَخْرِجْ مَنْ عِنْدَكَ قَالَ إِنَّمَا هُمْ أَهْلُكَ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ فَإِنِّي قَدْ أُذِنَ لِي فِي الْخُرُوجِ قَالَ فَالصُّحْبَةُ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَخُذْ بِأَبِي

(10/273)


17 - باب الْمِغْفَرِ
5808- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ".
قوله: "باب المغفر" بكسر الميم وسكون المعجمة وفتح الفاء بعدها راء. تقدم الكلام على حديث أنس الذي في الباب في كتاب المغازي مستوفى، وذكر ابن بطال هنا أن بعض المتعسفين أنكر على مالك قوله في هذا الحديث: "وعلى رأسه المغفر" وأنه تفرد به قال: والمحفوظ أنه دخل مكة وعليه عمامة سوداء، ثم أجاب عن دعوى التفرد أنه وجد في "كتاب حديث الزهري" تصنيف النسائي هذا الحديث من رواية الأوزاعي عن الزهري مثل ما رواه مالك، وعن الحديث الآخر بأنه "دخل وعلى رأسه المغفر وكانت العمامة السوداء فوق المغفر". قلت: وقد ذكرت في شرح الحديث أن بضعة عشر نفسا رووه عن الزهري غير مالك، وبينت مخارجها وعللها بما أغني عن إعادته والحمد لله.

(10/275)


باب البرود والحبر والشملة
...
18 - باب الْبُرُودِ وَالْحِبَرَةِ وَالشَّمْلَةِ
وَقَالَ خَبَّابٌ: شَكَوْنَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ
5809- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: "كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ فَجَبَذَهُ بِرِدَائِهِ جَبْذَةً شَدِيدَةً حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عَاتِقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَثَّرَتْ بِهَا حَاشِيَةُ الْبُرْدِ مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِهِ ثُمَّ قَالَ يَا مُحَمَّدُ مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَكَ فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ ضَحِكَ ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ".
5810- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: "جَاءَتْ امْرَأَةٌ بِبُرْدَةٍ قَالَ سَهْلٌ هَلْ تَدْرِي مَا الْبُرْدَةُ؟ قَالَ: نَعَمْ هِيَ الشَّمْلَةُ مَنْسُوجٌ فِي حَاشِيَتِهَا قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي نَسَجْتُ هَذِهِ بِيَدِي أَكْسُوكَهَا فَأَخَذَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحْتَاجاً إِلَيْهَا فَخَرَجَ إِلَيْنَا وَإِنَّهَا لاَزَارُهُ فَجَسَّهَا رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ اكْسُنِيهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، فَجَلَسَ مَا شَاءَ اللَّهُ فِي

(10/275)


19 - باب الأَكْسِيَةِ وَالْخَمَائِصِ
5815، 5816- حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ عَائِشَةَ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالاَ: "لَمَّا نَزَلَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَفِقَ يَطْرَحُ خَمِيصَةً لَهُ عَلَى وَجْهِهِ فَإِذَا اغْتَمَّ كَشَفَهَا عَنْ وَجْهِهِ فَقَالَ وَهُوَ كَذَلِكَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا ".
5817- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: "صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خَمِيصَةٍ لَهُ لَهَا أَعْلاَمٌ فَنَظَرَ إِلَى أَعْلاَمِهَا نَظْرَةً فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ اذْهَبُوا بِخَمِيصَتِي هَذِهِ إِلَى أَبِي جَهْمٍ فَإِنَّهَا أَلْهَتْنِي آنِفاً عَنْ صَلاَتِي وَأْتُونِي بِأَنْبِجَانِيَّةِ أَبِي جَهْمِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ غَانِمٍ مِنْ بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ".
5818- حَدَّثَني مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلاَلٍ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ قَالَ: "أَخْرَجَتْ إِلَيْنَا عَائِشَةُ كِسَاءً وَإِزَاراً غَلِيظاً فَقَالَتْ قُبِضَ رُوحُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَيْنِ".
قوله: "باب الأكسية والخمائص" جمع خميصة بالخاء المعجمة والصاد المهملة، وهي كساء من صوف أسود أو خز مربعة لها أعلام، ولا يسمى الكساء خميصة إلا إن كان لها علم. عن عائشة وابن عباس قالا "لما نزل" بضم أوله على البناء للمجهول والمراد نزول الموت، وقوله: "طفق يطرح خميصة له على وجهه" أي يجعلها على وجهه من الحمى "فإذا اغتم كشفها" وذكر الحديث في التحذير من اتخاذ القبور مساجد، وقد تقدم شرحه في كتاب الجنائز.
" تنبيه ": ذكر أبو علي الجياني أنه وقع في رواية أبي محمد الأصيلي عن أبي أحمد الجرجاني في هذا الإسناد عن الزهري "عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن أبيه عن عائشة وابن عباس قال" وقوله: "عن أبيه" وهم وهي زيادة لا حاجة إليها. حديث أبي بردة وهو ابن أبي موسى الأشعري قال: "أخرجت إلينا عائشة كساء وإزارا غليظا فقالت: قبض روح رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذين" تقدم هذا الحديث في أوائل الخمس،

(10/277)


وذكر له طريقا أخرى تعليقا زاد فيها وصف الإزار والكساء إزارا غليظا مما يصنع باليمن وكساء من هذه التي تدعونها الملبدة، والملبدة اسم مفعول من التلبيد. وقال ثعلب: يقال للرقعة التي يرقع بها القميص لبدة. وقال غيره هي التي ضرب بعضها في بعض حتى تتراكب وتجتمع. وقال الداودي: هو الثوب الضيق ولم يوافق. الرابع: حديث عائشة "في خميصة لها أعلام" وفي آخر "وائتوني بانبجانية أبي جهم بن حذيفة بن غانم من بني عدي بن كعب" انتهى آخر الحديث عند قوله: "بانبجانية أبي جهم" وبقية نسبه مدرج في الخبر من كلام ابن شهاب، وقد تقدم شرحه مستوفى في أوائل كتاب الصلاة.

(10/278)


20 - باب اشْتِمَالِ الصَّمَّاءِ
5819- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ خُبَيْبٍ عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْمُلاَمَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ وَعَنْ صَلاَتَيْنِ بَعْدَ الْفَجْرِ حَتَّى تَرْتَفِعَ الشَّمْسُ وَبَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغِيبَ وَأَنْ يَحْتَبِيَ بِالثَّوْبِ الْوَاحِدِ لَيْسَ عَلَى فَرْجِهِ مِنْهُ شَيْءٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّمَاءِ وَأَنْ يَشْتَمِلَ الصَّمَّاءَ" .
5820- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَامِرُ بْنُ سَعْدٍ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ لِبْسَتَيْنِ وَعَنْ بَيْعَتَيْنِ نَهَى عَنْ الْمُلاَمَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ فِي الْبَيْعِ وَالْمُلاَمَسَةُ لَمْسُ الرَّجُلِ ثَوْبَ الْآخَرِ بِيَدِهِ بِاللَّيْلِ أَوْ بِالنَّهَارِ وَلاَ يُقَلِّبُهُ إِلاَّ بِذَلِكَ وَالْمُنَابَذَةُ أَنْ يَنْبِذَ الرَّجُلُ إِلَى الرَّجُلِ بِثَوْبِهِ وَيَنْبِذَ الْآخَرُ ثَوْبَهُ وَيَكُونَ ذَلِكَ بَيْعَهُمَا عَنْ غَيْرِ نَظَرٍ وَلاَ تَرَاضٍ وَاللِّبْسَتَيْنِ اشْتِمَالُ الصَّمَّاءِ وَالصَّمَّاءُ أَنْ يَجْعَلَ ثَوْبَهُ عَلَى أَحَدِ عَاتِقَيْهِ فَيَبْدُو أَحَدُ شِقَّيْهِ لَيْسَ عَلَيْهِ ثَوْبٌ وَاللِّبْسَةُ الأُخْرَى احْتِبَاؤُهُ بِثَوْبِهِ وَهُوَ جَالِسٌ لَيْسَ عَلَى فَرْجِهِ مِنْهُ شَيْءٌ" .
قوله: "باب اشتمال الصماء" تقدم ضبطه وتفسيره وشرح حديث أبي سعيد في هذا الباب فيما يتعلق بالاشتمال والاحتباء في "باب ما يستر من العورة" من كتاب الصلاة، وقيل في اشتمال الصماء أن يرمي بطرفي الثوب على شقه الأيسر فيصير جانبه الأيسر مكشوفا ليس عليه من الغطاء شيء فتنكشف عورته إذا لم يكن عليه ثوب آخر، فإذا خالف بين طرفي الثوب الذي اشتمل به لم يكن صماء، وتقدم الكلام أيضا على اختلاف الرواة عن الزهري في شيخه فيه وعلى الليث أيضا، وأما شرح البيعتين فتقدم أيضا في البيوع، وأما النهي عن الصلاة بعد العصر والصبح فتقدم في أواخر أبواب المواقيت من كتاب الصلاة. قوله: "عبد الوهاب" هو ابن عبد المجيد الثقفي جزم به المزي في "الأطراف" وقال في "التهذيب" وقع في بعض النسخ "عبد الوهاب بن عطاء" وفيه نظر لأن ابن عطاء لا تعرف له رواية عن عبيد الله وهو ابن عمر العمري، ولم يذكر أحد في رجال البخاري عبد الوهاب بن عطاء، وقد أخرج أبو نعيم في "المستخرج" هذا الحديث من رواية ابن خزيمة حدثنا بندار وهو محمد بن بشار شيخ البخاري فيه: "حدثنا عبد الوهاب به" ولم ينسبه أيضا. وأخرجه عن محمد بن المثنى عن عبد الوهاب به ولم ينسبه أيضا وهو الثقفي بلا ريب، وسيأتي بعد قليل نظير هذا، وجزم الإسماعيلي بأنه الثقفي. وقوله فيه: "أن يجعل ثوبه على أحد

(10/278)


عاتقيه فيبدو أحد شقيه" أي يظهر.

(10/279)


باب الإحتباء في الثوب الواحد
...
21 - باب الِاحْتِبَاءِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ
5821- حدثنا إسماعيل قال حدثني مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبستين أن يحتبي الرجل في الثوب الواحد ليس على فرجه منه شيء وأن يشتمل بالثوب الواحد ليس على أحد شقيه وعن الملامسة والمنابذة".
5822- حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ قَالَ أَخْبَرَنِي مَخْلَدٌ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي ابْنُ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "نَهَى عَنْ اشْتِمَالِ الصَّمَّاءِ وَأَنْ يَحْتَبِيَ الرَّجُلُ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ لَيْسَ عَلَى فَرْجِهِ مِنْهُ شَيْءٌ" .
قوله: "باب الاحتباء في ثوب واحد" ذكر فيه حديثين تقدم شرحهما أيضا في الباب المشار إليه من كتاب الصلاة. قوله في أول الإسناد "حدثنا محمد" غير منسوب هو ابن سلام، وشيخه مخلد بسكون المعجمة هو ابن يزيد.

(10/279)


22 - باب الْخَمِيصَةِ السَّوْدَاءِ
5823- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ سَعِيدِ بْنِ فُلاَنٍ هُوَ عَمْرُو بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ عَنْ أُمِّ خَالِدٍ بِنْتِ خَالِدٍ "أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِثِيَابٍ فِيهَا خَمِيصَةٌ سَوْدَاءُ صَغِيرَةٌ فَقَالَ: مَنْ تَرَوْنَ أَنْ نَكْسُوَ هَذِهِ فَسَكَتَ الْقَوْمُ قَالَ ائْتُونِي بِأُمِّ خَالِدٍ فَأُتِيَ بِهَا تُحْمَلُ فَأَخَذَ الْخَمِيصَةَ بِيَدِهِ فَأَلْبَسَهَا وَقَالَ أَبْلِي وَأَخْلِقِي وَكَانَ فِيهَا عَلَمٌ أَخْضَرُ أَوْ أَصْفَرُ فَقَالَ يَا أُمَّ خَالِدٍ هَذَا سَنَاهْ وَسَنَاهْ بِالْحَبَشِيَّةِ حَسَنٌ".
5824- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ ابْنِ عَوْنٍ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لَمَّا وَلَدَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ قَالَتْ لِي يَا أَنَسُ انْظُرْ هَذَا الْغُلاَمَ فَلاَ يُصِيبَنَّ شَيْئاً حَتَّى تَغْدُوَ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَنِّكُهُ فَغَدَوْتُ بِهِ فَإِذَا هُوَ فِي حَائِطٍ وَعَلَيْهِ خَمِيصَةٌ حُرَيْثِيَّةٌ وَهُوَ يَسِمُ الظَّهْرَ الَّذِي قَدِمَ عَلَيْهِ فِي الْفَتْحِ".
قوله: "باب الخميصة السوداء" تقدم تفسير الخميصة في أوائل كتاب الصلاة، قال الأصمعي: الخمائص ثياب خز أو صوف معلمة وهي سود كانت من لباس الناس. وقال أبو عبيد هو كساء مربع له علمان، وقيل: هي كساء رقيق من أي لون كان، وقيل: لا تسمى خميصة حتى تكون سوداء معلمة. قوله: "عن أبيه سعيد ابن فلان ابن سعيد بن العاص" كذا قال البخاري عن أبي نعيم عن إسحاق بن سعيد عن أبيه فأبهم والد سعيد، وأخرجه أبو نعيم في "المستخرج" من طريق أبي خيثمة زهير بن حرب عن الفضل بن دكين وهو أبو نعيم "حدثنا إسحاق بن سعيد بن عمرو بن سعيد عن العاص عن أبيه" وسيأتي بعد أبواب في "باب ما يدعى لمن لبس ثوبا

(10/279)


باب الثياب الخضر
...
23 - باب ثِيَابِ الْخُضْرِ
5825- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ أَخْبَرَنَا أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ "أَنَّ رِفَاعَةَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَتَزَوَّجَهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الزَّبِيرِ الْقُرَظِيُّ قَالَتْ عَائِشَةُ وَعَلَيْهَا خِمَارٌ أَخْضَرُ فَشَكَتْ إِلَيْهَا وَأَرَتْهَا خُضْرَةً بِجِلْدِهَا فَلَمَّا جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالنِّسَاءُ يَنْصُرُ بَعْضُهُنَّ بَعْضاً - قَالَتْ عَائِشَةُ: مَا رَأَيْتُ مِثْلَ مَا يَلْقَى الْمُؤْمِنَاتُ لَجِلْدُهَا أَشَدُّ خُضْرَةً مِنْ ثَوْبِهَا قَالَ وَسَمِعَ أَنَّهَا قَدْ أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَ وَمَعَهُ ابْنَانِ لَهُ مِنْ غَيْرِهَا قَالَتْ: وَاللَّهِ مَا لِي إِلَيْهِ مِنْ ذَنْبٍ إِلاَّ أَنَّ مَا مَعَهُ لَيْسَ بِأَغْنَى عَنِّي مِنْ هَذِهِ - وَأَخَذَتْ هُدْبَةً مِنْ ثَوْبِهَا – فَقَالَ: كَذَبَتْ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لاَنْفُضُهَا نَفْضَ الأَدِيمِ وَلَكِنَّهَا نَاشِزٌ تُرِيدُ رِفَاعَةَ. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فَإِنْ

(10/281)


كَانَ ذَلِكِ لَمْ تَحِلِّي لَهُ أَوْ لَمْ تَصْلُحِي لَهُ حَتَّى يَذُوقَ مِنْ عُسَيْلَتِكِ" قَالَ وَأَبْصَرَ مَعَهُ ابْنَيْنِ لَهُ فَقَالَ بَنُوكَ هَؤُلاَءِ قَالَ نَعَمْ قَالَ هَذَا الَّذِي تَزْعُمِينَ مَا تَزْعُمِينَ فَوَاللَّهِ لَهُمْ أَشْبَهُ بِهِ مِنْ الْغُرَابِ بِالْغُرَابِ" .
قوله: "باب الثياب الخضر" كذا للكشمهيني، وللمستملي والسرخسي "ثياب الخضر" كقولهم مسجد الجامع. قال ابن بطال: الثياب الخضر من لباس الجنة، وكفى بذلك شرفا لها. قلت وأخرج أبو داود من حديث أبي رمثة بكسر الراء وسكون الميم بعدها مثلثة أنه "رأى على النبي صلى الله عليه وسلم بردين أخضرين". قوله: "حدثنا محمد بن بشار حدثنا عبد الوهاب" هو الثقفي وصرح به الإسماعيلي. قوله: "عن عكرمة" في رواية أبي يعلى "حدثنا سويد بن سعيد حدثنا عبد الوهاب الثقفي" بسنده وزاد فيه: "عن ابن عباس". قوله: "أن رفاعة طلق امرأته فتزوجها عبد الرحمن بن الزبير القرظي، قالت عائشة: وعليها خمار أخضر فشكت إليها" أي إلى عائشة وفيه التفات وتجريد. وفي قوله: "قالت عائشة" ما يبين وهم رواية سويد وأن الحديث من رواة عكرمة عن عائشة. قوله: "والنساء ينصر بعضهن بعضا" جملة معترضة، وهي من كلام عكرمة، وقد صرح وهيب بن خالد في روايته عن أيوب بذلك فقال بعد قوله: لجلدها أشد خضرة من خمارها "قال عكرمة: والنساء ينصر بعضهن بعضا" رويناه في "فوائد أبي عمرو بن السماك" من طريق عفان عن وهيب. قال الكرماني: خضرة جلدها يحتمل أن تكون لهزالها أو من ضرب زوجها لها. قلت: وسياق القصة رجح الثاني. قوله: "قال وسمع أنها قد أتت" في رواية وهيب "قال: فسمع بذلك زوجها". قوله: "ومعه ابنان" لم أقف على تسميتهما، ووقع في رواية وهيب بنون له.
قوله: "لم تحلي أو لم تصلحي له" كذا بالشك، وهو من الراوي. وفي رواية الكشميهني: "لا تحلين له ولا تصلحين له" وذكر الكرماني أنه وقع في بعض الروايات "لم تحلين" ثم أخذ في توجيهه، وعرف بهذا الجواب وجه الجمع بين قولها "ما معه إلا مثل الهدبة" وبين صلى الله عليه وسلم: "حتى تذوقي عسيلته" وحاصله أنه رد عليها دعواها، أما أولا فعلى طريق صدق زوجها فيما زعم أنه ينفضها نفض الأديم، وأما ثانيا فللاستدلال على صدقه بولديه اللذين كانا معه. قوله: "وأبصر معه ابنين له فقال: بنوك هؤلاء" فيه جواز إطلاق اللفظ الدال على الجمع على الاثنين، لكن وقع في رواية وهيب بصيغة الجمع فقال: "بنون له". قوله: "تزعمين ما تزعمين" في رواية وهيب "هذا الذي تزعمين أنه كذا وكذا" وهو كناية عما ادعت عليه من العنة، وقد تقدمت مباحث قصة رفاعة وامرأته في كتاب الطلاق، وقوله لأنفضها نفض الأديم كناية بليغة في الغاية من ذلك لأنها أوقع في النفس من التصريح، لأن الذي ينفض الأديم يحتاج إلى قوة ساعد وملازمة طويلة، قال الداودي: يحتمل تشبيهها بالهدية انكساره وأنه لا يتحرك وأن شدته لا تشتد، ويحتمل أنها كنت بذلك عن نحافته، أو وصفته بذلك بالنسبة للأول، قال: ولهذا يستحب نكاح البكر لأنها تظن الرجال سواء، بخلاف الثيب.

(10/282)


24 - باب الثِّيَابِ الْبِيضِ
5826- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَعْدٍ قَالَ: "رَأَيْتُ بِشِمَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَمِينِهِ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا ثِيَابٌ بِيضٌ يَوْمَ أُحُدٍ مَا رَأَيْتُهُمَا

(10/282)


قَبْلُ وَلاَ بَعْدُ".
5827- حدثنا أبو معمر حدثنا عبد الوارث عن الحسين عن عبد الله بن بريدة عن يحيى بن يعمر حدثه أن أبا الأسود الديلي حدثه أن أبا ذر رضي الله عنه حدثه قال: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وعليه ثوب أبيض وهو نائم ثم أتيته وقد استيقظ فقال: " ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة قلت وإن زنى وإن سرق قال وإن زنى وإن سرق قلت وإن زنى وإن سرق قال وإن زنى وإن سرق قلت وإن زنى وإن سرق قال وإن زنى وإن سرق على رغم أنف أبي ذر" وكان أبو ذر إذا حدث بهذا قال وإن رغم أنف أبي ذر. قال أبو عبد الله هذا عند الموت أو قبله إذا تاب وندم وقال لا إله إلا الله غفر له".
قوله: "باب الثياب البيض" كأنه لم يثبت عنده على شرطه فيها شيء صريح، فاكتفى بما وقع في الحديثين اللذين ذكرهما، وقد أخرج أحمد وأصحاب السنن وصححه الحاكم من حديث سمرة رفعه: "عليكم بالثياب البيض فالبسوها فإنها أطيب وأطهر، وكفنوا فيها موتاكم" وأخرج أحمد وأصحاب السنن إلا النسائي وصححه الترمذي وابن حبان من حديث ابن عباس بمعناه وفيه: "فإنها من خير ثيابكم". حديث سعد وهو ابن أبي وقاص، تقدم في غزوة أحد وفيه تسمية الرجلين وأنهما جبريل وميكائيل، ولم يصب من زعم أن أحدهما إسرافيل. والحديث الثاني عنه. قوله: "عن الحسين" هو بن ذكوان المعلم البصري. قوله: "عن عبد الله بن بريدة" أي بن الحصيب الأسلمي وهو تابعي وشيخه تابعي أيضا إلا أنه أكبر منه وأبو الأسود أيضا تابعي كبير كان في حياة النبي صلى الله عليه وسلم رجلا. قوله: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وعليه ثوب أبيض" في هذا القدر الغرض المطلوب من هذا الحديث وبقيته تتعلق بكتاب الرقاق. وقد أورده فيه من وجه آخر مطولا ويأتي شرحه هناك إن شاء الله تعالى، وفائدة وصفه الثوب. وقوله: "أتيته وهو نائم ثم أتيته وقد استيقظ" الإشارة إلى استحضاره القصة بما فيها ليدل ذلك على إتقانه لها. وقوله: "وإن رغم أنف أبي ذر" يجوز في الغين المعجمة الفتح والكسر أي ذل كأنه لصق بالرغام وهو التراب. وقوله: "قال أبو عبد الله" هو البخاري. وقوله: "هذا عند الموت أو قبله إذا تاب" أي من الكفر وندم يريد شرح قوله: "ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة" وحاصل ما أشار إليه أن الحديث محمول على من وحد ربه ومات على ذلك تائبا من الذنوب التي أشير إليها في الحديث فإنه موعود بهذا الحديث بدخول الجنة ابتداء، وهذا في حقوق الله باتفاق أهل السنة. وأما حقوق العباد فيشترط ردها عند الأكثر، وقيل: بل هو كالأول ويثيب الله صاحب الحق بما شاء. وأما من تلبس بالذنوب المذكورة ومات توبة فظاهر الحديث أنه أيضا داخل في ذلك لكن مذهب أهل السنة أنه في مشيئة الله تعالى ويدل عليه حديث عبادة بن الصامت الماضي في كتاب الإيمان فإن فيه: "ومن أتى شيئا من ذلك فلم يعاقب به فأمره إلى الله تعالى أن شاء عاقبه وإن شاء عفا عنه" وهذا المفسر مقدم على المبهم وكل منهما يرد على المبتدعة من الخوارج ومن المعتزلة

(10/283)


الذين يدعون وجوب خلود من مات من مرتكبي الكبائر من غير توبة في النار أعاذنا الله من ذلك بمنه وكرمه. ونقل ابن التين عن الداودي أن كلام البخاري خلاف ظاهر الحديث فإنه لو كانت التوبة مشترطة لم يقل وإن زنى وإن سرق. قال: وإنما المراد أنه يدخل الجنة إما ابتداء وإما بعد ذلك. والله أعلم.

(10/284)


باب لبس الحرير للرجال وقدر ما يجوز
...
25 - باب لُبْسِ الْحَرِيرِ وَافْتِرَاشِهِ لِلرِّجَالِ وَقَدْرِ مَا يَجُوزُ مِنْهُ
5828- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عُثْمَانَ النَّهْدِيَّ أَتَانَا كِتَابُ عُمَرَ وَنَحْنُ مَعَ عُتْبَةَ بْنِ فَرْقَدٍ بِأَذْرَبِيجَانَ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الْحَرِيرِ إِلاَّ هَكَذَا وَأَشَارَ بِإِصْبَعَيْهِ اللَّتَيْنِ تَلِيَانِ الإِبْهَامَ قَالَ فِيمَا عَلِمْنَا أَنَّهُ يَعْنِي الأَعْلاَمَ" .
[الحديث 5828 – أطرافه في: 5829، 5830، 5834، 5835]
5829- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا عَاصِمٌ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ قَالَ كَتَبَ إِلَيْنَا عُمَرُ وَنَحْنُ بِأَذْرَبِيجَانَ " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ إِلاَّ هَكَذَا وَصَفَّ لَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِصْبَعَيْهِ وَرَفَعَ زُهَيْرٌ الْوُسْطَى وَالسَّبَّابَةَ" .
5830- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ قَالَ كُنَّا مَعَ عُتْبَةَ فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لاَ يُلْبَسُ الْحَرِيرُ فِي الدُّنْيَا إِلاَّ لَمْ يُلْبَسْ منه شيءٌ فِي الْآخِرَةِ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا أَبُو عُثْمَانَ وَأَشَارَ أَبُو عُثْمَانَ بِإِصْبَعَيْهِ: الْمُسَبِّحَةِ وَالْوُسْطَى".
5831- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: "كَانَ حُذَيْفَةُ بِالْمَدَايِنِ فَاسْتَسْقَى فَأَتَاهُ دِهْقَانٌ بِمَاءٍ فِي إِنَاءٍ مِنْ فِضَّةٍ فَرَمَاهُ بِهِ وَقَالَ إِنِّي لَمْ أَرْمِهِ إِلاَّ أَنِّي نَهَيْتُهُ فَلَمْ يَنْتَهِ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ وَالْحَرِيرُ وَالدِّيبَاجُ هِيَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَكُمْ فِي الْآخِرَةِ" .
5832- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ شُعْبَةُ فَقُلْتُ أَعَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ شَدِيداً عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "مَنْ لَبِسَ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا فَلَنْ يَلْبَسَهُ فِي الْآخِرَةِ" .
5833- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ ثَابِتٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ الزُّبَيْرِ يَخْطُبُ يَقُولُ قَالَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " مَنْ لَبِسَ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الْآخِرَةِ" .
5834- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي ذِبْيَانَ خَلِيفَةَ بْنِ كَعْبٍ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ الزُّبَيْرِ يَقُولُ سَمِعْتُ عُمَرَ يَقُولُ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ لَبِسَ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الْآخِرَةِ" وَقَالَ أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ يَزِيدَ قَالَتْ مُعَاذَةُ أَخْبَرَتْنِي أُمُّ عَمْرٍو بِنْتُ عَبْدِ اللَّهِ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ سَمِعَ عُمَرَ سَمِعَ

(10/284)


النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ... نَحْوَهُ".
5835- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حِطَّانَ قَالَ: "سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنْ الْحَرِيرِ فَقَالَتْ ائْتِ ابْنَ عَبَّاسٍ فَسَلْهُ قَالَ: فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ سَلْ ابْنَ عُمَرَ قَالَ فَسَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ فَقَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو حَفْصٍ يَعْنِي عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إِنَّمَا يَلْبَسُ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا مَنْ لاَ خَلاَقَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ" فَقُلْتُ صَدَقَ وَمَا كَذَبَ أَبُو حَفْصٍ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ: حَدَّثَنَا حَرْبٌ عَنْ يَحْيَى حَدَّثَنِي عِمْرَانُ وَقَصَّ الْحَدِيثَ.
قوله: "باب لبس الحرير للرجال، وقدر ما يجوز منه" أي في بعض الثياب. ووقع في "شرح ابن بطال" و"مستخرج أبي نعيم" زيادة افتراشه في الترجمة، والأولى ما عند الجمهور، وقد ترجم للافتراش مستقلا كما سيأتي بعد أبواب. والحرير معروف، وهو عربي سمي بذلك لخلوصه يقال لكل خالص محرر، وحررت الشيء خلصته من الاختلاط بغيره. وقيل: هو فارسي معرب، والتقييد بالرجال يخرج النساء، وسيأتي في ترجمة مستقلة. قال ابن بطال: اختلف في الحرير فقال قوم: يحرم لبسه في كل الأحوال حتى على النساء، نقل ذلك عن علي وابن عمر وحذيفة وأبي موسى وابن الزبير، ومن التابعين عن الحسن وابن سيرين. وقال قوم يجوز لبسه مطلقا وحملوا الأحاديث الواردة في النهي عن لبسه على من لبسه خيلاء أو على التنزيه. قلت: وهذا الثاني ساقط لثبوت الوعيد على لبسه. وأما قول عياض: حمل بعضهم النهي العام في ذلك على الكراهة لا على التحريم، فقد تعقبه ابن دقيق العيد فقال: قد قال القاضي عياض "إن الإجماع انعقد بعد ابن الزبير ومن وافقه على تحريم الحرير على الرجال وإباحته للنساء"، ذكر ذلك في الكلام على قول ابن الزبير في الطريق التي أخرجها مسلم: "ألا لا تلبسوا نساءكم الحرير، فإني سمعت عمر" فذكر الحديث الآتي في الباب، قال: فإثبات قول بالكراهة دون التحريم إما أن ينقض ما نقله من الإجماع وإما أن يثبت أن الحكم العام قبل التحريم على الرجال كان هو الكراهة ثم انعقد الإجماع على التحريم على الرجال والإباحة للنساء، ومقتضاه نسخ الكراهة السابقة، وهو بعيد جدا. وأما ما أخرج عبد الرزاق عن معمر عن ثابت عن أنس قال: "لقي عمر عبد الرحمن بن عوف فنهاه عن لبس الحرير فقال: لو أطعتنا للبسته معنا، وهو يضحك" فهو محمول على أن عبد الرحمن فهم من إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم له في لبس الحرير نسخ التحريم ولم ير تقييد الإباحة بالحاجة كما سيأتي، واختلف في علة تحريم الحرير عل رأيين مشهورين: أحدهما الفخر والخيلاء، والثاني: لكونه ثوب رفاهية فيليق بزي النساء دون شهامة الرجال. ويحتمل علة ثالثة وهي التشبه بالمشركين. قال ابن دقيق العيد: وهذا قد يرجع إلى الأول لأنه من سمة المشركين، وقد يكون المعنيان معتبرين إلا أن المعنى الثاني لا يقتضي التحريم لأن الشافعي قال في "الأم": ولا أكره لباس اللؤلؤ إلا للأدب فإنه زي النساء. واستشكل بثبوت اللعن للمتشبهين من الرجال بالنساء فإنه يقتضي منع ما كان مخصوصا بالنساء في جنسه وهيئته. وذكر بعضهم علة أخرى وهي السرف والله أعلم. قوله: "سمعت أبا عثمان النهدي قال: أتانا كتاب عمر" كذا قال أكثر أصحاب قتادة وشذ عمر بن

(10/285)


عامر فقال عن قتادة عن أبي عثمان عن عثمان فذكر المرفوع، وأخرجه البزار وأشار إلى تفرده به، فلو كان ضابطا لقلنا سمعه أبو عثمان من كتاب عمر ثم سمعه من عثمان بن عفان، لكن طرق الحديث تدل على أنه عن عمر لا عن عثمان، وقد ذكره أصحاب الأطراف في ترجمة أبي عثمان عن عمر، وفيه نظر لأن المقصود بالكتابة إليه هو عتبة بن فرقد، وأبو عثمان سمع الكتاب يقرأ، فإما أن تكون روايته له عن عمر بطريق الوجادة وإما أن يكون بواسطة المكتوب إليه وهو عتبة بن فرقد، ولم يذكروه في رواية أبي عثمان عن عتبة، وقد نبه الدار قطني على أن هدا الحديث أصل في جواز الرواية بالكتابة عند الشيخين، قال ذلك بعد أن استدركه عليهما، وفي ذلك رجوع منه عن الاستدراك عليه، والله أعلم. قوله: "ونحن مع عتبة بن فرقد" صحابي مشهور سمي أبوه باسم النجم، واسم جده يربوع من بن حبيب بن مالك السلمي، ويقال إن يربوع هو فرقد وأنه لقب له، وكان عتبة أميرا لعمر في فتوح بلاد الجزيرة. قوله: "بأذربيجان" تقدم ضبطها في أوائل كتاب فضائل القرآن، وذكر المعافي في "تاريخ الموصل" أن عتبة هو الذي افتتحها سنة ثماني عشرة. وروى شعبة عن حصين بن عبد الرحمن السلمي عن أم عاصم امرأة عتبة "أن عتبة غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوتين" وأما قول المعافي إنه شهد خيبر وقسم له رسوله الله صلى الله عليه وسلم منها فلم يوافق على ذلك، وإنما أول مشاهده حنين روينا في "المعجم الصغير للطبراني" من طريق أم عاصم امرأة عتبة عن عتبة قال: "أخذني الشرى على عهد رسول الله، فأمرني فتجردت فوضع يده على بطني وظهري فعبق بي الطيب من يومئذ" قالت أم عاصم: كنا عنده أربع نسوة فكنا نجتهد في الطيب وما كان هو يمسه وإنه كان لأطيبنا ريحا. قوله: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم" زاد الإسماعيلي فيه من طريق علي بن الجعد عن شعبة بعد قوله مع عتبة بن فرقد "أما بعد فاتزروا وارتدوا وانتعلوا وألقوا الخفاف والسراويلات، وعليكم بلباس أبيكم إسماعيل، وإياكم والتنعم وزي العجم، وعليكم بالشمس فإنها حمام العرب، وتمعددوا واخشوشنوا واخلولقوا واقطعوا الركب وانزوا نزوا وارموا الأغراض، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم" الحديث. قوله: "نهى عن الحرير" أي عن لبس الحرير كما في الرواية التي تلي هذه. قوله: "إلا هكذا" زاد الإسماعيلي في روايته من هذا الوجه: وهكذا. قوله: "وأشار بإصبعيه اللتين تليان الإبهام" المشير بذلك يأتي في رواية عاصم ما يقتضي أنه النبي صلى الله عليه وسلم كما سأبينه. قوله: "اللتين تليان الإبهام" يعني السبابة والوسطى، وصرح بذلك في رواية عاصم. قوله: "فيما علمنا أنه يعني الأعلام" بفتح الهمزة جمع علم بالتحريك أي الذي حصل في علمنا أن المراد بالمستثنى الأعلام وهو ما يكون في الثياب من تطريف وتطريز ونحوهما. ووقع في رواية مسلم والإسماعيلي: "فما" بفتح الفاء بعدها حرف نفي "عتمنا" بمثناة بدل اللام أي ما أبطأنا "في معرفة ذلك لما سمعناه" قال أبو عبيد العاتم البطيء، يقال عتم الرجل القرى إذا أخره. قوله: "حدثنا أحمد بن يونس" هو ابن عبد الله بن يونس نسب لجده وهو بذلك أشهر، وشيخه زهير بن معاوية أبو خيثمة الجعفي، وعاصم هو ابن سليمان الأحول، وقد أخرجه مسلم عن أحمد بن يونس هذا فبين جميع ذلك في سياقه. قوله: "كتب إلينا عمر" كذا للأكثر وكذا لمسلم، وللكشميهني: "كتب إليه" أي إلى عتبة بن فرقد، وكلتا الروايتين صواب فإنه كتب إلى الأمير لأنه هو الذي يخاطبه وكتب إليهم كلهم بالحكم. قوله: "أن النبي صلى الله عليه وسلم" زاد فيه مسلم قبل هذا "يا عتبة بن فرقد؛ إنه ليس من كدك ولا كد أبيك، فأشبع المسلمين في رحالهم مما تشبع منه في رحلك، وإياكم والتنعم وزي أهل الشرك ولبس الحرير فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى" فذكر

(10/286)


الحديث، وبين أبو عوانة في صحيحه من وجه آخر سبب قول عمر ذلك فعنده في أوله "أن عتبة بن فرقد بعث إلى عمر مع غلام له بسلال فيها خبيص عليها اللبود فلما رآه عمر قال: أيشبع المسلمون في رحالهم من هذا؟ قال: لا. فقال عمر: لا أريده. وكتب إلى عتبة: إنه ليس من كدك" الحديث. قوله: "ورفع زهير الوسطى والسبابة" زاد مسلم في روايته: "وضمهما". قوله: "يحيى" هو ابن سعيد القطان. قوله: "عن التيمي" هو سليمان بن طرخان. قوله: "عن أبي عثمان قال: كنا مع عتبة فكتب إليه عمر" في رواية مسلم من طريق جرير عن سليمان التيمي "فجاءنا كتاب عمر" وكذا عند الإسماعيلي من طريق معتمر بن سليمان. قوله: "لا يلبس الحرير في الدنيا إلا لم يلبس منه شيء في الآخرة" كذا للمستملي والسرخسي "يلبس" بضم أوله في الموضعين، وكذا للنسفي وقال: "في الآخرة منه" وللكشميهني: "لا يلبس الحرير في الدنيا إلا لم يلبس منه شيئا في الآخرة" بفتح أوله على البناء للفاعل، والمراد به الرجل المكلف، وأورده الكرماني بلفظ: "إلا من لم يلبسه" قال وفي أخرى "إلا من ليس يلبس منه" اهـ. وفي رواية مسلم المذكورة "لا يلبس الحرير إلا من ليس له منه شيء في الآخرة". قوله: "وأشار أبو عثمان بإصبعيه المسبحة والوسطى" وقع هذا في رواية المستملي وحده، وهو لا يخالفه ما في رواية عاصم، فيجمع بأن النبي صلى الله عليه وسلم أشار أولا ثم نقله عنه عمر فبين بعد ذلك بعض رواته صفة الإشارة. قوله: "حدثنا الحسن بن عمر" أي ابن شقيق الجرمي بفتح الجيم وسكون الراء أبو علي البلخي، كذا جزم به الكلاباذي وآخرون، وشذ ابن عدي فقال: هو ابن عمر بن إبراهيم العبدي. قلت: ولم أقف لهذا العبدي على ترجمة، إلا أن ابن حبان قال في الطبقة الرابعة من الثقات الحسن بن عمر بن إبراهيم روى عن شعبة، فلعله هذا. وقد جزم صاحب "المزهر" أنه يكنى أبا بصير وأنه من شيوخ البخاري وأنه أخرج له حديثين وأنه أخرج للحسن بن عمر بن شبة وأكثر من ذلك. قلت ولم أر في جميع البخاري بهذه الصورة إلا أربعة أحاديث أحدها في "باب الطواف بعد العصر" من كتاب الحج قال فيه: "حدثنا الحسن بن عمر البصري حدثنا يزيد بن زريع" وهذا وآخر مثل هذا في الاستئذان، والرابع في كتاب الأحكام فساقه كما في سياق الحج سواء فتعين أنه هو. وأما هذا والذي في الاستئذان فعلى الاحتمال والأقرب أنه كما قال الأكثر. قوله: "معتمر" هو ابن سليمان التيمي. قوله: "وأشار أبو عثمان بإصبعيه المسبحة والوسطى" يريد أن معتمر بن سليمان رواه عن أبيه عن أبي عثمان عن كتاب عمر وزاد هذه الزيادة، وهذا مما يؤيد أن رواية الأكثر في الطريق التي قبلها التي خلت عن هذه الزيادة أولى من رواية المستملي التي أوردها فيه، فإن هذا القدر زاد معتمر بن سليمان في روايته عن أبيه، ثم ظهر لي أن الذي زاده معتمر تفسير الإصبعين، فإن الإسماعيلي أخرجه من روايته ومن رواية يحيى القطان جميعا عن سليمان التيمي وقال في سياقه "كنا مع عتبة بن فرقد فكتب إليه عمر يحدثه بأشياء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال وفيما كتبه إليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ألا لا يلبس الحرير في الدنيا من له في الآخرة منه شيء، إلا، وأشار بإصبعيه" فعرف أن زيادة معتمر تسمية الإصبعين. وقد أخرجه مسلم والإسماعيلي أيضا من طريق جرير عن سليمان وقال فيه: "بإصبعيه اللتين تليان الإبهام فرأيناها أزرار الطيالسة حين رأينا الطيالسة" قال القرطبي: الأزرار جمع زر بتقديم الزاي: ما يزرر به الثوب بعضه على بعض، والمراد به هنا أطراف الطيالسة، والطيالسة جمع طيلسان وهو الثوب الذي له علم وقد يكون كساء، وكان للطيالسة التي رآها أعلام حرير في أطرافها. قلت: وقد أغفل صاحب "المشارق" و"النهاية" في مادة ط ل س ذكر الطيالسة

(10/287)


وكأنهما تركا ذلك لشهرته، لكن المعهود الآن ليس على الصفة المذكورة هنا، وقد قال عياض في "شرح مسلم" المراد بأزرار الطيالسة أطرافها. ووقع في حديث أسماء بنت أبي بكر عند مسلم أنها "أخرجت جبة طيالسة كسروانية فقالت: هذه جبة رسول الله صلى الله عليه وسلم" وهذا يدل على أن المراد بالطيالسة في هذا الحديث ما يلبس فيشمل الجسد، لا المعهود الآن. ولم يقع في رواية أبي عثمان في الصحيحين في استثناء ما يجوز من لبس الحرير إلا ذكر الإصبعين، لكن وقع عند أبي داود من طريق حماد بن سلمة عن عاصم الأحول في هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم: "نهى عن الحرير إلا ما كان هكذا وهكذا إصبعين وثلاثة وأربعة" ولمسلم من طريق سويد بن غفلة بفتح المعجمة والفاء واللام الخفيفتين "أن عمر خطب فقال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبس الحرير إلا موضع إصبعين أو ثلاث أو أربع" و"أو" هنا للتنويع والتخيير، وقد أخرجه ابن أبي شيبة من هذا الوجه بلفظ: "إن الحرير لا يصلح منه إلا هكذا وهكذا وهكذا يعني أصبعين وثلاثا وأربعا" وجنح الحليمي إلى أن المراد بما وقع في رواية مسلم أن يكون في كل قدر إصبعين، وهو تأويل بعيد من سياق الحديث، وقد وقع عند النسائي في رواية سويد "لم يرخص في الديباج إلا في موضع أربعة أصابع". قوله: "الحكم" هو ابن عتيبة بمثناة ثم موحدة مصغر؛ وابن أبي ليلى هو عبد الرحمن، ووقع في رواية القابسي عن أبي ليلى وهو غلط لكن كتب في الهامش: الصواب ابن أبي ليلى. قوله: "كان حذيفة" هو ابن اليمان وقد مضى شرح حديثه هذا في كتاب الأشربة. قوله: "الذهب والفضة والحرير والديباج هي لهم في الدنيا ولكم في الآخرة" تمسك به من منع استعمال النساء للحرير والديباج، لأن حذيفة استدل به على تحريم الشرب في إناء الفضة وهو حرام على النساء والرجال جميعا فيكون الحرير كذلك. والجواب أن الخطاب بلفظ لكم للمذكر، ودخول المؤنث فيه قد اختلف فيه؛ والراجح عند الأصوليين عدم دخولهن. وأيضا فقد ثبت إباحة الحرير والذهب للنساء كما سيأتي التنبيه عليه في "باب الحرير للنساء" قريبا، وأيضا فإن هذا اللفظ مختصر وقد تقدم بلفظ: " لا تلبسوا الحرير ولا الديباج، ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة" والخطاب في ذلك للذكور، وحكم النساء في الافتراش سيأتي في باب افتراش الحرير قريبا، وقوله: "هي لهم في الدنيا" تمسك به من قال إن الكافر ليس مخاطبا بالفروع. وأجيب بأن المزاد هي شعارهم وزيهم في الدنيا، ولا يدل ذلك على الإذن لهم في ذلك شرعا. قوله: "قال شعبة: فقلت أعن النبي صلى الله عليه وسلم فقال: شديدا عن النبي صلى الله عليه وسلم" وقع في رواية علي بن الجعد عن شعبة "سألت عبد العزيز بن صهيب عن الحرير فقال: سمعت أنسا. فقلت: عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال: شديدا " وهذا الجواب يحتمل أن يكون تقريرا لكونه مرفوعا إنما حفظه حفظا شديدا، ويحتمل أن يكون إنكارا أي جزمي برفعه عن النبي صلى الله عليه وسلم يقع شديدا علي، وأبعد من قال: المراد أنه رفع صوته رفعا شديدا. وقال الكرماني: لفظة "شديدا" صفة لفعل محذوف وهو الغضب أي غضب عبد العزيز من سؤال شعبة غضبا شديدا، كذا قال ووجهه غير وجيه، والاحتمال الأول عندي أوجه، ولكنه يؤيد الثاني أن أحمد أخرجه عن محمد بن جعفر عن شعبة فقال فيه: "سمعت أنسا يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم" وأخرجه أيضا عن إسماعيل بن علية عن عبد العزيز عن أنس قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" وأخرجه مسلم أيضا من طريق إسماعيل هذا. قوله: "عن ثابت" هو البناني. قوله: "سمعت ابن الزبير يخطب" زاد النسائي: "وهو على المنبر" أخرجه عن قتيبة عن حماد بن زيد به. وأخرجه أحمد عن عفان عن حماد بلفظ: "يخطبنا". قوله: "قال محمد صلى الله عليه وسلم"

(10/288)


هذا من مرسل ابن الزبير، ومراسيل الصحابة محتج بها عند جمهور من لا يحتج بالمراسيل، لأنهم إما أن يكون عند الواحد منهم عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن صحابي آخر، واحتمال كونها عن تابعي لوجود رواية بعض الصحابة عن بعض التابعين نادر، لكن تبين من الروايتين اللتين بعد هذه أن ابن الزبير إنما حمله عن النبي صلى الله عليه وسلم بواسطة عمر، ومع ذلك فلم أقف في شيء من الطرق المتفقة عن عمر أنه رواه بلفظ: "لن" بل الحديث عنه في جميع الطرق بلفظ: "لم" والله أعلم. وابن الزبير قد حفظ من النبي صلى الله عليه وسلم عدة أحاديث، منها حديثه "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم افتتح الصلاة فرفع يديه" أخرجه أحمد. ومنها حديثه "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو هكذا وعقد ابن الزبير" أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي. ومنها حديثه أنه "سمع النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن نبيذ الجر" أخرجه أحمد أيضا. قوله: "لن يلبسه في الآخرة" كذا في جميع الطرق عن ثابت، وهو أوضح في النفي. قوله: "عن أبي ذبيان" - بكسر المعجمة ويجوز ضمها بعدها موحدة ساكنة ثم تحتانية - هو التميمي البصري، ما له في البخاري سوى هذا الموضع، وقد وثقه النسائي. ووقع في رواية أبي علي بن السكن عن الفربري "عن أبي ظبيان" بظاء مشالة بدل الذال وهو خطأ، وأشد خطأ منه ما وقع قي رواية أبي زيد المروزي عن الفربري "عن أبي دينار" بمهملة مكسورة بعدها تحتانية ساكنة ونون ثم راء، نبه على ذلك أبو محمد الأصيلي. قوله: "سمعت ابن الزبير يقول سمعت عمر يقول" وقع في رواية النضر بن شميل عن شعبة "حدثنا خليفة بن كعب سمعت عبد الله بن الزبير يقول: لا تلبسوا نساءكم الحرير، فإني سمعت عمر" أخرجه النسائي. وقد أخرجه النسائي أيضا من طريق جعفر بن ميمون عن خليفة بن كعب فلم يذكر عمر في إسناده، وشعبة أحفظ من جعفر بن ميمون. قوله: "من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة" في رواية الكشميهني: "لن يلبسه" والمحفوظ من هذا الوجه "لم" وكذا أخرجه مسلم والنسائي، وزاد النسائي في رواية جعفر بن ميمون في آخره: "ومن لم يلبسه في الآخرة لم يدخل الجنة قال الله تعالى: {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} " وهذه الزيادة مدرجة في الخبر، وهي موقوفة على ابن الزبير، بين ذلك النسائي أيضا من طريق شعبة فذكر مثل سند حيث الباب وفي آخره: "قال ابن الزبير" فذكر الزيادة، وكذا أخرجه الإسماعيلي من طريق علي بن الجعد عن شعبة ولفظه: "فقال ابن الزبير من رأيه: ومن لم يلبس الحرير في الآخرة لم يدخل الجنة، وذلك لقوله تعالى: {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} " وقد جاء مثل ذلك عن ابن عمر أيضا أخرجه النسائي من طريق حفصة بنت سيرين عن خليفة بن كعب قال: "خطبنا ابن الزبير" فذكر الحديث المرفوع وزاد: "فقال قال ابن عمر إذا والله لا يدخل الجنة، قال الله: {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} " وأخرج أحمد والنسائي وصححه الحاكم من طريق داود السراج عن أبي سعيد فذكر الحديث المرفوع مثل حديث عمر هذا في الباب وزاد: "وإن دخل الجنة لبسه أهل الجنة ولم يلبسه هو" وهذا يحتمل أن يكون أيضا مدرجا، وعلى تقدير أن يكون الرفع محفوظا فهو من العام المخصوص بالمكلفين من الرجال للأدلة الأخرى بجوازه للنساء، وستأتي الإشارة إلى معنى الوعيد فيه قريبا من طريق أخرى لرواية ابن الزبير عن عمر. قوله: "وقال أبو معمر" هو عبد الله بن معمر بن عمرو بن الحجاج، وقد أكثر عنه البخاري، ولم يصرح ف هذا الموضع عنه بالتحديث، وقد أخرجه الإسماعيلي وأبو نعيم في مستخرجيهما من طريق يعقوب بن سفيان، زاد الإسماعيلي ويحيى بن معلى الرازي "قالا حدثنا أبو معمر". قوله: "حدثنا عبد الوارث" هو ابن سعيد ويزيد هو الضبعي المعروف بالرشك بكسر الراء وسكون المعجمة، ومعاذة هي العدوية، والإسناد من مبتدئه إلى معاذة بصريون. قوله: "أخبرتني أم عمرو بنت

(10/289)


عبد الله" جزم أبو نصر الكلاباذي ومن تبعه بأنها بنت عبد الله بن الزبير، ولم أرها منسوبة فيما وقفت عليه من طرق هذا الحديث. قوله: "سمعت عبد الله بن الزبير سمع عمر" في رواية الإسماعيلي: "سمعت من عبد الله بن الزبير يقول في خطبته أنه سمع من عمر بن الخطاب". قوله: "نحوه" ساقه الإسماعيلي بلفظ: "فإنه لا يكساه في الآخرة" وله من طريق شيبان بن فروخ عن عبد الوارث "فلا كساه الله في الآخرة" طريق أخرى لحديث عمر. قوله: "حدثنا محمد بن بشار" هو بندار، وعثمان هو ابن عمر بن فارس، والسند كله إلى عمران بن حطان بصريون، وعمران هو السدوسي كان أحد الخوارج من العقدية بل هو رئيسهم وشاعرهم، وهو الذي مدح ابن ملجم قاتل علي بالأبيات المشهورة، وأبوه حطان بكسر المهملة بعدها طاء مهملة ثقيلة، وإنما أخرج له البخاري على قاعدته في تخريج أحاديث المبتدع إذا كان صامد اللهجة متدينا؛ وقد قيل إن عمران تاب من بدعته وهو بعيد، وقيل: إن يحيى بن أبي كثير حمله عنه قبل أن يبتدع، فإنه كان تزوج امرأة من أقاربه تعتقد رأي الخوارج لينقلها عن معتقدها فنقلته هي إلى معتقدها، وليس له في البخاري سوى هذا الموضع وهو متابعة، وآخر في "باب نقض الصور". قوله: "سألت عائشة عن الحرير فقالت: ائت ابن عباس فسله، قال فسألته فقال: سل ابن عمر" كذا في هذه الطريق. وفي رواية حرب بن شداد التي تذكر عقب هذه بالعكس أنه سأل ابن عباس فقال: سل عائشة، فسألها فقالت: سل أبو عمر. قوله: "أخبرني أبو حفص يعني عمر بن الخطاب" كذا في الأصل. قوله: "فقلت صدق وما كذب أبو حفص" هو قول عمران بن حطان. قوله: "وقال عبد الله بن رجاء" هو الغداني بضم المعجمة وتخفيف المهملة، وهو من شيوخ البخاري أيضا لكن لم يصرح في هذا بتحديثه. قوله: "حدثنا حرب" هو ابن شداد، وزعم الكرماني أنه ابن ميمون، ونسبه لصاحب الكاشف وهو عجيب فإن صاحب الكاشف لم يرقم لحرب بن ميمون علامة البخاري، وإنما قال في ترجمة عبد الله بن رجاء روى عن حرب بن ميمون، ولا يلزم من كون عبد الله بن رجاء روى عنه أن لا يروي عن حرب بن شداد، يل روايته عن حرب بن شداد موجودة في غير هذا ويحيى هو ابن أبي كثير، وأراد البخاري بهذه الرواية تصريح يحيى بتحديث عمران له بهذا الحديث. قوله: "وقص الحديث" ساقه النسائي موصولا عن عمرو بن منصور عن عبد الله بن رجاء عن حرب بن شداد بلفظ: "من لبس الحرير في الدنيا فلا خلاق له في الآخرة" وقد ذكر الدار قطني أن هذا اللفظ في حديث عمر خطأ، ولعل البخاري لم يسق اللفظ لهذا المعنى. وفي هذه الأحاديث بيان واضح لمن قال يحرم على الرجال لبس الحرير للوعيد المذكور، وقد تقدم شرح معناه في كتاب الأشربة في شرح أول حديث منه، فإن الحكم فيها واحد وهو نفي اللبس ونفي الشرب في الآخرة وفي الجنة. وحاصل أعدل الأقوال أن الفعل المذكور مقتض للعقوبة المذكورة، وقد يتخلف ذلك لمانع كالتوبة والحسنات التي توازن والمصائب التي تكفر، وكدعاء الولد بشرائط، وكذا شفاعة من يؤذن له في الشفاعة، وأعم من ذلك كله عفو أرحم الراحمين. وفيه حجة لمن أجاز لبس العلم من الحرير إذا كان في الثوب، وخصه بالقدر المذكور وهو أربع أصابع، وهذا هو الأصح عند الشافعية، وفيه حجة على من أجاز العلم في الثوب مطلقا ولو زاد على أربعة أصابع، وهو منقول عن بعض المالكية، وفيه حجة على من منع العلم في الثوب مطلقا، وهو ثابت عن الحسن وابن سيرين وغيرهما، لكن يحتمل أن يكونوا منعوه ورعا وإلا فالحديث حجة عليهم فلعلهم لم يبلغهم، قال النووي وقد نقل مثل ذلك عن مالك وهو مذهب مردود، وكذا مذهب من أجاز بغير تقدير والله أعلم. واستدل به على جواز لبس الثوب المطرز بالحرير، وهو ما جعل عليه طراز حرير مركب،

(10/290)


وكذلك المطرف وهو ما سجفت أطرافه بسجف من حرير بالتقدير المذكور، وقد يكون التطريز في نفس الثوب بعد النسج، وفيه احتمال ستأتي الإشارة إليه. واستدل به أيضا على جواز لبس الثوب الذي يخالطه من الحرير مقدار العلم سواء كان ذلك القدر مجموعا أو مفرقا وهو قوي، وسيأتي البحث في ذلك في "باب القسي" بعد بابين.

