Translate فتح الباري وتفسير بن كثير كيكي520.

الجمعة، 10 يونيو 2022

5 6.مجلد 5. و6. معاني القرآن وإعرابه - للزَّجَّاج المؤلف : أبو إسحاق إبراهيم السَّرِي بن سَهل " المعروف بـ الزَّجَّاج " (المتوفي 311 هـ)

 مجلد 5. و6. معاني القرآن وإعرابه - للزَّجَّاج أبو إسحاق إبراهيم السَّرِي بن سَهل " المعروف بـ الزَّجَّاج " (المتوفي 311 هـ)

 مجلد 5. معاني القرآن وإعرابه - للزَّجَّاج
المؤلف : أبو إسحاق إبراهيم السَّرِي بن سَهل " المعروف بـ الزَّجَّاج " (المتوفي 311 هـ)


وحجة من قال بهذا القول أنه جرى ذكر الكافرين ، فقال : (ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ) ثم قال بعد : (وإنْ مِنْكُمْ إلا وَارِدُها)
فكأنَّه على نظم ذلك الكلام عام.
ودليل من قال بهذا القول أيضاً قوله (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ)
ولم يقل وندخل الظالمين ، وكان (نَذَرُ) و (نترك) للشيء الذي قد
حصل في مكانه.
وقال قوم إن هَذَا إنما يُعْنَى به المشرِكُونَ خاصةً ، واحتجوا في هذا بأن
بعضهم قرأ : " وإن منهم إلا وَارِدُهَا " ، ويكون على مذهب هؤلاء
(ثم ننجي الذين اتقَوْا) أي نخرج المتقين من جملة من ندخله النار.
وقال قوم : إن الخلق يَردونها فتكون على المْؤمِنِ بَرْداً وَسَلاماً ، ثم
يُخْرَجُ مِنها فيدْخُلُ الجنة فيعلمَ فضلَ النعمةِ لما يُشاهِدُ فيه أهلَ العذاب وما
رأى فيه أهل النار.
وقال ابن مسعود والحسَنُ وقَتَادَةُ : إن ورودها ليس دخولها ، وحجتهم في
ذلك جيدة جدا من جهات : إحداهن أن العرب تقول : وردت ماء كذا ولَمْ
تدخله ، وقال اللَّه عزَّ وجلَّ : (وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ) وتقول إذا بلغت البلد ولم تدخله : قد وردت بلد كذا وكذا.
قال أبو إسحاق : والحجة القاطعة في هذا القول ما قال اللَّه عزَّ وجلَّ :
(إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا). . فهذا - واللَّه أعلم - دليل أن أهل الحسنى لا يدخلون النار (1)
__________
(1) قال الإمام فخر الدين الرَّازي ما نصُّه :
واعلم أنه تعالى لما قال من قبل : {فَوَرَبّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ والشياطين} [ مريم : 68 ] ثم قال : {ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ} [ مريم : 68 ] أردفه بقوله : {وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} يعني جهنم واختلفوا فقال بعضهم المراد من تقدم ذكره من الكفار فكنى عنهم أولاً كناية الغيبة ثم خاطب خطاب المشافهة ، قالوا : إنه لا يجوز للمؤمنين أن يردوا النار ويدل عليه أمور : أحدها : قوله تعالى : {إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الحسنى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [ الأنبياء : 101 ] والمبعد عنها لا يوصف بأنه واردها.
والثاني : قوله : {لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا} [ الأنبياء : 102 ] ولو وردوا جهنم لسمعوا حسيسها.
وثالثها : قوله : {وَهُمْ مّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ ءامِنُونَ} [ النحل : 89 ] وقال الأكثرون : إنه عام في كل مؤمن وكافر لقوله تعالى : {وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} فلم يخص.
وهذا الخطاب مبتدأ مخالف للخطاب الأول ، ويدل عليه قوله : {ثُمَّ نُنَجّى الذين اتقوا} أي من الواردين من اتقى ولا يجوز أن يقال : {ثُمَّ نُنَجّى الذين اتقوا وَّنَذَرُ الظالمين فِيهَا جِثِيّاً} إلا والكل واردون والأخبار المروية دالة على هذا القول ، ثم هؤلاء اختلفوا في تفسير الورود فقال بعضهم : الورود الدنو من جهنم وأن يصيروا حولها وهو موضع المحاسبة ، واحتجوا على أن الورود قد يراد به القرب بقوله تعالى : {فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ} [ يوسف : 19 ] ومعلوم أن ذلك الوارد ما دخل الماء وقال تعالى : {وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مّنَ الناس يَسْقُونَ} [ القصص : 23 ] وأراد به القرب.
ويقال : وردت القافلة البلدة وإن لم تدخلها فعلى هذا معنى الآية أن الجن والإنس يحضرون حول جهنم : {كَانَ على رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً} [ مريم : 71 ] أي واجباً مفروغاً منه بحكم الوعيد ثم ننجي أي نبعد الذين اتقوا عن جهنم وهو المراد من قوله تعالى : {أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [ الأنبياء : 101 ] ومما يؤكد هذا القول ما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال : " لا يدخل النار أحد شهد بدراً والحديبية فقالت حفصة : أليس الله يقول : {وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} فقال عليه السلام فمه ثم ننجي الذين اتقوا " ولو كان الورود عبارة عن الدخول لكان سؤال حفصة لازماً.
القول الثاني : أن الورود هو الدخول ويدل عليه الآية والخبر ، أما الآية فقوله تعالى : {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [ الأنبياء : 98 ] وقال : {فَأَوْرَدَهُمُ النار وَبِئْسَ الورد المورود} [ هود : 98 ] ويدل عليه قوله تعالى : {أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} والمبعد هو الذي لولا التبعيد لكان قريباً فهذا إنما يحصل لو كانوا في النار ، ثم إنه تعالى يبعدهم عنها ويدل عليه قوله تعالى : {وَّنَذَرُ الظالمين فِيهَا جِثِيّاً} وهذا يدل على أنهم يبقون في ذلك الموضع الذي وردوه وهم إنما يبقون في النار فلا بد وأن يكونوا قد دخلوا النار ، وأما الخبر فهو أن عبد الله بن رواحة قال : « أخبر الله عن الورود ولم يخبر بالصدور ، فقال عليه السلام :
" يا ابن رواحة اقرأ ما بعدها ثم ننجي الذين اتقوا " وذلك يدل على أن ابن رواحة فهم من الورود الدخول والنبي صلى الله عليه وسلم ما أنكر عليه في ذلك وعن جابر : " أنه سئل عن هذه الآية فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : الورود الدخول لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها فتكون على المؤمنين برداً وسلاماً حتى أن للناس ضجيجاً من بردها ".
والقائلون بهذا القول يقولون : المؤمنون يدخلون النار من غير خوف وضرر ألبتة بل مع الغبطة والسرور وذلك لأن الله تعالى أخبر عنهم أنهم : {لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر} [ الأنبياء : 103 ] ولأن الآخرة دار الجزاء لا دار التكليف ، وإيصال الغم والحزن إنما يجوز في دار التكليف ، ولأنه صحت الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الملائكة تبشر في القبر من كان من أهل الثواب بالجنة حتى يرى مكانه في الجنة ويعلمه " وكذلك القول في حال المعاينة فكيف يجوز أن يردوا القيامة وهم شاكون في أمرهم ، وإنما تؤثر هذه الأحوال في أهل النار لأنهم لا يعلمون كونهم من أهل النار والعقاب ، ثم اختلفوا في أنه كيف يندفع عنهم ضرر النار ، فقال بعضهم : البقعة المسماة بجهنم لا يمتنع أن يكون في خلالها ما لا نار فيه ، ويكون من المواضع التي يسلك فيها إلى دركات جهنم ، وإذا كان كذلك لم يمتنع أن يدخل الكل في جهنم فالمؤمنون يكونون في تلك المواضع الخالية عن النار ، والكفار يكونون في وسط النار.
وثانيها : أن الله تعالى يخمد النار فيعبرها المؤمنون وتنهار بغيرهم ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : «يردونها كأنها إهالة» وعن جابر بن عبد الله : " أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إذا دخل أهل الجنة الجنة قال بعضهم لبعض أليس وعدنا ربنا بأن نرد النار فيقال لهم : قد وردتموها وهي خامدة " وثالثها : أن حرارة النار ليست بطبعها فالأجزاء الملاصقة لأبدان الكفار يجعلها الله عليهم محرقة مؤذية والأجزاء الملاصقة لأبدان المؤمنين يجعلها الله برداً وسلاماً عليهم ، كما في حق إبراهيم عليه السلام.
وكما أن الكوز الواحد من الماء كان يشربه القبطي فكان يصير دماً ويشربه الإسرائيلي فكان يصير ماء عذباً.
واعلم أنه لا بد من أحد هذه الوجوه في الملائكة الموكلين بالعذاب حتى يكونوا في النار مع المعاقبين ، فإن قيل : إذا لم يكن على المؤمنين عذاب في دخولهم النار فما الفائدة في ذلك الدخول ؟ قلنا فيه وجوه : أحدها : أن ذلك مما يزيدهم سروراً إذا علموا الخلاص منه.
وثانيها : أن فيه مزيد غم على أهل النار حيث يرون المؤمنين الذين هم أعداؤهم يتخلصون منها وهم يبقون فيها.
وثالثها : أن فيه مزيد غم على أهل النار من حيث تظهر فضيحتهم عند المؤمنين بل وعند الأولياء وعند من كان يخوفهم من النار فما كانوا يلتفتون إليه.
ورابعها : أن المؤمنين إذا كانوا معهم في النار يبكتونهم فزاد ذلك غماً للكفار وسروراً للمؤمنين.
وخامسها : أن المؤمنين كانوا يخوفونهم بالحشر والنشر ويقيمون عليهم صحة الدلائل فما كانوا يقبلون تلك الدلائل ، فإذا دخلوا جهنم معهم أظهروا لهم أنهم كانوا صادقين فيما قالوا ، وأن المكذبين بالحشر والنشر كانوا كاذبين.
وسادسها : أنهم إذا شاهدوا ذلك العذاب صار ذلك سبباً لمزيد التذاذهم بنعيم الجنة كما قال الشاعر :
وبضدها تتبين الأشياء . . فأما الذين تمسكوا بقوله تعالى : {أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [ الأنبياء : 101 ] فقد بينا أنه أحد ما يدل على الدخول في جهنم وأيضاً فالمراد عن عذابها وكذا قوله : {لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا} [ الأنبياء : 102 ] فإن قيل : هل ثبت بالأخبار كيفية دخول النار ثم خروج المتقين منها إلى الجنة ؟ قلنا : ثبت بالأخبار أن المحاسبة تكون في الأرض أو حيث كانت الأرض ويدل عليه أيضاً قوله تعالى : {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض} [ إبراهيم : 48 ] وجهنم قريبة من الأرض والجنة في السماء ففي موضع المحاسبة يكون الاجتماع فيدخلون من ذلك الموضع إلى جهنم ثم يرفع الله أهل الجنة وينجيهم ويدفع أهل النار فيها.
أما قوله : {كَانَ على رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً} فالحتم مصدر حتم الأمر إذا أوجبه فسمى المحتوم بالحتم كقولهم : خلق الله وضرب الأسير ، واحتج من أوجب العقاب عقلاً فقال : إن قوله : {كَانَ على رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً} يدل على وجوب ما جاء من جهة الوعيد والأخبار لأن كلمة على للوجوب والذي ثبت بمجرد الأخبار لا يسمى واجباً.
والجواب أن وعد الله تعالى لما استحال تطرق الخلف إليه جرى مجرى الواجب.
أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 21 صـ 207 - 209}

وقال السَّمين :
قوله : { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ } : في هذه الواوِ وجهان ، أحدهما : أنها عاطفةٌ هذه الجملةَ على ما قبلَها . وقال ابن عطية « { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا } قَسَمٌ والواو تَقْتَضيه ، ويُفَسِّره قولُ النبي صلى الله عليه وسلم : » مَنْ ماتَ له ثلاثٌ من الولد لم تَمَسَّه النار إلا تَحِلَّة القسمِ « قال الشيخ : » وذَهِلَ عن قولِ النحويين إنه لا يُستغنى عن القسمِ بالجواب لدلالةِ المعنى ، إلا إذا كان الجوابُ باللامِ أو ب « إنْ » والجوابُ هنا على زَعْمه ب « إنْ » النافيةِ فلا يجوز حَذْفُ القسم على ما نَصُّوا . وقوله : « والواو تَقْتَضِيه » يدلُّ على أنها عنده واوُ القسم ، ولا يذهبُ نحويٌ إلى أنَّ مِثْلَ هذه الواوِ واوُ قسمٍ لأنه يلزمُ مِنْ ذلك حَذْفُ المجرورِ وإبقاءُ الجارِّ ، ولا يجوز ذلك إلا إنْ وَقَعَ في شعرٍ أو نادرِ كلامٍ بشرط أن تقومَ صفةُ المحذوف مَقامَه ، كما أوَّلوا في قولهم : « نِعْمَ السيرُ على بئسَ العَيْرُ » ، أي : على عَيْرٍ بئسَ العَيْرُ ، وقولِ الشاعر :
3250- واللهِ ما ليلى بنامِ صاحِبُهْ . . . أي : برجلٍ نام صاحبُهْ ، وهذه الآيةُ ليست من هذا الضَّرْبِ؛ إذ لم يُحْذَفِ المُقْسَمُ به وقامَتْ صفتُه مَقامَه «.
و » إنْ « حرفُ نفيٍ ، و » منكم « صفةٌ لمحذوفٍ تقديرُه : وإنْ أحدٌ منكم . ويجوز أن يكونَ التقديرُ : وإن منكم إلا مَنْ هو وارِدُها . وقد تقدَّم لذلك نظائرُ.
والخطابُ في قولِه » منكمْ « يَحْتمل الالتفاتَ وعدمَه . قال الزمخشري : » التفاتٌ إلى الإِنسان ، ويَعْضُدُه قراءةُ ابن عباس وعكرمةَ « وإنْ منهم » أو خطابٌ للناس مِنْ غير التفاتٍ إلى المذكور «.
والحَتْمُ : القضاءُ والوجوبُ . حَتَمَ ، أي : أوجب [ وحَتَمَه ] حتماً ، ثم يُطلق الحتم على الأمر المحتوم مقوله تعالى : » هذا خَلْقُ الله « و » هذا دِرْهَمٌ ضَرْبُ الأميرِ « . و » على ربِّك « متعلِّقٌ ب » حَتْم « لأنه في معنى اسمِ المفعول ، ولذلك وصَفَه ب » مَقْضِيَّاً « . اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(3/341)


وفي اللغة وردت بلد كذا وكذا إذا أشرفت عليه ، دخلته أو لم تدخله ، قال
زهير :
فلمّا وَرَدْنَ الماءَ زُرْقاً جِمامُه وضَعْنَ عِصِيَّ الحاضرِ المُتَخَيِّم
المعنى بلغن إلى الماء ، أي أقمن عليه ، فالورود ههنا بالإجماع ليس
بدخول ، فهذه الروايات في هذه الآية ، واللَّه أعلم.
* * *
وقوله : (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73)
(وَأَحْسَنُ نَدِيًّا).
معناه مجلساً
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (74)
(أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا) (1).
فيها أربعة أوجُهٍ رِئْياً بهمزة قبل الياء ، والراء غير معجمة ، وَرِيًّا بتشديد
بياء مشددَةٍ ، وزِيًّا - بالزاي مُعجَمة ، وقد قرئ بهذه الثلاثة الأوجه.
ويجوز وجه رابع لم يقرأ به - بياء وبعدها همزة - وريئا :.
فأمَّا رِئْياً - بهمزة قبل الياء - فالمعنى فيه هم أحسن أثاثاً أي متاعاً ، ورئياً
منظراً ، من رأيت ، ومن قرأ بغَيْرِ هَمْز فله تَفْسِيرَانِ : عَلَى مَعْنى الأول بِطَرْحِ
الهمزة وعلى معنى أن منظَرَهم مُرْتوٍ من النعمةِ ، كأن النعيمَ بَيِّنٌ فيهم ، ومن
قرأ زِيًّا فمعناه أن زيَّهم حسن يعني هيئتهم.
قال الشاعر :
أَشاقَتْكَ الظَّعائِنُ يومَ بانُوا بذي الرِّئْيِ الجمِيلِ منَ الأَثاثِ
ونصب (أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا) على نية التفسير.
المعنى وكم أهلكنا قبلهم من
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : « ورِئْياً » الجمهورُ على « رِئْياً » الجمهورُ على « رِئْيا » بهمزةٍ ساكنةٍ بعدَها ياءٌ صريحةٌ وَصْلاً ووفقاً ، وحمزةُ إذا وَقَفَ يُبْدِلُ هذه الهمزةَ ياءً على أصلِه في تخفيفِ الهمز ، ثم له بعد ذلك وجهان : الإِظهارُ اعتباراً بالأصل ، والإِدغامُ اعتباراً باللفظ ، وفي الإِظهار صعوبةٌ لا تَخْفَى ، وفي الإِدغامِ إبهامُ أنها مادةٌ أخرى : وهو الرَّيُّ الذي بمعنى الامتلاء والنَّضارة ، ولذلك تَرَكَ أبو عمروٍ أصلَه في تخفيفِ همزِه.
وقرأ قالون عن نافع ، وابن ذكوان عن ابن عامر « ورِيَّا » بياءٍ مشددةٍ بعد الراءِ ، فقيل : هي مهموزةُ الأصلِ ، ثم أُبْدِلَتِ الهمزةُ ياءً وأُدْغِمَتْ . والرَّأْيُ بالهمز ، قيل : مِنْ رُؤْية العَيْن ، وفِعْل فيه بمعنى مَفْعول ، أي : مَرْئِيٌّ . وقيل من الرُّواء وحُسْنِ المنظر . وقيل : بل هو مِنَ الرَّيّ ضد العطش وليس مهموزَ الأصلِ ، والمعنى : أحسنُ منظراً لأنَّ الرِّيَّ والامتلاءَ أحسنُ مِنْ ضِدَّيْهما.
وقرأ حميد وأبو بكر بن عاصم في روايةِ الأعشى « وَرِيْئاً » بياءٍ ساكنةٍ بعدَها همزةٌ وهو مقلوبٌ مِنْ « رِئْياً » في قراءةِ العامَّةِ ، ووزنه فِلْعٌ ، وهو مِنْ راءه يَرْآه كقولِ الشاعر :
3252- وكلُّ خليلٍ راءَني فهو قائلٌ . . . مِنَ أجلِكَ : هذا هامةُ اليومِ أوغدِ
وفي القلب من القلبِ ما فيه.
ورَوَى اليزيديُّ قراءةَ « ورِياء » بياءٍ بعدها ألف ، بعدها همزة ، وهي من المُراءاة ، أي : يُرِيْ بعضُهم حُسْنَ بعضٍ ، ثم خَفَّف الهمزةَ الأولى بقلبِها ياءً ، وهو تخفيفٌ قياسيٌّ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(3/342)


قَرْنٍ هم أحسن أثاثاً منهم وأحسن زِياً منهم . ومن قرأ رِيُئاً فهو بمعنى رئياً مقلوب لأن من العرب من يقول قد رَاءَني زَيْد وتقول قَدْ رَآني.
في هذا المعنى قال الشاعر كثير :
وكل خليلِ رَاءني فهو قائل . . . من أجلك هذا هامة اليوم أوْ غَدِ
* * *
وقوله عزَّ . وجل : (قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا (75)
هذا لفظ أمر في معنى الخبر ، وتأويله أن اللَّه عزَّ وجلَّ جعل جزاء
ضلالته أن يتركه فيها ، ويمده فيها ، كما قال - جلَّ وعزَّ -:
(مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186).
إلا أن لفظ الأمر يؤكد معنى الخبر كان لفظ الأمر يريد به المتكلم نفسه إلزاماً ، كأنَّه يقول أفعل ذلك وآمر نفسي به ، فإذا قال القائل : من رآني فلأكرمه ، فهو ألزم من قوله أكرمُه ، كأنَّه قال : من زارني فأنا آمر نفسي بإكرامه وألزمها ذلك.
وقوله : (إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ).
العذاب والساعة منصوبان على البدل من (ما يُوعدُون) المعنى حتى إذا
رأوا العداب أو رأوا الساعة ، فالعذاب ههنا ما وعدوا به من نصر المؤمنين
عليهم فإنهم يعذبونهم قتلاً وأسْراً.
والساعة يعنى بها يوم القيامة وبما وعدوا به فيها من الخلود في النار.
(فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا).
أي فسيعلمون بالنصر ، والقتل أنهم أضعف جنداً من جند النبي - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين ويعلمون بمكانهم من جهنم ، ومكان المؤمنين من الجنة مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا .

(3/343)


وقوله عزَّ وجلَّ : (وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76)
قيل بالناسِخ والمنسوخ نحو ما كان من صوم رمضان من أنه كان يجوز
لمن يقدر على الصوم أن يطعم مسكيناً ويفطر ، فنسخ ذلك بإلزام الصوم.
وجائز أن يكون - : (وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى) يجعل جزاءهم أن يزيدهم في يقينهم هُدى كما أضل اللَّهُ الفاسقَ بفسقه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا).
معناه الأعمال الصالحة ، وأولها توحيد اللَّه ، وهو شهادة أن لَا إلَه إلا اللَّهُ.
* * *
وقوله : (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77)
ويقرأ : وُوُلْداً ، فمن قرأ وُلْداً بالضَّمِ فهو على وجهين على جمع وَلدٍ.
يُقَالُ وَلَد وَوُلد مثل أسَدٍ وأُسْدٍ ، وجائز أن يكون الوُلْدُ في معنى الوَلَدِ ، والوَلَدُ يصلح للواحد والجمع ، والوُلْدُ والوَلَدُ بمعنىً واحد ، مثل العُرْب والعَرَب ، والعَجَمُ والعُجْمُ.
وقد جاء في التفسير أنه يعنى به العاص بن وائل . ويروى أن خَبَّاباً
قال : كنت قَيْناً في الجاهلية . والقَيْن ، هو الذي يصلح الأسِنَّة ، والحَدَّادُ يقال له قَيْن ، قال وكان لي على العاصِ بِنِ وائل دين ، فدفعني بقضائه وقال لا أدفعه إليك حتى تكفر بمحمد - صلى الله عليه وسلم - فقال خبَّاب : لا أكفر بمحمد حتى تموت وتُبْعثَ.
فقال : إذَا مِتُّ ثم بعثتُ أعْطِيتُ مالاً وولداً وقضيتك مما أعطى ، يقول ذلك
مستهزئاً فقال اللَّه سبحانه :

(3/344)


(أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78)
أي علم ذلك غيباً أم أعطي عهداً ، وهو مثل الذي قال : (وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36).
* * *
(كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79)
(كَلَّا).
رَدْعٌ وتنبيه ، أي هَذَا مما يَرْتَدَعُ منه ، ويُنَبه على وَجْه الضلالة فيه.
(سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ).
أي سنحفظ عليه.
* * *
(وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (80)
أي نجعل المال والولد لِغَيْرهِ ونسلبه ذلك ويأتينا فرداً.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81)
أي أعوانا
* * *
وقوله : (كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82)
أي يصيرون عليهم أعوانا.
* * *
وقوله : (أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83)
في قوله (أرْسَلْنَا) وجهان :
أحدهما أنا خلينا الشياطين وإياهم ، فلم نعصمهم من القبول منهم -
قال أبو إسحاق : والوجِه الثاني - وهو المختار -
أنهم أرْسِلوا عليهم وقُيِّضُوا لهم بكفرهم كما قال عزَّ وجلَّ : (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36).
ومعنى (تَؤُزُّهُمْ أَزًّا) تُزْعِجُهُمْ حتى يركبوا المعاصي إزعاجاً فهو يَدُل
على صحة الإرْسَالِ والتًقْييض ، ومعنى الإرسال ههنا التسليط ، يقال قد

(3/345)


أرسلت فلانا على فلانٍ إذا سلطته عليه ، كما قال : (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ).
فأَعلم اللَّه عزَّ وجلَّ : (أن من اتبعه هو مسلط عليه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85)
معنى الوفد الركبان المكرمون.
(وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86)
مشاة عطاشاً.
* * *
وقوله : (لَلَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (87)
" مَنْ " جائز أن تكون في موضع رفع ، وفي موضع نصب.
فأمَّا الرفع فعلى البدل من الواو والنون ، والمعنى لا يملكون الشفاعة إلا من اتخد عند الرحمن عهداً.
والعهد ههنا توحيه اللَّهِ جلً ثناؤه والإيمان به.
والنصب على الاستثناء ليس من الأول على : لَا يَمْلكُ الشفاعةَ
المجرمون ، ثم قال : (إلا من اتخذ عند الرحمن عهداً) ، على معنى لكن من
اتخذ عند الرحمن عهداً فإنه يملك الشفاعة.
* * *
وقوله : (لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89)
وتقرأ (أَدًّا) - بالفتح - ومعناه شيئاً عظيماً من الكفر ، وفيها لغة أخرى لا
أعلم أنه قرئ بها ، وهي : " شَيْء آدًّا على وزن رَادٍ ومادٍ ، ومعناه كله : جئتم شيئاً عظيماً.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96)
أي محبة في قلوب المؤمنين .

(3/346)


وقوله جلَّ وعزَّ : (فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97)
(قَوْمًا لُدًّا).
جمع ألَدّ مثل أصمْ وَصُمّ ، والألَدُّ الشدِيدُ الخُصُومَةِ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98)
(هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ).
يقال : هل أحْسَسْتَ صَاحِبَك أي هل رأيته ، وتقول : قد حَسَّسهمْ - بغير ألف - إذا قتلهم.
وقوله : (أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا).
الركزُ الصوت الخفي .

(3/347)


سورة طه
( مَكِّيَّة )
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله : طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2)
يقرأ طَهَ - بفتح الطاء والهاء ، وتقرأ طِهِ - بكسرهما - ويقرأ طهْ - بفتح
الطاء وإسكان الهاء ، وطَهِ بفتح الطاء وكسر الهاء.
واختلف في تفسيرها
فقال أهلُ اللغَةِ هي من فواتح السُّورِ نحو حم والم ، ويروى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا صلى رفع رِجْلًا ووضع أخرى فأنزل اللَّه عزَّ وجلَّ : (طاها) أيْ طَأ الأرضَ بِقَدمَيْكَ جَميعاً.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2)
أي لتُصَلِّيَ على إحْدَى رِجْلَيْك فتشتد عليك ، وقيل طه لغة بالعجمية
معناها يا رجل ، فأمَّا من فتح الطاء والهاء فلأن ما قبل الألف مفتوح ، ومن
كسر الطاء والهاء ، أمال إلى الكسر لأن الحرفَ مقصورٌ ، والمقصور تغلب عليه الإمالة إلى الكسر ومن قرأ طَِهْ بإسكان الهاء ففيها وجهان أحدهما أن يكون أصله " طَا " بالهمزة فأبدلت منها الهاء كما قالوا في إياك هياك وكما قالوا في أرَقَت الماء هَرَقْتُ وجائز أن يكون من " وَطِي " عَلَى تَرْكِ الهمزةِ.
فيكونُ " طَ "

(3/349)


يا رَجُل - ثم أثبت فيها الهاء للوقف فقِيل طهْ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4)
المعنى أنزلناه تنزيلًا ، والعُلَى جمع العليا ، يقال : سماء عُلْيَا وسمواتٌ
عُلًى ، مثل الكبرى والكُبَر.
* * *
وقوله : (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)
الاختيار الرفعُ ، ويجوز الخفض على البدل من " منْ " المعنى تنزيلاً
من خالق الأرض والسَّمَاوَات الرحمن ، ثم أخبر بعد ذلك فقال : على العرش
استوى ، وقالوا معنى (استوى) استولى - واللَّه أعلم . والذي يدل عليه استوى في اللغة على ما فعله من معنى الاستواء.
قوله : (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى
(6)
الثرى في اللغة الندى ، وما تحت الأرض ندى ، وجاء في التفسير وما
تحت الثرى ما تحت الأرض.
* * *
وقوله : (وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7)
فَالسِّر ما أكننْتَهُ في نفسك ، و " أخفى " ما يكون من الغيب الذي لا يعلمه
إلا اللَّه.
* * *
وقوله : (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (8)
يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال :
" للَّهِ تسعة وتسعونَ اسْماً من أحْصَاهَا دخل الجنة ".
وتأويل من أحصاها دخل الجنة ، من وحَّدَ اللَّهَ وذكر هذه الأسماء
الحسنى يريد بها توحيدَ اللَّه وإعْظَامَهُ دَخَل الجنةَ.
وقَدْ جاءَ أنه من قال

(3/350)


لا إله إلا اللَّه دخل الجنة ، فهذا لِمَنْ ذَكَرَ اسْمَ الله مُوَحِّداً لَهُ بِهِ فكيف بمن ذَكر أسْماءَهُ كلَّها يُريدُ بها توحيدَهُ والثناءَْ عليْهِ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10)
القَبَسُ ما أخَذْتَه في رأس . عُودٍ من النَّارِ أو رَأسِ فِتيلةٍ.
(أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى) جاء في التفسير أنه - صلى الله عليه وسلم - ضل الطريق وجاء أنه ضل عن الماءِ فرجا أن يجد عند النار من يهديه الطريق أو يَدُلَّه عَلَى الماء.
* * *
(فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12)
ويقرأ أَنَّي أنَا - بالفَتح والكسر ، فمن قرأ " أَنِي " فالمعنى نودي بأني أنا
ربُّك ، وموضع " أَنَّي " نصبٌ.
وَمَنْ قَرأ (إِنِّي أَنَا رَبُّكَ) بالكسر فالمعنى نودي يا موسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ.
(فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى).
روي أنه أمِرَ بخَلْعِهمَا لأنهما كانتا من جِلْد حمارٍ مَيِّت ، وروي أنه أمر
بخلعهما ليطأ بقدميه الوادي المقدس ، وروي أنه قُدسَ مَرتَين.
وقوله : (طُوًى).
اسم الوادي ، ويجوز فيه أربعة أوجه :
طُوَى - بضم أوله ، بغير تنوين وتنوينٍ وبكسر أوله - بتنوين وبغير تنوين . فمن نوَّنَه فهو اسم الوادي ، وهو مذكر سُمِّيَ بمذكرعلى فُعَل نحو حُطَم وصُرَد . ومن لم ينونه ترك صرفه من جهتين :
إحداهما أن يكون معدولًا عن " طَاءٍ " فيصير مثل عُمَر المعدول عن عامر.
والجهة الأخرى أن يكون اسماً للبقعة كما قال الله عزَّ وجلَّ :

(3/351)


(في البُقْعَةِ المُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ). وإذا كُسِرَ وَنوِّنَ طِوًى فهو - مثل مِعًى وَضِلعٍ - مَصْرُوفَ.
ومَنْ لم ينوِّن جعله اسماً للبقعةِ.
* * *
وقوله - عزَّ وجلَّ - (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13)
ويقرأ (وَأَنَّا اخْتَرْنَاكَ) ، فمن قرأ : (وَأَنَّا اخْتَرْنَاكَ) فالمعنى يؤدي بـ (وَأَنَّا اخْتَرْنَاكَ) ويجوز (وَإِنَّا اخْتَرْنَاكَ) على وجهين :
على الاستئناف وعلى معنى الحكاية لأنَّه معنى يُؤدىَ قيل له إِنَّا اخْتَرْنَاكَ.
* * *
وقوله : (إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)
(وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي).
هذا على معنيين أحدهما أقم الصلاة لأن تَذْكُرَني لأن الصلَاةَ لا تكونُ
إلا بذكر اللَّه ، والمعنى الثاني هو الذي عليه الناس ومعناه أقم الصلاة متى
ذَكَرْتَ أنَّ عليك صلاةً كنتَ في وقتها أو لم تكن ، لأن اللَّه عزَّ وجلَّ لا يؤاخذُنا إن تسينا ما لم نَتعمَّدْ الأشياء التي تَشْغَلُ وتُلْهِي عن الصلاة ، ولو ذَكَرَ ذَاكِر أنَّ عليه صلاةً في وقت طُلُوع الشمس أوعندَ مَغيبَها وَجَب أن يصفيَها.
وقرئت لِلذِكْرَى - معناه في وقت ذكرك.
* * *
وقوله : (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15)
بضم الألِفِ ، وجاء في التفسير : أكاد أخفيها من نفسي ، فالله أعلم
بحقيقة هذا التفسير ، وقرئت : أكاد أَخْفِيهَا - بفتح الألف - معناه أكاد أُظْهِرها (1)
قال امرؤ القيس :
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { أَكَادُ أُخْفِيهَا } العامةُ على ضمِّ الهمزةِ مِنْ » أُخْفيها « . وفيها تأويلاتٌ ، أحدُها : أن الهمزةَ في » أُخْفيها « للسَّلْبِ والإِزالةِ أي : أُزيل خفاءَها نحو : أعجمتُ الكتابَ أي : أزلْتُ عُجْمَتَه . ثم في ذلك معنيان ، أحدهما : أنَّ الخفاءَ بمعنى السَّتْر ، ومتى أزال سَتْرَها فقد أظهرَها . والمعنى : أنها لتحقُّق وقوعِها وقُرْبِها أكادُ أُظْهِرُها لولا ما تَقْتضيه الحكمةُ من التأخير . والثاني : أنَّ الخفاءَ هو الظهورُ كما سيأتي . والمعنى : أزيلُ ظهورَها ، وإذا أزالَ ظهورَها فقد استترَتْ . والمعنى : أني لِشدَّةِ أبهامها أكاد أُخْفيها فلا أُظْهِرُها/ ألبتَّةََ ، وإن كان لا بد من إظهارِها؛ ولذلك يوجدُ في بعض المصاحف كمصحف أُبَيّ : أكاد أُخْفيها مِنْ نفسي فكيف أُظْهِرُكُمْ عليها؟ وهو على عادةِ العرب في المبالغة في الإِخفاء قال :
3277 أيامَ تَصْحَبُني هندٌ وأُخْبِرُها . . . ما كِدْت أكتُمُه عني من الخبرِ
وكيف يُتَصَوَّرُ كِتْمانُه مِنْ نفسه؟
والتأويلُ الثاني : أنَّ » كاد « زائدةٌ . قاله ابنُ جُبَيْر . وأنشدَ غيرُه شاهداً عليه قولَ زيدِ الخيل :
3278 سريعٌ إلى الهَيْجاء شاكٍ سلاحُه . . . فما إنْ يكادُ قِرْنُه يتنفَّسُ
وقال آخر :
3279 وألاَّ ألومَ النفسَ فيما أصابني . . . وألا أكادَ بالذي نِلْتُ أَبْجَحُ
ولا حُجَّةَ في شيءٍ منه.
والتأويل الثالث : أنَّ الكَيْدُوْدَةَ بمعنى الإِرادة ونُسِبت للأخفش وجماعةٍ ، ولا ينفعُ فيما قصدوه.
والتأويل الرابع : أنَّ خبرَها محذوفٌ تقديره : أكاد آتي به لقُرْبها . وأنشدوا قول ضابىء البرجمي :
3280 هَمَمْتُ ولم أفْعَلْ وكِدْتُ وليتني . . . تَرَكْتُ على عثمانَ تَبْكي حلائِلُهْ
أي : وكِدْتُ أفعلُ ، فالوقفُ على » أكادُ « ، والابتداء ب » أُخْفيها « ، واستحسنه أبو جعفر.
وقرأ أبو الدرداء وابنُ جبير والحسنُ ومجاهدٌ وحميدٌ » أَخْفيها « بفتح الهمزة . والمعنى : أُظْهرها ، بالتأويل المتقدم يقال : خَفَيْتُ الشيءَ : أظهَرْتُه ، وأَخْفَيْتُه : سترته ، هذا هو المشهور . وقد نُقِل عن أبي الخطاب أنَّ خَفَيْتُ وأَخْفَيْتُ بمعنىً . وحُكي عن أبي عبيد أنَّ » أَخْفى « من الأضدادِ يكون بمعنى أظهر وبمعنى سَتَر ، وعلى هذا تَتَّحد القراءتان . ومِنْ مجيءِ خَفَيْتُ بمعنى أظهَرْت قولُ امرىء القيس :
3281 خَفَاهُنَّ مِنْ أَنْفاقِهِنَّ كأنما . . . خفاهُنَّ وَدْقٌ مِنْ عَشِيٍّ مُجَلِّبِ
وقول الآخر :
3282 فإنْ تَدْفِنوا الداءَ لا نَخْفِهِ . . . وإنْ تُوْقِدُوْا الحربَ لا نَقْعُدِ.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(3/352)


فإنْ تَدْفِنوا الداءَ لا نَخْفِهِ . . . وإنْ تُوْقِدُوْا الحربَ لا نَقْعُدِ
أي أن ندفنوا الداء لا نظهره.
وهذه القراءة الثانية أبين في المعنى ، لأن معنى أكاد أظهرها ، أي قَدْ
أخفيتها وَكِدتُ أظْهِرُهَا . .
وقوله : (لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى).
معنى (بِما تسعى) بما تعمل ، و (لِتُجْزَى) متعلق بقوله : (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ)
لتجزَى كل نَفْس بما تسعى.
ويجوز أن يكون على أقِمِ الصلاة لذكري لتجزى كل نفس بما تسعى.
* * *
وقوله : (فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16)
معناه واللَّه أعلم فلا يصدنك عن التصديق بها من لا يؤمن بها ، أي من
لا يؤمن بأنها تكون ، وخطابُ النبي - صلى الله عليه وسلم - هو خطابُ سائر أمتِه.
ومعنى لا يَصُدَّنَّكَ عنها : لا يَصُدَّنَّكُمْ ، قال اللَّه عزَّ وجلَّ : (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ). فَنبَّه النبي - صلى الله عليه وسلم - بالخطاب وخوطب هو وأمته بقوله (إِذَا طَلَّقْتُمُ).
وقوله : (فَتَرْدَى).
معناه فتهلك ، يقال رَدِيَ يَرْدَى ردًى ، إذا هلك ، وكذلك تَرَدَّى إذَا هلَكَ
في قوله عزَّ وجلَّ : (وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11).
* * *
قوله : (وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17)
تلك اسم مبهم يَجري مجرى التي ، ويوصل كما توصل التي ، المعنى

(3/353)


ما التي بيمينك يا موسى.
وهذا الكلام لفظه لفظ الاستفهام ومجراه في الكلام
مجرى ما يسأل عنه ، ويجيب المخاطب بالِإقرار به لتثبت عليه الحجة بعدما
قد اعترف مستغنًى بإقراره عن أن يجحد بعد وقوع الحجة ، ومثله من الكلام
أنْ تُرِيَ المخاطب ماءً فتقول له ما هذا فيقول ماء ، ثم تحيله بشيء من الضِبْغ
فإن قال إنه لم يزل هكذا قلت له : ألست قد اعترفت بأنه ماء ؟
* * *
وقوله : (قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18)
وقرئ هي عَصَى بغير ألف ، وأجْوَدُهُمَا عَصَايَ . وَعَصَى لغَةُ هُذَيل.
والأصل في يا الإضافة أن يكسر ما قبلها ، تقول هذا حَجَرِي فتكسر الراء وهي في موضع ضم وكذلك رأيت حجرِي ، فإذا جَاءتْ بَعْدَ الألف المقصورة لم تكسرها ؛ لأن الألف لا تُحرَّكُ ، وكذلك إذا جاءت بعد ألف التثنية في الرفع في قولك هما غلاماي ، وبعد ياء النصب في قولك : رأيت غلامَيَّ ، وبعد كل ياء قبلها - كسرة نحو هذا قاضِى ورأيت مُسْلِمِيَّ ، فجعلت هُذَيْلٌ بدلًا من كسرةِ الألف تغييرها إلى الياء ، وليس أحَدٌ من النحويين إلا وقد حكى هذه اللغة.
قال أبو ذؤيب.
سَبَقوا هَوَيَّ وأَعْنَقُوا لِهَواهُم . . . فتُخُرِّمُوا ولكُلِّ جَنْبٍ مَصْرَعُ
* * *
قوله : (وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي).
- جاء في التفسير أخْبِطُ بها الشجرَ ، واشتقاقه من أني أحيلُ الشيءَ إلى
الهشاشة والإمكان.
- وقوله : (وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى).
جاء في التفسير حاجات أخَر ، وكذلك هُوَ في اللغة ، وواحد المآرب

(3/354)


مَأرُبَة ومارَبة . وجاء (أُخْرَى) على لفظ صفة الواحدة ، لأن مآرب في معنى
جماعة فكأنَّها جماعات من الحاجات الأخرى ، فلو جاءت أخَرُ كان صواباً.
* * *
قوله : (قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21)
معنى (سِيرَتَهَا) طريقتها يعنى - هيئتها ، تقول إذا كان القوم مشتبهين : هم
على سيرة واحدة وطريقة - وَاحِدةٍ ، تريد أن هيئتهم واحدة وشبههم واحِد ، وإن كان أصل السيرة والطريقة أكثر ما يقع بالفعل ، تقول : فلان على طريقة فلانٍ وعلى سيرته أي أفعاله تشبه أفعال فلانٍ ، والمعنى : سنعيدها عَصاً كما كانت.
و (سِيرَتَهَا) منصوب على إسقاط الخافض ، وأفْضى الفعل إليها ، المعنى - والله أعلم - سنعيدها إلى سيرتها الأولى ، فلما حُذِفَتْ " إلى " أفْضى الفعل - وهو سنعيدها - فَنَصَب.
* * *
وقوله : (وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (22)
جناح الإنسان عَضُدُه إلى أصل " إبطه.
وقوله : (تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى).
(آيةً) مَنْصوبة لأنها في موضع الحال ، وهي اسم في موضع الحال.
المعنى - واللَّه أعلم - تخرج بيضاء مُبيِّنة آيَةً أُخْرَى.
ويجوز أن يكون (آيَةً أُخْرَى) منصوبةً على معنى آتيناك آية - أخرى أو سنؤتينك آيَةً أُخْرَى ، لأنه لما قال : (تَخْرُج بَيْضَاءَ) كان في ذلك دَليل أنَّه يعطى آيةً أخرى ، فلم يحتج إلى ذكر آتَينَاكَ لأن في الكلام دليلًا عليه.
ويجوز آية أخرى بالرفع على إضمار هذه آية أخْرَى.
* * *
وقوله : (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28)
جاء في التفسير أنه كان في لسانه رُتَّة ، لأن امْرأةَْ فِرْعَوْنَ جَعَلَتْ عَلَى
لِسَانه حجرةً لأنه كان أخذ وهو صبي بِلِحْيةِ فرعَوْنَ فهَمَّ به ، وقال هذا عدو

(3/355)


فأعلمته أنه صبي لا يعقل وأن دليلها على ذلك أنه التقم جمرة فدرأت عنه ما
هَمَّ به فِرْعَوْنَ فيه.
* * *
وقوله : (وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30)
يجوز أن يكون نصب هارون من جهتين :
إحداهما أن يكون (اجْعَلْ) لا يَتَعدى إلى مفعولين فيكون المعنى اجعل هارون أخي وزيري فتنصب " وَزِيرًا " على أنه مفعول ثانٍ.
ويجوز أن يكون هارون بدلاً من قوله " وَزِيرًا "
ويكون المعنى اجعل لي وَزِيرًا من أهلي ثم أبدل هارون من وَزِير.
والقول الأول أجودُ و (أخي) نعت لهارون.
* * *
وقوله : (اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32)
يقرأ على ضربين :
على مَعْنى اجعل أخي وزيراً ، فإنك إن فعلت ذلك
أشْدُدْ به أزْري . " أشْدُدْ " على الإِخْبَارِ عن النفس وأظهرت التضعيف لأنه
جواب الأمر وأشْرِكُه في أمْرِي ، فيقرأ على هذا : هارون أخي أشْددْ به أزري
وأشرِكُهُ في أمري بقَطْع ألِفِ أشْدُدْ وضم الألف من وأُشْرِكْهُ.
ومن قرأ هارون أخي اشدد به أزري وأشْرِكه فعلى الدعاء.
المعنى : اللهم أشدد به أزري وأشْرِكْهُ في أمري.
* * *
(وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37)
قد بين المرة على ما هي وهي قوله :
(إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39)
لأنه نَجَّاهُ بهذَا من القتل ، لأنَّ فرعونَ كَان يَذْبَحُ الأبناءَ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي).
قالوا معناه ولتُغْذَى.
ومعنى أزرِي ، يقال آزَرْتُ فُلاناً على فلان إذَا أعنْتَه عَليْه وقوَّيتَه ، ومِثلُه :
__________
(1) قال ابن الجوزي :
قوله تعالى : { ولِتُصْنَع على عيني } وقرأ أبو جعفر : «ولْتُصنعْ» بسكون اللام والعين والإِدغام.
قال قتادة : لتُغذى على محبتي وإِرادتي.
قال أبو عبيدة : على ما أُريد وأُحِبّ.
قال ابن الأنباري : هو من قول العرب : غُذي فلان على عيني ، أي : على المَحَبَّة مِنّي.
وقال غيره : لتُرَبَّى وتغذى بمرأىً مني ، يقال : صنع الرَّجل جاريته : إِذا ربَّاها؛ وصنع فرسه : إِذا داوم على علفه ومراعاته ، والمعنى : ولِتُصْنَعَ على عيني ، قدَّرنا مشي أختك. اهـ (زاد المسير. 5 / 284).
وقال السَّمين :
قوله : { وَلِتُصْنَعَ } قرأ العامَّةُ بكسر اللام وضم التاء وفتحِ النون على البناءِ للمفعول ، ونصبِ الفعلِ بإضمار أَنْ بعد لام . وفيه وجهان ، أحدهما : أن هذه العلةَ معطوفةٌ على علةٍ مقدرة قبلها . والتقديرُ : ليتلطَّفَ بك ولتُصْنَعَ ، أو ليعطفَ عليك وتُرامَ ولتصنعَ . وتلك العلةٌ المقدرةُ متعلقةٌ بقوله : « وألقيتُ » أي : ألقيتُ عليكم المحبة ليَعْطفَ عليك ولتُصْنَعَ . ففي الحقيقة هو متعلقٌ بما قبله من إلقاءِ المحبة.
والثاني : أن هذه اللامَ تتعلقُ بمضمرٍ/ بعدها تقديرُه : ولتُصْنَعَ على عيني فعلتُ ذلك ، أو كان كيت وكيت . ومعنى لتُصْنَعَ أي : لتربى ويُحْسَنَ إليك ، وأنا مراعِيْكَ ومراقُبكَ كما يراعي الإِنسانُ الشيءَ بعينِه إذا اعتنى به . قاله الزمخشري.
وقرأ الحسن وأبو نهيك « ولِتَصْنَعَ » بفتح التاء . قال ثعلب : « معناه لتكون حركتُك وتصرُّفُك على عينٍ مني . وقال قريباً منه الزمخشري . وقال أبو البقاء : » أي لتفعلَ ما آمُرك بمرأى مني «.
وقرأ أبو جعفر وشَيْبَةُ » ولْتُصْنَعْ « بسكون اللام والعين وضم التاء وهو أمرٌ معناه : ليُرَبَّ وليُحْسَن إليك . وروي عن أبي جعفر في هذه القراءةِ كسرُ لامِ الأمر . قلت : ويحتمل مع كسرِ اللام أو سكونِها حالةً تسكينِ العين أن تكونَ لامَ كي ، وإنم سُكِّنَتْ تشبيهاً بكَتْف وكَبْد ، والفعل منصوب . والتسكينُ في العين لأجل الإِدغام لا يُقْرأ في الوصل إلاَّ بالإِدغام فقط. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(3/356)


(فآزَرَهُ فاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ).
فتأويله أقوى بهِ واستُعين به على أمري.
فأما الوزير في اللغة فاشتقاقه من الوَزَرِ ، والوَزَرُ الجَبلُ الذي يُعْتَصَم به
ليُنْجِيَ مِنَ الهكلَةِ ، وكذلك وزير الخليفة معناه الذي يَعْتمد عليه في أمُورِه
وَيلْتَجِئ إلى رأيه وقوله : (كَلَّا لاَ وَزَرَ) معناه لا شيءَ يُعْتَصَمُ بِه من أمر
الله - عزَّ وجلَّ -.
* * *
وقوله : (إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40)
(وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا).
معناه اختبرناك اختباراً.
وقوله : (ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى).
قيل في التفسير : على مَوْعِدٍ ، وقيل على قَدَرٍ من تَكلِيمي إياك.
(اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42)
معناه ولا تضعُفَا ، يقال : وَنَى يني وَنْياً ووُنيًّا إذاضَعُفَ ، وقولك قد توانى
فلان في هذا الأمر أي قد فتر فِيه وضَعُفَ.
وقوله : (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)
لعل في اللغة ترجٍّ وطمع ، تقول : لَعلي أصير إلَى خيرٍ ، فمعناه أرجو
وأطمع أن أصير إلى خير ، واللَّه - عزَّ وجلَّ - خاطب العبادَ بما يعقلون
والمعنى عند سيبويه فيه : اذْهَبَا عَلَى رَجَائكما وَطَمَعَكُمَا.
والعلم من الله عزَّ وجلَّ قد أتى من وراء ما يكون . وقد علم الله عزَّ وجلَّ أنه لا يتذكر ولا يخشى ، إلا أن الحجة إنما تجب عليه بالإبانة ، وإقامتها عليه ، والبرهان .

(3/357)


ْوإنما تبعَثُ الرسُل وهي لا تعلم الغيب ولا تدري أيقبل منها أم لا ، وهم
يرجون ويطمعون أن يقبل مِنهم ، ومعنى " لعل " متصور في أنفسهم ، وعلى
تصور ذلك تقوم الحجة ، وليس علم الله بما سيكون تجب به الحجة علم.
الآدميين ، ولو كان كذلك لم يكن في الرسل فائدة.
فمعنى : (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى).
هو الذي عليه بُعثَ حميعُ - الرُّسُلِ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45)
معنى يَفْرطَ علينا يُبَادر بعقوبتنا ، يقال : قد فرط منه أمر أي قَدْ بَدَرَ منه
أمر ، وقد أفرط في الشيء إذا سَقَط فيه ، وقد فرط في الشيء أي قَصَّرَ ومعناه كله التقدم في الشيْءِ ، لأن الفرط في اللغة المتقدم.
ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - " أنا فَرَطُكُمْ على الحوض ".
* * *
وقوله : (فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47)
(وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى).
ليس يعنى به التحية ، وإنما معناه أن من اتبع الهدى سلم من عذاب
اللَّه وسخطه والدليل على أنه ليس بسلام أنه ليس ابتداء لقاء وخطاب.
ومعنى (فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ).
ولم يقل فَأتَيَاهُ فقَالاَ لَه إنا رَسُولا ربِّكَ ، لأن الكلام قدْ دل على ذلك
فاستغنى عنه أن يقال فيه فأتَياهُ فَقَالاَ ، لأن قوله : (قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49).
فيه دليل على أنهما أتَياهُ فَقَالَا لَهُ :
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى
(50)
معناه خلق كل شيء على الهيئة التي بها ينْتَفِعُ ، والتي هي أصلح
الخلق له ، ثم هَدَاهُ لمعِيشتِه ، وقد قيل ثم هداه لموضع مَا يكون منه الولد .

(3/358)


والأول أبين في التفسير ، وهذا جائز ، لأنا نرى الذَّكرَ مِنَ الحيوان يأتي
الأنثى ولم ير ذكراً قد أتى أنثى قبله فألْهَمه اللَّه - عزَّ وجلَّ - ذلك وهداه إلى المَأتي.
والقول الأول ينتظم هذا المعنى ، لأنَّه إذا هَداه لمصْلَحَتِه فهذا دَاخِلٌ
في المصْلحةِ ، واللَّه أعلم.
* * *
وقوله تَعَالَى : (قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51)
قال له موسى عليه السلام :
(قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52)
معناه لا يُضِلها ولا ينساها ، ولا يضله ربي ولا ينساه ، يعنى به الكتاب.
ومعنى ضَلَلْتُ الشيءَ وضَلِلْتُ بكسر اللام وفتحِهَا أضِلُّه وَأضَلُّه ، إذا جعلته في مكان لم تدر أين هو ، وُيضِل من أضلَلْتُه ، ومعنى أضْلَلْتُه أضَعْتُه.
قال أبو إسحاق من قرأ بالفتح فمعناه لا يَضَل أيْ لا يَضَل عن رَبِّي . .
وإذا ضممت الياء فمعناه لا يوجد ربي ضَالًّا عنها.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (54)
(إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى)
معناه لذوي العقول ، واحد لنهى نُهْيَة.
يقال : فلان ذو نُهيةٍ ومعناه ذو عقل ينتهي به عن المقابح ويدخل به في المحاسِنِ.
وقال بعض أهل اللغة : ذو النهْيِةِ الذي يُنْتهَى إلى رأيه وعقله.
وهَذَا حسن أيضاً
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55)
يعنى به الأرض ، لأن اللَّه - عزَّ وجلَّ - خلق آدم من تراب ، وَجَرَى
الإضْمَارُ على قوله : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لكُمْ فِيهَا سُبُلًا).
وقوله : (تَارَةً أُخْرَى).

(3/359)


مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55)
متعلق بقوله (مِنْهَا نُخْرِجُكُمْ) ، لأن المعنى كمعنى الأول.
لأن معنى (وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ) بمنزلة منها خلقناكم ، فكأنَّه قال - واللَّه أعلم - : ومنها نخلقكم تارة أخْرَى ، لأن إخراجَهُم وهم تراب بمنزلة خلق آدم من تراب.
* * *
وقوله : (فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (58)
(مَكَانًا سِوًى)
وتقرأ سُوًى بِالضمِ ومَعْنَاهُ مَنْصَفاً ، أي مكاناً يكون النصفَ فيما بيننا
وبينك ، وقد جاء في اللغةَ " سَواء " في هذا المعنى ، تقول : هذا مكانٌ سَوَاء
أي مُتَوسط بين المكانين ، ولكن لم يقرأ إلا بالْقَصْرِ سِوًى وسُوًى.
* * *
وقوله تعالى : (قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59)
وتقرأ (يومَ الزينة) ، فالرفع على خبر الابتداء ، والمعنى وقت موعدكم يوم
الزينة ومن قرأ (يومَ) فمنصوبٌ على الظرف ، المعنى يقع يوم الزينة.
وقوله : (وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى).
موضع (أن) رفع ، المعنى مَوعِدُكم حَشرُ الناسِ ضُحًى ، وتأويله إذا رأيتم
الناس قد حُشِروا ضُحًى.
وقيل يوم الزينة يومُ عيدٍ كان لهم ، وقيل إنه كان يوم عاشوراء.
ويجوز أن يكون في موضع خَفْض عطفاً على الزينة.
المعنى موعدكم يوم الزينة ويوم حشْرِ الناس.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61)
(وَيْلَكُمْ) منصوبٌ على أن ألزمهم اللَّه ويلًا ، ويجوز أن يكون منصوباًْ
عَلَى النداءِ كما قال تعالى : (يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ)
و (يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا).

(3/360)


وقوله : (فَيَسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ).
ويقرأ (فَيُسْحِتَكُمْ) - بضم الياء وكسر الحاء ، يقال سَحَتَهُ ، وأسْحَتَهُ إذا
استَأصَلَهُ وأهْلكُه ، قال الفرزدق :
وعَضّ زمانٍ يا ابنَ مَرْوانَ لم يَدَعْ . . . من المالِ إِلاَّ مُسْحَتاً أَو مُجَلَّفُ
معنى لم يدع لم يستقر - من الدعة من المال ، وأكثر الرواية إِلاَّ مُسْحَتاً.
فهذا على أسْحَت فهو مُسْحَت.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62)
يعنى به السحرة ، قالوا بينهم : إِنْ غَلَبَنَا موسى آمنا به ، وكان الأمْر لَهُ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63)
(إن هَذَانِ لَسَاحِرَانِ) (1).
يَعْنُونَ موسى وهارون . وهذا الحرف من كتاب اللَّه عزَّ وجلَّ مُشْكِل على
أهل اللغة ، وقد كثر اختلافهم في تفسيره ، ونحن نذكر جميع ما قاله النحويون ونخبر بما نظن أنه الصواب واللَّه أعلم ، وقبل شرح إعرابه نخبر بقراءة القُراءِ
أما قراءة أهل المدينة والأكْمَهِ في القراءة فبتشديد (إنَّ) والرفع في
(هذان) وكذلك قرأ أهْلُ العِراق حمزةُ وعاصم - في رواية أبي بكر بن عياش والمدنيونَ.
ورُويِ عَنْ عاصم : إِنْ هذان بتخفيف (إنْ) ، ويُصَدِّق ما قرأه عاصم
في هذه القراءة ما يُرْوى عَنْ أُبَيٍّ فَإنهُ قرأ : ما هذان إِلَّا سَاحِرَانِ ، ورُوِيَ أيضاً
عنه أنه قرأ : إنْ هَذَان إِلا سَاحِرانِ ، ورويت عن الخليل أيضاً : إنْ هذانْ
لَسَاحِرَان - بالتخفيف -.
والإجماع أنه لم يكن أحد بالنحو أعلم من الخليل.
وقرأ أبو عمرو وعيسى بن عمَر : إنَّ هَذَيْن لَسَاحرانِ ، بتشديد " إِنَّ " ونصب هذين.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { إِنْ هذان } : اختلف القُرَّاءُ في هذه الآيةِ الكريمة : فقرأ ابن كثيرٍ وحدَه « إنْ هذانِّ » بتخفيف إنْ ، والألفِ ، وتشديدِ النون . وحفصٌ كذلك إلاَّ أنه خَفَّف نونَ « هذانٍ » . وقرأ أبو عمرو « إنَّ » بالتشديد « هذين » بالياء وتخفيفِ النون . والباقون كذلك إلاَّ أنهم قَرَؤوا/ « هذان » بالألف.
فأَمَّا القراءةُ الأولى وهي قراءةُ ابنِ كثير وحفص فأوضحُ القراءاتِ معنىً ولفظاً وخَطَّاً؛ وذلك أنهما جعلا « إنْ » المخففةَ من الثقيلة فَأُهْمِلَتْ ، ولَمَّا أُهْمِلَتْ كما هو الأفصحُ مِنْ وجهيها خِيْفَ التباسُها بالنافية فجيء باللامِ فارقةً في الخبر . ف « هذان » مبتدأٌ ، و « لَساحران » خبرُه ، ووافَقَتْ خَطَّ المصحفِ؛ فإن الرسم « هذن » بدونِ ألفٍ ولا ياءٍ وسيأتي بيانُ ذلك.
وأمَّا تشديدُ نونِ « هذان » فعلى ما تقدَّم في سورةِ النساءِ ، وقد أَتْقَنتُ ذلك هناك.
وأمَّا الكوفيون فيزعمون أنَّ « إنْ » نافيةٌ بمعنى ما ، واللامُ بمعنى إلاَّ ، وهو خلافٌ مشهورٌ وقد وافقَ تخريجُهم هنا قراءةَ بعضِهم « ما هذانِ إلاَّ ساحران ».
وأمَّا قراءةُ أبي عمروٍ فواضحةٌ من حيث الإِعرابُ والمعنى . أمَّا الإِعرابُ ف « هذَيْن » اسمُ « إنَّ » وعلامةُ نصبِه الياءُ . و « لَساحِران » خبرُها ، ودخَلَتِ اللام توكيداً . وأمَّا مِنْ حيث المعنى : فإنَّهم أَثْبتوا لهما السحرَ بطريق تأكيديٍّ من طرفيه ، ولكنهم استشكلُوها من حيث خَطُّ المصحفِ؛ وذلك أنَّ رَسْمَه « هذن » بدونِ ألفٍ ولا ياءٍ ، فإثباتُه بالياءِ زيادةٌ على خطِّ المصحفِ . قال أبو إسحاق : « لا أُجيز قراءةَ أبي عمرو لأنَّها خلافُ المصحفِ » . وقال أبو عبيد : « رأيتُهما في الإِمام مصحفِ عثمان » هذن « ليس فيها ألفٌ ، وهكذا رأيتُ رفعَ الاثنين في ذلك المصحفِ بإسقاط الألفِ ، وإذا كتبوا النصبَ والخفضَ كتبُوه بالياء ، ولا يُسْقِطونها ».
قلت : وهذا لا ينبغي أَنْ يُرَدَّ به على أبي عمرو ، وكم جاء في الرسم أشياءُ خارجةٌ عن القياسِ ، وقد نَصُّوا هم أنه لا يجوزُ القراءةُ بها فليكنْ هذا منها ، أعني ممَّا خَرَجَ عن القياس . فإن قلتَ : ما نَقَلْتَه عن أبي عبيد مشتركُ الإِلزامِ بين أبي عمروٍ وغيرِه ، فإنهم كما اعترضوا عليه بزيادةِ الياء يُعْترض عليهم بزيادةِ الألفِ : فإنَّ الألفَ ثابتةٌ في قراءتِهم ، ساقطةٌ من خَطِّ المصحفِ . فالجواب ما تقدَّم مِنْ قولِ أبي عبيدٍ أنهم رآهم يُسْقِطون الألفَ مِنْ رفع الاثنين ، فإذا كتُبوا النصبَ والخفضَ كتبُوه بالياء.
وذهب جماعةٌ منهم عائشةُ رضي الله عنها وأبو عمروٍ إلى أن هذا ممّا لَحَنَ فيه الكاتبُ وأُقيم بالصواب.
يَعْنُون أنه كان مِنْ حقه أن يكتبَه بالياءِ فلم يفعلْ ، فلم يقرَأْه الناسُ إلاَّ بالياءِ على الصوابِ.
وأمَّا قراءةُ الباقين ففيها أوجه ، أحدُها : أن « إنَّ » بمعنى نَعَمْ ، و « هذان » مبتدأٌ ، و « لَساحران » خبرُه ، وكَثُرَ ورودُ « إنَّ » بمعنى نعم وأنشدوا :
3297 بَكَرَ العَواذِلُ في المَشِيْ . . . بِ يَلُمْنَني وأَلوْمُهُنَّهْ
ويَقلْن شَيْبٌ قد عَلا . . . كَ وقد كَبِرْتَ فقلتُ إنَّهْ
أي : فقلت : نَعَمْ . والهاءُ للسَّكْتِ . وقال رجلٌ لابن الزبير : لَعَن اللهُ ناقةً حَمَلَتْني إليكَ . فقال : « إنَّ وصاحبَها » أي : نعم . ولَعَنَ صاحبَها . وهذا رأيُ المبردِ وعلي بن سليمان في آخرين . وهو مردودٌ من وجهين ، أحدهما : عدمُ ثبوتِ « إنَّ » بمعنى نعم ، وما أوردُه مُؤَوَّلٌ : أمَّا البيتُ فإنّ الهاءَ اسمُها ، والخبرَ محذوفٌ لفهمِ المعنى تقديرُه : إنه كذلك . وأمَّا قولُ ابنِ الزبير فذلك مِنْ حَذْفِ المعطوفِ عليه وإبقاءِ المعطوف وحَذْفِ خبر « إنَّ » للدلالةِ عليه ، تقديره : إنَّها وصاحَبها ملعونان ، وفيه تكلُّفٌ لا يَخْفَى والثاني : دخولُ اللامِ على خبرِ المبتدأ غيرِ المؤكَّد ب « إنَّ » المكسورةِ ، لأَنَّ مثلَه لا يقعُ إلاَّ ضرورةً كقولِه :
3298 أمُّ الحُلَيْسِ لَعَجُوْزٌ شَهْرَبَهْ . . . تَرْضَى من اللحمِ بعظمِ الرَّقَبَهْ
وقد يُجاب عنه : بأنَّ « لَساحِران » يجوزُ أَنْ يكونَ خبرَ مبتدأ محذوفٍ دَخَلَتْ عليه هذه اللامُ تقديرُه : لهما ساحران . وقد فعل ذلك الزجاج كما ستأتي حكايتُه عنه.
الثاني : أنَّ اسمَها ضميرُ القصةِ وهو « ها » التي قبل « ذان » وليست ب « ها » التي للتنبيهِ الداخلةِ على أسماءِ الإِشارةِ ، والتقدير : إنَّ القصةَ ذانِ لساحران . وقد رَدُّوا هذا من وجهين ، أحدهما : من جهةِ الخَطِّ ، وهو أنه لو كان كذلك لكان ينبغي أن تُكتبَ « إنها » فيصِلوا الضميرَ بالحرفِ قبلَه كقوله تعالى : { فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار } [ الحج : 46 ] فكَتْبُهم إياها مفصولةً من « إنَّ » متصلةً باسمِ الإِشارة يمنع كونَها ضميراً ، وهو واضح . الثاني : أنَّه يؤدِّي إلى دخولِ لامِ الابتداءِ في الخبرِ غيرِ المنسوخِ . وقد يُجاب عنه بما تقدَّم.
الثالث : أنَّ اسمَها ضميرُ الشأنِ محذوفٌ ، والجملةُ من المبتدأ والخبرِ بعدَه في محلِّ رفعٍ خبراً ل « إنَّ » ، التقديرُ : إنَّه ، أي : الأمرُ والشأنُ . وقد ضُعِّفَ هذا بوجهين ، أحدهما : حَذْفُ اسمِ « إن » ، وهو غيرُ جائزٍ إلاَّ في شعرٍ ، بشرطِ أَنْ لا تباشرَ « إنَّ » فعلاً كقولِه :
3299 إنَّ مَنْ يَدْخُلِ الكنيسةَ يوماً . . . يَلْقَ فيها جَآذراً وظِباءَ
والثاني : دخولُ اللام في الخبرِ.
وقد أجابَ الزجَّاج بأنها داخلةٌ على مبتدأ محذوفٍ تقديرُه : لهما ساحران . وهذا قد استحسنه شيخُه المبردُ ، أعني جوابَه بذلك.
الرابع : أنَّ « هذان » اسمُها ، و « لَساحران » خبرُها . وقد رُدَّ هذا بأنه كان ينبغي أَنْ يكونَ « هذين » بالياءِ كقراءةِ أبي عمرو.
وقد أُجيب عن ذلك : بأنه على لغةِ بني الحارثِ وبين الهُجَيْم وبني العَنْبر وزُبَيْد وعُذْرَة ومُراد وخَثْعَم . وحكى هذه اللغةَ الأئمةُ الكبارُ كأبي الخَطَّاب وأبي زيد الأنصاري والكسائي . قال أبو زيد : « سمعتُ من العربِ مَنْ يَقْلِبُ كلَّ ياءٍ ينفتح ما قبلها ألفاً » ، يجعلون المثنى كالمقصورِ فيُثْبِتون ألفاً في جميع أحواله ، ويُقَدِّرون إعرابَه بالحركاتِ ، وأنشدوا قولَه :
3300 فأَطْرَق إطْراقَ الشُّجاعِ ولو يرى . . . مَسَاغاً لِناباه الشُّجاعُ لصَمَّما
أي : لنابَيْه . وقولَه :
3301 إنَّ أباها وأبا أباها . . . قد بَلَغا في المجدِ غايتاها
أي : غايتيهما ، إلى غير ذلك من الشواهد.
وقرأ ابن مسعود : « أنْ هذان ساحِران » بفتح « أَنْ » وإسقاط اللامِ : على أنها وما في حَيِّزها بدلٌ من « النجوى » كذا قاله الزمخشري ، وتبعه الشيخ ولم ينكره . وفيه نظرٌ : لأنَّ الاعتراضَ بالجملة القولية بين البدلِ والمبدلِ منه لا يَصِحُّ . وأيضاً فإنَّ الجملةَ القوليةَ مفسرةٌ للنجوى في قراءةِ العامَّة ، وكذا قاله الزمخشريُّ أولاً فكيف يَصحُّ أَنْ يُجْعَلَ « أنْ هذان ساحران » بدلاً من « النجوى »؟.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(3/361)


فهذه الرواية فيه.
فأمااحتجاج النحويين فاحتجاج أبي عمرو في مخالفته المصحف في
هذا أنهُ رُوِيَ أنه من غَلطِ الكاتب ، وأن في الكتاب غَلَطاً سَتُقِيمُه العربُ
بألْسِنَتِها ، يروى ذلك عَنْ عُثْمَانَ بنِ عفَانِ وَعَنْ عائشة - رحمهما اللَّه -.
وأما الاحتجاج في أنَّ هذان بتشديد أن ورفع هذانِ فحكى أبُو عُبَيْدَة عن
أبي الخطاب وهو رأس من رؤساء الرواة ، أنها لغة لِكنَانَة ، يجعلون ألف
الاثنين في الرفع والنَصْبِ والخفض على لفظ واحدٍ ، يقولون أتاني الزيدان.
ورأيت الزيْدَانِ ، ومررت بالزَيْدَانِ ، وهؤلاء ينشدون :
فأَطْرَقَ إطْراقَ الشُّجاعِ ولو رَأَى . . . مَساغاً لِنابَاه الشُّجاعُ لَصَمَّما
وهؤلاء أيضاً يقولون : ضَرَبتُه بين أذُناه ، ومن يشتري مني الخُفَّانِ
وكذلك روى أهل الكوفة أنها لغة لبني الحرث بن كعْبٍ.
قال النحويون القُدَمَاء : ههنا هاء مضمرة ، المعنى إنهُ هذانِ لَسَاحِرَانِ ،

(3/362)


وقالوا أيضاً أن معنى (إن) معنى (نَعَمْ) ، المعنى نعم هَذان لساحِرَانِ.
وينشدون :
ويَقُلْنَ شَيْبٌ قدْ علَّا . . . كَ وقد كَبِرْتَ فقلتُ إنَّهْ
ويَحتحون بأن هذه اللامَ - أصْلُهَا - أن تقع في الابتداء ، وأن وُقُوعَها في
الخبر جائز ، وينشدون في ذلك :
خالي لأَنتَ ومَن جَريرٌ خالُه . . . يَنَلِ العَلاءَ ويُكْرِمِ الأَخْوالا
وأنشدوا أيضاً :
أُمُّ الحُلَيْسِ لَعَجُوزٌ شَهْرَبَهْ . . . تَرْضى من الشاةِ بِعَظْمِ الرَّقَبَهْ
قالوا : المعنى لأنت خالي ، والمعنى لأم الحليس عجوز.
وقال الفراء فى هذا : إنهم زادوا فيها النون في التثنية وتركوا الألف على حالها في الرفع والنصب والجر كما فعلوا في الذي ، فقالوا الَّذِينَ في الرفع والنصب والجر.
فهذا جميع ما احتج به النحويون.
والذي عندي - واللَّه أعلم - وكنت عرضته على عالِمَيْنَا - محمد بن يزيد
وعلى إسماعيل بن إسحاق بن حماد بن زيد القاضي فقبلاه وذكرا أنَّه أجود ما
سمعاه في هذا ، وهو " أنَّ) قد وقعت موقع " نعم " ، وأن اللام وقعت مَوْقِعَهَا ، وأن المعنى هذان لَهما ساحِرَانِ .

(3/363)


والذي يلي هذه في الجودة مذهب بني كنانة في ترك ألف التثنية على
هيئة واحدة ، لأن حق الألف أنْ تَدُل على الاثنين ، وكان حقها ألا تتغيَّر كما لم تتغير ألف رحى وعضى ، ولكن كان نقلها إلى الياء في النصْبِ والخفض
أبين وأفْضَلُ للتمييز بين المرفوع والمنصوب والمجرور.
فأمَّا قراءةَ عيسى بن عمر وأبي ععرو بن العلاء فلا أجيزها لأنها خلاف المصحف ، وكل ما وجدته إلى موافقة المصحف أقرب لم أجِزْ مخَالفَتَه ، لأن اتباعه سنة.
وما عليه أكثر القراء ، ولكني أسْتَحسِنُ (إنْ هذان لساحران) بتخفيف (إنْ) وفيه إمامان : عاصمٌ والخليلُ ، وموافقة أُبيٍّ في المعْنَى وأن خالفه اللفظ ، ويستحسن أيضاً (إنَّ هذان) بالتشديد ، لأنه مذهب أكثر القراء ، وبه يقرأ وهو قوي في العربية.
* * *
قوله تعالى : (وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى).
معناه في قول النحويين بجماعتكم الأشراف . والمثلى تأنيث الأمثل.
ومعنى الأمثل والمثلى معنى " ذوُ الفضل " الذي يستحق أن يقال فيه هذا
أمثل قَوْمِه.
وفي التفسير : (بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى) بأشْرَافكم ، والعرب تقول للرجل
الفاضل هذا طَرِيقةُ قوْمِه ، وَنَظِيرَة قومِه ، ونَظُورَة قومه.
كل هذا للرجل الفاضِل.
وإنما تأويله هذا الذي ينبغي أن يجعلَهُ قومُه قدوةً ويسْلكوا طريقته.
والذي قال أيضاً : هذا نظورة قومه ونظيرة قومه ، معناه هذا الذي ينبغي أن يَنْظُر إليه قومُه وأن يتبعوه.
والذي عندي - واللَّه أعلم - أن في الكلام محذوفاً يدل عليه ما بقي.
إنما المعنى يذهبا بأهل طَرِيقتكم المثلى ، كما قال اللَّه عزَّ وجلَّ :

(3/364)


(وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا) ، معناه وَاسأل أهل القرية ، وكذلك قول العرب : هذا طريقة قومه معناه هذا صاحب طريقة قومه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسي).
. تأويله اخترتك لإقَامَةِ حُجتِي ، وجَعَلْتكَ بَيْني وبين خَلْقِي حتى صرت
في الخطاب عني والتبليغ عني بالمنزلة التي أكون بها لو خاطبتهم واحتججت
عليهم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (64)
وقرئتْ (فاجمعوا كيدكم) ، فمن قرأ فأجمِعُوا بقطع الألف ، فمعناه ليكن
عزمكم - كلكم على الكيد مُجْمَعاً عليه أي لا تَختلِفُوا فتخْتَلوا.
ومن قرأ (فاجمعوا) فمعناه جيئوا بكل كيد تقدرون عليه ، ولا تبقوا مِنْهُ شيئاً.
وقوله : (ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا).
معناه ائتوا الموضع الذي تجتمعون فيه لِعيدِكم وصَلَاتِكِم ، يقال : أتَيتَ
صَفًّا بمعنى أتيت المُصَلَّى ، ويجوز أن يكون (ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا) ثم ائتوا مصطفين
مجتمعين ليكون أنظمَ لأموركم ، وأشد لهيئتكم.
(وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى).
ومعنى (مَنْ اسْتَعْلَى) من علا بالغلبة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66)
ولم يَقُل ههنا " فَأَلْقَوْا " فإذا حبالهم ، لأنه قد جاء في موضع آخر ، (فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ).
ويجوز في عِصِيٍّ عُصِيٍّ ، والكسر أكثر ، والأصْلُ

(3/365)


الضم إلا أن الكسر يثقل بعد الضم فلذلك اختير كسر العين.
ويروى في التفسير أنَّ السَّحرةَ كانوا يومئذٍ سبعين ألف ساحِرٍ معهم
سبعون ألف حَبْل وَسَبْعون ألف عصا (1) ، فأوحى الله إلى موسى حين خُيِّلَ إليه من سِحرهم أنها تسعى أن يُلْقِيَ عَصَاة فإذا هي ثعبان مُبين فَاغِر فَاه فابتلع جَمِيعَ تلك الحبال ، وقرئت (فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى).
وموضع أن على هذه القراءة رفع ، المعنى يخيل إليه سَعْيُها ، ويقرأ
" تُخَيَّلُ " بالتاء ، وموضع أن عَلَى هذه القراءة يجوز أن يكون نصباً ، ويجوز أن يكون رفعا ، فأمَّا النصب فعلى معنى يخيل إليه أنها ذات سَعْي ويجوز أن
يكون مرفوعاً على البدل على معنى يخيل إليه سِعَايتُها ، وأبدل أنها تسعى من
المضمر في يخيل لاشتماله على المعنى ، ويكون إليه الخبر على هذا
التقدير.
ومثل ذلك ما حكاه سيبويه يقال : مالي بِهِمْ عِلْم أمْرُهُم ، أي مالي علم
بِأمرِهم ، ومثل ذلك من الشعر :
تَذَكَّرَتْ تَقْتَدَ بَرْدَ مائها
المعنى تَذَكَّرَتْ بَرْدَ مَاء تَقْتد (1).
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { فَإِذَا حِبَالُهُمْ } : هذه الفاءُ عاطفةٌ على جملةٍ محذوفةٍ دَلَّ عليها السياقُ . والتقدير : فَأَلْقَوْا فإذا . و « إذا » هذه التي للمفاجَأة . وفيها ثلاثة أقوال تقدَّمت . أحدُها : أنها باقيةٌ على ظرفيةِ الزمان . الثاني : أنها ظرفُ مكانٍ . الثالث : أنها حرفٌ.
قال الزمخشري : « والتحقيق فيها أنها الكائنةُ بمعنى الوقتِ الطالبةُ ناصباً لها ، وجملةً تُضاف إليها خُصَّتْ في بعضِ المواضع بأن يكونَ الناصبُ لها فعلاً مخصوصاً ، وهو فِعْلُ المفاجأةِ ، والجملةٌ ابتدائيةٌ لا غير . فتقديرُ قولِه تعالى { فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ } : ففاجأ موسى وقتَ تخييلِ سَعْيِ حبالِهم وعِصيِّهم ، [ وهذا تمثيل . والمعنى : على مفاجأته حبالُهم وعصيُهم مُخَيِّلَةً إليه السَّعْيَ » انتهى ].
قال الشيخ : « قوله » إنَّها زمانية « مرجوحٌ ، وهو مذهب الرِّياشي . وقوله » الطالبةُ ناصباً « صحيحٌ . وقوله : » وجملةٌ تضاف إليها « ليس صحيحاً عند بعض أصحابنا لأنها : إمَّا أَنْ تكونَ هي خبراً لمبتدأ ، وإمَّا أَنْ تكونَ معمولةً لخبر المبتدأ . وإذا كان كذلك استحال أَنْ تُضافَ إلى الجملةِ؛ لأنها : إمَّا أَنْ تكونَ بعضَ الجملةِ ، أو معمولةً لبعضِها فلا يمكن الإِضافةُ . وقوله : » خُصَّتْ في بعض المواضع إلى آخره « قد بَيَّنَّا الناصبَ لها . وقولُه : » والجملةُ بعدها ابتدائيةٌ لا غير « هذا الحَصْرُ ليس بصحيحٍ بل قد جَوَّز الأخفشُ ، ونصَّ على أن الجملةَ الفعليةَ المقترنةَ ب » قد « تقع بعدَها نحو » خرجْتُ فإذا زيدٌ قد ضربه عمروٌ « برفعِ » زيد « ونصبِه على الاشتغال . وقوله : » والمعنى : على مفاجأته حبالُهم وعِصِيُّهم مخيِّلةً إليه السَّعْيَ « فهذا عكسُ ما قُدِّر بل المعنى : على مفاجأةِ حبالِهم وعصيِّهم إياه . فإذا قتل : » خَرَجْتُ فِإذا السَّبُعُ « فالمعنى : أنه فاجأني السَّبُعُ وهجم ظهورُه » انتهى ما رَدَّ به.
قوله وما رَدَّ به عليه غيرُ لازمٍ له ، لأنه يَرُدُّ عليه بقولِ بعض النحاةِ ، وهو لا يلتزم ذلك القولَ حتى يَرُدَّ عليه لا سيما إذا كان المشهورُ غيرَه ، ومقصودُه تفسيرُ المعنى.
وقال أبو البقاء : الفاءُ جوابُ ما حُذِف ، تقديرُه « فَأَلْقَوْا فإذا » ، ف « إذا » في هذا ظرفُ مكانٍ ، العاملُ فيه « أَلْقَوْ » . وفي هذا نظر؛ لأنَّ « أَلْقَوْا » هذا المقدَّرَ لا يَطْلُبُ جواباً حتى يقول : الفاءُ جوابُه ، بل كان ينبغي أَنْ يقولَ : الفاءُ عاطفةٌ هذه الجملةَ الفجائية على جملةٍ أخرى مقدرةٍ . وقولُه « ظرف مكانٍ » ، هذا مذهبُ المبردِ ، وظاهرُ قولِ سيبويه أيضاً ، وإن كان المشهورَ بقاؤها على الزمان . وقوله : « إن العامل فيها » فأَلْقَوا « لا يجوز لأنَّ الفاءَ تمنع من ذلك.
هذا كلامُ الشيخ ثم قال بعده : » ولأنَّ « إذا » هذه إنما هي معمولةٌ لخبرِ المبتدأ الذي هو « حبالُهم وعِصٍيُّهم » إن لم يجَعلْها هي في موضع الخبر؛ لأنه يجوزُ أن/ يكونَ الخبرُ « يُخَيَّل » ، ويجوز أَنْ تكونَ « إذا » و « يُخَيَّل » في موضعِ الحال.
وهذا نظير : « خرجْتُ فإذا الأسدُ رابضٌ ورابضاً » فإذا رَفَعْتَ « رابضاً » كانت « إذا » معمولةً له ، والتقدير : فالبحضرة الأسدُ رابضٌ ، أو في المكان . وإذا نَصَبْتَ كانت « إذا » خبراً . ولذلك يُكْتفى بها وبالمرفوع بعدها كلاماً ، نحو : « خَرَجْتُ فإذا الأسدُ ».
قوله : { يُخَيَّلُ إِلَيْهِ } قرأ العامَّة « يُخَيَّل » بضمِّ الياء الأولى وفتحِ الثانية مبنياً للمفعول . و « أنَّها تَسْعى » مرفوعٌ بالفعلِ قبلَه لقيامِه مقامَ الفاعلِ تقديرُه : يُخَيَّل إليه سَعْيُها . وجوَّز أبو البقاء فيه وجهين آخرين : أحدهما : أَنْ يكونَ القائمُ مَقامَ الفاعلِ ضميرَ الحبالِ والعِصِيِّ ، وإنما ذُكِّرَ ولم يَقُلْ ِ « تُخَيَّل » بالتاء مِنْ فوقُ؛ لأنَّ تأنيثَ الحبالِ غيرُ حقيقي . الثاني : أنَّ القائمَ مقامَ الفاعلِ ضميرٌ يعودُ على المُلْقى ، ولذلك ذُكِّرَ . وعلى الوجهين ففي قولِه « أنها تسعى » وجهان ، أحدُهما : أنَّه بدلُ اشتمالٍ من ذلك الضمير المستترِ في « يُخَيَّل » . والثاني : أنه مصدرٌ في موضع نصبٍ على الحالِ من الضميرِ المستتر أيضاً . والمعنى : يُخَيَّل إليه هي أنها ذاتُ سَعْيٍ . ولا حاجةَ إلى هذا ، وأيضاً فقد نَصُّوا على أنَّ المصدرَ المؤول لا يقع موقعَ الحالِ . لو قلت : « جاء زيدٌ أَنْ يركضَ » تريد ركضاً ، بمعنى ذا ركض ، لم يَجُزْ.
وقرأ ابن ذكوان « تُخَيَّلُ » بالتاء من فوق . وفيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنَّ الفعلَ مُسْنَدٌ لضميرِ الحبالِ والعِصِيِّ أي : تُخَيَّلُ الحبالُ والعِصِيُّ ، و « أنَّها تَسْعَى » بدلُ اشتمال من ذلك الضميرِ . الثاني : كذلك إلاَّ أنَّ « أنَّها تَسْعى » حالٌ أي : ذات سعي كما تقدَّم تقريرُه قبل ذلك . الثالث : أن الفعلَ مسندٌ لقولِه « أنَّها تَسْعى » كقراءةِ العامَّةِ في أحدِ الأوجهِ ، وإنما أَنَّثَ الفعلَ لاكتسابِ المرفوعِ التأنيثَ بالإِضافة؛ إذا التقديرُ : تُخَيَّلُ إليه سعيُها فهو كقوله :
3302 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . شَرِقَتْ صدرُ القناةِ من الدمِ
[ وقوله تعالى : ] { فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } [ الأنعام : 160 ].
وقرأ أبو السَّمَّال « تَخَيَّلُ » بفتح التاءِ والياء مبنياً للفاعلِ ، والأصلُ : تَتَخَيَّلُ فَحَذَفَ إحدى التاءَيْن نحو : { تَنَزَّلُ الملائكة } [ القدر : 4 ] ، و « أنَّها تسعى » بدلُ اشتمالٍ أيضاً من ذلك الضمير . وجَوَّز ابنُ عطيةَ أيضاً أنه مفعولٌ مِنْ أجله . ونقل ابنُ جُبارة الهُذَليُّ قراءة أبي السمَّال « تُخَيِّل » بضمِّ التاء مِنْ فوقُ وكسر الياء ، فالفعلُ مسندٌ لضميرِ الحِبال ، و « أنها تسعى » مفعولٌ أي : تُخَيِّلُ الحبالُ سَعْيَها . ونَسَبَ ابنُ عطيةَ هذه القراءةَ للحسنِ وعيسى الثقفيِّ.
وقرأ أبو حيوةَ « نُخَيِّل » بنونِ العظمة ، و « أنها تسعى » مفعولٌ به أيضاً على هذه القراءةِ.
وقرأ الحسنُ والثقفيُّ « عُصِيُّهم » بضم العين حيث وقع ، وهو الأصلُ . وإنما كُسِرَت العينُ إتباعاً للصادِ وكُسِرت الصادُ إتباعاً للياء . والأصلُ عُصُوْوٌ بواوين فَأُعِلَّ كما ترى بقَلْب الواوين ياءَيْن استثقالاً لهما ، فكُسِرَت الصادُ لتصِحَّ ، وكُسِرَتِ العينُ إتباعاً . ونقل صاحبُ « اللوامح » أنَّ قراءةَ الحسنِ « عُصْيهُم » بضم العين وسكون الصاد وتخفيف الياء مع الرفع ، وهو أيضاً جمع كالعامَّة ، إلاَّ أنه على فُعْلٍ كحُمْرٍ ، والأولُ على فُعُوْل كفُلُوس.
والجملةُ من « يُخَيَّل » يُحتمل أَنْ تكونَ في محلِّ رفع خبراً ل « هي » على أن « إذا الفجائية » فَضْلَةٌ ، وأن تكونَ في محلِّ نصبٍ على الحالِ ، على أنَّ « إذا » الفجائية هي الخبر . والضميرُ في « إليه » الظاهرُ عَوْدُه على موسى . وقيل : يعود على فرعون ، ويَدُلُّ للأولِ قولُه تعالى : { فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً موسى }. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(3/366)


وقوله عزَّ وجلَّ : (وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69)
(إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ)
ويقرأ (كَيْدُ سِحْرٍ) ، ويجوز إنما صنعوا كيدُ سَاحِرٍ ، ويجوز ُكَيْدَ ساحِرٍ
بنصب الدال . فمن قرأ " أنما : نصب " أنَّمَا " على معنى تلقَفْ مَا صَنَعُوا لِأنَّ ما صنعوا كيد ساحِر ، ولا أعلم أحداً قرأها هنا " أنَّمَا " ، والقراءة بالكسر ، وَهُوَ أبْلَغُ في المَعْنَى.
فأمَّا رفع كيد فعلى معنى أن الذي صَنَعُوه كَيدُ سَاحِرٍ على خبر إنَّ
وَ " مَا " اسم ، ومن قرأ كيدَ ساحِرٍ جعل " ما " تمنع " إِنَّ " العَمَل ، وتسَوِّغُ للفِعْلِ أن يكون بعدها ، وينتصبُ " كيْد ساحر " بـ صَنعوا ، كما تقول : إنما ضَرَبْتُ زيداً.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى).
قالوا معناه حيث كان ، وقيل معناه حيث كان الساحر يجبُ أن يُقَتَلَ.
وكذلك مذهب أهل الفقه في السحرة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67)
وأصلها خِوْفَة ، ولكن الواو قلبت ياء لانكسار ما قبلها.
(وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا).
و " تَلْقَفُ " القراءة بالجزم جواب الأمر ، ويجوز الرفع على معنى الحال.
كأنه قال ألقها مُتَلَقِّفَةً ، على حال مَتَوقِّعَةٍ ، ولم يقرأ بها ، ولا ينبغي أن يقرأ بما
لم تتقدم به قراءة (1).
وقوله تعالى : (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70)
(سُجَّدًا) منصوب على الحال ، وهي أيضاً حال مقدرة ، لأنهم خروا
وليسوا ساجدين ، إنما خروا مقدرين السجود.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { تَلْقَفْ } : قرأ العَامَّةُ بفتح اللام وتشديد القافِ وجزمِ الفاءِ على جواب الأمر . وقد تقدم أنَّ حَفْصاً يقرأ « تَلْقَفْ » بسكون اللامِ وتخفيفِ القاف . وقرأ ابن ذكوان هنا « تَلْقَفُ » بالرفع : إمَّا على الحالِ ، وإمَّا على الاستئناف . وأَنَّثَ الفعلَ في « تَلْقَف » حَمْلاً على معنى « ما » لأنَّ معناها العصا ، ولو ذُكِّر ذهاباً إلى لفظِها لجاز ، ولم يُقرأ به.
[ وقال أبو البقاء : « يجوز أَنْ يكونَ فاعلُ » تَلْقَف « ضميرَ موسى » فعلى هذا يجوز أَنْ يكونَ « تلقفُ » في قراءة الرفع حالاً من « موسى » . وفيه بُعْدٌ ].
قوله : { كَيْدُ سَاحِرٍ } العامَّةُ على رَفْع « كَيْدُ » على أنه خبرُ « إنَّ » و « ما » موصولةٌ . و « صَنَعُوا » صلَتُها ، والعائدُ محذوفٌ ، والموصولُ هو الاسمُ ، والتقدير : إنَّ الذي صنعوه كيدُ ساحرٍ . ويجوز أَنْ تكونَ « ما » مصدريةً فلا حاجةَ إلى العائد ، والإِعرابُ بحالِه . والتقدير : إنَّ صُنْعَهم كيدُ ساحرٍ.
وقرأ مجاهد وحميد وزيد بن على « كَيْدَ » بالنصب على أنه مفعولٌ به ، و « ما » مزيدة مُهَيِّئَةٌ.
وقرأ الأخَوان « كيدُ سِحْر » على أنَّ المعنى : كيدُ ذوي سِحْرٍ ، أو جُعِلوا نفسَ السحر مبالغةً ، أو تبيينٌ للكيد؛ لأنه يكون سِحْراً وغيرَ سحرٍ ، كما تُمَيَّزُ سائرُ الأعدادِ بما يُفَسِّرها نحو « مئة درهمٍ ، وألف دينار » . ومثلُه : علمُ فقه ، وعلمُ نحو . وقال أبو البقاء : « كيدُ ساحر » إضافةُ المصدر إلى الفاعلِ و « كيدُ سِحْر » إضافةُ الجنسِ إلى النوع «.
والباقون » ساحر « . وأفرد/ ساحراً ، وإنْ كان المرادُ به جماعةً . قال الزمخشري : » لأن القَصْدَ في هذا الكلامِ إلى معنى الجنسية ، لا إلى معنى العددِ ، فلو جمِع لخُيِّل أنَّ المقصودَ هو العددُ « . اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(3/367)


وقوله : (قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71)
(وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ)
معناه على جذوع النَخِل ، ولكنه جاز أن تقع " في " هَهُنَا لأنه في الجذع
على جهة الطول ، والجذع مُشْتَمِل عليه فقد صار فيه.
قال الشاعر :
وهم صَلَبُوا العَبْدِيَّ في جِذْعِ نَخْلَةٍ . . . فلا عَطَسَتْ شَيْبانُ إِلا بأَجْدَعا
قوله : (وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى).
" أيُّ " رفعت لأنها وضعت موضع الاستفهام ، ولا يعمل ما قبل " أيُّ " فيهَا
لأن ما قبلها خبر وهي استفهام ، فلو عمل فيها لجاز أن يعمل فيما بعد الألف
في قولك : قد عَلِمْتُ أزَيد في الدار أم عمرو.
* * *
وقوله : (قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72)
موضع الذي خفض ، المعنى لن نؤثرك على اللَّه ، ويجوز أن يكون
" الّذي " خَفْضاً على القسم ، ويكون المعنى لن نؤثرك على ما جاءنا من
البَيِّناتِ وَاللَّهِ ، أي نحلف باللَّه.
قوله : (فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ).
أي : اصنع ما أنت صانع ، قال أبو ذؤيب :

(3/368)


وعليهما مسرودتان قضاهما . . . داودُ أو صَنَع السَّوابغَ تبَّع
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (إِنَّمَا تَقْضِي هَذه الحَياةَ الدُّنْيَا).
القراءةُ بالنصب - الحيَاةَ الدُّنيا - ويجوز إنما تقضي هذه الحياة الدنيا
بالرفع ، تأويله أن الذي تقضيه متاع الحياة الدنيا ، ولا أعلم أحداً قرأها
بالرفع.
وقوله : (إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73)
(وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ)
موضع " ما " نصب ، المعنى لتغفر لنا خطايانا وإكراهك إيانا على السحر.
ويروى أن فرعون أكرههم على تعلم السحر.
ومعنى : (وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأبْقَى).
أي الله خير لنا منك وأبقى عذاباً لأنهم قالوا هذا لَهُ جَوابَ قوله :
(وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77)
(فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا).
ويجوز يابِساً وَيَبْساً ، بتسكين الباء ، فمن قال يابساً جعله نعتاً للطريق.
ومن قال يبَساً فإنه نعته بالمصدر المعنى طريقاً ذا يَبَسٍ ، يقال يبس الشيء
وَييْبِسُ يَبَساً ، ويُبْساً وَيبْساً ، ثلاث لغات في المصدر.
وقوله : (لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى).
ويجوز : لا تَخَفْ دَرَكاً وَلَا تَخْشى ، فمن قرأ (لا تخاف) فالمعنى لست

(3/369)


تخاف دَرَكاً ، ومن قال لا تخفْ دَرَكاً فهو نهي عن أن يخاف ، ومعناه لا تخف
أن يدركك فرعونُ ولا تخشىْ الغرقَ.
* * *
(فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78)
ويقرأ فاتبَعَهُمْ فرعَونُ بجنوده ، فمن قرأ (فَأَتْبَعَهُمْ) ففيه دليل أنه أتبَعَهُم
ومعه الجنود ، ومن قرأ (فاتَّبَعَهُمْ) فرعون بجنوده فمعناه ألْحَقَ جُنُودَهُ بِهِم . وجائز أن يكون معهم على ذا اللفظ وجائز ألا يكون إلَّا أنه قد كان معهم.
(فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ).
اليم : البحر ، والمعنى فغشيهم من اليم ما غَرقَهُمْ.
* * *
وقوله : (كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (81)
ويقرأ (فيحُلَّ عليكم غضبي ، وَمَن يَحْلُلْ عليه غضبي.
فمن قرأ (فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ) فمعناه فيجب عليكم ، ومن قرأ (فيحُلَّ عليكم) فمعناه فينزل عليكم.
والقراءة : ومن يَحْلِلْ بكسر اللام أكثر.
(فَقَد هَوَى)
أي هَلكَ وصار إلى الهاوِيةِ ، وهي قَعْرُ نار جَهنَّمَ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى
(82)
أي تاب من ذنبه ، وآمن بربِّه وعمل بطاعتِه ، ثم اهْتَدى ، أي ثم أقام
على إيمانه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى
(84)
(أُولَاءِ) مبني على الكسر ، (عَلَى أَثَرِي) من صلة (أُولَاءِ) ، ويجوز أن يكون

(3/370)


خَبراً بَعْدَ خَبرٍ ، كأنَّه قال : هم على أثري هؤلاء ، والأجود أن يكون صلة.
ورويت أولَايَ على أثري ولا وجه لها ، لأن الياء لا تكون بعد الألف آخرةَ إلا للإضافة نحو هداي ، ولا أعلم أحداً من القراء المشهورين قرأ بها وذكرها
الفراء ، ولا وجه لها.
* * *
قوله : (قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85)
أي ألقينَاهُمْ في فتنة ومِحْنَةٍ ، واختَبرْنَاهُمْ.
(وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ).
قال بعض أهل التفسير : السَّامِرِيُّ عِلْجٌ مِن أهْلِ كِرْمَانَ ، والأكثر في
التفسير أنَّه كان عظيماً من عظماء بني إسرائيل من قبيلة تعرف بالسَّامِرَةِ . وهم إلى هذه الغاية في الشام يعرفون بالسامريين.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86)
(غَضْبَانَ أَسِفًا).
أسِف : شَدِيد الحُزْنِ مع غَضَبِه.
وقوله : (أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ).
القراءة فيها بالكسر في حاء يَحِل ، على معنَى أنه يجب عليكم ، فالضم
يجوز فيها على معنى أن ينزل عليكم غضب من ربكم.
* * *
(قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87)
يجوز الضم والكسر والفتح في الميم . بمُلْكِنَا ، وبِمَلْكِنَا ، وبِمِلْكِنَا.
فأصل الملك السلطان والقدرة ، والمِلْك ما حَوَتْهُ اليَدُ ، والمَلْك المصدَرُ.
تقول : ملكت الشيء أملِكه مَلْكاً.
وقيل في بعض التفسير : ما أخلَفْنَا مَوْعِدَك بأنْ مَلَكْنَا الصوابَ.
وجائز أن يكون ما أخلفنا موعدك بسلطانٍ كان لنا ولا
قدرة ، ثم أخبَروا سبب تأخرهم عنه فقالوا :
(وَلَكِنَّا [حَمَلْنَا] أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ).

(3/371)


ويقرأ (حُمِّلْنَا أَوْزَارًا) ، بتشديد الميم وكسرها ، يعنون بالأوزار حُلِيًا كانوا
أخذوها من آل فرعون حينَ قذفهم البحرُ فألْقَاهُمْ عَلَى سَاحِلهِ ، فأخذوا الذهب والفضة ، وسميت أوزاراً لأن معناهأ الأثام ، وجائز أن يكون سُمِّيَتْ أوزَاراً يعنون بها أثْقَالًا ، لأن الوِزْرَ في اللغة الحِمْلُ ، وسُمِّيَ الإثمُ وِزْراً لأن صاحبه قد حُمِّلَ بها ثقلاً ، قال اللَّه تعالى : (وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3).
فقالوا : حملنا حُلِيًّا فقذفناها في النار ، وكذلك فعل السامِريُّ ، أي ألقى حلْيًّا
كان معه (1).
(فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ
(88)
واختلف في تفسير خوارِه ، فقيل إنه كان يَخُورُ كما يَخورُ الثورُ من
الحيوان ، فإذا خار سجدوا له ، وإذا عاد الخوارُ رَفَعُوا من السجود ، وقال
بعضهم : إنما خَارَ خَوْرَةً واحدةً ، وَدَلِيله : (أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا).
وقال مجاهد : خُوارُه حَفِيفُ الريح إذَا دَخَلَتْ جَوْفَهُ.
وُيرْوى أن هارون عليه السلام مَر بالسَّامِرِيِّ وهو يصنع العجل
فقال له : ما تصنع ؟
قال أصنع ما لا ينفع ولا يَضُر ، وقال : أدْعُ ، فقال هارون اللَّهُمَّ أعْطِه ما يَسألُ كما يُحِبُّ.
فسأل اللَّه عزَّ وجلَّ أن يجعل للعِجْل خُواراً ، والذي قاله مجاهِد من أن خُوارَهُ
حفيفُ الريح فيه ، أسرع إلى القبول لأنه شيء ممكن.
والتفسير الآخر وهو أنه خوار ممكن في محنة اللَّه عزَّ وجلَّ - أن امْتَحَنَ القَوْمَ بذلك ، وليس في خُوارِ صُفْرٍ ما يوجب عبادته لأنهم قد رأوه معمولاً مصنوعاً ، فعبادتهم إياه لو خارَ وتكلَّم كما يتكلَّم الآدمي لم تجب به عبادته.
فقالوا : (هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ).
قيل إن السَّامِرِيَّ نسيَ ما كان عليه من الإيمان ، لأنه نافق لما عبر
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { بِمَلْكِنَا } : قرأ الأخَوان بضم الميم . ونافع وعاصم بفتحها ، والباقون بكسرها : فقيل : لغاتٌ بمعنى واحدٍ كالنَّقْض والنِّقْضِ . ومعناها : القُدْرَةُ والتسلُّطُ . وفرَّق الفارسيُّ وغيرُه بينها فقال : « المضمومُ معناه : لم يكنْ [ لنا ] مُلْكٌ فَنُخْلِفَ موعدَك بسُلْطَانِه ، وإنما فَعَلْناه بنظرٍ واجتهادٍ ، فالمعنى على : أَنْ ليس لهم مُلْكٌ.
كقول ذي الرمة :
3313 لا تُشْتكى سَقْطَةٌ منها وقد رَقَصَتْ . . . بها المفاوِزُ حتى ظهرُها حَدِبُ
أي : لا يقع منها سَقْطَةٌ فتشتكى » . وفتحُ الميمِ مصدرٌ مِنْ مَلَكَ أمرَه . والمعنى : ما فعلناه بأنَّا مَلَكْنا الصوابَ ، بل غَلَبَتْنا أنفسُنا . وكسرُ الميمِ كَثُر فيما تَحُوْزه اليدُ وتحويه ، ولكنه يُسْتعمل في الأمورِ التي يُبْرِمُها الإِنسانُ ومعناها كمعنى التي قبلها . والمصدرُ في هذين الوجهين مضافٌ لفاعلِه ، والمفعولُ محذوفٌ أي : بملكِنا الصوابَ.
قوله : { حُمِّلْنَآ } قرأ نافعٌ وابنُ كثير وابنُ عامر وحفصٌ بضم الحاء وكسر الميم مشددة . وأبو جعفرٍ كذلك إلاَّ أنه خَفَّف الميم ، والباقون بفتحِهما خفيفةَ الميمِ . فالقراءةُ الأولى والثانية نَسَبوا فيهما الفعلَ إلى غيرِهم ، وفي الثالثةِ نَسَبُوه إلى أنفسهم.
و { أَوْزَاراً } مفعولٌ ثانٍ على غيرِ القراءة الثالثة . و { مِّن زِينَةِ } يجوز أَنْ يكونَ متعلقاً ب « حُمِّلْنا » ، وأن يكونَ متعلِّقاً بمحذوفٍ على أنه صفةٌ ل « أَوْزار ».
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(3/372)


البحر ، المعنى فترك ما كان عليه من الإيمان ، وقيل إن السَّامِريَّ قال لهم إن
موسى عليه السلام أراد هذا العجل فنسِيَ وترك الطريق الذي يصل إليه.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (89)
كما قال : (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا).
ويجوز أنْ لا يَرْجعَ بنصب بأن ، والاختيارُ مع رأيت وعلمتَ وَظَنَنْتُ أن لا يفعلُ ، في معنَى قد علمت أنه لايفعَلُ.
* * *
وقوله - جلَّ وعزَّ -: (قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94)
(يا ابنَ أمَّ) بفتح الميم ، وإن شئت (يا ابن أمِّ) - بكسر الميم - وفتحت أم
والموضع موضع جر لأن (ابن) و (أم) جُعلا اسماً واحداً فبنى ابن وأم على
الفتح ، ومن قال (يا ابن أمِّ) أضافه إلى نفسه.
وفيها وجه ثالث " يا ابْنَ أُمِّي لَا تَأخُذْ "
ولكنه لا يقرأ بها . ليست ثابتة الياء في المصحف.
ومثل هذا من الشعر :
يا ابنَ أُمّي ويا شُقَيِّقَ نَفْسِي . . . أَنتَ خَلَّيْتَني لأمْرٍ شَدِيد
ولم يجئ هذا إلا في ابن أم ، وابن عم ، وذلك أنه يقال لمن ليس بأخ
لأمٍّ . ولا بأخ ألبتَّةَ : يا ابن أم ، وكذلك يقال للأجنبي : يا ابن عم ، فلما أزيل عن بابه بني على الفتح ، وإن كان قد يقول القائل لأخيه من أمه أيضاً يا ابن أمَّ ، فإنما أدخل أخاه في جملة من يقول له يا ابن أمَّ.
وقد قيل في هارون إنَّه لم يَكُنْ أخَا موسى لأمِّه - واللَّه أعلم - .

(3/373)


قوله : (قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95)
معنى ما خطبك ما أمرك الذي تخاطب به.
* * *
(قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96)
يقال : قَدْ بَصُر الرجلَ يَبْصُرُ إذا كان عليما بالشيء ، وأبْصَرَ يُبْصِرُ إذا نظر.
والتأويل علمتُ بما لم يعلموا به ، وكان رأى فرس جبريل عليه السلام فقبض
فبضة من تراب حافر الفرَسِ ، يقال : قبضت قبضةً ، وقَبَصْتُ قَبْصَةً - بالصاد غير معجمةٍ - فالقبضة بجملة الكف ، والقبصة بأطراف الأصَابع . ويقرأ بالصاد والضاد ، وفيه وجه آخر لم يقرأ به فيما علمت ، يجوز فقبصتُ قَبْصَةً وقُبْصَةً ، ولكن لا يجوز القراءة بها - إن كان لم يقرأ بها - فالقبضة قبض الشيء مرةً واحدةً ، والقُبْصَةُ مقْدَارُ مَا يقبصُ ، ونظير هذا قوله عزَّ وجلَّ : (إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ) ، و (غَرْفَةً بِيَدِه) (1).
(فَنَبَذْتُهَا).
ألْقَيْتُها في العِجْل لتَخُورَ.
(وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي).
أي زيَّنَتْ لي نَفْسِي ، ومثله : (الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ).
* * *
(قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97)
وأنَّ لك ، ويجوز لا مَسَاس ، ِ وأنَّ لك - بفتح الميم وكَسْرِ السين الآخرةِ
على وزن دَرَاكِ وتَراكِ ، والتأويل أن موسى عليه السلام حرَّم مُخَالَطةِ
السامِرِيِّ ، فالمعنى إنك في الدنيا لا تخالط جزاءً لفعلك.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { بَصُرْتُ } : يقال : بَصُرَ بالشيءِ أي عَلِمه ، وأبصرَه . أي : نظر إليه . كذا قاله الزجاج . وقال غيره : « بَصْرَ به وأبصره بمعنى علم ».
والعامَّةُ على ضم الصاد في الماضي ومضارعِه . وقرأ الأعمش وأبو السَّمَّال « بَصِرْتُ » بالكسر ، يَبْصَروا بالفتح وهي لغة . وعمرُو بن عبيد بالبناء للمفعول في الفعلين أي : أُعْلِمْتُ بما لم يُعْلَموا به.
وقرأ الأخَوان « تَبْصُروا » خطاباً لموسى وقومه أو تعظيماً له كقوله : { إِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء } [ الطلاق : 1 ] و [ قوله ] :
3314 . . . . . . . حَرَّمْتُ النساءَ سواكُمُ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
والباقون بالغَيْبة عن قومه.
والعامَّةُ على فتحِ القافِ من « قَبْضَة » وهي المرَّةُ من قَبَضَ . قال الزمخشري : « وأمَّا القَبْضَةُ فالمَرَّةُ من القَبْض ، وإطلاقُها على المقبوضِ مِنْ تسمية المفعولِ بالمصدر » قلت : والنحاة يقولون : إن المصدرَ الواقعَ كذلك لا يُؤَنَّثُ بالتاء تقول : هذه حُلَّةٌ نَسْجُ اليمن « ولا تقول : نَسْجَةُ اليمن . ويعترضون بهذه الآية ، ثم يُجيبون بأنَّ الممنوعَ إما هو التاءُ الدالةُ على التحديدِ لا على مجرد التأنيث . وهذه التاءُ دالَّةٌ على مجردِ التأنيث ، وكذلك قوله : { والأرض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ } [ الزمر : 67 ].
وقرأ الحسن » قُبْضَة « بضم القاف وهي كالغُرْفَة والمُضْغة في معنى المَغْروف والمقبوض . ورُوي عنه » قُبْصَة « بالصاد المهملة . والقَبْضُ بالمعجمة بجميع الكفِّ ، وبالمهملة بأطرافِ الأصابع . وله نظائر كالخَضْمِ وهو الأكلُ بجميع الفمِ ، والقَضْمِ بمقدَّمِه . والقَصْمُ : قطعٌ بانفصالٍ ، والفَصْمُ بالفاء باتصالٍ . وقد تقدم شيءٌ من ذلك في البقرة. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(3/374)


فمن قرأ لا مَساسَ - بفتح السين الأخيرة فهو منصوب على البدء به ، ومن قال : لا مَسَاسِ فهو مبني على الكَسْرِ ، وهو نفي وقولك مَسَاسِ ، أي مساس القوم تأمر بذلك ، فإذا قلت لا مَسَاسِ فهو نفي ذلك ، وبنيت مسَاسِ على الكسر وأصلها الفتح لمكان الألف ، ولكن مساس ودَرَاكِ مؤنث ، فاختير الكسر لالتقاء السَّاكنين لأنك تقول في المؤنث فعَلْتِ يا امرأةُ ، وأعطيتك يا امرأة.
(وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ).
و (لن تُخْلِفُهُ) ، فمن قرأ (لن تُخْلِفُهُ) فالمعنى يكافئك الله على ما فعلت
في القيامة واللَّه لا يخلف الميعادَ ، ومن قرأ (لَنْ تُخْلَفَهُ)
فالمعنى إنك تبعث وتوافي يوم القيامَةِ ، لا تقدر على غير ذلك ، ولن تُخْلِفَه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا).
وظِلْتَ بفتح الظاء وكسرها ، فمن فتح فالأصل فيها ظَلِلْت ، ولكن اللامَ
ْحُذِفَتْ لثقل التضعيف والكسر ، وبقيت الظاء على فتحها.
ومن قرأ ظِلْتَ - بالكسْرِ - حَوَّلَ كَسْرةَ اللام على الظاء ، وقد يجوز في غير المكسور نحو أحَسْتُ تُرِيدُ أحْسَسْتُ ، وقد حُكِيَتْ هَمْتُ بذلِكَ ، تريد هَمَمْتُ ومعنى عاكف مُقيم ، وعاكف منصوب خبر ظلت ، ليس بِمنْصُوبٍ عَلى الحال.
وقوله : (لَنُحَرِّقَنَّهُ).
ويقرأ (لَنُحْرِقَنَّهُ). أي لَنَحْرِقَنه بالنارِ ، فإذا شَدَّدَ فالمعنى نُحَرقُه مرة بعد مرةٍ.
وقرئت لَنحرُقَنَّهُ ، وتأويله لَنَبْرُدَنَّه بالمِبْرَدِ ، يقال حَرَقْتُ أحْرُق وأحْرِقُ إذا بردت الشيء.
ولم يقرأ لنحرِقَنَّهُ ، ولو قرئتْ كانَتْ جائزة (1).
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { لاَ مِسَاسَ } : قرأ العامَّةُ بكسرِ الميمِ وفتحِ السين . وهو مصدرٌ ل فاعَل كالقِتال مِنْ قاتَل ، فهو يقتضي المشاركةَ . وفي التفسير : لا تَمَسُّني ولا أَمَسُّك ، وإنَّ مَنْ مَسَّه أصابَتْه الحمى.
وقرأ الحسن وأبو حيوة وابن أبي عبلة وقعنب بفتح الميم وكسر السين . قلت : هكذا عَبَّر الشيخُ وتَبعَ فيه أبا البقاء . ومتى أَخَذْنا بظاهِر هذه العبارة لَزِم أن يُقرأ « مَسِيس » بقلب الألفِ ياءً لانكسارِ ما قبلها ولكن لم يُرْوَ ذلك ، فينبغي أَنْ يكونوا أرادوا بالكسرِ الإِمالةَ . ويَدُلُّ على ما قُلْتُه ما قاله الزمخشريُّ : « وقُرِىء لا مَساسِ بوزن فَجار . ونحوُه قولهم في الظباء : » إن وَرَدَتِ الماءَ فلا عَباب وإن فَقَدَتْه فلا أَباب « وهي أعلامٌ للمَسَّة والعَبَّة والأَبَّة وهي المرَّة من الأَبِّ وهو الطلَبُ » . فهذا تصريحٌ منه ببقاء الألفِ على حالِها.
ويدلُّ أيضاً قولُ صاحبِ « اللوامح » : « هو على صورة نَزَالِ ونَظارِ من أسماء الأفعال بمعنى انْزِلْ وانْظُرْ » فهذا أيضاً تصريحٌ بإقرار الألِف على حالها . ثم قال صاحب « اللوامح » : « فهذه الأسماء التي بهذه الصيغةِ معارفُ ، ولا تدخُلُ عليها » لا « النافيةُ التي تَنْصِبُ النكراتِ ، نحو » لا مالَ لك « لكنه فيه نَفْيُ الفعلِ فتقديرُه : لا يكون منك مساسٌ ، ومعناه النهيُ أي : لا تَمَسَّني ».
وقال ابنُ عطية : « لا مَساسِ هو معدولٌ عن المصدرِ كفَجارِ ونحوِه . وشبَّهه أبو عبيدة وغيرُه بَنزالِ ودَراكِ ونحوه ، والشَّبَهُ صحيحٌ من حيث هُنَّ معدولاتٌ . وفارقه في أنَّ هذه عُدِلَتْ عن الأمر ، ومَساس وفَجار عُدلت عن المصدر . ومِن هذا قولُ الشاعر :
3315 تميمٌ كرَهْطِ السَّامِرِيِّ وقَوْلِه . . . ألا لا يريدُ السَّامِرِيُّ مَساسِ
فكلامُ الزمخشريِّ وابنِ عطيةَ يعطي أنَّ » مَساس « على هذه القراءةِ معدولٌ عن المصدرِ كفجَار عن الفَجَرة ، وكلامُ صاحبِ اللوامحِ يقتضي أنها معدولةٌ عن فعل أمرٍ ، إلا أَنْ يكونَ مرادُه أنها مَعْدُوْلَةٌ ، كما أنَّ اسمَ الفعلِ معدولٌ ، كما تَقَدَّم توجيهُ ابنِ عطية لكلام أبي عبيدة.
قوله : { لَّن تُخْلَفَهُ } قرأ ابنُ كثيرٍ وأبو عمرٍو بكسرِ اللامِ على البناء للفاعل . والباقون بفتحِها على البناءِ للمفعولِ . وقرأ أبو نهيك فيما حكاه عنه ابن خالويه بفتح التاء من فوقُ ، وضمِّ اللام ، وحكى عنه صاحب » اللوامح « كذلك ، إلاَّ أن بالياء مِنْ تحتُ . وابنُ مسعودٍ والحسن بضمِّ نونِ العظمة وكسرِ اللام.
فأمَّا القراءةُ الأولى فمعناها : لن تجدَه مُخلَّفاً كقولك : أَحْمَدْتُه وأَجْبَنْتُه/ أي : وَجَدْتُه مَحْمُوداً وجَباناً . وقيل : المعنى : سيصلُ إليك ، ولن تستطيعَ الرَّوَغانَ ولا الحَيْدَة عنه . قال الزمخشري : » وهذا مِنْ أَخْلَفْتُ الوعدَ إذا وجدتَه مُخْلَفاً . قال الأعشى :
3316 أثوى وقَصَّر لَيْلَةً لِيُزَوَّدا . . . فمضى وأَخْلَفَ مِنْ قُتَيْلَةَ مَوْعِدا
ومعنى الثانيةِ : لن يُخْلِفَ اللهُ موعدَه الذي وَعَدك . وأمَّا قراءتا أبي نهيك فهما مِنْ خَلَفَه يَخْلُفُه إذا جاء بعدَه أي : الموعدَ الذي لك لا يَدْفع قولَك الذي تقولُه . وهي قراءةٌ مُشْكِلَةٌ . قال أبو حاتم : « لا نعرف لقراءةِ أبي نهيك مذهباً » وأمَّا قراءةُ ابنِ مسعود فأسند الفعلَ فيها إلى الله تعالى . والمفعولُ الأولُ محذوفٌ أي : لن يُخْلِفَكه.
قوله : { ظَلْتَ } العامَّةُ على فتح الظاء ، وبعدها لامٌ ساكنة . وابنُ مسعودٍ وقتادةُ والأعمشُ بخلافٍ عنه وأبو حيوة وابن أبي عبلة ويحيى بن يعمر [ على ] كسرِ الظاء . ورُوي عن ابن يعمر ضمُّها أيضاً . وأُبَيٌّ والأعمش في الرواية الأخرى « ظَلِلْتَ » بلامَيْنِ أولاهما مكسورةٌ «.
فأمَّا قراءةُ العامَّة ففيها : حَذْفُ أحدِ المِثْلين ، وإبقاءُ الظاءِ على حالِها مِنْ حركتها ، وإنما حُذف تخفيفاً . وعدَّه سيبويه في الشاذ . يعني شذوذَ قياسٍ لا شذوذَ استعمالٍ ، وعَدَّ معه ألفاظاً أُخَرَ نحو : مَسْتُ وأَحَسْتُ كقولِه :
3317 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . أَحَسْنَ به فهنَّ إليه شُوْسُ
وعَدَّ ابنُ الأنباري » هَمْتُ « في » هَمَمْتُ « ولا يكونُ هذا الحذفُ إلاَّ إذا سُكِّنَتْ لامُ الفعلِ . وذكر بعضُ المتأخرين أن هذا الحذفَ منقاسٌ في كلِّ مضاعفِ العينِ واللامِ سَكَنَتْ لامُه ، وذلك في لغة سُلَيْم.
والذي أقولُه : إنه متى التقى التضعيفُ المذكورُ والكسرُ نحو : ظَلِلْتُ ومَسِسْتُ انقاس الحذفِ . وهل يَجْري الضمُّ مجرى الكسرِ في ذلك؟ فالظاهرُ أنه يجري . بل بطريق الأَوْلى؛ لأن الضمَّ أثقلُ من الكسر نحو : غُضْنَ يا نسوةُ أي : أغْضُضْنَ أبصارَكُنَّ ، ذكره جمال الدين ابن مالك . وأمَّا الفتحُ فالحذفُ فيه ضعيفٌ نحو : » قَرْن يا نسوةُ في المنزل « ومنه في أحدِ توجيهَيْ قراءةِ { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ } [ الأحزاب : 33 ] كا سيأتي إنْ شاء الله تعالى.
وأمَّا الكسرُ فوجهُه أنه نَقَل كسرةَ اللامِ إلى الفاءِ بعد سَلْبِها حركتَها لتدُلَّ عليها . وأمَّا الضمُّ فيحتمل أن يكونَ جاء فيه لغةٌ على فَعَل يفعُل بفتحِ العينِ في الماضي وضمِّها في المضارع ، ثم نُقِلَتْ ، كما تقدّم ذلك في الكسر . وأمَّا ظَلِلْت بلامين فهذه هي الأصلُ ، وهي مَنْبَهَةٌ على غيرِها . و » عاكفاً « خبرُ » ظلَّ «.
قوله : { لَّنُحَرِّقَنَّهُ } جوابُ قسمٍ محذوفٍ أي : واللهِ لَنُحَرِّقَنَّهُ . والعامَّة على ضمِّ النونِ وكسرِ الراءِ مشددةً مِنْ حَرَّقه يُحرِّقُه بالشديد . وفيها تأويلان . أظهرُهما : أنها مِنْ حَرَّقه بالنار . والثاني : أنه مِنْ حَرَق نابُ البعير ، إذا وقع عَضُّ ببعضِ أنيابِه على بعضٍ . والصوتُ المسموعُ منه يُقال له الصَّريفُ . والمعنى : لنَبْرُدَنَّه بالمِبْرد بَرْداً نمحقُه به كما يفعل البعيرُ بأنيابِه بعضها على بعض.
وقرأ الحسن وقتادة وأبو جعفر » لَنُحْرِقَنَّه « بضم النون وسكونِ الحاءِ وكسرِ الراء ، مِنْ أحرق رباعياً . وقرأ ابن عباس وحميد وعيسى وأبو جعفر » لَنَحْرُقَنَّه « كذلك إلاَّ أنه ضمَّ الراء . فيجوز أن يكونَ أَحْرق وحرَّق بمعنى كأَنْزَل ونَزَّل . وأمَّا القراءةُ الأخيرة فبمعنى لنَبْرُدَنَّه بالمبرد. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(3/375)


وقوله عزَّ وجلَّ َ : (ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا).
اليم : البَحْر ، والنسف التذرِيَةُ.
* * *
وقوله : (خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا (101)
المعنى ساء الوِزْرُ لهم يوم القيامَةِ ، و (حِمْلًا) منصوب على التمييز.
* * *
(يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102)
قد جرى تفسيره فيما مَضى.
وأكثر ما يذهب إليه أهل اللغة أن الصور جمع صورة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا).
قيل عطاشا وقيل عُمْياً ، يخرجون من قبورهم بُصرَاءَ كما خلقوا أول مَرةٍ
ويعمَوْنَ في المَحْشرِ ، وإنما قيل زُرْقاً لأن السَواد يزرق إذا ذهبت نواظرُهُمْ.
ومن قال عطاشا فجيِّدٌ أيْضاً ، لأنهم من شدةِ العَطشِ يتغير سواد أعْيُنهم حتى
يزرق.
* * *
وقوله - عزَّ وجلَّ - : (يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103)
أصل الخفوت في اللغة السكون ، والتخَافت ههنا السِّرارُ ، فالمعنى أنهم
يَتَسَارُّونَ بَيْنَهُمْ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (104)
(أمْثَلُهُمْ طَرِيقةً).
أي أعلمهمْ عند نفسه بما يقول
(إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا) ، معناه ما لبثتم إلا يوماً
* * *
وقوله : (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105)
النسف التذْرِيةُ
تصير الجبال كالهباء المنثور ، تذرَّى تَذْرِيَةً .

(3/376)


(فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106)
القاع من الأرض المكان الذي يعلوه الماء ، ويُقَالُ المكانُ الطيِب
والصَّفْصَفُ ، المستوي من الأرض.
* * *
(لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107)
العِوَج في العَصَا والجَبَلِ ألا يكون مستوياً ، والأمْتُ أن يغلظ مكان
ويدقَّ مَكانٌ.
* * *
قوله : (يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108)
المعنى لا عِوَجَ لَهم عن دعَائِه ، لا يقدرون أنْ لاَ يتَبِعُوا
وقوله - عزَّ وجلَّ - : . (فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا).
الهَمْسُ في اللغة الشيءُ الخَفِيُّ ، والهَمْسُ - ههنا - في التفسير صوت
وطء الأقدام.
* * *
وقوله : (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111)
مَعنى عَنَتْ في اللغة خَضَعَتْ ، يقال عنا يعنو إذا خضع ، ومنه قيلَ
أُخِذَتِ البِلاَدُ عنْوة ، إذَا أخِذَتْ غَلَبة ، وأُخِذَتْ بخضوع من أهلها.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110).
ما بين أيديهم من أمر القيامة ، وجميع ما يكون ، وما خلفهم ما قد وقع
من أعمالِهِمْ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112)
الهضْمُ : النَّقْصُ ، يقال فلان يهضمني حَقي أي ينْقُصُنِي ، كذلك هذا
شيء يهْضِمُ الطعام ، أي ينقص ثِقْلَتَه .

(3/377)


وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115)
(فنَسِيَ) ههنا معناه فترك ، لأن النَّاسِيَ لا يُؤاخَذ بِنِسْيَانِهِ ، وجاء في
الحديث " لو وزِنَ حلم بني آدم مذْ كان آدم إلى أنْ تقُومَ السَّاعة ما وَفَى حِلْم جميع من وَلَدَهُ وَحَزْمهمْ بحلم آدَمَ وَحَزْمِه - صلى الله عليه وسلم -.
* * *
وقال عزَّ وجلَّ : (وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا).
* * *
وقوله - سبحانه - : (وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119)
يجوز (وَإِنَّكَ) بالكسر ، (وَأَنَّكَ) بالفتح ، فإذَا كسرت فعلى الاستئْنَافِ وعطف جملة كلام على جملة ، وإذا فتحت فعلى معنى إن لك " أنْ لا " تظمأ فيها ، فَتَنْسقُ بأنَكَ عَلَى (أَلَّا تَجُوعَ).
ويكون أنك عَلَى هَذا القَوْل في موضع نصب.
ويجوز أن يكون في موضع رفع ، والعطف على اسْمِ إِن وأنَّ ، لأن
معنى إن زيداً قائم زيد قائم فالمعنى ذلك إنك لا تظمأ فيها.
ومعنى (لَا تَظْمَأُ) لَا تَعْطَشُ ، يقال ظمئ الرجل يظمأ ظمأً فهو ظمآن بمعنى عطشان.
ومعنى (لا تَضْحَى) ولا تصيبكَ الشمسُ ، ولا تبرُز يقال ضحى الرجل يَضْحَى
إذا بَرزَ إلى الشمس.
قال الشَاعِر :
رَأَتْ رَجُلاً أَمَّا إِذا الشمس عارضَتْ . . . فيَضْحى وأَمَّا بالعَشيِّ فَيَخْصَرُ
ومعنى - يخصر يُصِيبُه الخَصَرُ وهو شدة البرْد ، وبلوغه الأطراف.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124)
الضَّنْكُ : أصْله في اللغةِ الضيق والشدةَ ، ومعناه - واللَّه أعلم - أن هذه
المعيشة الضنك فِي نَارِجَهَنَّم.
وأكثر ما جاء في التفسير أنَّه عذابُ القبر .

(3/378)


وقوله : (وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى).
مثل ونحشر المجرمين يومئذ زرقاً ، وقيل أعْمَى عن حجتِه ، وتأويله أنه
لا حجة له يهتدي إليها ، لا أن له حجةً ، وأنه يعمى عنها.
ما للناس على اللَّه حجة بعد الرسلِ ، وللًه الحجة البَالِغةُ وقد بَشَّرَ وأنْذَرَ ، وَوَعَدَ وأوْعَدَ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا).
أي لعل الوعيد يُحْدِث لهم تَذَكُرَ العَذَابِ ، فيزجرهم عن المعاصي
وقيل : (أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا) أي : شَرَفاً.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ).
أي من قبل أن يبَيَّنَ لَكَ بَيَانُه ، ويقرأ من قبل أنْ نَقْضِي إليك وحْيَهُ
بالنون ، ويجوز مِنْ قَبْل أنْ يَقْضِيَ إليك وَحْيَهُ ، أي من قبل أن يقضيَ اللَّه إليكَ وَحْيَهُ ، ولم تُقْرأ " تَقْضِي " وقرئت يُقْضَى ونَقْضِي - بالياء والنون.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126)
أي كذلك تترك في النار كما تركت آيَاتِنَا.
* * *
وقوله : (أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (128)
قُرِئَتْ بالنُونِْ والياء ، فمن قرأ بالنُّونِ فمعناه أفلم نبين لهم بياناً يهتدون
به ، ومن قرأ أفلم يَهْدِ - بالياء - فالمعنى أفلم يُبَيَّنْ لَهُم الأمْرُ بإهلاك من قبلهم من القرون.
و " كم " في موضع نصب بـ (أهلكنا).
وكانت قريش تَتَجِر وترى مساكن عادٍ وثمودَ وبها علامات الِإهلاك ، فذلك قوله : (يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ)
ويجوز (في مَسْكَنِهِمْ) أي في مَوضِع سُكْنَاهُمْ ولم يقرأ بها.
ويقرأ : (يُمَشَّوْنَ في مَسَاكِنهم) بالتشديد .

(3/379)


وقوله : (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى).
أي لذوي العقول والمَعْرِفةِ ، يقال : فلان ذو نُهْيةٍ إذا كان له عَقْل ينتهي
به عن المقابح.
* * *
وقوله : (وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129)
أي لكان القتلُ الذي نالهم لَازِماً أبداً ، ولكان العذاب لازماً لهم.
(وَأَجَلٌ مُسَمًّى).
معطوف على (كَلِمَةٌ) المعنى لولا كلمة سَبَقَتْ وأجل مسمى لكان
لزاماً ، يُعنَى بالأجل المسمى أن الله وعَدَهُمُ العذابَ يومَ القيامَةِ.
وذلك قوله : (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46).
* * *
وقوله : (فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130)
(وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا).
وذلك وقتُ الغداة والعَشِى.
(وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ).
الآناء الساعات ، وواحد الآناء إنْيٌ - وقد بيَّنَّاه فيما مَضَى.
(فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ).
وأطراف النهار الظهرُ والعَصْرِ.
(لَعَلَّكَ تَرْضَى) ، ويقرأ تُرْضَى.
* * *
وقوله تعالى : (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131)
أي رِجالاً مِنْهُم.
(زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا).
وَ (زَهَرَة) جميعاً - بفتح الهاء وتسكينها - و (زَهْرَةَ) منصوب بمعنى مَتعْنَا لأن
معناه جعلنا لهم الحياة الدنيا زهرة .

(3/380)


(لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ).
أي لنجعل ذلك فتنة لهم
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (133)
معناه هلَّا يأتينا بآية أمن رَبِّه ، وقد أتتهم البينات والآيات ولكنَهُم
طلبوا أن يقترحوا هم ما يؤيدون من الآيات.
* * *
وقوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (134)
(مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى).
يجوز فيها يُذَل وُيخْزَى.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى (135)
(فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ)
" مَن " في موضع رفع ، ولا يجوز أن يعمل فيها (فَسَتَعْلَمُونَ) ، لأن معناه
معنى التسوية ، المعنى فستعلمون أصحاب الصراط السوي نَحْنُ أم هُمْ ، فلم
يعْمَلْ (فَسَتَعْلَمُونَ) لأن لفظ الكلام لفظه لفظ الاستفهام.
ومعنى (أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ) أصْحَابُ الطريق المستقيم ، ويَجُوزُ من أصحاب الصراط السُّوَي ومن اهتدى.
(وَمَنِ اهْتَدَى).
أي فسيعلمون من أصحاب الطَريقة السوءَى ومن المهتدي .

(3/381)


سورة الأنبياء
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله عزَّ وجلَّ : (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1)
معناه اقتربت القيامة ، ومثله : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ).
والمعنى - واللَّه أعلم - اقترب للناس وقت حسابهم.
* * *
وقوله : (مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ
(2)
الخفضً القراءة ، ويجوز في غَير القراءة (مُحْدَثاً ومُحْدَثٌ).
النصب على الحال ، والرفع بإضمار هو.
* * *
(لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3)
(لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ)
معطوفٌ على معنى (إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ).
معناه استمعوه لاعبين
(لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ) ويجوز أن يكون (لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ) منصوباً بقوله (يلعبون).
(وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا).
في (أَسَرُّوا) قولان أجْوَدهمَا أن يكون (الَّذِينَ ظَلَمُوا) في موضع رفع بدلًا من
الواو من (أَسَرُّوا) ومُبَيِّناً عن معنى الواو.
والمعنى إلا استمعوه وهم يلعمون.
(وَأَسَرُّوا النَّجْوَى) ، ثم بين من هم هؤلاء فكان بدلاً من الواو.
ويجوز أن يكون

(3/383)


رفعاَ على الذم على معنى هم الذين ظلموا.
ويجوز أن يكون في موضع نصبٍ على معنى أعني الذين ظلموا.
وقوله : (هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ).
بينَ ما أسروه ، والمعنى قالوا سِرًّا هل هذا إلَا بشرٌ مثلكم ، يعنون
النبي - صلى الله عليه وسلم - أعلمهم الله عزَّ وجلَّ أنه يعلم القول في السماء والأرض ، وأطلَعَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى قِيلِهِمْ ، وسَرِّهِمْ.
* * *
(قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4)
وقرئت (قَلْ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ) ، و (قَالَ رَبِّي)
* * *
وقوله : (بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5)
أي قالوا : الذي يأتي به النبي - صلى الله عليه وسلم - أضْغَاث أحْلام . وجاء في التفسير أهاوِيل أحْلام ، والأضغاثُ في اللغة الأشياء المختلطة.
(بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ).
أي أخذوا ينقضون أقوالهم بعضها ببعض ، فيقولون مرة : هذه أحلام.
ومرة هذا شعر ومرة مفترى.
(فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ).
فاقترحوا الآيات التي لا يقع معها إمْهَالٌ إذَا كُذِّبَ بهَا ، فقال اللَّه
عزَّ وجلَّ : (مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6)
أي ما آمن أهل قرية أتتهم هذه الآيات حتى أوجب الله استئصالهم
وإهلاكهم بالعذاب ، واللَّه جعل مَوْعِدَ هذه الأمةِ القيامةَ.
فقال :

(3/384)


(بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46).
واللَّهُ قد أعطاهم الآيات التي تبينُوا بها نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم - من القرآن الذي دُعُوا أنْ يأتوا بسورةٍ مثله ، ومن انشقاق القمر ، ومن
قوله : (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) فظهر أهل الِإسلام حتى صاروا أكثر من كل
فرقةٍ فليس أهلُ مِلَّةٍ واحدة لهم كثرة أهْلِ الِإسْلَامِ ، وأظهره اللَّه أيضاً
بالحجة القاطعة.
* * *
وقوله تعالى : (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7)
أي سَلُوا كل من يقر برسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - من أهل التوراة والإِنجيل.
(إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ).
أي إن كنتم لَمْ تَعْلَمُوا أنَّ الرسُلَ بَشَر.
وهذا السؤال واللَّه أعلم لمن كان مؤمناً من أهل هذه الكتب ، لأن القبول يكون من أهل الصدق والثقة.
* * *
وقوله : (وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (8)
(جَسَداً) هو واحد ينبئ عن جماعة ، أي وما جَعَلْنَاهم ذوي أجَسَادٍ إلا
ليأكُلُوا الطعَامَ ، وذلك أنهم قَالُوا : (مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ)
فأُعْلِمُوا أن الرسُلَ أجمعين يأكلون الطعام ، وأنهُم يَمُوتُونَ وهوَ قوله تعالى : (وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ).
* * *
وقوله : (لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10)
أي فيه تذْكِرة لكم بما تلقونه من رحمة أو عذاب ، كما قال عزَّ وجلَّ :
(كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ)
وقد قيل (فِيه ذِكُرُكمْ) فيه شَرَفُكُمْ.
* * *
وقوله : (وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ
(11)

(3/385)


" كم " في موضع نصب بـ (قصَمْنَا)
ومعنى قصمنا أهلكنا وأذهبنا ، يقال قصم اللَّه عُمْرَ الكافِرِ أي أذْهبَهُ
* * *
وقوله : (فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12)
أي يهربون من العذاب.
* * *
(لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13)
جاء في التفسير أنه قيل لهم ذلك على جهة الاستهزاء بهم.
وقيل لعلكم تسألون شيئاً مما أُتْرفتُم فيه.
ويجوز لعلكم تسألون فتجيبون عما تشاهدون
إذا رأيتم ما نزل بمساكنكم وَمَا أترفتم فيه.
* * *
وقوله : (قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14)
" ويل " كلمة تقال لكل من وقع في هَلَكَةٍ ، وكذلك يقولها كل من وقع
في هلكة.
* * *
وقوله : (فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (15)
أي ما زالت الكلمةُ التي هي قولُهم : (يَا ويلَنَا إنا كُنا ظَالِمِينَ) دعواهم.
يجوز أن تكون (تلك) في موضع رفع اسم زَالتْ
و (دعواهم) في موضع نصب خبر زالت
وجائز أن يكون (دعواهم) الاسم في موضع رفع ، و (تلك) في موضع
نصب على الخبر لا اختلاف بين النحويين في الوجْهَيْن.
* * *
وقوله : (لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (17)
اللَّهْو في لُغَةِ حَضْرمَوْتَ الولد ، وقيل اللهو المرأةُ ، وتأويلُه أن الوَلَدَ لَهْوُ
الدنْيَا ، فلو أردنا أن نتخِذَ ذَا لَهْوٍ يُلْهَى بِهِ.
ومعنى (لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا) أي لاصطفيناه مما نخلق.
(إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ).

(3/386)


معناه ما كنا فاعلين.
وكذلك جاء في التفسير.
ويجوز أن يكون للشرط أي : إنْ كُنا مِمنْ يَفْعَلُ ذلك ولسنا ممن يفعله . والقول الأول قول المفسرين ، والقول الثاني قول النحويين ، وهم أجمعون يقولون القولَ الأول ويستجيدُونه.
لأن (إنْ) تكون في معنى النفي ، إلا أن أكثر ما تأتي مع اللام تقول : إن كنت
لصالحاً ، معناه مَا كنْتَ إلا صَالِحاً.
* * *
وقوله : (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18)
يعنى بالحق القرآن على باطلهم
" فَيَدْمَغُهُ " فيذهبُه ذهاب الصغار والإذلال.
(فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ).
أي ذاهب.
(وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ).
أي مِمَّا تَكْذِبُونَ في وصفكم في قولكم إنَّ للَّهِ وَلَداً.
* * *
وقوله : (وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19)
أي هؤلاء الذين ذكرتم أنهم أوْلَادُ اللَّه - عزَّ وجلَّ - عبادُ اللَّهِ ، وهم
الملائكة.
وقوله : (لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ).
أي لا يَعْيَوْنَ ، يُقَال حَسِرَ واسْتَحْسَرَ إذَا تَعِب وأعْيَا ، فالملائكة لا يَعْيَوْنَ.
* * *
(يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20)
أي لا يشْغَلُهم عن التسبيح رِسَالة ، ومجرى التسبيح منهم كمجرى

(3/387)


النفس منا ، لا يشغلنا عن النفسِ شيء ، فكذلك تسبيحُهمْ دائم.
* * *
وقوله : (أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21)
و (يَنْشِرُونَ) ، فمن قرأ (يُنْشِرُونَ) فمعناه أم اتخذوا آلهة يُحْيُونَ الموتَى.
يقال : أنْشَر اللَّهُ الموْتَى ونَشَرُوا هُمْ ، ومن قرأ يَنْشُرون بفتح الياء ، فمعناه : أم اتخذوا آلهة لا يَمُوتُونَ يَحيَوْنَ أبَداً.
* * *
وقوله : (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22)
(فِيهِمَا) في السماء والأرْضِ.
وَ " إِلَّا " في معنى " غير " ، المعنى لو كان فيهما آلهة غير الله لفسدتَا.
ف " إِلَّا " صفة في معنى غير ، فلذلك ارتفع ما بعدها على لفظ الذي قبلها قال الشاعر :
وكلُّ أخٍ مُفارِقُه أَخُوه . . . لَعَمْرُ أَبِيكَ إلاَّ الفَرْقدانِ
المعنى وكل أخ غير الفرقدين مفارقه أخوه.
* * *
وقوله : (فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ).
(سبحان اللَّهِ) معناه تنزيه الله من السوء وقد فسرنا ذلك.
وهذا تفسير عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
* * *
وقوله : (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)
أي لَا يُسْأَلُ في القيامة عن حكمه في عباده ، وَيَسأل عباده عن أعمالهم
سؤالُ مُوَبِّخٍ لمن يستحق التوبيخ ، ومجَازِياً بالمغفرة لمن استحق ذلك ، لأن
اللَّه عزَّ وجلَّ قد علم أعمَال العِبَادِ ، ولكن يسألهم إيجاباً للحجة عليهم ، وهو

(3/388)


قوله : (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24).
أي سؤال الحجة التي ذكرنا ، فأما قوله :
(فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39).
فهذا معناه لا يسأل عن ذنبه ليستعلم منه ، لأن الله قد علم أعمالهم قبل وقوعها وحين وقوعها وبعد وقوعها . (عَالِم الغَيبِ والشهادة).
* * *
وقوله : (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24)
قد أبَانَ اللَّه الحجةَ عَلَيهم في تثبيت توحيده وأن آلهتهم لا تُغْني عنهم
شيئاً ، ثم قيل لهم : هاتوا برهانكم بأنَّ رَسُولاً من الرسل أنبأ أمَّتَة بأنَّ لهم إلهاً
غير اللَّه ، فهلْ في ذكرِ مَنْ معيَ وذِكْر مَنْ قبلي إلا توحيدُ الله عزَّ وجلَّ ، وقد
قُرِئَتْ : هذا ذكرٌ مِنْ مَعِي وذكرٌ مِنْ قَبْلِي ، ووجهها جَيدٌ.
ومَعْنَاه : هذا ذكرٌ مما أنزل عَلَى مِمَّا هو مَعِي ، وذكرٌ مِنْ قبلي.
قال أبو إسحاق : يريد بقوله " مَن مَعِي " أي من الذي عندي ، أو من
الذي قبلي . ثم بين فقال :
(وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ
(25)
و (نُوحِي إِلَيْهِ) ويجوز يُوحِي إليه أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ).
* * *
وقوله : (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26)
يعنى الملائكة وعيسى ابنَ مَرْيَمَ عليه السلام.
والذي في التفسير أنهم الملائكةُ ، ولو قرئت بل عباداً مكْرَمِينَ لم يجز لمخالفة المصحف ، وهي في العربية جائزة ويكون المعنى : بل اتَخَذَ عِباداً مُكْرَمِين ، والرفع أجْود وأحْسَنُ
قوله : (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30)

(3/389)


قال (كانتا) لأن السَّمَاوَات يعبر عنها بلفظ الواحدِ ، وأن السَّمَاوَات كانتا
سماء واحدة ، وكذلك الأرضون كانت أرضاً واحدة ، فالمعنى أن السَّمَاوَات
كانتا سماء واحدة مُرْتَتَقَةً ليس فيها ماء ، ففتق اللَّه السماء فجعلها سَبْعاً وجعل الأرْضَ سَبْعَ أرضين.
وجاء في التفسير أن السًماء فتقت بالمطر ، والأرضَ بالنبَاتِ ، وَيَدلُّ على
أنه يراد بفتقها كون المطر فيهَا قوله - عزَّ وجلَّ - : (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ).
وقيل (رَتْقاً) ولم يَقُلْ رتقَيْن ، لأن الرتق مَصْدَر.
المعنى كانتا ذَوَاتِيْ رَتْقٍ فَجُعِلَتَا ذواتَيْ فتْقٍ.
ودَلَّهم بهذا عَلَى توحِيده - جلَّ وعزَّ - ثم بَكَّتَهُمْ فقال : (أفَلَا يؤمِنُونَ).
* * *
وقول : (وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31)
المعنى كراهة أن تميد بهم ، وقال قوم : معناه ألا تميدَ بهم.
والمعنى كذلك ، إلا أن " لا " لا تُضْمَرُ والاسم المضاف يحذف ، وكراهة أن تميدَ بِهِمْ يؤدي عن معنى ألَّا تميد بهم.
ومعنى تميد في اللغة تدور ، ويقال للذي يُدَارُ بِهِ إذا رَكِبَ البحرَ مَائِد.
ومَيْدَى
والرواسي تعني الجبال الثوابت.
(وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً).
فِجَاج : جَمع فَجٍّ ، وهوكل منخرق بين جبلين ، وسُبُلاً : طُرَقاً.
* * *
(وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32)
حَفِظَهُ اللَّه من الوُقُوع على الأرْض (إلا بإذْنِهِ) وقيل محفوظاً ، أيْ

(3/390)


محفوظاً بالكواكب كما قال عزَّ وجلَّ : (إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7).
(وَهُمْ عَنْ آيَاتنَا مُعْرِضُونَ).
معناه وهم عنْ شَمْسِها وقَمرها ونُجُومها ، وقد قُرئت عن آيتها ، وتأويله
أن الآية فيها في نفسها أعظم آيةً لأنها مُمْسَكة بقدرته عزَّ وجلَّ ، وقد يقال
للذي ينتظم علامات كثيرةً آية ، يراد به أنه بجملته دليل على توحيد اللَّه
عزَّ وجلَّ.
* * *
وقوله : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33)
(كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ).
قيل يسبحون كما يقال لما يعقل ، لأن هذه الأشياء وصفت بالفعل كما
يوصف مَنْ يعقل ، كما قالت العرب - في رواية جميع النحويين - أكلوني
البراغيث لما وصفت بالأكل قيل أكلوني.
قال الشاعر :
شربت بها والدِّيكُ يَدْعُو صَباحَهُ . . . إِذا ما بَنُو نَعْشٍ دَنَوْا فتَصَوَّبُوا
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34)
(أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ).
يُقْرأ مُتَّ بضم الميم ، ومِتَّ بكسرها ، وأكثر القُراء بِالضم.
وقد فسرنا ما في هذا الباب .

(3/391)


والفاء دخلت عَلَى " إنْ " جوابَ الجزاء ، كما تدخل في قولك : إنْ
زُرْتني فأنا أخوك ، ودخلت الفَاءُ على " هم " لأنها جواب (إنْ).
* * *
وقوله : (وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36)
(أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ)
(هذا) على إضمار الحكاية ، المعنى وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا يقولون أهذا الذي يَذْكُرُ آلهتكم.
والمعنى أهذا الذي يعيب آلهتكم يقال فلان يَذْكُرُ الناس أي يغْتَابُهُمْ ويَذْكُرُهُمْ بالعُيوبِ ، ويقال فلان يذكر اللَّه ، أي يصفه بالعظمة ، وُيثْنِي عليه وُيوَحِّدُه . وإنما يحذف مع الذكر ما عُقِلَ معناه.
قال الشاعر :
لا تذكري فرسي وما أطعمته . . . فيكون لَوْنُكِ مثل لون الأجْرَبِ
المعنى لا تذكري فرسي وإحساني إليه فتعيبيني بإيثاري إيَّاهُ عليك.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37)
قال أهل اللغة : المعنى خُلِقَتِ العَجَلَةُ مِنَ الإنْسانِ ، وحقيقته يدل
عليها ، (وَكَانَ الإنْسَانُ عَجُولًا) ، وإنما خوطبت العرب بما تعقل ، والعرب
تقول للذي يكثر الشيء خُلِقْتَ منه ، كما تقول : أنْتَ مِنْ لَعِبٍ ، وخلقت من لعبٍ ، نريد المبالغة بوصفه باللعب.
* * *
وقوله : (لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (39)
أي حينَ لا يَدْفَعُونَ عن وُجُوهِهمُ النارَ ، وجَوَابُ (لو) محذوف ، المعنى

(3/392)


لعلموا صِدْقَ الوعْدِ ، لأنهم قالوا (مَتَى هَذَا الوَعْدُ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ).
وجعل الله عزَّ وجلَّ الساعة مَوْعِدَهم ثم قال :
(بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (40)
بغتة فُجَاءَةً وهم غافلون عنها ، فتبهتم فتحيرهم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42)
معناه - واللَّه أعلم - من يحفظكم من بأس الرحمن ، كما قال : (فَمَنْ
يَنْصُرُني مِنَ اللَّه) أي من عذاب الله.
وقوله : (بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44)
(أفَهُمُ الغَالِبُونَ).
أي قد تبين لكم أنا ننقص الأرض من أطرافها ، ولأن الغلبة لنا ، وقد
فسرنا نأتي الأرض نَنقصُهَا من أطرافها في سورة الرعد ، أي فاللَّه الغالب
وهم المغلوبون ، أعني حزب الشيطان.
* * *
وقوله : (قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (45)
(وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ).
ويجوز ولا تُسمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ ، والضم هَهُنا المعوضون عَما يُتْلَى
عَلَيْهِمْ من ذكر اللَّه فهم بمنزلة من لا يسمع كما قال الشاعر :
أصم عما ساءه سميعُ.
* * *
وقوله تعالى : (وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46)
أي إن مَسَّتْهُمْ أدنى شيء من العذاب.
(لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ).

(3/393)


والويل ينادَى به ، وينادي به كلُ مَنْ وقع في هلكة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)
(القسط) العدل ، المعنى ونضع الموازين ذوات القسط ، وقِسْط مثل
عدل مصدر يوصف به ، تقول ميزان قِسْط وميزانان قِسْط ، وموازين - قِسْطِ.
والميزان في القيامة - جاء في التفسير - أن له لساناً وكفتين ، وتُمثَّلُ الأعمال بما يوزَنُ ، وجاء في التفسير أنه يوزن خاتمة العَمَل ، فمن كانت خاتمة عَمَله
خيراً جوزي بخير ، ومن كانت خاتمة عمله شرا فجزاؤه الشر.
وقوله : (وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ).
نصب (مِثْقَالَ) على معنى وإنْ كان العَمَلُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ من خردل ، ويقرأ
وإن كان مثقالُ حبَّةٍ بالرفع على معنى وإن حصل للعبد مثقال حبة من خردَل
أتَيْنَا بها.
(أَتَيْنَا بِهَا) معناه جئنا بها ، وقد قُرئت آتينا بها على معنى جازينا بها
وأعطينا بها ، وأتَيْنَا بها أحسنُ في القراءة وأقْرَبُ في أمل العَفْو.
(وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ).
منصوب على وَجْهَيْن ، على التمييز ، وعلى الحال ، ودخلت الباء في
وكفى بنا ، لأنه خبر في معنى الأمر ، المعنى اكتفوا باللَّهِ حسيباً.
* * *
وقوله : (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48)
جاء عن ابن عباس أنه يرى حذف الواو ، وقال بعض النحويين معناه
ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان ضِياء وعند البَصْريينَ أن الواو لا تُزَادُ وَلَا
تَأتي إلُّا بمعنى العطف.
وتفسير الفرقان : التوراةُ التي فيها الفرق بين الحلال

(3/394)


والحرام ، و (ضِيَاءً) ههنا مثل قوله : (فِيهِ هُدًى وَنُورٌ)
ويجوز وذكرى لِلمُتقينَ.
* * *
وقوله : (وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50)
المعنى هذا القرآن ذكر مبارك.
* * *
وقوله : (وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51)
أي آتيناه هداه حَدَثاً ، وهو مثل قوله : (وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا).
* * *
وقوله : (إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ
(52)
" إذْ " في موضع نصبٍ ، المعنى آتيناه رشده في ذلك الوقت ، ومعنى
التماثيل ههنا الأصنام ، ومعنى العُكوفُ المُقَامُ على الشيء.
* * *
وقوله : (وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57)
معناه - واللَّه أعلم - وَوَاللَّهِ لأكيدَن ، ولا تصلح التاء في القسم إلا في
الله ، تقول : وحق اللَّهِ لأفْعَلَنَّ ، ولا يجوز تَحق اللَّه لأفعلن ، وتقول وحق زيد لأفعلن ، والتاء بدل من الواو ، ويجوز وَبِاللَّهِ لأكيدَنَّ أصنامكم.
وقراءةُ أهل الأمصار تاللَّهِ ، ولا نعلم أحداً من أهل الأمصار قرأ بالباء ، ومعناها صحيح جيِّدٌ.
* * *
وقوله : (فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58)
وَجِذَاذاً تقرأ بالضمِّ والكسر فمن قرأ (جُذَاذاً) فَإن بِنْيةَ كُل ما كُسِّر

(3/395)


وقُطِّعَ على فعالٍ نحو الجُذَاذ والحُطام والرفَاتُ ، ومن قال جِذَاذ فهو جمع
جذِيذ وجِذَاذٍ نحو ثَقيل وثقال وخَفيف وخِفَاف.
ويجوز جَذاذاً على معنى القَطَاع والحَصَادِ ، ويجوز نُجذُذ على معنى جَذِيدَ وجُذُذ مثل جَدِيد وجُدُد.
وقوله : (إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ) أي كسَّر هذه الأصْنَام إلَّا أكبَرَهَا ، وجائزٌ أن يكون
أكبرها عندهم في تعظيمهم إياه ، لا في الخلقة ، ويجوز أن يكون أعظمَها
خلقة.
ومعنى (لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ).
أي لعلْهم باحتجاج إبراهيم عليهم به يَرْجِعُون فيعلمون وجوبَ الحجةِ -
عليهم.
* * *
قوله : (قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60)
أيْ يَذْكُرُهُمْ بالعَيْب ، وقالوا للأصنام يَذْكرهم لأنهم جعلوها في عبادتِهم
إياها بمنزله ما يعقل ، وإبراهيم يرتفع على وجهين :
أحَدُهُما على معنى يقال له هو إبراهيم ، والمعروف به إبراهيم ، وعلى النداء على معنى يقال له يا إبراهيم.
* * *
(قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61)
أي لعلهم يعرفونه بهذا القول فَيَشْهَدُونَ عَلَيْه ، فيكون ما ينزله بهِ بحُجةٍ
عليه ، وجائز أن يكون لَعَلَّهم يَشْهدون عقوبتنا إياه.
* * *
(قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63)
يعني الصَّنَم العظيم.
(فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ).

(3/396)


قال بعضهم : إنما المعنى ، بل فعله كبيرهم هذا إن كانوا ينطقون ، وجاء
في التفسير أن إبراهيم نطق بثلاث كلمات على غير ما يوجبه لفطها لما في
ذلك من الصلاح ، وهي قوله : (فَقَالَ إني سَقِيم) وقوله (فَعَلَه كَبيرهمْ هَذَا).
وقوله إنَّ سَارَّة أخْتي ، والثلاث لهن وجه في الصدْقِ بَيِّنٌ.
فسَارَّة أخته في الدِّين ، وقوله (إني سَقِيمٌ) فيه غير وجه أحدها إني مغْتَمٌّ بِضَلاَلتِكمْ حتى أنا كالسقيم ، ووجه آخر إني سقيم عندكم ، وجائز أن يكون ناله في هذا الوقت مَرَضٌ.
ووجه الآية ما قلناه في قوله : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ).
واحتج قوم بأن قول إبراهيم مثل قول يوسف لِإخوته : (أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ) ولَم يَسْرِقوا الصَّاعَ ، وهذا تأويله - واللَّه أعلم - إنكم لسارقونَ يوسف.
* * *
وقوله : (ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65)
جاء في التفسير أنه أدْركتِ القومَ حَيْرَة.
ومعنى : (لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ).
أي ثم نكسوا على رؤوسهم فقالوا لِإبراهيم عليه ابسلام : (لَقَدْ عَلِمْتَ ما
هؤلاء يَنْطِقَون) ، فقد اعترفوا بعجز ما يعبدونه عن النطق .

(3/397)


وقوله : (أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67)
يقرأ (أُفِّ لَكُمْ) بغير تنوين ، وَ (أُفٍّ) بتنوين ، ويجوز أفٌّ لكم وأفُّ لكم
- بالضم والتنوين وبترك التنوين - ويجوز أُفَّ لكم بالفتح.
فأمَّا الكسر بغير تنوين فلالتقاء السَّاكنين وهما الفاءان في قوله أف ، لأن ما أصل الكلمة السكون لأنها بمنزلة الأصوات ، وحذف التنوين لأنها معرفة لا يَجِبُ إعرابها ، وتفسيرها (النَّتْنُ) لكم ولما تعبدون فمن نَوَّنَ جعله نكرة بمنزلة نَتْناً لكم ولما تعبدون من دون اللَّه ، وكسر لأن أصل التقاء السَّاكنين الكسر ، ولأن أكثر الأصوات مَبْني على الكسر نحو قوله غَاقْ وجَيْرِ وأمْسِ وويه ، ويجوز الفتح لالتقاء السَّاكنين لثقل التضعيف والكسر ، ويجوز الضم لضمةِ الألفِ كما قالوا : رُدَّ يا هذا ورُدُ ، ورُدِ - بالكسر ، ومن نوَّنَ مع الضم فبمنزلة التنوين مع الكسر.
* * *
وقوله : (وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71)
جاء في التفسير أنها من أرض الشام إلى العراق.
* * *
قوله : (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72)
النافلة ههنا وَلَدُ الوَلدِ ، يعني به يعقوبُ خاصة
* * *
وقوله : (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73)
(إقَامَ الصَّلَاةِ).
إِقام مفرد قليل في اللغة ، تقول أقمت إقامَةً ، قاما إقام الصلاة فجائز
لأن الِإضافة عوض من الهاء.
* * *
وقوله : (وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74)
(لوطاً) منصوب بفعل مضْمَرٍ لأن قبله فعلاً ، فالمعنى وأوحينا إليهم وآتينا
لُوطاً آتيناه حكماً وعِلْماً ، والنصب ههنا أحسن من الرفع لأن قبل آتينا فِعْلاً وقد

(3/398)


ذكر بعض النحويين أنه منصوب على " واذْكر لوطاً " ، وهذا جائز لأن ذكر
إبراهيم قد جرى فحمل لوط على معنى واذكر.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ (وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76)
منصوب على واذكر ، وكذلك قوله :
(وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78)
على مَعْنى واذكر داوود وسليمان (إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ)
النفْش بالليل ، والهَمَلُ بالنهار.
وجاء في التفسير أن غنماً على عهد داوود وسُلَيْمَانَ مَرتْ بحَرْثٍ لِقَوم
فَأفْسدَتْه ، ورُوِيَ أن الحَرْث كان حنطة ، ورُوِيَ أنه كان كرماً ، فأفسدت ذلك الحرث فحكم داود بدفع الغنم إلى أصحاب الكرم وحكم سليمان بأن يدفع الغنم إلى أصحاب الكرم فيأخذوا منافعها من ألْبانها وأصوافها وعَوَارِضها إلى أن يعودَ الكرمُ كهيئتِه وقت أفْسِدَ فإذا عاد الكرم إلى هيئته رُدَّتِ الغنم إلى أرْبابها ويدفع الكرم إلى صاحب الكرم.
قال أبو إسحاق : يجوز أن تكون عوارضُها من أحد وجهين ، إما أن يكون
جمع عريض وعُرْضَان ، وهو اسم للحَمَلِ ، وأكثر ذلك في الجدْي ، ويجوز أن
يكون بما يعرض من منافِعِها حتى يَعُودَ الكَرْمُ كما كان ، وهذا - واللَّه أعلم - يدل على أن سُليمان عَلِمَ أن قيمةَ ما أفْسَدَتِ الغنمُ من الكرم بمقدار نفع
الغنم.
قال اللَّه عزَّ وجلَّ : (فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79)
أي فهمناه القَضيةَ ، والحكومةَ.
(وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا).

(3/399)


وقوله عزَّ وجلَّ : (وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ).
ويجوز والطُّيْرُ ، على العطف على ما في يسبحن ، ولا أعلم أحداً قَرأ بها.
(وَكُنَّا فَاعِلِينَ).
أي وكنا نقدر على ما نريده ، ونصب " الطيرَ " من جهتين "
إحداهما على معنى وسَخرنَا الطيرَ.
والأخرى على معنى يسبحن مع الطير.
* * *
وقوله : (وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80)
وقرئت (لنحصنكم من بأسكم) بالنون ، ويجوز (ليُحصِنكُمْ) بالياء.
فمن قرأ بالياء أراد ليحصنكم هذا اللبوسُ ، ويجوز على معنى ليحصنَكُمْ بالياء ، فمن قرأ بالياء أراد ليحصنكم هذا اللبوسُ ، ويجوز على معنى ليحصنَكُمْ اللَّهُ من باسكم وهي مثل لِنُحَصنَكُمْ - بالنون
ومن قرأ بالتاء أراد لتُحْصِنَكُمْ الصنعةُ.
فهذه الثلاثة الأوجه قد قرئ بهِنَّ ، ويجوز فيها ثلاث لم يُقْرأ بهِنَ ، ولا ينبغي
أن يُقْرأ بهِنَ لأن القراءة سنة.
يجوز لنحصِّنَكمْ بالنون والتشديد ، ولتحصِّنَكُمْ بالتاء والتشديد.
وليحصِّنَكمْ بالياء مشددَةَ الصاد في هذه الثلاث.
وعلَّم الله داوودَ صنعةَ الدروع من الزَرَدِ ، ولم تَكن قبلَ دَاوود عليه السلام
فجمَعَتِ الخفَةَ والتحْصِينَ ، كذا رُوِيَ.
* * *
(وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81)
وقرئت الرياح عاصفة ، وقرئت الريحُ عاصفةً - برفع الريح.
فمن قرأ الريحُ عَاصِفَةً بالنصب فهي عطف على الجبال.
والمعنى وسخرنا مع داود الجبال ، وسخرنا لسليمان الريح ، وعاصفةً منصوب على الحال ومن قرأ الريحُ

(3/400)


رفع كما تقول : لزيد المال ، وهذا داخل في معنى التسخير ، لأنه إذا قال
(تجري بأمره إلى الأرض) ففي الكلام دليل على أن اللَّه جل ثناؤه - سخَّرهَا.
* * *
وقوله : (وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82)
يجوز أن يكون موضع " مَنْ " نصباً عطفاً على الريح ، ويجوز أن يكون " مَنْ "
- في موضع رفع من جهتين :
إحداهما العطف على الريح ، المعنى ولسليمان الريح وله من يَغُوصونَ من الشياطين ، ويجوز أن يكون رفعاً بالابتداء ، ويكون " له " الخبر.
وقوله : (وَيعملون عَمَلاً دُونَ ذَلِكَ).
معناه سوى ذلك ، أي سوى الغوص.
(وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ).
كان اللَّه يحفظهم مِن أنْ يُفْسِدُوا مَا عَمِلُوا.
* * *
وقوله : (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ
(83)
(أَيُّوبَ) منصوب على معنى واذكر أَيُّوبَ.
* * *
وقوله : (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84)
أكثر التفاسير أن اللَّه - جل ثناؤه - أحيا من مات من بنيه وَبَنَاتِه ورَزَقَه
مِثلهمْ من الْوَلَدِ ، وقيل (آتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ) آتيناه في الآخرة.
* * *
(وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85)
هذا كله منصوب على (واذكر).
يقال إن ذا الكفل سمي بهذا الاسم لأنه تكفل بأمر نَبّيٍّ في أمَّتِهِ فقام بما يجب فيهم وفيه ، ويقال إنه تكفل بعمل رجل صالحٍ فقام به ، والكِفْلُ في اللغة الكسَاءُ الذي يُجْعَلُ وراء الرَّحْل على

(3/401)


عجز البعير ، وقيل الكفلُ أيْضاً النصيبُ ، قال اللَّه عزَّ وجلَّ : (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ).
* * *
وقوله : (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)
(ذَا النُّونِ) يونس ، والنون السمكة ، والمعنى واذكر ذا النون ، ويررى أنه
ذهب مغاضباً قومه ، وقيل إنه ذهَب مغاضبا مَلِكاً من الملوك.
(فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ).
أي ظن أن لن نُقَدِّرَ عَليه ما قَدَّرْنَاهُ من كونه في بطن الحوت ، ويقْدِر
بمعنى يُقَدِّر.
وقد جاء هذا في التفسير ، وقد روي عن الحسن أنه قال عَبْدٌ أبَق
مِنْ رَبِّه ، وتأويل قول الحسن أنه هرب من عذاب رَبِّه ، لا أن يُونُسَ ظن أن
الهرب ينجيه من اللَّه - عزَّ وجلَّ - وَلَا مِنْ قَدَرِه.
وقوله : (فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ).
(في الظلمات) وجهانِ ، أحدهما يعنى به ظلمةُ الليل وظلمةُ البحر.
وظلمةُ بطن الحوت ، ويجوز أن يكون " نادى في الظلمات " أن يكون أكثر
دعائه وندائه كان في ظُلُماتِ الليْلِ.
والأجود التفسير الأول لأنه في بطن الحوت لا أحسبه كان يفصل بين ظلمة الليل وظلمة غيره ولكنه أولُ ما صادف ظلمةُ الليل ثم ظلمة البحر ثم ظلمة بطن الحوت.
وجائز أنْ يَكُونَ الظلُماتُ اتفَقت في وقتٍ واحِدٍ ، فتكون ظلمة بطن الحوت في الليل والبحرِ نهايَةً في الشِّدَّةِ .