(10/291)


26 - باب مَسِّ الْحَرِيرِ مِنْ غَيْرِ لُبْسٍ
وَيُرْوَى فِيهِ عَنْ الزُّبَيْدِيِّ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
5836- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْبَرَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ أُهْدِيَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَوْبُ حَرِيرٍ فَجَعَلْنَا نَلْمُسُهُ وَنَتَعَجَّبُ مِنْهُ. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَتَعْجَبُونَ مِنْ هَذَا قُلْنَا نَعَمْ قَالَ مَنَادِيلُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنْ هَذَا" .
قوله: "باب من مس الحرير من غير لبس، ويروى فيه عن الزبيدي عن الزهري عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم" ذكر المزي في "الأطراف" أنه أراد بهذا التعليق ما أخرجه أبو داود والنسائي من رواية بقية عن الزبيدي بهذا الإسناد إلى أنس أنه "رأى على أم كلثوم بنت النبي صلى الله عليه وسلم بردا سيراء" كذا قال، وليس هذا مراد البخاري، والرؤية لا يقال لها مس، وأيضا فلو كان هذا الحديث مراده لجزم به لأنه صحيح عنده على شرطه، وقد أخرجه في "باب الحرير للنساء" من رواية شعيب عن الزهري كما سيأتي قريبا، وإنما أراد البخاري ما رويناه في "المعجم الكبير" للطبراني وفي "فوائد تمام" من طريق عبد الله بن سالم الحمصي عن الزبيدي عن الزهري عن أنس قال: "أهدي للنبي صلى الله عليه وسلم حلة من استبرق، فجعل ناس يلمسونها بأيديهم ويتعجبون منها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "تعجبكم هذه؟ فوالله لمناديل سعد في الجنة أحسن منها" قال الدار قطني في "الأفراد" لم يروه عن الزبيدي إلا عبد الله بن سالم. ومما يؤكد ما قلته أن البخاري لما أخرج في المناقب حديث البراء بن عازب في قصة سعد بن معاذ في هذا المعنى موصولا قال بعده: "رواه الزهري عن أنس" ولما صدر بحديث الزهري عن أنس - المعلق هنا - عقبه بحديث البراء الموصول بعينه والله أعلم. قوله في حديث البراء "فجعلنا نلمسه" جزم في "المحكم" بأنه بضم الميم في المضارع، وقوله: "مناديل سعد" قيل: خص المناديل بالذكر لكونها تمتهن فيكون ما فوقها أعلى منها بطريق الأولى، قال ابن بطال: النهي عن لبس الحرير ليس من أجل نجاسة عينه بل من أجل أنه ليس من لباس المتقين، وعينه مع ذلك طاهرة فيجوز مسه وبيعه والانتفاع بثمنه، وقد تقدم شيء مما يتعلق بالحديث المذكور في كتاب الهبة.

(10/291)


27 - باب افْتِرَاشِ الْحَرِيرِ وَقَالَ عَبِيدَةُ: هُوَ كَلُبْسِهِ
5837- حَدَّثَنَا عَلِيٌّ حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "نَهَانَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَشْرَبَ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَأَنْ نَأْكُلَ فِيهَا وَعَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ وَأَنْ نَجْلِسَ عَلَيْهِ" .
قوله: "باب افتراش الحرير" أي حكمه في الحل والحرمة. قوله: "وقال عبيدة" هو ابن عمرو السلماني بسكون

(10/291)


28 - باب لُبْسِ الْقَسِّيِّ
وَقَالَ عَاصِمٌ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ قَالَ قُلْتُ لِعَلِيٍّ مَا الْقَسِّيَّةُ قَالَ ثِيَابٌ أَتَتْنَا مِنْ الشَّأْمِ أَوْ مِنْ مِصْرَ مُضَلَّعَةٌ فِيهَا حَرِيرٌ وَفِيهَا أَمْثَالُ الأُتْرُنْجِ وَالْمِيثَرَةُ كَانَتْ النِّسَاءُ تَصْنَعُهُ لِبُعُولَتِهِنَّ مِثْلَ الْقَطَائِفِ يُصَفِّرْنَهَا وَقَالَ جَرِيرٌ عَنْ يَزِيدَ فِي حَدِيثِهِ الْقَسِّيَّةُ ثِيَابٌ مُضَلَّعَةٌ يُجَاءُ بِهَا مِنْ مِصْرَ فِيهَا الْحَرِيرُ وَالْمِيثَرَةُ جُلُودُ السِّبَاعِ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ عَاصِمٌ أَكْثَرُ وَأَصَحُّ فِي الْمِيثَرَةِ
5838- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَشْعَثَ بْنِ أَبِي الشَّعْثَاءِ حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ سُوَيْدِ بْنِ مُقَرِّنٍ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: " نَهَانَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْمَيَاثِرِ الْحُمْرِ وَالْقَسِّيِّ" .
قوله: "باب لبس القسي" بفتح القاف وتشديد المهملة بعدها ياء نسبة، وذكر أبو عبيد في "غريب الحديث" أن أهل الحديث يقولونه بكسر القاف وأهل مصر يفتحونها، وهي نسبة إلى بلد يقال لها القس رأيتها ولم يعرفها الأصمعي، وكذا قال الأكثر هي نسبة للقس بمصر منهم الطبري وابن سيده. وقال الحازمي: هي من بلاد الساحل وقال المهلب هي على ساحل مصر وهي حصن بالقرب من الفرما من جهة الشام، وكذا وقع في حديث ابن وهب أنها تلي الفرما والفرما بالفاء وراء مفتوحة. وقال النووي: هي بقرب تنيس وهو متقارب، وحكى أبو عبيد

(10/292)


29 - باب مَا يُرَخَّصُ لِلرِّجَالِ مِنْ الْحَرِيرِ لِلْحِكَّةِ
5839- حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: " رَخَّصَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلزُّبَيْرِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ فِي لُبْسِ الْحَرِيرِ لِحِكَّةٍ بِهِمَا" .
قوله: "باب ما يرخص للرجال من الحرير للحكة" بكسر المهملة وتشديد الكاف: نوع من الجرب أعاذنا الله تعالى منه، وذكر الحكة مثالا لا قيدا، وقد ترحم له في الجهاد "الحرير للجرب" وتقدم أن الراجح أنه بالمهملة وسكون الراء. قوله: "حدثني محمد" كذا للأكثر غير منسوب ووقع في رواية أبي علي بن السكن "حدثنا محمد بن سلام" وبه جزم المزي في الأطراف. قوله: "عن أنس" وقع في رواية يحيى القطان عن شعبة عن قتادة "سمعت أنسا" وقد تقدمت في الجهاد. قوله: "للزبير وعبد الرحمن في لبس الحرير لحكة بهما" أي لأجل الحكة. وفي رواية سعيد عن قتادة "من حكة كانت بهما" وفي رواية همام عن قتادة أنهما شكيا إلى النبي صلى الله عليه وسلم القمل، وقد تقدمنا في الجهاد، وكأن الحكة نشأت من أثر القمل، وتقدمت مباحثه في كتاب الجهاد، قال الطبري: فيه دلالة على أن النهي عن لبس الحرير لا يدخل فيه من كانت به علة يخففها لبس الحرير انتهى. ويلتحق بذلك ما يقي من الحر أو البرد حيث لا يوجد غيره، وقد تقدم في الجهاد أن بعض الشافعية خص الجواز بالسفر دون الحضر، واختاره ابن

(10/295)


الصلاح، وخصه النووي في "الروضة" مع ذلك بالحكة ونقله الرافعي في القمل أيضا.
" تنبيه ": وقع في "الوسيط للغزالي" أن الذي رخص له في لبس الحرير حمزة بن عبد المطلب، وغلطوه. وفي وجه للشافعية أن الرخصة خاصة بالزبير وعبد الرحمن، وقد تقدم في الجهاد عن عمر ما يوافقه.

(10/296)


30 - باب الْحَرِيرِ لِلنِّسَاءِ
5840- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ ح و حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَيْسَرَةَ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "كَسَانِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُلَّةً سِيَرَاءَ فَخَرَجْتُ فِيهَا فَرَأَيْتُ الْغَضَبَ فِي وَجْهِهِ فَشَقَّقْتُهَا بَيْنَ نِسَائِي".
5841- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ حَدَّثَنِي جُوَيْرِيَةُ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَأَى حُلَّةَ سِيَرَاءَ تُبَاعُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ ابْتَعْتَهَا تَلْبَسُهَا لِلْوَفْدِ إِذَا أَتَوْكَ وَالْجُمُعَةِ قَالَ: "إِنَّمَا يَلْبَسُ هَذِهِ مَنْ لاَ خَلاَقَ لَهُ" وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى عُمَرَ حُلَّةَ سِيَرَاءَ حَرِيرٍ كَسَاهَا إِيَّاهُ فَقَالَ عُمَرُ كَسَوْتَنِيهَا وَقَدْ سَمِعْتُكَ تَقُولُ فِيهَا مَا قُلْتَ فَقَالَ: " إِنَّمَا بَعَثْتُ إِلَيْكَ لِتَبِيعَهَا أَوْ تَكْسُوَهَا" .
5842- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّهُ "رَأَى عَلَى أُمِّ كُلْثُومٍ عَلَيْهَا السَّلاَم بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُرْدَ حَرِيرٍ سِيَرَاءَ".
قوله: "باب الحرير للنساء" كأنه لم يثبت عنده الحديثان المشهوران في تخصيص النهي بالرجال صريحا فاكتفى بما يدل على ذلك. وقد أخرج أحمد وأصحاب السنن وصححه ابن حبان والحاكم من حديث علي "أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ حريرا وذهبا فقال: هذان حرامان على ذكور أمتي حل لإناثهم" وأخرج أبو داود والنسائي وصححه الترمذي والحاكم من حديث موسى وأعله ابن حبان وغيره بالانقطاع وأن رواية سعيد بن أبي هند لم تسمع من أبي موسى. وأخرج أحمد والطحاوي وصححه من حديث مسلمة بن مخلد أنه قال لعقبة بن عامر: قم فحدث بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "سمعته يقول: الذهب والحرير حرام على ذكور أمتي حل لإناثهم" قال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة: إن قلنا إن تخصيص النهي للرجال لحكمة فالذي يظهر أنه سبحانه وتعالى علم قلة صبرهن عن التزين فلطف بهن في إباحته، ولأن تزيينهن غالبا إنما هو للأزواج، وقد ورد أن "حسن التبعل من الإيمان" قال، ويستنبط من هذا أن الفحل لا يصلح له أن يبالغ في استعمال الملذوذات لكون ذلك من صفات الإناث. قوله: "عن عبد الملك بن ميسرة" بفتح الميم وتحتانية ساكنة ثم مهملة هو الهلالي أبو زيد الزراد بزاي ثم راء ثقيلة، وقد تقدم في النفقات من وجه آخر عن شعبة أخبرني عبد الملك، ولشعبة فيه إسناد آخر أخرجه مسلم من رواية معاذ عنه عن أبي عون الثقفي عن أبي صالح الحنفي عن علي. قوله: "عن زيد بن وهب" كذا للأكثر، وتقدم كذلك في الهبة والنفقات. وكذا عند مسلم، ووقع في رواية علي بن السكن هنا وحده عن النزال بن سبرة بدل زيد بن وهب وهو وهم، كأنه انتقل من حديث إلى حديث لأن رواية عبد الملك عن النزال عن علي

(10/296)


إنما هي في الشرب قائما كما تقدم في الأشربة، وقد وافق الجماعة في الموضعين الآخرين، وزيد بن وهب هو الجهني الثقة المشهور من كبار التابعين، وما له في البخاري عن علي سوى هذا الحديث، وتقدم في الهبة بلفظ: "سمعت زيد بن وهب". قوله: "أهدى" بفتح أوله. قوله: "إلي" بتشديد الياء(1) ووقع في رواية أبي صالح المذكورة "أهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم حلة فبعث بها إلي" ولمسلم أيضا من وجه آخر عن أبي صالح عن علي "أن أكيدر دومة أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثوب حرير فأعطاه عليا" وفي رواية للطحاوي "أهدى أمير أذربيجان إلى النبي صلى الله عليه وسلم حلة مسيرة بحرير" وسنده ضعيف. قوله: "حلة سيراء" قال أبو عبيد الحلل برود اليمن، والحلة إزار ورداء، ونقله ابن الأثير وزاد إذا كان من جنس واحد. وقال ابن سيده في المحكم الحلة برد أو غيره، وحكى عياض أن أصل تسمية الثوبين حلة أنهما يكونان جديدين كما حل طيهما، وقيل: لا يكون الثوبان حلة حتى يلبس أحدهما فوق الآخر، فإذا كان فوقه فقد حل عليه والأول أشهر، والسيراء بكسر المهملة وفتح التحتانية والراء مع المد، قال الخليل: ليس في الكلام فعلاء بكسر أوله مع المد سوى سيراء، وحولاء وهو الماء الذي يخرج على رأس الولد، وعنباء لغة في العنب، قال مالك: هو الوشي من الحرير، كذا قال، والوشي بفتح الواو وسكون المعجمة بعدها تحتانية. وقال الأصمعي ثياب فيها خطوط من حرير أو قز، وإنما قيل لها سيراء لتسيير الخطوط فيها. وقال الخليل: ثوب مضلع بالحرير وقيل: مختلف الألوان فيه خطوط ممتدة كأنها السيور. ووقع عند أبي داود في حديث أنس "أنه رأى على أم كلثوم حلة سيراء" والسيراء المضلع بالقز، وقد جزم ابن بطال كما سيأتي في ثالث أحاديث الباب أنه من تفسير الزهري. وقال ابن سيده: هو ضرب من البرود، وقيل ثوب مسير فيه خطوط يعمل من القز، وقيل: ثياب من اليمن. وقال الجوهري: برد فيه خطوط صفر، ونقل عياض عن سيبويه قال لم يأت فعلاء صفة لكن اسما، وهو الحرير الصافي واختلف في قوله: "حلة سيراء" هل هو بالإضافة أو لا، فوقع عند الأكثر بتنوين حلة على أن سيراء عطف بيان أو نعت، وجزم القرطبي بأنه الرواية. وقال الخطابي: قالوا حلة سيراء كما قالوا ناقة عشراء، ونقل عياض عن أبي مروان بن السراج أنه بالإضافة، قال عياض: وكذا ضبطناه عن متقني شيوخنا. وقال النووي إنه قول المحققين ومتقني العربية وإنه من إضافة الشيء لصفته كما قالوا ثوب خز. قوله: "فخرجت فيها" في رواية أبي صالح عن علي "فلبستها". قوله: "فرأيت الغضب في وجهه" زاد مسلم في رواية أبي صالح "فقال: إني لم أبعث بها إليك لتلبسها، إنما بعثت بها إليك لتشققها خمرا بين النساء" وله في أخرى "شققها خمرا بين الفواطم". قوله: "فشققتها بين نسائي" أي قطعتها ففرقتها عليهن خمرا، والخمر بضم المعجمة والميم جمع خمار بكسر أوله والتخفيف: ما تغطي به المرأة رأسها، والمراد بقوله: "نسائي" ما فسره في رواية أي صالح حيث قال: "بين الفواطم" ووقع في رواية النسائي حيث قال: "فرجعت إلى فاطمة فشققتها، فقالت: ماذا جئت به؟ قلت نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبسها فالبسيها واكسي نساءك" وفي هذه الرواية أن عليا إنما شققها بإذن النبي صلى الله عليه وسلم. قال أبو محمد بن قتيبة: المراد بالفواطم فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم وفاطمة بنت أسد بن هاشم والدة علي ولا أعرف الثالثة. وذكر أبو منصور الأزهري أنها فاطمة بنت حمزة بن عبد المطلب. وقد أخرج الطحاوي وابن أبي الدنيا في "كتاب الهدايا" وعبد الغني بن سعيد في "المبهمات" وابن عبد البر كلهم من طريق يزيد بن أبي زياد عن أبي فاختة عن هبيرة بن
ـــــــ
(1) عبارة المتن هنا "كساني النبي الخ".

(10/297)


يريم - بتحتانية أوله ثم راء وزن عظيم - عن علي في نحو هذه القصة قال: "فشققت منها أربعة أخمرة" فذكر الثلاث المذكورات، قال: ونسي يزيد الرابعة. وفي رواية الطحاوي "خمارا لفاطمة بنت أسد بن هاشم أم علي، وخمارا لفاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم، وخمارا لفاطمة بنت حمزة بن عبد المطلب، وخمارا لفاطمة أخرى قد نسيتها" فقال عياض لعلها فاطمة امرأة عقيل بن أبي طالب وهي بنت شيبة بن ربيعة، وقيل: بنت عتبة بن ربيعة، وقيل: بنت الوليد بن عتبة. وامرأة عقيل هذه هي التي لما تخاصمت مع عقيل بعث عثمان معاوية وابن عباس حكمين بينهما ذكره مالك في "المدونة" وغيره، واستدل بهذا الحديث على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب لأن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل الحلة إلى علي فبنى علي على ظاهر الإرسال فانتفع بها في أشهر ما صنعت له وهو اللبس، فبين له النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يبح له لبسها وإنما بعث بها إليه ليكسوها غيره ممن تباح له، وهذا كله إن كانت القصة وقعت بعد النهي عن لبس الرجال الحرير، وسيأتي مزيد لهذا في الحديث الذي بعده. قوله: "جويرية" بالجيم والراء مصغر وبعد الراء تحتانية مفتوحة. قوله: "عن عبد الله" هو ابن عمر. قوله: "أن عمر رأى حلة سيراء" هكذا رواه أكثر أصحاب نافع، وأخرجه النسائي من رواية عبيد الله بن عمر العمري عن نافع عن ابن عمر عن عمر أنه "رأى حلة" فجعله في مسند عمر. قال الدار قطني: المحفوظ أنه من مسند ابن عمر. وسيراء تقدم ضبطها وتفسيرها في الحديث الذي قبله. ووقع في رواية مالك عن نافع كما تقدم في كتاب الجمعة أن ذلك كان على باب المسجد. وفي رواية ابن إسحاق عن نافع عند النسائي: "أن عمر كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في السوق فرأى الحلة" ولا تخالفه بين الروايتين، لأن طرف السوق كان يصل إلى قرب باب المسجد. قوله: "تباع" في رواية جرير بن حازم عن نافع عند مسلم: "رأى عمر عطاردا التميمي يقيم حلة بالسوق، وكان رجلا يغشى الملوك ويصيب منهم" وأخرج الطبراني من طريق أبي مجلز عن حفصة بنت عمر "أن عطارد بن حاجب جاء بثوب من ديباج كساه إياه كسرى، فقال عمر: ألا أشتريه لك يا رسول الله؟" ومن طريق عبد الرحمن بن عمرو بن معاذ عن عطارد نفسه أنه أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثوب ديباج كساه إياه كسرى، والجمع بينهما أن عطاردا لما أقامه في السوق ليباع لم يتفق له بيعه فأهداه للنبي صلى الله عليه وسلم. وعطارد هذا هو ابن حاجب بن زرارة بن عدس بمهملات الدارمي يكنى أبا عكرشة بشين معجمة، كان من جملة وفد بني تميم أصحاب الحجرات، وقد أسلم وحسن إسلامه واستعمله النبي صلى الله عليه وسلم على صدقات قومه، وكان أبوه من رؤساء بني تميم في الجاهلية، وقصته مع كسرى في رهنه قوسه عوضا عن جمع كثير من العرب عند كسرى مشهورة حتى ضرب المثل بقوس حاجب. قوله: "لو ابتعتها فلبستها" في رواية سالم عن ابن عمر كما تقدم في العيدين "ابتع هذه فتجمل بها" وكان عمر أشار بشرائها وتمناه. قوله: "للوفد إذا أتوك" في رواية جرير بن حازم "لوفود العرب" وكأنه خصه بالعرب لأنهم كانوا إذ ذاك الوقود في الغالب، لأن مكة لما فتحت بادر العرب بإسلامهم فكانت كل قبيلة ترسل كبراءها ليسلموا ويتعلموا ويرجعوا إلى قومهم فيدعوهم إلى الإسلام ويعلموهم. قوله: "والجمعة" في رواه سالم "العيد" بدل "الجمعة" وجمع ابن إسحاق عن نافع ما تضمنته الروايتان، أخرجه النسائي بلفظ: "فتجمل بها لوفود العرب إذا أتوك، وإذا خطبت الناس في يوم عيد وغيره". قوله: "إنما يلبس هذه" في رواية جرير بن حازم "إنما يلبس الحرير". قوله: "من لا خلاق له" زاد مالك في روايته: "في الآخرة". والخلاق النصيب وقيل: الحظ وهو المراد هنا، ويطلق أيضا على الحرمة وعلى الدين، ويحتمل أن يراد من لا نصيب له في الآخرة أي من لبس الحرير قاله الطيبي، وقد تقدم في حديث أبي عثمان عن عمر في أول حديث من

(10/298)


"باب لبس الحرير" ما يؤيده ولفظه: "لا يلبس الحرير إلا من ليس له في الآخرة منه شيء". قوله: "وأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث بعد ذلك إلى عمر حلة سيراء" زاد الإسماعيلي من هذا الوجه، "بحلة سيراء من حرير" ومن بيانية وهو يقتضي أن السيراء قد تكون من غير حرير. قوله: "كساها إياه" كذا أطلق، وهي باعتبار ما فهم عمر من ذلك، وإلا فقد ظهر من بقية الحديث أنه لم يبعث إليه بها ليلبسها، أو المراد بقوله كساه أعطاه ما يصلح أن يكون كسوة. وفي رواية مالك الماضية في الجمعة "ثم جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم منها حلل فأعطى عمر حلة" وفي رواية جرير بن حازم "فلما كان بعد ذلك أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بحلل سيراء فبعث إلى عمر بحلة وبعث إلى أسامة بن زيد بحلة وأعطى علي بن أبي طالب حلة" وعرف بهذا جهة الحلة المذكورة في حديث علي المذكور أولا. قوله: "فقال عمر كسوتنيها وقد سمعتك تقول فيها ما قلت" في رواية جرير بن حازم "فجاء عمر بحلته يحملها فقال: بعثت إلي بهذه وقد قلت بالأمس في حلة عطارد ما قلت" والمراد بالأمس هنا يحتمل الليلة الماضية أو ما قبلها بحسب ما اتفق من وصول الحلل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد قصة حلة عطارد. وفي رواية محمد بن إسحاق "فخرجت فزعا فقلت: يا رسول الله ترسل بها إلي وقد قلت فيها ما قلت". قوله: "إنما بعثت بها إليك لتبيعها أو تكسوها" في رواية جرير "لتصيب بها" وفي رواية الزهري عن سالم كما مضى في العيدين "تبيعها وتصيب بها حاجتك" وفي رواية يحيي بن إسحاق عن سالم كما سيأتي في الأدب "لتصيب بها مالا" وزاد مالك في آخر الحديث: "فكساها عمر أخا له بمكة مشركا" زاد في رواية عبيد الله بن عمر العمري عند النسائي: "أخا له من أمه" وتقدم في البيوع من طريق عبد الله بن دينار عن ابن عمر "فأرسل بها عمر إلى أخ له من أهل مكة قبل أن يسلم" قال النووي هذا يشعر بأنه أسلم بعد ذلك. قلت: ولم أقف على تسمية هذا الأخ إلا فيما ذكره ابن بشكوال في "المبهمات" نقلا عن ابن الحذاء في رجال الموطأ فقال: اسمه عثمان بن حكيم، قال الدمياطي: هو السلمي أخو خولة بنت حكيم بن أمية بن حارثة بن الأوقص، قال: وهو أخو زيد بن الخطاب لأمه. فمن أطلق عليه أنه أخو عمر لأمه لم يصب. قلت: بل له وجه بطريق المجاز. ويحتمل أن يكون عمر ارتضع من أم أخيه زيد فيكون عثمان أخا عمر لأمه من الرضاع وأخا زيد لأمه من النسب. وأفاد ابن سعد أن والدة سعيد بن المسيب هي أم سعيد بن عثمان بن الحكم، ولم أقف على ذكره في الصحابة، فإن كان أسلم فقد فاتهم، فليستدرك، وإن كان مات كافرا وكان قوله: "قبل أن يسلم" لا مفهوم له، بل المراد أن البعث إليه كان في حال كفره مع قطع النظر عما وراء ذلك، فلتعد بنته في الصحابة. وفي حديث جابر الذي أوله "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في قباء حرير ثم نزعه فقال نهاني عنه جبريل" كما تقدم التنبيه عليه في أوائل كتاب الصلاة زيادة عند النسائي وهي "فأعطاه لعمر، فقال: لم أعطكه لتلبسه بل لتبيعه، فباعه عمر" وسنده قوي وأصله في مسلم، فإن كان محفوظا أمكن أن يكون عمر باعه بإذن أخيه بعد أن أهداه له، والله أعلم.
"تنبيه": وجه إدخال هذا الحديث في "باب الحرير للنساء" يؤخذ من قوله لعمر "لتبيعها أو تكسوها" لأن الحرير إذا كان لبسه محرما على الرجال فلا فرق بين عمر وغيره من الرجال في ذلك فينحصر الإذن في النساء، وأما كون عمر كساها أخاه فلا يشكل على ذلك عند من يرى أن الكافر مخاطب بالفروع ويكون أهدى عمر الحلة لأخيه ليبيعها أو يكسوها امرأة، ويمكن من يرى أن الكافر غير مخاطب أن ينفصل عن هذا الإشكال بالتمسك بدخول النساء في عموم قوله أو يكسوها أي إما للمرأة أو للكافر بقرينة قوله: "إنما يلبس هذا من لا خلاق له" أي من الرجال. ثم ظهر لي وجه آخر وهو أنه أشار إلى ما ورد في بعض طرق الحديث المذكورة

(10/299)


فقد أخرج الحديث المذكور الطحاوي من رواية أيوب بن موسى عن نافع عن ابن عمر قال: "أبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم على عطارد حلة فكرهها له ثم أنه كساها عمر مثله" الحديث، وفيه: "إني لم أكسكها لتلبسها إنما أعطيتكها لتلبسها النساء " واستدل به على جواز لبس المرأة الحرير الصرف بناء على أن الحلة السيراء هي التي تكون من حرير صرف، قال ابن عبد البر: هذا قول أهل العلم، وأما أهل اللغة فيقولون: هي التي يخالطها الحرير، قال: والأول هو المعتمد. ثم ساق من طريق محمد بن سيرين عن ابن عمر نحو حديث الباب وفيه: "حلة من حرير" وقال ابن بطال: دلت طرق الحديث على أن الحلة المذكورة كانت من حرير محض، ثم ذكر من طريق أيوب عن نافع عن ابن عمر "أن عمر قال: يا رسول الله، إني مررت بعطارد يعرض حلة حرير للبيع" الحديث أخرجه أبو عوانة والطبري بهذا اللفظ. قلت: وتقدم في البيوع من طريق أبي بكر بن حفص عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه "حلة حرير أو سيراء"، وفي العيدين من طريق الزهري عن سالم "حلة من استبرق" وقد فسر الإستبرق في طريق أخرى بأنه ما غلظ من الديباج، أخرجه المصنف في الأدب من طريق يحيى بن إسحاق قال: "سألني سالم عن الإستبرق فقلت: ما غلظ من الديباج، فقال: سمعت عبد الله بن عمر" فذكر الحديث. ووقع عند مسلم من حديث أنس في نحو هذه القصة "حلة من سندس" قال النووي: هذه الألفاظ تبين أن الحلة كانت حريرا محضا قلت: الذي يتبين أن السيراء قد تكون حريرا صرفا وقد تكون غير محض، فالتي في قصة عمر جاء التصريح بأنها كانت من حرير محض ولهذا وقع في حديثه " إنما يلبس هذه من لا خلاق له"، والتي في قصة على لم تكن حريرا صرفا لما روى ابن أبي شيبة من طريق أبي فاختة عن هبيرة بن يريم عن علي قال: "أهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم حلة مسيرة بحرير إما سداها أو لحمتها. فأرسل بها إلي فقلت: ما أصنع بها، ألبسها؟ قال: لا أرضى لك إلا ما أرضى لنفسي، ولكن اجعلها خمرا بين الفواطم" وقد أخرجه أحمد وابن ماجه من طريق ابن إسحاق عن هبيرة فقال فيه: "حلة من حرير" وهو محمول على رواية أبي فاختة وهو بفاء ومعجمة ثم مثناة اسمه سعيد بن علاقة بكسر المهملة وتخفيف اللام ثم قاف، ثقة، ولم يقع في قصة علي وعيد على لبسها كما وقع في قصة عمر، بل فيه: "لا أرضى لك إلا ما أرضى لنفسي" ولا ريب أن ترك لبس ما خالطه الحرير أولى من لبسه عند من يقول بجوازه والله أعلم. حديث أنس أنه "رأى على أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم برد حرير سيراء" هكذا وقع في رواية شعيب عن الزهري ووافقه الزبيدي كما تقدمت الإشارة إليه في "باب مس الحرير من غير لبس" وأخرجه النسائي من رواية ابن جريج عن الزهري كالأول، ومن طريق معمر عن الزهري نحوه لكن قال زينب بدل أم كلثوم، والمحفوظ ما قال الأكثر، وقد غفل الطحاوي فقال: إن كان أنس رأى ذلك في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فيعارض حديث عقبة، يعني الذي أخرجه النسائي وصححه ابن حبان: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمنع أهله الحرير والحلة" وإن كان بعد النبي صلى الله عليه وسلم كان دليلا على نسخ حديث عقبة، كذا قال، وخفي عليه أن أم كلثوم ماتت في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك زينب فبطل التردد، وأما دعوى المعارضة فمردودة، وكذا النسخ. والجمع بينهما واضح بحمل النهي في حديث عقبة على التنزيه وإقرار أم كلثوم على ذلك إما لبيان الجواز وإما لكونها كانت إذ ذاك صغيرة، وعلى هذا التقدير فلا إشكال في رواية أنس لها، وعلى تقدير أن تكون كانت كبيرة فيحمل على أن ذلك كان قبل الحجاب أو بعده، لكن لا يلزم من رؤية الثوب على اللابس رؤية اللابس فلعله رأى ذيل القميص مثلا، ويحتمل أيضا أن

(10/300)


السيراء التي كانت على أم كلثوم كانت من غير الحرير الصرف كما تقدم في حلة علي، والله أعلم. واستدل بأحاديث الباب على جواز لبس الحرير للنساء سواء كان الثوب حريرا كله أو بعضه، وفي الأول عرض المفضول على الفاضل والتابع على المتبوع ما يحتاج إليه من مصالحه ممن يظن أنه لم يطلع عليه، وفيه إباحة الطعن لمن يستحقه، وفيه جواز البيع والشراء على باب المسجد، وفيه مباشرة الصالحين والفضلاء البيع والشراء. وقال ابن بطال فيه ترك النبي صلى الله عليه وسلم لباس الحرير وهذا في الدنيا. وإرادة تأخير الطيبات إلى الآخرة التي لا انقضاء لها، إذ تعجيل الطيبات في الدنيا ليس من الحزم، فزهد في الدنيا للآخرة، وأمر بذلك، ونهى عن كل سرف وحرمه. وتعقبه ابن المنير بأن تركه صلى الله عليه وسلم لبس الحرير إنما هو لاجتناب المعصية، وأما الزهد فإنما هو في خالص الحلال وما لا عقوبة فيه، فالتقلل منه وتركه مع الإمكان هو الذي تتفاضل فيه درجات الزهاد. قلت: ولعل مراد ابن بطال بيان سبب التحريم فيستقيم ما قاله. وفيه جواز بيع الرجال الثياب الحرير وتصرفهم فيها بالهبة والهدية لا اللبس. وفيه جواز صلة القريب الكافر والإحسان إليه بالهدية. وقال ابن عبد البر: فيه جواز الهدية للكافر ولو كان حربيا. وتعقب بأن عطاردا إنما وفد سنة تسع ولم يبق بمكة بعد الفتح مشرك. وأجيب بأنه لا يلزم من كون وفادة عطارد سنة تسع أن تكون قصة الحلة كانت حينئذ بل جاز أن تكون قبل ذلك. وما زال المشركون يقدمون المدينة ويعاملون المسلمين بالبيع وغيره، وعلى تقدير أن يكون ذلك سنة الوفود فيحتمل أن يكون في المدة التي كانت بين الفتح وحج أبي بكر، فإن منع المشركين من مكة إنما كان من حجة أبي بكر سنة تسع ففيها وقع النهي أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان، واستدل به على أن الكافر ليس مخاطبا بالفروع لأن عمر لما منع من لبس الحلة أهداها لأخيه المشرك ولم ينكر عليه، وتعقب بأنه لم يأمر أخاه بلبسها فيحتمل أن يكون وقع الحكم في حقه كما وقع في حق عمر فينتفع بها بالبيع أو كسوة النساء ولا يلبس هو. وأجيب بأن المسلم عنده من الوازع الشرعي ما يحمله بعد العلم بالنهي عن الكف، بخلاف الكافر فإن كفره يحمله على عدم الكف عن تعاطي المحرم، فلولا أنه مباح له لبسه لما أهدى له لما في تمكينه من الإعانة على المعصية، ومن ثم يحرم بيع العصير ممن جرت عادته أن يتخذه خمرا وأن احتمل أنه قد يشربه عصيرا، وكذا بيع الغلام الجميل ممن يشتهر بالمعصية لكن يحتمل أن يكون ذلك على أصل الإباحة، وتكون مشروعية خطاب الكافر بالفروع تراخت عن هذه الواقعة، والله أعلم.

(10/301)


31 - باب مَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَجَوَّزُ مِنْ اللِّبَاسِ وَالْبُسْطِ
5843- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ حُنَيْنٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "لَبِثْتُ سَنَةً وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَ عُمَرَ عَنْ الْمَرْأَتَيْنِ اللَّتَيْنِ تَظَاهَرَتَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَلْتُ أَهَابُهُ فَنَزَلَ يَوْماً مَنْزِلاً فَدَخَلَ الأَرَاكَ فَلَمَّا خَرَجَ سَأَلْتُهُ فَقَالَ عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ ثُمَّ قَالَ: "كُنَّا فِي الْجَاهِلِيَّةِ لاَ نَعُدُّ النِّسَاءَ شَيْئاً فَلَمَّا جَاءَ الإِسْلاَمُ وَذَكَرَهُنَّ اللَّهُ رَأَيْنَا لَهُنَّ بِذَلِكَ عَلَيْنَا حَقّاً مِنْ غَيْرِ أَنْ نُدْخِلَهُنَّ فِي شَيْءٍ مِنْ أُمُورِنَا وَكَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ امْرَأَتِي كَلاَمٌ فَأَغْلَظَتْ لِي فَقُلْتُ لَهَا وَإِنَّكِ لَهُنَاكِ قَالَتْ تَقُولُ هَذَا لِي وَابْنَتُكَ تُؤْذِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَيْتُ حَفْصَةَ فَقُلْتُ لَهَا إِنِّي أُحَذِّرُكِ أَنْ تَعْصِي اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَتَقَدَّمْتُ إِلَيْهَا فِي أَذَاهُ فَأَتَيْتُ

(10/301)


أُمَّ سَلَمَةَ فَقُلْتُ لَهَا فَقَالَتْ أَعْجَبُ مِنْكَ يَا عُمَرُ قَدْ دَخَلْتَ فِي أُمُورِنَا فَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ أَنْ تَدْخُلَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَزْوَاجِهِ فَرَدَّدَتْ وَكَانَ رَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ إِذَا غَابَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَهِدْتُهُ أَتَيْتُهُ بِمَا يَكُونُ وَإِذَا غِبْتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَهِدَ أَتَانِي بِمَا يَكُونُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ مَنْ حَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ اسْتَقَامَ لَهُ فَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ مَلِكُ غَسَّانَ بِالشَّأْمِ كُنَّا نَخَافُ أَنْ يَأْتِيَنَا فَمَا شَعَرْتُ إِلاَّ بِالأَنْصَارِيِّ وَهُوَ يَقُولُ إِنَّهُ قَدْ حَدَثَ أَمْرٌ قُلْتُ لَهُ وَمَا هُوَ أَجَاءَ الْغَسَّانِيُّ قَالَ أَعْظَمُ مِنْ ذَاكَ طَلَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءَهُ فَجِئْتُ فَإِذَا الْبُكَاءُ مِنْ حُجَرِهِنَّ كُلِّهَا وَإِذَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ صَعِدَ فِي مَشْرُبَةٍ لَهُ وَعَلَى بَابِ الْمَشْرُبَةِ وَصِيفٌ فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ اسْتَأْذِنْ لِي فَأَذِنَ لِي فَدَخَلْتُ فَإِذَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حَصِيرٍ قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ وَتَحْتَ رَأْسِهِ مِرْفَقَةٌ مِنْ أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ وَإِذَا أُهُبٌ مُعَلَّقَةٌ وَقَرَظٌ فَذَكَرْتُ الَّذِي قُلْتُ لِحَفْصَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ وَالَّذِي رَدَّتْ عَلَيَّ أُمُّ سَلَمَةَ فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَبِثَ تِسْعاً وَعِشْرِينَ لَيْلَةً ثُمَّ نَزَلَ".
5844- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا هِشَامٌ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَتْنِي هِنْدُ بِنْتُ الْحَارِثِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: "اسْتَيْقَظَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ اللَّيْلِ وَهُوَ يَقُولُ: "لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ مَاذَا أُنْزِلَ اللَّيْلَةَ مِنْ الْفِتْنَةِ مَاذَا أُنْزِلَ مِنْ الْخَزَائِنِ مَنْ يُوقِظُ صَوَاحِبَ الْحُجُرَاتِ كَمْ مِنْ كَاسِيَةٍ فِي الدُّنْيَا عَارِيَةٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" قَالَ الزُّهْرِيُّ وَكَانَتْ هِنْدٌ لَهَا أَزْرَارٌ فِي كُمَّيْهَا بَيْنَ أَصَابِعِهَا".
قوله: "باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتجوز من اللباس والبسط" معنى قوله: "يتجوز" يتوسع فلا يضيق بالاقتصار على صنف بعينه، أو لا يضيق بطلب النفيس والغالي، بل يستعمل ما تيسر، ووقع في رواية الكشميهني: "يتجزى" بجيم وزاي أيضا لكنها ثقيلة مفتوحة بعدها ألف وهي أوضح، والبسط بفتح الموحدة ما يبسط ويجلس عليه. حديث ابن عباس في قصة المرأتين اللتين تظاهرتا، وقد تقدم شرحه في الطلاق مستوفى والغرض منه نومه صلى الله عليه وسلم على حصير وتحت رأسه مرفقة حشوها ليف، وقوله في هذه الرواية: "مرفقة" بكسر أوله وسكون الراء وفتح الفاء بعدها قاف ما يرتفق به، وقد تقدم في الرواية الأخرى بلفظ: "وسادة" وقوله: "فما شعرت بالأنصاري وهو يقول قد حدث أمر" في رواية الكشميهني: "فما شعرت إلا بالأنصاري وهو يقول" وفي نسخة عنه "فما شعرت بالأنصاري إلا وهو يقول" قال الكرماني: سقط حرف الاستثناء من جل النسخ بل من كلها، وهو مقدر والقرينة تدل عليه، أو "ما" زائدة والتقدير شعرت بالأنصاري وهو يقول، أو ما مصدرية وتكون هي المبتدأ وبالأنصاري الخبر أي شعوري متلبس بالأنصاري قائلا. قلت: ويحتمل أن تكون ما نافية على حالها بغير احتياج لحرف الاستثناء، والمراد المبالغة في نفي شعوره بكلام الأنصاري من شدة ما دهمه من الخبر الذي أخبر به، ويكون قد استثبته فيه مرة أخرى، ولذلك نقله عنه، لكن رواية الكشميهني ترجح الاحتمال الأول وتوضح أن قول

(10/302)


الكرماني بل كلها ليس كذلك، وقوله: "وعلى باب المشربة وصيف" بمهملة وفاء وزن عظيم هو الغلام دون البلوغ وقد يطلق على من بلغ الخدمة، يقال وصف الغلام بالضم وصافة. وقول عمر: "فتقدمت إليها في أذاه" أي أنذرتها من أذى رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يقع من العقوبة بسبب أذاه. قوله: " كم من كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة" قال ابن بطال قرن النبي صلى الله عليه وسلم نزول الخزائن بالفتنة إشارة إلى أنها تسبب عنها، وإلى أن القصد في الأمر خير من الإكثار وأسلم من الفتنة، ومطابقة حديث أم سلمة هذا للترجمة من جهة أنه صلى الله عليه وسلم حذر من لباس الرقيق من الثياب الواصفة لأجسامهن لئلا يعرين في الآخرة، وفيما حكاه الزهري عن هند ما يؤيد ذلك قال: وفيه إشارة إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يلبس الثياب الشفافة لأنه إذا حذر من لبسها من ظهور العورة كان أولى بصفة الكمال من غيره. اهـ. وهو مبني على أحد الأقوال في تفسير المراد بقوله: "كاسية عارية" كما سيأتي بيانه في كتاب الفتن، ويحتمل أن يكون الحديثان دالين على الترجمة بالتوزيع. فحديث عمر مطابق للبسط وحديث أم سلمة مطابق للباس، والمراد بقوله يتجزى أي فيما يتعلق بنفسه وبأهله. قوله: "قال الزهري: وكانت هند لها أزرار في كميها بين أصابعها" هو موصول بالإسناد المذكور إلى الزهري، وقوله: "أزرار" وقع للأكثر وفي رواية أبي أحمد الجرجاني "إزار" براء واحدة وهو غلط، والمعنى أنها كانت تخشى أن يبدو من جسدها شيء بسبب سعة كميها فكانت تزرر ذلك لئلا يبدو منه شيء فتدخل في قوله صلى الله عليه وسلم: "كاسية عارية".

(10/303)


32 - باب مَا يُدْعَى لِمَنْ لَبِسَ ثَوْباً جَدِيداً
5845- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ حَدَّثَتْنِي أُمُّ خَالِدٍ بِنْتُ خَالِدٍ قَالَتْ: أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِثِيَابٍ فِيهَا خَمِيصَةٌ سَوْدَاءُ قَالَ: " مَنْ تَرَوْنَ نَكْسُوهَا هَذِهِ الْخَمِيصَةَ فَأُسْكِتَ الْقَوْمُ قَالَ ائْتُونِي بِأُمِّ خَالِدٍ فَأُتِيَ بِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَلْبَسَنِيهَا بِيَدِهِ وَقَالَ أَبْلِي وَأَخْلِقِي مَرَّتَيْنِ فَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَى عَلَمِ الْخَمِيصَةِ وَيُشِيرُ بِيَدِهِ إِلَيَّ وَيَقُولُ يَا أُمَّ خَالِدٍ هَذَا سَنَا وَيَا أُمَّ خَالِدٍ هَذَا سَنَا" وَالسَّنَا بِلِسَانِ الْحَبَشِيَّةِ الْحَسَنُ قَالَ إِسْحَاقُ حَدَّثَتْنِي امْرَأَةٌ مِنْ أَهْلِي أَنَّهَا رَأَتْهُ عَلَى أُمِّ خَالِدٍ".
قوله: "باب ما يدعى لمن لبس ثوبا جديدا" كأنه لم يثبت عنده حديث ابن عمر قال: "رأى النبي صلى الله عليه وسلم على عمر ثوبا فقال: البس جديدا، وعش حميدا، ومت شهيدا" أخرجه النسائي وابن ماجه وصححه ابن حبان، وأعله النسائي. وجاء أيضا فيما يدعو به من لبس الثوب الجديد أحاديث: منها ما أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي وصححه من حديث أبي سعيد "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استجد ثوبا سماه باسمه عمامة أو قميصا أو رداء ثم يقول: اللهم لك الحمد أنت كسوتنيه، أسألك خيره وخير ما صنع له أعوذ بك من شره وشر ما صنع له" وأخرج الترمذي وابن ماجه وصححه الحاكم من حديث عمر رفعه: "من لبس جديدا فقال: الحمد لله الذي كساني ما أواري به عورتي، وأتجمل به في حياتي - ثم عمد إلى الثوب الذي أخلق فتصدق به - كان في حفظ الله وفي كنف الله حيا وميتا" وأخرج أحمد والترمذي وحسنه من حديث معاذ بن أنس رفعه: "من لبس ثوبا فقال: الحمد لله الذي كساني هذا ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة، غفر الله له ما تقدم من ذنبه". وحديث أم خالد بنت سعيد المذكور في هذا

(10/303)


الباب تقدم شرحه في "باب الخميصة السوداء" قريبا، وتقدم بيان الاختلاف في قوله صلى الله عليه وسلم لها: "أبلي وأخلقي" هل بالقاف أو الفاء، وقوله فيه: "خميصة سوداء" لا ينافي ما وقع في كتاب الجهاد أنه كان عليها قميص أصفر، لأن القميص كان عليها لما جيء بها، والخميصة هي التي كسيتها. وقوله في آخره: "قال إسحاق" هو ابن سعيد راوي الحديث عن أبيه، وهو موصول بالسند المذكور، وقوله: "حدثتني امرأة من أهلي" لم أقف على اسمها، وقوله إنها رأته على أم خالد أي الثوب، ويستفاد من ذلك أنه بقي زمانا طويلا، وقد تقدم ما يدل على ذلك صريحا في "باب الخميصة".

(10/304)


33 - باب النَّهْيِ عَنْ التَّزَعْفُرِ لِلرِّجَالِ
5846- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: "نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتَزَعْفَرَ الرَّجُلُ" .
قوله: "باب النهي عن التزعفر للرجال" أي في الجسد، لأنه ترجم بعده "باب الثوب المزعفر" وقيده بالرجل ليخرج المرأة. قوله: "عن عبد العزيز" هو ابن صهيب. قوله: "أن يتزعفر الرجل" كذا رواه عبد الوارث وهو ابن سعيد مقيدا، ووافقه إسماعيل بن علية وحماد بن زيد عند مسلم وأصحاب السنن، ووقع في رواية حماد بن زيد "نهى عن التزعفر للرجال" ورواه شعبة عن ابن علية عند النسائي مطلقا فقال: "نهى عن التزعفر" وكأنه اختصره وإلا فقد رواه عن إسماعيل فوق العشرة من الحفاظ مقيدا بالرجل، ويحتمل أن يكون إسماعيل أختصره لما حدث به شعبة والمطلق محمول على المقيد، ورواية شعبة عن إسماعيل من رواية الأكابر عن الأصاغر. واختلف في النهي عن التزعفر هل هو لرائحته لكونه من طيب النساء ولهذا جاء الزجر عن الخلوق؟ أو للونه فيلتحق به كل صفرة؟ وقد نقل البيهقي عن الشافعي أنه قال: أنهى الرجل الحلال بكل حال أن يتزعفر، وآمره إذا تزعفر أن يغسله. قال: وأرخص في المعصفر لأنني لم أجد أحدا يحكي عنه إلا ما قال علي "نهاني ولا أقول أنهاكم" قال البيهقي: قد ورد ذلك عن غير علي، وساق حديث عبد الله بن عمرو قال: "رأى علي النبي صلى الله عليه وسلم ثوبين معصفرين فقال: إن هذه من ثياب الكفار فلا تلبسهما" أخرجه مسلما، وفي لفظ له "فقلت أغسلهما؟ قال لا بل أحرقهما" قال البيهقي فلو بلغ ذلك الشافعي لقال به اتباعا للسنة كعادته. وقد كره المعصفر جماعة من السلف ورخص فيه جماعة، وممن قال بكراهته من أصحابنا الحليمي، واتباع السنة هو الأولى. اهـ. وقال النووي في "شرح مسلم": أتقن البيهقي المسألة والله أعلم، ورخص مالك في المعصفر والمزعفر في البيوت وكرهه في المحافل، وسيأتي قريبا حديث ابن عمر في الصفرة، وتقدم في النكاح حديث أنس في قصة عبد الرحمن بن عوف حين تزوج وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعليه أثر صفرة، وتقدم الجواب عن ذلك بأن الخلوق كان في ثوبه علق به من المرأة ولم يكن في جسده، والكراهة لمن تزعفر في بدنه أشد من الكراهة لمن تزعفر في ثوبه. وقد أخرج أبو داود والترمذي في "الشمائل" والنسائي في "الكبرى" من طريق سلم العلوي عن أنس "دخل رجل على النبي صلى الله عليه وسلم وعليه أثر صفرة، فكره ذلك، وقلما كان يواجه أحدا بشيء يكرهه، فلما قام قال: لو أمرتم هذا أن يترك هذه الصفرة" وسلم بفتح المهملة وسكون اللام فيه لين، ولأبي داود من حديث عمار رفعه: "لا تحضر الملائكة جنازة كافر ولا مضمخ بالزعفران" وأخرج أيضا من حديث عمار قال: "قدمت على أهلي ليلا وقد تشققت يداي، فخلقوني بزعفران، فسلمت على النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرحب بي وقال: اذهب

(10/304)


فاغسل عنك هذا".

(10/305)


34 - باب الثَّوْبِ الْمُزَعْفَرِ
5847- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَلْبَسَ الْمُحْرِمُ ثَوْباً مَصْبُوغاً بِوَرْسٍ أَوْ بِزَعْفَرَانٍ" .
قوله: "باب الثوب المزعفر" ذكر فيه حديث ابن عمر "نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يلبس المحرم ثوبا مصبوغا بورس أو زعفران". حديث ابن عمر "نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يلبس المحرم ثوبا مصبوغا بورس أو زعفران" كذا أورده مختصرا، وقد تقدم مطولا مشروحا في كتاب الحج، وقد أخذ من التقييد بالمحرم جواز لبس الثوب المزعفر للحلال، قال ابن بطال: أجاز مالك وجماعة لباس الثوب المزعفر للحلال وقالوا: إنما وقع النهي عنه للمحرم خاصة، وحمله الشافعي والكوفيون على المحرم وغير المحرم، وحديث ابن عمر الآتي في "باب النعال السبتية" يدل على الجواز، فإن فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصبغ بالصفرة. وأخرج الحاكم من حديث عبد الله بن جعفر قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه ثوبان مصبوغان بالزعفران" وفي سنده عبد الله بن مصعب الزبيري وفيه ضعف. وأخرج الطبراني من حديث أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صبغ إزاره ورداءه بزعفران، وفيه راو مجهول، ومن المستغرب قول ابن العربي. لم يرد في الثوب الأصفر حديث، وقد ورد فيه عدة أحاديث كما ترى، قال المهلب: الصفرة أبهج الألوان إلى النفس، وقد أشار إلى ذلك ابن عباس في قوله تعالى: {صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} .

(10/305)


35 - باب الثَّوْبِ الأَحْمَرِ
5848- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ سَمِعَ الْبَرَاءَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: "كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرْبُوعاً وَقَدْ رَأَيْتُهُ فِي حُلَّةٍ حَمْرَاءَ مَا رَأَيْتُ شَيْئاً أَحْسَنَ مِنْهُ".
قوله: "باب الثوب الأحمر" ذكر فيه حديث البراء "كان النبي صلى الله عليه وسلم مربوعا، ورأيته في حلة حمراء ما رأيت شيئا أحسن منه" وقد تقدم في صفة النبي صلى الله عليه وسلم أتم سياقا من هذا. قوله: "عن أبي إسحاق" هو السبيعي "سمع البراء" هو ابن عازب، كذا قال أكثر أصحاب أبي إسحاق، وخالفهما أشعث فقال: "عن أبي إسحاق عن جابر بن سمرة" أخرجه النسائي وأعله الترمذي وحسنه، ونقل عن البخاري أنه قال: حديث أبي إسحاق عن البراء وعن جابر بن سمرة صحيحان وصححه الحاكم، وقد تقدم حديث أبي جحيفة قريبا، ويأتي وفيه: "حلة حمراء" أيضا. ولأبي داود من حديث هلال بن عامر عن أبيه "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب بمنى على بعير وعليه برد أحمر" وإسناده حسن، وللطبراني بسند حسن عن طارق المحاربي نحوه لكن قال: "بسوق ذي المجاز" وتقدم في "باب التزعفر" ما يتعلق بالمعصفر، فإن غالب ما يصبغ بالعصفر يكون أحمر، وقد تلخص لنا من أقوال السلف في لبس الثوب الأحمر سبعة أقوال: الأول: الجواز مطلقا جاء عن علي وطلحة وعبد الله ابن جعفر والبراء وغير واحد من الصحابة، وعن سعيد بن المسيب والنخعي والشعبي وأبي قلابة وأبي وائل وطائفة من التابعين. القول الثاني: المنع مطلقا لما تقدم من حديث عبد الله بن عمرو وما نقله البيهقي وأخرج ابن ماجه من حديث ابن عمر "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المفدم" وهو بالفاء وتشديد الدال وهو المشبع بالعصفر فسره في الحديث، وعن عمر أنه كان إذا رأى على الرجل ثوبا معصفرا جذبه وقال: "دعوا هذا

(10/305)


36 - باب الْمِيثَرَةِ الْحَمْرَاءِ
5849- حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَشْعَثَ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ سُوَيْدِ بْنِ مُقَرِّنٍ عَنْ الْبَرَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ أَمَرَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبْعٍ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَاتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ عَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ وَالْقَسِّيِّ وَالإِسْتَبْرَقِ وَالْمَيَاثِرِ الْحُمْرِ
قوله: "باب الميثرة الحمراء" ذكر فيه حديث سفيان وهو الثوري عن أشعث وهو ابن أبي الشعثاء عن معاوية بن سويد عن البراء قال: "أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بسبع" الحديث وفي آخره: "وعن لبس الحرير والديباج والإستبرق والمياثر الحمر" فالحرير قد سبق القول فيه، والديباج والإستبرق صنفان نفيسان منه، وأما المياثر فهي جمع ميثرة تقدم ضبطها في "باب لبس القسي". وقد أخرج أحمد والنسائي وأصله عند أبي داود بسند صحيح عن علي قال: "نهي عن المياثر الأرجوان" هكذا عندهم بلفظ: "نهي" على البناء للمجهول، وهو محمول على الرفع، وقد أخرج أحمد وأصحاب السنن وصححه ابن حبان من طريق هبيرة بن يريم بتحتانية أوله وزن عظيم عن علي قال: "نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خاتم الذهب، وعن لبس القسي، والميثرة الحمراء" قال أبو عبيد: المياثر الحمر التي جاء النهي عنها كانت من مراكب العجم من ديباج وحرير. وقال الطبري هي وعاء يوضع على سرج الفرس أو رحل البعير من الأرجوان وحكى في "المشارق" قولا أنها سروج من ديباج، وقولا أنها أغشية للسروج من حرير، وقولا أنها تشبه المخدة تحشى بقطن أو ريش يجعلها الراكب تحته، وهذا يوافق تفسير الطبري، والأقوال الثلاثة يحتمل أن لا تكون متخالفة بل الميثرة تطلق على كل منها، وتفسير أبي عبيد يحتمل الثاني والثالث، وعلى كل تقدير فالميثرة وإن كانت من حرير فالنهي فيها كالنهي عن الجلوس على الحرير، وقد تقدم القول فيه، ولكن تقييدها بالأحمر أخص من مطلق الحرير فيمتنع إن كانت حريرا، ويتأكد المنع إن كانت مع ذلك حمراء، وإن كانت من غير حرير فالنهي فيها للزجر عن التشبه بالأعاجم، قال ابن بطال: كلام الطبري يقتضي التسوية في المنع من الركوب عليه سواء كانت من حرير أم من غيره، فكان النهي عنها إذا لم يكن من حرير للتشبه أو للسرف أو التزين، وبحسب ذلك تفصيل الكراهة بين التحريم والتنزيه، وأما تقييدها بالحمرة فمن يحمل المطلق على المقيد - وهم الأكثر - يخص المنع بما كان أحمر، والأرجوان المذكور في الرواية التي أشرت إليها بضم الهمزة والجيم بينهما راء ساكنة ثم واو خفيفة، وحكى عياض ثم القرطبي فتح الهمزة وأنكره النووي وصوب أن الضم هو المعروف في كتب الحديث واللغة والغريب، واختلفوا في المراد به فقيل هو صبغ أحمر شديد الحمرة وهو نور شجر من أحسن الألوان، وقيل: الصوف الأحمر، وقيل: كل شيء أحمر فهو أرجوان. ويقال ثوب أرجوان وقطيفة أرجوان، وحكى السيرافي أحمر أرجوان فكأنه وصف للمبالغة في الحمرة كما يقال أبيض يقق وأصفر فاقع، واختلفوا هل الكلمة عربية أو معربة؟ فإن قلنا باختصاص النهي بالأحمر من المياثر فالمعني في النهي عنها ما في غيرها كما تقدم في الباب قبله، وإن قلنا لا يختص بالأحمر فالمعني بالنهي عنها ما فيه من الترفه، وقد يعتادها الشخص فتعوزه فيشق عليه تركها فيكون النهي نهي إرشاد لمصلحة دنيوية، وإن قلنا النهي عنها من أجل التشبه بالأعاجم فهو لمصلحة دينية، لكن كان ذلك شعارهم حينئذ وهم كفار ثم لما لم يصر الآن يختصر بشعارهم زال ذلك المعنى فتزول الكراهة، والله أعلم.