(3/402)


وقوله : (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)
(وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ)
الذي في المصحف بنون واحدة ، كَتِبَتْ ، لأن النون الثانية تَخْفَى مَعَ
الجيم ، فأمََّا ما روي عَنْ عَاصم بنون واحدة فَلَحْن لا وجه له ، لأن ما لا
يُسمَّى فاعِلُه لا يكون بِغَير فاعل.
وقد قال بعضهم : نُجِّي النَجَاءُ المؤمنين.
وهذا خطأ بإجماع النحويين كلهم ، لا يجوز ضُرِبَ زيداً - ، تريد ضرب الضرب زيداً لأنك إذا قلتَ ضرب زيد فقد علم أنه الذي ضُربَه ضَرْبٌ ، فلا فائدة في إضماره وإقامته مع الفاعل.
ورواية أبي بكر بن عياش في قوله نُجِّي المؤمنين يخالف قراءة أبي عمروٍ نُنْجي بنونين (1).
* * *
وقوله : (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90)
(وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ)
يروى أنها كانت عقيماً فجعلها اللَّه - عزَّ وجلَّ - ولوداً ، ويروى أنه كان
في خُلُقِها سُوءٌ فأصلح اللَّه ذلك وحسنَ خُلُقَها.
وقوله : (وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا).
وقرئتْ رغْباً ورَهْباً ، فالرَّغبُ والرهْبُ مَصْدرَانِ ، ويجوز رُغْباً ورُهْباً ، ولا
أعلم أحداً قرأ بهما ، أعني الرغْب والرهْبُ - في هذا المَوْضِع.
والرُّغْبُ والرَّغَب مثل البُخْل والبَخَل ، والرُّشْد والرَّشَد.
* * *
وقوله : (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (91)
" التي " في موضع نَصْبٍ ، المعنى واذكر التي أحصنت فرجها.
ويروى في بعض التفسير أنه يعني جيبها.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { وكذلك نُنجِي } : الكاف نعتٌ لمصدرٍ أو حالٌ من ضميرِ المصدرِ . وقرأ العامَّة « نُنْجي » بضم النونِ الأولى وسكونِ الثانية مِنْ أَنْجى يُنْجي . وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم « نُجِّيْ » بتشديد الجيمِ وسكونِ الياءِ . وفيها أوجهٌ ، أحسنها : أن يكونَ الأصل « نُنَجِّي » بضمِّ الأولى وفتح الثانيةِ وتشديد الجيمِ ، فاستثقل توالي مِثْلين ، فحُذِفت الثانيةٌ ، كما حُذِفَت في قوله { وَنُزِّلَ الملائكة } [ الفرقان : 25 ] في قراءةِ مَنْ قرأه كما تقدَّم ، وكما حُذِفَتْ التاءُ الثانيةُ في قولِه { تَذَكَّرُونَ } [ الأنعام : 152 ] و { تَظَاهَرُونَ } [ البقرة : 85 ] وبابِه.
ولكنَّ أبا البقاء استضعَفَ هذا التوجيهَ بوجهين فقال : « أحدهُما : أنَّ النونَ الثانية أصلٌ ، وهي فاءُ الكلمةِ فَحَذْفُها يَبْعُدُ جداً . والثاني : أنَّ حركَتها غيرُ حركةِ النونِ الأولى ، فلا يُسْتَثْقَلُ الجمعُ بينهما بخلافِ » تَظاهَرون « ألا ترى أنَّك لو قلتَ : » تُتَحامى المظالِمُ « لم يَسُغْ حَذْفُ الثانية ».
أمَّا كونُ الثانيةِ أصلاً فلا أثرَ له في مَنْعِ الحَذْفِ ، ألا ترى أن النَّحْويين اختلفوا في إقامة واستقامة : أيُّ الألفينِ المحذوفة؟ مع أنَّ الأولى هي أصلٌ لأنَّها عينُ الكلمةِ . وأمَّا اختلافُ الحركةِ فلا أثرَ له أيضاً؛ لأنَّ الاستثقالَ باتحادِ لفظِ الحرفين على أيِّ حركةٍ كانا.
الوجه الثاني : أن « نُجِّي » فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ للمفعول ، وإنما سُكِّنَتْ لامُه تخفيفاً ، كما سُكِّنت في قوله : { مَا بَقِيْ مِنَ الربا } [ البقرة : 278 ] في قراءةٍ شاذةٍ تقدَّمَتْ لك . قالوا : وإذا كان الماضي الصحيحُ قد سُكِّن تخفيفاً فالمعتلُّ أولى ، فمنه :
3357 إنّما شِعْرِيَ قَيْدٌ . . . قد خُلِطْ بجُلْجُلانِ
وقد ذَكَرْتُ منه جملةً صالحةً.
وأُسْنِدَ هذا الفعلُ إلى ضميرِ المصدرِ مع وجودِ المفعول الصريحِ كقراءةِ أبي جعفرٍ { ليجزى قَوْماً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } [ الجاثية : 14 ] وهذا رأيُ الكوفيين والأخفش . وقد ذكرْتُ له شواهدَ فيما مضى من هذا التصنيفِ ، والتقدير : نُجِّيَ النَّجاءُ . قال أبو البقاء : « وهو ضعيفٌ من وجهين ، أحدُهما : تسكينُ آخرِ الفعلِ الماضي ، والآخرُ إقامةُ المصدرِ مع وجودِ المفعولِ الصَّريح » . قلت : عَرَفْتَ جوابَهما ممَّا تقدم.
الوجه الثالث : أنَّ الأصلَ : ننجِّي كقراءةِ العامة ، إلاَّ أنَّ النونَ الثانيةَ قُلِبَتْ جيماً ، وأُدغِمت في الجيم بعدها . وهذا ضعيفٌ جداً؛ لأن النونَ لا تُقارِبُ الجيمَ فتُدغَمُ فيها.
الوجه الرابع : أنه ماضٍ مسندٌ لضمير المصدرِ أي : نُجِّي النَّجاءُ كما تقدم في الوجه الثاني ، إلاَّ أن « المؤمنين » ليس منصوباً بنجِّي بل بفعلٍ مقدرٍ ، وكأنَّ صاحبَ هذا الوجهِ فَرَّ من إقامةِ غيرِ المفعول به مع وجودِه ، فجعله مِنْ جملةٍ أخرى.
وهذا القراءةُ متواترةٌ ، ولا التفاتَ على مَنْ طَعَن على قارئِها ، وإنْ كان أبو عليٍ قال : « هي لحنٌ » . وهذه جرأةٌ منه قد سبقه إليها أبو إسحاق الزجَّاج . وأمَّا الزمخشري فلم يَطْعن عليها ، إنما طعن على بعضِ الأوجهِ التي قدَّمْتُها فقال : « ومَنْ تَمَحَّل لصحتِه فجعله فُعِل وقال : نُجِّي النَّجاءُ المؤمنين ، فأرسل الياء وأسنده إلى مصدرِه ونَصَبَ المؤمنين ، فتعسُّفٌ باردُ التعسُّفِ » . قلت : فلم يَرْتَضِ هذا التخريجَ بل للقراءةِ عنده تخريجٌ آخرُ . وقد يمكنُ أن يكونَ هو الذي بدأت به لسلامتِه ممَّا تقدَّم من الضعف.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(3/403)


(وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ)
لو قيل آيتين لصلح ، ولكن لما كان شأنهما واحدا ، وكانت الآية فيهما جميعا معناها آية واحدة ، وهي ولادة من غير فحل ، جاز أن يقول آية.
وقوله : (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92)
(أُمَّتُكُمْ) رفع خبر هذه ، المعنى أن هذه أمتكم في حال اجتماعها على الحق ، فإذا افترقت فليس من خالف الحق داخلا فيها ، ويقرأ (أمةٌ واحدةٌ) ، على أنه خبر بعد خبر ، ومعناه إن هذه أمة واحدة ليست أمماً ، ويجوز نصب (أُمَّتَكُمْ) على معنى التوكيد ، قيل إن أمتكم كلها أمة واحدة (1).
وقوله : (وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ)
المعنى أن الله أعلمهم أن أمر الحجة واحد ، وأنهم تفرقوا ، لأن تقطيعهم أمرهم بينهم تفرقة.
وقوله : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (94)
كفران : مصدر مثل الغفران والشكران ، والعرب تقول :
غفرانك لا كفرانك.
وقوله عز وجل : (وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (95)
قُرئت : حِرمٌ وحَرَامٌ ، هاتان أكثر القراءة ، وقد قرئت حَرُمَ على قريةٍ ، وحَرِم على قريةٍ.
وجاء في التفسير حِرمٌ في معنى حتْمٌ.
وجاء أيضا عن ابن عباس أنه قال :
حَتْم عليهم ألا يرجعوا إلى دنياهم ، وجاء عنه وعن قَتادة أنهم لا يرجعون إلى توبة ، وعند أهل اللغة حِرْمٌ وحرام في معنى واحد ، مثل : حِلٌ وحلالٌ.
وظاهر "حرام عليهم أنهم لا يرجعون" ، يحتاج إلى أن يُبَيَّن ، ولا أعلم أحداً من أهل اللغة ، ولا من أهل التفسير بَيَّنه.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { أُمَّةً وَاحِدَةً } : العامَّةُ على رفع « أمتكُم » خبراً ل « إنَّ » ونصب « أمةً واحدةً » على الحالِ . وقيل على البدل من « هذه » ، فيكونُ قد فُصِلَ بالخبرِ بين البدلِ والمبدلِ منه نحو « إن زيداً قائمٌ أخاك ».
وقرأ الحسنُ « أُمَّتَكم » بالنصبِ على البدل من « هذه » أو عطف البيان . وقرأ أيضاً هو وابن أبي إسحاق والأشهبُ العقيلي وأبو حيوة وابن أبي عبلة وهارون عن أبي عمرو « أُمَّتُكم أمَّةٌ واحدةٌ » برفع الثلاثة على أنْ تكونَ « أمتُكم » خبرَ « إنَّ » كما تقدَّم و « أمةٌ واحدةٌ » بدلٌ منها بدلُ نكرةٍ من معرفةٍ ، أو تكونَ « أمةٌ واحدةٌ » خبرَ مبتدأ محذوفٍ . اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(3/404)


وهو - واللَّه أعلم - أنه لما قال : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (94)
أعلمنا أن اللَّه عزَّ وجلَّ قَِد حرَّمَ قُبُولَ أعمال الكافرين وبين ذلك بقوله : (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ)
فالمعنى حَرام عَلَى قَرْيةٍ أهلكناها أن نَتقبل منهم عملًا لأنهم لا يرجعون ، أي لا يتوبون ، وحَرِمَ وحَرُمَ في معنى حرام.
إلا أنَّ حَرَاماً اسم ، وحَرِمَ وَحَرُمُ فعل (1).
* * *
وقوله : (حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ
(96)
بهمزٍ وغير هَمْزٍ ، وهما قبيلَتَانِ من خلق اللَّه.
ويروى أن الناس عشرة أجزاء تسعة منهم يأجوج ومأجوج ، وهما اسمان أعجميان ، واشتقَاقُ مثلهما من كلام العَرَبِ يخرج من أججت النار ، ومن النار الأجَاجِ وهو أشَد وهو الشديد الملوحة ، المحرق من مُلُوحَتِهِ.
وقوله : (وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ)
ورويت أيضاً من كل جَدَثٍ ينسلون ، - بالجيم والثاء - والأجود في
هذا الحرف ، (حَدَبٍ يَنْسِلُونَ) بالحاء ، والحدب كل أكَمةٍ ، و (يَنْسِلُونَ) يُسْرِعُونَ.
* * *
وقوله : (وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97)
قال بعضهم : [لا يجوز طرح الواو] (2).
والجوابُ عِندَ البَصْريِّينَ قوله : (يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا)
وههنا قول محذوف ، المعنى حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوجُ واقترب الوعْدُ الحق قالوا : (يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ).
وجاء في التفسير أن خروجَ يأجوجَ ومأجوجَ من أعْلَامِ الساعة.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { وَحَرَامٌ } : قرأ الأخَوان وأبو بكر ورُوِيَتْ عن أبي عمرو « وحِرْمٌ » بكسرِ الحاء وسكونِ الراءِ . وهما لغتان كالحِلِّ والحَلال . وقرأ بن عباس وعِكْرمة و « حَرِمَ » بفتح الحاء وكسر الراء وفتح الميم ، على أنه فعلٌ ماضٍ ، ورُوي عنهما أيضاً وعن أبي العالية بفتح الحاء والميم وضمِّ الراءِ بزنة كُرمَ ، وهو فعلٌ ماض أيضاً . ورُوي عن ابن عباس فتحُ الجميع . وهو فعلٌ ماضٍ أيضاً . واليمانيُّ بضم الحاء وكسر الراءِ مشددةً وفتح الميم ماضياً مبنياً للمفعول . ورُوي عن عكرمةَ بفتح الحاء وكسرِ الراء و تنوين الميم.
فَمَنْ جعله اسماً : ففي رفعه وجهان ، أحدهما : أنه مبتدأ ، وفي الخبر حينئذٍ ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدهُا : قوله { أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } وفي ذلك حينئذٍ أربعةُ تأويلاتٍ ، التأويلُ الأولُ : أنَّ « لا » زائدةٌ والمعنى : وممتنعٌ على قريةٍ قدَّرْنا إهلاكَها لكفرِهم رجوعُهم إلى الإِيمانِ ، إلى أَنْ تقومَ الساعةُ . وممَّن ذهب إلى زيادتِها أبو عمروٍ مستشهداً عليه بقولِه تعالى : { مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ } [ الأعراف : 12 ] يعني في أحدِ القولين . التأويل الثاني : أنها غيرُ زائدةٍ ، وأنَّ المعنى : أنَّهم غيرُ راجعين عن معصيتهم وكفرِهم . التأويلُ الثالث : أنَّ الحرامَ يُرادُ به الواجب . ويَدُلُّ عليه قولُه تعالى : { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ } [ الأنعام : 151 ] وتَرْكُ الشِّرْكِ واجبٌ ، ويَدُلُّ عليه أيضاً قولُ الخنساء :
3359 حرامٌ عليَّ لا أرى الدهرَ باكياً . . . على شَجْوِه إلا بَكَيْتُ على صَخْرِ
وأيضاً فمن الاستعمالِ إطلاقُ أحدٍ الضدين على الآخرِ.
ومِنْ ثَمَّ قال الحسن والسدي : لا يَرْجِعون عن الشرك . وقال قتادة : إلى الدنيا . التأويل الرابع : قال أبو مسلم ابن بَحْر : « حرامٌ : ممتنع . وأنهم لا يرجعون : انتفاء الرجوعِ إلى الآخرةِ ، فإذا امتنع الانتفاءُ وَجَبَ الرجوعُ . فالمعنى : أنه يجبُ رجوعُهم إلى الحياة في الدار الآخرة . ويكون الغرضُ إبطالَ قولِ مَنْ يُنْكر البعثَ . وتحقيقُ ما تقدَّم من أنه لا كُفْرانَ لسَعْي أحدٍ ، وأنه يُجْزَى على ذلك يومَ القيامةِ » . وقولُ ابن عطية قريبٌ من هذا قال : « وممتنعٌ على الكفرةَ المُهْلَكين أنهم لا يَرْجعون إلى عذاب الله وأليم عِقابِه ، فتكون » لا « على بابِها ، والحرامُ على بابه ».
الوجه الثاني : أنَّ الخبرَ منحذوفٌ تقديرُه : حرامٌ توبتُهم أو رجاءُ بعثهم ، ويكونُ « أنَّهم لا يَرْجعون » علةً لما تقدَّم من معنى الجملة ، ولكن لك حينئذ في « لا » احتمالان ، الاحتمال الأول : أَنْ تكونَ زائدةً . ولذلك قال أبو البقاء في هذا الوجهِ بعدَ تقديرِه الخبرَ المتقدم : « إذا جَعَلْتَ لا زائدةً » قلت : والمعنى عنده : لأنهم يَرْجعون إلى الآخرة وجزائها . الاحتمال الثاني : أن تكونَ غيرَ زائدةٍ بمعنى : ممتنعٌ توبتُهم أو رجاءُ بعثِهم؛ لأنهم لا يَرْجعون إلى الدنيا فَيَسْتدركوا فيها ما فاتهم من ذلك.
الوجهُ الثالث : أَنْ يكونَ هذا المبتدأ لا خبرَ له لفظاً ولا تقديراً ، وإنما رَفَع شيئاً يقوم مقامَ خبرِه من باب « أقائم أخواك » . قال أبو البقاء : « والجيدُ أن يكونَ » أنهم « فاعلاً سَدَّ مَسَدَّ الخبر » ، قلت : وفي هذا نظرٌ؛ لأن ذلك يًُشْترطُ فيه أن يَعتمد الوصفُ على نفيٍ أو استفهامٍ ، وهنا فلم يعتمِدْ المبتدأُ على شيءٍ من ذلك ، اللهم إلاَّ أَنْ ينحوَ نَحْوَ الأخفشِ ، فإنه لا يَشترطُ ذلك . وقد قررتُ هذه المسألةَ في غيرِ هذا الموضوع ، والذي يظهر قولُ الأخفش ، وحينئذ يكون في « لا » الوجهان المتقدمان من الزيادة وعدمِها ، باختلاف معنيين : أي امتنع رجوعُهم إلى الدنيا أو عن شركِهم إذا قَدَّرْتَها زائدةٌ ، أو امتنع عدمُ رجوعِهم إلى عقابِ اللهِ في الآخرة إذا قَدَّرْتها غيرَ زائدة.
الوجه الثاني : من وجهَيْ رفعِ « حرام » أنه خبرُ مبتدأ محذوف ، فقدَّره بعضهم : الإِقالةُ والتوبةُ حرامٌ . وقَدَّره أبو البقاء : « أي ذلك الذي ذُكِرَ من العملِ الصالحِ حرامٌ » . وقال الزمخشري : « وحرامٌ على قريةٍ أهلكناها ذَاك ، وهو المذكورُ في الآية المتقدمةِ من العملِ الصالح والسَّعيِ المشكورِ غير المكفورِ . ثم عَلَّل فقيل : إنهم لا يرجعون عن الكفر فكيف لا يمتنع ذلك؟
وقرأ العامَّةُ » أَهْلكناها « بنونِ العظمة . وقرأ أبو عبد الرحمن وقتادةُ » أهلكتُها « بتاءِ المتكلم . ومَن قرأ » حَرِمٌ « بفتح الحاءِ وكسرِ الراء وتنوينِ الميم ، فهو في قراءتِه صفةٌ على فَعلِ نحو : حَذِر . وقال :
3360 وإن أتاه خليلٌ يومَ مسألةٍ . . . يقولُ لا غائبٌ مالي ولا حَرِمُ
ومَنْ قرأه فعلاً ماضياً فهو في قراءتِه مسندٌ ل » أنَّ « وما في حَيِّزها . ولا يَخْفى الكلامُ في » لا « بالنسبة إلى الزيادةِ وعدمِها ، فإنَّ المعنى واضحٌ مما تقدَّم وقُرِىء » إنَّهم « بالكسرِ على الاستئناف ، وحينئذٍ فلا بد من تقديرِ مبتدأ يَتِمُّ به الكلام ، تقديرُه : ذلك العملُ الصالحُ حرامٌ . وتقدَّم تحريرُ ذلك. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(2) التصويب من تفسير البغوي.

(3/405)


قوله : (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ
(98)
قرئت على ثلاثهَ أوجه ، حَصَبُ " جهَنمَ ، وحطب جهَنَّمَ ، وحَضَبُ جَهَنمَ
- بالضاد معجمة - . فمن قرأ حصَبُ فمعناها كل ما يرمى به في جهنم ومن
قال حطب فمعناه ما توقد به جهنم - كما قال عزَّ وجلَّ : (وَقُودُهَا النَّاسُ
والحِجَارَةُ) ، ومن قال . حَضب - بالضادِ معجمة - فمعناه ما تهيجُ به النارُ
وتُذْكى به ، والحَضْبُ الحيَّةُ (1).
* * *
وقوله : (يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104)
وللكتاب ، ويقرأ السِّجْل بتخفيف اللام ، فمن خَففَ أسْكَنَ الجيم.
وجاء في التفسير أن السِّجِل الصحِيفةُ التي فيها الكتابُ.
وقيل إن السِّجِلً مَلَك وقيل إن السِّجل بِلُغَةُ الجيْشِ الرجُل.
وعن أبي الجوزاء أن السِّجِل كاتب كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - وتَمَامُ الكلام (للكُتُب).
وقوله : (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ).
مستأنف ، المعنى نبعث الخلق كما بدأناهم ، أي قدرتنا على الإعادة
كَقدرتنا على الابتداء ، ويجوز " يوم تُطوى السَّمَاءُ كطي السجِل "
ويجوز يوم يَطْوِي السمَاءَ كطيِّ السُّجِل ، ولم يقرأ (يَطْوِي).
وقرئت نَطْوِي وتُطْوَى بالنون والتاء (2).
وقوله : (وَعْدًا عَلَيْنَا).
(وَعْدًا) منصوب على المصَدْرِ ، لأن قوله (نُعِيدُهُ) بمعنى وَعَدْنَا هَذَا وَعْدًا
__________
(1) قال السَّمين :
وقرأ العامَّةُ « حَصَبُ » بالمهملتين والصادُ مفتوحةٌ ، وهو ما يُحْصَبُ أي : يرمى في النارِ ، ولا يقالُ له حَصَب إلاَّ وهو في النارِ . فأمَّا [ ما ] قبل ذلك فَحَطَبٌ وشجرٌ وغير ذلك وقيل : هي لغةٌ حبشية . وقيل : يُقال له حَصَبٌ قبل الإِلقاء في النار . وقرأ ابن السَّميفع وابن أبي عبلة ورُويت عن ابنِ كثير بسكونِ الصادِ وهو مصدرٌ ، فيجوز أن يكونَ واقعاً موقع المفعول ، أو على المبالغةِ أو على حَذْفِ مضافٍ . وقرأ ابن عباس بالضاد معجمةً مفتوحة أو ساكنةً ، وهو أيضاً ما يُرمَى به في النار ، ومنه المِحْضَبُ : عُوْدٌ تُحَرَّك به النارُ لِتُوقَدَ . وأًنْشِدَ :
3364 فلا تَكُ في حَرْبِنا مِحْضَباً . . . فتجعلَ قومَك شَتَّى شُعوبا
وقرأ أميرُ المؤمنين وأُبَيٌّ وعائشة وابن الزبير « حَطَبُ » بالطاء ، ولا أظنُّها إلاَّ تفسيراً لا تلاوةً . اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(2) قال السَّمين :
قوله : { يَوْمَ نَطْوِي } : فيه أوجهٌ ، أحدها : أنه منصوبٌ ب « لا يَحْزُنُهم » . والثاني : أنه منصوبٌ ب « تتلقَّاهم » . الثالث أنه منصوبٌ بإضمار اذكر أو أعني . الرابع : أنه بدلٌ من العائدِ المقدرِ تقديرُه : تُوْعَدُونه/ يومَ نَطْوي ف « يومَ » بدل من الهاء . ذكره أبو البقاء . وفيه نظرٌ؛ إذ يَلْزَمُ مِنْ ذلك خُلُوُّ الجملةِ الموصولِ بها من عائدٍ على الموصول ، ولذلك مَنَعُوا « جاء الذي مررتُ به أبي عبد الله » على أن يكونَ « أبي عبد الله » بدلاً من الهاء لِما ذكرْتُ ، وإن كان في المسألة خلاف . الخامس : أنه منصوبٌ بالفزع ، قاله الزمخشري ، وفيه نظر؛ من حيث إنه أَعْمَلَ المصدرَ الموصوفَ قبل أَخْذِه معمولَه.
وقد تقدَّم أنَّ نافعاً يقرأ « يُحْزِنُ » بضم الياء إلاَّ هنا ، وأن شيخَه ابن َ القَعْقاع يَقْرأ « يَحْزُن » بالفتح إلاَّ هنا.
وقرأ العامَّة « نَطْوي » بنون العظمة وشيبة بن نصاح في آخرين « يطوي » بياء الغَيْبة ، والفاعلُ هو الله تعالى ، وقرأ أبو جعفر في آخرين « تطوى » بضمِّ التاءِ مِنْ فوقُ وفتحِ الواوِ مبنياً للمفعول.
وقرأ العامَّةُ « السِّجِلِّ » بكسر السينِ والجيمِ وتشديدِ اللامِ كالطِّمِرِّ . وقرأ أبو هريرة وصاحبُه أبو زرعةَ بن عمرو بن جرير بضمِّهما ، واللامُ مشددةٌ أيضاً بزنةِ « عُتُلّ » . ونقل أبو البقاء تخفيفَها في هذه القراءةِ أيضاً ، فتكونَ بزنةِ عُنُق ، وأبو السَّمَّال وطلحة والأعمش بفتح السين . والحسن وعيسى بن عمر [ بكسرِها ] . والجيمُ في هاتين القراءتين ساكنةٌ واللامُ مخففةٌ ، قال أبو عمرو : « قراءةُ أهلِ مكةً مثل قراءةِ الحسن ».
والسِّجِلُّ : الصحيفةُ مطلقاً . وقيل : بل هو مخصوصٌ بصحيفةِ العهد ، وهي من المساجلةِ ، والسَجْل : الدَلْوُ الملأى . وقال بعضهم : هو فارسيٌّ معرَّب فلا اشتقاقَ له.
و « طَيّ » مصدرٌ مضافٌ للمفعولِ . والفاعلُ محذوفٌ تقديرُه : كما يطوي الرجلُ الصحيفةَ ليكتبَ فيها ، أَو لما يكتُبه فيها من المعاني ، والفاعلُ يُحْذف مع المصدرِ باطِّراد . والكلامُ في الكاف معروفٌ أعني كونَها نعتاً لمصدرٍ مقدرٍ أو حالاً مِنْ ضميرِه . وأصلُ طيّ : طَوْيٌ فأُعِلَّ كنظائره.
وقيل : السِّجِلُّ سامُ مَلَكٍ يَطْوي كتبَ أعمالِ بني آدم . وقيل : اسمُ رجلٍ كان يكتب لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم . وعلى هذين القولين يكون المصدرُ مضافاً لفاعله . و « الكتاب » اسمٌ للصحيفةِ المكتوبِ فيها . وقال أبو إسحاق : « السِّجِلُّ : الرجلُ بلسان الحبشة » . وقال الزمخشري : كما يطوى الطُّومارُ للكتابة ، أي : ليُكتبَ فيه ، أو لما يُكتب فيه؛ لأن الكتابَ أصلُه المصدرُ كالبناء ثم يوقع على المكتوب « . فقدَّره الزمخشريُّ من الفعلِ المبنيِّ للمفعول.
وقد عَرَفْتَ ما فيه من الخلاف.
واللام في « للكتاب » : إمَّا مزيدةٌ في المفعولِ إنْ قلنا إنَّ المصدرَ مضافٌ لفاعلِه ، وإمَّا متعلقةٌ بطَيّ ، وإمَّا بمعنى « على » . وهذا ينبغي أَنْ لا يجوزَ لبُعْدِ معناه على كل قولٍ . والقراءاتُ المذكورةُ في « السِّجِلْ » كلُّها لغات . وقرأ الأخَوان وحفص « للكتب » جمعاً ، والباقون « للكتاب » مفرداً ، والرسُم يحتملهما : فالإِفرادُ يُراد به الجنسُ ، والجمعُ للدلالةِ على الاختلافِ.
قوله : { كَمَا بَدَأْنَآ } في متعلِّقِ هذه الكافِ وجهان ، أحدُهما : أنَّها متعلقةٌ ب « نُعِيده » ، و « ما » مصدريةٌ و « بدأنا » صلتُها ، فهي وما في حَيِّزِها في محلِّ جر بالكاف . و « أولَ خَلْقٍِ » مفعولُ « بَدَأْنا » ، والمعنى : نُعيد أولَ خَلْقٍ إعادةً مثلَ بَداءَتِنا له أي : كما أبْرَزْناه من العَدَمِ إلى الوجودِ نُعيده من العَدَمِ إلى الوجود . وإلى هذا نحا أبو البقاء فإنه قال : « الكافُ نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ أي : نُعيده عَوْداً مثلَ بَدْئه » وفي قولِه : « عَوْد » نظرٌ إذ الأحسنُ أَنْ يقولَ : إعادة.
والثاني : أنها تتعلَّقُ بفعلٍ مضمرٍ . قال الزمخشري : « ووجهٌ آخرُ : وهو أَنْ تَنْتَصِبَ الكافُ بفعلٍ مضمرٍ يفسِّره » نُعيده « و » ما « موصولةٌ أي : نُعيد مثلَ الذي بَدَأْنا نُعيده ، و » أولَ خَلْقٍ « ظرف ل » بَدَأْناه « أي : أولَ ما خلق ، أو حالٌ من ضميرِ الموصولِ السَّاقط من اللفظِ الثابتِ في المعنى ».
قال الشيخ : « وفي تقديرِه تهيئةُ » بَدَأْنا « لأَنْ يَنْصِبَ » أولَ خَلْقٍ « على المفعوليةِ وقَطْعُه عنه ، من غيرِ ضرورةٍ تدعو إلى ذلك ، وارتكابُ إضمارٍ بعيدٍ مُفَسَّراً ب » نُعِيْدُه « ، وهذه عُجْمَةٌ في كتاب الله . وأمَّا قولُه » ووجهٌ آخرُ : وهو أن تنتصبَ الكافُ بفعلٍ مضمرٍ يفسِّرُه « نُعِيْدُه » فهو ضعيفٌ جداً؛ لأنه مبنيٌّ على أن الكافَ اسمٌ لا حرفٌ ، وليس مذهبَ الجمهور ، وإنما ذهب إلى ذلك الأخفشُ . وكونُها اسماً عند البصريين مخصوصٌ بالشعرِ « . قلت : كلُّ ما قَدَّره فهو جارٍ على القواعدِ المنضبطةِ ، وقادَه إلى ذلك المعنى الصحيحُ ، فلا مُؤَاخَذَةَ عليه . يظهرُ ذلك بالتأمُّلِ لغيرِ الفَطِنِ.
وأمَّا قوله : » ما « ففيها ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها : أنها مصدريةٌ . والثاني : أنَّها بمعنى الذي . وقد تقدَّم تقريرُ هذين والثالث : أنها كافةٌ للكافِ عن العملِ كما هي في قولِه :
3366 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . كما الناسُ مَجْرُوْمٌ عليه وجارِمُ
فيمَنْ رفع » الناس « . قال الزمخشري : » أولَ خَلْقٍ « مفعولُ » نُعيد « الذي يُفَسِّره » نُعِيده « ، والكافُ مكفوفةٌ ب » ما « . والمعنى : نُعيد أولَ الخَلْقِ كما بَدَأْناه تَشْبيهاً للإِعادةِ بالابتداء في تناوُلِ/ القُدْرَةِ لهما على السَّواء.
فإنْ قلتَ : فما أولُ الخَلْقِ حتى يُعيدَه كما بدأه؟ قلت : أوَّلُه إيجادُه عن العَدَمِ ، فكما أوجدَه أولاً عن عدمٍ يُعيده ثانياً عن عدمٍ «.
وأمَّا » أولَ خلق « فتَحصَّل فيه أربعةُ أوجهٍ ، أحدها : أنه مفعولُ » بَدَأْنا « . والثاني : أنه ظرفٌ ل » بَدَأْنا « . والثالث : أنه منصوبٌ على الحال مِنْ ضميرِ الموصولِ كما تقدَّم تقريرُ كل ذلك . والرابع : أنه حالٌ مِنْ مفعول » نُعيده « قاله أبو البقاء ، والمعنى : مثلَ أولِ خَلْقِه.
وأمَّا تنكيرُ » خَلْقِ « فللدلالةِ على التفصيلِ . قاله الزمخشري : » فإن قلتَ « ما بالُ » خَلْقٍ « منكَّراً؟ قلت : هو كقولِك : » هو أولُ رجلٍ جاءني « تريد : أول الرجال . ولكنك وَحَّدْتَه ونَكَّرتَه إرادةَ تفصيلِهم رجلاً رجلاً ، وكذلك معنى » أولَ خَلْقٍ « بمعنى : أول الخلائق؛ لأنَّ الخَلْقَ مصدرٌ لا يُجْمَعُ ».
قوله : { وَعْداً } منصوبٌ على المصدرِ المؤكِّد لمضمونِ الجملة المتقدِّمة ، فناصبُه مضمرٌ أي : وَعَدْنا ذلك وَعْداً. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(3/406)


وقوله : (إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ).
أي قادرين على فِعْل ما تشاءُ.
* * *
وقوله : (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105)
الزَّبُور : جميع الكتب ، التوراة ، والإنجيل ، والفرقان ، زبور ، لأن الزَّبُورَ
والكتاب بمعنىً واحدٍ . ويقال زَبَرْتُ وكتبتُ بمعنىً واحدٍ ، والمعنى : ولقد
كتبنا في الكتُبِ من بَعْدِ ذِكْرِنَا في السماء (الأرْضَ يرثها عبادِيَ الصالِحُونَ).
قيل في التفسير إنها أرْضُ الجنة ، ودَليلُ هذا القول قوله :
(أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ).
وقيل إن الأرض ههنا يعنى بها أرض الدنيا ، وهَذَا القَوْلُ أشْبَهُ -
كما قال اللَّه عزَّ وجلَّ : (يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) والأرْضُ إذَا ذُكِرَتْ فهي دليلة على الأرض التي نعرفها ، ودليل هذا القول أيضاً : قوله : (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا).
وهذه الآية من أجل شواهد الفقهاء أن الأرض ليس مجراها مجرى سائرِ
مَا يُعْمَرُ.
* * *
وقوله : (قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ
(108)
الأجود (أَنَّمَا إِلَهُكُمْ) بفتح أنَّ ، وهي القراءة ، ولو قرئت إنما لجاز ، لأن معنى

(3/407)


(يُوحَى إِلَيَّ) يُقالُ لي " ولكن القراءة الفتح لا غير.
* * *
وقوله : (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109)
(آذَنْتُكُمْ) أعْلَمْتكُم بما يوحى إليَّ لِتَسْتَوُوا في الإِيمان به.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (111)
أي وما أدري ما آذنتكم به فتنة لكم أي اختبارٌ لَكُمْ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112)
(قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ).
ويقرأ : (قَلْ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ).
ويجوز وقد قرئ به : قال رَبِّي أَحْكَمُ بالحقِّ ، وكان من مضى من الرُّسل يقولون : (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ).
ومعناه احكم ، فأمر اللَّه - عزَّ وجلَّ - نَبِيه أن يقول : (رَبِّ احكُمْ بالحَقِّ) (1).
وقوله : (وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ).
أَيْ عَلى مَا تَكْذِبُون.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { قَالَ } : قرأ حفص « قال » خبراً عن الرسولِ عليه السلام . الباقون « قل » على الأمر . وقرأ العامَّةُ « رَبِّ » بكسرِ الباءِ اجتزاءً بالكسرةِ عن ياءِ الإِضافةِ ، وهي الفصحى . وقرأ أبو جعفر بضمِّ الباءِ ، فقال صاحبُ « اللوامح » : « إنه منادى مفردٌ ثم قال : » وحَذْفُ حَرْفِ النداء فيما جاز أن يكونَ وصفاً ل « أَيّ » بعيدٌ ، بابُه الشعرُ « . قلت : ليس هذا من المنادى المفردِ ، بل نَصَّ بعضُهم على أنَّ هذه بعضُ اللغاتِ الجائزةِ في المضافِ إلى ياء المتكلم حالَ ندائه.
وقرأ العامَّةُ » احْكُمْ « على صورةِ الأمر . وقرأ ابن عباس وعكرمة وابن يعمر » رَبِّيْ « بسكونِ الياء » أَحْكَمُ « أفعلُ تفضيلٍ فهما مبتدأ وخبر.
وقُرِىء » أَحْكَمَ « بفتح الميم كألزَمَ ، على أنَّه فعلٌ ماضٍ في محلِّ خبرٍ أيضاً ل » ربِّي « وقرأ العامَّةُ » تَصِفُوْن « بالخطاب . وقرأ رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم على أُبَي رضي الله عنه » يَصِفُون « بالياء مِنْ تحت ، وهي مَرْوِيَّةٌ أيضاً عن عاصم وابن عامر . والغيبة والخطاب واضحان. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(3/408)


سورة الحج
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1)
(يَا أَيُّهَا) نداء مبهم مفرد ، وها للتنبيه ، وهو مبْنى على الضم ، والناس رفع
تبع لـ (يا أيها) ، والنحويون لا يجيزون إلا رفع الناس ههنا.
والمازني أجاز النَصْبَ في يا أيها الرجُلَ أقْبلْ ، كما تقول يا زيدُ الظريفَ والظريفُ ، وهذا غلط من المازني ، لأن زيداً يجوز الوقف والاقتصار عليه دون الظريف ويا أيها ليس بكلام ، وإنما القصد الناسُ ، فكأنَّه بمنزلة - يا ناس اتقوا ربكم.
وجاء في التفسير أن كل شيء جاء في كتاب اللَّه من (يا أيها الناس)
فمكي ، وما كان فيه من (يا أيها الذين آمنوا) فمدني.
* * *
وقوله : (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ).
قيل إِن هذه الزلزلة في الدنيا وأن يكون بعدها طلوع الشمس من مغربها
وقيل إنها الزلزلة التي تكون مع الساعة.
* * *
(يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)
ويجوز (تُذْهِل كُلَّ مُرْضِعَةٍ) ، ومعنى تُذْهِلُ تحَيّرُ ، وتترك كل مرضعة قد
ذَهَلَتْ عَمّا أرْضَعَتْ.
و (مُرْضِعَةٍ) جار على المُفْعِل على ما أرضعت ، ويقال :

(3/409)


امرأة مُرْضِع أي ذات رضاع أرضعت وَلَدَهَا أوْ أرْضعت غيرَهُ والقصْد قصد مُلْبِن أي ذات لَبُون وَلَبَنٍ.
وقوله : (وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى).
وقرئت : (وَتَرَى النَّاسَ سَكْرَى) واسم الفاعل مضمر في ترى.
المعنى ترى أنت أيها الِإنسان الناسَ ، ومن قرأ : (وَتَرَى النَّاسَ سَكْرَى) كان بمنزلة وترى أنت الناس سَكرى.
وفيه وجه آخرُ مَا قُرِئ بِهِ وهو (وُيرَى الناسُ سَكْرَى)
فيكون الناس اسم يُرَى ، ووجه آخر لم يقرأ به : (ويرَى النَّاسَ سَكرى).
المعنى ويرَى الِإنسانُ الناس سَكرى.
ويقرأ وتَرَى الناسَ سَكْرَى وما هم بسَكرى ، وترى الناسَ سُكارى وما هم
بسكارى.
ويجوز وترى الناس سَكارَى ومال هم بسَكارَى.
والقراءة الكثيرة : (وترى الناسَ سَكْرَى وما هُمْ بسُكْرى).
(وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى) أيضاً.
والتفسير أنك تراهم سكارى من العذاب والخوف ، وما هم بسكارى من
الشَرابِ ويدل عليه : (وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ) (1).
* * *
وقوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3)
أي يتبع ما يُسَوِل له الشيطان ، ومرِيد وَمَارِد معناه أنه قد مَرَدَ في الشرِّ.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { يَوْمَ } : فيه أوجهٌ ، أحدُها : أَنْ يَنْتَصِبَ ب « تَذْهَلُ » ولم يذكُرِ الزمخشريُّ غيره . الثاني : أنه منصوبٌ ب « عظيم » . الثالث : أنه منصوبٌ بإضمار اذكر . الرابع : أنه بدلٌ من الساعة . وإنما فُتح لأنه مبنيٌّ لإِضافتِه إلى الفعلِ . وهذا إنما يتمشى على قولِ الأخفش ، وقد تَقَدَّم تحقيقُه آخرَ المائدة . الخامس : أنه بدلٌ من « زلزلة » بدلُ اشتمالٍ؛ لأنَّ كلاً من الحدثِ والزمانِ يَصْدُقُ أنه مشتملٌ على الآخر ، ولا يجوزُ أَنْ ينتصِبَ ب « زلزلة » لِمَا يَلْزَمُ من الفصلِ بين المصدرِ ومعمولِه بالخبر.
قوله : { تَرَوْنَهَا } في هذا الضميرِ قولان ، أظهرهما : أنه ضميرُ الزلزلةِ لأَنها المحدَّثُ عنها ، ويؤيِّدُه أيضاً قولُه { تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ } . والثاني : أنه ضميرُ الساعةِ . فعلى الأولِ يكونُ الذُّهولُ والوَضْعُ حقيقةً لأنه في الدنيا ، وعلى الثاني يكونُ على سبيلِ التعظيم والتهويل ، وأنها بهذه الحيثيةِ ، إذ المرادُ بالساعةِ القيامةُ ، وهو كقولِه : { يَوْماً يَجْعَلُ الولدان شِيباً } [ المزمل : 17 ].
قوله : { تَذْهَلُ } في محلِّ نصب على الحال من « ها » في « تَرَوْنَها » فإنَّ الرؤيَةَ هنا بَصَريةٌ ، وهذا إنما يَجِيْءُ على غيرِ الوجهِ الأولِ . وأمَّا الوجهُ الأولُ وهو أنَّ « تَذْهَلُ » ناصِبٌ ل « يومَ تَرَوْنَها » فلا محلَّ للجملةِ من الإِعرابِ لأنها مستأنفةٌ ، أو يكونُ محلُّها النصبَ على الحال من الزلزلة ، أو من الضمير في « عظيم » ، وإنْ كان مذكراً ، لأنَّه هو الزَّلْزَلَةُ في المعنى ، أو من الساعة ، وإن كانت مضافاً إليها ، لأنها : إمَّا فاعلٌ أو مفعولٌ كما تقدَّم . وإذا جَعَلْناها حالاً فلا بُدَّ من ضميرٍ محذوفٍ تقديرُه : تَذْهَلُ فيها.
وقرأ العامة « تَذْهَلُ » بفتح التاءِ والهاءِ ، مِنْ ذَهِل عن كذا يَذْهَلُ . وقرأ ابن أبي عبلة واليماني بضم التاء وكسرِ الهاءِ ونصبِ « كل » على المفعولية ، مِنْ أَذْهَلَه عن كذا يُذْهِله عَدَّاه بالهمزةِ ، والذُّهولُ : الاشتغالُ عن الشيءِ . وقيل : إذا كان مع دَهْشَة . وقيل : إذا كان ذلك لطَرَآنِ شاغِلٍ مِنْ هَمٍّ ومَرَضٍ ونحوِهما . وذُهْل بنُ شَيْبان أصلُه من هذا.
والمُرْضِعَةُ : مَنْ تَلَبَّسَتْ بالفعل ، والمُرْضِعُ : مَنْ شَأْنُها أَنْ تُرْضِعَ كحائض ، فإذا أريد التلبُّسُ قيل : حائِضة.
قال الزمخشري : « فإن قلتَ : لِمَ قيل مُرْضِعَة دون مُرْضع؟ قلت : المُرْضِعَةُ التي هي في حال الإِرضاعِ ملقمةٌ ثديَها الصبيَّ ، والمرضعُ التي مِنْ شأنِها أَنْ تُرْضِعَ وإن لم تباشِرْ الإِرضاعَ في حالِ وَصْفِها به » والمعنى : إنَّ مِنْ شِدَّة الهَوْلِ تَذْهَلُ هذه عن ولدِها فكيف بغيرِها؟ وقال بعضُ الكوفيين : المُرْضِعَةُ تقال للأمِّ ، والمُرْضِعُ تقال للمستأجَرَةِ غيرِ الأمِّ ، وهذا مردودٌ بقولِ الشاعر :
3369 كمُرْضِعَةٍ أولادَ أخرى وضَيَّعَتْ . . . بني بطنِها هذا الضلالُ عن القصدِ
فأَطْلَقَ المُرْضِعَةَ بالتاء على غير الأمِّ.
وقولُ العرب مُرْضِعَة يَرُدُّ أيضاً قولَ الكوفيين : إنَّ الصفاتِ المختصةَ بالمؤنثِ لا يلحقها تاءُ التأنيثِ نحو : حائِض وطالق . فالذي يُقال : إنْ قُصِد النَّسَبُ فالأمرُ على ما ذَكَروا ، وإنْ قُصِد الدلالةُ على التلبُّسِ بالفعلِ وَجَبَتِ التاءُ فيقال : حائضة وطالقة وطامِثة.
قوله : { عَمَّآ أَرْضَعَتْ } يجوزُ في « ما » أَنْ تكونَ مصدريةً أي : عن إرْضاعِها . ولا حاجةَ إلى تقديرِ حَذْفٍ على هذا . ويجوزُ أَنْ تكونَ بمعنى الذي فلا بُدَّ من حَذْفِ عائدٍ أي : أَرْضَعَتْه . ويُقَوِّيه تعدِّي « تَضَعُ » إلى مفعولٍ دونَ مصدرٍ . والحَمْلُ بالفتحِ : ما كان في بَطْنٍ أو على رأسِ شجرة ، وبالكسرِ ما كان على ظَهْرٍ.
قوله : { وَتَرَى الناس سكارى } العامَّةُ على فتحِ التاءِ من « ترى » على خطابِ الواحد . وقرأ زيدُ بن علي بضمِّ التاءِ وكسرِ الراءِ ، على أنَّ الفاعلَ ضميرُ الزلزلةِ أو الساعةِ . وعلى هذه القراءةِ فلا بُدَّ من مفعولٍ أولَ محذوفٍ ليَتِمَّ المعنى به أي : وتُرِي الزلزلةُ أو الساعةُ الخَلْقَ الناسَ سكارى . ويؤيِّد هذا قراءةُ أبي هريرة وأبي زرعة وأبي نهيك « ترى الناس سكارى » . بضمِّ التاء وفتح الراء على ما لم يُسَمَّ فاعله ، ونصب « الناسَ » ، بَنَوْه من المتعدِّي لثلاثةٍ : فالأولُ قام مَقامَ الفاعلِ ، وهو ضميرُ الخطابِ ، و « الناسَ سُكارى » هما الأولُ والثاني . ويجوز أن يكونَ متعدِّياً لاثنين فقط على معنى : وتُرِي الزلزلةُ أو الساعةُ/ [ الناسَ ] قوماً سكارى . فالناسَ هو الأول و « سكارى » هو الثاني.
وقرأ الزعفرانيُّ وعباسٌ في اختياره « وترى » كقراءة أبي هريرة إلاَّ أنهما رفعاً « الناسُ » على أنه مفعول لم يُسَمَّ فاعلُه . والتأنيثُ في الفعلِ على تأويلِهم بالجماعة.
وقرأ الأخَوان « سكرى » « وما هم بسكرى » على وزنِ وَصْفِ المؤنثةِ بذلك . واخْتُلف في ذلك : هل هو صيغةٌ جمعٍ على فَعْلَى كمَرْضى وقَتْلى ، أو صفةٌ مفردةٌ اسْتُغني بها في وصفِ الجماعة؟ خلافٌ مشهورٌ تقدَّمَ الكلامُ عليه في قوله : « أسرى » . وظاهرُ كلامِ سيبويه أنه جمعُ تكسيرٍ فإنه قال : « وقومٌ يقولون : سكرى ، جَعَلوه مثلَ مرضى لأنهما شيئان يَدْخلان على الإِنسان ، ثم جَعَلوا » روبى « مثلَ سكرى وهم المُسْتَثْقلون نَوْماً من شربِ الرائب . وقال الفارسي : » ويَصِحُّ أن يكونَ جمعَ « سَكِر » كزَمِن وزمنى . وقد حُكي « رجلٌ سَكِر » بمعنى سَكْران فيجيءُ سكرى حينئذٍ لتأنيث الجمع « . قلت : ومِنْ ورودِ » سَكِر « بمعنى سَكْران قولُه :
3370 وقد جَعَلْتُ إذا ما قُمْتُ يُثْقِلُني . . . ثَوْبي فأنهضُ نَهْضَ الشاربِ السَّّكِرِ
وكنتُ أَمْشي على رِجْلين مُعْتَدِلاً . . . فصِرْتُ أَمْشِي على أخرى من الشَّجر
ويُروى البيتُ الأول » الشارِبِ الثَّمِلِ « ، والأولُ أَصَحُّ لدلالةِ البيت الثاني عليه.
وقرأ الباقون » سكارى « بضمِّ السين.
وقد تَقَدَّم لنا في البقرة خلافٌ : هل هذه الصيغةُ جمعُ تكسيرٍ أو اسمُ جمع؟
وقرأ أبو هريرةَ وأبو نهيك وعيسى بفتح السين فيهما ، وهو جمع تكسير ، واحدُه سَكْران . قال أبو حاتم : « وهي لغةُ تميم ».
وقرأ الحسنُ والأعرج وأبو زرعة والأعمش « سكرى » « بسكرى » بضمِّ السين فيهما . فقال ابن جني : « هي اسمٌ مفردٌ كالبُشْرَى . بهذا أفتاني أبو علي » . وقال أبو الفضل : « فُعْلَى بضمِّ الفاءِ مِنْ صفةِ الواحدةِ من الإِناثِ ، لكنها لَمَّا جُعِلَتْ من صفاتِ الناس وهم جماعة ، أُجْرِيَتْ الجماعة بمنزلة المؤنثِ الموحَّدِ » . وقال الزمخشري : « هو غريبٌ » . قلت : ولا غرابةَ؛ فإنَّ فعلى بضم الفاء كَثُر مجيئُها في أوصافِ المؤنثة نحو الربى والحبلى وجَوَّز أبو البقاء فيه أن يكونَ محذوفاً مِنْ سكارى . وكان مِنْ حَقِّ هذا القارىء أَنْ يُحَرِّكَ الكافَ بالفتح إبقاءً لها على ما كانَتْ عليه . وقد رواها بعضُهم كذلك عن الحسن . وقُرِىء « ويرى الناسُ » بالياء من تحت ورفع « الناسُ ».
وقرأ أبو زرعة في روايةٍ « سَكْرى » بالفتح ، « بسُكْرى » بالضم . وعن ابن جبير كذلك ، إلاَّ أنه حَذَف الألفَ من الأول دون الثاني.
وإثباتُ السُّكْرِ وعَدَمُه بمعنى الحقيقة والمجاز أي : وترى الناس سكرى على التشبيه ، وما هم بسَكْرى على التحقيق . قال الزمخشري : « فإنْ قلتَ : لِمَ قيل أولاً : تَرَوْن ، ثم قيل : » ترى « على الإِفراد؟ قلت : لأنَّ الرؤيةَ أولاً عُلِّقَتْ بالزلزلة ، فَجُعِل الناسُ جميعاً رائِيْنَ لها ، وهي معلَّقَةٌ أخيراً بكونِ الناسِ على حالِ السُّكر ، فلا بُدَّ أن يُجْعَلَ كلُّ واحدٍ منهم رائياً لسائرِهم ». اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(3/410)


وتأويل المروَدِ أن يبلغ الغاية التي يخرج بها من جملة ما عليه ذلك الصنفُ.
وجائز أن يُسْتَعْمل ذلك في غير الشيطان ، فتقول قد تمرد هذا السيِّئ أي قد
جاوز حَدَّ مثله ، وأصله في اللغة امْلِسَاسُ الشيء ، من ذلك قولك للِإنسان
أمْرَدَ إذا لم يكن في وَجْهِهِ شَعْر ، ويَقَال للصخرة مرداء إذا كانت ملساء.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4)
(أَنَّهُ) في موضع رفع.
(فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ) ، عطف عليه ، وموضعه رفع أيضاً ، والفاء الأجود فيها
أن تكون في معنى الجزاء ، وجائز كسر إنَّ مع الفاء ، ويكون جزاء لا غير.
والتأويل : كُتِب عليه أي على الشيطان إضْلَال متَولِّيه وهدايتُهم إلى
عذاب السعير ، وحقيقة " أن " الثانية أنها مكررة مع الأولى على جهة التوكيد ، لأن المعنى كُتبَ عليه أنه من تولاه أضله.
* * *
وقوله : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5)
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ)
ويقرأ من البَعَثِ بفتح العين ، والريب الشك ، فأمَّا البَعَثَ بفتحْ العين -
فذكر جميع الكوفيين أن كل ما كان ثانيه حرفاً من حروف الحلق ، وكان
مُسكَناً مفتوح الأول جاز فيه فتح المسَكن نحو نَعْل ونَعَل ، وشَعْر وشَعَر ، ونَهْر ونَهَر ، ونَخْل ونَخَل.
فأمَّا البصريون فيزعمونَ أن ما جاء من هذا فيه اللغتان
تُكُلِّمَ به على ما جاءَ.
وما كان لم يسمع لم يَجزْ فيه التحريك نحو وَعْد ، لأنك
لا تقول : لك عَلَيَّ وَعَدٌ ، أي عَلَيَّ وِعْدَة ، ولا في هذا الأمْر وَهَن - في

(3/411)


معنى وَهْن - . وهذا في بابه مثل رَكٍّ ، ورَكَكٍ وقدْرٍ وقدَرٍ ، وَقَصِّ الشَاةِ
وقَصَصِهَا فلا فرق في هذا بين حروف الحلق وغيرها.
وقيل للذين جحدوا البعث وهم المشركون : إن كنتم في شَكِّ من أنَّ
اللَّه يبعث الموتى فتدبروا أمر خلقكم وابتدائكم فإنكم لا تجدون في القدرة
فرقاً بين ابتداء الخلق وإعادته ، وإحياء الموتى.
ثم بين لهم ابتداء خَلْقِهم فَأعْلَمهُم أنهم خُلقوا من تراب ، وهو خلق آدم عليه السلام ، ثم خُلِقَ ولدُه من نطفة ، ثم من عَلَقَةٍ ثم من مُضْغَةٍ.
وأعلمهم أحوال خلقهم.
ويُروى أن الِإنسانَ يكُونُ في البطن نطفةً أربعين يوماً ثم مُضْغَةً أرْبَعينَ
يوماً ، ثم يبعث اللَّهُ مَلَكاً فينفخ - فيه الروح.
ومعنى (مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ)
وصف الخَلق أو منهم من يُتَمَّمُ مضغته فتخلَقُ له الأعضاءُ التي تكمل آلات
الِإنْسَانِ ومنهم من لا يتمم اللَّه خلقه.
وقوله : (لِنُبَيِّنَ لَكُمْ).
أي ذكرنا أحوال خلق الِإنسان.
ووجه آخر هو خلقناكم هذا الخلق (لِنُبَيِّنَ لَكُمْ).
(وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ).
لا يجوز فيها إلا الرفع ، - ولا يجوز أن يكون معناه فعلْنَا ذلك لنُقِر في
الأرحام ، وَأنَّ اللَّه - عزَّ وجلَّ - لم يخلق الأنام لما يُقَر في الأرحام ، وإنما
خلقَهُم ليدُلَّهُمْ عَلَى رُشدهم وَصَلَاحِهِمْ.
وقوله - عزَّ وجلَّ - : (ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا).
في معنى أطفال ، ودل عليه ذكر الجماعة.
وكأنَّ طفلاً يَدُل على معنى ويُخْرَجُ كل واحدٍ منكم طفلاً .

(3/412)


(ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ).
قد فسرنا الأشدَّ ، وتأويله الكَمالُ في القُوَّةِ والتمييز ، وهو ما بين الثلاثين
إلى الأربعين.
وقوله : (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ).
أرذل العمر هو الذي يخرف فيه الإِنسان من الكِبَر حتَى لا يَعْقِلَ ، وَبيَنَ
ذلك بقوله : (لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ).
ثم دَلَّهُمْ عَلى إحْيائه الموتى بإحيائه الأرض فقال :
(وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً).
يعنى جافةً ذاتَ تُرابِ.
(فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ).
وتقرأ ورَبأتْ.
فاهتزازها تحركُها عند وقُوع المَاءِ بها وإنباتها.
ومَنْ قرأ : (وَرَبَتْ) فهو من ربا يربو إذا زاد على أي الجهات ، وَمَنْ قَرأ وَرَبَأتْ بالهمز فمعناه ارْتَفَعَتْ.
(وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ).
أي من كل صنف حَسَنٍ من النبات.
* * *
(ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6)
المعنى الأمر ذلك ، أي الأمر ما وُصف لكم وبُيِّنَ لكُمْ (بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
فالأجْوَدُ أن يكون موضع (ذلك) رفعاً.
ويجوز أن يكون نصباً على معنى فعل اللَّه ذلك بأنه هو الحق وأنه يحي الموتى .

(3/413)


وقوله : (ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9)
وليَضِل عن سبيل اللَّه ، و (ثَانِيَ) منصوب على الحال ، ومعناه التنوين.
ومعناه ثانياً عِطفَه ، وجاء في التفسير أن معناه لَاوِياً عُنُقَه ، وهذا يوصف به.
فالمعنى ومن الناس من يجادل في الله بغير علم مُتَكَبِّراً.
* * *
وقوله : (ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (10)
يقال : هذا العذاب بما قدمت يداك ، وموضع (ذلك) رفع بالابتداء.
وخبره (بما قَدَّمَتْ يَدَاكَ) ، وموضع " أن " خفض
المعنى ذلك بما قدمت يداك وبأن الله ليس بظلام للعبيد.
ولو قرئت (إن) بالكسر لجاز.
ويجوز أن يكون موضع (ذلك) رفعاً على خبر الابتداء.
المعنى الأمر (ذلك بما قدمت يداك).
ويكون موضع أن الرفع على معنى (أنَّ اللَّهَ ليس بظلام للعبيد).
* * *
(قوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11)
جاء في التفسير على شَكٍّ ، وحقيقتُه أنَّه يعبدُ اللَّه على حَرْفِ الطرِيقَةِ
في الدِّينِ ، لا يدخل فيه دخول متمكن.
(فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ).
أي إن أصابه خِصْث وكَثرَ مَالُه وماشِيَتُه اطْمأنَّ بما أصابه ورضي بدينه.
(وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ).
اختبار بجدْب وقِلَّةِ مَالٍ.
(انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ).
رجع عن دينه إلى الكفر وعبادة الأوثان.
* * *
وقوله : (يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12)
يعنى يدعو الوثن الذي لا يَسْمَع ولا يُبْصِر ولا ينفعُ ولا يضرُّ .

(3/414)


وقوله : (يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13)
فقال : ولا يضره ، وقال ضَره أقربُ من نفعه ، معناه الضَرَرُ بعبادَتِه أقرب
من النفع.
فإن قال قائل : كيف يقال : أقرث من نفعه ولا نفع من قِبَلِهِ ألبتَّةَ ؟
فالعرب تقول لِمَا لَا يكون : هذا بعيد ، والدليل على ذلك قوله تعالى :
(أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3).
وقد اختلف الناس في تفسير هذه اللام ، وفي (يدعو) بأي شْيء هي
معلَّقَة ونحن نفسر جميع ما قالوه وما أغفلوه مما هو بيِّنٌ من جميع ما قالوا إن
شاء اللَّه.
قال البصريون والكوفيون : اللام معناها التأخير ، المعنى يدعو من لضَرِّه
أقربُ من نَفْعِهِ ولم يُشْبِعُوا الشرحَ ، ولا قالوا من أين جاز أن تَكُونَ اللام فِي
غير مَوْضِعِها.
وشرح ذلك أن اللام لليمين والتوكيد فحقها أن تكون في أول
الكلام فقدمت لِتُجْعَلَ في حقها ، وإن كان أصلُها أنْ تكون في " لَضَرُّهُ " كما
أن لام " إن " حَقها أن تكون في الابتداء ، فلما لم يجز أنْ تَلِيَ " إنَّ " جُعِلَت في الخَبر في مثل قولك : إنَّ زيداً لقائمٌ ، ولا يَجُوزُ " إنَّ لَزَيْداً قائِمٌ " ، فإذا أمكن أن يكون ذلك في الاسم كان ذلك أجود الكلام ، تقول إن في ذلك لآية ، فهذا قول.
وقالوا أيضاً . أن يَدعُو مَعَها هاء مُضمَرةٌ ، وأن (ذلِك) في موضع رفع
و (يدعو) في موضع الحال.
المعنى ، ذلك هو الضلال البعيد يدْعُوه ، المعنى في

(3/415)


حال دُعَائِه إيَّاهُ ، ويكون (لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ) مستأنفاً مرفوعاً بالابتداء
وخبره (لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ).
وفيه وجه آخَرُ ثَالث ، يكون يدعو في معنى يقول ، يكون من في
موضع رفع وخَبرُه محذوف ، ويكون المعنى : يقول لمن ضره أقرب من نفعه
هو مولاي ، ومثله يدعو في معنى يقول في قول عنترة.
يدعون عنتر والرماح كأنَّها . . . أشطان بئر في لبان الأدهم
ويجوز أن يكون " يَدْعو " في معنى " يُسَمِّي "
كما قال ابن أحْمَر :
أَهْوَى لها مِشْقَصاً جَشْراً فشَبْرَقَها . . . وكنتُ أَدْعُو قَذَاها الإثْمِدَ القَرِدا
ووجه هذا القول الذي قبله.
وفيها وجه رابع وهو الذي أغفله الناس ، أن " ذلك " في موضع نصب
بوقوع يدعو عليه ، ويكون " ذلك " في تأويل الذي ، ويكون المعنى الذي هو
الضلال البعيد يدعو ، ويكون (لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ) مستأنفاً (1) ، وهذا مثل قوله : (وَمَا تِلْكَ بِيَمينِك) على معنى وما التِي بيَمِينِك يَا مُوسَى.
ومثله قول الشاعر :
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ } : فيه عشرةُ أوجه ، وذلك أنَّه : إمَّا بجَعْلِ « يَدْعُو » متسلِّطاً على الجملة مِنْ قولِه : { لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ } أو لا . فإنْ جَعَلْنَاه مُتَسَلِّطاً عليها كان في سبعةُ أوجه ، أحدها : أنَّ « يَدْعُو » بمعنى يَقُوْل ، واللامُ للابتداء ، و « مَنْ » موصولةٌ في محلِّ رفعٍ بالابتدء . و « ضَرُّه » مبتدأ ثانٍ و « أقربُ » خبرُه . وهذه الجملةُ صلةٌ للموصول ، وخبرُ الموصولِ محذوفٌ تقديرُه : يقول لَلَّذي ضَرُّه أقربُ من نَفْعِه إلهٌ أو إلهي أو نحوُ ذلك . والجملةُ كلُّها في محلٍّ نصبٍ ب « يَدْعُو » لأنَّه بمعنى يَقُول ، فهي محكيَّةٌ به . وهذا قولُ أبي الحسنِ . وعلى هذا فيكون قولُه : { لَبِئْسَ المولى } مستأنفاً ليس داخلاً في المَحْكيِّ قبلَه؛ لأنَّ الكفار لا يقولون في أصنامِهم ذلك . وقد رَدَّ بعضُهم هذا القولَ بأنه فاسدُ المعنى ، والكافرُ لا يَعتقد في الأصنامِ أنَّ ضَرَّها أقربُ مِنْ نفعِها ألبتَّةََ.
الثاني : أنَّ « يَدْعُو » مُشَبَّهٌ بأفعالِ القلوب؛ لأنَّ الدعاءَ لا يَصْدُرُ إلاَّ عن اعتقادٍ ، وأفعال القلوب تُعَلَّق ، ف « يَدْعُو » مُعَلَّقٌ أيضاً باللام . و « مَنْ » مبتدأٌ موصولٌ . والجملةُ بعده صلةٌ ، وخبرُه محذوفٌ على ما مَرَّ في الوجهِ قبلَه.
والجملة في محلِّ نصبٍ ، كما تكون كذلك بعد أفعالِ القلوب . الثالث : أَنْ يُضَمَّن يَدْعُو معنى يزعم ، فيُعَلَّق كما يُعَلَّقُ ، والكلامُ فيه كالكلامِ في الوجهِ الذي قبله . الرابع : أن الأفعالَ كلَّها يجوزُ أَنْ تُعَلَّق قلبيةً كانت أو غيرَها فاللامُ معلِّقَةٌ ل « يَدْعوا » ، وهو مذهبُ يونسَ . فالجملةُ بعده الكلامُ فيها كما تقدَّم.
الخامس : أنَّ « يَدْعُوا » بمعنى يُسَمِّي ، فتكونَ اللامُ مزيدةً في المفعولِ الأولِ وهو الموصولُ وصلتُه ، ويكون المفعولُ الثاني محذوفاً تقديرُه : يُسَمِّي الذي ضَرُّه أقربُ مِنْ نفعِه إلهاً ومعبوداً ونحو ذلك . السادس : أنَّ اللامَ مُزالَةٌ/ مِنْ موضِعها . والأصلُ : يَدْعُو مَنْ لَضَرُّه أقربُ . فقُدِّمَتْ مِنْ تأخيرٍ . وهذا قولُ الفراء . وقد رَدُّوا هذا بأنَّ ما في صلةِ الموصولِ لا يتقدَّمُ على الموصولِ . السابع : أنَّ اللامَ زائدةٌ في المفعول به وهو « مَنْ » . والتقديرُ : يَدْعُو مَنْ ضَرُّه أقرب . ف « مَنْ » موصولٌ ، والجملةُ بعدَها صلتُها ، والموصولُ هو المفعولُ ب « يَدْعُو » زِيْدتْ فيه اللامُ كزيادتِها في قولِه { رَدِفَ لَكُم } [ النمل : 72 ] في أحدِ القولين . وقد رُدَّ هذا بأنَّ زيادةَ اللام إنما تكونُ إذا كان العاملُ فَرْعاً ، أو بتقديم المعمول . وقرأ عبد الله « يَدْعُو مَنْ ضَرُّه » بعيرِ لامِ ابتداءٍ ، وهي مؤيدةٌ لهذا الوجهِ.
وإنْ لم تجعَلْه متسلِّطاً على الجملةِ بعدَه كان فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أظهرُها : أنَّ « يَدْعُو » الثاني توكيدٌ ل « يَدْعو » الأولِ فلا معمولَ له ، كأنه قيل : يَدْعو يَدْعو مِنْ دونِ الله الذي لا يَضُرُّه ولا ينفعه.
وعلى هذا فتكونُ الجملةُ مِنْ قولِه { ذلك هُوَ الضلال } معترضةً بين المؤكَّدِ والتوكيدِ؛ لأنَّ فيها تَسْديداً وتأكيداً للكلام ، ويكون قولُه { لَمَنْ ضَرُّهُ } كلاماً مستأنفاً . فتكونُ اللامُ للابتداء و « مَنْ » موصولةٌ ، و « ضَرُّه » مبتدأ و « أقربُ » خبرُه . والجملةُ صلةٌ ، و « لَبِئْسَ » جوابٌ قسمٍ مقدر . وهذا القسمُ المقدرُ وجوابُه خبرُ المبتدأ الذي هو الموصول.
الثاني : أن يُجْعَلَ « ذلك » موصولاً بمعنى الذي . و « هو » مبتدأ ، و « الضلالُ » خبره والجملةُ صلةٌ . وهذا الموصولُ مع صلتِه في محلِّ نصبٍ مفعولاً ب « يَدْعو » أي : يدعو الذي هو الضلالُ . وهذا منقولٌ عن أبي علي الفارسي ، وليس هذا بماشٍ على رأي البصريين؛ إذ لا يكونُ عندهم من أسماءِ الإِشارةِ موصولٌ إلاَّ « ذا » بشروطٍ ذكرْتُها فيما تقدَّم . وأمَّا الكوفيون فيُجيزون في أسماءِ الإِشارة مطلقاً أن تكونَ موصولةً ، وعلى هذا فيكونُ « لَمَنْ ضَرُّه أَقْرَبُ » مستأنفاً ، على ما تقدَّم تقريرُه.
والثالث : أن يُجْعَلَ « ذلك » مبتدأ . و « هو » : جوَّزوا فيه أن يكونَ بدلاً أو فَصْلاً أو مبتدأً ، و « الضلالُ » خبرُ « ذلك » أو خبرُ « هو » على حَسَبِ الخلافِ في « هو » و « يَدْعُو » حالٌ ، والعائدُ منه محذوفٌ تقديرُه : يَدْعوه ، وقدَّروا هذا الفعلَ الواقعَ موقعَ الحال ب « مَدْعُوَّاً » قال أبو البقاء : « وهو ضعيفٌ » ، ولم يُبَيِّنْ وجه ضَعْفِه . وكأنَّ وجهَه أنَّ « يَدْعُو » مبنيٌّ للفاعلِ فلا يناسِبُ أن تُقَدَّرَ الحالُ الواقعةُ موقعَه اسمَ مفعولٍ ، بل المناسِبُ أن تُقَدَّرَ اسمَ فاعل ، فكان ينبغي أَنْ يُقَدِّروه : داعياً ولو كان التركيبُ « يدعى » مبنياً للمفعول لَحَسُن تقديرُهم مَدْعُوَّاً . ألا ترى أنَّك إذا قلتَ : « جاء زيدٌ يضربُ » كيف تُقَدِّره ب « ضارب » لا ب مَضْروب.
والمخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ ، وتقديرُه : لبِئْسَ المولى ولبئس العشيرُ ذلك المَدْعُوُّ.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(3/416)


عَدَسْ ما لعَبَّادٍ عليك إِمارةٌ . . . نَجَوْتِ وهذا تَحْمِلِينَ طَلِيقُ
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15)
هذه الهاء لمحمد - صلى الله عليه وسلم - أي من كان يظن أن لن ينصر اللَّه مُحمداً - صلى الله عليه وسلم - حتى يظهره على الدين كله فليمت غيظاً ، وهو تفسير قوله : (فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ).
السبب الحبل ، والسماء السقف ، أي فليشدُدْ حَبْلاً في سَقْفِهِ.
(ثُمَّ لْيَقْطَعْ).
أي ليمد الحبل حتى ينقطع فيموت مختنقاً.
(هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ).
أي هل يذهبن كيده غيظه.
وقُرِئت ثم لِيَقْطع ، وثم لْيَقْطعْ ، بكسر اللام وجزمها.
* * *
وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17)
يَفْصِل اللَّه بين هذه الفرق الخَمْس وبين المؤمنين.
* * *
(هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19)
(فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ).
والمؤمنون يدخلون الجنة وهو
قوله : (إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ).
وخبر (إِنَّ) الأولى جملة الكلام مع إنَّ الثانيةِ . وقَدْ زعم قوم أن قولك : إنَّ
زَيداً إنه قائم رديء وأنَّ هذه الآية إنما صلحت في الذي.
ولا فرق بين الذي وغيره في باب (إِنَّ).
إن قلت إن زيداً إنه قائم كان جيداً
ومثله قول الشاعر :

(3/417)


إن الخليفَةَ إِنَّ اللَّه سَربَلَهُ
وليس بين البصريين خلاف في أن " (إِنَّ) تدخل على كل ابتداء وخبر.
تقول إِنَّ زيداً هو قائم وإِنَّ زيداً إِنَّه قائم.
* * *
وقوله : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ
(18)
والسجود ههنا الخضوع للَّهِ عزَّ وجلَّ ، وهىِ طاعة ممن خلق الله من
الحيوان والموات.
والدليل على أنه سجودُ طَاعَةٍ قوله : (وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ).
هذا أجود الوجوه أنْ يكونَ تَسْجُدُ مُطِيعةً ، للَّهِ عزَّ وجلَّ.
كما قال اللَّه تعالى : (فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) ، وكما قال : (وَإِنَّ مِنْهَا) يعني الحجارة (لما جهبط من خَشْيَةِ اللَّهِ) ، فالخشية لا تكون إلَّا لما أعْطاه اللَّه مما يَخْتَبِرُ به خشيته.
وقال قوم : السجود من هذه الأشياء التي هي موات ومن الحيوان الذي لا يعقل إنما هو أثَرَ الصنعَةِ فيها والخضوع الذي يدل على أنها مخلوقة ، واحتجوا في ذلك بقول الشاعر : :
بجَيْشٍ يَضِل البلق في حَجَراتِه . . . ترى الأُكْمَ فيها سُجَّداً للحوافِرِ
أي قد خشعت من وطء الحوافِرِ عَلَيْهَا ، وذلك القول الذي قالوه لأن
السجود الذي هو طاعة عندهم إنما يكونُ ممن يَعْقِلُ ، والذي يكسر هذا ما
وصف اللَّهُ عزَّ وجلَّ مِنْ أن مِن الحجارةِ لما يهبط من خشية اللَّه ، والخشية
والخوفُ ما عقلناه إلا للآدميين ، وقد أعلمنا اللَّه - عزَّ وجلَّ - أن من الحجارة

(3/418)


ما يخشاه ، وأعلمنا أنه سَخر معَ داودَ الجبالَ والطيرَ تسبح معه ، فلو كان تسبيح الجبال والطير أثرَ الصنعة : ما قيل سخرنا ولا قيل مع داود الجبال لأن أثر الصنعة يتبين معَ دَاوُدَ وَغيرِه ، فَهُوَ سُجودُ طاعةٍ لا محالة ، وكذلك التسبيح في الجبال والطير ، ولكنا لا نعلم تسبيحها إلا أن يجيئنا في الحديث كيف تسبيح ذلك.
وقال اللَّه عزَّ وجلَّ - (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19)
الخصمان المُؤمِنُونَ والكَافِرون - جاء في التفسير أن إليهود قالوا
للمسلمين ديننا أقْدَمُ من دينكم وكتابنا أقدَمُ من كتابكم ، فأجابهم المسلمونَ بأنَّا آمنا بما أنزل إلينا وأنزل إليكم وآمنا باللَّهِ وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله ، وأنتم كفرتم ببعض الرسل فظهرت حجة المسلمين على الكافرين.
وقيل اختصموا وقد قال خَصْمَانِ لأنهما جَمْعانِ.
(فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ).
وجاء في التفسير أن الثيَابَ التي من نارٍ هي نُحَاسٌ قَدْ أُذِيبَ.
قوله عزَّ وجلَّ . : (يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20)
يغلى به ما في بطونهم حتى يَخْرُجَ من أدْبَارِهم ، فهذا لأحد الخصمين.
وقال في الخصم الذين هم مؤمنون :
(إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23)
و (لُولُؤ) يقرأان جميعاً ، فمن قرأ (ولؤلؤاً) فعلى معنى يحلون فيها أساور من

(3/419)


ذهب ويُحلوْنَ لؤلُؤاً ، ومن قرأ وَلؤلُؤ أراد وَمِنْ لؤلؤ.
وجائز أن يكون أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤٍ ، فيكون ذلك فيها خلطاً مِنَ الصنْفيْن ويقرأ (يَحْلَوْنَ فيها) على معنى قَوْلك حَلِيَ يَحْلَى إذا صار ذا حَلْيٍ (1).
* * *
وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25)
لفظ (يَصُدُّونَ) لفظ مستقبل عطف به على لفظ الماضي ، لأن معنى الذين
كفروا الذين هم كافرون ، فكأنَّه قال إنَّ الكَافرين والصَّادِّينَ.
وخبر (إِنَّ) فيه قولان أحدهما أن يكون محذوفاً فيكون المعنى إِنَّ الذين هذه صِفَتُهم هلكوا وجائز أن يكون - وهو الوجه - الخبر (نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ ألِيمٍ).
فيكون المعنى إِنَّ الكافرين والملحدين في المسجد الحرام نذِقْهمْ مِنْ
عَذَابٍ ألِيمً.
وقوله تعالى ، : (سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ).
القراءة الرفعُ في (سَوَاء) ، ورفعه من جهتين :
إحداهما أن يكون وقف التمام هو (الذي جَعَلْنَاهُ للنَاسِ) ، كما قَال : (إِن أولَ بَيْتٍ وُضِعَ للنَّاسِ).
ويكون سواء العاكف فيه والباد - على الابتداء والخبر ، ويجوز أن يكون على جعلناه سواء العاكف فيه ، فيرتفع (سَوَاءٌ) على الابتداء ، ويكون الخبر ههنا (العاكف فيه) ، أعني خبر (سواء العاكف) ويكون خبر (جَعَلْنَاهُ) الجملة.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { يُحَلَّوْنَ } : العامَّةُ على الياءِ وفتحِ اللامِ مشددةً ، مِنْ حَلاَّه يُحَلِّيه إذا ألبسَه الحُلِيَّ . وقُرِىءَ بسكون الحاءِ وفتحِ اللامِ مخففةً ، وهو بمعنى الأول ، كأنَّهم عَدَّوْه تارةً بالتضعيف وتارةً بالهمزةِ . قال أبو البقاء : « مِنْ قولك : أحلى أي ألبسَ الحُلِيَّ ، وهو بمعنى المشدَّد ».
وقرأ أبنُ عباسٍ بفتحِ الياءِ وسكونِ الحاءِ وفتحِ اللامِ مخففةً . وفيها ثلاثةُ أوجهٍ . أحدُها : أنَّه من حَلِيَتْ المرأةُ تَحْلَى فهي حالٍ . وكذلك حَلِيَ الرجلُ فهو حالٍ ، إذا لَبِسا الحُلِيَّ أو صارا دونَ حُلِيّ . الثاني : أنَّه من حَلِيَ بعيني كذا يَحْلَى إذا اسْتَحْسَنْته . و « مِنْ » مزيدةٌ في قولِه { مِنْ أَسَاوِرَ } قال : « فيكونُ المعنى : يَسْتَحْسِنون فيها الأساور الملبوسة » . ولما نقل الشيخ هذا الوجهَ عن أبي الفضل الرازي قال : « وهذا ليس بجيد لأنه جَعَلَ حَلِيَ فعلاً متعدياً ، ولذلك حَكَم بزيادةِ » مِنْ « في الواجبِ . وليس مذهبَ البصريين . وينبغي على هذا التقديرِ أَنْ لا يجوزَ؛ لأنه لا يُحْفَظُ بهذا المعنى إلاَّ لازِماً ، فإنْ كان بهذا المعنى كانَتْ » مِنْ « للسببِ أي : بلباسِ أساورِ الذهبِ يَحْلَوْن بعينِ مَنْ رآهم ، أي : يحلى بعضُهم بعينِ بعضٍ ».
قلت : وهذا الذي نقله عن أبي الفضلِ قاله أبو البقاء ، وجَوَّز في مفعولِ الفعلِ وجهاً آخرَ فقال : « ويجوزُ أن يكونَ مِنْ حَلِيَ بعيني كذا إذا حَسُن ، وتكونُ » مِنْ « زائدةً أو يكونُ المفعولُ محذوفاً ، و » مِنْ أساورَ « نعتٌ له » . فقد حكمَ عليه بالتعدِّي ليس إلاَّ ، وجَوَّز في المفعول الوجهَيْن المذكورَيْن.
الثالث : أنَّه مِنْ حَلِيَ بكذا إذا ظَفِرَ به ، فيكونُ التقديرُ : يَحْلَوْن بأساورَ . ف « مِنْ » بمعنى الباء . ومِنْ مجيءِ حَلِيَ بمعنى ظَفِرَ قولُهم : لم يَحْلَ فلانٌ بطائلٍ أي : لم يظفرْ به . واعلم أنَّ حَلِي بمعنى لبس الحلية ، أو بمعنى ظَفِر من مادةِ الياءِ لأنهما مِن الحِلْيَةِ . وأمَّا حَلِيَ بعيني كذا فإنه من مادة الواو لأنه من الحلاوة ، وإنما قلبت الواو ياءً لانكسار ما قبلها.
قوله : { مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ } في « مِنْ » الأولى ثلاثةُ أوجه ، أحدُها : أنها زائدةٌ ، كما تقدَّم تقريره عن الرازي وأبي البقاء . وإن لم يكنْ مِنْ أصولِ البصريين . والثاني : أنَّها للتعبيضِ أي : بعض أساور . والثالث : أنها لبيانِ الجنسِ ، قاله ابن عطية ، وبه بدأ . وفيه نظرٌ إذ لم يتقدَّمْ شيءٌ مبهمٌ . وفي « مِنْ ذهب » لابتداءِ الغايةِ ، هي نعتٌ لأساورَ كما تقدَّم.
وقرأ ابن عباس « مِنْ أَسَوِرَ » دونَ ألفٍ ولا هاءٍ ، وهو محذوفٌ مِنْ « أساوِر » كما [ في ] جَنَدِلٍ والأصل جَنادِل ، قال الشيخ : « وكان قياسه صَرْفَه؛ لأنه نَقَصَ بناؤُه فصار كجَنَدِلٍ ، لكنه قَدَّر المحذوفَ موجوداً فمعنه الصرف ».
قلت : فقد جعل أنَّ التنوينَ في جَنَدِلٍ المقصور مِنْ « جنادل » تنوينُ صَرْفٍ . وقد نصَّ بعض النحاة على أنه تنوينُ عوضٍ كهو في جَوارٍ وغَواشٍ وبابِهما.
قوله : { وَلُؤْلُؤاً } قرأ نافعٌ وعاصمٌ بالنصبِ . والباقون بالخفضِ . فأمَّا النصبُ ففيه أربعةُ أوجهٍ ، أحدها : أنَّه منصوبٌ بإضمار فعلٍ تقديرُه : ويُؤْتَوْن لُؤْلؤاً . ولم يذكر الزمخشريُّ غيرَه/ ، وكذا أبو الفتح حَمَله على إضمار فعلٍ . الثاني : أنَّه منصوبٌ نَسَقاً على موضع « مِنْ أساور » ، وهذا كتخريجِهم « وأرجُلَكُمْ » بالنصب عطفاً على محلِّ { برؤوسكم } [ المائدة : 6 ] ، ولأن { يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ } في قوة : « يَلْبَسون أساور » فَحُمِل هذا عليه . والثالث : أنه عطفٌ على « أساور »؛ لأنَّ « مِنْ » مزيدةٌ فيها كما تقدَّم تقريرُه . الرابع : أنه معطوفٌ على ذلك المفعولِ المحذوفِ . التقديرُ : يُحَلَّوْن فيها الملبوسَ مِنْ أساور ولؤلؤاً . ف « لؤلؤاً » عطفٌ على الملبوس.
وأمَّا الجرُّ فعلى وجهَيْن ، أحدُهما : عطفُه على « أساور » . والثاني : عَطْفُه على « مِنْ ذهبٍ » لأنَّ السِّوارَ يُتَّخَذُ من اللؤلؤ أيضاً ، يُنْظَمُ بعضُه إلى بعضٍ . وقد منع أبو البقاء العطفَ على « ذهب » قال : « لأنَّ السِّوار لا يكونَ مِنْ لؤلؤ في العادة ويَصِحُّ أن يكونَ حُلِيّاً ».
واختلف الناسُ في رَسْمِ هذه اللفظةِ في الإِمام : فنقل الأصمعيُّ أنها في الإِمام « لؤلؤ » بغير ألفٍ بعد الواو ، ونقل الجحدريُّ أنها ثابتةٌ في الإِمامِ بعد الواو . وهذا الخلافُ بعينه قراءةً وتوجيهاً جارٍ في حَرْف فاطر أيضاً.
وقرأ أبو بكر في رواية المُعَلّى بن منصور عنه « لؤلوا » بهمزةٍ أولاً وواوٍ آخِراً . وفي روايةِ يحيى عنه عكسُ ذلك.
وقرأ الفياض « ولُوْلِيا » بواوٍ أولاً وياءٍ أخيراً ، والأصل : لُؤْلُؤاً أبدل الهمزتينِ واوَيْن ، فبقي في آخرِ الاسم واوٌ بعد ضمةٍ . فَفُعِل فيها ما فُعِل ب أَدْلٍ جمعَ دَلْو : بأنْ قُلِبَتْ الواوُ ياءً والضمةُ كسرةً.
وقرأ ابنُ عباس : « وَلِيْلِيا » يياءَيْنِ ، فَعَل ما فَعَل الفياض ، ثم أتبعَ الواوَ الأولى للثانيةِ في القلبِ . وقرأ طلحة « وَلُوْلٍ » بالجر عطفاً على المجرورِ قبلَه . وقد تقدم ، والأصل « ولُوْلُوٍ » بواوين ، ثم أُعِلَّ إعلالَ أَدْلٍ.
واللُّؤْلُؤُ : قيل : كِبارُ الجوهر وقيل صغِارُه . اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(3/420)


وتفسير قوله : (سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ) أنه يستوي في سُكنى مكةَ المقيم بها
والنارح إليها من أيْ بَلَدٍ كانَ ، وقيل سواء في تفضيله وإقامة المَنَاسِكِ
العاكف . المقيم بالحرم والنارحُ إلَيْهِ.
وقوله : (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإلْحَادٍ بظُلْمٍ).
قيل الإِلحاد فيه الشرك باللَّهِ ، وقيل كُل ظَالِمٍ فيه مُلْحِدٌ.
وجاء عن عُمَر أن احتكار الطعام بمكة إلحادٌ.
وقال أهل اللغة إن معنى الباء الطرح.
المعنى ومن يرد فيه إلحاداً بظلم.
وأنشدوا قول الشاعر :
هُنَّ الحَرائِرُ لا ربَّاتُ أَحْمِرةٍ . . . سُودُ المَحاجِرِ لا يَقْرَأْنَ بالسُّوَرِ
المعنى عِنْدهم لا يقرأن السُّور ، وأنشدوا :
بوادٍ يمانٍ يُنْبِتُ الشَّثَّ فَرْعُه . . . وأَسْفَلُه بالمَرْخِ والشَّبَهانِ
أي وينبت أسفلُه المرخَ والشبهان.
والذي يذهب إليه أصحابنا أن الباءَ ليست بملغاةٍ ، المعنى عندهم ومن إرادته فيه بأن يلحد بظلم وهو مثل قوله :
أُريدُ لأَنسى ذِكرَها فكأَنما . . . تَمثَّلُ لي لَيْلى بكلِّ سبيلِ
المعنى أريد ، وإرادتي لهذا.
ومعنى الإلحاد في اللغة العدول عن القَصْد (1).
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { وَيَصُدُّونَ } : فيه ثلاثةُ أوجه ، أحدها : أنه معطوفٌ على ما قبلَه . وحينئذٍ ففي عطفِه على الماضي ثلاثةُ تأويلاتٍ . أحدُها : أنَّ المضارعَ قولاً يُقْصَدُ به الدلالةُ على زمنٍ معينٍ من حالٍ ، أو استقبالٍ ، وإنما يُراد به مجردُ الاستمرارِ . ومثلُه { الذين آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ الله } [ الرعد : 28 ] . الثاني : أنه مؤولٌ بالماضي لعطفِه على الماضي . الثالث : أنه على بابِه ، وأنَّ الماضي قبلَه مُؤَوَّل بالمستقبل.
الوجه الثاني : أنَّه حالٌ من فاعل « كفروا » وبه بدأ أبو البقاء . وهو فاسدٌ ظاهراً؛ لأنه مضارعٌ مثبتٌ ، وما كان كذلك لا تَدْخُل عليه الواو ، وما ورد منه على قِلَّتِه مؤولٌ فلا يُحْمل عليه القرآنُ ، وعلى هذين القولَيْنِ فالخبرُ محذوفٌ . واختلفوا في موضعِ تقديرِه : فقدَّره ابن عطية بعد قولِه « والبادِ » أي : إن الذين كفروا خَسِروا أو هلكوا ونحو ذلك . وقدَّره الزمخشري بعد قوله { والمسجد الحرام } أي : إنَّ الذين كفروا نُذِيْقُهم من عذاب أليم . وإنما قَدَّره كذلك لأن قوله : { نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } يَدُلُّ عليه.
إلاَّ أنَّ الشيخَ قال في تقدير الزمخشري بعد المسجد الحرام : « لا يصحُّ » ، قال : « لأنَّ » الذي « صفة للمسجد الحرام ، فموضعُ التقديرِ هو بعد » البادِ « يعني : أنه يلزمُ من تقديرِه الفصلُ بينَ الصفةِ والموصوفِ بأجنبيّ ، وهو خبرُ » إنّ « ، فيصيرُ التركيبُ هكذا : إنَّ الذين كفروا ويَصُدُّون عن سبيلِ اللهِ والمسجدِ الحرام نُذيقُهم مِنْ عذابٍ أليمٍ الذي جَعَلْناه للناس . وللزمخشريِّ أّنْ ينفصِلَ عن هذا الاعتراضِ بأن » الذي جَعَلْناه « لا نُسَلِّمُ أنَّه نعتٌ للمسجد حتى يَلْزَمَ ما ذَكَر ، بل نَجْعَلُه مقطوعاً عنه نَصْباً أو رفعاً.
ثم قال الشيخ : » لكنَّ مُقَدَّرَ الزمخشريِّ أحسنُ من مقدَّرِ ابنِ عطية؛ لأنه يَدُلُّ عليه الجملةُ الشرطية بعدُ مِنْ جهة اللفظ ، وابنُ عطية لَحَظَ من جهةِ المعنى؛ لأنَّ مَنْ أّذيق العذابَ خَسِر وهَلَكَ «.
الوجه الثالث : أنَّ الواوَ في » ويَصُدُّون « مزيدةٌ في خبر » إنَّ « تقديرُه : إنَّ الذين كفروا يَصُدُّون . وزيادةُ الواوِ مذهبٌ كوفي تقدَّم بُطلانُه ، وقال ابنُ عطية : » وهذا مْفْسِدٌ للمعنى المقصودِ « . قلت : ولا أَدْري فسادَ المعنى من أيِّ جهة؟ ألا ترى أنه لو صُرِّح بقولِنا : إنَّ الذين كفروا يَصُدُّون لم يكنْ فيه فسادُ معنى . فالمانع إنما هو أمرٌ صناعيٌّ عند أهل البصرة لا معنويٌّ . اللهم إلاَّ أَنْ يريدَ معنىً خاصاً/ يَفْسُدُ لهذا التقديرِ فيُحتاج إلى بيانه.
قوله : { الذي جَعَلْنَاهُ } يجوزُ جَرُّه على النعتِ أو البدلِ أو البيانِ ، والنصبُ بإضمار فعلٍ ، والرفعُ بإضمارِ مبتدأ . و » جَعَلَ « يجوز أن يتعدى لاثنين بمعنى صَيَّر ، وأَنْ يتعدَّى لواحدٍ.
والعامَّةُ على رفعِ ِ « سواءٌ » وقرأه حفصٌ عن عاصم بالنصبِ هنا وفي الجاثية : { سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ } [ الآية : 21 ] . ووافق على الذي في الجاثيةِ الأخَوان ، وسيأتي توجيهُه . فأمَّا على قراءةِ الرفع فإن قلنا : إنَّ جَعَلَ بمعنى صَيَّر كان في المفعولِ الثاني أوجهٌ ، أحدها : وهو الأظهرُ أنَّ الجملةَ مِنْ قولِه { سَوَآءٌ العاكف فِيهِ } هي المفعولُ الثاني ، ثم الأحسنُ في رفع « سواءٌ » أن يكون خبراً مقدماً ، والعاكفُ والبادي مبتدأ مؤخر . وإنما وُحِّد الخبرُ وإن كان المبتدأُ اثنين؛ لأنَّ سواء في الأصل مصدرٌ وُصِفَ به . وقد تقدَّم هذا أولَ البقرة . وأجاز بعضُهم أن يكون « سواءٌ » مبتدأ ، واما بعدَه الخبر . وفيه ضَعْفٌ أو مَنْعٌ من حيث الابتداءُ بالنكرة من غير مُسَوِّغٍ ، ولأنه متى اجتمع معرفةٌ ونكرةٌ جُعِلت المعرفةُ المبتدأ . وعلى هذا الوجهِ أعني كونَ الجملة مفعولاً ثانياً فقولُه « للناس » يجوز فيه وجهان ، أحدُهما : أن يتعلق بالجَعْل أي : جَعَلْناه لأجلِ الناسِ كذا . والثاني : أنه متعلقٌ بمحذوفٍ ، على أنَّه حالٌ مِنْ مفعول « جَعَلْناه » ولم يذكر أبو البقاء فيه على هذا الوجهِ غيرَ ذلك وليس معناه متضحاً.
الوجه الثاني : أنَّ « للناس » هو المفعولُ الثاني . والجملةُ مِنْ قوله { سَوَآءٌ العاكف } في محلِّ نصب على الحال : إمَّا من الموصول ، وإمَّا مِنْ عائِدِه . وبهذا الوجه بدأ أبو البقاء . وفيه نظرٌ؛ لأنه جعل هذه الجملةَ التي هي محطُّ الفائدةِ فَضْلةً.
الوجه الثالث : أنَّ المفعولَ الثاني محذوفٌ ، قال ابن عطية : « والمعنى : الذي جَعَلْناه للناس قِبْلةً ومتعبَّداً . فتقدير ابنِ عطية هذا مُرْشِدٌ لهذا الوجهِ . إلاَّ أن الشيخ » . قال « ولا يُحتاج إلى هذا التقديرِ ، إلاَّ إنْ كان أراد تفسيرَ المعنى لا الإِعراب . فيَسُوغ لأنَّ الجملةَ في موضعِ المفعولِ الثاني ، فلا يُحتاج إلى هذا التقديرِ . وإنْ جَعَلْناها متعديةً لواحدٍ كان قولُه » للناس « متعلقاً بالجَعْلِ على العِلَّيَّة . وجَوَّزَ فيه أبو البقاء وجهين آخرين ، أحدهما : أنه حالٌ من مفعولِ » جَعَلْناه « . والثاني : أنه مفعولٌ تعدَّى إليه بحرف الجر . وهذا الثاني لا يُتَعَقَّل ، كيف يكون » للناس « مفعولاً عُدِّي إليه الفعلُ بالحرف؟ هذا ما لا يعقلُ . فإن أراد أنه مفعولٌ مِنْ أجله فهي عبارةٌ بعيدةٌ من عبارة النحاة.
وأمَّا على قراءةِ حفصٍ : فإنْ قلنا : » جَعَلَ « يتعدى لاثنين كان » سواءً « مفعولاً ثانياً . وإنْ قُلْنا يتعدَّى لواحدٍ كان حالاً من هاءِ » جَعَلْناه « وعلى التقديرين : فالعاكفُ مرفوعٌ به على الفاعليةِ؛ لأنه مصدرٌ وُصِفَ به فهو في قوةِ اسم الفاعل المشتقِّ تقديرُه : جَعَلْناه مُسْتوياً فيه العاكفُ . ويَدُلُّ عليه قولُهم : » مررتُ برجلٍ سواءٍ هو والعَدَمُ « . ف » هو « تأكيدٌ للضميرِ المستترِ فيه ، و » العَدَمُ « نسقٌ على الضميرِ المستترِ ولذلك ارتفعَ.
ويروى : « سواءٍ والعدمُ » بدونِ تأكيدٍ وهو شاذٌّ.
وقرأ الأعمش وجماعةٌ « سَواءً » نصباً ، « العاكف » جراً . وفيه وجهان ، أحدهما : أنه بدلٌ من « الناس » بدلُ تفصيل . والثاني : أنه عطفٌ بيانٍ . وهذا أراد ابنُ عطية بقولِه « عَطْفاً على الناس » ويمتنع في هذه القراءةِ رفعُ « سواء » لفسادِه صناعةً ومعنىً؛ ولذلك قال أبو البقاء : « وسواءً على هذا نصبٌ لا غير ».
وأثبتَ ابنُ كثير ياءَ « والبادي » وصلاً ووقفاً ، وأثبتها أبو عمرو وورش وصلاً وحذفاها وقفاً . وحَذَفَها الباقون وَصْلاً ووَقْفاً وهي محذوفةٌ في الإِمام.
قوله : { وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ } فيه أربعةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنَّ مفعولَ « يُرِدْ » محذوفٌ ، وقولُه : « بإلحادٍ بظلم » حالان مترادفتان . والتقديرُ : ومَنْ يُرِدْ فيه مراداً ما ، عادِلاً عن القصدِ ظالماً ، نُذِقْه من عذابٍ أليم . وإنما حُذِفَ ليتناولَ كلَّ متناوَلٍ . قال معناه الزمخشريُّ . والثاني : أن المفعولَ أيضاً محذوفٌ تقديرُه : ومَنْ يُرِدْ فيه تَعَدِّياً ، و « بإلحادٍ » حال أي : مُلْتَبِساً بإلحادٍ . و « بظُلْمٍ » بدلٌ بإعادةِ الجارِّ . الثالث : أَنْ يكونَ « بظلمٍ » متعلقاً ب « يُرِدْ » ، والباءُ للسببيةِ أي بسببِ الظلم و « بإلحاد » مفعولٌ به . والباءُ مزيدةٌ فيه كقولِه : { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ } [ البقرة : 195 ] [ وقولِه : ]
3380 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . لا يَقْرَأْنَ بالسُّوَر
وإليه ذهب أبو عبيدة ، وأنشد للأعشى :
3381 ضَمِنَتْ برزقِ عيالِنا أرماحُنا . . . . . . . . .
أي : ضَمِنَتْ رزقَ . ويؤيِّده قراءة الحسن « ومَنْ يُرِدْ إلحادهُ بظُلْمٍ » . قال الزمخشري : أراد إلحاده فيه فأضافه على الاتِّساعِ في الظرف ك { مَكْرُ اليل } [ سبأ : 33 ] ومعناه : ومَنْ يُرِدْ أن يُلْحِدَ فيه ظالماً . الرابع : أن يُضَمَّنَ « يُرِدْ » معنى يتلبَّس ، فلذلك تعدى بالباء أي : ومَنْ يتلَبَّسْ بإلحادٍ مُرِيْداً له.
والعامَّةُ على « يُرِدْ » بضم الياء من الإِرادة . وحكى الكسائي والفراء أنه قُرِىء « يَرِدْ » بفتح الياء . وقال الزمخشري : « من الوُرُوْد ومعناه : مَنْ أتى فيه بإلحادٍ ظالماً ».
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(3/421)


وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26)
جعلنا مكان البيت مبوأً لإبراهيم ، والمبوأ المنزل ، فالمعنى أن اللَّه أعلم
إبراهيم مكان البيت فبنى البيتْ على أسه القديم ، وكان البيت في أيام الطوفان رفع إلى السماء حينَ غَرَّقَ اللَّهُ الأرضَ ومَا عليها فَشَرَّفَ بيْتَه بأن أخرجه عن جُملة مَا غَرَق.
ويروى أن البيت كان من ياقوتة حمراء.
وقوله : (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ)
قيل : المعنى طهِره من الشرك.
والقائمونَ هَهُنا المصَلُّونَ.
* * *
وقوله : (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27)
رُوي أن أذان إبراهيم بالحَج أن وقف في المقام فقال : أيها الناسُ
أجيبوا يا عباد اللَّه أطيعوا الله يا عباد الله اتقوا اللَّه ، فَوَقَرَتْ في قلب كل مؤمن ومؤمنة وأسمع ما بين السماء والأرض وأجابه مَن في الأصلاب ممن كتب له الحج ، فكل من حج فهو ممن أجاب إبراهيم ، ويروى أنَّ أذَانَه بالحج كانَ
يا أيها الناس كتب عليكم الحج.
وقوله تعالى : (يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ).
(رِجَالًا) جمع راجل مثل صَاحِب وصِحَابٍ ، وقائِم وقِيَام.
(وَعَلَى كُل ضَامِرٍ يَأتِيَن) ، أي يأتوك رِجَالاً ورُكبَانلً.
وقال يأتين على معنى الِإبل
المعنى وعلى كل بعيد ضامر يأتي من كل فج عميق.
وعميق بعيد.
قال رؤبة :
وَقَاتِم الأعْماق خاوي المخترق
الأعماق الأقْعَار ، ومن هذا قيل : هذه بِئر " عَمِيقة " ، أي بَعِيدَة القَرار .

(3/422)


وقوله تعالى : (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28)
أي ليشهدوا مَا نَدَبَهُم اللَّهُ إليه مما فيه النفع لهم في آخرتهم.
(وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ).
يعنى به يومَ النحْر والأيَّامُ التي بعده يُنْحَرُ فِيهَا لأن الذكر ههنا يدل - على
التسمية على ما يُنْحَر لقوله (عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ).
* * *
وقوله : (فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ).
(البائس : الذي قد ناله بؤس ، والبؤس شدة الفقر ، يقال : قد بؤس ، وبأس
إذا صار ذا بؤس.
وقوله (فَكُلوا مِنْهَا) ليس بأمر لازم ، من شاء أكل من أضحيته
ومن شاء لم يأكل ، وإنما هو إباحة كما قال : (وإذا حَلَلْتُم فَاصْطَادُوا).
فإنما قال فاصطادوا ، لأنه كان قد حظر عليهم الصيد وهم مُحْرِمون.
فأباحَهمُ الصيْدَ.
وكذلك هذا الأمر ههنا إباحة بعد حظرهم على أنفسهم أكل
الأضاحي ، لأن أهل الجاهلية كانوا إذا نحروا لم يستحلوا أن يأكلوا من
نساكِهِم شيئاً ، فأَعلم اللَّه عزَّ وجلَّ أن ذلك جائز.
* * *
وقوله : (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)
قرئتْ (ثُمَّ لِيَقْضُوا) بكسر اللام ، وكذلك قرأ أبو عَمْرٍو ، والقراءة بالتسكين
مع - ثم كثيرة . .
والتفث في التفسير جاء ، وأهل اللغة لا يعرفون إلا من التفسير ، قالوا

(3/423)


التفث الأخذ من الشارب وتقليم الأظافر ونتف الإبِطِ وحَلقُ العَانة والأخْذُ مِنَ الشعَرِ ، كأنَّه الخروج منى الإحرام إلى الإحلال.
قوله : (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ).
قيل في العتيق أقوال ، قال الحسنِ هو البيت القديم ، ودليل الحسن
على ذلك قوله : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا).
وقيل إن البيت العتيق الذي عَتَق من الغرق أيام الطوفانِ ، ودليل هذا
القول : (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ) ، فهذا دليل أن البيت رفع وبقي مكانه.
وأكثر ما جاء في التفسير أنه اعْتِقَ من الجبابرة ، فلم يَغْلِبُ عليه جَبارٌ.
وقيل إنه سُمِّيَ العتيقَ لأنه لم يَدعْهُ أحَد من الناس.
وقيل إنما سمي العتيق لأنه لم يقصده جبار إلا أهلكه اللَّه ، يقال أعتقت المملوك فهو مُعْتَقْ وَعَتِيق.
وكل ما مرَّ في تفسير العتيق فجائز حَسن - واللَّه أعلم بحقيقة ذلك -
وهذه الآية تدل على أن الطواف يوم النحر فرضٌ.
* * *
وقوله : (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30)
وحرماتُ اللَّه الحجُّ والعمرةُ وسائر المناسك ، وكل ما فرض الله فهو من
حرمات اللَّه ، والحرمةُ ما وجب القيامُ به وحَرمَ تركهُ والتفريطَ فيه.
وموضع (ذلك) رفع ، المعنى الأمر ذلك.
وقوله : (وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ).
" ما " في موضع نصب أي إلا ما يتلى عليكم من الميتة والدم والمنخنقة
والموقودَةِ وسائر ما تلي تحريمه.
وقوله : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ).

(3/424)


" مِنْ " ههنا لتخليص جنس من أجناس.
المعنى فاجتنبوا الرجس الذي هو وَثَنٌ (1).
وقوله : (وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ).
الزور الكذب ، وقيل إنه ههنا الشرْكُ باللَّهِ ، وقيل أيضاً شهادَةُ الزور.
وهذا كله جائز.
والآية تدل - واللَّه أعلم - على أنهم نُهُوا أن يُحرمُوا ما حَرم
أصحابُ الأوْثانِ نحو قولهم : ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورِنا ومحرم
على أزواجنا ، ونحو نحرهم البَحيرَةَ والسائِبَةَ ، فأعلمهم اللَّه أنَّ الأنْعَامَ مُحَلًلَة
إلَّا ما حرَّمَ اللَّهُ منها ، ونهاهم الله عن قول الزور أن يقولوا هذا حلال وهذا
حرام لِيَفْتَروا على اللَّهِ كَذِباً.
* * *
وقوله : (حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31)
(حُنَفَاءَ لِلَّهِ)
منصوب على الحال ، وتأويله مُسْلِمِين لا يَمِيلُونَ إلى دِينٍ غير الإسلام.
وقوله : (غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ).
ويقرأ فَتَخْطَفهُ الطيرُ وفَتَخِطَّفُهُ . وقرأ الحسن فَتِخِطِّفُهُ بكسر التاء والخاء
والطاء.
فمن قرأ فتَخْطَفُه بالتخفيف فهو من خَطِفَ يخطَفُ ، والخَطْفُ الأخْذُ
بسرعة ، ومن قرأ فتَخطِّفُه - بكسر الطاء والتشديد - فالأصل فَتَخْتَطِفه فأدغم التاء في الطاء وألقى حركة التاء على الخاء ففتحها ، ومن قَالَ بكسر الخاء والطاء ، كسر الخاء لسكونها وسُكُون الطاء ، ومن كسر التاء والخاء والطاء - وهي قراءة الحسن - فهو على أن الأصل تَخْتَطِفُه.
وهذا مثل ضَرْبةِ الله للكافر في بُعْده عِنَ الحق - فأعلمَ اللَّهُ أن بُعْدَ من
أشْركَ به مِنَ الحق كبُعْدِ مَنْ خرَّ من السماء فذهبت به الطير أو هَوَتْ به الريحُ في مكانٍ سحيق - أي ، بَعِيدٍ (2).
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { مِنَ الأوثان } في « مِنْ » ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها : أنها لبيانِ الجنسِ ، وهو مشهورُ قول المُعْرِبين ، ويَتَقَدَّرُ بقولك : الرِّجْسُ الذي هو الأوثان . وقد تقدَّم أنَّ شرطَ كونِها بيانيةً ذلك . وتجيءُ مواضعُ كثيرةٌ لا يتأتى فيها ذلك ولا بعضُه . والثاني : أنَّها لابتداءِ الغايةِ . وقد خَلَط أبو البقاء القولين فجَعَلَهما قولاً واحداً فقال : « ومِنْ لبيانِ الجنسٍ أي : اجْتَنِبوا الرجسَ من هذا القبيل ، وهو بمعنى ابتداء الغاية ههنا » يعني أنه في المعنى يَؤُول إلى ذلِك ، ولا يَؤُول إليه ألبتَّةََ . الثالث : أنها للتبعيض . وقد غَلَّط ابنُ عطية القائلَ بكونِها للتبعيضِ ، فقال : « ومَنْ قال : إن » مِنْ « للتبعيض قَلَبَ معنى الآيةِ فأفسده » وقد يُمْكِنُ التبعيضُ فيها : بأَنْ يَعْني بالرِّجْسِ عبادة الأوثانِ . وبه قال ابنُ عباس وابنُ جريج ، فكأنه قال : فاجْتَنِبوا من الأوثانِ الرِّجسَ وهو العبادةُ؛ لأنَّ المُحَرَّمَ من الأوثان إنما هو العبادةُ ألا ترى أنه قد يُتَصَوَّرُ استعمالُ الوثَنِ في بناءٍ وغيرِه ممَّا لم يُحَرِِّمِ الشرعُ استعمالَه ، وللوَثَنِ جهاتٌ منها عبادتُها ، وهي بعض جهاتِها . قاله الشيخ . وهو تأويلٌ بعيدٌ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(2) قال السَّمين :
قوله : { فَتَخْطَفُهُ } قرأ نافعٌ بفتحِ الخاءِ والطاء مشددةً . وأصلُها تَخْتَطِفُه فأدغم . وباقي السبعةِ « فَتَخْطَفُه » بسكون الخاء وتخفيفِ الطاء . وقرأ الحسنُ والأعمشُ وأبو رجاء بكسر التاء والخاء والطاء مع التشديد . ورُوِي عن الحسن أيضاً فتحُ الطاءِ مشددةً مع كسرِ التاءِ والخاءِ . ورُوِي عن الأعمش كقراءةِ العامَّةِ إلاَّ أنه بغير فاء : « تَخْطَفُه » . وتوجيهُ هذه القراءاتِ قد تقدَّم مستوفى في أوائل البقرة عند ذِكْري القراءاتِ في قولِه تعالى : { يَكَادُ البرق يَخْطَفُ } [ البقرة : 20 ] فلا أُعيدها.
وقرأ أبو جعفر « الرياحُ » جمعاً . وقولِه « خَرَّ » في معنى يَخِرُّ؛ ولذلك عُطِفَ عليه المستقبلُ وهو « فَتَخْطَفُهُ » ، ويجوز أن يكون على بابه ، ولا يكونُ « فَتَخْطَفُه » عطفاً عليه ، بل هو خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي : فهو يَخْطَفُه.
قال الزمخشري : « ويجوزُ في هذا التشبيهِ أن يكونَ من المركب والمفرَّق . فإن كان تشبيهاً مركباً فكأنه قال : مَنْ أشرك بالله فقد أهلكَ نفسَه إهلاكاً ليس بعده [ هلاكٌ ] : بأَنْ صَوَّر حالَه بصورةِ حالِ مَنْ خَرَّ من السماءِ فاخْتَطَفَتْه الطيرُ ، فتفرَّق مِزَعاً في حَواصلِها ، أو عَصَفَتْ به الريحُ حتى هَوَتْ به في بعض المطاوحِ البعيدةِ . وإن كان مُفَرَّقاً فقد شَبَّه الإِيمانَ في عُلُوِّه بالسماءَ ، والذي تركَ الإِيمانَ وأشرك بالله ، بالساقط من السماء ، والأهواءَ التي تتوزَّعُ أفكارَه بالطير المتخطفةِ ، والشيطانَ الذي يُطَوِّحُ به في وادي الضَّلالةِ بالريح التي تهوي بما عَصَفَتْ به في بعض المهاوي المُتْلِفَةِ » . قلت : وهذه العبارةُ من أبي القاسم مما يُنَشِّطُك إلى تَعَلُّم عِلْمِ البيان فإنها في غاية/ البلاغة.
والأَوْثان : جمع وَثَن . والوَثَنُ يُطْلَقُ على ما صُوِّر من نحاسٍ وحديدٍ وخَشَبٍ . ويُطْلَقُ أيضاً على الصَّليب . « عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم أنه قال لعدي بن حاتم وقد رأى في عنقه صليباً : أَلْقِ هذا الوثنَ عنك » وقال الأعشى :
3387 يطوفُ العبادُ بأبوابِه . . . كطَوْفِ النصارى ببَيْتِ الوَثَنْ
واشتقاقُه مِن وَثَن الشيءُ أي : أقام بمكانه وثَبَتَ فهو واثِنٌ . وأُنشد لرؤبة :
3388 على أَخِلاَّء الصَّفاءِ الوُثَّنِ . . . أي : المقيمين على العهد . وقد تقدَّم الفرقُ بين الوَثَنِ والصنم.
والسَّحيقُ : البعيدُ . ومنه سَحَقَه اللهُ أي : أبعده . وقوله عليه السلام : « فأقولُ سُحْقاً سُحْقاً » أي : بُعْداً بُعْداً . والنَّخْلة السَّحُوقُ : الممتدةُ في السماء ، من ذلك.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(3/425)


قوله : (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32)
شعائر اللَّه المعالم التي نَدَبَ إليها وأمَر بِالقِيامِ بِها ، واحَدتها شعيرة.
فالصفا والمروةُ من شعائر اللَّه ، " الذى يُعْنَى به هنا البُدْنُ.
* * *
وقوله : (لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ
(33)
يعنى أن لكم في البدن - قبل أن تُعْلِمُوهَا ، وتُسَموهَا هَدياً إلى بيتي - مَنَافِع.
فإذا أشْعَرْتُموهَا - والإشعار أن يشق في السنام حتى يَدْمَى ويعلق عليها نَعْلاً
ليعلم أنها بدنة ، فأكثرُ النَّاسِ لا يرى الانتفاع بها إذا جُعِلَتْ بدنةً ، لا
بِلَبَنِهَا ولا بِوَبَرِهَا وَلَا بِظَهْرِهَا ، يقول لا يُعْطَى لبنها ووبرها وظهرها أحَداً لأنها
بدنة فلا ينتفع بها غير أهْل اللَّهِ إلاَّ عند الضرورة المخُوفِ معها الموت.
وبعضهم يقول : إنَّ له أنْ ينتفع بها فيركبها المُعْيِي وينتفع بمنافعها إلى وقت
محلها - مَكانِ نَحْرِها -.
والحجة في ذلك أن النَبي - صلى الله عليه وسلم - مرَّ برَجُلِ يسُوقُ بدَنَةً
فأمره - صلى الله عليه وسلم - بركوبها ، فقال : إنها بدنة فأمَره الثانية وأمَره الثالثة ، وقال له في الثالثة : اركبها وْيحَكَ ، فهذا - يجوز أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - رآه مُضْطراً في ركوبها من شدة
الإعياء ، وجائز على ظاهر الحديث أن يكون ركوبُها جائزاً.
ومن أجاز ركوبَها والانتفاع بها يقول : ليس له أنْ يُهْزِلَها وينضِيَها لأنها بدنة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34)
وتقرأ مَنْسِكاً ، والمنسك في هذا الموضع يدل على معنى النحر فكأنه
قال جعلنا لكل أُمَّةٍ أن تتقربَ بأن تَذْبح الذبَائح لِلَّه ، ويدل على ذلك قوله
تعالى (ليَذكُروا اسمَ اللَّهِ على ما رَزَقَهُم من بَهيمَةِ الأنْعَامِ).
المعنى ليذكروا اسم الله على نَحْرِ ما رَزقهم من بهيمة الأنعام.
وقال بعضهم : المنْسَكُ الموضِع الذي يجب تعهده ، وذلك جائز .

(3/426)


ومن قال مَنْسِك فمعناه مكانُ نُسُكٍ مثل مَخلِس مكان خلوس.
ومن قال مَنْسَك فهو بمعنى المصدر نحو النُّسُك والنُّسُوكِ.
وقوله : (فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ).
أي لا ينبغي أن تذكروا على ذَبَائُحكم إلا اللَّهَ وحده.
وقوله : (وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ).
قيل المخبتون المتواضعون ، وقيل المخبتون المطمئنون بالإِيمان بالله
عزَّ وجلَّ ، وقيل المخبتون الذين لا يظلمون وإذا ظُلِموا لم ينتصروا.
وكل ذلك جائز.
واشتقاقه من الخَبْتِ مِنَ الأرْضِ وهي المكان المنخْفِض منها ، فكل
مُخْبِت متواضع.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35)
(وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ).
القراءة الخفضُ وإسقاط التَنْوِين ، والخفض على الإِضَافة ، ويجوز :
والمقيمين الصَّلَاةَ ، إلا أنه بخلاف المصحف.
ويجوز أيضاً على بُعْدٍ والمقِيمي الصَّلَاةَ ، على حذف النون ونصب الصلاة لطول الاسم ، وأنشد سيبويه :
الحافظو عورةَ العشيرةِ لا . . . يأتيهم من ورَائِهم نطف
وزعم أنه شَاذٌّ.
* * *
وقوله تعالى : (وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36)
النصب أحسن لأن قبله فِعْلًا ، المعنى وَجَعَلْنَا البدْنَ ، فنصب بفعل

(3/427)


مُضْمَرٍ الذي ظهر يفسره.
وإن شئت رفعت على الاستئناف.
والبدْن بتسكين الدالِ وَضَمها . بَدَنَة وبُدْنٌ ، وبُدْن مثل قوله ثَمَرَةٌ وثُمْر وثُمُر.
وإنما سميت بَدَنَةً لأنها تَبْدُن ، أي تَسْمَن.
وقوله : (فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ).
(صَوَافَّ) منصوبة على الحال ، ولكنها لا تنون لأنها لا تنصرف ، أي قَدْ
صَفَّتْ قَوَائِمَها ، أي فاذكروا اسم الله عليها في حال نحرها.
والبَعِير ينحر قائماً ، وهذه الآية تدل على ذلك ، وتقرأ صَوَافِنَ ، والصافن الذي يقوم على ثَلَاث ، فَالبَعِير إذا أرادوا نحَره تعقل إحدى يديه فَهُو صَافِن ، والجمع صَوافِنُ يا هذا ، وقرئت صَوافِيَ بالياء وبالفتح بِغَيْر تَنْوِينِ وتفسيره خَوَالص - أي خالصة لله عزَّ وجلَّ ، لا تُشْرِكوا في التَسْمِيةِ على نحرها أحَداً.
وقوله : (فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُها).
أي إذا سقطت إلى الأرض.
(فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ).
بتشديد الراء ، ويجوز والمعْتَرَي بالمِاء ، ويقال : وجب الحائط يَجِبُ
وَجْبَةً إذَا سَقَط ، ووجب القلب يجب وَجْباً وَوَجيبا إِذَا تَحَركَ من فَزَع ، ووجب البيْعُ يجب وجُوباً وجِبَةً ، والمستقبل في ذلك كله يجب.
وقيل في القَانع الذي يَقْنَعُ بما تُعْطِيهِ ، وقيل الذي يَقنع باليسير.
وقيل وهو مذهب أهْل اللغَةِ السائل ، يقال قَنعَ الرجل قُنُوعاً إذَا سألَ ، فهو قانع ، وأنْشَدُوا للشماخِ.
لَمَالُ المَرْءِ يُصْلِحه فيُغْني . . . مَفاقِرَه أَعفّ من القُنُوعِ
أي أعَفُّ من السؤال ، وقنِعَ قناعةً إذا رَضِيَ فهو قَنِعٌ ، والمُعْتَرُ : الذي

(3/428)


يعتريك فيطلب مَا عِنْدَكَ ، سألك إذ سئلِتَ عن السؤال وكذلك المعتري (1).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)
وقرئت : (لَن تَنَالَ اللَّهَ لحُومُها) بالتاء ، فمن قرأ بالياء فَلِجَمْعِ اللحوم.
ومن قرأ بالتاء فلجماعة اللحوم - وكانوا إذا ذَبَحُوا لَطخوا البيت بالدمِ ، فأعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أنَّ الَّذِي يَصِلُ إليهِ تَقْواهُ وطَاعَتُه فيما يَأمُر بِهِ.
(وَلَكِنْ يَنَالُه التَقْوَى مِنْكُمْ).
وتناله - التقوى منكم - بالياء والتاء - فمن أنثَ فللفظ التقوى ، ومَنْ ذَكَرَ
فلأن معنى التقوى والتقى واحِدٌ.
* * *
وقوله : (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38)
ويدْفَعُ عن الذين آمنوا.
هذا يدل على النَصْرِ مِنْ عِنْده ، أي فَإذَا دَفَعْتُم ، أي فإذا فَعَلْتُم هذا ، وخَالَفْتُم الجَاهِليةَ فيما تفعلونَهُ فِي نَحْرِهِمْ.
وإشراكهم بالله ، فإنَّ اللَّه يدْفَعُ عن حِزْبِه.
وقوله : (كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ).
(خَوَّانٍ) فعَّال من الخِيَانَةِ ، أي من ذكر اسم غير الله وتَقَرَّبَ إلى الأصنام
بِذَبِيحَتِه فهو خَوَّانٌ كَفُورٌ.
والبُدْنُ قيل إنها الإبِلُ خاصَّةً ، وقيل إنها الإبل والبَقَرُ ، وَلَا أعْلَمُ أحَداً
قال : إن الشاء داخلة فيها ، فأمَّا من قال إنَها الِإبِلُ والبَقَرُ فَهُمْ أكبر فقهاء
الأمْصَارِ ، ولكن الاستعمال في السِّيَاقةِ إلَى البَيْتِ الإبِل فلذلك قال من قال
إنها - الإبِلُ.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { والبدن } : العامَّةُ على نصب « البُدْنَ » على الاشتغال . ورُجِّح النصبُ وإن كان مُحْوِجاً لإِضمارٍ ، على الرفع الذي لم يُحْوِجْ إليه ، لتقدُّمِ جملةٍ فعليةٍ على جملةِ الاشتغالِ . وقُرِىء برفعِها على الابتداءِ ، والجملةُ بعدها الخبرُ.
والعامَّةُ أيضاً على تسكينِ الدالِ . وقرأ الحسن وتُرْوى نافعٍ وشيخةِ أبي جعفر بضمِّها ، وهما جمعان ل « بَدَنَة » نحو : ثَمَرةٍ وثُمُرٍ وثُمْرٍ . فالتسكينُ يحتمل أن يكونَ تخفيفاً من المضمومِ ، وأَنْ يكونَ أصلاً . وقيل : البُدْنُ والبُدُنُ جمعُ بَدَن ، والبَدَنُ جمعٌ لبَدَنَة نحو : خَشَبة وخَشَب ، ثم يُجْمع خَشَباً على خُشُب وخُشْب . / وقيل : البُدْنُ اسمٌ مفردٌ لا جمعٌ يَعْنُون اسمَ جنسٍ . وقرأ ابنُ أبي إسحاق « البُدُنَّ » بضم الباء والدال وتشديد النون . وهي تحتمل وجهين ، أحدُهما : أنَّه قرأ كالحسن ، فوقَفَ على الكلمةِ وضَعَّفَ لامَها كقولِهم : « هذا فَرُخّْ » ثم أجرى الوصلَ مجرى الوقفِ في ذلك . ويُحتمل أَنْ يكونَ اسماً على فُعُل ك عُتُلّ.
وسُمِّيَت البَدَنة بَدَنةً لأنها تُبْدَنُ أي : تُسَمَّنُ . وهنل تختصُّ بالإِبل؟ الجمهورُ على ذلك . قال الزمخشري : « والبُدْنُ : جمعُ بَدَنَة سُمِّيَتْ لعِظَمِ بَدَنِها ، وهي الإِبِلُ خاصةً؛ لأنَّ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم ألحق البقرَ بالإِبل حين قال : » البَدَنَةُ عن سبعةٍ ، والبقرة عن سبعة « فجَعَلَ البقرَ في حُكْمِ الإِبلِ ، صارَت البَدَنةُ متناوَلَةً في الشريعة للجنسين عند أبي حنيفة وأصحابِه ، وإلاَّ فالبُدْنُ هي الإِبلُ وعليه تَدُلُّ الآيةُ » . وقيل لا تختصُّ ، فقال الليث : البَدَنَةُ بالهاء تقعُ على الناقةِ والبقرة والبعير وما يجوز في الهَدْي والأضاحي ، ولا تقعُ على الشاة . وقال عطاءٌ وغيرُه : ما أشعر مِنْ ناقة أو بقرةٍ . وقال آخرون : البُدْنُ يُراد به العظيمُ السِّنِّ من الإِبل والبقر . ويقال للسَّمين من الرجال . وهو اسمُ جنسٍ مفردٍ.
قوله : { مِّن شَعَائِرِ الله } هو المفعولُ الثاني للجَعْل بمعنى التصيير.
قوله : { لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ } الجملةُ حالٌ : إمَّا من « ها » « جَعَلْناها » ، وإمَّا مِنْ شعائر الله . وهذان مبنيَّان على أن الضميرَ في « فيها » هل هو عائدٌ على « البُدْن » أو على شعائر؟ والأولُ قولُ الجمهورِ.
قوله : { صَوَآفَّ } نصبٌ على الحال أي : مُصْطَفَّةً جنبَ بعضِها إلى بعض . وقرأ أبو موسى الأشعري والحسن ومجاهد وزيد بن أسلم « صَوافي » جمعَ صافِيَة أي : خالصةً لوجهِ الله تعالى . وقرأ عمرو بن عبيد كذلك ، إلاَّ أنه نَوَّنَ الياءَ فقرأ « صَوافياً » . واسْتُشْكِلَتْ من حيث إنه جمعٌ متَناهٍ . وخُرِّجَتْ على وجهين ، أحدُهما : ذكره الزمخشري وهو أَنْ يكونَ التنوينُ عِوَضاً من حرفِ الإِطلاقِ عند الوقف . يعني أنه وَقَفَ على « صَوافي » بإشباع فتحةَ الياءِ فَتَوَلَّد منها أَلِفٌ يُسَمَّى حرفَ الإِطلاق ، ثم عَوَّضَ عنه هذا التنوينَ ، وهو الذي يُسَمِّيه أهلُ النحوِ تنوينَ الترنُّم.
والثاني : أنه جاء على لغةِ مَنْ يَصْرِفُ ما لا يَنْصَرِفُ.
وقرأ الحسنُ « صَوافٍ » بالكسرِ والتنوين . وتوجيهُها : أنه نصبها بفتحة مقدرةٍ ، فصار حكمُ هذه الكلمةِ كحكمِها حالةً الرفعِ والجرِّ في حَذْفِ الياءِ وتعويض التنوينِ نحو : « هؤلاء جوارٍ » ، ومررت بجوارٍ . وتقديرُ الفتحةِ في الياءِ كثيرٌ كقولهم : « أعْطِ القوسَ بارِيْها » وقولِه :
3389 كأنَّ أيْدِيهنَّ بالقاعِ القَرِقْ . . . أيديْ جوارٍ يتعاطَيْنَ الوَرِق
وقوله :
3390 وكَسَوْتُ عارٍ لَحْمُه . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ويدلُّ على ذلك قراءةُ بعضِهم « صَوافيْ » بياءٍ ساكنةٍ من غيرِ تنوينٍ ، نحو : « رأيتُ القاضيْ يا فتى » بسكون الياء . ويجوز أن يكونَ سكَّن الياءَ في هذه القراءةِ للوقفِ ثم أَجْرَى الوصلَ مُجْراه.
وقرأ العبادلة ومجاهدٌ والأعمش « صَوافِنْ » بالنون جمعَ « صَافِنَة » وهي التي تقومُ على ثلاثٍ وطرفِ الرابعة ، إلاَّ أنَّ ذلك إنما يُسْتَعْمَلُ في الخيلِ كقوله : { الصافنات الجياد } [ ص : 31 ] ، وسيأتي ، فيكون استعمالُه في الإِبلِ استعارةً.
والوجوبُ : السُّقوطُ . وجَبَتِ الشَمسُ ِأي : سَقَطَتْ . ووجَبَ الجِدَارُ أي : سَقَطَ ، ومنه الواجبُ الشرعي كأنه وقع علينا ولَزِمَنا . وقال أوس بن حجر :
3391 ألم تُكْسَفِ الشمسُ شمسُ النَّها . . . رِ والبدرُ للجبل الواجبِ
قوله : « القانِعَ والمعتَّر » فيهما أقوالٌ . فالقانِعُ : السائل والمُعْتَرُّ : المعترضُ من غيرِ سؤالٍ . وقال قومٌ بالعكس . وقال ابن عباس : القانِعُ : المستغني بما أعطيتَه ، والمعترُّ : المعترضُ من غيرِ سؤالٍ . وعنه أيضاً : القانعُ : المتعفِّفُ ، والمعترُّ : السائلُ . وقال بعضُهم : القانِعُ : الراضي بالشيءِ اليسيرِ . مِنْ قَنِعَ يَقْنَعُ قَناعةً فهو قانِعٌ . والقَنِعُ : بغير ألفٍ هو السَّائلُ . ذكره أبو البقاء . وقال الزمخشري : « القانِعُ : السَّائلُ . مِنْ قَنِعْتُ وكَنَعْتُ إذا خَضَعْتَ له . وسألتُه قُنُوْعاً . والمُعْتَرُّ : المعترِّضُ بغيرِ سؤالٍ ، أو القانِعُ الراضي . بما عندَه ، وبما يعطى ، من غيرِ سؤالٍ . مِنْ قَنِعْتُ قَنَعاً وقَناعة . والمعترُّ : المتعرض بالسؤال » . انتهى . وفرَّق بعضهم بين المعنيين بالمصدر فقال : قَنِعَ يَقْنَع قُنوعاً أي سأل ، وقَناعة أي : تعفَّف ببُلْغَته واستغنى بها . وأنشد للشماخ :
3392 لَمالُ المَرْءِ يُصْلِحُه فيُغْني . . . مَفاقِرَه أَعَفُّ من القُنوعِ
وقال ابن قتيبة : « المُعْتَرُّ : المتعرِّضُ من غير سؤال . يُقال : عَرَّه/ واعتَرَّه وعَراه واعْتراه أي : أتاه طالباً معروفَه قال :
3393 لَعَمْرُك ما المُعتَرُّ يَغْشى بلادَنا . . . لِنَمْنَعَه بالضائعِ المُتَهَضِّمِ
وقوله الآخر :
3394 سَلي الطارِقَ المعترَّ يا أمَّ مالِكٍ . . . إذا ما اعْتَراني بينَ قِدْري ومَجْزَري
وقرأ أبو رجاء » القَنِع « دون ألف . وفيها وجهان ، أحدهما : أنَّ أصلَها » القانِع « فَحَذَفَ الألف كما قالوا : مِقْوَل ومِخْيَط وجَنَدِل وعُلَبِط في : مِقْوال ومِخْياط وجَنَادل وعُلابط . والثاني : أن القانِعَ هو الراضي باليسير ، والقَنِع : السائلُ ، كما تقدَّم تقريره ، قال الزمخشري : » والقَنِعُ : الراضي لا غير «.
وقرأ الحسن : » والمُعْتري « اسمُ فاعلٍ مِنْ اعْتَرى يَعْتري . وقرأ إسماعيل وتروى عن أبي رجاء والحسن أيضاً » والمُعْتَرِ « بكسر الراء اجتزاءً بالكسرة عن لامِ الكلمة.
وقُرِىء » المُعْتَرِيَ « بفتح الياء . قال أبو البقاء : » وهو في معناه « أي : في معنى » المعترّ « في قراءة العامَّة.
و [ قوله : ] { كذلك سَخَّرْنَاهَا } الكافُ نعتُ مصدرٍ أ و حالٌ من ذلك المصدرِ.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(3/429)


وقوله : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39)
ويقرأ (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ) ، وُيقرأ (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتِلُونَ) وُيقَاتَلونَ.
والمعنى أذن للذين يقاتلون أن يقاتِلُوا.
ويرْوَى أنَّها أول آيَةٍ نزلت في القِتَالِ.
(بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا).
أي أُذِنَ لهم أن يقاتلوا بسبب ما ظلموا
وقوله : (وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ).
وعدهم الله النَصْرَ ، ولا يجوز أن يقرأ و " أَنَّ " اللَّه - بفتح أنَّ ، ولا بَيْن
أهل اللغة خِلاَفٌ في أن هذا لا يجوز لأن " أنَّ " إذا كانت معها اللام لم
تفتح أبَداً.
* * *
وقوله : (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)
(الذين) في موضع جَر ، المعنى " أُذِنَ للذين أُخْرجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بغير حق
إلا أنْ يَقُولُوا رَبنَا اللَّهُ "
" أنْ " في مَوْضِع جَر ، المعنى أخرِجُوا بلا حَقٍّ ، إلَّا بِقَوْلهم رَبُّنَا اللَّهُ أي لم
يخرجوا إلا بأن وَحدُوا اللَّه ، فأخرَجَتْهُمْ عَبَدَةُ الأوثان لتوحيدهم.
وقوله . : (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ).
المعنى : ولولا أن دفع اللَّه بعض الناس ببعضٍ لَهُدّمَتْ صوامع.
وتقرأ (لَهُدِمَتْ) وهي صوامع الرهْبَانِ.
(وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَسَاجِدُ).
والبيَعُ بيَعُ النصارى ، والصَّلَوَاتُ كنَائِسُ اليَهود ، وهي بالعبرانية صَلُوتَا ،

(3/430)


وقرئت صَلَاةٌ وَمَسَاجِدُ ، وقيل إنها مَوْضعُ صَلَواتِ الصَّابِئِين.
وتأويل هذا : لولا أن اللَه - عزَّ وجل - دَفَع بعض الناس بَبَعْض لهُدِّمَ في شريعة كُلِّ نَبيٍّ المَكَانَ الَّذِي كان يُصَلِّي فيه ، فَكَانَ لولَا الدفعُ لَهُدِمَ في زمن موسى عليه السلام الكنائس التي كان يصلي فيها في شريعته ، وفي زَمَنِ عيسى الصوامع والبِيَعُ ، وفي زمن محمد - صلى الله عليه وسلم - المساجِدُ.
وقوله . : (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ).
أي من أقام شريعة مِن شرائعه ، نصر على إقامة ذلك ، إلا أنَّهُ لَا يُقام
في شريعة نَبِيٍّ إلَّا ما أتِيَ به ذلك النبي وُينْتَهَى عما نَهَى عَنْهُ (1).
* * *
وقوله : (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)
(الذين) في موضع نصب على تفسير مَنْ ، المعنى وليَنْصُرَنَ اللَّهُ مَنْ
ينصُرُه ثم بين صِفَةَ ناصِريه فقال :
(الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ).
فَصِفةُ حِزْبِ اللَّه الذينَ يُوحدونَه ، إقَامة الصلاة ، وإِيتاءُ الزّكاة والأمْر
بالمَعْرُوف والنهى عن المنكر ، وهما واجبان كوجوب الصلاة والزكاة
أعنِي الأمرَ بالمعروف والَّنْهِيَ عَنِ المُنْكَر.
* * *
(فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45)
ويقرأ أهْلكتُها ، المعنى فكيف كانَ نِكير أيْ تم أخَذْتَهم فأبْلَغْتُ أبلغ
الِإنكار.
فأهْلكت قُرى كثيرةً ، لأن معنى (فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ) معنى فكم مِنْ قَرْيةٍ ، ومعنى كم من قريةٍ عدد كثير من القُرَى.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { الذين أُخْرِجُواْ } : يجوز أن يكونَ في محلِّ جرٍّ ، نعتاً للموصول الأولِ أو بياناً له ، أو بدلاً منه ، وأن يكونَ في محلِّ نصبٍ على المدح ، وأن يكونَ في محلِّ رفعٍ على إضمارِ مبتدأ.
قوله : { إِلاَّ أَن يَقُولُواْ } فيه وجهان ، أحدهما : أنه منصوبٌ على الاستثناءِ المنقطع ، وهذا ممَّا يُجْمِعُ العربُ على نصبه؛ لأنه منقطعٌ لا يمكنُ تَوَجُّهُ العاملِ إليه ، وما كان كذا أجمعوا على نصبهِ ، نحو : « ما زاد إلاَّ ما نقصَ » ، « وما نفعَ إلاَّ ما ضَرَّ » . فلو توجَّهَ العاملُ جاز فيه لغتان : النصبُ وهو لغةُ الحجاز ، وأَنْ يكونَ كالمتصلِ في النصبِ والبدل نحو : « ما فيها أحدٌ إلاَّ حمارٌ » ، وإنما كانت الآيةُ الكريمةُ من الذي لا يتوجَّه عليه العاملُ؛ لأنك لو قلت : « الذين أُخْرِجوا مِنْ ديارهم إلا أَنْ يقولوا ربُّنا الله » لم يَصحَّ . الثاني : أنه في محلِّ جر بدلاً من « حَقّ » قال الزمخشري : « أي بغير موجِبٍ سوى التوحيد الذي ينبغي أن يكون موجب الإِقرارِ والتمكينِ لا موجبَ الإِخراجِ والتسييرِ . ومثلُه : { هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّآ إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بالله } [ المائدة : 59 ].
وممَّنْ جَعَلَه في موضع جرٍّ بدلاً ممَّا قبله الزجاجُ . إلاَّ أن الشيخ قد رَدَّ ذلك فقال : » ما أجازاه من البدل لا يجوز؛ لأنَّ البدلَ لا يجوزُ إلاَّ حيث سبقه نفيٌ أو نهيٌ أو استفهامٌ في معنى النفي . وأمَّا إذا كان الكلام موجَباً أو أمراً فلا يجوزُ البدلُ؛ لأنَّ البدلَ لا يكون إلا حيثُ يكونُ العاملُ يَتَسَلَّطُ عليه . ولو قلت : « قام إلاَّ زيدٌ » ، و « لْيَضْرِبْ إلاَّ عمروٌ » لم يجز . ولو قلت في غير القرآن : « أُخْرِجَ الناسُ مِنْ ديارِهم إلاَّ بأَنْ يقولوا : لا إلهَ إلاَّ اللهُ » لم يكن كلاماً . هذا إذا تُخُيِّل أَنْ يكونَ { إِلاَّ أَن يَقُولُواْ } في موضعِ جرٍّ بدلاً من « غير » المضاف إلى « حَقٍّ » . وأمَّا إذا كان بدلاً من « حق » كما نَصَّ عليه الزمخشريُّ فهو في غايةِ الفسادِ؛ لأنه يَلْزَمُ منه أن يكونَ البدلُ يلي « غيراً » فيصير التركيبُ : بغير إلاَّ أَنْ يقولوا ، وهذا لا يَصِحُّ ، ولو قَدَّرْنا [ إلاَّ ] ب « غير » كما/ يُقَدَّرُ في النفي في : « ما مررت بأحدٍ إلاَّ زيدٍ » فتجعلُه بدلاً لم يَصِحَّ؛ لأنه يصيرُ التركيبُ : بغير غيرِ قولِهم ربُّنا اللهُ ، فتكون قد أضَفْتَ غيراً إلى « غير » وهي هي فيصير : بغير غير ، ويَصِحُّّ في « ما مررتُ بأحدٍ إلاَّ زيدٍ » أن تقول : ما مررت بغير زيد ، ثم إن الزمخشري حيث مَثَّل البدلَ قَدَّره : بغير موجبٍ سوى التوحيدِ ، وهذا تمثيلٌ للصفة جَعَلَ [ إلاَّ ] بمعنى سِوَى ، ويَصِحُّ على الصفةِ فالتبسَ عليه بابُ الصفة بباب البدل.
ويجوز أن تقولَ : « مررتُ بالقومِ إلاَّ زيدٍ » على الصفة لا على البدل «.
قوله : { وَلَوْلاَ دَفْعُ الله } قد تقدَّم الخلافُ فيه في البقرة وتوجيهُ القراءتين.
وقرأ » لَهُدِمَتْ « بالتخفيفِ نافعٌ وابن كثير . والباقون بالتثقيل الدالِّ على التكثيرِ؛ لأنَّ المواضعَ كثيرةٌ متعددةٌ ، والقراءةُ الأولى صالحةٌ لهذا المعنى أيضاً.
والعامَّةُ على » صَلَواتٌ « بفتح الصاد واللام جمعَ صلاةٍ . وقرأ جعفر ابن محمد » وصُلُوات « بضمِّهما . ورُوي عنه أيضاً بكسرِ الصاد وسكونِ اللام . وقرأ الجحدري بضم الصاد وفتح اللام . وأبو العالية بفتح الصادِ وسكونِ اللام . والجحدريُّ أيضاً » وصُلُوْت « بضمِّهما وسكونِ الواو ، بعدها تاءٌ مثناةٌ من فوقُ مثلَ : صُلْب وصُلُوب.
والكلبيُّ والضحاكُ كذلك ، إلاَّ أنهما أَعْجَما التاءَ بثلاثٍ مِنْ فوقها . والجحدريُّ أيضاً وأبو العاليةِ وأبو رجاءٍ ومجاهدٌ كذلك ، إلاَّ أنَّهم جعلوا بعد الثاءِ المثلثة ألفاً فقرؤوا » صُلُوْثا « ورُوي عن مجاهدٍ في هذه التاءِ المثنَّاةِ مِنْ فوقُ أيضاً . ورُوي عن الجحدريِّ أيضاً » صُلْواث « بضم الصادِ وسكونِ اللامِ وألفٍ بعد الواوِ والثاءِ مثلثةً.
وقرأ عكرمة » صلويثى « بكسر الصاد وسكون اللام ، وبعدها واوٌ مكسورةٌ بعدَها ياءٌ مثنَّاةٌ مِنْ تحتُ بعدها ثاءٌ مثلثةٌ ، وحكى ابنُ مجاهد أنه قُرِىءَ » صِلْواث « بكسر الصاد وسكون اللام . بعدها واوٌ ، بعدها ألف ، بعدها ثاءٌ مثلثةٌ.
وقرأ الجحدري » وصُلُوب « مثل كُعُوْب بالباء الموحدةِ وهو جمع » صليب « ، وفُعُوْل جمعُ فعيل شاذٌّ نحو : ظريف وظروف وأَسِينة وأُسُون ، ورُوي عن أبي عمرو » صلواتُ « كالعامَّةِ ، إلاَّ أنَّه لم يُنَوِّن ، مَنَعه الصرفَ للعلميَّة والعجمة؛ لأنه جعله اسمَ موضعٍ ، فهذه أربعَ عشرةَ قراءةً ، المشهورُ منها واحدةٌ ، وهي هذه الصلاةُ المعهودة.
ولا بُدَّ مِنْ حَذْفِ مضافٍ ليَصِحَّ تَسَلُّطُ الهَدْمِ عليها أي : مواضع صلواتٍ ، أو يُضَمَّن » هُدِّمَتْ « معنى » عُطِّلَتْ « فيكون قَدْراً مشتركاً بين المواضع والأفعال؛ فإنَّ تعطيلَ كلِّ شيءٍ بِحَسبِه . وأخَّر المساجدَ لحُدوثِها في الوجود ، أو الانتقالِ إلى الأشرفِ . والصلواتُ في الأمم . . . . . . صلاةُ كلِّ مِلَّةٍ بحَسَبِها . وظاهرُ كلام الزمخشري أنها بنفسِها اسمُ مكان فإنه قال : » وسُمِّيَتْ الكنسيةُ صلاةً لأنه يُصَلَّى فيها . وقيل : هي كلمةٌ مُعَرَّبَةٌ أصلُها بالعبرانيةِ صَلُوثا « . انتهى.
وأمَّا غيرُها من القراءات فقيل : هي سريانيةٌ أو عبرانيةٌ دَخَلَتْ في لسانِ العربِ . ولذلك كَثُر فيها اللغاتُ.
والصَّوامِعُ : جمعُ صَوْمَعَة وهي البناءُ المرتفعُ الحديدُ الأعلى ، مِنْ قولِهم رجلٌ أصمعُ ، وهو الحديدُ القولِ . ووزنها فَوْعَلة كدَوْخَلة . وهي متعبَّد الرهبانِ لأنهم ينفردون . وقيل : متعبَّدُ الصَّابِئين.
والبِيَعُ : جمع بِيْعَة ، وهي متعبَّدُ النصارى . وقيل : كنائس إليهود . والأشهر أنَّ الصوامِعَ للرهبانِ والبِيَعَ للنصارى ، والصَّلَواتِ لليهود ، والمساجدَ للمسلمين.
و { يُذْكَرُ فِيهَا اسم الله } يجوز أَنْ يكونَ صفةً للمواضعِ المتقدمةِ كلِّها ، إنْ أَعَدْنا الضميرَ مِنْ » فيها « عليها ، أو صفةً للمساجد فقط ، إنْ خَصَصْنا الضميرَ في » فيها « بها ، والأولُ أظهر. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(3/431)


ويجوز كائن بتشديد الياء ، ويجوز كائِن مِنْ قَرْيَةٍ ، وهو عند البَصْريين
في معنى العدد الكبير ، نقول : وكائن مِنْ رَجُل جَاءَنِي معناه العدد الكثيرُ مِنَ
الرجَالَ.
(فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا).
والعُروش السقوفُ ، فالمعنى أنها قَدْ خَرِبَتْ وخَلَتْ فصارت على
سُقُوفها كما قال في مَوْضع آخر : (فَجَعَلْنَا عَالِيَها سَافِلَهَا) ، يقال خوتِ الدارُ
والمدينةُ خَواءً ، ممدود ، فهي خاوِية ، وخَوِيتِ المرأةُ وخوِيَ الِإنْسَانُ إذا خَلَا
مِنَ الطعَامِ خَوًى ، مَقْصور فهو خَوٍ.
وقوله : (وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ).
أكثر ما جاء في مَشِيدٍ من التَفْسِير مُجَصَّص ، والشَيدُ الجصُّ والكَلْسُ
أيضاً شِيد ، وَقِيلَ مَشِيد مُحَصَّن مُرْتَفِع ، والمُشَيد إذَا قيل مُجَصَّص فهو مُرْتفع
في قَدْرِهِ وَإن لَمْ يرتفع في سُمكِهِ ، وأصل الشَيدِ الجصُّ والنورَةُ ، وكل ما بُنيَ
بِهِمَا أو بِأحَدِهمَا فهو مُشَيدٌ.
* * *
وقوله : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)
(وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ).
القلبُ لا يكون إلا في الصدْرِ - ولكن جَرَى عَلَى التَوكِيدِ كما قال
عز وَجَل (يَقُولُونَ بأفْوَاهِهِمْ) ، وكما قال : (وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ).
وكما قرأ بعضهم : (لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً).
فالتوكيد جار في الكلام مبالغ في الإفْهَامَ (1).
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { التي فِي الصدور } صفةٌ أو بدلٌ أو بيانٌ . وهل هو توكيدٌ؛ لأنَّ القلوبَ لا تكونُ في غير الصدور ، أو لها معنى زائدٌ؟ كما قال الزمخشري : « الذي قد تُعُوْرِف واعتُقِدَ أنَّ العمى في الحقيقة مكانُه البصرُ ، وهو أن تصابَ الحَدَقَةُ بما يَطْمِسُ نورَها ، واستعمالُه في القلبِ استعارةٌ ومَثَلٌ . فلمَّا أُريدَ إثباتُ ما هو خلافُ المعتقدِ مِنْ نسبةِ العمى إلى القلوبِ حقيقةً ، ونفيُه عن الأبصارِ ، احتاج هذا التصويرُ إلى زيادةِ تعيينٍ وفَضْلِ تعريفٍ؛ ليتقرَّرَ أنَّ مكانَ العمى هو القلوبُ لا الأبصارُ ، كما تقولُ : ليس المَضَاءُ للسَّيْفَ ، ولكنه لِلِسانِك الذي بينَ فَكَّيْكَ . فقولُك : » الذي بين فَكَّيْكَ « تقريرٌ لِما ادَّعَيْتَه لِلِسانِه وتثبيتٌ؛ لأنَّ مَحَلَّ المَضاءِ هو هو لا غير ، وكأنَّك قلتَ : ما نَفَيْتُ المَضاءَ عن السيفِ وأثبتَّه لِلِسانِك فلتةً مني ولا سَهواً ، ولكن تَعَمَّدْتُ به إيَّاه بعينه تَعَمُّداً.
وقد رَدَّ الشيخ على أبي القاسم قولَه : » تَعَمَّدْتُ به إياه « وجعل هذه العبارةَ عُجْمَةً من حيث إنه فَصَلَ الضميرَ ، وليس من مواضعِ فَصْلِه ، وكان صوابُه أن يقول : تعمَّدْتُه به كما تقول : » السيفُ ضربتُك به « لا » ضربْتُ به إياك «.
قلت : وقد تقدَّم لك نظيرُ هذا الردِّ والجوابُ عنه بما أُجيب عن قولِه تعالى : { يُخْرِجُونَ الرسول وَإِيَّاكُمْ } [ الممتحنة : 1 ] ، { وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ } [ النساء : 131 ] : وهو أنه مع قَصْدِ تقديمِ غيرِ الضميرِ عليه لغرضٍ يمتنعُ اتصالُه ، وأيُّ خطأ في مثل هذا حتى يَدَّعي العُجْمَةَ على فصيحٍ شَهِدَ له بذلك أعداؤُه ، وإن كان مُخْطِئاً في بعضِ الاعتقاداتِ ممَّا لا تَعَلُّقَ له فيما نحن بصدِده؟
وقال الإِمامُ فخر الدين : « وفيه عندي وجهٌ آخرُ : وهو أنَّ القلبَ قد يُجْعَلُ كنايةً عن الخاطرِ والتدبُّرِ ، كقولِه تعالى : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لذكرى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ } [ ق : 37 ] . وعند قومٍ أنَّ محلَّ الذِّكْرِ هو الدماغُ ، فاللهُ تعالى بيَّن أنَّ مَحَلَّ ذلك هو الصدرُ » . وفي محلِّ العقلِ خلافٌ مشهورٌ ، وإلى الأولِ مَيْلُ ابنِ عطية قال : « هو مبالغةٌ كما تقول : نظرتُ إليه بعيني ، وكقوله : يقولون بأَفْواههم » . قلت : وقد أَبْدَيْتُ فائدةً في قوله « بأفواههم » زيادةً على التأكيد. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(3/432)


وقوله : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47)
قيل إن يوْماً من أيامِ عَذَابِهم كألف سَنَةٍ ، ويدل على ذلك الحديث
الذي يُرْوَى أن الفقراء يُدْخُلونَ الجنةَ قَبْلَ الأغْنِياءِ بِنِصفِ يومٍ.
وجاء في حديث آخر تفسير هذا القول بخمسمائةِ عَامٍ.
فهذا يدل على أنَّ اليومَ مِن أيامِ القِيامة ألف سَنَةٍ ، والذي تدل عليه الآية - واللَّهُ أعلَم - أنهم اسْتَعجَلوا فأعلمَ اللَّهُ عز وَجَلَّ أنه لا يَفُوته شيء وأن يوماً عنده وألف سنةٍ في قُدْرَتِه وَاحدٌ ، وأن الاستعجال في ميعادهم لا فرق فيه بين وقوع ما يستعجلون به من العذاب وتأخره في القدرة إلَّا أنَّ اللَّهَ - جل ثناؤه - تفضل بالإِمهال ، وغَفَر بِالتوبَةِ ، فالتأخير الفرق بينه وبين التقديم تفَضل الله عزَّ وَجَل بالنَظِرَةِ.
ثم أعلم - عزَّ وَجَلً - أنَّه قد أخذ قَوْماً بعد الإِملاءِ والتأخير عُقوبةً منه ليزدادوا إثماً فقال بعد قوله : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ) ، وبعد تمام الآية (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48).
المعنى ثم أخَذْتها بالعَذَابِ ، واستُغنِيَ عن ذكر العذاب لِتقَدُمِ ذكره في
قوله : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ).
* * *
وقوله : (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51)
أي ظانِّينَ أنهم يعجزونَنَا لأنهم ظَنوا أنهم لا يُبْعَثُونَ ، وأنَّهُ لاَ جنَّةَ ولا
نار.
وقيل في التفسير معاجزين معاندين ، وليس بخارج من القول الأول.
وقُرِئت معَجِّزِين ، وتأويلها أنهم كانوا يُعَجِّزُونَ من اتبع النبي - صلى الله عليه وسلم - وُيثَبِّطونَهمْ عنه.
* * *
وقوله : (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52)
معنى (إِذَا تَمَنَّى)إذَا تَلَا ، ألقى الشيطان في تِلَاوَتِهِ ، فذلك

(3/433)


محنة من اللَّه ، - عزَّ وجلَّ - وله أنْ يمْتحن بما شاء ، فألقى الشيطان على
لسان النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئاً من صفة الأصنام فافتتن بذلك أهلُ الشقاق والنفاقِ ومن في قلبه مرض (1) فقال اللَّهُ عر وَجَل :
(لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ
ثم أعلم أنهم ظالِمونَ ، وأنهم في شِقاقٍ دَائِم ، والشقاق غاية العداوةِ فقال - : (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ).
ثم أعلم أن هؤلاَءِ لا يَتوبونَ فقال :
(وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ) أي في شك مِنه.
(حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً) أي مفاجأة.
(أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ).
أصل العُقم ، العقم في الولادة ، يقال : هَذِهِ امرأة عقيمٌ ، كما قال
اللَّه - عَزً وَجَلً - : (قَالَتْ عجوزٌ عقيم).
وكذلك رجل عقيم إذا كان لا يُولدُ
قال الشاعر :
عُقِمَ النِّساءُ فلن يَلِدْنَ شَبيهَه . . . إن النِّساءَ بمثْلِه عُقْمُ
والريح العقيم التي لا تأتي بسحاب يُمْطِر ، وإنما تأتي بالعذاب ، واليوم
العقيم هُوَ الَّذي لا يَأتي فيه خيرٌ ، فيوم القيامةِ عقيمٌ على الكفار كما قال اللَّه - عزَّ وجلَّ -
__________
(1) قال الإمام فخر الدين الرَّازي ما نصُّه :
أما قوله تعالى : {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان فِى أُمْنِيَّتِهِ} ففيه مسائل :
المسألة الأولى :
من الناس من قال : الرسول هو الذي حدث وأرسل ، والنبي هو الذي لم يرسل ولكنه ألهم أو رأى في النوم ، ومن الناس من قال : إن كل رسول نبي ، وليس كل نبي يكون رسولاً ، وهو قول الكلبي والفراء.
وقالت المعتزلة كل رسول نبي ، وكل نبي رسول ، ولا فرق بينهما ، واحتجوا على فساد القول الأول بوجوه : أحدها : هذه الآية فإنها دالة على أن النبي قد يكون مرسلاً ، وكذا قوله تعالى : {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مّن نَّبِيٍّ} [ الأعراف : 94 ] ، وثانيها : أن الله تعالى خاطب محمداً مرة بالنبي ومرة بالرسول ، فدل على أنه لا منافاة بين الأمرين ، وعلى القول الأول المنافاة حاصلة وثالثها : أنه تعالى نص على أنه خاتم النبيين ورابعها : أن اشتقاق لفظ النبي إما من النبأ وهو الخبر ، أو من قولهم نبأ إذا ارتفع ، والمعنيان لا يحصلان إلا بقبول الرسالة.
أما القول الثاني : فاعلم أن شيئاً من تلك الوجوه لا يبطله ، بل هذه الآية دالة عليه لأنه عطف النبي على الرسول ، وذلك يوجب المغايرة وهو من باب عطف العام على الخاص.
وقال في موضع آخر {وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيّ فِى الأولين} [ الزخرف : 6 ] وذلك يدل على أنه كان نبياً ، فجعله الله مرسلاً وهو يدل على قولنا : « وقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم كم المرسلون ؟ فقال ثلثمائة وثلاثة عشرة ، فقيل وكم الأنبياء ؟ فقال مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً الجم الغفير » إذا ثبت هذا فنقول : ذكروا في الفرق بين الرسول والنبي أموراً : أحدها : أن الرسول من الأنبياء من جمع إلى المعجزة الكتاب المنزل عليه ، والنبي غير الرسول من لم ينزل عليه كتاب ، وإنما أمر أن يدعو إلى كتاب من قبله والثاني : أن من كان صاحب المعجزة وصاحب الكتاب ونسخ شرع من قبله فهو الرسول ، ومن لم يكن مستجمعاً لهذه الخصال فهو النبي غير الرسول ، وهؤلاء يلزمهم أن لا يجعلوا إسحق ويعقوب وأيوب ويونس وهرون وداود وسليمان رسلاً لأنهم ما جاءوا بكتاب ناسخ والثالث : أن من جاءه الملك ظاهراً وأمره بدعوة الخلق فهو الرسول ، ومن لم يكن كذلك بل رأى في النوم كونه رسولاً ، أو أخبره أحد من الرسال بأنه رسول الله ، فهو النبي الذي لا يكون رسولاً وهذا هو الأولى.
المسألة الثانية :
ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآية أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما رأى إعراض قومه عنه وشق عليه ما رأى من مباعدتهم عما جاءهم به تمنى في نفسه أن يأتيهم من الله ما يقارب بينه وبين قومه وذلك لحرصه على إيمانهم فجلس ذات يوم في ناد من أندية قريش كثير أهله وأحب يومئذ أن لا يأتيه من الله شيء ينفروا عنه وتمنى ذلك فأنزل الله تعالى سورة {والنجم إِذَا هوى} [ النجم : 1 ] فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ قوله {أَفَرَءيْتُمُ اللات والعزى * ومناة الثالثة الأخرى} [ النجم : 19 ، 20 ] ألقى الشيطان على لسانه « تلك الغرانيق العلى منها الشفاعة ترتجى » فلما سمعت قريش ذلك فرحوا ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في قراءته فقرأ السورة كلها فسجد وسجد المسلمون لسجوده وسجد جميع من في المسجد من المشركين فلم يبق في المسجد مؤمن ولا كافر إلا سجد سوى الوليد بن المغيرة وأبي أحيحة سعيد بن العاصي فإنهما أخذا حفنة من التراب من البطحاء ورفعاها إلى جبهتيهما وسجدا عليها لأنهما كانا شيخين كبيرين فلم يستطيعا السجود وتفرقت قريش وقد سرهم ما سمعوا وقالوا قد ذكر محمد آلهتنا بأحسن الذكر فلما أمسى رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل عليه السلام فقال ماذا صنعت تلوت على الناس ما لم آتك به عن الله وقلت ما لم أقل لك ؟ ! فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم حزناً شديداً وخاف من الله خوفاً عظيماً حتى نزل قوله تعالى : {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان فِى أُمْنِيَّتِهِ} الآية.
هذا رواية عامة المفسرين الظاهريين ، أما أهل التحقيق فقد قالوا هذه الرواية باطلة موضوعة واحتجوا عليه بالقرآن والسنة والمعقول.
أما القرآن فوجوه : أحدها : قوله تعالى : {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقاويل * لأَخَذْنَا مِنْهُ باليمين * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوتين} [ الحاقة : 44 46 ] ، وثانيها : قوله : {قُلْ مَا يَكُونُ لِى أَنْ أُبَدّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ} [ يونس : 15 ] وثالثها : قوله : {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يوحى} {النجم : 3 ] فلو أنه قرأ عقيب هذه الآية تلك الغرانيق العلي لكان قد ظهر كذب الله تعالى في الحال وذلك لا يقوله مسلم ورابعها : قوله تعالى : {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الذى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِىَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً} [ الإسراء : 73 ] وكلمة كاد عند بعضهم معناه قرب أن يكون الأمر كذلك مع أنه لم يحصل وخامسها : قوله : {وَلَوْلاَ أَن ثبتناك لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً} [ الإسراء : 74 ] وكلمة لولا تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره فدل على أن ذلك الركون القليل لم يحصل وسادسها : قوله : {كذلك نُثَبّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [ الفرقان : 32 ].
وسابعها : قوله : {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى} [ الأعلى : 6 ].
وأما السنة فهي ما روي عن محمد بن إسحق بن خزيمة أنه سئل عن هذه القصة فقال هذا وضع من الزنادقة وصنف فيه كتاباً.
وقال الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل ثم أخذ يتكلم في أن رواة هذه القصة مطعون فيهم ، وأيضاً فقد روى البخاري في صحيحه أن النبي عليه السلام قرأ سورة النجم وسجد فيها المسلمون والمشركون والإنس والجن وليس فيه حديث الغرانيق.
وروي هذا الحديث من طرق كثيرة وليس فيها ألبتة حديث الغرانيق.
وأما المعقول فمن وجوه : أحدها : أن من جوز على الرسول صلى الله عليه وسلم تعظيم الأوثان فقد كفر لأن من المعلوم بالضرورة أن أعظم سعيه كان في نفي الأوثان وثانيها : أنه عليه السلام ما كان يمكنه في أول الأمر أن يصلى ويقرأ القرآن عند الكعبة آمناً أذى المشركين له حتى كانوا ربما مدوا أيديهم إليه وإنما كان يصلي إذا لم يحضروها ليلاً أو في أوقات خلوة وذلك يبطل قولهم وثالثها : أن معاداتهم للرسول كانت أعظم من أن يقروا بهذا القدر من القراءة دون أن يقفوا على حقيقة الأمر فكيف أجمعوا على أنه عظم آلهتهم حتى خروا سجداً مع أنه لم يظهر عندهم موافقته لهم ورابعها : قوله : {فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِى الشيطان ثُمَّ يُحْكِمُ الله ءاياته} وذلك لأن إحكام الآيات بإزالة ما يلقيه الشيطان عن الرسول أقوى من نسخه بهذه الآيات التي تبقى الشبهة معها ، فإذا أراد الله إحكام الآيات لئلا يلتبس ما ليس بقرآن قرآناً ، فبأن يمنع الشيطان من ذلك أصلاً أولى وخامسها : وهو أقوى الوجوه أنا لو جوزنا ذلك ارتفع الأمان عن شرعه وجوزنا في كل واحد من الأحكام والشرائع أن يكون كذلك ويبطل قوله تعالى : {يا أيها الرسول بَلّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس} [ المائدة : 67 ] فإنه لا فرق في العقل بين النقصان عن الوحي وبين الزيادة فيه فبهذه الوجوه عرفنا على سبيل الإجمال أن هذه القصة موضوعة أكثر ما في الباب أن جمعاً من المفسرين ذكروها لكنهم ما بلغوا حد التواتر ، وخبر الواحد لا يعارض الدلائل النقلية والعقلية المتواترة ، ولنشرع الآن في التفصيل فنقول التمني جاء في اللغة لأمرين : أحدهما : تمنى القلب والثاني : القراءة قال الله تعالى : {وَمِنْهُمْ أُمّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الكتاب إِلاَّ أَمَانِيَّ} [ البقرة : 78 ] أي إلا قراءة لأن الأمي لا يعلم القرآن من المصحف وإنما يعلمه قراءة ، وقال حسان :
تمنى كتاب الله أول ليلة . . وآخرها لاقى حمام المقادر
قيل إنما سميت القراءة أمنية لأن القارىء إذا انتهى إلى آية رحمة تمنى حصولها وإذا انتهى إلى آية عذاب تمنى أن لا يبتلى بها ، وقال : أبو مسلم التمني هو التقدير وتمنى هو تفعل من منيت والمنية وفاة الإنسان في الوقت الذي قدره الله تعالى ، ومنى الله لك أي قدر لك.
وقال رواة اللغة الأمنية القراءة واحتجوا ببيت حسان ، وذلك راجع إلى الأصل الذي ذكرناه فإن التالي مقدر للحروف ويذكرها شيئاً فشيئاً ، فالحاصل من هذا البحث أن الأمنية ، إما القراءة ، وإما الخاطر ، أما إذا فسرناها بالقراءة ففيه قولان : الأول : أنه تعالى أراد بذلك ما يجوز أن يسهو الرسول صلى الله عليه وسلم فيه ويشتبه على القارىء دون ما رووه من قوله تلك الغرانيق العلى الثاني : المراد منه وقوع هذه الكلمة في قراءته ثم اختلف القائلون بهذا على وجوه : الأول : أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتكلم بقوله تلك الغرانيق العلى ولا الشيطان تكلم به ولا أحد تكلم به لكنه عليه السلام لما قرأ سورة النجم اشتبه الأمر على الكفار فحسبوا بعض ألفاظه ما رووه من قولهم تلك الغرانيق العلى وذلك على حسب ما جرت العادة به من توهم بعض الكلمات على غير ما يقال وهذا الوجه ذهب إليه جماعة وهو ضعيف لوجوه : أحدها : أن التوهم في مثل ذلك إنما يصح فيما قد جرت العادة بسماعه فأما غير المسموع فلا يقع ذلك فيه وثانيها : أنه لو كان كذلك لوقع هذا التوهم لبعض السامعين دون البعض فإن العادة مانعة من اتفاق الجم العظيم في الساعة الواحدة على خيال واحد فاسد في المحسوسات وثالثها : لو كان كذلك لم يكن مضافاً إلى الشيطان الوجه الثاني : قالوا إن ذلك الكلام كلام شيطان الجن وذلك بأن تلفظ بكلام من تلقاء نفسه أوقعه في درج تلك التلاوة في بعض وقفاته ليظن أنه من جنس الكلام المسموع من الرسول صلى الله عليه وسلم قالوا والذي يؤكده أنه لا خلاف في أن الجن والشياطين متكلمون فلا يمتنع أن يأتي الشيطان بصوت مثل صوت الرسول عليه السلام فيتكلم بهذه الكلمات في أثناء كلام الرسول عليه السلام وعند سكوته فإذا سمع الحاضرون تلك الكلمة بصوت مثل صوت الرسول وما رأوا شخصاً آخر ظن الحاضرون أنه كلام الرسول ، ثم هذا لا يكون قادحاً في النبوة لما لم يكن فعلاً له ، وهذا أيضاً ضعيف فإنك إذا جوزت أن يتكلم في أثناء الشيطان كلام الرسول صلى الله عليه وسلم بما يشتبه على كل السامعين كونه كلاماً للرسول بقي هذا الاحتمال في كل ما يتكلم به الرسول فيفضي إلى ارتفاع الوثوق عن كل الشرع فإن قيل هذا الاحتمال قائم في الكل ولكنه لو وقع لوجب في حكمة الله تعالى أن يشرح الحال فيه كما في هذه الواقعة إزالة للتلبيس ، قلنا لا يجب على الله إزالة الاحتمالات كما في المتشابهات وإذا لم يجب على الله ذلك تمكن الاحتمال من الكل الوجه الثالث : أن يقال المتكلم بذلك بعض شياطين الإنس وهم الكفرة فإنه عليه السلام لما انتهى في قراءة هذه السورة إلى هذا الموضع وذكر أسماء آلهتهم وقد علموا من عادته أنه يعيبها فقال بعض من حضر تلك الغرانيق العلى فاشتبه الأمر على القوم لكثرة لغط القوم وكثرة صياحهم وطلبهم تغليطه وإخفاء قراءته ، ولعل ذلك كان في صلاته لأنهم كانوا يقربون منه في حال صلاته ويسمعون قراءته ويلغون فيها ، وقيل إنه عليه السلام كان إذا تلا القرآن على قريش توقف في فصول الآيات فألقى بعض الحاضرين ذلك الكلام في تلك الوقفات فتوهم القوم أنه من قراءة الرسول صلى الله عليه وسلم ثم أضاف الله تعالى ذلك إلى الشيطان لأنه بوسوسته يحصل أولاً ولأنه سبحانه جعل ذلك المتكلم في نفسه شيطاناً وهذا أيضاً ضعيف لوجهين : أحدهما : أنه لو كان كذلك لكان يجب على الرسول صلى الله عليه وسلم إزالة الشبهة وتصريح الحق وتبكيت ذلك القائل وإظهار أن هذه الكلمة منه صدرت وثانيهما : لو فعل ذلك لكان ذلك أولى بالنقل ، فإن قيل إنما لم يفعل الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك لأنه كان قد أدى السورة بكمالها إلى الأمة من دون هذه الزيادة فلم يكن ذلك مؤدياً إلى التلبيس كما يؤدي سهوه في الصلاة بعد أن وصفها إلى اللبس ، قلنا إن القرآن لم يكن مستقراً على حالة واحدة في زمان حياته لأنه كان تأتيه الآيات فيلحقها بالسور فلم يكن تأدية تلك السورة بدون هذه الزيادة سبباً لزوال اللبس ، وأيضاً فلو كان كذلك لما استحق العتاب من الله تعالى على ما رواه القوم الوجه الرابع : هو أن المتكلم بهذا هو الرسول صلى الله عليه وسلم ثم هذا يحتمل ثلاثة أوجه فإنه إما أن يكون قال هذه الكلمة سهواً أو قسراً أو اختياراً أما الوجه الأول : وهو أنه عليه السلام قال هذه الكلمة سهواً فكما يروى عن قتادة ومقاتل أنهما قالا إنه عليه السلام كان يصلي عند المقام فنعس وجرى على لسانه هاتان الكلمتان فلما فرغ من السورة سجد وسجد كل من في المسجد وفرح المشركون بما سمعوه وأتاه جبريل عليه السلام فاستقرأه ، فلما انتهى إلى الغرانيق قال لم آتك بهذا ، فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن نزلت هذه الآية وهذا ضعيف أيضاً لوجوه : أحدها : أنه لو جاز هذا السهو لجاز في سائر المواضع وحينئذ تزول الثقة عن الشرع وثانيها : أن الساهي لا يجوز أن يقع منه مثل هذه الألفاظ المطابقة لوزن السورة وطريقتها ومعناها ، فإنا نعلم بالضرورة أن واحداً لو أنشد قصيدة لما جاز أن يسهو حتى يتفق منه بيت شعر في وزنها ومعناها وطريقتها وثالثها : هب أنه تكلم بذلك سهواً ، فكيف لم ينبه لذلك حين قرأها على جبريل عليه السلام وذلك ظاهر أما الوجه الثاني : وهو أنه عليه السلام تكلم بذلك قسراً وهو الذي قال قوم إن الشيطان أجبر النبي صلى الله عليه وسلم على أن يتكلم بهذا فهذا أيضاً فاسد لوجوه : أحدها : أن الشيطان لو قدر على ذلك في حق النبي عليه السلام لكان اقتداره علينا أكثر فوجب أن يزيل الشيطان الناس عن الدين ولجاز في أكثر ما يتكلم به الواحد منا أن يكون ذلك بإجبار الشياطين وثانيها : أن الشيطان لو قدر على هذا الإجبار لارتفع الأمان عن الوحي لقيام هذا الاحتمال وثالثها : أنه باطل بدلالة قوله تعالى حاكياً عن الشيطان {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مّن سلطان إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُمْ} [ إبراهيم : 22 ] وقال تعالى : {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ على الذين ءَامَنُواْ وعلى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سلطانه على الذين يَتَوَلَّوْنَهُ} [ النحل : 99 ، 100 ] وقال : {إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين} [ الحجر : 40 ] ولا شك أنه عليه السلام كان سيد المخلصين أما الوجه الثالث : وهو أنه عليه السلام تكلم بذلك اختياراً فههنا وجهان : أحدهما : أن نقول إن هذه الكلمة باطلة والثاني : أن نقول إنها ليست كلمة باطلة أما على الوجه الأول فذكروا فيه طريقين : الأول : قال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية عطاء إن شيطاناً يقال له الأبيض أتاه على صورة جبريل عليه السلام وألقى عليه هذه الكلمة فقرأها فلما سمع المشركون ذلك أعجبهم فجاء جبريل عليه السلام فاستعرضه فقرأها فلما بلغ إلى تلك الكلمة قال جبريل عليه السلام أنا ما جئتك بهذه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه أتاني آت على صورتك فألقاها على لساني الطريق الثاني : قال بعض الجهال إنه عليه السلام لشدة حرصه على إيمان القوم أدخل هذه الكلمة من عند نفسه ثم رجع عنها ، وهذان القولان لا يرغب فيهما مسلم ألبتة لأن الأول يقتضي أنه عليه السلام ما كان يميز بين الملك المعصوم والشيطان الخبيث والثاني يقتضي أنه كان خائناً في الوحي وكل واحد منهما خروج عن الدين أما الوجه الثاني : وهو أن هذه الكلمة ليست باطلة فههنا أيضاً طرق الأول : أن يقال الغرانيق هم الملائكة وقد كان ذلك قرآناً منزلاً في وصف الملائكة.
فلما توهم المشركون أنه يريد آلهتهم نسخ الله تلاوته الثاني : أن يقال المراد منه الاستفهام على سبيل الإنكار ، فكأنه قال : أشفاعتهن ترتجى ؟ الثالث : أن يقال إنه ذكر الإثبات وأراد النفي كقوله تعالى : {يُبَيّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ} [ النساء : 176 ] أي لا تضلوا كما قد يذكر النفي ويريد به الإثبات كقوله تعالى : {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً } [ الأنعام : 151 ] والمعنى أن تشركوا ، وهذان الوجهان الأخيران يعترض عليهما بأنه لو جاز ذلك بناء على هذا التأويل فلم لا يجوز أن يظهروا كلمة الكفر في جملة القرآن أو في الصلاة بناء على هذا التأويل ، ولكن الأصل في الدين أن لا يجوز عليهم شيء من ذلك لأن الله تعالى قد نصبهم حجة واصطفاهم للرسالة فلا يجوز عليهم ما يطعن في ذلك أو ينفر ، ومثل ذلك في التنفير أعظم من الأمور التي حثه الله تعالى على تركها كنحو الفظاظة والكتابة وقول الشعر فهذه الوجوه المذكورة في قوله تلك الغرانيق العلا قد ظهر على القطع كذبها ، فهذا كله إذا فسرنا التمني بالتلاوة.
وأما إذا فسرناها بالخاطر وتمنى القلب فالمعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم متى تمنى بعض ما يتمناه من الأمور يوسوس الشيطان إليه بالباطل ويدعوه إلى ما لا ينبغي ثم إن الله تعالى ينسخ ذلك ويبطله ويهديه إلى ترك الالتفات إلى وسوسته ، ثم اختلفوا في كيفية تلك الوسوسة على وجوه : أحدها : أنه يتمنى ما يتقرب به إلى المشركين من ذكر آلهتهم بالثناء قالوا إنه عليه السلام كان يحب أن يتألفهم وكان يردد ذلك في نفسه فعندما لحقه النعاس زاد تلك الزيادة من حيث كانت في نفسه وهذا أيضاً خروج عن الدين وبيانه ما تقدم وثانيها : ما قال مجاهد من أنه عليه السلام كان يتمنى إنزال الوحي عليه على سرعة دون تأخير فنسخ الله ذلك بأن عرفه بأن إنزال ذلك بحسب المصالح في الحوادث والنوازل وغيرها وثالثها : يحتمل أنه عليه السلام عند نزول الوحي كان يتفكر في تأويله إن كان مجملاً فيلقى الشيطان في جملته ما لم يرده ، فبين تعالى أنه ينسخ ذلك بالإبطال ويحكم ما أراده الله تعالى بأدلته وآياته ورابعها : معنى الآية إذا تمنى إذا أراد فعلاً مقرباً إلى الله تعالى ألقى الشيطان في فكره ما يخالفه فيرجع إلى الله تعالى في ذلك وهو كقوله تعالى : {إِنَّ الذين اتقوا إِذَا مَسَّهُمْ طَيفٌ مّنَ الشيطان تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} [ الأعراف : 201 ] وكقوله : {وَإِمَّا يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ فاستعذ بالله} [ الأعراف : 200 ] ومن الناس من قال لا يجوز حمل الأمنية على تمني القلب لأنه لو كان كذلك لم يكن ما يخطر ببال رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنة للكفار وذلك يبطله قوله تعالى : {لّيَجْعَلَ مَا يُلْقِى الشيطان فِتْنَةً لّلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ والقاسية قُلُوبُهُمْ} ، والجواب : لا يبعد أنه إذا قوي التمني اشتغل الخاطر به فحصل السهو في الأفعال الظاهرة بسببه فيصير ذلك فتنة للكفار فهذا آخر القول في هذه المسألة.
المسألة الثالثة :
يرجع حاصل البحث إلى أن الغرض من هذه الآية بيان أن الرسل الذين أرسلهم الله تعالى وإن عصمهم عن الخطأ مع العلم فلم يعصمهم من جواز السهو ووسوسة الشيطان بل حالهم في جواز ذلك كحال سائر البشر فالواجب أن لا يتبعوا إلا فيما يفعلونه عن علم فذلك هو المحكم ، وقال أبو مسلم معنى الآية أنه لم يرسل نبياً إلا إذا تمنى كأنه قيل : وما أرسلنا إلى البشر ملكاً وما أرسلنا إليهم نبياً إلا منهم ، وما أرسلنا نبياً خلا عند تلاوته الوحي من وسوسة الشيطان وأن يلقي في خاطره وما يضاد الوحي ويشغله عن حفظه فيثبت الله النبي على الوحي وعلى حفظه ويعلمه صواب ذلك وبطلان ما يكون من الشيطان ، قال وفيما تقدم من قوله : {قُلْ يا أيها الناس إِنَّمَا أَنَاْ لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} تقوية لهذا التأويل فكأنه تعالى أمره أن يقول للكافرين أنا نذير لكم لكني من البشر لا من الملائكة ، ولم يرسل الله تعالى مثلي ملكاً بل أرسل رجالاً فقد وسوس الشيطان إليهم ، فإن قيل هذا إنما يصح لو كان السهو لا يجوز على الملائكة ، قلنا إذا كانت الملائكة أعظم درجة من الأنبياء لم يلزم من استيلائهم بالوسوسة على الأنبياء استيلاؤهم بالوسوسة على الملائكة ، واعلم أنه سبحانه لما شرح حال هذه الوسوسة أردف ذلك ببحثين
البحث الأول : كيفية إزالتها وذلك هو قوله تعالى : {فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِي الشيطان} فالمراد إزالته وإزالة تأثيره فهو النسخ اللغوي لا النسخ الشرعي المستعمل في الأحكام. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 23 صـ 43 - 48}

(3/434)


(عَلَى الكَافِرينَ غَيرُ يَسِيرٍ).
وليس هو على المؤمنين الذين أَدْخِلوا في رحمة اللَّه كذلك.
وأنشد بعض أهل اللغة في قوله تمنى في معنى تلا قول الشاعر :
تَمَنَّى كتابَ اللهِ أَوَّلَ لَيْلِه . . . وآخِرَه لاقَى حِمامَ المَقادِرِ
أي تلا كتاب اللَّه مترسلًا فيهِ كما تلا داود الزبور مترسِّلاً فيه.
* * *
وقوله : (ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60)
(ذلك) في موضع رفع ، المعنى الأمر ذلك ، أي الأمره ، قصصنا لحيكم.
قوله : (وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِ).
الأول لم يكن عقوبةً ، وإنما العقوبة الجزاء ، ولكنه سُمِّي عقوبةً لأن
الفِعلَ الذي هو عقوبة كان جزاء فسمِّي الأول الذي جوزيَ عليه عقوبة لاستواء الفعلين في جنس المكروه.
كما قال عزَّ وَجَلَّ : (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا).
فالأول سيئة والمجازاة عليها حسنةٌ من حسنات المجَازِي عليها إلا أنها سُمِّيَتْ
سيئَةً بأنها وقَعَتْ إساءة بالمفعول به ، لأنه فعِلَ بِهِ ما يَسُوءه.
وكذلك قوله (مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) ، جعل مجازاتهم باستهزائهم مسمَّى بلفظ فِعْلِهِمْ لأنه جَزَاءُ فعلهم.
* * *
وقوله : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63)
وقرئت مَخْضَرَة .