(10/307)


37 - باب النِّعَالِ السِّبْتِيَّةِ وَغَيْرِهَا
5850- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ سَعِيدٍ أَبِي مَسْلَمَةَ قَالَ: "سَأَلْتُ أَنَساً أَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي فِي نَعْلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ".
5851- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ جُرَيْجٍ أَنَّهُ قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "رَأَيْتُكَ تَصْنَعُ أَرْبَعاً لَمْ أَرَ أَحَداً مِنْ أَصْحَابِكَ يَصْنَعُهَا قَالَ مَا هِيَ يَا ابْنَ جُرَيْجٍ قَالَ رَأَيْتُكَ لاَ تَمَسُّ مِنْ الأَرْكَانِ إِلاَّ الْيَمَانِيَيْنِ وَرَأَيْتُكَ تَلْبَسُ النِّعَالَ السِّبْتِيَّةَ وَرَأَيْتُكَ تَصْبُغُ بِالصُّفْرَةِ وَرَأَيْتُكَ إِذَا كُنْتَ بِمَكَّةَ أَهَلَّ النَّاسُ إِذَا رَأَوْا الْهِلاَلَ وَلَمْ تُهِلَّ أَنْتَ حَتَّى كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَمَّا الأَرْكَانُ فَإِنِّي لَمْ أَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمَسُّ إِلاَّ الْيَمَانِيَيْنِ وَأَمَّا النِّعَالُ السِّبْتِيَّةُ فَإِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلْبَسُ النِّعَالَ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا شَعَرٌ وَيَتَوَضَّأُ فِيهَا فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَلْبَسَهَا وَأَمَّا الصُّفْرَةُ فَإِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْبُغُ بِهَا فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَصْبُغَ بِهَا وَأَمَّا الإِهْلاَلُ فَإِنِّي لَمْ أَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُهِلُّ حَتَّى تَنْبَعِثَ بِهِ رَاحِلَتُهُ".
5852- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: " نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَلْبَسَ الْمُحْرِمُ ثَوْباً مَصْبُوغاً بِزَعْفَرَانٍ أَوْ وَرْسٍ وَقَالَ مَنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ" .
5853- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: " مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِزَارٌ فَلْيَلْبَسْ السَّرَاوِيلَ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نَعْلاَنِ فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ" .
قوله: "باب النعال" جمع نعل وهي مؤنثة، قال ابن الأثير: هي التي تسمى الآن تاسومة. وقال ابن العربي: النعل لباس الأنبياء، وإنما اتخذ الناس غيرها لما في أرضهم من الطين، وقد يطلق النعل على كل ما يقي القدم. قال صاحب المحكم: النعل والنعلة ما وقيت به القدم. قوله: "السبتية" بكسر المهملة وسكون الموحدة بعدها مثناة منسوبة إلى السبت. قال أبو عبيد: هي المدبوغة، ونقل عن الأصمعي وعن أبي عمرو الشيباني، زاد الشيباني بالقرظ، قال: وزعم بعض الناس أنها التي حلق عنها الشعر. قلت: أشار بذلك إلى مالك نقله ابن وهب عنه ووافقه، وكأنه مأخوذ من لفظ السبت لأن معناه القطع فالحلق بمعناه، وأيد ذلك جواب ابن عمر المذكور في الباب، وقد وافق الأصمعي الخليل وقالوا: قيل لها سبتية لأنها تسبتت بالدباغ أي لانت، قال أبو عبيد. كانوا في الجاهلية لا يلبس النعال المدبوغة إلا أهل السعة، واستشهد لذلك بشعر. حديث أنس في الصلاة في النعلين وقد تقدم شرحه في الصلاة. حديث ابن عمر من رواية سعيد المقبري عن عبيد بن جريج وهما تابعيان مدنيان. قوله: "رأيتك تصنع أربعا" فذكرها، فأما الاقتصار على مس الركنين اليمانيين فتقدم

(10/308)


شرحه في كتاب الحج، وكذلك الإهلال يوم التروية، وأما الصبغ بالصفرة فتقدم في باب التزعفر، ووقع في رواية ابن إسحاق عن عبيد بن جريج "تصفر بالورس" وأما لبس النعال السبتية فهو المقصود بالذكر هنا، وقول ابن عمر "يلبس النعال التي ليس فيها شعر" يؤيد تفسير مالك المذكور. وقال الخطابي: السبتية التي دبغت بالقرظ وهي التي سبت ما عليها من شعر أي حلق، قال وقد يتمسك بهذا من يدعي أن الشعر ينجس بالموت، وأنه لا يؤثر فيه الدباغ، ولا دلالة فيه لذلك، واستدل بحديث ابن عمر في لباس النبي صلى الله عليه وسلم النعال السبتية ومحبته لذلك على جواز لبسها على كل حال. وقال أحمد: يكره لبسها في المقابر لحديث بشير بن الخصاصية قال: "بينما أنا أمشي في المقابر علي نعلان إذا رجل ينادي من خلفي: يا صاحب السبتيتين إذا كنت في هذا الموضع فاخلع نعليك" أخرجه أحمد وأبو داود وصححه الحاكم واحتج به على ما ذكر، وتعقبه الطحاوي بأنه يجوز أن يكون الأمر بخلعهما لأذى فيهما، وقد ثبت في الحديث أن الميت يسمع قرع نعالهم إذا ولوا عنه مدبرين، وهو دال على جواز لبس النعال في المقابر، قال وثبت حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في نعليه، قال: فإذا جاز دخول المسجد بالنعل فالمقبرة أولى. قلت: ويحتمل أن يكون النهي لإكرام الميت كما ورد النهي عن الجلوس على القبر، وليس ذكر السبتيتين للتخصيص بل اتفق ذلك والنهي إنما هو للمشي على القبور بالنعال. حديث ابن عمر وابن عباس فيما لا يلبس المحرم، وفيه ذكر النعلين، قد تقدم شرحه في كتاب الحج. وفي هذه الأحاديث استحباب لبس النعل، وقد أخرج مسلم من حديث جابر رفعه: "استكثروا من النعال فإن الرجل لا يزال راكبا ما انتعل". أي أنه شبيه بالراكب في خفة المشقة وقلة التعب وسلامة الرجل من أذى الطريق، قاله النووي وقال القرطبي: هذا كلام بليغ ولفظ فصيح بحيث لا ينسج على منواله ولا يؤتى بمثاله، وهو إرشاد إلى المصلحة وتنبيه على ما يخفف المشقة، فإن الحافي المديم للمشي يلقى من الآلام والمشقة بالعثار وغيره ما يقطعه عن المشي ويمنعه من الوصول إلى مقصوده كالراكب فلذلك شبه به.

(10/309)


38 - باب يَبْدَأُ بِالنَّعْلِ الْيُمْنَى
5854- حدثنا حجاج بن منهال حدثنا شعبة قال أخبرني أشعث بن سليم سمعت أبي يحدث عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب التيمن في طهوره وترجله وتنعله".
قوله: "باب يبدأ بالنعل اليمنى" ذكر فيه حديث عائشة "كان يحب التيمن في طهوره وتنعله" وقد تقدم شرحه في كتاب الطهارة، وهو ظاهر فيما ترجم له. والله أعلم.

(10/309)


39 - باب لاَ يَمْشِي فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ
5855- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لاَ يَمْشِي أَحَدُكُمْ فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ لِيُحْفِهِمَا جَمِيعاً أَوْ لِيُنْعِلْهُمَا جَمِيعاً" .
قوله: "باب لا يمشي في نعل واحدة" ذكر فيه حديث أبي هريرة من رواية الأعرج عنه، قال الخطابي: الحكمة في النهي أن النعل شرعت لوقاية الرجل عما يكون في الأرض من شوك أو نحوه، فإذا انفردت إحدى الرجلين

(10/309)


40 - باب يَنْزِعُ نَعْلَهُ الْيُسْرَى
5856- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إِذَا انْتَعَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِالْيَمِينِ وَإِذَا نَزَعَ فَلْيَبْدَأْ بِالشِّمَالِ لِيَكُنْ الْيُمْنَى أَوَّلَهُمَا تُنْعَلُ وَآخِرَهُمَا تُنْزَعُ" .
قوله: "باب ينزع نعله اليسرى" وقع ذكر هذه الترجمة قبل التي قبلها عند الجميع إلا أبا ذر، ولكل منهما وجه. قوله: "إذا انتعل" أي لبس النعل. قوله: "باليمين" في رواية الكشميهني باليمنى. قوله: "وإذا انتزع" في رواية مسلم: "وإذا خلع". قوله: "لتكن اليمنى أولهما تنعل وآخرهما تنزع" زعم ابن وضاح فيما حكاه ابن التين أن هذا القدر مدرج وأن المرفوع انتهى عند قوله: "بالشمال" وضبط قوله أولهما وآخرهما بالنصب على أنه خبر كان أو على الحال والخبر تنعل وتنزع، وضبطا بمثناتين فوقانيتين وتحتانيتين مذكرين باعتبار النعل والخلع، قال ابن العربي: البداءة باليمين مشروعة في جميع الأعمال الصالحة لفضل اليمين حسا في القوة وشرعا في الندب إلى تقديمها. وقال النووي:

(10/311)


يستحب البداءة باليمين في كل ما كان من باب التكريم أو الزينة، والبداءة باليسار في ضد ذلك كالدخول إلى الخلاء ونزع النعل والخف والخروج من المسجد والاستنجاء وغيره من جميع المستقذرات، وقد مر كثير من هذا في كتاب الطهارة في شرح حديث عائشة: كان يعجبه التيمن. وقال الحليمي وجه الابتداء بالشمال عند الخلع أن اللبس كرامة لأنه وقاية للبدن، فلما كانت اليمنى أكرم من اليسرى بدئ بها في اللبس وأخرت في الخلع لتكون الكرامة لها أدوم وحظها منها أكثر، قال ابن عبد البر: من بدأ بالانتعال في اليسرى أساء لمخالفة السنة، ولكن لا يحرم عليه لبس نعله. وقال غيره: ينبغي له أن ينزع النعل من اليسرى ثم يبدأ باليمنى، ويمكن أن يكون مراد ابن عبد البر ما إذا لبسهما معا فبدأ باليسرى فإنه لا يشرع له أن ينزعهما ثم يلبسهما على الترتيب المأمور به إذ قد فات محله. ونقل عياض وغيره الإجماع على أن الأمر فيه للاستحباب، والله أعلم.

(10/312)


41 - باب قِبَالاَنِ فِي نَعْلٍ وَمَنْ رَأَى قِبَالاً وَاحِداً وَاسِعاً
5857- حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ حَدَّثَنَا أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ نَعْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَهَا قِبَالاَنِ".
5858- حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ طَهْمَانَ قَالَ: "خَرَجَ إِلَيْنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ بِنَعْلَيْنِ لَهُمَا قِبَالاَنِ فَقَالَ ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ هَذِهِ نَعْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
قوله: "باب قبالان في نعل" أي في كل فردة "ومن رأى قبالا واحدا واسعا" أي جائز. القبال بكسر القاف وتخفيف الموحدة وآخره لام هو الزمام وهو السير الذي يعقد فيه الشسع الذي يكون بين إصبعي الرجل. قوله: "همام" وقع في رواية ابن السكن على الفربري هشام بدل همام؛ والذي عند الجماعة أولى.
قوله: "أن نعلي النبي صلى الله عليه وسلم" وقع في رواية عند الكشميهني بالإفراد وكذا في قوله: "لهما". قوله: "قبالان" زاد ابن سعد عن عفان عن همام "من سبت ليس عليهما شعر" وقد أخرجه أحمد عن عفان بدون هذه الزيادة، وقوله: "سبت" بكسر المهملة وسكون الموحدة بعدها مثناة وقد فسره في الحديث. قوله: "حدثنا محمد" هو ابن مقاتل، وعبد الله هو ابن المبارك. قوله: "عيسى بن طهمان قال: أخرج إلينا أنس بن مالك بنعلين لهما قبالان، فقال ثابت البناني: هذه نعل النبي صلى الله عليه وسلم" هذا مرسل قاله الإسماعيلي. قلت: صورته الإرسال لأن ثابتا لم يصرح بأن أنسا أخبره بذلك، فإن كان ثابت قاله بحضرة أنس وأقره أنس على ذلك فيكون أخذ عيسى بن طهمان له عن أنس عرضا، لكن قد تقدم هذا الحديث في الخمس من طريق ابن أحمد الزبيري عن عيسى بن طهمان بما ينفي هذا الاحتمال، ولفظه: "أخرج إلينا أنس نعلين جرداوتين لهما قبالان، فحدثني ثابت البناني بعد عن أنس أنهما نعلا النبي صلى الله عليه وسلم" فظهر بهذا أن رواية عيسى عن أنس إخراجه النعلين فقط وأن إضافتهما للنبي صلى الله عليه وسلم من رواية عيسى عن ثابت عن أنس، وقد أشار الإسماعيلي إلى أن إخراج طريق أبي أحمد أولى، وكأنه لم يستحضر أنها تقدمت هناك، والبخاري على عادته إذا صحت الطريق موصولة لا يمتنع من إيراد ما ظاهره الإرسال اعتمادا على الموصول، وقد أخرج الترمذي في "الشمائل" وابن ماجه بسند قوي من حديث ابن عباس "كانت لنعل رسول الله صلى الله عليه وسلم قبالان مثنى شراكهما" قال الكرماني: دلالة الحديث

(10/312)


على الترجمة من جهة أن النعل صادقة على مجموع ما يلبس في الرجلين، وأما الركن الثاني من الترجمة فمن جهة أن مقابلة الشيء بالشيء يفيد التوزيع، فلكل واحد من نعل كل رجل قبال واحد. قلت: بل أشار البخاري إلى ما ورد عن بعض السلف، فقد أخرج البزار والطبراني في "الصغير" من حديث أبي هريرة مثل حديث أنس هذا وزاد: "وكذا لأبي بكر ولعمر، وأول من عقد عقدة واحدة عثمان بن عفان" لفظ الطبراني وسياق البزار مختصر، ورجال سنده ثقات، وله شاهد أخرجه النسائي من رواية محمد بن سيرين عن عمرو بن أوس مثله دون ذكر عثمان.

(10/313)


باب القبة الحمرا من أدم
...
42 - باب الْقُبَّةِ الْحَمْرَاءِ مِنْ أَدَمٍ
5859- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَرْعَرَةَ قَالَ حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ أَبِي زَائِدَةَ عَنْ عَوْنِ بْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: "أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي قُبَّةٍ حَمْرَاءَ مِنْ أَدَمٍ وَرَأَيْتُ بِلاَلاً أَخَذَ وَضُوءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّاسُ يَبْتَدِرُونَ الْوَضُوءَ فَمَنْ أَصَابَ مِنْهُ شَيْئاً تَمَسَّحَ بِهِ وَمَنْ لَمْ يُصِبْ مِنْهُ شَيْئاً أَخَذَ مِنْ بَلَلِ يَدِ صَاحِبِهِ".
5860- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "أَرْسَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الأَنْصَارِ وَجَمَعَهُمْ فِي قُبَّةٍ مِنْ أَدَمٍ".
قوله: "باب القبة الحمراء من أدم" بفتح الهمزة والمهملة هو الجلد المدبوغ، وكأنه صبغ بحمره قبل أن يجعل قبة. ذكر فيه طرفا من حديث أبي جحيفة، وقد تقدم في أوائل الصلاة بتمامه مشروحا، وساقه فيه بهذا الإسناد بعينه، والغرض منه هنا قوله: "وهو في قبة حمراء من أدم" فهو مطابق لما ترجم له، وتقدم شرح الحلة الحمراء قريبا في "باب الثوب الأحمر" ولعله أراد الإشارة إلى تضعيف حديث رافع المقدم ذكره هناك. ذكر حديث أنس قال: "أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الأنصار فجمعهم في قبة من أدم" وهو أيضا طرف من حديث أورده بتمامه في كتاب الخمس عن أبي اليمان بهذا الإسناد بعينه. قال الكرماني: هذا لا يدل على أن القبة حمراء، لكن يكفي أنه يدل على بعض الترجمة، وكثيرا ما يفعل البخاري ذلك. قلت: ويمكن أن يقال: لعله حمل المطلق على المقيد وذلك لقرب العهد، فإن القصة التي ذكرها أنس كانت في غزوة حنين، والتي ذكرها أبو جحيفة كانت في حجة الوداع، وبينهما نحو سنتين، فالظاهر أنها هي تلك القبة لأنه صلى الله عليه وسلم ما كان يتأنق في مثل ذلك حتى يستبدل، وإذا وصفها أبو جحيفة بأنها حمراء في الوقت الثاني فلأن تكون حمرتها موجودة في الوقت الأول أولى. قوله: "وقال الليث حدثني يونس عن ابن شهاب" هو الزهري المذكور في السند الذي قبله، وقد اقتطع هذه الجملة من الحديث فساقها على لفظ الليث، وأول حديث شعيب عنده في فرض الخمس "إن ناسا من الأنصار قالوا: حين أفاء الله على رسوله من أموال هوازن ما أفاء - فذكر القصة قال - فحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقالتهم، فأرسل إلى الأنصار فجمعهم في قبة من أدم" الحديث بطوله، وقد تقدم شرحه في غزوة حنين. وقد وصل الإسماعيلي رواية الليث من طريق الرمادي: "حدثنا أبو صالح حدثنا الليث حدثني يونس" ومن طريق حرملة عن ابن وهب "أخبرني يونس" وساقه بلفظ: "فحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل إلى الأنصار فجمعهم في قبة من أدم" هكذا اقتطعه. وقد أخرجه مسلم عن حرملة، وأوله

(10/313)


عنده "إن ناسا من الأنصار قالوا يوم حنين حين أفاء الله" فذكر الحديث بطوله.

(10/314)


43 - باب الْجُلُوسِ عَلَى الْحَصِيرِ وَنَحْوِهِ
5861- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَحْتَجِرُ حَصِيراً بِاللَّيْلِ فَيُصَلِّي عَلَيْهِ وَيَبْسُطُهُ بِالنَّهَارِ فَيَجْلِسُ عَلَيْهِ فَجَعَلَ النَّاسُ يَثُوبُونَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُصَلُّونَ بِصَلاَتِهِ حَتَّى كَثُرُوا فَأَقْبَلَ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ خُذُوا مِنْ الأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا وَإِنَّ أَحَبَّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ مَا دَامَ وَإِنْ قَلَّ" .
قوله: "باب الجلوس على الحصير ونحوه" أما الحصير فمعروف يتخذ من السعف وما أشبهه، وأما قوله: "ونحوه" فيريد من الأشياء التي تبسط وليس لها قدر رفيع. حديث عائشة "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحتجر حصيرا بالليل ويصلي عليه" ومعتمر في إسناده هو ابن سليمان التيمي، وعبيد الله هو ابن عمر العمري، وسعيد هو المقبري وفي السند ثلاثة من التابعين في نسق أولهم أبو سلمة وهم مدنيون، وفيه إشارة إلى ضعف ما أخرجه ابن أبي شيبة من طريق شريح بن هانئ أنه: "سأل عائشة: أكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي على الحصير والله يقول: {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً} ؟ فقالت: لم يكن يصلي على الحصير" ويمكن الجمع بحمل النفي على المداومة، لكن يخدش فيه ما ذكره شريح من الآية، وقد تقدم شرح حديث عائشة في كتاب الصلاة، وترجم المصنف في أوائل الصلاة "باب الصلاة على الحصير" وأورد فيه حديث أنس "فقمت إلى حصير لنا قد اسود من طول ما لبس" الحديث، وسبق ما يتعلق به، قوله في حديث عائشة يحتجر بحاء مهملة ثم جيم ثم راء مهملة للأكثر أي يتخذ حجرة لنفسه؛ يقال: حجرت الأرض واحتجرتها إذا جعلت عليها علامة تمنعها عن غيرك. ووقع في رواية الكشميهني بزاي في آخره. قوله: "يثوبون" بمثلثة ثم موحدة أي يرجعون، وقوله فيه: "فإن الله لا يمل حتى تملوا" تقدم شرحه أيضا في كتاب الإيمان، وأن الملال كناية عن القبول أو الترك، أو أطلق على سبيل المشاكلة. وقوله: "وإن أحب الأعمال إلى الله ما دام" أي ما استمر في حياة العامل، وليس المراد حقيقة الدوام التي هي شمول جميع الأزمنة. ووقع في رواية الكشميهني: "ما داوم" أي ما داوم عليه العامل.

(10/314)


44 - باب الْمُزَرَّرِ بِالذَّهَبِ
5862- وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ أَنَّ أَبَاهُ مَخْرَمَةَ قَالَ لَهُ يَا بُنَيِّ إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَتْ عَلَيْهِ أَقْبِيَةٌ فَهُوَ يَقْسِمُهَا فَاذْهَبْ بِنَا إِلَيْهِ فَذَهَبْنَا فَوَجَدْنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَنْزِلِهِ فَقَالَ لِي يَا بُنَيِّ ادْعُ لِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْظَمْتُ ذَلِكَ فَقُلْتُ أَدْعُو لَكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا بُنَيِّ إِنَّهُ لَيْسَ بِجَبَّارٍ فَدَعَوْتُهُ فَخَرَجَ وَعَلَيْهِ قَبَاءٌ مِنْ دِيبَاجٍ مُزَرَّرٌ بِالذَّهَبِ فَقَالَ: يَا مَخْرَمَةُ هَذَا خَبَأْنَاهُ لَكَ فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ" .

(10/314)


باب خواتم الذهب
...
45 - باب خَوَاتِيمِ الذَّهَبِ
5863- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا أَشْعَثُ بْنُ سُلَيْمٍ قَالَ سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ بْنَ سُوَيْدِ بْنِ مُقَرِّنٍ قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ: "نَهَانَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ سَبْعٍ نَهَانَا عَنْ خَاتَمِ الذَّهَبِ أَوْ قَالَ حَلْقَةِ الذَّهَبِ وَعَنْ الْحَرِيرِ وَالإِسْتَبْرَقِ وَالدِّيبَاجِ وَالْمِيثَرَةِ الْحَمْرَاءِ وَالْقَسِّيِّ وَآنِيَةِ الْفِضَّةِ وَأَمَرَنَا بِسَبْعٍ بِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَاتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ وَرَدِّ السَّلاَمِ وَإِجَابَةِ الدَّاعِي وَإِبْرَارِ الْمُقْسِمِ وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ" .
5864- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ بَشِيرِ بْنِ نَهِيكٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أَنَّهُ نَهَى عَنْ خَاتَمِ الذَّهَبِ" وَقَالَ عَمْرٌو أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ سَمِعَ النَّضْرَ سَمِعَ بَشِيراً ... مِثْلَهُ.
5865- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي نَافِعٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتَّخَذَ خَاتَماً مِنْ ذَهَبٍ وَجَعَلَ فَصَّهُ مِمَّا يَلِي كَفَّهُ فَاتَّخَذَهُ النَّاسُ فَرَمَى بِهِ وَاتَّخَذَ خَاتَماً مِنْ وَرِقٍ أَوْ فِضَّةٍ".
[الحديث 5865 – أطرافه في: 5866، 5867، 5873، 5876، 6651، 7298]
قوله: "باب خواتيم الذهب" جمع خاتم، ويجمع أيضا على خواتم بلا ياء، وعلى خياتيم بياء بدل الواو، وبلا ياء أيضا، وفي الخاتم ثمان لغات: فتح التاء وكسرها وهما واضحتان، وبتقديمها على الألف مع كسر الخاء ختام، وبفتحها وسكون التحتانية وضم المثناة بعدها واو خيتوم، وبحذف الياء والواو مع سكون المثناة ختم، وبألف بعد الخاء وأخرى بعد التاء خاتام، وبزيادة تحتانية بعد المثناة المكسورة خاتيام، وبحذف الأولى وتقديم التحتانية خيتام، وقد جمعتها في بيت وهو:

(10/315)


خاتام خاتم ختم خاتم وختا ... م خاتيام وخيتوم وخيتام
وقبله:
خذ نظم عد لغات الخاتم انتظمت ... ثمانيا ما حواها قبل نظام
ثم زدت ثالثا:
وهمز مفتوح تاء تاسع وإذا ... ساغ القياس أتم العشر خاتام
أما الأول: فذكر أبو البقاء في إعراب الشواذ في الكلام على من قرأ العالمين بالهمز قال: ومثله الخأتم بالهمز. وأما الثاني: فهو على الاحتمال، واقتصر كثيرون منهم النووي على أربعة، والحق أن الختم والختام مختص بما يختم به فتكمل الثمان فيه. وأما ما يتزين به فليس فيه إلا ستة، وأنشدوا في الخاتيام وهو أغربها:
أخذت من سعداك خاتياما ... لموعد تكتسب الآثاما
ذكر فيه ثلاثة أحاديث: الأول: حديث البراء قال: "نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سبع: نهانا عن خاتم الذهب" أو قال: "حلقة الذهب" كذا في هذه الطريق من رواية آدم عن شعبة عن أشعث بن سليم وهو ابن الشعثاء "سمعت معاوية بن سويد بن مقرن قال سمعت البراء" فذكره بتقديم النواهي على الأوامر، وتقدم في أوائل الجنائز عن أبي الوليد عن شعبة بقديم الأوامر على النواهي، لكن سقط من النواهي ذكر المياثر وقال فيه: "خاتم الذهب" ولم يشك. وأورده في المظالم عن سعيد بن الربيع عن شعبة لكن لم يسق فيه المنهيات جملة، وأورده في الطب عن حفص بن عمر عن شعبة لكن سقط من النواهي آنية الفضة، وذكر من الأوامر ثلاثة فقط: اتباع الجنائز وعيادة المريض وإفشاء السلام، واختصر الباقي. وقال فيه أيضا: "خاتم الذهب" وأورده في أواخر الأدب عن سليمان بن حرب عن شعبة كذلك، لكن لم يذكر القسي ولا آنية الفضة. وقال بدل الإستبرق السندس. وأخرجه في الأيمان والنذور من طريق غندر عن شعبة مقتصرا على إبرار القسم حسب، فهذا ما عنده من تغاير السياق في رواية شعبة فقط، وأما من رواية غيره عن أشعث عنده أيضا فإنه أخرجه في الأشربة فقط من رواية أبي عوانة عن الأشعث فقدم الأوامر على النواهي وساقه تاما وقال فيه: "ونهانا عن خواتيم الذهب" وهكذا أخرجه من طريق أبي الأحوص عن أشعث مثله سواء وهو المطابق للترجمة هنا، وأخرجه في أوائل الاستئذان من طريق جرير عن أشعث كذلك لكن قال: "ونهى عن تختم الذهب" وقد تقدم قريبا في اللباس من رواية سفيان الثوري في آخر "باب القسي" مختصرا جدا "نهانا عن المياثر الحمر وعن القسي" وفي "باب الميثرة الحمراء" من روايته: "أمرنا بسبع" فذكر منها العيادة واتباع الجنائز وتشميت العاطس "ونهانا عن سبع" فلم يذكر منها خاتم الذهب ولا آنية الفضة، فهذه جميع طرق هذا الحديث عنده، فأما المنهيات فقد شرحت في أماكنها ومعظمها في هذا الكتاب كتاب اللباس، وتقدم الكلام على آنية الفضة في كتاب الأشربة، وأما الأوامر فنذكر كل واحدة منها في بابها، ويأتي بسطها في كتاب الأدب إن شاء الله تعالى. قوله: "عن بشير بن نهيك" بفتح الموحدة وكسر المعجمة، ونهيك بالنون وزنه سواء. قوله: "عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن خاتم الذهب" في الكلام حذف تقديره. نهى عن لبس خاتم الذهب. قوله: "وقال عمرو" هو ابن مرزوق "أنبأنا شعبة" ساق هذا الإسناد لما فيه من بيان سماع قتادة من النضر وهو ابن أنس بن مالك المذكور في السند الذي قبله، وسماع النضر من بشير بن نهيك وقد وصله أبو عوانة في صحيحه عن أبي قلابة الرقاشي وقاسم بن أصبغ في مصنفه عن محمد بن غالب

(10/316)