(3/435)


ذكر الله جل ثناؤه - ما يدل على توحيده من إيلاج الليل في النَّهَارِ
والنهار في الليل ، وذكر إنزاله الماء يُنْبِتُ وذكر تسخير الفلك في البحر
وإمساك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه ، فدل أنه الواحد الَّذي خلق
الخلق وأتى بما لا يمكن الْبَشَرَ أن يأتوا بمثله ، ثم ذكر جهل المشركين في
عِبَادَتِهِمْ الأصنام فقال عزَّ وَجَل :
(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71)
أي ما لم يُنْزِلْ بِهِ حُجةً وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ.
ثم ضرب لهم مَثَلَ مَا يَعْبُدون ، وأنه لا ينفع ولا يضر.
وأما القراءة : (فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) لَا غَيرُ
قال سيبويه : سألت الخليل عن قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) فقال هذا واجبٌ ومعناه التنبيه كأنَّه قال : أتَسْمَعُ ؟
أنْزَلَ الله من السماء ماء ، فكان كذا وكذا ، وقال غيره مثل قوله.
قال مجاز هذا الكلام مجاز الخبر كأنه قال : الله ينزل من السماء ماء ، فتصبح الأرضِ مخضرةً.
وأنشدوا.
أَلم تَسْأَلِ الرَّبْعَ القَواءَ فَيَنْطِقُ . . . وهَلْ تُخْبِرَنْكَ اليَوْمَ بَيْداءُ سَمْلَقُ ؟
قال الخليل : المعنى فهو مما ينطق ، وأما من قرأ مَخْضَرَة فهو على
معنى ذات مَخْضَرة مثل مَبْقَلة ذات بقل ، ومَشْبَعة ذات شِبَع ، ولا يجوز
مَخَضَرَّة - بفتح الميم وتشديد الراء - لأن مَفْعَلَّة ليس في الكلام ولا معنى له.
* * *
وقوله عزَّ وَجَلَّ : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65)

(3/436)


(الفلْكَ) بالنصْب نَسق - على " ما " المعنى وسخر لكم الفلك.
ويكون (تجري) حالاً ، أي وسخر لكم الفلك في حَاِل جريها.
ويقرأ : (والفلكُ تجري في البحر بأمْره) ، فيكون الفلكُ مرفوعاً بالابتداء ، وتجْري هو الخبر ، والمعنى معنى التسخير لأن جريها بأمره هو التسخير.
وقوله : (وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ).
على معنى كراهة أن تقع على الأرْض ، وموضع " أن " نَصبٌ بيُمْسِكً.
وهي مفعول . المعنى لكراهة أن تقع.
* * *
وقوله : (لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67)
ومَنْسِكاً ، وقد تقدم الشرح في هذا.
وقوله : (فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ)
أي لا يجادِلُنَّكَ فيه ، ومعناه لا تنازعهم ، والدليل عنى أن المعنى
لا يُجَادِلنَّك وَلَا تُجَادِلَنَّهُمْ قوله : (وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ).
هذا قبل القتال.
فإن قال قائل : فهم قد جَادَلُوه فَلِمَ قيل (فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ) وهم قد نازعوه ؟
فالمعنى أنه نَهْيٌ له - صلى الله عليه وسلم - عن منازعَتِهِمْ كما يقول : لا
يخَاصِمَنَّكَ فُلَانٌ في هذا أبداً ، وهذا جائز في الفعل الذي لا يَكونُ إلا من
اثنين لأن المجادلة والمخاصمة لا تتم إلا باثنين ، فإذا قلت لا يُجَادِلَنَكَ فُلان
فهو بمنزلة لا تجادِلِنَّهُ ، ولا يجوز هذا في قوله : لا يَضْرِبَنَّكَ فُلَانٌ ، وأنت تريد
لا تضرِبْهُ.
ولكن لو قلت لا يُضَارِبنَّكَ فلان لكان كقولك لا تُضَارِبَنَّ فلاناً.
ويقرأ : " فَلَا يَنْزِعُنَّك في الأمر " : معناه لا يغلِبُنَّكَ في المنازعة فيه ، يقال : نَازَعَنِي فُلَانٌ فنزعتُه وَعَازَّني فَعَزَزْتُه ، أنزعه وأغلِبُه ، المعنى فلا يَغْلِبُنَّكَ في الأمْرِ.
* * *
وقوله : (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72)

(3/437)


أي يكادون يبطشونَ بسطوةٍ على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ، والذين يتلون عليهم القرآن.
وقوله ، : (قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ).
القراءة بالرفع وهي أثبت في النحو مِنَ الجر والنَصْبِ والخفض.
والنَّصْبُ جائز ، فأمَّا من رفع فعلى معنى هو النَّارُ ، وهي النَّارُ ، كأنَّهم قالوا : مَا هَذَا الذي هُوَ شَرٌّ ؟
فقِيلَ النَّارُ . ومن قال النَّارِ بالجر ، فعلى البَدَلِ مِنْ شَرٍّ ، ومَنْ
قَالَ النَّارَ بِالنَصْبِ ، فهو على معنى أعْني النَّارَ ، وعلى معنى أنَبُئكُمْ بشَرٍّ من
ذلكم كأنَّه قال أعَرفُكُم شَرًّا من ذلكم النَّارَ.
* * *
وقوله : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73)
لأنهم عبدوا من دون اللَّه ما لا يَسْمَع ولا يُبْصِرُ وما لم يُنَزِّلْ به حجةً.
فَأَعْلَمَهُم اللَّهِ عزَّ وَجَل الجواب فيما جعلوه للَّه مثلاً ، وجعلوه له نيًرا ، فقال : (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ).
يعنى الأصنام ، وكل من دُعِيَ مِن دُونِ اللَّهِ إِلهاً لَا إلهَ إلا اللَّهُ وحْدَه.
وقوله : (وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ).
أعلم اللَّه - جلّ ثناؤه - أنه الخالق ، ودل على وحدانيته بجميع ما خلق
ثم أعلم أن الذِين عُبِدُوا مِنْ دُونهِ لا يَقْدِرون على خَلقِ وَاحِدٍ قَلِيل ضعيفٍ مِنْ
خَلْقِه ، ولا على اسْتِنْقَاذِ تَافِهٍ حقيرٍ منه.
* * *
ثم قال : (مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74)
أي ما عظموه حقَّ عَظَمتِه ، ثم أعلَمَ بَعْدَ ذِكره ضعْفَ قوة المَعْبُودِينَ
قوَّته فقال : (إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ).

(3/438)


وقوله (ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ)
يجوز ضَعُفَ ، وضُعِفَ الطالب والمطلوب ، أي فهم يضعفون عن أن
يخلقوا ذبَاباً ، وعن أن يستنقذوا من الذُّبَابشيئاً ضعف الذباب.
وقوله - عزَّ وجلَّ - : (اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75)
اصطفى اللَّه من الملائكة جبريل وميكائيل وإسرافيل ومَلَكَ الموتِ
واصطفى من الناسِ النبيينَ والمرسلين صلى الله عليهم وسلم أحمعين.
* * *
وقوله : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77)
أي اقصدوا بركوعكم وسجودكم الله وحده.
(وَافْعَلُوا الْخَيْرَ).
والخير كل مَا أمرَ اللَّه بِهِ.
وقوله : (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)
هذا ليس بشك ، ولكن معناه لترجوا أن تكونوا على فلاح ، كما قال
لموسى وهارون : (اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44).
أي اذهبا على رجائِكمَا كما كما يرجو النبي ممنْ يُبْعَث إليه ، واللَّه
عز وَجَلَّ من وراء العلم بما يؤول إليه أمر فرعون إلا أن الحجةَ لا تَقوم إلا بَعدَ الإِبَانَةِ.
وقوله عزَّ وَجَل : (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)
قيل إنه بمنزلة قوله : (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ) وأن نسخها قوله :
(فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ).
وقوله : (هو اجْتَبَاكمْ) معناه : اختاركم.
* * ** * ** * ** * ** * ** * ** * **

(3/439)


وقوله : (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ).
أي مِنْ ضيقٍ ، جعل الله على من لم يستطع الشيء الذي يثقل في
وَقتٍ ، ما هُو أخف منه ، فجعل للصائم الإفطار في السفر ، وبِقَصْر الصلاة
للمُصَلِّي إذا لم يُطِقِ القِيام أن يُصَلِّيَ قَاعدِاً ، وإِن لم يطق القُعُودَ أن يُومِئَ
إيماءً ، وجعل للرجل أن يتزوج أَرْبعاً ، وجعل له جميع ما ملكتْهُ يمينُهُ.
فوسَّعَ اللَّه - عزَّ وَجَلَّ - عَلَى خلقِه.
وقوله : (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ).
معناه اتبعوا مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ.
وجائز أن يكون مَنْصُوباً بقوله : اعبدوا ربكم وافعلوا الخير فعْلَ أبيكم إبراهيم.
وقوله : (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا).
" هُوَ " رَاجِعَةٌ إلى اللَّه - عَر وَجَلً - المعنى : اللَّهُ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِنْ
قَبْلِ أن يُنَزِّلَ القرآن ، وفي هذا القرآن سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ.
وجائز أنْ يكون إبراهيمُ عليه السلام سَمَّاكُمُ المُسلِمِينَ من قبل ، وفي هذا ، أي حكم إبراهيم أن كل من آمن بمحمد مُوَحِّداً لِلَّهِ فقد سمَّاه إبراهيم مُسْلِماً.
وقوله : (وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ).
يروى أن الله سبحانه أعطى هذه الأمة ثلاثة أشياء لم يعْطَها إلا الأنبياء.
جُعِلَتْ شَهِيدَة على سائر الأمَمِ ، والشهادة لكل نبيٍّ على أُمَّتِه.
وأن يقال للنبي عليه السلام : اذهب ولا حرج عليك ، وقال اللَّه لهذه الأُمَّة : (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) ، وأنه قال لكل نَبِيٍّ سَلْ تُعْطَه ، وقال لهذه الأمَّةِ : (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ).

(3/440)


سُورَةُ المؤْمِنون
(مَكِيَّة)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
ومن السورة التي يذكر فيها المؤمنون.
قوله تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1)
أي قد نَالُوا البَقاء الدائم في الخير ، ومن قرأ قد أُفْلِحَ المؤمنونَ.
كان معناه : قد أُصِيرُوا إلى الفلاح.
ويروى عن كعب الحَبْر : أن الله عزَّ وجلَّ لم يخلق بيده إلا ثلاثة أشياء ، خلق آدمَ - صلى الله عليه وسلم - بِيَدِه وخلق جنَّةَ عَدْنٍ بيده ، وكتب
التوراة بيده ، فقال لجنَّة عدنٍ تكلمي فقالت ((قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ)
لما رأت فيها من الكرامة لأهلها ،

(4/5)


و(الْمُؤْمِنُونَ) المصدِّقونَ بما أتى من عند اللَّه ، وبأنه واحد لا شريك له.
وأن محمداً - صلى الله عليه وسلم - نبيُّه
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)
أصل الخشوع في اللغة الخضوع والتَوَاضع ، ودليل ذلك قوله :
(وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا).
وقال الحسن وقتَادَةُ : خاشعون خائفون.
وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان إذا وقف في صلاته رفع بصره نحو السماء ، فلما نزلت (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ) جَعَلَ نظره موضع سُجُودِه . .
* * *
(وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3)
اللغو كل لَعِبٍ وهَزْلٍ ، وكُلُّ مَعْصِيَةٍ فمُطَّرحةٌ مُلْغَاة ، وهم الذين قد
شغلهم الجد فيما أمرهم اللَّه به عن اللغْوِ.
* * *
وقوله : (وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4)
معنى (فَاعِلُونَ) مُؤتُونَ.
* * *
(وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5)
أي يحفظون فروجهم عن المعاصي.
* * *
(إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6)
مَوْضِعُ " ما " خفَضٌ ودخلت " على " ههنا لأن المعنى أنهم يلامون في
إطْلاقِ ما حُظِرَ عَلَيْهم ، (إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ فِإنَهُم لَا يُلَامون على ما أُحِلَّ لَهُمْ
مِنْ تَزوج أرْبع ، ومِنْ ملك اليَمِين ، والمعنى أنهم يلامون على ما سِوى
أَزْوَاجِهِمْ وملك أيمانِهِمْ .

(4/6)


(فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7)
أي فمن طلب مَا بَعْدَ ذَلِكَ.
(فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ).
ومعنى (الْعَادُونَ) الجائرون الظالمونَ الذين قَدْ تَعدَّوا فِي الظلْمِ.
* * *
(وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8)
ويقرأ لأمانتهم واحداً وَجَمْعاً.
(وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ).
أي يقومُون على حفظ أَمَانَتِهِمْ وَعَهْدِهم ، يَرْعَوْنَ ذلك ، وأصل الرَّعْيِ
في اللغَةِ القيامُ على إصلاح ما يتولَّاه الراعي من كل شيءٍ تقول : الِإمام
يَرْعَى رَعِيتَهُ ، والقيِّمُ بالغنم يَرْعَى غَنَمه ، وفلان يَرْعَى مَا بَيْنَه وبَيْنَ فُلانٍ ، أي يقوم على إصْلاح ما بينه وبينه.
* * *
(وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9)
(وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ).
وَصَلَواتِهِم يقرأ أن جميعاً.
(يُحَافِظُونَ).
معناه يُصَلونَها لوقتها ، والمحافظة على الصلَواتِ أَن تُصَلَّى في أَوْقَاتِها.
فأمَّا الترك فَداخل في بَابِ الخُرُوجِ عَنِ الدِّينِ.
والذين وُصِفُوا بالمحافظة هم الذين يرْعَوْنَ أَوْقَاتَها.
* * *
(أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10)
أيَ من وصف بما جرى من الِإيمَانِ والعَمَلِ بما يلزم المؤمِنَ أُولئِكَ هُم
الْوَارِثُونَ.
* * *
(الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)

(4/7)


روي أن اللَّه - جل ثناؤه - جعل لكل امْرِئ بَيْتاً في الجَنَّةِ وَبَيْتاً في النَّارِ
فمن عَمِلَ عَمَلَ أهلَ النَّارِ وَرِث بيتَه مِنَ الجَنَّةِ مَنْ عَمِلَ عَمَلَ أهلِ الجَنَّةِ ، ومن
عَمِلَ عَمَلَ أهْلِ الجنَّة ورث بيته من النار من عَمِلَ عَمَل أهل النَّارِ ، والفِرْدَوْس : أصله رُومي أعرب وهو البسْتَان ، كذلك جاء في التفسير.
وقد قيل إنَّ الفِرْدَوْس يعرفه العَرَب ، وسُمِّى الموضِع الذي فيه كرم فردوساً.
قال أبو إسحاق : روينا عَنْ أَحْمَدَ بنِ حَنْبل رحمه الله في كتابه " كتاب
التفسير " ، وهو ما أجازه لي عبد الله ابنه عنه أن اللَّه عزَّ وجلَّ ، بنى جَنَّةَ
الفِرْدَوْسِ لَبِنةً من ذهب ولَبِنةً من فِضةٍ ، وجَعَلَ جِبَالها المِسْكَ الأذْفَر.
ورَوينَا عن غيره أن اللَّه - جَلَّ ثناؤه - كنس جَنّة الفردَوْسِ بِيدِه ، وبناها لبنةً من ذهب مُصَفًّى ولبنةً مِنْ مِسْكٍ مذَرًّى ، وغرس فيها مِنْ جَيِّدِ الفَاكِهَةِ وَجَيِّد الريْحَانِ.
* * *
قوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12)
سُلَالَة : فعالة . فخلق اللَّه آدم - عليه السلام - مِنْ طِينٍ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13)
على هذا القول يَعْنِي وَلَدَ آدم.
وِقيل مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طينٍ ، من مَنِيِّ آدم - صلى الله عليه وسلم -
وسُلَالَة : القليل فيما يَنْسَلُ . وكل مَبْنَى عَلَى فُعالة ، يراد به القليل.
فمن ذلك الفُضَالَة والنُّخَالة والقُلاَمَة . فَعَلَى هذَا قياسُه.
* * *
وقوله : (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ
(14)
(فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا)
وتقرأ على أرْبَعةِ أوْجهٍ :
أحدها ما ذكرنا . وتقرأ : (فَخَلَقنا المضغة عَظْماً فكسونا العَظْمَ لحماً)
ويقرأ : (فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العَظْمَ لحماً)
ويقرأ : (فخلقنا المضغة عَظْماً فكسونا العظام لحماً).
والتوحيد والجمع ههنا جائزان ، لأنه يُعْلم أن الإنسانَ ذُو عظام ، فإِذَا ذُكِرَ على التوحيد فِلأنه يَدلُّ على

(4/8)


الجمع ، ولأنَّهُ مَعه اللحْمَ ، ولفظه لفظ الواحِدِ ، فقد عُلِمَ أن العَظْمَ يُرَادُ به
العِظَامُ.
وقد يجوز من التوحيد إذا كان في الكلام دليل على الجمع مَا هُوَ أشَدُّ
مِنْ هذا قال الشاعر :
في حلقكم عظم وقد شجينا
يريد في حلوقكم عِظامٌ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ).
فيه ثلاثة أقوال : قِيل جُعِلَ ذكراً أَوْ أنثى ، وقيل نفخ فيه الروح.
وقيلَ أنْبِتَ عليه الشًعْرُ.
ويروى أَن عمَر كان عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين نزلت هذه الآية ، فقال عَمر : فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخَالِقِينَ ، فقال - صلى الله عليه وسلم - لعمر إن الله قد ختم بها الآية.
* * *
وقوله : (ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15)
ويجوز لمائِتون ، ويجوز لَميْتون.
وأجْوَدها (لَمَيِّتُونَ) ، وعليها القراءة.
وجاءت مائتون لأنها لما يستقبل.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17)
يعنَى به سبع سموات ، فكل واحدة طريقة.
(وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ) ، أي لم نكن لنغفلَ عن حفظهنَّ ، كما
قال : (وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفوظاً).
وجائز أن يكون (وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ) أي إنا لِحِفْظِنَا إيَّاهُمْ خلقنا هذا الخلق .

(4/9)


(وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18)
ويروى أن أربعة أنهار من الجنة ، دجلةُ والفراتُ وَسِيحانُ وجِيحانُ.
ومعنى (فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ) جعلناه ثابتاً فيها لا يزول.
* * *
وقوله : (وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20)
(شَجَرَةً) منصوب ، عطف على قوله : (فَأنْشَأنَا لَكُمْ به جَنَّاتٍ) أي، وأنشأنا
لكم به شجرةً.
ويقرأ (من طور سَيْنَاءَ) بفتحَ السين ، وبكسر السين (1) ، والطور
الجبل ، وقيل إن سيناء حجارةٌ ، وهو - واللَّه أعلم - اسمٌ لِمكَانٍ.
فمن قال سَيْناء ، فهو على وصف صحراء ، لا ينصرف ، ومن قال سِينَاء - بكسر السين - فليس في الكلام على وزن فِعْلاَء على أن الألف للتأنيث ، لأنه ليس في الكلام ما فيه ألف التأنيث على وزن فِعْلَاءَ ، وفي الكلام نحو عِلْباءٍ مُنْصَرِفٌ.
إلا أن سِيناء ههنا اسم للبقعة فلا ينصرف.
قوله : (تَنْبًتُ بِالذُهْنِ).
يقال نبت الشجر وأَنْبَتَ في مَعْنًى واحدٍ ، قال زُهير :
رأيت ذوي الحاجات حول بيوتهم قطيناً لهم حتى إذا أنبت البَقْلُ
ومعنى (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) أي تنبت وفيها دُهْنٌ وَمَعَها دُهْن كما تقول :
جاءني زيد . بالسيف ، تريد جاءني ومعه السيف.
وقوله تعالى : (وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ).
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { وَشَجَرَةً } : عطفٌ على « جناتٍ » . وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو « سِيناء » بكسر السين . والباقون بفتحها . والأعمش كذلك إلاَّ أنه قَصَرها . فأمَّا القراءةُ الأولى فالهمزةُ فيها ليسَتْ للتأنيثِ؛ إذ ليس في الكلام فِعْلاء بكسر الأول ، وهمزتُه للتأنيث ، بل للإِلحاقِ ك « سِرْداح » و « قِرْطاس » فهي كِعلْباء فتكونُ الهمزةُ منقلبةً عن ياءٍ أو واوٍ؛ لأن الإِلحاقَ يكون بهما ، فلمَّا وقع حرفُ العلةِ متطرفاً بعد ألفٍ زائدة قُلِبَتْ همزةً كرِداء وكِساء ، قال الفارسي : « وهي الياءُ التي ظهرَتْ في » دِرْحايَة « . والدِّرْحاية : الرجلُ القصيرُ السمينُ.
وجعل أبو البقاءِ هذه الهمزةَ أصليةً فقال : » والهمزةُ على هذا أصلٌ مثل « حِمْلاق » وليسَتْ للتأنيثِ إذ ليس في الكلام مثلُ [ حِمْراء والياءُ أصلٌ إذ ليس في الكلام « سنأ » ] يعني : مادة سين ونون وهمزة . وهذا مخالِفٌ لِما تَقَدَّمَ مِنْ كونِها بدلاً من زائدٍ ملحقٍ بالأصل . على أن كلامَه محتملٌ للتأويلِ إلى ما تقدَّم ، وعلى هذا فَمَنْعُ الصرفِ للتعريف والتأنيث؛ لأنها اسمُ بُقعةٍ بعينها ، وقيل : للتعريف والعُجْمة ، قال بعضهم : والصحيحُ أن « سِيْناء » اسمٌ أعجمي نَطَقَتْ به العربُ فاختلفَتْ فيه لغاتُها فقالوا : سَيْناء كحَمْراء وصَفْراء ، وسِيناء كعِلباء وحِرْباء وسِيْنين كخِنْذِيْذ وزِحليل ، والخِنْذِيْذ : الفحلُ والخَصِيُّ أيضاً ، فهو مِن الأضداد ، وهو أيضاً رأسُ الجبلِ المرتفعُ ، والزِّحْلِيلُ : المُتَنَحِّي مِنْ زَحَل إذا تنحى.
وقال الزمخشري : « طُوْرُ سيناء وطور سينين : لا يخلوا : إمَّا أن يُضافَ فيه الطورُ إلى بقعةٍ اسمُها سيناء ، وسينون ، وإمَّا أَنْ يكونَ اسماً للجبلِ مركباً مِنْ مضافٍ ومضافٍ إليه كامرىء القيس وبعلبك ، فيمَنْ أضاف . فَمَنْ كَسَرَ سينَ » سيناء « فقد مَنَعَ الصرفَ للتعريفِ والعجمةِ ، أو التأنيثِ ، لأنها بقعة وفِعْلاء لا تكون ألفه للتأنيث كعِلْباء وحِرْباء . قلت : وكونُ ألفِ فِعْلاء بالكسر ليست للتأنيث هو قولُ أهل البصرة ، وأمَّا الكوفيون فعندهم أن ألفها تكون للتأنيثِ ، فهي عندهم ممنوعةٌ للتأنيثِ اللازم كحمراء وبابها . وكسرُ السين من » سِيْناء « لغةُ كِنانة.
وأمَّا القراءة الثانية فألِفُها للتأنيث ، فَمَنْع الصرف واضحٌ . قال أبو البقاء : » وهمزتُه للتأنيث إذ ليس في الكلامِ فَعْلال بالفتح . وما حكى الفراء مِنْ قولهم : ناقةٌ فيها خَزْعال « لا يَثْبُتُ ، وإنْ ثبت فهو شاذٌّ لا يُحمل عليه ».
وقد وَهِم بعضُهم فجعل « سيناء » مشتقةً من السَّنا وهو الضوءُ ، ولا يَصِحُّ ذلك لوجهين أحدُهما : أنه ليس عربيَّ الوَضْعِ . نَصُّوا على ذلك كما/ تقدم ، الثاني : أنَّا وإنْ سلَّمنا أنه عربيُّ الوَضْعِ ، لكنْ المادتان مختلفتان ، فإنَّ عَيْنَ « السنا » نونٌ وعينَ « سيناء » ياء.
كذا قال بعضُهم . وفيه نظرٌ؛ إذ لقائلٍ أَنْ يقولَ : لا نُسَلِّم أن عينَ « سيناء » ياءٌ ، بل هي عينُها نونٌ وياؤُها مزيدةٌ ، وهمزتُها منقلبةٌ عن واوٍ كما قُلِبت السَّناء ، ووزنها حينئذٍ فِيْعال ، وفِيْعال موجودٌ في كلامِهم كمِيْلاع وقِيْتال مصدرُ قاتلَ.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/10)


يعنى بها الزَيْتُون.
* * *
قوله : (إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25)
(جِنَّةٌ) في معنى جُنُون ، والجنَّةُ اسم للجِن.
* * *
وقوله : (وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29)
تقرأ مُنْزَلاً وَمَنْزِلاً جميعاً ، فالمَنْزِل اسم لكل ما نزلتَ فيه ، والمُنْزَلَ
المصدر بمعنى الإنزال ، يَقُول : أَنْزَلْتُه إنْزَالاً وَمُنْزَلاً ويجوز مَنْزَلاً ، ولم يقرأ بها
- فلا تقرأن بها - . على معنى نزلت نزولاً وَمَنْزَلاً.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36)
وهذا جوابُ الملأ مِنْ قَوْمِ ثمودَ (1).
فأمََّا " أَنَّكُمْ " الأولى ، فموضعها نصب
على معنى أيَعدُكم بأَنكُمْ إذا متم ، وموضع " أَنَّ " الثانية عند قوم كموضع
الأولى ، وإنما ذُكِرَتْ تَوْكِيداً.
فالمعنى على هذا القول : أَيَعِدُكم أَنكُمْ تُخرَجُونَ إِذَا مِتمْ ، فلما بَعُدَ مَا بَيْنَ أن الأولى والثانية بقوله : (إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظَاما) أُعِيدَ ذِكر " أنَّ " كما قال عزَّ وجلَّ : (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ) المعنى فله نار جهنم.
هذا عَلَى مذهب سيبويه ، وفيها قولان آخران أجودهما أن تكون أن الثانية وما عملت فيه في موضع رفع ويكون المعنى أَيَعدُكُمْ أنكم إخراجُكم إذا مُتم . فيكون أنكم مخرجون في معنى إخراجكم ، كأنَّه قيل : أيعدكم أنكم إخراجكم وقت موتكم وبعد مَوْتكم ، ويكون العامِلُ في " إذَا " إخراجكم ، على أن
" إذا " ظرف ، والمعنى أنكم يكونُ إخراجكم إذا مِتم.
الثالث أن يكون إذا العامِلُ فيها " مَتَمْ " ، فيكون المعنى إنكمْ
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ } : الآيةُ في إعرابها ستةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنَّ اسم « أنَّ » الأولى مضافٌ لضميرِ الخطاب حُذِفَ وأقيم المضافُ إليه مُقامَه ، والخبرُ قولُه : { إِذَا مِتٌّمْ } و { أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ } تكريرٌ ل « أنَّ » الأولى للتأكيدِ والدلالةِ على المحذوفِ والمعنى : أنَّ إخراجَكم إذا مِتُّمْ وكُنْتُم.
الثاني : أنَّ خبرَ « أنَّ » الأولى هو « مُخْرَجُون » ، وهو العامل في « إذا » ، وكُرِّرَتْ الثانيةُ توكيداً لَمَّا طال الفصلُ . وإليه ذهبَ الجرميُّ والمبردُّ والفراءُ.
الثالث : أنَّ { أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ } مُؤَولٌ بمصدرٍ مرفوع بفعلٍ محذوفٍ ، ذلك الفعلُ المحذوفُ هو جوابُ « إذا » الشرطيةِ ، وإذا الشرطيةُ وجوابُها المقدَّرُ خبرٌ ل « أنَّكم » الأولى ، تقديرُه : يَحْدُث أنكم مُخْرَجون.
الرابع : كالثالثِ في كونِه مرفوعاً بفعلٍ مقدرٍ ، إلاَّ أنَّ هذا الفعلَ المقدَّرَ خبرٌ ل « أنَّ » الأولى ، وهو العاملُ في « إذا ».
الخامس : أنَّ خبر الأولى محذوفٌ لدلالةِ خبرِ الثانيةِ عليه ، تقديرُه : أنكم تُبْعَثُون ، وهو العاملُ في الظرف ، وأنَّ الثانية وما في حَيِّزِها بدلٌ من الأولى ، وهذا مذهبُ سيبويه.
السادس : أنَّ { أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ } مبتدأٌ ، وخبرُه الظرفُ مقدَّماً عليه ، والجملةُ خبرٌ عن « أنكم » الأولى ، والتقديرُ : أيَعِدُكم أنَّكم إخراجُكم كائنٌ أو مستقرٌ وقتَ موتِكم . ولا يجوزُ أَنْ يكونَ العاملُ في « إذا » « مُخْرَجُون » على كلِّ قولٍ؛ لأنَّ ما في حيِّز « أنَّ » لا يعمل فيما قبلها ، ولا يعمل فيها « مِتُّم » لأنه مضافٌ إليه ، و « أنَّكم » وما في حَيِّزه في محلِّ نصبٍ أو جرّ بعد حَذْفِ الحرفِ ، إذ الأصلُ : أيَعِدُكم بأنَّكم . ويجوزُ أَنْ لا يُقَدَّرَ حرفُ جرّ ، فيكونُ في محلِّ نصبٍ فقط نحو : وَعَدْتُ زيداً خيراً.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/11)


متى مُتمْ يقع إخْراجُكم ، فيكون خبر إنّ مُضْمَراً ، والقولَان الأولانَ جَيدانِ.
ويجوز ُ : أيَعِدُكم أنكُمْ إِذا مِتُّم أنكم مُخْرجُونَ ، ولم يُقْرأ بِهَا فلا تقرأنَّ
بها . ويكونَ المعنى في يعدكم يقول لكم ولكنها لا تجوز في القراءة لِأنَّ
القِرَاءَةَ سُنَةٌ.
* * *
وقوله : (هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36)
يقرأ بفتح التاء وبكسر التاء (1) ، ويجوز هيهاتٍ هيهاتٍ - بالتنوين - ويجوز
هيهاتاً هيهاتاً ، فأما الفتح والكسر بغير تنوينٍ فكثيرتان في القراءة ، وذكرهما
القراء والنحويون ، وقد قرئت بالكسر والتنوين ، فأما التنوين والفتح فلا أعلَمُ أحَدَاً قَرأ بِهِمَا ، فلا تقرأنَّ بِهَا.
فأمَّا الفتح فالوقف فيه بالهاء . تقول هَيْهاهْ هَيْهاهْ - إذا فتحت ووقفت بَعْد
الفتح ، فإذا فتحتَ وَقَفْت على التاء سواء عليك كنت تنوِّن في الأصل أو كنت مِمنْ لا ينَوِّن.
فمن فتحها - وموضعها الرفْع وتأويلها البعد لما توعدونَ - فلأنها بمنزلة
الأصواتِ ، وليْست مشتقَةً من فِعْلِ فَبنَيَتْ هيهاه كما بُنِيَتْ ذَيَّه وَذِيَّه.
فإذَا كَسَرْتَ جَعْلَتها جَمْعاً وبَنيتها على الكسر.
قال سيبويه : هي بمنزلة عَلقاه.
يعني في تأنيثها.
ومن جَعَلَها جَمْعاً فهي بمنزلة قول العرب : استأصل اللَّه عَرْقَاتِهمْ
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ } : اسمُ فعلٍ معناه : بَعُدَ ، وكُرِّر للتوكيدِ ، فليسَتِ المسألةُ من التنازعِ . قال جرير :
3413 فهيهاتَ هيهاتَ العَقيقُ وأهلُه . . . وهيهاتَ خِلٌّ بالعقيقِ نُواصِلُهْ
وفَسَّره الزجَّاجُ في ظاهر عبارتِه بالمصدرِ فقال : « البُعْدُ لِما تُوعدون ، أو بَعُدَ لِما توعدون » . فظاهرُها أنَّه مصدرٌ بدليلِ عَطْفِ الفعل عليه . ويمكنُ أَنْ يكونَ فَسَّر المعنى فقط . و « هيهاتَ » اسمُ فعلٍ قاصرٍ يرفعُ الفاعلَ ، وهنا قد جاء ما ظاهرُه الفاعلُ مجروراً باللامِ : فمنهم مَنْ جعله على ظاهِره وقال : « ما توعدون » فاعلٌ به ، وزِيْدت فيه اللامُ . التقديرُ : بَعُدَ بَعُدَ ما تُوْعَدُون . وهو ضعيفٌ إذ لم يُعْهَدْ زيادتُها في الفاعلِ . ومنهم مَنْ جَعَل الفاعلَ مضمراً لدلالةِ الكلامِ عليه ، فقَدَّره أبو البقاء : « هيهاتَ التصديقُ أو الصحةُ لِما تُوْعَدون » . وقدَّره غيرُه : بَعُدَ إخراجُكم ، و « لِما تُوْعدون » للبيانِ . قال/ الزمخشريُّ : « لبيانِ المُسْتَبْعَدِ ما هو بَعْدَ التصويبِ بكلمةِ الاستبعادِ؟ كما جاءَتِ اللامُ في { هَيْتَ لَكَ } [ يوسف : 23 ] لبيانِ المُهَيَّتِ به » . وقال الزجاج : « البُعْدُ لِما تُوعدون » فجعله مبتدأً ، والجارُّ بعدَه الخبرُ . قال الزمخشري : « فإنْ قلت : ما تُوعدون هو المستبعَدُ ، ومِنْ حَقِّه أَنْ يرتفع ب » هيهاتَ « كما ارتفع بقولِه :
فهيهاتَ هيهاتَ العَقيقُ وأهلُه . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فما هذه اللام؟ قلت : قال الزجاجُ في تفسيرِه : » البُعْدُ لِما تُوْعَدون ، أو بُعْدٌ لِما تُوْعَدون فيمَنْ نَوَّن فَنَزَّلَه مَنْزِلَةَ المصدر « . قال الشيخ : » وقولُ الزمخشري : فَمَنْ نَوَّنَه نَزَّله منزلةَ المصدرِ ، ليس بواضحٍ ، لأنهم قد نَوَّنوا أسماءَ الأفعال ولا نقول : إنها إذا نُوِّنَتْ تَنَزَّلَتْ منزلةَ المصادر « . قلت : الزمخشريُّ لم يَقُل كذا ، إنما قال فيمن نَوَّن نَزَّله منزلةَ المصدرِ لأجلِ قولِه : » أو بُعْدٌ « فالتنوينُ علةٌ لتقديره إياه نكرةً لا لكونِه مُنَزَّلاً منزلةَ المصدرِ؛ فإنَّ أسماءَ الأفعال ما نُوِّن منها نكرةٌ ، وما لم يُنَوَّنْ معرفةٌ نحو : صَهْ وصَهٍ ، تقديرُ الأول بالسكوت ، والثاني بسكوتٍ ما.
وقال ابن عطية : » طَوْراً تلي الفاعلَ دون لامٍ ، تقول : هيهات مجيءُ زيدٍ أي : بَعُدَ ، وأحياناً يكون الفاعلُ محذوفاً عند اللام كهذه الآيةِ . التقديرُ : بَعُدَ الوجودُ لِما تُوْعدون « . ولم يَسْتَجْوِزْه الشيخُ ومن حيث قولُه حُذِفَ الفاعلُ ، والفاعلُ لا يُحْذَفُ . ومن حيث إن فيه حَذْفَ المصدرِ وهو الوجودُ وإبقاءَ معمولِه وهو » لِما تُوعدون « . وهيهاتَ الثاني تأكيدٌ للأولِ تأكيداً لفظياً . وقد جاء غيرَ مؤكَّدٍ كقوله :
3414 هيهات مَنْزِلُنا بنَعْفِ سُوَيْقَةٍ . . . كانت مباركةً على الأيام
وقال آخر :
3415 هيهاتَ ناسٌ مِنْ أُناسٍ ديارُهُمْ . . . دُقاقٌ ودارُ الآخرين الأوانسُ
وقال رؤبة :
3416 هيهاتَ مِنْ مُنْخَرِقٍ هَيْهاؤه . . . قال القيسي شارحُ » أبيات الإِيضاح « : » وهذا مِثْلُ قولِك : بَعُدَ بُعْدُه؛ وذلك أنه بنى من هذه اللفظةِ فَعْلالاً ، فجاء به مجيءَ القَلْقَال والزَّلْزال.
والألفُ في « هيهات » غيرُ الألفِ في « هيهاؤه » ، وهي في « هيهات » لامُ الفعلِ الثانيةُ كقاف الحَقْحَقَة الثانية ، وهي في « هيهاؤه » ألف الفَعْلال الزائدة «.
وفي هذه اللفظةِ لغاتٌ كثيرةٌ تزيد على الأربعين ، وأذكر هنا مشهورَها وما قُرِىء به : فالمشهورُ هَيْهات بفتح التاءِ من غيرِ تنوينٍ ، بُني لوقوعِه موقعَ المبنيِّ أو لشِبْهِه بالحرفِ وقد تقدَّم تحقيق ذلك . وبها قرأ العامَّةُ وهي لغة الحجازيين . و » هَيْهاتاً « بالفتح والتنوين ، وبها قرأ أبو عمروٍ في روايةِ هارون عنه . ونسبها ابن عطية لخالد بن إلياس . و » هَيْهاتٌ « بالضمِّ والتنوين وبها قرأ الأحمر وأبو حيوة . وبالضم من غير تنوين ، وتروى عن أبي حيوةَ أيضاً ، فعنه فيها وجهان ، وافقه أبو السَّمَّال في الأول دونَ الثانية.
و » هَيْهاتٍ « بالكسر والتنوين ، وبها قرأ عيسى وخالد بن إلياس ، وبالكسرِ من غير تنوين ، وهي قرءاةُ أبي جعفرٍِ وشَيْبة ، وتروى عن عيسى أيضاً ، وهي لغة تميم وأسد . وهَيْهاتْ بإسكانِ التاء ، وبها قرأ عيسى أيضاً وخارجة عن أبي عمرو والأعرج . وهَيْهاهْ » بالهاء آخراً وصلاً ووَقْفاً . و « أَيْهاتَ » بإبدال الهاء همزة مع فتح التاء ، وبهاتين قرأ بعضُ القرَّاء فيما نقل أبو البقاء . فهذه تسعُ لغاتٍ قد قُرِىء بهن ، ولم يتواتَرْ منها غيرُ الأولى.
ويجوز إبدالُ الهمزةِ من الهاء الأولى في جميعِ ما تقدَّم فيَكْمُل بذلك ستَ عشرةَ لغةً . و « إيهان » بالنون آخراً ، و « أيهى » بالألفِ آخراً . فَمَنْ فَتَح التاءَ قالوا فهي عنده اسم مفرد . ومَنْ كسرها فهي عنده جمعٌ تأنيثٍ كزَيْنبات وهنِْدات ويُعْزى هذا لسيبويه لأنه قال : « هي مثل بَيْضات » فنُسِب إليه أنه جَمْعٌ مِنْ ذلك ، حتى قال بعض النحويين : مفردُها هَيْهَة مثل بَيْضَة . وليس بشيءٍ بل مفردُها هَيْهات قالوا : وكان ينبغي على أصلِه أن يُقال فيها : هَيْهَيَات بقلب ألف هَيْهات ياءً لزيادتِها على الأربعة نحو : مَلْهَيات ومَغْوَيَات ومَرْمَيات؛ لأنها من بناتِ الأربعة المضعَّفة من الياء من باب حاحَيْت وصِيصِيَة . وأصلُها بوزنِ القَلْقَلة والحَقْحَقَةُ/ فانقلبت الياءُ ألفاً لتحرُّكِها وانفتاحِ ما قبلَها فصارَتْ هَيْهاة كالسَّلْقاة والجَعْباة ، وإنْ كانت الياءُ التي انقلبَتْ عنها ألفُ « سَلْقاة » و « جَعْباة » زائدةً ، وياء هَيْهَيَة أصلاً ، فلمَّا جُمِعت كان قِياسُها على قولِهم أَرْطَيات وعَلْقيات أن يقلولوا فيها هَيْهَيَات ، إلاَّ أنهم حَذَفوا الألف لالتقاء الساكنين لما كانت في آخر اسمٍ مبنيٍّ ، كما حَذَفوها في ذان واللتان وتان ليَفْصِلوا بين الألفاتِ في أواخر المبنية والألفات في أواخر المتمكنة ، وعلى هذا حذفوها في أُوْلات وذوات لتخالِفَ ياء « حَصَيَات » و « نَوَيات ».
وقالوا : مَنْ فتح تاء « هيهات » فحقُّه أَنْ يكتبَها هاء لأنها في مفرد كتمرة ونواة . ومَنْ كسرها فَحَقُّه أَنْ يكتبَها تاءً لأنها في جمعٍ كهندات . وكذلك حكمُ الوقفِ سواءٌ . ولا التفاتَ إلى لغة « كيف الإِخوةُ والأخَواهْ » ولا « هذه ثَمَرَتْ » لقلَّتِها . وقد رُسِمَتْ في المصحفِ بالهاء.
واختلف القراءُ في الوقفِ عليها : فمنهم مَنْ اتَّبع الرسمَ فَوَقَفَ بالهاءِ وهما الكسائيُّ والبزيُّ عن ابن كثير . ومنهم مَنْ وَقَفَ بالتاءِ ، وهم الباقونَ . وكان ينبغي أَنْ يكونَ الأكثرُ على الوقفِ بالهاءِ لوجهين ، أحدُهما : موافقةُ الرسمِ . والثاني : أنهم قالوا : المفتوح اسمٌ مفردٌ أصله هَيْهَيَة كزَلْزَلة وقَلْقَلَة من مضاعفِ الرُّباعي . وقد تقدَّم : أنَّ المفردَ يُوقف على تاء تأنيثِه بالهاء.
وأمَّا التنوينُ فهو على قاعدةِ تنوينِ أسماء الأفعال : دخولُه دالٌّ على التنكيرِ ، وخروجُه دالٌّ على التعريف . قال القَيْسِيُّ : « مَنْ نَوَّن اعتقد تنكيرَها وتَصَوَّر معنى المصدرِ النكرةِ كِأنه قال : بُعْداً بُعْداً . ومَنْ لم ينوِّنْ اعتقد تعريفَها وتَصَوَّر معنى المصدرِ المعرفةِ كأنه قال : البُعْدَ البُعْدَ فجعل التنوينَ دليلَ التنكيرِ وعدمَه دليلَ التعريفِ » . انتهى . ولا يُوجد تنوينُ التنكير إلاَّ في نوعين : أسماءِ الأفعال وأسماءِ الأصوات نحو : سيبويهِ وسيبويهٍ ، وليس بقياسٍ : بمعنى أنه ليس لك أَنْ تُنَوِّن منها ما شِئْتَ بل ما سُمِع تنوينُه اعَتُقِد تنكيرُه . والذي يُقال في القراءاتِ المتقدمةِ : إنَّ مَنْ نَوَّن جعله للتنكيرِ كما تقدَّمَ ، ومَنْ لم يُنَوِّنْ جَعَلَ عدَم التنوينَ للتعريفِ . ومَنْ فَتَحَ فللخِفَّةِ وللإِتْباع ، ومَنْ كَسَرَ فعلى أصلِ التقاءِ الساكنين ، ومن ضم فتشبيهاً بقبلُ وبعدُ ، ومَنْ سَكَّن فلأنَّ أصلَ البناءِ السكونُ ، ومَنْ وقف بالهاءِ فإتْباعاً للرسم ، ومن وقف بالتاءِ فعلى الأصلِ سواءً كُسِرت التاءُ أو فُتحت؛ لأنَّ الظاهرَ أنهما سواءٌ ، وإنما ذلك مِنْ تغييرِ اللغاتِ ، وإن كان المنقولُ مِنْ مذهب سيبويه ما تقدَّم . هكذا ينبغي أن تُعَلَّل القراءاتُ المتقدمةُ.
وقال ابنُ عطية فيمَنْ ضَمَّ ونَوَّن : « إنه اسمٌ معربٌ مستقلٌ مرفوعٌ بالابتداءِ ، وخبرُه » لِما تُوْعَدون « أي : البعدُ لوعدكم كما تقول : النُّجح لسَعْيك » . وقال الرازي في « اللوامح » : « فأمَّا مَنْ رَفع ونَوَّنَ احتمل أَنْ يكونا اسمين متمكنين مرفوعين [ بالابتداء ] ، خبرُهما من حروف الجر بمعنى : البُعْدُ لِما تُوعدون . والتكرارُ للتأكيد . ويجوز أَنْ يكونا اسماً للفعل . والضمُّ للبناء مثل : حَوْبُ في زَجْرِ الإِبل ، لكنه نَوَّنه نكرةً » . قلت : وكان ينبغي لابنِ عطيةَ ولأبي الفضل أن يَجْعلاه اسماً أيضاً في حالةِ النصبِ مع التنوين ، على أنه مصدرٌ واقعٌ موقعَ الفعلِ.
قرأ ابنُ أبي عبلةَ « هَيْهات هَيْهات ما تُوْعدون » من غير لامِ جرٍّ . وهي واضحةٌ مؤيِّدَةٌ لمدَّعي زيادتِها في قراءةِ العامَّة.
و « ما » في « لِما تُوْعدون » تحتمل المصدريةَ أي : لِوَعْدِكم ، وأَنْ تكونَ بمعنى الذي ، والعائدُ محذوفٌ أي : تُوْعَدُوْنَه. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/12)


وَعَرقاتَهُمْ . فالذي يقول : عرقاتِهم - بالكسر ، جعلها جمعاً ، وواحدها كأنَّه
عَرْقَة وَعَرْقٌ ، وواحد هيهات على هذا اللفظ وأن لم يكن حاله واحِداً : هَيْهة.
فإن هذا تقديره - وإن لم ننطق به.
وأما عَرْقَاتٌ فقد تكلم بِوَاحِدِهَا.
يقال عرق وعرقاة وَعَرْقَةٌ وَعَرْقَان.
وإنما كُسِرَ في الجَمْعِ لأنَّ تاء الفتح في الجمع كسر
تقول : مررت بالهنداتِ ، وكذلك رأيتُ الهنداتِ.
ويقال أَيْهَات في معنى هيهات . ويقال هيهات ما قلتَ وهيهات لما
قُلْتَ ، فمن قال هيهات ما قلت فمعناه البعد ما قلت ، ومن قال : هيهات لما
قلت فمعناهُ البعد لقولك ، وأنشدوا :
فأيهات أيهات العقيق ومن به . . . وأيهات خل بالعقيق نواصله
فأمَّا مَنْ نَوَّنَ هيهات فجعلها نكرة ، ويكون المعنى : بُعدٌ لِمَا تُوعَدون.
* * *
وقوله تعالى : (قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (40)
معناهُ عَنْ قليل ، و " مَا " زائدة بمعنى التوكيد ، كأنَّ مَعْنَاه : عَنْ قَلِيل
لَيُصْبِحُن نَادِمِينَ حَقًّا.
* * *
وقوله : (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41) ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ (42)
الغثاء الهالكُ والْبَالِي من وَرَق الشجرِ الذي إذا جرى السيلُ رأيته
مُخَالِطاً زَبَدَهُ.
* * *
وقوله : (ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (44)
ويقرأ تَتْرًى ، ويجوز تَتْرِي غير مُنَوَّية بالكسر ، ولم يُقْرَأْ بِهِ فلا تَقْرأَنَّ بهِ.

(4/13)


من قرأ بالتنوين فمعناه وَتْراً فاَبْدَل التاءَ من الواو كما قالوا تَوْلج وهو من
وَلجَ ، وأصله وَوْلج ، وكما قالَ الشًاعِرُ.
فإِن يكن أَمْسى البِلَى تَيْقورِي
أَي : وَقاري ، وهو فيعول من الوقار . وكما قالوا : تُجَاه وإنما هو وُجَاه
من المُواجِهة ، ومن قال تترى بغير تَنْوينِ فإنما جعلها على فَعْلَى بألف التأنيثِ
فلم ينَون ، ومعنى تَتْرَى من المواتَرةِ ، وقال الأصمعي معنى واتَرْتُ الخبرَ
اتبعت بعضَه بَعْضاً وبين الخبرين هُنيَّة.
وقال غيره : الموَاتَرَةُ المتابعة ، وأصل
كل هذا من الوِتْر ، وهو الفَرْدُ ، وهو أَنْ جَعَلْتَ كل وَاحِدٍ بعد صاحبه فَرْداً فَرْداً (1).
* * *
وقوله : (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50)
ولم يقل آيتين ، لأن المعنى فيهما آيَة واحدة ، ولو قيل آيَتَيْن لجاز
لأنهما قد كان في كل واحد منهما ما لم يكن في ذَكَرٍ وَلَا أَنثى ، مِنْ أَن مَرْيَمَ
وَلَدَتْ من غير فَحْل ، ولأن عيسى روح من اللَّه ألقاه إلى مَرْيَمَ ولم يكن هذا
في ولدٍ قط.
وقوله : (وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ).
في ربوة ثلاث لغات رَبْوَة ، ورِبْوَة ، ورُبوة ، وفيها وجهان آخران ، رَبَاوَة.
وَرِباوة . وهو عند أهل اللغة المكانُ المرتَفِع وجاء في التفسير أنه يعني بربوة
هَنَا بيتُ المَقْدِس ، وأَنه كَبِدُ الأرْضِ وأنه أقرب الأرض إلى السماء.
وقيل يعني به دِمَشْق ، وقيل فلسطينُ والرحْلَةُ.
وكل ذلك قد جاء في التفسير.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ).
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { تَتْرَى } : فيه وجهان ، أحدُهما : وهو الظاهرُ أنَّه منصوبٌ على الحالِ مِنْ « رُسُلَنا » بمعنى متواتِرين أي : واحداً بعد واحدٍ ، أو مُتتابعين على حَسَبِ الخلافِ في معناه كما سيأتي . وحقيقتُه أنه مصدرٌ واقعٌ موقعَ الحالِ . والثاني : أنه نعتٌ مصدرٍ محذوف تقديرُه : إرسالاً تَتْرى أي : متتابعين أو إرسالاً إثرَ إرْسال.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وهي قراءةُ الشافعيِّ « تَتْرَىً » بالتنوين . وباقي السبعةِ « تترى » بألفٍ صريحةٍ دونَ تنوينٍ . وهذه هي اللغةُ المشهورةُ ، فَمَنْ نَوَّن فله وجهان ، أحدُهما : أنَّ وَزْنَ الكلمةِ فَعْل كفَلْس ، فقوله : « تَتْرَىً » كقولك : نَصَرْتُه نَصْراً . وَوَزْنُه في قراءتِهم فَعْلاً . وقد رُدَّ هذا الوجهُ بأنَّه لم يُحْفَظْ جَرَيانُ حركاتِ الإِعرابِ على رائِه ، فيُقال : هذا تَتْرٌ ومررت بتَتْرٍ نحو : هذا نَصْرٌ ، ورأيت نصراً ، ومررتُ بنصرٍ . فإذا لم يُحْفَظْ ذلك بَطَلَ أَنْ يكونَ وزنُه فَعْلاً . الثاني : أن ألفَه للإِلحاقِ ب جَعْفر كهي في أَرْطى وعَلْقى فلمَّا نُوِّن ذَهَبَتْ لالتقاءِ الساكنين . وهذا أقربُ مِمَّا قبلَه ، ولكنه يلزمُ منه وجودُ ألفِ الإِلحاقِ في المصادرِ وهو نادرٌ ، الثالث : أنها للتأنيثِ كدعوى . وهي واضحةً فتحصَّلَ في ألفِه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنها بدلٌ من التنوينِ في الوقفِ . الثاني : أنها للإِلحاق . الثالث للتأنيث . واخْتُلف فيها : هل هي مصدرٌ كدعوى وذكرى ، أو اسمُ جمعٍ كأسرى وشتى ، كذا قالهما الشيخ . وفيه نظرٌ ، إذ المشهورُ أنَّ أسرى وشَتَّى جمعا تكسيرٍ لا اسما جمعٍ . وفاؤُها في الأصلِ واوٌ؛ لأنَّها من المُواترة والوِتْر ، فقُلِبَتْ تاءً كما قُلِبَتْ تاءً في تَوْارة وتَوْلج وتَيْقُور وتُخَمَة وتُراث وتُجاه ، فإنها من الوَرْي والوُلوج والوَقار والوَخامة والوِراثة والوَجْه.
واختلفوا في مَدْلُولِها : فعن الأصمعيِّ : واحداً بعد واحد ، وبينهما مُهْلَة . وقال غيره : هي من المُواترة وهي التتابُعُ بغير مُهْلة . وقال الراغب : « والتواتُرُ : تتابُعُ الشيءِ وِتْراً وفرادى . قال تعالى : { ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى } والوَتِيْرَة : السَّجِيَّةُ والطريقة . يقال : هم على وَتيرةٍ واحدةٍ . والتِرَةُ : الذَّحْلُ . والوَتيرة : الحاجزُ بين المَنْخِرَيْن.
قوله : { أَحَادِيثَ } قيل : هو جمعُ » حديث « ولكنه شاذٌّ . وقيل : بل هو جمعُ أُحْدُوْثَة كأُضْحُوكة . وقال الأخفش : » لا يُقال ذلك إلاَّ في الشَّرِّ . ولا يُقال في الخير . وقد شَذَّتِ العربُ في أُلَيْفاظ فجمعوها على صيغة مَفاعيل كأَباطيل وأَقاطيع « . وقال الزمخشري : » الأحاديث تكونَ اسمَ جمعٍ للحديث ، ومنه أحاديث رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم « . قال الشيخ : » وأَفاعيل ليس من أبنيةِ اسمِ الجمع ، وإنما ذكرَه أصحابُنا فيما شَذَّ من الجموعِ كقَطيع وأقاطيع ، وإذا كان عَباديد قد حكموا عليه بأنه جمعُ تكسيرٍ مع أنهم لم يَلْفِظوا له بواحدٍ فأحرى « أحاديث » وقد لُفِظ له بواحدٍ وهو « حديث » فاتضح أنه جمُع تكسيرٍ لا اسمُ جمعٍ لما ذكَرْنا «. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/14)


أي ذات مُسْتَقَر ، و " مَعين " ماء جَارٍ من العُيُونِ . وَقَالَْ بَعْضهمْ يجوز أن
يكون " فَعِيلا " من المَعْنِ ، مشتقا من المَاعُونِ.
وهذا بَعِيد لأن المَعْن في اللغة الشيء القليل ، والماعونُ هُوَ الزكاةُ ، وهو فاعول من المَعْنِ ، " وإنما سُمِّيتِ الزَكَاةُ بالشيء القليل ، لأنه يؤخَذُ مِنَ المالِ رُبْعَ عُشْرِهِ ، فهو قليل من كثير.
قال الراعي :
قوْمٌ على التَّنْزيِلِ لَمَّا يَمْنَعُوا . . . ماعونَهم ويُبَدِّلُوا التَّنْزِيلا
* * *
وقوله : (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51)
أي كلوا من الحلال ، وكل مأكول حَلَالٍ مُسْتَطَابِ فهو داخل في هذا.
وإنَّمَا خُوطب بهذا رسولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فقيل يَأَ أَيُّها الرسُلُ ، َ وتَضَمَنَ هَذَا الخطابُ أن الرسُلُ جَمِيعاً كذا أُمِرُوا.
وَرُوِيَ أن عيسى عليه السلام كان يأكل مِنْ غَزْل أُمِّه ، وأَطْيبُ الطيباتِ الغَنائمُ.
* * *
وقوله : (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52)
أي فاتْقون لِهذَا.
وقد فسرنا في سورةِ الأنْبياء كل ما يجوز في نظير هذه
الآية.
وجملة تأويلها أن دينَكمْ دِينٌ واحد ، وهو الإسلام.
وأعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أَنَ قَوماً جعلوا دينهم أَدْيَاناً فقال :
(فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53)

(4/15)


ويقرأ زُبَراً ، فمن قرأ زُبُراً فتأويله جعلوا دينهم كتُباً مُخْتَلِفة جمع زَبُورٍ
وَزُبُرٍ ، ومن قرأ زُبَراً أراد قِطَعاً.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54)
ويجوز في غَمَراتِهِمْ ، ومعناه في عَمايَتهِمْ وَحَيْرتِهِم.
ومعنى : (حَتَّى حِينٍ).
أي إلى حين يأتيهم ما وُعِدُوا به من العَذَابِ.
* * *
وقوله تعالى : (أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56)
(نُسَارِعُ) - بالنون - يُسَارَعُ - بالياء - ويُسَارَعُ على ما لم يُسَم فاعله.
وتأويله أيحسبون أن إمْدَادَ اللَّهِ لَهُمْ بالمال والبنين مجازاة لَهُمْ ؛ وإنَّما هو
استدراج من اللَّه لهم ، و " ما " في معنى الذي ، المعنى أيحسبون أن الَّذِي
نمدهم به من مال وبنين . والخبر معه محذوف المعنى نسارع لهم به في
الخيرات ، أي أيحسبون إمْدَادَ ما نُسارعُ لهم به.
فأمَّا من قرأ يُسَارَعُ فعلى وَجْهَين ، أَحَدُهُمَا لا يحتاج إلى إضمار ، المعنى : أيحسبون أن إمدادنا لهم يسارع لهم في الخيرات ، ويجوز أن يكون على معنى يسارع اللَّه لهم به في الخيرات ، فيكون مثل نُسَارِعُ ، ومن قرأ يسارَع لهم في الخيرات يكون على معنى يُسارَع الإمْدَادُ لهم في الخيرات وعلى معنى نسارَع لهم في الخيرات ، فيكون تقوم مقام مَا لَمْ يُسَمَّ لهم ، ويكون مضمراً معه به . كما قلنا(1).
* * *
وقوله : (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60)
ويقرأ يَأتُونَ مَا أَتَوْا - بالقَصْرِ - وكلاهما جيِّدٌ بَالغ ، فمن قرأ
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ } : في « ما » هذه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنَّها بمعنى الذي وهي اسمُ « أنْ » و « نُمِدُّهم » صلتُها وعائدُها . « ومن مال » حالٌ من الموصولِ ، أو بيانٌ له ، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ . و « نُسارعُ » خبرُ « أنَّ » والعائدُ من هذه الجملةِ إلى اسم « أنَّ » محذوفٌ تقديرُه : نُسارِعُ لهم به ، أو فيه ، إلاَّ أنَّ حَذْفَ مثلِه قليلٌ . وقيل : الرابطُ بين هذه الجملةِ باسم « أنَّ » هو الظاهرُ الذي قامَ مقامَ الضميرِ مِنْ قولِه « في الخيرات » ، إذ الأصل : نُسارِعُ لهم فيه ، فأوقع « الخيرات » موقعَه تعظيماً وتنبيهاً على كونِه من الخيرات . وهذا يتمشى على مذهبِ الأخفشِ؛ إذ يَرَى الرَّبْطَ بالأسماءِ الظاهرةِ ، وإن . لم يكنْ بلفظِ الأولِ ، فيُجيز « زيد الذي قام أبو عبد الله » إذا كان « أبو عبد الله » كنيةَ « زيد » . وتقدَّمَتْ منه أمثلةُ . قال أبو البقاء : « ولا يجوزُ أَنْ يكونَ الخبرُ » مِنْ مالٍ « لأنه كان » مِنْ مال « ، فلا يُعاب عليهم [ ذلك ، وإنما يعابُ عليهم ] اعتقادُهم أنَّ تلك الأموالَ خيرٌ لهم ».
الثاني : أن تكونَ « ما » مصدريةً فينسَبِكُ منه ومِمَّا بعدَها مصدرٌ هو اسم « أنَّ » و « نُسارع » هو الخبرُ . وعلى هذا فلا بُدَّ مِنْ حَذْفِ « أنْ » المصدريةِ قبل « نُسارع » ليصِحَّ الإِخبارُ ، تقديرُه : أَنْ نسارعَ . فلمَّا حُذِفَتْ « أنْ » ارتفعَ المضارعُ بعدَها . والتقديرُ : أَيَحْسَبون أنَّ إِمْدادَنا لهم من كذا مسارعةٌ منَّا لهم في الخيرات . والثالث : أنها مُهَيِّئَة كافَّةٌ . وبه قال الكسائي في هذه/ الآية وحينئذٍ يُوقف على « وَبَنِين » لأنه قد حَصَل بعد فِعْلِ الحُسْبانِ نسبةٌ مِنْ مسندٍ ومسندٍ إليه نحو : حَسِبْتُ أنَّما ينطلق عمروٌ ، وأنما تقومُ أنت.
وقرأ يحيى بنُ وَثَّاب « إنما » بكسرِ الهمزة على الاستئنافِ ، ويكونُ حَذْفُ مفعولَي الحُسْبان اقتصاراً أو اختصاراً . وابنُ كثيرٍ في روايةٍ « يُمِدُّهم » بالياءِ ، وهو اللهُ تعالى . وقياسُه أَنْ يقرأ « يُسارع » بالياء أيضاً . وقرأ السلمي وابن أبي بكرةَ « يُسارع » بالياءِ وكسرِ الراء . وفي فاعِله وجهان ، أحدُهما : الباري تعالى الثاني : ضميرُ « ما » الموصولة إنْ جَعَلْناها بمعنى الذي ، أو على المصدرِ إنْ جَعَلْناها مصدريةً . وحينئذٍ يكون « يسارِعُ لهم » الخبرَ . فعلى الأولِ يُحتاجُ إلى تقديرِ عائدٍ أي : يُسارع اللهُ لهم به أو فيه . وعلى الثاني لا يُحْتاج إذ الفاعلُ ضميرُ « ما » الموصولةِ.
وعن أبي بكرة المتقدمِ أيضاً « يُسارَع » بالياء مبنياً للمفعول و « في الخيرات » هو القائمُ مَقامَ الفاعل . والجملةُ خبرُ « أنَّ » والعائدُ محذوفٌ على ما تقدَّم وقرأ الحسن « نُسْرع » بالنون مِنْ « أَسْرَعَ » وهي ك « نُسارع فيما تقدَّم.
و { بَل لاَّ يَشْعُرُونَ } إضرابٌ عن الحُسْبانِ المُسْتفهمِ عنه استفهامَ تقْريعٍ ، وهو إضرابُ انتقالٍ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/16)


(يؤتُونَ مَا آتَوْا) فإن معناه يعطون ما أَعْطَوْا وهم يخافون ألا يَتقبل منهم . قلوبُهم خائفة لأنهم إلى رَبِّهم رَاجِعُونَ ، أي لأنهم يوقنون بأنهم راجعون إلى اللَّه - عز وجل -.
ومن قرأ (يأتون ما أَتَوْا) أي يعملون من الخيرات مَا يَعْمَلُونَ وقلوبُهم
خَائِفة.
يخافون أن يكونوا مع اجتهادهم مقصرين.
* * *
(أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61)
وجائز يُسْرِعُونَ في الخيرات ، ومعناه معنى يسارعون.
يقال أسْرَعت ، وسَارَعْتُ في معنى واحدٍ ، إلا أن سارعت أبلغ من أَسْرَعْتُ.
وقوله : (وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ).
فيهِ وجهانِ أحدهما معناه إليها سابقون ، كما قال : (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا)
أي أَوحَى إليها.
ويجوز : (وَهُمْ لها سابِقُونَ) أي من أجل اكتسابها ، كما تقول : أَنَا أُكْرِمُ فُلَانَاً لك ، أي مِنْ أَجْلِكَ.
* * *
وقوله : (وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62)
ويجوز : ولا يُكلِّفُ نفساً إلا وُسْعَها ، ولم يقرأ بها ولو قرئ بها لكانت
النون أجود - لقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ).
* * *
وقوله : (بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63)
يجوز أن يكون " هَذَا " إشارةً إلى ما وصف من أعمالِ البِرِّ في قوله :
(إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ) - إلى قوله (يُسَارِعُونَ في الخيرات).
أي قُلُوبُ هؤلاء في عَمَايةٍ من هذا ، ويجوز أن يكون " هذا " إشارةً إلى

(4/17)


الكتاب ، المعنى بل قلوبهم في غمرة من الكتاب الذي ينطِقْ بالحق.
وأعمالهم مُحْصَاةٌ فيه.
قوله : (وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ).
أخبر اللَّه - عزَّ وجلَّ - بما سيكون فيهمُ ، فأعلم أنهم سيعملون أَعْمالًا
تباعد من الله غير الأعمال التي ذكروا بها.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64)
أي : يضجُّون ، والعذاب الذي أُخِذُوا بِهِ السيْف ، يقال جَأَر يجأر جُؤاراً ، إذَا ضَجَّ.
* * *
وقوله : (قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66)
(تَنْكِصُونَ) أي : تَرْجِعُونَ.
* * *
وقوله : (مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67)
منصوب على الحال ، وقوله " به " أي بالبيْتِ الحرام ، يقولون : البَيْتُ
لَنَا (1).
وقوله : (سَامِرًا).
بمعنى " سُمَّرا " ويجوز سُمَّارا ، والسامِرُ الجَمَاعَةِ الذين يَتَحَدَّثونَ لَيْلاً.
وإنما شمُّوا سُمَّارا مِنَ السَّمَرِ ، وهو ظل القمر ، وكذلِكَ السُّمْرَة مثشقة من
هذا.
وقوله : (تَهْجُرُونَ).
أي تَهجْرونَ القرآن ، ويجوز تَهْجِرُونَ : تَهذونَ . وَقرِئَتْ : تهْجِرُونَ أي
تقولون الهُجْرَ ، وقيل كانوا يسبُون النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ويجوز أن تكون الهاء للكتاب.
ويكون المعْنَى فكنتمْ على أَعْقَابَكمْ تَنكِصُون مستكبرين بالكتاب.
أي يحدث
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { مُسْتَكْبِرِينَ } : حالٌ مِنْ فاعل « تَنْكِصُون » . قوله : « به » فيه قولان ، أحدُهما : أنَّه يتعلقُ ب « مُسْتكْبرين » . والثاني أنه متعلقٌ ب « سامِراً » . وعلى الأولِ فالضميرُ للقرآن أو للبيتِ شَرَّفه اللهُ تعالى ، أو للرسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم أو للنُكوصِ المدلولِ عليه ب « تَنْكِصون » ، كقوله : { اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ } [ المائدة : 8 ] . والباءُ في هذا كلِّه للسببية؛ لأنه استكبروا بسببِ القرآنِ لَمَّا تُلِيَ عليهم ، وبسببِ البيتِ لأنَّهم يقولون : نحن وُلاتُه وبالرسولِ لأنهم يقولون : هو مِنَّا دونَ غيرِه ، أو بالنُّكوصِ لأنه سببُ الاستكبارِ . وقيل : ضَمَّنَ الاستكبارَ معنى التكذيبِ؛ فلذلك عُدِّيَ بالباءِ ، وهذا يَتَأَتَّى على أن يكونَ الضميرُ للقرآنِ أو للرسولِ.
وأمَّا على الثاني وهو تَعَلُّقُه ب « سامِراً » فيجوزُ أن يكونَ الضميرُ عائداً على ما عادَ عليه فيما تقدَّم ، إلاَّ النكوصَ لأنهم كانوا يَسْمُرُون بالقرآن وبالرسول أي : يجعلونَهما حديثاً لهم يَخُوضون في ذلك كما يُسْمَرُ بالأحاديث ، وكانوا يَسْمُرُون في البيتِ ، فالباء ظرفيةٌ على هذا ، و « سامِراً » نصبٌ على الحالِ : إمَّا مِنْ فاعل « تَنْكِصُون » ، وإمَّا مِنَ الضمير في « مُسْتَكْبرين ».
وقرأ ابنُ مسعود وابنُ عباس وأبو حيوة وتروى عن أبي عمرٍو « سُمَّراً » بضمِّ الفاءِ وفتحِ العين مشددةً . وزيد بن علي وأبو رجاء وابن عباس أيضاً « سُمَّاراً » كذلك ، إلاَّ أنَّه بزيادةِ ألفٍ بين الميمِ والراء ، وكلاهما جمعٌ ل « سامِِر » . وهما جمعان مَقيسان ل « فاعِل » الصفةِ نحو : ضُرَّب وضُرَّاب في ضارِب . والأفصحُ الإِفرادُ؛ لأنه يقعُ على ما فوق الواحِد بلفظ الإِفرادِ تقول : قومٌ سامِرٌ . والسَّامِرُ مأخوذٌ من السَّمَرِ وهو سَهَرُ الليلِ ، مأخوذٌ من السَّمَرِ وهو ما يقعُ على الشجر من ضوءِ القمر ، فيجلِسُون إليه يتحدثون مُسْتَأْنِسين به . قال الشاعر :
3422 كأَن لم يكُنْ بين الحَجونِ إلى الصَّفا . . . أنيسٌ ولم يَسْمُرْ بمكةَ سامِرُ
وقال الراغب : « السَّامِرُ : الليلُ المظلم ، ولا آتِيْكَ ما سَمَر ابنا سَمِيرٍ ، يَعْنُون الليل والنهار . والسُّمْرة : أحدُ الألوان ، والسَّمْراء : كُني بها عن الحِنْطة ».
قوله : { تَهْجُرُونَ } قرأ العامَّةُ بفتح التاءِ وضمِّ الجيمِ ، وهي تحتمل وجهين ، أحدهما : أنَّها مِن الهَجْرِ بسكونِ الجيمِ ، وهو القطع والصَّدُ ، أي : تهجُرُون آياتِ الله ورسولَه وتَزْهَدون فيهما ، فلا تَصِلُونهما . الثاني : أنها من الهَجَرِ بفتحها وهو الهَذَيانُ . يقال : هَجَر المريضُ هَجَراً أي هذى فلا مفعولَ له . ونافع وابن محيصن بضم التاءِ وكسرِ الجيم مِنْ أهجر إهْجاراً أي : أَفْحَشَ في مَنْطِقِه . قال ابن عباس : « يعني سَبَّ الصحابةِ » . زيد بن علي وابن محيصن وأبو نهيك بضمِّ التاءِ وفتحِ الهاء وكسرِ الجيمِ مشددةً مضارعَ هَجَّر بالتشديد . وهو محتمِلٌ لأَنْ يكونَ تضعيفاً للهَجْر أو الهَجَر أو الهُجْر . وقرأ ابن أبي عاصم كالعامَّةِ ، إلاَّ أنَّه بالياءِ من تحتُ وهو التفاتٌ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/18)


لكم بتلاوته عَلَيكُمْ اسْتِكْبَار ، ويجوز تنكصُون ، وَلا أعْلَمُ أَحَداً قرأ بها.
* * *
وقوله : (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71)
جَاءَ في التفسير أن الحق هو اللَّه - عزَّ وجلَّ - ويجوز أن يكون الحق
الأول في قوله : (بَلْ جَاءَهُمْ بِالحَق) التنزيل ، أي بالتنزيل الذي هُوَ الحَق.
ويكون تأويل : (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ) أي لو كان التنزيل بمَا يُحِبُّونَ لَفَسدتِ السَّمَاوَاتُ والأرْضُ.
وقوله : (بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ).
أي بما فيه فخرهم وشَرَفَهُمْ ، ويجوز أن يكون بذكرهم ، أي بالذكر
الذي فيه حظ لهم لو اتَبَعُوهُ.
* * *
وقوله : (أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72)
أي (أَمْ تَسْأَلُهُمْ) على ما أتيتهم به أجراً.
ويقرأ : (خِرَاجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ).
ويجوز (خَرَاجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ).
* * *
وقوله : (وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74)
معناه لَعَادِلًونَ عن القَصْدِ.
* * *
وقوله : (وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76)
أي ما تواضعوا . والذي أخذوا به الجُوعُ.
* * *
(حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77)
قيل السيف والقتل.
(إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ).

(4/19)


المبلس الساكن المتحيِّر.
* * *
(قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85)
هذه (للَّهِ) لا اختلاف بَيْنَ القُرَّاء فيها ، ولو قرئت اللَّهُ لَكَانَ جَيْداً.
فأما اللَّتَانِ بعدها فالقراءة فيهما سيقولون (اللَّهُ) و (للَّهِ).
فمن قرأ (سيقولون اللَّهُ) فهو على جواب السؤال ، إذا قال : (من رب السَّمَاوَات السْبع) ، فالجواب اللَّهُ ، وهي قراءة أهل البَصْرَة ، ومن قرأ (للَّهِ) فَجيْدٌ أيْضاً ، لو قيل مَنْ صَاحِبُ هذه الدار فأجيب زيد لكان هذا جواباً على لفظ السؤال.
وَلَوْ قلت في جواب من صاحب هذه الدار : لِزَيْدٍ ، جاز.
لأن معنى " من صاحب هذه الدار " - لمن هذه الدار.
* * *
وقوله : (قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88)
أي هُوَ يُجير من عَذَابِه ولا يجير عليه أَحَدٌ من عَذَابه.
وكذلك هو يجير من خلقه ولا يجير عليه أَحَدٌ.
* * *
وقوله : (سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89)
معنى تُسْحَرُونَ ، وتؤفَكُونَ : تصرفون عن القَصْدِ والحَق.
* * *
وقوله تعالى : (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91)
(إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ)
أي طلب بعضُهم مغالبَة بعْضٍ.
(سُبْحَانَ اللَّهِ).
معناه تنزيه اللَّه وتبرئته من السُوءِ ، ومن أن يكون إله غَيرٌه تعالَى عَنْ
ذَلِك عُلُوا كَبيراً.
* * *
وقوله : (قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94)

(4/20)


الفاء جَوَابُ الشرْطِ شرط الجزاء ، وهو اعتراض بين الشرط
والجزاء ، المعنىِ إمَّا تُرِيَني مَا يُوعَدُونَ فلا تَجعلني يا ربِّ في القوم
الظالمين ، أي إنْ نزَلَتْ بِهِمُ النقمةَ يا ربِّ فاجعلني خارجاً عنهم.
ويجوز " فَلَا تَجْعَلَنِّي " ولم يقرأ بها.
* * *
وقوله : (وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97)
واحد الهمزات هَمْزَة ، وهو مَسُّ الشَيْطانِ ، ويجوز أن يكون نَزَغَاتِ
الشيطان ، ونَزْغُ الشيطان وَسْوَسَتُه حتى يَشْغَل عَنْ أَمْرِ اللَّهِ تعالَى.
* * *
وقوله : (وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98)
ويجوز " وَأَعُوذُ بِكَ رَبُّ أَنْ يَحْضُرُونِ " ولم يقرأ بها فلا تقرأنَّ بها.
ويجوز وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّي أَنْ يَحْضُرُونِ ، ويجوز رَبِّيْ.
فهذه أربعة أَوْجُهٍ.
ولا ينبغي أن يقرأ إلا بواحد ، وهو الذي عليه الناس . . رَبِّ بِكسر الباء وحَذْفِ الياء ، والياء حُذِفَتْ للبدَاء والمعنى وأعوذ بك يا رَبِّ.
من قال ربُّ بالضمِ فعلى معنى يا أيها الربُّ ومن قال رَبِّي فعلى الأصل . كما قال يا عبادِي فاتَّقُونِ.
* * *
وقوله : (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99)
يعني به الذين ذُكِرُوا قَبْلَ هذا المَوْضِع . ودَفَعُوا البَعْثَ فأعلم أنه إذا
حضر أحَدَهُم الموتُ (قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ) (1).
وقوله : (ارْجِعُونِ) وهو يريد اللَّه - عزَّ وجلَّ - وَحْدَه ، فجاء الخطابُ في
المسألة على لفظ الإخْبار لأن الله عزَّ وجلَّ قال : (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ).
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { حتى إِذَا } : في « حتى » هذه أوجهٌ ، أحدُها : أنها غايةٌ لقولِه : « بما يَصِفون » . والثاني : أنها غايةٌ ل « كاذبون » . وبَيَّنَ هذين الوجهين قولُ الزمخشري : « حتى تتعلق ب » يَصِفون « أي : لا يزالون على سوءِ الذكر إلى هذا الوقت ، والآيةُ فاصلةٌ بينهما على وجهِ الاعتراضِ والتأكيدٍ » . ثم قال : « أو على قولِه » وإنهم لكاذِبون « . قلت : قوله : أو على قولِه كذا » كلام محمولٌ على المعنى إذ التقدير « حتى » مُعَلَّقَةٌ على « يَصِفُون » أو على قوله : « لَكاذِبون » . وفي الجملة فعبارةٌ مُشْكلة.
الثالث : قال ابنُ عطية : « حتى » في هذه المواضع حرفُ ابتداءٍ . ويُحتمل أَنْ تكونَ غايةً مجردةً بتقديرِ كلامٍ محذوفٍ . والأولُ أَبْيَنُ؛ لأنَّ ما بعدها هو المَعْنِيُّ به المقصودُ ذِكْرُه « . قال الشيخ : » فَتَوَهَّمَ ابنُ عطية أن « حتى » إذا كانت حرفَ ابتداءٍ لا تكونَ غايةً ، وهي وإنْ كانَتْ : حرفَ ابتداءٍ ، فالغايةُ معنًى لا يُفاريقها ، ولم يُبَيِّنْ الكلامَ المحذوفَ المقدَّرَ « . وقال أبو البقاء : » حتى « غايةٌ في معنى العطفِ » . وقال الشيخ : « والذي يَظْهر لي أن قبلها جملةً محذوفةً تكون » حتى « غايةً لها يَدُلُّ عليها ما قبلها . التقديرُ : فلا أكونُ كالكفارِ الذين تَهْمِزُهم الشياطينُ ويَحْضُرونهم ، حتى إذا جاء . ونظيرُ حَذْفِها قولُ الشاعر :
3424 فيا عَجَبا حتى كُلَيْبٌ تَسُبُّني . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أي : يَسُبُّني الناسُ كلُّهم حتى كُلَيْبٌ . إلاَّ أن في البيت دَلَّ ما بعدها عليها بخلافِ الآيةِ الكريمة.
قوله : { رَبِّ ارجعون } في قوله » ارْجِعُون « بخطابِ الجمع ثلاثةُ أوجهٍ ، أجودُها : أنه على سبيلِ التعظيمِ كقولِ الشاعر :
3425 فإنْ شِئْتِ حَرَّمْتُ النساءَ سِواكمُ . . . وإن شِئْتِ لم أَطْعَمْ نُقاخاً ولا بَرْدا
وقال آخر :
2326 ألا فارْحَمُوني يا إلَهَ محمدٍ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
قد يُؤْخَذُ من هذا البيتِ ما يَرُدُّ على الشيخ جمال الدين بن مالك حيث قال : » إنه لم يَعْلَمْ أحداً أجاز للداعي يقول : يا رحيمون « . قال : » لئلاَّ يؤْهِمُ خلافَ التوحيِد « . وقد أخْبر تعالى عن نفسه بهذه الصيغةِ وشِبْهِها للتعظيمِ في غيرِ موضعٍ من كتابِه الكريم.
الثاني : أنه نادى ربَّه ، ثم خاطب ملائكةَ ربِّه بقوله : » ارْجِعُون « ويجوز على هذا الوجهِ أَنْ يكونَ على حَذْفِ مضافٍ أي : يا ملائكةً ربي ، فحذف المضافَ ثم التفت إليه عَوْدِ الضميرِ كقوله : { وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا } ثم قال : { أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ } [ الأعراف : 4 ] التفاتاً ل » أهل « المحذوف.
الثالث : أنَّ ذلك يَدُلُّ على تكريرِ الفعل ، كأنه قال : ارْجِعُون ارْجِعون ارْجِعون . نقله أبو البقاء . وهو يُشْبِهُ ما قالوه في قوله : { أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ } [ ق : 24 ] أنه بمعنى : أَلْقِ أَلْقِ ثُنِّي الفعلُ للدلالةِ على ذلك ، وأنشدوا قولَه :
3427 قِفا نَبْكِ مِنْ ذِكْرى حبيبٍ ومَنْزِلِ . . . . . . . . . . . . .
أي : قِفْ قِفْ . اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/21)


وهو وحْدَهُ يُحْييِ وُيمِيتُ . وهذا لفظ تعرفه العَرَبُ للجليل الشأن يخبر عن
نفسه بما يخبر به الجماعةُ ، فَكذلك جاء الخطاب في (ارْجِعُونِ).
وقوله : (كَلَّا) ردع وتنبيه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)
" يوم " مضاف إلى " يُبْعَثُونَ " لأن اسماء الزمان تضاف إلى الأفعال والبرزخ
في اللغة الحاجز ، وهو هَهُنا ما بَيْنَ موت الميت وبَعْثِه.
* * *
وقوله تعالى : (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101)
قيل : هذا في النفخة الأولى ويجوز أن يكون بعد النفخة الثانية
والصور ، جاء في التفسير أنه قَرْن ينفخ فيه فيبعث الناس في النفخة الثانية ، قال عز وجلَّ (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإذَا هُمْ قِيَامْ يَنْظُرُونَ).
وقال أهل اللغة كثير منهم : الصور جَمْعُ صورة ، والذي جاء في اللغَةِ جمع صورة صُوَر ، وكذلك جاء في القرآن : (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) ، ولم يقرأ أحد فأحسن صُورَكم ، ولو كان أيضاً جمع صُورة لقال أيضاً : ثم نُفِخَ فِيهَا أُخْرَى ، لأنك تقول : هذه صُور ، ولا تقول هَذَا صُوَر إلا على ضَعْفٍ فهو عَلَى مَاجَاء في التفسير.
فاَما قوله : (وَلَا يَتَسَاءَلُونَ).
وقال في موضع - آخر : (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24)
وقال في موضع آخر (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ)
فيقول القائل : كيف جاء " ولا يتساءلون "
وجاء (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ).
فإن يوم القيامةِ مقداره خمسون

(4/22)


ألف سنة ، ففيه أزمنة وأحوال.
وإنما قيل يومَئِذٍ كما تقول : نحن اليوم بفعل كذا وكذا ، وليس تريد به في يومك إنما تريد نحن في هذا الزمان ، " فيومَ " تقع للقطعة من الزمان.
وأمَّا (فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ).
فَلَا يسأل عن ذنْبِه ليستفهم ، قد علم اللَّه عزَّ وجلَّ ما سَلَفَ مِنْهُمْ.
وَأَما قوله : (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ) فيسألون سؤال توبيخ
لا سؤال اسْتِفْهَام كما قال : (وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9).
وإنما تسأل لتوبيخ مَنْ قَتَلَهَا.
وكذلك قوله : (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ).
فما يُسأل عنه يومَ القيامة تَقْرِير وتوبيخ ، واللَّه - عزَّ وجلَّ - قَدْ عَلِمَ ما كان ، وأَحْصَى كبير ذلَك وصَغِيرَهُ.
* * *
وقوله : (تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104)
يلفح وينفح في مَعْنًى واحِدٍ ، إلا أن اللفح أَعْظمُ تأثيراً.
(وَهُمْ فِيها كَالِحُونَ).
والكَالِحُ الذي قَد تَشَمَّرتْ شَفَتُه عَنْ أَسنانِه ، نحو ما ترى من رُؤوسِ
الغَنَم إذا مسَّتْهَا النار فبرزت الأسنان وتشمرت الشِفَاهُ
* * *
(قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106)
وَتُقْرَأُ شَقَاوَتُنَا ، والمعنى وَاحِد (1).
(وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ).
أَقَرُّوا بذلك.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { شِقْوَتُنَا } : قرأ الأخَوان : « شَقاوتُنا » بفتح الشين وألفٍ بعد القاف . والباقون بكسرِ الشينِ وسكونِ القافِ وهما مصدران بمعنى واحدٍ ، فالشَّقاوة كالقَساوة وهي لغةٌ فاشِيَةٌ ، والشِّقْوةُ كالفِطْنَة والنِّعْمة . وأنشد الفراء :
3430 كُلِّفَ مِنْ عَنائِهِ وشِقْوَتِهْ . . . بنتَ ثمانِيَْ عَشْرةٍ مِنْ حِجَّتِهْ
وهي لغةُ الحجاز . قرأ قتادة والحسن في روايةٍ كالأَخَوَيْن إلاَّ أنهما كَسَرا الشينَ . وشبلٌ في اختياره كالباقين ، إلاَّ أنَّه فَتَح الشينَ.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/23)


وقوله : (قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108)
معنى (اخْسَئُوا) تباعَدوا تَبَاعدَ سُخْطٍ.
يقال خَسَأتُ الكلْبُ أَخْسُؤهُ إذا زجَرْته ليتباعَدَ.
* * *
وقوله : (فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110)
الأجود إدْغام الدال في التاء لِقُرْب المَخْرَجَيْن ، وإن شئت أظهرت.
لأن الدال من كلمة والتاءَ مِنْ كلمة ، والدال بينها وبين التاء في المخرجِ شيء
مِنَ التَبَاعِد ، وليست الذال من التاء بمنزلة الدال من التاء.
والتاءُ والطَاءُ مِنْ مَكَانٍ وَاحِدٍ ، وهي من أصُولِ الثنايَا العُلَا وطرف اللسَانِ . والذال من أطراف الثنايا العُلَا وَدُوينَ طَرَفِ اللسَانِ.
وقوله : (سِخْرِيًّا) . يقرأ بِالضم والكَسْر ، وكلاهما جَيِّد ، إلا أنهمْ قالوا إن
بعض أهل اللغة قال : ما كان من الاستهزاء فهو بالكسر ، وَمَا كان من جهة
التسخير فهو بالضم ، وكلاهما عند سيبويه والخليل وَاحِد ، والكسر لإتباع
الكسر أحسن (1).
وقوله : (إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111)
الكسر أجود لأن الكسر على معنى إني جَزَيْتهمْ بِمَا صَبروا ، ثم أَخْبَر
فقال : إنهم همُ الفَائِزُونَ : والفتح جيِّدٌ بالغ ، على معنى : (إني جَزَيتُهم لأنهم
هم الفائزون ، وفيه وجه آخر : يكون المعنى جزيتهم الفوز ، لأن معنى
(أنَّهُم هم الفَائِزُونَ). فوزُهُمْ ، فيكون المعنى جزيتهم فَوزَهُمْ.
* * *
وقوله : (قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112)
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { سِخْرِيَّاً } : مفعولٌ ثانٍ للاتخاذ . وقرأ الأخَوان ونافعٌ هنا وفي (ص) بكسرِ السين . والباقون بضمِّها في المؤمنين . واختلف الناس في معناهما . فقيل : هما بمعنىً واحدٍ ، وهو قولُ الخليلِ وسيبويه والكسائي وأبي زيد . وقال يونس : « إن أُرِيْدَ الخِدْمَةُ والسُّخْرة فالضمُّ لا غيرُ . وإنْ أريدَ الهُزْءُ فالضمُّ والكسر . ورجَّح أبو عليٍ وتبعه مكي قراءةَ الكسرِ قالا : لأنَّ ما بعدها أليقُ لها لقولِه : { وَكُنْتُمْ مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ } . قلت : ولا حجةَ فيه لأنَّهم جمعوا بين الأمرَيْن : سَخَّروهم في العمل ، وسَخِروا منهم استهزاءً . والسُّخْرَة بالتاء : الاستخدام ، و » سُخْرِيَّاً « بالضمِّ منها ، والسُّخْرُ بدونها : الهزء ، والمكسورُ منه . قال الأعشى :
3431 إنِّي أتاني حديثٌ لا أُسَرُّ به . . . مِنْ عَلْوَ لا كَذِبٌ فيه ولا سُخْرُ
ولم يَختلف السبعةُ في ضَمِّ ما في الزخرف؛ لأنَّ المرادَ الاستخدامُ وهو يُقَوِّي قولَ مَنْ فَرَّق بينهما . إلاَّ أنَّ ابنَ محيصن وابن مسلم وأصحابَ عبدِ الله كسروه أيضاً ، وهي مُقَوِّيَةٌ لقولِ مَنْ جعلهما بمعنى.
والياءُ في » سِخريَّاً « و » سُخْريَّاً « للنسبِ زِيْدَتْ للدلالةِ على قوةِ الفعل ، فالسُّخْرِيُّ أقوى من السُّخْر ، كما قيل في الخصوص : خصوصيَّة ، دلالةً على قوةِ ذلك ، قال معناه الزمخشري. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/24)


" كم " في موضع نَصْبٍ بقوله : (لَبِثْتُم) ، و (عَدَدَ سِنينَ) منصوب
بـ " كم " ويجوز كم لَبِثم في الأرض مُشَددَ التاءِ.
وكذلك يجوز في الجَوابِ.
* * *
(قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113)
(لَبِثْنَا) و (لُبِثْنَا)
وقوله : (فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ) (1).
أي فاسأل الملائكة الذين يحفظون عَدَدَ مَا لَبِثْنا).
* * *
(قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114)
معناه ما لَبِثْتُمْ إلا قَليلاً.
* * *
وقوله : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115)
(تُرْجَعُونَ) وَ (تَرْجِعُونَ).
* * *
وقوله : (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117)
(فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ).
التأويل حسابه عند رَبِّه فإنه لا يفلح الكافرون
والمعنى الذي له عند رَبِّهِ أنه لا يفلح - وجائز أَنه لا يفلح الكافرونَ بفتح أَنَّ ، ويجوز أن يكون (فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ) فيجازيه عليه كما قال :
(ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ) (2).
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ } : قرأ الأخَوان « قل : كم لَبِثْتُمْ » . « قُلْ إنْ لبثتم » بالأمر في الموضعين ، وابن كثير كالأخوين في الأول فقط ، والباقون « قال » في الموضعين ، على الإِخبار عن الله أو المَلَك . والفعلان مرسومان بغيرِ ألفٍ في مصاحفِ الكوفة ، وبألفٍ في مصاحفِ مكةَ والمدينةِ والشامِ والبصرةِ ، فحمزةُ والكسائيُّ وافقا مصاحفَ الكوفة وخالفها عاصمٌ ، أو وافقها على تقديرِ حَذْفِ الألفِ من الرسم وإرادتها . وابن كثير وافق في الثاني مصاحفَ مكة ، وفي الأولِ غيرَها ، أو أتاها على تقديرِ حَذْفِ الألف وإرادتِها . وأمَّا الباقون فوافقوا مصاحفَهم في الأول والثاني.
و « كم » في موضعِ نصبٍ على ظرفِ الزمانِ أي : كم سنة . و « عددَ » بدلٌ مِنْ « كم » قاله أبو البقاء : وقال غيره : إن « عد سنين » تمييز ل « كم » وهذا هو الصحيحُ.
وقرأ الأعمش والمفضل عن عاصم « عَدَداً » منوناً . وفيه أوجهٌ ، أحدُها : أَنْ يكونَ « عدداً » مصدراً أُقيم مُقام الاسمِ ، فهو نعتٌ تقدَّم على المنعوت . قاله صاحب « اللوامح » . يعني أن الأصل : « سنين عدداً » أي : معدودة ، لكنه يُلتزم تقديمُ النعتِ على المنعوتِ ، فصوابُه أن يقول : فانتصبَ حالاً . هذا مذهبُ البصريين . والثاني : أنَّ « لَبِثْتُم » بمعنى عَدَدْتُم . فيكون نصبُ « عدداً » على المصدر و « سنين » بدلٌ منه . وقال صاحب « اللوامح » أيضاً : « وفيه بُعْدٌ؛ لعدم دلالة اللُّبث على العدد » . والثالث : أنَّ « عدداً » تمييزٌ ل « كم » و « سنين » بدلٌ منه.
قوله : { العآدين } : جمعُ « عادٍّ » من العَدَد . وقرأ الحسن والكسائي في روايةٍ بتخفيفِ الدالِ جمعَ « عادٍ » اسم فاعل مِنْ عدا أي/ : الظَّلَمَة . وقال أبو البقاء : « وقُرىء بالتخفيفِ على معنى العادِيْن المتقدِّمين كقولك : » وهذه بِئْرٌ عادية « ، أي : سَلْ من تقدَّمَنا . وحَذَفَ إحدى ياءَي النسَب كما قالوا الأشعرون وحَذَفَ الأخرى لالتقاء الساكنين » . قلت : المَحْذوفُ أولاً مِن الياء الثانية لأنها المتحركةُ ، وبحذفِها يلتقي ساكنان . ويؤيِّد ما ذكره أبو البقاء ما ذكره الزمخشري فقال : « وقُرىء » العادِيِّين « أي : القدماء المُعَمَّرين فإنهم يستقصرونها فكيف بمن دونهم؟ » . وقال ابن خالويه : « ولغةٌ أخرى » العاديِّين « يعني بياءٍ مشددة جمع عادِيَّة بمعنى القدماء » . اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(2) قال السَّمين :
قوله : { وَمَن يَدْعُ } : شرطٌ . وفي جوابِه وجهان أصحُّهما : أنه قوله « فإنما حِسابُه » وعلى هذا ففي الجملة المتقدمة وهي قولُه : { لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ } وجهان ، أحدُهما : أنها صفةٌ ل « إلهاً » وهو صفةٌ لازمةٌ . أي : لا يكون الإِلَهُ المَدْعُوُّ من دون اللهِ إلاَّ كذا ، فليس لها مفهومٌ لفسادِ المعنى . ومثلُه { وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } [ الأنعام : 38 ] لا يُفْهم أنَّ ثَمَّ إلَهاً آخرَ مَدْعُوَّاً من دونِ اللهِ له برهان ، وأن ثَمَّ طائراً يطير بغير جناحيه . الثاني : أنها جملةٌ اعتراضٍ بين الشرطِ وجوابِه . وإلى الوجهين أشار الزمخشري بقولِه : « وهي صفةٌ لازمةٌ كقوله : » يَطير بجناحيه « ، جيء بها للتوكيد لا أَنْ يكونَ في الآلهة ما يجوز أَنْ يقومَ عليه بُرْهانٌ . ويجوز أَنْ يكونَ اعتراضاً بين الشرطِ والجزاءِ كقولك : » مَنْ أحسن إلى زيدٍ لا أحقَّ بالإِحسان منه فاللهُ مُثيبُه «.
الثاني : من الوجهين الأولين : أنَّ جوابَ الشرطِ » قولُه لا بُرْهانَ له به « كأنه فَرَّ مِنْ مفهومِ الصفةِ لِما يلزمُ مِنْ فسادِه فَوَقَعَ في شيءٍ لا يجوزُ إلاَّ في ضرورةِ شعرٍ ، وهو حَذْفُ فاءِ الجزاءِ من الجملةِ الاسميةِ ، كقوله :
3432 مَنْ يَفْعَلِ الحسناتِ اللهُ يَشْكُرُها . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
البيت . وقد تقدَّم تخريجُ كونِ » لا برهانَ له « على الصفةِ . ولا إشكال؛ لأنها صفةٌ لازمةٌ ، أو على أنها جملةٌ اعتراضٍ.
قوله : { إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ } الجمهور على كسرِ الهمزةِ على الاستئنافِ المُفيد للعلمِ . وقرأ الحسنُ وقتادةُ » أنه « بالفتح . وخَرَّجَه الزمخشري على أَنْ يكنَ خبر » حِسابُه « قال : ومعناه : حسابُه عدمُ الفلاحِ . والأصلُ : حسابُه أنه لا يُفلح هو ، فوضع » الكافرون « في موضع الضمير ، لأن مَنْ يَدْعُ في معنى الجمع وكذلك » حِسابُه أنه لا يُفلح « في معنى : حسابهم أنهم لا يُفْلحون » انتهى . ويجوزُ أَنْ يكونَ ذلك على حَذْفِ حرفِ العلةِ أي [ ل ] أنَّه لا يُفْلح . وقرأ الحسن « لا يَفْلح » بفتح الياءِ واللام ، مضارعَ فَلَح بمعنى أفلح ، فَعَل وأَفْعَل فيه بمعنىً . والله أعلم ، وهو يقول الحقَّ ويَهْدي السبيلَ.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/25)


سُورَةُ النُّور
(مدنية)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله عزَّ وجلَّ : (سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1)
القراءة الرفعُ ، وقرأ عيسى بنُ عُمَر (سُورَةً) بالنصْب (1).
فأمَّا الرفع فَعلى إضمار هذه سُورَة أَنْزَلْنَاهَا ، ورفعها بالابتداء قبيخ لأنها نَكِرَة و (أَنْزَلْناهَا) صفة لها . والنصْب على وَجْهَيْن ، على معنى أنزلنا سُورَةً ، كما تقول زيداً ضربته ، وعلى معنى اتْلُ سُورَةً أنزلناها.
(وَفَرَضْنَاهَا).
بتخفيف الراء ، ويقرأ بالتشديد في الراء ، فمن قرأ بالتخفيف فَمَعْنَاهُ
ألزمناكم العَمَل بما فُرِضَ فيها ، ومن قرأ بالتشْدِيد فَعَلَى وجهين :
أحدهما على معنى التكثير ، على معنى أنا فَرَضْنَا فيها فُرُوضاً كثيرةً وعلى معنى بيَّنَّا وفضلنَا ما فيها من الحلال والحرام.
* * *
وقوله : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)
القراءة الرفع ، وقرأ عيسى بنُ عُمرَ بالنصب ، (الزانيةَ والزانِي) بفتح التاء.
وزعم الخليل وسيبويه أن النصب المختارُ وزعم سيبويه أن القراءة الرفع.
وزعم غيرهم من البصريين والكوفيين أن الاختيار الرفعُ ، وكذا هُو عِندي ، لأن الرفع كالإجماع في القراءة ، وهُوَ أَقْوَى فِي العربيَّةِ ، لأن معناها معنى - من زَنَى
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا } : يجوزُ في رَفْعِها وجهان . أحدهما : أن يكونَ مبتدأً . والجملةُ بعدَها صفةٌ لها ، وذلك هو المُسَوِّغ للابتداءِ بالنكرةِ . وفي الخبرِ وجهان ، أحدُهما : أنَّه الجملةُ مِنْ قولِه : { الزانية والزاني } وإلى هذا نحا ابنُ عطية ، فإنه قال : « ويجوز أن يكونَ مبتدأً . والخبرُ { الزانية والزاني } وما بَعد ذلك . والمعنى : السورةٌ المُنَزَّلَةُ المَفْرُوْضَةُ كذا وكذا؛ إذ السورةُ عبارةٌ عن آياتٍ مسرودةٍ لها بَدْءٌ وخَتْم » . والثاني : أنَّ الخبرَ محذوفٌ أي : فيما يُتْلَى عليكم سورةٌ ، أو فيما أَنْزَلْنا سورةٌ.
والوجهُ الثانِي مِنَ الوجَهين الأَوَلَيْن : أَنْ يكونَ خبرُ المبتدأ مضمراً أي : هذه سورةٌ . وقال أبو البقاء : « سورةٌ بالرفع على تقديرِ : هذه سورةٌ ، أو مِمَّا يُتْلى عليك سورةٌ فلا تكونُ » سورةٌ « مبتدأَةً لأنها نكرةٌ » . وهذه عبارةٌ مُشكلة على ظاهِرها . كيف يقول : لا تكونُ مبتدأً مع تقديرِه : فيما يُتْلى عليك سورةٌ؟ وكيف يُعَلِّلُ المنعَ بأنها نكرةٌ مع تقديرِه لخبرِها جارَّاً مُقَدَّماً عليها ، وهو مُسَوِّغٌ للابتداء بالنكرة.
وقرأه العامَّةُ بالرفعِ على ما تقدَّم . وقرأ الحسن بن عبد العزيز وعيسى الثقفي وعيسى الكوفي ومجاهدٌ وأبو حيوة في آخرين « سورةً » بالنصبِ . وفيها أوجهٌ ، أحدها : أنها منصوبةٌ بفعلٍ مقدرٍ غير مفسَّرٍ بما بعدَه . تقديره : اتْلُ سورةً أو اقرأ سورةً . والثاني : أنها منصوبةٌ بفعلٍ مضمرٍ يُفَسِّره ما بعده . والمسألةُ من الاشتغال . تقديرُه : أَنْزَلْنا سورةً أنزلناها . والفرقُ بين الوجهين : أنَّ الجملةَ بعد « سورةً » في محلِّ نصبٍ على الأول ، ولا محلَّ لها على الثاني . الثالث : أنها منصوبةٌ على الإِغراء ، أي : دونَكَ سورةً . قال الزمخشري ، ورَدَّه الشيخُ : بأنه لا يجوزُ حَذْفُ أداة الإِغْراءِ ، واستشكل الشيخُ أيضاً على وجهِ الاشتغالِ جوازَ الابتداءِ بالنكرةِ من غيرِ مُسَوِّغٍ . ومعنى ذلك : أنه ما مِنْ مَوْضع يجوز [ فيه ] النصبُ على الاشتغالُ إلاَّ ويجوز أن يُرْفَعَ على الابتداءِ ، وهنا لو رُفِعَتْ « سورة » بالابتداءِ لم يَجُزْ؛ إذ لا مُسَوِّغٍ . فلا يُقال : رجلاً ضربتُه لامتناعهِ : رجلٌ ضربتُه . ثم أجاب : بأنه إنْ اعتُقد حَذْفُ وصفٍ جاز ، أي : سورة مُعَظَّمة أو مُوَضَّحة أَنْزَلْناها ، فيجوزُ ذلك.
الرابع : أنَّها منصوبةٌ على الحال مِنْ « ها » في « أَنْزِلْناها » . والحالُ من المكنى يجوز أن تتقدَم عليه . قاله الفراء . وعلى هذا فالضميرُ في « أَنْزَلْناها » ليس عائداً على سورة بل على الأحكام . كأنه قيل : أَنْزلنا الأحكامَ سورةً مِنْ سُوَرِ القرِآن ، فهذه الأحكامُ ثابتةٌ بالقرآنِ ، بخلافِ غيرِها فإنَّه قد ثَبَتَتْ بالسُّنة.
قوله : { وَفَرَضْنَاهَا } قرأ ابن كثير وأبو عمرو بالتشديدِ . والباقون بالتخفيف . فالتشديد : إمَّا للمبالغةِ في الإِيجاب وتوكيداً ، وإمَّا لتكثير المفروض عليهم ، وإمَّا لتكثيرِ الشيءِ المفروض . والتخفيفُ بمعنى : أَوْجَبْناها وجعلناها مقطوعاً بها.
اهـ (الدُّرُّ المصُون)

(4/27)


فاجلدُوه ، فتأويله الابتداء ، وقال سيبويه والخليلُ إن الرفع على معنى :
" وَفِيما فَرَضْنَا عَلَيكُمُ الزانيةُ والزاني " - بالرفع - أو الزانيةُ والزاني فيما فُرِضَ عَلَيْكم.
والدليل على أن الاختيار الرفع قوله عزَّ وجلَّ : (واللذَانِ يَأتِيانِها مِنْكُمْ فآذُوهُما).
وإنَّما اختارَالخليل وسيبويه النَصْبَ لأنه أَمْر ، وَأَنَّ الأمْرَ بالفعل أولى . والنصب جائز على مَعْنى اجلدوا الزانيةَ والزانيَ.
والإجماع أن الجَلْدَ على غير المحصنين ، يجلد غير المحصن وغير
المُحْصَنَةِ مائة جلدة ، وينفى مَعَ الجَلْدِ في قول كثير من الفقهاء ، يجلد مَائةً
ويُغرب عَاماً.
فأمَّا أهل العراق فيجلدونه مِائةً.
وقوله : (وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ).
وتقرأ رَآفَةٌ في دين الله على وزن رَعَافَة ، وتقرأ " يأخذكم بالياء ".
ورآفة مثلُ السآمَةِ مثل قولك سئمت سآمَةً ، ومثله كآبة ففعاله من أسْمَاءِ المَصَادِر ، وسآمة على قياس كلَالَة.
وَفَعَالَةٌ في الخِصَالِ مثل القَبَاحَةِ - والمَلَاحَة والفخامة.
وهذا يكثر جداً.
ومعنى (وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ) ، لَا تَرْحَمُوهُمَا فَتُسْقِطُوا عنهما مَا أمَر اللَّهُ بِهِ من الحَدِّ ، وقيلَ يبالغ في جلدِهِمَا.
وقوله تعالى : (وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَة مِنَ المؤمِنِينَ).
القراءةُ إسْكانُ اللام ، ويجوز كسرها.
واختلف الناس في الطائفة ، فقال بعضم الواحد فما فوقه طائفة ، وقال
آخرون لا تكون الطائفة أقل من اثنين ، وقال بعضهم ثلاثة ، وقال بعضهم
أَرْبَعِةٌ ، وقال بعضهم عَشَرة ، فأمَّا من قال واحِدٌ فهو على غير ما عندَ أَهْلِ

(4/28)


اللغة ، لأن الطائفة في معنى الجماعَةِ وأقل الجماعة اثنان ، وأقل ما يجب في
الطائفة عِنْدِي اثنان.
والذي ينبغي أن يُتَحَرى في شَهَادَة عَذَاب الزانِي أَن
يكونُوا جَمَاعةً لأن الأغلب على الطائفة الجَمَاعَةُ.
* * *
وقوله : (الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)
ويجوز الزاني لا يُنْكَحُ إلَّا زانية ، والزانِيَةُ لا يُنْكَحُهَا إلا زَانٍ
ولم يقرأ بها . وتأويل (الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً) على معنى لا يتزوَّجُ.
وكذلك الزانية لا يتَزَوجها إلا زانٍ.
وقَالَ قومٌ : إنَّ مَعْنَى النكاح ههنا الوَطْء ، فالمعنى عندهم
الزاني لَا يَطَأ إلَّا زانيةً والزانية لا يطؤها إلا زَانٍ.
وهذا القول يَبْعُد ، لأنه لا يعرف شيء من ذكر النكاح في كتاب اللَّه إلا على معنى التزويج ، قال اللَّهُ سُبْحَانَه : (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ) ، فهذا تزويج لَا شكَّ فيهِ.
وقال اللَّه ، عزَّ وجلَّ : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ).
فاعلم عزَّ وجلَّ أن عقد التزويج يُسمَّى النكاح.
وَأَكْثَرُ التفسير أَن هذه الآيةَ نزلت في قومٍ مِنَ الْمسلمين فقراء كانوا
بِالمَدينة ، فهمُّوا بأن يتزوجوا بِبَغايَا من بالمدينة - يزنين ، ويأخُذْن الأجْرَةَ.
فَأرَادُوا التزْوِيج بهِن لِيَعُلْنَهُمْ ، فأنزل الله عزَّ وجلَّ تَحرِيمَ ذَلِكَ ، وقيل إنهم
أرادوا أن يُسَامحوهُنَّ ، فأُعلموا أن ذَلك حَرَام .

(4/29)


ويروى أن الحَسَنَ قال : إن الزاني إذا أُقِيمَ عَلَيْهِ الحَدُّ لا يزوج إلا بامرأة
أُقيمَ عليها الحَدُّ مِثْلُه ، وكذلك المرأة إذا أقيم عليها الحدُّ عِنْدَهُ لا تزوج إلا
برجل مثلها.
وقال بَعْضُهم : الآية منسوخة نسخها قوله : (وأنْكِحُوا الأيَامَى مِنْكُم).
وأكثر القول أن المعنى هَهُنَا على التزويج.
ويجوز " وَحَرَّمَ ذَلِكَ عَلَى المُؤْمِنِينَ " بمعنى وحرَّمَ اللَّه ذلك على
المُؤْمِنين ، ولم يقرأ بها.
وهذا لفظُه لفظ خَبَرٍ ، ومعناه معنى الأمْرِ ، ولو كان على ماقال مَنْ قَالَ إنه
الوَطْءُ لما كان في الكلام فَائِدَةٌ ، لأن القائل إذا قال الزانية لا تَزْني إلا بِزَانٍ.
والزاني لا يزني إلا بزانيةٍ ، فليس فيه فائدة إلا عَلَى جهة التغليظ في الأمر ، كما تقول للرجل الذي قَدْ عَرفْتَهُ بالكذبِ : هذا كذاب ، تريدُ تغليظ أَمْرِهِ . فعلى ما فيه الفائدة ومَا توجِبُه اللغَةُ أن المعنى مَعنى التزْوِيج.
* * *
وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ
(4)
معنى (يَرْمُونَ المحصنَاتِ) أي ، بالزِنا ، لكنه لم يَقُلْ بالزنَا ، لأن فيما تَقَدَّمَ
مِنْ ذِكْر الزانِيةِ والزاني دليلًا على أن المعنى ذَلِك.
ومَوْضِعُ (الذين) رفع بالابتداء.
وعلى قراءة عيسى بن عُمَر ، يجب أن يكون مَوضَعُ (الذين يَرْمُونَ
المُحْصَنَاتِ) نَصْباً على معْنى اجلدوا الذين يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ ثم لم يأتوا
بأربعة شهداء.
وعلى ذلك اختيار سيبويه والخليل.
والمحصنات ههنا : اللواتي أحْصَنَّ فُرُوجَهُنَّ بالعِفَّةِ (1).
وقوله : (وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { والذين يَرْمُونَ المحصنات } : كقولِه : { الزانية والزاني فاجلدوا } [ النور : 2 ] ، فيعودُ فيه ما تقدَّم بحاله . وقوله : { المحصنات } فيه وجهان أحدُهما : أنَّ المرادَ به النساءُ فقط ، وإنَّما خَصَّهُنَّ بالذِّكْر؛ لأنَّ قَذْفَهُنَّ أشنعُ . والثاني : أنَّ المرادَ بهنَّ النساءُ والرجال ، وعلى هذا فيقالُ : كيف غَلَّبَ المؤنَّثَ على المذكر؟ والجوابُ : أنه صفةٌ لشيء محذوفٍ يَعُمُّ الرجالَ والنساءَ ، أي : الأنفسَ المحصناتِ وهو بعيدٌ . أو تقولُ : ثَمَّ معطوفٌ محذوفٌ لفهمِ المعنى ، والإِجماعُ على أنَّ حكمَهم حكمُهن أي : والمُحْصَنين.
قوله : { بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ } العامَّة على إضافة اسمِ العددِ للمعدود . وقرأ أبو زرعة وعبد الله بن مسلم بالتنوينِ في العدد ، واستفصحَ الناسُ هذه القراءةَ حتى جاوزَ بعضُهم الحدَّ ، كابنِ جني ، ففضَّلها على قراءة العامَّةِ قال : « لأنَّ المعدودَ متى كان صفةً فالأجودُ الإِتباعُ دونَ الإِضافةِ . تقول : عندي ثلاثةُ ضاربون ، ويَضْعُفُ ثلاثةُ ضاربين » وهذا غلطٌ ، لأن الصفةَ التي جَرَتْ مجرى الأسماءِ تُعْطى حكمَها فيُضاف إليها العددُ ، و « شهداء » مِنْ ذلك؛ فإنه كَثُرَ حَذْفُ موصوفِه . قال تعالى : { مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ } { واستشهدوا شَهِيدَيْنِ } [ البقرة : 282 ] وتقول : عندي ثلاثةُ أَعْبُدٍ ، وكلُّ ذلك صفةٌ في الأصل.
ونَقَل ابنُ عطية عن سيبويهِ أنه لا يُجيزَ تنوينَ العددِ إلاَّ في شعرٍ ، وليس كما نقله عنه ، إنما قال سيبويه ذلك في الأسماءِ نحو : ثلاثةُ رجالٍ ، وأمَّا الصفاتُ ففيها التفصيلُ المتقدمُ.
وفي { شُهَدَآءَ } على هذه القراءةِ ثلاثةُ أوجهٍ . أحدُها : أنه تمييزٌ . وهذا فاسد؛ لأنَّ مِنْ ثلاثة إلى عشرة يُضافُ لمميِّزه ليس إلاَّ ، وغيرُ ذلك ضرورةٌ . الثاني : أنه حالٌ وهو ضعيفٌ أيضاً لمجيئها من النكرةِ من غيرِ مخصِّص . الثالث : أنها مجرورةٌ نعتاً لأربعة ، ولم ينصَرِفْ لألف التأنيث . اهـ (الدُّرُّ المصُون)

(4/30)


اختلف الناس في قبول شهادة القاذف ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ : إذَا تَابَ مِنْ قَذْفِهِ
قُبِلَتْ شهادَتُه.
ويروى أَنَ عُمَر بنَ الخَطَابِ قَبلَ شهادة قاذفيْن ، وقال لأبي بكرة
إنْ تُبْتَ قَبِلتُ شَهَادَتَك.
وتوبتُه أَن يرْجَع عن القذف.
وهذا مذهب أكثر الفقهاء ، وأما أَهْلُ العِرَاقِ فيقولون شهادَتُه غير مقبولة لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : (وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا) ، قالوا ، وقوله : (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
قالوا : هذا الاستثناء من قوله : (وأولئك هم الفاسقون) ، فاسْتُثْنِيَ التائبُونَ
مِنَ الفَاسِقين.
وقال من زعم أن شهادته مَقْبُولَةٌ أن الاستثناء من قوله :
(وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أبداً . إِلا الَّذِينَ تَابُوا قالوا وقوله :
(وَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ) صِفَةٌ لَهُمْ.
وَأَجْمَعُوا أن من قذف وهوكافر ثم أسلم وتَابَ ، وكان بَعْدَ إسْلاَمِه
عَدْلاً قبلت شَهادَتُه وإن كان قاذفاً ، والقياس قبول شهادة القاذف إن تاب
واللَّه - عزَّ وجلَّ - يقول في الشهادات : (مِمنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشهَدَاءِ)
فليس القاذف بِأَشد جُرْماً مِنَ الكافِر ، فحقه أنه إذا تاب وأصلح قُبِلَتْ شهادَتُه ، كما أن الكافِرَ إذا أسلم وأصلح قبلت شَهادَتُه.
فإن قال قائل : فما الفائدة في قوله (أَبَدًا) ؟
قيل الفَائِدَةُ أن الأبدَ لكل إنسان مقدار مُدتِهِ في حياته ، ومقدار مدَّتِه فيما يتصل بقصَّتِهِ . فتقول : الكافر لا يُقْبَلُ منه شَيْء أَبَداً فمعناه ، ما دام كافراً فلا يقْبَلُ منه شيء.
وكذلك إذَا قُلْتَ : القَاذِفُ لا تُقْبَل منه شَهادَة أبداً ، فمعناه ما دَامَ قَاذِفاً ، فإذا زال عنه الكفر فقد زال أَبَدُه ، وكذلك القاذفُ إذا زال عنه القذفُ فقد زال عنه أَبَدُه ، ولا فرقَ بين هَذا وذَلكَ . -
وتقرأ (ثم لم يأتوا بِأربَعَةٍ شهدَاءَ) - بالتنوين - (فَاجْلِدُوهًمْ) ، فأرْبَعة

(4/31)


مخفُوضَة مُنَؤَنةٌ ، وَ (شَهداء) صفة للأربعة ، في موضع جَرٍّ.
ويَجَوْزُ أنْ يَكونَ فِي موضع نَصْبٍ مِنْ جهتين :
إحداهما على معنى ثم لم يُحْضِرُوا أرْبَعةً شهداءَ ، وعلى
نصب الحال مع النكِرةِ ثم لم يأتوا حال الشهادة.
فأمَّا (إلا الَّذِينَ تَابُوا) فيجوز أَنْ يَكُونَ في مَوْضِع جَر على البَدَلِ من
الهاء والميم ، على معنى ولا تقبلوا لهم شهادةً أبداً إلا الذين تابوا.
ويجوز أن يكون في موضع نَصْبٍ على الاستثناء على قوله :
(وأولئك هم الفَاسِقُونَ - إلا الَّذِينَ تَابُوا) ، وإذا استُئنُوا من الفَاسِقينَ أيضاً.
فقد وجب قبول شَهَادَتِهم لأنهم قد زال عنهم اسم الفِسْقِ (1).
* * *
وقوله : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6)
معناه والذين يرمون أزواجهم بالزِنَا.
وقوله : (فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ باللَّهِ).
ويقرأ أربعَ شهاداتٍ باللَّهِ بِالنَصْبِ ، فمن قرأ أرْبَعُ بالرفْع فَعَلَى خبر
الابتداء ، المعنى فشهادة أحدهم التي تدرأ حَدَّ القَاذف أَربعٌ ، والدليل على
ذلك قوله عزَّ وجلَّ : (وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ).
ومن نصب أَرْبعاً فالمعنى فَعَلَيْهم أن يَشْهَدَ أَحَدُهُم أرْبَعَ شهاداتٍ.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { إِلاَّ الذين تَابُواْ } : في هذا الاستثناءِ خلافٌ : هل يعودُ لِما تقدَّمه من الجملِ أم إلى الجملة الأخيرة فقط؟ وتكلم عليها من النحاةِ ابنُ مالك والمهاباذي . فاختار ابنُ مالك عَوْدَه إلى الجملةِ المتقدمةِ ، والمهاباذي إلى الأخيرة . وقال الزمخشري : « ردُّ شهادةِ القاذفِ مُعَلَّقٌ عند أبي حنيفة رحمه الله باستيفاءِ الحدِّ . فإذا شهد [ به ] قبل الحَدَّ أو قبلَ تمام استيفائِه قُبِلَتْ شهادتُه . فإذا اسْتُوفي لم تُقْبَلْ شهادتُه أبداً ، وإن تاب وكان من الأبرار الأتقياء . وعند الشافعيِّ رحمه الله يتعلَّقُ رَدُّ شهادِته بنفسِ القَذْفِ . فإذا تاب عن القَذْفِ بأَنْ يرجعَ عنه عاد مقبولَ الشهادة . وكلاهما متمسِّكٌ بالآية : فأبو حنيفةَ رحمه الله جَعَلَ جزاءَ الشرطِ الذي هو الرميُ الجَلْدَ ورَدَّ الشهادةِ عقيبَ الجَلْدِ على التأبيد ، وكانوا مردودي الشهادة عندَه في أَبَدِهم وهومدةُ حياتِهم ، وجعل قولَه { وأولئك هُمُ الفاسقون } كلاماً مستأنفاً غيرَ داخلٍ في حَيِّزِ جزاءِ الشرط ، كأنه حكايةُ حالِ الرامين عند الله بعد انقضاءِ الجملةِ الشرطيةِ ، و { إِلاَّ الذين تَابُواْ } استثناءٌ من » الفاسقين « . ويَدُلُّ عليه قولُه : { فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } . والشافعيُّ رحمه الله جَعَل جزاءَ الشرطِ الجملتين أيضاً ، غيرَ أنه صَرَفَ الأبدَ إلى مدةِ كونهِ قاذفاً وهي تنتهي بالتوبة [ والرجوع ] عن القذف ، وجعل الاستثناء بالجملةِ الثانية متعلقاً » . انتهى ، وإنما ذكرتُ الحكمَ؛ لأنَّ الإِعرابَ متوقفٌ عليه.
ومَحَلُّ المستثنى فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنه منصوبٌ على أصلِ الاستثناء . الثاني : أنه مجرورٌ بدلاً من الضمير في « لهم » وقد أوضح الزمخشري ذلك بقولِه « وحَقُّ المستثنى عنده أي الشافعي أن يكونَ مجروراً بدلاً مِنْ » هم « في » لهم « ، وحقُّه عند أبي حنيفة أن يكونَ منصوباً؛ لأنه عن مُوْجَبٍ . والذي يقتضيه ظاهرُ الآيةِ ونظمُها أن تكونَ الجملُ الثلاثُ بمجموعِهِنَّ جزاءَ الشرط كأنه قيل : ومَنْ قَذَفَ المُحْصناتِ فاجْلِدوهم ، ورُدُّوا شهادتَهم وفَسِّقوهم أي : فاجْمَعُوا لهم الجَلْدَ والردَّ والتفسيقَ ، إلاَّ الذين تابوا عن القَذْفِ وأصلحوا فإنَّ اللهَ يغفرُ لهم فينقلبون غيرَ مجلودِين ولا مَرْدودين ولا مُفَسَّقين » . قال الشيخ : « وليس ظاهرُ الآية يقتضي عَوْدَ الاستثناءِ إلى الجملِ الثلاثِ ، بل الظاهرُ/ هو ما يَعْضُده كلامُ العرب وهو الرجوعُ إلى الجملةِ التي تَليها ».
والوجه الثالث : أنَّه مرفوعٌ بالابتداءِ ، وخبرُه الجملةُ من قولِه { فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } . واعتُرِض بخُلُوِّها مِنْ رابطٍ . وأُجيب بأنه محذوفٌ أي : غفورٌ لهم ، واختلفوا أيضاً في هذا الاستثناءِ : هل هو متصلٌ أو منقطع؟ والثاني ضعيفٌ جداً.
اهـ (الدُّرُّ المصُون)

(4/32)


وعلى معنى فالذي يَِرَأُ عنها العَذَابَ أَنْ يَشْهَدَ أَحَدُهم أَرْبَعَ شهاداتٍ
* * *
(والخَامِسَةُ أَن لَعْنَةَ الله عَلَيْهِ).
ويجوز والخامِسَةَ أَن لَعْنَةَ اللَّه عليه ، وكذلك والخَامِسَةُ أَنَ غضبَ اللَّهِ
عليها ، والخامِسَةَ جميعاً ، فمن قال : والخامِسَةَ فعلى مَعْنَى وَيَشْهَدُ الخامِسَةَ.
فإذا قَذَف القاذِفُ امرأَتَه ، فشهادَتُه أَن يَقُولَ : أَشْهَدُ باللَّه إني لَمِنَ
الصادِقِينَ فِيمَا قَذَفْتُها بِهِ ، أو يقول : أحلف باللَّهِ إني لمن الصادِقينَ فِيما قَذَفْتُها به ، أَرْبَعَ مَراتٍ ، ويقول في الخامِسَةِ لعنة اللَّه عليه إن كان من الكَاذبين.
وكذلك تقولُ المرأَةُ : أَشْهَدُ بِالله إئهُ لِمنَ الكاذبين فيما قذفني به ، أربع
مرات ، وتقول في الخامِسَةِ : وعَلَيَّ غَضَبُ الله إن كان من الصادقين.
وهذا هو اللِّعَانُ ، فإذا تلاعنا فُرقَ بينهما ، واعتدَّت عِدَّةَ المطلَّقَةِ من وقتها ذلك.
فإذا فعلا ذلك لم يَتَزوجْهَا أبداً في قول أكثر الفقهاء من أهل الحجاز وبعضُ
الكوفيين يُتابِعُهُمْ ، وهو أبو يوسُفَ ، والقياسُ ما عليه أهل الحجاز ، لأن القاذفَ قَذَفَها بالزِّنَا ، فهو لا ينبغي له أن يتزوَّج بزانيةٍ ، وليس يظهر لهذا تَوْبَةٌ ، واللِّعَانُ لا يكون إلا بحاكم من حكام المسلمين (1).
* * *
وقوله تعالى : (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ
(10)
ههنا جواب لولا متروك ، والمعنى - واللَّهُ أعلم - ولولا فضلُ الله عليكم
لنال الكاذب لما ذكرنا عَذابٌ عظيم ، ويدل عليه : (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14).
* * *
وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11)
معنى الِإفك ههنا الكذبُ . وقد سُمِّيَ بعضُهُمْ في الآثار ، وَلَمْ يُسمَّوْا في
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَآءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ } : في رفع « أنفسهم » وجهان ، أحدُهما : أنه بدلٌ مِنْ « شهداء » ، ولم يذكر الزمخشري في غضونِ كلامِه غيرَه . والثاني : أنه نعتٌ له ، على أنَّ « إلاَّ » بمعنى « غير » . قال أبو البقاء : « ولو قُرىء بالنصبِ لجاز على أن يكونَ خبرَ كان ، أو منصوباً على الاستثناء . وإنما كان الرفعُ هنا أقوى؛ لأنَّ » إلاَّ « هنا صفةٌ للنكرةِ كما ذَكْرنا في سورة الأنبياء » . قلت : وعلى قراءةِ الرفعِ يُحتمل أَنْ تكونَ « كان » ناقصةً ، وخبرُها الجارُّ ، وأَنْ تكونَ تامةً أي : ولم يُوجَدْ لهم شهداءُ.
وقرأ العامَّةُ « يكن » بالياءِ من تحتُ ، وهو الفصيحُ؛ لأنه إذا أُسْنِد الفعلُ لِما بعدَ « إلاَّ » على سبيلِ التفريغ وَجَبَ عند بعضِهم التذكيرُ في الفعل نحو : « ما قام إلاَّ هندٌ » ولا يجوز : ما قامَتْ ، إلاَّ في ضرورة كقوله :
3433 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وما بَقِيَتْ إلاَّ الضلوعُ الجَراشعُ
أو في شذوذٍ كقراءةِ الحسنِ : « لا ترى إلاَّ مَساكنُهم » وقرىء « ولم تَكُنْ » بالتاءِ من فوقُ وقد عَرَفْتَ ما فيه.
قوله : { فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ } في رفعِها ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أن يكونَ مبتدأ ، وخبرُه مقدرُ التقديمِ أي : فعليهم شهادة ، أو مُؤَخَّرهُ أي : فشهادة أحدِهم كافيةٌ أو واجبةٌ . الثاني : أن يكون خبرَ مبتدأ مضمرٍ أي : فالجوابُ شهادةُ أحدِهم . الثالث : أن يكونَ فاعلاً بفعلٍ مقدرٍ أي : فيكفي . والمصدرُ هنا مضافٌ للفاعلِ.
وقرأ العامَّةُ « أربعَ شهاداتٍ » بالنصبِ على المصدر . والعاملُ فيه « شهادة » فالناصبُ للمصدرِ مصدرٌ مثلُه ، كما تقدَّم في قولِه { فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُوراً } [ الإسراء : 63 ] . وقرأ الأخَوان وحفصٌ برفع « أربع » على أنها خبرُ المبتدأ ، وهو قوله : « فشهادة ».
ويتخرَّجُ على القراءاتين تعلُّقُ الجارِّ في قوله : « بالله » ، فعلى قراءةِ النصبِ يجوزُ فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أَنْ يتعلَّقَ بشهادات؛ لأنه أقربُ إليه . والثاني : أنه متعلِّقٌ بقوله : « فشهادةُ » أي : فشهادةُ أحدِهم بالله . ولا يَضُرُّ الفصلُ ب « أربع » لأنها معلومةٌ للمصدرِ فليسَتْ أجنبيةً . والثالث : أن المسألةَ من باب التنازعِ؛ فإنَّ كلاً مِنْ شهادة وشهادات تَطْلُبه من حيث المَعنى ، وتكون المسألةُ من إعْمال الثاني للحَذْفِ من الأول ، وهو مختار البصريين . وعلى قراءةِ الرفعِ يتعيَّن تَعَلُّقُه بشهادات؛ إذ لو عَلَّقْتَه بشهادة لَزِمَ الفصلُ بين المصدرِ ومعمولِه بالجرِّ ، ولا يجوزُ لأنه أجنبيٌّ . ولم يُختلفْ في « أربع » الثانية وهي قولُه « أَنْ تَشْهد أربعَ شهاداتٍ أنها منصوبةٌ للتصريح بالعاملِ فيها . وهو الفعلُ.
قوله : { والخامسة } : اتفق السبعةُ على رفع الخامسة الأولى ، واختلفوا في الثانية : فنصبها حفصٌ ، ونَصَبهما معاً الحسنُ والسلمي وطلحة والأعمش . فالرفعُ على الابتداءِ ، وما بعده مِنْ « أنَّ » وما في حَيِّزها الخبرُ . وأمَّا نصبُ الأولى فعلى قراءةِ مَنْ نصبٍ « أربعَ شهادات » يكون النصبُ للعطفِ على المنصوبِ قبلها . وعلى قراءةِ مَنْ رَفَعَ يكونُ النصبُ بفعلٍ مقدرٍ أي : ويَشْهَدُ الخامسةَ . وأمَّا نصبُ الثانيةِ فعطفٌ على ما قبلَها من المنصوبِ وهو « أربع شهادات » . والنصبُ هنا أقوى منه في الأولى لقوةِ النصبِ فيما قبلَها كما تقدَّم تقريرُه : ولذلك لم يُخْتَلَفْ فيه . وأمَّا « أنَّ » وما في حَيِّزها : فعلى قراءةِ الرفعِ تكونُ في محلِّ رفعٍ خبراً للمبتدأ كما تقدَّم ، وعلى قراءةِ النصبِ تكونُ على إسقاطِ الخافضِ ، ويتعلَّقُ الخافضُ بذلك الناصبِ للخامسةِ أي : ويشهد الخامسةَ بأنَّ لعنةَ الله وبأنَّ غضبَ اللهِ . وجَوَّز أبو البقاء أن يكونَ بدلاً من الخامسة.
قوله : { أَنَّ لَعْنَةَ الله عَلَيْهِ } قرأ العامَّةُ بتشديد « أنَّ » في الموضعين . وقرأ نافعٌ بتخفيفها في الموضعين ، إلاَّ أنه يقرأ « غَضِبَ اللهُ » بجَعْلِ « غَضِبَ » فعلاً ماضياً ، والجلالة فاعلَه . كذا نقل الشيخ عنه التخفيفَ في الأولى أيضاً ، ولم ينقُلْه غيره . فعلى قراءتِه يكون اسمُ « أنْ » ضميرَ الشأنِ في الموضعين ، و « لعنةُ الله » مبتدأ و « عليه » خبرُها . والجملةُ خبرُ « أنْ » . وفي الثانية يكون « غضِبَ الله » جملةً فعليةً في محل خبر « أنْ » أيضاً ، ولكنه يقال : يلزمُكم أحدُ أَمْرَيْن ، وهو إمَّا عَدَمُ الفصلِ بين المخففةِ والفعلِ الواقعِ خبراً ، وإمَّا وقوعُ الطلبِ خبراً في هذا البابِ وهو ممتنعٌ . تقريرُ ذلك : أنَّ خبرَ المخففةِ متى كان فعلاً متصرفاً/ غير مقرونٍ ب « قد » وَجَبَ الفصلُ بينهما . بما تقدَّم في سورة المائدة . فإنْ أُجيب بأنه دعاءٌ اعتُرِض بأنَّ الدعاءَ طلبٌ ، وقد نَصُّوا على أنَّ الجملَ الطلبيةَ لا تقع خبراً ل « إنَّ » . حتى تأوَّلوا قولَه :
3434 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . إنَّ الرِّياضةَ لا تُنْصِبْك للشَّيْبِ
وقوله :
3435 إنَّ الذينَ قَتَلْتُمْ أمسِ سَيِّدَهُمْ . . . لا تَحْسَبوا ليلَهم عن ليلِكم ناما
على إضمارِ القول . ومثلُه { أَن بُورِكَ مَن فِي النار } [ النمل : 8 ] . وقرأ الحسن وأبو رجاء وقتادة والسلميُّ وعيسى بتخفيف « أنْ و » غَضَبُ الله « بالرفع على الابتداء ، والجارُّ بعدَه خبرُه . والجملةُ خبرُ » أنْ «.
وقال ابنُ عطية : » وأنْ الخفيفةُ على قراءة الرفعِ في قوله : « أَنْ غَضِبَ » وقد وليها الفعلُ . قال أبو علي : « وأهلُ العربيةِ يَسْتَقْبِحون أَنْ يليَها الفعلُ إلاَّ بأَنْ يُفْصل بينها وبينه بشيء نحو قولِه { عَلِمَ أَن سَيَكُونُ } [ المزمل : 20 ] { أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ } [ طه : 89 ] فأمَّا قولُه : { وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ } [ النجم : 39 ] فذلك لقلةِ تمكُّنِ » ليس « في الأفعال . وأمَّا قولُه : { أَن بُورِكَ مَن فِي النار } ف » بُوْرِكَ « في معنى الدعاء فلم يَجىءْ دخولُ الفاصلِ لئلا يَفْسُدَ المعنى » . قلت : فظاهرُ هذا أنَّ « غَضِبَ » ليس دعاءً ، بل هو خبرٌ عن « غَضَِبَ الله عليها » والظاهرُ أنه دعاءٌ ، كما أنَّ « بُورك » كذلك . وليس المعنى على الإِخبارِ فيهما فاعتراضُ أبي علي ومتابعةُ أبي محمد له ليسا بمَرْضِيَّيْنِ. اهـ (الدُّرُّ المصُون)

(4/33)


ْالقرآن فمِمنْ سُمِّيَ حسانُ بنُ ثَابتٍ ، ومِسْطَح بنُ أُثاثَةَ ، وعبدُ اللَّه بنُ
أُبَيٍّ.
ومن النساء حِمْنة بِنت جَحش.
(لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ).
وقيل لكم والتي قُصِدَتْ عائشة رحمها اللَّه ، فقيل لكم يعنى به هِيَ ومن
بسببها من النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر رحمه اللَّه.
وقوله : (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ).
ويُقْرأ (كُبْرَهُ مِنْهُم لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ).

(4/34)


فمن قرأ (كِبْرَه) فمعناه من تَولَّى الإثْمَ في ذلك ، ومن قرأ كُبْرَه أراد
مُعْظَمَهُ.
ويروى أن حسان بن ثابت دَخَل علَى عائشة ، فقيل لها أَتُدْخِلين هذا
الذي قال اللَّه عزَّ وجلَّ - فيه : (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ) فقالت أَوَ لَيْسَ قَدْ ذهب بَصَرُه.
ويروى أنَّه أنشدها قوله في بيته :
حَصَانٌ رَازانٌ ما تُزَنُّ بِريبةٍ . . . وتُصْبِحُ غَرْثَى من لُحومِ الغَوافِل
فقالت له : لكنك لست كذلك.
وقوله تعالى : (والْخَامِسَةُ أَن غَضَبُ اللَّهِ عَلَيْهَا).
بتخفيف أَن ورَفع غَضَبُ على معنَى أَنَه غَضَبُ الله عليها ، ويجوز أَنْ
غَضِبَ اللَّهِ عليها ، وههنا " هاء " مُضْمرة ، وأن مخففَة من الثقِيَلَةِ.
المعنى أَنهُ غَضِبَ اللَّه عليها ، وأنه غَضَبُ اللَّهِ عليها.
قال الشاعر :
في فتية كسيوف الهند قد علموا . . . أن هالك كل من يَحْفَى وَيَنْتَعلُ
وجاء في التفسير في قوله : (لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ)
أنه يعنى به عَائِشةُ وصَفوانُ بنُ المعَطِّل ، ويجوز " لكم " في معنى

(4/35)


(لكما) ، والذي فسَّرْنَاهُ أولاً يَتَضَمّنُ أمر عائشة وَصَفْوانُ والنبي - صلى الله عليه وسلم - وكل من بينه وبين عائشةَ سَبَبٌ ، ويجوز أَن يكون لكُلِ مَنْ رُمِيَ بِسَبَبٍ.
* * *
وقوله تعالى : (لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12)
معناه هَلَّا إذْ سِمعتُموه ، لِأن المعنى ظَن المؤمنُونَ بِأنْفُسِهِمْ ، في موضع
الكنايَةِ عَنْهُمْ وعن بَعْضِهِمْ ، وكذلك يقال للقوم - الذين يَقْتُل بَعْضُهُمْ بعضاً أَنَّهُمْ يَقْتُلونَ أَنْفُسَهُمْ.
(وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ) ، أي كذِبٌ بَيِّنٌ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)
وَقُرِئَتْ : وَلاَ يَتَأَلَّ أُولُو الفَضْلِ مِنْكُمْ والسَّعَةِ (1).
وَمَعْنَى تَأتَلِي تَحْلِفُ وكذلك يَتَأَلَّى يحلف.
ومعنى (أَنْ يُؤْتُوا) أنْ لاَ يُؤتُوا (أُولِي الْقُرْبَى) ، المعنى ولا يحلف
أولو الفضل منكم والسَّعَةِ أنْ لَا يُعْطوا (أُولِي الْقُرْبَى والمَسَاكِينَ).
ونزلت هذه الآية في أبي بكر الصِّدِّيقِ ، وكان حلف أَنْ لاَ يُفْضِل
على مِسْطًح بن أُثَاثَة ، وكان ابنَ خَالَتِهِ بِسَبَبِ سَبِّهِ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - فَلَما نَزَلَتْ : (أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ).
قال أبُو بكر : بَلَى ، وَأَعَاد الإِفْضَالَ عَلَى مِسْطَح وعلى مَنْ حَلَفَ أن لاَ
يُفْضِلَ عَليْه وَكَفَّرَ عن يمينه.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { وَلاَ يَأْتَلِ } : يجوزُ أَنْ يكونَ يَفْتَعِلُ مِن الأَلِيَّة وهي الحَلْف كقوله :
3437 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وآلَتْ حَلْفَةً لم تَحَلَّلِ
ونَصَرَ الزمخشري هذا بقراءة الحسن « ولا يَتَأَلَّ » من الأَلِيَّة كقوله : « مَنْ تألَّ على اللهِ يُكَذِّبْه » . ويجوزَ أَنْ يكونَ يَفْتَعِلُ مِنْ أَلَوْتُ أي قَصَّرْتُ كقوله تعالى : { لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً } [ آل عمران : 118 ] قال :
3438 وما المرءُ ما دامَتْ حُشاشةُ نَفْسِه . . . بمُدْرِكِ أَطْراف الخُطوب ولا آلِ
وقال أبو البقاء : وقُرِىء « ولا يَتَأَلَّ » على يَتَفَعَّل وهو من الأَلِيَّة أيضاً «.
قلت : ومنه :
3439 تَأَلَّى ابنُ أَوْسٍ حَلْفَةً لِيَرُدَّني . . . إلى نِسْوةٍ كأنَّهنَّ مَفائِدُ
قوله : { أَن يؤتوا } هو على إسقاطِ الجارِّ ، وتقديرُه على القول الأولِ ، ولا يَأْتَلِ أُولوو الفَضْلِ على أَنْ لا يُحِسنوا . وعلى الثاني : ولا يُقَصِّر أُولو الفَضْل في أَنْ يُحِسنوا . وقرأ أبو حيوة وأبو البرهسم وابن قطيب » تُؤْتُوا « بتاء الخطاب . وهو التفاتُ موافِقٌ لقولِه : » ألا تُحِبون « . وقرأ الحسن وسفيان بن الحسين : وَلْتَعْفُوا وَلْتَصْفَحُوا ، بالخطاب ، وهو موافِقٌ لِما بعده. اهـ (الدُّرُّ المصُون)

(4/36)


وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23)
قيل إنه يعنى به أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وقيل إن الأصْلَ فيه أَمْر عائشة ، ثم صار لكل مَنْ رَمَى المؤمِنَاتِ.
ولم يَقل هَهنَا والمؤمنين استغناء بأنه إذا رَمَى المؤمِنَةَ فلا بد أَنْ يَرْمِيَ فعها مؤمِناً ، فاستغنى عن ذكر المؤمنين لأنه قد جرى ذِكْرُ الْمؤمِنِينَ والمؤمِنَاتِ ، وَدَل ذكرُه المؤْمِنَاتِ عَلَى المُؤْمِنِين ، كما قال :
(سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحَرَّ) ولم يَقُلْ وَتَقِيكُمُ البرْدَ ، لأن ما كان وقى الحرَّ وقى
البَرْدَ ، فاستَغْنَى عَنْ ذِكْرِ أَحدهما بالآخر.
* * *
وقوله : (يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25)
ويقرأ الحقُّ ، فمن قرأ الحقُّ فالحقُّ من صِفَةِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ ، فالمعنى
يوْمَئِذ يوفيهم اللَّهُ الحق دِينَهُمْ ، ومن قرأ دينهم الحق ، فالحق من صِفَةِ الذِينِ
والدِّين ههنا الجزاء ، المعنى يَوْمَئِذٍ يَوَفِّيهمُ اللَّه جزاءهم الحق ، أي جزاءهم
الواجب.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ
(26)
فيها وَجْهَان ، المعنى الكلمات الخَبيثَاتُ للخبيثين من الرجال ، والرجال
الخَبِيثونَ للكلمات الخبيثَاتِ ، أي لا يَتَكلَّم بالخبيثات إلا الخبيثُ من الرجال
والنساء ، ولا يتكلَّمْ بالطيبَاتِ إلا الطيبُ من الرجال والنساء ، ويجوز أن يكون معنى هذِهِ الكَلِمَاتِ الخبيثات إنما تلصق بالخَبِيثين من الرجال والخبيثات مِن النِّسَاءِ ، فأما الطَاهِرَاتُ الطيبات فلا يلصق بِهِنَ شيء.
وقيل الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجَالِ وكذلك الطيبات من النساء ، للطيبين من الرجال .

(4/37)


وقوله : (أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ).
أَي عائِشة وَصَفْوانُ بنُ المُعَطِّل ، وكذلك كل من قُذِفَ من المُؤْمِنينَ
والمُؤْمِنَاتِ مُبَرأُونَ ممَّا يَقُول أهل الخُبْث القَاذِفُونَ.
(لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ).
أي للذين قُذِفوا ورُمُوا مَغْفِرَة وَرزْق كريم ، وللقاذفين اللعْنَةُ في الدُنيَا
والآخرة وَعَذَابٌ عَظِيئم.
* * *
وقوله : (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ) (1).
معناه إذ يلقيه بعضكم إلى بَعْض ، وقرأت عائشة رحمها اللَّه : إذْ تُلْيقُونَهُ
بألسنَتِكُمْ ، ومعناه إذْ تسْرِعُونَ بالكَذِبِ ، يقال وَلَق يلِقُ إذَا أَسْرَع فِي الكَذِبِ وغيره.
قال الشاعر :
جاءتْ به عَنْسٌ من الشامِ تَلِق
أي تسرع.
* * *
وقوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27)
يُقْرَأُ بِالضمِّ والكَسْرِ ، ولكن الضم أَكثَرُ ، فمن ضمَّ فَعَلَى أصل الجمع.
يجمع بَيْتُ وبيوتُ مثل قَلْب وقُلوب وفَلْس وفلوس ، وَمَنْ قرأ بِالكَسْرِ فإنما كَسَر للياء التي بعد الباء ، وذلك عند البَصْرِيينَ رَدِيء جدًّا ، لأنه ليس في كلام العرب فِعُول - بكسر الفاء -.
وقوله : (حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا).
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { إِذْ تَلَقَّوْنَهُ } : « إذْ » منصوبٌ ب « مَسَّكُمْ » أو ب « أَفَضْتُمْ » . وقرأ العامَّةُ « تَلَقَّوْنه » . والأصلُ : تَتَلَقَّوْنه فحُذِفَتْ إحدى التاءَيْن ك { تَنَزَّلُ } [ القدر : 4 ] ونحوه . ومعناه : يتلقَّاه بعضُكم من بعض . والبزيُّ على أصله : في أنه يُشَدِّد التاءَ وصلاً . وقد تقدَّم تحقيقُه في البقرة نحو { وَلاَ تَيَمَّمُواْ } [ البقرة : 267 ] وهو هناك سَهَّلَ لأنَّ ما قبله حرفُ لِيْنٍ بخلافِه هنا . وأبو عمرو والكسائي وحمزةُ على أصولِهم في إدغامِ الذالِ في التاء . وقرأ أُبَيّ « تَتَلَقَّوْنَه » بتاءين ، وتقدَّم أنها الأصلُ . وقرأ ابن السميفع في روايةٍ عنه « تُلْقُوْنَه » بضمِّ التاءِ وسكونِ اللام وضمِّ القافِ مضارِعَ « ألقى » إلقاءً . وقرأ هو في روايةٍ أخرى « تَلْقَوْنه » بفتح التاءٍ وسكونِ/ اللامِ وفتحِ القاف مضارع لَقِيَ.
وقرأ ابنُ عباس وعائشةُ وعيسى وابنُ يعمر وزيد بن علي بفتحِ التاءِ وكسرِ اللامِ وضَمِّ القافِ مِنْ وَلَقَ الرجلُ إذا كَذِبَ . قال ابن سيده : « جاؤوا بالمتعدي شاهداً على غير المتعدي . وعندي أنه أراد تَلِقُوْن فيه فحذف الحرف ووصل الفعلُ للضمير » . يعني أنهم جاؤوا ب « تَلِقُوْنه » وهو متعدٍ مُفَسَّراً ب « تُكذِّبون » وهو غيرُ متعد ثم حَمَّله ما ذكر . وقال الطبري وغيره : « إن هذه اللفظةَ مأخوذةٌ من الوَلْقِ وهو الإِسراعُ بالشيءِ بعد الشيءِ كعَدْوٍ في إثْرِ عَدْوٍ وكلامٍ في إثرِ كلامٍ يُقال : وَلَقَ في سَيْرِه أي : أسرع وأنشد :
3436 جاءَتْ به عَنْسٌ من الشَّأْمِ تَلِقْ . . . وقال أبو البقاء : أي : تُسْرعون فيه . وأصله من الوَلْقِ وهو الجنون ».
وقرأ زيد بن أسلم وأبو جعفر « تَأْلِقُوْنه » بفتح التاء وهمزةٍ ساكنةٍ ولامٍ مكسورةٍ وقافٍ مضمومةٍ من الأَلْقِ وهو الكذبُ . وقرأ يعقوب « تِيْلَقُوْنه » بكسر التاءِ من فوقُ ، بعدها ياءٌ ساكنةٌ ولامٌ مفتوحةٌ وقافٌ مضمومةٌ ، وهو مضارع وَلِق بكسر اللامِ كما قالوا يِْيجَلُ مضارعَ وجِل . اهـ (الدُّرُّ المصُون)

(4/38)


معنى تستأنسوا في اللغة تَسْتَأذِنُوا ، وكذلك هو في التفسير ، والاستئذان
الاستعلام ، تقول آذَنتُه بكذا أي أعلَمْتُه ، وكذلك آنست مِنْهُ كذا
وكذا - عَلِمْتُ منه ، وكذلك ، (فَإِنْ آنَسْتُم منهم رُشْداً) أي علمتم.
فمعنى حتى تَسْتَأنِسُوا حتى تستعلِمُوا أيريد أهلها أن يُدخلوا أَمْ لاَ ، والدليل على أَنه الِإذْنُ قَوله : (فَإنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً فلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤذَنَ لَكُمْ).
* * *
وقوله تعالى : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29)
أي ليس عليكم جناح أنْ تَدْخُلوا هَذِهِ بِغَيْرِ إذْنٍ.
وجاء في التفسير أنه يعنى بها الخانات ، ويقال للخَانِ فُنْدق وفُنْتُق . -
بالدال والتاء - وإنما قيل : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أن تدخُلُوا هَذِهِ البُيُوتَ لأنه
حَظَرَ أن تُدْخَل البُيُوتُ الَّتي ليست لهم إلا بِإذْنٍ ، فأُعْلِمُوا أَن دُخول هذه
المواضعَ المُبَاحَةَ - نحو الخانات وحوانيت التجارة التي تباع فيها الأشْيَاءُ وُيبِيحُ
أهلُها دُخُولَها - جائزٌ.
وقيل إنه يُعْنَى بِهَا الخَرِبَاتُ التي يَدْخُلُها الرجُلُ لِبَوْلٍ أَوْ غَائِطٍ.
ويكون معنى : (فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ) بمعنى إمْتاعِ ، أي مُتفرَّجُون فيها مِما بكم.
* * *
وقوله تعالى : (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)
(وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا).
أي لا يبدين زينَتَهُنَّ الباطِنَةَ ، نحو المِخْنَقَةِ والْخلْخَال والدُّمْلُجُ
والسِّوار.
والتي تُظْهَرُ هي الثيابُ والوَجْهُ .