ابن حرب كلاهما عن عمرو بن مرزوق به، ووقع التصريح بسماع قتادة من النضر بهذا الحديث أيضا في رواية أبي داود الطيالسي عن شعبة وأخرجه الإسماعيلي كذلك، قال ابن دقيق العيد: إخبار الصحابي عن الأمر والنهي على ثلاث مراتب: الأولى أن يأتي بالصيغة كقوله: افعلوا أو لا تفعلوا، الثانية قوله أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا ونهانا عن كذا وهو كالمرتبة الأولى في العمل به أمرا ونهيا، وإنما نزل عنها لاحتمال أن يكون ظن ما ليس بأمر أمرا، إلا أن هذا الاحتمال مرجوح للعلم بعدالته ومعرفته بمدلولات الألفاظ لغة. المرتبة الثالثة أمرنا ونهينا على البناء للمجهول وهي كالثانية، وإنما نزلت عنها لاحتمال أن يكون الآمر غير النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا تقرر هذا فالنهي عن خاتم الذهب أو التختم به مختص بالرجال دون النساء، فقد نقل الإجماع على إباحته للنساء. قلت: وقد أخرج ابن أبي شيبة من حديث عائشة "أن النجاشي أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم حلية فيها خاتم من ذهب، فأخذوه وإنه لمعرض عنه، ثم دعا أمامة بنت ابنته فقال: تحلي به" قال ابن دقيق العيد: وظاهر النهي التحريم، وهو قول الأئمة واستقر الأمر عليه، قال عياض: وما نقل عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم من تختمه بالذهب فشذوذ، والأشبه أنه لم تبلغه السنة فيه فالناس بعده مجمعون على خلافه، وكذا ما روي فيه عن خباب وقد قال له ابن مسعود "أما آن لهذا الخاتم أن يلقى؟ فقال: إنك لن تراه علي بعد اليوم" فكأنه ما كان بلغه النهي فلما بلغه رجع. قال: وقد ذهب بعضهم إلى أن لبسه للرجال مكروه كراهة تنزيه لا تحريم كما قال ذلك في الحرير، قال ابن دقيق العيد: هذا يقتضي إثبات الخلاف في التحريم، وهو يناقض القول بالإجماع على التحريم، ولا بد من اعتبار وصف كونه خاتما. قلت: التوفيق بين الكلامين ممكن بأن يكون القائل بكراهة التنزيه انقرض واستقر الإجماع بعده على التحريم، وقد جاء عن جماعة من الصحابة لبس خاتم الذهب، من ذلك ما أخرجه ابن أبي شيبة من طريق محمد بن أبي إسماعيل أنه رأى ذلك على سعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله وصهيب وذكر ستة أو سبعة. وأخرج ابن أبي شيبة أيضا عن حذيفة وعن جابر بن سمرة وعن عبيد الله بن يزيد الخطمي نحوه، ومن طريق حمزة بن أبي أسيد "نزعنا من يدي أسيد خاتما من ذهب" وأغرب ما ورد من ذلك ما جاء عن البراء الذي روى النهي، فأخرج ابن أبي شيبة بسند صحيح عن أبي السفر قال: "رأيت على البراء خاتما من ذهب" وعن شعبة عن أبي إسحاق نحوه أخرجه البغوي في "الجعديات" وأخرج أحمد من طريق محمد بن مالك قال: "رأيت على البراء خاتما من ذهب فقال: قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم قسما فألبسنيه فقال: البس ما كساك الله ورسوله" قال الحازمي: إسناده ليس بذاك، ولو صح فهو منسوخ. قلت: لو ثبت النسخ عند البراء ما لبسه بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وقد روي حديث النهي المتفق على صحته عنه، فالجمع بين روايته وفعله إما بأن يكون حمله على التنزيه أو فهم الخصوصية له من قوله البس ما كساك الله ورسوله، وهذا أولى من قول الحازمي: لعل البراء لم يبلغه النهي. ويؤيده الاحتمال الثاني أنه وقع في رواية أحمد "كان الناس يقولون للبراء لم تتختم بالذهب وقد نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم" فيذكر لهم الحديث ثم يقول: كيف تأمرونني أن أضع ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "البس ما كساك الله ورسوله" ومن أدلة النهي أيضا ما رواه يونس عن الزهري عن أبي إدريس عن رجل له صحبة قال: "جلس رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده خاتم من ذهب فقرع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده بقضيب فقال: ألق هذا" وعموم الأحاديث المقدم ذكرها في "باب لبس الحرير" حيث قال في الذهب والحرير " هذان حرامان على رجال أمتي حل لإناثها " وحديث عبد الله بن عمرو رفعه: " من مات من أمتي وهو

(10/317)


يلبس الذهب حرم الله عليه ذهب الجنة" الحديث أخرجه أحمد والطبراني، وفي حديث ابن عمر ثالث أحاديث الباب ما يستدل به على نسخ جواز لبس الخاتم إذا كان من ذهب، واستدل به على تحريم الذهب على الرجال قليله وكثيره للنهي عن التختم وهو قليل، وتعقبه ابن دقيق العيد بأن التحريم يتناول ما هو في قدر الخاتم وما فوقه كالدملج والمعضد وغيرهما، فأما ما هو دونه فلا دلالة من الحديث عليه، وتناول النهي جميع الأحوال فلا يجوز لبس خاتم الذهب لمن فاجأه الحرب لأنه لا تعلق له بالحرب، بخلاف ما تقدم في الحرير من الرخصة في لبسه بسبب الحرب، وبخلاف ما على السيف أو الترس أو المنطقة من حلية الذهب فإنه لو فجأه الحرب جاز له الضرب بذلك السيف فإذا انقضت الحرب فلينتقض لأنه كله من متعلقات الحرب بخلاف الخاتم. حديث ابن عمر سيأتي شرحه في الباب الذي يليه، وقوله فيه: "فاتخذه الناس" أي اتخذوا مثله كما بينه بعد، وقوله: "من ورق أو فضة" شك من الراوي وجزم في الذي يليه بقوله: "من فضة" وفي الذي يليه بأنه "من ورق" والورق بفتح الواو وكسر الراء ويجوز إسكانها، وحكى الصغاني(1) وحكى كسر أوله مع السكون فتلك أربع لغات، وفيها لغة خامسة الرقة والراء بدل الواو كالوعد والعدة، وقيل الورق يختص بالمصكوك والرقة أعم.
ـــــــ
(1) بياض بأصله. قال مصحح طبعة بولاق: ولعل موضعه لفظ "فتحها" أي الراء، بدليل قوله بعده "فتلك أربع لغات".

(10/318)


46 - باب خَاتَمِ الْفِضَّةِ
5866- حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتَّخَذَ خَاتَماً مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ وَجَعَلَ فَصَّهُ مِمَّا يَلِي كَفَّهُ وَنَقَشَ فِيهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ فَاتَّخَذَ النَّاسُ مِثْلَهُ فَلَمَّا رَآهُمْ قَدْ اتَّخَذُوهَا رَمَى بِهِ وَقَالَ لاَ أَلْبَسُهُ أَبَداً ثُمَّ اتَّخَذَ خَاتَماً مِنْ فِضَّةٍ فَاتَّخَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَ الْفِضَّةِ قَالَ ابْنُ عُمَرَ فَلَبِسَ الْخَاتَمَ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ ثُمَّ عُثْمَانُ حَتَّى وَقَعَ مِنْ عُثْمَانَ فِي بِئْرِ أَرِيسَ".

(10/318)


47 - باب
5867- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلْبَسُ خَاتَماً مِنْ ذَهَبٍ فَنَبَذَهُ فَقَالَ: "لاَ أَلْبَسُهُ أَبَداً" فَنَبَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَهُمْ".
5868- حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّهُ رَأَى فِي يَدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَماً مِنْ وَرِقٍ يَوْماً وَاحِداً ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ اصْطَنَعُوا الْخَوَاتِيمَ مِنْ وَرِقٍ وَلَبِسُوهَا فَطَرَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمَهُ فَطَرَحَ النَّاسُ خَوَاتِيمَهُمْ".
تَابَعَهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ وَزِيَادٌ وَشُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ وَقَالَ ابْنُ مُسَافِرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَرَى خَاتَماً مِنْ وَرِقٍ.

(10/318)


48 - باب فَصِّ الْخَاتَمِ
5869- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ أَخْبَرَنَا حُمَيْدٌ قَالَ: "سُئِلَ أَنَسٌ هَلْ اتَّخَذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَماً قَالَ أَخَّرَ لَيْلَةً صَلاَةَ الْعِشَاءِ إِلَى شَطْرِ اللَّيْلِ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ خَاتَمِهِ قَالَ: إِنَّ النَّاسَ قَدْ صَلَّوْا وَنَامُوا وَإِنَّكُمْ لَمْ تَزَالُوا فِي صَلاَةٍ مَا انْتَظَرْتُمُوهَا" .

(10/321)


5870- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا مُعْتَمِرٌ قَالَ سَمِعْتُ حُمَيْداً يُحَدِّثُ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ خَاتَمُهُ مِنْ فِضَّةٍ وَكَانَ فَصُّهُ مِنْهُ". وَقَالَ يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ حَدَّثَنِي حُمَيْدٌ سَمِعَ أَنَساً عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قوله: "باب فص الخاتم" قال الجوهري: الفص بفتح الفاء والعامة تكسرها وأثبتها غيره لغة وزاد بعضهم الضم وعليه جرى ابن مالك في المثلث. حديث حميد "سئل أنس: هل اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم خاتما؟ قال: أخر ليلة صلاة العشاء" الحديث. وقد تقدم شرحه في المواقيت من كتاب الصلاة. وقوله: "وبيص" بموحدة وآخره مهملة هو البريق وزنا ومعنى، وسيأتي من رواية عبد العزيز بن صهيب بلفظ: "بريقه" ومن رواية قتادة عن أنس بلفظ: "بياضه" ووقع في رواية حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس في آخره: "ورفع أنس يده اليسرى" أخرجه مسلم والنسائي، وله في أخرى "وأشار إلى الخنصر من يده اليسرى". قوله في الطريق الثانية: "كان خاتمه من فضة" في رواية أبي داود من طريق زهير بن معاوية عن حميد "من فضة كله" فهذا نص في أنه كله من فضة، وأما ما أخرجه أبو داود والنسائي من طريق إياس بن الحارث بن معيقيب عن جده قال: "كان خاتم النبي صلى الله عليه وسلم من حديد ملويا عليه فضة، فربما كان في يدي، قال: وكان معيقيب على خاتم النبي صلى الله عليه وسلم" يعني كان أمينا عليه فيحمل على التعدد، وقد أخرج له ابن سعد شاهدا مرسلا عن مكحول "أن خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من حديد ملويا عليه فضة، غير أن فصه باد" وآخر مرسلا عن إبراهيم النخعي مثله دون ما في آخره. وثالثا من رواية سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص "أن خالد بن سعيد - يعني ابن العاص - أتى وفي يده خاتم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هذا؟ أطرحه، فطرحه فإذا خاتم من حديد ملوي عليه فضة. قال: فما نقشه؟ قال: محمد رسول الله، قال: فأخذه فلبسه" ومن وجه آخر عن سعيد بن عمرو المذكور أن ذلك جرى لعمرو بن سعيد أخي خالد بن سعيد، وسأذكر لفظه في "باب هل يجعل نقش الخاتم ثلاثة أسطر؟". قوله: "وكان فصه منه" لا يعارضه ما أخرجه مسلم وأصحاب السنن من طريق ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب عن أنس "كان خاتم النبي صلى الله عليه وسلم من ورق وكان فصه حبشيا" لأنه إما أن يحمل على التعدد وحينئذ فمعنى قوله حبشي أي كان حجرا من بلاد الحبشة، أو على لون الحبشة، أو كان جزعا أو عقيقا لأن ذلك قد يؤتى به من بلاد الحبشة، ويحتمل أن يكون هو الذي فصه منه ونسب إلى الحبشة لصفة فيه إما الصياغة وإما النقش. قوله: "وقال يحيى بن أيوب الخ" أراد بهذا التعليق بيان سماع حميد له من أنس، وقد تقدم في المواقيت معلقا أيضا، وذكرت من وصله ولله الحمد. وقد اعترضه الإسماعيلي فقال: ليس هذا الحديث من الباب الذي ترجمه في شيء، وأجيب بأنه أشار إلى أنه لا يسمى خاتما إلا إذا كان له فص، فإن كان بلا فص فهو حلقة. قلت: لكن في الطريق الثانية في الباب أن فص الخاتم كان منه، فلعله أراد الرد على من زعم أنه لا يقال له خاتم إلا إذا كان له فص من غيره، ويؤيده أن في رواية خالد بن قيس عن قتادة عن أنس عند مسلم: "فصاغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتما حلقة من فضة" والذي يظهر لي أنه أشار إلى أن الإجمال في الرواية الأولى محمول على التبيين في الرواية الثانية.

(10/322)


49 - باب خَاتَمِ الْحَدِيدِ
5871- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَمِعَ سَهْلاً يَقُولُ:

(10/322)


جَاءَتْ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ جِئْتُ أَهَبُ نَفْسِي فَقَامَتْ طَوِيلاً فَنَظَرَ وَصَوَّبَ فَلَمَّا طَالَ مُقَامُهَا فَقَالَ رَجُلٌ زَوِّجْنِيهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكَ بِهَا حَاجَةٌ قَالَ: " عِنْدَكَ شَيْءٌ تُصْدِقُهَا قَالَ لاَ قَالَ انْظُرْ فَذَهَبَ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ وَاللَّهِ إِنْ وَجَدْتُ شَيْئاً قَالَ اذْهَبْ فَالْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَماً مِنْ حَدِيدٍ فَذَهَبَ ثُمَّ رَجَعَ قَالَ لاَ وَاللَّهِ وَلاَ خَاتَماً مِنْ حَدِيدٍ وَعَلَيْهِ إِزَارٌ مَا عَلَيْهِ رِدَاءٌ فَقَالَ أُصْدِقُهَا إِزَارِي. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِزَارُكَ إِنْ لَبِسَتْهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ مِنْهُ شَيْءٌ وَإِنْ لَبِسْتَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا مِنْهُ شَيْءٌ فَتَنَحَّى الرَّجُلُ فَجَلَسَ فَرَآهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُوَلِّياً فَأَمَرَ بِهِ فَدُعِيَ فَقَالَ مَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ قَالَ سُورَةُ كَذَا وَكَذَا لِسُوَرٍ عَدَّدَهَا قَالَ قَدْ مَلَّكْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ" .
قوله: "باب خاتم الحديد" قد ذكرت ما ورد فيه في الباب الذي قبله، كأنه لم يثبت عنده شيء من ذلك على شرطه، وفيه دلالة على جواز لبس ما كان على صفته. وأما ما أخرجه أصحاب السنن وصححه ابن حبان من رواية عبد الله بن بريدة عن أبيه "أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعليه خاتم من شبه فقال: ما لي أجد منك ريح الأصنام؟ فطرحه. ثم جاء وعليه خاتم من حديد فقال: ما لي أرى عليك حلية أهل النار؟ فطرحه. فقال: يا رسول الله من أي شيء أتخذه؟ قال: اتخذه من ورق، ولا تتمه مثقالا" وفي سنده أبو طيبة بفتح المهملة وسكون التحتانية بعدها موحدة اسمه عبد الله بن مسلم المروزي، قال أبو حاتم الرازي يكتب حديثه ولا يحتج به. وقال ابن حبان في الثقات: يخطئ ويخالف، فإن كان محفوظا حمل المنع على ما كان حديدا صرفا. وقد قال التيفاشي في "كتاب الأحجار" خاتم الفولاذ مطردة للشيطان إذا لوي عليه فضة، فهذا يؤيد المغايرة في الحكم. حديث سهل بن سعد في قصة الواهبة وقوله فيه: "اذهب فالتمس ولو خاتما من حديد" استدل به على جواز لبس خاتم الحديد، ولا حجة فيه لأنه لا يلزم من جواز الاتخاذ جواز اللبس، فيحتمل أنه أراد وجوده لتنتفع المرأة بقيمته. وقوله: "ولو خاتما" محذوف الجواب لدلالة السياق عليه، فإنه لما أمره بالتماس مهما وجد كأنه خشي أن يتوهم خروج خاتم الحديد لحقارته فأكد دخوله بالجملة المشعرة بدخول ما بعدها فيما قبلها، وقوله في الجواب "فقال لا والله، ولا خاتما من حديد" انتصب على تقدير لم أجد، وقد صرح به في الطريق الأخرى.

(10/323)


50 - باب نَقْشِ الْخَاتَمِ
5872- حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ إِلَى رَهْطٍ أَوْ أُنَاسٍ مِنْ الأَعَاجِمِ فَقِيلَ لَهُ إِنَّهُمْ لاَ يَقْبَلُونَ كِتَاباً إِلاَّ عَلَيْهِ خَاتَمٌ فَاتَّخَذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَماً مِنْ فِضَّةٍ نَقْشُهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ فَكَأَنِّي بِوَبِيصِ أَوْ بِبَصِيصِ الْخَاتَمِ فِي إِصْبَعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ فِي كَفِّهِ".
5873- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ

(10/323)


عَنْهُمَا قَالَ اتَّخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَماً مِنْ وَرِقٍ وَكَانَ فِي يَدِهِ ثُمَّ كَانَ بَعْدُ فِي يَدِ أَبِي بَكْرٍ ثُمَّ كَانَ بَعْدُ فِي يَدِ عُمَرَ ثُمَّ كَانَ بَعْدُ فِي يَدِ عُثْمَانَ حَتَّى وَقَعَ بَعْدُ فِي بِئْرِ أَرِيسَ نَقْشُهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ".
قوله: "باب نقش الخاتم" ذكر فيه حديثين: أحدهما عن أنس. قوله: "حدثنا عبد الأعلى" هو ابن حماد وسعيد هو ابن أبي عروبة. قوله: "أراد أن يكتب إلى رهط أو أناس" هو شك من الراوي. قوله: "من الأعاجم" في رواية شعبة عن قتادة كما يأتي بعد باب "إلى الروم". قوله: "فقيل له" في مرسل طاوس عند ابن سعد أن قريشا هم الذين قالوا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم قوله: "نقشه محمد رسول الله" زاد ابن سعد من مرسل ابن سيرين "بسم الله محمد رسول الله" ولم يتابع على هذه الزيادة، وقد أورده من مرسل طاوس والحسن البصري وإبراهيم النخعي وسالم بن أبي الجعد وغيرهم ليس فيه الزيادة، وكذا وقع في الباب من حديث ابن عمر، وأما ما أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن عبد الله بن محمد بن عقيل أنه أخرج لهما خاتما فزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يلبسه فيه تمثال أسد قال معمر: فغسله بعض أصحابنا فشربه، ففيه مع إرساله ضعف، لأن ابن عقيل مختلف في الاحتجاج به إذا انفرد فكيف إذا خالف، وعلى تقدير ثبوته فلعله لبسه مرة قبل النهي. قوله: "في إصبع النبي صلى الله عليه وسلم أو في كفه" شك من الراوي، ووقع في رواية شعبة "في يده" وسيأتي من وجه آخر عن أنس في الباب الذي بعده "في خنصره". حديث ابن عمر، وقد تقدم شرحه في "باب خاتم الفضة".

(10/324)


51 - باب الْخَاتَمِ فِي الْخِنْصَرِ
5874- حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "صَنَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَماً قَالَ: "إِنَّا اتَّخَذْنَا خَاتَماً وَنَقَشْنَا فِيهِ نَقْشاً فَلاَ يَنْقُشَنَّ عَلَيْهِ أَحَدٌ" قَالَ فَإِنِّي لاَرَى بَرِيقَهُ فِي خِنْصَرِهِ".
قوله: "باب الخاتم في الخنصر" أي دون غيرها من الأصابع، وكأنه أشار إلى ما أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي من طريق أبي بردة بن أبي موسى عن علي قال: "نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ألبس خاتمي في هذه وفي هذه" يعني السبابة والوسطى، وسيأتي بيان أي الخنصرين اليمنى أو اليسرى كان يلبس الخاتم فيه بعد باب. قوله: "فلا ينقش عليه أحد" في رواية الكشميهني وحده "ينقشن" بالنون المؤكدة، وإنما نهى أن ينقش أحد على نقشه لأن فيه اسمه وصفته، وإنما صنع فيه ذلك ليختم به فيكون علامة تختص به وتتميز عن غيره، فلو جاز أن ينقش أحد نظير نقشه لفات المقصود.

(10/324)


52 - باب اتِّخَاذِ الْخَاتَمِ لِيُخْتَمَ بِهِ الشَّيْءُ أَوْ لِيُكْتَبَ بِهِ إِلَى أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ
5875- حدثنا آدم بن أبي إياس حدثنا شعبة عن قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكتب إلى الروم، قيل له: إنهم لن يقرأوا كتابك إذا لم يكن مختوما، فاتخذ خاتما من فضة ونقشه محمد رسول الله فكأنما أنظر إلى بياضه في يده".

(10/324)


53 - باب مَنْ جَعَلَ فَصَّ الْخَاتَمِ فِي بَطْنِ كَفِّهِ
5876- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ حَدَّثَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اصْطَنَعَ خَاتَماً مِنْ ذَهَبٍ وَجَعَلَ فَصَّهُ فِي بَطْنِ كَفِّهِ إِذَا لَبِسَهُ فَاصْطَنَعَ النَّاسُ خَوَاتِيمَ مِنْ ذَهَبٍ فَرَقِيَ الْمِنْبَرَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ فَقَالَ: إِنِّي كُنْتُ اصْطَنَعْتُهُ وَإِنِّي لاَ أَلْبَسُهُ فَنَبَذَهُ فَنَبَذَ النَّاسُ" .
قَالَ جُوَيْرِيَةُ: وَلاَ أَحْسِبُهُ إِلاَّ قَالَ فِي يَدِهِ الْيُمْنَى
قوله: "باب من جعل فص الخاتم في بطن كفه" سقط لفظ: "باب" من رواية أبي ذر، قال ابن بطال. قيل لمالك يجعل الفص في باطن الكف؟ قال: لا. قال ابن بطال: ليس في كون فص الخاتم في بطن الكف ولا ظهرها

(10/325)


أمر ولا نهي. وقال غيره: السر في ذلك أن جعله في بطن الكف أبعد من أن يظن أنه فعله للتزين به، وقد أخرج أبو داود من حديث ابن عباس جعله في ظاهر الكف كما سأذكره قريبا. قوله: "حدثنا جويرية" هو ابن أسماء، وعبد الله هو ابن عمر. قوله: "اصطنع خاتما من ذهب وجعل" كذا للأكثر، وللمستملي والسرخسي "ويجعل" وقد تقدم شرح الحديث في "باب خاتم الفضة". قوله: "قال جويرية ولا أحسبه إلا قال في يده اليمنى" هو موصول بالإسناد المذكور؛ قال أبو ذر في روايته: لم يقع في البخاري موضع الخاتم من أي اليدين إلا في هذا. وقال الداودي: لم يجزم به جويرية، وتواطؤ الروايات على خلافه يدل على أنه لم يحفظه، وعمل الناس على لبس الخاتم في اليسار يدل على أنه المحفوظ. قلت: وكلامه متعقب فإن الظن فيه من موسى شيخ البخاري، وقد أخرجه ابن سعد عن مسلم بن إبراهيم، وأخرجه الإسماعيلي عن الحسن بن سفيان عن عبد الله بن محمد بن أسماء كلاهما عن جويرية وجزما بأنه لبسه في يده اليمنى، وهكذا أخرج مسلم من طريق عقبة بن خالد عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر في قصة اتخاذ الخاتم من ذهب وفيه: "وجعله في يده اليمنى" وأخرجه الترمذي وابن سعد من طريق موسى بن عقبة عن نافع بلفظ: "صنع النبي صلى الله عليه وسلم خاتما من ذهب فتختم به في يمينه، ثم جلس على المنبر فقال: إني كنت اتخذت هذا الخاتم في يميني. ثم نبذه" الحديث. وهذا صريح من لفظه صلى الله عليه وسلم رافع للبس. وموسى بن عقبة أحد الثقات الأثبات، وأما ما أخرجه ابن عدي من طريق محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وأبو داود من طريق عبد العزيز بن أبي رواد كلاهما عن نافع عن ابن عمر "كان النبي صلى الله عليه وسلم يتختم في يساره" فقد قال أبو داود بعده: ورواه ابن إسحاق وأسامة بن زيد عن نافع "في يمينه" انتهى. ورواية ابن إسحاق قد أخرجها أبو الشيخ في "كتاب أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم" من طريقه، وكذا رواية أسامة. وأخرجها محمد بن سعد أيضا. فظهر أن رواية اليسار في حديث نافع شاذة، ومن رواها أيضا أقل عددا وألين ممن روى اليمين، وقد أخرج الطبراني في "الأوسط" بسند حسن عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يتختم في يمينه" وأخرج أبو الشيخ في "كتاب أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم" من رواية خالد بن أبي بكر عن سالم عن ابن عمر نحوه، فرجحت رواية اليمين في حديث ابن عمر أيضا. وقد ورد التختم في اليمين أيضا في أحاديث أخرى: منها عند مسلم من حديث أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم لبس خاتما من فضة في يمينه فصه حبشي" وأخرج أبو داود أيضا من طريق ابن إسحاق قال: "رأيت على الصلت بن عبد الله خاتما في خنصره اليمين، فسألته فقال: رأيت ابن عباس يلبس خاتمه هكذا وجعل فصه على ظهرها، ولا إخال ابن عباس إلا ذكره عن النبي صلى الله عليه وسلم" وأورده الترمذي من هذا الوجه مختصرا "رأيت ابن عباس يتختم في يمينه ولا إخاله إلا قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتختم في يمينه" وللطبراني من وجه آخر عن ابن عباس "كان النبي صلى الله عليه وسلم يتختم في يمينه" وفي سنده لين. وأخرج الترمذي أيضا من طريق حماد بن سلمة "رأيت ابن أبي رافع يتختم في يمينه وقال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتختم في يمينه" ثم نقل عن البخاري أنه أصح شيء روي في هذا الباب. وأخرج أبو داود والنسائي والترمذي في "الشمائل" وصححه ابن حبان من طريق إبراهيم بن عبد الله ابن حنين عن أبيه عن علي "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتختم في يمينه" وفي الباب عن جابر في "الشمائل" بسند لين، وعائشة عند البزار بسند لين، وعند أبي الشيخ بسند حسن، وعن أبي أمامه عند الطبراني بسند ضعيف، وعن أبي هريرة عند الدار قطني في "غرائب مالك" بسند ساقط. وورد التختم في اليسار من حديث ابن عمر كما تقدم، ومن حديث أنس أيضا أخرجه

(10/326)


مسلم من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس قال: "كان خاتم النبي صلى الله عليه وسلم في هذه، وأشار إلى الخنصر اليسرى". وأخرجه أبو الشيخ والبيهقي في "الشعب" من طريق قتادة عن أنس، ولأبي الشيخ من حديث أبي سعيد بلفظ: "كان يلبس خاتمه في يساره" وفي سنده لين، وأخرجه ابن سعد أيضا. وأخرج البيهقي في الأدب من طريق أبي جعفر الباقر قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعلي والحسن والحسين يتختمون في اليسار" وأخرجه الترمذي موقوفا على الحسن والحسين فحسب، وأما دعوى الداودي أن العمل على التختم في اليسار فكأنه توهمه من استحباب مالك للتختم وهو يرجح عمل أهل المدينة فظن أنه عمل أهل المدينة، وفيه نظر، فإنه جاء عن أبي بكر وعمر وجمع جم من الصحابة والتابعين بعدهم من أهل المدينة وغيرهم التختم في اليمنى. وقال البيهقي في الأدب: يجمع بين هذه الأحاديث بأن الذي لبسه في يمينه هو خاتم الذهب كما صرح به في حديث ابن عمر. والذي لبسه في يساره هو خاتم الفضة، وأما رواية الزهري عن أنس التي فيها التصريح بأنه كان فضة ولبسه في يمينه فكأنها خطأ، فقد تقدم أن الزهري وقع له وهم في الخاتم الذي طرحه النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه وقع في روايته أنه الذي كان من فضة، وأن الذي في رواية غيره أنه الذي كان من ذهب، فعلى هذا فالذي كان لبسه في يمينه هو الذهب اهـ ملخصا. وجمع غيره بأنه لبس الخاتم أولا في يمينه ثم حوله إلى يساره، واستدل له بما أخرجه أبو الشيخ وابن عدي من رواية عبد الله بن عطاء عن نافع عن ابن عمر "أن النبي صلى الله عليه وسلم تختم في يمينه، ثم أنه حوله في يساره" فلو صح هذا لكان قاطعا للنزاع، ولكن سنده ضعيف. وأخرج ابن سعد من طريق جعفر بن محمد عن أبيه قال: "طرح رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتمه الذهب ثم تختم خاتما من ورق فجعله في يساره" وهذا مرسل أو معضل، وقد جمع البغوي في "شرح السنة" بذلك وأنه تختم أولا في يمينه ثم تختم في يساره وكان ذلك آخر الأمرين. وقال ابن أبي حاتم: سألت أبا زرعة عن اختلاف الأحاديث في ذلك فقال: لا يثبت هذا ولا هذا، ولكن في يمينه أكثر، وقد تقدم قول البخاري أن حديث عبد الله بن جعفر أصح شيء ورد فيه وصرح فيه بالتختم في اليمين، وفي المسألة عند الشافعية اختلاف والأصح اليمين. قلت: ويظهر لي أن ذلك يختلف باختلاف القصد، فإن كان اللبس للتزين به فاليمين أفضل، وإن كان للتختم به فاليسار أولى لأنه كالمودع فيها، ويحصل يناوله منها باليمين وكذا وضعه فيها، ويترجح التختم قي اليمين مطلقا لأن اليسار آلة الاستنجاء فيصان الخاتم إذا كان في اليمين عن أن تصيبه النجاسة، ويترجح التختم في اليسار بما أشرت إليه من التناول. وجنحت طائفة إلى استواء الأمرين وجمعوا بذلك بين مختلف الأحاديث، وإلى ذلك أشار أبو داود حيث ترجم "باب التختم في اليمين واليسار" ثم أورد الأحاديث مع اختلافها في ذلك بغير ترجيح، ونقل النووي وغيره الإجماع على الجواز ثم قال: ولا كراهة فيه - يعني عند الشافعية - وإنما الاختلاف في الأفضل. وقال البغوي: كان آخر الأمرين التختم في اليسار. وتعقبه الطبري بأن ظاهره النسخ، وليس ذلك مراده بل الإخبار بالواقع اتفاقا، والذي يظهر أن الحكمة فيه ما تقدم، والله أعلم.