(4/39)


وقوله تعالى : (وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ).
كانت المرأة ربما اجتازت وفي رجلها الْخلخال ، وربما كان فيها
الخَلاَخِلُ فإذا ضَرَبتْ بِرِجْلِها عُلِمَ أنها ذاتُ خَلْخَال وزينةٍ ، وهذا يحرك من
الشهْوَةِ فنُهِيَ عنه ، كما أُمِرْنَ ألا يُبْدِينَ ، لأن استماعَ صَوْته بمنزلة إبْدَائِه.
* * *
وقوله : (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32)
قُرِئَتْ من عَبِيدِكُمْ ، وكلاهما جائز ، وهذا لازِم في الأيَامَى ، والمَعْنَى
وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين مِنْ عِبَادِكُمْ وإمَائِكُم إنْ أَرَدْن تَحَصُّناً.
* * *
(وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33)
ومعنى (وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا).
أي لا تكرهوهن على البغاء ألْبتَّةَ ، وليس المعنى : لا تكرهوهن إنْ
أَرَدْن تَحَصُناً . وإن لم يرِدْن فَلَيْس لنا أَنْ نُكْرِهَهُنَّ.
* * *
وقوله : (إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ).
فحث اللَّه - عزَّ وجلَّ - على النكاح وأعلم أنه سَبَبٌ لِنَفْيِ الفَقْر.
ويروى عن عمر رحمه اللَّه أنه قال : عَجَتُ لاِمْرِئ كيف لا يَرْغَبُ في البَاءَةِ
واللَّه يَقُولُ (إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ).
وقوله : (وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا).
معنى (إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا) قيل إن علمتم أدَاءَ ما يفارق عليه ، أي
عَلِمْتُمْ أَنهم يَكتِبُونَ ما يُؤَدُّونَهُ.
ومعنى المكاتبة أن يكاتب الرجل عبده أو أَمَتَهُ

(4/40)


عَلَى أن يُفَارِقَة ، أنه إذا أَدَّى إليه كذا وكذا من المال في كذا وكذا من النجوم
فالعبدُ حُر إذا أَدَّى جميع ما عليه ، وَوَلاؤه لمولَاه الذي كاتبه ، لأن مولاه جاد
عليه بالكسْب الذي هو في الأصل لمولاه.
وقوله : (وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ).
هذا - عند أكثر الفقهاء - على الندْبِ ، للمولى أن يُعْطِيَهُ شَيْئاً مما يُفَارِقُه
عليه ، أو من ماله ما يستعين به على قضاء نجومِهِ ، وله ألَّا يفْعَلَ ، وكذلك له
أَنْ يكاتِبَهُ إذا طلب المكاتبة وَلَه أَلَّا يكاتِبَهُ.
ومخرج هذا الأمر مخرجُ الِإبَاحَةِ ، كما قال : (وإِذَا حَلَلْتُم فاصطادوا) لأنه حرَّم عليهم الصيدَ ما دَامَوا حُرُماً.
وكذلك قوله : (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) هذا بَعْدَ أن حَظَر عليهم البيعَ في وقت النداء إلَى الصلَاة ، فهذا أباحَهُ
فيهِ لأن العَبْدَ المملوك لا مال له ، ولا يقدر على شيءٍ ، فأباح اللَّه لَهُم أن
يُقْدِرُوه.
ويروى عن عُمَرَ أنه كَاتَبَ عَبْداً له يُكْنَى أَبَا أُمَيَّةَ ، وهو أول عَبْدٍ كوتب
في الإسلام ، فأتاه باول نجم فدفَعَهُ إلَيْهِ عُمر ، وقال له : اسْتَعِنْ به عَلَى
مُكَاتَبَتِكَ ، فقال : لَوْ أَخْرته إلى آخرِ نَجْم ، فقال أَخَافُ أَلَّا أدرك ذلك.
وقوله : (أوْ نِسائِهِنَّ) . .
وذلك أنه لا يَحِلُ أن ترى المشركاتُ ما يحِل أن تراه المؤمِنَاتُ من

(4/41)


المُومِنَاتِ ، يُعْنَى بِنِسائِهِن نساء المؤمنات ، (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ).
* * *
وقوله تَعالى : (أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ).
" غير " صفة للتابعين دَليل على قوله : (أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ) ، معْنَاهُ أيْضاً غير أولي الإربَةِ من الرجَال.
والمعنى لا يبدين زينتهن لمماليكهنَّ ولا لِتُباعِهِنَّ إلا أن يكونُوا غير أُولي إربَة . والِإرْبَةُ الحاجَةُ ، ومعناه هَهُنَا غير ذَوي الحاجات
إلى النِسَاءِ فَأمَّا خَفْضُ " غير " فصفة للتابعين ، وإن كانت " غير " توصف بها
النَكِرَةُ ، فَإنَّ التَابِعِينَ هَهُنَا ليس بمَقْصودٍ إلى قوم بأعْيانِهِمْ ، إنما معناهُ لكل
تَابِع غير أولي إرْبةٍ.
ويجوز " غير " بنصب " غيرَ " على ضربين :
أَحَدهما الاستثناء ، المعنى لا يبدين زينتهن إلا للتابعين إلا أُولي الإربة فلا يبدين
زينَتَهن لَهُمْ ، ويجوز أن يكون منصوباً على الحال ، فيكون المعنى ، والتابعين
لا مُرِيدينَ النسَاء أي في هذه الحال.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ).
ويقرأ " عَوَرات " - بالفتح الواو - لأن فَعْلَة يجمع على فَعلات - بفتح
العين - نحو قَولكَ جَفنة وَجَفَنَات ، وصَحْفَة وصَحَفَات ، فإذا كان نحو قولكَ لَوْزَة وجَوْزَة وعَوْرَة ، فالأكثر أَنْ تسكَن ، وكذلك قوله بَيْضَات ، لثقل الحركة مع الواو والياء ، ومن العرب من يَلْزَمُ الأصلَ والقياسَ في هذا فيقول جَوَازات وبَيَضَات.
وعلى هذا قرئ عَوَراتٍ . ومعنى لَمْ يَظهرُوا على عورات النساء ، لم يبلغوا أن يُطيقُوا النساء ، كما تقول : قد ظهر فلانٌ على فلانٍ إذا قوي عليه . ويجوز أَنْ يَكُونَ (لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِسَاءِ) لم يَدْرُوا ما قباحَةُ عورات النساء من غيرها .

(4/42)


وقوله : (وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34)
يقرأ بالفتح والكسر - فمن قرأ مبيَّنَاب بالفتح فالمعنى أنه لَيْسَ فيها
لَبْسٌ ، وَمَنْ قرأ بالكَسْرِ فالمعنى أنها تبيِّن لكم الحلال من الحرام.
ثم أَعلم عزَّ وجلَّ أَنه قَدْ بيَّنَ جميع أَمر السماء ، وأمر الأرض بَيَاناً نيِّراً لا غاية بَعْدَ نورِهِ فقال :
(اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
(35)
(اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) (1)
أي مدَبِّر أَمْرِهِمَا بِحِكْمَةٍ بَالِغةٍ وحجًةٍ نيِّرَة.
ثم مثلَ مَثَلَ نورِه ذلك في القلوبِ بأبينِ النورِ الذي لم يُدرك بالأبْصَارِ فقال :
(مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ).
فَنورُهُ يجوز أن يكون ما ذكرنا من تدبيره ، وجائز أنْ يكونَ كتابُه الذي
بَيَّن بِهِ فقال : (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ) وجائز أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - هو النور الذي قال مثل نورِهِ ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو المرشِدُ والمبيِّنُ والناقل عن الله ما هو نيِّرٌ ، بَيِّنٌ.
وقال : (كَمِشْكَاةٍ) ، وهي الكوَّة ، وقيل إنها بلغة الحَبَشِ ، والمشكاة من
كلام العرب ، ومثلها - وإن كانت لغيرِ الكُوَّةِ - الشَكْوَةُ وَهِي مَعْروفَة ، وهي الدقيق الصغير أو مَا يُعْمَل مِثْله.
(فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ).
والمصباح السَراج.
وقال : (الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ) - لأن النور في الزُّجاج.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { الله نُورُ السماوات } : مبتدأٌ وخبرٌ : إمَّا على حَذْفِ مضافٍ أي : ذو نورٍ السماوات . والمرادُ بالنور عَدْلُه . ويؤْيِّد هذا قولُه { مَثَلُ نُورِهِ } . وأضاف النورَ لهذين الظرفين : إمَّا دَلالةً على سَعَةِ إشراقِه وفُشُوِّ إضاءته ، حتى تضيءَ له السماواتُ والأرضُ ، وإمَّا لإِرادةِ أهلِ السماوات والأرضِ ، وأنَّهم يَسْتضيئون به . ويجوز أَنْ يبالَغَ في العبارةِ على سبيلِ المَدْحِ كقولهم : فلانٌ شمسُ البلاد وقمرُها ، قال النابغة :
3446 فإنَّك شمسٌ والملوكُ كواكبٌ . . . إذا ظهرَتْ لم يَبْدُ منهنَّ كوكبُ
وقال :
3447 قَمَر القبائلِ خالدُ بن يزيد . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ويجوزُ أَنْ يكونَ المصدرُ واقِعاً موقعَ اسمِ الفاعلِ أي : مُنَّوِّرُ السماواتِ . ويؤيِّد هذا الوجهَ قراءةُ أميرِ المؤمنين وزيدِ بن علي وأبي جعفر وعبد العزيز المكي « نَوَّرَ » فعلاً ماضياً . وفاعلُه ضميرُ الباري تعالى ، و « السماواتِ » مفعولُه فكَسْرُه نصبٌ . و « الأرضَ » بالنصبِ نَسَقٌ عليه . وفَسَّره الحسنُ فقال : الله مُنَوِّرُ السماوات.
قوله : { مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ } مبتدأٌ وخبرٌ أيضاً . وهذه الجملةُ إيضاحٌ لِما قبلَها وتفسيرٌ فلا محلَّ لها . وثَمَّ مضافٌ محذوفٌ أي : كَمَثَلِ نورِ مشْكاة . قال الزمخشري : « أي : صفةُ نورِه العجيبِ الشأنِ في الإِضاءةِ كَمِشْكاةٍ أي : كصفةِ مِشْكاة ».
واختلفوا في الضمير في « نُوره » فقيل : هو للهِ تعالى ، وهو الأولى ، والمرادُ بالنورِ على هذا : الآياتُ المبيناتُ المتقدمةُ ، أو الإِيمان ، وقيل : إنه عائدٌ على المؤمنين أو المُؤْمنِ أو مَنْ آمن به . وقد قرأ أُبَيّ بهذه الألفاظِ كلِّها . وأعاد الضميرَ على ما قرأ به . وقيل : يعودُ على محمدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم ولم يتقدَّمْ لهذه الأشياءِ ذِكْرٌ . وأمَّا عَوْدُه على المؤمنين في قراءةِ أُبَيّ ، ففيه إشكالٌ من حيث الإِفراد . / قال مكي : « يُوْقَفَ على » الأرض « في هذه الأقوالِ الثلاثةِ ».
واختلفوا أيضاً في هذا التشبيهِ : أهو تشبيهٌ مركَّبٌ أي : قُصِدَ فيه تشبيهُ جملةٍ بجملةٍ ، من غير نَظَرٍ إلى مقابلة جزءٍ بجزءٍ ، بل قَصَدَ تشبيهَ هُداه وإتقانَ صنعتِه في كلِّ مخلوقٍ على الجُملة بهذه الجملةِ من النور الذي يَتَّخذونه . وهو أبلغُ صفاتِ النورِ عندكم؟ أو تشبيهٌ غيرُ مركبٍ أي : قُصِدَ مقابلةُ جزءٍ بجزءٍ؟ ويترتَّبُ الكلامُ فيه بحسَبِ الأقوال في الضمير في « نوره ».
والمِشْكاةُ : الكُوَّةُ غيرُ النافِذَةِ . وهل هي عربية أم حبشية مُعَرَّبة؟ خلافٌ . وقيل : هي الحديدةُ أو الرَّصاصة التي يوضع فيه الذُّبال وهو الفتيل ، وتكون في جَوْفُ الزجاجة ، وقيل : هي العمودُ الذي يوْضَعُ على رأسِه المصباحُ ، وقيل : ما يُعَلَّقُ فيه القنديلُ من الحديدِ ، وأمال « المِشْكاة » الدُّوري عن الكسائي لتقدُّمِ الكسرِ ، وإنْ وُجِدَ فاصلٌ . ورُسِمَتْ بالواو كالزكاة والصلاة.
والمِصْباح : السِّراجُ الضخمُ . والزجاجةُ : واحدةٌ الزجاج ، وهو جوهرٌ معروفٌ . وفيه ثلاثُ لغاتٍ : فالضم لغةُ الحجاز ، وهو قراءةُ العامَّة ، والكسرُ والفتحُ لغةُ قيس.
وبالفتح قرأ ابن أبي عبلة ونصر بن عاصم في رواية ابنِ مجاهد . وبالكسر قرأ نصر بن عاصم في روايةٍ عنه ، وأبو رجاء . وكذلك الخلافُ في قوله « الزجاجةُ ».
والجملةُ مِنْ قوله : { فِيهَا مِصْبَاحٌ } صفةُ ل « مِشْكاة » . ويجوزُ أن يكونَ الجارُّ وحدَه هو الوصفَ ، و « مصباحٌ » مرتفعٌ به فاعلاً. اهـ (الدُّرُّ المصُون)

(4/43)


وضوء النارِ أَبْيَنُ منه في كل شيءٍ ، وضوؤه يزيدُ في الزُّجَاجِ.
ثم وصف الزجاجة فقال :
(كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ).
و (دُرِّيٌّ) ، منسوب إلى أنه كالدُّرِ ، في صَفَائِه وحُسْنِهِ ، وَقُرِئَتْ دِرِّيٌّ وَدَرِّيٌّ
- بالكسر والفتح - وقَد رُوِيتْ بالهَمْزِ.
والنحويون أجمعون لا يعرفون الوجه فيه ، لأنه ليس في كلام العَرَبِ شيء عَلَى فِعِّيل ، ولكن الكسر جَيِّدٌ بِالهَمْز - يكون على وَزْنِ فِعِّيل ، ويكون من النجوم الدَّرَارِي التي تَدَرُ.
أي يَنْحط وَيسِيرُ مُتَدافِعاً ، ويجوز أن يكونَ دِرِّيٌّ بغير همزٍ مُخَفَفاً مِنْ
هذا.
قال أبو إسحاق : ولا يجوز أن يضم الدال وَيُهْمَزُ ، لأنه ليس في الكلام
فُعِّيلٌ ، ومثال " دُرِّيٌّ " فُعْلِيٌّ مَنْسُوبٌ إلى الدُّرِّ ، وَمَنْ كَسَرَ الدالَ قَالَ دِرِّيٌّ - فكان له ، أَنْ يهْمِزَ ولا يَهْمِزَ ، فمن هَمَزَ أَخَذه من درأ يدرأ الكَوْكَبُ إذَا تَدافع مُنْقَضًّا ، فتضاعف ضَوْءُه ، يقال : تدارأ الرجُلَانِ إذَا تَدَافَعَا ، ويكون وزنه على فِعِّيل.
ومن كسرها فإنما أَصْلُه الهَمْزُ فَخُفِفَ ، وبقيتْ كسرة الدال عَلَى
أَصْلِهَا.
ووزنه أيضاً فعِّيل كما كان وهو مهموز (1).
* * *
وقوله : (يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ).
ويقرأ (تُوقَدُ) بالتاء ، فمن قرأ بالياء عنى به المصباح ، وهو مذكر.
ومن قرأ بالتاء عَنَى بِهِ الزُجَاجَةَ.
ويجوز " في زَجَاحَةٍ " بفتح الزاي وفيها وجهان آخران قُرِئ بِهِمَا - تَوَقَّدَ - بفتح الدالِ وضمها وتشديد القافِ فيهما جميعاً.
فمن قرأ تَوَقَّدُ ، فالمعنى تَتَوَقدُ الزجاجةُ ، ومن قرأ تَوَقَّدَ فتحه لأنه فِعْلٌ مَاضٍ.
ويكون المعنى : المصباحِ في زُجَاجَةِ تَوَقَّدَ المِصْبَاحُ (2).
وقوله : (مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ).
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { دُرِّيٌّ } ، قرأ أبو عمرو والكسائي بكسر الدال وياءٍ بعدها همزةٌ . وقرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم بضم الدال وياءٍ بعدها همزةٌ . والباقون بضمِّ الدال وتشديد الياءِ من غيرِ همزةٍ ، وهذه الثلاثةُ في السبع ، وقرأ زيد بن علي والضحاكُ وقتادةُ بفتح الدال وتشديد الياء . وقرأ الزهريُّ بكسرِها وتشديد الياء . وقرأ أبان بن عثمان وابن المسيَّب وأبو رجاء وقتادة أيضاً « دَرِّيْء » بفتح الدال وتشديدِ الراء وياءٍ بعدها همزةٌ.
فأما الأولى فقراءةٌ واضحةٌ لأنه بناءٌ كثيرٌ يوجد في الأسماء نحو « سِكِّين » وفي الصفاتِ نحوِ « سِكِّير ».
وأمَّا القراءةُ الثانية فهي مِنْ الدِّرْءِ بمعنى الدَّفْع أي : يدفع بعضُها بعضاً أو يَدْفعُ ضوءُها خَفاءَها ، قيل : ولم يوجد شيءٌ وزنُه فُعِّيل إلاَّ مُرِّيْقاً للعُصْفُر وسُرِّيَّة على قولنا : إنها من السرور ، وإنه أُبْدل مِن إحدى المضعَّفاتِ ياءٌ ، وأُدْغِمَتْ فيها ياءُ فُعِّيل ، ومُرِّيخاً للذي في داخلِ القَرْنِ اليابس ، ويقال بكسرِ الميمِ أيضاً ، وعُلِّيَّة ودُرِّيْء في هذه القراءة ، وذُرِّيَّة أيضاً في قولٍ . وقال بعضهم : « وزن دُرِّيْء في هذه القراءةِ فُعُّول كسُبُّوح قُدُّوْس ، فاستُثْقِل توالي الضمِّ فنُقِل إلى الكسرِ ، وهذا منقولٌ أيضاً في سُرِّية وذُرِّيَّة.
وأمَّا القراءة الثالثة فتحتمل وجهين ، أحدُهما : أَنْ يكونَ أصلُها الهمزَ كقراءةِ حمزةَ ، إلاَّ أنه أَبْدَلَ مِنَ الهمزةِ ياءً ، وأَدْغم ، فَيَتَّحدُ معنى القراءتين ، ويُحتمل أَنْ يكونَ نسبةً إلى الدُّر لصفائها وظهورِ إشراقِها.
وأمَّا قراءةُ تشديدِ الياءِ مع فتحِ الدالِ وكسرِها ، فالذي يظهرُ أنه منسوبٌ إلى الدُّر . والفتحُ والكسرُ في الدالِ من بابِ تغييراتِ النَّسَبِ.
وأمَّا فتحُ الدالِ مع المدِّ والهمز ففيها إشكالٌ . قال أبو الفتح : » وهو بناءٌ عزيزٌ لم يُحْفَظْ منه إلاَّ السَّكِّينة بفتح الفاء وتشديد العين « . قلت : وقد حكى الأخفشُ : » فَعَلَيْه السَّكِّينة والوَقار « و » كوكَبٌ دَرِّيْءٌ « مِنْ » دَرَاْتُه «.
اهـ (الدُّرُّ المصُون)
(2) قال السَّمين :
قولِه : { يُوقَدُ } قرأ ابنُ كثير وأبو عمرٍو » تَوَقَّدَ « بزنة تَفَعَّلَ فعلاً ماضياً فيه ضميرُ فاعِله يعودُ على المصباح ، ولا يعودُ على » كوكب « لفسادِ المعنى . والأخوان وأبو بكر » تُوْقَدُ « بضم التاءِ مِنْ فوقُ وفتح القافِ ، مضارعَ أَوْقَدَ . وهو مبنيٌّ للمفعولِ . والقائمُ مَقامَ الفاعلِ ضميرٌ يعودُ على » زجاجة « فاسْتَتَرَ في الفعل . وباقي السبعةِ كذلك إلاَّ أنَّه بالياءِ من تحتُ.
والضميرُ المستترُ يعودُ على المصباح.
وقرأ الحسن والسلمي وابن محيصن ، ورُوِيَتْ عن عاصم من طريقِ المفضِّلِ كذلك ، إلاَّ أنَّه ضَمَّ الدال ، جعله مضارع « تَوَقَّدَ » ، والأصلُ : تَتَوَقَّد بتاءَيْن ، فحُذِفَ إحداهما ك « تَذَكَّرُ » . والضميرُ أيضاً للزُّجاجة.
وقرأ عبد الله « وَقَّدَ » فعلاً ماضياً بزنةِ قَتَّلَ مشدداً ، أي : المصباح . وقرأ الحسنُ وسَلاَّم أيضاً « يَوَقَّدُ » بالياء مِنْ تحتُ ، وضَمِّ الدال ، مضارعَ تَوَقَّدَ . والأصلُ يَتَوَقَّدُ بياءٍ من تحتُ ، وتاءٍ مِنْ فوقُ ، فَحُذِفَتْ التاءُ مِنْ فوقُ . هذا شاذٌ إذ لم يتوالَ مِثْلان ، ولم يَبْقَ في اللفظِ ما يَدُلُّ على المحذوف ، بخلافِ « تَنَزَّلُ » و « تَذَكَّرُ » وبابِه؛ فإنَّ فيه تاءَيْن ، والباقي يَدُلُّ على ما فُقِد . / وقد يُتَمَحَّلُ لصحتِه وجهٌ من القياس وهو : أنهم قد حَمَلوا أَعِدُ وتَعِدُ ونَعِدُ على يَعِدُ في حَذْفٍ الواوِ لوقوعِها بين ياءٍ وكسرةٍ فكذلك حَمَلوا يَتَوَقَّد بالياء والتاء على تَتَوَقَّد بتاءين ، وإنْ لم يكنْ الاستثقالُ موجوداً في الياء والتاء.
اهـ (الدُّرُّ المصُون)

(4/44)


وليس شيء في الشجَرِ يورِقُ غُصْنُه من أوله إلى آخره مثلُ الزيْتُونِ
والرمَّانِ
قَال الشاعِرُ :
بورِكَ الميتُ الغريبُ كما . . . بُورِكَ نَظْم الرُمان والزيْتونِ
قوله عزَّ وجلَّ : (لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ).
أكثر التفسير أنها ليست مما تطلع عليه الشمسُ في وقت شروقها فقط أو
عِنْدَ الغُروبِ ، أي ليس يسترها في وقت من النهَارِ شيءٌ ، أي فهي شرقية
غربيَّة ، أي تصيبها الشمس بالغداة ، والعَشِىِ ، فهو أنضر لها وأجود لزيتها
وزَيْتونها.
وقال الحسن : إن تأويلَ قوله : (لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ) أنها ليست من
شجر الدُّنْيَا أي هي من شجر الجنَّةِ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36)
جاء في التفسير أَن تبْنَى ، وقال الحسنُ : تأويل " أَنْ ترْفَعَ " أن تعظَّمَ.
و " في " من صِلَةِ قوله (كَمِشْكَاةٍ).
المعنى كَمِشْكاةٍ في بيوتٍ ، أي فِي مَسَاجِدَ.
وقال الحسن يُعْنَى بِهِ بيتُ المقدِسِ.
ويجوز أن تكون " في " متصلة بـ (يُسَبِّحُ)
ويكون فيها تكريراً على التوكيد ، فيكون المعنى يسبح لِلَّهِ رِجَالٌ في بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ لأنْ تُرْفَع (1).
وتقرأ (يُسَبَّحُ) له فيها ، فيكون رفع رجال هَهُنَا على تفسير
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { فِي بُيُوتٍ } : فيها ستةُ أوجهٍ . أحدُها : أنها صفةٌ ل « مِشْكاةٍ » أي : كمِشْكاةٍ في بيوتٍ أي : في بيتٍ من بيوتِ الله . الثاني : أنه صفةٌ لمصباح . الثالث : أنه صفةٌ ل « زجاجة » . الرابع : أنه متعلقٌّ ب « تُوْقَدُ » . وعلى هذه الأقوالِ لا يُوقف على « عليم » . الخامس : أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ كقولِه { فِي تِسْعِ آيَاتٍ } [ النمل : 12 ] أي : يُسَبِّحونه في بيوت . السادس : أَنْ يتعلَّقَ ب « يُسَبِّحُ » أي : يُسَبِّحُ رجالٌ في بيوت . وفيها تكريرٌ للتوكيدِ كقولِه : { فَفِي الجنة خَالِدِينَ فِيهَا } [ هود : 108 ] . وعلى هذه القولَيْن فيُوْقَفُ على « عليم » . وقال الشيخ : « وعلى هذه الأقوالِ الثلاثةِ » ولم يُذْكر سوى قولين.
قوله : { أَذِنَ الله } في محلِّ جرٍّ صفةً ل « بيوتٍ » ، و « أن تُرفع » على حَذْفِ الجارِّ أي : في أَنْ تُرْفَعَ . ولا يجوزُ تَعَلُّقُ « في بيوت » بقوله : « ويُذْكَرُ » لأنه عطفٌ على ما في حَيِّز « أَنْ » ، وما بعد « أَنْ » لا يتقدَّم عليها. اهـ (الدُّرُّ المصُون)

(4/45)


ما لم يسم فَاعِلُه ، فيكون المعنى على أنه لما قال : (يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا) كأنَّه قيل : مَن يُسَبِّحُ الله فقيل يُسَبِّحُ رِجَال كما قال الشاعر :
لِيُبْكَ يزيدٌ ضارِعٌ لخُصُومةٍ . . . ومُخْتبِطٌ مما تُطِيحُ الطَّوائِحُ
(والآصال) : واحدها أُصُل ، وهي العَشَايَا (1).
* * *
(رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37)
ومعنى : (لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ).
أي لا يشغلهم أَمر عن ذَلِكَ.
ويروى أن ابن مَسْعُودٍ رأى قوماً من أَهْل السوقِ ، وقد نُودِيَ بالصَّلَاةِ
فتركوا بِيَاعاتِهِمْ ونَهضُوا إلَى الصَّلاةِ ، فقال : هؤلاء من الذين قال اللَّه - عز وجل - فيهم ، (رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ).
وقوله : (وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ)
الكلام أقمت الصلاة إقَامَةً ، وأصلها أقَمْتُ إقْوامَاً ، ولكن قُلِبَت الوَاوَ
أَيضاً فاجتمعت ألفان ، فحذفت إحداهما لالْتِقَاءِ السَّاكنين ، فبقي أَقَمْتُ الصلاة إقامَةً وأدخِلَتِ الهاء عِوَضاً من المَحْذُوفِ ، وقامت الإضافة ههنا في
التعويض مقام الهاء المحذوفة.
وهذا إجماع من النحويين.
وقوله : (يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ).
ويجوز تَقلَّبُ فيه القلوب والأبْصَارُ ، في غير القرآنِ ، ولا يجوز في
القران " تَقَلَّبُ ، لأن القراءة سنة لا تخالَفُ وإن جاز في العربية ذَلِكَ.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { يُسَبِّحُ } قرأ ابنُ عامرٍ وأبو بكر بفتح الباء مبنياً للمفعولِ . والقائمُ مَقامَ الفاعلِ أحدُ المجروراتِ الثلاثة . والأولى منها بذلك الأولُ لاحتياجِ العاملِ إلى مرفوعِه ، والذي يليه أولى . و « رجالٌ » على هذه القراءةِ مرفوعٌ على أحدِ وجهين : إمَّا بفعلٍ مقدرٍ لِتَعَذُّرِ إسنادُ الفعلِ إليه ، وكأنه جوابُ سؤالٍ مقدَّرٍ ، كأنه قيل : مَنْ يُسَبِّحه؟ فقيل : يُسَبِّحُه رجالٌ . وعليه في أحدِ الوجهين قولُ الشاعر :
لِيُبْكَ يََزِيْدُ ضارعٌ لخُصُومَةٍ . . . ومُخْتَبِطٌ مِمَّا تُطيحُ الطَّوائحُ
كأنه قيل : مَنْ يبكيه؟ فقيل : يَبْكيه ضارعٌ . إلاَّ أنَّ في اقتياس هذا خلافاً ، منهم مَنْ جَوَّزَه ، ومنهم مَنْ مَنعه . والوجهُ الثاني في البيت : أنَّ « يَزيدُ » منادى حُذِف منه حرفُ النداءِ أي : يا يزيد ، وهو ضعيف جداً.
والثاني : أنَّ رجالاً خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي : المُسَبِّحه رجالٌ . وعلى هذه القراءةِ يُوْقفُ على الآصال.
وباقي السبعةِ بكسرِ الباءِ مبنياً للفاعل . والفاعلُ « رجال » فلا يُوْقَفُ على الآصال.
وقرأ ابن وثاب وأبو حيوة « تُسَبِّح » بالتاءِ مِنْ فوقُ وكسرِ الباء؛ لأنََّ جَمْعَ التكسيرِ يُعامَلُ مُعامَلَةَ المؤنثِ في بعض الأحكامِ وهذا منها . وقرأ أبو جعفر كذلك إلاَّ أنَّه فَتَح الباءَ . وخَرَّجها الزمخشري على إسنادِ الفعل إلى الغُدُوّ والآصال على زيادة الباء ، كقولهم : « صِيْد عليه يومان » أي : وَحْشُها . وخَرَّجها غيرُه على أنَّ القائمَ مَقامَ الفاعلِ ضميرُ التسبيحة أي : تُسَبَّح التسبيحةُ ، على المجازِ المُسَوَّغ لإِسنادِه إلى الوقتين ، كما خَرَّجوا قراءةَ أَبي جعفرٍ أيضاً { ليجزى قَوْماً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } [ الجاثية : 14 ] أي : ليجزى الجزاءُ قوماً ، بل هذا أَوْلى مِنْ آيةِ الجاثية؛ إذ ليس هنا مفعولٌ صريح. اهـ (الدُّرُّ المصُون)

(4/46)


ومعنى تَتَقلًبُ أي تَرْجُفُ وَتَجفُ من الجَزَعِ والخَوْفِ ، ومعناه أَن مَنْ
كَانَ قلبُه مُوقِناً بالبعث والقيامَةِ ازداد بَصِيرَةً ، ورأى ما يحبُّه مما وُعِدَ بِهِ ، ومن
كان قلبه على غير ذلك رأى ما يُوقِنُ مَعَهُ بِأمْرِ القِيامة والبعْثِ ، فَعَلِمَ ذلك بقلبه وشاهده بِبَصَرِه ، فذلك تَقَلبُ القلوب والأبْصَار.
* * *
وقوله : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39)
والقيعة جمع قاعٍ ، مثل جَارٍ وَجِيرَةٍ ، والقيعة والقاع ما انبسط من
الأرْض ولم يكن فيه نبات ، فالذي يسير فيه يَرَى كأن فيه ماءً يَجْرِي.
وذَلِكَ هُوَ السَّرابُ ، والآل مثلُ السرابِ إلا أنه يرتفع وقت الضحَى كالماء بين السماء والأرْضَ.
(يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً).
يجوز يَحْسِبُه وَيَحْسَبُه ، ويجوز الظَّمآن والظَّمانُ ، على تخفيف الهَمْزَةِ.
وهُوَ الشديدُ العَطَشِ يقال ظمئ الرجل يظمأ ظمأً فَهُو ظمآنُ ، مثل عَطِشَ
يَعْطَشُ عطشاً فَهُوَ عطشانُ.
وقوله : (حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا).
أي حتى إذا جاء إلى السراب وإلى موضعه رأى أرضاً لا ماء فيها.
فأَعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أن الكافر يظن عَمَلَه قد نفعه عند اللَّه ، ظَنه كَظَنِّ الذي يظن أن السرابَ ماء ، وأن عمله قَدْ حَبِط وذَهبَ.
وضرب الله هذا المثلَ لِلكَافِر فقال : إن أعمال الكفار كهذا السرابِ.
(أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40)

(4/47)


لأنه عزَّ وَجل وصف نوره الذي هو للمؤمنين ، وأعلم أن قلوب المؤمنين
وأعمالهم بمنزلة النورِ الَّذي وصَفَهُ ، وأنهم يجدونه عند اللَّه يجازيهم عليه
بالجنة ، وأن أعمال الكافرين وإن مثلت بما يوجَدُ فمثله كمثل السرابِ ، وإنْ
مثلت بِمَا يُرَى فهي كهذه الظلمات التي وَصَفَ في قوله : (أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ) الآية.
وقوله : (إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا).
معناه لم يرها ولم يكد ، وَقَالَ بَعضُهُم يراها من بَعْدِ أن كانَ لا يَراهَا
من شِدةِ الظلمة ، والقولُ الأولُ أَشْبَهُ بهذَا المعنى ، لأِن في دُونِ هذه
الظُّلُمَاتِ لا يُرَى الكف.
وقوله : (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ).
أي من لم يهده اللَّه إلى الإسلام لم يَهْتَدِ (1).
* * *
وقوله : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41)
ويجوز " والطيرَ " على معنى : " يسبح له الخلق مَعَ الطيْرِ " ولم يُقْرأْ بها.
وقوله : (كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ).
معاه كل قد علم اللَّهُ صَلاتَه وتسبيحَه ، والصلاة للناس ، والتسبيح لغير
الناس ، ويجوز أن يكون (كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) كل شيء قد علم
__________
(1) قال السَّمين في سورة البقرة :
قوله تعالى : { يَكَادُ البرق يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ } : « يكادُ » مضارع كَادَ ، وهي لمقاربةِ الفعل ، تعملُ عمل « كانَ » ، إلاَّ أنَّ خَبَرها لا يكونُ إلا مضارعاً ، وشَذَّ مجيئُه اسماً صريحاً ، قال :
241 فَأُبْتُ إلى فَهْمٍ وما كِدْتُ آيباً . . . وكم مثلِها فارَقْتُها وهي تَصْفِرُ
والأكثرُ في خبرِها تجرُّدُهُ من « أنْ » عَكَسَ « عسى » ، وقد شَذَّ اقترانُهُ بها ، وقال رؤبة :
242 قد كادَ مِنْ طولِ البلى أن يَمْحَصا . . . لأنها لمقاربةِ الفعلِ ، و « أَنْ » تُخَلِّصُ للاستقبال ، فَتَنَافَا . واعلم أنَّ خَبَرَها إذا كانَتْ هي مثبتةً- منفيٌّ في المعنى لأنها للمقاربة ، فإذا قلت : « كاد زيدٌ يفعلُ » كان معناه قارَبَ الفعلَ ، إلا أنه لم يَفْعَل ، فإذا نُفِيَتْ انتفَى خبرُها بطريقِ الأَوْلى ، لأنه إذا انْتَفَتْ مقاربةُ الفعل/ انتفى هو من باب أَوْلَى ولهذا كانَ قَولُه تعالى : { لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا } [ النور : 40 ] أبلغَ مِنْ أَنْ لو قيل : لم يَرَها ، لأنه لم يقارِبِ الرؤيةَ فكيف له بها؟ وزعم جماعةٌ منهم ابن جني وأبو البقاء وابنُ عطية أنَّ نفيَها إثباتُ وإثباتَها نفيٌ ، حتى أَلْغَزَ بعضُهم فيها فقال :
243 أَنَحْوِيَّ هذا العصرِ ما هي لفظةٌ . . . جَرَتْ في لِسانَيْ جُرْهُمٍ وَثَمُودِ
إذا نُفِيَتْ - والله أعلمُ - أُثْبِتَتْ . . . وإِنْ أُثْبِتَتْ قامَتْ مَقَامَ جُحُودِ
وَحَكَوْا عن ذي الرمة أنه لمَّا أَنْشَدَ قولَه :
244 إذا غَيَّر النأيُ المحِبِّينَ لم يَكَدْ . . . رسيسُ الهوى من حُبِّ مَيَّةَ يَبْرَحُ
عِيْبَ عليه لأنه قال : لَمْ يَكَدْ يَبْرَحُ فيكون قد بَرِحَ ، فغيَّره إلى قوله : « لم يَزَلْ » أو ما هو بمعناه ، والذي غَرَّ هؤلاء قولُهُ تعالى : { فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ } [ البقرة : 71 ] قالوا : فهي هنا منفيَّةٌ وخبرُها مُثْبَتٌ في المعنى ، لأن الذبْحَ وقع لقوله : « فَذَبَحُوها » . والجوابُ عن هذهِ الآية من وَجْهَين ، أحدُهما : أنه يُحْمَلُ على اختلافِ وَقْتَيْنِ ، أي : ذَبَحوها في وقتٍ ، وما كادوا يفعلونَ في وقتٍ آخرَ ، والثاني : أنه عَبَّر بنفيِ مقاربةِ الفعل عن شدَّةِ تعنُّتِهِمْ وعُسْرِهِم في الفعلِ.
وأمَّا ما حَكَوْهُ عن ذي الرُّمَّة فقد غلَّط الجمهورُ ذا الرُّمة في رجوعِهِ عن قولِهِ ، وقالوا : هو أَبْلَغُ وأحسنُ مِمَّا غَيَّره إليه.
واعلم أَنَّ خَبَرَ « كاد » وأخواتِها غيرَ عسى لا يكون فاعلُه إلا ضميراً عائداً على اسمها ، لأنها للمقارَبَةِ أو للشروع بخلافِ عسى ، فإنها للترجِّي ، تقول : « عسى زيدٌ أن يقومَ أبوه » ، ولا يجوز ذلك في غيرها ، فأمَّا قولُه :
245 وَقَفْتُ على رَبْعٍ لِميَّةَ ناقتي . . . فما زِلْتُ أبكي عندَهُ وأُخَاطِبُهْ
وَأَسْقِيهِ حتى كَادَ مِمَّا أَبُثُّه . . . تُكَلِّمُنِي أَحْجَارُه ومَلاعِبُهْ
فأتى بالفاعلِ ظاهراً فقد حَمَلَه بعضُهم على الشذوذِ ، وينبغي أن يُقال : إنما جاز ذلك لأن الأحجارَ والملاعب هي عبارةٌ عن الرَّبْع ، فهي هو ، فكأنه قيل : حتى كاد يكلِّمني ، ولكنه عَبَّر عنه بمجموع أجزائه ، وقولُ الأخر :
246 وقد جَعَلْتُ إذا ما قُمْتُ يُثْقِلُني . . . ثَوْبي فَأَنْهَضُ نَهْضَ الشاربِ السَّكِرِ
وكنتُ أمشي على رِجْلَيْنِ مُعْتَدِلاً . . . فَصِرْتُ أمشي على أخرى من الشجر
فأتى بفاعل [ خبر ] جَعل ظاهراً ، فقد أُجيب عنه بوجهين : أحدُهما : أنه على حَذْفِ مضافٍ تقديره : وقد جَعَل ثوبي إذا ما قمت يُثْقلني . والثاني : أنه من باب إقامةِ السببِ مُقامَ المُسَبَّبِ ، فإنَّ نهوضَه كذا متسبِّبٌ عن إثقالِ ثوبِه إياه ، والمعنى : وقد جَعَلْتُ أَنْهَضُ نَهْضَ الشارب الثملِ لإِثقالِ ثوبي إياي.
ووزن كاد كَودِ بكسر العين ، وهي من ذواتِ الواو ، كخاف يَخاف ، وفيها لغةٌ أخرى : فتحُ عينها ، فعلى هذه اللغةِ تُضَمُّ فاؤُها إذا أُسْنِدَتْ إلى تاء المتكلم وأخواتِها ، فتقولُ : كُدْت وكُدْنا مثل : قُلْت وقُلْنا ، وقد تُنْقَلُ كسرةُ عينها إلى فائِها مع الإِسناد إلى ظاهر ، كقوله :
247 وكِيدَ ضِباعُ القُفِّ يأكُلْنَ جُثَّتي . . . وكِيدِ خِراشٌ عند ذلك يَيْتَمُ
ولا يجوز زيادتُها خلافاً للأخفشِ ، وسيأتي هذا كلُه في « كاد » الناقصة ، أمَّا « كاد » التامة بمعنى مَكَر فإنها فَعَل بفتح العين من ذواتِ الياء ، بدليل قوله : { إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيدُ كَيْداً } [ الطارق : 15 - 16 ] . اهـ
وقال في سورة النور ما نصه :
وقد تقدَّم الكلامُ في « كاد » ، وأن بعضَهم زَعَم أنَّ نَفْيَها إثباتٌ وإثباتَها نفيٌ . وتَقَدَّمَتْ أدلةُ ذلك في البقرة فَأَغْنى عن إعادتِه . وقال الزمخشري هنا : « لم يَكْدَ يَراها مبالغةٌ في لم يرها أي : لم يَقْرُبُ أَنْ يَراها فضلاً أنْ يَراها . ومنه قولُ ذي الرمة :
إذا غَيَّر النَّأْيُ المُحِبِّيْنَ لم يَكَدْ . . . رَسِيْسُ الهوى مِنْ حُبِّ مَيَّةَ يَبْرَحُ
أي : لم يَقْرُبْ مِنْ البَراح فما بالُه يَبْرَحُ » . وقال أبوة البقاء : « أختلف الناسُ في تأويلِ هذا الكلامِ . ومَنْشَأُ الاختلافِ فيه : أنَّ موضوعَ » كاد « إذا نُفِيَتْ : وقوعُ الفعلِ . وأكثرُ المفسِّرين على أن المعنى : أنَّه لا يرى يدَه ، فعلى هذا : في التقديرِ ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنَّ التقديرَ : لم يَرَها ولم يَكَدْ ، ذَكرَه جماعةٌ من النحويين . وهذا خطأٌ؛ لأنَّ قولَه » لم يَرَها « جزمٌ بنفيِ الرؤيةِ وقوله : » لم يَكَدْ « إذا أخرجها على مقتضى البابِ كان التقديرُ : ولم يكَدْ يَراها كما هو مُصَرَّحٌ به في الآية . فإنْ أراد هذا القائلُ أنَّه لم يَكَدْ يراها ، وأنه رآها بعد جُهْدٍ ، تناقَضَ؛ لأنه نفى الرؤية ثم أَثْبَتها ، وإنْ كان معنى » لم يكَدْ يَراها « : لم يَرَها ألبتَّةََ على خلافِ الأكثرِ في هذا الباب ، فينبغي أَنْ يُحْمَلَ عليه مِنْ غير أَنْ يُقَدِّرَ لم يَرَها . والوجه الثاني : أنَّ » كاد « زائدةٌ وهو بعيدٌ . والثالث : أنَّ » كاد « أُخْرِجَتْ ههنا على معنى » قارب « والمعنى : لم يقارِبْ رؤيتَها ، وإذا لم يقارِبْها باعَدَها. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/48)


صلاة نفسه وتسبيحَهَا ، ويجوز أن يكون كل إنسان قَدْ عَلِمَ صلاة الله ، وكل
شيء قد علم تسبيح اللَّه.
والأجود أن يكون كل قد علم اللَّه صلاته وتسبيحه.
ودليل ذلك قوله - (واللَّهُ عَليم بِمَا يَفْعَلُونَ).
* * *
وقوله : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43)
معنى : (يُزْجِي) يَسُوقُ ، (ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ) أي يجعل القطع المُتَفَرِّقَةَ مِنَ
السحَابِ قطعةً وَاحِدةً (ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا) ، أي يجعل بَعْضَ السحاب يركب
بعضاً.
(فَتَرَى الوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِه).
الودْقُ المطرُ ، ويقرأ من خَلَلِه ، وخِلَالِه أَعم وأجوَدُ في القراءة ، وخِلَال
جمع خَلَلٍ وخِلَال ، مثل جَبَل وجِبَالٍ ، ويجوز أن يكون السحاب جمع
سحابة ويكون " بينَه " أي بينَ جميعه ، ويجوز أن يكون السحاب وَاحِداً إلا أنه
قال بينه لكثرته ، ولا يجوز أن تقول جلست بين زَيْدٍ حتى تقول وعَمْرٍو.
وتقول ما زلت أدور بين الكوفة ، لأن الكوفة اسم يتضمَّن أَمْكِنَةً كثيرة ، فكأنك تقول ما زلت أدور بين طرق الكوفة.
وقوله تعالى : (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ).
ويجوز وُينْزِل بالتخفيف ، ومعنى (مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ)
مِن جِبَالِ بَرَدٍ فيها كما تقول هذا خاتم في يدي مِنْ حَدِيد.
المعنى هذا خاتَم حَديدٍ في يَدِي.
ويجوز - واللَّه أعلم - أن يكون معنى " مِن جِبَال " مِنْ مِقْدار
جِبَال مِنْ بَرَدٍ كما تقول عِنْدَ فُلَانٍ جِبَالُ مَال تريد مقدار جبال مِنْ كَثْرَتِه.
قوله : (يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ).

(4/49)


وقرأ أبو جعفر المدني : يُذْهِبُ بالأبْصَارَ ، ولم يقرأ بها غيرُه ، ووجهها
في العربيَّةِ ضعيف ، لأن كلام العَرَبِ : ذَهَبْتُ بِهِ وَأَذْهَبْتُه.
وتلك جائزة أيضاً - أعني الضم في الياءِ في يُذْهِبُ.
ومعنى (سَنَا بَرْقِهِ) ضَوء بَرْقِه ، وقرئت (سَنَا بُرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ)
على جَمْعِ بُرْقَةٍ وبُرْقٍ ، والفرق بين بُرْقِهِ - بالضمِ -
وبَرْقِهِ بالفتح أن البرق المقدارُ من البرق ، والبرقَةُ أن يبرق الشيء مَرةً واحِدةً ، كما تقول : غَرفْتُ غَرفَةً وَاحِدةً تريد مَرة وَاحِدةً.
والغَرْفَةُ مقدار ما يُغْرَفُ ، وكذَلِكَ اللَّقمة واللُّقْمَة.
* * *
وقوله تعالى : (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45)
(وَاللَّهُ خَالِقُ كُلِّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ)
ويقرأ ، (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ) ، فَدَابَّة اسم لكل حيوان مُمَيَنر وغيره :
فلما كان لما يعقل ولما لَا يعقِلُ قال (فمنهم) ، ولوكان لما لَا يَعْقِل لقيلَ فمنها
أو مِنْهُنَّ.
ثم قال : (مَنْ يَمْشي عَلَى بَطْنِه).
فقال (مَنْ) - وأصل مَنْ لِمَا يَعْقِل - ، لأنه لَمَّا خلَط الجماعةَ فقيل فمنهم
جعلت العِبَارَةُ بِمَنْ ، وقيل يمشي على بطنه ، لأن كل سائر كان له رِجْلان أو
أربع أوْ لَمْ تكن له قَوائِم ، يقال له ماش وقَدْ مَشَى ، ويقال لكل مُسْتَمِر مَاشٍ ، وإن لم يكن من الحيوان حَتى يقال قد مشى . هذا الأمْرِ.
(مِنْ مَاءٍ) ، وإِنَما قيل من ماء كما قال اللَّه سبحانه : (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ).
وقوله جلَّ وعلا : (وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49)
جاء في التفسير " مُسْرِعين " ، والِإذْعَان في اللغةِ الإسْراعُ مَعَ الطاعَة.
تقول : قَدْ أذْعَنَ لي بِحَقِي ، معناه قَدْ طَاوَعَنِي لِمَا كُنْتُ أَلْتَمِسُه مِنه ، وصارَ
يُسْرِعُ إليْه .

(4/50)


وقوله : (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (53)
(قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ).
تأويلُهُ طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ أمثلُ مِنْ قَسَمِكُمْ لِمَا لَا تَصْدُقُونَ فِيهِ.
والخبر مُضْمَر ، . وهَوُ " أَمْثَلُ " - وَحُذِفَ لأن في الكلام دَلِيلاً عليه ، لأنه قال : (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ).
واللَّه عزَّ وجلَّ وراء مَا فِي قلوبِهِم فقال : (قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ).
ويجوز : طاعةً معروفةً على مَعْنى أطِيعوا طَاعةً مَعروفَةً ، لأنهم أقسَموا إن أمِروا أنْ يُطيعُوا فقيل أطيعوا طاعةً معروفةً ، وَلَا أعْلَمُ أحَداً قَرأ بها ، فإنْ لَم ترْوَ فلا
تقْرا بها ، وهذا يُعْنَى به المنافقونَ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)
(وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ)
وإنما جاءت اللام لأن " وَعَدْته بِكَذَا أَو كَذَا " و " وَعَدْتُه لأكْرِمَنَّه بمنزلة
قُلْت لأن الوَعْدَ لا ينعقِدُ إلا بقول.
ومعنى (لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ) أي ليجعلنَّهم يخلفون مَنْ بَعْدَهم من المؤمنين فَاستخلَفَ الذّين من قبلِهِمْ.
وقرئِت (كما اسْتُخْلِفَ الذين مِنْ قَبلِهِم).
(وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ).
يعني به الإسلام.
(وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا) وقرئت (وَلْيُبْدِلَنَّهُمْ).
وقوله : (يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا)
يجوز أن يكن مستأنفاً ، ويجوز أن يكون في موضع الحال ، على معنى
وعد اللَّهُ المؤمنين في حالِ عبادتهم وإخلاصهم لِلَّهِ - عزَّ جل - ليفعَلَنَّ بهم.
وَيجُوز أَنْ يكونَ اسْتِئنَافاً على طريق الثناء عليهم وَتَثْبيتاً كأنَّه قال : يَعْبدُنِي
المؤْمِنونَ لَا يُشركون بي شيئاً .

(4/51)


وقوله : (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57)
القراءة بالتاء على معنى : لا تَحْسَبَنَّ يا مُحَمًد الكَافِرِينَ مُعْجِزينَ ، أي
قدرةُ اللَّهِ محيطة بِهِمْ وقرئت : لَا يُحْسَبَن عَلَى حَذْفِ المفعول الأول مِنْ
يحسَبَن على معنى لا يَحْسَبَن الذين كفروا إياهم معجزين في الأرض ، كما
تَقُولُ زَيْد حَسِبهُ ، فإنما تريد حَسِبَ نَفْسَه قَائِماً ، وكأنه لا يَحْسَبَنَّ الذين كفروا أَنْفُسَهم مُعْجِزين ، وهذا في بَابِ ظَنَنْتُ ، تطرح فيه النفس يُقَالُ ظننتُنِي أَفْعَلُ ، ولا يقال ظننت نفسي أفعلُ ، وَلَا يَجُوُز ضَرَبْتُنِي ، استُغْني عنها بِضَرَبتُ نَفْسِي.
* * *
وقوله : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58)
فأمر اللَّه عزَّ وجلَّ بالاستئذان في الأوقات التي يُتَخَفى فيها
ويتكشفون ، وَبيَّنَها فقال : (مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ).
يعنى به العَتَمة عشاء الآخرة ، فأعلم أنها عورات فقال (ثَلَاثُ عَوْراتٍ
لَكُمْ) ، على معنى هي ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ ، وقرئت " ثَلَاثَ عَوَرَاتٍ لَكُمْ "
والإِسكان أكثر لثقل الحركة والواو.
تقول طلحة وطَلَحات ، وجمْرة وجمَرات.
ويجوز في لوزة لَوَزَات بحركة الواو ، والأجْوَدُ لَوْزَات ، ويجوز ثَلاثَ عَوَراتٍ
بالنصْبِ ، على معنى ليستأذتوكم ثلاثَ عَوْرَاتٍ ، أي في أَوْقَاتِ ثلاث عَوْراتٍ.
وقوله : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ).
أي ليس عليكم جناح ولا عليهم في أنْ لاَ يَسْتَأذِنُوا بعد أن يمضي كل
وَقْتٍ من هذه .

(4/52)


وقوله تعالى : (طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ).
على مَعنى هُم طَوافُونَ عَلَيْكُم.
وقوله : (بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ) على معنى يَطُوف بَعْضُكُم على بعْض.
* * *
وقوله : (وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59)
فالبالغ يستأذن في كل الأوقات ، والطفل والمملوكُ يستأذن في الثلاث
العورات.
* * *
وقوله : (وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60)
القواعد جمعِ قاعدة ، وهي التي قعدت عن الزواج.
(اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا) أي لاَ يُرِدْنهُ ، ولا يَرْجُونَه ، وقيل أيضاً اللاتي قَدْ قَعدْنَ عَنِ الحيض.
(فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ).
قال ابن مسعود : أن يضعن المِلْحَفَةَ والرِّدَاء.
(وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ).
أي أنْ لَا يضَعْن الرداء والملحفة خير لهن من أن يَضَعْنَه.
* * *
وقوله : (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)
الحرج في اللغة الضيق ، ومَعْناهُ فِي الدِّين الإثمُ ، وجاء في التفسير أن
أهل المدينة قبل أن يُبعثَ النبي - صلى الله عليه وسلم - كانُوا لا يُؤَاكلونَ هؤلاءِ ، فقيل إنهم كانوا يفعلون ذلك خوفاً من تمكن الأصحاء في الطعام ، وقِلَّةِ تمكنِ هؤلاء ، فقيل

(4/53)


لهم ليس في مُؤَاكَلِتِهْمْ حَرَج ، وقيل إنهم كانوا يفعلون ذلك تقززاً ، وقيل أيضاً إِنَّهُمْ كانوا إذا خرجوا مع رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - خَلَّفوا هؤلاء فكانوا يتحوبون أن يأكلوا مما يحفظونه فَأعْلِمو أَنه ليس عَلَيهم خنَاحٌ ، وقيل أيضاً إنه كان قوم يَدْعونَهم إلى طعامِهِم فربما صاروا إلى منازلهم فلم يجدوا فيها طعاماً ، فيمضون بهم إلي آبائهم.
وجميع ما ذكروا جيِّدٌ بالغ إلا ما ذكروا من ترك المؤاكلة تَقَززاً ، فإني
لا أدري كيف هو.
وقوله : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا).
معنى (أَشْتَاتًا) متفرقين متَوَحِّدِين.
ونصب " جميعاً " على الحال ، ويروى أَن حَياً من العرب كان الرجل منهم لَا يَأْكل وحدَه ، وهم حَيٌّ من كنانة ، يمكث
الرجل يَوْمَهُ فإن لم يجد مَنْ يؤاكله لم يأكل شيئاً ، وربما كانت مَعَهُ الإبل
الحُفَّل ، وهي التي مِلْء أخلافها اللبَنُ فلا يَشْرَب من ألبانها حتى يَجِدَ من
يُشَارِبُه ، فأَعلم اللَّه عزَّ وجلَّ أَنَ الرجلَ منهم إن أكل وحده فلا إثم عليه.
وقوله تعالى : (فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ).
معناه فلْيُسَلِّمْ بَعْضكمْ عَلَى بَعض ، فالسلام قد أمر الله به ، وقيل أيضاً :
إذَا دَخَلْتم بيوتاً وكانت خَالِية فَلْيَقلِ الداخِل : السلامُ علينا وعلى عباد اللَّهِ
الصَّالِحِينَ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ).

(4/54)


مَعْنَاهُ النصْبُ على المصدَرِ ، لأن قوله فَسَلَمُوا ، معناه تَحَيوْا ، ويحيي
بعْضُكمْ بعْضاً ، تَحِيَّةً من عند اللَّه.
فأعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أن السلام مُبَارَك طَيِّب.
* * *
وقوله : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62)
قال بعضهم كان ذلك في الجمعة ، فهو - واللَّه أعلم - أن اللَّه عزَّ وَجَل
أمر المؤمنين إذَا كانوا مع نبيِّه - صلى الله عليه وسلم - فيما يُحتاج فيه إلى الجماعة ، نحو الحرب لِلْعَدو ، أَوْ مَا يَحضرونه مما يُحْتَاجُ إلى الجمع فِيه ، لم يذهبوا حَتى يستاأذِنُوه.
وكذلك ينبغي أن يكونوا مَعَ أَئَمَّتِهِمْ لا يخالفونهم ولا يرجعون عنهم في جمع
من جموعهم إلا بِإذْنِهِمْ ، وللإمام أن يأذن ، وله أن لا يأذَنَ ، على قدر ما يرى
من الحَظِّ فِي ذَلِكَ لقوله تعالى : (فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ).
فجعل المشيئة إليْه فِي الإذْنِ.
(وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ).
أي اسْتَغْفِرْ لَهُمْ بِخُروجِهِمْ عن الجماعة إذا رأيت أنَّ لهم عُذْراً.
* * *
وقوله : (لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)
أي لا تقولوا : يا محمد كما يَقُولُ أَحَدُكم لِصَاحِبِه ، ولكن قولوا يا رسول
الله ويا نبي اللَّهِ بتبجيل وَتَوْقِيرٍ وَخَفْض صَوْتٍ.
أعلمهم اللَّه عزَّ وجلَّ فضل النبِي عليه السلام على سائر البريَّةْ في
المخاطبة .

(4/55)


وقوله : (قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا).
أُظْهِرَتِ الوَاوُ في (لِوَاذًا) على معنى لاَوَذْتُ لِوَاذاً ، ومعنى لِوَاذاً ههنا
الخلاف - أي ، يُخَالِفُونَ خلافاً ، ودليل ذلك قوله : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ).
فأمَّا مَصْدَرُ لُذْتُ فقولك : لُذْتُ بِهِ لِيَاذاً .

(4/56)


سورة الفرقان
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحمن الرَّحيم
(تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1)
(تَبَارَكَ) معناه تفاعل من البَرَكَةِ ، كذلك يقول أهلُ اللغة ، وكذلك رُوِيَ عن
ابن عباس ، ومعنى البركة الكثرة في كل ذي خيرٍ.
والفرقانُ القرآن ، يُسمى فرقاناً لأنه فُرِّقَ به بين الحق والبَاطِل.
وقوله : (لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا).
" النذير " المخوف من عذاب الله ، وكل من خوَّفَ فقد أَنْذَرَ.
قال الله - عز وَجَل - (فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14).
* * *
(الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2)
(وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا).
خلق الله الحيوان وقدر له ما يُصْلحه ويقيمُه ، وقَدَّرَ جميع ذلك لخلقه
بحكمة وتقديرٍ
* * *
وقوله تعالى : (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4)
" الِإفك " الكَذِبُ.
(وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ).
يعنونَ اليَهُودَ .

(4/57)


(فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا).
والزُّورُ : الكَذبُ ، ونصبُ (فَظُلْمًا وَزُورًا) على : فقد جاءوا بظلم وَزُورٍ ، فَلَما سقطت الباء أفْضَى الفِعْلُ فَنَصَبَ.
* * *
(وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5)
خبر ابتداء محذوف ، المعنى وقالوا : الذي كتابه أساطير الأولين.
معناه مِما سَطَرَهُ الأولُونَ ، وواحدُ الأساطير أُسْطُورَة ، كما تقول أحْدُوثة
وأَحَادِيث.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا).
الأصيل العَشِيُّ.
* * *
وقوله : (وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7)
(ما) منفصِلة من اللام ، المعنى أي شيء لهذَا الرسُول في حال أكله
الطعَامَ وَمَشْيِهِ في الأسواق.
التمسوا أن يكون الرسول على غير بِنْيَةِ الآدَمِيينَ.
والواجب أن يكون الرسولُ إلى الآدَمِيينَ آدَمِيًّا ليكون أقرب إلى الفهم عنه.
وقوله : (لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا).
طلبوا أن يكون في النبوةِ شَرِكة ، وأن يكون الشريك مَلَكاً ، واللَّه عز
وجل يقول : (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعْلَنَاهُ رَجُلًا) أي لم يكن لِيُفْهِمهم حَتى
يكون رَجُلاً ، وَمَعْنَى لَوْلَا : هَلَّا وتأويل هلَّا الاستفهامُ ، وانتصبَ فيكونَ على
الجواب بالفاء للاستفهام .

(4/58)


(أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8)
(أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ) وإن شئت أو " يَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ " ، ولا يجوز النَّصْبُ في (يكونَ له) ، لأن يكون عطف على الاستفهام ، المعنى : لولا أنزل إليه مَلك أو يُلْقَى إليه كَنْزٌ ، أو تكون له جَنَّة ، والجنة البستان فأعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أنه لو شاء ذلك وخيراً منه لَفَعَلَه ، فقال :
(تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا (10)
أي لو شاء لفعل أكثر مِمَّا قَالُوا ، وقد عرض اللَّه - عزَّ وجلَّ - على النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر الدنيا فَزَهِدَ وآثَرَ أَمْر الآخِرَةِ.
فَأما " يَجْعَلْ " فبالجزم ، المعنى إن يشأ يَجْعَلْ لَكَ جَنَّاتٍ ، ويجْعَلْ لك قُصُوراً ومن رفع فعلى الاستئناف ، المعنى وسَيَجْعَلُ
لَكَ قُصُوراً ، أي سيعطيك اللَّه في الآخرةِ أكْثَرَ مِمَّا قالوا.
وقوله : (أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلْ مِنْهَا) و (يَأْكُلُ مِنْهَا).
* * *
وقوله : (إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12)
أي سمعوا لها غليان تَغيظٍ.
* * *
وقوله : (وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13)
(دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا).
في معنى " هلاكاً " ونصبه على المصدر كأنهم قالوا ثُبِرْنا ثبوراً.
* * *
(لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14)
أي هلاككم أكثر من أن تدعوا مَرةً واحِدَةً.
وقيل ، ثُبُورًا كَثِيرًا ، لأن ثبوراً مصدرٌ فهو للقليل والكثير على لفظ الوَاحِدِ ، كما تَقُولُ : ضربته ضَرْباً

(4/59)


كثيراً ، وَضَرَبتُه واحِداً ، تريد ضربته ضرباً وَاحِداً.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (15)
إنْ قَالَ قَائِل : كيف يقال : الجنَّة خير من النَّارِ ، وليسَ في النَّارِ خير
ألبتَّةَ ، وإنما يقع التفضيل فيما دخل في صنف وَاحدٍ ؟
فالجنة والنار قَدْ دُخَلَا في بَابِ المنازِلَِ في صنف واحِدٍ ، فلذلك قيل (أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ) ، كما قال اللَّه عزَّ وجلَّ : (خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا (16)
مَسْؤولُ ذَلك قول الملائكة (رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ).
* * *
وقوله : (قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (18)
لما سُئِلَتْ المَلائكةُ فَقِيلَ : (أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ).
وجائز أن يكونَ الخِطَابُ لِعِيسَى والعُزَيْرِ.
وقرأ أبو جَعْفَر المدني وَحْدَهُ : ((قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ [نُتَّخَذَ] مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ) ، بِضَم النُّونِ على ما لم يسَمَّ فاعلُه وهذه القراءة عند أكثر النحويين خَطأ (1) ، وإنما كانت خطأ لأن " مِنْ " إنَّما يدخل في هذا الباب في الأسماء إذا كانت مَفْعُولَة أولاً ، ولا تَدْخُل على مفعول الحال ، تقول ما اتخذت مِن أَحَدٍ وَليًّا ، ولا يجوز ما اتخذت أَحَداً مِنْ وَليٍّ ، لأن " مِن " إِنَّمَا دخلت لأنها تنفي واحداً في معنى
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { أَن نَّتَّخِذَ } فاعلُ « ينبغي » أو مفعولٌ قائمٌ مقامَ الفاعلِ في قراءةِ الأسود . وقرأ العامَّةُ « نَتَّخِذَ » مبنياً للفاعل . و « من أولياء » مفعولُه ، وزِيْدَتْ فيه « مِنْ » . ويجوز أن يكونَ مفعولاً أولَ على أنَّ « اتَّخَذَ » متعديةٌ لاثنين ، ويجوز أَنْ لا تكون المتعديةَ لاثنين بل لواحدٍ ، فعلى هذا « مِنْ دونِك » متعلِّقٌ بالاتِّخاذ ، أو بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ مِنْ « أولياء ».
وقرأ أبو الدَّرْداء وزيد بن ثابت وأبو رجاء والحسن وأبو جعفر في آخرين « نُتَّخَذَ » مبنيَّاً للمفعول . وفيه أوجهٌ ، أحدُها : أنَّها المتعديةُ لاثنينِ ، والأولُ همز ضمير المتكلمين . والثاني : قولُه : « مِنْ أولياء » و « مِنْ » للتبعيضِ أي : ما كان ينبغي أَنْ نَتَّخِذَ بعضَ أولياء ، قاله الزمخشري . الثاني : أنَّ « مِنْ أولياء » هو المفعولُ الثاني ايضاً ، إلاَّ أنَّ « مِنْ » مزيدةٌ في المفعولِ الثاني . وهذا مردودٌ : بأنَّ « مِنْ » لا تُزاد في المفعول الثاني ، إنما تُزاد في الأولِ . قال ابن عطية : « ويُضْعِفُ هذه القراءةَ دخولُ » مِنْ « في قوله : » مِنْ أولياء « . اعتَرَض بذلك سعيدُ بن جبير وغيرُه » . الثالث : أَنْ يكونَ « مِنْ أولياء » في موضعِ الحالِ . قاله ابن جني إلاَّ أنه قال : « ودَخَلَتْ » مِنْ « زيادةً لمكانِ النفيِ المتقدم ، كقولك : ما اتَّخذت زيداً مِنْ وكيل » . قلت : فظاهرُ هذا أنه جَعَلَ الجارَّ والمجرورَ في موضعِ الحالِ ، وحينئذٍ يَسْتحيلُ أَنْ تكونَ « مِنْ » مزيدةً ، ولكنه يريدُ أنَّ هذا المجرورَ هو الحالُ نفسُه و « مِنْ » مزيدةٌ فيه ، إلاَّ أنه لا تُحفظ زيادةُ « مِنْ » في الحالِ وإنْ كانَتْ منفيةً ، وإنما حُفِظ زيادةُ الباءِ فيها على خلافٍ في ذلك. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/60)


جميع ، تقول : - ما مِنْ أحَدٍ قَائماَ ، وما من رَجُل مُحِبًّا لما يَضَره.
ولا يجوز " ما رجل من مُحِبٍّ مَا يَضُره ".
ولا وجه لهذه القِرَاءَةِ ، إلا أَنَ الفرَّاء أجازها على ضَعْفٍ ، وزعم أنه يجعل مِنْ أَوْلياءَ هو الاسم ، ويجعل الخبر ما في تتخَذَ كَأنه يُجْعَلُ على القلب ، ولا وجه عندنا لهذا ألبتَّةَ ، لو جَاز هذا لجَازَ في (فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ)
ما أحَد عَنْه مِنْ حَاجِزينَ . وهذا خطأ لا وَجْهَ له فاعْرِفه ، فإن
مَعْرِفَةَ الخطأ فيه أَمْثل من القراءة ، والقُراءُ كلهم يُخَالفون هذا منه.
ومن الغلط في قراءة الحسن : (وَما تَنَزَلَتْ بِهِ الشَيَاطُونَ).
* * *
وقوله تعالى : (وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا).
قيل في التفسير " هَلْكَى "
والبائِر في اللغة الفَاسِدُ ، والذي لا خير فيه.
وكذلك أرض بائرة متروكة من أن يزرع فيها.
* * *
وقوله تعالى : (فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (19)
(بِمَا تَقُولُونَ) وتقرأ (بِمَا يَقُولُونَ - بالياء والتاء - فمن قرأ بما تَقُولُونَ - بالتَاءِ - فالمعنى فقد كَذَبُوكُم بقولهم إنهم آلهة ، ومن قرأ بالياء فالمعنى فقد كذَّبُوكُمْ بقولهم : (سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونكَ مِنْ أَوْليَاءَ).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا).
أي ما تستطيعون أَنْ تَصْرِفُوا عن أَنْفُسِهم ما يحل بهم من العذاب.
ولا أن ينصروا أَنْفُسَهُمْ .

(4/61)


وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20)
هذا احتجاج عليهم في قولهم : (مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ).
فقيل لهم : كذلك كان مَنْ خَلَا من الرسل يأكل الطعام ويمشي في
الأسواق ، فكيف يكون محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - بدعاً من الرسُل . فأمَّا دخول " إِنَّهُمْ " بعد " إلا " فهو على تَأوِيلِ ما أَرْسَلْنَا رُسلاً إلا همْ يأكلون الطعام ، وإلا أنهم لَيَأكلون الطعام ، وحذِفَتْ زسًلاً لأن " من "
في قوله تعالى (مِنَ الْمُرْسَلِينَ) دليل على ما حذف منه ، فأمَّا مثل اللامِ بعد " إلَّا " فَقَولُ الشَاعِر :
ما أَنطياني ولاَ سَاَلْتُهمَا . . . إلا وإني لَحاجز كرمي
يريد أعطياني ، وزعم بعض النحويين أن " مَنْ " بعد إلا مَحْذُوفَة ، كان
المعنى عِنْدَه إلا " مَنْ " ليأكلون الطعام.
وهذا خطأ بيَّنَ ، لأنَّ " مَن " صِلَتها " أَنَّهم
ليأكون " ، فلا يجوز حذف الموصول وتبقيةُ الصلَةِ (1).
* * *
وقوله : (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً).
فيه قولان : قيل كان الرجل الشريف ربمَا أراد الإسلام فعلم أن مَنْ دُونَه
فِي الشَرَفِ قد أسْلم قبلَه فيمتنع من الإسلام لئلا يقال أسلم قبله من هو دونَهُ ، وقيل كان الفقير يقول : لِمَ لَمْ أُجْعَلْ بِمَنْزِلَةِ الغَنِيِّ ، ويقول ذو البلاء : لِمَ لَمْ أُجعل بمنزلة المُعَافى ، نحو الأعمى والزَّمِن ومن أشبه هُؤلاءِ.
وقوله تعالى : (أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا).
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ } : في هذه الجملةِ ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنَّها في محلِّ نصبٍ صفةً لمفعولٍ محذوفٍ ، فقدِّره الزمخشريُّ تابعاً للزجَّاج : « وما أَرْسَلْنا قبلَك أحداً من المرسلين إلاَّ آكلين وماشِين » وإنما حُذِف لمكانِ الجارِّ بعدَه . وقَدَّره ابنُ عطية : « رجالاً أو رُسُلاً » . والضميرُ في « إنهم » وما بعدَه عائدٌ على هذا الموصوفِ المحذوفِ . والثاني : أنه لا محلَّ لها من الإِعرابِ ، وإنما هي صلةٌ لموصولٍ محذوفٍ هو المفعولُ لأَرْسَلْنا ، تقديرُه : إلاَّ مَنْ إنهم ، فالضميرُ في « إنهم » وما بعدَه عائدٌ على معنى « مَنْ » المقدرةِ ، وإليه ذهب الفراء . وهو مردودٌ : بأنَّ حَذْفَ الموصولِ لا يجوزُ إلاَّ في مواضعَ تَقَدَّم التنبيهُ عليها في البقرةِ . الثالث : أنَّ الجملةَ محلُّها النصبُ على الحالِ . وإليه ذهب أبو بكر بن الأنباري . قال : التقديرُ : إلاَّ وإنهم ، يعني أنَّها حاليةٌ ، فقدَّر معها الواوَ بياناً للحالية . ورُدَّ : بكونِ ما بعدَ « إلاَّ » صفةً لِما قبلَها . وقدَّره أبو البقاء أيضاً.
والعامَّةُ على كسرِ « إنَّ » لوجودِ اللامِ في خبرِها ، ولكونِ الجملةِ حالاً على الراجحِ . قال أبو البقاء : « وقيل : لو لم تكنِ اللامُ لكُسِرَتْ أيضاً؛ لأنَّ الجملةَ حاليةٌ ، إذ المعنى : إلاَّ وهم [ يأْكلون » ] . وقُرِىء « أنهم » بالفتح على زيادةِ اللامِ ، و « أَنْ » مصدريةٌ . التقدير : إلاَّ لأنَّهم . أي : ما جَعَلْناهم رسلاً إلى الناسِ إلاَّ لكونِهم مِثْلَهم.
وقرأ العامَّةُ « يَمْشُوْن » خفيفةً . وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب وعبد الله « يُمَشَّوْن » مشدَّداً مبنياً للمفعولِ . أي : تُمَشِّيهم حوائجُهم أو الناسُ . وقرأ [ أبو ] عبد الرحمن « يُمَشُّون » بالتشديدِ مبنياً للفاعل ، وهي بمعنى « يَمْشُون » . قال الشاعر :
3479 ومشى بأعطانِ المَبَأءَةِ وابتغى . . . قلائِصَ مِنْها صَعْبَةٌ ورَكُوْبُ
قال الزمخشري : « ولو قُرِىء » يُمَشُّون « لكان أوجهَ ، لولا الروايةُ » يعني بالتشديد.
قلت : قد قرأ بها السُّلَمِيُّ ولله الحمد . اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/62)


أي أتصبرون على البلاء فقد عُرفْتُمْ مَا وُعِدَ الصابرون.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21)
معنى " لولا " هَلَّا.
(أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا).
فأَعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أنَّ الذين لا يوقنون بالبعث ، ولا يرجون الثواب
على الأعمال عند لقاء الله طلبوا من الآيات ما لم يأت أمةً من الأمَمِ.
فأعلم الله عزَّ وجلَّ أنهم قد استكبروا في أنفُسِهم وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا ، ويجوز عتواً كثيراً بالثاء ، والعتو في اللغة المجاوزة في القدر في الظلْمِ.
وأعلم الله - عزَّ وجلَّ - أن الوقت الذي يَرَوْنَ فيه الملائكة هو يوم القيامَةِ ، وأن الله قد حرمهم البُشْرى في ذلك الوقت فقال :
(يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (22)
(يَوْمَ يَرَوْنَ) مَنْصُوبٌ على وَجْهَيْن :
أحدهما على معنى لا بُشْرى تكون للمجرمين يوم يَرَوْنِ الملائكة.
وَ " يَومَئِذٍ " هو مؤكد " لِيَوْمَ يَرَوْنَ المَلَائِكَةِ " ، ولا يجوز أن يكون مَنْصُوباً بقوله " لاَ بُشْرى " لأن ما اتصل بلا لا يَعْمَلُ فيما قَبْلَهَا.
ولكن لَمَّا قيل لاَ بُشْرى للمُجْرِمين بُيِّنَ في أي يوم ذَلِكَ ، فكأنه قيلَ يجمعون
البشرى يوم يرون الملائكةَ ، وهو يوم القيامة.
(وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا).
وقرئت " حُجراً " بضم الحاء " والمعنى وتقول الملائكة حِجْرًا مَحْجُورًا.
أي حراماً مُحَرماً عَلَيْهم البُشْرى ، وأصل الحجر في اللغة ما حَجَرْتَ عليه أي
ما مَنَعْتَ من أن يوصل إليه ، وكل ما منعت منه فقد حَجَرت عليه ، وكذلك
حَجَر القُضَاةُ على الأيْتَام إنما هو مَنعُ إياهُمْ عن التصرف في أَمْوَالِهِمْ.
وكذلك الحجرة التي ينزلها الناس هو ما حَوَّطوا عليه.
ويجوز أنْ يَكُونَ " يومَ "

(4/63)


مَنْصُوباً على معنى اذْكرْ يَومَ يرونَ الملائكة.
ثم أخبر فقال : (لَا بُشْرى يَوْمَئِذٍ للمُجْرِمينَ).
والمجرمون الذين اجْتَرَمُوا الذُّنوبَ ، وهم في هذا الموضع
الذين اجترموا الكفر باللَّه عزَّ وجلَّ.
* * *
وقوله : (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)
معنى قدمنا عمدنا وقصدنا كما تقول : قام فلان يشتم فلاناً ، تريد قصد
إلى شتم فُلانٍ ، ولا تريد قام من القيام على الرجْلين.
(فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا).
" الهباء " ما يخرج من الكَوَّةِ مع ضوء الشمْسِ شبيهاً بالغبار.
وتأويله أن اللَّه عزَّ وجلَّ أحبط أعمالهم حتى صارت بمنزلة الهباء المنثور.
ثم أعلم اللَّه عزَّ وجلَّ فضل أهل الجنة على أهل النار فقال :
(أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24)
والمقيل المقامُ وَقْتَ القائِلة ، وقيل هُوَ النَومُ نصفَ النهارِ ، وجاء في
التفسير أن أهل الجنَّةِ يصيرون إلى أهليهم في الجنةِ وقت نصف النَّهارِ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25)
ويقرأ (تَشَّقَّقُ) بتشديد الشينِ والمعنى تَتَشقَّقُ.
(وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا).
جاء في التفسير أنه تتشقق سَماء سَماءً وتنزل الملائكة إلى الأرض وهو
قوله (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا).

(4/64)


وقوله عزَّ وجلَّ : (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26)
(الْحَقُّ) صفة للمُلْكِ ، ومعناه أن الملك الذي هو الملك حقًّا هو ملك
الرحمن يوم القيامة كما قال عزَّ وجلَّ : (لِمَنِ المُلْكُ اليَوَمْ) لأن الملكَ
الزائل كأنَّه ليس بملك.
ويجوز " الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ [الْحَقَّ] لِلرَّحْمَنِ " ولم يقرأ بها فلا
تقرأنَّ بها ، ويكون النصب عَلَى وجْهَيْن :
أحدهما على معنى الملك يومئذ للرحمن أَحُق ذَلِكَ الْحَقِّ ، وعلى أَعْني الحق.
* * *
وقوله تعالى : (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27)
يروى أن عقبة بن أبي مُعَيْط هو الظالم ههنا ، وأنه يأكل يَدَهُ ندما ثم
يَعُودُ وأنه كان عزم على الإسلام فبلغ ذلك أُمَيَّةَ بن خَلَفٍ فقال له أُمَية :
وَجْهي من وجهك حرام إنْ أَسْلَمْتَ ، إنْ كَلَّمتُك أبداً ، فامتنع أمية من
الإسلام لقول أُمَيَّةَ فإذا كان يوم القيامَةِ أكل يَدَهُ نَدَماً وتمنى أن آمن واتخذ مع
النبي عليه السلام طريقاً إلى الجَنةِ.
وهو قوله : (يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي).
وقد قيل أيضاً في (لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا) ، أي لم أتخذ الشيطان
خَلِيلًا ، وتصديق هَذَا القول (وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا).
ولا يمتنع أن يكون قبوله مِنْ أُميَّةَ من عمل الشيطانِ وأعوانه.
ويجوز (اتَّخَذْتُ) بتبيين الذال ، وبإدغامها في التاء ، والإدْغَام أكثر وأَجْوَدُ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30)

(4/65)


جَعَلوه بِمَنزِلة الهُجْرِ . والهُجْرُ ما لا ينتفعُ به من القولِ ، وكانوا يقولون
إن النبي - صلى الله عليه وسلم - يَهْجُر ، ويجوز أن يكون مَهْجُوراً متروكاً ، أي جعلوه مَهْجُوراً لاَ يَسْتَمِعُونَه ولايتفهَّمُونَهُ.
* * *
(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31)
(عَدُوًّا) لفظه لفظ وَاحِدٍ ، ويجوز أن يكون في معنى الجماعة والوَاحِد كما
قال (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ) فيجوز ُ أن يكون في معنى أعْدَاء ، وقد
جاء في التفسير أن عدو النبي - صلى الله عليه وسلم - أبُوجَهْل بن هشام.
وقوله : (وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا).
و (هَادِيًا وَنَصِيرًا) منصوبان على وجهين :
أحدهما الحال ، المعنى وكفى ربُّك في حال الهداية والنَصْرِ.
والوجْهُ الثاني أن يكون منصوباً على التمييز على معنى كفى ربُّك من الهُدَاةِ والنُّصَّارِ.
* * *
وقوله تعالى : (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32)
معناه : هَلَّا نُزِلَ علَيْه القُرآنُ في وَقْتٍ واحِدٍ ، وكان بَيْنَ أَولِ نُزُولِ
القرآن وآخره عِشْرُونَ سَنَةً ، فقالوا : لِمَ لَمْ ينزل جَمْلَةً وَاحِدَةً كما أُنْزِلَتِ
التوراةُ : فأَعلم اللَّه عزَّ وجلَّ أَنَ إنْزَاله مُتَفَرقاً ليثْبتَ في قَلْبِ النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : (كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ)
أي أَنْزَلنَاهُ كَذَلِكَ مُتَفَرقاً ، لأن معنى قولهم : (لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً) يدل على معنى لِمَ نُزِلَ عَلَيْهِ القرآنُ مُتَفَرقاً فأعلموا لم ذلك ، أي للتثْبيت.
(وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا).
أي نَزَلْناه على التَّرْتِيل ، وهو ضِدُّ العَجَلَةِ ، وهو التَمَكُّث.
* * *
وقوله : (وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33)
__________
(1) الراجح أنه ثلاثٌ وعشرون سَنَة. والله أعلم.

(4/66)


معناه وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بالذي هو الحق وأحسن تفسيراً من
مَثَلِهِمْ ، إلا أَن " مِنْ " حُذِفَتْ لأن في الكلام دَلِيلاً عليها.
لو قلْتَ : رَأَيت زَيداً وعَمْراً فكان عمرو أَحْسَنَ وَجْهاً ، كان الكلام فيه دليل على أنك تريد : مِنْ زَيدٍ.
* * *
وقوله عَزَ وجَل : (الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا (34)
(الذين) رَفْع بالابْتِدَاءِ ، و (أولَئِكَ) رَفْعُ ابتداء ثَانٍ.
و (شَرٌّ) خبر (أولَئِكَ) ، و (أولَئِكَ) مع (شَرٌّ) خبر (الَّذِينَ). وجاء في التفسير أن الناسَ
يُحْشَرُون يَوْمَ القِيَامَةِ على ثلاثَة أصنافٍ ، صنفِ على الدوَاب وَصنْفٍ على
أرْجُلِهم وصنفٍ عَلَى وُجُوهِهِمْ.
قيل يا رسول اللَّه : كيف يمشون عَلَى وُجُوهِهِمْ.
فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي مشاهم على أقدامهم قادرٌ أَن يُمشِيَهُم عَلَى وُجُوهِهِمْ.
* * *
وقوله : (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا (35)
الوزير في اللُّغَةِ الذي يُرْجَعُ إليه وُيتَحَصَّنُ برأْيِهِ ، والوَزَرُ ما يلتجأ إليه
ويُعْتَصَمُ بِهِ ، ومنه قوله : (كَلا لا وَزَرَ) أي لاَ مَلْجَأ يومَ القيامَةِ ولا مَنْجا إلا
لمن رحم اللَّه عزَّ وجلَّ.
* * *
وقوله : (فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا (36)
يعني به فِرعونُ وقومُه ، والذين مُسِخوا قردةً وخنازير.
* * *
وقوله : (وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37)
يدل هذا اللفظ أن قوم نوح قد كذبُوا غير نوح أَيْضاً لقوله (الرسُل).
ويجوز أن يكون (الرُّسُل) يعنى به نوح وحدَهُ ، لأن من كَذب بِنَبى فقد كذبَ

(4/67)


بجميع الأنْبياء ، لأنة مخالف للأنبياء ، لأن الأنبياء يؤمنون باللَّه وبجميع رُسُلِه.
ويجوز أن يكون يُعْنَى بِهِ الواحدُ.
ويُذَكرُ لَفظُ الجِنْسِ كما يقول الرجل للرجُلِ ينفق الدرْهَمَ الواحد أنت مِمن يُنْفِقُ الدرَاهِمَ ، أي ممن نَفَقَتُه مِنْ هَذَا الجِنْس.
وفلان يركبُ الدواب وإن لم يركب إلا واحِدةً.
* * *
وقوله : (وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38)
قومَ نوح " مَنْصُوبون " على معنى - وأغرقنا قومَ نُوح ، (وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ) نصب عطف على الهاء والميم ، التي في قوله جعلناهمِ
للناسِ آيَةً.
ويجوز أن يكون معطوفاً على معنى (وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا)
ويكونُ التأويل : وَعَدْنَا الظالمين بالعَذَابِ ، ووعدنا عاداً وثمودا
وَأَصحابَ الرسِّ.
قال أبو إسحاق : والدليل على ذلك قوله : (وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا).
والرسُ : بِثْر ، َ يروى أَنَهُمْ قَوم كذبوا بِنبيهِمْ وَرَموهُ في بِئرٍ ، أي دَسُّوه فيها.
ويروى أن الرسَّ قرية باليمامة يقال لها مَلْح ، ويروى أن الرسَّ ديار لطائفة من ثمود.
وقوله : (وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا).
يروى أن القرن مُدَّتُه سبعون سَنَةً.
* * *
وقوله : (وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا (39)
(كُلًّا) منصوب بفعل مضمر الذي ظهر تفسيره ، المعنى وأنذرنا كُلًّا
ضربنا له الأمثالَ.
(وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا).
التتبير التدمير والهلاك ، وَكُل شيء كسَّرْتَهُ وَفَتَّتَّهُ فقد تَبَّرْتَهُ ، ومن هذا

(4/68)


قيل لمكسَّر الزجاج التِبْرُ ، وكذلك تبر الذهَبِ.
* * *
وقوله : (وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا (40)
(أتَوْا) أي مشركو مَكَّة ، يعنى بِهِ قرية قوم لوط التي أمر اللَّه عليها
الحجارة ، فأَعلم اللَّه عزَّ وجلَّ أن الذي جرأهم على التكذيب ، وأنهم لم يبالوا بما شاهدوا من التعذيب في الدنْيا أنهم كانوا لا يصدقون بالبعث فقال : (أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا).
قيل لَا يَخافون مَا وُعِدُوا بِهِ منَ العَذَاب بَعْدَ البَعْثِ.
والذي عند أهل اللغة أن الرجَاء ليس على معنى الخوف ، هذا مذهب من يرفع الأضداد ، وهو عندي الحق ، المعنى بل كانوا لا يرجون ثوابَ مَنْ عَمِل خيراً بعد البَعْثِ فركبوا المَعَاصِي.
* * *
وقوله : (وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا
(41)
المعنى يقولون : أهذا الذي بعث اللَّه إلينا رَسُولًا.
* * *
وقوله : (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43)
يروى أن الواحِدَ مِنْ أَهْل الجَاهِلية كان يعبد الحجر ، فإذا مرَّ بحَجرٍ
أَحْسَن مِنْهُ ترك الأول وَعَبَدَ الثاني ، وقيل أيضاً مَنِ اتَخَذ إِلهَه هَواهُ ، أي أطاع
هَواهُ وركبه فلم يُبَالِ عَاقِبةَ ذلك.
وقوله : (أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا) أي حفيظاً.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)
معناه ما هم إلا كالأنعام في قلة التمييز فيما جُعِلَ دَلِيلًا لهم من الآيَاتِ
والبرهان .

(4/69)


قال : (بَلْ هُمْ أَضَل سَبِيلاً).
لأن : الأنعام تسبح بحمد الله وتسجُدُ له وهم كما قال اللَّه عزَّ وجلَّ :
(ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45)
الظل : من وقت طلوع الفجر إلى وقت طلوع الشمس.
(وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنً) ، أَي ثابتاً دائِماً لاَ يَزُول.
(ثم جَعَلْنَا الشمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً).
فالشمس دَليلُ عَلَى الظِّلِ ، وهي تنسخ الظلَّ.
* * *
(ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (46)
قيل خَفِيًّا ، وقيل سَهْلًا ، ومعنى أَلَمْ تر ، ألم تَعْلَم ، وهذا من رؤية
القلب.
ويجوز أن يكون ههنا من رؤية العَيْن ، ويكون المعنى : ألم تر كيف
مَدَّ الظِلَّ رَبُّكَ!
والأجْودُ أَنْ يَكُونَ بمعنى ألم تَعْلَمْ.
* * *
وقوله : (وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48)
فيها ستة أَوْجُهٍ ، نَشْراً بفتح النون ، ونُشْراً بِضَمهَا ، وُنُشُراً بضَم النونِ
والشِينِ ، ويجوز بُشْرَى مؤنث بالباء على وزن فُعْلَى ، وبُشْراً بالتنوين والباء.
وبُشُراً بين يدي رَحْمِتِه ، فهذه سِتًةُ أَوْجُهٍ منها أربعة يقرأ بها.
فأمَّا نَشْراً فمعناه إحْيَاءٌ ينشر السحاب الذي به المطر ، الذي فيه حياة كل شيءٍ.
ومن قرأ نشُراً فهو جمعِ نُشُور ونُشُر مثل رسول وَرُسُل ، ومن قرأ بالإسكان أسْكَنَ الشِينَ اسْتِخفَافاً ، فهذه ثلاثة أوجه فِي النُّونِ.
فأمَّا الباء فمن نَوَّنَ بالبَاءِ وَضَمِّها وَتَسْكِين الشِين ، فإنما هو بِتَسْكين العَيْنِ من قولك بُشْراً ، وإذا لم يُنَوِّنْها فألِفها

(4/70)


للتأنِيثِ.
ومن قرأ بُشْراً بالتنوين فهو جمع : يقال : ريح بَشُورٌ ، كما قال : (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ) أي تبشر بالغَيْثِ.
ومن قرأ بُشُراً - بِالضم " فهو على أصْلِ الجمع.
ومن قرأ بُشْرَى بغير تنوين فهو بمعنى بشارة.
* * *
وقوله : (وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا).
كل ماء نزل من السماء أو خرج من بحر أو أُذِيبَ مِنْ ثَلْج أو بَردٍ فهو
طهور ، قال عليه السلام في البحر :
" هُو الطهُورُ مَاؤُه الحِلُّ مَيتَتُه ".
* * *
وقوله : (لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49)
ولو كان ميتة لجاز وقيل : " مَيْتاً " ولفظ البلدة مؤنث ، لأن معنى البلد
والبلدة وَاحِد.
وقوله : (وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا).
أَنَاسِى جمع إنْسِى مِثْلُ كُرْسِي وكَرَاسِي ويجوز أن يَكُونَ جَمعَ إنْسَان
وتكون الياء بَدَلاً من النون ، الأصل أَنَاسِين بِالنُّون مثل سَرَاحِين.
* * *
وقوله : (وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (50)
أَيْ صَرفنَا المطَر بَيْنَهمْ لَيَذكَروا ، أَيْ لِيَتَفكَروا في نِعَمِ اللَّه عَلَيْهِمْ فيه.
ويحْمَدُوهُ عَلَى دلِكَ . .
(فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا).
وهم الذين يقولون : مطِرْنَا بِنوءِ كَذَا ، أي بسقوط كوكب كذا ، ، كما يَقُول المُنَجِّمونَ فجعلَهُم اللَّه بِذَلِكَ كَافِرينَ.
* * *
وقوله : (فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52)

(4/71)


ويجوز كَثِيراً ، والقراءة بالباء ، ومعنى (به) أي بِالحَق ، أي بالقرآن الذي
أنزل اليك وهُوَ الحق.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53)
معنى مَرَجَ خَلَّى بَيْنَهُمَا ، تقول : مَرَجْتُ الدابةَ وَأَمْرَجْتُها إذا خليتها تَرْعَى
والمَرْجُ من هذا سُمِّيَ ، ويقال مَرِجَتْ عُهُودُهُمْ وَأَمَانَاتُهُمْ إذَا اَخْتَلَطَتْ . يروى ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وقوله : (هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ).
فراتٌ : صفةٌ لِعَذْبٍ ، والفرات أَشَدُّ المياه عُذْوبةً ، والمعنى هَذَا عَذْبٌ
أَشَدُّ الماء عُذُوبَة.
(وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ).
والأجَاجُ صفة لِلْمِلْح ، المعنى وهذا ملح أَشَدُّ المُلُوحَةِ.
(وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً).
البرْزَخُ الحاجز فهما في مَرْأَى العين مُخْتلِطَان ، وفي قدرة اللَّه - عز
وجل - مُنْفَصِلاَنَ لا يختلط أَحَدُهُمَا بالآخرِ.
* * *
وقوله عزَّ وَجَل : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54)
فالأصهار من النسب من يجوز لهم التزْوِيجُ ، والنسَبُ الذي ليس
يُصْهِر ، من قوله : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ) إلى (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ).
وقوله : (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55)

(4/72)


معنى الظَهِير : المُعينُ ، لأنه يتابع الشيْطَانَ ويعاونه على مَعْصِية اللَّه ، لأن
عِبَادَتَهم للأصْنَامِ معاونة لِلشَيْطَانِ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59)
(الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا).
ويجوز " الرَّحْمَنِ فَاسْأَلْ " ، فمن قال : (الرَّحْمَنُ) فهو رَفْع من جِهَتَيْن :
إحْدَاهما عَلَى البَدَلِ مِما في قوله : (ثم استوى) ، ثم بَينَ بقوله الرحْمَنُ.
ويجوز أن يكون ابتداء و ( فَاسْأَلْ به) الخبر.
والمعنى فاسأل عنه خبيراً.
ومن قالَ " الرحْمَنِ " فهو على معنى : وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ (الرحْمَنِ) . صفة للْحَيِّ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا (60)
(تَأْمُرُنَا) وتقرأ (يأمرنا) (1) ، والرحمن اسم من أسماء الله مذكور في الكُتُبِ الأوَلِ ولم يكونوا يعرفُونَهُ من أسماء اللَّه فقيل لهم إنَه من أسماء الله ، (قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى).
ومعناه عند أهل اللغة ذو الرحْمَة التي لا غاية بعدها في الرحْمَةِ ، لأن
فَعْلَانَ بِنَاءٌ مِنْ أَبْنِيَةِ المُبَالَغَةِ ، تقول : رَجُلْ عَطشان وَرَيَّان إذا كان في النهايَةِ
في الريِّ والعَطَشِ ، وكذلك فَرْحَان وَجَذْلَان وخزيان ، إذا كان في غَاية الفرح أو في نهاية الخِري.
* * *
وقوله : (تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61)
البروج : قيل هي الكواكب العظام ، والبَرَج تباعد بين الحَاجِبَيْن ، وكل
ظاهر مرتفع فقد بَرَجَ ، وإنما قيل لها بُرُوج لظهورها وتباينها وارتفاعها.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { لِمَا تَأْمُرُنَا } : قرأ الأخَوان « يأْمُرُنا » بياءِ الغَيْبة يعني محمد صلَّى الله عليه وسلَّم . والباقون بالخطاب يعني : لِما تأمرنا أنت يا محمد . و « ما » يجوزُ أَنْ تكونَ بمعنى الذي . والعائدُ محذوفٌ؛ لأنه متصلٌ؛ لأنَّ « أَمَرَ » يَتَعَدَّى إلى الثاني بإسقاطِ الحرفِ . ولا حاجةَ إلى التدريجِ الذي ذكره أبو البقاء : وهو أنَّ الأصلَ : لِما تَأْمُرنا بالسُّجودِ له ، ثم بسجودِه ، ثم تَأْمُرُناه ، ثم تأْمُرُنا . كذا قَدَّره ، ثم قال : هذا على مذهبِ أبي الحسن ، وأَمَّا على مذهبِ سيبويهِ فَحَذْفُ ذلك مِنْ غيرِ تَدْريج « . قلت : وهذا ليس مذهبَ سيبويه . ويجوزُ أَنْ تكونَ موصوفةً ، والكلامُ في عائِدها موصوفةً كهي موصولةً . ويجوز أَنْ تكونَ مصدريةً ، وتكونَ اللامُ للعلةِ أي : أَنَسجُدُ مِنْ أجلِ أَمْرِكَ ، وعلى هذا يكونُ المسجودُ له محذوفاً . أي : أَنَسْجُدُ للرحمن لِما تَأْمُرُنا . وعلى هذا لا تكونُ » ما « واقعةً على العالِم . وفي الوجهين الأوَّلَيْن يُحْتمل ذلك ، وهو المتبادَرُ للفَهْمِ.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/73)


(وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا).
ويقرأ (سُرُجاً) ويجوز سُرْجاً بتسكين الراء مثل رُسُل ورُسْل ، فمن قَرَأَ
سِراجاً عَنَى الشمْسَ كما قال تعالى : (وَجَعَلَ الشَمْسَ سِراجاً).
ومن قرأ (سُرُجاً) أراد الشمس والكَوَاكِبَ العِظَامَ مَعَها (1).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62)
ويقرأ (لمن أَرَادَ أَنْ يَذْكُرَ).
قال الحسن : من فاته عَمَلُه من التَذكرِ والشكْرِ كان له في الليل مُسْتَعْتبٌ ، ومن فَاتَهُ بالليل كان له في النهار مُسْتَعْتَبٌ.
وقال أهلُ اللغة خِلفة يجيء هذا في أثر هذا ، وأنشدوا قول زُهَيْرٍ :
بها العين والأرام يمشين خِلفة . . . وأطلاؤها يَنْهَضْنَ من كل مَجْثَمِ
وجاء أيضاً في التفسيرِ خلفة مختلفانِ كما قال اللَّه عزَّ وجلَّ : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا) الآية.
* * *
وقوله : (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63)
أي يمشون بِسَكِينَةٍ وَوَقارٍ وَحِلْمٍ.
(وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا).
أي نتسلم منكم سلاماً لا نُجَاهِلُكم ، كأنَّهم قالوا تَسَلُّماً مِنْكُمْ (2).
و " عبادُ "
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { سِرَاجاً } : قرأ الجمهورُ بالإِفراد ، والمرادُ به الشمسُ ، ويؤيِّده ذِكْرُ القمرِ بعدَه . والأخَوان « سُرُجاً » بضمتين جمعاً ، نحو حُمُر في حِمار . وجُمِعَ باعتبارِ الكواكبِ النيِّرات . وإنما ذُكِرَ القمرُ تَشْريفاً له كقولِه : { وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } [ البقرة : 98 ] بعد انتظامِهما في الملائكةِ . وقرأ الأعمش والنخعي وابن وثاب كذلك ، إلاَّ أنه بسكونِ الراءِ تخفيفاً . والحسن والأعمش والنخعي وعاصم في روايةِ عصمة و « قُمْراً » بضمةٍ وسكونٍ ، وهو جمع قَمْراء كحُمْر في حَمْراء . والمعنى : وذا ليالٍ قُمْرٍ منيرا ، فحذف المضافُ ، وأُقيم المضافُ إليه مُقامه ، ثم التفتَ إلى المضاف بعد حَذْفِه فوصفَه ب « منيرا » . ولو لم يَعْتَبِرْه لقال : منيرةً ، ونظيرُ مراعاتِه بعد حذفِه قولُ حسان :
3491 يَسْقُون مَنْ وَرَدَ البَريْصَ عليهمِ . . . بردى يُصَفَّقُ بالرَّحيقِ السَّلْسَلِ
الأصل : ماء بَرَدَى ، فحَذَفَه ثمَّ راعاه في قولهِ : « يُصَفِّقُ » بالياءِ مِنْ تحتُ ، ولو لم يكنْ ذلك لقالَ « تُصَفِّقُ » بالتاء مِنْ فوقُ . على أنَّ بيتَ حَسَّان يَحْتمل أن يكون كقولِه :
3492 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ولا أرضَ أَبْقَلَ إبْقالها
مع أنَّ ابنَ كيسان يُجيزه سَعَةً . اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(2) قال السَّمين :
قوله : { سَلاَماً } : يجوز أن ينتصبَ على المصدرِ بفعلٍ مقدرٍ أي : نُسَلِّم سَلاماً ، أو نُسَلِّمُ تَسْليماً منكم لا نُجاهِلكم ، فأُقيم السِّلام مُقامَ التسليمِ . ويجوزُ أَنْ ينتصِبَ على المفعول به أي : قالُوا هذا اللفظَ . قال الزمخشري : أي قالوا سَداداً مِنَ القولِ يَسْلَمُوْن فيه من الأذى . والمرادُ سَلامُهم من السَّفَهِ كقوله :
3495 ألا لا يَجْهَلَنْ أحدٌ علينا . . . فنجهلَ فوقَ جَهْلِ الجاهِلينا
ورَجَّح سيبويه أنَّ المرادَ بالسَّلام السَّلامةُ لا التسليمُ؛ لأنَّ المؤمنين لم يُؤْمَروا قَطُّ بالتسليم على الكفرة ، وإنما أُمِروا بالمُسالَمَةِ ، ثم نُسِخَ ذلك ، ولم يَذْكُرْ سيبويهِ في كتابِه نَسْخاً إلاَّ في هذه الآيةِ . اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/74)


مَرْفُوعٌ بالابتداء ، والأحسن أن يكون خبر الابتداء ههنا ما في آخر السورة من قوله : (أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا) ، كأنَّه قال : وعباد الرحمن الذين هذه صِفَتُهُمْ كلها - إلى قوله - (وَاجْعَلْنَا للمتَقِينَ إمَاماً).
ويجوز أن يكون قوله (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ) رفعاً بالابتداء ، وخبره (الذين يمشون على الأرض هوناً).
* * *
وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65)
الغَرَامُ في اللغَةِ أَشَد العَذَابِ.
قال الشاعر :
ويومَ النِّسَارِ ويوم الجفار . . . كانا عذاباً وكانا غَرَاماً
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66)
(مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا) منصوبان على التمييز ، المعنى أنها ساءت في المستقر
والمقام.
* * *
وَقَوله : (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64)
كل من أدْركه الليل فقد باتَ يَبِيتُ ، نَامَ أَوْ لَمْ يَنَمْ ، بَاتَ فلانٌ البَارِحَةَ
قَلِقاً ، إنما المبيتُ إدْراكُ اللَّيْل.
* * *
وقوله تبالى : (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67)
(يُقْتِرُوا) بضم الياء وكسر التاء ، وبفتح الياء وضم التاء (1) ، (ولم يُقَتِّرُوا) ولا
أعلم أحداً قرأ بها ، أعني بتشديد التاء.
والذي جاء في التفسير أن الاسرافَ النًفَقَةُ في مَعْصِية الله ، وأنه لاَ إسْرَافَ في الإنْفَاقِ فيما قَربَ إلى الله عزَّ وجلَّ.
وكل ما أنفق في مَعْصِيَةِ اللَّه فإسْرافٌ ، لأن الِإسراف مجاوزة الحدِّ
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { وَلَمْ يَقْتُرُواْ } : قرأ الكوفيون بفتح الياء وضم التاء وابن كثير وأبو عمرٍو بالفتحِ والكسرِ . ونافع وابن عامر بالضم والكسر مِنْ أَقْتَرَ . وعليه { وَعَلَى المقتر قَدَرُهُ } [ البقرة : 236 ] . وأنكر أبو حاتم/ « أقتر » وقال : « لا يُناسِب هنا فإنَّ أَقْتَرَ بمعنى افتقر ، ومنه { وَعَلَى المقتر قَدَرُهُ } . ورُدَّ عليه : بأن الأصمعيَّ وغيرَه حَكَوْا أَقْتَرَ بمعنى ضَيَّق.
وقرأ العلاء بن سيابة واليزيدي بضم الياء وفتح القاف وكسرِ التاء المشددةِ في قَتَّر بمعنى ضَيَّق . اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/75)


والقَصْدِ.
وجاء في التفسيبر أَيْضاً أن الإسراف ما يقول الناسُ فيه فلان مُسْرِفٌ.
والحق في هذا ما أدَّب اللَّه عزَّ وجلَّ به نبيَّهُ - صلى الله عليه وسلم - فقال : (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29).
* * *
وقوله : (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68)
(وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا).
" يَلْقَ " جزم على الجزاء ، وتأويل الأثام تأويلُ المُجَازَاةِ على الشَيْءِ.
قال أبو عمرو الشيباني : يقال قد لَقِيَ أثامَ ذلك أي جزاء ذلك.
وسيبويه والخليل يذهبان إلى أن معناه يلقى جزاء الأثام ، قال سيبويه جُزِمَتْ . (يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ) ، لأن مضاعفة العذاب لُقِيَ الأثام
كما قال الشاعر :
مَتَى تَأتِنَا تُلْمِمْ بنا في دِيارِنا . . . تَجِدْ حَطَباً جزْلاً وناراً تَأجَّجَا
لأن الِإتيان هو الِإلمام ، فجزم تلْمم لأنه بمعنى تأتي.
وقرأ الحَسَنُ وَحْدَهُ " يُضَعَّفْ " له العذاب ، وهو جيّدٌ بالغٌ ، تقول ضاعفت الشيء وَضَعَّفَتُه.
وقرأ عَاصِمٌ : (يُضَاعَفُ لَهُ الْعَذَابُ) بالرفع (1) . على تأويل تفسير يلق أَثَاماً ، كأنَّ قائلًا قال مَا لُقيُّ الأثام ، فقيل يضاعف للآثم العَذَابُ (2).
* * *
وقوله : (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70)
ليس أن السيئَةَ بعينها تصير حَسَنةً ، ولكن التأويل أن السيئَة تمحى
بالتوْبَةِ وتكتب الحسنة مع التوبة ، والكافِرُ يُحْبِطُ اللَّه عَمَلَه ويثبت اللَّه عليه
السَّيِئَات.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72)
__________
(1) هذه رواية شعبة عن عاصم ، وأما رواية حفص فبالجزم هكذا (يُضَاعَفْ).
(2) قال السَّمين :
قوله : { يُضَاعَفْ } : قرأ ابن عامر وأبو بكر برفع « يُضاعَفُ » و « يَخْلُدُ » على أحدِ وجهين : إمَّا الحالِ ، وإمَّا على الاستئنافِ . والباقون بالجزمِ فيها ، بدلاً من الجزاء بدلَ اشتمال . ومثلُه قولُه :
3500 متى تأتِنا تُلْمِمْ بنا في ديارِنا . . . تَجِدْ حَطَباً جَزْلاً وناراً تَأَجَّجا
فأبدلَ من الشرطِ كما أبدل هنا مِنَ الجزاءِ . وابنُ كثير وابنُ عامرٍ على ما تقدَّم لهما في البقرةِ من القَصْر والتضعيفِ في العين ، ولم يذكرِ الشيخُ ابنَ عامرٍ مع ابنِ كثير ، وذكرَه مع الجماعة في قراءتهم.
وقرأ أبو جعفر وشيبة « نُضَعِّفْ » بالنون مضمومة وتشديدِ العين ، « العذابَ » نصباً على المفعول به . وطلحة « يُضاعِف » مبنياً للفاعل أي اللَّهُ ، « العذابَ » نصباً . وطلحة بن سليمان و « تَخْلُدْ » بتاءِ الخطابِ على الالتفاتِ . وأبو حيوةَ « وُيخَلِّد » مشدداً مبنياً للمفعولِ . ورُوِي عن أبي عمروٍ كذلك ، إلاَّ أنه بالتخفيف.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/76)


قيل الزُور الشِركُ باللَّهِ ، وجاء أَيْضاً أَنَّهُمْ لاَ يَشْهَدُونَ أَعْيَادَ النَصَارَى.
والذي جاء في الزور أَنه الشِركُ باللَّهِ ، فأمَّا النهي عن شهادة الزور في كِتَاب
الله فقوله : (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا)
تأويله أعرضوا عنه ، كَما قال الله عزَّ وجلَّ :
(وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ)
وتأويل (مَرُّوا بِاللَّغْوِ) مَروا بجميع ما ينبغي أَن يُلْغَى.
ومعنى " يُلْغَى " يطرح.
وجاء في التفسير أَنَّهمْ إذا أرادوا ذكر النِكَاح كَنَوْا عَنْهُ.
وقال بعضهُم : هو ذكر الرفث ، والمعنى واحد.
وجاء أيضاً أنهم لا يجالسون أَهْلَ اللغْوِ وهم أهْلُ المعاصي ، ولا يمالئونَهمْ عَلَيْها ، أَيْ يُعَاوِنُونَهُمْ عليها.
وجاء أَيضاً في (لَا يَشْهَدُونَ الزُورَ) مَجَالِسَ الغِنَاءِ.
* * *
وقوله عزَّ وَجَل : (وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73)
تأويله : إذَا تلِيَتْ عَلَيْهِم خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا ، سَامِعينَ مُبْصِرِينَ لما أُمِرُوا
بِهِ وَنُهُوا عَنْهُ.
ودليل ذَلك قوله : (وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا).
ومثل هذا من الشعر قوله :
بأَيْدِي رِجالٍ لم يَشِيمُوا سُيوفَهُمْ . . . ولم تَكْثُر القَتْلَى بها حِينَ سُلَّتِ

(4/77)


تأويله : بأيدي رِجَال شَامُوا سُيُوفَهُمْ وقد كثرت القَتْلَى ، ومعنى يشيموا
سُيُوفَهُمْ يَغْمِدوا سُيُوفَهُمْ.
فالتأويل : والَّذِينَ إذَا ذُكِرُوا بآيات رَبِّهِمْ خرُّوا سَاجدِينَ مُطِيعِينَ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74)
(وَذُرِّيَّتِنَا)
ويقرأ (وَذُرِّيَّاتِنَا) - سألوا أن يُلْحقَ اللَّهُ بهم ذُريَتَهُمْ في الجنةِ ، وأن يَجعَلَ
أَهلَهُمْ تِقر بِهِمْ أَعْيُنَهُم.
(واجْعَلْنَا لِلْمتقِينَ إمَاماً).
أي واجْعلنا ممن يَهتَدِي به المتقُون ، وَيهْتدِي بِالمتَقِينَ.
* * *
وقوله : (قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77)
أي لولا توحيدكم إياهُ.
وجاء في التفسير (مَا يَعْبَأُ بِكُمْ) مَا يَفْعَل بِكُمْ
وتأويل (مَا يَعْبَأُ بِكُمْ) أي : أيُّ وَزْنٍ يكون لكم عنده ، كما تقول : ما عبأتُ بفلانٍ أي ما كان له عندي وزْن ولا قَدْرٌ.
وأصل العِبْء في اللغَةِ الثقْلُ ، ومن ذلك عَبأتُ المتاعَ جَعَلتُ بعضَه على بعض.
وقوله : (فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا).
جاء في التفسير عن الجماعة أَنه يُعْنَى به يومُ بَدْرٍ ، وجاء أنه لُوزِمَ بين
القَتْلَى لزاماً.
وقُرِئَتْ (لَزَاماً) ، وتأويله - واللَّه أعلم - فسوف يكون تَكْذِيبكمْ
لزاماً ، يلزمكم فلا تعطون التوْبَةُ وتلزمكم العُقُوبَةُ ، فيدخل في هذا يوم بدْرٍ.
وغيرُه مما يَلْزَمُهم من العذاب.
وقال أبو عبيدة : لزاماً فَيْصَلاً ، وهو قريب مِما قُلْنَا ، إِلا أن القول أشرَحُ.
وأنشد أبو عبيدة لصَخْرٍ أخي الهُذَلِي .

(4/78)


فإِمَّا يَنْجُوَا من حَتْفِ أَرْضٍ . . . فقد لَقِيا حُتوفَهما لِزاماً
وتأويل هذا أن الحتفَ إذا كان مَقَدراً فهو لازم ، وإن نجا من حَتْفِ مكان
لحِقَهُ في مَكَانٍ آخر لَازِماً له لزاماً.
ومَنْ قرأ (لَزاماً) بفتح اللام ، فهو على مَصْدَر لَزِمَ لَزاماً (1).
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { لِزَاماً } خبرُ « يكون » واسمُها مضمرٌ أي : يكون العذابُ ذا لِزام . واللِّزام : بالكسرِ مصدرٌ كقوله :
3503 فإمَّا يَنْجُوَا مِنْ حَتْفِ أرضٍ . . . فقد لَقِيا حُتوفَهما لِزاما
وقرأ المنهال وأبان بن تغلب وأبو السمَّال « لَزاماً » بفتح اللامِ . وهو مصدرٌ أيضاً نحو : البَيات . وقرأ أبو السمَّالَ أيضاً « لَزامِ » بكسر الميم كأنه جَعَله مصدراً معدولاً نحو : « بَدادِ » فبَناه على لغةِ الحجاز فهو معدولٌ عن اللزَمةِ كفَجارِ عن الفَجْرة قال :
إنَّا اقْتَسَمْنا خُطَّتَيْنا بينَنا . . . فَحَمَلْتُ بَرَّةَ واحْتَمَلْتَ فَجارِ.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/79)


سُورَةُ الشُّعَرَاءِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله تعالى : (طسم (1)
قُرِئَتْ بإدغام - النون في الميم ووصل بعض الحروف ببعض ، وقُرِئَتْ
طَسِينْ مِيمِ بتبيين النونِ ، والوقف على النونِ.
ويجوز - ولا أعلم أَحَداً ، قرأه - طَسِميماً - على أن يُجْعَلَ طسم اسما للسورَةِ بمنزلة قوله : خَمْسَةَ عَشَرَ ، ولا تجوز القراءة به.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2)
فيه وجهان أَحَدُهُمَا على معنى أَنهم وُعِدُوا بالقرآن على لِسَانِ مُوسَى
فكان المعنى هذه آيات الكتاب الذي وُعِدْتُم به على لسان مُوسَى ، وعلى
معنى هذه آيات الكتاب المبين.
وقد فَسَّرنا ذلك فِي أَول سُورةِ البَقَرةِ في قوله : (الم ذلك الكتاب).
* * *
وقوله : (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3)
قال أبُو عبيدةَ : معناه مُهْلِك نفسك ، وقيل قاتل نَفْسَك ، وهذا كقوله :
(فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6).

(4/81)


وموضع أن النصبُ مفعول له ، المعنى فلعلك قاتل نفسَكَ لتَركِهِم
الإيمان ، فأعلمه اللَّه سبحانه أنه لو أراد أن ينزل ما يضطرهم إلى الطاعة لقدر
على ذلك ألا أنه - عزَّ وجلَّ - تعبَّدهم بما يستوجبون به الثوابَ مع الإيمان.
وأنزل لهم مِنَ الآياتِ ما يتبينُ به لمن قَصْدُه إلى الحق فأمَّا لو أنْزَل على
كل من عَنَدَ عَنِ الحق عذاب في وَقْتِ عُنُودِهِ لَخَضَعَ مضْطَرًّا ، وآمن إيمان من
لا يَجِدُ مَذهبا عن الِإيمان.
* * *
وقوله تعالى : (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4)
معناه فتظَل أَعْنَاقُهُمْ ، لأن الجزاء يقع فيه لفظ الماضي في معنى
المستَقْبَلِ تقول : إنْ تَأتِني أَكْرَمتُكَ ، معناه أكْرِمْك ، وإن أتيتني وأحْسَنْتَ معناه وتُحسنُ وَتُجْمِلُ.
وَقال (خَاضِعِينَ) وذكر الأعناق لأن معنى خُضوع الأعْنَاقِ هُوَ خضوعُ
أصحاب الأعناق.
لَما لم يكن الخُضُوعُ إلا لِخُضُوعِ الأعْنَاقِ جاز أن يُعَبَّر عن
المضافِ إليه كما قال الشاعر :
رأَتْ مَرَّ السِّنين أَخَذْنَ منِّي كما أَخَذ السِّرارُ من الهِلالِ
لَمَّا كانت السنُونَ لا تكون إلا بِمَرٍّ أخبر عن السنينَ وإن كان أضاف
إليها المُرُور ، وَمِثلُ ذلك أَيْضاً قول الشاعر :

(4/82)


مَشَيْنَ كما اهتزَّتِ رماحٌ تسفَّهَتْ . . . أَعَالِيَها مَرُّ الرِّياحِ النَّواسِم
كأنَّه قال تسفهتها الرياح ، لما كانت - الرياح لا تكون إلا بالمرور.
وجاء في التفسير " أعْنَاقُهم " يُعنى به كبراؤهم ورؤساؤهم ، وجاء في اللُّغَةِ أَعْنَاقُهُمْ جَمَاعَاتهم ، يقال : جاء لي عُنقٌ من الناس أَيْ جَمَاعَة وذكر بَعْضُهُمْ وجهاً آخَر ، قالوا : فظلًتْ أَعْنَاقُهُم لَهَا خَاضِعِينَ هُمْ ، وأضَمَرُهم.
وَأَنْشَدَ
ترى أَرْباقَهم مُتَقَلِّديها كما . . . صَدِئ الحَدِيدُ عن الكُماةِ
وهذا لا يجوز في القرآن ، وهو على بَدلِ الغَلَطِ يجوز في الشِعْرِ ، كأنه
قال : يرى أرباقهم يرى متقلِّديها ، كأنَّه قال : يرى قوماً متقلدين أَربَاقَهُم فلو
كان على حذف هم لكان مما يجوز في الشعر أَيضاً (1).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (6)
أنباء : أخبار.
المعنى فَسَيعلمون نبأ ذلك في القِيامَةِ.
وجائز أن يعجل لهم بعض ذلك في الدنيا نحو ما نالهم يَوم بَدْرٍ.
* * *
وقوله : (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7)
معنى زوج نوع ، ومعنى كريم محمود فيما يحتاج إليه ، كمعنى من كل
زوج نافع لا يقدر على إنبانه وإنشائه إلا ربُّ العَالَمِين.
ثم قال : (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8)
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { خَاضِعِينَ } فيه وجهان ، أحدُهما : أنه خبرٌ عن « أعناقُهم » . واستُشْكِلَ جمعُه جمعَ سلامةٍ لأنه مختصٌّ بالعقلاءِ . وأُجيب عنه بأوجهٍ ، أحدُها : أنَّ المرادَ بالأعناق الرؤساءُ ، كما قِيل : لهم وجوهٌ وصدورٌ قال :
3505 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . في مَجْمَعٍ مِنْ نواصِي الخيلِ مَشْهودِ
الثاني : أنه على حذفِ مضافٍ أي : فظلَّ أصحابُ الأعناقِ ، ثم حُذِفَ وبقي الخبرُ على ما كان عليه قبل حَذْفِ المُخْبَرِ عنه مراعاةً للمحذوفِ . وقد تقدَّم ذلك قريباً عند قراءةِ { وَقُمْراً مُّنِيراً } [ الفرقان : 61 ] . الثالث : أنه لَمَّا أُضيفَتْ إلى العقلاءِ اكتسَبَ منهم هذا الحكمَ ، كما يُكتسب التأنيثُ بالإِضافةِ لمؤنث في قولِه :
3506 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . كما شَرِقَتْ صَدْرُ القناةِ من الدمِ
الرابع : أنَّ الأعناقَ جمعُ عُنُق من الناس ، وهم الجماعةُ ، فليس المرادُ الجارحةَ ألبتَّةَ . ومن قولُه :
3507 أنَّ العراقَ وأهلَه . . . عُنُقٌ إليك فَهَيْتَ هَيْتا
قلت : وهذا قريبٌ مِنْ معنى الأولِ . إلاَّ أنَّ هذا القائلَ يُطْلِقُ الأعناقَ على جماعةِ الناسِ مطلقاً ، رؤساءَ كانوا أو غيرَهم . الخامس : قال الزمخشري : « أصلُ الكلامِ : فظلًُّوا لها خاضعين ، فَأُقْحِمَتِ الأعناقُ لبيانِ موضع الخضوع ، وتُرِكَ الكلامُ على أصله ، كقولهم : ذهبَتْ أهلُ اليمامة ، فكأن الأهلَ غيرُ مذكور » . قلت : وفي التنظير بقولِه : ذهبَتْ أهلُ اليمامةِ « نظرٌ؛ لأنَّ » أهل « ليس مقحماً ألبتَّةَ؛ لأنه المقصودُ بالحكم وأمَّا التأنيثُ فلاكتسابِه التأنيثَ . السادس : أنها عُوْمِلَتْ معاملةَ العقلاءِ لَمَّا أُسْند إليهم ما يكونُ فِعْلَ العقلاءِ كقوله { ساجِدِين } و { طائِعِين } في يوسف والسجدة.
والثاني : أنه منصوبٌ على الحالِ من الضميرِ في » أعناقُهم « قاله الكسائي ، وضَعَّفه أبو البقاء قال : » لأنِّ « خاضعين » يكون جارياً على غيرِ فاعلِ « ظَلَّتْ » فيَفْتَقِرُ إلى إبرازِ ضميرِ الفاعل ، فكان يجبُ أَنْ يكونَ « خاضعين هم » . قلت : ولم يَجْرِ « خاضعين » في اللفظِ والمعنى إلاَّ على مَنْ هو له ، وهو الضمير في « أعناقُهم » ، والمسألة التي قالها : هي أَْن يجريَ الوصفُ على غير مَنْ هو له في اللفظِ دونَ المعنى ، فكيف يلزمُ ما ألْزَمه به؟ على أنه لو كان كذلك لم يَلْزَمْ ما قاله؛ لأنَّ الكسائيَّ والكوفيين لا يُوْجِبون إبرازَ الضميرِ في هذه المسألةِ إذا أُمِنَ اللَّبْسُ ، فهو يَلْتَزِمُ ما ألزمه به ، ولو ضَعَّفه بمجيءِ الحالِ من المضاف إليه لكان أقربَ . على أنه لا يَضْعُفُ لأنَّ المضافَ جزءٌ من المضافِ إليه كقولِه : { مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً } [ الحجر : 47 ].
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/83)


دليلًا على أن اللَّه - عزَّ وجلَّ - واحد وأن المخلوقات آياتٌ تدُلُ عَلَى أن
الخالق واحدٌ ليس كمثله شيء.
وقوله : (وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مؤمِنِينَ).
معناه وما كان أكثرهم يؤمن ، أي علم اللَّه أَن أَكثَرهم لا يؤمنُونَ أَبداً كما
قال : (ولَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أعْبُدُ) أي لستم تعبدون ما أعبُدُ الآن
(ولا أنتم عابدونْ ما أعْبُدُ) فِيمَا يُسْتَقْبل ، وكقوله في قصة نُوح عليه السلام : (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) ، فأعلمه أن أكثر هم لَا يُؤمِنُونَ.
* * *
وقوله : (وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10)
موضع (إِذْ) نصبٌ ، على معنى . . وَاتْلُ هذه القصةَ فيما تَتْلُو.
ودليل ذلك قوله عطفاً على هذه القصة : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نبأ إبْرَاهِيمَ).
* * *
وقوله : (وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13)
بالنصْبِ والرفْعِ ، فمن رفع فعطف على أَخَاف ، على معنى إني
أخاف . ويضيقُ صدري.
وَمَن نَصَبَ فعطفً على أن يكذِبُونِ ، وأن يضيق صدري وأن لا ينطلق لساني.
والرفع أكثر في القراءة.
وقوله تعالى : (فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ).
أي ليعينني وُيؤازِرَني على أمري ، وَحُذِفَ لأن في الكلام دليلاً
عليه.
* * *
قوله تعالى : (وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14)

(4/84)


يعني بالذنب الرجُل الذي وَكَزهُ فقضى عليه ، إني أَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِي بقتلي إياهُ.
* * *
(قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15)
كَلَّا : ردع وزجر عن الإقامة على هَذَا الظنِّ ، كأنَّه قال : ارْتَدع عن هذا
الظنِّ وَثقْ باللَّهِ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16)
معناه إنا رِسَالَةُ رَبِّ العالمين ، أي ذوو رسالة رب العالمين.
قال الشاعِرُ :
لقد كَذَب الواشُون ما بُحتُ عندهم . . . بسِرٍّ ولا أَرْسَلْتهم برَسُول
* * *
وقوله سُبْحَانَه : (أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17)
موضع (أن) نَصْبٌ ، المعنى أُرْسِلْنا لترسل - أي - لأنْ تُرْسلَ معنا بني إسرائيل.
* * *
(قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18)
أي مولوداً حين وُلدْتَ.
(وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ).
ويجوز من عُمْرِكَ بإسكان الميم ، ويجوز من عَمرِك بفتح العَيْنَ ، يقال :

(4/85)


هو العُمْر والعُمُرُ والعَمْر في عُمْر الإنْسانِ ، فأمَّا في القَسَمِ فلا يجوز إلا
" لَعَمْرُ اللَّهِ " لا غير - بفتح العين.
ذكر سيبويه والخليل وجميع البصريين أن القسَمَ مفتوح لا غَيْر.
فاعْتَدَّ فرعون على موسى بأنه ربَّاه وَليداً منذ وُلدَ إلى أَنْ كَبِرَ.
* * *
وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19)
وقرأ الشعبي (فِعْلَتَكَ) - بكسر الفاء -
والفتح أجود وأكثره لأنه يريد قتلت النفس قَتْلَتَكَ على مذهب المرةِ الواحدة ، وقرأ الشعبي على معنى وقتلت القِتْلَةَ التي عرفتها ، لأنه قتله بوكزةٍ ، يقال : جَلَسْتُ جَلْسَة تُرِيدُ مَرةً واحدة ، وجَلَسْتُ جِلْسَةً - بالكسر تريد هيئة الجلوس.
(وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ).
فيه وجهان :
أحدهما من الكافرين لنعمتِي ، والآخر وأنت من الكافرين بقتلك الذي قتلت فنفى موسى - صلى الله عليه وسلم - الكفر واعترف بأن فعله ذلك جهلٌ فقال : (قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20)
أي من الجاهِلِينَ ، وقد قرئت : وأنا من الجاهلين.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21)
(فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا)
يعنى التوراة التي فيها حكم اللَّه.
* * *
وقوله تعالى : (وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22)
أخرجه المفسرون على جهة الإنكار أنْ تكون تلك نِعْمة ، كأنَّه قال فأيَّةُ
نعمةٍ لك عليَّ في أَنْ عَبَّدْتَ بني إسرائيل.
واللفظ لفظ خبر ، والمعنى يخرج

(4/86)


على ما قالوا على أن لفظه لفظ الخبر وفيه تبكيتٌ للمخاطب كأنَّه قال له : هذه نعمة أَن اتخذت بني إسرائيل عبيداً على جهة التبكيت لِفِرْعَوْنَ ، واللفظ
يوجب أن موسى - صلى الله عليه وسلم - قال : هذه نِعْمَة لأنك اتخذت بني إسرائيل عبيداً ولم تتخذني عَبْداً.
ويقال : عَبَّدْتُ الرجُلَ ، وَأَعْبَدْتُه ، اتخذته عَبْداً.
وموضع (أن) رفع على البَدَلِ من نعمةٍ ، كأنَّه قال : وتلك نِعمة تَعَبُّدُكَ بني إسرائيل وتركك إياي غير عَبْدٍ.
ويَجُوزُ أن يكون " أَنْ " في موضع نَصْبٍ ، المعنى إنما صارت
نِعْمَة على لأن عَبَّدْتَ بَنِي إسْرَائيل . أي لو لم تفعل ما فعَلْتَ لكفلني أهلي
ولم يَلْقُوني في اليمِّ ، فإنما صارت نِعْمَةً بما فَعَلْتَ من البلاء.
وقال الشاعر في أَعْبَدْتُ اتخذتُ عَبْداً :
عَلامَ يُعْبِدُني قَوْمي وقد كَثُرَت . . . فيهمْ أَباعِرُ ما شاؤوا وعِبْدانُ ؟
(1)
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23)
فأجابه موسى - صلى الله عليه وسلم - بما هو دليل على اللَّه - جلَّ وعزَّ - بما خلق مما يعجز المخلوقون عن أن يأتوا بمثله فقال :
(رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24)
فتحيَّر فرعونُ ولم يَرْدُدْ جَوَاباً يَنْقُضُ به هذا القول ، فقال لمن حوله : (ألَا
تَسْتَمِعُونَ).
فزاده موسى في البيان فقال : (رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26)
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { أَنْ عَبَّدتَّ } فيه أوجهٌ ، أحدُها : أنها في محلِّ رفعٍ عطفَ بيان ل « تلك » ، كقوله : { وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمر أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآءِ مَقْطُوعٌ } [ الحجر : 66 ] . الثاني : أنها في محلِّ نصبٍ مفعولاً مِنْ أجلِه . والثالثَ : أنها بدلٌ من « نعمةٌ » . الرابع : أنها بدلٌ من « ها » في « تَمُنُّها » . الخامس : أنها مجرورةٌ بباءٍ مقدرةٍ أي : بأَن عَبَّدْت . السادس : أنها خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي : هي . السابعُ : أنها منصوبةٌ بإضمار أعني . والجملة مِنْ « تَمُنُّها » صفةٌ لنعمة . و « تُمُنُّ » يتعدَّى بالباء فقيل : هي محذوفةٌ أي : تمُنُّ بها ، وقيل : ضَمَّنَ « تَمُنُّ » معنى تَذْكُرُ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/87)


فلم يجبه أيضاً ، فقال : (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27)
فقال موسى زيادة في ال*بانة :
(قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28)
فلم يجبه في هذه الأشْياء بنقض لحجته.
* * *
(قَالَ لَئِنِ ائخَذْتَ إِلهَا غَيْري لأجْعَلَنك مِنَ المَسْجُويخينَ).
فزاده في البيان واحتجَّ بما شاهده هو والملأ من حوله :
(قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32)
والثعبان الكبير من الحيَّات.
فإنْ قال قائل : فكيف جاء ، فإذا هِي ثعبان مبين.
وفي موضع آخَرَ (تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ) ، والجانُّ الصغيرُ من الحيَّاتِ ؟
فالجواب في هذا مما يَدُل على عِظم الآية ، وذلك أن خَلقَها خلقُ الثعبان
واهتزازُها وحركتها وخفتُها كاهتزاز الجَانِّ وخِفتِه.
* * *
(وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33)
نَزَعَ يده من جيبه فأخرجها بيضَاءَ بَيَاضاً نُوريًّا ، مِنْ غَيْرِ سوءٍ من
غير بَرَص ، فلم يكن عنده دفع لما شَاهَدَهُ إلا أَن قال : إن هذا سحر فَقَالَ
(لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34).
فجعل الآية المعجِزَة سحراً ، ثم استكانَ وخضع للذين هم من أتباعه
فقال :

(4/88)


(يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36)
(أَرْجِهْ)
بكسر الهاء وضمها ، وبالياء والواو أرْجِهي وأَرْجِهُو وأَخَاه.
(وابْعَثْ فِي المَدائِن حَاشِرِينَ).
فمعنى :أرْجِهُ " أخِّرْهُ ، وجاء في التفسير احْبسْهُ وأخاه ، والمعنى -
واحِدٌ ، وتأويله أخره عن وقتك هذا وأخرْ اسْتِتْمامَ مُنَاظَرتِه إلى أن يجتمع لك
السَّحَرةُ.
* * *
وقوله : (فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39)
فغنيٌّ عن أن يقول فبعث فجمع السَّحرة.
* * *
وقوله : (قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42)
أي لكم مع أجْرَتِكم وجزائكم على غلبتِكُمْ موسى إن غلبتموه مع
الفائدة ، القربى والزلْفَى عندي.
ويقرأ (أئن لنا لأجراً) على جهة الاستفهام.
ويجوز إن لنا لأجراً - على غير الاستفهام.
وعلى جهة الثقَةِ مِنْهُمْ به ، قَالُوا إن لَنَا لأجْرًا).
أي إنك مِمن يَحْبُونا وَيُجَازِينَا.
* * *
(فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44) فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45)
أي مما جَمَعُوا من كيدهم وعِصِيِّهمْ.
ورُوِي عَنْهُمْ أنهم كانوا

(4/89)


اثني عشر ألف ساحر (1) ، فنُصِرَ موسى عليه السلام أكثرَ ما كانَ السحرُ وأَغْلَبُه على أَهْل ذلك الدهر ، وكانت آيتُهُ آيةً باهرةً من جهتين :
إحداهما أنه أتى بما يعجِزُ عنه المخلوقون.
والثانية أن السحرة ، وعَدَدُهم هذا العَدَدُ أُلْقُوا سَاجِدينَ.
* * *
(قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47)
فَسَلَّمُوا الأمْر للهِ وتبينَ لهم ما لا يُدْفَعُ.
وكذلك بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - أشعرَ ما كانت العرب وأخطب ما كنت وأبلغ ما كانت ، فدعاهم إلى الإيمان باللَّهِ مع الآيات التي أتى بها النبي - صلى الله عليه وسلم - وبالقران الذي دعاهم إلى أن يأتوا بسورَة مِثله فعجزوا عن الإتيان بسورة مثله.
ويروى أيضاً أن السَّحَرَةَ كانوا تسعَة عَشَرَ ألْفاً.
وقوله : (قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49)
(فَلَسَوْفَ تَعْلَمونَ).
اللام دخلت على سوف بمعنى التوكيد ، ولم يُجِزِ الكوفيون : إن زيد
لَسَوفَ يَقوم ، وقد جاء دخول اللام على سوف ، وذلك أن اللام مُؤَكِدَةً.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ).
ْوروي في التفسير أن أول من قطع وصَلَّب فرعونُ.
* * *
(قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50)
أي لا ضرر علينا فيما ينالنا في الدنيا مع أملنا للمغفرة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51)
__________
(1) كلام يفتقر إلى سندٍ صحيحٍ.

(4/90)


بفتح " أن " أي لأنْ كنا أول المؤمنين ، وزعم الفراء أنهم كانوا أوّل مُؤمِني
أهل دَهْرهِمْ ، وَلاَ أحسبه عرف الرواية فِي التفسير لأَنه جاء في التفسير أن الذين كَانُوا مَعَ موسَى عليه السلام ستمائة ألف.
وقيل ستمائة ألف وسبعون ألفاً.
وإنما معنى (أنْ كُنَّا أوَّلَ المؤمِنين).
أي أول من آمن في هذه الحال عند ظهور آية موسى حين ألقوا حبالهم وعصيهم واجتهدوا في سِحْرِهم.
ويقال : لا ضير ولا ضَوْرَ ، في معنى لا ضرَّ ولا ضَرَرَ.
* * *
وقوله : (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52)
يقال : أسرى يُسْري إذا سار لَيْلاً ، وَسَرَى يَسْرىْ ، قيل هو في معنى أسْرَى يُسْري أيضاً.
* * *
وقوله : (فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53)
أي أرسل من جمع له الجيش ، معناه فجمع جمعَه ، فقال :
إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54)
والشرذمة في كلام العرب القليل.
يُروى أن هؤلاء الذين سَمَّاهُمْ شرذمةً كانوا ستمائةِ أَلْفٍ وسَبْعينَ ألفا ، وكانت مقدمَةُ فرعون سبعمائة ألف كل رَجُل منهم على حِصَانٍ ، وعلى رأسه بيضة ، فاستقل من مع موسى عليه السلام عند كثرة جمعه.
وقال " قليلون " فَجمعَ " قَلِيلاً " كما يقال : هؤلاء واحدون
فيجمع الواحد ، كما قال الكميت :
فقد رَجَعُوا كحيٍّ واحِدِينا
* * *
وقوله : (وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55)

(4/91)


يقال قد غاظني فلان ، ومن قال أغاظني فقد لَحَن.
* * *
وقوله : (وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56)
ويقرأ : حَاذِرُون ، وجاء في التفسير أن معنى حَاذِرُون ، مُؤْدُونَ.
أي ذَوُو أداة ، أي ذَوُو سِلَاح والسلاح أداة الحرب ، فالحاذر المستعذ ، والحذِرُ المتيقِظُ.
* * *
وقوله تعالى : (فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60)
أي في وقت شروق الشَمس ، يقال أشرقنا أي دَخَلْنَا في وقْتِ طلوع
الشمس ، ويقال شرقت الشمْسُ إذا طلعت ، وأشرقَتْ إذا أضاءت وصَفَتْ ، وأشرقنا نحن دخلنا في الشروق.
* * *
وقوله : (فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61)
أي لمَّا واقف . جمعُ موسى جمعَ فرعونَ وكان أصحاب موسى قد خَرجُوا ليلاً ، فقال أصحابُ مُوسى : (إنا لَمُدْرَكُونَ) أي سيُدْرِكُنَا جَمعُ فرعَوْنَ هذا الكثيرُ ، وَلَا طاقة لَنَا بِهِمْ.
* * *
(قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62)
أي قال موسى كلا أي ارتدعوا وازدجروا نجليس يدركوننا.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63)
أي كُل جزءٍ تَفَرقَ مِنْهُ.
(كالطوْدِ العَظِيم).
أي كالجبل العظَيم.
* * *
وقوله : (وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64)

(4/92)


أي قَربْنَا ثَمَّ الآخرين مِنَ الغَرقِ ، وهم أصحاب فرعون -
وقال أبو عبيدة : أَزْلَفْنَا جمعنا ثَمَّ الآخرين.
قال ومن ذلك سميت مُزْدَلفة جمعاً.
وكلا القولين حسن جميل ، لأن جمعهم تقريب بَعْضِهِم من بَعْض
وأصل الزلْفَى في كلام العرب القرْبَى.
* * *
قوله تعالى (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69)
ْمعناهُ خَبَرَ إبْراهيم.
* * *
وقوله : (قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71)
معناه مقيمين على عِبَادَتِها.
* * *
وقوله : (قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72)
إن شئت بَيَّنْتَ الذال ، وإنْ شِئْتَ أَدْغَمْتَها في التاء فجعلتها تَاء
فقلت (إتدْعُونَ) ، وهو أجود في العربية لقرب الذال من التاء.
ويجوز إذدُعونَ ، ولم يُقْرأ بها كما قال مُذكِر ، وأصله مُذْتَكِرْ.
* * *
وقوله : (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77)
قال النحويون : إنهُ اسْتِثناء ليس من الأول ، أي لكن رب
العالمين ، ويجوز أن يكونوا عبدوا مع اللَّه الأصنام وغيرها ، فقال
لهم : أن جميع من عَبَدُتُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ ؛ لأنهم سوَّوْا آلهتهم
باللَّهِ فأعْلَمَهُمْ أنه قد تبرأ مما يَعْبُدونَ إلا اللَّهَ فإنه لم يَتَبرأ من عبادته.
* * *
وقوله : (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)
جاء في التفسير أن خطيئته قوله : إن سَارَّة أُخْتي ، وقوله بل فعله
كبيرهم هذا فَاسْألُوهُمْ .

(4/93)


وقوله : (فَقَالَ إني سَقِيمٌ).
وقد بينَّا معنى قوله : (بل فعله كبيرهم هذا).
ومعنى خطيئتي أن الأنبياء بَشَر ، وقد يجوز أن يقع عليهم
الخطيئة إلا أنهم صلوات الله عليهم لا تكون منهم الكبيرة لأنهم
مَعْصُومون مُخْتَارُون على العالمين كل نبي هو أفضل من عالم أهل
دَهْرِه كُلِّهِمْ.
* * *
قوله : (وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84)
معناه اجعل لي ثناء حسناً باقياً إلى آخر الدهر.
* * *
وقوله : (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90)
معناه قُربَتْ ، وتَأويله أنه قرب دخولهم إياها ، ونظرهم إليها.
* * *
قوله : (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91)
أي أظْهرت لِلضَّالينَ ، والغَاوي الضال.
* * *
وقوله : (فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94)
أي في الجحيم ، ومعنى كُبْكِبُوا طُرِحَ بعضُهم على بعْض.
وقال أهل اللُّغَةِ معناه دُهْوِرُوا (1) ، وحقيقة ذلك في اللغة تكرير الانكباب كأنَّه
إذا أُلقِيَ يَنْكَبُّ مرةً بعد مرةٍ حتى يسْتَقِر فيها يَسْتَجِيرُ باللَّهِ منها.
* * *
وقوله : (تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98)
معناه واللَّه ما كنَا إلَّا في ضلالٍ مبين حيث سويناكم باللَّهِ - عز
وجل - فأعظمناكم وعبدناكم كما يُعْبَدُ اللَّهُ.
__________
(1) قال في اللسان :
وقال الزجاج في قوله (فكُبْكِبُوا فيها هم والغَاوونَ) أَي في الجحيم قال ومعنى كبكبوا طُرِحَ بعضهم على بعض وقال غيره من أَهل اللغة معناه دُهْوِرُوا ودَهْوَرَ سَلَحَ ودَهْوَرَ كلامَه قَحَّمَ بعضَه في إِثر بعض ودَهْوَرَ الحائط دفعه فسقط وتَدَهْوَرَ الليلُ أَدبر والدَّهْوَرِيُّ من الرجال الصُّلْبُ الضَّرْب الليث رجل دَهْوَرِيُّ الصوت وهو الصُّلْبُ الصَّوْتِ قال الأَزهري أَظن هذا خطأَ والصواب جَهْوَرِيُّ الصوت أَي رفيع الصوت ودَاهِرٌ مَلِكُ الدَّيْبُلِ قتله محمد بن القاسم الثقفي ابن عمر الحجاج فذكره جرير وقال وأَرْضَ هِرَقْل قد ذَكَرْتُ وداهِراً ويَسْعَى لكم من آلِ كِسْرَى النَّواصِفُ وقال الفرزدق فإِني أَنا الموتُ الذي هو نازلٌ بنفسك فانْظُرْ كيف أَنْتَ تُحاوِلُهْ فأَجابه جرير أَنا الدهرُ يُفْني الموتَ والدَّهْرُ خالدٌ فَجِئْني بمثلِ الدهرِ شيئاً تُطَاوِلُهْ قال الأَزهري جعل الدهر الدنيا والآخرة لأَن الموت يفنى بعد انقضاء الدنيا قال هكذا جاء في الحديث وفي نوادر الأَعراب ما عندي في هذا الأَمر دَهْوَرِيَّة ولا رَخْوَدِيَّةٌ أَي ليس عندي فيه رفق ولا مُهاوَدَةٌ ولا رُوَيْدِيَةٌ ولا هُوَيْدِيَةٌ ولا هَوْدَاء ولا هَيْدَاءُ بمعنى واحد. اهـ (لسان العرب. 4 / 292).
وقال السَّمين :
قوله : { فَكُبْكِبُواْ } : أي : أُلْقُوا ، وقُلِبَ بعضُهم/ على بعض . قال الزمخشري : « الكَبْكَبَةُ تكريرُ الكَبِّ . جَعَلَ التكريرَ في اللفظِ دليلاً على التكريرِ في المعنى » . وقال ابن عطية نحواً منه ، قال : « وهو الصحيحُ لأنَّ تكريرَ الفعلِ بَيِّنٌ نحو : صَرَّ وصَرصَرَ » وهذا هو مذهب الزجاج . وفي مثل هذا البناءِ ثلاثةُ مذاهبَ ، أحدها : هذا . والثاني : وهو مذهبُ البصريين أنَّ الحروفَ كلَّها أصولٌ . والثالث وهو قول الكوفيين أنَّ الثالثَ مُبْدَلٌِ من مثلِ الثاني ، فأصل كَبْكَبَ : كَبَّبَ بثلاثِ باءات . ومثلُه : لَمْلَمَ وكَفْكَفَ . هذا إذا صَحَّ المعنى بسقوطِ الثالث . فأمَّا إذا لم يَصِحَّ المعنى بسقوطِه كانَتْ كلُّها أصولاً من غيرِ خلافٍ نحو : سِمسِم وخِمْخِم.
وواو « كُبْكِبوا » قيل : للأصنام؛ إجراءً لها مُجْرى العقلاءِ . وقيل : لعابديها
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/94)


وقوله عزَّ وجلَّ : (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105)
ْدَخَلَتْ التاء وقوم نوح مُذَكَرونَ ، لأن المعنى كذبت جماعَةُ قَوْمُ
نوح ، وقال المرسلين ، ويجوز أَنْ يكُونُوا كذَبُوا نوحاً وحْدَه ، ومن كذب
رَسُولاً واحِداً من رسل اللَّه فقد كذَّب الجماعة وخالفها ، لأن كل رسول
يأمر بتصديق جميع الرسل ، وجائز أن يكونَ كذبَتْ جميع الرسُلِ.
* * *
وقوله : (إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (106)
وقيل (أَخُوهُمْ) لأنه منهم ، وكل رسول يأتي بلسان قَوْمِه ليوضع
لهم الحجةَ ويكون أَبْينَ لهم.
* * *
وقوله : (قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111)
ويقرأ (وأتْباعُكَ الأرْذلون* ، وهي في العربية جَيِّدةٌ قَويَّة لأن واو
الحال تصحبُ الأسماءَ أكثَر في العربية ، لأنك تقول : جئتُكَ
وَأَصْحَابُكَ الزيدُونَ ، ويجوز : وَصَحِبَك الزيْدُونَ ، والأكثر جئتك وَقَدْ
صَحِبَكَ الزيدون ، وقيل في قوله : الأرْذَلُون : نسبوهم إلى الحياكةِ
والحجامَةِ ، والصناعات لا تَضُرُّ في باب الدِّيَانَاتِ.
* * *
وقوله : (قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116)
أي بالحجارة.
* * *
وقوله : (فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119)
واحدها فَلَك وجمعها فُلْك ، وزعم سيبويه أنه بمنزلة - أَسَدٍ
وَأُسْدٍ ، وقياس فُعْل قياس فَعَل ، أَلا ترى أنك تقول قُفْل وإقفال
وجمل وأجمال ، وكذلك أَسَدٌ وأُسْدٍ وآسَادٍ ، وفَلَك وفُلْك وأَفْلَاك في
الجمع - والمشحون المملوء ، يقال شحنته أي ملأتُه .

(4/95)


وقوله عزَّ وجلَّ : (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128)
يقرأ رِيع ورَيْع - بكسر الراء وفتحها - وهو في اللغة الموضعُ
المرتفع من الأرض ومن ذلك كَمْ رَيْعُ أَرْضِكَ ، أي كم ارتفاع أرْضِكَ.
جاء في التفسير : (بِكُلِّ رِيعٍ) كل فجٍّ والفَجُّ الطريق المُنْفَرِجُ في
الجبل ، وجاء أيضاً بِكل طريق.
وقوله (آية) عَلَامَةً.
* * *
وقوله : (وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129)
واحد المصانع مَصْنَعة وَمَصْنَع ، وهي التي تتخذ للماء ، وَقِيلَ
مَبَانٍ ومعنى (لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ) أي لِأنْ تَخْلدوا ، أَيْ وتتخذون مباني
للخلودِ لا تتفكرون في الموتِ.
* * *
وقوله : (وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130)
جاء في التفسير أَن بطْشَهم كانَ بالسَّوطِ والسَّيْفِ ، وإنما أنكر ذلك
عليهم لأنه ظلم ، فأمَّا في الحق فالبطش بالسوط والسيف جائز.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148)
الهضيم : الداخل بعضه في بعض ، وهو فيما قيل أن رُطبَهُ بغير
نوًى ، وقيل الهضيم الذي يَتَهشمُ تَهَشماً.
والهضيم في اللغة الضامِرُ الداخل بعضه في بعض ولا شيء في الطلع أبلغ من هذا.
* * *
وقوله : (وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (149)
(فَرِهِين).
جاء في التَفسير أَشِرِين وجاء في التفسير فَرِحِين ، وقرئت (فَارِهين)
ومعنى فَارِهين حاذقين.
و " فرهين " منصوب على الحال.
* * *
وقوله : ( قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153)

(4/96)


أي مِمن له سَحْر ، والسحْرُ الرِّئةُ ، أي إنما أَنْتَ بَشَر مِثْلُنَا.
وجائز أن يكون (مِنَ الْمُسَحَّرِينَ) من المفَعَّلِينَ من السحْر أي ممن قد سُحِرَ
مرة بعد مَرة.
* * *
وقوله : (إِنْ هَذَا إِلَّا [خَلْقُ] الْأَوَّلِينَ (137)
ويقرأ (خُلُقُ الأولينَ) ، فمن قرأ خُلُق الأولِين بِضَمِ الخَاءِ فمعناه
عادَةُ الأولين ، ومن قرأ خَلْقُ بفتح الخاء ، فمعناه اخْتِلاقُهُمْ وَكَذِبُهُمْ.
وفي (خَلْقُ الأولين) وجه آخر ، أي خُلقْنَا كما خُلِقَ من كان قَبلَنَا ، نحيا
كما حَيُوا ، ونموتُ كما ماتوا وَلَا نُبْعَثُ ، لأنَّهُمْ أنكروا البعث.
* * *
وقوله : (فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118).
معناه احكم بيني وبينهم حكماً ، والقاضي يسمى الفَتَّاحُ مِن هذا.
* * *
قوله عزَّ وجلَّ : (كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176)
الأيكةُ الشجر الملتَف ، ويقال أيكة وَأَيْك ، مثل أجَمَة ، وأَجَم
والفصل بين واحده وجمعه الهاء . ويقال في التفسير إن أصحاب
الأيكة هؤلاء كانوا أصحاب شجر مُلْتَف ، ويقال إن شجرهم هو الدَّومُ.
والدَّوْمُ هو شجر المُقْلِ.
وأكثر القراء - على إثبات الألف واللام في الأيكة ، وكذلك يَقرأ أبو عمرو وأكثر القرَّاءِ ، وقرأ أهل المدينة أصحابُ لَيْكة مفتوحة اللام ، فإذا وَقَفَ - على أَصْحَاب ، قَالَ ليكَة المرْسَلِين.
وكذلك هي في هذه السورَةِ بغير ألف في المصحف ، وكذلك أيضاً في
سورة (ص) بغير ألف وفي سَائِر القرآن بألف.
ويجوز وهو حسن جدًّا :
" كذَبَ أصحاب آلأيكة المُرْسَلِينَ " بِغَيْر ألف في الخطَ - على الكسر - على

(4/97)


أن الأصل الأيكة فَألْقِيتِ القمْزَ فقيل لَيْكَةِ ، والعرب تقول الأحمر
جاءني ، وتقول إذا أَلْقَتْ الهمزة لَحْمَرُ جاءَ في بفتح اللام وإثبات ألف
الوصل ، ويقولون أيضاً : لاحْمر جاءني يُرِيدُون الأحمر ؛ وإثبات الألف
واللام فيهما في سائر القرآن يدل على أنَّْ حَذْفَ الهمزة منها التي هي
ألف الوصل بمنزلة قولهم لاَحمر.
قال أَبُو إسْحَاق : - أعني إن القَراءَةَ بِجر لَيْكَةِ ، وأنت تريد الأيكَةِ
واللام ، أجود من أَنْ تَجْعَلَها لَيْكة ، وأنت لا تقدِّرُ الألفَ واللامَ وَتَفتَحُها
لأنها لا تَنْصِرُفُ ، لأن لَيْكة لا تعرفُ وَ إنما هي أيكةُ للواحِد وأيك
للجمع ، فأجود القراءة فيها الكسر ، وإسقاط الفمزة لموافقة
المصحف ، وأهل المدينة يفتحون على ما جاء في التفسير أن اسم
المدينة التي كانت للذين أرسل إليهم شُعَيبٌ عليه السلام (لَيْكَةُ).
وكان أبو عُبَيدْ القاسم بن سلام يختار قِراءةَ أَهْلِ المدينة والفَتْحَ ، لأن
لَيْكَة لا تنصرف ، وذَكر أنه اختار ذلك لِمُوَافَقَتِها الكتاب مع مَا جَاءَ في
التفسير ، كأنَّها تسمى المدينة الأيكة ، وتسمَّى الغيضَةُ التي تَضَمُّ هذا
الشجَرَ الأيكة.
والكسر جَيِّدٌ على ما وصفنا ، ولا أعلَمُه إلَّا قد قرئ
* * *
وقوله : (فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189)
الظُّلَّة : سحابة أَظَلَّتْهُم ، فاجتمعوا تحتَها مستجيرين بها مما
نالهم من حَرِّ ذلك اليوم ثُمَّ أَطْبقَتْ عَلَيْهِمْ فَكان من أعظم يوم في
الدنيا عَذَاباً.
(إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ).

(4/98)


ولو كان في غير القرآن لجاز عَظيماً ، والجر أَجْوَدُ كَمَا جَاءَ به
القرآنُ.
* * *
وقوله : (وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ).
وقرأ ابن مَسْعُودٍ " مَا أَصْلَحَ لَكُمْ رَبكُمْ من أزواجكم "
يعنى به الْفُرُوجُ ، وعلى ذلك التفسير.
وذلك أَنَّ قومَ لُوطٍ كانوا يَعْدِلونَ في النساء عن الفروج إلى الأدْبَارِ ، فأَعلم اللَّهُ عزَّ وجلًَّ أَنَّهُمْ بفعلِهم هذا عَادُونَ.
وعادون ظالمونَ غاية الظلْمِ.
ويروى أن ابنَ عُمَرَ سئل عن التحمِيضِ ، فقال : أَوَ يفْعَل ذلكَ
المُسْلِمُون والتحميض فعل قوم لوط بالنّساء والرجال.
ومن أجاز هذا في النساء فمخطئ خطأ عَظِيماً.
* * *
قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (171)
وقوله : (قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168)
والقالي : التارك للشيء الكاره له غاية الكراهة.
وقوله : (إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (171)
جاء في التفسير في الباقين في العذاب ، والغابر في اللغة الباقي
وأنشدوا للعجاج.
فَمَا وَنى محمدٌ مُذْ أَنْ غَفَرْ . . . له الإِلهُ ما مَضَى وما غَبَرْ

(4/99)


وأنشدوا للعجاجِ :
لا تَكْسَعِ الشَّوْلَ بأَغْبارِها . . . إَنَّكَ لا تَدْرِي مَنِ الناتِجُ
أغبارها ما بقي من اللبن في أخلاف الناقَةِ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194)
ويقرأ (نَزَّلَ بِهِ الرُّوحَ الْأَمِينَ) ، المعنى نزل اللَّه به الروحَ الأمينَ.
والروح الأمين . جبريل عليه السلام.
وقوله : (عَلَى قَلْبِكَ).
مَعْنَاه نَزَل عَلَيِك فوعاه قَلْبُكَ وَثَبَتَ فلا تنساهُ أَبداً ولا شيئاً منه.
كما قال عزَّ وجلَّ : (سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى).
* * *
وقوله : (وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196)
تأويله واللَّه أعلم أن ذِكرَ مُحمدٍ عليه السلام وذكر القرآن في زبُر
الأولين ، والزُّبُر الكُتب ، زَبور وَزبُر مثل قولك رَسول وَرُسل كما قال
الله عزَّ وجلَّ : (يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184)

(4/100)


(وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ).
عطف على الكاف والميم المعنَى اتَقُوا الَّذِي خَلَقَكُم وخلق
الْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ.
ويقرأ والجُبُلَّةَ بضم الجيم والباء ، ويجوز : والجِبْلَة
الأولين والجُبلة الأولين.
فأمَّا الأوْلَيَانِ فالقراءة بهِمَا ، وهاتان جائزتان.
* * *
قوله : (فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ)
- وكِسْفاً - يُقْرأ بهما جميعاً.
فمن قرأ كِسْفاً - بإسْكانِ السينِ - فمعناه جانباً ، وَمَنْ قَرأ كِسَفاً
فتأويله قِطَعاً من السماء جمع كِسْفَة وكِسَف ، مثل كِسْرة وكِسَر.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ
(197)
إذا قلت (يَكُنْ) فالاختيار نصب (آيَةً).
ويكونُ (أَنْ يَعْلَمَهُ) اسم كان ويكون (آيَةً) خبر كان ، المعنى أو لم يكن عِلْم علماء بني إسرائيل أن النبي عليه السلام حق وأنَّ نبوتَه حق آيةً ؛ أي علامة موضِّحةً ، لأن العُلمَاءَ الذين آمنوا من بني إسرائيل وجدوا ذكر النبي عليه السلام مكتوباً عِنْدَهُمْ في التوراة والإِنجيل ، كما قال اللَّه عزَّ وجلَّ.
ومن قرأ (أَوَلَمْ تَكُنْ لَهُمْ آيَةٌ) - بالتاء - جعل " آية " هي الاسم.
و " أن يَعْلَمَه " خبر (يكن).
ويجوز أيضاً " أولم تَكُنْ لهم آيَةً " بالتاء ونصب آية
كما قال عزَّ وجلَّ : (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا).
ومثله قول لبيد :
فَمَضَى وقَدَّمَها وكانت عادةً . . . مِنه إِذا هِيَ عَرَّدَتْ إِقْدامُها

(4/101)


فنصب (عادةً) وقد أنث (كَانَت) وهي للإقدام ، لأن الاسم والخبر في
كان لشيء وَاحِد وقد جَاوَرَ الفعلَ لفظ التأنيث.
* * *
وقوله تعالى : (وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198)
(الأعجمين) جمع أعجم ، والأنثى عجماء ، والأعجم الذي لا
يفصح ، وكذلك الأعجمي ، فأمَّا العَجَميُّ فالذي من جنس العَجَم.
أَفْصَحَ أو لم يفصح.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200)
أي سلكنا تَكذيبَهُم به في قُلُوبهم ، جعل اللَّه - عزَّ وَجَل -
مُجازَاتَهُمْ أَنْ طَبَعَ على قلوبهم وَسَلك فِيها الشركَ.
(لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201)
أخبرِ عزَّ وجلَّ أنه لما سلك في قلوبهم الشرك منعهم من الإيمان
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (202)
معنى (بَغْتَةً) فجاءة.
* * *
وقوله : (وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (209)
(ذِكْرَى) يكون نَصْباً ويكون رَفْعاً إلا أن الإعراب لا يظهر فيها لأن
آخرها ألف مَقْصُورَة ، فمن نَصَبَ فعلى المصدَرِ ودَلّ عَلَيْه الِإنذارُ لأن
قوله : (إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ) معناه ألا لها مُذَكِرونَ ذكرى.
ويجوز أن تكون

(4/102)


في موضع رفع على معنى إنْذَارُنَا ذِكْرَى ، على خَبَرِ الابْتِداء ، ويجوز
ذِكراً وما كنا ظالمين ، مُنَوَّن ولا أعلم أَحَداً قرأ بها ، فلا تقرأنَّ بها إلا أنْ
تثْبتَ بها رِواية صَحِيحَة ، يقال : ذَكرْتُه ذِكرَى بألف التأنيث وذكرته ذِكْراً
وَتَذْكيراً وَتَذْكِرَةً وذَكْراً ، وهو مِنِّي عَلَى ذُكْرٍ لاَ غَيْرُ.
* * *
وقوله : (وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210)
وقرأ الحسن الشَيَاطُونَ ، وهو غَلَط عِنْدَ النحويين ، ومخَالَفَة عند
القراء للمصحف.
فليس يجوز في قراءة ولا عند النحويين ، ولو كان يجوز في النحْو ، والمصحفُ على خلافهْ لم تَجُزْ عندي القراءةُ به.
* * *
وقوله : (إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212)
لمَّا رُمُوا بالنجوم مُنِعُوا من السَّمْعِ.
* * *
وقوله عزَّ جل : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)
يُرْوَى في التفسير أنَّه لما نزلت هذه الآية نادى النبي - صلى الله عليه وسلم - : يا بني عبد المطلب ، يا بني هاشم ، يا بني عبد مناف يا عباسُ عَمَّ النبي يا
صَفيَّةُ عَمَّةَ رسول اللَّه ، إني لا أملك لكم من اللَّه شيئاً ، سَلُونِي من
مَالِي ما شِئْتُم.
ويروى أَيْضاً أنه لما نزلت هذه الآية صَعَدَ الصفَا ، وَنَادَى الأقربَ قالأقْرِبَ فخذاً فَخذاً.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215)
تأويله : ألِنْ جَنَاحَكَ ، أُمِرَ النبي - صلى الله عليه وسلم - بإلانَةِ الجانب مَعَ مَا وَصَفَهُ اللَّه به من لين الخلق وتعظيم خُلُقِه فِي اللِّينِ وجميل الأخلاقِ.
فقال : (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4).

(4/103)


وقوله : (الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219)
أي المصلين.
* * *
وقوله : (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221)
ثم أنبأ فقال : (تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222)
لأنه عزَّ وجلَّ قال : (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192).
ثم قال (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ). . و (ما تنزلت به الشيَاطِينُ) كالمتصِلِ بهذا ، ثم أعلم أن الشياطين تَنَزَّلُ على كل أَفَاكٍ أثيم ، أي على كل كَذَاب ، لأنها كانت تأتي مُسَيْلِمَةَ الكذابَ وَغَيرَهُ من الكهَنَةِ فيلقونَ إليْهِم وَيَزيدُونَ أولئكَ
كَذِباً.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224)
ويجوز يَتْبَعُهُم - بالتشديد والتخفيف -.
والغاوونَ الشَيَاطِين في التفسير ، وقيل أيضاً الغاوون من الناس ، فإذا هجا الشاعِرُ بما لا يجوز ، هَوِيَ ذلك قَوْم وأحبُّوه ، وَهُمْ الغاوونَ ، وكذلك إن مَدَح مَمْدوحاً بما ليس فيه أَحَبَّ ذَلِك قَوم وتابَعُوه فهم الغاوون.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225)
ليس يعنَى بِهِ أَوْدِية الأرْض ، إنما هو مثل لقولهم وشعرهم ، كما
تقول في الكلام : أنا لك في وادٍ وَأَنْتَ لي في وادٍ ، وليس يُريدُ أنك في
وادٍ من الأرْضِ ، إنما يريد أنا لَكَ في وادٍ مِنَ النفع كبيرٍ وأنت لي في
صِنْفٍ . والمعنى أنهم يَغْلُونَ في الذم والمَدْح ، وَيُكَذِبُونَ . ويمدَحُ
الشَاعِرُ الرجلَ بِمَا لَيْسَ فيه ، وكذلك الذمُّ فيَسبُّونَ ، فذلك قوله :

(4/104)


(فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226)
وهذا دليل على تكذيبهم في قَوْلِهِمْ.
ثم استثنى - عزَّ وجلَّ - الشعراء الذين مَدَحُوا رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وَرَدُّوا هجاءَ مَنْ هجاه وهجا المسلمين فقال :
(إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)
أي لَمْ يَشْغلْهم الشِّعْرُ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ عَز وَجَلً ولم يجعلوه هِمَّتَهُمْ.
إنَّمَا ناضَلُوا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بِأيْديهم وَأَلْسِنَتِهِمْ ، فَهَجَوْا من يستحق الهجاءَ وأحق الخلقِ بالهجاء من كذَّب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهجاه ، فقال :
(إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا).
وجاء في التفسير أن الذين عُنُوا بـ (الذين آمنوا وعملوا الصالحات)
عبدُ اللَّه بنُ رواحة الأنْصَارِي وكعبُ بن مَالِك وحسَّانُ بن ثابت
الأنْصَارِي.
* * *
وقوله : (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ).
يعني أنهم ينقلبون إلى نار جهنم يُخلَّدون فيها.
و " أَيَّ " منصوبة بقوله (يَنْقَلِبُونَ) لا بقوله (وَسَيَعْلَمُ) لأن " أيًّا " وَسَائِرَ الاستفهام لا يعمل فيها مَا قَبلها .

(4/105)


سُورَةُ النَّمْل
مكية
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1)
قال ابن عباس (طس) اسم من أسماء الله تعالى أقسم به.
وقال قتادة إنه اسم من أَسْمَاءِ القرآن.
وقوله : (تِلْكَ آيَات الَقرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ).
معنى (تلك) أنهم كانوا وعدوا بالقرآن في كتبِهِمْ ، فقيل لهم هَذِه
" تلك الآيات ، التي وعِدْتمْ بِها ، وقد فسرنا ما في هذا في أولِ سورة
البقرة
و " كتاب " مخفوض على معنى تلك آيات القرآن آيَات كِتَابِ مُبِينٍ.
ويجوز وكتَابٌ مبِينٌ ، ولا أعلم أَحَداً قرأ بها ، ويكون المعنىَ : تلك
آيات القرآن وذلك كِتابٌ مبينٌ.
* * *
وقوله : (هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2)
يجوز أن يكون (هُدًى) في موضع نَصْبٍ على الحال ، المعنى :
تلكَ آيات الكِتابِ هَادِيةً وَمبشِرَةً.
ويجوز أن يكون في موضع رفع من جهتين :
إحداهما على إضمار هو هدى وبشرى ، وإن شئت على البدل
من آيات على معنى تِلْكَ هدى وبشرى ، وإن شئت على البدل من آيات
على معنى تِلْكَ هدى وَبشْرى.
وفي الرفع وجه ثَالِث حَسَنٌ ، على أن

(4/107)


يكون خَبراً بَعْدَ خَبَر ، وهما جميعاً خَبر لـ تِلْكَ على معنى قولهم : هو
حُلْو حامض أي قد جمع الطعمين . فيكون خير تلك آيات وخبرها
هدى وبشرى ، فتجمع أنها آيات وأَنَها هَادِية مُبَشِّرَة.
* * *
وقوله عزَّ جل : (إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4)
أي جعلناجزاءهم على كفرهم أَنْ زَيَّنَا لهم مَا همْ فيه.
(فهم يَعْمَهُونَ).
أي يتحيرون ، قال العجاج :
أَعْمَى الهُدَى بالجاهِلينَ العُمَّهِ
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6)
أي يلقى إليك القرآنُ وَحْياً مِنْ عِنْد الله أَنْزَلَه بعلمه وَحِكْمَتِهِ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7)
مَوْضِعُ (إذْ) نَصْبٌ.
المعنى اذْكر إذْ قَالَ موسَى لأهْلِه ، أي اذكر قِصةَ مُوسَى.
وَمَعْنى آنَسْت ناراً رأيت ناراً.
وقوله - عزَّ وجلَّ - (أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ).
يقرأ بالتَّنْوين وبالإضافَةِ ، فمن نَوَّنَ - جعل " قَبَس " من صِفَةِ
شِهَابٍ ، وكل أبْيضَ ذي نورٍ فَهُو شِهَاب.
(وقوله عزَّ وجلَّ : (لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ).
جاء في التفسير أنهم كانوا في شِتاءٍ ، فلذلك احتاجوا إلى
الاصطلاء.
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8)

(4/108)


فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8)
أي فلمَّا جاء موسَى النارَ (نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا).
فموضع " أنْ " إن شئت كان نصباً وإن شئت كان رَفْعاً ، فمن حكم
- عليها بالنصب فالمعنى نوديَ مُوسَى بأنَّه بورك مَن في النَّار.
واسم ما لم يُسَمَّ فاعله مضْمَر في (نودِيَ)
ومن حكم عَلَيْها بالرفْعِ ، كَانَت اسم ما لم يُسَمَّ فاعله ، أي نُودِيَ أَنْ بُورِكَ . وجاء في التفسير أَن (مَنْ في النار) ههنا نور اللَّه - عزَّ وجلَّ -
(ومَن حولها) قيل الملائِكَة وقيل نور اللَّه.
وقوله : - (وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ).
معناه تنزيه اللَّه تبارك وتعالى عن السوء ، كذلك جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وكذا فسَّره أَهْلُ اللغَة.
* * *
وقوله : (وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10)
(فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا)
أي تتحرك كما يتحرك الجَانُّ حركةً خفيفةْ ، وكانت في صورة
الثعبَانِ ، وهو ؛ العظيم من الحيات.
(وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ).
جاء في التفسير " لم يُعَقِبْ " لم يلتفت ، وجَاءَ أيضاً لم يَرْجِعْ.
وأَهل اللغة يقولون لم يرجع ، يقال : قَدْ عقَّبَ فُلان إذا رجع يُقَاتِل بَعْدَ
أَنْ وَلى.
قال لبيد :
حتَّى تَهَجَّرَ في الرَّواحِ وهاجَهُ . . . طَلَبُ المُعَقِّبِ حَقَّه المَظْلومُ

(4/109)


وقوله عزَّ وجلَّ : (إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ).
معناه لا يخاف عندي المُرْسَلُونَ.
* * *
وقوله : (إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11)
(إِلَّا) استثناء ليس من الأوَّلِ ، والمعنى ، واللَّه أعلم ، لكن مَنْ ظَلَمَ
ثم تابَ من المرسلين وغيرهم ، وذَلك قوله : (ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (12)
المعنىْ أدخل يدك في جيبك وأخرجها تخرج بَيْضَاءَ مِنْ غير سُوء.
جاء في التفسير (مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) من غير برص ، وجاء أيضاً ، أنه كانت عليه
مِدْرَعةُ صُوف بغير كُمَّين.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ).
" في " من صلة قوله : وَأَلْقِ عَصَاكَ ، وأدخل يَدَك.
فالتأويل : وأظهر هَاتَيْن الآيتين في تِسْع آياتٍ وَتَأويله مِنْ بَيْن آيَاتٍ.
وجاء في التفسير أَنَّ التِّسْعَ كونُ يدِه بيضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ، وكونُ العَصَا حَيَّة وما أَصَابَ آل فِرْعَوْنَ من الجدْبِ فِي بَوَادِيهِمْ ، وَنَقْصُ الثِّمَارِ مِنْ مَزَارِعِهمْ.
وإِرْسالُ الجَرادِ عَلَيْهم ، والقُمَّل ، والضَفَادِع ، والدَّم والطُوفَان.
فهذه تِسْعُ آياتٍ.
ومثل قوله : (فِي تِسْعِ آيَاتٍ) ، وَمَعْنَاه ، مِنْ تِسْعٍ قَوْلهم : خُذْ لي
عَشْراً منَ الِإبل فيها فَحْلَانِ ، المعنى منها فَحْلانِ.
* * *
وقوله : (فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13)

(4/110)


أي واضحة ، ويجوز مُبْصَرةً ، ومعناها مُبَيَّنَة تُبْصَرُ وَتُرى.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)
المعنى : وجحدوا بها ظَلْماً وعُلُوا ، أي : تَرَفعاً عَنِ أَنْ يؤمِنُوا بما
جاء به مُوسَى عليه السلام.
فجَحَدَوا بها وَهم يَعلَمُونَ أَنها مِنْ عِنْد اللَّهِ.
* * *
وقوله عزَّ جل : (وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16)
جاء في التفسير أنه وَرِثَه نُبُوتَهُ وَمُلْكَهُ ، وَرُوِيَ أنه كان لداود تسعةَ
عشَرَ وَلَداً فورثه سُلَيْمَانُ من بينهم النبُوةَ والمُلْك.
وقوله : (وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ).
وجاء في التفسير أنه البُلْهُ مِنها.
وأحسبه - والله أعلم - مَا أَلْهَمَ اللَّهُ الطيرَ مما يُسَبِّحُهُ به ، كما قال : (وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ).
وقوله : (وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ).
المعنى أوتينا من كل شيء يجوز أَنْ يُؤتَاهُ الأنْبِياءُ والنَّاسُ وكذلك
قوله : (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) أي من كل شيء يؤتاه مِثْلُهَا وعلى هَذا
جرى كلام النَّاسِ ، يقول القائل : قد قَصَدَ فلَاناً كل أَحَدٍ في حَاجَتِهِ.
المعنى قصده كثير من الناس .

(4/111)


وقوله تعالى : (وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17)
في اللغة يُوزَعُونَ يُكَفُّونَ ، وجاء في التفْسِير يُكَف أَولُهُمْ ويحبَسُ
أَولُهُم عَلَى آخِرِهم.
* * *
(حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18)
يروى أن وادي النمل هذا كان بِالشامِ ، وأن نَمْلَ سُلَيْمَانَ عَلَيْه
السلاَمُ كان مثال الذُّبَاب.
(قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ).
جاء لفظ ادْخُلوا كلفظ ما يَعْقِل ، يقال للناس : ادخلوا وكذلك
للملائِكَةِ والجنِّ ، وكذلك دَخَلُوا ، فإذا ذكرت النمل قلت : قَدْ دَخَلْنَ
وَدَخَلَتْ ، وكذلك سائر ما لا يعقل ، إلا أَنَّ النمل ههنا أُجْرِيَ مَجْرَى
الآدَمِيينَ حين نطق كما ينطق الآدَمِيونَ.
(لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ).
(لَا تَحْطِمَنَّكُمْ)
ويقرأ (لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ) ، ولا تُحَطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ ، ولا
يُحَطِّمَنَّكُمْ. جائزةٌ (1).
وقوله : (فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19)
لأن أكثرَ ضحِكَ الأنبياءِ عليهم السلام التبسم.
وَ (ضَاحِكًا) منصوب ، حال مُؤكَدَةٌ ، لأن تبسَّمَ بمعنى ضحِكَ.
وقال : (رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ).
معنى (أَوْزِعْنِي) ألْهِمْني ، وتأويله في اللغة كُفَّنِي عن الأشياء
__________
(1) قال ابن الجوزي :
قوله تعالى : { لا يَحْطِمَنَّكُمْ } الحَطْم : الكَسْر.
وقرأ أُبيُّ بن كعب ، وأبو رجاء { لَيَحْطِمَنَّكُمْ } بغير ألف بعد اللام.
وقرأ ابن مسعود : { لا يَحْطِمْكُمْ } بفتح الياء وسكون الحاء وتخفيف الطاء وسكون الميم وحذف النون.
وقرأ عمرو بن العاص ، وأبان { يَحْطِمَنْكُمْ } بفتح الياء وسكون الحاء والنون ساكنة أيضاً والطاء خفيفة.
وقرا أبو المتوكل ، وأبو مجلز : { لا يَحِطِّمَنَّكُمْ } بفتح الياء وكسر الحاء وتشديد الطاء والنون جميعاً.
وقرأ ابن السميفع ، وابن يعمر ، وعاصم الجحدري : { يُحْطِمَنَّكُمْ } برفع الياء وسكون الحاء وتخفيف الطاء وتشديد النون.
والحَطْمُ : الكَسْر ، والحُطَام : ما تحطَّم.
قال مقاتل : سمع سليمان كلامها من ثلاثة أميال. اهـ (زاد المسير. 6 / 161 - 162)

وقال السَّمين :
قوله : { قَالَتْ نَمْلَةٌ } هذه النملةُ هنا مؤنثةٌ حقيقيةٌ بدليلِ لَحاقِ علامةِ التأنيثِ فِعْلَها؛ لأنَّ نملةَ يُطْلَقُ على الذَّكَرِ وعلى الأنْثى ، فإذا أُريد تمييزُ ذلك قيل : نَمْلَةٌ ذَكَرٌ ونملةٌ أُنْثى نحو : حَمامةٌ ويَمامةٌ . وحكى الزمخشري عن أبي حنيفةَ رضي الله عنه . أنه وقف على قتادةَ وهو يقول : سَلُوني . فأمَرَ مَنْ سأله عن نملةِ سليمان : هل كانت ذكراً أو أنثى؟ فلم يُجب . فقيل لأبي حنيفة في ذلك؟ فقال : كانَتْ أنثى . واستدل بلَحاقِ العلامةِ . قال الزمخشري : « وذلك أنَّ النَّمْلَةَ مثلُ الحمامةِ والشاةِ في وقوعِهما على المذكَّرِ والمؤنثِ فيُمَيَّزُ بينهما بعلامةٍ نحو قولهم : حمامةٌ ذَكَرٌ وحمامَةٌ أُنْثى ، وهو وهي » انتهى.
إلاَّ أنَّ الشيخَ قد رَدَّ هذا فقال : « ولَحاقُ التاءِ في » قالَتْ « لا يَدُلُّ على أنَّ النملةَ مؤنثٌ ، بل يَصِحُّ أن يُقال في المذكر : » قالت نملة «؛ لأنَّ » نملة « وإنْ كانَتْ بالتاء هو ممَّا لا يتميَّزُ فيه المذكرُ من المؤمث ، وما كان كذلك كالنَّمْلَةِ والقَمْلة مِمَّا بَيْنَه في الجمعِ وبين واحدِه تاءُ التأنيثِ من الحيوان ، فإنَّه يُخْبَرُ عنه إخبارُ المؤنثِ ، ولا يَدُلُّ كونُه يُخْبَرُ عنه إخبارُ المؤنثِ على أنه ذَكَرٌ أو أنثى؛ لأن التاءَ دخلت فيه للفَرْقِ لا للدلالةِ على التأنيثِ الحقيقيِّ ، بل دالةٌ على الواحدِ من هذا الجنس » ، قال : « وكان قتادةُ بصيراً بالعربيةِ.
وكونُه أُفْحِمَ يَدُلُّ على معرفتهِ باللسانِ؛ إذْ عَلِم أنَّ النملةَ يُخبر عنها إخبارُ المؤنث ، وإنْ كانَتْ تنطلقُ على الأنثى والذكرِ إذْ لا يَتَمَيَّزُ فيه أحدُ هذين . ولحاقُ العلامةِ لا يَدُلُّ ، فلا يُعْلَمُ التذكيرُ والتأنيثُ إلاَّ بوحيٍ من اللهِ تعالى « قال : » وأمَّا استنباطُ تأنيثِه من كتابِ اللهِ ب « قالَتْ » ولو كان ذَكَراً لقيل : قال ، فكلامُ النحاةِ على خِلافه ، وأنَّه لا يُخْبر عنه ألاَّ إخبارُ المؤنثِ سواءً كان ذكراً أم أنثى « ، قال : » وأمَّا تشبيهُ الزمخشري/ النملةَ بالحمامةِ والشاةِ ففيهما قَدْرٌ مشتركٌ يتميَّزُ فيهما المذكرُ من المؤنثِ فيمكن أَنْ يقول : حمامةٌ ذَكَرٌ وحمامةٌ أنثى فتمييزُه بالصفة ، وأمَّا تمييزُه ب هو وهي فإنه لا يجوزُ . لا تقول : هو الحمامةُ ولا هو الشاةُ ، وأمَّا النملةُ والقملةُ فلا يَتَمَيَّزُ فيه المذكرُ من المؤنثِ فلا يجوز في الإِخبار إلاَّ التأنيثُ ، وحكمُه حكمُ المؤنثِ بالتاءِ من الحيوان نحو : المرأة ، أو غيرِ العاقل كالدابَّة ، إلاَّ إنْ وَقَعَ فَصْلٌ بين الفعلِ وبين ما أُسْنِدَ إليه من ذلك ، فيجوزُ أَنْ تَلحق العلامةُ وأن لا تَلْحَقَها على ما تقرَّر في علم العربية « انتهى.
أمَّا ما ذكره ففيه نظرٌ : من حيث إنَّ التأنيثَ : أمَّا لفظيٌّ أو معنويٌّ ، واللفظيُّ لا يُعتبر في لحاقِ العلامةِ ألبتَّةَ ، بدليلِ أنه لا يجوز : » قامَتْ ربعةُ « وأنت تعني رجلاً؛ ولذلك لا يجوز : قامت طلحةُ ولا حمزةُ عَلَمَيْ مذكرٍ ، فَتَعَيَّنَ أن يكونَ اللَّحاقُ إنما هو للتأنيثِ المعنويِّ ، وإنما تعيَّن لفظُ التأنيثِ والتذكيرِ في بابِ العددِ على معنى خاصٍّ أيضاً : وهو أنَّا ننظر إلى ما عامَلَتِ العربُ ذلك اللفظَ به من تذكيرٍ أو تأنيثٍ ، من غيرِ نَظَرٍ إلى مدلولهِ فهناك له هذا الاعتبارُ ، وتحقيقُه هنا يُخْرِجُنا عن المقصودِ ، وإنما نَبَّهْتُك على القَدْرِ المحتاج إليه.
وأمَّا قولُه : » وأمَّا النملةُ والقَمْلةُ فلا يَتَمَيَّزُ « يعني : لا يُتَوَصَّلُ لمعرفةِ الذَّكرِ منهما ولا الأنثى بخلافِ الحمامةِ والشاةِ؛ فإنَّ الاطلاعِ على ذلك ممكنٌ فهو أيضاً ممنوعٌ . قد يمكن الاطلاعُ على ذلك ، وإنَّ الاطلاع على ذكوريَّةِ الحمامةِ والشاةِ أسهلُ من الاطلاعِ على ذُكورِيَّةِ النملةِ والقملةِ . ومَنْعُه أيضاً أن يقال : هو الشاةُ ، وهو الحمامة ، ممنوعٌ.
وقرأ الحسن وطلحة ومعتمر بن سليمان النَّمُل ونَمُلة بضم الميم وفتح النون بزنةِ رَجُل وسَمُرَة.
وسليمان التميمي بضمتين فيهما . وقد تقدَّم أن ذلك لغاتٌ في الواحدِ والجمعِ.
قوله : { لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ } فيه وجهان ، أحدهما : أنه نهيٌ . والثاني : أنه جوابٌ للأمرِ ، وإذا كان نَهْياً ففيه وجهان ، أحدُهما : أنه نهيٌ مستأنِفٌ لا تَعَلُّقَ له بما قبله من حيث الإِعرابُ ، وإنما هو نهيٌ للجنودِ في اللفظِ ، وفي المعنى للنَّمْلِ أي : لا تكونوا بحيث يَحْطِموْنَكُمْ كقولهِم : « لا أُرَيَنَّك ههنا » . والثاني : أنه بدلٌ من جملةِ الأمرِ قبلَه ، وهي ادْخلوا . وقد تَعَرَّضَ الزمخشريُّ لذلك فقال : « فإنْ قلتَ : لا يَحْطِمَنَّكم ما هو؟ قتل : يُحتمل أَنْ يكونَ جواباً للأمرِ ، وأَنْ يكونَ نهياً بدلاً من الأمرِ . والذي جَوَّزَ أَنْ يكونَ بدلاً أنه في معنى : لا تكونوا حيث أنتم ، فيَحْطِمَنَّكم ، على طريقةِ » لا أُرَيَنَّك ههنا « أرادَتْ : لا يَحْطِمنكم جنودُ سليمان ، فجاءت بما هو أبلغُ . ونحوُه » عَجِبْتُ من نفسي ومن إشْفاقِها « . قال الشيخ : أمَّا تخريجُه على أنه جوابٌ للأمرِ فلا يكون ذلك إلاَّ على قراءةِ الأعمشِ فإنه مجزومٌ ، مع أنه يُحْتمل أن يكونَ اشتئنافَ نهي » قلت : يعني أنَّ الأعمشَ قرأ « لا يَحْطِمْكم » بجزم الميمِ ، دونَ نونِ توكيدٍ.
قال : وأمَّا مع وجودِ نونِ التوكيد فلا يجوزُ ذلك ، إلاَّ إنْ كان في شعرٍ ، وإذا لم يَجُزْ ذلك في جوابِ الشرطِ إلاَّ في الشعر فأحرى أَنْ لا يجوزَ في جوابِ الأمرِ إلاَّ في الشعرِ . وكونُه جوابُ الأمرِ متنازعٌ فيه على ما قُرِّرَ في علمِ النحوِ . ومثالُ مجِيءِ النونِ في جوابِ الشرطِ قولُ الشاعر :
3546 نَبَتُّمْ نباتَ الخَيْزُرانةِ في الثَّرَى . . . حديثاً متى يأتِك الخيرُ يَنْفَعا
وقول الآخر :
3547 فمهما تَشَأْ منه فَزارةُ تُعطِكُمْ . . . ومهما تَشَأْ منه فَزارةُ تَمْنعا
قال سيبويه : « وهو قليلٌ في الشعرِ شَبَّهوه بالنهيِ حيث كان مجزوماً غيرَ واجب » قال : « وأما تخريجُه على البدلِ فلا يجوزُ لأنَّ مدلولَ » لا يَحْطِمَنَّكم « مخالِفٌ لمدلولِ » ادْخُلوا « . وأمَّا قولُه لأنَّه بمعنى : لا تكونوا حيث أنتم فَيَحْطِمَنَّكم فتفسيرُ معنى لا إعراب/ والبدلُ من صفةِ الألفاظِ . نعم لو كان اللفظُ القرآنيُّ : لا تكونوا بحيث لا يَحْطِمَنَّكم لتُخُيِّلَ فيه البدلُ؛ لأنَّ الأمرَ بدخولِ المساكنِ نهيٌ عن كونِهم بظاهرِ الأرضِ . وأمَّا قوله : » إنه أراد لا يحْطِمَنَّكم جنودُ سليمان إلى آخرِه « فسوِّغُ زيادةَ الأسماءِ وهي لا تجوزُ ، بل الظاهرُ إسنادُ الحكمِ إلى سليمانَ وإلى جنودِه . وهو على حَذْفِ مضافٍ أي : خيلُ سليمانَ وجنودُه ، أو نحو ذلك ، مما يَصِحُّ تقديره » . انتهى.
أمَّا مَنْعُه كونَه جوابَ الأمرِ مِنْ أجلِ النون فقد سبقه إليه أبو البقاء فقال : « وهو ضعيفٌ؛ لأنَّ جوابَ الشرطِ لا يؤكَّدُ بالنونِ في الاختيار ».
وأمَّا مَنْعُهُ البدلَ بما ذَكَر فلا نُسَلِّم تغايُرَ المدلولِ بالنسبةِ لِما يَؤُول إليه المعنى . وأمَّا قوله : « فيُسَوِّغُ زيادةَ الأسماءِ » لم يُسَوِّغ ذلك ، وإنما فَسَّر المعنى . وعلى تقدير ذلك فقد قيل به . وجاء الخطابُ في قولها : « ادْخُلوا » كخطابِ العقلاء لَمَّا عُوْمِلوا معاملتَهم.
وقرأ أُبَيٌّ « ادْخُلْنَ » ، « مَساكِنَكُنَّ » ، « لا يَحْطِمَنْكُنَّ » بالنونِ الخفيفةِ جاءَ به على الأصل . وقرأ شهر بن حوشب « مَسْكَنَكُمْ » بالإِفراد . وقرأ حسن وأبو رجاء وقتادة وعيسى الهمداني بضمِّ الياءِ ، وفتحِ الحاءِ ، وتشديدِ الطاءِ والنونِ ، مضارعَ حَطَّمه بالتشديد . وعن الحسن أيضاً قراءاتان : فتحُ الياءُ وتشديدُ الطاءِ مع سكونِ الحاءِ وكسرِها . والأصل : لا يَحْتَطِمَنَّكم فأَدْغَم . وإسكانُ الحاءِ مُشْكِلٌ تقدَّم نظيرُه في « لا يَهِدِّي » ونحوِه . وقرأ ابن أبي إسحاقَ ويعقوبُ وأبو عمروٍ في روايةٍ بسكونِ نونِ التوكيدِ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/112)


إلَّا عَنْ شُكْرِ نِعْمَتِكَ ، أَي كُفني عما يباعِدُ مِنْكَ.
(وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20)
بفتح الياء وإِسْكانِها فِي مَالِيَ ، والفتحُ أَجْوَد ، وقد فسرنا ذلك.
وقوله (أَمْ كانَ مِنَ الغائبين) معناه بَلْ كان مِنَ الغائبين.
وجاء في التفسير أن سليمان - صلى الله عليه وسلم - تفقد الهُدْهُدَ لأنه كان مهندسَ الماء ، وكان سُلَيْمَانُ عليه السلام ، إذا نَزَلَ بفلاةٍ مِنَ الأرْضِ عرف مقدار مسافةِ الماء من الهُدْهُدِ.
وقيل إنّ الهُدْهدَ يرى الماء في الأرْضِ كما يُرى الماءُ في الزُّجَاجَةِ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21)
رُوِيَ أن عذاب سلَيمَانَ - كان للطير - أن ينتفَ ريش جناح الطائر
ويُلْقَى في الشَمْسِ.
(أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ).
أي ليأتِينيَ بحجةٍ في غَيْبَتِه.
* * *
وقوله : (فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22)
ويقرأ فَمَكُثَ بضم الكاف وفَتْحِها ، أي غَيْرَ وَقتٍ بَعِيد.
وقوله : (فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ).

(4/113)


المعنى فجاء الهُدْهُدُ فسأله سُلَيمَانُ عن غَيبته ، فقال أَحَطتُ بما
لم تُحِطْ بِه ، وحذف هذا لأن في الكلام دليلاً عليه ، ومعنى أَحَطْتُ
علمتُ شيئاً من جميع جهاته ، تقول : أحطتُ بهذا علماً ، أي علمتُه
كُلَّه لم يَبْقَ عليَّ منه شيء.
وقوله : (وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ).
يقرأ بالصرف والتنوين ، ويقرأ من سَبَأَ - بفتح سَبأَ وحَذْفِ
التنوين ، فأمَّا من لم يَصْرِف فيجعله اسم مَدِية ، وأما من صَرَف ، فذكر
قوم من النحويين أنه اسمُ رَجُل وَاحِدٍ ، وذكر آخرُونَ أن الاسم إذَا لم
يُدْرَ ما هُوَ لم يُصْرَف ، وأحد هذين القولين خطأ لأن " الأسماء حقهِا
الصرْفُ ، فإذا لم يعلم الاسم للمذكر هو أو للمؤنثِ فحقه الصرْفُ حَتَّى
يُعْلَمَ أنه لا ينصرف ، لأن أصل الأسماء الصرف ، وكل ما لا ينصرف فهو
يُصْرَفُ في الشعر.
وأما الذين قالوا إن سبأ اسم رجل فغلط أيضاً لأن
سبأ هي مدينة تعرف بمأرب مِنَ اليَمَنِ بينها وبين صَنْعَاءَ ثلاثَةُ أَيام.
قال الشاعر :
مَنْ سَبَأَ الحاضِرِينَ مَأْرِبَ إِذْ . . . يَبْنُونَ مِنْ دُونِ سَيْلِها العَرِما
فمن لم يصرف لأنه اسم مدينة ، ومن صرفه - والصرف فيه أَكثرَ
في القراءة - فلأنه يكون اسماً لِلْبَلَدِ فيكون مُذَكراً سُمِّيَ بِهِ مُذَكَّر فإن
صحت فيه رواية ، فإنما هو أن المدينة سميت باسم رَجُل .

(4/114)


وقوله : (إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23)
معناه وأوتيت من كل شيء تعطاه المُلُوكُ وَيؤتاهُ الناسُ ، والعَرْشُ
سَرِير عَظِيم.
* * *
وقوله : (أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25)
ويقرأ أَلَا يسجدوا ، فمن قرأ بالتشديد ، فالمعنى وزَيَّن لهم
الشيطان أَعْمَالَهُمْ فصدهم أَلَّا يسجدوا ، أي فَصَدهُمْ لِئَلا يَسْجُدُوا لله.
ومَوْضِع (أَنْ) نَصْبٌ بقوله فَصَدهُمْ ، ويجوز أن يكون مَوْضِعهَا جرًّا وَإنْ
حُذِفَتِ اللامُ.
ومن قرأ بالتخفيف فَـ ألَا لِابْتِدَاءِ الكلام والتنبيه ، والوقوف
عليه أَلَا يَا - ثم يستأنف فيقول : اسْجُدوا للَّهِ ، وَمَنْ قرأ بالتخفيف فهو
موضع سَجْدَةٍ من القرآن ومن قرأ آلَّا يَسجُدُوا - بالتشديد - فليس
بموضع سَجْدة ، ومثل قوله أَلاَ ياسْجُدوا بالتخفيف قول ذي الرُّمَّةِ.
أَلا يا أسْلَمِي يا دارَ مَيَّ عَلى البِلى . . . ولا زالَ مُنْهلاًّ بِجَرْعائكِ القَطْرُ
وقال الأخْطَلُ :
أَلا يَا اسْلَمِي يَا هِنْدُ هِنْدَ بَني بَدْرِ . . . تَحِيَّةَ مَنْ صَلَّى فُؤَادَكِ بالجَمْرِ
وقال العجاج

(4/115)


يا دارَ سَلْمَى يا اسْلَمِي ثم اسْلَمِي بسَمْسَمٍ أَو عن يمين سَمْسَمِ
وإنما أكثرنا الشاهد في هذا الحرف كما فعل من قبلَنَا ، وإنما
فعلوا ذلك لقلة اعتياد العَامَّةِ لدخول " يا " إلَّا في النِداء ، لا تَكادُ العامةُ
تقُول : يَا قَدْ قَدِم زَيْد ، ولا يا اذْهَبْ بِسَلام (1).
* * *
وقوله : (لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ).
كل ما خبأته فهو خبء ، وجاء في التفسير أن الخبء ههنا القَطْرُ
من السمَاءِ ، والنبات من الأرْضِ.
ويجوز وهو الوجه أَنْ يكون الخبء كل ما غاب ، فيكون المعنى يعلم الغيب في السَّمَاوَات والأرْضِ.
ودليل هذا قوله تعالى : (وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ).
* * *
وفي قوله تعالى : (اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28)
(أَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ) - خمسةُ أوْجه :
فاَلْقِهِي إليْهِم بإثبات الياء - وهو أكثر القراءة ، ويجوز فألْقِهِ -
إلَيْهِمْ بحذف الياء وإثبات الكسرة ، لأن أصله فألقيه إلَيْهِم.
فحذفت الياء للجزم ، أعني ياء ألقيه ، ويجوز فَاَلْقِهُو إليهم بإثبات الواو.
ويجوز فألقِهُ إليهم بالضمِّ ، وحُذِفَتِ الواو ، وقد قُرئ فألقِهْ إليهم
بإسكان الهاء ، فأمَّا إثبات الياء فهو أَجْوَدُها فألقهي ، فإن الياء التي
تسقط للجزم قَدْ سقطت قبل الهاء ، لأن الأصل فألقيه إليهم ، ومن
حذف الياء وترك الكسرة بعد الهاء فلأنَّهُ كان إذا أثبت الياء في قولك
أنا ألقيه إليهم كان الاختيار حذف الياء التي بعد الهاء.
وقد شرحنا ذلك في قوله (يُؤدِّه إِليك) شرحاً كافياً.
ومن قرأ (فألقِهو إليهم) ردَّه إلى أصله ، والأصل إثبات الواو مع هاء
الإِضمار . تقول ألقيتهو إليك.
ومعنى قولنا إِثبات الواو والياء أعني في اللفظ ووصل الكلام ، فإذا وقفت وقفت بهاء ، وإذا كتبت كَتَبْتَ
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { أَلاَّ يَسْجُدُواْ } : قرأ الكسائيُّ بتخفيف « ألا » ، والباقون بتشديدها . فأمَّا قراءةُ الكسائيِّ ف « ألا » فيها تنبيهٌ واستفتحاحٌ ، و « يا » بعدها حرفُ نداءٍ أو تنبيهٍ أيضاً على ما سيأتي و « اسْجُدوا » فعلُ أمرٍ . وكان حَقٌّ الخَطِّ على هذه القراءةِ أن يكونَ « يا اسْجُدوا » ، لكنَّ الصحابةَ أسقطُوا ألفَ « يا » وهمزةَ الوصلِ من « اسْجُدوا » خَطَّاً لَمَّا سَقَطا لفظاً ، ووَصَلُوا الياءَ بسين « اسْجُدوا » ، فصارَتْ صورتُه « يَسْجُدوا » كما ترى ، فاتَّحدت القراءتان لفظاً وخَطَّاً واختلفتا تقديراً.
واختلف النحويون في « يا » هذه : هل هي حرفُ تنبيهٍ أو للنداءِ ، والمنادى محذوفٌ تقديرُه : يا هؤلاءِ اسْجُدوا؟ وقد تقدَّم ذلك عند قولِه : { ياليتني } [ الآية : 73 ] في سورة النساء . والمرجَّحُ أَنْ تكونَ للتنبيهِ؛ لئلا يُؤَدِّيَ إلى حَذْفٍ كثيرٍ مِنْ غيرِ بقاءِ ما يَدُلُّ على المحذوفِ . ألا ترى أنَّ جملةَ النداءِ حُذِفَتْ ، فلو ادَّعَيْتَ حَذْفَ المنادى كَثُرَ الحذفُ ولم يَبْقَ معمولٌ يَدُلُّ على عامِلِهِ ، بخلافِ ما إذا جَعَْلتَها للتنبيهِ . ولكنْ عارَضَنَا هنا أنَّ قبلَها حرفَ تنبيهٍ آخرَ وهو « ألا » . وقد اعْتُذِرَ عن ذلك : بأنه جُمِع بينهما تأكيداً . وإذا كانوا قد جَمَعُوا بين حرفين عامِلَيْنِ للتأكيدِ كقوله :
3559 فَأَصْبَحْنَ لا يَسْألْنَنِي عَنْ بما به . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فغيرُ العامِلَيْن أولى . وأيضاً فقد جَمَعُوا بين حَرْفَيْنِ عامِلَيْنِ مُتَّحِدَّيْ اللفظِ والمعنى ، كقوله :
3560 فلا واللهِ لا يلفى لِما بي . . . ولا لِلِما بهم أبداً دَواءُ
فهذا أَوْلَى . وقد كَثُرَ مباشرةُ « يا » لفعلِ الأمرِ وقبلَها « ألا » التي للاستفتاح كقوله :
3561 ألا يا اسْلَمِي ثُمَّ اسْلمي ثُمَّتَ اسْلَمي . . . ثلاثَ تحيَّاتٍ وإنْ لَمْ تَكَلَّمي
وقوله :
3562 ألا يا اسْلَمِي يا دارَ مَيَّ على البِلى . . . ولا زالَ مُنْهَلاًّ بجَرْعائِكِ القَطْرُ
وقوله :
3563 ألا يا اسلمي ذاتَ الدَّماليجِ والعِقْدِ . . . وذَاتَ اللِّثاثِ الجُمِّ والفاحِمِ الجَعْدِ
وقوله :
364 ألا يا اسْلمي يا هندُ هندَ بني بدرٍ . . . وإن كان حَيَّانا عِداً آخرَ الدهرِ
وقوله :
3565 ألا يا اسْقِياني قبلَ حَبْلِ أبي بكرِ . . . لعل منايانا قَرُبْنَ ولا نَدْري
وقوله :
3566 ألا يا اسْقِياني قبلَ غارةِ سِنْجالِ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقوله :
3567 فقالَتْ ألا يا اسْمَعْ أَعِظْكَ لخُطْبةٍ . . . فقلتُ : سَمِعْنا فانْطِقي وأَصِيْبي
وقد جاءَ ذلك ، وإنْ لم يكنْ قبلَها « ألا » كقوله :
3568 يا دارَ هندٍ يا اسْلَمي ثُمَّ اسْلَمي . . . بِسَمْسَِمٍ أو عَنْ يمين سَمْسَِمِ
فقد عَرَفْتَ أنَّ قراءةَ الكسائيِّ قويةٌ لكثرةِ دَوْرِها في لغتهم.
وقد سُمع ذلك في النثر ، سُمِع بعضُهم يقول : ألا يا ارحموني ، ألا يا تَصَدَّقوا علينا . وأمَّا قولُ الأخرِ :
3569 يا لعنةَ اللهِ والأقوامِ كلِّهمُ . . . والصالحينَ على سَمْعانَ مِنْ جارِ
فيُحتمل أَنْ تكونَ يا للنداء ، والمنادى محذوف ، وأَنْ تكونَ للتنبيهِ وهو الأرجحُ لِما مَرَّ.
واعلمْ أن الكسائيَّ الوقفُ عنده على « يَهْتَدون » تامٌّ.
وله أن يَقِفَ على « ألا يا » معاً ويَبْتَدىءَ « اسْجُدوا » بهمزة مضمومةٍ ، وله أَنْ يقفَ على « ألا » وحدَها ، وعلى « يا » وحدَها؛ لأنهما حرفان منفصِلان . وهذان الوقفان وقفا اختبارٍ لا اختيارٍ؛ لأنهما حرفان لا يَتِمُّ معناهما ، إلاَّ بما يتصلان به ، وإنما فعله القراءُ امتحاناً وبياناً . فهذا توجيهُ قراءةِ الكسائيِّ ، والخطبُ فيها سَهْلٌ.
وأما قراءةُ الباقين فتحتاج إلى إمعانِ نَظَرٍ . وفيه أوجهٌ كثيرةٌ ، أحدها : أنَّ « ألاَّ » أصلُها : أَنْ لا ، ف « أنْ » ناصبةٌ للفعلِ بعدَها؛ ولذلك سَقَطَتْ نونُ الرفعِ ، و « لا » بعدها حَرفُ نفيٍ . و « أنْ » وما بعدها في موضع مفعولِ « يَهْتَدون » على إسقاطِ الخافضِ ، أي : إلى أن/ لا يَسْجُدوا . و « لا » مزيدةٌ كزيادتِها في { لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب } [ الحديد : 29 ] . الثاني : أنه بدلٌ مِنْ « أعمالَهم » وما بينهما اعتراضٌ تقديرُه : وزَيَّن لهم الشيطانُ عدمَ السجودِ لله . الثالث : أنه بدلٌ من « السبيل » على زيادةِ « لا » أيضاً . والتقديرُ : فصَدَّهم عن السجودِ لله تعالى . الرابع : أنَّ { أَلاَّ يَسْجُدُواْ } مفعول له . وفي متعلَّقه وجهان ، أحدهما : أنه زَيَّن أي : زَيَّن لهم لأجلِ أَنْ لا يَسْجدُوا . والثاني : أنَّه متعلِّقٌ ب « صَدَّهم » أي : صَدَّهم لأجلِ أَنْ لا يَسْجُدوا . وفي « لا » حينئذٍ وجهان ، أحدهما : أنه ليسَتْ مزيدةً ، بل نافيةٌ على معناها من النفي . والثاني : أنها مزيدةٌ والمعنى : وزَيَّن لهم لأجلِ توقُّعِه سُجودَهم ، أو لأجْلِ خَوْفِه مِنْ سُجودِهم . وعدمُ الزيادةِ أظهرُ.
الخامس : أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ . وهذا المبتدأُ : إمَّا أَنْ يُقَدَّرَ ضميراً عائداً على « أعمالَهم » التقديرُ : هي أن لا يَسْجدوا ، فتكون « لا » على بابِها من النفي ، وإمَّا أن يُقَدَّرَ ضميراً عائداً على « السبيل » . التقديرُ : هو أَنْ لا يَسْجُدوا فتكون « لا » مزيدةً على ما تقدَّم ليَصِحَّ المعنى.
وعلى الأوجهِ الأربعةِ المتقدمةِ لا يجوزُ الوقفُ على « يَهْتدون » لأنَّ ما بعدَه : إمَّا معمولٌ له أو لِما قبلَه مِنْ « زَيَّن » و « صَدَّ » ، أو بدلٌ مِمَّا قبله أيضاً مِنْ « أعمالَهم » أو من « السبيل » على ما قُرِّر وحُرِّرَ ، بخلافِ الوجهِ الخامسِ فإنه مبنيٌّ على مبتدأ مضمرٍ ، وإن كان ذلك الضمير مُفَسَّراً بما سَبَقَ قبلَه.
وقد كُتِبَتْ « ألاَّ » موصولةً غيرَ مفصولةٍ ، فلم تُكْتَبْ « أنْ » منفصِلةً مِنْ « لا » فمِنْ ثَمَّ امتنعَ أَنْ يُوْقَفَ لهؤلاء في الابتلاء والامتحان على « أنْ » وحدَها لاتِّصالِها ب « لا » في الكتابةِ ، بل يُوْقَفُ لهم على « ألاَّ » بجملتِها ، كذا قال القُراء.
والنحويون متى سُئِلوا عن مثلِ ذلك وَقَفُوا لأجلِ البيانِ على كلِّ كلمةٍ على حِدَتِها لضرورة البيانِ ، وكونُها كُتِبَتْ متصلةً ب « لا » غيرُ مانعٍ من ذلك . ثم قولُ القُرَّاءِ كُتِبَتْ متصلةً فيه تجوُّزٌ وتَسامُحٌ؛ لأنَّ حقيقةَ هذا أَنْ يُثْبِتُوا صورةَ نونٍ ويَصِلُونها ب « لا » ، فيكتبونها : أَنْلا ، ولكن لَمَّا أُدْغِمَتْ فيما بعدَها لفظاً وذَهَبَ لفظُها إلى لفظِ ما بعدَها ، قالوا ذلك تسامحاً.
وقد رتَّب أبو إسحاق على القراءتين حُكماً : وهو وجوبُ سجودِ التلاوةِ وعَدَمُه؛ فأوجبه مع قراءةِ الكسائيِّ وكأنه لأجلِ الأمرِ به ، ولم يُوْجِبْه في قراءة الباقين لعدمِ وجودِ الأمرِ فيها . إلاَّ أنَّ الزمخشريَّ لم يَرْتَضِه منه فإنه قال : « فإنْ قلتَ : أسَجْدَةُ التلاوةِ واجبةٌ في القراءتين جميعاً أو في واحدةٍ فيهما؟ قلت : هي واجبةٌ فيهما ، وإحدى القراءتين أمرٌ بالسجودِ ، والأخرى ذَمٌّ للتارك » . فما ذكره الزجاج مِنْ وجوبِ السجدةِ مع التخفيفِ دونَ التشديدِ فغيرُ مرجوعٍ إليه.
قلت : وكأنَّ الزجاجَ أخذ بظاهرِ الأمرِ ، وظاهرُه الوجوبُ ، وهذا لو خُلِّيْنا والآيةَ لكان السجودُ واجباً ، ولكنْ دَلَّتِ السُّنَّةُ على استحبابِه دونَ وجوبِه ، على أنَّا نقول : هذا مبنيٌّ على نظرٍ آخر : وهو أنَّ هذا الأمرَ من كلامِ اللهِ تعالى ، أو من كلامِ الهُدْهُدِ محكيًّا عنه . فإنْ كان مِنْ كلامِ اللهِ تعالى فيُقال : يَقْتضي الوجوبَ ، إلاَّ أَنْ يجيْءَ دليلٌ يَصْرِفُه عن ظاهرِه ، وإنْ كان من كلامِ الهُدْهد وهو الظاهرُ ففي انتهاضِه دليلاً نظرٌ لا يخفى.
وقرأ الأعمشُ « هَلاَّ » ، و « هَلا » بقلب الهمزة هاءً مع تشديدِ « لا » وتخفيفها وكذا هي في مصحفِ عبد الله . وقرأ عبدُ الله « تَسْجُدون » بتاء الخطابِ ونونِ الرفع . وقُرِىءَ كذلك بالياءِ مِنْ تحتُ . فمَنْ أَثْبَتَ نونَ الرفعِ فألا بالتشديدِ أو التخفيفِ للتحضيضِ ، وقد تكونُ المخففةُ للعَرْضِ أيضاً نحو : « ألا تَنْزِل عندنا نتحدَّث » وفي حرف عبدِ الله أيضاً : « ألا هَلْ تَسْجدُون » بالخطاب . اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/116)


بهاء . ومن قرأ بحذف الواو وإثبَاتِ الضمةِ فذلك مثل حذف الياء
وإثبات الكسرة ، ومَنْ أَسْكَنَ الهاءَ فغالط ، لأن لهاء ليست بمجزومة
ولها وَجْه من القِياس ، وهو أنه يُجْري الهاء في الوصل على حالها
في الوقف ، وأكثر ما يقع هذا في الشعر أن تحذف هذه الهاء وتبقي
كسرة (1).
قال الشاعر :
فإنْ يَك غثاً أوسميناً فَإنَني . . . سأجعل عينيه لِنَفْسِهْ مَقْنَعاً
وقوله تعالى : (ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ)
فيه قولان :
قال بعضهم : كل هناه التقديم والتأخير ، معناه اذهب
بِكِتَابي هذا فألقه إليهم فانظر مَاذَا يَرْجِعونَ ثم تول عنهم ، وقال هذا
لأنَّ رجوعَه من عندهم والتولي عنهم بعد أن ينظر ما الجواب.
وهذا حسن ، والتقديم والتأخير كثير في الكلام ، وقالوا معنى (ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ)
تول عنهم مسْتَتِراً من حَيْث لا يَرَوْنَكَ ، فانظر ماذا يردونَ مِنَ الجواب.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29)
فمضى الهدهد فألقى الكتاب إليهم فسمِعَها تَقول : (يَا أيها الملأ)
فحذف . هذا لأن في الكلام دليلًا عليه.
ومعنى (كِتَابٌ كَرِيمٌ) حَسَن ما فيه ، ثم بَيَّنَتْ ما فيه فَقَالَتْ :
(إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31)
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { فَأَلْقِهْ } قرأ أبو عمرو وحمزةُ وأبو بكر بإسكان الهاء ، وقالون بكسرها فقط من غيرِ صلةٍ بلا خلافٍ عنه . وهشام عنه وجهان بالقصرِ والصلةِ . والباقون بالصلة بلا خلاف . وقد تقدَّم توجيهُ ذلك كلَّه في آل عمران والنساء وغيرِهما عند { يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ } [ آل عمران : 75 ] و { نُوَلِّهِ مَا تولى } [ النساء : 115 ] . وقرأ مسلم بن جندب بضمِّ الهاءِ موصولةً بواوِ : « فَأَلْقِهُوْ إليهم » وقد تقدَّم أنَّ الضمَّ الأصلُ.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/117)


فهذا ما كان في الكتاب ، وكُتُبُ الأنبياءِ صَلَواتُ اللَّهِ عليهم
جارية عَلَى الِإيجاز والاختصار ، وقد رُوِيَ أن الكتاب كان من عبد اللَّه
سُلَيمانَ إلى بلْقيس بنت سراحيل ، وإنما كتب الناس من عبد اللَّه
احتذاء بسُلَيْمَانَ.
ومعنى (أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ) ألا تَترفَعُوا عليَّ وإنْ كُنْتُم مُلُوكاً.
* * *
وقوله : (قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32)
أَي بَيِّنُوا لي ما أَعمَل ، والملأ وجُوهُ القَوْمِ ، الذين هم مُلَاء بِمَا
يحتاج إلَيْهِ.
* * *
(قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33)
ويروى أنه كان مَعَها ألف قِيل والقَيْلُ الملِك ، ومع كل قيل أَلْفُ
رَجُل ، وقيل مائة ألف رجل ، وأكثر الرواية مائة ألف رجل.
وقوله : (حَتى تَشْهَدُونِ).
بكسر النُونِ ، ولا يجوز فتح النون لأن أصله حتى (تشهدونَنِي)
فَحُذِفَتْ النون الأولى للنَّصْبِ وبقيت النونُ والياء للاسم ، وحُذِفَت الياءُ
لأنَّ الكسرةَ تدل عليها ، ولأنه آخر آية ، وَمَنْ فتح النون فَلَاحِنٌ ، لأنَّ
النونَ إذا فتحت فهي نون الرفع ، وليس هذا من التي ترفع فيه حَتى.
ويجوز أنه مِنْ سُلَيْمان وأنه بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، بفتح الألف
فيكون موضع أن الرفع على معنى : أُلْقِي إليَّ أنه من سُلَيمَانَ.
ويجوز أن تكون (أن) في مَوْضع نَصْبِ على معنى كتاب كريم لأنه من سُلَيْمان
ولأنهُ بسم اللَّه الرحمن الرحيم.
فأمَّا (أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ) فيجوز أن يكون أنْ فِي مَوْضِع رَفْعٍ وفي موضع نَصْب ، فالنصب على معنى كِتَاب

(4/118)


بِأنْ لَا تَعْلُوا عليً أي كتب بترك العُلُو ، ويجوز على مَعْنى : ألقِيَ إليَّ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ ، وفيها وجه آخر حَسَنٌ على معنى قال لا تَعْلُوا عَلَيَّ.
وفسر سيبويه والخليل " أنَّ " أَنْ ، في هذا الموضع في تأويل أي ، على معنى أي لاَ تعلوا عَلَيَّ ، ومثله من كتاب الله عزَّ وجلَّ :
(وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا)
وتأويل أي ههنا تأويل القول والتفسير ، كما تقول فعل فلان
كذا وكذا ، أي إِنَي جوادٌ كاَنَكَ قُلْتَ : يقول إني جوادٌ (1).
* * *
وقوله : (قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34)
مَعْنَاه إذا دخلوها عَنْوة عن قتال وغلبة.
(وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ).
هو من قول اللَّه عزَّ وجلَّ - واللَّه أعلم - لأنها هي قد ذكرت أنَّهم
يُفْسِدُونَ فليس في تكرير هذا مِنْهَا فائدة.
* * *
وقوله : (وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35)
جاء في التفسير أنها أهْدَت سليمان لَبِنَةً ذَهَبٍ في حَرِيرٍ ، وقيل
لَبِنُ ذَهِبٍ في حرير.
فأمر سليمانُ بِلِبنَةِ ذهب فطرحت تحت الدَّوابِّ ، حيث تبول عليها الدَّوابُّ وتَرُوثُ ، فَصَغرَ في أَعْينهم ما جاءوا به إلى سليمان ، وقد ذُكِر أن الهَدِيَّة قَدْ كَانَتْ غيرَ هَذَا ، إلا أَن قولَ سُلَيْمَانَ : (أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ) مما يدل على أن الهديَّة كانت مالاً.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ).
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { أَلاَّ تَعْلُواْ } : فيه أوجهٌ ، أحدُها : أنَّ « أنْ » مفسِّرةٌ ، كما تقدَّمَ في أحد الأوجهِ في « أنْ » قبلَها في قراءةِ عكرمة ، ولم يذكُرْ الزمخشريُّ غيرَه . وهو وجهٌ حسنٌ لِما في ذلك من المشاكلةِ : وهو عطفُ الأمرِ عليه وهو قولُه « وَأْتُوْني » . والثاني : أنها مصدرية في محلِّ رفعٍ بدلاً مِنْ « كتاب » كأنه قيل : أُلْقِيَ إليَّ : أَنْ لا تَعْلُوا عليَّ . والثالث : أنها في موضعِ رفعٍ على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ أي : هو أَنْ لا تَعْلُوا . والرابع : أنَّها على إسقاطِ الخافضِ أي : بأَنْ لا تَعْلُوا ، فيجيْءُ في موضِعها القولان المشهوران . والظاهر أنَّ « لا » في/ هذه الأوجهِ الثلاثة للنهيِ . وقد تقدَّم أنَّ « أَنْ » المصدريةَ تُوْصَلُ بالمتصرفِ مطلقاً . وقال الشيخ : « وأَنْ في قولِه : » أن لا تَعْلُوا عليَّ « في موضع رفعٍ على البدلِ من » كتاب « . وقيل : في موضعِ نصبٍ على [ معنى ] : بأن لا تَعْلُوا . وعلى هذين التقديرين تكون » أنْ « ناصبةً للفعل » . قلت : وظاهرُ هذا أنها نافيةٌ؛ إذ لا يُتَصَوَّرُ أَنْ تكونَ ناهيةً بعد « أَنْ » الناصبةِ للمضارع . ويؤيِّد هذا ما حكاه عن الزمخشريِّ فإنه قال : « وقال الزمخشريُّ : وأنْ في » أَنْ لا تَعْلُوا « مفسرةٌ » قال : « فعلى هذه تكون » لا « في » لا تَعْلُوا « للنهي ، وهو حسنٌ لمشاكلة عطفِ الأمرِ عليه » . فقوله : « فعلى هذا » إلى آخره صريحٌ أنها على غيرِ هذا يعني الوجهين المتقدمين ليست للنهي فيهما . ثم القولُ بأنَّها للنفيِ لا يَظْهَرُ؛ إذ يصيرُ المعنى على الإِخبارِ منه عليه السلامُ بأنهم لا يَعْلُون عليه ، وليس هذا مقصوداً ، وإنما المقصودُ أَنْ يَنْهاهُمْ عن ذلك.
وقرأ ابن عباس والعقيلي « تَغْلُوا » بالغين مُعْجمةً من الغُلُوِّ وهو مجاوَزَةُ الحَدِّ.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/119)


حروف الجر مع " مَا " في الاستفهام تحذف مَعَها الألفِ من " مَا "
لأنهُمَا كالشَيءِ الواحِدِ ، وليُفْصَلَ بينَ الخبر والاستفهام ؛ تقولُ : قَدْ
رَغِبْتُ فيما عندك ، فَتَثْبُتُ الألف ، وتقول : فيم نظرت يا هذا فتحذف
الألف.
* * *
(فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36)
معناه فلما جاء رَسُولُها سُلَيْمَانَ ، ويجوز أن يكون فلَما جَاءَ
بِرُّهَا سُلَيْمَانَ إلا أَنَّ قوله : (ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37)
مخاطبة للرسُول.
وقوله تعالى : (لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا).
معناه لا يَقْدُرُونَ على مُقَاوَمَةِ جُنُودِهَا.
* * *
وقوله : (قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ
(38)
أي بسريرها.
(قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ).
أحب سليمانُ - صلى الله عليه وسلم - أن يأخُذَ السَّرِيرَ مِنْ حيثُ يَجُوز أخْذُهُ ، لأنهم لَوْ أَتوا مُسْلِمِين لَمْ يَجُزْ أَخْذُ مَا في أيديهم ، وجائز أن يكون أرادَ سُلَيْمَانُ إِظهار آيةٍ مُعْجِزَةٍ في تصيير العَرْشِ إليْهِ في تلك الساعَةِ لأنها مِنَ
الآيَاتِ المعجزات.
* * *
(قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39)
والعفريت النافِذُ في الأمْرِ المبالغُ فيه مع خُبثٍ وَدَهَاءٍ.
يقال : رَجُل عِفْرٌ وَعِفْرِيت ، وعِفْرِيَة نِفْرية ، وَنُفارِيَّة ، في معنى وَاحدٌ.
(أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ).

(4/120)


أي مقدار جُلُوسِكَ الَّذِي تَجْلِسُه مع أصحابك ، وقيل قَبْلَ أَنْ
تقومَ من مَجْلِسِك لحكْمِ.
* * *
وقوله : (قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)
ويقال إنَّه آصف بن بَرَحْيَا.
(أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ).
أي بمقدار ما يبلغ البالغ إلى نهاية نظرك ثم يَعودَ إلَيْكَ.
وقيلَ في مِقْدارِ ما تفتح عَيْنَكَ ثُمَّ تطرِف ، وهذا أشبه بارتِدَادِ الطرف ، ومثله
من الكلام : فعل ذلك في لحظة عَيْنٍ ، أي فِي مِقْدَارِ ما نظر نظرة
واحِدةً.
ويقال في التفسير إنهُ دَعَا باسْمِ الله الأعْظم ، الذي إذا دُعِيَ به
أَجَابَ ، وقيل إنه : يا ذا الجلال والِإكرام ، وقيل إِنَه يَا إِلهَنَا وإله
الخلق جَميعاً إلهاً وَاحِداً لا إله إلَّا أَنْتَ ، فذكر هذَا الاسْمَ ثم قال ائت
بِعَرْشِها ، فَلَمَّا استَتَمَّ ذَلِكَ ظهر السرير بين يَدَيْ سُليْمَانَ.
* * *
وقوله : (قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41)
الجزم في (نَنْظُرْ) الوجه وعليْهِ القِرَاءَةُ ، ويجوز (نَنْظُرُ) بالرفْعِ فمن
جزم فلجواب الأمْرِ ، ومن رفع فعلى معنى فسَننظُر.
وقوله (أَتَهْتَدِي) معناه أَتَهْتدي لِمَعْرِفته أَمْ لَا.
* * *
وقوله : (فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42)
(قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ).
ولم تقلْ إنه عَرْشُها ، ولَا قَالَتْ : ليس هو بِعرْشِها ، شَبَّهَتْه بِهِ لأنهُ
مُنَكَّرٌ ، يُرْوَى أنَه جُعِلَ أَسْفَلهُ أَعْلَاه .

(4/121)


وقوله : (وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ (43)
أي صدَّها عن الإيمانِ العادَةُ التِي كَانَت عَلَيْها ، لأنها نَشَأتْ
ولم تعرف إلا قوماً يعبدون الشَمْسَ ، فَصَدَّتها العَادَةُ ، وَبَيَّنَ عادَتَها
بقوله : (إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ).
ويجوز أنها كَانَتْ من قوم كافرين فيكون المعنى صَدَّها كَونها من
قوم كافِرِينَ ويكون مبيناً عن قوله عَز وَجَل : (مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ).
* * *
وقوله : (قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44)
والصَّرْحُ : في اللغَةِ القَصْرُ ، والصَّحْنُ ، يقال هذه سَاحَةُ الدار
وصحنة الدار وباحة الدار وقاعَةُ الدار وَقَارِعَة الدارِ.
هذا كله في معنى الصَّحْنِ.
وقوله : (فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً).
أي حَسِبَتْهُ ماءً ، وكان قد عُمِلَ لِسُلَيْمَانَ صَحْن من قَوارِير
وَتَحْتَه الماء والسَّمَكُ ، فظنتْ أنَّه ماء فكشفت عن سَاقَيْهَا.
وذاك أن الجنَّ عابوا عِنْدَه ساقيها ورِجْلَيها وذكروا أن رجْليْها كحافِر الحِمَارِ
فتبين أمرَ رِجْلَيها (1).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45)
__________
(1) من الإسرائيليات المنكرة التي يتنزه عنها آحاد المتقين فكيف بنبي كريم أثنى الله عليه بفقوله (وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) . . !!؟؟؟=

 مجلد 6. معاني القرآن وإعرابه - للزَّجَّاج
المؤلف : أبو إسحاق إبراهيم السَّرِي بن سَهل " المعروف بـ الزَّجَّاج " (المتوفي 311 هـ)


أي فإذَا قَوْمُ صَالِح فريقان مؤمن وكافِرٌ يختصمون فيقولَ كل
فريقٍ مِنْهُم الحَق مَعِي ، وطلبت الفرقَةُ الكَافِرَة على تصديق صالح
العذابَ ، فقال : (قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46)
أي لم قُلْتُم إن كان ما أتَيتَ به حَقا فأتنا بِالعَذَابِ.
(لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ).
أي هَلَّا تَستغفرون اللَّه.
* * *
قوله : (قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47)
الأصل تطيرْنا فأدغمت التاء في الطاء ، واجتلبت الألف لسكون
الطاء ، فإذا ابتدأت قُلْتَ اطيرْنا بِكَ ، وإذا وصلت لَمْ تُذْكِرْ الألِفُ.
وتسقط لأنها ألف وَصْل.
(قَال طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ).
أي ما أصابكم من خَيْرٍ أوشَرٍّ فمن اللَّه.
(بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ).
أي : تختبرون ، ويجوز تُفْتَنُون من الفِتْنَةِ ، أي تطيركم فِتْنَةٌ.
* * *
(وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48)
هؤلاء عتاة قَوْمِ صَالح.
* * *
(قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49)
وتجوز لَتُبَيِّتُنَّهُ ، ويجوز لَيُبَيِّتُنَّهُ وَأَهْلَهُ بالياء ، فيها ثَلَاثَة أَوْجُهٍ (1).
فمن قرأ بالنون قرأ " ثم لَنَقُولَنَّ " لِوَلِيِّهِ ، ممن قرأ (لَتُبَيِّتُنَّهُ) بالتاء قرأ " ثُمَّ
لَتَقولُنَ " ومن قرأ " لَيُبَيِّتُنَّهُ " بالياء قرأ " ثم لَيَقُولُنَّ " لِوَليِّه.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { لَنُبَيِّتَنَّهُ } قرأ الأخَوان بتاءِ الخطابِ المضمومةِ وضمِّ التاءِ ، والباقون بنونِ المتكلِّمِ وفتحِ التاءِ . » ثم لَنَقولَنَّ « قرأه الأخَوان بتاءِ الخطابِ المفتوحةِ وضمِّ اللامِ . والباقون بنونِ المتكلمِ وفتحِ اللامِ.
ومجاهد وابن وثاب والأعمش كقراءة الأخَوَيْن ، إلاَّ أنه بياءٍ الغَيْبة في الفعلين . وحميد ابن قيس كهذه القراءةِ في الأولِ وكقراءةِ غير الأخوين من السبعةِ في الثاني.
فأمَّا قراءةُ الأخَوَيْن : فإنْ جَعَلْنا « تقاسَمُوا » فعلَ أمرٍ فالخطابُ واضحٌ رجوعاً بآخرِ الكلامِ إلى أولِه . وإنْ جَعَلْناه ماضياً فالخطابُ على حكايةِ خطابِ بعضِهم لبعضٍ بذلك . وأمَّا قراءةُ بقيةِ السبعةِ : فإنْ جَعَلْناه ماضياً أو أمراً ، فالأمرُ فيها واضحٌ وهو حكايةُ/ أخبارِهم عن أنفسِهم . وأمَّا قراءةُ الغَيْبَةِ فيهما فظاهرةٌ على أن يكونَ « تَقاسَمُوا » ماضياً رُجُوعاً بآخرِ الكلامِ على أولِه في الغَيْبَةِ . وإنْ جَعَلْناه أمراً كان « لَنُبيِّتَنَّه » جواباً لسؤالٍ مقدرٍ كأنه قيل : كيف تقاسَمُوا؟ فقيل : لنبيِّتَنه . وأمَّا غيبةُ الأولِ والتكلمُ في الثاني فتعليلُه مأخوذٌ مِمَّا تقدَم في تعليلِ القراءتين.
قال الزمخشري : « وقُرِىءَ » لَنُبيِّتَنَّه « بالياء والتاء والنون . فتقاسَموا مع التاءِ والنونِ يَصِحُّ فيه الوجهان » يعني يَصِحُّ في « تقاسَمُوا » أن يكونَ أمراً ، وأَنْ يكونَ خبراً قال : « ومع الياء لا يَصِحُّ إلاَّ أَنْ يكونَ خبراً » . قلت : وليس كذلك لِما تقدَّم : مِنْ أنَّه يكونُ أمراً ، وتكون الغيْبَةُ فيما بعده جواباً لسؤالٍ مقدرٍ . وقد تابع الزمخشريَّ أبو البقاء على ذلك فقال : « تقاسَمُوا » فيه وجهان ، أحدهما : هو أمرٌ أي : أمَرَ بعضُهم بذلك بعضاً . فعلى هذا يجوزُ في « لَنُبَيِّتَنَّه » النونُ تقديرُه : قولوا : لَنُبَيِّتَنَّهُ ، والتاءُ على خطابِ الآمرِ المأمورَ . ولا يجوزُ الياء . والثاني : هو فعل ماضٍ . وعلى هذا يجوز الأوجهُ الثلاثةُ يعني بالأوجه : النونَ والتاءَ والياءَ . قال : « وهو على هذا تفسيرٌ » أي : تقاسَمُوا على كونِه ماضياً : مُفَسِّرٌ لنفسِ « قالوا » . وقد سبقَهما إلى ذلك مكيٌّ . وقد تقدَّم توجيهُ ما منعوه ولله الحمدُ والمِنَّة . وتنزيلُ هذه الأوجه بعضِها على بعضٍ مما يَصْعُبُ استخراجُه مِنْ كلام القوم ، وإنما رَتَّبْتُه من أقوالٍ شَتَّى . وتقدَّم الكلامُ في { مَهْلِكَ أَهْلِهِ } في النمل. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/123)


فمن قرأ بالنون فكأنهم قالوا : احْلِفُوا لَنُبَيتنه وأهلَه ، ومن قرأ
بالتاء فكأنَّهم قالوا احلفوا لتبيتنه ، فكأنه أخرج نفسه في اللفظ.
والنون أَجْوَدُ في القراءة ، ويجوز أن يكون قد أدْخل نفسه في التاء لأنه
إذَا قَالَ تَقَاسَمُوا ، فقد قال تحالفوا ولا يخرج نفسه من التحالف ، ومن
قرأ قالوا تقاسموا باللَّه ليبيتُنَّه ، فالمعنى قالوا ليُبَيتُنه متقاسمين ، فكان
هؤلاء النفر تحالَفُوا أَن يُبَيتُوا صالحا وَيَقْتُلوه وأهله في بَيَاتِهِمْ ، ثم
ينكرون عند أولياء صالح أنهم شَهِدُوا مَهْلِكَهُ وَمَهلِكَ أهلِه ، ويحلفون
أنهم لصادقون . فهذا مَكر عزموا عَلَيه.
* * *
قال اللَّه - عزَّ وجلَّ : (وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50)
فمضوا لِبُغْيِتهِمْ فأرسل اللَّهُ عليهم صَخْرةً فدَمَغَتْهُمْ ، وأرسل
على باقي قومهم مَا قَتَلَهُمْ بِهِ.
* * *
وقوله : (فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ
(51)
يقرأ (إنَّا دَمَّرْنَاهُمْ) - بكسر إن وبفتحها - (1) فمن قرأ بِالكسر رفع
العَاقِبة لا غير ، المعنى فانظر أي شيء كان عاقبة مَكْرِهم ، ثم فَسَّرَها
فقال : إنَّا دَمَّرْنَاهُمْ ، فدل على أن العاقبة الدمَارُ.
ومن قرأ (أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ) - بالفتح - رفع العاقبة وإِنْ شاء نَصَبَها ، والرفعُ أَجْوَدُ على معنى فانظر كيف كان عاقبةُ أَمْرِهِمْ ، وأضمر العَاقِبَةَ.
أَنا دَمَرْنَاهُمْ . فيكون (أنَّا) في موضع رَفْعٍ عَلَى هذا التفسير ، ويجوز أن تكون أنا في موضع نَصْبٍ ، على معنى فانظر كيف كان عاقبة مكرهم لأنَّا دَمَّرناهم ، ويجوز أن
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ } : قرأ الكوفيون بالفتح . والباقون بالكسر . فالفتح من أوجهٍ ، أحدُها : أَنْ يكونَ على حَذْفِ حرفِ الجرِّ؛ أي : لأَنَّا دَمَّرْناهم . و « كان » تامةٌ و « عاقبةٌ » فاعلٌ بها ، و « كيفِ » حالٌ . الثاني : أَنْ يكونَ بدلاً من « عاقبة » أي : كيف كان تدميرُنا إيَّاهم بمعنى : كيف حَدَثَ . الثالث : أَنْ يكونَ خبرَ مبتدأ محذوفٍ أي : هي أنَّا دَمَّرْناهم أي : العاقبةُ تدميرُنا إياهم . ويجوزُ مع هذه الأوجهِ الثلاثةِ أَنْ تكونَ « كان » ناقصةً ، وتُجْعَلَ « كيف » خبرَها ، فتصيرَ الأوجهُ ستةً : ثلاثةً مع تمام « كان » وثلاثةً مع نُقْصانها . ويُزاد مع الناقصة وجهٌ أخر : وهو أَنْ تُجْعَلَ « عاقبة » اسمَها و « أنَّا دَمْرناهم » خبرَها و « كيف » حالٌ . فهذه سبعةُ أوجهٍ.
والثامن : أَنْ تكونَ « كان » « زائدةً ، و » عاقبة « مبتدأٌ ، وخبرُه » كيف « و » أنَّا دَمَّرْناهم « بدلٌ مِنْ » عاقبة « أو خبرُ مبتدأ مضمرٍ . وفيه تَعَسُّفٌ . التاسع : أنها على حَذْفِ الجارِّ أيضاً ، إلاَّ أنه الباءُ أي : بأنَّا دمَّرْناهم ، ذكره أبو البقاء . وليس بالقويِّ . العاشر : أنها بدل مِنْ » كيف « وهذا وَهْمٌ من قائِله لأنَّ المبدل من اسمِ الاستفهام يَلْزَمُ معه إعادةُ حرفِ الاستفهامِ نحو : » كم مالكُ أعشرون أم ثلاثون «؟ وقال مكي : » ويجوز في الكلام نصبُ « عاقبة » ، ويُجْعَلُ « أنَّا دمَّرْناهم » اسمَ كان « انتهى . بل كان هذا هو الأرجحَ ، كما كان النصبُ في قولِه » فما كان جوابَ قومه إلاَّ أَنْ قالوا « ونحوِه أرجحَ لِما تقدَّم مِنْ شَبَهِهِ بالمضمرِ لتأويلِه بالمصدرِ ، وقد تقدَّم تحقيقُ هذا.
وقرأ أُبَيٌّ » أَنْ دَمَّرْناهم « وهي أَنْ المصدريةُ التي يجوزُ أَنْ تَنْصِبَ المضارعَ ، والكلامُ فيها كالكلامِ على » أنَّا دَمَّرْناهم « . وأمَّا قراءةُ الباقين فعلى الاستئنافِ ، وهو تفسيرٌ للعاقبةِ . و » كان « يجوز فيها التمامُ والنقصانُ والزيادةُ . وكيف وما في حَيِّزها في محلِّ نصب على إسقاطِ الخافض ، لأنه مُعَلِّق للنظرِ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/124)


تكون (أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ) خَبَر كانَ المعنى فانظر كيف كان عاقبة مَكْرِهُمُ
الدَّمَارَ ، ويجوز أن يكون اسم كان (أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ) وَ (عَاقبة أَمْرِهم) منصوبة.
المعنى فانظر كيف كان الدمَارُ عاقبةَ مَكْرِهِمْ ، وكيف في موضع نصب
في جميع هذه الأقوال - ونصبها - إذا جُعِلَت العاقِبَة اسم كان وكيف
الخبرُ لأنها في موضع خبر كان ، فإذا جُعِلَتْ اسم كان وخبرُها مَا
بَعْدها فهي منصوبة على الظرفِ ، وعمل فيها جملة الكلام كما
تقول : كيف كان زيد ، وكيف كان زيد قائماً.
* * *
وقوله : (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ
(52)
أكثر القراء نَصَبَ (خَاوِيَةً) على الحال ، المعنى فانظر إلى بُيُوتِهِمْ
خَاوِيةً بِمَا ظَلمُوا.
ورفعها من أربعة أوجُهٍ قد بيَّنَاهَا فيمن قرأ (وهذا بَعْلِي شيخ).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ
(54)
نَصْبَ لوط من جهتين :
على معنى وأَرْسَلْنَا لوطاً
وعلى معنى واذكر لُوطاً إذ قال لِقَوْمِهِ ، لأنه قد جرت أقاصيص رُسُل ، فدخل معنى إضمار اذكر هَهَنَا.
(أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ).
أي وأنتم تعلمون أنها فاحشة ، فهو أعظم لذنوبِكم.
* * *
(أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55)

(4/125)


يجوز على أوجه ، أاإئِنكمْ بهمزتين بينهما ألف ، ويجوز أَئِنَكُمْ
بهمزتين مُحَققتَيْن ، والأجودُ أينكمْ بجعل الهمزة الثانية بينَ بيْنَ تكون
بين الياء والهمزة.
* * *
(فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56)
(جَوابَ) خَبرُ كانَ وَ " أَنْ قالوا " الاسم ، ويجوز (فما كان جَوَابُ
قومِهِ إلا أَنْ قالوا.
وقوله : (إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ).
قال قوم لوط هذا لِلُوطٍ ولمن آمن مَعَهُ ، على جهة الهزُؤ بِهِمْ
لأنهم تطهَّروا عن أدْبَار الرجَال وأَدْبَارِ النِسَاءِ.
ويروى عن ابن عمر أنه سُئِلَ : هل يجوز هذا في النساء ؟
قيل له ما تَقُول في التحميض فقال : أو يفعل ذلك المِسْلِمُونَ ؟
فهذا عظيم جدًّا . وهو الذي سَماهُ اللَّهُ فاحِشَةً.
* * *
وقوله عزَّ - وجل : . (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59)
وتشركون بالياء والتاء ، ويقرأ آللَّهُ ، واللَّهُ ، بالمد وترك المَذد.
ويجوز - واللَّه أعلم - اللَّه خير أمَّا يشركون.
قال أبو إسحاق : إذَا ضُمَّت التاءُ واليَاءُ فمعناه أَنَّهُمْ جَعَلُوا لله
شُرَكَاء وإذا فُتِحَتْ التَاء والراءُ ، فمعناه أنكم تجعلون أنفسكم لِله
شُرَكَاءَ ، يقال : شَرِكْتُ الرجُلَ أشْرَكَه ، إذا صِرْتُ شَرِيكَهُ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61)

(4/126)


حجز بينهما بقدرته فلا يختلط العذب بالمِلحِ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65)
بالرفع القراءة ، ويجوز النصب ، ولا أعلم أحَداً قَرَأَ به ، فلا
تقرأن به.
فمن رَفَعَ في قوله : (إِلَّا اللَّهُ) فَعَلَى البَدلِ ، المعنى لا يعلم
أَحَدٌ الغَيْبَ إلا اللَّه ، أي لا يعكم الغيب إلا اللَّه ، ومن نصب فعلى
معنى لا يعلم أحد الغيب إلا اللَّه ، على معنى اسْتَثْنِي اللَّه عزَّ وجلَّ.
فإنه يعلم الغيبَ.
وقوله : (وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ).
و (أَيَّانَ تبْعَثونَ) جميعا ، أيْ لاَ يَعْلَمُون متى البَعْثُ (1).
* * *
وقوله تعالى : (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ (66)
فيها أوجه : قرأ أبوعَمْرٍو : بل أُدْرِك عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ.
وقرأ أكثر الناس (بَلِ ادَّارَكَ) بتشديد الذالِ.
وروي عن ابن عباس بَلَى أَدْرَكَ عِلْمُهم في الآخرة.
ويجوز بلى ادَّارَكَ علمهم في الآخرة فمن قرأ بل ادَّارَكَ علمهم في الآخرة وهو الجَيدُ ، فعلى معنى بَلْ تَدَارَكَ علمُهُمْ في الآخرة ، على معنى بل يتكامل عِلْمُهُم يَوْمَ القِيَامَةِ ، لأنَّهُمْ مبْعُوثونَ ، وكل ما وعدوا به حَق ، ومن قرأ بل أَدْرَكَ عِلْمُهُم فعلى معنى التقرير والاستخبار ، كأنَّه قيل : لم يُدْرِك عِلْمُهم في الآخرةِ أي ليس يَقفون في الدنيا على حقيقتها ، ثم بين ذلك في قوله :
(بل هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا)
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { إِلاَّ الله } : فيه أوجهٌ ، أحدُها : أنه فاعلُ « يَعْلَمُ » و « مَنْ » مفعولُه . و « الغيبَ » بدلٌ مِنْ « مَنْ السماواتِ » أي : لا يعلمُ غيبَ مَنْ في السماواتِ والأرضِ إلاَّ اللهُ أي : الأشياءَ الغائبةَ التي تَحْدُثُ في العالَمِ . وهو وجهٌ غريبٌ ذكره الشيخ . الثاني : أنه مستثنى متصلٌ مِنْ « مَنْ » ، ولكن لا بُدَّ من الجمعِ بين الحقيقةِ والمجازِ في كلمةٍ واحدةٍ على هذا الوجهِ بمعنى : أنَّ عِلْمَه في السماوات والأرضِ ، فيَنْدَرِجُ في { مَن فِي السماوات والأرض } بهذا الاعتبارِ وهو مجازٌ وغيرُه مِنْ مخلوقاتِه في السماواتِ والأرضِ حقيقةٌ ، فبذلِك الاندراجِ المُؤَوَّل اسْتُثْنِي مِنْ « مَنْ » وكان الرفعُ على البدلِ أَوْلَى لأنَّ الكلامَ غيرُ موجَبٍ.
وقد رَدَّ الزمخشريُّ هذا : بأنه جَمْعٌ بين الحقيقةِ والمجازِ ، وأوجبَ أن يكونَ منقطعاً فقال : « فإنْ قلتَ : لِمَ رُفِعَ اسمُ اللهِ ، واللهُ يتعالى أن يكونَ مِمَّنْ في السماواتِ والأرض؟ قلت : جاء على لغةِ بني تميمٍ حيث يقولون : » ما في الدار أحدٌ إلاَّ حمارٌ « يريدون : ما فيها إلاَّ حمارٌ ، كأنَّ » أحداً « لم يُذْكَرْ . ومنه قولُه :
3577 عَشِيَّةَ ما تُغْني الرِّماحُ مكانَها . . . ولا النَّبْلُ إلاَّ المَشْرَفِيُّ المُصَمِّمُ
وقولُهم : » ما أتاني زيدٌ إلاَّ عمروٌ ، وما أعانني إخوانكم إلاَّ إخوانُه « . فإنت قلت : ما الداعي إلى اختيارِ المذهبِ التميمي على الحجازي؟ قلت : دَعَتْ إليه نُكْتَةٌ سِرِّيَّةُ حيث أُخْرِج المستثنى مُخْرَجَ قولِه :
3578 إلاَّ اليَعافِيرُ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . بعد قوله :
3579 . . . . . . . . . . . . . . . . . . لَيْسَ بها أنيسُ . . . ليَؤُوْلَ المعنى إلى قولك : إنْ كان الله مِمَّنْ في السماوات والأرضَ فهم يعلمون الغيبَ . يعني : أنَّ عِلْمَهم الغيبَ في استحالتِه كاستحالةِ أن يكونَ اللهُ منهم . كما أنَّ معنى ما في البيت : إنْ كانت اليعافيرُ أَنيساً ففيها أنيسٌ ، بَتَّاً للقولِ بخُلُوِّها من الأنيسِ . فإن قلت : هَلاَّ زَعَمْتَ أن اللهَ مِمَّنْ في السماواتِ والأرضِ ، كما يقول المتكلمون : » إنَّ الله في كلِّ مكان « على معنى : أنَّ عِلْمَه في الأماكن كلها ، فكأنَّ ذاتَه فيها حتى لا يُحْمَل على مذهبِ بني تميمٍ » قلتُ : يأبى ذلك أنَّ كونَه في السمواتِ والأرضِ مجازٌ ، وكونَهم فيهنَّ حقيقةٌ ، وإرادةُ المتكلمِ بعبارةٍ واحدةٍ حقيقةً ومجازاً غيرُ صحيحٍ . على أنَّ قولَك « مَنْ في السماوات والأرض : وجَمْعَك بينه وبينهم في إطلاقِ اسمٍ واحدٍ ، فيه إيهامُ تَسْويةٍ ، والإِيهاماتُ مُزَالةٌ عنه وعن صفاتِه . ألا ترى كيف » قال عليه السلام لِمَنْ قال : « ومَنْ يَعْصِهما فقد غوى » « بِئْسَ خطيبُ القومِ أنت » « قلت : فقد رَجَّحَ الانقطاعَ واعتذر عن ارتكابِ مذهبِ التميمين بما ذَكَر . وأكثرُ العلماءِ أنه لا يُجْمَعُ بين الحقيقةِ والمجازِ في كلمةٍ واحدة . وقد قال به الشافعيُّ ».
قوله : { أَيَّانَ } هي هنا ، بمعنى « متى » / وهي منصوبةٌ ب « يُبْعَثون » فتعلُّقُه ب « يَشْعُرون » فهي مع ما بعدها في محلِّ نصبٍ بإسقاطِ الباءِ أي : ما يَشْعرون بكذا . وقرأ السُّلميٌّ « إيَّان » بكسرِ الهمزةِ ، وهي لغةُ قومِه بني سُلَيْم. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/127)


وقالوا في تفسير (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ) : أَم أَدْرَكَ عِلْمُهُم ، والقراءة
الجَيِّدَةُ (ادَّارَكَ) على معنى تدارك بإدغام التاء في الدال ، فتصير دالاً
سَاكِنَة فلا يُبتدأ بِها ، فيَأتي بألف الوصل لتصل إلى التكلُّمُ بها.
وإذَا وقفت على (بل) وابتدأت قلت (ادَّارَكَ) ، فإذا وَصَلْتَ كسرت اللام في بل ، لسكونها وسكون الدال.
* * *
وقوله : (حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ).
الحدائق واحدتها حديقة ، والحديقة البُسْتَانُ ، وكذلك الحائط
وقيل القطعةُ من النخل ، وقوله (ذَاتَ بَهْجَةٍ) معناه ذات حُسْنٍ
ويجوز في غير القراءة ذوات بهجة ، لأنها جماعة ، كما تقول :
نِسْوَتُك ذوات حُسْنٍ ، وإنما جاز ذات بهجة لأن المؤنث يخبر عنه فِي
الجَمْع بلفظ الواحِدَةِ ، إذا أردتَ جمَاعَةً ، كأنك قلت جماعة ذاتَ
بَهْجَةٍ.
* * *
وقوله : (بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60).
معناه يكفُرُون ، أي يَعْدِلُونَ عَنِ القَصْدِ وطريق الحق.
* * *
وقوله : (وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70)
يُقْرأ في ضَيْقٍ وَضِيق.
* * *
وقوله : (قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72)
قيل في التفْسِير عجل لَكُمْ ومعناه في اللغةِ (رَدِفَكُمْ) مِثْلُ رَكِبَكُمْ
وجاء بَعْدَكمْ.
* * *
وقوله : (وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81)

(4/128)


وتقرأ : (وما أَنْتَ تهدي العُمْيَ عن ضَلاَلَتِهِم) ، ويجوز بهادٍ العُمْيَ
عن ضَلَالَتِهِمْ.
فأمَّا الوَجْهَانِ الأولان فجيِّدانِ في القراءة ، وقد قرئ بهما جميعاً.
والوجه الثالث يجوز في العَرَبية ، فَإنْ ثبتت به روايةٌ وإلَّا لم يُقْرأْ به ، ولا أعلم أَحداً قرأ به (1).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا).
معناه ما تُسْمِع إلا من يؤمن ، وتأويل ما تُسْمِعُ ، أي مَا يَسْمَعُ مِنْكَ
فَيَعِي ويَعْمَلُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا ، فأمَّا من سمع ولم يقبل فبمنزلة
الأصَمِّ.
كما قال اللَّه عزَّ وجلَّ : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ).
قال الشاعِرُ :
أَصَمَّ عَمَّا سَاءَهُ سَمِيعُ
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ (82)
أي إذَا وَجَبَ.
(أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ).
وَتَكْلِمُهُمْ ، ويروى أن أول أشراط الساعة خروجُ الدابةِ وطلوعُ
الشمسِ مِنْ مَغْرِبها ، وأَكْثَر ما جاء في التفسير أنها تخرج بِتُهَامَةَ.
تَخْرجُ مِنْ بَيْنِ الصفَا والمروَةِ.
وقد جاء في التفسير أنها تخرج ثلات مرات في ثلاثة أَمْكِنَةٍ.
وجاء في التفسير تنكت في وَجْهِ الكَافِر نكتة سوداء وفي وجه المؤمن نكتة بيضاء ، فتفشو نكتة الكافر حتى يسودَّ منها وجهه أجمع وتفشو نكتة المؤمن حتى يَبْيَضَّ منها وَجْهَهُ فتجتمع الجماعة على المائِدَةِ ، فَيُعْرَفُ المؤمِنُ مِن الكافِرِ.
فمن قرأ (تُكَلِّمُهُمْ) فهو من الكلام ، ومن قرأ (تَكْلُمُهُمْ) فهو من
الكلْمَ ، وهو الأثر والجرح (2).
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { بِهَادِي العمي } : العامَّةُ على « هادِيْ » مضافاً للعُمْي . وحمزة « يَهْدِي » فعلاً مضارعاً ، و « العمُيَ » نصبٌ على المفعول به ، وكذلك التي في الروم ويحيى بن الحارث وأبو حيوة « بهاد » منوَّناً « العُمْيَ » منصوب به ، وهو الأصلُ.
واتفق القُرَّاء على أَنْ يقفوا على « هاد » في هذه السورةِ بالياءِ؛ لأنَّها رُسِمَتْ في المصحفِ ثابتةً . واختلفوا في الروم . فوقف الأخوان عليها بالياءِ أيضاً كهذه . أمَّا حمزةُ فلأنه يقرَؤُها « يَهْدي » فعلاً مضارعاً مرفوعاً فياؤه ثابتة . قال الكسائيُّ : « مَنْ قرأ » يَهْدِي « لَزِمَه أَنْ يقفَ بالياء ، وإنما لزمه ذلك؛ لأن الفعلَ لا يَدْخُلُه تنوينٌ في الوصلِ تُحذف له الياء فيكونُ في الوقفِ كذلك ، كما يَدْخُلُ تنوينٌ على » هادٍ « ونحوهِ فتَذْهبُ الياءُ في الوصل ، فيجري الوقفُ على ذلك كَمَنْ وقف بغير ياءٍ » . انتهى . ويَلْزَمُ على ذلك أَنْ يُوْقَفَ على { يَقْضِي بالحق } [ غافر : 20 ] { وَيَدْعُ الإنسان } [ الإسراء : 11 ] بإثباتِ الياءِ والواوِ . ولكنْ يَلْزَمُ حمزةَ مخالفَةُ الرسمِ دونَ القياسِ . وأمَّا الكسائيُّ فإنه يَقْرَأُ « بهادي » اسمَ فاعلٍ كالجماعةِ ، فإثباتُه للياءِ بالحَمْلِ على « هادِي » في هذه السورةِ ، وفيه مخالفَةٌ الرسمِ السلفيِّ.
قوله : { عَن ضَلالَتِهِمْ } فيه وجهان ، أحدهما : أنه متعلق ب « يَهْدي » . وعُدِّي ب « عن » لتضمُّنِه معنى يَصْرِفهم . والثاني : أنه متعلقٌ بالعُمْي لأنَّك تقول : عَمِيَ عن كذا ، ذكره أبو البقاء. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(2) قال السَّمين :
قوله : { تُكَلِّمُهُمْ } العامَّةُ على التشديد . وفيه وجهان ، الأظهر : أنه من الكلامِ والحديث ، ويؤيِّده قراءةُ أُبَيٍّ « تُنَبِّئُهم » وقراءةُ يحيى بن سَلام « تُحَدِّثُهم » وهما تفسيران لها . والثاني : « تَجْرَحُهم » ويَدُلُّ عليه قراءةُ ابن عباس وابن جبير ومجاهد وأبي زُرْعَةَ والجحدري « تَكْلُمُهم » بفتحِ التاءِ وسكونِ الكافِ وضمِّ اللامِ من الكَلْمِ وهو الجُرْحُ . وقد قُرِىء « تَجْرَحُهم » وفي التفسير أنها تَسِمُ الكافَر. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/129)


وقوله : (وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88)
(صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ)
القراءةُ النصْبُ ، ويجوز الرفع : صُنْعُ ، فمن نصب فعلى معنى
المَصْدر ، لأن قوله : (وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ) . دَلِيل على الصنْعَةِ ، كأنَّه قِيلَ صنَعَ اللَّه ذلك صنعاً.
ومن قال (صُنْعُ الله) بالرفع ، فالمعنى ذَلِك صُنْعُ اللَّهِ (1).
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ).
وَأَتَاهُ داخرين ، مَنْ وَحَّدَ فللفظ كُل ، ومن جمع - فلمعناها (2).
* * *
وقوله : (إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91)
(الذي) في موضع نصب من صفة (رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ)
وقد قُرِئَتْ : التي حَرَّمَهَا ؛ وقد قرئ بها لكنها قليلة ، فالتي في مَوْضِع خَفْض
مِنْ نعت البلدة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)
أي سيُريكم اللَّه آياته في جميع ما خَلَق ، وفي أنفُسُكم.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { صُنْعَ الله } مصدرٌ مؤكِّدٌ لمضمونِ الجملةِ السابقةِ . عاملُه مضمرٌ . أي : صَنَعَ اللهُ ذلك صُنْعاً ، ثم أُضِيف بعد حَذْفِ عامِله . وجعلَه الزمخشريُّ مؤكِّداً للعاملِ في { يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور } [ النمل : 87 ] وقَدَّره « ويومَ يُنْفَخُ » وكان كيتَ وكيتَ أثابَ اللهُ المحسنين ، وعاقَبَ المسيئين ، في كلامٍ طويلٍ حَوْماً على مذهبه . وقيل : منصوبٌ على الإِغراء أي : انظروا صُنْعَ اللهِ وعليكم به.
والإِتْقانُ : الإِتيانُ بالشيءِ على أكملِ حالاتِه . وهو مِنْ قولِهم « تَقَّن أَرْضَه » إذا ساقَ إليها الماءَ الخاثِرَ بالطينِ لتَصْلُحَ لِلزراعة . وأرضٌ تَقْنَةٌ . والتَّقْنُ : فِعْلُ ذلك بها ، والتَّقْنُ أيضاً : ما رُمِيَ به في الغدير من ذلك أو الأرض.
قوله : { بِمَا تَفْعَلُونَ } قرأ ابنُ كثير وأبو عمرٍو وهشام بالغَيْبة جرْياً على قولِه : « وكلٌّ أَتَوْهُ » . والباقون بالخطاب جَرْياً على قولِه : « وتَرى » لأنَّ المرادَ النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم وأمَّتُه. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(2) قال السَّمين :
قوله : { أَتَوْهُ } قرأ حمزة وحفص « أَتَوْه » فعلاً ماضياً . ومفعولُه الهاءُ . والباقون « آتُوْه » اسمَ فاعلٍ مضافاً للهاءِ . وهذا حَمْلٌ على معنى « كُل » وهي مضافةٌ تقديراً أي : وكلَّهم . وقرأ قتادةُ « أتاه » مُسْنداً لضميرِ « كُل » على اللفظِ ، ثم حُمِلَ على معناها فقرأ « داخِرين » . والحسن والأعرج « دَخِرين » بغير ألفٍ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/130)


سُورة القَصَص
( مكية)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(طسم (1)
قد تقدم ما ذكر في هذا.
(تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2)
يقال : بأن الشيء وأَبانَ في مَعْنى واحِدٍ ويقال بَانَ الشيء.
وأَبَنْتُه أنا ، فمعنى مبين مبَينُ خَبْرِه وَبَرَكَتِهِ ، وَمُبينُ الحَق من الباطل
والحلال من الحرام.
ومبين أَن نُبوةَ النبي - صلى الله عليه وسلم - حق لأنه لاَ يَقْدرُ أَحَد
بِمِثْلِه ، ومبين قصص الأنبياء.
* * *
وقوله : (نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3)
أي من خبر موسى وخبر فرعونَ.
قوله : (لِقَوْم يؤمِنُونَ) معناه يُصَدقُونَ.
* * *
وقوله : (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4)
(إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ)
مَعناه طَغَى
(وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا)
معنى شيع فرق ، أي جعل كل فرقة يُشيع بعضها بعضاً في
فِعْلِها.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ).

(4/131)


معنى نسائهم ههنا أنه كان يستحيي بَنَاتِهِمْ ، وإنما كان يعمل
ذَلِكَ لأنه قال له بعضُ الكهنة إن مَوْلُوداً يُولَدَ في ذلك الحين يكونُ سَبَبَ
ذَهَاب ملْكِكَ ، فالعَجَبُ من حُمْقِ فَرْعَوْنَ ، إن كان الكاهن عنده صادقاً
فما ينفع القَتْلُ ، وإن كان كاذباً فما معنى القَتْل.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5)
يعني بني إسرائيل الذين استضْعَفهم فرعونُ.
(وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً).
أي نجعلهم ولاة يُؤتَمُّ بِهِمْ.
(وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ).
أي يرثون فرعون وملكه.
* * *
وقوله : (وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6)
القراءة النَصبُ ، نُمَكَنَ ونُرِيَ.
وَيَجوزُ الرفع . . وَنُمكَنُ لَهُم في الأرْض وَنُرِي - بإسكان الياء ، فمن نَصَبَ عطف على نَمُنَّ ، فكان المعنى وأن نمكِنَ وَأَنْ نُرِيَ.
ومن رفع فعلى معنى ونَحْنُ نمكن.
وقُرِئَتْ : ويُرَى فِرْعَوْنُ وهامانُ وَجُنُودُهمَا ، فَيُرى يكونُ في مَوْضِع نَصْبٍ
على العطف على نُمَكِن ، ويجوز أَنْ يكون في موضع رفع على وسَيُرَى
فِرْعَونُ وهامان وجنودُهما.
* * *
وقوله : (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7)
قيل إن الوحيَ ههنا أَلقَاءُ اللَّهِ في قلبها ، وما بعد هَذا يَدُلَ - واللَّهُ أعلم -

(4/132)


أنه وَحْى من اللَّه عز وجل على جهة الإعلام للضمَانِ لها.
(إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ).
ويدل عليه (وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ).
وقد قيل إن الوحي ههنا الإلهام ، وجائز أن يُلْقي الله في قلبها
أَنة مردود إليها وأنه يكون مرْسَلاً ، ولكن الِإعلام أَبْيَن في هذا أَعْني أن
يكون الوحي ههنا إعْلَاماً.
وأصل الوحى في اللغة كلها إعْلاَم في خِفْي ، فلذلك صار الِإلْهَامُ يُسمَّى وَحْياً.
وقوله : (فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ) اليمُ البَحْر.
* * *
وقوله تعالى : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8)
(وَحَزَنًا) ويجوز (وَحُزْنًا)، ومعنى (لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا) أي ليصير الأمر إلَى ذَلِكَ
لا أنهم طلبوه وأَخذُوه لهذا كما تقول للذي كسب مالًا فَأدَّى ذلك إلى
الهَلَاكِ : إنما كسب فلان لِحَتْفِهِ ، وهو لم يَطْلُب المَالَ للحَتْف.
ومثله : فَلِلْمَوتِ ما تَلِدُ الوَالِدَةُ ، أي فهي لَمْ تَلِدْهُ طَلَباً أَنْ يَموتَ وَلَدُهَا
ولكن المصير إلى ذلك.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9)
رفع قُرةُ عَيْن على إضمار هو قرةُ عين لي ولك ، وهذا وقف
التمَامِ ، وَيَقْبُح رفْعُه علَى الابتداء وأن يكون الخبر (لا تَقْتُلوهُ) فيكون
كأنه قَدْ عَرَفَ أنه قرة عين له.
ويجوز رفعه على الابتداء عَلَى بُعْدٍ على معنى إذا كان قرة عين لي ولك فلا تَقْتُلْه ، ويجوز ُ النصْبُ

(4/133)


ولكن لا تقرأْ به لأنه لم ياتِ فيه روايةُ قراءة ، والنصبُ على معنى لا تَقْتُلُوا قُرةَ لي ولك لا تقتلوه ، كما تقول زيداً لَا تَضْرِبْهُ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10)
المعنى أصبح فارغاً من كل شيء إلا مِن ذِكْرِ مُوسَى ، وقيل إلا
مِنَ الهمِّ بموسى والمعنى واحد.
(إن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ).
المعنى إن كادت لتظهَر أنه ابنُهَا.
وقد قُرِئَتْ فَرِغاً ، والأكثر فَارِغاً.
(لَوْلاَ أَنْ رَبَطْنَا غَلَى قَلْبِهَا).
معناهْ لولا رَبْطُنَا على قَلْبها ، والربط على القلب إلْهَامُ الصبْرِ
وتشديدُه وتَقْوِيتُهُ.
* * *
وقوله : (وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11)
بمعنى اتْبعي أَثَرَهُ.
* * *
(فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ).
معناه فاتْبَعَتْهُ ، فَبصُرَت به عن جُنُبٍ أي عن بعد تُبْصِرُ ولا تُوهِمُ
أنها تراه ، يقال : بَصُرْتُ بِهِ جُنُبٍ وَعَنْ جَنَابَةٍ إذَا نَظَرتْ إلَيْهِ عن
بُعْدٍ.
قال الشاعِرُ :
فلا تَحْرِمَنِّي نائِلاً عن جَنابةٍ . . . فإِني امْرُؤٌ وَسْطَ القِبابِ
أي لاتحرمني نائلاً عَنْ - بُعْدٍ ، وإن كنت بعيداً مِنكَ .

(4/134)


وقوله عزَّ وجلَّ : (وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12)
معناه من قبل أن نَرُدهُ على أُمه ، وكان موسى لم يأخُذْ من ثَدْي.
أي لم يرضع من ثَدْي إلى أَنْ رُدَّ إلى أُمه فرضع منها ، وهذا معنى
(وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ).
(فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ).
أي فقالت أخت موسى عليه السلام لما تَعذرَ عَلَيْهِمْ رَضَاعُه :
(فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ).
فلما سمعوا قولها : (وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ).
قالوا : قد عَرَفْتِ أَهْلَ هَذا الغُلام - بقولك وهُمْ لَه ناصحون ، فقال عَنَيتُ
" هم له " هم للمَلِك نَاصِحُونَ ، فَدَلَّتْهم على أُمِّ مُوسَى ، فَدُفع إليها تربِّيه لهم فِي حِسَابِهِمْ.
* * *
وقوله : (فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13)
يعني ما وعدت به مما أُوحِيَ إليها من قوله : (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ).
واستقر عندها أَنه سيكون نبياً.
* * *
قوله عزَّ وجلَّ : (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14)
قيل الأشَد بِضع وثلاثون سنة . وهو ما بين ثلاث وثلاثين إلى تسع
وثلاثين.
وتأويل (بَلَغَ أَشُدَّهُ) استكمل نهاية قوةِ الرجُل
وقيل إن معنى واسْتَوَى - بلغ الأرْبَعين.
وجائز أن يكون " اسْتوى " وَصَل حقيقة بلوغ الأشُدِّ .

(4/135)


وقوله : (آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا).
فَعَلِمَ مُوسَى عليه السلام وحكم قبل أَنْ يُبْعَثَ.
(وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ).
فجعل الله إتيان العلم والحكمة مجازاة على الإحْسَان لأنهمَا
يَؤدِّيانِ إلى الجنةِ التي هي جزاء المحسنِين ، والعالم الحكيمُ مَن
استعمل عِلْمَه ، لأن اللَّه - عزَّ وجلَّ - قال : (وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ).
فجعلهم إذ لم يَعْملوا بالعلم جُهَّالاً.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15)
جاء في التفسير أنه دخلها وقت القائلة ، وهو انتصاف النَّهَار
وقوله : (هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ).
هذا موضع فيه لطف ، وذلك أَنه قيلَ في الغائِب " هذا " والمعنى
وَجَد فيها رَجُلَيْن أَحَدهمَا مِنْ شِيعَتِهِ وأَحدهما مِنْ عَدُوِّهِ.
وقيل فيهما هذا وهذا على جهة الحكاية للحضرة ، أي فوجد فيها رَجليْنِ إذا نظر إليهما الناظِرُ قال هذا من شيعته وهذا مِنْ عَدُوِّهِ.
(فَاسْتَغَاثَه الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ).
أي استنصره ، والذي مِنْ شِيعَتِهِ من بني إسرائيل ، والذي من
عَدُوه من أصحاب فرعون.
وجاء في التفسير أن فرعون كان رجلاً من أهل اصطخر ، ويقال إن الرجل الذي هو من عدوه رجل من القِبْطِ ، وقيل أيضاً من أهل اصْطَخْرٍ .

(4/136)


(فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضى عَلَيْهِ).
أي فقَتلهُ ، والوَكْزُ أَنْ تَضْرِبَ بِجُمع كَفِّكَ ، وقد قيل وكزه
بالعصا.
وقوله : (قَالَ هذَا مِنْ عَمَلِ الشّيْطَانِ).
يدل أن قتله إياه كان خطأ وأنه لم يكن أُمِرَ " موسى " بقَتْل.
ولا قِتالٍ.
(قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ
(16)
* * *
وقوله : (فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18)
أي يستغيث به ، والاستصْراخُ الِإغَاثةُ والاسْتِنْصَارُ.
(قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ).
* * *
وقوله : (فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19)
وتقرأ يَبْطُشُ . المعنى - واللَّه أعلم - فلما أَرَادَ المُسْتَصْرِخ أَنْ
يَبْطِشَ مُوسَى بالذي هو عَدُوٌّ لَ@هما ، ولم يفعل موسى ، قَالَ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ.
(قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ).
فأفشى على مُوسَى عليه السلام.
ويقال إنَّ من قتل اثنين فهو جَبَّارٌ ، والجبار في اللغة المتعظم الذي لا يتواضع لأمْرِ اللَّهِ ، فالقاتِل مؤمِناً جَبَّارٌ ، وكل قاتل فَهُوَ جَبَّارٌ.
قتل واحداً أو جماعة ظُلْماً.
* * *
وقوله : (وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20)

(4/137)


يقال إنه مؤمن آل فِرْعَونَ ، وإنَهُ كان نَجَّاراً ، ومعنى يَسْعَى يَعْدُو.
(قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ).
الملأ أشراف القوم ، والمنظورُ إليهم ، ومعنى يأتمرون بك يأمر
بعضهم بعضاً بقتلك.
(فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ).
أي فاخرج من المدينة ، وقوله " لك " ليست من صلة الئاصِحِينَ
لأن الصلة لا تقدم على الموصول ، والمعنى في قوله " إني لك " أنها
مُبينَة كأنَّه قال إني من الناصحين ينصحون لك ، والكلام نصحت لك.
وهو أكْثَرُ من نَصْحُتُكَ.
* * *
وقوله : (فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21)
أي يرقمبُ أن يلحقه فَيْ يَقْتُله ، وينظر الآثار.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ).
يعني من قوم فرعون.
* * *
وقوله : (وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22)
" مَدْيَن " مَاء كان لقوم شعيب يقال إن بيْنَهُ وبيْنَ مِصْرَ مَسِيرَةُ ثَمانية
أيام ، كما بين البصرة والكوفة ، وكان موسى عليه السلام خرج مِنْ
مِصْرَ ومعنى تلقاء مَدْيَن ، أي سَلك في الطريق التي تلقاء مَدْيَنَ فيها.
(قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ).
السبيل الطريق ، ْ وسواء السبيل قصد الطريق في الاستواء .

(4/138)


قوله : (وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23)
مَدْيَن في موضع خفض ، ولكنه لا ينصرف لأنه اسم للبقعة.
(وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ).
أمة جماعة.
(وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ).
أي تذودان غَنَمَهُمَا عن أَنْ يَقْرُبَ موضع الماء ، لأنها يَطْردُهَا عن
الماء من هو على السَّقي أقوى مِنْهُمَا . .
(قَالَ ما خَطْبُكُمَا).
أَي مَا أَمْرُكما ، معناه مَا تَخْطُبان ، أي ما تُريدَانِ بِذَوْدِكُمَا غَنَمكُمَا
عن الماء.
(قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى [يَصْدُرَ] الرِّعَاءُ).
وقرئت (حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ) - بضم الياء وكسر الدال - أي لا نَقْدِرُ
أن نسقي حتى تَرُدَّ الرعاةُ غَنَمَهُمْ وَقَد شَرِبَتْ فيخلو الموضع فَنَسْقي.
فَمن قرأ (يَصْدُر) بضم الدال فمعناه حتى يرجعَ الرعاءُ ، والرعاء جمعُ
راع ، كما يقال صاحب وصحاب.
وقوله : (وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ).
الفائدة في قوله : (وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ). أي لا يمكنه أَن يَرِدَ ، وَيَسْقي.
فلذلك احتجنا ونحن نِسَاءٌ أَنْ نسقيَ.
(فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24)

(4/139)


أي فسقى لهما من قَبْلِ الوَقْتِ الذي كانتا تسقيان فيه ، ويُقَال إنَّهُ
رَفع حجَراً عن البِئْرِ كان لا يرفعه إلا عَشَرةُ أَنْفُس.
وقيل إن مُوسى كان في ذلك الوقت من الفقر لا يقدر على شَقِّ تمرةٍ.
* * *
وقوله : (فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25)
المعنى فلما شَرِبَتْ غنمهما رَجَعَتَا إلى أَبِيهمَا فأخبرتاه خبر
مًوسَى وَسَقْيه غَنَمَهمَا ، وجاءتاه قبل وقتهما شاربةً غَنمُهُمَا ، فوجَّهَ
بإحْداهُما تَدْعُو مًوسَى فجاءته (تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ).
جَاءَ في التفسير أنها ليست بخرَّاجَةٍ مِنَ النِّسَاءِ ولا ولَّاجَةٍ ، أي تمشي مَشْيَ مَنْ لم تَعْتَدِ الدخول والخروج مُتَخَفِّرَةً مستحيية.
(قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا).
المعنى فأجابها فمضى معها إلى أبيها.
(فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ).
أي قصَّ عليهِ قِصتهُ في قتلهِ الرجُلَ ، وأنهم يطلبونه ليقتلوه.
(قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ).
وذلك أنَّ القوم لم يكونوا في مملكة فِرْعَونَ ، فأعلم شعيبٌ موسى
أنَّه قد تَخَلَّصَ من الخوف ، وأنه لا يقدر عليه - أعني بالقوم قوم مَدْينَ
الذين كان فيهم أبو المرأتين.
وقال في التفسير إنه كان ابن أخي شعيب النبيِّ عليه السلام.
* * *
(قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26)
أي اتخذه أجيراً .

(4/140)


(إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ).
أي إن خير من اسْتَعْمَلْتَ مَنْ قَوِيَ على عملك وأَدى الأمانَةَ فيه.
وإنما قالت (الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) فَوَصَفَتْه بالقوة لِسَقْيِهِ غنمها بِقوة وشدة.
وقيل لقوته على رفع الحجر الذي كان لا يُقِلُّه أقل من عَشَرةِ أَنفس.
وقد قيل إنه كان لا يقله أقل من أرْبعين نَفْساً.
فأَما وصفها له بالأمَانَةِ فقيل إن مُوسَى لما صار معها إلى أبيها تقدم أَمَامَهَا وأَمَرهَا أن تكون خلفه ، وَتَدُلَّه على الطريق ، وخاف إذا كانت بين يديه أَنْ تُصِيبَ مَلْحَفَتَها الريحُ فيتبيَّن وصفها ، فذلك ما عرفته من أمانته.
* * *
وقوله : (قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27)
معنى أُنْكِحُكَ أُزَوِّجُكَ.
(عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ).
أي تكون أجيراً لي ثماني سنين.
(فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ).
أي فذلك بفضل - منك ليس بِوَاجِبٍ عَلَيْكَ.
* * *
(قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28)
أي ذلك الذي وَصَفْتَ لِي بيني وبينك ، ومعناه ، ما شَرَطْتَ عَلَى
فلك وما شرطت لي فلي ، كذَلك الأمَرُ بَيْنَنَا ، ثم قال :
(أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ).
والعُدْوَانُ المجاوزة في الظلم ، وعُدْوَانٌ منصوبٌ بـ (لَا)

(4/141)


ولو قُرئَتْ فَلَا عُدْوَانٌ في لجاز من جهتين
إحْداهما أَنْ تَكونَ (لا) رافعة كَلَيْسَ
كما قال الشاعرِ :
مَن صَدَّ عن نِيرانِها . . . فأنا ابن قيس لاَ بَراحُ
ويجوز أن يكون " عُدْوَانُ " رَفْعاً بالابتداء و" عَلَيَّ " الخبرُ.
و " لا " نافية غير عَامِلةٍ ، كما تقول لَا زَيْد أَخُوكَ وَلاَعَمْرو.
و "أي " هي في موضع الجزاء مَنْصُوبةْ بِـ (قَضيْتُ).
وجواب الجزاء (فَلا عُدْوَانَ) ، و " ما " زائدة مؤكدة.
والمعنى أي الأجلين قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ (1).
وقوله : (وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ).
أي واللَّهُ عَز وَجَل شَاهِدُنا على ما عَقَدَ بَعْضُنَا عَلَى بَعْض.
* * *
وقوله : (فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29)
يُروَى أنه قغسى أتئم الأجَلَيْنِ ، وهو عَشْرُ سِنِين.
وقوله : (آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطورِ نَاراً).
آنس علم وأبصر ، يقال : قد آنست ذلك الشخص أي أَبْصَرْته.
(قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ).
أي لعلي أْعلم لِمَ أُوقِدَتْ.
(أَوْ جِذْوَةٍ مِنَ النَّارِ).
الجذوة القطعهة الغليظة من الحطب.
ويقرأ : أَوْ جُذوة بالضَم ، ويقال جَذْوة بالفتح.
فيها ثلاث لغات (2).
* * *
وقوله : (فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30)
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { ذَلِكَ } : مبتدأٌ . والإِشارةُ به إلى ما تعاقَدَا عليه ، والظرفُ خبرُه . وأُضِيْفَتْ « بين » لمفردٍ لتكررِها عطفاً بالواوِ . ولو قلتَ : « المالُ بين زيدٍ فعمرٍو » لم يَجُزْ . فأمَّا قولُه :
. . . . . . . . . . . . . . . . . بين الدَّخولِ فَحَوْمَلِ
فكان الأصمعيُّ يَأْباها ويَرْوي « وحَوْمَلِ » بالواو . والصحيحُ بالفاءِ ، وأوَّلَ البيتَ على : « الدَّخولِ وَحَوْمَلِ » مكانان كلٌّ منهما مشتملٌ على أماكنَ ، نحو قولِك : « داري بين مصرَ » لأنه به المكانُ الجامع . والأصل : ذلك بَيْنَنا ، ففرَّق بالعطف.
قوله : { أَيَّمَا الأجلين } « أيّ » شرطيةٌ . وجوابُها « فلا عُدْوانَ » عليَّ . وفي « ما » هذه قولان ، أشهرُهما : أنها زائدةٌ كزيادتِها في أخواتِها مِنْ أدواتِ الشرط . والثاني : أنها نكرةٌ . والأَجَلَيْن بدلٌ منها . وقرأ الحسن وأبو عمرٍو في رواية « أَيْما » بتخفيفِ الياءِ ، كقوله :
تَنَظَّرْتُ نَصْراً والسِّماكَيْنِ أَيْهُما . . . عليَّ من الغَيْثِ اسْتَهَلَّتْ مواطِرُهْ
وقرأ عبد الله « أَيَّ الأَجَلَيْنِ ما قَضَيْتُ » بإقحام « ما » بين « الأجلين » و « قَضَيْتُ » . قال الزمخشري : « فإنْ قلتَ : ما الفرقُ بين موقعَيْ زيادةِ » ما « في القراءتين؟ قلت : وقعَتْ في المستفيضة مؤكِّدةً لإِبهامِ » أيّ « زائدةً في شِياعِها ، وفي الشاذَّة تأكيداً للقضاءِ كأنه قال : أيَّ الأجلين صَمَّمْتُ على قضائه ، وجَرَّدْت عَزيمتي له ».
وقرأ أبو حيوةَ وابنُ قطيب « عِدْوان » . قال الزمخشري : « فإنْ قلتَ : تَصَوُّرُ العُدْوان إنما هو في أحد الأجلَيْن الذي هو أقصرُهما ، وهو المطالبةُ بتتمَّة العَشْر ، فما معنى تعلُّقِ العُدْوانِ بهما جميعاً؟ قلت : معناه كما أنِّي إنْ طُوْلِبْتُ بالزيادةِ على العشر [ كان عدواناً ] لا شك فيه ، فكذلك إنْ طولِبْتُ بالزيادةِ على الثمان . أراد بذلك تقريرَ ِأمرِ الخِيارِ ، وأنه ثابتٌ مستقرٌّ ، وأن الأجلَيْنِ على السَّواء : إمَّا هذا وإمَّا هذا » . ثم قال : « وقيل : معناه : فلا أكونُ متعدياً . وهو في نَفْي العدوان عن نفسه كقولِك : لا إثمَ علي ولا تَبِعَةَ » . قال الشيخ : « وجوابُه الأولُ فيه تكثيرٌ » . قلتُ : كأنه أعجبه الثاني ، والثاني لم يَرْتَضِه الزمخشريُّ؛ لأنه ليس جواباً في الحقيقة؛ فإن السؤالَ باقٍ أيضاً . وكذلك نَقَلَه عن غيره.
وقال المبرد : « وقد عَلِم أنه لا عُدْوانَ عليه في أتَمِّهما ، ولكنْ جَمَعَهما ليجعلَ الأولَ كالأَتَمِّ في الوفاء ». اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(2) قال السَّمين :
قوله : { أَوْ جَذْوَةٍ } : قرأ حمزة بضم الجيم . وعاصم بالفتح . والباقون بالكسرِ . وهي لغاتٌ في العُود الذي في رأسِه نارٌ ، هذا هو المشهورُ . قال السُّلمي :
حمى حُبِّ هذي النارِ حُبُّ خليلتي . . . وحُبُّ الغواني فهو دونَ الحُباحُبِ
وبُدِّلْتُ بعد المِسْكِ والبانِ شِقْوةً . . . دخانَ الجُذا في رأسِ أشمطَ شاحبِ
وقيَّده بعضُهم فقال : في رأسِه نارٌ مِنْ غيرِ لَهَبٍ . قال ابن مقبل :
باتَتْ حواطِبُ ليلى يَلْتَمِسْنَ لها . . . جَزْلَ الجُذا غَيرَ خَوَّارٍ ولا دَعِرِ
الخَوَّارُ : الذي يتقصَّفُ . والدَّعِرُ : الذي فيه لَهَبٌ ، وقد وَرَدَ ما يقتضي وجودَ اللهبِ فيه . قال الشاعر :
3603 وأَلْقَى على قَبْسٍ من النارِ جَذْوةً . . . شديداً عليها حَمْيُها والتهابُها
وقيل : الجَذْوَة : العُوْدُ الغليظُ سواءً كان في رأسه نارٌ أم لم يكنْ ، وليس المرادُ هنا إلاَّ ما في رأسِه نارٌ.
قوله : { مِّنَ النار } صفةٌ ل جَذْوَةٍ ، ولا يجوزُ تَعَلُّقها ب « آتِيْكُمْ » كما تَعَلَّق به « منها »؛ لأنَّ هذه النارَ ليسَتْ النارَ المذكورةَ ، والعربُ إذا تقدَّمَتْ نكرةٌ وأرادَتْ إعادَتَها أعادَتْها مضمرةً ، أو معرَّفَةً ب أل العهديةِ ، وقد جُمِع الأمران هنا.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/142)


سُمَيتْ مباركة لأن اللَّه كلم موسى فيها ، وبعثه نبيًّا ، ويقال بُقعَة
وبَقْعة بالضم والفَتْح.
وقد قرئ بهما جميعاً ، فمن جمع بِقاعاً فهي جمع بَقْعَةٍ بالفتح ، مثل قَصْعَة وقِصَاع ، ومن قال بُقْعة - بالضم -
فأجود الجمع بُقَع مثل غُرفة وغُرَف ، وقد يجوز في بُقْعة بقاع مثل حُفْرَة
وحِفَار.
وقوله : (أَنْ يَا مُوسَى).
(أن) في موضع نصب المعنى نُودي بأنه يَا مُوسَى
وكذلك (وَأنْ ألْقِ عَصَاكَ) عطفٌ عليها.
* * *
(وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31)
(فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ)
معناه لم يَلْتَفِتْ.
وقوله : (أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ).
أي قد آمنت من أن ينالَك منها مكروه وهي حيَّة.
* * *
(اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَإِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (32)
أي من غَيْر بَرَص.
(وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ).
والرُّهْبِ جميعاً ومعناهُمَا واحد ، مثل الرُّشد والرَّشَدِ.
والمعنى في جناحك ههنا هو العَضُد ، ويقال اليد كلها جناح.
وقوله : (فَذانِكَ بُرْهَانَانِ).
تقرأ بتخفيف النون وتشديدها - فَذَانِّكَ - فكأن فَذَانِّكَ تَثْنِيةُ ذَلِكَ
وذانِك تثنية ذَاكَ جعل بدل اللام في ذلك تشديد النُونِ في ذَانِكَ
وبرهانان آيَتَانِ بَيِّنَتَان .

(4/143)


(إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ).
أي أرسلناك إلى فرعون وَمَلَئِهِ بهاتين الآيتَين.
* * *
وقوله : (وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34)
(فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي).
ويُصَدِّقْنِي - بالرفع والجزم - قرئ بهما جميعاً ، فمن قَرأَ
يُصَدِّقُنِي بضم القاف فهو صفة قوله (رِدْءًا) - والردء العَوْنُ ، تقول
رَدَأْتهُ أَردؤه رَدْءا ، إذا أعنته ، والردْءُ المُعينُ.
ومن جزم (يُصَدِّقْنِي) فعلى جواب المسألة ، أرسله يُصَدَقْنِي ، ومن رفع يصدقني فالمعنى رِدْءاً مصَدِّقاً لِيَ.
* * *
وقوله : (قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35)
أي سنعينك بأخيكَ ، ولفظ العضُدِ على جهة المثل ، لأن اليد
قوامُها عَضُدُهَا ، فكل مُعِينٍ عَضُدٌ.
وتقول قد عاضَدَنِي فلان على الأمر أي عاونني.
وقوله : (وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا).
أي حجة نَيرَةً بَينَةً ، وإنما قيل للزيت السليط لأنه يستضاء به.
فالسلطان أبْيَنُ الحجَجِ.
وقوله : (فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا).
أي بسلطاننا وحجتنا.
فـ (بآياتنا) مِنْ صِلَة (يَصِلُونَ) كأنه قال : لَا يَصلُونَ
إليكما ، تَمتَنعَانِ منهم بِآيَاتِنَا.
وجائز أن يكون " بآياتنا " متصا ، بنجعل لكما سْلطانا بآياتنا ، أى حجة تدلُّ عَلى النّبوةِ بآياتنا ، أي بالعَصَا واليَدِ ، وسائر الآيات
التي أعطي مُوسَى - صلى الله عليه وسلم -.
ويجوز أن يكوتَ بِآيَاتِنَا مبَيناً عن قوله : (أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ).

(4/144)


أي تغلبون بآياتنا.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (36)
لم يأتوا بحجة يدفعون بها مَا ظَهَرَ مِنَ الآيَاتِ إلا أن قالوا إنها
سحْرٌ فلما جُمِعَ السَّحَرةُ بينوا أَنَ آيات موسى عليه السلام ليست
بسحر ، فغلَبَ موسى بآيات اللَّه وبحجته كما قال عزَّ وجلَّ به.
* * *
وقوله : (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38)
(فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ)
أي اعمل آجرًّا ، ويقال إنَّ فرعونَ أولُ من عَمِلَ الآجرَّ.
(فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا).
والصرح كل بناء متسع مرتفع
وقوله : (لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى).
وظنَّ فرعونُ أنه يتهيأ له أَنْ يبلغ بصرحه نحو السماء فَيَرَى السماءَ
وَمَا فِيها.
(وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ).
الظًنُ في اللغَةِ ضَربٌ يكون شَكا ويَقِيناً . - وقول فِرْعَوْنَ : وإني
لأظُنُه اعتراف بأنه شاو ، وأنَّه لم يتيقَن أَنَ موسى كاذِب ، ففي هذا
بيان أنه قد كفر بموسى على غير يقين أَنَه ليس بِنَبِيٍّ ، وقد وَقَعَ في نفسه
أنه نبيٌّ لأن الآيات التي هي النبوة لا يجْهَلها ذو فطرة ، وقوله في غير
هذا الموضع : (لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ). دليل على أنه قد ألزَمَ فرعونَ الحجةَ القَاطِعَةَ .

(4/145)


وقوله : (فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40)
اليَمُّ : البحرُ وهو الذي يقال له " إيسَاف " وهو الذي غرق فيه
فِرعَوْنُ وجنوده بناحية مصر.
* * *
وقوله : (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41)
أي من اتبعهم فهو في النار.
(وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ)
أي لا نَاصِرَ لَهُمْ ولا عَاصِمَ من عذاب اللَّه.
* * *
وقوله : (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43)
فكان خاتَمَة إهْلَاكِ القُرون بالعَذَاب في الدُّنْيَا أن جعل المُكَذِبِينَ
بِمُوسَى الذين عَدَوْا في السبِت قِرَدةً خاسِئينَ عند تكذيبهم بِمُوسَى
عليه السلاَمُ.
وقوله : (بَصَائِرَ لِلنَّاسِ).
أي مُبَيناً للناس ، المعنى ولقد آتينا موسى الكتاب بصائر للناسِ
أي هذه حال إيتائِنَا إياهُ الكتاب مُبَيناً نُبَينهُ للناس.
(وهدى ورحمةً) عطف على (بصائِر) ، ولو قرئت بالرفع على معنى فهو هُدى ورحمة جَازَ والنصب أجود ولا أعلم أَحَدأ قرأ بالرفع - فلا تقرَأنَّ بها.
* * *
وقوله : (وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44)
أي وما كنت بجانبِ الجبل الغربي.
(وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45)

(4/146)


أَي مَاكنتَ مُقِيماً في أهلِ مَدْيَنَ.
* * *
(وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46)
يَعْنِي نادينا مُوسَى.
(وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ).
المعنى إنك لم تشاهد قَصَصَ الأنبياء ، ولا تُلِيَتْ عَلَيْكَ ، ولكن
أَوْحَيناها إليك ، وقصَصْنَاها عليك رحمةً مِنْ رَبِّكِ لتنذِر قوماً ، أي
لتعرفهمُ قَصَصَ مَن أُهْلِكَ بِالعَذَابِ ومن فاز بالثواب.
ولو قرئت " ولكنْ رحمةٌ " لكان جائزاً على معنى ولكنْ فِعلُ ذلك رَحْمة من رَِّك ، والنصْبُ على معنى فعلنا ذلك للرحمة ، كما تقول : فعلت ذلك ابتغاء الخَيْر ، أي فعلته لابتغاء الخَيْر ، فهو مفعول له.
* * *
وقوله : (وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47)
أي لولا ذلك لم يحتج إلى إرْسَالِ الرسُل ، ومواترة الاحْتجاج.
* * *
وقوله : (فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48)
أي فلما جاءتهم الحجة القَاطِعةُ التي كان يجوز أَنْ يَعْتَلُّوا
بتأخرِهَا عنهم.
(قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى).
المعنى : هلَّا أوتي مُحمدٌ مثلَ ماَ أوتي موسى ، صلى اللَّه عَلَيْهِمَا من أمر العصا والحية وانفلاق البحر ، وسائر الآيات التي أَتَى بِهَا مُوسَى ، فقد كفروا بآيات موسى كما كفروا بآيات محمدٍ عليهما السلام.
(قَالُوا [سَاحْرَانِ] تَظَاهَرَا).

(4/147)


أي تعاونا.
جاء في التفسير أنهم عَنَوْا موسى وهارون.
وقالوا عَنَوْا موسى وعيسى ، وقيل عَنَوْا موسى ومحمًداً عليهما السلام.
وقرئ (سِحْرَانِ تَظَاهَرَا) يَعْنونَ كتَابَيْنِ ، فقالوا : الإنجيل والقرآن ، ودليل مَن
قرأ (سِحْران) قوله : (قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا).
وهذا لا يمنع سَاحِران ، لأن المعنى يصيرُ : قل فأتوا بكتاب من
عِنْد الله هُوَ أَهْدَى مِنْ كِتَابَيهِمَا.
* * *
وقوله : (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)
فاعلم أن مَا ركبُوه من الكفر لا حجَّةَ لَهُم فِيه ، وإنما آثروا فِيه
الهَوَى وقد علموا أنه هو الحق.
* * *
(وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51)
أي فصَّلْنَاه بأن فصَّلْنا ذكر الأنبياء وَأَقَاصِيصَهُمْ ، وأقاصيص مَنْ
مَضَى ، بعضها بِبَعْض.
(لَعَلَّهُمْ يَتَذَكرُونَ) أي لَعَلًهُمْ يَعْتَبِرْونَ.
* * *
وقوله : (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52)
جاء في التفسير أن هؤلاء طائفة من أهل الكتاب كانُوا يَأخُذون به
وينتهون إلَيْهِ ويقفون عندَهُ.
كانوا يحكمون بحكم اللَّه ، بالكتاب الذي أُنْزِلَ قَبل القرآن.
فلما بُعِثَ مُحمًدٌ - صلى الله عليه وسلم - وتلا عليهم القرآنَ قَالُوا آمَنَا بِهِ
إنه الحَق مِنْ رَبِّنَا.
وذلك أَنّ ذكَرَ محمد - صلى الله عليه وسلم - كان مكْتُوباً عندهم في التوراة والإنجيل ، فلم يعانده هؤلاء وآمَنُوا وَصَدقُوا ، فأثنى اللَّه عليهم خيراً
وقال :

(4/148)


(أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54)
أي يؤتون أجرهم بإيمانهم بالكتاب الذي مِنْ قبلِ محمد - صلى الله عليه وسلم -.
و (يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ) بالِإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم - والقرآن.
(وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ).
معنى (وَيَدْرَءُونَ) يدفعون - بما يعلمون من الحسنات - ما تَقَدم لهم
من السَيِّئاتِ.
(وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) أيْ يَتَصَدقون.
* * *
(وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55)
أي إذا سمعوا ما لا يجوز وينبغي أن يلغَى لم يلتفتوا إليه.
(وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ).
ليس يريدون بقولهم ههنا سلام عليكم التحيَّة.
المعنى فيه أعرضوا عنه وقالوا سلام عليكم ، أي بيننا وبينكم المتَاركةُ والتسَلمُ.
وهذا قبل أن يؤمَرَ المُسْلِمُون بالقِتَالِ.
* * *
وقوله : (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)
أجمع المفسرون أنها نزلت في أَبِي طَالِبِ ، وجائز أن يكون
ابتداء نزولها في أبي طَالِبِ وهي عامَّةٌ ، لأنه لاَ يهدي إلا اللَّه ، وَلَا
يُرْشِدُ ولا يوفق إلا هو ، وكذلكَ هو يُضِلُّ من يشاء.
* * *
(وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57)
كانوا قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - إنا نعلم أن ما أتيت به حَق ، ولكنا نكره إنْ آمَنَّا بِكَ

(4/149)


أن نُقْصَدَ ونُتَخَطَّفَ منْ أرْضِنَا فأعلمهم الله أنه قَدْ تَفَضَّلَ عَلَيْهِمْ بأن آمنهم
بمكَةَ ، فَأعْلَمَهم أن قد آمَنَهمْ بحرمَةِ البَيْتِ ، ومنع منهم العَذو أي فلو آمنوا
لكان أولى بالتمكن والأمن والسَّلَامَةِ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59)
يعني بأمِّها مَكًةَ ، ولم يكن ليهْلكَهَا إلا بظلِمْ أهْلِهَا.
* * *
(أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)
يعني المؤمِن والكافِر ، فالمؤمِن من آمن باللَّه ورسوله وأطاعه
ووقف عند أَمْرِه فَلُقِيَه جزاءَ ذَلِكَ ، وهو الجنَّة ، والذي مُتِّعَ متاعَ الحياة
الدنيا كافرُ . لم يُؤْمِنْ باللَّه ثم أُحْضِرَ يوم القيامَةِْ العَذَابَ وذلك قوله عز
وجل : (ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ).
وجاء في التفسير أن هذه الآية نَزَلَتْ في محمد - صلى الله عليه وسلم - وأبي جَهْل ابْنِ هِشَام فالنبي - صلى الله عليه وسلم - وُعِدَ وَعْداً حسناً فَهو لاَقِيه في الدنيا بأنه نُصِرَ على عَدوِّهِ في الدنيا ، وهو في الآخرة في أعلى المراتب من الجنة ، وأبو جهل من المُحْضَرِينَ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا).
(مَعِيشَتَهَا) مَنْصوبَةٌ بإسقاط في وَعَمَل الفِعْل.
وتأويله بطرت في مَعِيشَتِها والبطرُ الطغيانُ بالنِعْمَةِ .

(4/150)


وقوله : (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62)
أي يوم ينادي الإنس . وسماهم " شركائي " على حِكَايَةِ قَوْلِهِمْ.
المَعْنَى أين شركائي في قولكم ، واللَّه واحد لا شريك له.
* * *
(قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63)
الجِنُّ ، والشيَاطِين.
(هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا).
يعْنُونَ الِإنْسَ ، أي سولنا لهم الغَيَّ والضلَالَ.
(أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا).
أي أضللناهم كما ضَلَلْنَا.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ).
برئ بعضهم من بَعْض ، وصاروا أَعْداءً ، كما قال الله عزَّ وجلَّ :
(الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67).
* * *
وقوله : (وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ (64)
(فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ).
أي لم يُجيبوهم بحجةٍ.
(وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ).
جوأب " لو " محذوف - واللَّه أعلم - المعنى لو كانوا يَهْتَدُونَ لما
اتبعُوهم ولا رأوا العذابَ.
* * *
وقوله : (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68)
أجود الوقوف على (وَيَخْتَارُ) ؛ وتكونْ " مَا " نفياً.
المعنى ربك يخلق ما يشاء ، وربك يختار ليْسَ لهم الخيرة.
وما كانت لهم الخيرةُ ، أي

(4/151)


ليس لهم أن يَخْتاروا على اللَّه ، هذا وجه.
ويجوز أن يكون (ما) في معنى الذي فيكون المعنى ويختار الذي كان لهم فيه الخيرة.
ويكون معنى الاختيار ههنا ما يتعبدهم به ، أي ويختار لهم فيما يدعوهم إليه
مِنْ عِبَادَتِه ما لهم فيه الخيرة ، والقول الأول أجود -
أي أن تكون (ما) نَفْياً.
وقوله : (سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ).
معنى سبحان الله تنزيه له من السوءِ . كذا هو في اللغة - وكذا
جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم.
* * *
قوله : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71)
السَّرمَدُ في اللغَةِ الدائِمُ.
وقوله : (مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ).
أي بِنَهارٍ تُبْصرون فيه وتتصرفون في مَعَايشكم ، وتصْلِحُ فيه
ثماركم وَمَنَابتكُمْ لأن اللَّه - عزَّ وجلَّ - جعل الصلاح للخلق بالليل مع
النهار ، فلو كان واحِدٌ منهما دون الآخر لهلك الخَلْقُ ، وكذلك قوله في
النهار : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72)
أعلمهم أن الليل والنهار رحمةٌ فقال :
(وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73)

(4/152)


المعنى جَعَل لكم الزمانَ لَيْلاَ ونَهاراً ، لتسكنوا بالليل وتبتغوا من
فضل الله بالنهار.
وجائز أن تَسْكنوا فيهما ، وأن تبتغوا من فضل اللَّه فيهما.
فيكون المعنى جعل لكم الزمان ليلًا ونهاراً لتسكنوا فيه
ولتبتغوا مِنْ فَضْلِه.
* * *
وقوله : (وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (75)
أي نزعنا من كل أمّة نَبِيًّا أي اخْتَرْنَا منها نبيًّا وكلَّ نَبيٍّ شاهد على
أمته.
وقوله : (فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ).
أي هاتوا فيما اعْتَقَدْتم بُرْهَاناً أيْ بَيَاناً أنكم كنتم على حَقٍّ.
(فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ).
أي فعلموا أَنَّ الحق تَوحِيدُ اللَّه وَمَا جَاءَ بِهِ أنبياؤُه.
وقوله : (وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ).
أي لم ينتفعوا بكل ما عَبَدُوه مِنْ دونِ اللَّهِ ، بل ضرَّهم أعظم
الضَّرَرِ.
* * *
وقوله تعالى : (إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76)
قَارُون اسم أَعْجمي لا ينصرف ، ولو كان فَاعولًا مِنَ العربيَّةِ ، مِنْ
قَرنْتُ الشَّيءَ - لا يُصْرف.
فلذلك لم يُنَوَّنْ.
وجاء في التفسير أَن قارون كان ابنَ عَمِّ مُوسَى ، وكان مِنَ

(4/153)


العُلَماء بالتوْرَاةِ . فبغَى على موسى وَقَصَدَ إلى الإفساد عليه وتكذيبه.
وكان من طلبه للإفْسَادِ عَلَيْه أَن بَغِيًّا كانت مَشْهُورَةً في بني إسرائيل.
فَوَجَّهَ إليها قارونُ - وَكَانَ أَيْسَرَ أَهلِ زَمَانِهِ - يأمرها أن تَصِيرَ إليه ، وهو
في مَلأٍ مِنْ أَصْحابه لِتَتَكَذَّبَ على مُوسَى وتقول : إنه طلبني للفساد
والرِّيبَةِ ، وضمن لها قَارُونُ إنْ فعلتْ ذلك أن يَخْلِطها بِنِسَائِهِ ، وَأَنْ
يُعطِيها على ذلك عَطَاءَ كبيراً ، فجاءت المرأةُ - وقارون جالس مع
أصحابه - وَرَزَقها اللَّهُ التوبة فقالت في نفسِها مالي مَقَامُ توبةٍ مثلُ
هذا ، فأقبلت على أهل المجلس وقارُونَ حَاضِرٌ ، فقالت لهم إن قارونَ
هَذَا وَجَّه إليَّ يأمُرُنِي وَيَسْأَلُني أن أتكذَّب على موسى ، وأن أقول إنه
أرادَني للفساد وإنَّ قارونَ كاذبٌ في ذلك فلما سمع قارون كلامها تحيَّر
وَأُبْلِسَ واتصَلَ الخَبَرُ بمُوسَى - عليه السلام - فجعل اللَّهُ أَمْرَ قارون
إلى مُوسَى وأمر الأرض أَنْ تطيعَه فيه ، فَوَرَدَ مُوسَى على قارونَ فَاَحَسَّ
قارون بِالبَلاءِ ، فقال يا موسى ارْحَمْني ، فقال : يا أرض خُذِيهِ فخُسِفَ
به وَبِدَارِه إلى رُكْبَتَيهْ ، فقال : يا موسى ارحمني ، فقال : يا أرض خُذِيه
فَخُسِف به إلى سُرتِهِ ، ثم قال : يا أرض خذيه فخسف به إلى عُنُقِهِ
واسترحَمَ موسى فقال يا أرض خذيه فخسف به حتى ساخت الأرضُ بِهِ
وبداره ، قال الله عزَّ وجلَّ : (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81).
* * *
وقوله تعالى : (وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ).
روي في التفسير أن مَفَاتِحَه كانت من جُلُودٍ على مقادر الإصبع
وكانت تحمل على سبعين بَغْلًا أو ستين بَغْلاً ، وجاء أَيْضاً أَن مفاتحه

(4/154)


خزائنُه ، وقيل إن العُصْبَةَ ههنا سَبْعُونَ رَجُلاً ، وقيل أربعون ، وقيل ما
بين الخَمسة عَشَرَ إلى الأرْبَعِين ، وقيل ما بين الثلاث إلى العشرة.
والعُصْبَةُ في اللغة الجماعة الذين أَمْرُهُمْ وَاحِد يتابع بعضهم بعضاً في
الفِعْلِ ويتعصَّبُ بعضهم لِبَعْضٍ.
والأشبَهُ فيما جاء في التفسير أن مفاتحه خزائنهُ ، وأنها خزائن المال الذي يُحْمَلُ على سَبْعِينَ ، أو على أربعين بَغْلاً - واللَّه أعلم - لأن مفاتَح جلود على مِقْدَارِ الإصْبَع ، تُحمَلُ على سبعين بغلاً للخزائن أمر عظيم - واللَّه أعلم -.
ومعنى (لَتَنُوءُ بِالعُصْبَةِ) لَتُثْقِلُ العُصْبَةَ.
قَالَ أَبُو زَيْدٍ : يقال نؤت بالحِمْلِ أنوءُ به نُوءاً إذا نَهَضْت به.
وناء بي الحمل إذا أَثْقَلَنِي.
وقوله : (إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ).
جاء في التفسير لا تَأشَرْ إن اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الأشِرينَ.
ولا تفرح ههنا - واللَّه أعلم - أي لا تفرح لكثرة المال في الدنيا لأن الذي يفرح بالمال ويصرفه في غير أَمْر الآخِرةِ مَذْمُوم فيه.
قال اللَّه عَز وجل : (لِكَيْلَا تَأسَوُا عَلَى مَا فَاتَكُمْ).
والدليل على أنهم أرادوا لا تفرح بالمال في الدنيا قولهم : (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77)
ولا تنس نصيبك من الدنيا ، أي لا تنس أن تعمل به لآخرتك.
لأن حقيقة نصيب الإنسان من الدنيا الذي يعمل به لآخرَتِهِ .

(4/155)


(قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78)
ادَّعى أن المال أُءْطِ يَة لعلمه بالتوراة ، والذي رُويَ أنه كانَ يَعْمَل
الكِيميَاء ، وهذا لايصح لأن الكيمياء باطلٌ لَا حقيقة له.
* * *
وقوله : (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79)
جاء في التفسير أنه خرج هُوَ وأصحابه عَلَى خَيْلِهِمْ ، وَعَلَيْهِمْ
وَعَلَى الخَيْلِ الأرْجُوَانُ.
والأرجوان في اللغة صبغ أَحْمَر.
وقيل : كان عليهم وعلى خيلهم الديبَاج الأحْمَر.
* * *
وقوله : (وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80)
(وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ)
أي لا يُلَقًى هَذه الفَعْلةَ ، وهذه - الكلمة يعني قولهم : (وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا).
* * *
وقوله : (وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82)
يعني الذين قالوا : (يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ).
(يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ).
هذه اللفظة لفظة " وَيْكَ " قد أَشْكَلَتْ على جَمَاعَةٍ من أَهْلِ اللغةِ
وجَاءَ في التفسير أن معناها ألم تر أنه لَا يُفلح الكَافِرونَ.
وقال بعضهم معناها أما تَرَى أنه لا يفلح الكافرونَ.
وقال بعض النحويين - وهذا غلط عظيم - إنَّ مَعناها وَيْلَكَ اعْلَمْ أنه لا يفلح الكافرون فحذف اللام فبقيتْ وَيْكَ وَحَذَفَ أعلم أنه لا يفلح الكافرون ، وهذا خطأ من ْغير جهة ، لو كان كما قال لكانت أن مكسورة كما تقول : ويلك إنه قَدْ كَانَ كذا وكذا ، ومن جهة أخرى أنْ يُقَالَ لمن خاطب القوم بهذا

(4/156)


فقالوا : ويلك " إنه لا يفلح الكافرون " ، ومن جهة أخرى أنه حذف
اللام من ويل.
والقول الصحيح في هذا ما ذكره سيبويه عن الخليل ويونس.
قال سألت عنها الخليل فزعم أنها " وَيْ " مفصولة من كأنَّ.
وأن القوم تنبهوا فقالوا : وَيْ ، مَتندِّمِينَ على ما سلف منهم ، وكل من تندم أو ندم فإظهار تندمه وندامته أن يقول " وي " كما تعاتب الرجل على ما سلف منه فقول : وي ، كأنك قصدت مكروهي ، فحقيقة الوقف عليها وَيْ ، وهو أجود في الكلام ، ومعناه التنبيه والتندم.
قال الشاعر :
سَألتَاني إلى طلاق إذ رأتاني . . . قلَّ مالي قد جِئْتما فِي بنكر
وَيْ كأنْ مَنْ يكنْ له نَشَبٌ يُحْ . . . بَبْ ومَنْ يَفْتَقِرْ يَعِشْ عيشَ ضُرِّ
فهذا تفسير الخليل ، وهو مشاكل لما جاء في التفسير ، لأن قول
المفسرين هو تنبيه (1).
* * *
وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (85)
معنى فرض عليك القرآن أنزله عليك وألزمك ، وفرض عليك
العمل بما يوجبه القرآن.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { وَيْكَأَنَّ الله } : و « ويْكَأنَّه » فيه مذاهبُ منها : أنَّ « وَيْ » كلمةٌ برأسِها وهي اسمُ فعلٍ معناها أَعْجَبُ أي أنا . والكافُ للتعليل ، وأنَّ وما في حَيِّزها مجرورةٌ بها أي : أَعْجب لأنه لا يفلحُ الكافرون ، وسُمِع « كما أنه لا يَعْلَمُ غفر اللهُ له » . وقياسُ هذا القولِ أَنْ يُوْقَفَ على « وَيْ » وحدها ، وقد فعل ذلك الكسائيُّ . إلاَّ أنه يُنْقل عنه أنه يُعتقدُ في الكلمةِ أنَّ أصلَها : وَيْلَكَ كما سيأتي ، وهذا يُنافي وَقْفَه . وأنشد سيبويه :
3628 وَيْ كأنْ مَنْ يكنْ له نَشَبٌ يُحْ . . . بَبْ ومَنْ يَفْتَقِرْ يَعِشْ عيشَ ضُرِّ
الثاني : قال بعضهم : قوله : « كأنَّ » هنا للتشبيه ، إلاَّ أنه ذهب منها معناه ، وصارت للخبرِ واليقين . وأنشد :
3629 كأنني حين أُمْسِي لا تُكَلِّمُني . . . مُتَيَّمٌ يَشْتهي ما ليس موجودا
وهذا أيضاً يناسِبُه الوقفُ على « وَيْ ».
الثالث : أنَّ « وَيْكَ » كلمةٌ برأسِها ، والكافَ حرفُ خطابٍ ، و « أنَّ » معمولٌه محذوفٌ أي : أعلمُ أنه لا يُفْلِحُ . قاله الأخفش . وعليه قولُه :
3630 ألا وَيْكَ المَسَرَّةُ لا تَدُوْمُ . . . ولا يَبْقى على البؤسِ النعيمُ
وقال عنترةُ :
3631 ولقد شَفَى نفسي وأَبْرَأَ سُقْمَها/ . . . قيلُ الفوارسِ وَيْكَ عنترَ أَقْدمِ
وحقُّه أَنْ يقفَ على « وَيْكَ » وقد فعله أبو عمرو بن العلاء.
الرابع : أنَّ أصلَها وَيْلك فحذف . وإليه ذهب الكسائيُّ ويونس وأبو حاتم . وحقُّهم أَنْ يقفوا على الكافِ كما فعل أبو عمرٍو . ومَنْ قال بهذا استشهد بالبيتين المتقدمين؛ فإنه يُحتمل أَنْ يكونَ الأصلُ فيهما : وَيْلَكَ ، فحذف . ولم يُرسَمْ في القرآن إلاَّ : وَيْكأنَّ ، ويْكَأنَّه متصلةً في الموضعين ، فعامَّةُ القراءِ اتَّبعوة الرسمَ ، والكسائيُّ وقف على « وَيْ » ، وأبو عمرٍو على وَيْكَ . وهذا كلُّه في وَقْفِ الاختبارِ دونَ الاختيارِ كنظائرَ تقدَّمَتْ.
الخامس : أنَّ « وَيْكأنَّ » كلَّها كلمةٌ متصلةٌ بسيطةٌ ، ومعناها : ألم تَرَ ، ورُبَّما نُقِل ذلك عن ابن عباس . ونَقَلَ الكسائيُّ والفراء أنها بمعنى : أما ترى إلى صُنْعِ الله . وحكى ابن قتيبة أنها بمعنى : رَحْمَةً لك ، في لغة حِمْير.
قوله : { لولا أَن مَّنَّ } قرأ الأعمشُ « لولا مَنَّ » بحذفِ « أنْ » وهي مُرادةٌ؛ لأنَّ « لولا » هذه لا يَليها إلاَّ المبتدأُ . وعنه « مَنُّ » برفع النونِ وجَرِّ الجلالةِ وهي واضحةٌ.
قوله : { لَخَسَفَ } حفص : « لَخَسَفَ » مبنياً للفاعل أي : الله تعالى . والباقون ببنائِه للمفعولِ . و « بنا » هو القائمُ مَقامَ الفاعلِ . وعبد الله وطلحةُ « لا نْخُسِفَ بنا » أي : المكان . وقيل : « بنا » هو القائمُ مَقامَ الفاعلِ ، كقولك « انقُطِع بنا » وهي عبارةٌ . . . وقيل : الفاعلُ ضميرُ المَصدرِ أي : لا نخسَفَ الانخسافَ ، وهي عِيٌّ أيضاً . وعن عبدِ الله « لَتُخُسِّفَ » بتاءٍ من فوقُ وتشديدِ السين مبنياً للمفعولِ ، و « بنا » قائمةٌ مقامَه.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/157)


(لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ) جاء في التفسير : لَرَادُّكَ إِلَى مكانك بمكة.
وقيل إلى معادٍ إلى مكانك في الجنة ، وأكثر التفسير لباعثك ، وعلى
هذا كلام الناس : اذْكُر المَعَادَ . أي اذكر مبعثك في الآخرة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ (86)
(فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ).
أيْ مُعيناً للكَافِرِين ، ويجوز فلا تَكُونَنْ ظهيراً ، ولكني أكرهها
لأنها تخالف المصحف ، ويجب أن تكتب بالتخفيف بالألف.
* * *
وقوله : (وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)
(كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ).
(وَجْهَهُ) منصوب بالاستثناء ، ومعنى (إِلَّا وَجْهَهُ) إلا إياه ، ويجوز (إِلَّا وَجْهُهُ) بالرفْع ، ولكن لا ينبغي أن يقرأ بها ، ويكون المعنى كل شيء
غير وجهه هالك.
وهو مثل قول الشاعر :.
وكل أخ مفارقه أخوه . . . لَعَمْرَ أبيك إلا الفَرقَدَان
المعنى وكل أخ غير الفرقدين مفارقه أَخُوه .

(4/158)


سُورَةُ العَنْكَبُوت
( مَكِّيَّة )
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله : (الم (1)
(الم) تفسيرها أنَا اللَّه أعلم . وقد فسرنا كل شيء قيل في هذا في
أول سورة البقرة.
وقوله : (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2)
اللفظ لفظ استخبار والمعنى معنى تقرير وتوبيخ ، ومعناه أَحَسِبُوا
أَنْ نَقْنَع منهم أن يقولوا " إنَّا مؤمنون " فقط ولا يمتحنون بما يَتَبَينُ به
حقيقة إيمانهم.
وجاء في التفسير في قوله - جلَّ وعزَّ - : (وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ) ، لا
يختبرون بِمَا يُعْلَمُ بِهِ صدقُ إيمانهم من كذبه.
وقيل : (لَا يُفْتَنُونَ) لَا يُبتَلَوْنَ فِي أَنْفُسِهم وأموالهم ، فيعلَمُ بالصبر عَلى البَلاءِ الصادِق - الإيمان مِنْ غَيْرِه.
وموضع " أن " الأولى نصب اسمُ حَسِبَ وخبره.
وموضع " أن " الثانية نصب من جهتين :
أجْوَدُهُمَا أنْ تَكُونَ مَنْصُوبَةً بِـ (يُتْرَكُوا) فيكون المعنى أحسب الناس أن يتركوا لأنْ يقولوا ، وبأن يقولوا.
فلما حذف حرف الخَفْضِ وصل بِـ (يُتْرَكُوا) إلى أن فَنَصبَ ، ويَجُوزُ أن تكون الثانية

(4/159)


العامل فيها " أَحسِبَ " ، كان المعنى على هذا - والله أعلم - أَحَسِبَ
النَاسُ أَنْ يَقولُوا آمَنَا وهم لا يُفْتَنونَ.
والأولى أَجْوَد.
* * *
وقوله : (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)
أي اخْتَبَرْنَا وابْتلينا.
وقوله : (فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ).
المعنى ولَيَعْلَمَنَّ صِدْقَ الصادِق بوقوع صِدْقِه منه ، وكَذِبَ
الكَاذِبِ بوقوع كَذِبِه مِنْه ، وهو الذي يُجَازِي عليه ، واللَّه قد عَلِمَ
الصًادِق من الكاذِبِ قبل أَنْ يَخْلُقَهما ولكنَّ القَصْدَ قَصْد وقوع العلم
بما يُجَازَى عَلَيْه.
* * *
وقوله : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4)
أي يَحْسَبُونَ أَنًهم يَفُوتُونَنا ، أي ليس يُعْجِزُونَنَا.
(ساء ما يحكمون) على معنى ساء حكماً يحكمونَ ، كما تقول
نعم رَجُلًا زَيْدٌ - ويجوز أن تكون رفعاً ، على معنى ساء الحكم
حكمهم.
* * *
وقوله : (مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
(5)
معناه واللَّه أعلم من كان يَرْجُو ثوابَ لِقَاءَ اللَّهِ ، ، فأمَّا من قال : إن
معناه الخوف ، فالخوف ضِدُّ الرجَاءِ ، وليس في الكلام ضِد.
وقد بيَّنَّا ذلك في كِتَابِ الأضْدَادِ.
وقوله : (فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ).

(4/160)


(مَن) في معنى الشرط ، يرتفع بالابتداء ، وخبرها كان ، وجواب
الجزاء (فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ).
* * *
وقوله : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)
القراءة (حُسْناً) ، وقد رويَتْ (إحْسَاناً).
و (حُسْناً) أَجْوَدُ لموافقة المصحف ، فمن قال حُسْناً فهو مِثْلُ وَصَّيْنَا ، إلا أن يفعل بوالديه ما يحْسُنُ.
ومن قرأ (إحْسَاناً) فمعنَاهُ ووصينا الإنسان أن يحسن إلى والديه
إحساناً ، وكأنَّ (حُسْناً) أعَمُّ في البر.
وقوله : (وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا).
معناه : وَإِنْ جَاهَدَاكَ أيها الإنسان والداك لتشرك بي ، وكذلك على
أَنْ تُشْرِكَ بي.
ويروى أن رَجُلًا خرج مِنْ مَكةَ مُهَاجِراً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة ، فَحَلَفتْ أمه أَنْ لا يظلها بيت حتى يرجع ، فأَعلم اللَّه أَن برَّ
الوَالِدَيْنِ وَاجِبٌ ، ونهى أَنْ يَتابَعَا على مَعْصِيَةٍ اللَّه والشرك به ، وإن كان
ذلك عند الوالدين برًّا.
* * *
وقوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10)
أي فإذا ناله أَذًى أَوْ عَذَابٌ بسبب إيمانه جَزِعَ من ذلك ما يجزع
من عذاب اللَّه.
وينبغي للمؤمن أَنْ يَصبرَ على الأذيَّةِ في اللَّه عزَّ وجلَّ.
* * *
وقوله : (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12)
يقرأ (وَلْنَحْملْ) بسكون اللام وبكسرها . في قوله (ولنَحْمِلْ).
وهو أمر في تأويل الشرط والجزاء.
والمعنى إن تَتَبِعُوا سَبِيلَنَا حَمْلنا خطاياكم .

(4/161)


والمعنى إنْ كَانَ فيه إثم فنحنُ نَحْتَمِلُه.
ومعنى " سبيلِنَا " الطريقَ في ديننا الذي نسلكه ، فأَعلم اللَّه عزَّ وجلَّ أنهم لا يحملون شيئاً من خطاياهم فقال :
(وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ).
معناه من شيء يُخففُ عن المحمولِ عنه العذابَ ، ثم أعلم
أنهم يَحملُونَ أَثْقَأنَّهمْ وأثقالاً مع أَثْقَالِهم كما قال عزَّ وجلَّ : (لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ).
فقال في هذه السورة :
(وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13)
وجاء في الحديث تفسير هذا أنه من سَنَّ سُنةً ظُلْم ، أو من سَنَّ
سُنَّةً سَيئَةً فعليه إثمها و إثم من عملٍ بها ، ولا ينتقصُ مِنْ أَوْزَارِ الَّذِين
عَمِلُوا بِهَا شَيء.
وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَة كان له أَجْرُهَا وأَجْرُ من عمل بها
إلى يوم القيامةِ وَلاَ يُنْتَقَصُ من أُجُورِهِمْ شيء.
وعلى قوله : (عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) ، أي علمت ما قَدَّمَتْ من عَمَل ، وما سَنَّتْ مِنْ سُنَةٍ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ ، فإن ذلك مِما أَخَّرَتْ.
ويَجُوزُ أن يكون (مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ)
مَا قَدَّمَتْ مِنْ عَمَل وما أَخَّرَتْ مما كان يجب أن تُقَدِّمَهُ.
ثم أعلم اللَّه - عَز وَجَل - أَنَه يُوَبِّخُهُمْ فقال :
(وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ).
فذلك سُؤالُ تَوْبِيخ كما قال : (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24).
فَأَمًا سُؤَالُ اسْتِعْلاَم فقد أعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أَنَّهُ لا يَسْأَلً سُؤَالَ اسْتِعْلَام في

(4/162)


قوله : (فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39).
* * *
وقوله : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14)
(فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا)
فالاستثناء مُسْتَعْمَل في كلام العَربِ ، وتأويلُه عند النحْويينَ
توكيدُ العَدَدِ وتحصيلُه وكمالُه ، لأنك قد تذكر الجملةَ ويكون الحاصلُ
أَكْثَرَهَا ، فإذا أردت التوْكِيدَ في تمامها قُلْتَ كلها ، وإذا أردت التوكيدَ
في نقصانِها أدْخَلت فيها الاسْتثناء ، تقول : جاءني إخوتك يعني أَن
جَمِيعَهُم جاءك.
وجائز أَنْ تَعْنِيَ أَن أكثرهم جاءَك ، فَإذَا قُلْتَ : جاءني
إخْوَتُكَ كُلُّهُمْ أَكَّدْتَ معنى الجَمَاعةِ ، وأَعْلَمْتَ أنه لم يتَخَلَّفْ مِنْهُمْ
أَحَد.
وتقول أَيْضاً : جاءني إخْوَتُكَ إلا زيداً فتؤكد أن الجَمَاعَةَ تنقُصُ
زيداً.
وكذلك رُءُوس الأعْدَادِ مُشَبَّهَة بالجماعات ، تقول : عندي
عَشَرة ، فتكون ناقِصَةً ، وجائز أن تكون تامَّةً ، فإذا قُلْتَ : عَشَرَة إلا
نِصْفاً أو عشرة كَامِلة حَقَّقْتَ ، وكذلك إذَا قُلْتَ : أَلْف إلَّا خَمْسِينَ فهو
كقولك عشرة إلا نِصْفاً لأنك إنَّما اسْتَعْمَلْتَ الاستثناء فيما كان أَمْلَكَ
بالعَشَرَةِ من التِسْعَةِ ، لأن النِصْفَ قَدْ دَخَل في بابِ العَشرةِ ، ولو قُلْتَ
عشرة إلا واحداً أو إلا اثنَيْن كان جائزاً وفيه قُبْح ، لأن تِسْعةً وَثَمانيةً
يؤدي عَنْ ذَلِكَ العَدَدِ ، ولكنه جائز من جهة التوْكِيدِ أَن هَذِه التَسْعَةَ لا
تَزيد ولا تنقُصُ ، لأنَّ قَوْلَكَ عَشَرة إلاً واحداً قد أخبرت أفيه ، بحقيقة
العَدد واسْتثنيت ما يكون نقصاناً من رأس العَددِ.
والاختيار في الاستثناء في الأعداد التي هي عُقُودُ الكسُور
والصحَاحِ جَائِز أن يستثنى.
فأما استثناء نصف الشيء فقبيح

(4/163)


جدَّا ، لا يتكلم به الجَرَبُ ، فإذَا قلتَ عشرةً إلا خمْسةً فليس تَطُور
العَشَرةُ بِالخَمْسَةِ لأنها لَيْسَتْ تَقْرُبُ منها ، وإنما تتكلم بالاستِثْنَاء كما
تتكلم بِالنقْصَانِ ، فتقول : عندي درهم ينقص قِيرَاطاً ، . .
ولو قلت عندي درهم ينقص خمسة دوانيق أو تنقُصُ نِصْفَه كان الأولى بذلك : عِنْدِي نصف دِرْهَمٌ . ولم يأت الاستثناء في كلام العَرَبِ إلا قليلٌ من كثير.
فهذه جملة كافيةٌ.
وقوله : (فَاَخَذهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ).
الطوفَانُ مِن كُل شيءٍ ما كان كثيراً مُطِيفاً بالجماعة كلها كالْغَرَقِ
الذِي يَشْتمِلُ عَلَى المدُنِ الكَبِيرَةِ.
يقال فيه طوفان . وكذلك القتل الذرِيعُ والموت الجارف طوفان.
* * *
وقوله : (فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (15)
قد بَين في غير هذه الآية مَنْ أَصْحَابُ السفينةِ - في قوله :
(قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ).
* * *
وقوله : (وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16)
المعنى وَأُرْسَلْنَا إبراهِيمَ عَطْفاً على نوح.
* * *
وقوله : (إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17)

(4/164)


وقرئت (وَتُخَلِّقُونَ إفْكاً).
أَوْثاناً أَصْناماً.
وتخلقون إفْكاً فيه قَولانِ :
تخلقون كذِباً ، وقيل تعملون الأصْنَامَ ، ويكون التأويلُ على هذا
القول : إنما تعْبُدُونَ من دون الله أَوْثَاناً وأَنْتُم تصنعونَها.
* * *
وقوله : (أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19)
وتقرأ تَرَوا بالتاءِ.
* * *
(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)
(ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ).
أي ثم إن الله يبعثهم ثانيةً بِنَشئِهِمْ نشأةً أخرى ، كما قال :
(وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (47).
وأكثر القراءة (النَّشْأَةَ) بتسكين الشِين وتَرْكٌ لِمَدِّهِ.
وقرأ أَبُو عَمْرٍ و النشَاءَةَ الأخْرَى بِالمَدِّ.
* * *
وقوله تعالى : (وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (22)
أي ليس يعجز اللَّهَ خلْقٌ في السماء ولَا في الأرْضِ.
وفي هذا قولان :
أَحَدُهُما معناهُ ما أنتم بمعجزين في الأرض ولا أهل السماء
مُعْجِزين في السَّمَاءِ ، أي مَن في السَّمَاوَات ومَن في الأرض غير
مُعْجِزِينَ ويجوز - والله أعلم - وما أنتُمْ بمعجزين في الأرْضِ ، ولا
لو كنتم في السماء ، أي لا ملجأ من الله إلا إليهِ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23)
روي عن قَتَادَة أنه قال : إن اللهَ ذَمَّ قَوْماً هَانُوا عَلَيْه فقال :
(أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي) ، وقال : (إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ).
وينبغي للمؤمن ألا ييئَسَ من روح الله ، ولا من رَحْمَتِه ، وَلاَ يأمَنُ مِنْ
عَذَابِه وعِقَابِه ، وصِفَةُ المُؤمِنِ أَن يكون راجياً للَّهِ ، خائفاً .

(4/165)


(فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24)
وقرأ الحسنُ فما كان جَوَابُ قَوْمِهِ - بالرفع - فمن نصب جَعَل " أَنْ
قَالُوا " اسم كَانَ ، ومن رفع الجَوَابَ جَعَلَه اسمَ كان وجَعَلَ الخَبَرَ " أَنْ
قَالُوا " وَمَا عَمِلَتْ فيه ، ويكون المَعْنَى ما كان الجوابُ إلا مَقالَتَهُم :
اقْتُلوه ، لما أَنْ دَعَاهُم إبراهيم إلى توحيد اللَّه عزَّ وجلًَّ ، واحتَجَّ عليْهم
بأنهم يعبدون ما لا يضرهم ولا ينفعُهُمْ ، جعلوا الجواب اقتلوه أو
حَِّقُوهُ.
وقوله : (فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ).
المعنى فحرقوه فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ.
ويُرْوَى أن إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - لم تعمل النارُ في شيء منه إلا في وَثَاقِهِ الذي شُدَّ بِهِ.
ويروى أن جميع الدواب والهَوَام كانت تطفئ عن إبراهيم إلا الوزغ ، فإنها كانت تنفخ النار ، فأمِرَ بِقَتْلِهَا ويرد أنه لم ينتفع في ذلك اليوم بِالنارِ ، أعني يَوْمَ أخذوا إبراهيم عليه السلام.
وجميع ما ذكرناه في هذه القِصةِ مِما رواه عبد اللَّه بن أحمد بن
حَنْبَل عَنْ أَبيه ، وكذلك أكثر ما رَوَيْتُ في هذا الكتاب من التفسير.
فهو من كتاب التفسير عن أحمد بن حنبل.
* * *
وقال عزَّ وجلَّ : (وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25)
أي قال إبراهيم لقوْمِهِ إنما اتخذتم هذه الأوثان لِتَتَوادُّوا بها في
الحياة الدنْيَا.
(ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا).