(10/327)


54 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ يَنْقُشُ عَلَى نَقْشِ خَاتَمِهِ
5877- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتَّخَذَ خَاتَماً مِنْ فِضَّةٍ وَنَقَشَ فِيهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَقَالَ: إِنِّي اتَّخَذْتُ خَاتَماً مِنْ وَرِقٍ

(10/327)


وَنَقَشْتُ فِيهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ فَلاَ يَنْقُشَنَّ أَحَدٌ عَلَى نَقْشِهِ" .
قوله: "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لا ينقش" بضم أوله "على نقش خاتمه" ذكر فيه حديث أنس من رواية عبد العزيز بن صهيب عنه في اتخاذ الخاتم من فضة وفيه: "فلا ينقش أحد على نقشه". حديث أنس من رواية عبد العزيز بن صهيب عنه في اتخاذ الخاتم من فضة وفيه: "فلا ينقش أحد على نقشه" وقوله فيه: "إنا اتخذنا" بصيغة الجمع وهي للتعظيم هنا، والمراد أني اتخذت. وأخرج الترمذي من طريق معمر عن ثابت عن أنس نحوه وقال فيه: "ثم قال لا تنقشوا عليه" وأخرج الدار قطني في "الأفراد" من طريق سلمة بن وهرام عن عكرمة عن يعلى بن أمية قال: "أنا صنعت للنبي صلى الله عليه وسلم خاتما لم يشركني فيه أحد، نقش فيه محمد رسول الله" فيستفاد منه اسم الذي صاغ خاتم النبي صلى الله عليه وسلم ونقشه. وأما نهيه صلى الله عليه وسلم عن أن ينقش أحد على نقشه أي مثل نقشه فقد تقدمت الإشارة إلى الحكمة فيه في "باب خاتم الفضة" وقد أخرج ابن أبي شيبة في "المصنف" عن ابن عمر أنه نقش على خاتمه عبد الله بن عمر، وكذا أخرج عن سالم عن عبد الله بن عمر أنه نقش اسمه على خاتمه، وكذا القاسم بن محمد، قال ابن بطال: وكان مالك يقول: من شأن الخلفاء والقضاة نقش أسمائهم في خواتمهم. وأخرج ابن أبي شيبة عن حذيفة وأبي عبيدة أنه كان نقش خاتم كل واحد منهما "الحمد لله" وعن علي "الله الملك" وعن إبراهيم النخعي "بالله" وعن مسروق "بسم الله" وعن أبي جعفر الباقر "العزة لله" وعن الحسن والحسين لا بأس بنقش ذكر الله على الخاتم، قال النووي: وهو قول الجمهور، ونقل عن ابن سيرين وبعض أهل العلم كراهته. انتهى. وقد أخرج ابن أبي شيبة بسند صحيح عن ابن سيرين أنه لم يكن يرى بأسا أن يكتب الرجل في خاتمه "حسبي الله" ونحوها، فهذا يدل على أن الكراهة عنه لم تثبت، ويمكن الجمع بأن الكراهة حيث يخاف عليه حمله للجنب والحائض والاستنجاء بالكف التي هو فيها، والجواز حيث حصل الأمن من ذلك، فلا تكون الكراهة لذلك بل من جهة ما يعرض لذلك، والله أعلم.

(10/328)


55 - باب هَلْ يُجْعَلُ نَقْشُ الْخَاتَمِ ثَلاَثَةَ أَسْطُرٍ
5878- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ ثُمَامَةَ عَنْ أَنَسٍ "أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا اسْتُخْلِفَ كَتَبَ لَهُ وَكَانَ نَقْشُ الْخَاتَمِ ثَلاَثَةَ أَسْطُرٍ مُحَمَّدٌ سَطْرٌ وَرَسُولُ سَطْرٌ وَاللَّهِ سَطْرٌ".
5879- قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ وَزَادَنِي أَحْمَدُ حَدَّثَنَا الأَنْصَارِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ ثُمَامَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: "كَانَ خَاتَمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي يَدِهِ وَفِي يَدِ أَبِي بَكْرٍ بَعْدَهُ وَفِي يَدِ عُمَرَ بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ فَلَمَّا كَانَ عُثْمَانُ جَلَسَ عَلَى بِئْرِ أَرِيسَ قَالَ فَأَخْرَجَ الْخَاتَمَ فَجَعَلَ يَعْبَثُ بِهِ فَسَقَطَ قَالَ فَاخْتَلَفْنَا ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ مَعَ عُثْمَانَ فَنَزَحَ الْبِئْرَ فَلَمْ يَجِدْهُ".
قوله: "باب هل يجعل نقش الخاتم ثلاثة أسطر" قال ابن بطال: ليس كون نقش الخاتم ثلاثة أسطر أو سطرين أفضل من كونه سطرا واحدا، كذا قال. قلت: قد يظهر أثر الخلاف من أنه إذا كان سطرا واحدا يكون الفص مستطيلا لضرورة كثرة الأحرف، فإذا تعددت الأسطر أمكن كونه مربعا أو مستديرا، وكل منهما أولى من المستطيل. قوله: "حدثني أبي" هو عبد الله بن المثنى بن عبد الله بن أنس. قوله: "عن ثمامة" هو ابن عبد الله بن أنس عم عبد الله بن المثنى الراوي، والسند كله بصريون من آل أنس. قوله: "عن أنس" في رواية الإسماعيلي من

(10/328)


طريق علي بن المديني عن محمد بن عبد الله الأنصاري "حدثني أبي حدثنا ثمامة حدثني أنس". قوله: "أن أبا بكر رضي الله عنه لما استخلف كتب له" لم يذكر المكتوب وقد تقدمت الإشارة إليه في كتاب الزكاة وأنه كتب له مقادير الزكاة. قوله: "وكان نقش الخاتم ثلاثة أسطر محمد سطر ورسول سطر والله سطر" هذا ظاهره أنه لم يكن فيه زيادة على ذلك، لكن أخرج أبو الشيخ قي "أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم" من رواية عرعرة بن البرند بكسر الموحدة والراء بعدها نون ساكنة ثم دال عن عزرة بفتح المهملة وسكون الزاي بعدها راء ابن ثابت عن ثمامة عن أنس قال: "كان فص خاتم النبي صلى الله عليه وسلم حبشيا مكتوبا عليه لا إله إلا الله محمد رسول الله" وعرعرة ضعفه ابن المديني، وزيادته هذه شاذة، وظاهره أيضا أنه كان على هذا الترتيب، لكن لم تكن كتابته على السياق العادي فإن ضرورة الاحتياج إلى أن يختم به يقتضي أن تكون الأحرف المنقوشة مقلوبة ليخرج الختم مستويا. وأما قول بعض الشيوخ أن كتابته كانت من أسفل إلى فوق يعني أن الجلالة في أعلى الأسطر الثلاثة ومحمد في أسفلها فلم أر التصريح بذلك في شيء من الأحاديث، بل رواية الإسماعيلي يخالف ظاهرها ذلك، فإنه قال فيها "محمد سطر والسطر الثاني رسول والسطر الثالث الله" ولك أن تقرأ محمد بالتنوين وعدمه والله بالرفع وبالجر. قوله: "وزادني أحمد حدثنا الأنصاري إلى آخره" هذه الزيادة موصولة، وأحمد المذكور جزم المزي في "الأطراف" أنه أحمد بن حنبل، لكن لم أر هذا الحديث في "مسند أحمد" من هذا الوجه أصلا. قوله: "وفي يد عمر بعد أبي بكر، فلما كان عثمان جلس على بئر أريس" وقع في رواية ابن سعد عن الأنصاري "ثم كان في يد عثمان ست سنين، فلما كان في الست الباقية كنا معه على بئر أريس". قوله: "فجعل يعبث به" في رواية ابن سعد "فجعل يحوله في يده". قوله: "فسقط" في رواية ابن سعد "فوقع في البئر". قوله: "فاختلفنا ثلاثة أيام مع عثمان فنزح البئر فلم نجده" أي في الذهاب والرجوع والنزول إلى البئر والطلوع منها، ووقع في رواية ابن سعد "فطلبناه مع عثمان ثلاثة أيام فلم نقدر عليه" قال بعض العلماء: كان في خاتمه صلى الله عليه وسلم من السر شيء مما كان في خاتم سليمان عليه السلام، لأن سليمان لما فقد خاتمه ذهب ملكه، وعثمان لما فقد خاتم النبي صلى الله عليه وسلم انتقض عليه الأمر وخرج عليه الخارجون وكان ذلك مبدأ الفتنة التي أفضت إلى قتله واتصلت إلى آخر الزمان. قال ابن بطال: يؤخذ من الحديث أن يسير المال إذا ضاع يجب البحث في طلبه والاجتهاد في تفتيشه، وقد فعل صلى الله عليه وسلم ذلك لما ضاع عقد عائشة وحبس الجيش على طلبه حتى وجد، كذا قال، وفيه نظر، فأما عقد عائشة فقد ظهر أثر ذلك بالفائدة العظيمة التي نشأت عنه وهي رخصة التيمم فكيف يقاس عليه غيره؟ وأما فعل عثمان فلا ينهض الاحتجاج به أصلا لما ذكر، لأن الذي يظهر أنه إنما بالغ في التفتيش عليه لكونه أثر النبي صلى الله عليه وسلم قد لبسه واستعمله وختم به، ومثل ذلك يساوي في العادة قدرا عظيما من المال، وإلا لو كان غير خاتم النبي صلى الله عليه وسلم لاكتفي بطلبه بدون ذلك، وبالضرورة يعلم أن قدر المؤنة التي حصلت في الأيام الثلاثة تزيد على قيمة الخاتم لكن اقتضت صفته عظيم قدره فلا يقاس عليه كل ما ضاع من يسير المال، قال: وفيه أن من فعل الصالحين العبث بخواتيمهم وما يكون بأيديهم وليس ذلك بعائب لهم، قلت: وإنما كان كذلك لأن من مثلهم إنما ينشأ عن فكر، وفكرتهم إنما هي في الخير. قال الكرماني: معني قوله: "يعبث به" يحركه أو يخرجه من إصبعه ثم يدخله فيها وذلك صورة العبث، وإنما يفعل الشخص ذلك عند تفكره في الأمور. قال ابن بطال: وفيه أن من طلب شيئا ولم ينجح فيه بعد ثلاثة أيام أن له أن يتركه، ولا يكون بعد الثلاث مضيعا، وأن الثلاث حد يقع بها العذر في

(10/329)


تعذر المطلوبات. وفيه استعمال آثار الصالحين ولباس ملابسهم على جهة التبرك والتيمن بها.

(10/330)


باب الخاتم للنساء وكان على عائشة خواتيم الذهب
...
56 - باب الْخَاتَمِ لِلنِّسَاءِ. وَكَانَ عَلَى عَائِشَةَ خَوَاتِيمُ ذَهَبٍ
5880- حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "شَهِدْتُ الْعِيدَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى قَبْلَ الْخُطْبَةِ". قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: وَزَادَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ "فَأَتَى النِّسَاءَ فَجَعَلْنَ يُلْقِينَ الْفَتَخَ وَالْخَوَاتِيمَ فِي ثَوْبِ بِلاَلٍ".
قوله: "باب الخاتم للنساء" قال ابن بطال: الخاتم للنساء من جملة الحلي الذي أبيح لهن. قوله: "وكان على عائشة خواتيم الذهب" وصله ابن سعد من طريق عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب قال: "سألت القاسم بن محمد فقال: لقد رأيت والله عائشة تلبس المعصفر وتلبس خواتيم الذهب". قوله: "طاوس عن ابن عباس شهدت العيد من النبي صلى الله عليه وسلم فصلى قبل الخطبة" سقط لفظ: "فصلى" من رواية المستملي والسرخسي. وهي مرادة ثابتة في أصل الحديث؛ فإنه طرف من حديث تقدم في صلاة العيد من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج بسنده هنا. قوله: "وزاد ابن وهب عن ابن جريج" يعني بهذا السند إلى ابن عباس، وقد تقدم بالزيادة موصولا في تفسير سورة الممتحنة من رواية هارون بن معروف عن ابن وهب. قوله: "فأتى النساء فجعلن يلقين الفتخ والخواتيم" الفتخ بفتح الفاء ومثناة فوق بعدها خاء معجمة جمع فتخة وهي الخواتيم التي تلبسها النساء في أصابع الرجلين قاله ابن السكيت وغيره، وقيل الخواتيم التي لا فصوص لها، وقيل الخواتم الكبار كما تقدم ذلك من تفسير عبد الرزاق في كتاب العيدين مع بسط ذلك.

(10/330)


57 - باب الْقَلاَئِدِ وَالسِّخَابِ لِلنِّسَاءِ يَعْنِي قِلاَدَةً مِنْ طِيبٍ وَسُكٍّ
5881- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَرْعَرَةَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ عِيدٍ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ لَمْ يُصَلِّ قَبْلُ وَلاَ بَعْدُ ثُمَّ أَتَى النِّسَاءَ فَأَمَرَهُنَّ بِالصَّدَقَةِ فَجَعَلَتْ الْمَرْأَةُ تَصَدَّقُ بِخُرْصِهَا وَسِخَابِهَا".
قوله: "باب القلائد والسخاب للنساء" السخاب بكسر المهملة وتخفيف الخاء المعجمة وبعد الألف موحدة. قوله: "يعني قلادة من طيب وسك" بضم المهملة وتشديد الكاف. وفي رواية الكشميهني: "ومسك" بكسر الميم وسكون المهملة وكاف خفيفة، والسخاب جمع سخب بضمتين، وقد تقدم بيان ما فسره به غيره في "باب ما ذكر في الأسواق" من كتاب البيوع. حديث ابن عباس من رواية سعيد بن جبير عنه قال: "خرج النبي صلى الله عليه وسلم - وفيه - فجعلت المرأة تلقي سخابها وخرصها" بضم الخاء المعجمة وسكون الراء ثم صاد مهملة، هي الحلقة الصغيرة من ذهب أو فضة، وقد تقدم تفسيره في "باب الخطبة بعد العيد" من كتاب العيدين.

(10/330)


58 - باب اسْتِعَارَةِ الْقَلاَئِدِ
5882- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا عَبْدَةُ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ

(10/330)


59 - باب الْقُرْطِ لِلنِّسَاءِ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَمَرَهُنَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصَّدَقَةِ فَرَأَيْتُهُنَّ يَهْوِينَ إِلَى آذَانِهِنَّ وَحُلُوقِهِنَّ
5883- حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبَرَنِي عَدِيٌّ قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيداً عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى يَوْمَ الْعِيدِ رَكْعَتَيْنِ لَمْ يُصَلِّ قَبْلَهَا وَلاَ بَعْدَهَا ثُمَّ أَتَى النِّسَاءَ وَمَعَهُ بِلاَلٌ فَأَمَرَهُنَّ بِالصَّدَقَةِ فَجَعَلَتْ الْمَرْأَةُ تُلْقِي قُرْطَهَا".
قوله: "باب القرط للنساء" بضم القاف وسكون الراء بعدها طاء مهملة: ما يحلى به الأذن ذهبا كان أو فضة صرفا أو مع لؤلؤ وغيره ويعلق غالبا على شحمتها. قوله: "وقال ابن عباس: أمرهن النبي صلى الله عليه وسلم بالصدقة، فرأيتهن يهوين إلى آذانهن وحلوقهن" هذا طرف من حديث وصله المؤلف رحمه الله في العيدين وفي الاعتصام وغيرهما من طريق عبد الرحمن بن عابس عن ابن عباس، فأما في الاعتصام فقال في رواية: "فجعل النساء يشرن إلى آذانهن وحلوقهن" وقال في العيدين "فرأيتهن يهوين بأيديهن يقذفنه في ثوب بلال" أخرجه قبيل كتاب الجمعة من هذا الوجه بلفظ: "فجعلت المرأة تهوي بيدها إلى حلقها تلقي في ثوب بلال" ومعنى الإهواء الإيماء باليد إلى الشيء ليؤخذ، وقد ظهر أنه في الآذان إشارة إلى الحلق، وأما في الحلوق فالذي يظهر أن المراد القلائد فإنها توضع في العنق وإن كان محلها إذا تدلت الصدر، واستدل به على جواز ثقب أذن المرأة لتجعل فيها القرط وغيره مما يجوز لهن التزين به، وفيه نظر لأنه لم يتعين وضع القرط في ثقبة الأذن، بل يجوز أن يشبك في الرأس بسلسلة لطيفة حتى تحاذي الأذن وتنزل عنها، سلمنا لكن إنما يؤخذ من ترك إنكاره عليهن، ويجوز أن تكون آذانهن ثقبت قبل مجيء الشرع فيغتفر في الدوام ما لا يغتفر في الابتداء، ونحوه قول أم زرع "أناس من حلي أذني" ولا حجة فيه لما ذكرنا. وقال ابن القيم: كره الجمهور ثقب أذن الصبي ورخص بعضهم في الأنثى. قلت: وجاء الجواز في الأنثى عن أحمد للزينة، والكراهة للصبي. قال الغزالي في "الإحياء" يحرم ثقب أذن المرأة ويحرم الاستئجار عليه إلا إن ثبت فيه شيء من جهة الشرع. قلت: جاء عن ابن عباس فيما أخرجه الطبراني في "الأوسط": سبعة في الصبي من السنة فذكر السابع منها وثقب أذنه، وهو يستدرك على قول بعض الشارحين: لا مستند لأصحابنا في قولهم إنه سنة. قوله: "أخبرني

(10/331)


عدي" هو ابن ثابت، وقد تقدم قبل بابين من طريق شعبة أيضا بهذا الإسناد بلفظ: "خرصها" بدل قرطها.

(10/332)


60 - باب السِّخَابِ لِلصِّبْيَانِ
5884- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ حَدَّثَنَا وَرْقَاءُ بْنُ عُمَرَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سُوقٍ مِنْ أَسْوَاقِ الْمَدِينَةِ فَانْصَرَفَ فَانْصَرَفْتُ فَقَالَ: أَيْنَ لُكَعُ ثَلاَثاً ادْعُ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ فَقَامَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ يَمْشِي وَفِي عُنُقِهِ السِّخَابُ. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "بِيَدِهِ هَكَذَا فَقَالَ الْحَسَنُ بِيَدِهِ هَكَذَا فَالْتَزَمَهُ فَقَالَ اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُ فَأَحِبَّهُ وَأَحِبَّ مَنْ يُحِبُّهُ" وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَمَا كَانَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ بَعْدَ مَا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مَا قَالَ.
قوله: "باب السخاب للصبيان" تقدم بيان السخاب. حديث أبي هريرة تقدم شرحه في "باب ما ذكر في الأسواق" من كتاب البيوع مستوفى، وقوله فيه: "أين لكع؟" في رواية المستملي والسرخسي "أي لكع" بصيغة النداء.

(10/332)


61 - باب الْمُتَشَبِّهُونَ بِالنِّسَاءِ وَالْمُتَشَبِّهَاتُ بِالرِّجَالِ
5885- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: " لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُتَشَبِّهِينَ مِنْ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ وَالْمُتَشَبِّهَاتِ مِنْ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ" تَابَعَهُ عَمْرٌو أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ.
[الحديث 5885 – طرفاه في: 5886، 6534]
قوله: "باب المتشبهين بالنساء والمتشبهات بالرجال" أي ذم الفريقين، ويدل على ذلك اللعن المذكور في الخبر. قوله: "حدثنا محمد بن جعفر" كذا لأبي ذر، ولغيره: "حدثنا غندر" وهو هو. قوله: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين" قال الطبري: المعنى: لا يجوز للرجال التشبه بالنساء في اللباس والزينة التي تختص بالنساء ولا العكس. قلت: وكذا في الكلام والمشي، فأما هيئة اللباس فتختلف باختلاف عادة كل بلد، فرب قوم لا يفترق زي نسائهم من رجالهم في اللبس، لكن يمتاز النساء باحتجاب والاستتار، وأما ذم التشبه بالكلام والمشي فمختص بمن تعمد ذلك، وأما من كان ذلك من أصل خلقته فإنما يؤمر بتكلف تركه والإدمان على ذلك بالتدريج، فإن لم يفعل وتمادى دخله الذم، ولا سيما إن بدا منه ما يدل على الرضا به، وأخذ هذا واضح من لفظ المتشبهين. وأما إطلاق من أطلق كالنووي وأن المخنث الخلقي لا يتجه عليه اللوم فمحمول على ما إذا لم يقدر على ترك التثني والتكسر في المشي والكلام بعد تعاطيه المعالجة لترك ذلك، وإلا متى كان ترك ذلك ممكنا ولو بالتدريج فتركه بغير عذر لحقه اللوم، واستدل لذلك الطبري بكونه صلى الله عليه وسلم لم يمنع المخنث من الدخول على النساء حتى سمع منه التدقيق في وصف المرأة كما في

(10/332)


62 - باب إِخْرَاجِ الْمُتَشَبِّهِينَ بِالنِّسَاءِ مِنْ الْبُيُوتِ
5886- حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " لَعَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُخَنَّثِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالْمُتَرَجِّلاَتِ مِنْ النِّسَاءِ وَقَالَ أَخْرِجُوهُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ. قَالَ: فَأَخْرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فُلاَناً، وَأَخْرَجَ عُمَرُ فُلاَناً".
5887- حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ أَنَّ عُرْوَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ أَخْبَرَتْهُ "أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ أَخْبَرَتْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عِنْدَهَا وَفِي الْبَيْتِ مُخَنَّثٌ فَقَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ أَخِي أُمِّ سَلَمَةَ يَا عَبْدَ اللَّهِ إِنْ فَتَحَ اللَّهُ لَكُمْ غَداً الطَّائِفَ فَإِنِّي أَدُلُّكَ عَلَى بِنْتِ غَيْلاَنَ فَإِنَّهَا تُقْبِلُ بِأَرْبَعٍ وَتُدْبِرُ بِثَمَانٍ. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لاَ يَدْخُلَنَّ هَؤُلاَءِ عَلَيْكُنَّ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ تُقْبِلُ بِأَرْبَعٍ وَتُدْبِرُ يَعْنِي أَرْبَعَ عُكَنِ بَطْنِهَا فَهِيَ تُقْبِلُ بِهِنَّ وَقَوْلُهُ وَتُدْبِرُ بِثَمَانٍ يَعْنِي أَطْرَافَ هَذِهِ الْعُكَنِ الأَرْبَعِ لِأَنَّهَا مُحِيطَةٌ بِالْجَنْبَيْنِ حَتَّى لَحِقَتْ وَإِنَّمَا قَالَ بِثَمَانٍ وَلَمْ يَقُلْ بِثَمَانِيَةٍ وَوَاحِدُ الأَطْرَافِ وَهُوَ ذَكَرٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ ثَمَانِيَةَ أَطْرَافٍ".
قوله: "باب إخراج المتشبهين بالنساء من البيوت" كذا للأكثر، وللنسفي "باب إخراجهم" وكذا عند الإسماعيلي وأبي نعيم. قوله: "حدثنا هشام" هو الدستوائي "عن يحيى" هو ابن أبي كثير، وأخرجه أبو داود

(10/333)


الطيالسي في مسنده عن شعبة وهشام جميعا عن قتادة عن عكرمة، وكأن أبا داود حمل رواية هشام على رواية شعبة فإن رواية شعبة عن قتادة هي باللفظ المذكور في الباب الذي قبله، ورواية هشام عن يحيى هي بهذا اللفظ الذي في هذا الباب، وقد أخرجه المصنف وأبو داود في "السنن" كلاهما عن مسلم بن إبراهيم، وأخرجه أحمد عن إسماعيل بن علية ويحيى القطان ويزيد بن هارون كلهم عن هشام عن يحيى بن أبي كثير. قوله: "المخنثين من الرجال" تأتي الإشارة إلى ضبطه عقب هذا. قوله: "والمترجلات من النساء" زاد أبو داود من طريق يزيد بن أبي زياد عن عكرمة "فقلت له ما المترجلات من النساء؟ قال: المتشبهات بالرجال". قوله: "فأخرج النبي صلى الله عليه وسلم فلانا وأخرج عمر فلانة" كذا في رواية أبي ذر "فلانة" بالتأنيث وكذا وقع في "شرح ابن بطال" وللباقين "فلانا" بالتذكير، وكذا عند أحمد. وقد أخرج الطبراني وتمام الرازي في فوائده من حديث واثلة مثل حديث ابن عباس هذا بتمامه وقال فيه: "وأخرج النبي صلى الله عليه وسلم أنجشة. وأخرج عمر فلانا" وأنجشة هو العبد الأسود الذي كان يحدو بالنساء، وسيأتي خبره في ذلك في كتاب الأدب، وقد تقدم ذكر أسامي من كان في العهد النبوي من المخنثين، ولم أقف في شيء من الروايات على تسمية الذي أخرجه عمر، إلى أن ظفرت بكتاب لأبي الحسن المدايني سماه "كتاب المغربين" بمعجمة وراء مفتوحة ثقيلة، فوجدت فيه عدة قصص لمن غربهم عمر عن المدينة، وسأذكر ذلك في كتاب أواخر الحدود إن شاء الله تعالى. قوله: "حدثنا زهير" هو ابن معاوية: الجعفي. قوله: "وفي البيت مخنث" تقدم ضبطه وتسميته في أواخر كتاب النكاح، وشرح الحديث مستوفى، وبيان ما وقع هنا من كلام البخاري من شرح قوله: "تقبل بأربع وتدبر بثمان" وقوله في آخر الحديث: "لا يدخلن" بضم أوله وتشديد النون "هؤلاء عليكن" كذا للأكثر وهو الوجه. وفي رواية المستملي والسرخسي "عليكم" بصيغة جمع المذكر، ويوجه بأنه جمع مع النساء المخاطبات بذلك من يلوذ بهن من صبي ووصيف، فجاء التغليب. وقد تفتح التحتانية أوله مخففا ومثقلا. وفي هذه الأحاديث مشروعية إخراج كل من يحصل به التأذي للناس عن مكانه إلى أن يرجع عن ذلك أو يتوب.