(4/166)


وهذا كما قال الله - عزَّ وجلَّ : (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67).
وفيها في القراءَةِ أَرْبعَةُ أَوْجُهُ.
مِنْهَا : (مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ) ، بفتح (مَوَدَّةَ)
وبالإضافة إلى بَيْنٍ ، وبنصْب مَوَدَّةً والتنوين ، ونصب بَيْنَ.
(مَوَدَّةً بَيْنَكُمْ) ويجوز (مَوَدَّةُ بَيْنِكُمْ) - بالرفع والِإضَافَةِ إلى بين.
ويجوز (مَوَدَّةٌ بَيْنَكُمْ) - بالرفع والتنوين ونصبُ بَيْن.
فالنصْبُ في (مَوَدَّةَ) من أجل أنها مفعول لها ، أي اتخذتم هذا للمودةِ بينكم . ومن رفع فمن جهتين :
إحْدَاهُمَا أن يكون " ما " في معنى " الذي " ويكون المعنى : إن ما
اتخذتموه من دون الله أوثاناً مَوَدةُ بينكم ، فيكون (مَوَدَّة) خبرَ إن ، ويكون
برفع (مَوَدَّة) على إضْمارِ هيَ ، كَأنهُ قال : تِلْكَ مودةٌ بَيْنَكُمْ في الحياة
الدنيا ، أي أُلْفَتُكُمْ واجتماعكم على الأصنَامِ مَوَدَّةٌ بينكم في الحياة
الدنيا (1).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26)
صَدَّق لُوطٌ إبراهيمَ عليه السلام ، وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي.
إبْرَاهِيمُ هاجَرَ من كُوثَى (2) إلى الشام.
* * *
وقوله : (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27)
(وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا).
قيل الذكر الحسن ، وكذلك (وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ).
وقيل (وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا) أنه ليس مِنْ أمةٍ من المُسْلمين واليهودِ
والمجوسِ والنصارى إلا وهم يعظمون إبراهيم.
وقيل (وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا)
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { إِنَّمَا اتخذتم } : في « ما » هذه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها : أنها موصولةٌ بمعنى الذي ، والعائدُ محذوفٌ ، وهو المفعولُ الأول . و « أَوْثاناً » مفعولٌ ثانٍ . والخبرُ « مَوَدَّةُ » في قراءةِ مَنْ رفع كما سيأتي . والتقدير : إنَّ الذي اتَّخذتموه أوثاناً مودةُ ، أي : ذو مودةٍ ، أو جُعلِ نفسَ المودةِ ، ومحذوفٌ على قراءةِ مَنْ نَصَبَ « مَوَدَّةَ » أي : إنَّ الذي اتخذتموه أوثاناً لأجلِ المودةِ لا يَنْفَعُكم ، أو « يكونُ عليكم » ، لدلالةِ قولِه : { ثُمَّ يَوْمَ القيامة يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ }.
الثاني : أن تُجْعَلَ « ما » كافةً ، و « أوثاناً » مفعولٌ به . والاتِّخاذ هنا متعدٍ لواحدٍ ، أو لاثنين ، والثاني ، هو { مِّن دُونِ الله } فَمَنْ رفع « مودةُ » كانَتْ خبرَ مبتدأ مضمرٍ . أي : هي مودة ، أي : ذاتُ مودة ، أو جُعِلت نفسَ المودةِ مبالغةً . والجملةُ حينئذٍ صفةٌ ل « أَوْثاناً » أو مستأنفةٌ . ومَنْ نصبَ كانَتْ مفعولاً له ، أو بإضمار أَعْني.
الثالث : أَنْ تُجْعَلَ « ما » مصدريةً ، وحينئذٍ يجوز أن يُقَدَّر مضافاً من الأول أي : إنَّ سببَ اتَّخاذِكم أوثاناً مودةُ ، فيمَنْ رفَعَ « مودةُ » . ويجوز أَنْ لا يُقَدَّرَ ، بل يُجْعَلُ نفسُ الاتخاذِ هو المودةَ مبالغةً . وفي قراءةِ مَنْ نَصَبَ يكونُ الخبرُ محذوفاً ، على ما مَرَّ في الوجه الأول.
وقرأ ابن كثيرٍ وأبو عمروٍ والكسائيُّ برفع « مودةُ » غيرَ منونة وجَرِّ « بَيْنِكم » . ونافع وابن عامر وأبو بكر بنصب « مودةً » منونةً ونصبِ « بينَكم » . وحمزةُ وحفص بنصب « مودةَ » غيرَ منونةٍ وجرِّ « بَيْنِكم » . فالرفعُ قد تقدَّم . والنصبُ أيضاً تقدَّم فيه وجهان ، ويجوز وجهٌ ثالثٌ ، وهو أن تُجْعَلَ مفعولاً ثانياً على المبالغةِ ، والإِضافةُ للاتِّساعِ في الظرف كقولِهم :
يا سارِقَ الليلةِ أهلَ الدارِ . . . ومَنْ نصبَه فعلى أصلِه . ونُقِل عن عاصمٍ أنه رَفَع « مودةُ » غيرَ منونةٍ ونَصَبَ « بينَكم » . وخُرِّجَتْ على إضافة « مودةُ » للظرف ، وإنما بُني لإِضافتِه إلى غيرِ متمكنٍ كقراءةِ { لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } [ الأنعام : 94 ] بالفتح إذا جعلنا « بينَكم » فاعلاً.
وأمَّا « في الحياة » ففيه [ أوجهٌ ] أحدها : أنه هو و « بينَكم » متعلقان ب « مودَّة » إذا نُوِّنَتْ . وجازَ تعلُّقُهما بعاملٍ واحدٍ لاختلافِهما . الثاني : أَنْ يتعلَّقا بمحذوفٍ على أنهما صفتان ل « مودَّة » . الثالث : أن يتعلَّق « بَيْنَكم » بموَدَّة . و « في الحياة » صفةٌ ل « مودة » . ولا يجوز العكسُ لئلا يلْزَم إعمالُ المصدرِ الموصوفِ . والفرقُ بينَه وبين الأول أنَّ الأولَ عَمِلَ فيه المصدرُ قبل أَنْ يُوْصَفَ ، وهذا عَمِلَ فيه بعد أَنْ وُصِفَ.
على أنَّ ابنَ عطية جَوَّز ذلك هو وغيرُه وكأنهم اتَّسَعوا في الظرف . فهذا وجهٌ رابعٌ.
الخامس : أَنْ يتعلَّقَ « في الحياة » بنفس « بينَكم » لأنه بمعنى الفعل ، إذ التقديرُ : اجتماعُكم ووَصْلُكم . السادس : أَنْ يكونَ حالاً مِنْ نفسِ « بينَكم » . السابع : أن يكونَ « بينَكم » صفةً ل « مودة » . و « في الحياة » حالٌ من الضميرِ المستكنِّ فيه . الثامن : أَنْ يتعلَّقَ « في الحياة » ب « اتَّخذتُمْ » على أَنْ تكون « ما » كافةً و « مودة » منصوبةً . قال أبو البقاء : « لئلا يؤدِّي إلى الفصلِ/ بين الموصولِ وما في الصلة بالخبر ». اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(2) كُوثى العِراق وهي سُرَّةُ السَّوادِ التي ولد بها إِبراهيم عليه السلام.
(انظر اللسان. 2 / 181).

(4/167)


أن الأنبياء مِنْ وَلَدِه ، وقيل الولد الصالح.
* * *
ْوقوله تعالى : (وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (28)
المعنى أنه لم يَنْزُ ذَكرٌ على ذَكَرٍ قبل قَوْمِ لُوطٍ.
* * *
وقوله : (أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29)
اللفظ لفظ استفهام ، والمعنى معنى التقرير والتوبيخ.
(وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ).
جاء في التفسير ويقْطَعونَ سبيلَ الوَلَدِ ، وقيل : يعترضون الناسَ.
في الطرُقِ لِطلَب الفَاحِشة.
(وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ).
أي تأتون في مجالسكم المنَكَرَ ، قيل إنهم كانوا يَخْذِفونَ الناسَ في
مجالِسهِمْ ويسخرون مِنْهم ، فأَعلم اللَّه جلَّ وعزَّ . أن هذا من المنكر ، وأنه لا
ينبغِي أن تتعاشر الناس عليه ، ولا يجتمعوا إلا فيما قَرَّب إلى اللَّه وباعَدَ مِنْ
سَخَطِهِ ، وألَّا يجتمعوا على الهزء والتلَهِّي.
وقيل (وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ) أنهُمْ كانوا يَفْسُقَونَْ في مَجَالِسِهِم.
* * *
وقوله : (وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38)
المعنى وأهلكنا عاداً وثموداً ، لأن قبل هذا قَارُونَ وأصْحَابَهُ ، فأخذتهم
الرجفة.
* * *
وقوله : (فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)

(4/168)


(فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا)
وهم قومُ . لوطٍ.
(وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ) وهم قوم ثمودَ وَمَدْين.
(وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأرْضَ) وهم قارون وأَصْحابُه . .
(وَمنهم من أغْرَقْنَا) وهم قوم نوح وفرْعَوْنَ.
فأَعلم اللَّه أن الذي فُعِلَ بهم عَدْلٌ ، وأنه لم يَظْلمْهُمْ ، وأنهم
ظلموا أَنْفُسَهمْ . لأنه قَدْ بَيَّنَ لَهُمْ ، وذلك قوله : (وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ).
أتوا ما أَتَوْه وَقَدْ بَيَّن لهم أن عاقبته عَذَابُهُمْ
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41)
(لَوْ) مُتصِلة بقوله (اتَّخَذُوا) أي لو علموا أن اتخاذهم الأولياء
كاتِخَاذِ العنكبوتِ ، ليس أنهم لا يَعْلَمُونَ أن بيت العنكبوت ضعيف.
وذلك أن بيت العنكبوت لا بَيْتَ أضعفُ منه ، فيما يَتَّخِذُه الهَوَام في
البيوت ، ولا أقل وقايةً منه من حَرٍّ أَو بَرْدٍ.
والمعنى أن أولياءَهُمْ لَا يَنْقُصُونَهُمْ ، ولا يرزقونهم ولا يدفعون عنهم ضرَراً ، كما أن بيت العَنكَبُوتِ غير مُوقٍ للعنكبوت.
* * *
وقوله تعالى : (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)
قال الحسن وَقَتَادَةُ : من لم تنهه صَلاَتُه عن الفحشاء والمنكر
فليست صَلَاتُه بِصَلاة ، وهي وَبَال عَلَيه .

(4/169)


وقوله : (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ).
فيها أوجه : فمنها أن أكبر في معنى كبير ، وجَاَءَ في التفسير : ولذكر
اللَّه إِياكم إذَا ذَكَرْتموهُ أكبر من ذكركم.
ووجه آخر معناه (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ)
النهى عن الفحشاء والمنكر ، أكبر من الانتهاء عن الفحشاء والمنكر ، لأن اللَّه
قد نهى عنها.
* * *
وقوله : (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46)
أي : أهلَ الحربِ ، فالمعنى : لا تجادلوا أهل الجزيَةِ إلاَّ بالتي
هي أحَسَن ، وقاتلوا الذين ظلموا.
وقيل إن الآية منسوخة بقوله : (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29).
فكان الصَّغَارُ خارجاً مِنَ التي هي أَحْسَن ، فالأشْبَه أَن تكون مَنْسوخَة.
وجائز أن يكون الصغار أخذَ الجزية مِنهم وَإن كرهوا ، فالذين تؤْخَذ منهم الجزية بنص الكتاب إليهود والنصَارَى ، لأنهم أصحاب التوراة والإنجيل ، فأمَّا المجوس فأخذت منهم الجِزْيَةُ لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
" سنُّوا بِهِم سئة أهل الكتاب ".
واختلف الناسُ فيمن سِوى هؤلاء من الكفار مثل عبدَة
الأوثان ومن أشْبَهُهمْ فهم عند مالك بَن أنس يجرون هذَا المجرى.
تؤخذ منهم الجزية كانوا عَجَماً أو عَرَباً ، وأما أهل العِراقِ فقالوا نَقْبَلُ الجزية من العَجَم غير العَرَبِ إِذا كانوا كفاراً ، وإن خرجوا من هذه الأصْنافِ أعني إليهود

(4/170)


والنصارى والمجوس ، نحو الهندِ والترك والديلم ، فأمَّا العَرَب عندهم فإذا
خرجوا من هذه الثلاثة الأصناف لم تُقْبَلْ منهم جِزْيَة ، وكان القتل في أمرهم
إن أقاموا على مِلَّةٍ غير اليَهُوديةِ والنصرانية والمجوسيةِ.
وبعض الفقهاء لا يرى إلا القَتْلَ في عبدة الأووثان والأصنام ومن أشَبَهَهُمْ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48)
أي ما كنت قرأت الكتُبَ وَلَا كُنْتَ كاتباً ، وكذلك صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - عندهم في التوراة والإنجيل.
وقوله : (إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ) قيل إنهم كُفار قرَيْشِ.
* * *
وقوله : (بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49)
قيل فيه ثلاثة أوجُهٍ :
منها بل القرآن آيات بينات ، ومنها بل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأموره آيات بينات ، ومِنْها (بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ) أي بل إنه لا يقرأ
ولا يكتب ، آيات بَينَات ، لأنه إذا لم يكن قرأ كتاباً ، ولا هو كاتب ثم
أخبر بأقاصيص الأولين والأنبياء فذلك آيات بينَّات في صدور الذين
أوتوا العلم.
* * *
وقوله : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53)
هذه نزلت في قوم جهلة قالوا : (اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ) ، فأعلمَ اللَّهُ - عزَّ وجلَّ - أنَّ

(4/171)


لِعَذَابِهِمْ أَجَلًا فقال : (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46).
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً).
مَعناه فُجَاءَةً ، و (بَغْتَةً) اسم مَنْصُوبٌ في موضع الحال ، ومعناه
وَلَيأتينًهُمْ مفاجأةً).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ).
كان قوم من المسلمين كتبوا شيئاً عن إليهود فأتوا به النبي - صلى الله عليه وسلم -.
فقال عليه السلام : كَفَى بها حَماقةَ قَوْم ، أو ضَلَالَة قَوْم أَنْ رَغبوا عما
أَتَى بِهِ نَبيُّهُمْ إلى ما أتى به غير نبيِّهِمْ إلى غير قومهم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56)
تفسيرها : قيل إنهُمْ أُمِرُوا بالهجرة من الموضع الذي لا تمكنهم
فيه عبادة اللَّه - عزَّ وجلَّ - وأداء فرائضِه ، وأصل هذا فيمن كان يمكنه
مِمنْ آمن وكان لا يمكنه إظهار إيمانه ، وكذلك يجب على كل من كان
في بلد يُعمل فيه بالمَعَاصِي ولا يمكنه بغير ذلك أن يُهَاجِرَ وينتقِلَ إلى
حيث يَتَهيُأ له أن يعبُدَ الله حق عِبَادَتِهِ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ).
" إِيَّايَ" منصوب بفعل مضمر ، الذي ظهر يفسِّرُهُ.
المعنى فاعبدوا إياي - فاعبدوني ، فاستغنى بأحد الفعلين ، أعني الثاني - عن إظهار الأول ، فإذا قلت : فإياي فاعبدوا ، فإياي منصوب بما بعد الفاء ،

(4/172)


ولا تنصِبْه بِفِعْل مُضْمَرٍ كما أنك إذا قلْتَ : بِزَيْد فَامْرُر ، فالباء متعلقة
بامْرُرْ ، والمعنى : إنَّ أرضي واسِعَة فَاعْبُدونِ ، فالفاء إذا قُلْتَ زيداً
فاضرب لا يصلح إلا أَنْ تكون جواباً للشرطِ ، كان قائلًا قال : أنا لا
أَضربُ عَمْراً ، ولكني أضرب زيداً ، فقُلتَ أنت مُجيباً له : فاضرب
زيداً ، ثم قلت زيداً فاضرب ، فجعلت تقديم الاسم بدلاً من الشرط.
كأنك قلت إن كان الأمر على ما تصف فاضرب زيداً ، وهذا مذهب
جميع النحويين البصريين.
* * *
وقوله : (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60)
كل حيوان على الأرض مما يعقل ، وما لا يَعْقِل فهو دابة ، وإنما
هو من دَبَّتْ علَى الأرض فهي دَابَّة ، والمعنى نفسٍ دابَّة.
ومعنى (وَكَأَيِّنْ): وكم من دَابَّةٍ.
وقوله : (لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا).
أي لا تدَّخر رزقها ، إنما تصبح فَيَرْزُقُها اللَّه.
وعلى هذا أكثر الحيوان والدَّبِيبِ وليس في الحيوان الذي هو دبيب ما يدخِرُ فيما تبيَّن غيرُ النَّمْلِ ، فإن ادِّخَارَه بيِّنٌ.
* * *
وقوله : (وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64)
(وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ).
معناه هي دار الحياة الدائمة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا).
وقرئت (لَنُثَوِيَنَّهُمْ) - بالثاء - يقال ثوى الرجل إذا أقام بالمكان
وَأَثْوَيْتُه أنزلته منزلاً يقيم فيه (1).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66)
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { والذين آمَنُواْ } : يجوز فيه الوجهان المشهوران : الابتداءُ والاشتغال . والأخَوان قرآ بثاءٍ مثلثةٍ ساكنةٍ بعد النونِ ، وياءٍ مفتوحةٍ بعد الواوِ من الثَّواء وهو الإِقامةُ . والباقونَ بباءٍ مُوَحَّدة مفتوحةٍ بعد النونِ وهمزةٍ مفتوحةٍ بعد الواوِ من المَباءة وهي الإِنزالُ . و « غُرفاً » على القراءةِ الأولى : إمَّا مفعولٌ به على تضمين « أَثْوَى » أنزل ، فيتعدَّى لاثنين ، لأنَّ ثوى قاصرٌ ، وأكسبته الهمزةُ التعدِّيَ لواحدٍ ، وإمَّا على تشبيهِ الظرف المختصِّ بالمبهمِ كقولِه : { لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ } [ الأعراف : 16 ] وإمَّا على إسقاطِ الخافضِ اتِّساعاً أي : في غُرَف.
وأمَّا في القراءةِ الثانيةِ فمفعولٌ ثانٍ ، لأنَّ « بَوَّأ » يتعدَّى لاثنين ، قال تعالى : { تُبَوِّىءُ المؤمنين مَقَاعِدَ } [ آل عمران : 121 ] ويتعدَّى باللامِ قال تعالى : { وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ } [ الحج : 26 ] . وقد قُرِئ « لَنُثَوِّيَنَّهم » بالتشديد مع الثاء المثلثة ، عُدِّي بالتضعيف كما عُدِّي بالهمزة . و « تَجْرِي » صفةٌ ل « غُرَفاً ». اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/173)


(وَلِيَتَمَتَّعُوا)
قرئ بكَسْر اللام وتسكينها ، والكسر أَجْوَدُ على معنى لكي
يكفروا وكي يتمتعُوا (1).
* * *
وقوله : (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65)
أي لم يدعوا أن تُنْجِيَهُمْ أَصنامُهُم وما يعبدونه مع اللَّه.
(فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ).
أي يعبدون مع اللَّه غيره.
* * *
وقوله : (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)
أعلم اللَّه أنه يَزِيدُ المجاهدين هدايةً كما أَنهُ يُضِل الفاسقين.
ويَزِيد الكافرين بِكفْرِهِمْ ضَلَالَةً ، كذلك يَزِيدُ المُجَاهِدِين هِدايةً - كذا
قال عزَّ وجلَّ : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17).
فالمعنى أَنهُ آتاهم ثواب تقواهم وَزَادَهم هُدى عَلَى هِدَايتِهِم.
وقوله : (وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ).
تأويله إن الله نَاصِرُهم ، لأن قوله : (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا).
اللَّه معهم. يدل على نصرهم ، والنصرة تكون في عُلُوِّهِمْ على عَدُوِّهِمْ
بالْغَلَبَةِ بالحِجةِ والغَلَبة بالقَهْرِ والقدرة.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { لِيَكْفُرُواْ } : يجوزُ أَنْ تكونَ لامَ كي ، وهو الظاهرُ ، وأن تكون لامَ أمرٍ.
قوله : « ولِيَتَمَتَّعوا » قرأ أبو عمرو وابن عامر وعاصم وورش بكسرها وهي محتملةٌ للأمرين المتقدمين . والباقون بسكونها . وهي ظاهرةٌ في الأمر . فإنْ كان يُعتقد أن اللامَ الأولى للأمر فقد عطفَ أمراً على مثله ، وإن كان يُعتقد أنها للعلةِ ، فيكون قد عطف كلاماً على كلام.
وقرأ عبد الله { فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعلَمُونَ } وأبو العالية « فيُمَتَّعوا » بالياء مِنْ تحتُ مبنياً للمفعول. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/174)


سُورَةُ الرُّوم
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله عزَّ وجلَّ : (الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2)
قد شَرَحْنَا ما جاء في (الم) ، وقُرِئَتْ غُلِبَتْ بضم الغَيْنِ.
وقرأ أبو عَمْرٍو (غَلَبَتْ) - بفتح الغَيْن - والمعنى على غُلِبَتْ.
وهي إجماع القراء.
وذلك أن فارِسَ كانت قد غَلَبَتِ الروم في ذلك الوَقتِ ، والروم مغلوبة.
فالقراءة غُلِبَتْ.
* * *
وقوله : (فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3)
قيل في أطراف الشام ، وتأويله أدنى الأرض مِنْ أَرْض العَرَبِ.
وقوله : (وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ).
هذه من الآيات التي تدل على أن القرآن من عند اللَّه ، لأنه أَنْبَأ
بما سيكون ، وهذا لا يعلمه إلا اللَّه - عزَّ وجلَّ - وكان المشركون سُرُّوا
بأن غَلَبَتْ فَارِس الرُّومَ ، وَذَلِكَ لأنَّهم قالوا : إئكُمْ أيها المسلمون
تَزْعَمُونَ بأنكُمْ تُنْصَرون بأنكم أهلُ كتاب ، فقد غَلَبَتْ فَارِس الرومَ.
وفارس ليست أهل كتاب ، والروم أهل كتابٍ ، فكذلك سنغلبكم نحن.
فأَعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أَن الرومَ سَيَغْلِبُونَ في بِضْعِ سِنِين ، وسَيُسَرُّ
المسلمُونَ بِذَلِكَ فراهَنَ المُسْلِمُونَ المُشْرُكين وبايعوهم على صحة هذا
الخبر.
والبِضْعُ ما بين الثلاث إلى التِسْع ، فلما مضى بعض البضْع

(4/175)


طالبَ المشركون المُسْلِمِين وقالوا قدْ غَلَبْنَاكُمْ ، لأنه قد مَضت بضع
سنين ولم تغلب الرومُ فَارِسَ ، واحتج عليهم المسلمون بأن البِضْعَ
لَمْ يَكْمُل ، وزادوهم وأخروهم إلى تمام البِضْعِ ، فغلبت الروم فارسَ
وقمَرَ المسلمون وذلك قبل أن يُحَرَّمَ القِمَارُ وَفرِحَ المسلمون وخَزِيَ
الكا فرون.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4)
القراءة الضم ، وعليه أهل العربية ، والقراء كُلُّهم مجمعون
عليه ، فأمَّا النحويون فيجيزون مِنْ قَبْلٍ ومن بَعْدٍ بالتنوين.
وبعضهم يجيز من قَبْلِ وَمِن بَعْدِ - بغير تنوين ، وهذا خَطَأ لأن قَبْل وبَعْد ههنا
أصلهما الخفض ولكن بُنيَتَا علَى الضم لأنهما غايَتَانِ.
ومعنى (غاية) أن الكلمة حذفت منها الإضافَةُ ، وَجُعِلَت غاية الكلمة ما بقيَ بعد الحَذْفِ . وإنما بُنِيَتَا على الضم لأن إعرابَهُمَا في الإضَافَةِ النصبُ
والخَفْضُ.
تقول : رأيته قبلَكَ وَمِنْ قَبْلِكَ ، ولا يرفعان لأنهما لا يُحدَّث
عَنْهُمَا لأنهما اسْتُعْمِلتَا ظرفَيْنِ ، فلما عُدِلَا عن بابهما حُركا بغير
الحركتين اللتَيْنِ كانتا تَدْخُلَانِ عليهما بحق الإعراب.
فأمَّا وجوب ذهاب إعْرَابِهما ، وَبِنَاؤُهما فلأنهُما عُرفَا من غير جهة التعريف ، لأنه حذف منهما ما أضيفتا إلَيْه.
والمعنى للَّهِ الأمر من قبل أَنْ يُغْلَبَ الروم ومن بعد ما غُلِبَتْ ، وأَما
الخَفْض والتنْوِينُ فعلى من جعلهما نكرتين.
المعنى : لِلَّهِ الأمر مِنْ تَقَدُّمٍ وَتَأخُّرٍ.
والضمُ أَجْوَدُ ، فأما الكسر بلا تنوينٍ فذكر الفرَاء أَنَه تَرْكُهْ
عَلَى ما كَانَ يَكُونُ عَلَيْه في الإضافَةِ ولم يُنَوَّن ، واحتج بقول الأول :

(4/176)


بين ذراعَيْ وَجبْهةِ الأَسَدِ
وبقَوْلِه :
ألا غلَالَةَ أَوْ بَدَاهَةَ قارِح نَهْدِ الجُرَارَة
وليس هذا كذلك لأن معنى بين ذراعي وجبهة الأسَدِ . بين ذراعيه
وَجَبْهَتِهِ فقد ذكِرَ أَحَدَ المضافَيْن إلَيْهِمَا ، وذلك لوكان للَّهِ الأمْرُ من
قَبْلِ وَمِنْ بَعْدِ كَذا لجاز وكان المعنَى من قبل كذا ومن بعد كذا.
وليس هذا القول - مما يُعرَّج عَلَيْهِ ولا قاله أحد من النحويين المتقدمين (1).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ) . .
الغَلَبُ والطلَبُ مَصْدَران ، تقول : غَلَبْتُ غَلَباً ، وَطَلَبْتُ طَلَباً.
ْوزعم بعض النحويين أَنه في الأصل مِنْ بَعْد غَلَبَتِهِم ، وذكر أن الإضافة
لما وقعت حذفت هاء الغلبةِ ، وهذا خطأ.
الغلبةُ والغَلَبُ مصدر غَلَبْتُ مثل الجَلَبُ والجَلبةُ.
* * *
وقوله : (وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6)
القراءة النصْبُ فيْ وَعْد ، ويَجُوز الرفْعُ ، ويجوز النصب ، ولا
أعلم أَحداً قرأ بالرفع.
فالنصب على أَنهُ مَصْدَرٌ مؤكِدٌ ، لِأن قوله (وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سيغلبون).
هو وعدْ من اللَّه للمؤمنين ، وقوله (وَعْدَ اللَّه) بمنزلة وعَدَ اللَّهُ
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ } العامَّةُ على بنائِهما ضمَّاً لقَطْعِهما عن الإِضافة . وأراد بها أي : مِنْ قبل الغَلَبِ ومِنْ بعدِه . أو من قَبْلِ كل أمرٍ ومِنْ بعده . وحكى الفراء كَسْرهما مِنْ غير تنوين . وغَلَّطه النحاسُ ، وقال : » إنما يجوز مِنْ قبلٍ ومِنْ بعدٍ/ يعني مكسوراً منوناً « . قلت : وقد قُرِئ بذلك . ووجهُه أنه لم يَنْوِ إضافتَهما فَأَعْرَبهما كقوله :
فساغَ لي الشَّرابُ وكنتُ قَبْلاً . . . أَكاد أَغَصُّ بالماءِ القَراحِ
[ وقوله : ]
ونحنُ قَتَلْنا الأُسْدَ أُسْدَ خَفِيَّةٍ . . . فما شَرِبُوا بَعْداً على لَذَّةٍ خَمْرا
وحُكي » مِنْ قبلٍ « بالتنوينِ والجرِّ ، » ومِنْ بعدُ « بالبناءِ على الضم.
وقد خَرَّج بعضُهم ما حكاه الفراء على أنه قَدَّر أنَّ المضافَ إليه موجودٌ فتُرِكَ الأولُ بحالِه . وأنشد :
. . . . . . . . . . . . . . . . . بين ذراعَيْ وَجبْهةِ الأَسَدِ
والفرقُ لائحٌ؛ فإنَّ في اللفظ مِثْلَ المحذوفِ ، على خلافٍ في تقديرِ البيت أيضاً.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/177)


وَعْداً ومن قال : وَعْدُ الله كان على معنى ذلك وَعْدُ اللَّه كما قال :
(كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ).
وقوله عز وجل : (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)
هذا في مشركي أهل مكة المعنى يعلمون من معايش الحياة
الدنيا ، لأنهم كانوا يعالجون التجارات ، فأَعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - لما
نفى أنهم لا يعلمون مَا الَّذِي يَجْهَلُونَ ، ومقدار ما يَعْلَمُونَ فقال :
(يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ).
" هم " الأولى مرفوعة بالابتداء ، و " هم " الثانية ابتداء ثانٍ.
و (غافلون) خبر " هم " الثانية ، والجملة الثانية خبر " هم " الأولى.
والفائدة في الكلام أو ذكر " هم " ثانية ، وإن كانت ابتداء تَجْري مجرى التوكيد كما تقول زيد هو عَالِم ، فهو أوكد من قولك زيد عالم.
ويصلح أن تكون " هم " بدلاً من " هم " الأولى مُؤكدَةً أَيْضاً ، كما تقول : رأيته إيَّاهُ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8)
معناه : أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فيعلموا ، لأن في الكلام دليلاً عَلَيْه ، وَمَعنى
بالحق ههنا " إلا للحَق " أي لإقامة الحق.
)وَأَجَلٍ مُسَمًّى).
أي لِإقامة الحق وَأَجَلٍ مُسَمًّى ؛ وهو الوقت الذي توَفَّى فيه كل
نَفْس ما كَسَبَتْ.
وقوله : (وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ).

(4/178)


أي لكافرون بلقاءِ رَبَهم ، تَقَدَّمت الباءَ لأنها متَصِلةٌ بكافِرُونَ ، وما
اتَصَلَ بخبرِ إنَّ جازَ أن يُقَدَّم قبْلَ اللام ، ولا يجوز أن تَدْخلَ اللامُ بَعْدَ مضيِّ
الخَبَرِ . لا يجوز أن تقول إن زيداً كافر لباللَّّه . لأن َ اللام حَقُهَا أن تدخل عَلى
الابتداء والخبر . أو بين الابتداء والخَبر ، لأنها تؤكد الجملة ، فلا تأتي تَوْكيداً
وقد مضَت الجملة.
ولا اختلاف بين النحويين في أن اللام لا تدخل بغير الخبر.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9)
يعني أن الذين أهلكوا من الأمم الخالِيةِ ، كانُوا أكثر حَرْثاً وعِمارَةً من
أهل مكة ، لأن أهل مكة لم يكونوا أصحاب حرث.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِءُونَ (10)
القراءة بنصب (عَاقِبَةَ) ورفعها ، فمن نصب جعل السوءى اسم كان ومن
رفع " عَاقِبَةُ " جعل (السُّوأَى) خبراً لِكان ، والتفسير ، في قوله (أَسَاءُوا) ههنا أنهم أشركوا ، و (السُّوأَى) النَّارُ ، وإنما كان (أَسَاءُوا) ههنا يَدُل على الشرك
لقوله : (وإِنَ كَثيراً مِنَ النَّاسِ بِلقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ).
فإساءتُهم ههنا كفرهم ، وجزاء الكُفْرِ النَّارُ.
وَدَل أيضاً على أن (أَسَاءُوا) ههنا الكُفْر (أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِءُونَ).
فالمعنى : ثم كانَ عَاقِبةُ الكافِرين النَّارَ لتكذِيبِهمْ بآيات اللَّه واستهزائهم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12)
أعلم الله عزَّ وجلَّ أنهم في القيامة ينقطعون فِي الحجة انقطاع يئسين
منْ رَحْمةِ اللَّه ، والمبلس الساكت المنقطع في حجته ، اليائس من أن يَهتدِي
إليها ، تقول : ناظرت فلاناً فأبلس أي انقطع وأمسك ويئس من أن يحتج .

(4/179)


وقوله : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14)
جاء في التفسير أنه افتراق لا اجتماعَ بعده ، وفيما بعده دليل على أن
التفرق هو للمسلمين والكافرين ، فقال : (يومئِذ يتفرقون) ، ثم بين على أي حال يتفرقون فقال : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15)
وجاء في التفسير أنْ " يُحْبَرُونَ " سماع الغناء في الجنة ، والحبرة في
اللغة كل نعمة حسنة ، فهي حَبْرة ، والتحبير التحسين والحَبْرُ العِالم أيضاً هو
من هذا ، المعنى أنه متخلق بأحسن أخلاق المؤمنين ، والحِبْرُ المِدِادِ إنما
سُمِّيَ لأنَّه يُحَسِّنُ به.
* * *
وقوله : (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16)
أي حال المؤمنين السماع في الجنة ، والشغل بغاية النعمة.
وحال الكافرين العذاب الأليم هم حاضروه أبداً غير مُخَففٍ عنهم ، ثم
أعلم عزَّ وجلَّ بعد هذا ما تُدْرَكُ به الجَنَّةُ ، ويتباعد به عَن النارِ بقوله :
(فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18)
" جاء في التفسير عن ابن عباس أن الدليل على أن الصلوات
خمس هذه الآية (فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ)
فحين تمسون صلاة المغرب وَعِشَاءُ الآخرة وحين تصبحون صلاة الغداة.
وعشياً صلاة العصر ، وحين تظهرون صلاة الظهر.
وقد قيل إن قوله :

(4/180)


(وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ)
إنها الصلاة الخامسة ، فيكون على هذا التفسير قوله : (حين تمسون)
لصلاة واحدة.
ومعنى سبحان اللَّه تنزيه اللَّه من السوء.
هذا لا اختلاف فيه.
* * *
وقوله - عزَّ وجلَّ - (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19)
جاء في التفسير أنه يخرج النطفَة - وهي الميت - من الحيِّ مِنَ
الإنسان ، ويُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ ، يخرج الإنسان من النطفة.
(وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا).
أي يجعلها تنبت ، وإحياء الأرض إخراج النَّبات منها.
وقوله : (وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ).
أيْ وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ مِنْ قُبُورِكُمْ مَبْعُوثِينَ.
وموضِعُ الكاف نَصْبٌ بِـ (تُخْرَجُونَ)
والمعنى أن بعثكم عليه كخلقكم ، أي هما في قُدْرَتِهِ
مُتَسَاويانِ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20)
أَيْ من العَلَامَاتِ التي تدل على أن اللَّهَ وَاحِد لا مثيل له ظهورُ
القُدرة التي يعجز عنها المخلوقون ، ومعنى خلقكم مِنْ تُرَابٍ ، أي
خلق آدَمَ مِنْ تُرَابٍ.
(ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ).
أي : آدَمُ وَذرِيتُهُ .

(4/181)


(وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21)
خلق حَواءَ مِنْ ضلع من أضلاع آدم ، وجعل بين المرأة والزوج
المودة والرحمة مِنْ قِبَلِ اللَّهِ ، وأن الفرْك وهو البُغْضُ مِنْ قِبَلِ
الشيطانِ ، يقَال فَرِكَت المرأة زوجها تَفْرِكَه فِرْكاً ، إذا أبغضته.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24)
(خَوْفًا وَطَمَعًا) منصوبان على المفعول له ، المعنى يريكم البرق
للخوف والطمع ، وهو خَوْفٌ لِلمُسَافِر ، وطمع للحَاضِرِ.
المعنى ومن آياتهِ آيَة يريكم بها البرق خَوْفًا وَطَمَعًا.
هذا أَجوَدُ في العطْفِ.
لأنه قال : (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ) فنسق باسم على اسم ، ومثله من الشعر.
وما الدَّهرُ إِلا تارَتانِ فمنهما . . . أَموتُ وأُخْرى أَبْتَغي العَيْشَ أَكْدَحُ
المعنى فمنهما تارة أموتها أي أموت فيها ، ويجوز أن يكون
المعنى ويريكم البرق خَوْفًا وَطَمَعًا من آياته ، فيكون عطفاً بِجُمْلَةٍ عَلَى
جُمْلَةٍ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25)
أي تقوم السماء بِغَيْرِ عَمَدٍ ، وكذلك الأرض قائمة بأمْرِه.
والسماء محيطة بها.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (ثُمَّ إذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأرْضِ).
أي للبعث بعد الموت.
* * *
وقوله : (وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26)

(4/182)


معناه مطيعونَ ، والمعنى : وهذا من آياته ، ولم يذكر " ومن آياته "
لأنه قد تقدم ذكر ذَلِكَ مَراتٍ.
ومعنى " قانتون " مطيعون طاعة لا يجوز أن تقع معها معصية ، لأن القنوت القيام بالطاعة.
ومعنى الطاعة ههنا ، أنَ من في السَّمَاوَات الأرض في خلقهم دليل على أنهم مخلوقون بإرادة الله - عزَّ وجلَّ - لا يقدر أحَد على تغيير الخلقة ، ولا يقدر عليه فلك مُقربٌ ، فآثار الصنعة والخلقة تدل على الطاعة ، ليس يعني طاعة
العباد ، إنما هِيَ طاعَةُ الإرادة والمشيئة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)
فيه غير قول ، فمنها أن الهاء تعود على الخلق ، فالمعنى الإعادة
والبعث أهون على الإنسان من إنشائه ، لأنه يُقَاسِي في النشء ما لا
يقاسيه في الإعادة والبعث.
وقال أبو عبيدة وكثيرُ من أهل اللغة : إن مَعْنَاهُ : وَهُوَ هيِّنٌ عليه.
وإن " أهْون " ههنا ليس معناه أن الإعادة أهون عليه من الابتداء ، لأن
الإعادة والابتداء كلٌ سَهْلٌ عَلَيْه ومن ذلك من الشعر :
لعَمْرُكَ ما أَدرِي وإِنِّي لأَوْجَلُ . . . على أَيِّنا تَغْدُو المَنِيَّةُ أَوَّلُ
فمعنى لأوجل لَوجِلٌ ، وقالوا الله أكبر أي اللَّه كبيرٌ ، وهو غير
منكر ، وَأَحْسَنُ مِنْ هذين الوجهين أنه خاطب العباد بما يعقلون
فأعلمهم أنه يجب عندهم أن يكونَ البعث أسْهَلُ وأهون من الابتداء

(4/183)


والإنشاء ، وجعله مثلاً لهم فقال : (وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ).
أي قوله : (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) قد ضربَهُ لكم مَثَلًا فبما يصعب
ويسهل.
* * *
وقوله تعالى : (ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28)
هذا مثل ضربهُ اللَّه - عزَّ وجلَّ - لمن جَعَلَ له شَريكاً مِنْ خلقه.
فأعلم - عزَّ وجلَّ - أَنَّ مَمْلُوك الإنسان ليس بشريكهه في ماله وزوجته ، وأنه لا يخافُ من مملوكه أن يَرِثَه فقال : ضرب لكم مثلا من أنفسكم أن
جعلتم ما هو مِلْكٌ للًه من خلقه مثلَ اللَّه ، وأنتم كلكم بَشَر ، ليس
مماليككم بمنزلتكم في أموالكم ، فاللَّه - عزَّ وجلَّ - أجْدَرُ ألَّا يَكونَ يُعْدَلُ
به خلقه.
(كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ).
موضع الكاف نَصَب.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30)
الحنيف الذي يميل إلى الشيء فلا يرجع عنه كالحَنَفَ في
الرجلِ وهو مَيْلها إلى خارجها خلْقَةً.
لا يَملكُ الأحنَفُ إنْ يَرُدَّ حَنَفَهُ.
وقوله - عزَّ وجلَّ - : (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا).
(فِطْرَتَ اللَّهِ) منصوب بمعنى اتَبِعْ فطرة اللَّهِ ، لأن معنى (فَأَقِمْ وَجْهَكَ)
اتبع الدينَ القَيِّمَ . اتبع فِطرةَ اللَّه ، ومعنى فطرة الله خِلْقَةَ اللَّه
التي خلق عليها البشرَ ، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - :
" كل مَوْلُودٍ يُولَدُ على الفِطرة

(4/184)


حتى يكون أبواه يُهوِّدَانِه وَيُنَصِّرَانه ويُمَجِّسَانه ".
مَعْنَاهُ أن اللَّه - عزَّ وجلَّ - فطر الخلق على الإيمان على ما جاء في الحديث ، أن اللَّه - جل ثناؤه - أخرج مِنْ صُلب آدم ذُريتَهُ كالذَّرِّ ، وَأَشْهَدَهُمْ على أَنْفُسِهِمْ بأنه خَالِقُهُمْ ، قال اللَّه عزَّ وجلَّ : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى).
فكل مولود فهو من تلك الذرية التي شَهِدَتْ بِأنَّ اللَّهَ خَالِقُهَا.
فمعنى (فِطْرَتَ اللَّهِ) دين الله الذي فَطَرَ الناس عليه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ).
أكثر ما جاء في التفْسِير أن معناه لا تبديل لِدين اللَّهِ ، وما بعده
يدل عليه ، وهو قوله : (ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)
أي لا يعلمون بحقيقة ذلك.
* * *
وقوله : (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31)
(مُنِيبِينَ)
مَنْصُوبُ عَلَى الحال بقوله : (فَأقِمْ وَجْهَكَ)
زعم جميع النحويين أن معنى هذا فأقيموا وُجُوهَكم منيبين إليه ، لأن مخاطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - يدخُلُ معه فيها الأمةُ ، والدليل على ذلك قوله : (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ).
وقوله (مُنِيبِينَ) معناه راجعين إليه إلى كلِ ما أَمَر به ولا يخرجون
عن شيء مِنْ أَمْرِه ، فأعلمهم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أن الطريقة المستقيمة
في دين الإسلام هو اتباع الفطرةِ والتقْوَى مع الإسلام وأداء الفرائض.
وأَنه لا ينفع ذلك إلا بالإخْلَاصِ في التوحيد فقال :
(وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)

(4/185)


وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)
(فَارقُوا دِينَهُمْ)
وقرئت (فَرَّقُوا دِينَهُمْ).
(وَكَانُوا شِيَعًا).
فِرَقاً ، فأمرهم اللَّه - عزَّ وجلَّ - بالاجتماع والألْفَةِ ولُزوم
الجماعة ، والسنَةُ في الهدايةُ ، والضَلَالة هي الفُرْقَةُ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (كُل حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ).
أي كل حزب من هذه الجماعة الذين فارقوا دينهم فَرِحٌ يَظُنُ أَنهُ
هو المُهْتَدِي.
ثم أعلم اللَّه عزَّ وجلَّ أنهم إذا مَسهُم ضُر دَعَوْا ربهم
منيبين إليه ، أي لا يلجأون في شدائدَهم إلى مَنْ عَبَدوه مع اللَّه - عز
وجل - إنما يَرجِعُون في دُعائِهِمْ إلَيْه وَحْدَه.
(ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33)
أي إذا أذاقهم رحمةً بأن يخلصهم من تلك الشدة التي دعَوْا فيها
الله وحده مَروا بعد ذلك على شركِهِم.
وقولهم عزَّ وجلَّ : (لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34)
معنى " فَتَمَتَعُوا " خطاب بعد الإخبار لأنه لَمَّا قال : " لِيَكْفُرُوا " كان خبراً عَنْ غائب . فكان المعنى فتمتعوا أيها الفَاعلون لِهَذَا فسوف تعلمون.
وليس هذا بأمرٍ لازم . أَمرَهُمْ اللَّه بِهِ.
وهو أَمر عَلَى جهة الوَعِيدِ والتَهدُّد ، وذلك مستعمل في كلام
الناس تقول : إن أسمعتني مَكْروهاً فَعَلْتُ بك وَصَنَعْتُ ثم تقول : افعَلْ
بي كذا وكذا فإنك سترى ما ينزل بك ، فليس إذا لم يُسْمِعْكَ كان
عاصياً لك.
فهذا دليل أنه ليس بأمرٍ لازم ، وكذلك (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ)

(4/186)


وكذلك : (اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ).
لم دخَيَّروا بين الإيمان والكفر ولكنه جرى على خطاب العِبَاد
وحِوَارِ العربِ الذي تستعمله في المبالغة في الوعيد ، ألا ترى أن قوله
بعد (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا) فهذا مما يؤكد أمر الوَعِيدِ.
* * *
وقوله : (فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38)
جعل اللَّه عزَّ وجلَّ لذي القُرْبَى حَقًّا وكذلك للمساكين وابنُ
السّبيل الضَّيفُ فجعل الضيافة لازمةً . فأمَّا القَراباتُ فالمواريث قدْ
بَيَّنَتْ مَا يَجِبُ لكل صنف منهم ، وفرائض المواريث كأنها قَدْ نسختْ
هذا أعني أمر حق القرابة ، وجائز أن يكون للقرابة حق لازم في البر.
* * *
وقوله : (وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39)
يعني به دفع الإنسان الشيء ليعوض ما هو أكثر منه ، فذلك في
أكثر التفسير لَيْسَ بحرام ، ولكنه لَا ثَوابَ لمن زادَ عَلَى ما أَخَذَ.
والرِّبَا ربوان ، والحرام كل قرض يؤخذ به أكثر منه أو يجرُّ مَنفعة ، فهذا
حرام ، والذي ليس بحرام هو الذي يَهَبُه الإنسان يستدعي به ما هو
أكثر مِنْهُ ، أو يهدي الهدِيَّة يستدعي بها ما هو أكثر منها.
وقوله : (وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ).

(4/187)


أي وما أَعْطَيتُمْ من صَدَقَةٍ لا تطلبون بها المكافأة وإنما يقصدون
بها ما عند اللَّه.
(فَأُولَئِكَ هُم [المُضْعَفُونَ]).
أي فأهلها هم المضعَفُونَ ، أَيْ هم الذي يضاعف لهم الثواب.
يعطون بالحسنة عشْرةَ أمثالها ويضاعف الله لمن يشاء ، وقيل
(المُضْعِفُونَ) كما يقال رجل مَقْوٍ ، أي صاحب قوةٍ ، وموسِر أي صاحب
يَسَارٍ ، وكذلك مُضْعِفٌ ، أي ذو أضعاف من الحسنات (1).
* * *
وقوله تعالى : (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)
ويقرأ بالياء أيضاً (لِيُذيقَهُمْ) أي ليذيقهم ثواب بَعْضِ أَعْمَالِهم.
ومعناه ظهر الجَدْبُ في البَر والقَحْطُ في البَحْرِ ، أي في مُدُنِ البحر.
أي فى المدُن التي عَلَى الأنْهَارِ ، وكل ذي ماء فهو بَحْر.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43)
معنى (فَأَقِمْ وَجْهَكَ) أَقم قصدك واجْعَلْ جِهَتَك اتباع الدين القيِّم
من قبل أن تأتِيَ الساعَةِ وتقوم القيامَةُ فلا ينفع نفساً إيمَانُهَا لم تكن
آمَنت من قبل أَوْ كَسَبَتْ فِي إيمَانِها خَيْراً.
وَمَعْنَى : (يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ).
يتفرقون فيصيرون فَرِيقاً في الجنةِ وَفَرِيقاً في السَّعيرِ.
* * *
وقوله : (مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44)
(فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ).
أي لأنفسهم يوطئونَ.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : « المُضْعِفُون » أي : أصحابُ الأضعاف . قال الفراء : « نحو مُسْمِن ، ومُعْطِش أي : ذي إبِل سمانٍ وإبل عِطاش » . وقرأ أُبَيُّ بفتح العين ، جعله اسمَ مفعولٍ.
وقوله : « فأولئك هم » قال الزمخشري : « التفاتٌ حسن ، كأنه [ قال ] لملائكتِه : فأولئك الذين يريدون وجهَ اللَّهِ بصدقاتِهم هم المُضْعِفون . والمعنى : هم المُضْعِفُون به؛ لأنه لا بُدَّ مِنْ ضميرٍ يَرْجِعُ إلى ما » انتهى . يعني أنَّ اسم الشرط متى كان غيرَ ظرفٍ وَجَبَ عَوْدُ ضميرٍ من الجواب عليه . وتقدَّم ذلك في البقرة عند قوله : { قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ } [ البقرة : 97 ] الآية . ثم قال : ووجهٌ آخرُ : وهو أَنْ يكونَ تقديرُه : فَمُؤْتُوْه فأولئك هم المُضْعَفُون . والحَذْفُ لِما في الكلامِ مِن الدليلِ عليه . وهذا أسهلُ مَأْخَذاً ، والأولُ أمْلأُ بالفائدة «. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/188)


وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا).
أي فَرَأَوُا النبْتَ قد اصْفَر وَجَفَّ.
(لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ).
ومعناه ليظلُّنَّ ، لأن معنى الكلام الشرط والجزاء . فهم يستبشرون
بالغيث ويكْفِرُون إذا انقطع عنهم الغَيْثُ وجفَّ النباتُ.
* * *
وقوله : (اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48)
(وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا) أَي قطعاً من السحاب.
وقوله : (فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ).
أي فترى المطر يخرج من خلل السحاب ، فاعلم عزَّ وجلَّ أَئه
يُنْشِئ السحابَ ويحي الأرض ويرسل الريَاحَ ، وذلك كله دليل على
القدرة التي يعجز عنها المخلوقون ، وأنه قادر على إحياء الموتى.
* * *
وقوله تعالى : (وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49)
المعنى أن ينْزِلَ عليهم المطر ، ويقرأ (أَنْ يُنْزَلَ) وَمَعْنَى مُبْلِسينَ
مُنْقَطِعين انقطاع آيسين.
فأمَّا تَكْرِيرُ قوله (من قبل) ففيه وَجْهَانِ (1) :
قال قطرب إن قَبْلَ الأولى للتنزيل ، وقَبْل الثانية لِلْمَطَرِ.
وقال الأخفش وَغيرُه من البَصْرِيين : تكرير قبل على جهة التوكيد.
والمعنى وإن كانوا من قبل تنزيل المطر لَمُبْلِسينَ.
والقول كما قالوا لأن تنزيل المطر بمعنى المطر ، لأن المطر لا يكون إلا بِتَنْزِيل كما أن الرياحَ لا تُعْرَفُ إلا بِمُرورِهَا
قال الشاعر :
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { مِّن قَبْلِهِ } : فيه وجهان ، أحدهما : أنه تكريرٌ ل « مِنْ قَبلِ » الأولى على سبيلِ التوكيد . والثاني : أَنْ يكونَ غيرَ مكررٍ . وذلك أن يُجعلَ الضميرُ في « قَبْله » للسحاب . وجاز ذلك لأنه اسمُ جنسٍ يجوز تذكيرُه وتأنيثُه ، أو للريح ، فتتعلَّقُ « مِنْ » الثانيةُ ب « يُنَزَّل » . وقيل : يجوزُ عَوْدُ الضمير على « كِسَفا » كذا أطلق أبو البقاء . والشيخ قَيَّده بقراءةِ مَنْ سَكَّن السين . وقد تقدَّمَتْ قراءاتُ « كِسَفاً » في « سبحان » . وللناس في هذا الموضعِ كلامٌ كثيرٌ رأيتُ ذِكْرَه لتوضيحِ معناه.
وقد أبْدى كلٌّ من الشيخَيْن : الزمخشريِّ وابنِ عطية فائدةَ التأكيدِ المذكور . فقال ابن عطية : « أفادَ الإِعلامَ بسرعةِ تَقَلُّب قلوبِ البشر من الإِبلاسِ إلى الاستبشار؛ وذلك أن قولَه { مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ } يحتملُ الفُسْحَةَ في الزمانِ ، أي : من قبلِ أَنْ يُنَزِّل بكثيرٍ كالأيَّامِ ونحوِه فجاء » مِنْ قبله « ، بمعنى أنَّ ذلك متصلٌ بالمطر فهو تأكيدٌ مفيدٌ ».
وقال الزمخشري : « ومعنى التوكيد فيه الدلالةُ على أن عَهْدَهم بالمطرِ قد بَعُدَ فاسْتحكم يَأْسُهم وتمادَى إبْلاسُهم ، فكان استبشارُهم على قَدْرِ اغتمامهم بذلك » . وهو كلامٌ حسنٌ.
إلاَّ أنَّ الشيخَ لم يَرْتَضِه منهما فقال : « ما ذكراه من فائدةِ التأكيدِ غيرُ ظاهرٍ ، وإنما هو لمجرَّدِ التوكيد ويُفيد رَفْعَ المجازِ فقط » . انتهى . ولا أدري عدمُ الظهورِ لماذا؟ وقال قطرب : « وإن كانوا مِنْ قبلِ التنزيل مِنْ قبل المطَر . وقيل : التقديرُ مِنْ قبلِ إنزالِ المطرِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَزْرعوا . ودَلَّ المطرُ على الزرع؛ لأنه يَخْرج بسببِ المطر . ودلَّ على ذلك قولُه » فَرَأَوْه مُصْفَرَّاً « يعني الزرعَ؛ قال الشيخ : » وهذا لا يَسْتقيم؛ لأنَّ { مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ } متعلِّقٌ ب « مُبْلِسِيْن » ولا يمكن مِنْ قَبْل الزَّرْع أَنْ يتعلَّقَ بمُبْلِسين؛ لأنَّ حرفَيْ جرّ لا يتعلَّقان بعاملٍ واحدٍ إلاَّ بوساطةِ حرفِ العطف أو البدلِ ، وليس هنا عطفٌ والبدلُ لا يَجوز؛ إذ إنزالُ الغيثِ ليس هو الزرعَ ولا الزرعُ بعضَه . وقد يُتَخَيَّلُ فيه بدلُ الاشتمالِ بتكلُّفٍ : إمَّا لاشتمالِ الإِنزالِ على الزَّرْع ، بمعنى : أنَّ الزرعَ يكون ناشِئاً عن الإِنزال ، فكأن الإِنزالَ مُشْتملٌ عليه . وهذا على مذهبِ مَنْ يقول : الأولُ مشتملٌ على الثاني «.
وقال المبردُ : » الثاني السحابُ؛ لأنهم لَمَّا رَأَوْا السحابَ كانوا راجين المطرَ « انتهى . يريد مِنْ قبل رؤيةِ السحاب . ويحتاج أيضاً إلى حَرْفِ عطفٍ ليصِحَّ تعلُّقُ الحرفين ب » مُبْلِسين « . وقال الرمَّاني : » من قبلِ الإِرسال « . والكرماني : » من قَبْلِ الاستبشارِ؛ لأنه قَرَنه بالإِبلاس ، ولأنه مَنَّ عليهم بالاستبشار « . ويحتاج قولُهما إلى حرفِ العطفِ لِما تقدَّم ، وادِّعاءُ حرفِ العطفِ ليس بالسهلِ؛ فإنَّ فيه خلافاً : بعضُهم يَقيسُه ، وبعضُهم لا يقيسه . هذا كلُّهُ في المفردات . أمَّا إذا كان في الجمل فلا خلافَ في اقتياسِه.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/189)


مَشَيْنَ كما اهتزَّتِ رماحٌ . . . تسفَّهَتْ أَعَالِيَها مَرُّ الرِّياحِ النَّواسِم
فمعنى مَر الرياح كقولك تَسَفهتْ أعاليها مر الرياح النواسم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50)
(أَثَرِ رَحْمَتِ اللَّهِ)
ويقرأ (آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ) ، يعني آثار المطر الذي هو رحمة من اللَّه
(كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا) ، وإحْيَاؤها أن جَعَلها تُنْبِتُ فكذلك إحياءُ
الموتى ، فقال : (إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى).
ذلك إشارة إلى اللَّه عزَّ وجلَّ.
وقوله : (فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52)
هذا مثل ضربه الله للكفار كما قال : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) ، فجعلهم
في تركهم العَمَل بما يسمعون وَوَعْيِ ما يُبْصِرُونَ بمنزلة الموتَى ، لأن
ما بيَّنَ من قدرَتِه وصنعته التي لا يقدر على مثلها المخلوقون دليل على
وحدانيته.
* * *
(وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53)
وقوله : (إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا).
أي ما يَسْمَعُ إلا من يؤمن بآياتنا ، وجَعَلَ الإسماع ههنا إسماعاً
إذاِ قُبِلَ وعُمِلَ بما سُمِعَ ، وإذا لم يُقْبَل بمنزلة ما لم يُسْمع ولم
يبصر.
وقوله : (وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ).

(4/190)


القراءة بالجر في " العُمْيِ " والنصْب جائز ، بهَادٍ العُمْيَ عن
ضلالَتِهِمْ . فالقراءة بالجر ، فأمَّا النصْبُ فإنْ كانت فيها رِوَاية ، وإلا
فَلَيْسَت القراءة بها - جائزة ، لأن كل ما يُقْرأُ به ولم يتقدم فيه رِوَاية لِقراء
الأمصار المتقدِّمِينَ فالقراءة به بِدْعَة وإن جاز في العربية ، والعمل في
القراءة كلها على اتباع السُّنَّةِ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54)
تأويله أنه خلقكم من النطَفِ في حالِ ضَعْفٍ ثم قَوَّاكُمْ في حال
الشبيبة ثم جَعَل بَعْدَ الشَبِيبةِ ضعفاً وَشَيْبةً.
وروي في الحديث أن ابن عمر قال : قرأت على النبي - صلى الله عليه وسلم - : (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ).
قال فأقرأني من ضعْفٍ ، وقرأ عطية علي ابن عمر من ضَعْفٍ فأقرأه من
ضُعْفٍ ، وقال له : قرأتها على النبي - صلى الله عليه وسلم - من ضَعْفٍ فاقرأني من ضُعْفٍ.
فالذي روى عطية عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -
(مِنْ ضُعْفٍ) ، بالضَّم ، وقد قِرِئَتْ بفتح الضادِ ، والاختيارُ الضم ، للرواية.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55)
يعني يوم القيامَةِ ، والسَّاعَةُ في القُرآنِ على معنى الساعة التي
تقوم فيها القيامة فلذلك ترك ذِكْرَ أَنْ يُعَرِّف أَي سَاعَةٍ هي.
(يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ) يَحْلِفُ المجرمون.
(مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ).
أي ما لبثوا في قُبُورهم إلا ساعةً واحدة.
(كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ).

(4/191)


أي مثل هذا الكَذِب كذبهُم لأنهم أقسموا على غَيْر تحقيق.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56)
أي في علم اللَّهِ المُثْبَتِ في اللوْحِ المَحْفُوظِ.
* * *
وقوله : (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)
أي إن ما وَعَدَك اللَّه من النصْرِ عَلَى عَدُوك حقٌّ ، وإظهار دين
الإسلام حقٌّ.
(وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ).
أي لا يستفزنَّكَ عن دِينَكِ الذين لا يوقنون ، أي هم ضُلَّالٌ
شَاكُّونَ .

(4/192)


سُورَة لقْمَان
( مَكِّيَّة )
ما خَلَا ثلاث آيات منها مَدَنِية ، قوله : (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ) إلى
تمام الثلاث آيات.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الم (1)
قال ابن عباس معنى (الم) أنا الله أعلم ، وقد فسرنا في سورة
البقرة جميعَ ما قيل في (الم) وما أشبهها.
* * *
وقوله : (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2)
معناه هذه الآيات ، تلك الآيات التي وعِدْتُمْ بها في التَوْرَاةِ
ويجوز أن يكون بمعنى هذه آيات الكتاب ، وقد تقدم تفسير مثلِ هذا
من سورة البقرة أيضاً.
* * *
وقوله : (هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3)
القراءة بالنصب على الحال ، المعنى تلك آيات الكتاب في حال
الهداية والرحمة .

(4/193)


وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6)
(لِيَضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)
ويقرأ : (لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ).
فأكثر ما جاء في التفسير أن (لَهوَ الحديث) ههنا الغِنَاءُ لأنه يُلْهِي
عَنْ ذكر اللَّه ، وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه حرم بيع المغنية.
وقد قيل في تفسير هذه الآية إن لهو الحديث ههنا الشركُ.
فمن قرأ (ليُضِل) - بضم الياء - فمعناه ليضل غيرَهُ ، فإذا أضل غيرَهُ فقد ضَل هُوَ أيضاً.
ومن قرأ (لِيَضِل) فمعناه ليصير أمرُه إلى الضلَالِ ، فكَاَنه وَإنْ لم يَكُنْ
يُقَدَّرُ أَنه يَضِل فسيصير أمره إلى أنْ يَضِل.
وقوله : (وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا).
أي يَتخِذَ آياتِ اللَّه هُزُوًا ، وقد جرى ذكر الآيات في قوله : (تلك
آيات الكتاب الحكيم).
وقد جاء في التفسير أيضاً أن قوله : (وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا) يَتخِذَ سَبيلَ اللَّه هُزَوًا.
* * *
وقوله : (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10)
وصف اللَّه عزَّ وجلَّ خَلْقَه الذي يَعْجِزُ المَخْلُوقُونَ عن أن يأتوا
بمثله ، أَوْ يَقْدِرُوا على نَوْع منه ثَم قال : (هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ).
وقوله : (بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا) ، قيل في التفسير إنها بِعَمَدٍ لَا تَرَوْنَهَا.
أي لا ترون تلك العَمَدِ ، وقيل خلقها بغير عَمَدٍ وكذلك ترونها .

(4/194)


والمعنى في التفسير يؤول إلى شيء وَاحِد ، ويكون تأويل (بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا) الذي فُسِّرَ بعَمدٍ لا ترونها.
يكون معنى العمد قدرته عزَّ وجل التي يمسك بها السماوات والأرض.
(وَألْقَى في الأرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ).
(رَوَاسيَ) جِبالٌ ثَوابِتٌ ، كما قال - عزَّ وجلَّ : (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7).
فمعنى (أنْ تَمِيدَ بِكُمْ) كَراهةَ أنْ تَمِيدَ بِكُمْ.
ومعنى " تميد " تتحرك حركة شَدِيدَةً.
* * *
وقوله : (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12)
معناه لأن تشكر للَّهِ ، ويجوز أن تكون " أَنْ " مُفَسَّرة ، فيكون
المعنى أي اشْكُرْ لِلَّهِ تبارك وتعالى :
وتأويل " أن اشكر للَّهِ " قُلنَا له : اشكر للَّهِ على ما آتاك.
وقد اختلف في التفسير في لقمانَ فقيل : كان نبيًّا ، وقيل : كان
حكيماً ، وقيل كان رَجُلاً صَالِحاً ، وقيل : كان حبشياً غليظ المَشَافِرِ
مُشَقَّقَ الرجْلَيْنِ ولكن اللَّهَ آتاهُ الحكمةَ ، فلسنا نشك أنه كانَ حكيماً
لقول الله عزَّ وجلَّ : (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الحِكْمَةَ).
وقيل كان نَجَّاراً وقيل كان خياطاً ، وقيل كان رَاعِياً.
وَرُويَ في التفسير أن إنساناً وقف عليه وهو في مجلسه فَقَالَ لَهُ : ألَسْتَ
الَّذِي كُنْتَ تَرْعَى مَعي في موضع كذا وكذا ؟
قال : بلى ، قال فما بلغ بكَ ما أَرَى ؟
فقال : صِدْقُ الحَدِيثِ والصَّمْتُ عَمَّا لا يعنيني.
وقوله : (وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)

(4/195)


موضع " إذْ " نَصْبٌ بقوله : (ولقد آتينا لقمان الحكمة)
أي ولقد آتينا لقمان الحكمة إذ قال ، لأن هذه المْوْعِظَةَ حكمة.
وقوله : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ).
يعني أنَّ اللَّهَ هُوَ المحيي المميتُ الرازِق المُنْعِمُ وحدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ
فإذا أَشْرَكَ به أَحَدٌ غيره فذلك أعظَمُ الظلم ؛ لأنه جَعَل النِعْمَةَ لِغَير
رَبِّهَا.
وَأَصْلُ الظلْمِ في اللغة وضع الشيء في غير مَوْضِعِه.
وقد بيَّنَّا ذَلِكَ فِيمَا سَلَفَ من الكِتَابِ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14)
جاء في التفسير (وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ) ضَعْفاً على ضَعْفٍ ، أي لَزِمَهَا
لحملها إياه أن ضَعُفَتْ مَرةً بَعْدَ مَرة.
وموضع " أَنْ " نَصْبٌ بـ (وَصَّيْنَا).
المعنى وصَينا الإنسان أن اشُكَره لي ولوالديك ، أيْ وَصَّيْنَاه بشكرنا
وَبِشُكْرِ والديه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15)
يُرْوَى أَن سَعْدَ بنَ أَبِي وَقاص ذكر أن هذه الآية نَزَلَتْ بسببه.
وذلك أنه كان أسْلَمَ فحَلَفَتْ أُمُّه أَلأ تاكُلَ طعاماً ، ولا تشرب شراباً حتى
يَرْتَدَّ إلَى الكُفْرِ ، فمكثت ثلاثاً لا تطْعَمُ ولا تَشْرَبُ حتى شَجَرُوا فاها
- أي فتحوه - بعِودٍ . حتى أكلت وشربت ، وُيرْوى أنه قال : لو كانت لها
سَبْعُونَ نَفْساً فخرجت لما ارتْددْت عَنِ الإسلام.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً).

(4/196)


يقال : صَاحَبْته مُصَاحَباً وَمُصاحَبَةً.
ومعنى المعروف ما يستحسن من الأفعال.
(وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ).
أي اتِبعْ سَبِيل مَنْ رَجَع إِلَيَّ.
* * *
وقوله : (يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16)
(إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ)
وتقرأ (مِثْقَالُ حَبَّةٍ) . الآية إلى قوله (لطيف خبير)
أي لطيف في استخراجها خبير بمكانها.
ويقال في صخرة ، أي في الصخرة التي تحت الأرض.
ويروى أن ابن لقمان سأل لقمانَ فقال : أَرَأَيْتَ الحَبَّةَ تَكُونَ في
مَقْلِ البَحرِ ، أي في مغاص البحر أَيَعْلَمُهَا اللَّه.
يقال مَقَلَ يَمْقُل إذَا غَاصَ ، فَأعْلَمَهُ أن اللَّه - عزَّ وجلَّ - يعلم الحَبَّةَ حيث كانت ، وفي أخفى المواضع ، لأن الحبَّة في الصخرة أخفى من الماء ، ثم أعلمه
أَنهَا حيث كانت يَعلَمُها بلُطْفِه - عزَّ وجلَّ - وخِبْرَتِه.
وهذا مثل لأعمال العِبَادِ أَنَ الله يأتي بأعمالهم يومَ القيامة
(فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8).
فأمَّا رِفع " مثقال " مع تأنيث " تك " فلأن مِثْقَالَ حبة من خردل راجع
إلى معنى خرْدَلَةٍ ، فهو بمنزلة إن تك حَبة من خردل.
ومن قرأ : (إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ) - بالنصب - فعلى معنى أن التي سَألْتني عنها إن تك

(4/197)


ْمثقال حبة ، وعلى معنى أن فَعْلَةَ الإنسان وإن صَغُرَتْ يأت الله بها.
ويجوز أنها إن تك بالتاء مثقال حبة من خردل ، على معنى أن القصة
كما تقول : أنَّها هند قائمة ، ولو قُلْتَ أنَّها زيد قائم لجاز ، إلا أن
النحويين يختارون ذلك مَعَ المُذَكرِ ، ويجيزون مع المؤنث التأنيث
والتذكير ، يقولون : إنهُ هِنْدٌ قَائِمَة ، وإنها أمة اللَّه قائمة.
فيجيزون الوَجْهَيْن . فأمَّا أنَّها إن تَكُ مثقَالَ حَبةٍ من خردل عند من لا يجيز إنها زَيْد قَائِم " ، فيجوز عنده هذا لأن مَعْنَاه التأنيث بِرَدِّ (ما) إلى الحبَّةِ من
الخردل (1).
* * *
وقوله تعالى : (وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18)
ويقرأ تُصَاعِرُ ، ويجوز في العربية : ولا تُصْعِرْ ، ولا أعلم أحَداً قرأ
بها ، فإذا لم ترو فلا تقرأ بها ، ومعناه لا تُعْرِضْ عن الناس تَكَبُّراً ، يقال
أصاب البعيرَ صَعَرٌ وصَيَد إذا أَصَابه دَاء فلوى منه عنُقَهُ ، فيقال للمتكبر
فيه صَعَر ، وفيه صَيَدٌ ، فأما (تُصَعِّرْ) فعلى وجه المُبَالَغَة ، ويصاعر جاء
على معنى يُفَاعِل ، كأنك تُعَارِضُهُمْ بِوَجْهِك.
ومعنى (تُصْعِرْ) تلزم خَدَّك الصَّعَرَ ، لأنه لا داء بالإنسان أَدْوَأَ من الكِبْرِ.
والمعنى في الثلاثة هذا.
المعنى : إلا أن (تُصَعِّرْ) وَتُصَاعِرْ أبْلَغُ من (تُصْعِرْ) (2).
* * *
وقوله : (وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا).
أي لا تَمْشِ مُتَبَخْتِراً مُخْتَالاً.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)
(وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ).
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { إِنَّهَآ إِن تَكُ } : ضميرُ القصةِ . والجملةُ الشرطيةُ مفسِّرةٌ للضميرِ . وتقدَّم أنَّ نافعاً يقرأُ « مثْقالُ » بالرفع على أنَّ « كان » تامةٌ وهو فاعلُها . وعلى هذا فيُقال : لِمَ لَحِقَتْ فعلَه تاءُ التأنيث؟ قيل : لإِضافته إلى مؤنث ، ولأنه بمعنى : زِنَةُ حَبَّة . وجَوَّز الزمخشري في ضمير « إنها » أَنْ تكونَ للهِنَةِ من السَّيِّئاتِ أو الإِحسان في قراءةِ مَنْ نصب « مِثْقال » . وقيل : الضميرُ يعودُ على ما يُفْهَمُ مِنْ سياقِ الكلامِ أي : إنَّ التي سألْتَ عنها إنْ تَكُ . وفي التفسير : أنه سأل أباه : أرأيتَ الحبة تقع في مَغاصِ البحر : أيعلُمها اللَّه؟
وقرأ عبد الكريم الجَزَرِيُّ « فَتَكِنَّ » بكسرِ الكاف وتشديد النونِ مفتوحةً أي : فتستقرَّ . وقرأ محمد بن أبي فجة البعلبكي « فَتُكَنَّ » كذلك إلاَّ أنه مبنيٌّ للمفعول . وقتادة « فَتَكِنُ » بكسرِ الكاف وتخفيف النونِ مضارعَ « وَكَنَ » أي : استقرَّ في وَكْنِه ووَكْرِه.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(2) قال السَّمين :
قوله : { وَلاَ تُصَعِّرْ } : قرأ نافعٌ وأبو عمروٍ والأخَوان « تَصاعِرَ » بألفٍ وتخفيفِ العينِ . والباقون دون ألفٍ وتشديد العين ، والرسمُ يَحْتمِلُهما؛ فإنَّ الرسمَ بغيرِ ألفٍ . وهما لغتان : لغةُ الحجازِ التخفيفُ ، وتميمٌ التثقيلُ . فمِن التثقيلِ قوله :
3657 وكُنَّا إذا الجبارُ صَعَّر خَدَّه . . . أقَمْنا له مِنْ مَيْلِه فَيُقَوَّمُ
ويقال أيضاً : تَصَعَّر . قال :
3658 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . أَقَمْنا له مِنْ خَدِّه المُتَصَعِّرِ
وهو من المَيْل؛ وذلك أنَّ المتكبِّر يَميل بخَدِّه تكبُّراً كقولِه { ثَانِيَ عِطْفِهِ } [ الحج : 9 ] . قال أبو عبيدة : « أصلُه من الصَّعَر ، داءٌ يأخُذُ الإِبِلَ في أعناقِها فتميلُ وتَلْتوي » . وتفسيرُ اليزيديِّ له بأنَه التَّشَدُّقُ في الكلامِ لا يوافِقُ الآية هنا. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/198)


معنى اغْضُض انقص ، ومن ذلك غضضت بَصرِي ، وَفُلَان يَغُضُّ
بَصَرَهُ من فُلَانٍ أي يتنقَصهُ.
ومعثى : (أنْكَرُ الأصْوَاتِ) أقبح الأصوات ، يقال : أَتانَا فُلان بوجه
مُنكَر الخِلْقَةِ ، أي قبيح.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20)
تسخير ما في السَّمَاوَات الشمس والقمرُ والنجُومُ ، ومعنى
تسخيرها للآدميين الانتفاع بها في بلوغ مَنَابِتهم ، والاهتداء بالنجوم
فِي مَسَالِكِهِمْ ، وتسخير ما في الأرض تسخير بحارها وأنهارها ودوابها
وجميع منافعها.
(وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً).
(نِعَمَةً)
ويقرأ (نِعَمَهُ) على الجمع.
فمن قرأ (نِعَمَةً) فعلى معنى ما أعطاهم من توحيده عزَّ وجلَّ.
ومن قرأ (نِعَمَهُ) فعلى جَميعِ مَا أَنْعَمَ به عَلَيهِمْ (1).
* * *
قوله عزَّ وجلَّ : (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22)
أي من أسلم فقد استمسك بقول : لا إلَهَ إلا اللَّهُ ، وَهِيَ العُرْوَةُ
الوُثْقَى.
* * *
وقوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27)
(وَالْبَحْرَ)
و يقرأ " والبحرُ " بالرفْعِ.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { نِعَمَهُ } : قرأ نافعٌ وأبو عمروٍ وحفص « نِعَمَه » جمعَ نِعْمة مضافاً لهاءِ الضمير ، ف « ظاهرةً » حالٌ منها . والباقون « نِعْمةً » بسكون العين ، وتنوينِ تاء التأنيث ، اسمَ جنسٍ يُراد به الجمعُ ف « ظاهرة » نعتٌ لها . وقرأ ابنُ عباس ويحيى بن عمارة « وأَصْبَغَ » بإبدال السينِ صاداً . وهي لغةُ كلبٍ يفعلون ذلك مع الغينِ والخاء والقاف . وتقدَّم نظيرُ هذه الجملِ كلِّها في البقرة ، والكلامُ على « أَوَلَوْ » ونحوِه.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/199)


فأما النصبُ فعطف على (ما) والمعنى ولو أن ما في الأرْضِ ولو
أن البحرَ ، والرفع حسن على وجهين :
على معنى . والبحرُ هَذِه حَاله.
ويجوز أن يكون معطوفاً على موضع إن مع ما بعدها لأن معنى لو أَن ما
في الأرض لَوْ وقع ما فِي الأرْضِ ، لأن (لو) تطلب الأفعال فإذا جاءت
معها (إنَّ) لم تذكر معها الأفعال ، لأنه تذكر معها الأسماء والأفعال.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ).
معناه ما انقطعت ، ويروى أَن المشركين قالوا في القرآن : إن
هَذا كلام سَينْفَدُ ، وسيقطع ، فأَعلم اللَّه عزَّ وجلَّ أَن كَلِمَاتِه وحكمتَهُ لا
تَنفدُ (1).
* * *
وقوله : (مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ
(28)
تأويله إلا كخلق نفس وَاحِدَةٍ ، وكبعث نَفْس وَاحِدَةٍ ، أي قُدْرَةُ
اللَّهِ عَلَى بعثْ الخلق أجمعين وعلى خلق الخلق أجمعين كَقُدْرَتِه على
خلق نفس واحدةٍ وبعث نفس وَاحِدَةٍ.
* * *
وقوله : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
(29)
(يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ)
معناه يدخل الليل في النهار ، لَيْلَ الصيف في نَهاره.
(وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ).
يدخل نهار الشتاء في ليله.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31)
ويقرأ بِنِعِمات اللَّه ، ويجوز بِنَعْمَات اللَّه ، ويجوز بِنِعَمَات اللَّه
__________
(1) قال الإمام زين الدين محمد بن أبى بكر الرَّازى
فإن قيل : قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ) يطابقه وما في الأبحر من ماء مداد فكيف عدل عنه ؟
قلنا : استغنى عن ذكر المداد بقوله تعالى : (يمده) لأنه من قولك مد الدواة وأمدها ، فجعل البحر المحيط بمنزلة الدواة ، والأبحر السبعة المملوءة مداداً أبداً صباً لا ينقطع ، فصار نظير ما ذكرتم ونظيره قول تعالى : (قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي . . .الآية).
فإن قيل : كيف قال تعالى (قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي) ولم يقل من شجر ؟
قلنا : لأنه أراد تفصيل الشجر وتقصيها شجرة شجرة حتى لا يبقى من جنس الشجر شجرة واحدة إلا وقد بريت أقلاماً.
فإن قيل : الكلمات جمع قلة والمقصود التعظيم والتفخيم ، فكان جمع الكثرة وهو الكلم أشد مناسبة ؟
قلنا : جمع القلة أبلغ فيما ذكرتم من المقصود ، لأن جمع القلة إذا لم يغن بتلك الأقلام وذلك والمداد فكيف يغنى جمع الكثرة. أ هـ {أنموذج جليل في أسئلةٍ وأجوبةٍ عن غرائبِ آي التنزيل صـ 406}

(4/200)


بفتح العين ففيها ثلاثة أوجه إذَا جُمِعَتْ ، وأكثر القراءة بنعمة اللَّهَ على
الواحدة ، وأما الكسر فعلى مذهب من جَمَع كِسْرةً علىْ كِسِرَاتٍ.
ومَنْ أَسْكن وهو أجود أَوْجُهِهِ فعلى من جمع كِسْرات ، لأن كِسْراتٍ
بقل مثله في كلام العَرَبِ ، إنما جاء في أصول الأبنية ما توالت فيه
كسرتان نحو إبل وإطِل فقط ، ومن قرأ بِنِعَمَات الله فلأن الفتح أخف
الحركات.
قال الشاعر :
ولما رَأوْنا بَادياً رُكُبَاتُنَا . . . عَلَى مَوْطِنٍ لا نَخْلِطُ الجدَّ بالهَزلِ
والأكثر رُكَبات ، وَرُكْبَات أَجْوَدُ لِثِقَلِ الضَّمَّةِ ، ولكنه أكثر من
الكلام من نِعِمَات ، وكِسِراتٍ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ).
روى قتادَةُ أَن أحبَّ العِبَادِ إلَى الله مَنْ إذَا أعْطي شَكَرَ وإذا ابْتُلِيَ
صَبَرَ.
فأعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أَن المُعْتَبِرَ المُتَفَكِرَ في خلق السَّمَاوَات
والأرض هو الصبَّار الشَّكور.
* * *
وقوله عَز وجل : (وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)
قال في . الموج : " كَالظُّلَلِ" لأن موج البحر يعظمَ حتى يصيرَ كأنَّهُ
ظُلَلٌ.
وقوله : (خَتَّارٍ كَفُورٍ).
الخَتْر : أَقبح الغَدْرِ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33)

(4/201)


(وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا).
(جازٍ) في المصحف بغير ياء ، والأصْلُ جَازِيٌّ.
وَذَكر سيبويه والخليل أن الاختيار في الوقف هُوَ جَاز ، بغير ياء والأصل جازيٌّ بضمة وتنوينٍ ، فَثَقُلَتِ الضمةُ في الياء ، فحذفت وسكنت الياء والتنوين فحذفت الياء لالتقاء السَّاكنين ، وكان ينبغي أن يكونَ في الوقف بياءٍ لأن التنوين قد سقط ولكن الفُصحَاءَ مِنَ العَرَبِ وقفوا بغير ياء لِيُعْلمُوا
أن هذه اليَاءَ تَسْقُط في الوصل.
وزعم يُونُس أَن بعض العرب الموثوقِ بهم يقف بياء ، ولكن الاخْتِيار اتباعُ المصحف والوقف بغَيْر يَاءٍ
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ).
الْغَرُورُ : الشيطان.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)
جاء في التفسير أن هذه الخمسَ مفاتحُ الغَيْب التي قال اللَّه عز
وجل فيها ، : (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ)
فمن ادَّعى أنه يعلم شيئاً من هذه فَقد كَفَرَ بالقُرآنِ ، لأنهُ قَدْ خَالَفَهُ .

(4/202)


سُورَةُ السَّجدة
( مَكِّيَّة )
إلا ثلاث آيات منها مدنية ، (أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا) إلى
تَمامِ الثلاثِ آيات.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله عزَّ وجلَّ : (الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)
روى أحمد بن حنبل . بإسناد له أن النبى - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في كل لَيْلةٍ سورةَ السجْدَةِ " الم تنزيل " ، وسورة " تبارك الملك ".
وروى كَعْبُ الأحبار أنه قال : من قرأ سورة السجدة كَتبت له سَبْعُونَ حسنةً وحُطتْ عَنْهُ سبعونَ سَيئةً وَرَفعَتْ له سَبْعُونَ دَرَجَة.
* * *
وقوله : (الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ) قد شرحنا ما قيل في " الم " ، ورفع
(تَنْزِيلُ) على خبر الابتداء على إضمار الذي نتلو . تنزيل الكتاب.
ويجوز أن يكون في المعنى خبراً عن (الم) ، أي (الم) مِنْ تنزيل الكتاب.
ويجوز أن يكون رفعه - على الابتداء ، ويكون خبر الابتداء (لَا رَيْبَ فيه).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3)
معناه بل أيقولون افتراه .

(4/203)


وقوله : (لَتُنْذِرَ قَوْماً مَا أتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ)
وَمِثْلُهُ (لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ).
و " ما " في جمع الموضعين نَفْيٌ ، أي لم يشاهدُوا هُمْ ولا آباؤهم نبيًّا.
فأما الإنذار بما قدم من رسل اللَّه صلى اللَّه عليهم فعلى
آبائهم به الحجة ، لأن اللَّه عزَّ وجلَّ لا يُعَذَبُ إلا من كفر بالرسُل.
والدليل على ذلك قوله : (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (1).
* * *
قوله : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5)
أعلم الله عزَّ وجلَّ أنه يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ، ثم
يعرج الأمر إليه في يوم ، وذلك اليوم مقداره ألفُ سَنَةٍ مما تعدُونَ.
ومعنى يَعْرُج ينزل ويَصْعَدُ يقال عَرَجْتُ في السِّلْمِ أَعْرُجُ ، ويُقَالُ عَرِج
يَعْرَجُ إذَا صَار أَعْرَجَ.
* * *
وقوله تعالى : (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ
(7)
وقد قرئ (خَلَقَهُ) بتحريك اللام وتسكينها جميعاً - ويجوز خَلْقهُ
بالرفع ولا أعلم أحداً قرأ بها.
فأمَّا (خَلَقَهُ) فعلى الفِعْلِ المَاضِي.
وتأويل الِإحْسَانِ في هذا أنه خَلَقَهُ على إرَادَتِه فخلق الإِنْسَانَ في أحسن
تَقْوِيمٍ ، وخلق القِرْدَ على ما أحب - عزَّ وجلَّ - وخَلقُه إياهُ على ذلك
مِنْ أَبْلَغِ الحكمةِ
ومن قرأ (خَلْقَهُ) بتسكين اللام فعلى وَجْهَيْنِ :
أحدهما المَصدَرَ الذي دل عليه أَحْسَنَ ، والمعنى الذي خلق كل شيء خلقه.
ويجوز أن يكون على البَدَلِ فيكون المعنى الذي أَحْسَنَ خلْقَ كُل شيء.
خَلَقَهُ ، والرفعُ على إضمار : " ذَلِكَ خَلْقُه " (2).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَبَدَأَ خَلْقَ الإنْسَانِ مِنْ طَينٍ).
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { قَوْماً مَّآ أَتَاهُم } الظاهرُ أنَّ المفعولَ الثاني للإِنذار محذوفٌ . و « قوماً » هو الأولُ؛ إذ التقديرُ : لتنذِرَ قوماً العقابَ ، و « ما أتاهم » جملةٌ منفيَّةٌ في محلِّ نصبٍ صفةً ل « قوماً » يريد : الذين في الفترةِ بين عيسى ومحمدٍ عليهما السلام . وجعله الزمخشري كقوله : { لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أُنذِرَ آبَآؤُهُمْ } [ يس : 6 ] فعلى هذا يكونُ « مِنْ نذير » هو فاعلَ « أتاهم » و « مِنْ » مزيدةٌ فيه . و « مِنْ قبلِك » صفةٌ لنذير . ويجوزُ أَنْ تتعلَّقَ « مِنْ قبلك » ب « أَتاهم ».
وجَوَّزَ الشيخُ أَنْ تكونَ « ما » موصولةً في الموضعين ، والتقدير : لتنذِرَ قوماً العقابَ الذي أتاهم مِنْ نذيرٍ مِنْ قبلك . و « مِنْ نذير » متعلقٌ ب « أَتاهم » أي : أتاهم على لسانِ نذيرٍ مِنْ قبلِك ، وكذلك { لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أُنذِرَ آبَآؤُهُمْ } [ يس : 6 ] أي : العقابَ الذي أُنْذِرَه آباؤهم . ف « ما » مفعولةٌ في الموضعين ، و « لِتُنْذرَ » يتعدَّى إلى اثنين . قال تعالى : { فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً } [ فصلت : 13 ] . وهذا القولُ جارٍ على ظواهر القرآن . قال تعالى : { وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ } [ فاطر : 24 ] { أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ } [ المائدة : 19 ] . قلت : وهذا الذي قاله ظاهرٌ.
ويظهر أنَّ في الآية الأخرى وجهاً آخرَ : وهو أَنْ تكونَ « ما » مصدريةً تقديرُه : لتنذِرَ قوماً إنذاراً مثلَ إنذارِ آبائِهم؛ لأنَّ الرسلَ كلَّهم متفقون على كلمة الحق.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(2) قال السَّمين :
قوله : « خَلَقَه » قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بسكونِ اللام . والباقون بفتحها . فأمَّا الأُولى ففيها أوجهٌ ، أحدُها : أن يكونَ « خَلْقَه » بدلاً مِنْ « كلَّ شيء » بدلَ اشتمالٍ مِنْ « كلَّ شيءٍ » ، والضميرُ عائدٌ على كل شيء . وهذا هو المشهورُ المتداوَلُ . الثاني : أنه بدلُ كلٍ مِنْ كل ، والضميرُ على هذا عائدٌ على الباري تعالى . ومعنى « أحسن » : /حَسَّن؛ لأنه ما مِنْ شيءٍ خَلَقَه إلاَّ وهو مُرَتَّبٌ على ما تَقْتَضيه الحكمةُ ، فالمخلوقاتُ كلُّها حسنةٌ . الثالث : أن يكونَ « كلَّ شيءٍ » مفعولاً أول ، و « خَلْقَه » مفعولاً ثانياً على أَنْ يُضَمَّن « أحسَنَ » معنى أَعْطى وأَلْهَمَ . قال مجاهد : « أعطى كلَّ جنسٍ شكله » . والمعنى : خَلَقَ كلَّ شيءٍ على شكلِه الذي خصَّه به . الرابع : أن يكون « كلَّ شيء » مفعولاً ثانياً قُدِّم ، و « خَلْقَه » مفعولاً أول أُخِّر ، على أَنْ يُضَمَّنَ « أَحْسَنَ » معنى أَلْهَمَ وعَرَّف . قال الفراء : « ألهم كلَّ شيءٍ خَلْقَه فيما يحتاجون إليه فيكونُ أَعْلَمهم ذلك » . قلت : وأبو البقاء ضَمَّن أحسنَ معنى عَرَّف . وأَعْرَبَ على نحوِ ما تقدَّم ، إلاَّ أنه لا بُدَّ أن يُجْعَلَ الضميرُ لله تعالى ، ويُجعلَ الخَلْقُ بمعنى المَخْلوق أي : عَرَّف مخلوقاتِه كلَّ شيءٍ يحتاجون إليه ، فيَؤول المعنى إلى معنى قولِه : { أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى } [ طه : 50 ].
الخامس : أن تعودَ الهاء [ على الله تعالى ] وأَنْ يكون « خَلْقَه » منصوباً على المصدرِ المؤكِّدِ لمضمون الجملةِ كقولِه : { صُنْعَ الله } [ النمل : 88 ] ، وهو مذهبُ سيبويه أي : خَلَقَه خَلْقاً . ورُجِّحَ على بدلِ الاشتمال : بأنَّ فيه إضافةَ المصدرِ إلى فاعِله ، وهو أكثرُ مِنْ إضافتِه إلى المفعول ، وبأنه أبلغُ في الامتنانِ لأنه إذا قال : { أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ } كان أبلغَ مِنْ « أَحْسَنَ خَلْقَ كلِّ شيء »؛ لأنه قد يَحْسُنُ الخلقُ - وهو المحاولةُ - ولا يكون الشيء في نفسِه حَسَناً . وإذا قال : أحسنَ كلَّ شيْءٍ اقتضى أنَّ كلَّ شيءٍ خَلَقَه حَسَنٌ ، بمعنى أنه وَضَعَ كلَّ شيءٍ في موضعِه.
وأمَّا القراءةُ الثانية ف « خَلَقَ » فيها فعلٌ ماضٍ ، والجملةُ صفةٌ للمضافِ أو المضافِ إليه ، فتكونُ منصوبةَ المحلِّ أو مجرورتَه.
قوله : « وَبَدَأ » العامَّةُ على الهمزِ . وقرأ الزهريُّ « بدا » بألفٍ خالصةٍ ، وهو خارجٌ عن قياسِ تخفيفِها ، إذ قياسُه بينَ بينَ . على أن الأخفش حكى « قَرَيْتُ » وجوَّز الشيخ أن يكونَ مِنْ لغةِ الأنصار . يقولون في بدأ : « بَدِي » يكسِرون الدالَ وبعدها ياءٌ ، كقولِ عبدِ الله بن رواحة الأنصاري :
3669 بسمِ الإِلهِ وبه بَدِيْنا . . . ولو عَبَدْنا غيرَه شَقِيْنا
قال : « وطيِّئٌ تقول في بَقِي : بَقَا » . قال : « فاحتمل أَنْ تكونَ قراءةُ الزهري من هذه اللغةِ ، أصلُه بَدِي ، ثم صار بدا » . قلت : فتكون القراءةُ مركبةً مِنْ لغتَيْن.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/204)


يعني آدم وَذُريتهُ ، فآدم خلق من طين.
* * *
(ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8)
ومعنى مَهِين ضَعيف ، ومعنى السلالة في اللغة ما ينسَل من
الشيء القليل ، وكذلك الفعالةُ نحو الفُضَالَةُ والنُّخامَةُ والقُوارةُ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10)
ويقرأَ (أَنَّا لَفِي خلق جَدِيدٍ) ، ويقرأ (إنَّا لَفِي خَلْق جَديدٍ)
وموضع (إذَا) نصب ، فمن قرأ (أَإِنَّا) فعلى معنى أنُبْعَث إذا ضَللنَا في الأرْضِ.
وَيَكُونُ يَدُلًّ عَلَيه " إنَا لَفِي خَلْق جَدِيدٍ " ، ومن قرأ إنا لفي خلق - جديد
فإذا منصوبة بـ ضللنا ، ويكون بمعنى الشرط والجزاء ، ولا يضر ألا يذكر
الفاء ، لأن " إذَا " قد وليها الفعل الماضي ، ولا يجوز أن ينتصبَ " إذا "
بما بعْدَ " أن " ، لا خلاف بين النحويين في ذلك ، ومعنى " إذَا ضَلَلنَا "
إذا مُتْنَا فَصِرْنَا تُراباً وعظاماً فَضَلِلْنَا في الأرض فلم يتبينْ شيء من
خَلْقِنَا ، ويقرأ صَلَلْنَا بالصادِ ، ومعناه على ضربين :
أحدهما أَنْتَنَّا وَتَغَيَّرْنَا ، وتَغَيَّرَتْ صُوَرُنا ، يقال صَلَّ اللحم وَأَصَلَّ إذا أنْتَنَ وَتَغيَّرَ.
والضرب الثاني صَلَلْنَا صرنا من جِنْسِ الصَّلَّةِ ، وهي الأرض اليابسة (1).
* * *
وقوله : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11)
من تَوْفِيَةِ العَدَدِ ، تأويرله أنه يقْبِضُ أَرْواحكُمٍ أَجْمعين فلا ينقص
واحدٌ منكم ، كما تقول : قد استَوْفَيْتُ مِنْ فُلَانٍ وتوفيْتُ من فلان مالي
عنده ، فتأويله أَنهُ لَمْ يَبْقَ لي عَلَيه شيء.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { أَإِذَا ضَلَلْنَا } : تقدَّم اختلافُ القراء في الاستفهامين في سورة الرعد . والعاملُ في « إذا » محذوفٌ تقديرُه : نُبْعَثُ أو نُخْرَجُ ، لدلالةِ « خَلْقٍ جديد » عليه . ولا يَعْمَلُ فيه « خَلْق جديد » لأنَّ ما بعد « إنَّ » والاستفهامَ لا يعملُ فيما قبلهما . وجوابُ « إذا » محذوفٌ إذا جعلتَها شرطيةً.
وقرأ العامَّةُ « ضَلَلْنا » بضادٍ معجمةٍ ولامٍ مفتوحةٍ بمعنى : ذَهَبْنا وضِعْنا ، مِنْ قولِهم : ضَلَّ اللبنُ في الماء . وقيل : غُيِّبْنا . قال النابغة :
3670 فآبَ مُضِلُّوه بعينٍ جَلِيَّة . . . وغُوْدِر بالجَوْلانِ حَزْمٌ ونائِلُ
والمضارعُ مِنْ هذا : يَضِلُّ بكسر العين وهو كثيرٌ . وقرأ يحيى ابن يعمر وابن محيصن وأبو رجاء بكسرِ اللامِ ، وهي لغةُ العالية . والمضارعُ من هذا يَضَلُّ بالفتح . وقرأ عليٌّ وأبو حيوة « ضُلِّلْنا » بضم الضاد وكسر اللام المشددة مِنْ ضَلَّلَه بالتشديد.
وقرأ عليٌّ أيضاً وابن عباس والحسن والأعمش وأبان بن سعيد « صَلَلْنا » بصادٍ مهملةٍ ولامٍ مفتوحة . وعن الحسن أيضاً « صَلِلْنا » بكسرِ الصادِ . وهما لغتان . يقال : صَلَّ اللحمُ يَصِلُّ ، ويَصَلُّ بفتح الصادِ وكَسرِها لمجيءِ الماضي مفتوحَ العين ومكسورَها . ومعنى صَلَّ اللحمُ : أنتنَ وتَغيَّرتْ رائحتُه . ويُقال أيضاً : أَصَلَّ بالألف قال :
3671 تُلَجْلِجُ مُضْغَةً فيها أَنِيْضٌ . . . أَصَلَّتْ ، فَهْيَ تحت الكَشْحِ داءُ
وقال النحاس : « لا نعرفُ في اللغة » صَلِلْنا « ولكن يُقال : صَلَّ اللحمُ ، وأصلَّ ، وخَمَّ وأَخَمَّ » وقد عَرَفها غيرُ أبي جعفر. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/205)


وقوله : (وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12)
هذا متروك الجواب ، وخِطابُ النبي - صلى الله عليه وسلم - خطابُ الخلق الدليل عليه ذلك : (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ) فهو بمنزلة وَلَوْ تَرَوْنَ
فالجواب لرأيتم ما يعتبر به غاية الاعتبار.
وقوله : (رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا).
فيه إضمار " يَقُولُون رَبَّنَا أَبْصَرْنَا.
* * *
وقوله : (وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13)
تأويله مثل قوله : (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لِجَمَعَهُم عَلَى الهُدَى).
ومثله (فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ).
وقوله : (وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ).
قال قتادة بذنوبهم ، وهذا حسن ، لأن اللَّه عَز وَجَل قال :
(إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).
* * *
وقوله : (فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14)
تِاويل النسيان ههنا الترك ، المعنى فذوقوا بما تركتم عمل لقاء
يومكم هذا فتركناكم من الرحمة.
* * *
وقوله عزَّ وجل : (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16)

(4/206)


معنى (تَتَجَافَى) ترتفع وَتُفَارِقُ المضاجعَ ، ومعنى (خَوْفًا وَطَمَعًا)
خوفاً من عذاب اللَّه وطمعاً في رحمة اللَّه.
وانتصاب (خَوْفًا وَطَمَعًا) لأنه مفعول له ، كما تقول :
فَعَلْتُ ذلك حِذَارَ الشَرِّ أَي لِحذارِ الشَرِّ
وحقيقته أنه في موضع المصدَرِ ، لأن (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ) في هذا الموضعِ
يدل على أنهم يَخَافُونَ عذابَه وَيرْجُونَ رَحْمَتَهُ ، فهو في تأويل يَخَافون
خوفاً ويطمعون طمعاً.
وقوله : (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ).
أي ينفقون في طاعة اللَّهِ ، وقد اختلف في تفسيرها ، وأكثر ما
جاء في التفسير أنهم كانوا يصلون في الليل وقت صلاة العتمة
المكتوبة لا ينامون عنها ، وقيل التطوع بين الصلاتين ، صلاة المغرب
والعشاء الآخرة.
* * *
وقوله : (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)
دليل على أنها الصلَاةُ في جَوْفِ الليْلِ ، لأنه عمل يستسِرُّ
الإنْسَانُ به فجعل لفظ ما يجازى به (أُخْفِيَ).
ويقرأ بإسكان الياء ، ويكون المعنى ما أخفي أنا لهم . إخبار عن اللَّه.
وإذا قرئت : (أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) - بفتح الياء - فعلى تأويل الفعل الماضي ، ويكون اسم ما لم يسم فاعله ما في أُخْفِيَ من ذكر " ما "
وقرأ الناس كلهم (مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) إلا أبا هُرَيْرَةَ فإنه قرأ (من قرَّاتِ أعْيُنٍ).
ورواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
(جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) .

(4/207)


" جزاء " أيضاً منصوب مفعول له.
وقُرئت : فلا تعلم نفس ما أَخْفَى لَهمْ ، أي ما أخفى اللَّه لهم (1).
* * *
وقوله : (أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18)
جاء في التفسير أنها نزلت في علي بن أبي طالب عليه السلام.
وعقْبَةَ بنِ أَبي معَيْطِ.
فالمؤمن عَلِيٌّ رضي اللَّه عنه ، والفاسق عقبة ابن أبي معيط ، فشهد الله لِعليٍّ بالإيمان وإنه في الجنة بقوله : (أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى).
وقال : (لَا يَسْتَوُونَ) ، ولو كان قال : لا يتسويان لكان جَائزاً.
ولكن " مَنْ " لفظها لفظ الواحد ، وهي تدل على الواحِد وعلى الجماعة فجاء (لَا يَسْتَوُونَ) على معنى لا يستوي المؤمِنُونَ والكَافِرونَ.
ويجوز أن يكونَ " لا يَسْتوُونَ " للاثنين ، لأن معنى الاثنين جماعة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21)
الأدنى ما يصيبهم في الدنيا ، وقد اختلف في تفسيرها.
فقيل : ما يصيبهم من الجدب والخوف ، ويكون دليل هذا القول قوله : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ).
وقيل " الْعَذَابِ الْأَدْنَى " ههنا السِّبَاءُ والقتل ، وجملته أن كل
ما يعذَّبُ به في الدنيا فهو الْعَذَابِ الْأَدْنَى ، والعذاب الأكبر عذاب
الآخرة.
* * *
وقوله : (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (23)
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : « أُخْفِيَ » قرأه حمزةُ « أُخْفِيْ » فعلاً مضارعاً مُسْنداً لضمير المتكلم ، فلذلك سَكَنَتْ ياؤُه لأنه مرفوعٌ . وتؤيدها قراءةُ ابنِ مسعود « ما نُخْفي » بنون العظمة . والباقون « أُخْفِيَ » ماضياً مبنياً للمفعول ، فمِنْ ثَمَّ فُتحت ياؤُه . وقرأ محمد بن كعب « أَخْفى » ماضياً مبنياً للفاعل وهو اللَّهُ تعالى ، ويؤيِّده قراءةُ الأعمش « ما أَخْفَيْتُ » مسنداً للمتكلم . وقرأ عبد الله وأبو الدرداء وأبو هريرةَ « مِّن قُرَّاتِ أَعْيُنٍ » جمعاً بالألف والتاء . و « ما » يجوزُ أَنْ تكونَ موصولةً أي : لا نَعْلَمُ الذي أخفاه اللَّهُ . وفي الحديث : « ما لا عينٌ رَأَتْ ، ولا أُذُن سَمِعَت ، ولا خَطَر على قَلْب بشر » وأَنْ تكونَ استفهاميةً معلِّقَةً ل « تَعْلَمُ » . فإن كانَتْ متعديةً لاثنين سَدَّت مَسَدَّهما ، أو لواحدٍ سَدَّتْ مَسَدَّه . و « جزاءً » مفعول له ، أو مصدرٌ مؤكِّدٌ لمعنى الجملةِ قبلَه . وإذا كانَتْ استفهاميةً فعلى قراءةِ مَنْ قرأ ما بعدها فعلاً ماضياً تكون في محلِّ رفعٍ بالابتداء ، والفعلُ بعدها الخبرُ . وعلى قراءةِ مَنْ قرأه مضارعاً تكونُ مفعولاً مقدَّماً ، و « مِنْ قُرَّة » حالٌ مِنْ « ما ». اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/208)


جاء في التفسير لا تكن في شك من لقاء موسى عليه السلام.
ودليل هذا القول في التفسير قوله : (وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا) ، فالمعنى لا تكن يا محمد في مِرْيةٍ من لقائه.
والخطابُ للنبي - صلى الله عليه وسلم - بمنزلة الخطاب له ولأِمَّتِهِ في هذا الموضع ، أي فلا تكونوا في شك من لقاء النبي عليه السلام بموسى.
وَقِيلَ (فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ) أي من لقاء موسى الكتاب ، ويكون الهاء للكتاب ، ويكون في لقائه ذكرُ مُوسى ، ويجوز أن يكون الهاء لموسي ، والكتاب محذوف ، لأنْ ذكر الكتاب قد جرى كما جرى ذكر موسى.
وهذا واللَّه أعلم أشبه بالتفسير.
* * *
وقوله : (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24)
أكثر البصرئينَ لا يجيزون (أَئِمَّةً) بهمزتين ، وابن أبي اسحاق وحدَه
يجيز اجتماعَ هَمْزَتين ، وسيبويه والخليل وجميع البصريين - إلا ابنَ
إسحاق - يقولون أيمة - بهمزة وياء - وإذا كانَ الهمزتان في كلمة وَاحِدَةٍ
لم يجيزوا إلا إبدال الثانية في نحو أَيِمة وآدم ، ومن قرأ أَئِمةً لَزِمه أَنْ
يَقُول في " آدم " أَأْدَم " لأنه أفعل من الأدْمَةِ ، وأئمة أَفْعِلَة ، ولا ينبغي أن
تقرأ ألا أيمَّةَ ، لأن من حقَق الهمزة فيما يجوز فيه تخفيف الهمز أجاز
التخفيف فكذلك هو يجيز التخفيف في أيمة ، فتصير قراءة أَيِمَّة
إجماعاً.
وقوله : (لَمَّا صَبَرُوا).
وَلِمَا صَبروا ، والقراءة بالتشديد والتخفيف في " لَمَّا " ، فالتخفيف
معناه جعلناهم أئمة لِصَبْرِهِمْ ، ومن قرأ " لَمَّا ، صَبَروا فالمعنى مَعنى

(4/209)


حكاية المجازاة . لَمَّا صَبَرُوا جعلناهم أئمة ، وأصل الجزاء في هذا
كأنهُ قيل إن صَبرتُمْ جعلناكم أئمةً ، فلما صبروا جُعِلوا أَئِمةً.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26)
وقرئت بالنُونِ ((أَوَلَمْ نَهْدِ لَهُمْ).
وزعم بعض النحويين أن (كَمْ) في موضع رفع بـ (يَهْدِ)
والمعنى عنده أولم نُبَيِّنْ لهم القرون التي أهلكنا مِنْ قَبْلِهِمْ.
وهذا عندنا - أعني عند البصريين - لا يجوز ، لأنه لايعمل ما قبل (كَمْ) في
(كَمْ) ، لا يجوز في قولك كم رَجُل جاءني.
وأنت مخبر أن تقول جاءني كم رجل ، لأن (كَمْ) لا تُزَالُ عن الابتداء.
ولذلك جاز أن يفصل بينها وبين ما عملت فيه إِذَا نصبت بما في الخبر
والاستفهام تقول في الخبر :
كَمْ بجودٍ مُقْرِفاً نالَ الغِنَى

(4/210)


ففصلت بين (كَمْ) وبين قولك مقرفاً بِقَوْلِكَ (بجودٍ) ، فيكون
الفَصْلُ فيها بين (كَمْ) وما عملت فيه عِوَضاً من تصرفها ، ألا ترى أنه لا
يجوز عشرون عندي درهماً ، ويجوز في الخبر كم عندي دِرهماً جَيِّداً.
وحقيقة هذا أَن (كَمْ) في موضع نصبٍ بـ (أَهْلَكْنَا).
وفاعل " يَهْدِ " ما دل عليه المعنى مما سلف من الكلام.
ويكون (كَمْ) أَيْضاً دليلا على الفاعل في يهدي ، ويدل على هذا قراءة من قرأ أو لم نَهْدِ - بالنونِ - أي ألم نبين لهم.
ويجوز أيضا على " يهد " بالياء - أن يكون الفعلُ لله - عزَّ وجلَّ - يدل عليه قراءة من قرأ (أولَم نَهْدِ).
* * *
وقوله - عزَّ وجلَّ - (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27)
يُقرأ (الجُرُزَ) ، ويجوز ، الجَرَزَ والجُرْز والجَرْز.
كل ذلك قد حكي في (الْجُرُزِ).
جاء في التفسير أنها أرض اليَمَنِ ، والجرز عند أَهْل اللغَةِ الأرض
التي لا تُنْبِتُ . وكان أصلها أنها تأكل نباتها ، يقال امرأة جَزُوز إذا
كانت أكولاً ، ويقال : سيف جراز إذَا كان مستأصلا.
فمن قال جُرْزٌ فهو تخفيف جرُز ، ومن قال : جَرَز وَجَرْز فهما لغتان.
ويجوز أن يكون جَرْز مَصْدَراً وُصِفَ به كأنَّه أرض ذات جَرْزٍ - أعني بإسكان الراء ، أي ذَات أكل للنبَاتِ.
وقوله : (يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ).
ويجوز في (يَمْشون في مساكنهم) : تَمْشون.
* * *
وقوله تعالى : (وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28)

(4/211)


جاء في التفسير أن أصحاب النبي عليه السلام قالوا : يُوشِكُ أن
يكون لنا يوم نستريح فيه ، فقال المشركون : مَتَى هَذَا الفَتحُ إن كُنتُم
صَادَقِينَ ، فأعلم الله عَز وَجَل أَن الراحة في الجنة في الآخرةِ.
وجاء أيضاً في الفتح مَتَى هذا الحَكمُ إنْ كنتم صادقين ، ومتى هذا الفَصلُ.
فأَعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أَن يَوْمَ الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمَانُهُمْ.
وَلَا هم يُنْظَرُونَ.
أَيْ أَنَّهم ما داموا في الدنيا فالتوبة مَعْرُوضَة لَهُمْ ولا توبة في
الآخرةِ.
* * *
(فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)
وقرئت : (وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ) ، و (مُنْتَظَرُونَ) .

(4/212)


سُورَةُ الأحزاب
(مدنية)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله عزَّ وجلَّ : (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1)
معناه اثبتْ على تقوى الله ودُم عَلَيها.
وقوله : (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا).
أي كان عليمأ بما يكون قبل كونه ، حكيماً فيما يخلقه قبل خلقه
إياه.
* * *
(وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2)
يَعْني به القرآنَ.
* * *
وقوله : (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3)
معناه وكفى اللَّه وكيلاً ، دخلت الباء بمعنى الأمر ، وإن كان لفظُه
لفظَ الخبرَ.
المعنى اكتف باللَّه وَكِيلًا.
* * *
وقوله عزَّ وَجَل : (مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4)
قال ابن عباس : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى فسها كما يسهو الرجال في صلاته ، وخطرت على باله كلمة فقال المنافقون إنَّ لَه قَلْبَيْن ، قلباً معكم وقلباً مع أصحابه.
وأكثر ما جاء في التفسير أن عبد اللَّه بن خَطَل

(4/213)


كانت قُريْش تسميه ذا القلبين ، وروي أنه قال : إن لي قَلْبَيْنِ أَفْهَمُ بِكل
وَاحِدٍ منهما أكثر مما يَفْهَمُ محمدٌ ، فأكذبه اللَّه - عزَّ وجلَّ - فقال :
(مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ).
ثم قَرَنَ بهذا الكلام ما يقوله المشركونَ غيرهم مما لا حقيقة له فقال عزَّ وجلَّ :
(وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ).
وتقْرَأُ (تَظَّاهَرُونَ) مِنْهُنَّ ، فمن قَرأ (تُظَاهِرُونَ) بالتخفيف فعلى قولك :
ظاهر الرجُل من امْرَأَتِه ، ومن قرأ (تَظَّاهَرُونَ) - بالتشديد - فعلى تظاهر
الرجلُ من امْرأته ، ومعناه أنه قال لها : أَنْتِ عليَّ كظَهرِ أُمِّي ، فأعلم
اللَّه - عزَّ وجلَّ - أن الزوجة لَا تَكونُ أُمًّا ، وكانتِ الجَاهِلية تُطَلِّقُ بهذا
الكلام ، فأنزل اللَّه كفارة الظهار في سور المجادلة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمَا جَعَل أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ).
أي ما جعل من تدعونه ابناً وليس بِوَلَدٍ في الحقيقة - ابناً.
وكانوا يتوارثون على الهجرة ولا يرث الأعرابي من المُهَاجِر ، وَإنْ كان
النسَبُ يوجب له الإرث.
فأَعلم اللَّهُ أَنَ أُولى الأرحام بعضُهُمْ أولى بِبَعْض ، وأبطل الِإرث بالهجرة.
وقوله : (ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ).
أي ادِّعاؤُكم نَسبَ من لا حقيقة لنسبه قولْ بِالْفَمِ لا حقيقة معنًى
تَحْتَهُ.
(وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ).
أي اللَّه لا يجعل الابن غير الابن ، وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ، أي يَهْدِي

(4/214)


السبيلَ المستقيمة مثل قوله : (فَقدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيل).
* * *
وقوله : (ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5)
(ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ)
أي هو أعْدَلُ.
(فَإنْ لَمْ تَعَلَمُوا آبَاءَهُمْ).
أي فإنْ لم تعلموا أنَّ المدعوَّ ابنُ فُلانٍ فهو أخوكَ في الدِّينِ إذا
كان مؤمِناً ، أي فقل يا أخي.
(وَمَوَالِيكُمْ) أي بَنُو عَمِّكم ، ويجوز أن يكون : وَمَوالِيكُمْ - أي.
أَوْلِياؤكُمْ في الدِّين.
(وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ).
في هذا وَجْهَانِ :
أَحَدُهُما وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ مِما قد فعلتمُوهُ قبْلَ أن تُنْهَوْا عن هذا ، وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ ، أَي ولكن الإثم فيما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ.
و (ما) في موضع جَرٍّ . عطف على (مَا) الأولَى
المعنى : وليس عليكمْ جناح في الذي أخطاتم به.
ولكن في الذي تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ.
ويجوز أن يكون : ولا جناح عليكم في أن تقولوا له با بُنَيَّ على غير أن تَتَعَمَّدَ أن تجريه مجرى الوَلَدِ في الإرْثِ.
* * *
وقوله عزَّ وَجَل (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (6)
وفي بعض القراءة : النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهُوَ أَبٌ لَهُمْ ،

(4/215)


ولا يجوز أن تقرأ بها لأنها لَيْسَت في المصحف المجمع عليه.
والنبي عليه السلام أبو الأمة في الحقيقة.
ومعنى (وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ) ، أي لا تحل زوجة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأحَدٍ بَعْدَه إذ هي بمنزلة الأمِ.
وقوله : (وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ).
أي ذو الرحِم بِذِي رَحِمِه أولى من المُهَاجِر إذَا لم يَكُنْ مِنْ ذَوِي
رحِمِهِ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا).
(إِلَّا أَنْ) استثناء ليست من الأول المعنى لكن فِعْلُكم إلَى
أَوْلِيَائِكُمْ مَعروفاً جائِزٌ ، وهو أن يوصَي الرجلُ لِمَنْ يَتَولَّاهُ بما أحب من
ثُلُثِهِ ، إذَا لم يكن وارثاً ، لأنه لَا وَصِيةَ لِوَارِثٍ.
(كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا).
أي كان ذلك في الكِتابِ الذي فُرِضَ فيه الفرضُ
(مَسْطُورًا) أَي مكتوباً.
* * *
وقوله : (وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (7)
موضع " إذْ " نصب
المعنى اذكر إذْ أَخَذْنَا ، فذكرَهُ اللَّهُ - صلى الله عليه وسلم - في أَخذِ
الميثاقِ قبل نوح.
وجاء في التفسير : إنِي خُلِقْتُ قَبْلَ الأنبياء ، وَبُعِثْت بَعْدَهُمْ.
فَعَلى هذا القولِ لا تَقْدِيمَ في هذا الكلام ولا تأخِيرَ.
هو على نَسَقِه ، وَأخِذَ الميثاق حيث أخرجوا مِنْ صُلْبِ آدَمَ - صلى اللَّه عليه - كالذَّرِّ.
وَمَذْهَبُ أهل اللغة أن الواو معناها الاجتماع ، وليس فيها دَلِيل

(4/216)


أن المذكور أولاً لا يستقيم أَنْ يكونَ مَعْناه التأخِيرُ.
فالمعنى على مذهب أَهْلِ اللُّغة ، وَمِنْ نُوح وإبرَاهيم ومُوسَى وعِيسَى ابن مَريمَ
وَمِنْك.
ومثله قوله : (وَاسجدِي وَارْكَعِي مع الراكِعِينَ).
* * *
وقوله : (لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (8)
معناه ليسأل المبلِّغين من الرسلِ عَنْ صِدْقِهِمْ في تبليغهم.
وتأويل مَسْألَةِ الرسُلِ - واللَّه يعلم - أنهم صادقون - التبكيت للذين
كفروا بِهِمْ ، كما قال اللَّه - عزَّ وجلَّ - (وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ) ، فأجاب فقال :
(سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ) ، ثم قال (مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ) ، فتأويله التَبْكيتُ للمُكَذِبِينَ ، فعلى هذا (لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (8)
أي للكافرين بالرسُلِ (1).
* * *
وقوله : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9)
هؤلاء الجنودُ هم الأحْزاب ، والجنود الذين كانوا : هم قرَيْش
مَعَ أبي سفْيَانَ وغطفَان وبنو قريظة ، تحزَّبوا وتظاهروا على حرب رسول
اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فأرسل اللَّه عليهم ريحاً كفَأَت قذورَهم ، أي قَلَبَتْهَا ، وقَلَعَتْ فساطيطهم وأظعنتهمْ من مَكانهم ، والجنودُ التي لم يروها المَلَائِكَة.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { لِّيَسْأَلَ } : فيها وجهان ، أحدُهما : أنها لامُ كي أي : أَخَذْنا ميثاقَهم ليَسْأل المؤمنين عن صدقهم ، والكافرين عن تكذيبهم ، فاستغنى عن الثانِي بذِكْر مُسَبِّبه وهو قولُه : « وأَعدَّ » . والثاني : أنها للعاقبة أي : أَخَذَ الميثاقَ على الأنبياء ليصيرَ الأمرُ إلى كذا . ومفعولُ « صدقِهم » محذوفٌ أي : صِدْقِهم عهدَهم . ويجوز أن يكون « صِدْقِهم » في معنى « تَصْديقهم » ، ومفعولُه محذوفٌ أيضاً أي : عن تصديقِهم الأنبياءَ.
قوله : « وأَعَدَّ » يجوزُ فيه وجهان ، أحدهما : أَنْ يكونَ معطوفاً على ما دَلَّ عليه « ليَسْألَ الصادقين »؛ إذ التقديرُ : فأثاب الصادقين وأعَدَّ للكافرين . والثاني : أنه معطوفٌ على « أَخَذْنا » لأنَّ المعنى : أنَّ اللَّهَ تعالى أكَّدَ على الأنبياءِ الدعوةَ إلى دينه لإِثابة المؤمنين وأعَدَّ للكافرين . وقيل : إنه قد حَذَفَ من الثاني ما أثبت مقابلَه في الأول ، ومن الأولِ ما أثبتَ مقابلَه في الثاني . والتقدير : ليسألَ الصادقينِ عن صِدْقِهم فأثابهم ، ويَسْألَ الكافرين عَمَّا أجابوا به رُسُلَهم ، وأعَدَّ لهم عذاباً أليماً. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/217)


وقوله : (إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10)
جاءت قريظة من فَوْقِهِمْ ، وجاءت قريش وغَطَفَانُ من ناحية مَكةَ.
مِنْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ.
وقوله : (وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا).
اختلف القراءُ فيها . فقرأ بَعْضُهُمْ بِإثْبَاتِ الألِفِ فِي الوَقْفِ
والوَصْلِ وقرأ بعضهم " الظنُون " بغير ألِفٍ في الوصل ، وبألف في
الوقف.
وقرأ أبو عَمْرٍو " الظُّنُونَ " بغير ألف ، في الوصل والوقف.
والذي عليه حُذَّاق النحويين والمتبعُونَ السُّنَّةَ من حُذاقِهِمْ أَن يقرأَوا
(الظُّنُونَا).
ويقفون على الألف ولا يَصِلُونَ ، وإنَّمَا فَعَلُوا ذَلِكَ لأن
أواخر الآيات عِنْدَهُمْ فَوَاصلُ ، ويثَبتُون في آخرها في الوقف ما قد
يحذف مثله في الوَصْلِ.
وَهُؤلاءِ يتبعُون المُصْحَفَ ويكرهون أَنْ يَصِلُوا ويثبتوا الألِفَ ، لأن الآخر لم يقفوا عَلَيْهِ فيجروه مجرى الفَوَاصِلِ.
ومثل هذا من كلام العَرَبِ في القَوَافِي :
أَقِلِّي اللوم عَاذِل والعِتَابَا.
فأثبت الألف لِأنَّهَا في موضع فاصِلةٍ وهي القافية (1).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11)
ويجوز زَلْزَالاً . بفتح الزاي ، والمصدر من المَضَاعَفِ يجيء على
ضربين فَعْلال وَفِعْلال نحوِ قَلْقَلَهُ قَلْقَالًا وَقِلْقَالاً وَزَلَزلْزَلَتْهُ زَلْزَالاً
وَزِلْزَالاً ، والكسر أكثر وَأَجْوَدُ لأنْ غيرَ المَضَاعَفِ من هذا الباب مكسورُ
__________
(1) قال السَّمين :
وقوله : « الظنونا » قرأ نافع وابنُ عامر وأبو بكر بإثبات ألفٍ بعد نون « الظُّنونا » ولامِ « الرسول » في قوله : { وَأَطَعْنَا الرسولا } [ الأحزاب : 66 ] ولام « السَّبيل » في قوله : { فَأَضَلُّونَا السبيلا } [ الأحزاب : 67 ] وَصْلاً ووَقْفاً موافقةً للرسمِ؛ لأنهنَّ رُسِمْنَ في المصحف كذلك . وأيضاً فإنَّ هذه الألفَ تُشْبه هاءَ السكتِ لبيانِ الحركة ، وهاءُ السكتِ تَثْبُتُ وقفاً ، للحاجة إليها . وقد ثَبَتَتْ وصلاً إجراءً للوصل مُجْرى الوقف كما تقدَّم في البقرة والأنعام . فكذلك هذه الألفُ . وقرأ أبو عمروٍ وحمزةُ بحَذْفِها في الحالَيْن؛ لأنها لا أصلَ لها . وقولُهم : « أُجْرِيَتْ الفواصلُ مُجْرى القوافي » غيرُ مُعْتَدٍّ به؛ لأنَّ القوافي يَلزَمُ الوقفُ عليها غالباً ، والفواصلُ لا يَلْزَمُ ذلك فيها فلا تُشَبَّهُ بها . والباقون بإثباتِها وَقْفاً وحَذْفِها وَصْلاً إجراءً للفواصلُ مُجْرى القوافي في ثبوتِ ألفِ الإِطلاق كقولِه :
3676 اسْتأثَرَ اللَّهُ بالوفاءِ وبال . . . عَدْلِ ووَلَّى المَلامَةَ الرَّجُلا
وقوله :
3677 أقِلِّي اللومَ عاذلَ والعِتابا . . . وقُولي إن أَصَبْتُ لقد أصابا
ولأنها كهاءِ السكت ، وهي تَثْبُتُ وقفاً وتُخَفَّفُ وصلاً . قلت : كذا يقولون تشبيهاً للفواصلِ بالقوافي ، وأنا لا أحب هذه العبارةَ فإنها مُنْكَرَة لفظاً ولا خلافَ في قوله : { وَهُوَ يَهْدِي السبيل } [ الأحزاب : 4 ] أنه بغيرِ ألفٍ في الحالين.
قوله : « هنالك » منصوبٌ ب « ابْتُلِيَ » وقيل : ب « تَظُنُّون » . واسْتَضْعَفَه ابنُ عطية . وفيه وجهان ، أظهرهما : أنه ظرفُ مكانٍ/ بعيدٍ أي : في ذلك المكان الدَّحْضِ وهو الخندقُ . الثاني : أنه ظرفُ زمانٍ ، وأنشد بعضُهُم على ذلك :
3678 وإذا الأمورُ تَعاظَمَتْ وتشاكَلَتْ . . . فهناك يَعْتَرفون أين المَفْزَعُ
قوله : « وزُلْزِلُوا » قرأ العامَّةُ بضمِّ الزاي الأولى وكسرِ الثانية على أصل ما لم يُسَمَّ فاعلُه . ورَوَى غيرُ واحدٍ عن أبي عمروٍ كَسْرَ الأولى . وروى الزمخشريُّ عنه إشمامَها كسراً . ووجهُ هذه القراءةِ أَنْ يكونَ أتبعَ الزايَ الأولى للثانيةِ في الكسرِ ، ولم يَعْتَدَّ بالساكنِ لكونِه غيرَ حصينٍ ، كقولهم : « مِنْتِن » بكسرِ الميم ، والأصل ضمُّها.
قوله : « زِلْزالاً » مصدر مُبَيِّنٌ للنوعِ بالوصف . والعامَّةُ على كسر الزاي . وعيسى والجحدري فتحاها . وهما لغتان في مصدرِ الفعل المضعَّفِ إذا جاء على فِعْلال نحو : زِلْزال وقِلْقال وصِلْصال . وقد يُراد بالمفتوح اسمُ الفاعل نحو : صَلْصال بمعنى مُصَلْصِل ، وزَلزال بمعنى مُزَلْزِل. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/218)


الأول ، نحو دَحْرَجْتُه دِحْراجاً لا يجوز فيه غير الكسر.
ومعنى (هُنَالِكَ ابْتُلِيَ المومِنُونَ) أَيْ فِي تلكَ الحال اخْتُبِرَ المؤمِنُونَ.
ومعنى (زُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا) ، أزْعِجوا إزعاجاً شديداً وحُرِّكوا.
* * *
وقوله : (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12)
موضع " إذْ " نَصْب
المعنى اذكر إذ يَقول المنافقون.
ومعنى الآية أن المنافقين قالوا : وَعَدَنا محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - أن فارسَ والرومَ تُفْتَحَانِ عَلَيْنَا ، وَنَحْن بمكاننا هذا ما يقدر أحدنا أن يبرز لحاجَتِه ، فهذا وعْد غرور.
* * *
وقوله عزَّ وَجَل (وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13)
ويقرأ " لاَ مَقَام لَكمْ " بفتح الميمِ ، فمن ضم الميم فالمعنى لا إقامة
لكم ، تقول : أقمت في البَلَدِ إقامةً ومُقاماً.
ومن قرأ لا مَقَام لكم " - بفتح الميم ، فالمعنى لا مكان لكم تقيمون فيه ، وهؤلاء كانوا يُثَبِّطونَ المؤمنين عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
(وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ).
أي مُعَوَّرة وذلك أنهم قالوا إِنَّ بُيُوتَنَا مِمَّا يَلِي العَدو ، ونحن
نُسْرَقَ مِنْهَا ، فكذبَهُم اللَّه تعالى وأعلم أن قَصْدَهم الهَرَبُ والفرار.
فقال : (وَمَا هِيَ بِعَورَةٍ).
ويقرأ : وَمَا هِيَ بِعَوِرَةٍ.
يقَال عَوِرَ المَكَان يَعْوَرُ عَوَراً ، وهو عَوِر

(4/219)


وبيوت عَوِرة ، وبيوت عَوْرَة على ضَربَيْن ، على تسْكِين عَوْرَة ، وعلَى
معْنَى ذات عَوْرَة.
(إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا).
أي ما يريدون تحرزاً مِنْ سَرَقٍ ، ولكن المنافقين يريدون الفرار
عن نُصْرَةِ النبي عليه السلام.
* * *
(وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14)
أي وَلَوْ دُخِلَتْ البيوت من نواحيها.
(ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا) ، ويقرأ بالقصر (لَأَتَوْهَا) ، فمن قرأ (لَآتَوْهَا) بالمدِّ فالمعنى لأعطوها ، أي لَوْ قِيلَ لَهمْ كُونوا على المسلمين مُظْهِرِينَ الفتنةَ لَفَعَلوا ذَلِكَ ، (وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا).
ومن قرأ (لَأَتَوْهَا) بالقصر ، فالمعنى لَقَصدُوها.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18)
أي الذين يُعَوقون عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نُصَّارَهُ ، وذلك أنهم قالوا لِنُصَّار النبي - صلى الله عليه وسلم - : ما محمد وأصحابه إلا أكلة رَأْس . ولو كانوا لحماً لالْتَهَمَهُمْ أَبُو سفيانَ وأَصْحابُه فخلوهم وَتَعَالَوْا إلَيْنَا.
وقوله : (وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا).
أي لا يأتون الحرب مع أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا تَعْذِيراً
يوهِمُونَهِمْ أَنَّهم مَعَهُمْ.
* * *
(أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (19)
" أشِحَّةً " منصوبٌ عَلَى الحَال ، المعنى يَأتُونَ الحربَ بُخَلاءَ عَلَيكمْ

(4/220)


بالظفر والغنيمة فَإذَا جَاءَ الخَوْفُ فهم أَجْبَنُ قَوْمٍ ، فإذا جاءت الغنيمة
فأشحُّ قَوْمٍ وَأَخْصَمُهُم.
(فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ).
لأنهم يحضرون على غَيْر نية خَيْرٍ ، إلا نية شَر.
(فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ).
معنى " سَلَقُوكم " خاطبوكم أَشَدَّ مخَاطَبةِ وَأَبْلَغَهَا في الغنيمة ، يقال :
خَطِيبٌ مِسْلَاق وسَلَّاق إذَا كانَ بَلِيغاً في خُطْبَتِهِ.
(أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ).
أي خاطبوكم وهم أَشِحَّة عَلَى المالَ والغنيمة.
وقوله (أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ).
أي هم وإن أظهروا الإِيمانَ ونافقوا فليسوا بمؤمنين.
* * *
وقوله : (يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (20)
أي يحسبون الأحزاب بعدَ انْهِزامهم وذَهَابِهم لم يذهبوا لجُبْنِهِمْ
وَخَوفِهِم منهم.
(وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ).
أي إذا جاءت الجنودُ والأحزابُ ودُّوا أنهم في البادية.
* * *
وقوله تعالى : (وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22)

(4/221)


فوصف اللَّهُ حَالَ المنافِقين في حَرْبِ الكافرين وحال المؤمنين
في حَرْبِ الكَافِرينَ.
فوصف المنافقين بالفشل والجبْنِ والروَغَانِ
والمسارعة إلى الفتنةِ والزيادة في الكُفْرِ ، ووصف المؤمنين بالثبُوتِ
عند الخوف في الإيمان ، فقال ، (وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22).
والوعد أن اللَّه قال لهم : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214).
فكذلك لَمَّا ابْتُلِي أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وزُلْزلُوا زلزالاً شَدِيدًا عَلِمُوا أن الجنَّةَ والنصْرَ قَدْ وَجَبَا لَهُمْ.
* * *
وقوله تعالى : (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23)
المعنى أَنهُم عَاهَدُوا في الإسلام فَأقَامُوا عَلَى عَهْدِهِمْ.
وموضع (مَا) نَصْبٌ بِـ (صَدَقُوا).
(فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ).
أي أجله وَلَمْ يُبَدِّلْ.
وهو قوله : (وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا).
فالمعنى أنَّهُ مات على دينه غيرَ مُبَدِّل.
* * *
(لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (24)

(4/222)


أي ليجزي الذين صدقوا فِي عَهْدِهم ، والمنافقون كذبوا في
عهدهم لأنهم أظهروا الإسلام وأَبْطَنُوا الكُفْرَ.
وقوله تعالى : (وَيُعَذِبَ المُنَافِقِينَ إنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيهِمْ).
أي أَو يَنْقُلَهُمْ من النفاقِ إلى الإيمانِ.
* * *
وقوله : (وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25)
يعنى به هَهُنَا أبا سُفْيَانَ وَأَصْحَابه الأحْزَاب.
(لم يَنَالُوا خَيْراً).
أي لم يظفروا بالمسلمين وكان ذلك عندهم خيراً فخوطبوا عَلَى
استعْمَالِهم.
وقوله : (وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26)
يُعْنَى بِهِ بنو قريظة ، ومعنى (ظَاهَرُوهُمْ) عَاوَنُوهم على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقذف اللَّه في قلوبهم الرعب وأَنْزَلَهُمْ على حُكْم سَعْدٍ.
وكان سعد حكم فِيهِمْ بأنْ يُقْتَلَ مُقَاتِلهم ، وتُسْبَىْ ذَرَارِيهِمْ.
* * *
(وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27)
جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - أرْضَهم وديارَهُمْ وَأَمْوَالَهُم للمهاجرِينَ لأنهم لم يكونوا ذوي عَقَارِ.
ومعنى الصيَاصِى كل ما يُمْتَنَعُ بِهِ ، والصياصي ههنا الحُصُونُ.
وقيل القُصُورُ ، والقُصُورُ قد يُتَحَصَّنُ فيهَا.
والصَّياصِي قرونِ البقر والظِباء وكل قَرْنٍ صَيْصَية ، لأن ذوات القرُون يَتَحَصَّنُ بِقُرونها وتَمْتَنِعُ بِها ، وصيصة الديك شوكتهُ لأنه يَتَحَصَّنُ بها أيضاً .

(4/223)


وقوله : (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28)
وَكُنَ أَرَدْن شَيئاً من أَمْرِ الدُّنْيَا ، فأمر اللَّه رسوله - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَخيّرَ نساءَهُ بين الإقامة مَعَة على طلب ما عند اللَّه ، أو التسْريح إنْ أَرَدْنَ
الحياةَ الدنيَا وزينتها ، فاخترن الآخرة على الدنيا والجنَّة على الزينة.
* * *
وقوله : (وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29)
أي من آثر منكن الآخرة فَأجْره أَجر عَظِيمٌ.
* * *
وقوله : (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32)
ولم يقل كواحدة من النساء ، لأن أَحَداً نفي عام للمذكر والمؤنث
والواحِدِ والجماعة.
وقوله : (إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ).
أي لا تَقلْن قولاً يجد به مُنَافِقٌ سَبيلاً إلى أن يطمع في مًوَافقتكنَّ
له.
(وَقُلْنَ قَولاً مَعْرُوفاً).
أي قُلْنَ ما يوجبه الدِّين والإسلام بغير خضوعٍ فيه ، بل بتصريح
وبَيَانٍ.
(فَيطْمعَ) بالنصب وهي القِراءَة ، وَجَوَابُ (فلا تَخْضَ) (فَيطْمعَ)
ويقرأ (فَيطْمِعْ) الذي في قلبه مرض ، بتسكين العَيْن ، نسق على
فلا تَخْضَعْنَ فيطمعْ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)

(4/224)


ويقرأ " وقِرْنَ " - بكسر القاف - فمن قرأ بالفتح فهو من قَرِرْتُ
بِالمكَانِ أقَرُّ . فالمعْنَى ، واقرَرْن فإذا خُفِفَتْ صارت وَقَرْنَ حذفت الألف
لثقل - التضعيف في الراء ، وألقيت حركتها على القاف.
والأجْوَدُ وَقِرْنَ فِي بُيُوتِكُنَ - بكسر القاف - وهو من الوَقَارِ ، تقول : وَقَرَ يَقِرُ في المكان.
ويصلح أن يكون من قَرَرْتُ في المكانِ أَقِره فيحذف على أنه
من " واقْرِرْنَ " بكسر الراءِ الأولى ، والكسر من جهتين ، من أنه من
الوقار ، ومن أنه من القرار جميعاً.
* * *
وقوله تعالى : (وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى).
التبرُّجُ إظْهَارَ الزِينَةِ ، وما تُسْتَدْعَى به شهوةُ الرجُلِ.
وقيل إنهُن كن يتكسَّرْن في مِشْيَتِهِنَّ ، وَيَتَبختَرنَ ، وقيل إن الجاهلية الأولى
من كان من لدن آدم إلى زمن نوح ، وقيل من زمن نوح إلى زمن إدريس.
وقيل منذ زمن عيسى إلى زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
والأشبه أن تكون منذ زمن عيسى إلى زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنهم هم الجاهليةُ المعروفُونَ لأنه روى أنهم كانوا يتخذون البغَايَا - وهن الفواجر يُغْلِلْنَ لَهُمْ.
فإن قيل : لم قيل الأولى ؟
قيل يقال لكل متقدِّم ومتقدِّمَةٍ أولى
وأول ، فتأويله أنهم تقدَّمُوا أمَّةَ محمد - صلى الله عليه وسلم -.
فهم أولى وهم أول من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (مَنْ يَأْتِ مِنْكنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ).

(4/225)


وتقرأ (مُبَيَّنَةٍ).
(يُضَاعَفْ لَهَا العذابُ ضِعْفَين).
القراءة يُضَاعَفْ بألِفٍ ، وقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَحْدَهُ يُضَعِّفْ ، وكلاهما
جَيِّدٌ.
وقال أَبُو عُبَيْدَة : يعذب ثلاثة أَعْذِبَةٍ ، قال : كان عليها أن يعَذَب
مَرةً وَاحدَةً ، فإذا ضُوعِفَتْ المرة ضِعْفَينِ ، صار العذاب ثلاثة أَعْذِبَةٍ.
وهذا القول ليس بشيء لأنَّ معنى يضاعف لها العذاب ضعفين يجعل
عذاب جرمها - كعذابَيْ جُرْمَيْنِ.
والدليل عليه (نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ) فلا يكون أن تعطى على الطاعة أَجْرَين وعلى المَعْصِيَةِ ثلاثة أَعْذِبَةٍ
ومعنى ضعف الشيء مِثلُه ، لأن ضِعف الشيء الذي يُضْعِفُه بمنزلة مثقال
الشيء.
ومعنى (يَقْنُتْ) يقيم على الطاعة.
(وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا) جاء في التفسير أَنَهُ الجنَّةُ.
* * *
وقوله : (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ).
(أَهْلَ الْبَيْتِ) منصوب على المدح ، ولو قرئت أهلِ البيتِ
- بالخفض - أو قرئت . أهلُ البيت بالرفع لجاز ذلك ولكنَّ القراءَةَ
النصبُ.
وهو على وجْهَيْنِ :
على مَعْنَى أعني أهلَ البَيْتِ.
وعلى النداء ، على معنى يا أهل البَيْتِ.
والرجْسُ في اللغةِ كل مستنكر مسْتَقْذرٍ من مأكول أو عمَلٍ أَوْ فَاحِشَةٍ.
وقيل إن أهل البيت ههنا يعنى به نساء النبي - صلى الله عليه وسلم -
وقيل نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - والرجال الذين هم آله.
واللغة تدل على أنه للنساء والرجال

(4/226)


جميعاً لقوله (عَنكم) بالميم ، وَيُطَهِّرَكُمْ.
ولو كان للنساء لم يجز إلا عَنكُن وَيُطَهِّرَكُنَّ.
والدليلُ على هذا قوله : (وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ) حيث أفرد النساء بالخطاب.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35)
لما نزل في نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - ما نزل ، قال النساء من المُسْلِمَاتِ : فما نزل فينا نحن شيء ، فأَعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أن النساء والرجَالَ يجازَوْنَ بِاَعْمَالِهِم المغفرةَ والأجرَ العظيمَ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ).
المعنى والحافظين فروجهم والحافظاتها والذاكرين اللَّه كَثِيراً.
والذاكِراتِهِ.
استغنى عن ذكر الهاء بِمَا تَقدَّمَ ودل على المحذوف ، وَمِثْله
ونخلعُ ونتركُ من يَفْجُركَ ، المعنى ونخلع من يفجُرُكَ ونترُكُهُ.
ومثله من الشعر.
وكُمْتاً مُدَمَّاةً كأَنَّ مُتُونَها . . . جَرى فَوْقَها واسْتَشْعَرَتْ لون مُذْهَب
على رفع لوْنِ.
المعنى جرى فوقها لون مذهب واستشعرته.
* * *
وقوله تعالى : (وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ للَّهِ وَرَسُولِه).
بالياء ، (وَتَعْمَلْ) بالتاء .

(4/227)


الأول محمول على اللفظ ، وتعمل على المعنى.
ومن قرأهما جميعاً بالتاء حمل على المعنى . أراد والتي تقنت منكن للَّهِ ورسوله
وتعمل.
ومن قرأ الأول بالتاء قبُحَ أن يَقْرأ وَيَعْمَلْ ، لأنه قد حمل
على المعنى ، وأوضح الموصول بأنه مؤنث ، فيقبح الحمل على اللفظ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)
الخِيَرَةُ : التخْيِيرُ.
ونزلت هذه الآية بسبب زينبَ بنتِ جحْش.
وكانت بنت عمَّةِ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - وزيْدِ بن حَارِثَةَ ، وكان زيد مولى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وكانت منزلته منه في محبَّتهِ إياه كمنزلة الولد ، فخطب رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - زَيْنَبَ ليزوجها من زَيْدٍ ، فظنت أنه خطبها لنفسه عليه السلام ، فلما علمت أنه يريدها لزيدٍ كرهت ذلك.
وأعلم اللَّه - جل وَعَلَا - أنه لا اختيار على ما قضاه اللَّه ورسوله ، وزوَّجَها مِنْ زَيْدٍ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (37)

(4/228)


معنى أنعم اللَّه عليه هداه للإسلام ، وأنعمت عليه أعتقته من
الرق ، وكان زيد شَكا إلى النبي عليه السلام أَمْرَ زَيْنَبَ ، فأمره
بالتمسك بها ، وكان عليه السلام يحب التزوج بها إلا أنه عليه
السلام آثر ما يحب من الأمر بالمعروف فقال : (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ).
(وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ).
أي تكره مقالة النَّاسِ.
(فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا).
أي فلما طلَّقها زيد.
والوَطَر في اللغة والأرَبُ بمعنًى واحد.
قال الخليل : معنى الوطر كل حاجَةٍ يكون لك فيها هِمَّة ، فإذا بلغها البالغ
قيل قد قضى وطره وَأَرَبَه ، أي بَلَغ مُرادَه مِنها.
وقوله - عزَّ وجلَّ : (لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا).
أي زوجناك زينب وهي امرأةُ زيد الذي قد تبنَّيت به ، لئلا يُظَن
أَنه من تبنَّى بِرَجُل لم تحِل امرأتُه للمُتَبَنِّي.
* * *
وقوله تعالى : (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40)
أي لم يكن زيد ابنَ محمد - صلى الله عليه وسلم - لم يلده ، وقد وُلِدَ لِرَسُولِ اللَّه - صلى الله عليه وسلم -

(4/229)


ذكورٌ إبراهيم والطيب والقاسم والمطهَّر (1) ، وإنما تأويله : ما كان
يحرم عليه مِمنْ تبنى به ما يحرم على الوالد.
والنبي - صلى الله عليه وسلم - أبو المؤمنين في التبجيل والتعظيم.
وقرئت : وخاتِمَ النبيينَ وخاتَم النبيين.
فمَنْ كَسَرَ التاء فمعناه ختم النبيين ، ومن قرأ وخاتَم النبيينَ - بفتحِ التاء -
فمعناه آخر النبيين ، لَا نَبِى بعده - صلى الله عليه وسلم -.
ويجوز : ولكن رسول اللَهِ وخاتمُ النبيين.
فمن نصب فالمعنى ولكن كان رَسُولَ اللَّهِ وكان خاتَمَ النبيينَ.
ومن رفع فالمعنى ولكن هُوَ خَاتَمُ النبيين.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38)).
(سُنَّةَ) منصوب على المصدر ، لأن معناه " ما كان على النبي من
حرج فيما فرض الله سَنَّ الله سُنَّةً حسنة وَاسِعَةً لَا حَرج فيها.
أي لا ضِيقَ فيها والسُّنَّة الطريقة ، والسَنَنُ مِنْ ذَا كلِّه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ).
معناه في النبيينَ الذين قبل محمد - صلى الله عليهم وسلم -.
أي سُنَّةَ الله في التَّوْسعة على محمد - صلى الله عليه وسلم - فيما فرض اللَّه له كسُنَّتِهِ في الأنبياء المَاضِين.
* * *
وقوله تعالى : (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39)
" الذين " في موضع خَفْض نعت لقوله (فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ)
ويجوز أن يكون رَفْعاً على المدح عَلَى هَمْ (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ).
ويجوز أن يكون نصباً على معنى أعني الذين يُبَلِّغُونَ.
__________
(1) لم يكن له - صلى الله عليه وسلم - غير ثلاث بنين ، وكان عبد الله يلقب بالطيب والطاهر .

(4/230)


وقوله : عزَّ وجلَّ : (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43)
صلاة اللَّه على خلقه رَحْمَتُه وهدايته إياهم.
* * *
وقوله : (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا (44)
تحية أهل الجنَّةِ سلام ، قال الله عزَّ وجلَّ : (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45)
أي : شاهداً على أُمَّتِكَ بالِإبْلاَغِ ، إبلاع الرسالة ، ومبشراً بالجنَّة
ومُنذِراً من النَّارِ ، وهذا كله منصوب على الحال ، أي أَرْسَلْنَاكَ في حال
الشهادة والبِشَارَةِ والإنذار.
* * *
(وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46)
أي داعياً إلى توحيد الله وما يُقَرِّبُ منه ، وبإذْنِهِ أي بِأمْرِه.
(وَسِرَاجًا مُنِيرًا).
أي وكتاباً بَيناً ، المعنى أرسلناك شاهداً وذَا سراج مُنِير وذا كتاب
بَيِّنٍ ، وَإنْ شئت كان (وَسِرَاجًا) منصوباً على معنى دَاعِياً إلى اللَّهِ وتالِياً
كتاباً بيِّناً.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (48)
(وَدَعْ أَذَاهُمْ).
معناه دع أذى المنافقين ، وتأويل (وَدَعْ أَذَاهُمْ) دَعْهُم لا تجازهِمْ
عَلَيْه إلى أن تؤمَرَ فيهم بِأَمْرٍ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (49)

(4/231)


معنى (تَمَسُّوهُنَّ) تقربوهنَّ.
(فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا)
قال بعضهم : (فَمَتِّعُوهُنَّ) نسخها قوله تعالى (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ).
والنصف ينوب عن التمتيع ، إلا أن يكون لم يسمِّ لها مهراً ، فلها نصف مهر مثلها ، وأسقط الله العدة عن التي لم يُدخل بها ؛ لأنَّّ العدة في الأصل استبراءٌ.
* * *
وقوله - عزَّ وجلَّ - : (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (50)
(أُجُورَهُنَّ) مهورهنَّ.
(وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ)
وأصل الإملاك في الإماء والعبيد ما يجوز سبيه وفيئه فأما سبي الخبيثة فلا يجوز وطئه ولا ملكه.
يقال : هذا سبيُ طيبة وسبيُ خبيثة
فسبيُ الطيبة سبيُ من يجوز حربه من أهل الكفر.
فأما من كان له عهد فلا يجوز سبيه ولا ملك عبدٍ منه ولا أمَةٍ
وقوله - عزَّ وجلَّ - : (وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ)
وتقرأ (أَنْ وَهَبَتْ) بالفتح.
أي : أن وهبت نفسها للنبي - صلى الله عليه وسلم - حلَّت له ومن

(4/232)


قرأ " أنْ وَهَبَتْ " بالفتح فالمعنى أحَلَلْنَاها لأنْ وَهَبَتْ نفسها.
(وخالِصَةً) منصوب على الحال.
المعنى إنا أَحْلَلنَا لك هؤلاء.
وأحللنا لك من وَهَبَتْ نفسها لك . وإنما قيل للنبي ههنا لأنه لو قيل أن وهبت نفسها لك كان يجوز أن يتوهم أن في الكلام دليلاً أنه يجوز ذلك لغير النبي عليه السلام ، كما جاز في قوله : (وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ) ، لأن
بَنَاتِ العَمِّ وبنات الخال يحللن للناس.
وقوله : (قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ).
أي إن التزويج لا يَنْعقِد إلا بِوَلِيٍّ وَشَاهدين ، وملك اليمين لَا
يَكُونَ إلا مِمَنْ يَجُوزُ سَبْيُه.
وَقَولُه : (تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا (51)
ترجي بالهمز وغير الهمز ، والهمز أكثر وأَجْوَدُ ، ومعنى تُرْجِي
تُؤَخِرَ بالهَمْزِ وَغَيرِ الهمز ، المعنى واحدٌ ، وهذا مما خص اللَّه به النبي
عليه السلام فكان له أن يؤخر من أحب من نِسائه ويؤوي إليه من
أحب من نسائه وليس ذلك لغيره مِنْ أمَّتِهِ ، وله أَنْ يَرُدَّ من أَخَّر إلى
فراشه عليه السلام.
(وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ).
أي إن أردت ممن عزلت أن تُؤْوِيَ إليكَ فلا جناح عليك.
(ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ).
أي ويرضيْنَ كُلُّهُنَّ) بِمَا آتَيْتَهُنَّمن تقريب وإرجاء
ويجوز النصب في (كُلُّهُنَّ) توكيداً للهاء والنونِ .

(4/233)


وقوله عزَّ وجلَّ : (لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا (52)
ويقرأ : لا تحل لك النساء - بالتاء ، فمن قرأ بالياء فلأن الياء في
معنى جمع النساء ، والنساء يدل على التأنيث فيستغنى عن تأنيث
يحل.
ويجوز لا تحل - بالتاء - على معنى لا تحل لك جماعة النساء.
وقوله : (وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ).
موضع " ما " رفع المعنى لا يحل لك إلا مَا ملكتْ يَمينكَ.
جعل " ما " بدلاً مِنَ النَساءِ
ويجوز أن يكون موضع " ما " نَصْباً على معنى لا يحل لك
النساء أَسْتَثْنِي ما ملكت يمينك.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (53)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ)
بضم البَاءِ وقد رُويت عَنْ عَاصِم " بِيوت " بكسر الباء وعن جَمَاعَةٍ
من أهل الكوفة.
وليس يروي البصريون بِيُوت بكسر الباء ، بل يقولون
إن الضم بعد الكسر ليس موجوداً في كلام العرب ولا في أشعارِها.
والذين كسروا فكأنهم ذهبوا إلى اتباع الياء ، والاختيار عند الكوفيين
الضَّم في (بيُوت).
وقوله : (إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ).
في موضع نصب . المعنى إلا بأن يُؤذنَ لَكم ، أو لأنْ يؤذَنَ لكم.
وقوله : (إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ).
(إِنَاهُ) نَضْجُه وبلوغه ، يقال أَنَى يأنِي إنَاءً إذا نَضِج وَبَلَغَ.
و " غيرَ " منصوبةٌ على الحال ، المعنى إلا أن يؤذن لكم غير منتظرين.
ولا يجوز الخفض في " غير " لأنها إذا كانت نعتاً للطعام لم يكن بدٌّ من إظهار

(4/234)


الفاعل لا يجوز إلا غير ناظرين إناه أنتم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ).
ويجوز (فَيَسْتَحي) منكم بياء واحدة ، وكذلك قوله : (وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي
مِنَ الحَق) ويَسْتَحْي بالتخفيف على استحيَيْتُ واسْتَحَيْتُ ، والحذف لثقل
الياءين.
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحتمل إطَالَتُهُمْ كرماً منه فيصبر على الأذَى في ذلك ، فعلم الله من يحضره الأدَبَ فصار أَدَباً لهم ولمن بعدهم.
وقوله : (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ).
أي إذا أردتم أن تخاطبوا أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - في أمر فخاطِبُوهُن من وراء حِجَابٍ ، فنزل الأمر بالاستِتَارِ.
وقوله : (وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ).
أي ما كان لكم أذاه في شيء من الأشياء.
(وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا).
مَوْضعْ " أنْ " رَفع.
المعنى : وَمَا كان لكم أن تنكحوا أزواجه من بعده ، وذَلِكَ أنه ذُكِرَ أن رَجُلاً قال : إذَا تُوفِّيَ مُحمدٌ تَزَوَّجْتُ امْرَأَتَهُ فلانةً ، فأعلم الله أن ذَلِكَ محرَّمٌ بقوله : (إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا).
أي كانَ ذنباً عَظِيماً.
وقوله : (لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (55)

(4/235)


ولم يرد في هذه القِصةِ أَعْمَامُهُنَّ وَلَا أَخْوَالُهُنَّ.
فجاء في التفسير أنه لم يذكر العَمّ والخَال ، لأنَّ كُل واحد منهما يحل لابنة المرأة ، فتحِل لابن عمها وابن خالها . فقيل كُرِهَ ذلك لأنهما يصفانها لأبنائِهِمَا.
وهذه الآية نزلت في الحجاب فيمن يحل للمرأَةِ البُرُوزُ لَهُ ، فذكر الأب
والابْنُ إلى آخر الآية.
المعنى لا جناح عليهن في رؤية آبَائِهِن لَهُنَّ ، ولم يذكر العم
والخالَ لأنهما يجريان مجرى الوالدين في الرؤية.
وقد جاء في القرآن تسمية العم أباً في قوله : (قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا) ، فَجَعَلَ العمَّ أباً.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60)
المعنى لنسطنك عليهم.
(ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61)
(مَلْعُونِينَ)
منصوب على الحال ، المعنى لا يجاورونك إلَّا وهم ملعونون.
وقوله : (أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا).
لا يجوز أن يكون " ملعونين " منصوباً بما بعد (أَيْنَمَا) ، لا يجوز أن
تقولَ : مَلْعُوناً أَيْنَمَا ثقف أخِذَ زَيْدٌ يُضْرَب ، لأن ما بعدما حروف الشرط
لا يعمل فيما قبلها.
* * *
وقوله : (سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62)
(سُنَّةَ اللَّهِ) مَنْضوبٌ بمعنى قوله أخذوا وَقُتِلُوا ، فالمعنى سَنَّ اللَّه

(4/236)


في الذين ينافقون الأنبياء ويرجفون بِهِمْ أن يُقتلوا حَيْثُما ثقِفُوا.
* * *
وقوله : (وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67)
الاختيار " السبيلا " بألف ، وأن يوقف عليها ، لأن أواخر الآي
وفواصلها يجري فيها ما يجري في أَوَاخِر الأبياتِ من الشِعْر.
والفَوَاصِل ، لأنه خوطب العربُ بما يعقلون في الكلام المؤلفِ فَيُدَلُّ
بالوقف في هذه الأشياء وزيادة الحروف فيها ، - نحو : الظنونا.
والسبيلا ، والرسولا - أن الكلام قد تم وانقطع ، وأن ما بعده مستأنف.
* * *
وقوله : (رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68)
(وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا)
ويقرأ (كثيرًا) ومعناهما قريب.
* * *
وقوله : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69)
أي لا تؤذوا النبي - عليه السلام - كما آذى أَصحاب موسى
مُوسَى ، عليه السلام ، فينزلَ بكم ما نزل بهم.
وكان أذاهم لموسى فيما جاء في التفسير أَنهم عابُوه بشيء في
بدنه فاغتسَل يوماً ووضع ثوبه على حجر فذهب الحجر بثوبه فاتبعه
موسى فرآه بنو إسرائيل ولم يروا ذلك العيب الذي آذوه بذكره.
(وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا).
كفمَة اللَّه تكليماً وبرأه من العيب الذي رموه به بآية معجزة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)

(4/237)


روي عن ابن عَبَّاس وسَعِيدِ بن جبير أنهما قالا : الأمانة ههنا
الفرائض التي افترضها اللَّه على عبادة ، وقال ابن عُمَر : عرضت على
آدمَ الطاعةُ والمعصيةُ وعرف ثوابَ الطاعة . وعقابَ المعصية.
وحقيقة هذه الآية - واللَّه أعلم ، وهو موافق للتفسير - أن اللَّه عزَّ وجلَّ ائتمن بني آدم على ما افترضه عليهم من طاعته ، وائتمن السَّمَاوَاتِ والأرضَ
والجبالَ على طاعته والخضوع له ، فأعلمنا الله أنه قال :
(ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11).
وأعلمنا أن من الحجارة ما يَهْبِطُ من خشية اللَّه وأن الشمس والقمرَ والنجومَ والملائكةَ وكثيراً من الناس يسجدون للَّهِ.
فأعلمنا اللَّه أن السَّمَاوَات والأرض والجبال لم تحتمل الأمانة ، أي
أَدَّتْها ، وكل من خان الأمانة فقد احتملها ، وكذلك كل من أَثِمَ فقد
احتمل الإثم ، قال اللَّه عزَّ جل : (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ). فأَعلم اللَّه أن من باء بالإثم يسمَّى حاملا للإثْمِ.
فالسَّمَاوَات والأرض والجبال أَبَيْنَ أن يحملن الأمانة وأدَّينَها.
وَأَدَاؤها طاعة اللَّه فيمَا أَمَر به ، والعَمَلُ به وترك المَعْصِيَةِ.
وحَمَلَها الإنْسانُ ، قال الحَسَنُ : الكافر والمنافق حَمَلا الأمانة ولم
يطيعا.
فهذا المعنى والله أعلم.
ومن أطاع من الأنبياء والصديقين والمؤمنين فلا قال كان ظلوماً جَهُولًا ، وتصديق ذلك ما يتلو هذه الآية
من قوله : (لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73)

(4/238)


سُورَةُ سبأ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1)
واللَّهُ المحمُود فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ، وحمده فِي الآخرة يدل عليه
قول أهل الجنة : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ) أي أورثنا أرض الجنةِ.
* * *
وقوله تعالى : (يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2)
أي ما يدخل في الأرض وما يخرج منها.
ما يدخل في الأرض من قَطْرٍ وغيره ، وما يخرج منها من زرع وغيره.
(وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا).
ما يَصْعَدُ فِيها ، يقال عرج يَعْرج إذا صَعَدَ ، والمعارج - الدَّرَجُ -
من هذا ، ويقال : عَرِج يَعْرِج ، إذا صار ذَا عَرَجٍ ، وَعَرَجَ يَعْرُج إذَا غَمَزَ
من شيء أصابه .

(4/239)


(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (3)
الساعة التي يبعث فيها الخَلَقُ ، المعنى أنهم قالوا : لَا نُبْعَثُ.
فقال اللَّه تعالى :
(قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ).
بالخَفْضِ في (عَالِمِ) صفة للَّهِ عزَّ وجلَّ ، ويقرأ بالرفع من وجهين.
أحدهما الابتداء ، ويكون المعنى : عَالِمُ الغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ).
ويكون " لَا يَعْزُبُ عَنْهُ " هو خَبَر عالم الغَيْبِ.
ويرفع على جهة المدح للَّهِ عزَّ وجلَّ.
المعنى هو عالم الغيب ويجوز النصبُ ولم يُقْرأْ به على معنى
اذْكُرْ عالمَ الغيب ، ويقرأ علَّامُ الغيوب وعلَّامَ الغيبِ جَائزٌ.
ويقرأ (لا يعزِب عنه) بِكَسْرِ الزاي ، يقال : عَزَب عَنِي يَعْزُبُ ويعْزِبُ
إذَا غَابَ.
* * *
(لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)
اللام دخَلت جواباً لقوله : (قُلْ بَلَى وَرَبِي لَتَأْتِينكُمْ) للمجازاة
أي من أجل المجازاة بالثواب والعقاب.
وقوله : (أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ).
بيَّن اللَّه أَن جزاءَهم المغفرةُ وهي التغطيةُ على الذنُوب.
* * *
وقوله : - جل وعلا - : (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5)
ويقرأ (مُعاجِزين) وَمُعاجزين في مَعْنَى مُسَابقين ، ومن قرأ مُعَجِّزِينَ
ْفمعناه أنهم يُعَجِّزوُنَ من آمن بها ، ويَكُونُ في معنى مُثبِّطِينَ وهو معنى
تعجيزهم من آمن بها .

(4/240)


وقوله : (أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ).
(أَلِيمٍ)
بالخفض نعت للزجْزِ ، (أليمٌ) نعت للعذاب.
* * *
وقوله تعالى : (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6)
ههنا علماء إليهود الذين آمَنُوا بالنبي عليه السلام ، منهم كعبُ
الأحبار وعبدُ اللَّه بنُ سلام ، أي وَلِيَرى ، وموضع " يرى ، عطف على
قوله : (ليجزي)
و (الْحَقَّ) منصوب . خبر ليرى الذي
و " هُوَ " ههنا فصل يدل على أن الذي بعدها ليس بنعتٍ ، ويسميه الكوفيون العماد.
" لا تدخل " هو " عماداً إلا في المعرفة وما أشبهها ، وقد بيَّنَّا ذلك فيما
مَضَى.
والرفع جائز في قوله (هُوَ الْحَقُّ).
* * *
(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7)
هذا قول المشركين الذين لا يؤمنون بالبعث ، يقول بعضهم
لبعض : هل ندلكم على محمد الذي يزعم أنكم مبعوثون بعد أنْ
تكونوا عظاماً وتراباً ورفاتاً وفي هذه الآية نظر في العربية لطيف.
ونحن نشرحه إن شاء اللَّه.
(إِذَا) في موضع نَصْب بِـ (مُزِّقْتُمْ) ولا يمكن أَنْ يَعْمل فيها (جَدِيدٍ)
لأن ما بعد (أن) لا يعمل فيما قبلها.
والتأويل هل ندلكم على رجل يقول لكم إنكم إذا مزقتم تبعثونَ ، ويكون " إذا " بمنزلة " إن " الجزاء ، يعمل فيها الذي يليها.
قال قيس بن الخطيم :

(4/241)


إذَا قصُرتْ أسْيافُنا كان وَصْلُها . . . خطانا إلى أعدائنا فنضاربُ
المعنى يكون وصلها ، الدليل على ذلك جزم " فَنُضَارِبْ ".
ويجوز أن يكون العامل في " إذا " مضمراً ، يدل عليه (إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ)
ويكون المعنى هل ندلكم على رجل يُنَبئكُمْ يقول لكم إذا
مزقتم بعثتم ، إنكم لفي خلق جديد ، كما قالوا : (أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَا تُراباً
وَعِظَاماً أَئِنَا لَمَبْعُوثُونَ).
فإذا يجوز أنْ تكون منصوبة بفعل يدل عليه " إنَا لَمَبْعُوثُونَ "
ولا يجوز " أنكُمْ لَفِي خلق جديد " بالفتح ، لأن اللام إذا جاءت لم يجز إلا كسر إن (1).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9)
أي ألم يَتَأمَّلُوا ويعْلَمُوا أن الذي خلق السماء والأرض قادر على
أن يبعثهم ، وقَادِرٌ أن يخسف بِهِمُ الأرْضَ أو يسقط السماء عليهم
كِسَفاً.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ).
أي إن في ذلك عَلَامة تَدلَّ مَنْ أَنَابَ إلى اللَّه ورجع إليه وتأمَّل ما
خلق على أنه قادر على أن يحيي الموتى.
* * *
وقوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10)
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { إِذَا مُزِّقْتُمْ } : « إذا » منصوبٌ بمقدرٍ أي : تُبْعَثون وتُجْزَوْن وقتَ تمزيقكم لدلالةِ { إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ } عليه.
ولا يجوز أن يكونَ العاملُ « يُنَبِّئكم » لأن التنبئةَ لم تقعْ ذلك الوقتَ . ولا « خَلْقٍ جديدٍ » لأنَّ ما بعد « إنَّ » لا يعمل فيما قبلها . ومَنْ تَوَسَّعَ في الظرف أجازه . هذا إذا جَعَلْنا « إذا » ظرفاً مَحْضاً . فإنْ جَعَلْناه شرطاً كان جوابُها مقدراً أي : تُبْعَثون ، وهو العاملُ في « إذا » عند جمهور النحاة.
وجَوَّز الزجَّاج والنحاس أن يكون معمولاً ل « مُزِّقْتُمْ » . وجعله ابنُ عطية خطأً وإفساداً للمعنى . قال الشيخ : « وليس بخطأ ولا إفسادٍ . وقد اخْتُلف في العامل في » إذا « الشرطية ، وبَيَّنَّا في » شرح التسهيل « أنَّ الصحيحَ أنَّ العامَل فيها فعلُ الشرط كأخواتِها من أسماء الشرط » . قلت : لكنَّ الجمهورَ على خلافِه . ثم قال الشيخ : « والجملةُ الشرطيةُ يُحتمل أَنْ تكونَ معمولة ل » يُنَبِّئُكم « لأنه في معنى : يقول لكم إذا مُزِّقْتُمْ : تُبْعَثُون . ثم أكَّد ذلك بقوله : { إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ } . ويُحتمل أن يكون { إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ } مُعلِّقاً ل » يُنَبِّئكم « سادًّا مَسَدَّ المفعولين ، ولولا اللام لفُتِحَتْ » إنَّ « وعلى هذا فجملةُ الشرطِ اعتراضٌ . وقد منع قومٌ التعليقَ في » أعلم « وبابِها ، والصحيحُ جوازُه . قال :
حَذارِ فقد نُبِّئْتُ إنكَ لَلَّذيْ . . . سَتُجْزَى بما تَسْعَى فتسعدَ أو تَشْقَى
وقرأ زيد بن علي بإبدالِ الهمزةِ ياءً . وعنه » يُنْبِئُكم « من أَنْبأ كأكرم.
ومُمَزَّقٌ فيه وجهان ، أحدهما : أنه اسمُ مصدرٍ ، وهو قياسُ كلِّ ما زاد على الثلاثة أي : يجيءُ مصدرُه وزمانُه ومكانُه على زِنَةِ اسم مفعولِه أي : كلَّ تمزيق . والثاني : أنه ظرفُ مكانٍ . قاله الزمخشري ، أي : كلَّ مكانِ تمزيقٍ من القبورِ وبطون الوَحْشِ والطير . ومِنْ مجيءِ مُفَعَّل مجيءَ التفعيلِ قوله :
ألَمْ تَعْلَمْ مُسَرَّحِيَ القوافِيْ . . . فلا عِيَّاً بهنَّ ولا اجْتِلابا
أي : تَسْريحي . والتَّمْزِيق : التخريقُ والتقطيع . يُقال : ثوب مُمَزَّق ومَمْزوق . ويُقال : مَزَقه فهو مازِقٌ ومَزِقٌ أيضاً . قال :
أتاني أنهم مَزِقُون عِرْضِيْ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقال الممزق العبدي - وبه سُمِّي المُمَزَّق :
فإنْ كنتُ مأكولاً فكن خيرَ آكلٍ . . . وإلاَّ فأدْرِكْني ولَمَّا أُمَزَّقِ
أي : ولما أُبْلَ وأُفْنَ.
و » جديد « عند البصريين بمعنى فاعِل يقال : جَدَّ الشيءُ فهو جادُّ وجديد ، وعند الكوفيين بمعنى مفعول مِنْ جَدَدْتُه أي : قَطَعْتُه. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/242)


وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10)

المعنى فقلْنا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ، وَتُقْرأ أُوَبِي معه ، على معنى
عودي في التسبيح معه كلما عاد فيه.
ومن قرأ (أَوِّبِي مَعَه) فمعناه رَجعِي مَعَه ، يقال آب يؤوب إذَا رَجَع ، وكل ومعنى رَجِّعِي مَعَه سَبِّحي معه ورَجِّعي
التسبيح معه.
وَالطيْرَ - والطَّيْرُ ، فالرفع من جهتين.
إحداهما أن يكون نسقاً على ما في (أَوِّبِي) ، المعنى يَا جِبَالُ رجِّعي التسبيح أنت والطيْرُ ، ويجوز أِنِ يكون مرفوعاً عل البَدَل.
المعنى : يا جبال ويا أيُهَا الطيرُ (أَوِّبِي مَعَه).
والنصْب مِنْ ثَلاثِ جَهاتٍ :
أن يكونَ عطفاً على قوله : " ولقد آتينا داود مِنَا فَضْلاً والطيرَ "
أي وسَخرْنَا له الطيْرَ . حَكى ذلك أبو عبيدة
عن أبي عمرِو بنِ العلاء ، ويجوز أن يكون نصباً على النداء.
المعنى : يا جبال أوِّبي مَعَهُ والطيْرَ ، كأنَّه قال دعونا الجبال والطير ، فالطير
معطوف على مَوْضِع الجِبَالِ في الأصل ، وكل منادى - عند البصريين
كلهم - في موضع نصبٍ.
وقد شرحنا حال المضموم في النداء ، وأن المعرفة مبني عَلَى الضم.
ويجوز أن يكون " والطيْرَ " نصب على معنى " مع " كما تقول : قمت وزيداً ، أي قمت مع زيدٍ ، فالمعنى (أَوِّبِي مَعَه) ومع الطير (1).
* * *
وقوله عز وجل : (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11)
أي : جعلناه لَيِّناً.
وَأَوَّل مَنْ عَمل الدرُوع دَاودُ ، وكان ما يُسْتجنُّ به مِنَْ الحديد إنما كانَ قِطَعَ حَدِيدٍ نحو هذه الجَواشِنَ.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : « أَوِّبِيْ » العامَّةُ على فتحِ الهمزةِ وتشديدِ الواوِ ، أمراً من التَّأْوِيْب وهو التَّرجِيْع . وقيل : التسبيحُ بلغةِ الحبشة . والتضعيفُ يحتملُ أَنْ يكونَ للتكثيرِ . واختار الشيخ أَنْ يكونَ للتعدِّي . قال : « لأنهم فَسَّروه ب رَجِّعي معه التسبيحَ » . ولا دليلَ؛ لأنه تفسيرُ معنى . وقرأ ابنُ عباس والحسنُ وقتادة وابن أبي إسحاق « أُوْبي » بضمِّ الهمزةِ وسكونِ الواو أمراً مِنْ آب يَؤُوْبُ أي : ارْجِعي معه بالتسبيح.
قوله : « والطيرَ » العامَّةُ على نصبِه وفيه أوجهٌ ، أحدها : أنه عطفٌ على محلِّ « جبالُ » لأنَّه منصوبٌ تقديراً . الثاني : أنه مفعولٌ معه . قاله الزجاج . ورُدَّ عليه : بأنَّ قبلَه لفظةَ « معه » ولا يَقْتَضي العاملُ أكثرَ مِنْ مفعولٍ معه واحدٍ ، إلاَّ بالبدلِ أو العطفِ لا يُقال : « جاء زيدٌ مع بكرٍ مع عمروٍ » . قلت : وخلافُهم في تقضية حالَيْنِ يَقْتضي مجيئَه هنا . الثالث : أنه عطفٌ على « فضْلاً » قاله الكسائيُّ . ولا بُدَّ مِنْ حَذْفِ مضافٍ تقديرُه : آتيناه فضلاً وتسبيحَ الطيرِ . الرابع : أنه منصوبٌ بإضمار فعلٍ أي : وسَخَّرْنا له الطيرَ ، قاله أبو عمروٍ.
وقرأ السُّلَمِيُّ والأعرج ويعقوب وأبو نوفل وأبو يحيى وعاصم في رواية « والطيرُ » بالرفع . وفيه أوجهٌ : النسقُ على لفظ قوله : « جبالُ » . وأُنْشِد قولُه :
3723 ألا يا زيدُ والضَّحاكُ سِيْرا . . . فقد جاوَزْتُما خَمَرَ الطريقِ
بالوجهين . وفي عَطْفِ المعرَّفِ بأل على المنادى المضمومِ ثلاثةُ مذاهبَ . الثاني : عطفُه على الضميرِ المستكنِّ في « أوِّبي » . وجاز ذلك للفَصْل بالظرفِ . والثالث : الرفعُ على الابتداءِ ، والخبرُ مضمرٌ . أي : والجبالُ كذلك أي : مُؤَوَّبَةٌ.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/243)


و " أن " ههنا ، في تأويل التفسير كأنَّه قيل : وألَنا له الحديد أن أعمل
سابغاتٍ ، بمعنى قلنا له : اعمل سابِغَاتٍ ، ويكون في معنى لأن
يعمل سابغات . وتصل إن بلفظ الأمر ، ومثل هذا من الكلام أَرْسَلَ إليه
أَنْ قُمْ إليَّ ، أي قال قم إلى فلانٍ ، ويكون بمعنى أرسل إليه بأن يقوم
إلى فلانٍ.
ومعنى " سَابِغَاتٍ " دروع سابغات فذكر الصفة لأنها تدل على
الموصوف ، ومعنى السابغ الذي يغطي كل شيء يكون عليه حتى
يَفْضُل.
(وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ).
السَّردُ في اللغة تقدمة شيء إلى شيء تأتي به مُنَسَّقاً بَعْضُه في
إثْر بَعْض مُتَتَابِعاً فمنه سَرَدَ فلان الحدِيثَ ، وقيل في التفسير : السَّرْدُ
السَّمْرُ والسَّتْر والخلق وقيل هو أَنْ لاَ يَجْعَل المِسْمَارَ غليظاً والثقبَ
دَقيقاً ، ولا يجعلَ المسمارَ دَقِيقاً ، والثقبَ واسِعاً فَيتقَلْقَلْ وَيَنْخَلِع
وينقصفُ.
قَدِّرْ في ذلك أي اجْعَلْهُ عَلَى القصد وقدر الحاجة.
والذي جاء في التفسير غَيْرُ خارج عن اللغة لأن السَّمْرَ تقدِيمُكَ
طرف الحلقة إلى طرفها الآخر ، وزعم سيبويه أن قول العرب : رجل
سَرَنْدِيٌّ مشتق من السَّردِ ، وذلك أن معناه الجريء ، قال : والجرِيء
الذي يمضي قُدُماً .