(10/334)


63 - باب قَصِّ الشَّارِبِ
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُحْفِي شَارِبَهُ حَتَّى يُنْظَرَ إِلَى بَيَاضِ الْجِلْدِ وَيَأْخُذُ هَذَيْنِ يَعْنِي بَيْنَ الشَّارِبِ وَاللِّحْيَةِ
5888- حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ حَنْظَلَةَ عَنْ نَافِعٍ ح قَالَ أَصْحَابُنَا عَنْ الْمَكِّيِّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مِنْ الْفِطْرَةِ قَصُّ الشَّارِبِ" .
[الحديث 5888 – طرفه في: 5890]
5889- حَدَّثَنَا عَلِيٌّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ الزُّهْرِيُّ حَدَّثَنَا عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رِوَايَةً " الْفِطْرَةُ خَمْسٌ أَوْ خَمْسٌ مِنْ الْفِطْرَةِ الْخِتَانُ وَالِاسْتِحْدَادُ وَنَتْفُ الإِبْطِ وَتَقْلِيمُ الأَظْفَارِ وَقَصُّ الشَّارِبِ" .
[الحديث 5889 – طرفاه في: 5891، 6297]
قوله: "باب قص الشارب" هذه الترجمة وما بعدها إلى آخر كتاب اللباس لها تعلق باللباس من جهة الاشتراك في الزينة، فذكر أولا التراجم المتعلقة بالشعور وما شاكلها، وثانيا المتعلقة بالتطيب، وثالثا المتعلقة بتحسين الصورة

(10/334)


ورابعا المتعلقة بالتصاوير لأنها قد تكون في الثياب، وختم بما يتعلق بالارتداف وتعلقه به خفي وتعلقه بكتاب الأدب الذي يليه ظاهر والله أعلم. وأصل القص تتبع الأثر، وقيده ابن سيده في "المحكم" بالليل، والقص أيضا إيراد الخبر تاما على من لم يحضره، ويطلق أيضا على قطع شيء من شيء بآلة مخصوصة، والمراد به هنا الشعر النابت على الشفة العليا من غير استئصال، وكذا قص الظفر أخذ أعلاه من غير استئصال. قوله: "وكان ابن عمر" كذا لأبي ذر والنسفي وهو المعتمد، ووقع للباقين "وكان عمر" - قلت: وهو خطأ فإن المعروف عن عمر أنه كان يوفر شاربه. قوله: "يحفي شاربه" بالحاء المهملة والفاء ثلاثيا ورباعيا من الإحفاء أو الحفو والمراد الإزالة. قوله: "حتى يرى بياض الجلد" وصله أبو بكر الأثرم من طريق عمر بن أبي سلمة عن أبيه قال: "رأيت ابن عمر يحفي شاربه حتى لا يترك منه شيئا". وأخرج الطبري من طريق عبد الله بن أبي عثمان "رأيت ابن عمر يأخذ من شاربه أعلاه وأسفله" وهذا يرد تأويل من تأول في أثر ابن عمر أن المراد به إزالة ما على طرف الشفة فقط. قوله: "ويأخذ هذين يعني بين الشارب واللحية" كذا وقع في التفسير في الأصل، وقد ذكره رزين في جامعه من طريق نافع عن ابن عمر جازما بالتفسير المذكور. وأخرج البيهقي نحوه، وقوله: "بين" كذا للجميع إلا أن عياضا ذكر أن محمد بن أبي صفرة رواه بلفظ: "من" التي للتبعيض، والأول هو المعتمد. قوله: "حدثنا المكي بن إبراهيم عن حنظلة عن نافع. قال أصحابنا عن المكي: عن ابن عمر" كذا للجميع، والمعنى أن شيخه مكي بن إبراهيم حدثه به عن حنظلة وهو ابن أبي سفيان الجمحي عن نافع عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا لم يذكر ابن عمر في السند، وحدث به غير البخاري عن مكي موصولا بذكر ابن عمر فيه وهو المراد بقول البخاري "قال أصحابنا" هذا هو المعتمد وبهذا جزم شيخنا ابن الملقن رحمه الله لكن قال: ظهر لي أنه موقوف على نافع في هذه الطريق، وتلقى ذلك من الحميدي فإنه جزم بذلك في "الجمع" وهو محتمل وأما الكرماني فزعم أن الرواية الثانية منقطعة لم يذكر فيها بين مكي وابن عمر أحدا فقال: المعنى أن البخاري قال: روى أصحابنا الحديث منقطعا فقالوا حدثنا مكي عن ابن عمر فطرحوا ذكر الراوي الذي بينهما، كذا قال، وهو وإن كان ظاهر ما أورد البخاري لكن تبين من كلام الأئمة أنه موصول بين مكي وابن عمر. وقال الزركشي: هذا الموضع مما يجب أن يعتني به الناظر، وهو ماذا الذي أراد بقوله: "قال أصحابنا عن المكي عن ابن عمر" فيحتمل أنه رواه مرة عن شيخه مكي عن نافع مرسلا ومرة عن أصحابه مرفوعا عن ابن عمر، ويحتمل أن بعضهم نسب الراوي عن ابن عمر إلى أنه المكي اهـ. وهذا الثاني هو الذي جزم به الكرماني، وهو مردود، ثم قال الزركشي: ويشهد للأول أن البخاري ربما روى عن المكي بالواسطة كما تقدم في البيوع، ووقع له في كتابه نظائر لذلك، منها ما سيأتي قريبا في "باب الجعد" حيث قال: "حدثنا مالك بن إسماعيل" فذكر حديثا ثم قال في آخره: "قال بعض أصحابي عن مالك بن إسماعيل" فذكر زيادة في المتن، ونظيره في الاستئذان في "باب قوله قوموا إلى سيدكم". قلت: وهو قوله: "حدثنا أبو الوليد حدثنا شعبة" فذكر حديثا وقال في آخره: "أفهمني بعض أصحابي عن أبي الوليد" فذكر كلمة في المتن. وقريب منه ما سبق في المناقب في ذكر أسامة بن زيد حيث قال: "حدثنا سليمان بن عبد الرحمن" فذكر حديثا وقال في آخره: "حدثني بعض أصحابنا عن سليمان" فذكر زيادة في المتن أيضا. قلت: والفرق بين هذه المواضع وبين حديث الباب أن الاختلاف في الباب وقع في الوصل والإرسال، والاختلاف في غيره وقع بالزيادة في المتن، لكن اشترك الجميع في مطلق الاختلاف، والله أعلم. وقد أورد البخاري الحديث

(10/335)


المذكور في الباب الذي يليه من طريق إسحاق بن سليمان عن حنظلة موصولا مرفوعا، لكنه نزل فيه درجة، وطريق مكي وقعت لنا في "مسند ابن عمر" لأبي أمية الطرسوسي قال: "حدثنا مكي بن إبراهيم" فذكره موصولا مرفوعا وزاد فيه بعد قوله قص الشارب والظفر "وحلق العانة"، وكذا أخرجه البيهقي في "الشعب" من وجه آخر عن مكي. قلت: وهذا الحديث أغفله المزي في "الأطراف" فلم يذكره في ترجمة حنظلة عن نافع عن ابن عمر لا من طريق مكي ولا من طريق إسحاق بن سليمان، ثم بعد أن كتب هذا ذكر لي محدث حلب الشيخ برهان الدين الحلبي أن شيخنا البلقيني قال له: القائل "قال أصحابنا" هو البخاري، والمراد بالمكي حنظلة بن أبي سفيان الجمحي فإنه مكي، قال: والسندان متصلان، وموضع الاختلاف بيان أن مكي بن إبراهيم لما حدث به البخاري سمي حنظلة، وأما أصحاب البخاري فلما رووه له عن حنظلة لم يسموه بل قالوا: "عن المكي" قال فالسند الأول مكي عن حنظلة عن نافع عن ابن عمر، والثاني أصحابنا عن المكي عن نافع عن ابن عمر، ثم قال: وفي فهم ذلك صعوبة، وكأنه كان يتبجح بذلك، ولقد صدق فيما ذكر من الصعوبة ومقتضاه أن يكون عند البخاري جماعة لقوا حنظلة وليس كذلك، فإن الذي سمع من حنظلة هذا الحديث لا يحدث البخاري عنه إلا بواسطة وهو إسحاق بن سليمان الرازي، وكانت وفاته قبل طلب البخاري الحديث، قال ابن سعد مات سنة تسع وتسعين ومائة. وقال ابن نافع وابن حبان مات سنة مائتين، وقد أفصح أبو مسعود في "الأطراف" بالمراد فقال في ترجمة حنظلة عن نافع عن ابن عمر حديث: "من الفطرة حلق العانة وتقليم الأظافر وقص الشارب" خ في اللباس "عن أحمد بن أبي رجاء عن إسحاق بن سليمان عن حنظلة عن نافع عن ابن عمر، وعن مكي بن إبراهيم عن حنظلة عن نافع" قال: "وقال أصحابنا عن مكي عن حنظلة عن نافع عن ابن عمر " فصرح بأن مراد البخاري بقوله عن المكي المكي بن إبراهيم وأن مراده بقوله عن ابن عمر بالسند المذكور وهو عن حنظلة عن نافع عنه. والحاصل أنه كما قدمته أن مكي بن إبراهيم لما حدث به البخاري أرسله، ولما حدث به غير البخاري وصله، فحكى البخاري ذلك ثم ساقه موصولا من طريق إسحاق بن سليمان. قوله: "حدثنا علي" هو ابن المديني وبذلك جزم المزي. قوله: "الزهري حدثنا" هو من تقديم الراوي على الصيغة وهو سائغ، وقد رواه الحميدي عن سفيان قال: سمعت الزهري أخرجه أبو عوانة وأبو نعيم في مستخرجيهما من طريقه، ورواه أحمد عن سفيان عن الزهري بالعنعنة، وكذا أخرجه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة وغير واحد، وأبو داود عن مسدد كلهم عن سفيان. قوله: "عن أبي هريرة رواية" هي كناية عن قول الراوي: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو نحوها"، وقد وقع في رواية مسدد يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم وفي رواية أبي بكر بن أبي شيبة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين أحمد في روايته أن سفيان كان تارة يكني وتارة يصرح، وقد تقرر في علوم الحديث أن قول الراوي رواية أو يرويه أو يبلغ به ونحو ذلك محمول على الرفع، وسيأتي في الباب الذي يليه من طريق إبراهيم بن سعد عن الزهري بلفظ: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم" ووقع في رواية محمد بن أبي حفصة عن الزهري زيادة أبي سلمة مع سعيد بن المسيب في السند أخرجه أبو الشيخ. قوله: "الفطرة خمس، أو خمس من الفطرة" كذا وقع هنا، ولمسلم وأبي داود بالشك وهو من سفيان. ووقع في رواية أحمد "خمس من الفطرة" ولم يشك، وكذا وقع هنا في رواية معمر عن الزهري عند الترمذي والنسائي، ووقع في رواية إبراهيم بن سعد بالعكس كما في الباب الذي يليه بلفظ: "الفطرة خمس" وكذا في رواية يونس بن يزيد عن الزهري عند مسلم والنسائي، وهي محمولة على الأولى، قال ابن دقيق العيد:

(10/336)


دلالة "من" على التبعيض فيه أظهر من دلالة هذه الرواية على الحصر، وقد ثبت في أحاديث أخرى زيادة على ذلك فدل على أن الحصر فيها غير مراد. واختلف في النكتة في الإتيان بهذه الصيغة، فقيل برفع الدلالة وأن مفهوم العدد ليس بحجة، وقيل بل كان أعلم أولا بالخمس ثم أعلم بالزيادة، وقيل بل الاختلاف في ذلك بحسب المقام فذكر في كل موضع اللائق بالمخاطبين، وقيل أريد بالحصر المبالغة لتأكيد أمر الخمس المذكورة كما حمل عليه قوله: "الدين النصيحة" و"الحج عرفة" ونحو ذلك. ويدل على التأكيد ما أخرجه الترمذي والنسائي من حديث زيد بن أرقم مرفوعا: "من لم يؤخذ شاربه فليس منا" وسنده قوي. وأخرج أحمد من طريق يزيد ابن عمرو المعافري نحوه وزاد فيه: حلق العانة وتقليم الأظافر، وسيأتي في الكلام على الختان دليل من قال بوجوبه. وذكر ابن العربي أن خصال الفطرة تبلغ ثلاثين خصلة، فإذا أراد خصوص ما ورد لفظ الفطرة فليس كذلك، وإن أراد أعم من ذلك فلا تنحصر في الثلاثين بل تزيد كثيرا، وأقل ما ورد في خصال الفطرة حديث ابن عمر المذكور قبل فإنه لم يذكر فيه إلا ثلاثا، وسيأتي في الباب الذي يليه أنه ورد بلفظ الفطرة وبلفظ: "من الفطرة" وأخرج الإسماعيلي في رواية له بلفظ: "ثلاث من الفطرة" وأخرجه في رواية أخرى بلفظ: "من الفطرة" فذكر الثلاث وزاد الختان؛ ولمسلم من حديث عائشة "عشر من الفطرة" فذكر الخمسة التي في حديث أبي هريرة إلا الختان وزاد: إعفاء اللحية والسواك والمضمضة والاستنشاق وغسل البراجم والاستنجاء، أخرجه من رواية مصعب بن شيبة عن طلق بن حبيب عن عبد الله بن الزبير عنها، لكن قال في آخره إن الراوي نسي العاشرة إلا أن تكون المضمضة، وقد أخرجه أبو عوانة في مستخرجه بلفظ: "عشرة من السنة" وذكر الاستنثار بدل الاستنشاق. وأخرج النسائي من طريق سليمان التيمي قال: "سمعت طلق بن حبيب يذكر عشرة من الفطرة" فذكر مثله إلا أنه قال: "وشككت في المضمضة" وأخرجه أيضا من طريق أبي بشر عن طلق قال: "من السنة عشر" فذكر مثله إلا أنه ذكر الختان بدل غسل البراجم، ورجح النسائي الرواية المقطوعة على الموصولة المرفوعة. والذي يظهر لي أنها ليست بعلة قادحة، فإن راويها مصعب بن شيبة وثقه ابن معين والعجلي وغيرهما ولينه أحمد وأبو حاتم وغيرهما فحديثه حسن، وله شواهد في حديث أبي هريرة وغيره، فالحكم بصحته من هذه الحيثية سائغ، وقول سليمان التيمي "سمعت طلق بن حبيب يذكر عشرا من الفطرة" يحتمل أن يريد أنه سمعه يذكرها من قبل نفسه على ظاهر ما فهمه النسائي، ويحتمل أن يريد أنه سمعه يذكرها وسندها فحذف سليمان السند. وقد أخرج أحمد وأبو داود وابن ماجه من حديث عمار بن ياسر مرفوعا نحو حديث عائشة قال: "من الفطرة المضمضة والاستنشاق والسواك وغسل البراجم والانتضاح" وذكر الخمس التي في حديث أبي هريرة ساقه ابن ماجه. وأما أبو داود فأحال به على حديث عائشة ثم قال: "وروي نحوه عن ابن عباس" وقال: خمس في الرأس وذكر منها الفرق ولم يذكر إعفاء اللحية. قلت: كأنه يشير إلى ما أخرجه عبد الرزاق في تفسيره والطبري من طريقه بسند صحيح عن طاوس عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} قال: ابتلاه الله بالطهارة، خمس في الرأس، وخمس في الجسد. قلت: فذكر مثل حديث عائشة كما في الرواية التي قدمتها عن أبي عوانة سواء ولم يشك في المضمضة، وذكر أيضا الفرق بدل إعفاء اللحية وأخرجه ابن أبي حاتم من وجه آخر عن ابن عباس فذكر غسل الجمعة بدل الاستنجاء؛ فصار مجموع الخصال التي وردت في هذه الأحاديث خمس عشرة خصلة اقتصر أبو شامة في "كتاب السواك وما أشبه ذلك" منها على اثني عشر، وزاد النووي واحدة في "شرح مسلم" وقد رأيت قبل

(10/337)


الخوض في شرح الخمس الواردة في الحديث المتفق عليه أن أشير إلى شرح العشر الزائدة عليها: فأما الوضوء والاستنشاق والاستنثار والاستنجاء والسواك وغسل الجمعة فتقدم شرحها في كتاب الطهارة، وأما إعفاء اللحية فيأتي في الباب الذي يليه، وأما الفرق فيأتي بعد أبواب، وأما غسل البراجم فهو بالموحدة والجيم جمع برجمة بضمتين وهي عقد الأصابع التي في ظهر الكف، قال الخطابي: هي المواضع التي تتسخ ويجتمع فيها الوسخ ولا سيما ممن لا يكون طري البدن. وقال الغزالي: كانت العرب لا تغسل اليد عقب الطعام فيجتمع في تلك العضون وسخ، فأمر بغسلها. قال النووي: وهي سنة مستقلة ليست مختصة بالوضوء، يعني أنها يحتاج إلى غسلها في الوضوء والغسل والتنظيف، وقد ألحق بها إزالة ما يجتمع من الوسخ في معاطف الأذن وقعر الصماخ فإن في بقائه إضرارا بالسمع، وقد أخرجه ابن عدي من حديث أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بتعاهد البراجم عند الوضوء لأن الوسخ إليها سريع" وللترمذي الحكيم من حديث عبد الله بن بشر رفعه: "قصوا أظفاركم، وادفنوا قلاماتكم، ونقوا براجمكم" وفي سنده راو مجهول. ولأحمد من حديث ابن عباس "أبطأ جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ولم لا يبطئ عني وأنتم لا تستنون - أي لا تستاكون - ولا تقصون شواربكم ولا تنقون رواجبكم" والرواجب جمع راجبة بجيم وموحدة قال أبو عبيد: البراجم والرواجب مفاصل الأصابع كلها. وقال ابن سيده: البرجمة المفصل الباطن عند بعضهم، والرواجب بواطن مفاصل أصول الأصابع، وقيل قصب الأصابع، وقيل هي ظهور السلاميات، وقيل ما بين البراجم من السلاميات. وقال ابن الأعرابي: الراجبة البقعة الملساء التي بين البراجم، والبراجم المسبحات من مفاصل الأصابع، وفي كل إصبع ثلاث برجمات إلا الإبهام فلها برجمتان. وقال الجوهري: الرواجب مفاصل الأصابع اللاتي تلي الأنامل، ثم البراجم، ثم الأشاجع اللاتي على الكف. وقال أيضا: الرواجب رءوس السلاميات من ظهر الكف، إذا قبض القابض كفه نشزت وارتفعت، والأشاجع أصول الأصابع التي تتصل بعصب ظاهر الكف، واحدها أشجع. وقيل هي عروق ظاهر الكف. وأما الانتضاح فقال أبو عبيد الهروي. هو أن يأخذ قليلا من الماء فينضح به مذاكيره بعد الوضوء لينفي عنه الوسواس. وقال الخطابي: انتضاح الماء الاستنجاء به، وأصله من النضح وهو الماء القليل، فعلى هذا هو والاستنجاء خصلة واحدة، وعلى الأول فهو غيره، ويشهد له ما أخرجه أصحاب السنن من رواية الحكم بن سفيان الثقفي أو سفيان بن الحكم عن أبيه أنه "رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم، توضأ ثم أخذ حفنة من ماء فانتضح بها" وأخرج البيهقي من طريق سعيد بن جبير: أن رجلا أتى ابن عباس فقال إني أجد بللا إذا قمت أصلي، فقال له ابن عباس: انضح بماء، فإذا وجدت من ذلك شيئا فقل هو منه. وأما الخصال الواردة في المعنى لكن لما يرد التصريح فيها بلفظ الفطرة فكثيرة، منها ما أخرجه الترمذي من حديث أبي أيوب رفعه: "أربع من سنن المرسلين: الحياء، والتعطر، والسواك، والنكاح" واختلف في ضبط الحياء فقيل بفتح المهملة والتحتانية الخفيفة، وقد ثبت في الصحيحين أن " الحياء من الإيمان" وقيل هي بكسر المهملة وتشديد النون، فعلى الأول هي خصلة معنوية تتعلق: بتحسين الخلق، وعلى الثاني هي خصلة حسية تتعلق بتحسين البدن. وأخرج البزار والبغوي في "معجم الصحابة" والحكيم الترمذي في "نوادر الأصول" من طريق فليح بن عبد الله الخطمي عن أبيه عن جده رفعه: "خمس من سنن المرسلين" فذكر الأربعة المذكورة إلا النكاح وزاد الحلم والحجامة والحلم بكسر المهملة وسكون اللام، وهو مما يقوي الضبط الأول في حديث أبي أيوب، وإذا تتبع ذلك من الأحاديث

(10/338)


كثر العدد كما أشرت إليه والله أعلم. ويتعلق بهذه الخصال مصالح دينية ودنيوية تدرك بالتتبع، منها تحسين الهيئة، وتنظيف البدن جملة وتفصيلا، والاحتياط للطهارتين، والإحسان إلى المخالط والمقارن بكف ما يتأذى به من رائحة كريهة، ومخالفة شعار الكفار من المجوس واليهود والنصارى وعباد الأوثان، وامتثال أمر الشارع، والمحافظة على ما أشار إليه قوله تعالى: {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} لما في المحافظة على هذه الخصال من مناسبة ذلك، وكأنه قيل قد حسنت صوركم فلا تشوهوها بما يقبحها، أو حافظوا على ما يستمر به حسنها، وفي المحافظة عليها محافظة على المروءة وعلى التآلف المطلوب، لأن الإنسان إذا بدأ في الهيئة الجميلة كان أدعى لانبساط النفس إليه، فيقيل قوله، ويحمد رأيه، والعكس بالعكس. وأما شرح الفطرة فقال الخطابي: ذهب أكثر العلماء إلى أن المراد بالفطرة هنا السنة، وكذا قاله غيره، قالوا والمعنى أنها من سنن الأنبياء. وقالت طائفة: المعنى بالفطرة الدين وبه جزم أبو نعيم في المستخرج. وقال النووي في "شرح المهذب" جزم الماوردي والشيخ أبو إسحاق بأن المراد بالفطرة في هذا الحديث الدين، واستشكل ابن الصلاح ما ذكره الخطابي وقال: معنى الفطرة بعيد من معنى السنة، لكن لعل المراد أنه على حذف مضاف أي سنة الفطرة. وتعقبه النووي بأن الذي نقله الخطابي هو الصواب. فإن في صحيح البخاري عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من السنة قص الشارب ونتف الإبط وتقليم الأظفار" قال: وأصح ما فسر الحديث بما جاء في رواية أخرى لا سيما في البخاري اهـ. وقد تبعه شيخنا ابن الملقن على هذا، ولم أر الذي قاله في شيء من نسخ البخاري، بل الذي فيه من حديث ابن عمر بلفظ: "الفطرة" وكذا من حديث أبي هريرة. نعم وقع التعبير بالسنة موضع الفطرة في حديث عائشة عند أبي عوانة في رواية، وفي أخرى بلفظ الفطرة كما في رواية مسلم والنسائي وغيرهما. وقال الراغب أصل الفطر بفتح الفاء الشق طولا. ويطلق على الوهي وعلى الاختراع وعلى الإيجاد، والفطرة الإيجاد على غير مثال. وقال أبو شامة، أصل الفطرة الخلقة المبتدأة، ومنه فاطر السماوات والأرض أي المبتدئ خلقهن، وقوله صلى الله عليه وسلم: "كل مولود يولد على الفطرة" أي على ما ابتدأ الله خلقه عليه، وفيه إشارة إلى قوله تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} والمعنى أن كل أحد لو ترك من وقت ولادته وما يؤديه إليه نظره لأداه إلى الدين الحق وهو التوحيد، ويؤيده قوله تعالى قبلها: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ} وإليه يشير في بقية الحديث حيث عقبه بقوله: "فأبواه يهودانه وينصرانه" والمراد بالفطرة في حديث الباب أن هذه الأشياء إذا فعلت اتصف فاعلها بالفطرة التي فطر الله العباد عليها وحثهم عليها واستحبها لهم ليكونوا على أكمل الصفات وأشرفها صورة اهـ. وقد رد القاضي البيضاوي الفطرة في حديث الباب إلى مجموع ما ورد في معناها وهو الاختراع والجبلة والدين والسنة فقال: هي السنة القديمة التي اختارها الأنبياء واتفقت عليها الشرائع، وكأنها أمر جبلي فطروا عليها انتهى. وسوغ الابتداء بالنكرة في قوله: "خمس من الفطرة" أن قوله: "خمس" صفة موصوف محذوف والتقدير خصال خمس ثم فسرها، أو على الإضافة أي خمس خصال. ويجوز أن تكون الجملة خبر مبتدأ محذوف والتقدير الذي شرع لكم خمس من الفطرة، والتعبير في بعض روايات الحديث بالسنة بدل الفطرة يراد بها الطريقة لا التي تقابل الواجب، وقد جزم بذلك الشيخ أبو حامد والماوردي وغيرهما وقالوا: هو كالحديث الآخر "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين" وأغرب القاضي أبو بكر بن العربي فقال: عندي أن الخصال الخمس المذكورة في هذا الحديث كلها واجبة، فإن المرء لو تركها لم تبق صورته على صورة الآدميين فكيف

(10/339)


من جملة المسلمين، كذا قال في "شرح الموطأ" وتعقبه أبو شامة بأن الأشياء التي مقصودها مطلوب لتحسين الخلق وهي النظافة لا تحتاج إلى ورود أمر إيجاب للشارع فيها اكتفاء بدواعي الأنفس، فمجرد الندب إليها كاف. ونقل ابن دقيق العيد عن بعض العلماء أنه قال: دل الخبر على أن الفطرة بمعنى الدين، والأصل فيما أضيف إلى الشيء أنه منه أن يكون من أركانه لا من زوائده حتى يقوم دليل على خلافه، وقد ورد الأمر باتباع إبراهيم عليه السلام، وثبت أن هذه الخصال أمر بها إبراهيم عليه السلام، وكل شيء أمر الله باتباعه فهو على الوجوب لمن أمر به. وتعقب بأن وجوب الاتباع لا يقتضى وجوب كل متبوع فيه بل يتم الاتباع بالامتثال، فإن كان واجبا على المتبوع كان واجبا على التابع أو ندبا فندب، فيتوقف ثبوت وجوب هذه الخصال على الأمة على ثبوت كونها كانت واجبة على الخليل عليه السلام. قوله: "الختان" بكسر المعجمة وتخفيف المثناة مصدر ختن أي قطع، والختن بفتح ثم سكون قطع بعض مخصوص من عضو مخصوص. ووقع في رواية يونس عند مسلم: "الاختتان" والختان اسم لفعل الخاتن ولموضع الختان أيضا كما في حديث عائشة إذا التقى الختانان والأول المراد هنا قال الماوردي: ختان الذكر قطع الجلدة التي تغطي الحشفة، والمستحب أن تستوعب من أصلها عند أول الحشفة، وأقل ما يجزئ أن لا يبقى منها ما يتغشى به شيء من الحشفة. وقال إمام الحرمين: المستحق في الرجال قطع القلفة، وهي الجلدة التي تغطي الحشفة حتى لا يبقى من الجلدة شيء متدل. وقال ابن الصباغ: حتى تنكشف جميع الحشفة. وقال ابن كج فيما نقله الرافعي: يتأدى الواجب بقطع شيء مما فوق الحشفة وإن قل بشرط أن يستوعب القطع تدوير رأسها. قال النووي: وهو شاذ، والأول هو المعتمد. قال الإمام: والمستحق من ختان المرأة ما ينطلق عليه الاسم. قال الماوردي: ختانها قطع جلدة تكون أعلى فرجها فوق مدخل الذكر كالنواة أو كعرف الديك، والواجب قطع الجلدة المستعلية منه دون استئصاله. وقد أخرج أبو داود من حديث أم عطية أن امرأة كانت تختن بالمدينة فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تنهكي فإن ذلك أحظى للمرأة" وقال: أنه ليس بالقوي. قلت: وله شاهدان من حديث أنس ومن حديث أم أيمن عند أبي الشيخ في كتاب العقيقة وآخر عن الضحاك بن قيس عند البيهقي، قال النووي: ويسمى ختان الرجل إعذارا بذال معجمة، وختان المرأة خفضا بخاء وضاد معجمتين. وقال أبو شامة: كلام أهل اللغة يقتضي تسمية الكل إعذارا والخفض يختص بالأنثى. قال أبو عبيدة: عذرت الجارية والغلام وأعذرتهما ختنتهما وأختنتهما وزنا ومعنى قال الجوهري: والأكثر خفضت الجارية، قال: وتزعم العرب أن الغلام إذا ولد في القمر فسخت قلفته أي اتسعت فصار كالمختون، وقد استحب العلماء من الشافعية فيمن ولد مختونا أن يمر بالموسى على موضع الختان من غير قطع قال أبو شامة: وغالب من يولد كذلك لا يكون ختانه تاما بل يظهر طرف الحشفة فإن كان كذلك وجب تكميله. وأفاد ا