(4/244)


وتفسير : (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) - جعلناه ليِّناً كالخُيُوط يطاوعه حَتى عَمِلَ
الدروعَ.
* * *
وقوله تعالى : (وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12)
النصب في الريح هو الوجه وقراءة أكثر القراء ، على معنى
وسَخَّرْنَا لسلَيمانَ الريح ، ويجوز الرفع ولسليمان الريح غدوها شهرٌ.
والرفع على مَعْنَى ثبتت له الريح ، وهو يؤول في المعنى إلى معنى
سخرنا الريح ، كما أنك إذا قلت : للَّهِ الحمد فتأويله استقر لله
الحمدُ ، وهُوَ يرجعُ إلى معنى أحمدُ اللَّه الحمْدَ.
وقوله : (غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ).
أي غدوها مَسيرةُ شَهْرٍ ، وكذلك روَاحُها.
وكان سليمان يجلس على سريره هو وأصحابه فتسير بهم الريح بالغداة مسيرة شهر ، وتسيرُ بالعَشِي مَسِيرَة شَهْرٍ.
(وأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ القِطْرِ).
القطر النحَاسُ ، وهو الصُّفرُ ، فأُذيب مذ ذاك وكان قبلَ سليمانَ لَا
يذُوبُ.
(وَمِنَ الجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ).
موضع " مَنْ " نصب ، المعنى سخرنا له من الجن مَنْ يعمَلُ.
ويجوز أن يكون موضع " مَنْ " رفعاً.
ويكون المعنى فيما أعطيناه من الجنِّ (مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْه بإذْنِ رَبِّه)
أي بأمْر رَبِّه.
(وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا).

(4/245)


أي من يعدل.
ثم بَيَّن ما كانوا يعملون بين يَدَيْه فقال :
(يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)
المحراب الذي يصَلَّى فيه ، وأشرف موضع في الدارِ وفي البيت
يقال له المحراب.
(وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ).
أكثر القرَّاء على الوقف بغير يا وكان الأصل الوقفَ بالياء ، إلا
أن الكسرة تنوب عنها ، وكانت بغير ألف ولام الوقف عليها بغير ياء.
تقول : هذه جواب ، فأدْخِلَت الألف واللام وترك الكلام على ما كان
عليه قَبْلَ دخولِهِمَا.
والجوابي جمعُ جَابية ، والجابية الحوض الكبير
قال الأعشى :
كجابية السيج العراقي تَفْهَقُ
أن يعملون له جفانه كالحياض العظام التي يجمع فيها الماء.
(وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ) : ثابتات.
(اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا).
" شكراً " منتصب على وَجْهَيْن :
أحدهما اعملوا للشكر ، أي اشكروا

(4/246)


الله على ما آتاكم . ويكون (اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا) على معنى اشكروا
شكراً.
* * *
وقوله تالى : (فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14)
المنسأة العصا ، وإنما سُمِّيَتْ منسأة لأنها يُنْسَأُ بها (1)
ومعنى يُنْسَأُ بها يطرد بها ويؤخر بها ، فلما توفي سليمان توفي وهو متكئ عليها
- على عصاه - فلم يعلم الجنُّ بموته حتى أكلت الأرضَةُ العصا.
حَتَّى خرَّ.
(فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ) مَوْتَهُ ، المعنى (أن لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الغَيْبَ
ما لبثوا فِي الْعَذَابِ المُهِينِ).
ْالمعنى لأنهم لو كانوا يعلمون ما غاب عَنْهُم مَا عَمِلُوا مُسخرِين.
إِنَّمَا عَمِلُوا وهم يظنون أنه حَيٌّ يقف عَلَى عَمَلِهِمْ.
وقال بعضهم تبينت الإنسُ الجِن أن لو كانوا يعلمون الغَيْبَ.
ويجوز أن يكون تبينت الجِن أن لو كانوا يعلمون الغَيْبَ ، والجن تتبيَّنُ أَنها لا تعلمُ الغَيْبَ ، فكانَتْ تُوهِمُ أنها تعلم الغَيْبَ فَتَبَيَّنَتْ أنه قد بأن للناس أنَّها لَا تَعْلَمُ ، كما تَقُولُ للذي يدعي عندَكَ الباطِلَ إذا تبينت له : قد بينت أن الذي
يقول بَاطِل ، وهو لم يزل يعلم ذلك ولكنك أردت أن توبخَهُ وَأَنْ تُعْلِمَهُ
أنك قد علمت بطلان قوله.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15)
ويقرأ " مَسْكِنِهِمْ " بفتح الكاف وكسرها ، ويقرأ مَسَاكِنِهم ويقرأ لِسَبَأ
__________
(1) قال السَّمين :
وَقُرئ « مَنْسَأَتَه » بفتح الميم مع تحقيقِ الهمزةِ ، وإبدالِها ألفاً ، وحَذْفِها تخفيفاً ، و « مِنْسَاْءَتَه » بزنة مِفْعَالَتَه كقولهم : مِيْضَأَة ومِيْضاءَة وكلُّها لغاتٌ.
وقرأ ابنُ جُبَيْر « مِنْ سَأَتِه » فَصَل « مِنْ » وجَعَلَها حَرفَ جَرٍّ ، وجَعَل « سأَتِه » مجرورةً بها . والسَّأَةُ والسِّئَةُ هنا العصا . وأصلُها يَدُ القوسِ العليا والسفلى يقال : سَاةُ القوسِ مثلُ شاة ، وسِئَتُها ، فَسُمِّيَتِ العصا بذلك على وجهِ الاستعارة . والمعنى : تأكلُ مِنْ طَرَفِ عصاه . ووجهُ ذلك كما جاء في التفسير : أنه اتَّكأ على عصا خضراءَ مِنْ خَرُّوب ، والعصا الخضراءُ متى اتُّكِئ عليها تَصيرُ كالقوسِ في الاعوجاجِ غالباً . وساة فَعَلة ، وسِئَة : فِعلة نحو : قِحَة وَقَحة ، والمحذوفُ لامُهما.
وقال ابن جني : « سَمَّى العَصا ساءة لأنها تَسُوء ، فهي فَلَة ، والعينُ محذوفةٌ » قلت : وهذا يَقْتضي أَنْ تكون القراءة بهمزةٍ ساكنةٍ ، والمنقولُ أن هذه القراءةَ بألفٍ صريحة ولأبي الفتح أَنْ يقولَ : أصلُها الهمزُ ، ولكن أُبْدِلَتْ.
وقوله : « دابَّةُ الأرضِ » فيه وجهان ، أظهرُهما : أنَّ الأرضَ هذه المعروفةُ . والمرادُ بدابَّةِ الأرضِ الأَرَضَةُ دُوَيْبَّةٌ تأكُل الخَشَبَ . الثاني : أن الأرضَ مصدرٌ لقولك : أرَضَتِ الدابةُ الخشبةَ تَأْرِضُها أَرْضاً أي : أكلَتْها . فكأنه قيل : دابَّةٌ الأكل . يُقال : أرَضَتِ الدابَّةُ الخشبةَ تَأْرِضها أَرْضاً فأَرِضَتْ بالكسر تَأْرَض هي بالفتح أرَضاً بالفتح أيضاً نحو : أكَلَت القوادحُ الأسنانَ تأكلُها أكلاً فأَكِلت هي بالكسر تَأْكَلُ أَكَلاً بالفتح . ونحوُه أيضاً : جَدَعْتُ أنفَه جَدْعاً فجَدِع هو جَدَعاً بفتح عين المصدر . وبفتح الراء قرأ ابن عباس والعباس بن الفضل وهي مقويةُ المصدرية في القراءة المشهورة . وقيل : الأرضَ بالفتح ليس مصدراً بل هو جمع أَرَضَة ، وعلى هذا يكونُ من باب إضافةِ العامِّ إلى الخاصِّ لأنَّ الدابَّةَ أعمُّ من الأَرَضة وغيرِها من الدوابِّ.
قوله : « فلمَّا خَرَّ » الظاهر أنَّ فاعلَه ضميرُ سليمان عليه السلام . وقيل : عائدٌ على الباب لأنَّ الدابَّةَ أكلَتْه فوقع . وقيل : بل أكلَتْ عَتَبَةَ البابِ ، وهي الخارَّة . ونُقِل ذلك في التفسير ، وينبغي أَنْ لا يَصِحَّ؛ إذ كان يكون التركيبُ خرَّتْ بتاءِ التأنيث . و :
3732 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . أَبْقَل إبْقالَها
ضرورةٌ أو نادرٌ . وتأويلُها بمعنى العُوْد أَنْدَرُ منه.
قوله : « تَبَيَّنَتْ » العامَّةُ على بنائِه للفاعلِ مسنداً للجنِّ . وفيه تأويلاتٌ ، أحدُها : أنه على حَذْفِ مضافٍ تقديرُه : تبيَّن أَمْرُ الجنِّ أي : ظهر وبان . و « تبيَّن » يأتي بمعنى بان لازماً ، كقولِه :
3733 تَبَيَّنَ لي أنَّ القَماءَةَ ذِلَّةٌ . . . وأنَّ أَعِزَّاءَ الرجالِ طِيالُها
فلمَّا حُذِفَ المضافُ ، وأقيم المضافُ إليه مُقامَه ، وكان ممَّا يجوز تأنيثُ فعلِه ، أُلْحِقَتْ علامةُ التأنيثِ.
وقوله : { أَن لَّوْ كَانُواْ } بتأويلِ المصدرِ مرفوعاً بدلاً من الجنِّ . والمعنى : ظهر كَوْنُهم لو عَلِموا الغيبَ لَما لَبِثوا في العذاب أي : ظَهَرَ جَهْلُهُمْ . الثاني : أنَّ « تبيَّن » بمعنى بانَ وظَهَر أيضاً . و « الجنُّ » فاعلٌ . ولا/ حاجةَ إلى حَذْفِ مضاف و { أَن لَّوْ كَانُواْ } بدلٌ كما تقدَّم تحريرُه . والمعنى : ظهر للجن جَهْلُهم للناسِ؛ لأنهم كانوا يُوْهِمُون الناسَ بذلك ، كقولك : بان زيدٌ جهلُه.
الثالث : أنَّ « تَبَيَّن » هنا متعدٍّ بمعنى أَدْرك وعَلِم ، وحينئذٍ يكون المرادُ بالجنِّ ضَعَفَتَهم ، وبالضميرِ في « كانوا » كبارَهُمْ ومَرَدَتَهم ، و { أَن لَّوْ كَانُواْ } مفعولٌ به ، وذلك أنَّ المَرَدَةَ والرؤساءَ من الجنِّ كانوا يُوْهِمون ضعفاءَهم أنهم يَعْلمون الغيبَ . فلمَّا خَرَّ سليمان عليه السلامَ مَيِّتاً ، مكثوا بعده عاماً في العملِ ، تبيَّنَتِ السَّفَلَةُ من الجنِّ أنَّ الرؤساءَ منهم لو كانوا يعلمون الغيبَ كما ادَّعَوْا ما مكثوا في العذابِ . ومِنْ مجيءِ « تَبَيَّن » متعدِّياً بمعنى أَدْرك قولُه :
3734 أفاطِمُ إنِّي مَيِّتٌ فَتَبَيَّني . . . ولا تَجْزَعي كلُّ الأنامِ يموتُ
أي : تَبَيَّني ذلك.
وفي كتاب أبي جعفر ما يَقْتضي أنَّ بعضَهم قرأ « الجنَّ » بالنصب ، وهي واضحةٌ أي : تبيَّنت الإِنسُ الجنَ . و { أَن لَّوْ كَانُواْ } بدلٌ أيضاً من « الجن » . وقرأ ابن عباس ويعقوب « تُبُيِّنَتِ الجنّ » على البناءِ للمفعولِ ، وهي مؤيِّدَةٌ لِما نَقَله النحاسُ . وفي الآيةِ قراءاتٌ كثيرةٌ أَضْرَبْتُ عنها لمخالفتِها السَّوادَ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/247)


- بالفتح وترك الصرف - وَلِسَبإٍ . فمن فتح وترك الصرْفَ فلأنه جَعَلَ
سَبأ اسم قبيلة ، وَمَنْ صرف وكسر ونوَّنَ جعل سبأ اسْماً للرجُل واسماً
للحيِّ وكل جائز حَسَن.
(آيَةٌ جَنَّتَانِ).
(آيَةٌ) رفع اسم كان ، وَ (جَنَّتَانِ) رفع على نوعين ، على أنه بدَل من آيةٍ
وعلى إضمارٍ كأنَّه لما قيل آية ، قيل الآية جَنَّتَانِ ، والجَنتَانِ
البُسْتَانَانِ.
فكان لهم بستانان ، بستان يَمْنَةً ، وبُسْتَان يَسْرَة.
(كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ).
المعنى قيل لهم : كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ) . على معنى هذه بلدة طيبة.
(وَرَبٌّ غَفُورٌ) على معنى واللَّه رَبٌّ غَفُورٌ.
* * *
(فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16)
المعنى : أعرضوا عن أمر الله.
(فَأرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ العَرِم).
والعَرِم فيه أقوال قال أَبو عبيدة جمع عَرِمَةٍ ، وهي السِّكْرُ
والمُسَنَّاة وقيل العَرِمُ اسمُ الوَادِي ، وقيل العَرِمُ ههنا اسم الجُرَذ
الذي ثقب السِّكْر علَيْهِم ، وهو الذي يقال له الخُلْدُ.
وقيل : العَرِمُ المطر الشديد ، وكانوا في نِعْمةٍ وكانت لهم جِنَان يمنَةً وَيَسْرةً ، وكانت المرأة تخرج على رَأسها الزَّبِيلُ فتعمل بيديها وتسير بين ذلك الشجر

(4/248)


فيسقط في زبيلها ما تحتاج إليه من ثمار ذَلِكَ الشَجَرِ ، فلم يَشْكُرُوا.
فبعث اللَّه عليهم جُرَذاً ، وكان لهُم سِكْر فيه أبوابٌ ، يفتحون ما
يحتاجون إليه من الماء ، فثقب ذلك الجرذ حتى نقب عَلَيْهم فَغَرَّق
تينك الجنتين.
(وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ).
آيْ بِهَاتَيْنِ الجنتَينِ المَوْصُوفتين.
(جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ).
وأُكْل خَمْطٍ - الضَمُّ والإسكان في الكافِ جَائِزَانِ ، ويقرأ ذَوَاتَيْ
أكُل خمطٍ وذواتي أُكْل خمْطٍ . ومعنى خمط : يقال الكل نبت قد أَخَذ
طَعْماً من مرارة حتى لا يمكن أكله خَمْط.
وفي كتاب الخليل الخمطُ شَجَرُ الأرَاكِ
وقد جاء في التفسير أَن الخَمْطَ الأراك وأكله ثمَرهُ.
قال الله عزَّ وجلَّ : (تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ) (1).
* * *
(ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17)
" ذلك " في موضع نَصْبٍ ، المعنى جزيناهم ذلك بكفرهم.
(وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ).
وتقرأ وهل يُجَازَى ، ويجوز وهل وَهَلْ يُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ ، وَهَذَا مِما
يُساَلُ عَنْهُ.
يقال : اللَّه - عَزً وَجَلً - يُجازي الكَفُورَ وغيرَ الكَفُورِ.
والمعنى في هذه الآية أن المؤمن تُكَفَرُ عنه السيئَات ، والْكَافِرَ يحبطُ عمله فيجازى بكل سوء يعمله قال اللَّه عَزَ وَجَل : (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ)
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { سَيْلَ العرم } : فيه أوجهٌ ، أحدها : أنه من باب إضافةِ الموصوفِ لصفتِه في الأصلِ ، إذ الأصلُ : السَّيْلُ العَرِمُ . والعَرِمُ : الشديدُ . وأصله مِنَ العَرامَةِ ، وهي الشَّراسَةُ والصعوبةُ . وعَرِمَ فلانٌ فهو عارِمٌ وعَرِمٌ . وعُرامُ الجيش منه . الثاني : أنه من بابِ حَذْفِ الموصوفِ وإقامة صفتِه مُقامه . تقديرُه : فأَرْسَلْنا عليهم سَيْلَ المطرِ العَرِم أو الجُرذ العرم أي الشديد الكثير . الثالث : أنَّ العَرِمَ اسمٌ للبناءِ الذي يُجْعَلُ سَدَّاً . وأُنْشد :
3737 مِنْ سبأ الحاضرينَ مَأْرِبَ إذْ . . . يَبْنُون مِنْ دونِ سَيْلِه العَرِما
أي البناء القويُّ . الرابع : أنَّ العَرِمَ اسمٌ للوادي الذي كان فيه الماءُ نفسُه . الخامس : أنه اسمٌ للجُرَذِ وهو الفَأْر . قيل : هو الخُلْدُ . وإنما أُضيفَ إليه لأنه تَسَبَّبَ عنه إذ يُرْوى في التفسيرِ : أنه قَرَضَ السِّكْرَ إلى أن انفتح عليهم فغرِقوا به . وعلى هذه الأقوال الثلاثةِ تكون الإِضافةُ إضافةً صحيحةً مُعَرِّفة نحو : غلام زيد أي : سيل البناء ، أو سيل الوادي الفلاني ، أو سيلُ الجُرَذِ . وهؤلاء هم الذين ضَرَبَتْ بهم العربُ في المثل للفُرْقةِ فقالوا : « تَفَرَّقوا أَيْدِي سبأ وأيادي سبأ ».
قوله « » بجنَّتَيْهم جَنَّتَيْن « قد تقدَّم في البقرة أن المجرورَ بالباء هو الخارج ، والمنصوبَ هو الداخلُ؛ ولهذا غَلِط مَنْ قال من الفقهاء : » فلو أبدل ضاداً بظاءٍ بَطَلَتْ صلاتُه « بل الصواب أَنْ يُقال : ظاءً بضادٍ.
قوله : » أُكُلٍ خَمْطٍ « قرأ أبو عمرو على إضافة » أُكل « غير المضاف إلى » خَمْط « . والباقون بتنوينه غيرَ مضافٍ وقد تقدم في البقرةِ أنَّ ابنَ عامرٍ وأبا عمرو والكوفيين يضمون كاف » أكل « غير المضاف لضمير المؤنثةِ ، وأن نافعاً وابن كثير يُسَكِّنونها بتفصيل هناك تقدَّمَ تحريرُه ، فيكونُ القرَّاءُ هنا على ثلاثِ مراتبَ ، الأولى : لأبي عمروٍ » أُكُلِ خَمْط « بضم كاف » أُكُلٍ « مضافاً ل » خَمْطٍ « . الثانية : لنافعٍ وابن كثير تسكينُ كافِه وتنوينِه . الثالثة : للباقين ضَمُّ كافِه وتنوينه . فَمَنْ أضافَ جَعَلَ » الأكل « بمعنى الجنى والثمر . والخَمْطُ قيل : شجرُ الأَراك . وقيل : كلُّ شجرٍ ذي شَوْكٍ . وقيل : كلُّ نَبْتٍ أَخَذَ طعماً مِنْ مرارة . وقيل : شجرةٌ لها ثَمَرٌ تشبه الخَشْخاشَ لا يُنْتَفَعُ به.
قوله : { وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ } معطوفان على » أُكُل « لا على » خَمْط « لأنَّ الخَمْطَ لا أُكُلَ له . وقال مكي : » لَمَّا لم يَجُزْ أَنْ يكونَ الخمطُ نعتاً للأكل؛ لأنَّ الخَمْطَ اسمُ شجرٍ بعينه ، ولا بدلاً لأنه ليس الأولَ ولا بعضَه ، وكان الجنى والثمرُ من الشجر ، أُضيف على تقدير « مِنْ » كقولِك : هذا ثوبُ خَزّ « . ومَنْ نَوَّنَ جَعَلَ خَمْطاً وما بعدَه : إمَّا صفةً لأُكُل.
قال الزمخشري : « أو وُصِفَ الأُكُلَ بالخَمْط ، كأنه قيل : ذواتَيْ أُكُلٍ بَشِعٍ » . قال الشيخُ : « والوصفُ بالأسماءِ لا يَطَّردُ ، وإنْ كان قد جاء منه شيءٌ نحو قولهم : مررْتُ بقاع عَرْفَجٍ كلِّه » . الثاني : البدلُ مِنْ « أُكُل » قال أبو البقاء : « وجعل خَمْطاً أُكُلاً لمجاوَرَتِه إياه وكونِه سبباً له » . إلاَّ أنَّ الفارسيَّ رَدَّ كونَه بدلاً . قال : « لأنَّ الخَمْطَ ليس بالأُكُلِ نفسِه » . وقد تقدَّمَ جوابُ أبي البقاء . وأجاب بعضُهم عنه - وهو مُنْتَزَعٌ مِنْ كلام الزمخشري - أنه على حَذْفِ مضافٍ تقديرُه : ذواتَيْ أُكُلٍ أُكُلِ خَمْطٍ . قال : والمحذوفُ هو الأولُ في الحقيقةِ . قلت : وهو حسنٌ في المعنى . الثالث : أنه عطفُ بيانٍ ، وجعله أبو عليٍ أحسنَ ما في الباب . قال : « كأنَّه بَيَّنَ أنَّ الأُكُلَ هذه الشجرةُ » إلاَّ أنَّ عَطْفَ البيانِ لا يُجيزه البصريُّون في النكرات إنما يَخُصُّونه بالمعارفِ/.
قوله : « قليلٍ » نعتٌ ل « سِدْر » . وقيل : نعتٌ ل « أُكل » . وقال أبو البقاء : « ويجوز أَنْ يكونَ نعتاً ل » خَمْطٍ وأَثْلٍ وسِدْرٍ « . وقُرِئ » وأَثْلاً وشَيْئاً « بنصبهما عطفاً على جَنَّتَيْن . والأَثْلُ : شجرُ الطَّرْفاءِ ، أو ما يُشْبِهها . والسِّدرَ سِدْران : سِدْرٌ له ثمرةٌ عَفْصَةٌ لا تُؤْكَلُ ولا يُنْتَفَعُ بورقِه في الاغتسال وهو الضالُّ ، وسِدْرٌ له ثمرٌ يُؤْكَلُ وهو النَّبْقُ ، ويُغْتَسُل بورقِه . ومراد الآيةِ : الأولُ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/249)


وقال : (ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28).
فأعلم - جلَّ وعزَّ - أنه يحبط عمل الكافِرِ ، وأعْلَمَنا أن الحَسَنَاتِ يذهِبْنَ السيْئَاتِ ، وأن المؤمنَ تُكِفَرُ عنه سَيِّئَاتِه حَسَنَاتُه.
* * *
وقوله تعالى : (وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18)
هذا عطف على قوله : (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ)
(وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً).
فَكانوا لا يَحْتَاجُونَ من وادي سبأ إلى الشام إلى زَادٍ.
وقيل القُرَى التي باركنا فيها بَيْتُ المقْدِسِ ، وقيل أيضاً الشامُ.
فكانت القرى إلى كل هذه المواضِعِ من وادي سبأ متصلة.
* * *
(وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ).
جعلنا مَسِيرَهُمْ بمقدار حيث أرادُوا أَن يقيموا حَلُّوا بقرية آمِنينَ.
* * *
(فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19)
(رَبَّنَا بَعِّدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا)
ويقرأ (رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا) ، ويقرأ (رَبَّنَا بَعَّدَ بَيْنَ أَسْفَارِنَا) ، ويقرأ
(رَبَّنَا) - بالنصْبِ - بَعُدَ بَيْن أسفارنا - برفع بَيْن - ، ويقرأ بَيْن أسفارنا ، ويقرأ رَبُّنا بَاعَدَ بين أسْفَارِنَا (1).
(وَظَلَمُوا أنْفُسَهُمْ)
فمن قرأ بَعُدَ بَيْنُ أَسْفارنا برفع بيْن ، فالمعنى بَعُدَ ما يتصِلُ
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { رَبَّنَا } : العامَّةُ بالنصبِ على النداء . وابن كثيرٍ وأبو عمروٍ وهشام « بَعِّدْ » بتشديدِ العَيْنِ فعلَ طلبٍ . والباقون « باعِدْ » طلباً أيضاً من المفاعلة بمعنى الثلاثي . وقرأ ابنُ الحنفية وسفيان بن حسين وابن السَّمَيْفع « بَعُدَ » بضم العين فعلاً ماضياً . والفاعلُ المَسِيْرُ أي : بَعُدَ المَسِيْرُ . و « بَيْنَ » ظرفٌ . وسعيد بن أبي الحسن كذلك إلاَّ أنَّه ضَمَّ نونَ « بين » جعله فاعلَ « بَعُدَ » ، فأخرجه عن الظرفية كقراءةِ « تَقَطَّع بينكُم » رفعاً . فالمعنى على القراءةِ المتضمِّنةِ للطلبِ يكونُ المعنى : أنهم أَشِرُوا وبَطِرُوا؛ فلذلك طلبوا بُعْدَ الأسفارِ . وعلى القراءة المتضمِّنة للطلبِ يكونُ المعنى : أنهم أَشِرُوا وبَطِرُوا؛ فلذلك طلبوا بُعْدَ الأسفارِ . وعلى القراءة المتضمِّنة للخبرِ الماضي يكونُ شكوى مِنْ بُعْدِ الأسفار التي طلبوها أيضاً.
وقرأ جماعةٌ كثيرةٌ منهم ابن عباس وابن الحنفية وعمرو بن فائد « ربُّنا » رفعاً على الابتداءِ ، « بَعِّدْ » بتشديد العين فعلاً ماضياً خبرُه . وأبو رجاءٍ والحسنُ ويعقوب كذلك إلاَّ أنه « باعَدَ » بالألف . والمعنى على هذه القراءة : شكوى بُعْدِ أسفارِهم على قُرْبها ودُنُوِّها تَعَنُّتاً منهم.
وقُرِئ « بُوعِدَ » مبنياً للمفعول . وإذا نصَبْتَ « بينَ » بعد فعلٍ متعدٍّ مِنْ هذه المادةِ في إحدى هذه القراءاتِ سواءً كان أمراً أم ماضياً فجعله الشيخ منصوباً على المفعول به لا ظرفاً . قال : « ألا ترى إلى قراءةِ مَنْ رفع كيف جَعَلَه اسماً »؟ قلت : إقرارُه على ظرفيَّتِه أَوْلَى ، ويكون المفعولُ محذوفاً ، تقديره : بَعِّدِ السيرَ بينَ أسفارِنا . ويَدُلُّ على ذلك قراءةُ « بَعُدَ » بضم العين « بينَ » بالنصب ، فكما تُضْمِرُ هنا الفاعلَ وهو ضميرُ السَّيْرِ كذلك تُبْقي هنا « بينَ » على بابِها ، وتَنْوي السيرَ . وكان هذا أَوْلى؛ لأنَّ حَذْفَ المفعولِ كثيرٌ جداً لا نِزاع فيه ، وإخراجُ الظرفِ غير المتصرِّفِ عن ظرفيتِه فيه نزاعٌ كثيرٌ ، وتحقيقُ هذا والاعتذارُ عن رفعِ « بينكم » مذكورٌ في الأنعام.
وقرأ العامَّةُ « أَسْفارِنا » جمعاً . وابن يعمر « سَفَرِنا » مفرداً. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/250)


بِسَفَرِنَا ، ومن قرأ بَعُدَ بين أسْفارنا فالمعنى بَعُدَ ما بين أسفارنا ، وَبَعُد
سيْرنا بين أَسْفَارِنا ، ومن قرأ باعِدْ فعلى وجه المسألَةِ ، ويكون المعنى
أنهم سئموا الرَّاحَةَ وبطِرُوا النعمَةَ ، كما قال قوم موسى : (ادْعُ لَنَا رَبِّكَ
يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأرْضُ - إلى قوله : (الذي هُوَ أدنى بالَّذِي هُوَ خَير).
(وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ).
أي فرقناهم في البلاد لأنهم لما أذهب الله بِجَنتَيْهِمْ وغرق
مَكانَهُم تبدَّدُوا في البلاد فصارت العَرَبُ تتمثل بِهم في الفرقَةِ فتقول :
تفرقوا أيْدِيَ سبَأ ، وأيادي سَبَأ
قال الشاعِرِ :
مِنْ صَادِرٍ أو وَارِدٍ أَيْدي سَبَا.
وقال كثير :
أيادي سبا يا عز ما كنت بعدكم . . . فلم يحل للعينين بعدك منظر
* * *
(وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20)
(وَلَقَدْ صَدَقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ)
ويقرأ (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ) - برفع إبْلِيسَ ونصب الظن.
وصدقه في ظَنَه أَنًهُ ظَن - بهم إذا أغْوَاهم اتبَعوه فوجدهم كذلك فقال :
(فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ).
فمن قال (صَدَّقَ) نَصَبَ الظن لأنه مفعولٌ بِهِ ، ومن خَفَّفَ فقال " صَدَق " نصب الظنَّ مصدراً

(4/251)


على معنى صدق عليهم إبليس ظَنًّا ظَنَّه ، وصدق في ظنه.
وفيها وجهان آخرانِ ، أحدهما ولقد صدق عليهم إبليسُ ظنُّهُ ، ظَنه بدل من إبْلِيسَ ، كما قال تعالى : (يَسْالُونَكَ عَنِ الشَهْرِ الحَرَامِ قِتَال فِيهِ).
ويجوز وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنُّهُ ، على معنى صدق ظن إبليسَ باتباعِهم إيَّاهُ وقد قُرِئ بهما.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21)
أي ما كان له عليهم من حجة كما قال : (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ
عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ).
(إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ).
أي إلا لنعلم ذلك علمَ وقوعه مِنْهُمْ ، وهو الذي يُجَازَوْنَ عَلَيْه.
واللَّه يعلم الغيبَ وَيَعْلَمُ مَنْ يؤمن مِمن يَكْفُر قبلَ أَنْ يؤمِنَ المؤمنُ
ويكفُرَ الكافِرُ ولكن ذلك لا يُوجِبُ ثواباً وَلَا عقَاباً ، إنما يثابون
ويعاقبون بما كانوا عَامِلينَ.
وقوله : (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22)
يعني أن الذين يزعمون أنهم شركاء الله مِنَ المَلَائكة وَغَيْرِهِمْ لاَ
شِرْكَ لهم ولا مُعينَ للَّهِ عزَّ وجلَّ فيما خَلَق.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23)
(أَذِنَ لَهُ)
بضم الهمزة وفتحها ، ويكون المعنى لمني أذَن لَه.
أي ، لمن أذن الله له أن يشفع ، ويجوز إلا لمن أذن أن يُشْفَعَ له فيكون " من "

(4/252)


للشافعين ، ويجوز أَنْ يكونَ للمَشْفُوعَ لَهُمْ.
والأجود أن يكون للشافعين ، لقوله : (حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ).
لأن الذين فزع عن قلوبهم ههنا الملائكةُ ، وتقرأ حتى إذَا فَزَّعَ
عن قُلُوِبهِمْ - بفتح الفاء - وقرأ الحسن : حَتَّى إذَا فَرَغَ عَنْ قُلُوبِهِمْ -
بالراء غيرَ المعجمة وبالغين المعجمة - ومعنى فُزعَ كُشِفَ الفَزَعُ عَنْ
قُلُوبِهِمْ وَفَزَّعَ عن قلوبِهِمْ كشفَ الله الفَزَع عن قُلُوبهِمْ ، وقراءة
الحسن ، فُرِّغَ تَرْجع إلى هذا المعنى لأنهما فَرغتْ من الفَزَع.
وتفسير هذا أن جبريل عليه السلام كان لِما نزل إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - بالْوَحْي ظنت الملائكة أَنَه نزل لِشيءٍ من أمر الساعَةِ فَتَفَزعَتْ لِذَلِكَ ، فلما انكشف عنها الفَزَعُ : (قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ).
فسألت لأيَ شيءٍ ينزل جبريل.
(قَالُوا الْحَقَّ).
أي قالوا قال الحق ، ولو قرئت - قَالُوا الْحَقُّ لكان وَجْهاً . يكون
المعنى قالوا هو الحق (1).
* * *
(قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24)
روي في التفسير أن المعنى وإنا لعلى هدى وإنكم لفي ضلال
مبين ، وهذا في اللغة غير جائز ولكنه في التفسير يُؤول إلى هذا
المعنى . إنا لعلى هدى أو في ضلال مبين أو إنكم لعلى هدى أو في
ضلال مبين ، وإنكم لعلى هدى أو في ضلال مبين.
فهذا كما يقول القائل : إذا كانت الحال تدل على أنه صَادق - أَحَدُنا صادق ، وأَحَدُنا كاذب ، والمعنى أَحَدُنَا صادق أو كاذب.
ويؤول معنى الآية إلى إنَا لِمَا أقمنا من البرهان لعلى هدى ، وإنكم لفي ضلال مبين.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } : فيه أوجهٌ ، أحدُها : أَنَّ اللامَ متعلقةٌ بنفسِ الشفاعة . قال أبو البقاء : « كما تقول : شَفَعْتُ له » . الثاني : أَنْ يتعلَّقَ ب « تَنْفَعُ » ، قاله أبو البقاء . وفيه نظرٌ : وهو أنه يَلْزَمُ أحدُ أمرَيْن : إمَّا زيادةُ اللامِ في المفعولِ في غيرِ مَوْضِعها ، وإمَّا حَذْفُ مفعولِ « تنفع » وكلاهما خلافُ الأصلِ . الثالث : أنه استثناءٌ مفرَّغٌ مِنْ مفعولِ الشفاعة المقدرِ أي : لا تنفع الشفاعةُ لأحدٍ إلاَّ لمَنْ أَذِنَ له.
ثم المستثنى منه المقدرُ يجوزُ أن يكون هو المشفوعَ له ، وهو الظاهرُ ، والشافعُ ليس مذكوراً إنما دَلَّ عليه الفَحْوى . والتقدير : لا تنفُع الشفاعةُ لأحدٍ من المشفوع لهم إلاَّ لمَنْ أَذن تعالى للشافعين أَنْ يَشْفعوا فيه . ويجوز أَنْ يكونَ هو الشافِعَ ، والمشفوعُ له ليس مذكوراً تقديرُه : لا تنفعُ الشفاعةُ إلاَّ لشافعٍ أُذِن له أَنْ يَشْفَعَ . وعلى هذا فاللامُ في « له » لامُ التبليغِ لا لامُ العلةِ . الرابع : أنه استثناءٌ مفرَّغٌ أيضاً ، لكنْ من الأحوال العامة . تقديرُه : لا تنفعُ الشفاعةُ إلاَّ كائنةً لمَنْ أَذِن له . وقرَّرَه الزمخشري فقال : « تقول : » الشفاعة لزيدٍ « على معنى : أنه الشافعُ كما تقول : الكَرْمُ لزيدٍ ، وعلى معنى أنه المشفوعُ له كما تقول : القيامُ لزيدٍ فاحتمل قولُه : { وَلاَ تَنفَعُ الشفاعة عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } أَنْ يكونَ على أحدِ هذين الوجهين أي : لا تنفعُ الشفاعةُ إلاَّ كائنةً لمَنْ أَذِن له من الشافعين ومطلقةً له ، أو لا تنفع الشفاعة إلاَّ كائنةً لمَنْ أَذِن له أي : لشفيعِه ، أو هي اللامُ الثانية في قولك : » أُذِنَ لزيدٍ لعمروٍ « أي : لأجله فكأنه قيل : إلاَّ لمَنْ وقع الإِذنُ للشفيعِ لأجلِه . وهذا وجهٌ لطيفٌ وهو الوجه » . انتهى.
فقولُه : « الكَرْم لزيدٍ » يعني : أنَّها ليسَتْ لامَ العلة بل لامُ الاختصاصِ . وقوله : « القيامُ لزيد » يعني أنها لام العلة كما هي في « القيام لزيد » . وقوله : « أُذن لزيدٍ لعمروٍ » يعني : أنَّ الأولى للتبليغ ، والثانيةَ لامُ العلَّةِ.
وقرأ الأخَوان وأبو عمروٍ « أُذِنَ » مبنياً للمفعول ، والقائمُ مَقامَ الفاعلِ الجارُّ والمجرورُ . والباقون مبنيّاً للفاعل أي : أَذِنَ اللَّهُ وهو المرادُ في القراءة الأخرى . وقد صَرَّح به في قولِه : { إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ الله } [ النجم : 26 ] { إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن } [ النبأ : 38 ].
قوله : « حتى إذا » هذه غايةٌ لا بُدَّ لَها مِنْ مُغَيَّا . وفيه أوجهٌ ، أحدُها : أنه قولُه : { فاتبعوه } [ سبأ : 20 ] على أَنْ يكونَ الضميرُ في عليهم من قولِه : { صَدَّقَ عَلَيْهِمْ } [ سبأ : 20 ] وفي « قلوبِهم » عائداً على جميع الكفار ، ويكون التفزيعُ حالةَ مفارقةِ الحياةِ ، أو يُجْعَلُ اتِّباعُهم إياه مُسْتصحِباً لهم إلى يوم القيامة مجازاً.
والجملةُ مِنْ قوله : « قل ادْعُوا » إلى آخرها معترضةٌ بين الغايةِ والمُغَيَّا . ذكره الشيخ . وهو حسنٌ.
والثاني : أنه محذوفٌ . قال ابن عطية : « كأنه قيل : ولا هم شفعاءُ كما تحبون أنتم ، بل هم عَبَدَةٌ أو مُسْلمون أي : منقادون . حتى إذا فُزِّع عن قلوبِهم » انتهى . وجعل الضميرَ في « قلوبهم » عائداً على الملائكة . وقَرَّر ذلك ، وضَعَّفَ قولَ مَنْ جعله عائداً على الكفار ، أو جميعِ العالم وليس هذا مَوْضِعَ تنقيحه.
وقوله : « قالوا : ماذا » هو جوابُ « إذا » ، وقوله : « قالوا الحقَّ » جوابٌ لقولِه : { مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ } . و « الحقَّ » منصوبٌ ب « قال » مضمرةً أي : قالوا قال ربُّنا الحقَّ . أي : القولَ الحقَّ . إلا أنَّ الشيخَ رَدَّ هذا فقال : « فما قَدَّره ابنُ عطية لا يَصِحُّ لأنَّ ما بعدَ الغايةِ/ مخالِفٌ لِما قبلَها ، هم منقادون عَبَدَةٌ دائماً ، لا ينفكُّون عن ذلك لا إذا فُزِّع عن قلوبِهم ، ولا إذا لم يُفَزَّعْ ».
الثالث : أنه قولُه : « زَعَمْتُم » أي : زعمتم الكفر إلى غايةِ التفزيع ثم تركْتُمْ ما زعمتم وقلتم قال الحقَّ . وعلى هذا يكونُ في الكلام التفاتٌ مِنْ خطابٍ في قولِه : « زَعَمْتم » إلى الغَيْبة في قوله : « قلوبهم ».
الرابع : أنه ما فُهِم مِنْ سياقِ الكلامِ . قال الزمخشري : « فإنْ قلتَ : بأيِّ شيءٍ اتَّصل قولُه : { حتى إِذَا فُزِّعَ } ولأيِّ شيء وقعت » حتى « غايةً؟ قلت : بما فُهِم من هذا الكلامِ مِنْ أَنَّ ثَمَّ انتظاراً للإِذْنِ وتوقُّفاً وتمهُّلاً وفَزَعاً مِن الراجين للشفاعةِ والشفعاءِ هل يُؤْذَنُ لهم ، أو لا يُؤْذَن؟ وأنه لا يُطْلَقُ الإِذنُ إلاَّ بَعْد مَلِيٍّ من الزمان وطولٍ من التربُّصِ . ودَلَّ على هذه الحالِ قولُه : [ تعالى { رَّبِّ السماوات } إلى قوله : { إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن وَقَالَ صَوَاباً } [ النبأ : 37-38 ] فكأنه قيل : يَتَرَبَّصون ويتوقَّفون مَلِيَّاً فَزِعينَ وَهِلين ، حتى إذا فُزِّعَ عن قلوبِهم أي : كُشِفَ الفَزَعُ عن قلوبِ الشافعين والمشفوعِ لهم بكلمةٍ يتكلم بها ربُّ العزةِ في إطلاقِ الإِذن ، تباشروا بذلك ، وسأل بعضُهم بعضاً : ماذا قال ربُّكم قالوا : الحق . أي : القولَ الحقَّ وهو الإِذنُ بالشفاعةِ لِمَنْ ارْتَضَى ».
وقرأ ابنُ عامر « فَزَّع » مبنياً للفاعل . فإنْ كان الضميرُ في « قلوبهم » للملائكةِ فالفاعلُ في « فَزَّع » ضميرُ اسمِ الله تعالى لتقدُّم ذِكْرِه . وإن كان للكفارِ فالفاعلُ ضميرُ مُغْوِيْهم . كذا قال الشيخ . والظاهر أنه يعودُ على الله مطلقاً . وقرأ الباقون مبنيَّاً للمفعول . والقائمُ مقامَ الفاعلِ الجارُّ بعده . وفَعَّل بالتشديد معناها السَّلْبُ هنا نحو : قَرَّدْتُ البعيرَ أي : أَزَلْتُ قُراده ، كذا هنا أي : أزالَ الفَزَعَ عنها.
وقرأ الحسن « فُزِعَ » مبنياً للمفعول مخففاً كقولِك : ذُهِب بزيدٍ.
والحسن أيضاً وقتادة ومجاهد « فَرَّغَ » مبنياً للفاعل من الفراغ . وعن الحسن أيضاً تخفيفُ الراء . وعنه أيضاً وعن ابنِ عُمَر وقتادة مشددَ الراءِ مبنياً للمفعول.
والفَراغُ : الفَناء والمعنى : حتى إذا أَفْنى اللَّهُ الوَجَلَ أو انتفى بنفسِه ، أو نُفِي الوَجَلُ والخوفُ عن قلوبهم فلمَّا بُني للمفعولِ قام الجارُّ مَقامَه . وقرأ ابن مسعود وابن عمر « افْرُنْقِعَ » من الافْرِنْقاع . وهو التفرُّقُ . قال الزمخشري : « والكلمةُ مركبةٌ مِنْ حروف المفارقة مع زيادة العين ، كما رُكِّب » اقْمَطَرَّ « من حروفِ القَمْطِ مع زيادة الراء » . قال الشيخ : « فإنْ عَنَى أنَّ العينَ من حروفِ الزيادة ، وكذا الراء ، وهو ظاهرُ كلامِه فليس بصحيحٍ؛ لأنَّ العين والراءَ ليسا مِنْ حروف الزيادةِ . وإنْ عنى أنَّ الكلمة فيها حروفُ ما ذُكِر ، وزائداً إلى ذلك العينُ والراءُ ، والمادةُ فَرْقَعَ وقَمْطَر فهو صحيحٌ » انتهى . وهذه قراءةٌ مخالِفَةٌ للسَّواد ، ومع ذلك هي لفظةٌ غريبةٌ ثقيلةُ اللفظِ ، نَصَّ أهلُ البيانِ عليها وَمثَّلوا بها . وحَكَوْا عن عيسى بنِ عمر أنه غُشِيَ عليه ذاتَ يومٍ فاجتمع عليه النَّظَّارَةُ فلمَّا أفاق قال : « أراكم تَكَأْكَأْتُمْ عليَّ تَكَأْكُؤَكم على ذي جِنَّةٍ افرَنْقِعوا عني » أي : اجتمعتُمْ عليَّ اجتماعَكم على المجنونِ تَفَرَّقوا عني ، فعابَها الناسُ عليه ، حيث استعمل مثلَ هذه الألفاظِ الثقيلةِ المستغربةِ.
وقرأ ابن أبي عبلة « الحقُّ » بالرفع على أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي : قالوا قولُه الحقُّ.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/253)


وقوله : (قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26)
معنى يفتح : يحكم ، وكذلك الفتاح : الحاكم.
* * *
وقوله - جلَّ وعزَّ - : (قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)
المعنى ألحقتموهم به ، ولكنه حذف لأنه في صلة الذين.
وقوله (كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
معنى (كَلَّا) رَدْعٌ وتنبيه ، المعنى ارْتَدِعُوا عَنْ هذَا القولِ وَتَنبَّهُوا
عَن ضَلاَلِتكُمْ ، بل هو اللَّه الواحد الذي ليس كمثله شيء.
* * *
وقوله - عزَّ وجلَّ - : (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28)
معنى كافَة الإحاطَةُ في اللغة ، والمعنى أرسلناك جامعاً للناس
في الإنذار والإبلاغ ، فاَرْسَلَ اللَّه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى العرب والعجم ، وقال : أَنا سَابِق العَرَبِ إلى الإسلام ، وَصُهَيْبٌ سابق الروم وبلال سابق الحبشة وسلمانُ سابق الفرس ، أي الرسالة عامة ، والسابقون من العجَم
هؤلاء.
* * *
وقوله : (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31)
يعنون لا نؤمن بما أتى به محمد - صلى الله عليه وسلم - ولا بالكتب المتقدِّمَةِ.
* * *
وقوله : (وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ
(33)
(بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ).
معناه بل مكركم في الليل والنهار.
(وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا) أشْبَاهاً.
(وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ).

(4/254)


أَسَروها بينهم . أقبل بعضهم يَلُوم بَعْضاً ، ويُعرِّف بعضهم بَعْضاً
الندامَةَ.
* *
(وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34)
مُتْرَفُوها أُولو التُّرْفَةِ وهم رؤُساؤها وقادة الشَرِّ وَيَتبعُهُمْ السِّفْلَةُ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ (وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37)
ولم يقل باللتَين ولا باللذَيْنِ ولا باللاتِي ، وكل ذلك جائز ، ولكن
الذِي في المصحف التِي ، والمعنى وما أَمْوَالكم بالتي تقربكم ولا
أَوْلَادُكم بالذين يُقَرَبُونكم ولكنه حُذِفَ اختصاراً وإيجَازاً.
وقد شرحنا مثل هذا.
وقوله (إلا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً).
موضع " مَنْ " نصب بالاستثناء على البدل من الكاف والميم.
على معنى ما يُقَربُ إلا مَنْ آمَنَ وَعَمِل صَالحاً ، أي ما تُقَربُ الأموالُ إلا
مَنْ آمن وعمل بها في طاعة اللَّه.
(فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا).
الضعف ههنا يحتاج إلى تفسير ولا أَعْلَمُ أَحَداً فَسَّرَهُ تفسيراً بيِّناً.
وجزاء الضعف ههنا عشر حسنات ، تأويله فأولئِكَ لهم جَزاءُ الضعْفِ
الذي أَعْلَمْناكم مقدارهُ ، وهو قوله : (مَنْ جَاء بالحسنة فله عَشْرُ أمثالها)
فيه أوجُهُ في العَرَبيةِ ، فالذي قرئ به خفض الضعف بإضَافَةِ الجزاء
إليه ، ويجوز (فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ) على معنى فأولئك لهم الضعفُ

(4/255)


جزاءً ، المعنى في حال المجازاة ، ويجوز فأُولَئِكَ لهم جزاءً الضِعْفَ
على نصب الضعْف . المعنى ، فأُولَئِكَ لهم أَنْ نُجَازِيَهم الضعْفَ.
ويجوز رفع الضعف من جهتين :
على معنى فأُولَئِكَ لهم الضعْفُ عَلَىْ أن الضَعْفَ بدل من الجزاء ، فيكون مرفوعاً على إضمار هو ، فأُولَئِكَ لهم جزاء ، كأنَّه قال ما هو فقال : الضِعْفُ.
ويجوز النَصْبَ فِي الضعْفِ على مفعول ما لم يسم فاعله على معنى فأولئك لهم أن يجازَوُا الضعْفَ.
والقراءة من هذه الأوجه كلها خفض الضعف ورفع جزاء.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44)
يُعْنَى به مشركو العَربِ بمكةَ لَمْ يَكونُوا أَصْحابَ كُتُبٍ ولا بعث
بنبي قبل محمد - صلى الله عليه وسلم -.
* * *
(وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45)
أي عُشر الذي آتينا من قبلهم من القوة والقُدْرَةِ.
(فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ).
حذفت الياء ، المعنى فكيف كان نكيري ، لأنه آخر آيةٍ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46)
أي أَعِظُكمْ بأن توحدْوا الله وأَنْ تَقولوا لا إله إلا اللَّهُ مخلصاً
وقد قيل واحدة في الطاعة ، والطاعة تَتَضَمَّن التوحيدَ والِإخلاصَ .

(4/256)


المعنى : فأنا أعظكم بهذه الخصلة الواحدة أن تقُومُوا ، أي لأنْ تَقومُوا.
(أنْ تَقُومُوا للَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى).
أي أعظكم بطاعة اللَّه لأن تقومُوا للَّهِ منفردين ومُجْتَمِعين.
(ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ).
المعنى ثم تتفكروا فتعلموا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما هو بمجنون كما تقولون ، والجِنَّة الجُنُونُ.
(إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ).
أي يُنْذِرُكم أنكم إنْ عَصَيْتُمْ لقيتم عذاباً شديداً.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47)
معناه ما سألتكم من أجر على الرسالة أُؤَدِّيها إليكم ، والقرآن
الذي أتيتكم به من عند الله - فهو لكم - وتأويله أني إنما أنذركم
وأُبَلِّغُكُمْ الرسالة ولستُ أَجُرُّ إلى نفسي عَرَضاً من أعراض الدنيا.
(إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ).
أي إنما أَطْلُب ثوابَ الله بتأدية الرسَالةِ ، والياء في " أجري " مُسَكنَة
وَمَفْتُوحةٌ والأجود الفتح لأنها اسم فيبنى على الفتح.
* * *
وقوله - عزَّ وجلَّ - : (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48)
بكسر الغين - ويجوز علامَ الغيوب بالنصْبِ ، فمن نَصَب فعَلام الغيوب صِفة
لِرَبِّي.
المعنى قل إن ربي علامَ الغيوب يقذف بالحق
ومن رفع " علامُ الغيوب " فعلى وجهين :
أحدهما أن يكون صِفةً على موضع أن ربي ، لأن تأويله قل ربي علَّامُ الغيوب يقذف بالحق ، وإنَّ مؤكدة .

(4/257)


ويجوز الرفع على البَدَلِ مِما في تَقذِف ، المعنى قل إن ربي يقذف هو بالحق
علامُ الغيوبِ ، ومعنى يقذف بالحق أي يأتي بالحق ويرمي بالحق ، كما
قال - جلَّ وعزَّ - : (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ).
* * *
وقوله : (قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49)
أي قل جاء أمر اللَّه الذي هو الحق ، وما يُبْدِئ البَاطِلُ.
" ما " في موضع نصب على مَعْنى وأَيُّ شيءٍ يبدئ الباطِلُ وأيُّ شيءٍ يُعِيدُ.
والأجود أن يكون " ما " نفياً على معنى ما يبدئ الباطل وما يعيد.
والباطل . ههنا إبليس.
المعنى وما يعيد إبليس وما يفيد ، أي لا يخلق ولا يبعث.
واللَّه - عزَّ وجلَّ - الخالقُ والباعث.
ويجوز أَنْ يكونَ البَاطِلُ صَاحِب البَاطِلِ وهو إبليس.
* * *
وقوله : (وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (51)
هذا في وقت بَعْثِهم.
وقوله : (فَلَا فَوْتَ) أي فلا فوت لهم ، لا يمكنهم أن يَفُوتُوا.
(وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ)
في التفسير : من تحت أقدامهم.
ويجوز فَلَا فَوْتٌ ، ولا أعلم أحداً قَرَأَ بِهَا فإن لم تثبت بها روَايةٌ فَلَا تقرأنَّ بها ، فإن القراءة سُنَّةٌ.
* * *
وقوله : (وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (52)
(وَقَالُوا آمَنَّا) ، في الوقت الذي قال اللَّه - جل وعلا فيه :
(لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ)
والتَنَاؤشُ التناوُل ، أي فكيف

(4/258)


لهم أن يتناولوا ما كان مبذولاً لهم وكان قريباً منهم ، فكيف يتناولونه
حين بَعُدَ عَنْهُمْ.
وَمَنْ هَمَزَ فقال : التَنَاؤشُ ، فلأن واو التناؤش مَضْمُومَة.
وكل واو مضمومة ضمَّتُها لازمة ، إن شئت أبْدَلْتَ منها همزة
وإن شِئْتَ لم تبدل نحو قولك أَدْوُر وتقاوُم ، وإن شئت قلت : أدؤر
وتَقَاؤم فهَمَزْتَ ، ويجوز أن يكون التنَاؤُش من النَّيِّش ، وهي الحركة
في إبطاء
فالمعنى من أين لهم أن يتحركوا فيما لا حيلة لهم فيه.
* * *
(وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (53)
أي كانوا يرجمون ويرمون بالغيب ، وترجيمهم أنهم كانوا يظنون
أنهم لا يبعثون.
* * *
(وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)
المعنى من الرجوع إلى الدنيا ، والإيمان.
(كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ).
أي بمن كان مذهبُه مَذْهَبَهُم.
(إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ).
فقد أعلمنا اللَّه جلَّ وعزَّ أنه يُعذبُ عَلَى الشَّكِّ.
وقد قال قوم من الضلَّالِ أن - الشاكِّين لا شيء عليهم ، وهذا كفر ونقض للقرآن لأن اللَّه - جلَّ وعزَّ - قال : (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27).

(4/259)


سُورَة المَلاَئِكَة
( مَكِّيَّة )
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)
قال ابن عباس رحمه اللَّه : ما كنت أدْري ما فاطرُ السَّمَاوَاتِ
والأرْض حتى اختصم إليَّ أعرابيان في بِئْر فقال أحدهما : أنا فَطَرْتُها.
أي ابتدأْتُهَا . وقيل فاطر السَّمَاوَات والأرض خالق السَّمَاوَات والأرض.
ويجوز فَاطِرُ وفَاطِرَ بالرفع والنصب ، والقراءة على خفض فاطر.
وكذلك (جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ).
معنى أولي أصحاب أجنحة ، وثُلَاثَ ورُبَاعَ في موضع خفض.
وكذلك مثنى إلا أنه فتح ثُلاثَ ورُبَاعَ لأنه لا يتصرف لِعِلتيْن إحداهما
أنه معدول عن ثلاثةٍ ثلاثةٍ وَأَرْبَعِةٍ أَرْبَعةٍ واثنين اثنين ، فهذه علة.
والعلة الثانيةُ ، أَن عُدُولَهُ وَقع فِي حَالِ النَّكِرَةِ
قال الشاعر :
ولكنَّما أَهلي بوادٍ أَنِيسُه . . . سِباغٌ تَبَغَّى الناسَ مَثْنى ومَوْحَدا
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (يَزِيدُ في الخَلْقِ مَا يَشَاءُ).
يعنى في خلق الملائكة ، والرسلُ مِنَ الملائِكَةِ جبريل وميكائيلُ
وإسرافيلُ ومَلَكُ الموت .

(4/261)


(مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2)
(يَفْتَح) في موضع جزم على معنى الشرط والجزاء ، وجواب الجزاء
(فَلَا مُمْسِكَ لَهَا) ، ولو كان فلا ممسك له لجاز لأن " ما " في لفظ
تذكيرا ، ولكنه لَمَّا جَرَى ذكرُ الرحمة كان فلا ممسك لها أحسن ، ألا
ترى إلى قوله : (وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ).
ومعنى ما يفتح الله أي ما يَأتيهِمْ بِهِ من مَطَرٍ ورِزقٍ فلا يقدر أَحَدٌ
أن يُمْسِكَه ، وما يُمْسِكْ اللَّهُ من ذلك فلا يقدر قادرٌ أن يرسله.
ويجوز - ولا أعلم أحَداً قرأ به - " ما يفتحُ اللَّه للناس من رحمة وَما يُمْسِكُ "
برفعهما على معنى الذي يفتحه اللَّه للناس من رحمة فلا ممسك لها.
والذي يمسك فلا مرسل له ، ويجوز " فلا مُمْسِكٌ لها " بالتنوين ، وما
يمسك فَلَا مُرْسِلٌ له من بعده ، وَلَا أعْلَمُ أَحَداً قرأ بها فلا تقرأنَّ بما لم
تثبت فيه رواية وإن جاء في العربية لأن القراءةَ سُنَّةٌ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3)
هذا ذكر بعد قوله : (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا)
فأكد ذلك بأن جعل السؤال لهم (هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ).
(هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرِ اللَّهِ)
وقُرئت (هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ) بالرفع ، على رفع غير.
المعنى هَلْ خَالِقٌ غير اللَّه لأن " مِن " مؤكدة ، وقد قرئ بهما جميعاً ، غَيْرُ وَغَيْرِ ، وفيها وجه آخر يجوز في العربية نصب (غيرَ)
" هل مِنْ خالقٍ غَيرَ اللَّهِ يرزقكم "
ويكون النصب على الاستثناء ، كأنَّه هل من خالق إلا اللَّهُ يرزقكم) (1).
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ الله } : قرأ الأخَوان « غيرِ » بالجر نعتاً ل « خالقٍ » على اللفظِ . و « مِنْ خالق » مبتدأٌ مُزادٌ فيه « مِنْ » . وفي خبرِه قولان ، أحدُهما : هو الجملةُ مِنْ قوله : « يَرْزُقُكم » . والثاني : أنه محذوفٌ تقديرُه : لكم ونحوُه ، وفي « يَرْزُقكم » على هذا وجهان ، أحدهما : أنَّه صفةٌ أيضاً ل « خالق » فيجوزُ أن يُحْكَمَ على موضعِه بالجرِّ اعتباراً باللفظ ، وبالرفعِ اعتباراً بالموضع . والثاني : أنه مستأنفٌ.
وقرأ الباقون بالرفع . وفيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها : أنه خبرُ المبتدأ . والثاني : أنه صفةٌ ل « خالق » على الموضعِ . والخبرُ : إمَّا محذوفٌ ، وإمَّا « يَرْزُقُكم » . والثالث : أنه مرفوعٌ باسم الفاعل على جهةِ الفاعليةِ؛ لأنَّ اسمَ الفاعلِ قد اعْتَمَدَ على أداةِ الاستفهام . إلاَّ أنَّ الشيخَ تَوَقَّفَ في مثلِ هذا؛ من حيث إنَّ اسم الفاعل وإن اعتمدَ ، إلاَّ أنه لم تُحْفَظْ فيه زيادةُ « مِنْ » قال : « فيُحتاج مثلُه إلى سَماعٍ » ولا يَظهرُ التوقُّف؛ فإنَّ شروط الزيادةِ والعملِ موجودةٌ . وعلى هذا الوجهِ ف « يَرْزُقُكم » : إمَّا صفةٌ أو مستأنَفٌ . وجَعَل الشيخُ استئنافَه أَوْلَى قال : « لانتفاءِ صِدْقِ » خالق « على » غير الله « بخلافِ كونِه صفةً فإنَّ الصفةَ تُقَيِّد ، فيكون ثَمَّ خالقٌ غيرُ اللَّهِ لكنه ليس برازق ».
وقرأ الفضل بن إبراهيم النَّحْوِيُّ « غيرَ » بالنصبِ على الاستثناء . والخبر « يَرزُقكم » أو محذوفٌ و « يَرْزُقكم » مستأنفٌ ، أو صفةٌ . وقوله : { لاَ إله إِلاَّ هُوَ } مستأنفٌ.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/262)


(فَأنَّى تُؤفكُونَ).
أي من أين يقع لكم الإفْكُ والتكذيب بتوحيد اللَّه وإنكار البعث.
* * *
(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4)
هذا تَأسٍّ للنبي - صلى الله عليه وسلم - أعلمه الله أَنه قد كُذِبَت رُسُلْ من قبله ، وَأَعْلَمَهُ أنه نَصَرَهُمْ فقال جلَّ وعزَّ ، (فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا).
ْ(وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ).
وتَرْجِعُ الأمُورُ ، المعنى الأمْرُ رَاجعْ إلى اللَّه في مجازاة من
كذَّبَ ، ونُصْرةِ من كُذِّب مِن رُسُلِهِ.
* * *
وقوله : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5)
أي ما وعدكم اللَّه من مجازاة فحق.
(فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا).
أي وإنْ كان لكم حظ في الدنيا يَغُضُّ مِنْ دِينِكُمْ فلا تؤثروا ذلك
الحظَّ.
(وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ).
والغَرُورُ : الشيطانُ ، ويَقْرَأُ الغُرورُ بضم الغَيْنِ ، وَهِيَ الأبَاطِيلُ
ويجوز أن يكون الغُرور : جمع غَاز وغُرور ، مثل قاعد وقُعُود ، ويجوز أن
يكون جمع غَرٍّ مَصدَرُ غَرَرْتُه غَرًّا.
فَأما أَن يكون مصدر غررته غُروراً

(4/263)


فبعيد . لأن المتعدية لا تكاد تقع مصادِرَهَا عَلى فُعُول ، وقد جاء
بعضها على فُعُول نحو لزمته لزوماً ، وَنَهِكَه المرض نُهُوكاً فيجوز غررته
غُروراً على ذلك.
* * *
وقوله تعالى : (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8)
الجواب هَهُنَا عَلَى ضَرْبَيْن :
أحدهما يدل عليه (فَلَا تَذْهَب نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ).
ويكون المعنى أفمن زين له سوء عمله فأضله اللَّه ذهبت نفسك عَلَيْه حَسْرةً ، ويكون " فلا تذهب نفس "ا يدل عليه.
وقد قرئت " فلا تُذْهبْ نَفْسَكَ " بضم التاء وجزم الباء ونصب النفس . ويجوز أن يكون الجواب محذوفاً ويكون المعنى : أفمن زُيِّن له سوء عمله كمن
هداه اللَّه ، ويكون دليله (فإن اللَّه يضل من يشاء ويهدي من يشاء).
* * *
وقوله : (وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9)
(فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيْتٍ) و (مَيِّتٍ)
(فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ)
أَيْ نُنْشِى
المعنى مثل ذلك ، أي مثل إحْيَاءِ الأرْض ، وكذلك بعثكم.
* * *
(مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10)
أي من كان يريد بعبادته غير اللَّه العزةَ فلله العزة جميعاً ، أي
في حال اجْتِمَاعِها ، أي يجتمع له في الدنيا والآخرة.
ثم بين كيف يَعِز باللَّهِ فقال :

(4/264)


(إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ).
أي إليه يصل الكلم الذي هو توحيد اللَّه ، وَهُوَ قَوْلُ لَا إلَه ألا اللَّهُ
والعمل الصالِحُ يَرْفَعُه.
المعنى إذَا وَحَّدَ اللَّهَ وعجل بِطَاعَتِه ارْتَفَع ذَلِكَ إلى اللَّه ، واللَّه - عزَّ - وجل - يرتفع إليه كل شيء ويعلم كل شيء.
ولكن المعنى فيه ههنا العمل الصالح هو الذي يرفع ذكر التوحيد حتى
يكون مُثَبِّتاً للمُوَحِّدِ حقيقة التوحيد.
والضمير في (يرفعه) يجوز أن يكون أَحَدَ ثلاثة أشياء ، وذلك قول أهل اللغة جميعاً ، فيكون والعمل الصالح يرفع الكلمَ الطيبَ ، ويجوز أن يكون والعمل الِصالح يرفعه الكلم الطيب ، أي لا يقبل العمل الصالح إلا من مُوَحِّدٍ ، والقول الثالث أن يرفعه الله عزَّ وجلَّ.
* * *
(وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ).
المعنى مكرُ الذين يمكرون بالنبي - صلى الله عليه وسلم -.
(هُوَ يَبُورُ).
أَيْ يَفْسُدُ ، وقد بين ما مكرهم في سورة الأنفال ، في قوله :
(وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ).
ففسد جميع مكرهم فجعل اللَّه كلمة نبيِّه وأوليَائِه العُلْيَا ، وَأَيديَهم
العَالِيةَ بالنصر والحجة.
* * *
(وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11)
(وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ).
وقرئت يَنْقُصُ.
ويجوز " وَمَا نُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا نَنْقُصُ " بالنون جَمِيعاً ولَكِنهُ لم يقرأ بها فيما بلغني ، فلا تقرأنَّ بها . وتأويل الآية أن

(4/265)


الله جلَّ وعزَّ قد كتب عُمَرَ كُلِ مُعَمَّر وكتب يُعَمَّر كذا وكذا سنةً وكذا
وكذا شهرا ، وكذا وكذا يَوْماً ، وكذا وكذا ساعةً ، فكل ما نَقَصَ مِنْ
عُمْره من سنة أو شهر أو يوم أو ساعةٍ كتب ذلك حتى يبلغ أَجَلَهُ.
* * *
(وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12)
ْالفُرَاتُ المبالِغُ في العُذُوبَةِ.
(وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ).
الأجاج الشديد المرارة ، والأجاج أيضاً الشديدُ الحَرَارَةِ.
(وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا).
وإنما تستخرج الحلية مِنَ المِلْح دُونَ العذْبِ ، إلا أنهما لما كانا
مُخْتَلِطَ يْنِ العَذْبُ والمِلْحُ ، جاز أن يقال تستخرجون الحلية - وهي
اللؤلؤ والمَرْجَانُ وما أشبه ذلك مِنْهُمَا - كما قال : (يخرج منهما اللؤلؤ
والمُرجَانُ).
(وَتَرَى الفُلْكَ فيه مَوَاخِرَ).
المعنى في مواخر تشق الماء.
وجاء في التفسير أنها تُصَاعِدُ وَتَنْحَدِرُ في البَحْرِ بريح وَاحِدَةٍ.
والفُلْكُ جمع فُلْكٍ - لفظ الواحد كلفظ الجمع لأن فُعْلًا جمع فَعَل نحو أَسَدٍ وَأسْدٍ ، وَوَثَنٍ وَوُثْن ، فكذلك جَمْعُ فُعْل لأنهما أخْتَانِ في الجمع ، تقول : جَبَل وأَجْبَال ، وَقُفْل وأقفال ، وكذلك أسد وآسَاد . وفُلْك للواحد وفُلْكٌ للجَمْاعَةِ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13)).
وهي لُفَافَة النواة ، والنقير النقرةُ فِي ظَهْرِ النواةِ ، والفتيل الذي
في وَسَطِ النَّوَاةِ .

(4/266)


(إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)
(وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ)
المعنى يقولون : ما كنتم إيَّانَا تَعْبُدُونَ ، فيكفرون بِعِبَادَتِكم إيَّاهُمْ
(وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ).
وهو اللَّه ، لأن ما أَنبأ اللَّه بِه مِما يَكُون فهو وحدَه يخْبُرُهُ ، لا
يَشْرَكُه فِيه أَحَدٌ.
* * *
(وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18)
(وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا)
المعنى إن تدع نَفْسٌ مُثقَلة بالذنُوب إلى حِمْلِها ، إلى ذُنوبها ، لا
يُحْمَلْ مِنْ ذنوبها شيء.
(وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى).
أي ولو كان الذي تدعوه ذا قربى مثل الأب والابن ، ومن أشبه
هؤلاء.
* * *
(إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ).
فتأويل " تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ " - وهو النبي - صلى الله عليه وسلم - تنذر الخلق أَجْمَعِين ، والمعنى . ههنا أَن إنْذَارَك ينفع الذين يخشون رَبَّهُمْ.
* * *
(وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21)
هذا مثل ضَربه اللَّه للمؤمنين والكافرين ، المعنى لا يستوي
الأعمى عن الحق وهو الكافر ، والبصير بالحق وهو المؤمِنُ الذي يبصر
رَشْدَه.
وَلاَ الظلُمَاتُ وَلاَ النُّورُ ، الظلمات الضلالات ، والنور الهدي
(وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ)
المعنى لا يستوي أصحاب الحق الذين هم في

(4/267)


ظِلٍّ من الحَق ، ولا أصحاب الباطل الذين هم في حَرُورٍ أي في حَرٍّ
دَائمٍ لَيْلاً ونهاراً.
والحَرُورُ استيقاد الحرِّ ولفحه بالنهار وبالليل.
والسَّمُومُ لا يكون إلَّا بالنَّهَارِ (1).
* * *
(وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22)
الأحياء هم المؤمنون ، والأموات الكافرونَ ، ودليل ذلك قوله
(أَمْوَاتٌ غَيرُ أحياءٍ).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا).
قال عمر بن الخطاب - رحمه اللَّه - يرفعُهُ : سابقنا سابق.
وَمُقْتَصِدُنَا نَاجٍ ، وظالمنا مَغْفُورٌ لَهُ.
والآية تدل على أن المؤمنين مغفور لهم ، لمقتصدهم الظالِم
لِنَفْسِهِ منهم بعد صحة العقد.
وقد جاء في التفسير أن قوله : (فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ) الكَافِرُ وهو قول ابن عباس ، وَقَد رُوِيَ عنِ الحَسَنِ أَنَه الْمُنَافِقُ.
واللفظ يدل على ما قاله عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وَمَا عليه أَكْثَرُ المفسرِينَ ، لأن قوله : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ) يدل على أن جملة المصطَفَيْنَ هؤلاء.
وقال اللَّه - عزَّ وجلَّ - (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى).
* * *
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27)
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { وَمَا يَسْتَوِي الأعمى والبصير } : استوى من الأفعال التي لا يُكْتَفَى فيها بواحدٍ لو قلت : « استوى زيدٌ » لم يَصِحَّ ، فمِنْ ثَمَّ لَزِمَ العطفُ على الفاعلِ أو تعدُّدُه.
و « لا » في قوله : « ولا الظلماتُ » إلى آخره مكررةٌ لتأكيدِ النفيِ . وقال ابنُ عطية : « دخولُ » لا « إنما هو على نيةِ التَّكْرارِ ، كأنه قال : ولا الظلماتُ والنورُ ، ولا النورُ والظلماتُ ، فاسْتُغْني بذِكْرِ الأوائل عن الثواني ، ودَلَّ مذكورُ الكلامِ على مَتْروكِه » . قال الشيخ : « وهذا غير مُحْتاجٍ إليه؛ لأنه إذا نُفِي اسْتواؤُهما أولاً فأيُّ فائدةٍ في نَفْي اسْتوائِهما ثانياً » وهو كلامٌ حَسَنٌ إلاَّ أنَّ الشيخَ هنا قال : « فدخولُ » لا « في النفيِ لتأكيدِ معناه ، كقوله : { وَلاَ تَسْتَوِي الحسنة وَلاَ السيئة } [ فصلت : 34 ] . قلت : وللناسِ في هذه الآيةِ قولان ، أحدهما : ما ذُكِر . الثاني : أنها غيرُ مؤكِّدة؛ إذ يُراد بالحسنةِ الجنسُ ، وكذلك » السيئة « فكلُّ واحدٍ منهما متفاوتٌ في جنسِه؛ لأنَّ الحسناتِ درجاتٌ متفاوتةٌ ، وكذلك السَّيئاتُ ، وسيأتي لك تحقيقُ هذا إنْ شاء اللَّهُ تعالى . فعلى هذا يمكنُ أَنْ يُقالَ بهذا هنا : وهو أنَّ المرادَ نَفْيُ استواءِ الظلماتِ ونَفْيُ استواءِ جنسِ النورِ ، إلاَّ أنَّ هذا غيرُ مُرادً هنا في الظاهر ، إذ المرادُ مقابَلَةُ هذه الأجناسِ بعضِها ببعضٍ لا مقابلةُ بعضِ أفرادِ كلِّ جنسٍ على حِدَتِه . ويُرَجِّح هذا الظاهرَ التصريحُ بهذا في قوله أولاً : { وَمَا يَسْتَوِي الأعمى والبصير } حيث لم يُكرِّرْها . وهذا من المواضعِ الحسنةِ المفيدة.
والحَرُوْرُ : شدةُ حَرِّ الشمس . وقال الزمخشري : » الحَرورُ السَّمُوم ، إلاَّ أنَّ السَّمومَ بالنهارِ ، والحَرورَ فيه وفي الليل « . قلت : وهذا مذهبُ الفراءِ وغيرِه . وقيل : السَّمومُ بالنهار ، والحَرورُ بالليل خاصةً ، نقله ابنُ عطية عَن رؤبةَ . وقال : » ليس بصحيحٍ ، بل الصحيحُ ما قاله الفراءُ « . وهذا عجيبٌ منه كيف يَرُدُّ على أصحاب اللسانِ بقولِ مَنْ يأخذُ عنهم؟ وقرأ الكسائي في روايةِ زاذانَ عنه » وَمَا تَسْتَوِي الأحيآء « بالتأنيث على معنى الجماعة.
وهذه الأشياءُ جيْءَ بها على سبيلِ الاستعارةِ والتمثيلِ ، فالأعمى والبصيرُ ، الكافرُ والمؤمنُ ، والظلماتُ والنورُ ، الكفرُ والإِيمان ، والظلُّ والحَرورُ ، الحقُّ والباطلُ ، والأحياء والأمواتُ ، لمَنْ دَخَل في الإِسلامِ لَمَّا ضَرَبَ الأعمى والبصيرَ مَثَلَيْن للكافرِ والمؤمنِ عَقَّبَه بما كلٌّ منها فيه ، فالكافرُ في ظلمةٍ ، والمؤمنُ في نورٍ؛ لأنَّ البصيرَ وإن كان حديدَ النظر لا بُدَّ له مِنْ ضوءٍ يُبْصِرُ به ، وقَدَّم الأعمى لأنَّ البصيرَ فاصلةٌ فَحَسُنَ تأخيره ، ولمَّا تقدَّم الأعمى في الذكر ناسَبَ تقديمَ ما هو فيه ، فلذلك قُدِّمَتِ الظلمةُ على النور ، ولأنَّ النورَ فاصلةٌ ، ثم ذَكَر ما لكلٍّ منهما فللمؤمنِ الظلُّ وللكافرِ الحَرورُ ، وأخّر الحرورَ لأجلِ الفاصلةِ كما تقدَّم.
وقولي « لأجلِ الفاصلةِ » هنا وفي غيرِه من الأماكنِ أحسنُ مِنْ قولِ بَعْضِهم لأجلِ السَّجْع؛ لأنَّ القرآن يُنَزَّه عن ذلِك . وقد منع الجمهورُ/ أَنْ يُقال في القرآن سَجْعٌ ، وإنما كرَّر الفعلَ في قوله : { وَمَا يَسْتَوِي الأحيآء } مبالغةً في ذلك؛ لأنَّ المنافاةَ بين الحياةِ والموتِ أتمُّ من المنافاةِ المتقدمةِ ، وقدَّم الإِحياءَ لشرفِ الحياةِ ولم يُعِدْ « لا » تأكيداً في قولِه : « الأَعمى والبصير » وكرَّرها في غيره؛ لأنَّ منافاةَ ما بعدَه أتمُّ ، فإن الشخصَ الواحدَ قد يكونُ بصيراً ثم يصيرُ أَعْمى ، فلا منافاةَ إلاَّ من حيث الوصفُ بخلافِ الظلِّ والحرورِ ، والظلماتِ والنور ، فإنها متنافيةٌ أبداً ، لا يَجْتمع اثنان منها في محلّ ، فالمنافاةُ بين الظلِّ والحرورِ وبين الظلمةِ والنورِ دائمةٌ.
فإنْ قيل : الحياةُ والموتُ بمنزلةِ العمى والبصرِ ، فإنَّ الجسمَ قد يكون مُتَّصفاً بالحياةِ ثم يتصفُ بالموت . فالجواب : أنَّ المنافاةَ بينهما أتمُّ من المنافاةِ بين الأعمى والبصيرِ؛ لأنَّ الأعمى والبصيرَ يشتركان في إدراكات كثيرةٍ ، ولا كذلكَ الحيُّ والميت ، فالمنافاةُ بينهما أتمُّ ، وأفردَ الأعمى والبصيرَ لأنَّه قابلَ الجنسَ بالجنسِ ، إذ قد يُوْجد في أفراد العُمْيان ما يُساوي بعضَ أفرادِ البُصَراءِ كأعمى ذكي له بصيرةٌ يُساوي بصيراً بليداً ، فالتفاوتُ بين الجنسين مقطوعٌ به لا بين الأفراد.
وجَمَعَ الظلماتِ لأنها عبارةٌ عن الكفرِ والضلالِ ، وطرقُهما كثيرةٌ متشعبةٌ ، ووحَّد النورَ لأنه عبارةٌ عن التوحيدِ وهو واحدٌ ، فالتفاوتُ بين كلِّ فردٍ مِنْ أفرادِ الظلمة ، وبين هذا الفردِ الواحد . والمعنى : الظلماتُ كلُّها لا تجدُ فيها ما يساوي هذا الواحدَ كذا قيل . وعندي أنه ينبغي أَنْ يُقال : إن هذا الجمعَ لا يُساوي هذا الواحدَ فيُعْلَمُ انتفاءُ مساواةِ فردٍ منه لهذا الواحدِ بطريقِ الأَوْلى ، وإنما جَمَع الأحياءَ والأمواتَ لأنَّ التفاوتَ بينهما أكثرُ؛ إذ ما من ميتٍ يُساوي في الإِدراك حيَّاً ، فذكَرَ أنَّ الأحياءَ لا يُساوون الأموات سواءً قابَلْتَ الجنسَ بالجنسِ ، أم الفردَ بالفرد. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/268)


(وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا).
جُدَدٌ جمع جُدَّة ، وهي الخطَّةُ والطريقَةُ ، قال امرؤ القيس
كأَن سَراتَهُ وجُدَّةَ مَتْنِه . . . كنائِنُ يَجْرِي فَوقَهُنَّ دَلِيصُ (1)
" جُدَّةَ مَتْنِه " الخطَّة السوداء التي تراها في ظَهْرِ حِمارِ الوَحْشِ.
وكل طريقةٍ جادَّة وجُدَّة.
(وَغَرَابِيبُ سُودٌ).
أي ومن الجبال غَرابِيبُ وهي الحِرَارُ ، الجبال التي هيْ ذات
صُخورٍ سُودٍ . والغِرْبِيبُ الشديد السوادِ (2).
* * *
(وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)
المعنى وفيما خلقنا مختلف ألوانه ، ومن الناس والدواب
والأنْعَامِ كذلك أي كاختلاف الثمرات والجبال.
(إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ).
أي من كان عالماً باللَّهِ اشتدت خشيته له.
وجاء في التفسير كفى بخشية الله عِلْماً ، وبالاغْتِرَارِ بِاللَّه جَهْلاً.
* * *
(إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29)
(يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ).
أي لَنْ تَفْسُدَ وَلَنْ تَكْسَدَ.
* * *
(لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30)
غفور لذنُوبِهم شكور لِحَسنَاتِهِمْ.
__________
(1) الدليص - الريق - والجدد جمع جُدَّة - الخطة السوداء في متن الحمار - والسراة أعلى متنه ، وهو الخط فوق العمود الفقري منه ، والبيت في اللسان (دلص - جدد).
(2) قال السَّمين :
قوله : { وَمِنَ الجبال جُدَدٌ } العامَّةُ على ضمِّ الجيمِ وفتح الدالِ ، جمعَ « جُدَّة » وهي الطريقةُ . قال ابن بحر : « قِطَعٌ ، مِنْ قولك : جَدَدْت الشيءَ قَطَعْتُه » . وقال أبو الفضل : « هي ما تخالَفَ من الطرائق لونُ ما يليها ، ومنه جُدَّة الحِمارِ للخَطِّ الذي في ظهرِه . وقرأ الزهري » جُدُد « بضم الجيم والدال جمع جَدِيْدَة ، يقال : جديدة وجُدُد وجَدائد . قال أبو ذُؤيب :
3765 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . جَوْنُ السَّراةِ له جَدائدُ أربعُ
نحو : سفينة وسُفُن وسفائِن . وقال أبو الفضل : » جمع جديد بمعنى آثار جديدة واضحة الألوان « . وعنه أيضاً جَدَد بفتحهما . وقد رَدَّ أبو حاتمٍ هذه القراءةَ من حيثُ الأثرُ والمعنى ، وقد صَحَّحهما غيرُه . وقال : الجَدَدُ : الطريق الواضح البيِّن ، إلاَّ أنه وضع المفرَد موضعَ الجمعِ؛ إذ المرادُ الطرائقُ والخطوطُ.
قوله : » مختلِفٌ ألوانُها « » مختلف « صفةٌ ل » جُدَد « أيضاً . و » ألوانُها « فاعلٌ به كما تقدَّم في نظيره . ولا جائزٌ أَنْ يكونَ » مختلفٌ « خبراً مقدماً ، و » ألوانُها « مبتدأٌ مؤخرٌ ، والجملةُ صفةٌ؛ إذ كان يجبُ أَنْ يُقال : مختلفةٌ لتحمُّلِها ضميرَ المبتدأ . وقوله : / » ألوانُها « يحتمل معنيين ، أحدهما : أنَّ البياضَ والحمرةَ يتفاوتان بالشدة والضعفِ فرُبَّ أبيضَ أشدُّ من أبيضَ ، وأحمرَ أشدُّ مِنْ أحمرَ ، فنفسُ البياضِ مختلفٌ ، وكذلك الحمرةُ ، فلذلك جَمَع » ألوانها « فيكونُ من باب المُشَكَّل . الثاني : أن الجُدَدَ كلَّها على لونين : بياضٍ وحُمْرَةٍ ، فالبياضُ والحُمْرَةُ وإنْ كانا لونَيْن إلاَّ أنهما جُمِعا باعتبارِ مَحالِّهما.
وقوله : » وغَرابيبُ سُوْدٌ « فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها : أنه معطوفٌ على » حمرٌ « عَطْفَ ذي لون على ذي لون . الثاني : أنه معطوفٌ على » بِيضٌ « . الثالث : أنه معطوفٌ على » جُدَدٌ « . قال الزمخشري : » معطوف على « بيض » أو على « جُدَد » ، كأنه قيل : ومن الجبالِ مخططٌ ذو جُدَد ، ومنها ما هو على لونٍ واحد « ثم قال : » ولا بُدَّ من تقديرِ حذفِ المضافِ في قوله : { وَمِنَ الجبال جُدَدٌ } بمعنى : ومن الجبالِ ذو جُدَدٍ بيضٍ وحمرٍ وسُوْدٍ ، حتى يَؤُول إلى قولِك : ومن الجبالِ مختلفٌ ألوانها ، كما قال : { ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا }.
ولم يذكُرْ بعد « غرابيب سود » « مختلفٌ ألوانُها » كما ذكر ذلك لك بعد بيض وحُمْر؛ لأنَّ الغِرْبيبَ هو المبالِغُ في السوادِ ، فصار لوناً واحداً غيرَ متفاوتٍ بخلافِ ما تقدَّم «.
وغرابيب : جمعُ غِرْبيب وهو الأسودُ المتناهِي في السوادِ فهو تابعٌ للأسودِ كقانٍ وناصعٍ وناضِرٍ ويَقَق ، فمِنْ ثَمَّ زعَم بعضُهم أنه في نيةِ التأخير ، ومِنْ مذهبِ هؤلاءِ يجوز تقديمُ الصفةِ على موصوفِها ، وأنشدوا :
3766 والمُؤْمِن العائذاتِ الطير . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
يريد : والمؤمنِ الطيرَ العائذات ، وقولَ الآخر :
3767 وبالطويلِ العُمْرِ عُمْراً حَيْدَراً . . . يريد : وبالعمر الطويل . والبصريُّون لا يَرَوْن ذلك ويُخَرِّجُون هذا وأمثالَه على أنَّ الثاني بدلٌ من الأول ف سود والطير والعمر أبدالٌ مِمَّا قبلها . وخَرَّجه الزمخشريُّ وغيرُه على أنه حَذَفَ الموصوفَ وقامَتْ صفتُه مقامَه ، وأن المذكورَ بعد الوصفِ دالٌّ على الموصوفِ . قال الزمخشري : » الغِرْبيبُ : تأكيدٌ للأَسْوَدِ ، ومِنْ حَقِّ التوكيدِ أَنْ يَتْبَعَ المؤكِّد كقولك : أصفَرُ فاقِعٌ وأبيضٌ يَقَقٌ . ووجهه : أَنْ يُضْمَرَ المؤكَّدُ قبلَه ، فيكون الذي بعده تفسيراً لِما أُضْمِر كقوله :
والمؤمِنِ العائذاتِ الطيرِ . . . . . . . . . . . . . . . . . . وإنما يُفْعَلُ ذلك لزيادةِ التوكيدِ حيث يدلُّ على المعنى الواحد من طريقَيْ الإِظهار والإِضمار « يعني فيكونُ الأصلُ : وسودٌ غرابيبُ سودٌ ، والمؤمنُ الطيرَ العائذاتِ الطيرَ . قال الشيخ : » وهذا لا يَصِحُّ إلاَّ على مذهب مَنْ يُجَوِّز حَذْفَ المؤكَّد . ومن النحويين مَنْ مَنَعَه وهو اختيارُ ابنِ مالك « . قلت : ليس هذا هو التوكيدَ المختلفَ في حَذْفِ مؤكَّدهِ؛ لأنَّ هذا من باب الصفة والموصوف . ومعنى تسميةِ الزمخشريِّ لها تأكيداً من حيث إنها لا تفيد معنًى زائداً ، إنما تفيدُ المبالغةَ والتوكيدَ في ذلك اللونِ ، والنَّحْويون قد سَمَّوا الوصفَ إذا لم يُفِدْ غيرَ الأولِ تأكيداً فقالوا : وقد يجيْءُ لمجرِد التوكيد نحو : نعجةٌ واحدةٌ ، وإلهين اثنين ، والتوكيدُ المختلفُ في حَذْف مؤكَّده ، وإنما هو من باب التوكيدِ الصناعي ، ومذهب سيبويه جوازُه ، أجاز » مررت بأخويك أنفسُهما ( أنفسَهما) « بالنصب أو الرفع ، على تقدير : أَعْنيهما أنفسَهما ، أو هما أنفسُهما فأين هذا من ذاك؟ إلاَّ أنه يُشْكِلُ على الزمخشري هذا المذكورُ بعد » غَرابيب « ونحوِه بالنسبة إلى أنه جعله مُفَسِّراً لذلك المحذوفِ ، وهذا إنما عُهِد في الجملِ ، لا في المفرداتِ ، إلاَّ في باب البدل وعَطف البيانِ فبأيِّ شيءٍ يُسَمِّيه؟ والأَوْلَى فيه أن يُسَمَّى توكيداً لفظياً؛ إذ الأصلُ : سود غرابيب سود. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/269)


(جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33)
فيها وجهانْ :
أحدُهُما يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ ومِنْ لؤلُؤٍ.
ويجوز ولؤلُؤاً على مَغْنَى يحلون أساورَ ، لأن معنى من أَساوِرَ كمعنى
أَسَاورَ . والتفسير على الخفض أكثر ، على معنى يحلون فيها من أَسَاوِرَ
مِنْ ذَهبٍ ولؤلُؤٍ.
وجاء في التفسير أَن ذَلِكَ الذهَبَ في صَفاءِ اللؤلُؤِ ، كما قال عزَّ وجلَّ : (قواريرَ قواريرَ من فضة) ، أي هي قوارير ولكن بياضها كبياض الفضةِ ، والفضة أَصْلُه.
وَيَجُوزُ أَنْ يكون يُحَلَّوْنَ مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ، وَيُحَلَّوْنَ من لؤلُؤٍ.
ويجوز على مَعْنَى وَيُحَلَّوْنَ لؤلُؤاً.
وأساور جمعُ إسْوِرَة وَأَساوِر وَوَاحِدُهَا سِوَار . والأسْوَارُ من أَساوِرَةِ
الفُرْس ، وَهُوَ الجيِّدُ الرمْي بالسهام.
قال الشاعر :
وَوَتَّرَ الأَسَاوِرُ القِياسَا . . . صُغْدِيَّةً تَنْتَزِعُ الأَنْفاسَا
* * *
(وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34)
ويجوز الحُزْن مثل الرُّشْد والرَّشَد ، والعُرْبُ والعَرَب ، ومعنى
أذهب عنا الحَزَنَ أذهب عنا كل ما يُحْزِنُ ، من حُزْنٍ في مَقَاسٍ.
وحُزْنٍ لِعَذابٍ ، أَوْ حُزْنٍ للمَوْتِ ، وقد أذهب اللَّه عن أهل الجنةِ كُل حُزْنٍ.
* * *
(الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35)

(4/270)


مثل الإقامة ، تقول : أقمت بالمكان إقامة ومقامةً ومُقَاماً أي أَحَلَّنا
دار الخُلُودِ من فَضْله ، أي ذلك بتفضله لا بأعْمَالِنَا.
(لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ) : أي تَعَب.
(وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ).
واللغُوب الِإعياء من التعَب.
وقد قرأ أبو عبد الرحمن السُّلَّمِي
لَغُوب - بفتح اللام - والضمُّ أكثر ، ومعنى لَغُوب شيء يَلْغَبُ مِنه ، أي
لا نتكلف شيئاً نَعْيَا مِنْهُ.
* * *
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36)
(فَيَمُوتُوا) نصب ، وعلامة النصب سقوط النون ، وهو جواب النفي.
والمعنى لا يقضى عليهم الموت فيموتوا.
(وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا).
أي من عذاب نار جهنَّمَ.
(كَذَلِكَ يُجْزَى كُلُّ كَفُورٍ).
و (نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ).
وفيها وجه ثالث : (كذَلِكَ يَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ) ، أي كذلك يجزي اللَّهُ.
المعنى مثلَ ذلك الجزاء الذي ذكرنا.
ولا أَعْلَم أَحَداً قرأ بها ، أعني يجزي بالياء وفتحها.
* * *
(وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37)
يستغيثون رَبَّنَا أَخْرِجْنَا.
المعنى يقولون : (رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ).
المعنى إن تخرجنا نعمَلْ صَالِحاً ، فوبَّخَهُمُ اللَّهُ فقال :
(أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ).

(4/271)


معناه أَوَ لَمْ نُعَمِّرْكم العُمْرَ الذي يتذكر فيه من تذكر.
وجاء في التفسير : لَقَدْ أَعْذَرَ اللَّه إلى عَبْدٍ عَمَّرهُ ستين سنةً.
ويقال من الستين إلى السبعين.
وقد جاء في التفسير أنه يدخل فيها ابنُ سبعَ عَشْرَةَ سَنة وقد قيل أربعين.
(وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ).
يعنى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقيل الشيْبُ.
والقولُ الأول أن النبي - صلى الله عليه وسلم - النذيرُ
أكثرُ التفسير عليه ، وقد قيل الأربعين.
* * *
(إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (38)
القراءة الكثيرة بالخفض ويجوز عالمٌ غيبَ السَّمَاوَات على
معنى يعلم ، وعالمٌ غيبَ على معنى قد علم ذلك.
* * *
(هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا (39)
" خلائف " جمع خليفة ، المعنى جَعَلَكُمْ أُمَّةً خلفت مَنْ قبلها -
ورأت وشاهدت فيمن - سلف ما ينبغي أن يعتبر به.
(فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُه).
المعنى فعليه جزاء كفره.
(وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا).
المقت أشدُّ الإبغاض.
(قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا (40)
(قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ)
معناه قل أَخْبِروني عن شركائكم .

(4/272)


(مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ).
المعنى بأي شيء أوجبتم لهم شركة اللَّه ، أبخلق خلقوه من
الأرض (أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاواتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً).
أي أم أعطيناهم كتاباً بما يدعونه من الشركة.
(فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ).
ويقرأ (بَيِّنَاتٍ).
(بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا).
والغرور الأباطِيلُ التي تغُرُّ.
ومعنى إن يعد : ما يعد ، و (بَعْضُهُمْ) بَدَلٌ مِنَ الظالمين.
* * *
(إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41)
معنى يمسك يمنع السماوات والأرض من أن تزولا.
ولما قالت النصارى المسيحُ ابن اللَّه وقالت اليَهُودُ عُزَيْرٌ ابنُ اللَّهِ
كادت السَّمَاوَات يَتَفَطرْنَ منه ، وكادَت الجبال تَزُول ، وكادت الأرض
تنشق ، قال اللَّه : (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89).
الثلاث الآيات فأمسكها اللَّه.
وقال السماواتِ والأرْضَ ؛ لأن الأرْضَ تَدُلُ عَلَى الأرَضِينَ
(وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ).
يحتمل هذا - واللْه أعلم - وجهين من الجواب :
أحدهما زوالهما

(4/273)


في القيامة قال اللَّه : (وَإذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ)
ويحتمل أن يقال إن زالتا وهما لا يزولان.
وقوله في هذا الموضع : (إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا).
فإن قوماً سألوا فقالوا : لِمَ كان في هذا الموضع ذكرُ الحلم
والمَغْفِرَةِ وهذا موضع يدل على القدرة ؟
فالجواب في هذا أنه لما أمسك السَّمَاوَات والأرض عند قولهم : (اتَخَذَ الرحْمَنُ وَلَداً).
حَلُمَ فلم يعجل لهم بالعقوبة وأمسك السماوات والأرضَ أن تزولا من عظم
فِرْيَتِهِمْ.
* * *
(وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42)
يعني المشركين ، وكانوا حَلَفْوا واجتهدوا (لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ) أي من اليهود والنصارى وغَيرِهِمْ.
(فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ).
وهو محمد - صلى الله عليه وسلم -.
(مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا).
إلا أن نفروا عن الحقِّ.
* * *
(اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43)
" استكباراً " نصبٌ ، مفعول له.
المعنى ما زادهم إلا أَنْ نَفَرُوا للاستكبار . .

(4/274)


اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43)
(وَمَكْرَ السَّيِّئِ).
أي وَمَكْرَ الشرك.
(وَلَا يَحِيقُ) يُحِيطُ.
وقرأ حمزَةُ : (وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئْ) - على الوقف ، وهذا عند
النحويين الحذَّاقِ لَحْنٌ ، ولا يجوز ، وإنما يجوز مثله في الشعر في
الاضطرار
قال الشاعر :
إذا اعْوَجَجْنَ قلتُ صاحِبْ قَوِّمِ
ْوالأصل يا صَاحِبُ قَوِّمِ ، ولكنه حذف مُضْطَراً.
وكانَّ الضم بعدَ الكَسْرِ والكسر بعدَ الكسر يستثقل.
وأنشدوا أيضاً.
فاليومَ أَشْرَبْ غيرَ مُسْتَحْقِب . . . إِثْماً من الله ولا وَاغِلِ
وهذان البيتان قد أنشدهما جميع النحويين المذكورين وزعموا
كلهم أن هذا من الاضطرار في الشعر ولا يجوز مثله في كتاب اللَّه.
وأنشدناهما أبو العباس محمد بن يزيد رحمه اللَّه
إذا اعْوَجَجْنَ قلتُ صاحِ قَوِّمِ
وهذا جيِّدٌ بالغ ، وأنشدنا :
فاليوم فَاشْرَبْ غَيرَ مستحقب
وأما ما يروى عن أبي عمرو بن العلاء في قراءته إلى بَارِئْكُم.
فإنما هو أن يختلس الكسر اختلاساً ، ولا يَجْزِم بَارِئِكم ، وهذا أعني

(4/275)


جزم بارئكم إنما رواه عن أبي عمرو من لا يضبط النحو كضبط سيبويه
والخليل ، ورواه سيبويه باختلاس الكسر ، كأنَّه تقلَّلَ صَوْته عند
الكسرة (1).
* * *
(فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ).
معناه فهل ينتظرون إلا مثلَ أيام الَّذِينَ خَلَوْا من قَبْلِهِمْ.
والمعنى فهل ينتظرون إلا أن ينزل بهم من العذاب مثلُ الذي نزل بمن قبلهم.
* * *
(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا (44)
(وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ).
المعنى لَيفُوتَه من شيء من أَمْر السماوات ولا مِنْ أَمْرِ الأرْضِ.
* * *
(وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا
(45)
قالوا : قال (عَلَى ظَهْرِهَا) ، لأن المعنى يُعْلَم أنهُ على ظهر
الأرض ، وهذا حقيقتُه أَنَهُ قد جرى ذكر الأرض بقوله فيما قَبْلَ هذه
الآية يليها قوله : (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ) فلذلك جاء على ظهرها.
وقوله : (مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ).
فيه قولان :
فقيل مِن دَابَّةٍ من الإنس والجن وكل ما يعقل.
وجاء عن ابن مَسْعُودٍ كادَ الجُعَل يهلكُ في جُحْرِه لذَنْبِ ابن آدم.
فهذا يدل على العموم.
والذِي جاء أنه يُعْنَى به الإنسُ والجِنُّ كأنَّه أشبه ، واللَّهُ أعلم.
آخر سورة الملائكة.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { استكبارا } : يجوزُ أَنْ يكونَ مفعولاً له أي : لأجل الاستكبارِ ، وأَنْ يكونَ بدلاً مِنْ « نُفوراً » ، وأنْ يكونَ حالاً أي : حالَ كونِهم مُسْتكبرين . قاله الأخفش.
قوله : « ومَكْرَ السَّيِّئِ » فيه وجهان ، أظهرُهما : أنه عطفٌ على « استكباراً » . والثاني : أنه عطفٌ على « نُفوراً » وهذا مِنْ إضافة الموصوفِ إلى صفتِه في الأصلِ؛ إذ الأصلُ : والمكرَ السَّيِّئ . والبصريون يُؤَوِّلونه على حَذْفِ موصوفٍ/ أي : العمل السِّيِّئ.
وقرأ العامَّةُ بخفضِ همزةِ « السَّيِّئ » ، وحمزة والأعمش بسكونِها وَصْلاً . وقد تَجَرَّأتِ النحاةُ وغيرُهم على هذه القراءةِ ونسبوها لِلَّحْنِ ، ونَزَّهوا الأعمشَ عَنْ أَنْ يكونَ قرأ بها . قالوا : وإنما وَقَفَ مُسَكِّناً ، فظُنَّ أنه واصَلَ فَغُلِط عليه . وقد احتجَّ لها قومٌ آخرون : بأنه إجراءٌ للوَصْلِ مُجْرَى الوقفِ ، أو أَجْرى المنفصلَ مُجْرى المتصلِ . وحَسَّنه كونُ الكسرةِ على حَرْفٍ ثقيل بعد ياءٍ مشددةٍ مكسورةٍ . وقد تقدَّم أنَّ أبا عمروٍ يَقْرأ « إلى بارِئْكم » بسكونِ الهمزةِ . فهذا أَوْلَى لزيادةِ الثقلِ ههنا . وقد تقدَّمَ هناك أمثلةٌ وشواهدُ فعليك باعتبارِها . ورُوِيَ عن ابنِ كثير « ومَكْرَ السَّأْيِ » بهمزةٍ ساكنةٍ بعد السينِ ثم ياءٍ مكسورةٍ . وخُرِّجَتْ على أنها مقلوبةٌ من السَّيْئِ ، والسَّيْئُ مخففٌ من السَّيِّئ كالميْت من الميِّت قال الحماسي :
3773 ولا يَجْزُوْنَ مِنْ حَسَنٍ بسَيْءٍ . . . ولا يَجْزُون مِنْ غِلَظٍ بلِيْنِ
وقد كَثُر في قراءتِه القلبُ نحو « ضِئاء » و « تَاْيَسوا » و « لا يَاْيَسُ » كما تقدم تحقيقُه.
وقرأ عبد الله : « ومَكْراً سَيِّئاً » بالتنكيرِ ، وهو موافِقٌ لما قبلَه . وقُرِئ « ولا يُحيق » بضمِّ الياء ، « المكْرَ السَّيِّئَ » بالنصب على أنَّ الفاعلَ ضميرُ الله تعالى أي : لا يُحيط اللَّهُ المكرَ السيِّئَ إلاَّ بأهله. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
وقال أيضا في سورة البقرة ما نصُّهُ :
قوله : « إلى بارِئِكم » متعلِّقٌ ب « تُوبوا » والمشهورُ كَسْرُ الهمزة ، لأنها حركةُ إعرابٍ ، ورُوي عن أبي عمرو ثلاثةُ أوجهٍ أُخَرَ : الاختلاسُ ، وهو الإِتيانُ بحركةٍ خفيَّة ، والسكونُ المَحْضُ ، وهذه قد طَعَنَ عليها جماعةٌ من النحويين ، ونسبوا راويَها إلى الغَلَطِ على أبي عمرو ، قال سيبويه : « إنما اختلسَ أبو عمرو فظنَّه الروايَ سَكَّن ولم يَضْبِط » ، وقال المبردُ : « لا يجوزُ التسكينُ مع توالي الحركات في حرف الإِعراب في كلامٍ ولا شعر ، وقراءةُ أبي عمروٍ لَحْنٌ » وهذه جرأةٌ من المبرِّد وجَهْلٌ بأشعارِ العرب ، فإنَّ السكونَ في حركاتِ الإِعراب قد وَرَدَ في الشعرِ كثيراً ، ومنه قولُ امرئِ القيس :
فاليومَ أشربْ غيرَ مُسْتَحْقِبٍ . . . إثْماً مِن اللهِ ولا واغِلِ
فسكَّن « أَشْرَبْ » ، وقال جرير :
. . . . . . . . . . . . . . . . . . ونهرُ تيرى فما تَعْرِفْكُمُ العَرَبُ
وقال أخر :
رُحْتِ وفي رِجْلَيْكِ ما فيهما . . . وقد بَدَا هَنْكِ من المِئْزَرِ
يريد : هَنُك ، وتَعْرِفُكم ، فهذه حركاتُ إعرابٍ وقد سُكِّنَتْ ، وقد أنشد ابنُ عطية وغيرُه رَدَّاً عليه :
قالت سُلَيْمى اشْتَرْ لنا سَويقا . . . وقول الآخر :
إذا اعْوَجَجْنَ قلتُ صاحِبْ قَوِّمِ . . . وقول الآخر :
إنما شِعْريَ شَهْدٌ . . . قد خُلْطَ بِجُلْجُلانْ
ولا يَحْسُن ذلك لأنها حركاتُ بناء ، وإنما مَنَع هو ذلك في حركاتِ الإِعراب ، وقراءةُ أبي عمرو صحيحةٌ ، وذلك أنَّ الهمزةَ حرفٌ ثقيل ، ولذلك اجْتُرِئَ عليها بجميع أنواعِ التخفيفِ ، فاسْتُثْقِلَتْ عليها الحركةُ فقُدِّرَت ، وهذه القراءة تشبه قراءة حمزة - رحمه الله تعالى- في قوله تعالى : { وَمَكْرَ السيىء وَلاَ } فإنه سَكَّن هَمزة « السيء » وَصْلاً ، والكلامُ عليهما واحد ، والذي حسَّنه هنا أنَّ قبلَ كسرةِ الهمزةِ راءً مكسورةً ، والراءُ حرفُ تكريرٍ ، فكأنه توالى ثلاثُ كَسَرات فَحَسُنَ التسكينُ ، وليت المبردَ اقتدى بسيبويهِ في الاعتذار عن أبي عمرو وفي عَدَم الجرأة عليه :
وابنُ الَّلُبونِ إذا ما لُزَّ في قَرَنٍ . . . لم يَسْتَطِعْ صَوْلَةَ البُزْل القَنَاعِيْسِ
وجميعُ روايةِ أبي عمروٍ دائرةٌ على التخفيفِ ، ولذلك يُدْغِمُ المِثْلَيْن والمتقارِبَيْن ويُسَهِّلُ الهمزة ويُسكِّنُ نحو : { يَنصُرْكُمُ } [ آل عمران : 160 ] ، و { يَأْمُرُكُمْ } [ البقرة : 67 ] ، و { بِأَعْلَمَ بالشاكرين } [ الأنعام : 53 ] على تفصيلٍ معروفٍ عند القرَّاء . ورُوِيَ [ عنه ] إبدالُ هذه الهمزةِ الساكنةِ ياءً كأنه لم يَعْتَدَّ بالحركةِ المقدَّرةِ ، وبعضُهم يُنْكِرُ ذلك [ عنه ] ، فهذه أربعُ قراءات لأبي عمروٍ . وروى ابنُ عطية عن الزهري « بارِيِِكم » بكسر الياء من غيرِ هَمْزٍ ، قال : « ورُوِيَتْ عن نافع » ، قلت : من حقَّ هذا القارئ أن يُسَكِّنَ الياءَ لأنَّ الكسرةَ ثقيلةٌ عليهَا ، ولا يجوزُ ظهورُها إلا في ضرورةِ شعرٍ كقول أبي طالب :
كَذَبْتُمْ وبَيْتِ اللهِ نُبْزِي مُحَمَّداً . . . ولم تَخْتَصِبْ سُمْرُ العَوالِيِّ بالدَّمِ
وقرأ قتادة : « فاقْتالوا » وقال : هي من الاستقالةِ ، قال ابن جني : « اقتال : افْتَعَل ، ويُحَتمل أنْ تكونَ عينُها واواً [ كاقتادوا ] أو ياءً كاقتاس ، والتصريفُ يُضْعِفُ أن تكونَ من الاستقالة » ، ولكن قتادةَ ينبغِي أن يُحْسَنَ الظَّنُّ به في أنه لم يُوْرِدْ إلا بحُجَّةٍ عنده.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/276)


سُورَة يس
( مَكِّيَّة )
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
جاء في التفسير (يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2)
معناه يا إنسانُ ، وجاء يا رجل وجاء يا محمدُ
والذي عند أهل العربية أنه بمنزلة " الم " افتتاح السُّورَةِ ، وجاء
أن معناه القسم ، وبعضهم أعنى بعضَ العَرَب تقول : يَاسِنَ وَالقُرْآنَ
بفتح النون ، وهذا جائز في العربية ، والتسكين أجودُ لأنها حروف
هجاء.
وقد شرحنا أشباه ذلك.
فأمَّا من فتح فعلى ضربين :
على أن (يس) اسم للسورة حكاية كأنَّه قال : اتْلُ يس ، وهو على وزن هابيل وقابيل لا ينصرف ، ويجوز أن يكون فتحَ لالتقاء السَّاكنين.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2)
معناه أن آياتِه أحكمتْ وَبُيِّنَ فِيهَا الأمْرُ والنهيُ والأمثال وأقاصيص
الأمم السالفة.
* * *
(إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3)
هذا خطاب لمحمد - صلى الله عليه وسلم - وهو جَوابُ القَسَمِ جواب (والقُرْآن إنَّكَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم).
أي : على طريق الأنبياء الذين تقدموك . وأحسن ما في العربية
أن يكون (لَمِنَ المرسلين) خَبرُ " إنَّ " ويكون (على صراط مستقيم)

(4/277)


خبراً ثانياً ، فالمعنى إنك لمن المرسلين الذين أرسلوا على طريقة
مستقيمة.
* * *
وقوله - عزَّ وجلَّ - : (تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5)
تقرأ (تَنْزِيلُ) - بالرفع والنصب - فمن نصب فعلى المصدر على
معنى نَزَّلَ اللَّه ذلك تنزيلا.
ومن رفع فعلى معنى الذي أنزل إليك تنزيلُ العزيز الرحيم.
* * *
(لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6)
جاء في التفسير لتنذر قوماً مِثْلَ مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ.
وجاء لتنذر قوماً لم يُنْذرْ آبَاؤُهم ، فيكونُ (مَا) جُحْداً - وهذا - واللَّه أعلم - الاختيار ؛ لأن قوله " فَهُمْ غَافِلُونَ " دليل على معنى لم ينذر آباؤهم وإذا كان قد أنذر آباؤهم فهم غافلون ففيه بُعْدٌ ، ولكنه قد جاء في التفسير . ودليل النفي قوله : (وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44).
ولوكان آباؤهم منذرين لكانوا مُنْذَرِينَ دَارِسِين لكتب - والله
أعلم.
* * *
(لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7)
القول ههنا - واللَّه أعلم - مثل قوله : (وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ).
المعنى لقد حق القول على أكثرهم بكفرهم وعِنَادِهم.
أَضَلَّهم اللَّه وَمَنَعَهُمْ مِنَ الهُدَى .

(4/278)


وقوله جلَّ وعزَّ (إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8)
وقرأ ابن عباس وابن مسعود رحمهما اللَّه : إنا جعلنا (فِي أيْمَانِهِمْ).
وقرأ بعضهم (في أَيْدِيهم أَغلَالًا) ، وهاتان القراءتان لا يجب أن يقرأ
بواحدة منهما ؛ لأنهما بخلاف المصحف.
فالمعنى في قوله في أعناقهم
ومن قرأ (في أيمانهم) ومن قرأ (في أيديهم) فمعنى واحد.
وذلك أنه لا يكونُ الغُل في العنقُ دُونَ اليَدِ ولا في اليد دون العُنُق ، فالمعنى إنا جعلنا في أعْنَاقِهِمْ وفي أيمانهم أَغْلَالًا.
(فَهِيَ إلَى الأذْقَانِ).
كناية عن الأيدي لَا عن الأعناق ، لأن الغُل يجعل اليد تلي
الذقْنَ ، والعُنُق هو مُقَارِبٌ للذقَن ، لَا يجعَلُ الغُلُّ العُنَقَ إلى الذقَنِ.
وقوله : (فَهُمْ مُقْمَحُونَ).
المُقْمَحُ " الرافع رأسِه الغَاضُّ بَصرِه ، وقيل للكانونين شَهْرَا قِمَاح
لأن الِإبل إذَا وَرَدَتْ الماءَ ترفع رُءوسَها لِشدةِ بَرْدِه ، ولذا قيل شهرا
قِمَاح ، وإنما ذكرت الأعناق ولم تذكر الأيدي إيجازاً واختصاراً لأن
الغل يتضمَّنُ العُنُقَ واليَدَ.
ومن قرأ (في أيمانهم) فهو أيضاً يدل على العُنُق.
ومثل هذا قول المُثَقَّب :
فما أَدْرِي إذا يَمَّمْتُ أَرْضاً . . . أُرِيدُ الخَيْرَ أَيُّهما يَلِيني ؟
أَأَلخَيْر الذي أنا أَبْتَغيهِ . . . أمِ الشَّر الذي هو يَبْتَغِيني

(4/279)


وإنما ذكر الخير وحده ، ثم قال أَيُّهما يليني ، لأن قد علم أَنً
الإنسان الخيرُ والشر مُعرَّضَانِ له ، لا يدري إذا أَمَّ أَرْضاً أَيَلْقاه هذا أم
هذا ، ومثله من كتاب اللَّه : (سَرَابِيل تَقِيكمُ الْحَرَّ) ، ولم يذكر البرد.
لأن ما وَقَى هذا وَقَى هذا.
* * *
(وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ
(9)
(سَدًّا) و (سُدًّا)- بالفتح والضمِ - ومعناهما واحدٌ.
وقد قيل : السد فعل الإنْسَانِ والسُّد خلقة المسدود.
وفيه وجهان : أحدهما قد جاء في التفسير ، وهو أَن قوماً أرادوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - سوءاً فحال اللَّه بينهم وبين ذلك فجعلوا بمنزلة من هذه حاله ، فجعلوا بمنزلة من غُلَّتْ يمينه وسُدَّ
طريقه من بين يديه ومن خَلْفِهِ وَجُعِلَ على بَصَرِهِ غِشَاوة ، وهو معنى
(فَأغْشَيْنَاهُمْ).
. ويقرأ فَأعْشَيْنَاهُمْ بالعَيْن غير معجمة ، فحال اللَّه بينهم وبين
رسوله وكان في هؤلاء أبو جهل فيما يُرْوَى ، ويجوز أن يكون وصَفَ
إضْلاَلَهُم فقال : (إنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالاً فَهِيَ إلَى الأذْقَانِ) ، أي
أضللناهم فأمسكنا أيديهم عن النفقة في سبيل اللَّه والسعيِ فيما
يقرب إلى اللَّهِ (وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا) ، كما
قال : (خَتَمَ اللَّه عَلَى قُلُوِبهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ) الآية.
والدليل على هذا قوله : (وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا
يُؤمِنُونَ) ، لأن من أضله الله هذا الإضلال لم ينفعه الِإنذار.
* * *
(إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11)

(4/280)


أي من استمع القران واتبعه.
(وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ).
أي خاف الله من حيث لا يراه أحد.
(فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ).
المعنى من اتبع الذكر وخشي الرحمن فبشره بمغفرةٍ وَأَجْرٍ
كريم.
المغفرة هى العفو عن ذنوبه ، وأجر كريم بالجنة.
* * *
(إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12)
ما أسلفوا من أعْمَالِهم ، ونكتب آثارهم أي من سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً
كتِبَ له ثوابها ، ومن سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً كتبَ عَليه عقابها.
وقد قيل : (وتُكتَبُ آثارُهم) أي خطَاهمْ ، والأول أكثر وأبْيَن.
* * *
(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13)
(مَثَلًا) مفعول منصوب به ، معنى قول الناس : اضرب له مثلًا أي
اذكر له مثلاً ، ويقال : عندي من هذا الضرب شيء كثير ، أي مِنْ هذَا
المِثَال وتقول : هذه الأشياء على ضرب واحد أي عَلَى مِثال واحدٍ.
فيعني اضرب لهم مَثَلًا : مثل لهم مَثَلًا.
وقوله : (أصْحَابَ القَرْيَةِ).
أي خبر أصحاب القرية.
إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14)
(إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ).

(4/281)


جاء في التفسير أنهم أهل إنطاكية ، وجه إليهم عيسى اثنين
فَكَذبُوهُمَا قال : (فَعَزَزْنَا بِثَالِث).
ويقرأ فَعَزَزْنا - بالتشديد والتخفيف - ومعنى فعززنا فقويْنَا
وشدَّدْنَا الرسالة بثالث أي برسول ثالث :
(فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ) إلى - قوله (الْبَلَاغُ الْمُبِينُ).
فأعلمهم الرسُلُ إنما عليهم البلاغُ.
* * *
(قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18)
(قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ)
أي نَشَاءَمْنَا.
(لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ).
أي لنقتلنكم رَجْماً.
* * *
(قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19)
(قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ)
ويجوز طَيْرُكُم معكم.
لأنه يقال طَائر وَطَير في معنى واحد ، ولا أعلم أحَداً قرأ ههنا
طيركم بغير ألف ، والمعنى قالوا شُؤْمُكُم مَعَكُمْ.
(أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ).
أي أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ تَطَيَّرتم ، ويقرأ أَأَنْ ذُكِرتُم ، أي لأن ذكِرْتُمْ (1).
* * *
وقوله : (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20)
هذا رجل كان يعبد اللَّه في غارٍ في جَبَل ، فلما سمع بالمرسلين
جاء يسعى ، أي يَعْدُو إليهم ، فقال : أتريدون أَجْراً على ما جئتم به
فقال المرسلون : لا ، وكان يقال لهذا الرجل فيما رُوي حبيبُ النجار
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { طَائِرُكُم } : العامَّةُ على « طائر » اسمَ فاعل أي : ما طارَ لكم من الخيرِ والشرِّ فعبَّر عن الحَظِّ والنصيب . وقرأ الحسن - فيما رَوَى عنه الزمخشري - « اطَّيُّرُكم » مصدرُ اطَّيَّر الذي أصلُه تطَيَّر فلمَّا أُرِيْدَ إدغامُه أُبْدِلَتِ التاءُ طاءً ، وسُكِّنَتْ واجْتُلِبَتْ همزةُ الوصلِ فصار اطَّيَّرَ فيكون مصدره اطَّيُّرَاً . ولَمَّا ذكر الشيخ هذا لم يَرُدَّ عليه ، وكان هو في بعضِ ما رَدَّ به على ابن مالك في « شرح التسهيل » في باب المصادر قال : « إن مصدرَ تَطَيَّر وتدارَأ إذا أدغما وصارا اطَّيَّرَ وادَّارأ لا يجيءُ مصدرُهما عليهما بل على أصلهما فيقال : اطَّيَّر تَطَيُّراً ، وادَّارأ تدارُؤاً ، ولكنَّ هذه القراءةَ تَرُدُّه إنْ صَحَّتْ وهو بعيدٌ . وقد رَوَى غيرُه عنه » طَيْرُكم « بياء ساكنة ويَغْلِبُ على الظنِّ أنَّها هذه ، وإنما تَصَحَّفَتْ على الرائي فحَسِبها مصدراً ، وظنَّ أنَّ ألف » قالوا « همزةُ وَصْلٍ.
قوله : » أإنْ ذُكِّرْتُمْ « قرأ السبعةُ بهمزةِ استفهام بعدها » إنْ « الشرطيةُ ، وهم على ما عَرَفْتَ مِنْ أصولِهم : من التسهيلِ والتحقيق وإدخالِ ألفٍ بين الهمزتين وعدمِه في سورةِ البقرة . واختلف سيبويهِ ويونسُ إذ اجتمع استفهامٌ وشرطٌ أيُّهما يُجابُ؟ فذهبَ سيبويهِ إلى إجابةِ الاستفهام ، ويونسُ إلى إجابة الشرطِ ، فالتقديرُ عند سيبويهِ : » أإن ذُكِّرْتُمْ تتطيَّرون « وعند يونسَ » تطيَّرُوا « مجزوماً ، فالجوابُ للشرطِ على القولين محذوفٌ . وقد تقدَّم هذا في سورة الأنبياء.
وقرأ أبو جعفر وطلحة وزرٌّ بهمزتين مفتوحتين إلاَّ أن زرَّاً لم يُسَهِّلَ الثانيةَ كقوله :
3777 أإنْ كُنْتَ داودَ بنَ أحوى مُرَجَّلاً . . . فلستَ براعٍ لابنِ عمِّك مَحْرَما
ورُوي عن أبي عمروٍ وزرٍّ أيضاً كذلك ، إلاَّ أنهما فَصَلا بألفٍ بين الهمزتين . وقرأ الماجشون بهمزةٍ واحدةٍ مفتوحة . وتخريجُ هذه القراءاتِ الثلاثِ على حَذْفِ لامِ العلةِ أي : ألَئِنْ ذُكِّرْتم تطيَّرْتُمْ ، ف تَطَيَّرْتُمْ هو المعلولُ ، وأنْ ذُكِّرتم علتُه ، والاستفهامُ منسَحِبٌ عليهما في قراءةِ الاستفهامِ وفي غيرِها يكونُ إخباراً بذلك.
وقرأ الحسن بهمزةٍ واحدةٍ مكسورة وهي شرطٌ من غير استفهامٍ ، وجوابُه محذوفٌ أيضاً.
وقرأ الأعمشُ والهمدانيُّ » أَيْنَ « بصيغةِ الظرفِ . وهي » أين « / الشرطيةُ ، وجوابُها محذوفٌ عند جمهور البصريين أي : أين ذُكرتم فطائرُكم معكم ، أو صَحِبَكم طائرُكم ، لدلالةِ ما تقدَّم مِنْ قولِه » طائرُكُمْ معكم « ومَنْ يُجَوِّزُ تقديمَ الجوابِ لا يَحْتاج إلى حَذْفٍ.
وقرأ الحسن وأبو جعفر وأبو رجاء والأصمعيُّ عن نافع » ذُكِرْتُمْ « بتخفيفِ الكاف.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/282)


فأقبل على قومه فقال : (يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) - إلى قوله - (فَاسْمَعُونِ).
فأشهد الرسلَ على إيمانِه - قال قتادة : هذا رجل دَعَا قومه إلى
الله ومخضَهُمُ النَصِيحَةَ فقتلوه على ذلك وأقبلوا يرجمونه وهو يقول :
اللهم اهد قومي اللهم اهد قومي ، فأدخله الله الجنَّةَ فهو حيٌّ فيها
يرزق ، والمعنى فلما عَذبَهُ قومه ، قِيلَ ادْخُلِ الجنَّةَ.
فلما شاهدها قال : (يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27).
أي بمغفرة ربي لي ، (من المكرمين) أي من المُدْخَلِينَ الجنةَ.
وقيل أيْضاً بما غفر لي* ربي أي ليتهم يعلمون بالعمل والإيمان الذي
غفر لي به رَبِّي ، ويجوز " بِمَ غَفَرَ لِي رَبِّي " ، على معني بأي شيء غفر
لي ربي ، ويجوز ِ أن يكون " بما " في هذا المعنى بإثبات الألف ، تقُول :
قد علمت بما صَنَعْتَ هذا ، وقد علمت بم صنعت هذا ، أي قد علمت
بأي شيء صنعت هذا ، وحذف الألف في هذا المعنى أجود.
* * *
(وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28)
المعنى لم نُنْزِلْ عَلَيهِمْ جُنْداً ، لم نَنْتَصِرْ للرسول الذي كَذَبُوهُ
بِجُنْدٍ.
* * *
ومعنىْ (إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29)
ما كانت إلا صيحة واحدةً ، إلا أَنْ صِيحَ بهم صيحة واحدة فماتوا

(4/283)


معذبين بها ، ويقرأ (إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةٌ) - قَرَأ بها أَبُو جَعْفَرٍ المدني وحدَهُ.
وهي جيدة في العربية ، فمن نصب فالمعنى ما وقعت عليهم عقوبة الأ
صيحةً واحدةً.
(فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ).
أي ساكنون قَدْ ماتُوا وصاروا بمنزلة الرماد الخَامِدِ الهَامِدِ.
* * *
(يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (30)
وقرئت يا حسرةَ الْعِبادِ بغير على ، ولكني لا أحب القراءة بشيء
خالف المصحف ألبتةَ.
وهذه من أصعب مسألة في القرآن.
إذا قالَ القَائِلُ : ما الفائدة في مناداة الحسرة ، والحسرة مما لا يجيب ؟
فالفائدة في مناداتها كالفائدة في مناداة ما لا يعقل ، لأن النداء باب تنبيه.
إذَا قلت يا زيدُ فإن لم تكن دعوته لتخاطبه لِغير النداء فلا معنى للكلام ، إنما
تقول يا زيد فتنبهه بالنداء ثم تقول له : فعلت كذا وافعل كذا ، وما
أحببت مما له فيه فائدة ، ألا ترى أنك تقولُ لَمِنْ هُوَ مُقْبِل عَلَيْكَ : يا
زيد ما أَحْسَنَ مَا صَنَعْتَ ، ولو قلت له : ما أَحْسَن مَا صَنَعْتَ كنت قد
بلغت في الفائدة ما أفهمت به ، غير أن قولك يا زيد أوكد في الكلام.
وأبلغ في الإفهام.
وكذا إذا قلت للمخاطب أنا أعجب مما فعلتَ ، فقد -
أَفدْتَه أنك متعجب ، ولو قلت : واعجباه مما فعلت ، ويا عجباه أتفعل
كذا وكذا ، كان دعاؤك العجب أبلغَ في الفائدة.
والمعنى يَا عَجبُ أقبل ، فإنه من أوقاتك ، و إنما نَداءُ العَجَبِ تنبيه لتمكن علم المخاطب بالتعجب من فعله.
وكذلك إذَا قُلتَ : - ويلْ لزيدٍ أَوْ وَيلَ زَيْدٍ : لم فعل

(4/284)


كذا وكذا كان أبلغ . وكذلك في كتاب اللَّه - عزَّ وجلَّ - : (يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ) وكذلك (يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ).
وكذلك (يا حَسْرةً على العِبَادِ).
والمعنى في التفسير أن استهزاءهم بالرسُل حَسْرة عليهم.
والحَسْرَةُ أَن يَرْكَبَ الإنسانَ مِنْ شِدة الندَمِ ما لا نهاية له بعده حتى
يبقى قلبُه حَسِيراً (1).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (31)
أي : فيخافون أن يعجَّل لَهُم في الدنيا مثلُ الذي عُجِّل لغيرهم
مِمن أُهْلِكَ ، وأنهم مع ذلك لا يعودون إلى الدنيا أبداً.
وموضع " كَمْ "
نصبُ بـ (أَهْلَكْنَا) لأن " كَمْ " لا يعمل فيها ما قبلها ، خبراً كانت أو
استفهاماً . تقول في الخبر : كم سِرْتُ ، تريد سرت فراسخ كثيرةً ، ولا
يجوز سرت كم فرسخاً ، وذلك أن كم في بابها بمنزلة رُبَّ ، وأن أصلها
الاستفهام والإبهام ، فكما أنك إذا استفهمت فقلت للمخاطب : كم
فرسخاً سرت لم يجز سرتَ كم فرسخاً ، لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما
قبله ، فكذلك إذا جُعِلَتْ كم خَبَراً فالإبهامُ قائم فيها.
و (أَنَّهُمْ) بدل من معنى (ألم يروا كم أهلكنا).
والمعنى ألم يروا أن القرون التي أهلكنا أنهم لا يرجعون.
ويجوز (إِنهم لا يَرْجِعُونَ) بكسر " إنَّ " ومعنى ذلك الاستئناف.
المعنى هم إليهم لا يَرْجِعُون (2).
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { ياحسرة } : العامَّةُ على نصبِها . وفيه وجهان ، أحدهما : أنها منصوبةٌ على المصدرِ ، والمنادى محذوفٌ تقديره : يا هؤلاء تَحَسَّروا حسرةً . والثاني : أنها منونةٌ لأنها منادى منكورٌ فنُصِبت على أصلها كقوله :
3782 أيا راكباً إمَّا عَرَضْتَ فبَلِّغَنْ . . . نداماي مِنْ نَجْرانَ أنْ لا تَلاقِيا
ومعنى النداءِ هنا على المجازِ ، كأنه قيل : هذا أوانُكِ فاحْضُرِي . وقرأ قتادةُ وأُبَيٌّ في أحدِ وجهَيْه « يا حَسْرَةٌ » بالضم ، جعلها مُقْبِلاً عليها ، وأُبَيٌّ أيضاً وابن عباس وعلي بن الحسين { ياحسرة العباد } بالإِضافة . فيجوزُ أَنْ تكونَ الحَسْرةُ مصدراً مضافاً لفاعلِه أي : يتحسَّرون على غيرهم لِما يَرَوْنَ مِنْ عذابهم ، وأَنْ يكونَ مضافاً لمفعوله أي : يَتَحَسَّر عليهم غيرُهم . وقرأ أبو الزِّناد وابن هرمز . وابن جندب « يا حَسْرَهْ » بالهاءِ المبدلةِ مِنْ تاءِ التأنيث وَصْلاً ، وكأنَّهم أَجْرَوْا الوصلَ مُجْرى الوقفِ وله نظائرُ مَرَّتْ . وقال صاحب « اللوامح » : « وقفوا بالهاء مبالغةً في التحسُّر ، لِما في الهاءِ من التَّأَهُّه بمعنى التأوُّه ، ثم وصلوا على تلك الحال » . وقرأ ابن عباس أيضاً « يا حَسْرَةَ » بفتح التاء من غير تنوين . ووجْهُها أنَّ الأصل : يا حَسْرتا فاجْتُزِئ بالفتحة عن الألف كما اجتُزِئ بالكسرةِ عن الياء . ومنه :
3783 ولَسْتُ براجعٍ ما فاتَ مِنِّي . . . بَلَهْفَ ولا بلَيْتَ ولا لو اني
أي : بلهفا بمعنى لَهْفي.
وقُرئ « يا حَسْرتا » بالألف كالتي في الزمر ، وهي شاهدةٌ لقراءةِ ابنِ عباس ، وتكون التاءُ لله تعالى ، وذلك على سبيل المجاز دلالةً على فَرْطِ هذه الحَسْرةِ . وإلاَّ فاللَّهُ تعالى لا يُوْصَفُ بذلك.
قوله : « ما يَأْتِيْهم » هذه الجملةُ لا مَحَلَّ لها؛ لأنَّها مُفَسِّرةٌ لسبب الحسرةِ عليهم.
قوله : « إلاَّ كانوا » جملةٌ حاليةٌ مِنْ مفعولٍ « يَأْتيهم » . اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(2) قال السَّمين :
و { أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ } فيه أوجهٌ ، أحدُها : أنه بدلٌ مِنْ « كم » قال ابن عطية : « وكم هنا خبريةٌ ، و » أنهم « بدلٌ منها ، والرؤيةُ بَصَرية » . قال الشيخ : « وهذا لا يَصِحُّ؛ لأنها إذا كانَتْ خبريةً كانَتْ في موضعِ نصبٍ ب » أهلَكْنا « . ولا يَسُوغُ فيها إلاَّ ذلك . وإذا كانت كذلك امتنع أن يكون » أنَّهم « بدلاً منها؛ لأنَّ البدلَ على نيةِ تكرار العاملِ . ولو سُلِّطت أَهْلكنا على » أنهم « لم يَصِحّ؛ ألا ترى أنك لو قلتَ : أهلَكْنا انتفاءَ رجوعِهم ، أو أَهلكنا كونَهم لا يَرجعون ، لم يكن كلاماً . لكنَّ ابنَ عطية تَوَهَّمَ أنَّ » يَرَوْا « مفعولُه » كم « فتوَهَّم أنَّ قوله : { أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ } بدلٌ منه؛ لأنه يُسَوِّغُ أَنْ يُسَلَّط عليه فتقول : ألم يَرَوْا أنهم إليهم لا يَرْجعون . وهذا وأمثالُه دليلٌ على ضَعْفِه في عِلْم العربية » . قلت : وهذا الإِنحاءُ تحاملٌ عليه؛ لأنه لقائلٍ أَنْ يقول : « كم » قد جعلها خبريةً ، والخبريةُ يجوز أَنْ تكونَ معمولةً ل ما قبلها عند قومٍ ، فيقولون : « ملكتُ كم عبدٍ » فلم يَلْزَمْ الصدرَ ، فيجوزُ أَنْ يكونَ بنى هذا التوجيهَ على هذه اللغةِ وجعل « كم » منصوبةً ب « يَرَوْا » و « أنهم » بدلٌ منها ، نَ التي أهلكناها وليس هو ضعيفاً في العربية حينئذٍ.
الثاني : أنَّ « أنَّهم » بدلٌ من الجملةِ قبلَه . قال الزجاج : « هو بدلٌ من الجملة ، والمعنى : ألم يَرَوْا أن القروأنهم لا يَرْجِعون؛ لأنَّ عَدَمَ الرجوعِ والهلاكَ بمعنى » . قال الشيخ : « وليس بشيءٍ؛ لأنه ليس بدلاً صناعياً ، وإنما فَسَّر المعنى ولم يَلْحَظ صناعةَ النحو » . قلت : بل هو بدلٌ صناعي؛ لأنَّ الجملةَ في قوة المفرد؛ إذ هي سادَّةٌ مَسَدَّ مفعولِ « يَرَوْا » فإنها معلِّقَةٌ لها كما تقدَّم.
الثالث : قال الزمخشري : « ألم يَرَوْا » ألم يعلموا ، وهو مُعَلَّق/ عن العمل في « كم » لأنَّ « كم » لا يعملُ فيها عاملٌ قبلها - كانَتْ للاستفهام أو للخبرِ - لأنَّ أصلَها الاستفهامُ ، إلاَّ أنَّ معناها نافِذٌ في الجملةِ كما نفذ في قولك : « ألم يَرَوْا إنَّ زيداً لمنطلقٌ » وإنْ لم يعملْ في لفظِه ، وأنهم إليهم لا يَرْجِعون : بدلٌ مِنْ « كم أهلَكْنا » على المعنى لا على اللفظِ تقديرُه : ألم يَرَوْا كثرةَ إهلاكِنا القرونَ مِنْ قَبْلهم كونَهم غيرَ راجعين إليهم «.
قال الشيخ : « قولُه لأنَّ » كم « لا يعملُ فيها ما قبلَها كانت للاستفهام أو للخبرِ » ليس على إطلاقِه؛ لأنَّ العاملَ إذا كان حرفَ جر أو اسماً مضافاً جاز أَنْ يعملَ فيها نحو : « على كم جِذْعٍ بيتُك؟ وابنُ كم رئيسٍ صحبتَ؟ وعلى كم فقير تصدَّقتُ أرجو الثواب؟ وابنُ كم شهيد في سبيل الله أحسنت إليه؟ » . وقوله : « أو للخبر » والخبرية فيها لغتان : الفصيحةُ كما ذكر لا يتقدَّمُها عاملٌ إلاّ ما ذَكَرْنا من الجارِّ ، واللغةُ الأخرى حكاها الأخفش يقولون : « ملكتُ كم غلامٍ » أي : ملكتُ كثيراً من الغِلْمان . فكما يجوزُ تقدُّم العاملِ على كثيراً كذلك يجوزُ على « كم » لأنها بمعناها . وقوله : « لأنها أصلها الاستفهامُ ، والخبريةُ ليس أصلُها الاستفهامَ » بل كلُّ واحدةٍ أصلٌ بنفسِها ، ولكنهما لفظان مشتركان بين الاستفهام والخبر . وقوله : « لأنَّ معناها نافدٌ في الجملة » يعني معنى « يَرَوا » نافذٌ في الجملة؛ لأنَّه جعلَها مُعَلَّقة وشرحَ « يَرَوْا » ب يعلموا.
وقوله : « كما نفذ في قولك : ألم يَرَوْا إنَّ زيداً لمنطلقٌ » يعني أنه لو كان معمولاً من حيث اللفظُ لامتنع دخولُ اللامِ ولَفُتِحَتْ « إنَّ » فإنَّ « إنَّ » التي في خبرها اللامُ من الأدوات المعلِّقة لأفعال القلوبِ . وقوله : « إنهم إليهم » إلى آخره كلامُه لا يَصِحُّ أن يكون بدلاً لا على اللفظِ ولا على المعنى . أمَّا على اللفظِ فإنه زعم أنَّ « يَرَوْا » معلَّقَةٌ فتكون « كم » استفهاميةً فهي معمولةٌ ل « أهلكنا » ، و « أهلكنا » لا يَتَسَلَّط على { أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ } . وقد تقدَّم لنا ذلك . وأمَّا على المعنى فلا يَصِحُّ أيضاً لأنه قال : تقديره : أي على المعنى ألم يَرَوْا كثرةَ إهلاكنا القرونَ مِنْ قَبْلهم كونَهم غيرَ راجعين إليهم ، فكونُهم غيرَ راجعين ليس كثرةَ الإِهلاكِ ، فلا يكون بدلَ بعضٍ من كل ، ولا يكون بدل اشتمالٍ؛ لأنَّ بدلَ الاشتمال يَصِحُّ أن يضافَ إلى ما أُبْدِل منه ، وكذلك بدلُ بعضٍ من كل . وهذا لا يَصِحُّ هنا . لا تقول : ألم يَرَوْا انتفاءَ رجوعِ كثرةِ إهلاكِنا القرونَ مِنْ قبلهم ، وفي بدلِ الاشتمال نحو : « أعْجَبَتْني الجاريةُ مَلاحتُها ، وسُرِقَ زيدٌ ثوبُه » يصحُّ : « أعجبتني ملاحَةُ الجاريةِ ، وسُرِق ثوبُ زيد ».
الرابع : أَنْ يكونَ « أنهم » بدلاً مِنْ موضع « كم أهلَكْنا » ، والتقدير : ألم يَرَوْا أنهم إليهم . قاله أبو البقاء . ورَدَّه الشيخ : بأنَّ « كم أهلَكْنا » ، ليس بمعمولٍ ل « يَرَوْا ».
قلت : قد تقدَّم أنها معمولةٌ لها على معنى أنها مُعَلِّقَةٌ لها.
الخامس : - وهو قولُ الفراء - أن يكون « يَرَوْا » عاملاً في الجملتين من غير إبدالٍ ، ولم يُبَيِّنْ كيفيةَ العملِ . وقوله « الجملتين » تجوُّزٌ؛ لأنَّ « أنهم » ليس بجملةٍ لتأويلِه بالمفرد إلاَّ أنه مشتملٌ على مُسْندٍ ومسند إليه.
السادس : أنَّ « أنهم » معمولٌ لفعل محذوفٍ دَلَّ عليه السياقُ والمعنى ، تقديره : قَضَيْنا وحَكَمْنا أنهم لا يَرْجعون . ويَدُلُّ على صحةِ هذا قراءةُ ابنِ عباس والحسن « إنهم » بكسر الهمزةِ على الاستئناف ، والاستئنافُ قَطْعٌ لهذه الجملةِ مِمَّا قبلها فهو مُقَوٍّ لأَنْ تكونَ معمولةً لفعلٍ محذوفٍ يقتضي انقطاعَها عَمَّا قبلَها . والضميرُ في « أنهم » عائدٌ على معنى « كم » وفي « إليهم » عائدٌ على ما عاد عليه واو « يَرَوْا » . وقيل : بل الأولُ عائدٌ على ما عاد عليه واو « يَرَوْا » . والثاني عائدٌ على المُهْلَكين.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/285)


وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32)
من قرأ بالتخفيف (لَمَا) فما زائدة مؤكدة ، والمعنى إنْ كل
لجميع لدينا مُحْضَرُونَ ، ومعناه وَمَا كُلٌّ إلا جميع لدينا مُحْضَرونَ ،.
ويقرأ (لَمَّا) بالتًشْدِيد ومعنى (لَمَّا) ههنا (ألَّا) ، تقول سألتك لَمَّا فعلت.
وتفسير الآية أنَّهم يحضرون يوم القيامة فيقفون على ما عملوا.
* * *
وقوله : (وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33)
(الْمَيْتَةُ)
ويقرأ بالتشديد
وأصل الميْتة الميِّتَة ، والأصل التشديد ، والتخفيف أكثر ، وكلاهما
جائز.
(وَآيَةٌ) مرفوعة بالابتداء ، وخبرها (لَهُمْ) أي وعلامة تدلهم على
التوحيد وأَن اللَّه يبعث الموتى إحياءَ الأرض الميتَةِ.
ويجوز أن يكون آية مرفوعة بالابتداء ، وخبرها الأرض الميتة.
* * *
وقوّله : (وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (35)
ويجوز ثُمْره - بإسكان الميم وضَم الثاء.
(وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ).
ويقرأ (وَمَا عَمِلَتْ) بغير هاء (1) ، وموضع " ما " خفض.
المعنى ليأكلوا من ثمره ومما عملته أيديهم.
ويجوز أن تكون (ما) نفياً ، على معنى ليأكلوا من ثمره ولم تعمله أيْدِيهِمْ.
هذا على إثبات الهاء ، وإذا حذفت الهاء فالاختيار أن يكون " ما " في موضع خفض ، ويكون (ما) في معنى الذي ، فيحسن حذف الهاء ، ويكون هذا على قوله :
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ } في « ما » هذه أربعةُ أوجهٍ ، أحدها : أنها موصولةٌ أي : ومن الذي عَمِلَتْه أيديهم من الغرس والمعالجة . وفيه تَجَوُّزٌ على هذا . والثاني : أنها نافيةٌ أي : لم يعملوه هم ، بل الفاعلُ له هو اللَّهُ تعالى.
وقرأ الأخَوان وأبو بكر بحذف الهاء والباقون « وما عَمِلَتْه » بإثباتِها . فإنْ كانَتْ « ما » موصولةً فعلى قراءة الأخوين وأبي بكر حُذِف العائدُ كما حُذِف في قولِه : { أهذا الذي بَعَثَ الله رَسُولاً } [ الفرقان : 41 ] بالإِجماع . وعلى قراءةِ غيرِهم جيْءَ به على الأصل . وإن كانَتْ نافيةً فعلى قراءةِ الأخوين وأبي بكر لا ضميرَ مقدرٌ ، ولكن المفعولَ محذوفٌ أي : ما عَمِلَتْ أيديهم شيئاً مِنْ ذلك ، وعلى قراءةِ غيرِهم الضميرُ يعودُ على « ثَمَرِه » وهي مرسومةٌ بالهاء في غيرِ مصاحفِ الكوفةِ ، وبحذفِها فيما عداها . / والأخَوان وأبو بكرٍ وافقوا مصاحفهم ، والباقون - غير حَفْصٍ - وافقوها أيضاً ، وجعفر خالَفَ مصحفَه ، وهذا يَدُلُّ على أنَّ القراءةَ متلقَّاةٌ مِنْ أفواهِ الرجال ، فيكون عاصمٌ قد أقرأها لأبي بكرٍ بالهاء ولحفصٍ بدونها.
الثالث : أنها نكرةٌ موصوفةٌ ، والكلامُ فيها كالذي في الموصولة . والرابع : أنها مصدريةٌ أي : ومِنْ عَمَلِ أيديهم . والمصدرُ واقعٌ موقعَ المفعولِ به ، فيعودُ المعنى إلى معنى الموصولة أو الموصوفة . اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/286)


(أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64).
* * *
وقوله : (سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36)
(سُبْحَانَ) تَبْرئَةُ اللَّه من السوءِ وتنزيهه.
ومعنى الأزواج ، الأجناس كلها من النبات والحيوان وغيرها.
(وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ).
مما خلق اللَّه من جميع الأنواع والأشباه.
* * *
(وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37)
ومعنى نسلخ نُخْرِجُ منه النهار إخراجاً لا يبقى معه شيء من ضوء
النهار ، وذلك من العلامات الدالة على توحيد اللَّه - وقدرته.
* * *
(وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38)
المعنى وَآيَةٌ لَهُمُ الشَمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرَ لَهَا.
أي لأجَل قَدْ أُجِّلَ لَهَا وقدِّرَ لها.
ومن قرأ " لا مُسْتَقَر لها " فمعناه أنها جارية أبداً لا تثبت في مكانٍ.
* * *
(وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39)
يقرأ بالرفْع والنصب ، فمن نصب فعلى " وَقَدَّرْنَا القَمَرَ مَنَازِلَ
قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ " والرفع على معنى وآية لهم القَمَرُ قَدَّرْنَاهُ.
ويجوز أن يكون على الابتداء و (قَدَّرْنَاهُ) الخبر.
(حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ).
العُرجونُ عودُ العِذقِ الذي يسمى الكباسة.
وحقيقة العرجون

(4/287)


أنه العود الذي عليه العذق ، والعرجون عود العذق
الذي تركبه الشماريخ من العذق ، فإذَا جَفَّ وَقدُمَ دَق وَصَغُرَ
فحينئذ يشبه الهِلَالَ في آخر الشهر ، وفي أول مطلعه.
وتقدير (عُرْجُون) فُعْلُول . منَ الانعراج (1).
* * *
(لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)
المعنى لا يذهب أحدهما بمعنى الآخر.
(وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ).
لكل وَاحِدٍ منهما فَلَك ، ومعنى يسبحون يَسيرُونَ فيه بانبساط.
وكل من انبسط في شيء فَقَدْ سَبحَ فيه ، ومن ذلك السباحة في الماء.
* * *
(وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41)
خوطب بهذا أَهْلُ مَكَةَ ، وقيل حَمَلْنَا ذُريتَهُمْ لأن من حمل مع
نوح عليه السلام في الفلك فهم آباؤهم ، وذُرياتُهُم.
والمشحون في اللغة المملوء ، شحنت السفينة إذا ملأتها.
وشحنت المدينة وأشحنتها إذا مَلأتها.
* * *
وقوله : (وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42)
الأكثر في التفسير أن مِنْ مِثْلِه من مثل سفينة نوح ، وقيل من مثله
يغنَى به الإبل ، وأن الإبل في البريَّةِ بمنزلة السُّفُنِ في البحر.
* * *
(وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43)
أي فلا مُغِيثَ لهم.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { والقمر قَدَّرْنَاهُ } : قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرٍو برفعِه ، والباقون بنصبِه . فالرفعُ على الابتداء ، والنصبُ بإضمارِ فعلٍ على الاشتغالِ ، والوجهان مُسْتويانِ لتقدُّمِ جملةٍ ذاتِ وجهين ، وهي قوله : « والشمسُ تجري » فإنْ راعَيْتَ صدرَها رَفَعْتَ لتعطِفَ جملةً اسميةً على مثلِها ، وإنْ راعَيْتَ عَجْزَها نَصَبْتَ لتعطِفَ فعليةً على مثلِها . وبهذه الآيةِ يَبْطُلُ قولُ الأخفشِ : إنه لا يجوزُ النصبُ في الاسم إلاَّ إذا كان في جملةِ الاشتغالِ ضميرٌ يعود على الاسمِ الذي تضمَّنَتْه جملةٌ ذاتُ وجهين . قال : لأنَّ المعطوفَ على الخبرِ خبرٌ فلا بُدَّ مِنْ ضميرٍ يعودُ على المبتدأ فيجوزُ : « زيدٌ قام وعمراً أكرمتُه في داره » ، ولو لم يَقُلْ « في داره » لم يَجُز . ووجهُ الردِّ مِنْ هذه الآية أنَّ أربعةً من السبعةِ نصبوا ، وليس في جملة الاشتغال ضميرٌ يعودُ على الشمس . وقد أُجْمع على النصب في قولِه تعالى : { والسمآء رَفَعَهَا } [ الرحمن : 7 ] بعد قوله : { والنجم والشجر يَسْجُدَانِ } [ الرحمن : 5 ].
قوله : « منازلَ » فيه أوجهٌ ، أحدها : أنه مفعولٌ ثانٍ؛ لأنَّ « قَدَّرنا » بمعنى صَيَّرْنا . الثاني : أنه حالٌ ، ولا بُدَّ مِنْ حَذْفِ مضافٍ قبل « منازل » تقديرُه : ذا منازلَ . الثالث : أنه ظرفٌ أي : قَدَّرْنا مسيرَه في منازلَ ، وتقدَّم نحوُه أولَ يونس.
قوله : « كالعُرْجُون » العامّةُ على ضَمِّ العينِ والجيم . وفي وزنِه وجهان ، أحدهما : أنه فُعْلُول فنونُه أصليةٌ ، وهذا هو المرجَّحُ . والثاني : وهو قولُ الزجَّاج أنَّ نونَه مزيدةٌ ، ووزنُه فُعْلُوْن ، مشتقاً من الانعراجِ وهو الانعطافُ ، وقرأ سليمان التيمي بكسر العين وفتح الجيم ، وهما لغتان كالبُزيُوْن والبِزْيون . والعُرْجُوْن : عُوْد العِذْقِ ما بين الشَّماريخ إلى مَنْبِته من النخلةِ . وهو تشبيهٌ بديعٌ ، شبَّه به القمرَ في ثلاثة أشياء : دقتِه واستقواسِه واصفرارِه . اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/288)


(إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (44)
منصوبة مفعول لها ، المعنى : ولا يُنْقَذُونَ إِلَّا لرَحْمَةٍ مِنَّا وَلمَتَاعٍ إِلَى حِينٍ.
إلى انقضاء الأجل.
* * *
(وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45)
ما أسلفتم من ذُنُوبكم ، وما تعملونه فيما تستقبلون ، وقيل ما بين
أيديكم وَمَا خلفكم ، على معنى اتقُوا أن ينزل بكم من العذاب مثلُ
الذي نزلْ بالأمَمِ قَبْلَكُمْ ، وَمَا خَلْفَكُمْ ، أي اتقوا عذاب الآخرة.
وَمِثْلُه (فَإن أعرضوا فَقَدْ أنْذَرْتُكُم صَاعِقَةً مثلَ صاعِقَةِ عادٍ وثمود).
* * *
(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (47)
أي أطعموا وتصَدَّقُوا.
(قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَ).
كأنهم يقولون هذا على حد الاستهزاء.
وجاء في التفسير أنها نَزَلَتْ في الزنادقة ، وقيل في قوم من اليهود.
* * *
(وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48)
متى إنجاز هذا الوعْد ، أردنا ذلك.
* * *
(مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49)
في (يَخِصِّمُونَ) أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ.
سكونُ الخاء والصاد مع تشديد الصادِ على جمع بين ساكنين ، وهو أشد الأربعة وَأَرْدَؤُهَا ، وكان بعض من

(4/289)


يروي قراءة أهل المدينة يذهب إلى أن هذا لم يُضْبَطْ عن أهل المدينة
كما لم يضبط عن أبي عمْرٍو إلى بارِئكم.
وإنَّمَا زعم أن هذا تُخْتَلَسُ فيه الحركة اختلاساً وهي فتحة الخاء ، والقول كما قال.
والقراءة الجيِّدَة (يَخَصِّمُونَ) بفتح الخاء ، والأصل يَخْتَصِمُونَ.
فطرحت فتحة التاء على الخاء ، وأدغمت في الصاد ، وكسرُ الخاء جيِّدٌ أيضاً - تكسر الخاء لِسُكُونها وسُكُونِ - الصاد.
وَقُرِئَتْ يختصمون ، وهي جيدة أيضاً ومعناها يأخذهم وبعضهم يَخْصِمُ بَعْضاً ، ويجوز أن يكون تأخذهم وهم عِنْدَ أنْفُسهم يخصمون
في الحجة في أنهم لا يبعثون ، فتقوم الساعة وهم متشاغلون في متصرفاتهم (1).
* * *
(فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50)
لا يستطيع أحد أن يوصي في شيء من أَمْرِهِ.
(وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ).
لا يلبث إلى أن يصير إلى أهله ومنزله . يموت في مكانه.
* * *
(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51)
الصور كما جاء في التفسير القرن الذي ينفُخ فيه إسْرافيلُ.
وقد قال أَبُو عُبَيدة : إنَّ الصورَ جمع صُورَة ، وصورة جمعها صور.
كما قال الله عزَّ وجلَّ : (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ)
وما قرأ أحد أحْسنَ صُورَكُمْ وَلَا قرأ أحد : وَنُفِخَ في الصُّوَرِ من وجه يثبُتُ.
والأجداث القبور ، واحدها جَدَثٌ ، وَيَنْسِلُونَ : يخرجون بسرعة.
* * *
وقوله : (قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52)
(قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا)
هذا وقف التمام ، وهذا قول المشركين (2).
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { يَخِصِّمُونَ } : قرأ حمزةُ بسكون الخاء وتخفيف الصادِ مِنْ خَصِم يَخْصَمُ . والمعنى : يَخْصَمُ بعضُهم بعضاً ، فالمفعولُ محذوفٌ . وأبو عمرٍو وقالون بإخفاءِ فتحةِ الخاء وتشديدِ الصاد . ونافعٌ وابن كثير وهشام كذلك ، إلاَّ أنَّهم بإخلاصِ فتحةِ الخاءِ . والباقون بكسرِ الخاء وتشديدِ الصادِ . والأصلُ في القراءاتِ الثلاثِ : يَخْتَصِمون فأُدْغِمت التاءُ في الصاد ، فنافعٌ وابن كثير وهشام نَقَلوا فتحَها إلى الساكنِ قبلَها نَقْلاً كاملاً ، وأبو عمرو وقالون اختلسا حركتَها تنبيهاً على أنَّ الخاءَ أصلُها السكونُ ، والباقون حَذَفُوا حركتَها ، فالتقى ساكنان لذلك ، فكسروا أوَّلَهما ، فهذه أربعُ قراءاتٍ ، قُرِئ بها في المشهور.
ورُوِي عن أبي عمرٍو وقالون سكونُ الخاءِ وتشديدُ الصادِ . والنحاةُ يَسْتَشْكِلونها للجمعِ بَيْن ساكنين على غير حَدَّيْهما . وقرأ جماعةٌ « يِخِصِّمُون » بكسرِ الياءِ والخاءِ وتشديد الصاد وكسروا الياءَ إتباعا . وقرأ أُبَيٌّ « يَخْتَصِمُون » على الأصل . قال الشيخُ : « ورُوِي عنهما - أي عن أبي عمرٍو وقالون - بسكونِ الخاء وتخفيفِ الصاد مِنْ خَصِم ».
قلت : هذه هي قراءةُ حمزةَ ولم يَحْكِها هو عنه وهذا يُشْبِهُ قولَه : { يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ } في البقرةِ [ الآية : 20 ] ، و { لاَّ يهدي } في يونس [ الآية : 35 ].
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(2) قال السَّمين :
قوله : { ياويلنا } : العامَّةُ على الإِضافةِ إلى ضمير المتكلمين دون تأنيثٍ . وهو « وَيْل » مضافٌ لِما بعده . ونقل أبو البقاء عن الكوفيين أنَّ « وَيْ » كلمةٌ برأسِها . و « لنا » جارٌّ ومجرور « . انتهى . ولا معنى لهذا إلاَّ بتأويلٍ بعيدٍ : هو أَنْ يكونَ يا عجبُ لنا؛ لأنَّ وي تُفَسَّرُ بمعنى اعجب منا . وابن أبي ليلى : » يا وَيْلتنا « بتاء التأنيث ، وعنه أيضاً » يا ويْلتا « بإبدال الياءِ ألفاً . وتأويلُ هذه أنَّ كلَّ واحدٍ منهم يقول : يا ويلتي.
والعامَّةُ على فتح ميم » مَنْ و « بَعَثَنا » فعلاً ماضياً خبراً ل « مَنْ » الاستفهامية قبلَه . وابن عباس والضحاك ، وأبو نهيك بكسر الميم على أنها حرفُ جر . و « بَعْثِنا » مصدرٌ مجرور ب مِنْ . ف « مِنْ » الأولى تتعلَّق بالوَيْل ، والثانيةُ تتعلَّقُ بالبعث.
والمَرْقَدُ يجوز أَنْ يكونَ مصدراً أي : مِنْ رُقادِنا ، وأن يكونَ مكاناً ، وهو مفردٌ أُقيم مُقامَ الجمعِ . والأولُ أحسنُ؛ إذ المصدرُ يُفْرَدُ مطلقاً.
قوله : { هَذَا مَا وَعَدَ } في « هذا » وجهان ، أظهرهما : أنه مبتدأٌ وما بعده/ خبرُه . ويكونُ الوقفُ تاماً على قوله « مِنْ مَرْقَدِنا » . وهذه الجملةُ حينئذٍ فيها وجهان ، أحدهما : أنها مستأنفة : إمَّا من قولِ اللَّهِ تعالى ، أو مِنْ قولِ الملائكةِ . والثاني : أنها من كلام الكفارِ فتكون في محلِّ نصب بالقول . والثاني من الوجهين الأولين : « هذا » صفةٌ ل « مَرْقَدِنا » و « ما وَعَد » منقطعٌ عَمَّا قبله.
ثم في « ما » وجهان ، أحدُهما : أنها في محلِّ رفعٍ بالابتداء ، والخبرُ مقدرٌ أي : الذي وَعَدَه الرحمنُ وصَدَقَ فيه المرسلون حَقٌّ عليكم . وإليه ذهب الزجَّاج والزمخشري . والثاني : أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي : هذا وَعْدُ الرحمن . وقد تقدَّم لك أولَ الكهف : أنَّ حَفْصاً يقف على « مَرْقَدنا » وَقْفةً لطيفةً دونَ قَطْعِ نَفَسٍ لئلا يُتَوَهَّمَ أنَّ اسمَ الإِشارةِ تابعٌ ل « مَرْقَدِنا » . وهذان الوجهان يُقَوِّيان ذلك المعنى المذكور الذي تَعَمَّد الوقفَ لأجلِه . و « ما » يَصِحُّ أَنْ تكونَ موصولةً اسميةً أو حرفيةً كما تقدَّم تقريرُه . ومفعولا الوعدِ والصدقِ محذوفان أي : وعَدَناه الرحمن وصَدَقَناه المرسلون . والأصل : صَدَقَنا فيه . ويجوز حَذْفُ الخافض وقد تقدَّم لك نحو « صَدَقني سِنَّ بَكْرِهِ » أي في سِنِّه . وتقدَّم قراءتا « صيحة واحدة » نصباً ورفعاً. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/290)


وقوله : (هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ).
(هذا) رفع بالابتداء ، والخبر (مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ) ، وهذا قول
المشركين ، أعني هذا ما وعد الرحمن ، ويجوز أن يكون " هذا " من
نعت مرقدنا على معنى من بَعَثَنا من مَرْقَدِنَا هَذَا الذي كنا راقدين فيه.
ويكون ما وعد الرحمن وصدق المرسلون على ضربين :
أحدهما على إضمار هذا.
والثاني على إضمار حق ، فيكون المعنى حق ما وعد الرحمن.
والقول الأول أعني ابتداء هذا عليه التفسير ، وهو قول أهل
اللغة.
* * *
(إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53)
و (إِلَّا صَيْحَةٌ وَاحِدَةٌ) وقد مضى إعْرَابُهما.
(فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ).
فالمعنى إن إهلاكَهُمْ كان بصيحة وبعثهم وَإحْيَاءَهم بصيحة.
* * *
(فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54)
المعنى من جوزي فإنما يجازى بعمله.
* * *
(إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55)
و (فَاكِهُونَ) تفسيره فرحون.
وجاء في التفسير أَنَّ شُغْلَهُمْ افتضاض الأبكار ، وقيل في شغل عما فيه أهل النار ، ويقرأ في شُغُل وَشُغْل وَشُغْل وشُغُل . يجوز في العربية.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56)
وظُلَلٍ ، ويجوز ظُلُلٍ .

(4/291)


(عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ).
وهي الفرش في الحجال ، وَقِيلَ انهَا الفرش ، وقيلَ الأسِزةُ.
وهي على الحقيقة الفرش كانت في حجال أو غير حجال.
* * *
(لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57)
أي ما يَتمَنوْنَ ، يقال : فلان في خَيْرِ مَا ادَّعَى ، أي ما تمنى ، وهو
مأخوذ من الدعاء.
المعنى كل مما يدعو أهلُ الجنةِ يَأتِيهِمْ.
* * *
(سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58)
(سَلَامٌ) بدل من (ما) المعنى لهم ما يتمنون به سلام ، أي وهذا
مُنَى أهل الجنة أن يسلِّمَ اللَّه - عزَّ وجلَّ - عَلَيْهم.
و ( قَوْلًا) منصوب على معنى لهم سلام يقوله اللَّه - عزَّ وجلَّ - قَوْلاً.
* * *
(وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59)
أي انفردوا عن المؤمنين.
* * *
(أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60)
وتقرأ أعْهِدْ - بالكسر ، والفتحُ أكثر ، على قولك عَهِدَ يَعْهَدُ.
والكسر يجوز على ضربين :
على عَهدَ يَعْهِدُ ، وعلى عهِدَ يَعْهِد مثل حَسِبَ يَحْسِبُ ، ومعناه ألم أتقدم إليكم بِعَهْدِ الِإيمان وترك عبادة الشيطان (1).
* * *
(وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62)
(جُبْلًّا)
ويقرأ (جِبِلًّا) - بكسر الجيم والباء ، ويُقْرأ جُبُلًا - بضم الجيم والباء
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { أَعْهَدْ } : العامَّةُ على فتحِ الهمزةِ على الأصلِ في حرفِ المضارعة . وطلحة والهذيل بن شرحَبيل الكوفي بكسرِها . وقد تقدَّم أنَّ ذلك لغةٌ في حرفِ المضارعةِ بشروطٍ ذُكرت في الفاتحة وثَمَّ حكايةٌ . وقرأ ابنُ وثَّاب « أَحَّدْ » بحاءٍ مشددةَ . قال الزمخشري : « وهي لغةُ تميمٍ ، ومنه » دَحَّا مَحَّا « أي : دَعْها معها ، فقُلِبَتْ الهاءُ حاءً ثم العينُ حاءً ، حين أُريد الإِدغامُ . والأحسنُ أَنْ يُقال : إنَّ العينَ أُبْدِلَتْ حاءً . وهي لغةُ هُذَيلٍ . فلمَّا أُدْغِم قُلب الثاني للأول ، وهو عكسُ بابِ الإِدغامِ . وقد مضى تحقيقُه آخرَ آلِ عمران . وقال ابن خالويه : » وابن وثاب والهذيل « أَلَمْ إعْهَدْ » بكسر الميم والهمزة وفتح الهاء ، وهي على لغةِ مَنْ كسرَ أولَ المضارعِ سوى الياءِ . ورُوي عن ابنِ وثَّاب « اعْهِد » بكسرِ الهاءِ . يُقال : عَهِد وعَهَد « انتهى . يعني بكسر الميم والهمزة أنَّ الأصلَ في هذه القراءةِ أَنْ يكونَ كسرَ حَرْفَ المضارعةِ ثم نَقَلَ حركتَه إلى الميمِ فكُسِرَتْ ، لا أنَّ الكسرَ موجودٌ في الميمِ وفي الهمزةِ لفظاً ، إذ يَلْزَمُ من ذلك قَطْعُ همزةِ الوصلِ وتحريكُ الميمِ مِنْ غيرِ سبب . وأمَّا كَسْرُ الهاءِ فلِما ذُكِرَ من أنه سُمِعَ في الماضي » عَهَدَ « بفتحها . وقولُه : » سوى الياء « وكذا قال الزمخشريُّ هو المشهورُ . وقد نُقِل عن بعضِ كَلْبٍ أنهم يَكْسِرون الياءَ فيقولون : يِعْلَمُ.
وقال الزمخشري فيه : » وقد جَوَّزَ الزجَّاجُ أن يكون من باب : نَعِمَ يَنْعِمُ ، وضَرَب يَضْرِب « يعني أنَّ تخريجَه على أحدِ وجهين : إمَّا الشذوذِ فيما اتَّحذ فيه فَعِل يَفْعِلُ بالكسر فيهما ، كنَعِمَ يَنْعِمُ وحَسِب يَحْسِبُ وبَئِسَ يَبْئِسُ ، وهي ألفاظٌ عَدَدْتُها في البقرة ، وإمَّا أنه سُمِعَ في ماضيه الفتحُ كضَرَبَ ، كما حكاه ابنُ خالَوَيْه . وحكى الزمخشري أنه قُرِئ » أَحْهَدْ « بإبدالِ العينِ حاءً ، وقد تقدَّم أنها لغةُ هُذَيْلٍ ، وهذه تُقَوِّي أنَّ أصلَ » أَحَّد « : أَحْهَد فأُدْغِمَ كما تقدَّم . اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/292)


- وتُقْرَأُ جُبْلاً على إسكان الباء وضم الجيم ، ويجوز جَبْلًا بفتح الجيم
وَجِبْلًا بكسر الجيم ، ويجوز أيْضاً جِبَلاً - بكسر الجيم وفتح الباء بغير
تشديد اللام ، على جمع جِبْلَةٍ . وجِبَل ، والجِبْلَةُ في جميع ذلك معناه
خليقة كثيرة وخلق كثير (1).
* * *
وقوله : (وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66)
المطموس الأعمى الذي لا يُتَبَين له جَفْن . لَا يُرَى شَفْرُ عينه ، أي
لو نشاء لأعْميْنَاهُمْ فعدلوا عن الطريق فمن أَيْنَ يُبْصرونَ لو فعَلْنا ذلك
بهم.
* * *
(وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ
(67)
(مَكَانَتِهِمْ)
ومكاناتهم ، والمكانة والمكانُ في معنىً وَاحدٍ.
(فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ).
أي لم يقدروا على ذَهاب وَلَا مَجِيءٍ.
* * *
(وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ (68)
(نَنْكُسْهُ)
وَ (نُنَكِّسْهُ) وَ (نَنْكِسْهُ) ، يقال نكسْتُه أَنْكُسُه وأَنْكِسُهُ جميعاً ، ومعناه من
أطَلْنا عُمْرَهُ نَكَّسْنَا خلقَه ، فَصَارَ بدلُ القوة ضَعْفَاً وَبَدَلُ الشبَابِ هَرَماً (2).
* * *
(وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69)
أي ما علمنا محمداً - صلى الله عليه وسلم - قولَ الشِعْرِ.
(وَمَا يَنْبَغِي لَهُ) أي ما يتسهل له ذلك.
(إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ).
أي الذي أتى به النبي - صلى الله عليه وسلم -
وزعم الكفار أنه شعر ما هو بشعر.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { جِبِلاًّ } : قرأ نافعٌ وعاصمٌ بكسر الجيم والباء وتشديد اللام . وأبو عمروٍ وابن عامرٍ بضمةٍ وسكونٍ . والباقون بضمتين ، واللامُ مخففةٌ في كلتيهما . وابنُ أبي إسحاق والزهري وابن هرمز بضمتين وتشديد اللام . والأعمش/ بكسرتين وتخفيفِ اللام . والأشهب العقيلي واليماني وحمادُ بن سلمة بكسرةٍ وسكون . وهذه لغاتٌ في هذه اللفظةِ . وقد تقدَّم معناها آخرَ الشعراء . وقُرِئ « جِبَلاً » بكسر الجيم وفتح الباء ، جمع جِبْلَة كفِطَر جمع فِطْرَة . وقرأ أمير المؤمنين عليٌّ « جِيْلاً » بالياء ، مِنْ أسفلَ ثنتان ، وهي واضحةٌ.
وقرأ العامة : « أفلَمْ تكونوا » خطاباً لبني آدم . وطلحة وعيسى بياءِ الغَيْبة . والضمير للجِبِلِّ . ومِنْ حَقِّهما أن يَقْرآ { التي كانوا يُوعَدُونَ } لولا أَنْ يَعْتَذِرا بالالتفاتِ.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(2) قال السَّمين :
قوله : { نُنَكِّسْهُ } : قرأ عاصمٌ وحمزةٌ بضم النون الأولى وفتحِ الثانيةِ وكسرِ الكافِ مشددةً مِنْ نَكَّسَه مبالغةً . والباقون بفتح الأولى وتسكين الثانيةِ وضمِّ الكافِ خفيفةً ، مِنْ نَكَسَه ، وهي محتملةٌ للمبالغة وعَدَمِها.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/293)


وَلَيسَ يوجب هذا أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يتمثل ببيت شعر قط.
إنما يوجب هذا أن يكون النبي عليه السلام ليس بشاعر ، وأن يكون القرآن الذي أتى به من عند اللَّه ، لإنه مُبَاين لكلام المخلوقين وأوزان أشعار
العرب ، والقرآن آية مُعجزة تدل على أن نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم - وآياته ثابتة أبداً.
* * *
وقوله : (لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70)
يجوز - أن يكون المضمر في قوله (لِيُنْذِرَ) النبي عليه السلام.
وجائز أن يكون القرآن
ومعنى : (مَنْ كَانَ حَيًّا).
أي من كان يعقل ما يخاطب به ، فإن الكافِرَ كالميِّت في أنه لم
يتدبَّرْ فَيَعْلَمَ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وما جاء به حق.
(وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ).
ويجوزُ (وَيَحُقَّ القَوْلَ) ، أي يوجب الحجة عليهم.
ويجوز ُ لِتُنْذِر من كان حيًّا - بالتاء - خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم.
ويجوز لِينْذَرَ أَيْ لِيَعْلَمَ ، يقال نَذِرْتُ بكذا وكذا ، أَنْذَرُ مثل عَلِمْتُ أَعْلَمُ.
* * *
وقوله : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71)
معنى (مَالِكُونَ) ، ضابطون ، لأن القَصْدَ ههنا إلى أنها ذليلة لَهُمْ
ألا ترى إلى قوله (وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ)
ومثله مِنَ الشعر :

(4/294)


أصبحت لا أحمل السلاح ولا . . . أملِكُ رأسَ البعير إن نفرا
أي لا أضبط رأس البعير.
* * *
وقوله : (فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72)
معناه مَا يَرْكبُون ، والدليل قراءة من قرأ (فَمِنْهَا رَكُوبَتُهُمْ)
ويجوز رُكُوبُهم - بضم الراء ولا أعلم أحداً قرأ بها ، على معنى فمنها رُكُوبُهم وأكلُهُم وَشُرْبُهُمْ (1).
* * *
(لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75)
أي هم للأصنام ينتصرون ، والأصنام لا تستطيع نصرهم.
* * *
وقوله (وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78)
جاء في التفسير أن أُبَيَّ بن خَلَفٍ جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بعظم بَالٍ " ففركه ثم ذَرَّاهُ ، وقال مَنْ يحيي هذا ؟
فكان جوابه : (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ).
فابتداء القُدْرَةِ فيه أَبَينُ منها في الإعادة.
ويقال إن عبد اللَّه بن أْبي كان صاحب القصةِ ؛ ويقال العاص بن وائل . وأعْلَمهم أن خلق السَّمَاوَات والأرض أبلغ في القدرة ، وعلى إحياء الموتى فقال :
(أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81)
وقال في موضع آخر : (لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ).
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { رَكُوبُهُمْ } : أي : مَرْكوبهم كالحَلُوب والحَصُور بمعنى المَفْعول وهو لا ينقاسُ . وقرأ أُبيٌّ وعائشة « رَكوبَتُهم » بالتاء . وقد عَدَّ بعضُهم دخولَ التاءِ على هذه الزِّنَةِ شاذًّا ، وجعلهما الزمخشري : في قولِ بعضِهم جمعاً يعني اسمَ جمع ، وإلاَّ فلم يَرِدْ في أبنيةِ التكسير هذه الزِّنَة . وقد عَدَّ ابنُ مالك أيضاً أبنيةَ أسماءِ الجموع ، فلم يذكُرْ فيها فَعُولة . والحسن وأبو البرهسم والأعمش « رُكوبُهم » بضم الراء ، ولا بدَّ من حذف مضاف : إمَّا من الأولِ ، أي : فمِنْ منافعها رُكوبُهم ، وإمَّا من الثاني ، أي : ذو ركوبِهم . قال ابن خالويه : « العربُ تقول : ناقَةٌ رَكُوْبٌ ورَكُوْبَةٌ ، وحَلُوب وحَلُوْبَة ، ورَكْباةٌ حَلْباةٌ ، ورَكَبُوْتٌ حَلَبُوْت ، ورَكَبى حَلَبى ، ورَكَبُوْتا حَلَبُوْتا [ ورَكْبانَةٌ حَلْبانَة ] » وأنشد :
3788 رَكْبانَةٍ حَلْبَانَةٍ زَفُوْفِ . . . تَخْلِطُ بينَ وَبَرٍ موصُوْفِ
والمَشارِبُ : جمع مَشْرَب بالفتح مصدراً أو مكاناً . والضمير في « لا يَسْتَطيعون » إمَّا للآلهةِ ، وإمَّا لعابديها . وكذلك الضمائرُ بعده.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/295)


وقال : (فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)
معناه تنزيه اللَّه من السوء ومن أن يوصف بغير القدرة ، الذي
بيده ملكوت كل شىء أى القدرة على كل شيء.
(وإليه تُرْجَعُونَ).
وَتَرْجِعُونَ أي هوْ يبعثكم بعد موتكم .

(4/296)


سُورَةُ وَالصَّافَّاتِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله عزَّ وجلَّ : (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1)
أكثر القراءة تبيين التاء ، وقد قرئت على إدغام التاء في الصادِ.
وكذلك (فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (2)
فإن شئت أدْغمت التاء في الزاي ، وإن شئت بَيَّنْتَ ، وكذلك
(فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (3)
(إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4)
أقسم بهذه الأشياء - عزَّ وجلَّ - أنَّه وَاحِدْ.
وقيل معناه ورَبِّ هذه الأشياء إنه وَاحد.
وتفسير الصافات أنها الملائكة ، أي هم مطيعون في السماء
يسبحون اللَّه - عزَّ وجلَّ - فَالزاجِراتُ ، رُوِيَ أن الملائكةَ تزجر
السحاب ، وقيل : (فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا) كل مَا زَجَرَ عَنْ مَعْصِية اللَّه.
(فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً).
قيل الملائكةُ ، وجائز أن يكون الملائكة وغيرهم أيضاً مِمنْ يَتْلُونَ
ذِكْرَ اللَّه (1).
__________
(1) قال السَّمين :
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله : { والصافات صَفَّا } : قرأ أبو عمرو وحمزة بإدغامِ التاء من الصافَّاتِ ، والزَّاجراتِ والتاليات ، في صاد « صَفَّاً » وزاي « زَجْراً » وذال « ذِكْراً » ، وكذلك فَعَلا في { والذاريات ذَرْواً } [ الذاريات : 1 ] وفي { فالملقيات ذِكْراً } [ المرسلات : 5 ] وفي { العاديات ضَبْحاً } [ العاديات : 1 ] بخلافٍ عن خلاَّد في الأخيرين . وأبو عمروٍ جارٍ على أصلِه في إدغام المتقاربَيْن كما هو المعروفُ مِنْ أصلِه . وحمزةُ خارجٌ عن أصلِه ، والفرقُ بين مَذْهَبَيْهما أنَّ أبا عمرٍو يُجيز الرَّوْمَ ، وحمزةَ لا يُجيزه . وهذا كما اتفقا في إدغام { بَيَّتَ طَآئِفَةٌ } في سورة النساء [ الآية : 81 ] ، وإن كان ليس من أصلِ حمزةَ إدغامُ مثلِه . وقرأ الباقون بإظهار جميعِ ذلك.
ومفعولُ « الصَّافَّات » و « الزَّاجراتِ » غيرُ مرادٍ؛ إذ المعنى : الفاعلات لذلك . وأعرب أبو البقاء « صَفَّاً » مَفْعولاً به على أنه قد يَقَعُ على المصفوفِ . قلت : وهذا ضعيفٌ . وقيل : هو مرادٌ . والمعنى : والصافاتِ أنفسَها وهم الملائكةُ أو المجاهدون أو المُصَلُّون ، أو الصافَّاتِ أجنحتَها وهي الطيرُ ، كقوله : { والطير صَآفَّاتٍ } [ النور : 41 ] ، والزاجراتِ السحابَ أو العُصاةَ إنْ أُريد بهم العلماءُ . والزَّجْرُ : الدَّفْعُ بقوةٍ وهو قوةُ التصويتِ . وأنشد :
3789 زَجْرَ أَبي عُرْوَةَ السِّباعَ إذا . . . أشْفَقَ أَنْ يَخْتَلِطْنَ بالغَنَم
وزَجَرْتُ الإِبِلَ والغنمَ : إذا فَزِعَتْ مِنْ صوتِك . وأمَّا « والتاليات » فَيجوز أَنْ يكونَ « ذِكْراً » مفعولَه . والمرادُ بالذِّكْر : القرآنُ وغيرُه مِنْ تسبيحٍ وتحميدٍ . ويجوز أَنْ يكونَ « ذِكْراً » مصدراً أيضاً مِنْ معنى التاليات . وهذا أوفقُ لِما قبلَه . قال الزمخشري : « الفاءُ في » فالزَّاجراتِ « » فالتالياتِ « : إمَّا أَنْ تدلَّ على ترتُّبِ معانيها في الوجودِ كقولِه :
3790أ يا لَهْفَ زَيَّابةَ للحارثِ الصَّا . . . بحِ فالغانِمِ فالآيِبِ
كأنه قال : الذي صَبَحَ فغَنِمَ فآبَ ، وإمَّا على ترتُّبهما في التفاوتِ من بعضِ الوجوه ، كقوله : خُذِ الأفضلَ فالأكملَ ، واعمل الأحسنَ فالأجملَ ، وإمَّا على ترتُّبِ موصوفاتِها في ذلك كقولك : » رَحِمَ اللَّهُ المَحَلِّقين فالمقصِّرين « فأمَّا هنا فإنْ وحَّدْتَ الموصوفَ كانت للدلالةِ على ترتُّبِ الصفات في التفاضُلِ . فإذا كان الموحَّدُ الملائكةَ فيكون الفضلُ للصفِّ ثم للزَّجْرِ ثم للتلاوةِ ، وإمَّا على العكس . وإنْ ثَلَّثْتَ الموصوفَ فترتَّبَ في الفضل ، فتكون الصافَّاتُ ذواتَ فضلٍ ، والزاجراتُ أفضلَ ، والتالياتُ أَبْهَرَ فضلاً ، أو على العكس » يعني بالعكس في الموضعين أنك ترتقي من أفضلَ إلى فاضلٍ إلى مَفْضولٍ ، أو يُبْدَأُ بالأدنى ثم بالفاضل ثم بالأفضل.
والواوُ في هذه للقسمِ ، والجوابُ/ قولُه : { إِنَّ إلهكم لَوَاحِدٌ } . وقد عَرَفْتَ الكلامَ في الواوِ الثانيةِ والثالثةِ : هل هي للقسمِ أو للعطف؟. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/297)


(رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (5)
قيل المشارق ثلاثمائة وستون مشرقاً ، ومثلها مِنَ المَغَاربِ.
* * *
(إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6)
(بِزِينَةِ الْكَوَاكِبِ)
على إضافة الزينة إلى الكواكب ، وعلى هذا أكثرُ القِراءَةِ ، وقد
قرئت بالتنوين وَخَفْضِ الْكَوَاكِبِ ، والمعنى أن الكَواكِبَ بدل من
الزينة.
المعنى إنا زينا السماء الدنيا بالكواكب ، ويجوز بِزِينةٍ الكَواكِبَ.
وهي أقل ما في القراءة على معنى بأن زينا الكَواكِبَ.
ويجوز أن يكون الكواكب في النصْبِ بَدَلاً من قوله بزينةٍ ، لأن " بِزينةٍ "
في موضع نصب ، ويجوز بزينةٍ الكواكبُ.
ولا أَعْلَمُ أَحَداً قرأ بها ، فلا تقرأن بها.
إلا أن ثبتت بها رواية ، لأن القراءة سنة.
ورفع الكواكب على معنى أنا زينا السماء الدنيا بأن زَينتها الكواكبُ.
وبأن زُيِّنَتِ الكَوَاكِبُ (1).
* * *
وقوله : (وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7)
على معنى وحفظناها من كل شيطانٍ مَارِدٍ ، على معنى وَحَفِظْناها
حِفظاً من كل شيطان مارد.
يُقْذَفونَ بها إذا استرقوا السَّمعَ.
* * *
(لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8)
(لَا يَسْمَعُونَ)
ويقرأ بالتشديد (يَسَّمَّعُونَ) على معنى يتسمَّعُونَ (2).
* * *
(وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا)
أي يُدْحَرُونَ أي يُبَاعَدُونَ.
(وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9)
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { بِزِينَةٍ الكواكب } : قرأ أبو بكر بتنوين « زينة » ونصب « الكواكب » وفيه وجهان ، أحدهما : أَنْ تكونَ الزينةُ مصدراً ، وفاعلُه محذوفٌ ، تقديره : بأنْ زَيَّنَ اللَّهُ الكواكبَ ، في كونِها مضيئةً حَسَنةً في أنفسها . والثاني : أنَّ الزينةَ اسمٌ لِما يُزان به كاللِّيْقَةِ : اسمٌ لِما تُلاقُ به الدَّواةُ ، فتكون « الكواكبُ » على هذا منصوبةً بإضمارِ « أَعْني » ، أو تكون بدلاً مِنْ سماء الدنيا بدلَ اشتمالٍ أي : كواكبها ، أو من محل « بزينة ».
وحمزةُ وحفصٌ كذلك ، إلاَّ أنهما خَفَضا الكواكب على أنْ يُرادَ بزينة : ما يُزان به ، والكواكب بدلٌ أو بيانٌ للزينة.
والباقون بإضافةِ « زينة » إلى « الكواكب » . وهي تحتملُ ثلاثةَ أوجهٍ ، أحدها : أَنْ تكونَ إضافةَ أعمَّ إلى أخصَّ فتكونَ للبيان نحو : ثوبُ خَزّ . الثاني : أنها مصدرٌ مضافٌ لفاعلِه أي : بأن زَيَّنَتِ الكواكبُ السماءَ بضوئِها . والثالث : أنه مضافٌ لمفعولِه أي : بأَنْ زَيَّنها اللَّهُ بأَنْ جَعَلها مشرِقةً مضيئةً في نفسِها.
وقرأ ابن عباس وابن مسعود بتنوينها ، ورفعِ الكواكب . فإنْ جَعَلْتَها مصدراً ارتفع « الكواكب » به ، وإنْ جَعَلْتَها اسماً لِما يُزان به فعلى هذا ترتفع « الكواكبُ » بإضمار مبتدأ أي : هي الكواكبُ ، وهي في قوة البدلِ . ومنع الفراءُ إعمالَ المصدرِ المنوَّن . وزعمَ أنه لم يُسْمَعْ . وهو غلَطٌ لقولِه تعالى : { أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ } [ البلد : 14 ] كما سيأتي إن شاء الله . اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(2) قال السَّمين :
قوله : { لاَّ يَسَّمَّعُونَ } : قرأ الأخَوان وحفصٌ بتشديد السين والميم . والأصل : يَتَسَمَّعون فأدغم . والباقون بالتخفيف فيهما . واختار أبو عبيد الأُوْلى وقال : « لو كان مخففاً لم يتعَدَّ ب » إلى « . وأُجيب عنه : بأنَّ معنى الكلامِ : لا يُصْغُون إلى الملأ . وقال مكي : » لأنه جرى مَجْرى مُطاوِعِه وهو يتَسَمَّعُون ، فكما كان تَسَمَّع يتعدَّى ب « إلى » تَعَدَّى سَمِع ب « إلى » وفَعِلْتُ وافتعلْتُ في التعدِّي سواءٌ ، فَتَسَمَّع مطاوع سمعَ ، واستمع أيضاً مطاوع سَمِع فتعدَّى سَمِعَ تعدِّيَ مطاوعِه «.
وهذه الجملةُ منقطعةٌ عَمَّا قبلها ، ولا يجوزُ فيها أَنْ تكونَ صفةً لشيطان على المعنى؛ إذ يصير التقدير : مِنْ كلِّ شيطانٍ ماردٍ غيرِ سامعٍ أو مستمعٍ . وهو فاسدٌ . ولا يجوزُ أيضاً أَنْ تكونَ جواباً لسؤال سائلِ : لِمَ تُحْفَظُ من الشياطين؟ إذ يَفْسُد معنى ذلك . وقال بعضهم : أصلُ الكلامِ : لئلا يَسْمَعوا ، فَحُذِفت اللامُ ، وأَنْ ، فارتفع الفعلُ . وفيه تَعَسُّفٌ . وقد وَهِم أبو البقاء فجوَّزَ أَنْ تكون صفةً ، وأنْ تكونَ حالاً ، وأنْ تكونَ مستأنفةً ، فالأولان ظاهرا الفسادِ ، والثالثُ إن عنى به الاستئنافَ البيانيَّ فهو فاسدٌ أيضاً ، وإنْ أرادَ الانقطاعَ على ما قَدَّمْتُه فهو صحيحٌ . اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/298)


قيل دائم وقيل موجع.
* * *
(إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10)
(إِلَّا مَنْ خَطِفَ) - بفتحِ الطاء وكسرها ، يقال خَطِفْتُ أَخْطَفُ.
وخطَفْتُ أَخْطِفُ ، إذا أخذت الشيء بسرعة ، ويجوز إلا من خَطَّفَ
بتشديد الطاء وفتح الخاء . ويجوز خِطَفَ . بكسر الخاء وفتح الطاء.
والمعنى اختطف ، فأدغمت التاء في الطاء وسقطت الألف لحركة
الخاء ، فمن فتح الخاء ألقى عليها فتحة التاء التي كانت في اختطف.
ومن كسر فلسكونها وسكون الطاء.
فأما مَنْ روى خِطِفَ الخطفة - بكسرالخاء والطاء - فلا وجه له إلا وجهاً ضعيفاً جداً يكون على اتباع الطاء كسر الخاء (1).
* * *
(فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ).
يقال تَبِعْتهُ وَأَتْبَعْتهُ ، واتَّبَعْتُه ، إذا مَضَيْتُ في أثره.
و (شِهَابٌ ثَاقِبٌ) كوكب مُضَيءٌ.
* * *
(فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ (11)
أي سَلْهم سؤال تَقْرِيرٍ.
(أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا) من الأمم السالفة قبلهم وغيرهم من
السماوات والأ رضين.
(مِنْ طِينٍ لَازِبٍ).
ولازم ومعناهما واحد ، أي لازق (2).
* * *
(بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12)
وتقرأ (عَجِبْتُ) - بضم التاء - ومعناه في الفتح بل عجبتَ يَا مُحمد
مِن نُزُول الوحي عليك وَيَسْخَرون ، ويجوز أن يكون معناه بل عجبتُ (3)
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { إِلاَّ مَنْ خَطِفَ } : فيه وجهان ، أحدُهما : أنه مرفوعُ/ المحلِّ بدلاً مِنْ ضميرِ « لا يَسَّمَّعون » وهو أحسنُ؛ لأنه غيرُ موجَب . والثاني : أنه منصوبٌ على أصلِ الاستثناء . والمعنى : أنَّ الشياطينَ لا يَسمعون الملائكةَ إلاَّ مَنْ خَطِف . قلت : ويجوز أَنْ تكون « مَنْ » شرطيةً ، وجوابُها « فَأَتْبَعَه » ، أو موصولةً وخبرُها « فَأَتْبَعَه » وهو استثناءٌ منقطعٌ . وقد نَصُّوا على أنَّ مثلَ هذه الجملةِ تكونُ استثناءً منقطعاً كقوله : { لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ * إِلاَّ مَن تولى وَكَفَرَ } [ الغاشية : 22 - 23 ] . والخَطْفَةُ مصدرٌ معرفٌ بأل الجنسية أو العهدية.
وقرأ العامَّةُ « خَطِفَ » بفتح الخاء وكسرِ الطاءِ مخففةً . وقتادة والحسن بكسرهما وتشديد الطاء ، وهي لغةُ تميمِ بنِ مُرّ وبكرِ بن وائل . وعنهما أيضاً وعن عيسى بفتح الخاء وكسر الطاء مشددةً . وعن الحسن أيضاً خَطِفَ كالعامَّة . وأصل القراءَتَيْن : اخْتَطَفَ ، فلمَّا أُريد الإِدغامُ سَكَنت التاءُ وقبلها الخاءُ ساكنةً ، فكُسِرت الخاءُ لالتقاءِ الساكنين ، ثم كُسِرت الطاءُ إتْباعاً لحركةِ الخاء . وهذه واضحةٌ . وأمَّا الثانية فمُشْكِلَةٌ جداً؛ لأنَّ كَسْرَ الطاء إنما كان لكسرِ الخاء وهو مفقودٌ . وقد وُجِّه على التوهُّم . وذلك أنهم لَمَّا أرادوا الإِدغام نقلوا حركة التاء إلى الخاء ففُتِحَتْ وهم يتوهَّمون أنها مكسورةٌ لالتقاءِ الساكنين كما تقدَّم تقريرُه ، فأتبعوا الطاءَ لحركةِ الخاءِ المتوهَّمة . وإذا كانوا قد فَعَلوا ذلك في مقتضياتِ الإِعرابِ فَلأَنْ يَفْعلوه في غيرِه أَوْلَى . وبالجملة فهو تعليلُ شذوذٍ.
وقرأ ابن عباس « خَطِفَ » بكسر الخاء والطاء خفيفةً ، وهو إتْباعٌ كقولِهم : نِعِمَ بكسر النون والعين . وقُرئ « فاتَّبَعَه » بالتشديد . اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(2) قال السَّمين :
قوله : { أَم مَّنْ خَلَقْنَآ } : العامَّةُ على تشديدِ الميم ، الأصلُ : أم مَنْ وهي أم المتصلةُ ، عُطِفَتُ « مَنْ » على « هم » . وقرأ الأعمش بتخفيفها ، وهو استفهامٌ ثانٍ . فالهمزةُ للاستفهام أيضاً و « مَنْ » مبتدأ ، وخبره محذوفٌ أي : ألذين خَلَقْناهم أشدُّ؟ فهما جملتان مستقلتان وغَلَّبَ مَنْ يَعْقل على غيره فلذلك أتى ب « مَنْ » . ولازِبٌ ولازِمٌ بمعنىً . وقد قُرئ « لازم » . اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(3) قال السَّمين :
قوله : { بَلْ عَجِبْتَ } : قرأ الأخَوان بضمِّ التاء ، والباقون بفتحها . فالفتحُ ظاهرٌ . وهو ضميرُ الرسولِ أو كلِّ مَنْ يَصِحُّ منه ذلك . وأمَّا الضمُّ فعلى صَرْفِه للمخاطب أي : قُلْ يا محمدُ بل عَجِبْتُ أنا ، أو على إسنادِه للباري تعالى على ما يَليقُ به ، وقد تقدَّم تحريرُ هذا في البقرة ، وما وَرَدَ منه في الكتاب والسنَّة . وعن شُرَيْحٍ أنه أنكرها ، وقال : « إنَّ الله لا يَعْجَبُ » فبلغَتْ إبراهيمَ النخعي فقال : « إن شريحاً كان مُعْجَباً برأيه ، قرأها مَنْ هو أعلمُ منه » يعني عبد الله بن مسعود.
قوله : « ويَسْخَرون » يجوزُ أَنْ يكونَ استئنافاً وهو الأظهرُ ، وأن يكونَ حالاً . وقرأ جناح بن حبيش « ذُكِروا » مخففاً . اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/299)


من إنكارِهم البعث.
ومن قرأ (عَجِبتُ) فهو إخبار عن اللَّه . وقد أنكر قومٌ هَذهِ القراءةَ.
وقالوا : اللَّه - عزَّ وجلَّ - لا يعجب ، وإنكارهم هذا غلط.
لأن القراءة والرواية كثيرة والعجب من اللَّه - عزَّ وجلَّ - خلافُهُ من
الآدميين كما قال : (وَيَمْكُرُ اللَّهُ) ، و (سَخِرَ اللَّهُ منهم) ، (وَهُوَ خَادِعُهُمْ). والمكر من اللَّه والخداع خلافه من الآدميين.
وأصل العجب في اللغة أن الإنسان إذا رأى ما ينكره ويقل مثله قال :
عجبت من كذا وكذا ، وكذا إذا فعل الآدميون ما ينكره اللَّه جاز أن يقولَ فيه عجبتُ واللَّه قد علم الشيء قبل كونه ، ولكن الإنكار إنما يقع والعجب
الذي يلزم به الحجة عند وقوع الشيء.
* * *
(وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14)
أي إذا رأوا آية معجزة استسخروا واستهزأوا.
* * *
(وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (15)
فجعلوا ما يدل على التوحيد مِما يَعجِزون عنه سحراً.
نحو انشقاق القَمَر وما أشبهه.
* * *
وقوله : (أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16)
ويجوز (إِنَّا) ، فمن قرأ (إِنَّا) اجتزأ - بألف الاستفهام.
والمعنى في الوجهين أَنُبْعَثُ إذا كنا تراباً وعظاماً ، وتفسيره لمبعوثون.
* * *
(قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ (18)

(4/300)


المعنى قل نعم تُبْعَثُونَ وَأَنْتُم صَاغرُونَ ، ثم فسر أن بعثهم يقع
بزجرة واحدة بقوله :
(فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ (19)
أي يحيون ويبعثون بُصَرَاءَ ينظرون.
* * *
(وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20)
والويل : كلمة يقولها القائل وقت الهلكة.
ومعنى (هَذَا يَوْمُ الدِّينِ).
يوم الجزاء ، أي يَومٌ نُجازى فيه بأعمالنا ، فلما قالوا هذا يوم
الدين قيل لهم نعم :
(هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21)
أي هذا يوم يفصل فيه بين المحسن والمسيء ، ويجازى كل
بعَمَلِه ، وبما يتفضل اللَّه به على المسلم.
* * *
(احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22)
معناه ونظراءهم وضرباءهم ، تقول عندي من هذا أزواج ، أي
أمثال ، وكذلك زوجان من الخفاف ، أي كل واحد نظير صاحبه.
وكذلك الزوج المرأة والزوج الرجل ، وقد تناسبا بعقد النكاح.
وكذلك قوله : (وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58).
* * *
(فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23)
يقال : هديت الرجل إذا دللته ، وهديت العروس إلى زوجها.
وأهديت الهديَّة ، وكذلك تقول في العروس : أهديتها إذا جعلتها
كالهديَّة .

(4/301)


وقوله : (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24)
أي احبسوهم.
* * *
(مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25)
قوله : (لَا تَنَاصَرُونَ) في موضع نصب على الحال ، المعنى ما لكم
غير مَتَنَاصِرين.
* * *
(وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27)
أي يُسَائِلُ بعضُهم بعضاً.
* * *
(قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (28)
هذا قول الكفار للذين أضلوهم . كنتم تخدعوننا بأقوى
الأسباب ، أي كنتم تأتوننا من قبل الدِّين فَتُرُوننا أن الدِّينَ والحقَّ ما
تضلوننا به [وتُزَيِّنُون لنا ضلالتنا] (1).
* * *
(قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29)
أي إنما الكفْرُ مِنْ قِبَلِكُمْ.
* * *
(فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (31)
حِقت علينا كلمة العذاب.
(إِنَّا لَذَائِقُونَ).
أي إن الجماعة ، المضِل والضال في النارِ.
* * *
(فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (32)
__________
(1) زيادة حكاها صاحب اللسان عن الزجاج. اهـ (لسان العرب. 13 / 458).

(4/302)


أي أضْلَلْنَاكُمْ إنا كنا غَاوينَ ضَالين.
* * *
(إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34)
المجرمون المشركون خاصة.
* * *
(إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35)
يعني عن توحيد اللَّه عزَّ وجلَّ ، وألَّا يَجْعَلُوا الأصْنَامَ آلِهة.
* * *
(يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45)
الكأس الإناء إذا كانت فيه خمر فهو كأس ، ويقَعُ الكأسُ لكلِ إناء مع
شَرَابِهِ [فإن كان فارغاً فليس بكأس] (1).
(مِنْ مَعِينٍ).
أي من خمر تجري كما يجري الماء عَلَى وجه الأرض مِنَ العُيُونِ.
* * *
(بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46)
أي ذَاتَ لَذةٍ.
* * *
(لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47)
لا تغْتَالُه عُقُولَهُم ، لا تذْهبُ بِها ، ولا يُصِيبهُم منها وجع.
(وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ).
(يُنْزِفُونَ) - بفتح الزاي وكسرها.
فمن قرأ " يُنْزَفُونَ " فالمعنى لَا تَذْهَبُ عقولهم بشربها ، يقال للسكران نزيف ومنزوف.
ومن قرأ يُنْزِفونَ ، فمعناه لا يُنْفِدُونَ شَرابَهم ، أي هو دائم أبداً لهم.
ويجوز أن يكون يُنْزِفُونَ يَسْكَرُونَ.
قال الشاعر :
__________
(1) زيادة حكاها ابن الجوزي عن الزَّجَّاج. اهـ (زاد المسير. 7 / 56).

(4/303)


لَعَمْرِي لئنْ أَنْزَفْتُمُ أَو صَحَوتُمُ . . . لبئسَ النَّدامَى كنتمُ آلَ أَبْجَرا
* * *
(وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48)
أي عندهم حُورٌ قد قصرن طرفَهن أي عُيونَهُن عَلَى أَزْوَاجِهِن.
(عِينٌ) كِبَارُ الأعَيْنِ حِسَانُها . الواحدة عيناء.
* * *
(كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49)
أي كأنَّ ألوانهن ألوانُ بيض النعَامِ.
(مَكْنون) ، الذي يكِنه رَأْسُ النعَامِ.
ويجوز أن يكون مكنون مَصُون ، يقال كننت الشيء إذا سترته ، وصُنْتَهُ ، فهو
مَكْنونٌ ، وأكْنَنْتَهُ إذَا أَضْمَرْتَه في نفسك.
* * *
(يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52)
(الْمُصَدِّقِينَ)
مخففة من صَدَّقَ فهو مُصَدِّق ، ولا يجوز ههنا تشديد الصاد ، لأن
المصَّدِّقين الذين يعطون الصدقة.
و (الْمُصَدِّقِينَ) الذين لا يُكذِبون ، فالمعنى كان لي قرين يقول أئنك مِمن يُصَدِّق بالبعْث بَعدَ أن تَصِيرَ تُراباً وعظاماً ، فأحبَّ
قرينُه المسلم أن يراه بعد أن قيل له : (هَلْ أنتُم مُطَّلِعُونَ).
أي هل تحبون أن تطلِعُوا فتعلموا أين منزلتكم من منزلة أهل النار.
* * *
(فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55)
فاطلع المسلم فرأى قرينه الذي كان يكذب بالبعث في سَواء الجحيم.
أي في وسط الجحيم ، وسواءكل شيء وسَطُه.
ويقرأ : هَلْ أَنْتُمْ مُطْلِعُونَ - بفتح النون وكسرها وتخفيف الطاء -
فمن فتح النُونَ مع التخفيف فقال " مُطْلِعُونَ " فهو بمعنَى طَالِعُون ومُطلِعُونَ ، يقال طلعت عليهم وأطْلَعْتُ واطَّلَعْتُ بمعنًى
ومن قرأ مُطْلِعُون - بكسر النون قرأ " فَأُطْلِعَ " ومن قرأ بفَتْح النونِ
" مُطْلِعُونَ " وجب أن يقرأ فأُطْلَعَ.
ويجوز ُ " فَأُطْلِعَ " على معنى هل أنتم مُطْلِعُونَ

(4/304)


أَحَداً ، فأمَّا الكسر للنون فهو شاذ عند البصريين والكوفيين جميعاً وله عند
الجماعة وجه ضعيف وقد جاء مثله في الشعر :
هم القائلون الخير والأمرونه . . . إذا ما خَشَوْا مِن مُحَدث الأمرْ معظما
وأنشدوا :
وما أدري وظني كل ظَني . . . أَمُسْلِمُني إلى قومي شَرَاحِ
والذي أَنْشَدَنَيه محمد بن يزيد : أَيُسْلَمِنُي إلى قومي ، وإنما الكلام
أمُسْلِمِي وَأَيُسْلِمُنِي ، وكذلك هم القائلون الخير والأمروه ، وكل أسماء الفاعلين إذا ذكرت بعدها المضمر لم تذكر النون ولا التنوين.
تقول : زَيْد ضَارِبي وهما ضارباك ولا يجوز وهو ضاربُني ، ولا هم ضاربونك . ولا يجوز هم ضاربونك عندهم إلا في الشعر إلا أنه قد قُرِئ بالكسر :
(هلْ أَنْتُم مُطلِعُون) على معنى مطلعوني ، فحذفت الياء كما تحذف في رؤوس الآي ، وبقيت الكسرة دليلاً عليها.
وهو في النحو - أعني كسر النون - على مَا أَخْبَرْتُكَ ، والقراءة قليلة
بها ، وأجودُ القراة وأكثرها مُطَّلِعُونَ - بتشديد الطاء وفتح النون - ثم الذي يليه مُطْلِعُونِ بتخفيف الطاء وفتح النون (1).
* * *
(قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56)
__________
(1) قال السَّمين :
وقرأ العامَّةُ « مُطَّلِعُوْنَ » بتشديد الطاءِ مفتوحةً وبفتح النونِ . « فاطَّلَع » ماضياً مبنياً للفاعل ، افْتَعَلَ من الطُّلوع.
وقرأ ابنُ عباس في آخرين - ويُرْوَى عن أبي عمروٍ - بسكونِ الطاءِ وفتح النون « فأُطْلِعَ » بقطعِ همزةٍ مضمومةٍ وكسرِ اللامِ ماضياً مبنياً للمفعول . و « مُطْلِعُوْنَ » على هذه القراءةِ يحتمل أَنْ يكونَ قاصراً أي : مُقْبِلون مِنْ قولِك : أَطْلَعَ علينا فلانٌ أي : أَقْبَلَ ، وأَنْ يكونَ متعدياً ، ومفعولُه محذوفٌ أي : أصحابَكم.
وقرأ أبو البرهسم وعَمَّار بن أبي عمار « مُطْلِعُوْنِ » خفيفةَ الطاء مكسورةَ النونِ ، « فَأُطْلِعَ » مبنياً للمفعول . وقد رَدَّ الناسُ - أبو حاتم وغيرُه - هذه القراءةَ من حيث الجمعُ بين النونِ وضميرِ المتكلم؛ إذ كان قياسُها مُطْلِعيَّ ، والأصل : مُطْلِعُوْي ، فأُبْدِل وأُدْغِمَ نحو : جاء مُسْلِميَّ العاقلون ، وقوله عليه السلام « أوَ مُخْرِجِيَّ هم » وقد وَجَّهها ابنُ جني على أنَّه أُجْرِيَ فيها اسمُ الفاعل مُجْرى المضارع ، يعني في إثباتِ النونِ فيه مع الضميرِ . وأَنْشَدَ الطبريُّ على ذلك :
3806 وما أَدْري وظَنِّي كلَّ ظنِّ . . . أمُسْلِمُنِي إلى قومي شُراح
/وإليه نحا الزمخشريُّ قال : « أو شَبَّه اسمَ الفاعلِ في ذلك بالمضارعِ لتآخي بينِهما كأنَّه قال : » يُطْلِعُونِ « . وهو ضعيفٌ لا يقع إلا في شِعْرٍ . وذكر فيه توجيهاً آخر فقال : » أراد مُطْلِعونَ إياي فوضع المتصلَ موضعَ المنفصلِ ، كقوله :
3807 هم الفاعلونَ الخيرَ والآمِرُوْنَه . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ورَدَّه الشيخ : بأنَّ هذا ليس مِنْ مواضِع المنفصلِ حتى يَدَّعِيَ أن المتصلَ وَقَعَ موقِعَه . لا يجوز : « هندُ زيدٌ ضاربٌ إياها ، ولا زيدٌ ضارِبٌ إياي » قلت : إنما لم يَجُزْ ما ذَكَرَ؛ لأنه إذا قُدِرَ على المتصلِ لم يُعْدَلْ إلى المنفصلِ . ولقائلٍ أَنْ يقولَ : لا نُسَلِّمُ أنه يُقْدَرُ على المتصلِ حالةَ ثبوتِ النونِ والتنوينِ قبل الضميرِ ، بل يصيرُ الموضعُ موضعَ الضميرِ المنفصلِ؛ فيَصِحُّ ما قاله الزمخشريُّ . وللنحاةِ في اسمِ الفاعلِ المنونِ قبل ياءِ المتكلمِ نحوَ البيتِ المتقدمِ ، وقولِ الآخر :
3808 فهَلْ فتىً مِنْ سَراةِ القَوْمِ يَحْمِلُني . . . وليس حامِلَني إلاَّ ابنُ حَمَّالِ
وقول الآخر :
3809 وليس بمُعْيِيْنِيْ وفي الناسِ مُمْتِعٌ . . . صَديقٌ إذا أعْيا عليَّ صديقُ
قولان ، أحدُهما : أنَّه تنوينٌ ، وأنه شَذَّ تنوينُه مع الضميرِ ، وإنْ قلنا : إن الضمير بعده في محلِّ نصبٍ . والثاني : أنه ليس تنويناً ، وإنما هو نونُ وقايةٍ . واستدلَّ ابنُ مالكٍ على هذا بقولِه :
وليس بمُعْيِيْني . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وبقوله أيضاً :
3810 وليس المُوافِيني لِيُرْفَدَ خائباً . . . فإنَّ له أَضْعافَ ما كان أمَّلا
ووَجْهُ الدلالةِ من الأول : أنَّه لو كان تنويناً لكان ينبغي أن يحذفَ الياءَ قبلَه؛ لأنه منقوصٌ منونٌ ، والمنقوص المنونُ تُحذف ياؤه رفعاً وجَرَّاً لالتقاء الساكِنَيْن.
ووجهُها من الثاني : أنَّ الألفَ واللامَ لا تُجامِعُ النونَ والذي يُرَجِّح القولَ الأولَ ثبوتُ النونِ في قوله : « والآمِرُوْنَه » وفي قولِه :
3811 ولم يَرْتَفِقْ والناسُ مَحْتَضِرُونَه . . . جميعاً وأَيْدي المُعْتَفِيْنَ رواهِقُهْ
فإنَّ النونَ قائمةٌ مقامَ التنوينِ تثنيةً وجمعاً على حَدِّها . وقال أبو البقاء : « ويُقْرأ بكسرِ النونِ ، وهو بعيدٌ جداً؛ لأنَّ النونَ إنْ كانت للوقايةِ فلا تَلْحَقُ الأسماءَ ، وإنْ كانَتْ نونَ الجمعِ فلا تَثْبُتُ في الإِضافةِ » . قلت : وهذا الترديدُ صحيحٌ لولا ما تقدَّم من الجوابِ عنه مع تَكَلُّفٍ فيه ، وخروجٍ عن القواعد ، ولولا خَوْفُ السَّآمةِ لاسْتَقْصَيْتُ مذاهبَ النحاةِ في هذه المسألة.
وقُرِئ « مُطَّلِعُوْن » بالتشديد كالعامَّة ، « فأَطَّلِعَ » مضارعاً منصوباً بإضمار « أَنْ » على جوابِ الاستفهامِ . وقُرِئ « مُطْلِعون » بالتخفيف « فَأَطْلَعَ » مخففاً ماضياً ومخففاً مضارعاً منصوباً على ما تقدَّم . يُقال : طَلَع علينا فلانٌ وأَطْلع ، كأكْرم ، واطَّلَعَ بالتشديد بمعنًى واحد.
وأمَّا قراءةُ مَنْ بنى الفعلَ للمفعولِ في القائمِ مقامَ الفاعلِ ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنه مصدرُ الفعلِ أي : أُطْلِعَ الإِطلاعُ . الثاني : الجارُّ المقدرُ . الثالث - وهو الصحيح - أنه ضميرُ القائلِ لأصحابِه ما قاله؛ لأنه يُقال : طَلَعَ زيدٌ وأَطْلعه غيرُه ، فالهمزَةُ فيه للتعدية . وأمَّا الوجهان الأوَّلان فذهب إليهما أبو الفضل الرازيُّ في « لوامحه » فقال : « طَلَعَ واطَّلع إذا بدا وظَهَر ، وأَطْلَع إطلاعاً إذا جاء وأَقْبَلَ . ومعنى ذلك : هل أنتم مُقْبلون فأُقْبل . وإنما أُقيم المصدرُ فيه مُقام الفاعلِ بتقدير : فأُطْلِعَ الإِطلاعُ ، أو بتقدير حرفِ الجر المحذوف أي : أُطْلِعَ به؛ لأن أَطْلَعَ لازم كما أنَّ أَقْبَلَ كذلك ».
وقد رَدَّ الشيخُ عليه هذين الوجهين فقال : « قد ذَكرْنا أنَّ أَطْلَعَ بالهمزةِ مُعَدَّى مِنْ طَلَعَ اللازمِ . وأمَّا قولُه : » أو حرف الجرِّ المحذوف أي : أُطْلِع به « فهذا لا يجوزُ؛ لأنَّ مفعولَ ما لم يُسَمّ فاعلُه لا يجوزُ حَذْفُه لأنه نائبٌ عنه ، فكما أنَّ الفاعلَ لا يجوزُ حَذْفُه دونَ عامِله فكذلك هذا . لو قلت : » زيدٌ ممرورٌ أو مغضوبٌ « تريد : به أو عليه لم يَجُزْ » . قلت : أبو الفضل لا يَدَّعِي أنَّ النائبَ عن الفاعل محذوفٌ ، وإنما قال : بتقدير حرفِ الجرِّ المحذوفِ . ومعنى ذلك : أنه لَمَّا حُذِفَ حرفُ الجرِّ اتِّساعاً انقلبَ الضميرُ مرفوعاً فاستتر في الفعلِ ، كما يُدَّعى ذلك في حَذْفِ عائد الموصولِ المجرورِ عند عَدَمِ شروطِ الحذفِ/ ويُسَمَّى الحذفَ على التدريج . اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/305)


(تَاللَّهِ) معناه واللَّه ، والتاء بدل من الواو ، لترْدِينِ أي لتهلكني ، يقال رَدِيَ
الرجُلُ يَرْدَى رَدًى إذَا هَلَكَ ، وَأَرْدَيْتُه أَهْلَكتُه.
* * *
(وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57)
أي أُحْضَرَ العذاب كما أُحُضِرتَ.
* * *
(أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62)
المعنى أنعيم الجنة وطعامها خير نزلاً أم شجرة الزقوم خَيْرٌ نُزُلًا.
والنزُلُ : ههنا الرَّيْعُ والفضْلُ ، @تقول : هذا طعام له نُزُل ونُزْل بتسكين الزَّاي وَضمها وَنَزَل ، ويكون ذلك خير نُزُلاً ؛ أي أذلك خير في باب الإنْزَال التي تُتَقوَّتُ ويمكن معها الإقامةُ - أَمْ نُزُلُ أهل النارِ.
وإنما قيلَ لَهمْ فيما يقام للناس من الأنزال أقمت لهم نُزُلَهُمْ أي غذاءهم ، وما يصلح معه أن ينزلوا عليه.
* * *
ومعنى : (إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63)
عبرةً للظالمين ، أي خبرةً افتتنوا بها ، وكذبوا بها فصارت فتنة لهم.
وذلك أنهم لما سمعوا أنها شجرة تخرج في أصل الجحيم قالُوا : الشجر
يحترق بالنارِ ، فكيف ينبت الشجر في النار فافتتنوا وكذبوا بذلك.
* * *
(طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65)
فيه ثلاثة أقوال : قيل الشياطين حيات لها رءوس فشُبِّه طَلْعُهَا برءوس
تلك الحيات ، وقيل رءوس الشياطين نبت معروف.
وقيل وهو القَوْل المعروفُ أن الشيء إذا استقبح شُبِّهَ بالشيطان ، فقيل : كأنَّه وجه شيطانٍ ، وكأنه رأسُ شيطان ، والشيطان لا يُرى ، ولكنه يستشعر أنه أقبح ما يكون من الأشياء ، لو رُئِيَ لرئي في أقبح صورة.
قال امرؤ القيس :

(4/306)


أَيَقْتُلُني والمَشْرَفِيُّ مُضاجِعي ومَسْنونةٌ زُرْقٌ كأَنيابِ أَغوالِ ؟
ولم يُرَ الغولُ قط ولا أنيابُها ولكن التمثيل بما يستقبح أبلغ في باب
المذكر ، يمثل بالشيطان وفي باب ما يستقبح في المؤنث يشبه بالغول (1).
* * *
(ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (67)
أي لخلطاً ومِزَاجاً ، ويُقْرأ (لَشُوباً مِنْ حَمِيم) ، الشوْبُ المصدر ، والشوبُ
الاسمُ ، والخَلْطُ : المخلوط (2).
* * *
(فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70)
أي هم يَتْبعُونَ آثارَهم اتباعاً في سُرْعةٍ ، ويقال (يُهْرَعُون) كأنهم يزعجونَ
من الإسراع إلى اتباع آبائهم ، يقال هُرِعَ وأهرع في معنًى واحدٍ إذا اسْتُحِثَّ
وَأَسْرَعَ.
* * *
وَقَولَه : (إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74)
المخلصين الذين أخلَصَهُم اللَّه واصطفاهم لعبادَتِه . .
ويقرأ المُخْلِصِين أي الموَحِّدِينَ.
* * *
(وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75)
أي دعانا بأن ننقذه من الغرق ، والمعنى فلنعم المجِيبون نَحْنُ.
* * *
(وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76)
يعني كرب الغَرَقِ الذي هو عذاب.
* * *
(وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77)
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { رُءُوسُ الشياطين } : فيه وجهان ، أحدهما : أنه حقيقةٌ ، وأنَّ رؤوسَ الشياطينِ شجرٌ بعينِه بناحيةِ اليمن يُسَمَّى « الأسْتَن » وقد ذكره النابغةُ :
3812 تَحِيْدُ عن أَسْتَنٍ سُوْدٍ أسافِلُها . . . مثلَ الإِماءِ الغوادي تَحْمِل الحُزَمَا
وهو شجرُ مُرٌّ منكَرُ الصورةِ ، سَمَّتْه العربُ بذلك تشبيهاً برؤوس الشياطين في القُبْح ثم صار أصلاً يُشَبَّه به . وقيل : الشياطين صِنْفٌ من الحَيَّاتِ ، ولهنَّ أعْراف . قال :
3813 عُجَيِّزٌ تَحْلِفُ حينَ أَحْلِفُ . . . كمثلِ شيطان الحَماطِ أَعْرَفُ
وقيل : وهو شجرٌ يقال له الصَّوْمُ ، ومنه قولُ ساعدةَ بن جُؤَيَّة :
3814 مُوَكَّلٌ بشُدُوْفِ الصَّوْم يَرْقُبها . . . من المَغَارِبِ مَخْطوفُ الحَشَا زَرِمُ
فعلى هذا قد خُوْطِبَ العربُ بما تَعْرِفُه ، وهذه الشجرةُ موجودةٌ فالكلامُ حقيقةٌ.
والثاني : أنَّه من بابِ التَّخْييل والتمثيل . وذلك أنَّ كلَّ ما يُسْتَنْكَرُ ويُسْتَقْبَحُ في الطِّباعِ والصورةِ يُشَبَّه بما يتخيَّله الوهمُ ، وإن لم يَرَه . والشياطين وإن كانوا موجودين غيرَ مَرْئِيَّين للعرب ، إلاَّ أنه خاطبهم بما أَلِفوه من الاستعارات التخييلية ، كقوله :
3815 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ومَسْنُوْنَةٌ زُرْقٌ كَأَنْيابِ أَغْوالِ
ولم يَرَ أنيابَها ، بل ليسَتْ موجودة ألبتَّةََ . اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(2) قال السَّمين :
قوله : { لَشَوْباً } : العامَّةُ على فتح الشين ، وهو مصدرٌ على أصلِه . وقيل : يُرادُ به اسمُ المفعولِ ، ويَدُلُّ له قراءةُ شيبانَ النحويِّ « لَشُوباً » بالضمِّ . قال الزجاج : « المفتوحُ مصدرٌ والمضومُ اسمٌ بمعنى المَشُوْب » كالنَّقض بمعنى المنقوض . وعَطَفَ ب « ثمَّ » لأحدِ معنيين : إمَّا لأنه يُؤَخِّر ما يظنُّونه يَرْوِيْهم مِنْ عَطَشهم زيادةً في عذابهم ، فلذلك أتى ب « ثم » المقتضيةِ للتراخي ، وإمَّا لأنَّ العادة تقضي بتراخي الشُّرْبِ عن الأكلِ ، فعَمِل على ذلك المِنْوالِ . وأمَّا مَلْءُ البطنِ فيَعْقُبُ الأكلَ ، فلذلك عَطَفَ على ما قبلَه بالفاءِ و « مِنْ حميمٍ » صفةٌ ل « شَوْباً » . والشَّوْبُ : الخَلْطُ والمَزْجُ ومنه : شابَ اللبنَ يَشُوبُه أي : خَلَطه ومَزَجَه . اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/307)


لما جاء الطوفان لم يبق ألا نُوحَ وذُرئتُهُ ، والخلق الباقون من ذُرئةِ نوح.
* * *
(وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78)
أي تركنا عليه الذكر الجميل إلى يوم القيامة ، وذلك الذكر قوله :
(سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79)
المعنى تَرَكنَا عليه في الآخرين أن يصلى عليه إلى يوم القيامة.
* * *
(وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83)
أي من شيعة نوح ، من أهلِ مِلَّتِه يعني نوحاً.
* * *
(إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84)
جاء في التفسير سليم من الشرك ، وهو سليم من الشرك ومن كل
دَنسٍ.
* * *
(فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87)
قال إبراهيم لقومه - وهم يعْبُدُون الأصْنَامَ : أي شيءٍ ظنكم بِرَبِّ
العالمين وأنتم تعبدون : غيره.
وموضع (ما) رفع بالابتداء ، والخبرُ (ظَنُّكُمْ).
* * *
(فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89)
قال لقومه وقد رأى نجماً إني سَقِيمٌ ، فأوهمهم أن الطاعُونَ بِهِ.
(فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90)
فِراراً من أن يُعْدَىْ إليهم الطاعونُ ، وإنما " قال إني سَقِيمٌ ، لأن كل
واحد وأن كانَ مُعَافىً فلا بد مِن أَنْ يَسْقَم ويموت ، قال اللَّه تعالى :
(إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30).
أي إنك ستموت فيما يستقبل ، وكذلك قوله :

(4/308)


(إِنِّي سَقِيمٌ) أي سأسْقَم لا محالة.
وقد روي في الحديث : لم يكذب إبراهيم إلا في ثَلَاثةٍ ، وَقَدْ فَسَّرنَا ذَلِك ، وأن هذه الثلاث وقعت فيها معارضة في قوله :
(بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا).
على معنى : إنْ كَانُوأ يَنْطِقون فَقَدْ فَعَله كَبِيرُهُمْ
وقوله : " سَارَّةُ أخْتِي " ، أي أختي في الإسلام.
وقوله : (إِنِّي سَقِيمٌ) على ما فسَّرنا.
* * *
(فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93)
معنى راغ عليهم مال عليهم ، وضرباً مصدر ، المعنى فمال عَلَى الأصنام
يضربُهُمْ ضرباً بِالْيَمِينِ ، يحتمل وجهين (1) :
بيمينه ، وبالقوة والمكانة.
وقال : (عَلَيْهم) وهي الأصنام لأنهم جعلوها معبودةً بمنزلة ما يميز كما قال : (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ).
* * *
(فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94)
يعني قوم إبْرَاهِيم.
(يَزِفُّونَ) يُسْرِعُونَ إلَيْهِ . ويقرأ على ثَلاثةِ أوْجُهٍ (2).
(يَزِفُّونَ) - بفتح الياء وُيزِفُّونَ - بِضَفمهَا ، وَيزِفُونَ - بتخفيف الفاء.
وأَعْرَبُها كُلُّها (يَزِفُّونَ) بفتح الياء وتشديد الفاء ، وأصله من زفيف النعام ، وهو ابتداء عَدْوِهَا ، يقال زَفَّ النعام يَزِفُّ.
ويُقْرَأ يُزِفُّون أي يصيرون إلى الزفِيفِ.
ومثله قول الشاعر :
تَمَنَّى حُصَيْنٌ أَن يَسُودَ جِذاعَه . . . فأَمْسَى حُصَيْنٌ قد أُذلَّ وأُقْهِرا
معنى أَقْهَرَ صار إلى القَهْرِ.
وكذلك يُزِفونَ.
فأما يَزِفُونَ - بالتخفيف فهو من وَزَفَ يَزِفُ ، بمعنى أَسْرَع ، ولم يَعْرِفُهُ الفَرَّاء ، ولا الكِسَائِى ، وعَرفَه غيرُهمَا.
* * *
وقوله : (قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97)
__________
(1) قال السَّمين :
و « ضَرْباً » مصدرٌ واقعٌ موقعَ الحالِ أي : فراغ عليهم ضارِباً أو مصدرٌ لفعلٍ ، ذلك الفعلُ/ حالٌ تقديرُه : فراغَ يَضْرِب ضَرْباً ، أو ضَمَّن « راغَ » معنى يَضْرِبُ ، وهو بعيدٌ . و « باليمينِ » متعلِّقٌ ب « ضَرْباً » إن لم نجعَلْه مؤكِّداً وإلاَّ فبعامِلِه . واليمينُ : يجوزُ أن يُرادَ بها إحدى اليدين وهو الظاهرُ ، وأنُ يُرادَ بها القوةُ ، فالباءُ على هذا للحالِ أي : مُلْتبساً بالقوةِ ، وأَنْ يُراد بها الحَلْفُ وفاءً بقولِه : { وتالله لأَكِيدَنَّ } [ الأنبياء : 57 ] . والباءُ على هذا للسببِ . وعَدَّى « راغ » الثاني ب « على » لَمَّا كان مع الضَرْبِ المُسْتَوْلي عليهم مِنْ فَوقِهم إلى أسفلِهم بخلافِ الأولِ فإنه مع توبيخٍ لهم ، وأتى بضميرِ العقلاء في قولِه « عليهم » جَرْياً على ظنِّ عَبَدَتها أنها كالعقلاءِ . اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(2) قال السَّمين :
قوله : { يَزِفُّونَ } : حالٌ مِنْ فاعلِ « أَقْبَلوا » ، و « إليه » يجوزُ تَعَلُّقُه بما قبلَه أو بما بعده . وقرأ حمزةُ « يُزِفُّون » بضم الياء مِنْ أَزَفَّ وله معنيان ، أحدهما : أنَّه مِنْ أَزَفَّ يُزِفُّ أي : دخل في الزَّفيفِ وهو الإِسراعُ ، أو زِفافِ العَروسِ وهو المَشْيُ على هيئتِه؛ لأنَّ القومَ كانوا في طمأنينةٍ مِنْ أَمْرِهم ، كذا قيل هذا الثاني وليس بشيءٍ؛ إذ المعنى : أنهم لَمَّا سمعوا بذلك بادروا مُسْرِعين ، فالهمزة على هذا ليسَتْ للتعديةِ . والثاني : أنه مِنْ أَزَفَّ بعيرَه أي : حَمَله على الزَّفِيْفِ وهو الإِسراعُ أو على الزِّفافِ ، وقد تقدَّم ما فيه . وباقي السبعةِ بفتحِ الياءِ مِنْ زَفَّ الظليمُ يَزِفُّ أي : عَدا بسُرْعة . وأصلُ الزَّفيفِ للنَّعام.
وقرأ مجاهد وعبد الله بن يزيد والضحاك وابن أبي عبلة « يَزِفُون » مِنْ وَزَفَ يَزِفُ أي : أَسْرَعَ . إلاَّ أنَّ الكسائيَّ والفراء قالا : لا نعرفُها بمعنى زَفَّ ، وقد عَرَفَها غيرُهما . قال مجاهد - وهو بعضُ مَنْ قرأ بها - : « الوزيف : النَّسَلان ».
وقُرِئ « يُزَفُّون » مبنيَّاً للمفعول و « يَزْفُوْن » ك يَرْمُون مِنْ زَفاه بمعنى حَداه ، كأنَّ بعضَهم يَزْفو بعضاً لتسارُعِهم إليه . وبين قولِه : « فأَقْبَلُوا » وقولِه : « فراغ عليهم » جُمَلٌ محذوفةٌ يَدُلُّ عليها الفَحْوَى أي : فبلغَهم الخبرُ فرَجَعوا مِنْ عيدِهم ، ونحو هذا . اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/309)


كل نار بعضُها فوق بَعض ، وهي جَحْمٌ.
* * *
(رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100)
يقول : هب لي ولداً صَالِحاً من الصالِحِينَ.
* * *
(فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101)
وهذه البِشَارَة تدل على أنه غلام وأنه يبقى حتى يُوصفَ بالحلم.
* * *
(فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ
(102)
أي أدرك معه العَمَل ، يقال إنَّه قد بلغ في ذلك الوقت ثلاث عشرة سنة.
(قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى).
تقرأ غَيْرَ مماله ، وَ (تَرَى) - مُمَالَة ، - و (تُرِي) - بلا إمالة ، - وتُرِي - بالإمالة -
و (ماذا تُرَى) ففيها خمسة أوجه (1) :
ترى - بالفتح وبالكسر.
وكذلك في تُرِي وتُرَى ، . وفيها خمسة أوجه أخر لم يقرأ بشيء منها ، فَلَا تقرأنَّ بها ، وهو أن تأتي الخمسة التي ذكرناها ممالة وغير ممالة بغير همز فتهمزها كلها ، فما كان مُمَالاً هَمِزَ وأمال ، وما لم يكن مُمَالاً أمال ولم يهمز.
ويجوز ماذا تَرْأَى ممال.
وماذا تُرْئِي ، وماذا تُرْأَى ، وماذا تَرَى وَمَاذا تُرَى.
فمعنى ماذا تَرأَى وتُرْئي من الرأي ، ومعنى ماذا تُرَى مَاذَا تُشِيرُ.
وَزَعَم الفراء أن معناه مَاذَا تُرِيني من صَبْرِكَ ، ولا أعلم أحَداً قَالَ هَذَا.
وفي كل التفسير ما تُرِي ما تشير.
* * *
قال : (يَا أبَتِ افْعَلْ مَا تُومَرُ).
ورؤية الأنبياء في المنام وحيٌ بمنزلة الوحي إليهم في اليقظة.
وقد فَسَّرْنَا يا أَبَهْ ، وإعرابَهُ فيما سَلَفَ من الكتاب.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : « ماذا ترى » يجوزُ أَنْ تكونَ « ماذا » مركبةً مغلَّباً فيها الاستفهامُ فتكونَ منصوبةً ب « تَرَى » ، وهي وما بعدها في محلِّ نصب ب « انْظُر » لأنها مُعَلِّقةٌ له ، وأنْ تكونَ « ما » استفهاميةً ، و « ذا » موصولةً ، فتكون مبتدأً وخبراً ، والجملةُ معلِّقَةٌ أيضاً ، وأَنْ تكونَ « ماذا » بمعنى الذي فتكونَ معمولاً ل « انْظُرْ » . وقرأ الأخَوان « تُري » بالضم والكسر . والمفعولان محذوفان ، أي : تُريني إياه مِنْ صبرك واحتمالك.
وباقي السبعة/ « تَرَى » بفتحتين مِن الرأي . وقرأ الأعمش والضحَّاك « تُرَى » بالضمِّ والفتح بمعنى : ما يُخَيَّلُ إليك ويَسْنَحُ بخاطرك.
وقوله : « ما تُؤْمَرُ » يجوزُ أَنْ تكونَ « ما » بمعنى الذي ، والعائدُ مقدرٌ أي : تُؤْمَرُه ، والأصلُ : تُؤْمَرُ به ، ولكنَّ حَذْفَ الجارِّ مُطَّرِدٌ ، فلم يُحْذَفْ العائدُ إلاَّ وهو منصوبُ المحلِّ ، فليس حَذْفُه هنا كحذفِه في قولك : « جاء الذي مَرَرْتُ » . وأَنْ تكونَ مصدريةً . قال الزمخشري : « أو أَمْرَك ، على إضافةِ المصدرِ للمفعول وتسميةِ المأمورِ به أمراً » يعني بقولِه المفعول أي : الذي لم يُسَمَّ فاعلُه ، إلاَّ أنَّ في تقدير المصدرِ بفعل مبنيّ للمفعولِ خلافاً مَشْهوراً . اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/310)


(سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ).
يَقول على أمر اللَّه.
* * *
(فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103)
أسْلَما اسْتَسْلَمَا لأمر اللَّه.
رضي إبراهيم بأن يذبح ابنه ، ورضي ابنه بأن يُذبَح تصديقاً للرؤيا وطاعة للَّهِ.
واختلف الناس في الذي أمر بذبحه مَنْ كانَ ، فقال قوم إسحاق.
وقال قوم إسماعيل.
فأمَّا من قال إنه إسحاق ، فعليٌّ رحمة اللَّه عليه وابنُ مَسْعُودٍ وكعب
الأحبار ، وجماعة من التابعين.
وأما من قال إنه إسماعيل فابن عمر ومحمد بن كعب القرظي وسعيد بن المسيب وجماعة من التابعين.
وحجة من قال إنه إسماعيل قوله : (وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112).
وَحُجة من قال إنَّه اسحاق ، قال : كانت في إسحاق بشارتان الأولى فبشرناه
بغُلام حَلِيم.
فلما استسلم للذبح واستسلم إبراهيم لذبحه بُشِرَ به نبيًّا من
الصالحين.
والقول فيهما كثير واللَّه أعلم أيهما كان الذبيح.
فأمَّا جواب (فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) أي صَرَعَهُ.
فقد اختلف الناس فيه
فقال قوم جوابه وناديناه ، والواو زائدة ، وقال قوم إن الجواب محذوف بأن في الكلام دليلاً عليه.
المعنى فلما فعل ذلك سعِدَ وأتاه اللَّه نبوة وَلَدِه وأجزلَ لَهُ
الثواب في الآخرة.
* * *
(وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107)
الذِّبح : بكسر الذال الشيءُ الذي يُذْبَح ، والذَّبْح المصدر ، تقول : ذبحته
أذْبَحُه ذَبْحاً.
وقيل إنه الكَبْشُ الذي تُقُبِّلَ من ابن آدم حين قرَّبَه ، وقيل إنَّه رَعَا

(4/311)


في الجنة أربعين سنة ، وقيل إنَه كان وَعِلًا من الأوْعَالِ.
والأوعال التيوس الجبليَّةُ.
* * *
(وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115)
قيل من الغرَقِ كما فُعِلَ بِفِرْعَوْنَ وَقَوْمِه.
* * *
(وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123)
جاء في التفسير أنه إدريس ، ورويت عنِ ابن مَسْعُودٍ أنه قرأ : وإن
إدريس ، ورويت سلام على إدْرَاسِين (1).
* * *
(أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125)
قيل إن بعلًا كانوا يعبدونه ، صنماً من ذهب ، وقيل إن بعلاً تعني ، رَبًّا (2).
* * *
(اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126)
وقرئت (اللَّهَ رَبَّكُمْ) على صِفَةِ أحْسَنِ الخَالِقِينَ اللَّهَ.
وقرئت : (اللَّهُ رَبَّكُمْ) عَلَى الابثداء والخبر.
* * *
(سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130)
(سَلامٌ عَلَى آلِ يَاسِينَ).
وقُرئت إلْيَاس . فمن قرأ بالوصل فموضع إلياسين جمعٌ ، هو وأمته
المؤمنون ، وكذلك يجمع مَا يُنْسَب إلى الشيء بلفظ الشيء ، تقول : رأيت
المَسامِعَة والمَهَالِبةَ ، تريد بني المهَلَّب وبنيْ مِسْمَع ، وكذلك : رأيت المهلبين
والمِسْمَعِين.
وفيها وجه آخر تكون فيه لغتان إلياس وإلياسين كما قال ميكال
وميكائيل (3).
* * *
وقوله : (إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (135)
يعني في البَاقِينَ.
* * *
وقوله : (إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140)
(أَبَق) هَرَبَ إلى الفلك المشحون ، والمشحون المملوء.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { وَإِنَّ إِلْيَاسَ } : العامَّةُ على همزةٍ مكسورةٍ ، همزةِ قطع . وابنُ ذكوان بوَصْلِها ، ولم يَنْقُلْها عنه الشيخُ بل نقلها عن جماعةٍ غيرِه . ووجهُ القراءتَيْن أنه اسمٌ أعجميٌّ تلاعَبَتْ به العربُ فقطعَتْ همزتَه تارةً ، ووَصَلَتْها أخرى وقالوا فيه : إلْياسين كجِبْرائين . وقيل : تحتمل قراءةُ الوصلِ أَنْ يكون اسمُه ياسين ثم دَخَلَتْ عليه أل المعرِّفةُ ، كما دَخَلَتْ على ليَسَع وقد تقدَّم . وإلياس هذا قيل : هو ابنُ إلْياسين المذكورِ بعدُ ، مِنْ وَلَدِ هارونَ أخي موسى . وقيل : بل إلياس إدريسُ . ويَدُلُّ له قراءةُ عبد الله والأعمش وابن وثاب « وإنَّ إدْريس » . وقُرِئ « إدْراس » كإبْرَاهيمَ . وإبراهام . وفي مصحف أُبَيّ وقراءتِه : قوله : « وإن إيْليسَ » بهمزة مكسورة ثم ياءٍ ساكنةٍ بنقطتين مِنْ تحتُ ثم لامٍ مكسورةٍ ، ثم ياءٍ بنقطتين مِنْ تحتُ ساكنةً ، ثم سينٍ مفتوحةٍ.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(2) قال السَّمين :
قوله : { بَعْلاً } : القرَّاءُ على تنوينِه منصوباً ، وهو الرَّبُّ بلغة اليمن . سمع ابنُ عباس رجلاً منهم يَنْشُدُ ضالةً فقال آخر : أنا بَعْلُها فقال : اللَّهُ أكبرُ ، وتلا الآيةَ . وقيل : هو عَلَمٌ لصنم بعينه ، وله قصةٌ في التفسير . وقيل : هو عَلَمٌ لامرأةٍ بعينها أَتَتْهم بضلال فاتَّبعوها ، كذا جاء في التفسير . وتأيَّد صاحبُ هذه المقالة بقراءةِ مَنْ قرأ « بَعْلاءَ » بزنة حَمْراء.
قوله : « وتَذَرُوْنَ » يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً على إضمار مبتدأ ، وأَنْ يكونَ عطفاً على « تَدْعُون » فيكونَ داخلاً في حَيِّز الإِنكار . اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(3) قال السَّمين :
قوله : { على إِلْ يَاسِينَ } : قرأ نافعٌ وابن عامر { على آلِ يَاسِينَ } بإضافةِ « آل » بمعنى أهل إلى « ياسينَ » . والباقون بكسرِ الهمزةِ وسكونِ اللامِ موصولةً ب « ياسين » كأنه جَمَعَ « إلياس » جَمْعَ سلامةٍ . فأمَّا الأُوْلى : فإنَّه أراد بالآل إلياسَ وَلَدَ ياسين كما تقدَّم وأصحابَه . وقيل : المرادُ بياسين هذا إلياسُ المتقدمُ ، فيكونُ له اسمان . وآلُه : رَهْطُه وقومُه المؤمنون . وقيل : المرادُ بياسينَ محمدُ بن عبد الله صلَّى الله عليه وسلَّم.
وأمَّا القراءةُ الثانيةُ فقيل : هي جمعُ إلياس المتقدمِ . وجُمِعَ باعتبارِ أصحابِه كالمَهالبةِ والأَشاعثةِ في المُهَلَّبِ وبنيه ، والأَشعثِ وقومِه ، وهو في الأصلِ جمعُ المنسوبين إلى إلياس ، والأصلُ إلياسيّ كأشعَريّ . ثم اسْتُثْقِل تضعيفُهما فحُذِفَتْ إحدى ياءَي النسَب/ فلمَّا جُمِعَ سَلامةٍ التقى ساكنان : إحدى الياءَيْن وياءُ الجمعِ ، فحُذِفَتْ أولاهما لالتقاءِ السَّاكنين ، فصار إلياسين كما ترى . ومثلُه : الأَشْعَرُون والخُبَيْبُون . قال :
3820 قَدْنِيَ مِنْ نَصْرِ الخُبَيْبَيْنِ قَدِيْ . . . وقد تقدَّم طَرَفٌ من هذا آخر الشعراء عند « الأَعْجَمِيْن » . إلاَّ أنَّ الزمخشريَّ قد رَدَّ هذا : بأنَّه لو كان على ما ذُكِر لَوَجَب تعريفُه بأل فكان يُقال : على الإِلياسين . قلت : لأنه متى جُمِعَ العَلَمُ جَمْعَ سَلامةٍ أو ثُنِّي لَزِمَتْه الألفُ واللامُ؛ لأنه تَزُوْلُ عَلَميَّتُه فيقال : الزيدان ، الزيدون ، الزينبات ولا يُلْتَفَتُ إلى قولهم : جُمادَيان وعَمايتان عَلَمَيْ شهرَيْن وجبلَيْن لندورِهما.
وقرأ الحسن وأبو رجاء « على إلياسينَ » بوصلِ الهمزةِ على أنه جَمْعُ إلياس وقومِه المنسوبين إليه بالطريق المذكورة . وهذه واضحةٌ لوجودِ أل المعرفةِ فيه كالزيدِيْن . وقرأ عبد الله « على إدْراسين » لأنَّه قرأ في الأول « وإنَّ إدْريَس » . وقرأ أُبَيٌّ « على إيليسِيْنَ » لأنه قرأ في الأول « وإنَّ إيليسَ » كما حَرَّرْتُه عنه . وهاتان تَدُلاَّن على أن إلياسينَ جَمْعُ إلياس . اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/312)


(فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141)
(فَسَاهَمَ) قارع ، و (الْمُدْحَضِينَ) المَغْلوِبينَ.
لما صَارَ يونس في السفينة فلم تَسِرْ فقارَعَهُ أهل السفينة ، ووقعت عليه
القرعة فخرج منها وألقى نَفْسَهُ فى البحر.
* * *
(فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142)
وهو السمكة ، ولما خرج من السفينة سَارَتْ.
(وَهُوَ مُلِيمٌ).
قد أتى بما يلام عليه ، يقال : قد أَلَامَ الرجلُ فهو مُليم ، إذا أتى ما يجب
أن يلام عليه.
* * *
(فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143)
منَ المُصَلِّين.
* * *
(لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144)
جاء في التفسير أنه لبث أربعين يوماً ، وقال الحسن لم يَلْبَثْ إلا قَليلاً
وأخرج من بطنه بُعَيْدَ الوقت الذي التقِمَ فيه.
* * *
(فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145)
يعني بالمكَان الخالي ، والعراء عَلَى وجْهَيْن ، مَقْصُورٌ وَمَمْدُودٌ.
فالمقصور الناحِيَة ، والعزاء ممدود المكان الخالي.
قال أَبُو عُبَيدَةَ وغَيْرُهُ : إنما قيل له العراء لأنه لا شجر فيه ، ولا شيءَ يُغَطيه ، وقيل إن العراء وجه الأرْض.
ومعناه وجه الأرض الخالي ، وأنشدوا :
وَرَفَعْتُ رِجلاً لا أَخافُ عِثارَها . . . ونَبَذْتُ بالبَلَدِ العَراء ِثيابي

(4/313)


(وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146)
كل شجرة لا تنبت على ساقٍ ، وإنَّمَا تمتد على وجه الأرض - نحو
القَرْعِ والبطيخ والحنظل - فهو يقطين.
وأحسب اشتقاقها من قَطَنَ بالمكان إذا أقام به ، فهذا الشجر كله على وجه الأرض ، فلذلك قيل يقطين.
* * *
(وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147)
قال غير واحد معناه بل يزيدون.
قال ذلك الفراء وَأَبُو عبيدة وقال غيرهما معناهُ أَو يزَيدونَ فِي تَقْدِيركم أنتم إذا رآهم الرائي قال هؤلاء مائة ألف أو يزيدون على المائة
وهذا على أصل (أو).
وقال قوم : معناها معنى الواو . و (أو) لا تكون بمعنى الواو ، لأن الواو
معناها الاجتماع ، وليس فيها دليل أن أحد الشيئين قبل الآخر.
و (أَوْ) مَعناها إفراد أحد شيئين أو أشياء.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149)
أي سلهم مسألة توبيخ وتقرير ، لأنهم زعموا أن الملائكة بنات اللْه
تعالى اللَّه عَنْ ذَلِكَ.
* * *
(أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150)
معناه بل أَخَلَقْنَا الملائكة إِنَاثًا - . . (وَهُمْ شَاهِدُونَ).
* * *
(أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153)
هذه الألف مفتوحة ، هذا الاختيار ، لأن المعنى سَلْهُمْ هل أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ ، فالألف ألف استفهام . ويجوز اصطفى على أن يكون

(4/314)


حكاية عن قولهم ليَقُولًونَ اصطفى.
وفتح الألف وقطعها أجود على أأصطفى.
ثم تحذف ألف الوصل (1).
* * *
(وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158)
الْجِنَّة هَهُنَا المَلَائِكَةُ.
* * *
(وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ).
أي : وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ وهم الملائكة أن الذين قالوا : ولد اللَّه . . .
لمُحْضَرونَ العَذَابَ.
* * *
(سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159)
تنزيه اللَّه من السوء عن وَصْفِهِم.
* * *
(فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162)
أي ما أنتم بمضلين عليه ألا مَنْ أَضَل اللَّهُ.
* * *
(إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163)
أي لستم تضلون إلا أَهلَ النَّارِ ، وقرأ الحَسَنُ " إِلَّا مَنْ هُوَ صَالُ الْجَحِيمِ "
بضم اللام ، والقراءة بكسر اللام ، على معنى صالي.
والوقف عليها ينبغي أن يكون بالياء ، ولكنها محذوفة في المصحف.
ولقراءة الحَسنِ وجْهَان :
أحدهما أن يكون أراد صالونَ الجحيم فحذفت النونُ للإضافة وحذفت الواو لسكونها وسكون اللام من الجحيم ، ويَذْهَبُ بِـ (مَنْ) مَذْهَبَ الجِنْسِ ، أي بالجنس الذين هم صالوا الجحيم ، ويجوز أن يكون صَالُ في معنى صائل ، مفعول من صَالَى ، مثل جرف هارٍ أي هائرٍ ، والقراءة التي هي الإجماع كسر اللام (2).
* * *
(وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164)
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { أَصْطَفَى } : العامَّةُ على فتحِ الهمزة على أنها همزةُ استفهامٍ بمعنى الإِنكارِ والتقريعِ ، وقد حُذِفَ معها همزةُ الوَصْلِ استغناءً عنها.
وقرأ نافعٌ في روايةٍ وأبو جعفر وشيبةُ والأعمش بهمزةِ وَصْلٍ تَثْبُتُ ابتداءً وتَسْقُطُ دَرْجاً . وفيه وجهان ، أحدُهما : أنَّه على نيةِ الاستفهامِ ، وإنما حُذِفَ للعِلْمِ به . ومنه قولُ عُمَرَ بن أبي ربيعة :
3824 ثم قالُوا : تُحِبُّها قلتُ بَهْراً . . . عددَ الرَّمْلِ والحَصَى والترابِ
أي : أتُحبها . والثاني : أن هذه الجملةَ بَدَلٌ من الجملة المحكيَّةِ بالقول ، وهي « وَلَدَ اللَّهُ » أي : يقولون كذا ، ويقولون : اصطفى هذا الجنسَ على هذا الجنس . قال الزمخشري : « وقد قرأ بها حمزةُ والأعمشُ . وهذه القراءة وإنْ كان هذا مَحْمَلَها فهي ضعيفةٌ . والذي أَضْعَفَها أنَّ الإِنكارَ قد اكتنف هذه الجملةَ مِنْ جانَبيْها ، وذلك قولُه : » وإنهم لَكاذبون « ، { مَالَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } فمَنْ جَعَلَها للإَثباتِ فقد أَوْقَعها دخِيلةً بين نَسِيبَيْنِ » . قال الشيخ : « وليسَتْ دخيلةً بين نَسِيْبَيْن؛ لأنَّ لها مناسَبةً ظاهرةً مع قولِهم : » وَلَدَ اللَّهُ « . وأمَّا قولُه : » وإنهم لَكاذبون « فهي جملةُ اعتراضٍ بين مقالتَيْ الكفرة جاءَتْ للتنديدِ والتأكيدِ في كَوْنِ مقالتِهم تلك هي مِنْ إفْكِهم ».
ونَقَلَ أبو البقاء أنه قُرِئ « آصْطفى » بالمدِّ . قال : « وهو بعيدٌ جداً » . اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(2) قال السَّمين :
وقرأ العامَّةُ « صالِ الجحيم » بكسرِ اللامِ؛ لأنه منقوصٌ مضافٌ حُذِفَتْ لامُه لالتقاءِ الساكنين ، وحُمِلَ على لفظ « مَنْ » فأَفْرَدَ كما أَفْرد هو . وقرأ الحسنُ وابن أبي عبلة بضمِّ اللامِ مع واوٍ بعدَها ، فيما نقله الهذلي عنهما ، وابن عطية عن الحسن . وقرآ بضمِّها مع عَدَمِ واوٍ فيما نقل ابنُ خالويه عنهما وعن الحسن فقط ، فيما نقله الزمخشريُّ وأبو الفضل . فأمَّا مع الواو فإنَّه جَمْعُ سَلامةٍ بالواو والنون ، ويكون قد حُمِلَ على لفظ « مَنْ » أولاً فأفردَ في قوله « هو » ، وعلى معناها ثانياً فجُمِعَ في قوله : « صالُو » وحُذِفَتْ النونُ للإِضافة . وممَّا حُمِل فيه على اللفظ والمعنى في جملةٍ واحدةٍ وهي صلةٌ للموصولِ قولُه تعالى : { إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نصارى } [ البقرة : 111 ] فأفرد في « كان » وجُمِعَ في هوداً . ومثله قولُه :
3825 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وأَيْقَظَ مَنْ كان مِنْكُمْ نِياما
وأمَّا مع عَدَمِ الواو فيُحْتَمَلُ أَنْ يكونَ جمعاً أيضاً ، وإنما حُذِفَتْ الواوُ خطاً كما حُذِفَتْ لفظاً . وكثيراً ما يَفْعلون هذا : يُسْقِطون في الخطِّ ما يَسْقط في اللفظِ . ومنه « يَقُضُّ الحق » في قراءةِ مَنْ قرأ بالضاد المعجمة ، ورُسِمَ بغير ياءٍ ، وكذلك { واخشون ، اليوم } [ المائدة : 3 ] . ويُحْتمل أَنْ يكونَ مفرداً ، وحقُّه على هذا كسرُ اللامِ فقط لأنه عينُ منقوصٍ ، وعينُ المنقوصِ مكسورةٌ أبداً وحُذِفَتِ اللامُ وهي الياءُ لالتقاءِ الساكنين نحو : هذا قاضِ البلد.
وقد ذكروا فيه توجيهَيْن ، أحدهما : أنه مقلوبٌ؛ إذا الأصلُ : صالي ثم صايل : قَدَّموا اللامَ إلى موضع العينِ ، فوقعَ الإِعرابُ على العين ، ثم حُذِفَتْ لامُ الكلمة بعد/ القلب فصار اللفظ كما ترى ، ووزنُه على هذا فاعُ فيُقال على هذا : جاء صالٌ ، ورأيتُ صالاً ، ومررت بصالٍ ، فيصيرُ في اللفظِ كقولك : هذا بابٌ ورأيتُ باباً ، ومررتُ ببابٍ . ونظيرُه في مجردِ القلبِ : شاكٍ ولاثٍ في شائك ولائث ، ولكنْ شائِك ولائِث قبل القلب صحيحان ، فصارا به معتلَّيْن منقوصَيْنِ بخلافِ « صال » فإنَّه قبلَ القلبِ معتلٌّ منقوصٌ فصار به صحيحاً . والثاني : أنَّ اللامَ حُذِفَتْ استثقالاً مِنْ غيرِ قَلْبٍ . وهذا عندي أسهلُ ممَّا قبلَه وقد رَأَيْناهم يتناسَوْن اللامَ المحذوفةَ ، ويجعلون الإِعرابَ على العين . وقد قُرِئَ « وله الجوارُ » برفع الراءِ ، { وَجَنَى الجنتين دَانٌ } برفعِ النونِ تشبيهاً ب جناح وجانّ . وقالوا : ما بالَيْت به بالة والأصل بالِية كعافِيَة . وقد تقدَّمَ طَرَف مِنْ هذا عند قولِه تعالى : { وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٌ } فيمَنْ قرأه برفع الشين . اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/315)


هذا قول الملائكة ، وههنا مضمر ، المعنى مَا مِنا مَلَك إلا له مقام
معلوم.
* * *
(وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165)
أَيْ نحن المصلونَ.
* * *
(وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166)
المُمَجِّدون للَّهِ ، الذين ينزهُونَه عَنِ السوءِ.
* * *
(وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169)
كان كفار قريش يقولون لو جاءنا ذكر كما جاء غيرنا من الأولين لأخْلَصْنا
العبادة للَّهِ عزَّ وَجَل ، فلما جاءهم كفروا به.
* * *
(فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170)
أي سوف يعلمون مَغَبَّةَ كفرهم ، وما ينزل بِهم من العذاب والانتقام
منهم في الدنيا والآخرة . .
* * *
وقوله : (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171)
أي تقدم الوعدُ لهم باأنَّ اللَّه ينصرهم بالحجة وبالظفر بِعَدُوهِمْ في
الدنيا ، والانتقام من عدوهم في الآخرة.
* * *
(وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173)
حزب اللَّه لَهُمُ الغَلَبة.
* * *
(فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174)
حتى تنقضي المدةُ التي أُمْهِلُوا إليها .

(4/316)


(فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ (177)
نزل بهم العَذَابُ ، وكان عذاب هؤلاء في الدنيا القَتْل.
وقوله : (فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ)
أي فبئس صباح [الذين أنذروا العذاب] (1).
* * *
(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180)
فيه ثلاثة أوجه ، فمن نصب فعلى مدح اللَّه عزَّ وَجَلَّ.
ومن قرأ بالرفع فعلى المدح أيضاً على معنى هُوَ رَبُّ الْعِزَّةِ.
ومن خفض فعلى قوله رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ.
وفي النصب أيضاً أعني رَبَّ الْعِزَّةِ ، واذكر ربَّ الْعِزَّةِ (2).
__________
(1) زيادة حكاها ابن الجوزي عن الزَّجَّاج. اهـ (زاد المسير. 7 / 94).
(2) قال السَّمين :
قوله : { رَبِّ العزة } : أُضيف الربُّ إلى العزَّةِ لاختصاصه بها ، كأنه قيل : ذو العزَّة كما تقول : صاحبُ صِدْقٍ لاختصاصِه به . وقيل : المرادُ العزَّةُ المخلوقةُ الكائنةُ بين خَلْقِه . ويترتَّبُ على القولين مسألةُ اليمين . فعلى الأول ينعقدُ بها اليمينُ؛ لأنها صفةٌ من صفاتِه تعالى بخلاف الثاني ، فإنه لا ينعقدُ بها اليمينُ . اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/317)


سُورَةُ ( ص)
بسم اللَّه الزحمن ابرّحيم
(ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1)
قرئت بالفتح وبالكسر ، وبتسكين الدال ، وهي أكثر القراءة.
فمن أسكن " صاد " من حروف الهجاء ، وتقدير الدال الوقف عليها.
وقد فسرنا هذا في قوله (الم) أعني باب حروف الهجاء.
ومعناه الصادق اللَّه ، وقيل إنها قسم.
* * *
وقوله : (وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ).
عطف عليها ، المعنى أقسم بصاد وبالقرانِ ذي الذكر ، ومن فتحها فعلى
ضَرْبيْن ، يكون فتحاً لالتقاء السَّاكنيْن ، ويكون على معنى اتل صادَ ، ويكون
صاد اسماً للسورة لا ينصرف.
ومن كسر فعلى ضربين - لالتقاء السَّاكنين.
- وبكسرها على معنى صاد القرآن بعَمَلِك ، من قولك صادَى يُصَادِي إذَا قَابَل وَعَادَل ، يُقال صاديته إذا قابلته.
وجواب قوله : صَادِ والقرآن (إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64).
وقال قوم : الجوابُ : (كم أهلكنا قبلَهم مِنْ قَرْنٍ)
ومعناه لَكَمْ أهلكنا قبلهم مِنْ قَرْنٍ فلما طال الكلام بَيْنهُمَا حذفت اللام.
ومعنى (والقرْآنِ ذِي الذِّكْرِ).
أي ذي الذكر والشرف ، وقيل ذي الذكر : قد ذكرت فيه أَقَاصيصُ
الأوليت والآخرين وما يُحتاج إليه في الحلال والحرام (1).
* * *
(كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3)
__________
(1) قال السَّمين :
قرأ العامَّةُ بسكونِ الدالِ مِنْ « صادْ » كسائرِ حروف التهجِّي في أوائلِ السُور . وقد مرَّ ما فيه . وقرأ أُبَيٌّ والحسنُ وابنُ أبي إسحاق وابنُ أبي عبلة وأبو السَّمَّال بكسرِ الدال مِنْ غير تنوينٍ . وفيها وجهان ، أحدُهما : أنه كَسْرٌ لالتقاءِ الساكنين ، وهذا أقربُ . والثاني : أنه أمرٌ من المصاداة وهي المعارَضَةُ ومنه صَوْتُ الصَّدى لمعارضتِه لصوتِك وذلك في الأماكن الصلبةِ الخاليةِ والمعنى : عارِضِ القرآنَ بعملك ، فاعمَلْ بأوامرِه وانتهِ عن نواهيه . قاله الحسن . وعنه أيضاً : أنه مِنْ صادَيْتُ أي : حادَثْتُ . والمعنى : حادِثِ الناسَ بالقرآن.
وقرأ ابن أبي إسحاق كذلك ، إلاَّ أنه نَوَّنَه وذلك على أنَّه مجرورٌ بحرفِ قَسَمٍ مقدرٍ ، حُذِفَ وبقي عَمَلُه كقولِهم : « اللَّهِ لأفعلَنَّ » بالجرِّ . إلاَّ أنَّ الجرَّ يَقِلُّ في غيرِ الجلالة ، وإنما صَرَفه ذهاباً به إلى معنى الكتاب والتنزيل . وعن الحسنِ أيضاً وابن السَّمَيْفَعِ وهارون الأعور صادُ بالضمِّ من غيرِ تنوينٍ ، على أنه اسمٌ للسورةِ ، وهو خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي : هذه صاد . ومُنِعَ من الصرف للعَلميَّة والتأنيث ، وكذلك قرأ ابن السَّمَيْفَع وهارون : قاف ونون بالضمِّ على ما تقَّدمَ.
وقرأ عيسى وأبو عمروٍ في روايةِ محبوب « صادَ » بالفتح مِنْ غير تنوينٍ . وهي تحتمل ثلاثةَ أوجهٍ . البناءَ على الفتح تخفيفاً ك أين وكيف ، والجرَّ بحرفِ القسمِ المقدرِ ، وإنما مُنع من الصرف للعلميَّةِ والتأنيثِ كما تقدَّم ، والنصبَ بإضمارِ فِعْل أو على حذفِ حَرْفِ القَسم نحوَ قولِه :
3829 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . فذاكَ أمانةَ اللَّهِ الثريدُ
وامتنعَتْ من الصرف لِما تقدَّم ، وكذلك قرآ : « قاف » و « نون » بالفتح فيهما ، وهما كما تقدَّم ، ولم أحفَظْ التنوينَ مع الفتح والضم.
قوله : « والقرآنِ » قد تقدَّم مثلُه في { يس والقرآن } [ يس : 1-2 ] ، وجوابُ القسم فيه أقوالٌ كثيرةٌ ، أحدها : أنه قولُه : { إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ } [ ص : 64 ] ، قاله الزجاج والكوفيون غيرَ الفراءِ . قال الفراء : « لا نجده مستقيماً لتأخيره جداً عن قولِه : » والقرآن « . الثاني : أنه قولُه : » كم أهلَكْنا « والأصلُ : لكم أهلَكْنا ، فحذف اللامَ كما حَذَفها في قولِه : { قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا } [ الشمس : 9 ] بعد قولِه : { والشمس } لَمَّا طال الكلام . قاله ثعلبٌ والفراء . الثالث : أنه قولُه : { إِن كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرسل } [ ص : 14 ] قاله الأخفش . الرابع : أنه قولُه : » صاد «؛ لأنَّ المعنى : والقرآنِ لقد صدق محمد . قاله الفراء وثعلب أيضاً . وهذا بناءً منهما على جوازِ تقديمِ جوابِ القسم ، وأنَّ هذا الحرفَ مُقْتَطَعٌ مِنْ جملةٍ هو دالٌّ عليها . وكلاهما ضعيفٌ . الخامس : أنه محذوفٌ . واختلفوا في تقديره ، فقال الحوفي : / تقديرُه : لقد جاءَكم الحقُّ ، ونحوُه . وقَدَّره ابن عطية : ما الأمرُ كما يَزْعمون . والزمخشري : إنه لَمُعْجِزٌ.
والشيخ : إنَّك لمن المُرْسَلين . قال : « لأنه نظيرُ { يس * والقرآن الحكيم * إِنَّكَ لَمِنَ المرسلين } [ يس : 1-3 ] وللزمخشري هنا عبارةٌ بشعةٌ جداً . وهي : » فإنْ قلتَ : قولُه : ص والقرآنِ ذي الذكر بل الذين كفروا في عِزَّةٍ وشِقاقٍ كلامٌ ظاهرُه متنافٍ غيرُ منتظِمٍ . فما وجهُ انتظامِه؟ قلت : فيه وجهان ، أَنْ يكونَ قد ذكر اسمَ هذا الحرفِ من حروفِ المعجمِ على سبيلِ التحدِّي والتنبيه على الإِعجازِ كما مَرَّ في أَول الكتاب ، ثم أتبعه القسمَ محذوفَ الجواب لدلالةِ التحدِّي عليه ، كأنه قال : والقرآنِ ذي الذِّكْرِ إنه لَكلامٌ مُعْجِزٌ . والثاني : أَنْ يكونَ « صاد » خبرَ مبتدأ محذوفٍ على أنها اسمٌ للسورةِ كأنه قال : هذه صاد . يعني هذه السورةَ التي أعْجَزَتِ العربَ والقرآنِ ذي الذِّكْر ، كما تقول : « هذا حاتِمٌ واللَّهِ » تريد : هو المشهورُ بالسَّخاءِ واللَّهِ ، وكذلك إذا أقسمَ بها كأنَّه قال : أَقْسَمْتُ بصاد والقرآنِ ذي الذِّكْر إنه لَمُعْجِزٌ . ثم قال : بل الذين كفروا في عِزَّةٍ واستكبارٍ عن الإِذعانِ لذلك والاعترافِ ، وشِقاقٍ لله ورسوله ، وإذا جَعَلْتَها مُقْسَمَاً بها ، وعَطَفْتَ عليها { والقرآن ذِي الذكر } جازَ لك أَنْ تريدَ بالقرآنِ التنزيلَ كلَّه ، وأَنْ تريدَ السورةَ بعينِها . ومعناه : أُقْسِمُ بالسورةِ الشريفة : والقرآنِ ذي الذِّكْر كما تقولُ : مَرَرْتُ بالرجلِ الكريم والنَّسْمَةِ المباركة ، ولا تريد بالنَّسْمَةِ غيرَ الرجلِ «.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/319)


جاء في التفسير ولات حين نداء ، وقال أهلُ اللغَةِ وَلَاتَ حينَ مَنْجًى ولا
فَوْتَ ، يقال نَاصَه ينوصُه إذَا فاته.
وفي التفسير لات حين نداء معناه لات حِينَ نِداءٍ يُنْجي.
ويجوز لات حِينُ مَنَاص.
والرفع جيِّدٌ ، والوقف عليها " لاَتْ " بالتاء ، والكسائىُّ يقف بالهاء
(لَاهْ) لأنه يجعلها هاء التأنيث.
وحقيقة الوقف عليها بالتاء ، وهذه التاء نظيرةُ التاء في الفعل
في قولكَ ذَهَبَتْ وجَلَسَتْ ، وفي قولك : رأيتُ زيداً ثمت عَمراً ، فَتَاءُ الحروف بمنزلة تاء الأفعال ، لأن التاء في الموضعين دخلت على ما لا يعرب ، ولا هو في طريق الأسماء
فإن قال قائِل : نجعلها بمنزلة قولهم : كان من الأمر ذيهْ وذيهْ ، فهذه هاء في الوقف وهذه هاء دخلت على اسم لا يعرب ، وقد أجازوا الخَفْضَ فقالوا : لاَتَ أَوَانٍ.
وأنشدوا لأبي زُبَيْدٍ :
طَلَبُوا صُلْحَنا ولات أَوانٍ . . . فأَجَبْنا أَنْ لَيسَ حِينَ بَقاءِ
والذي أنشدنا أبو العباس محمد بن يزيد ورواه :
طَلَبُوا صُلْحَنا ولات أَوانٌ
وذكر أنه قد روي الكسرُ.
فأمَّا النصب فعلى أنها عَمِلَتْ عمل ليس ، المعنى وليس الوقت حين
مناص ومن رفع بها جعل حين اسم ليس وأضمر الخبر على معنى لَيْس حينُ
مَنْجًى لَنَا ومن خفض جعلها مبينة مكسورَةً لالتقاء السَّاكِنَين ، كما قالوا :
قَدلَكَ فبنوه على الكسر .

(4/320)


والمعنى ليس حين مناصنا وحين منجانا ، فلما قال : ولات أَوَان جعله
على معنى ليس حينَ أَوَانِنَا ، فلما حُذِفَ المضَافُ بُنِيَ على الوقف ثم كسِرَ
لالتقَاءِ السَّاكِنين ، والكسر شَاذ شبيه بالخطأ عند البصريين ، ولم يَرْوِ سيبويه
والخليل الكسر ، والذي عليه العمل النصب والرفع.
وقال الأخفَشُ : إن (لَاتَ حِينَ مَنَاصٍ) نصبها بـ (لا) كما تَقُولُ لَا رَجُلَ في الدار ، ودخلت التاء للتأنيث (1).
* * *
وقوله جل وَعز : (وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5)
(عُجَابٌ) في معنى عجيب ، ويجوز (عُجَابٌ) في معنى عجيب
يقال : رجل كريم وكُرَّام وكُرَام.
وهذه حكاية عن ملأ من قُرَيْش لما مَرِضَ أبو طالب المرضة التي مات
فيها أتاه أبو جهل بن هشام وجماعة من قريش يعودونه فشَكَوْا إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وقالوا يشتم آلهتنا ويفعل ، فعاتبه أبو طالب ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - إني أدعُوكم إلى كلمة يدين لكم العرب بها ، وتؤدي بها إليكم العجم الجزيَةَ ، فقال أبو جهل :
نَعَمْ وَعَشْراً على طريق الاستهزاء أي نقُولها وعشراً معها ، فقال :
لَا إلهَ إلا اللَّهُ ، فقالوا : أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا.
ثم نَهَضُوا وانطلقوا من مجلسهم يقول بعضهم لبعْض امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ.
* * *
وقوله : (وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6)
معناهْ أي امشوا ، وتأويله يقولونَ امْشُوا.
ويجوز : وانطلق الملأ منهم بأنِ امشوا أي بهذا القول.
* * *
وقوله : (مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7)
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { كَمْ أَهْلَكْنَا } : « كم » مفعولُ « أهلَكْنا » ، و « مِنْ قَرْنٍ » تمييزٌ ، و « مِنْ قبلِهم » لابتداء الغاية.
قوله : « ولات حين » هذه الجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحال مِنْ فاعل « نادَوْا » أي : استغاثوا ، والحالُ أنه لا مَهْرَبَ ولا مَنْجى.
وقرأ العامَّةُ « لاتَ » بفتح التاء و « حينَ » بالنصبِ ، وفيها أوجهٌ ، أحدها : - وهو مذهبُ سيبويه - أنَّ « لا » نافيةٌ بمعنى ليس ، والتاءُ مزيدةٌ فيها كزيادتِها في رُبَّ وثَمَّ ، ولا تعملُ إلاَّ في الأزمان خاصةً نحو : لاتَ حينَ ، ولات أوان ، كقوله :
3830 طلبُوا صُلْحَنا ولاتَ أَوانٍ . . . فَأَجَبْنا أنْ ليسَ حينَ بقاءِ
وقول الآخر :
3831 نَدِمَ البُغاةُ ولاتَ ساعةَ مَنْدَمِ . . . والبَغيُ مَرْتَعٌ مُبْتَغِيْه وخيمُ
والأكثرُ حينئذٍ حَذْفُ مرفوعِها تقديرُه : ولات الحينُ حينَ مناصٍ . وقد يُحْذَفُ المنصوبُ ويبقى المرفوعُ . وقد قرأ هنا بذلك بعضُهم كقوله :
3832 مَنْ صَدَّ عَنْ نيرانِها . . . فأنا ابنُ قَيْسٍ لا بَراحُ
أي : لا براحٌ لي . ولا تعملُ في غيرِ الأحيان على المشهور ، وقد تُمُسِّك بإعمالها في غير الأحيان بقولِه :
3833 حَنَّتْ نَوارُ ولاتَ هَنَّا حَنَّتِ . . . وبدا الذي كانَتْ نَوارُ أجَنَّتِ
فإنَّ « هَنَّا » مِنْ ظروفِ الأمكنةِ . وفيه شذوذٌ مِنْ ثلاثةِ أوجهٍ ، أحدها : عَمَلُها في اسمِ الإِشارةِ وهو معرفةٌ ولا تعملُ إلاَّ في النكراتِ . الثاني : كونُه لا يَتَصَرَّفُ . الثالث : كونُه غيرَ زمانٍ . وقد رَدَّ بعضُهم هذا بأنَّ « هَنَّا » قد خرجَتْ عن المكانية واسْتُعْمِلت في الزمان ، كقولِه تعالى : { هُنَالِكَ ابتلي المؤمنون } [ الأحزاب : 11 ] وقولِ الشاعر :
3834 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . فهناك يَعْتَرفون أين المَفْزَعُ
كما تقدم في سورة الأحزاب؛ إلاَّ أنَّ الشذوذَيْن الآخرَيْن باقيان . وتأوَّل بعضُهم البيتَ أيضاً بتأويلٍ آخرَ : وهو أَنَّ « لاتَ » هنا مهملةٌ لا عملَ لها و « هَنَّا » ظرفٌ خبرٌ مقدمٌ/ و « حَنَّتِ » مبتدأ بتأويلِ حَذْفِ « أنْ » المصدرية تقديرُه : أنْ حَنَّتْ نحو « تَسْمَعُ بالمُعَيْدِيِّ خيرٌ مِنْ أَنْ تَراه » . وفي هذا تكلُّفٌ وبُعْدٌ . إلاَّ أنَّ فيه الاستراحةَ من الشذوذاتِ المذكورات أو الشذوذَيْن.
وفي الوقفِ عليها مذهبان : المشهورُ عند العربِ وجماهيرِ القراءِ السبعةِ بالتاءِ المجبورةِ إتْباعاً لمرسومِ الخطِّ الشريفِ . والكسائيُّ وحدَه من السبعةِ بالهاء . والأولُ مذهبُ الخليلِ وسيبويه والزجاج والفراء وابن كَيْسان ، والثاني مذهبُ المبرد . وأغرب أبو عبيد فقال : الوقفُ على « لا » والتاءُ متصلةٌ ب « حين » فيقولون : قُمْتُ تحينَ قمتَ ، وتحينَ كان كذا فعلتُ كذا . وقال : « رأيتها في الإِمام كذا : » ولا تحين « متصلة . وأنْشَدَ على ذلك أيضاً قولَ الشاعر :
3835 العاطفونَ تحينَ ما مِنْ عاطِفٍ . . . والمُطْعِمون زمانَ لا من مُطْعِمِ
والمصاحفُ إنما هي « ولاتَ حين » . وحَمَلَ العامَّةُ ما رآه على أنه ممَّا شَذَّ عن قياسِ الخَطِّ كنظائرَ له مَرَّتْ لك.
وأمَّا البيتُ فقيل : إنَّه شاذٌّ لا يُلْتَفَتُ إليه . وقيل : إنه إذا حُذِفَ الحينُ المضافُ إلى الجملة التي فيها « لات » جاز أَنْ تُحْذَفَ « لا » وحدها ويُسْتَغْنى عنها بالتاء . والأصل : العاطفونَ حين لات حينَ لا مِنْ عاطفٍ ، فحذف « حين » الأول و « لا » وحدَها ، كما أنه قد صَرَّح بإضافة « حين » إليها في قول الآخر :
3836 وذلك حينَ لاتَ أوانَ حِلْمٍ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ذكر هذا الوجهَ ابنُ مالك ، وهو متعسِّفٌ جداً . وقد تُقَدَّرُ إضافةُ « حين » إليها مِنْ غيرِ حَذْفٍ لها كقولِه :
3837 تَذَكَّرَ حُبَّ ليلى لاتَ حينَا . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أي : حين لاتَ حين . وأيضاً فكيف يصنع أبو عبيدٍ بقوله :
3838 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ولاتَ ساعةَ مَنْدَمِ
[ وقوله ] :
3839 . . . . . . . . . . . . . . لات أوانَ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فإنه قد وُجِدت التاءُ مع « لا » دون « حين »؟
الوجه الثاني من الأوجه السابقة : أنها عاملةٌ عملَ « إنَّ » يعني أنها نافيةٌ للجنسِ فيكون « حينَ مناص » اسمَها ، وخبرُها مقدر تقديرُه : ولات حينَ مناصٍ لهم ، كقولك : لا غلامَ سفرٍ لك ، واسمها معربٌ لكونِه مضافاً.
الثالث : أنَّ بعدها فعلاً مقدراً ناصباً ل « حين مَناص » بعدها أي : لات أَرى حينَ مَناصٍ لهم بمعنى : لستُ أرى ذلك ومثلُه : { لاَ مَرْحَباً بِهِمْ } ولا أهلاً ولا سهلاً أي : لا أَتَوْا مَرْحباً ، ولا لَقُوا أهلاً ، ولا وَطِئوا سهلاً . وهذان الوجهان ذهب إليهما الأخفش وهما ضعيفان . وليس إضمارُ الفعلِ هنا نظيرَ إضماره في قوله :
3840 ألا رَجُلاً جَزاه اللَّهُ خيراً . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
لضرورةِ أنَّ اسمَها المفردَ النكرةَ مبنيٌّ على الفتح ، فلمَّا رأينا هذا معرباً قدَّرْنا له فعلاً خلافاً للزجاج ، فإنه يُجَوِّزُ تنوينَه في الضرورة ، ويدَّعي أن فتحتَه للإِعراب ، وإنما حُذِف التنوينُ للتخفيفِ ويَسْتَدِلُّ بالبيتِ المذكور وتقدَّم تحقيقُ هذا.
الرابع : أن « لات » هذه ليسَتْ هي « لا » مُزاداً فيها تاءُ التأنيث ، وإنما هي : « ليس » فأُبْدلت السينُ تاءً ، وقد أُبْدِلت منها في مواضعَ قالوا : النات يريدون : الناس . ومنه « سِتٌّ » وأصله سِدْس . قال :
3841 يا قاتلَ اللَّهُ بني السَّعْلاتِ . . . عمرَو بنَ يَرْبُوعٍ شرارَ الناتِ
لَيْسوا بأخيارٍ ولا أَكْياتِ . . . وقُرِئ شاذاً « قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النات » إلى آخره . يريد : شرارَ الناسِ ولا أكياسِ ، فأبْدل . ولَمَّا أبدل السينَ تاءً خاف من التباسها بحرفِ التمني فقلب الياءَ ألفاً فبقيَتْ « لات » وهو من الاكتفاء بحرف العلةِ؛ لأنَّ حرف العلة لا يُبْدل ألفاً إلاَّ بشروطٍ منها : أن يتحرَّكَ ، وأَنْ ينفتحَ ما قبله ، فيكون « حينَ مناص » خبرَها ، والاسمُ محذوفٌ على ما تقدَّم ، والعملُ هنا بحقِّ الأصالةِ لا الفرعيةِ.
وقرأ عيسى بن عمر { وَّلاَتِ حِينِ مَنَاصٍ } بكسر التاء وجرِّ « حين » وهي قراءةٌ/ مُشْكلةٌ جداً . زعم الفراء أنَّ « لات » يُجَرُّ بها ، وأنشد :
3842 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ولَتَنْدَمَنَّ ولاتَ ساعةِ مَنْدَمِ
وأنشد غيرُه :
3843 طلبوا صلحَنا ولاتَ أوانٍ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
البيت . وقال الزمخشري : « ومثلُه قول أبي زبيد الطائي : طلبوا صلحنا . البيت . قال : فإنْ قلتَ ما وجهُ الجرِّ في » أوان «؟ قلت : شُبِّه ب » إذ « في قوله :
3844 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وأنتَ إذٍ صحيحُ
في أنه زمانٌ قُطِع منه المضافُ إليه وعُوِّض منه التنوينُ لأن الأصلَ : ولات أوان صلح . فإن قلتَ : فما تقولُ في » حينَ مناصٍ « والمضافُ إليه قائمٌ؟ قلت : نَزَّلَ قَطْعَ المضافِ إليه مِنْ » مناص « - لأنَّ أصلَه : حين مناصِهم - منزلةَ قَطْعِه مِنْ » حين « لاتحاد المضاف والمضاف إليه ، وجَعَل تنوينَه عوضاً من المضافِ المحذوفِ ، ثم بَنى الحين لكونِه مضافاً إلى غير متمكن » . انتهى.
وخرَّجه الشيخُ على إضمار « مِنْ » والأصل : ولات مِنْ حين مناص ، فحُذِفت « مِنْ » وبقي عملُها نحو قولِهم : على كم جِذْعٍ بَنَيْتَ بيتك؟ أي : مِنْ جذع في أصحِّ القولَيْن . وفيه قولٌ آخر : أنَّ الجرَّ بالإِضافة ، ومثله قوله :
3845 ألا رَجُلٍ جزاه اللَّهُ خَيْراً . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أنشدوه بجرِّ « رَجُل » أي : ألا مِنْ رجل.
قلت : وقد يتأيَّد بظهورِها في قوله :
3846 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وقالَ : ألا لا مِنْ سبيلٍ إلى هندِ
قال : « ويكونُ موضعُ » مِنْ حين مناصٍ « رفعاً على أنه اسم لات بمعنى ليس ، كما تقولُ : ليس من رجلٍ قائماً ، والخبرُ محذوفٌ ، وعلى هذا قولُ سيبويه . وعلى أنه مبتدأٌ والخبرُ محذوفٌ على قولِ الأخفشِ . وخَرَّج الأخفشُ » ولاتَ أَوانٍ « على حَذْفِ مضافٍ ، يعني : أنه حُذِفَ المضافُ وبقي المضافُ إليه مجروراً على ما كان . والأصلُ : ولات حينُ أوانٍ.
وقد رَدَّ هذا الوجهَ مكيٌّ : بأنه كان ينبغي أَنْ يقومَ المضافُ إليه مَقامَه في الإِعراب فيُرفعَ . قلت : قد جاء بقاءُ المضافِ إليه على جَرِّه . وهو قسمان : قليلٌ وكثيرٌ . فالكثيرُ أَنْ يكونَ في اللفظ مِثْلُ المضاف نحو :
3847 أكلَّ امرِىءٍ تَحْسَبين امرَأً . . . ونارٍ تَوَقَّدُ بالليلِ نارا
أي : وكلَّ نارٍ . والقليلُ أَنْ لا يكونَ كقراءة مَنْ قرأ { والله يُرِيدُ الآخرة } بجر » الآخرةِ « فليكنْ هذا منه . على أنَّ المبردَ رواه بالرفعِ على إقامتِه مُقامَ المضافِ.
وقال الزجَّاج : » الأصل : ولات أواننا ، فحُذِفَ المضافُ إليه فوجَبَ أَنْ لا يُعْرَبَ ، وكسرُه لالتقاءِ الساكنين « . قال الشيخ : » هذا هو الوجهُ الذي قرَّره الزمخشريُّ ، أَخَذَه من أبي إسحاقَ « قلت : يعني الوجهَ الأولَ ، وهو قولُه : ولاتَ أوان صلحٍ.
هذا ما يتعلَّقُ بجرِّ « حين ».
وأمَّا كسرُ تاءِ « لات » فعلى أصلِ التقاءِ الساكنين ك جَيْرِ ، إلاَّ أنه لا تُعْرف تاءُ تأنيثٍ إلاَّ مفتوحةً.
وقرأ عيسى أيضاً بكسرِ التاءِ فقط ، ونصبِ « حين » كالعامَّةِ . وقرأ أيضاً « ولات حينُ » بالرفعِ ، « مناصَ » بالفتح . وهذه قراءةٌ مشكلةٌ جداً لا تَبْعُدُ عن الغلطِ مِنْ راويها عن عيسى فإنه بمكانةٍ مِنْ العلمِ المانعِ له من مثلِ هذه القراءةِ . وقد خَرَّجها أبو الفضلِ الرازيُّ في « لوامحه » على التقديمِ والتأخيرِ ، وأنَّ « حين » أُجْرِي مُجْرى قبل وبعد في بنائِه على الضمِّ عند قَطْعِه عن الإِضافة بجامع ما بينه وبينهما مِن الظرفيةِ الزمانيةِ . و « مَناصَ » اسمُها مبنيٌّ على الفتح فُصِل بينَه وبينها ب « حين » المقطوعِ عن الإِضافة . / والأصلُ : ولاتَ مناص حين كذا ، ثم حُذِفَ المضافُ إليه « حين » ، وبُني على الضم وقَدَّم فاصلاً بين « لات » واسمِها . قال : « وقد يجوزُ أَنْ يكونَ لذلك معنًى لا أَعْرِفُه » . وقد رُوِي في تاءِ « لاتَ » الفتحُ والكسرُ والضمُّ.
وقوله : « فنادَوْا » لا مفعولَ له؛ لأنَّ القصدَ : فَعَلوا النداءَ ، مِنْ غيرِ قصدِ منادى . وقال الكلبيُّ : « كانوا إذا قاتلوا فاضْطُرُّوا نادى بعضُهم لبعضٍ : مناص أي : عليكم بالفرارِ ، فلَمَّا أتاهم العذابُ قالوا : مناص » . فقال اللَّهُ تعالى لهم : ولات حينَ مناصٍ « . قال القشيريُّ : » فعلى هذا يكونُ التقديرُ : فنادَوْا مناص ، فحُذِف لدلالةِ ما بعده عليه « . قلت : فيكون قد حَذَفَ المنادى وهو بعضاً وما ينادُوْن به ، وهو مناص ، أي : نادَوْا بعضَهم بهذا اللفظِ . وقال الجرجانيُّ : » أي : فنادَوْا حين لا مناص أي : ساعةَ لا مَنْجَى ولا فَوْتَ ، فلمَّا قَدَّم « لا » وأَخَّر « حين » اقتضى ذلك الواوَ كما تقتضي الحالُ إذا جُعِل ابتداءً وخبراً مثلَ ما تقول : « جاء زيدٌ راكباً » ثم تقول : جاء وهو راكبٌ . ف « حين » ظرفٌ لقولِه « فنادَوْا » . قال الشيخ : « وكونُ أصلِ هذه الجملةِ فنادَوْا : حين لا مناص ، وأنَّ » حين « ظرفٌ لقولِه : » فنادَوْا « دعوى أعجميةٌ في نَظْمِ القرآن ، والمعنى على نظمِه في غايةِ الوضوح » . قلت : الجرجانيُّ لا يَعْني أنَّ حين ظرفٌ ل « نادَوْا » في التركيبِ الذي عليه القرآن الآن ، إنما يعني بذلك في أصلِ المعنى والتركيب ، كما شَبَّه ذلك بقولِك « جاء زيدٌ راكباً » ثم ب « جاء زيدٌ وهو راكبٌ » ف « راكباً » في التركيبِ الأولِ حالٌ ، وفي الثاني خبرُ مبتدأ ، كذلك « حين » كان في الأصل ظرفاً للنداء ، ثم صار خبرَ « لات » أو اسمَها على حسبِ الخلافِ المتقدِّم.
والمناصُ : مَفْعَل مِنْ ناص يَنُوص أي : هَرَبَ فهو مصدرٌ يقال : نَاصه يَنُوصه إذا فاته فهذا متعدٍّ ، وناصَ يَنُوص أي : تأخَّر . ومنه ناص عن قِرْنِه أي : تأخَّر عنه جُبْناً . قاله الفراء ، وأنشد قولَ امرئ القيس :
3848 أمِنْ ذِكْرِ سَلْمى أَنْ نَأَتْكَ تَنُوْصُ . . . فتَقْصُرُ عنها حِقْبةً وتَبُوْصُ
قال أبو جعفر النحاس : « ناصَ يَنُوص أي : تقدَّم فيكون من الأضداد » . واستناص طلب المَناص . قال حارثة بن زيد :
3849 غَمْرُ الجِراءِ إذا قَصَرْتُ عِنانَه . . . بيديْ اسْتَناصَ ورام جَرْيَ المِسْحَلِ
ويقال : ناص إلى كذا ينوص نَوْصاً أي : التجأ إليه . اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/321)


حكاية عنهم أيضاً ، أي ما سمعنا بهذا في النصْرانِية وَلَا اليهوديةِ ولا فيما
أدركنا عليه آباءنا.
(إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ).
أي إلا تقوُّل.
* * *
(أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8)
أي كيف أنزل الذكر عليه من بيننا ، أي كيف أُنْزِلَ على محمد القرآن
من بيننا.
(بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي).
أي ليس يقولون ما يعتقدونه إلا شَاكِّين.
* * *
وقوله : (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9)
إن قال قائل : ما وجه اتصال (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ) بقوله : (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي) ، أو بقوله (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا).
فهذا دليل على حَسَدِهم النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بما آتاه اللَّه من فَضْل النبوةِ.
فأعلمَ اللَّهُ أن الملكَ لَهُ والرسالَة إلَيْهِ.
يصطفي من يشاء ، ويؤتي الملك من يشاء
وينزل الغيث والرحمة على من يشاء فقال :
(أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ).
أي ليس عندهم ذلك.
* * *
(أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (10)
أي ليس من ذلك شيء.
(فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ).
أي إن ادَّعَوا شيئاً من ذلك فليصعدوا في الأسباب التي توصلهم إلى
السماء ، وجائز أن يكون فليرتقوا في هذه الأسباب التي ذكرت وهي التي

(4/322)


لا يملكها إلا الله.
ثم وعد اللَّه نبيَّه عليه السلام النَصْرَ علَيْهم فقال :
(جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ (11)
(ما) لغوٌ ، المعنى جند هُنَالِكَ مهزوم من الأحزاب.
* * *
(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12)
جاءْ في التفسير أن فرعون كانت له حبال وأوتادٌ يُلْعَبُ له عَلَيْها (1).
* * *
(وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (15)
(مِنْ فَوَاقٍ)
وفُواق بضم الفاء وفتحها ، أي ما لها من رجُوع ، والفُواق ما بين حَلْبَتَي
الناقَةِ ، وهو مشتق من الرجوع أيضاً لأنه يَعُودُ اللبَنُ إلى الضرْعِ بين الحلبتين ، وأفاق من مرضه من هذا ، أي رجع إلى الصحة.
فالفواق هو من هذا أيضاً (2).
* * *
(وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (16)
(القِط) النصيب ، وأصله الصحيفة يكتب للإنسان فيها شيء يصل إليه
قال الأعشى.
ولا المَلِكُ النُّعْمانُ يوم لَقِيتُه . . . بغِبْطَته يُعْطِي القُطوطَ ويأْفِقُ
يأْفِقُ يُفْضِلُ.
وهذا تفسير قولهم : (عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا) وهوكقولهم
(اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا) - الآية
وقيل إنهم لما سمعوا أن المؤمن يؤتى كتابه بيمينه والكاقر يؤتى كتابه بشماله ، فيسعد المؤمن ويهلك الكافر ، قالوا ربَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا.
واشتقاق القِط من قططت أي قطعتُ.
وكذلك النصيب إنَّمَا هو القطعة من الشيء.
* * *
(اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17)
(وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ)
ْذا القوة ، وكانت قوته على العبادة أتم قوة ، كان يصوم يوماً ويفطر يوماً.
وذلك أَشَدُّ الصوْمِ ، وكان يُصَلِّي نصفَ الليل.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { ذُو الأوتاد } : هذه استعارةٌ بليغةٌ : حيث شبَّه المُلْكَ ببيت الشَّعْر ، وبيتُ الشَّعْرِ لا يَثبتُ إلاَّ بالأوتادِ والأطناب ، كما قال الأفوه :
3851 والبيتُ لا يُبْتَنى إلاَّ على عمدٍ . . . ولا عمادَ إذا لم تُرْسَ أوتادُ
فاسْتعير لثباتِ العزِّ والمُلْكِ واستقرار الأمر ، كقول الأسود :
3852 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . في ظلِّ مُلْكٍ ثابتِ الأَوْتاد
/ والأَوْتادُ : جمعُ وَتِد . وفيه لغاتٌ : وَتِدٌ بفتح الواو وكسرِ التاءِ وهي الفصحى ، ووَتَد بفتحتين ، ووَدّ بإدغام التاء في الدال قال :
3853 تُخْرِجُ الوَدَّ إذا ما أَشْجَذَتْ . . . وتُوارِيْه إذا ما تَشْتَكِرْ
و « وَتَّ » بإبدالِ الدالِ تاءً ثم إدغام التاء فيها . وهذا شاذٌّ لأنَّ الأصلَ إبدالُ الأولِ للثاني لا العكسُ . وقد تقدَّم نحوٌ من هذا في آل عمران عند قولِه تعالى : { فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار } [ آل عمران : 185 ] . ويُقال : وَتِدٌ واتِدٌ أي : قويٌّ ثابت ، وهو مِثْلُ مجازِ قولهم : شُغْل شاغِلٌ . وأنشد الأصمعي :
3854أ لاقَتْ على الماءِ جُذَيْلاً واتِداً . . . ولم يَكُنْ يُخْلِفُها المَواعدا
وقيل : الأوتادُ هنا حقيقةٌ لا استعارةٌ . ففي التفسير : أنه كان له أوتادٌ يَرْبط عليها الناسَ يُعَذِّبُهم بذلك . وتقدم الخلافُ في الأَيْكة في سورة الشعراء . اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(2) قال السَّمين :
قوله : { مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ } : يجوزُ أَنْ يكونَ « لها » رافعاً ل « مِنْ فَواق » بالفاعليةِ لاعتمادِه على النفي ، وأَنْ يكونَ جملةً مِنْ مبتدأ وخبرٍ ، وعلى التقديرَيْن فالجملةُ المنفيَّةُ في محلِّ نصبٍ صفةً ل « صَيْحةً » و « مِنْ » مزيدةٌ . وقرأ الأخَوان « فُواق » بضمِّ الفاءِ ، والباقون بفتحها . فقيل : [ هما ] لغتان بمعنًى واحدٍ ، وهما الزمانُ الذي بين حَلْبَتَيْ الحالبِ ورَضْعَتَيْ الراضِع ، والمعنى : ما لها مِنْ تَوَقُّفٍ قَدْرَ فُواقِ ناقةٍ . وفي الحديث : « العِيادَةُ قَدْرَ فُواقِ ناقة » وهذا في المعنى كقوله تعالى : { فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً } [ الأعراف : 34 ] . وقال ابن عباس : ما لها مِنْ رجوعٍ . مِنْ أفاق المريضُ : إذا رَجَعَ إلى صحته . وإفاقةُ الناقةِ ساعةَ يَرْجِعُ اللبنُ إلى ضَرْعِها . يقال : أفاقَتِ الناقةُ تُفِيْقُ إفاقَةً رَجَعَتْ واجتمعَتْ الفِيْقَةُ في ضَرْعِها . والفِيْقَةُ : اللبنُ الذي يَجْتمع بين الحَلَبَتين ويُجْمع على أفْواق . وأمّا أفاوِيْقُ فجمعُ الجمع . ويُقال : ناقة مُفِيْقٌ ومُفِيْقَةٌ . وقيل : فَواق بالفتح : الإِفاقة والاستراحة كالجواب من أجاب . قاله مُؤرِّج السدوسيُّ والفراء . ومن المفسِّرين ابن زيد والسدِّي . وأمَّا المضمومُ فاسمٌ لا مصدرٌ . والمشهورُ أنهما بمعنىً واحدٍ كقَصاصِ [ الشَّعْر ] وقُصاصِه وحَمام المكُّوك وحُمامِه.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/323)


(إِنَّهُ أَوَّابٌ).
رجاع إلى اللَّه كثيراً ، الآيب الراجع ، والأوَّابُ الكثيرُ الرُّجوعِ.
* * *
(إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18)
الإشراق : طلوع الشمس وإضاءتُهَا ، يُقَالُ شَرِقَت الشَمْسُ إذا طلعت.
وأشرقت إذا أضاءت ، وقد قيل شرقت وأشرقت إذا طلعت في معنى واحد.
والأول أكثر.
* * *
(وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19)
كانت الجبال تُرَجَع التسبيح ، وكانت الطير كذلك ، فيجُوز أن تكون
الهَاءُ للَّهِ - جلَّ وعزَّ - أي كل للَّهِ مسبح ، الطير والجبال وَدَاودُ يسبحون للَّهِ عز وجل ، ويرجعون التسبيح.
ويجوز - واللَّه أعلم - أن يكون (كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ) كل يُرَجعْنَ التسبيح مع داود ، يُجِبْنَهُ ، كلما سبح سبحت الجبال والطير معه.
* * *
(وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20)
ويجوز وشدَّدنا ، ولا أعلم أَحدأ قَرَأَ بهَا.
معناه قوينا ملكه فكان من تقوية ماكه أنه كان يَحْرُسُ محرابه في كل ليلة ثلاثة وثلاثون ألفاً مِنَ الرجَال.
وقيل أيضاً إنَّ رَجُلًا استعدى إليه على رجل ، فادعى عليه أنه أخذ منه بَقَراً ، فأنكر المدعى عليه فسأل داود المدعي البينة فلم يقمها ، فرأى داود في منامه أن اللَّه يأمره أن يقتل المدعى عليه ، فتثبت داود ، وقال هو منام ، فأتاهُ الوحي بعد ذلك أَنْ يَقْتُلَه فأحضره ثم أعلمه أن الله أَمَرهُ بقَتْلِه ، فقال المُدَّعَى عليه : إن اللَّه - جلَّ وعزَّ - ما أخذني بهذا الذنب ، وإني قتلت أبا هذا غِيلةً فقتله داود ، فذلك مما كان عظم الله ، وشدَّدَ ملكه به .

(4/324)


(وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ).
قيل في ذلك أن يحكم بالبينة واليمين ، وقيل في فصل الخطاب ، أن
يفصل بين الحق والباطل.
وقيل (أَما بعد) ، وهو أول من قال أَمَّا بَعْدُ.
* * *
(وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21)
والمحرابُ أرفع بيت في الدار ، وكذلك هو أرفع مكان في
المسجد ، والمحراب ههنا كالغرفة.
قال الشاعر :
رَبَّةُ مِحْرابٍ إِذا جِئْتُها . . . لم أَلْقَها أَو أَرْتَقي سُلَّما
و (تَسَوَّرُوا) يدُلُّ على عُلُوٍّ.
وقال (الخَصْم) ولفظه لفظ الواحد ، و (تَسَوَّرُوا)
لفظ الجماعة لأن قولك خصم يصلح للواحد والاثنين والجماعةِ والذكر
والأنثى ، يقال : هذا خَصم وهي خصم وهما خصم وهم خُصْم.
وإنما صلح لجميع ذلك لأنه مصدر ، تقول خصمته أَخْصِمُه خَصْماً.
المعنى هما ذوا خصم وهم ذوو خصم ، وإن قلت خصوم جاز كما تقول هما عدل وهما ذوا عدل ، وقال اللَّه تعالى ، (وَأشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْل مِنْكُمْ).
فمعنى هما عدل هما ذوا عدل.
فما كان من المصادر قد وصفت به الأسماء فتوحيده جائز ، وإن
وصفت به الجماعة ، وتذكيره جائز وإن وصفت به الأنثى ، تقول هو رضًى وهما رِضًى ، وكذلك هذه رضًى.
* * *
وقوله تعالى : (إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22)
لأنهم أتَوْه مِن غَير مَأتَى الخُصوم ، وفي غير وقتهم ، وفي وقت لم يكن

(4/325)


داود يأذن فيه أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْه أحَد ، فأنكر ذلك وَفزِع.
وإنَّمَا بُعِثَ إليه مَلَكَان فتصَورا في صورة رَجُلَيْن متخاصِميْن.
(قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ).
القراءة - الرفع ، والرافع لِخَصْمانِ نحن ، والمعنى نحن خَصْمَانِ ولو كان
في الكلام لاَ تَخَفْ خَصْمَيْنِ بَغَى بَعْضُنَا على بَعْض لجاز ، على معنى
أَتَينَاكَ خَصْمَيْنِ لأنه أنكر إتيانهم ، وإتْيَانُ الخُصُومِ قَدْ كَان يعتاده كثيراً.
(فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ).
أي لا تَجُرْ ، يقال أَشَط يُشِط إذا جَار ، ويقرأ لَا تَشطُطْ بمعنى لا تَبْعُد
عن الحق ، وكذلك لَا تَشْطِطْ - بكَسْرِ الطاء وفتح التاء - معناه كمعنى الأول
قال الشاعر :
تَشُِطُّ غَداً دارُ جِيرانِنا . . . ولَلدَّارُ بَعْدَ غَدٍ
(واهْدِنا إلى سَواءِ الصِّراطِ).
إلى قصد الطريق - أي طريق الحق.
* * *
(إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23)
كَنَى بالنعجة عن المرأة.
قال الأعشى :
فَرمَيْتُ غُفْلَةَ عَيْنِه عن شاتِه . . . فأَصَبْتُ حَبَّةَ قَلْبها وطِحالَها
عنى بالشاة ههنا المرأة (1).
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { تِسْعٌ وَتِسْعُونَ } : العامَّةُ على كسر التاءِ ، وهي اللغةُ الفاشيةُ . وزيد بن علي والحسن بفتحها فيهما ، وهي لُغَيَّةٌ . وقرأ العامَّةُ « نَعْجة » بفتح النون ، والحسن وابن هرمز بكسرها . قيل : وهي لغةٌ لبعضِ بني تميمٍ . وكَثُرَ في كلامِهم الكنايةُ بها عن المرأةِ قال ابنُ عَوْنٍ :
3858 أنا أبُوْهُنَّ ثلاثٌ هُنَّهْ . . . رابِعَةٌ في البيتِ صُغْراهُنَّهْ . . . ونَعْجتي خَمْساً تُوَفِّيْهِنَّهْ . . . وقال آخر :
3859 هما نَعْجَتان مِنْ نِعاج تَبالَةٍ . . . لَدى جُؤْذُرَيْنِ أو كبعضٍ دُمَى هَكِرْ
وقوله : « وعَزَّني » أي : غَلَبني . قال الشاعر :
3860 قَطاةٌ عَزَّها شَرَكٌ فباتَتْ . . . تُجاذِبُهُ وقد عَلِقَ الجَناحُ
يقال : عَزَّهُ يَعُزُّه بضمِّ العينِ وتقدَّم تحقيقُه في سورة يس . وقرأ طلحة وأبو حيوة « وَعَزَني » بالتخفيف . قال ابن جني : « حَذْف الزاي الواحدةِ تخفيفاً . كما قال :
3861 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . أَحَسْنَ به فهنَّ إليه شُوْسُ
يريد : أَحْسَسْنَ » ، فحذف . وتُرْوَى هذه قراءةً عن عاصم . وقرأ عبد الله والحسن وأبو وائل ومسروق والضحاك « وعازَّني » بألفٍ مع تشديد الزاي ، أي : غالبني.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/326)


(فَقَالَ أكْفِلْنِيهَا).
أي اجعلني أنا أَكْفُلُهَا ، وانزل أنت عنها.
(وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ).
غلبني في الخُصومَةِ ، أي كان أقوى على الاحتجاج مِنِّي.
* * *
(قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24)
المعنى بسؤاله نعجتك ليضمها إلى نعاجه.
(وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ).
من الشركاء ، تقول فلان خليطي وشريكي في معنى وَاحِدٍ.
(إلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ).
أي قليل هم.
وقوله : (وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ) الآية.
ويقرأ بالتخفيف - فَتَنَاهُ - يعنى به الملكانِ.
ومعنى ظن أيقن ، ألا أنه ليس بيقينِ عيانٍ ، أَما العِيَانُ فلا يقال فيه إلا علم.
(فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ).
مكث أرْبَعِينَ يَوْماً سَاجِداً لَا يَرْفَعُ رَأسَهُ يستغفر اللَّه من ذَنْبِهِ ، إلا لصلاة
مكتوبة ومَا لاَ بُدَّ له منه ، وَلاَ ترقأ دَمْعَتُه (1).
__________
(1) من الإسرائيليات المنكرة.

(4/327)


ويروى في التفسير - أن قصةَ داودَ والملكين سَبَبُها أن إبليس - غَضِبَ اللَّهُ
عَليه - تمثل له في صورة طَيْرٍ مِنْ ذهَبٍ فسقط بقربه ، فأوى إليْه ليأخذه فتنحَّى وطلبه حتى إذَا قَارَبَ أنْ يتناوله تنحى فَبَصُرَ دَاودُ في اتباعِ الطير بِامرأةٍ تغْتَسِلُ ، وَبَصُرَتْ به فتجلَّلَت بشعرها حتى سترها
ويقال إنها امرأة أُورِيَّا بن حَنَّا.
وُيرْوَى أنه كتب إلى صاحب جنده أن يُقْدِمَ أُورِيَّا في حَرْبٍ كانت.
فقدَّمَهُ فَقُتِلَ فتزوجَها دَاودُ ، وُيرْوَى أن علِيًّا عليه السلام قال :
من قال : أن داود عليه السلام قَارَفَ مِن هذه المرأة ريبةً جَلَدْتُه مائة وستين جلدة ، لأن من قذف غير النبى جُلِدَ ثمانين جلدة ، ومن قذف نبياً جلد مائةً وستين جَلدة.
وكان في التفسير أن داود أحب أن يُتْلِفَ أُورِيَّا حتى يتزوج داود بامرأته.
وهذا - واللَّه أعلم - إنما كان من داود على جهة محبَّة أن يتفق له ذلك من غير أن يتعمد أو يسعى فى دم الرجل ، فجعله اللَّه له ذنباً لما أحبه.
ويجوز أن يكون كتب في أن يُقَدَّمَ أمام التابوت هذا الرجُلُ لبأسه ونَجْدَتِه في الحرب ورَجَا كفايته فاتفق مع ذلك أن أصيب وبه حلت له امرأته فعوتب على محبة امرأة رجل ليس له غيرها ، ولداود تسع وتسعون امرأة ، فكان ذلك من ذنوب الأنبياء ، فلما بالغ في التوبة وجهد نفسه في الرغبة إلى اللَّه في العفو حتى كاد أن يتلف نفسه تائباً ومُتَنَصِّلاً إلى اللَّه من ذنبه ، واللَّه عزْ وجل قد وصف ذلك فقال : (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ).
وَقَوْل عَلِيٍّ عليه السلام - صلى اللَّه على داود ورحمه - يدل على صحة
هذا التأويل ، واللَّه أعلم.
* * *
(يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26)
__________
(1)من أساطير وأكاذيب بني إسرائيل ، لا يصح ولا يثبت ولا يليق بآحاد المتقين فكيف بصفوة الله - عز وجل - من الأنبياء ؟؟!!!

(4/328)


بهذا جاز أن يقال للخلفاء خلفاء الله في الأرض.
(فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ).
أي بحكم اللَّه (ذكنت خليفته.
وقوله : (بِمَا نَسُوا يَوْمَ الحِسَابِ).
أي بتركهم العَمَل لهذا اليوْمِ صاروا بمنزلة الناسين ، وإن كانوا يُنْذَرُونَ
ويُذَكَّرُونَ.
* * *
(وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27)
أعلمهم اللَّه أنه يعذبهم علي الظن.
وكذْلك : (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ)
وإنَّمَا قيلَ لهم هذَا لأنهم جَحدوا البَعْثَ.
ودليلُ هذا قوله : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115).
إذا لم يكن رجعة لم يكن فصل بين الفاجر والبَرِّ.
وبعد هذا : (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28)
ثم قال : (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ
(29)
المعنى هذا كتاب لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ . ليُفكِروا في آياته ، وفي أَدْبَارٍ أُمُورِهم.
أي عواقبها.
(وَليَتَذَكرَ أُولُو الألْبَابِ) أي ذَوُو العقولِ.
* * *
(وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30)

(4/329)


المعنى نعم العبدُ سُلَيْمَانُ إنَّه أوَّابٌ كَثِير الرجوعِ.
* * *
(إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31)
الصافنات الخيل القائمة ، وقال أهلُ اللُّغَة وأهل التفسير ، الضافنُ القائم
الذي يثني إحدى يديه أو إحدى رجليه حتى يقف بها على سَنْبُكِه.
وهو طرف الحافِرِ ، فثلاث من قوائمه متصلة بالأرض ، وقائمة منها تَتصِلُ بالأرْضِ طرف حافِرهَا فقط
قال الشاعر
أَلِفَ الصُّفُونَ فلا يَزالُ كأَنه . . . مما يَقُومُ على الثلاثِ كسيرا
وقال بعضهم الصافِن القائِمُ ثَنَى إحْدَى قَوائمِه ولم يثنها ، والخيل أكثر ما
تقف - إذا وقفت - صافنةً ، لأنها كأَنَّهَا تُراوح بين قوائمها.
* * *
(فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ
(32)
" الخير " ههنا الخيلُ ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - سمَى زيد الخيل - زيد الخير ، وإنما سميت الخيل الخير لأن الخير معقود بنواصي الخيل - كذا جاء في الحديث.
وكانت هذه الخيل وردت على سليمان من غنيمة جيش كان له ، فتشاغل

(4/330)


باعتراضها إلى أن غابت الشمس وفاتته صلاة العصر.
قال أهل اللغة : (حَتَّى تَوارَتْ بِالحِجَابِ).
يعنى الشمس ، ولم يَجْر للشمس ذكر . .
وهذا لا أحسبهم أعْطَوُا الفكرَ حقَّه فيه ، لأن في الآية دليلاً يدل على الشمس ، وهو قوله : (إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ) والعِشي في معنى بَعدَ زَوال الشمس.
حتى تَوارَتِ الشمسُ بالحجاب ، وليس يجوز الإضمارُ إلا أن يجرِيَ ذكْر أو دَليلُ ذِكْرٍ بمنزلة الذِكْرِ.
وكان سليمان لِهَيْبَتِه لا يَجْسُر عليه أَحَدٌ حَتَّى يُنَبَّه لوقت صلاة ، ولست أدري هل كانت صلاةُ العَصْرِ مَفْروضَةً في ذلك الوقت أم لا ، إلا أن اعتراضه الخيل قد شغله حتى جاز وَقْت يذكر اللَّه - جلَّ وعزَّ - فيه.
ومعنى (أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ) آثرت حب الخير على ذكر اللَّه (1).
* * *
(رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (33)
المسح ههنا على ما جاء في التفسير القطع ، وَروي أنه ضَرَبَ سُوقها
وأعناقَها (2) ، وسُوق جمعُ سَاقٍ ، مثل دَار ودُور . ولم يكن سليمان ليضرب أعناقها إلا وقد أباح اللَّه ذلك ، لأنه لا يجعل التوبة من الذنب بذَنْبٍ عظيم . وقال قوم إنه مسح أعناقها وسوقها بالماء وبيده ، وهذا ليس يوجب شغلها إياه ، أعني أن يمسحها بالماء ، وإنَّمَا قال ذلك قوم لأن قتلها كان عندهم منكراً.
وليس ما يبيحه اللَّه بمنكر ، وجائز أن يباح ذلك لسليمان في وقته ويحظر في هذا الوقت ، ومالك يذهب إلى أنه لا ينبغي أن يؤكل لحم الخيل والبغال
والحمير ، لقول اللَّه عزَّ وجلَّ : (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً)
وقال في الإبل : (لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ)
__________
(1) بل الصحيح - والله أعلم - أنه - عليه السلام - ما أحب الخيل لذاتها ، وإنما كان الباعث له هو ذكر الله - عز وجل - لأنها كانت للجهاد في سبيل الله. والله أعلم.
(2) لا يصح ولا يثبت.

(4/331)


(وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34)
(فَتَنَّا) امتحنا.
(وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا).
جاء في التفسير أنه كان لسليمان ابن فخاف عليه الشياطينَ ، لأن
الشياطين كانت تَقْدِر الراحة مما كانت فيه بموت سليمان ، فقالت إن بقي له
وَلَدٌ لَمْ نَنْفكَّ مما نحن فيه ، فغذاه في السحاب إشفاقاً عليه فمات . فألقى
على كرسيه جَسَدٌ ، فجائز أن يكون هذا مُجازاتَهُ على ذَنْبِه ، وجائز أن يكون فأثكله اللَّه وَلَدَهُ.
وأكثر ما جاء في التفسير أن " جسداً " ههنا شيطان ، وأن سليمان أُمِرَ ألا
يتزوج امرأةً إلا من بني إسرائيل ، فتزوج من غيرهم امرأةً كانت تعبد غير اللَّه ، فعاقبه اللَّه بأن سَلَبَه مُلكَهُ وكان ملكه في خاتمه فدفعه عند دخوله الحمام إلى شيطانٍ ، وجاء في التفسير أنه يقال له صَخْر ، فطرحه في البحر فمَكث أربعين يوماً يتيه في الأرض حتى وَجَدَ الخاتم في بطن سَمكةٍ.
وكان شيطان تصور في صورته وجلس مجلسه ، وكان أمره ينفذ في جميع مَا كَان يَنْفُذُ فيه أَمْرُ سُلَيمانَ ، خَلَا نساءِ سُليمانَ ، إلى أن رَدَّ اللَّه عليه ملكه (1).
قال : (فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ).
أي ذلك الذنب.
(وَإِن لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ) حسن مَرْجِع.
* * *
(قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35)
__________
(1)هذه الأساطير والافتراءات يقال فيها وأشباهها (سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ)

(4/332)


أي هب لي ملكاً يكون فيه آية تدل على نبوتي ، لا ينبغي لأحد من
بعدي من الآدميين الذين ليسوا بأنْبياء ، يكون له آية تدل على أنك غفرت لي
وَرَددت إليَّ نبوتي . والدليل على هذا قوله
(فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36)
(رُخَاءً) لينةً ، وقيل (تجري بأمره) ليست بشديدة كما يحب.
(حَيْثُ أصَابَ)
إجماع المفسرين وأهل اللُّغَةِ أنه حيث أراد ، وحَقِيقَتُهُ
قَصَدَ ، وكذلك قولك للمجيب في المسألة : أَصَبْتَ ، أي قَصدْتَ ، فلم
تخطئ الجواب.
* * *
(وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37)
(الشَّيَاطِين) نسق على الريح.
وقوله (كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ) يدل على أنه من الشياطين.
المعنى وسخرنا له كل بناء من الشياطين وكل غواص.
وكان من يبني : (يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ).
وكان من يغوص يخرجون له الحلية من البحر.
(وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38)
مَرَدَةُ الجن الشياطين ، سُخروا له حتى قَرَنَهم في الأصْفَادِ.
والأصفاد السلاسل من الحديد ، - وكل ما شددته شدًّا وثيقاً بالحديد وغيره ، فَقَد صَفَدْتَه
وكل من أعطيته عطاء جزيلًا . فقد أصفدتَه كأنك أعطيته ما ترتبط به ، كما تقول للمُتَخِذِ مَالاً أَصْلاً يبقى عليه : قد اتخذت عقدة جَيدَةً.
* * *
(هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39)
(هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ)
أي أطلق من شئت مِنهم .

(4/333)


(هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ
(أَوْ أَمْسِكْ) أو احبس مَن شئت ولا حِسَابَ عليك في حَبْسِه.
وجائز أن يكون عطاؤنا ما أعطيناكَ من المال والكثرة والملك.
فامنن ، أي فاعْطِ منه.
(أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ).
بغير مِنةٍ عَلَيْكَ ، وإن شئت بغير حساب بغير جَزاء.
* * *
(وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ
(41)
(عَبْدَنَا) منصوب بوقوع الفعل عليه ، و (أَيُّوبَ) بدل من (عَبْدَنَا) ، لأن أيوب
هو الاسم الخاص ، والاسم الخاص لا يكون نعتاً إنما يكون بدلًا مُبيّناً
بِـ (نُصْبٍ) وَنَصَبٍ - بفتح النون والصاد ، ونُصْبٍ بضم النون بمعنًى وَاحدٍ - وقَدْ قُرئتْ بِنُصْب بضم النون - وإسكان الصاد ، وقرئت بفتح النون وإسكان الصاد.
وَنَصَبٍ بفتح النون والصادِ بِمَنْزِلَةِ نُصْبٍ بضم النونِ ، والنُّصْب والنَّصَب بمنزلة الرُّشْد والرَّشَدِ ، والبُّخل والبَّخل والعُرْب والعَرَب . والنَّصْبُ - بفتح النون وإسْكانِ الصادِ على أصل المصدر ، والنُّصْب والنصَبُ على معنى نَصَبْتُ نَصْباً وَنُصْباً . وَنَصْباً على أصل المصدر.
ومعنى (بِنُصْب وَعَذَابٍ) بضُرٍّ في بَدِنِي ، وَعَذَابٍ في مَالِي وَأَهْلِي
ويجوز أن يكون بضُرٍّ في بَدَني وعذاب فيه.
وروي أنه مكث أيوب عليه السلام سَبْعَ سِنِينَ مُبتَلًى يسعى الدُّودُ من
بَدَنِه ، فنادى رَبِّه : (أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (1).
* * *
(ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42)
المعنىٍ قلنا له : ارْكُضْ بِرِجْلِكَ : معناه دُسِ الأرض برجلك فداس
الأرْض دَوْسَة خفيفةً ، فنبعت له عَيْن فاغتسل منها فَذَهَبِ الداء من ظاهر بدنه ، ثم داس دَوْسة ثانية فنبع ماء فشرب منه فغسِلَت الداء من باطن بَدَنِه.
__________
(1) من الإسرائيليات المنكرة.

(4/334)


(وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (43)
قيل : وَوَهَبْنَا له أهله أعطيناه في الآخِرة ثوابَ فقدهم ، ووهبنا له في
الدنيا مثلهم ، وقيل أُحْيِي له أَهْلُه ، وَوُهِبَ لَهُ مِثْلُهم.
(رَحْمَةً مِنَّاا).
(رَحْمَةً) منصوبة مفعول لها.
(وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ).
لذوي العقول ، ومعنى (وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ) إذا ابتُليَ اللبيبُ ذَكر بَلاءَ
أَيوبَ فصَبَرَ.
* * *
(وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)
المعنى وقلنا خذ بيدك . والضغث الحِزْمَةُ منَ الحَشِيش أو الريحان أو ما
أشبه ذلك.
وجاء في التفسير أن امرأة أيوبَ قالت له : لو تقربت إلى الشيطان
فذبحت له عَنَاقاً : قال ولا كفًّا من تُرَاب ، وَحَلَفَ أن يَجْلِدَها إذا عُوفيَ مائةَ
جَلْدةٍ ، وشكر الله لها خِدْمَتَها إيَّاهُ فجعل تحلة يَمِينهِ أن يأخذ حزْمَة فيها مائة
قضيبٍ فيضربها ضربة واحدة.
فاختلف النَّاسُ فَقَالَ قومٌ هذا لِأيوبَ - عليه السلام - خاصَّةً.
وقال قوم : هذا لسائر الناس.
(أَوَّابٌ) كثير الرجوع إلى اللَّه.
* * *
(وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45)
(وَاذْكر عَبْدَنَا - (وعبادنا) (1)
من قال (عبادَنا) جعل إبراهيمَ وإسحاق ويعقوبَ بدَلاً مِنْ عِبَادِنَا.
ومن قرأ
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { عِبَادَنَآ } : قرأ ابنُ كثير « عَبْدَنا » بالتوحيد . والباقون « عبادَنا » بالجمعِ والرسمُ يحتملهما . فأمَّا قراءةُ ابنِ كثير ف « إبراهيمَ » بدلٌ أو بيانٌ ، أو بإضمار أَعْني ، وما بعدَه عطفٌ على نفس « عبدَنا » لا على إبراهيم؛ إذْ يَلْزَمُ إبدالُ جمع مِنْ مفردٍ . ولقائلٍ أنْ يقولَ : لمَّا كان المرادُ بعبدنا الجنسَ جاز إبدالُ الجمعِ منه . وهذا كقراءةِ ابنِ عباس { وإله أبيك إِبْرَاهِيمَ } في البقرة في أحدِ القولين وقد تقدَّم . وأمَّا قراءةُ الجماعةِ فواضحةٌ لأنَّها موافقةٌ للأولِ في الجمع.
قوله : « الأَيْدي » العامَّة على ثبوتِ الياءِ ، وهو جَمْعُ يدٍ : إمَّا الجارِحَةِ ، وكنَى بذلك/ عن الأعمالِ؛ لأنَّ أكثرَ الأعمالِ إنما تُزاوَلُ باليدِ . وقيل : المرادُ بالأيدي جمعُ « يَدٍ » المراد بها النعمةُ . وقرأ عبد الله والحسن وعيسى والأعمش « الأَيْد » بغيرِ ياء فقيل : هي الأُوْلى وإنَّما حُذِفَتِ الياءُ اجتزاءً عنها بالكسرة ولأنَّ أل تعاقِبُ التنوينَ ، والياءُ تُحْذَفُ مع التنوين ، فأُجْرِيَتْ مع أل إجراءَها معه . وهذا ضعيفٌ جداً . وقيل : الأَيْد : القوةُ . إلاَّ أنَّ الزمخشريَّ قال : « وتَفْسيرُه بالأَيْد من التأييد قِلِقٌ غيرُ متمكن » انتهى . وكأنَّه إنما قَلِقَ عنده لعطفِ الأبصارِ عليه ، فهو مناسبٌ للأيدي لا للأَيْد من التأييد . وقد يقال : إنه لا يُراد حقيقةُ الجوارح؛ إذ كلُّ أحدٍ كذلك ، إنما المراد الكناية عن العمل الصالحِ والتفكُّرِ ببصيرتِه فلم يَقْلَقْ حينئذٍ؛ إذ لم يُرِدْ حقيقةَ الإِبصارِ . وكأنه قيل : أُولي القوةِ والتفكُّر بالبصيرةِ . وقد نحا الزمخشري إلى شيءٍ مِنْ هذا قبلَ ذلك . اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/335)


عبَدنَا جعل إبراهيم وحدَهُ البَدَلَ ، وجعل إسحاق ويعقوب عَطْفاً على قوله
عَبْدنا.
وقوله : (أُولي الأيْدِي).
وقرئت الأيْد بغير ياء ومعنى أولي الأيدي أولي القوة في العبادة.
(والأبْصَارِ) أي هم ذوو بَصِيرةٍ فيما يقرب إلى اللَّه.
وقد يقول للقوم : لهم أيَدي بهؤلاء أي هم قادرون عليهم
قال الشاعر :
اعْمِدْ لِما تَعْلُو فما لكَ بالذِي . . . لا تَسْتَطِيع مِنَ الأُمورِ يَدانِ
أي اعمد لما تَقْهرُ ولا تعمد لما تُقْهَرُ فِيه ، أي فما لك قَوة.
من قرأ أُولي الأيْدِ بِغَير يَاء فمعناه من التأييد والتقوية على الشيء.
* * *
وقوله : (إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46)
ويقرأ بخالصةِ ذكرى الدار على إضافة خالصة إلى ذكرى
ومن قرأ بالتنوين جعل ذكرى الدار بدلًا مِنْ خَالِصَةٍ.
ويكون المعنى إنا أَخْلَصناهم بذكرى الدَّارِ.
ومعنى الدار ههنا الدار الآخرة.
وتأويله يحتمل وجهين :
أحدهما : إنا أَخْلَصْنَاهم جعلناهم لنا خالصين ، بأن جعلناهم يُذَكِرُون بالدار
الآخرة ، وُيزَهِّدُونَ في الدنيا ، وكذلك شأن الأنبياء صلوات اللَّه عَلَيْهِم . وَيَجُوزُ أنْ يكون بأنهم يكثرون ذكر الآخرة والرجوع إلى الله جلَّ وعَزَّ.
* * *
(وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47)
أي الذين اتخذهم اللَّهُ صَفْوةً ، صَفاهم من الأدناس كلِّهَا وَأَخْلَصَهُم
منها .

(4/336)


وقوله : (وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ (48)
ويقرأ واللَّيْسَعَ وَذَا الكِفْلِ.
وكان تكفلَ بعمل رَجُل صالح . يقال إنه كان يصلي ذلك الرجل في كل يوم مائة صلاة فتُوُفِّيَ الرجل الصالح فتكفل ذو الكفل بعمله ، فكان يعمل عمله ، ويقال إن ذا الكفل تكفَّل بأمْرِ أَنْبِيَاءَ فخلَّصهم من القتل فسُمِّيَ ذا الكِفْلِ.
(وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ).
المعنى وكل هؤلاء المذكورين من الأخيار.
والأخيار جمع خيِّر وأَخْيارٌ مثل ميِّت وأموات.
* * *
(هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49)
معناه - واللَّه - أعلم - هذا شرف وذكر جميل يذكرون به أَبداً ، وإن لهم
مع ذلك لَحُسْنَ مآبٍ أي لحسن مَرْجع.
يذكرون في الدنيا بالجميل ويرجعون في الآخرة إلى مغفرة اللَّه.
ثم بين كيف حسن ذلك المرجعْ فقال :
* * *
(جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (50)
(جَنَّاتِ) بدل من (لَحُسْنَ مَآبٍ)
ومعنى مفتحة لهم الأبواب أي منها.
وقال بعضهم : مُفَتحَةً لهم أبْوَابُها والمعنى وَاحِد ، إلا أن على تقدير العَرَبيةِ
" الأبْوابُ مِنْهَا " أجودُ من أَنْ تجعل الألف واللام وبدلًا من الهاء والألف . لأن معنى الألف واللام ليس معنى الهاء والألف في شيء.
لأن الهاء والألف اسم ، والألف واللام دخلتا للتعريف ، ولا يبدل حرف جاء لمعنى من اسم ولا ينوب عنه . هذا محال (1).
* * *
(وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (52)
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { جَنَّاتِ عَدْنٍ } : العامةُ على نصب « جنات » بدلاً من « حُسْنَ مَآب » سواءً كانَتْ جنات عدنٍ معرفةً أم نكرةً؛ لأنَّ المعرفةَ تُبْدَلُ من النكرة وبالعَكْس . ويجوزُ أن تكونَ عطفَ بيان إنْ كانَتْ نكرةً ولا يجوزُ ذلك فيها إنْ كانَتْ معرفةً . وقد جَوَّز الزمخشريُّ ذلك بعد حُكْمِه واستدلاله على أنها معرفةٌ ، وهذا كما تقدَّم له في مواضِعَ يُجِيْزُ عطفَ البيان ، وإنْ تَخالَفا تعريفاً وتنكيراً وقد تقدَّم هذا عند قولِه تعالى : { فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ } [ آل عمران : 97 ] ويجوزُ أَنْ تَنْتَصِبَ « جناتِ عَدْنٍ » بإضمارِ فِعْلٍ . و « مُفَتَّحةً » حالٌ مِنْ « جنات عدن » أو نعتٌ لها إن كانَتْ نكرةً . وقال الزمخشري : « حالٌ . والعاملُ فيها ما في » للمتقين « مِنْ معنى الفعلِ » انتهى . وقد عَلَّلَ أبو البقاءِ بعلةٍ في قوله/ : « مُتَّكئين » تقتضي مَنْعَ « مُفَتَّحة » أَنْ تكونَ حالاً ، وإنْ كانَتْ العلةُ غيرَ صحيحةٍ . وقال : « ولا يجوزُ أَنْ يكونَ » متكئين « حالاً مِنْ » للمتقين « لأنه قد أخبر عنهم قبلَ الحال » وهذه العلةُ موجودةٌ في جَعْل « مُفَتَّحةً » حالاً من « للمتقين » كما ذكره الزمخشري . إلاَّ أنَّ هذه العلةَ ليسَتْ صحيحةً وهو نظيرُ قولِك : « إن لهندٍ مالاً قائمةً » . وأيضاً في عبارتِه تجَوُّزٌ : فإنَّ « للمتقين » لم يُخْبِرْ عنهم صناعةً إنما أخبر عنهم معنًى ، وإلاَّ فقد أخبر عن « حُسْن مآب » بأنَّه لهم . وجعل الحوفيُّ العاملَ مقدراً أي : يَدْخلونها مفتحةً.
قوله : « الأبواب » في ارتفاعِها وجهان ، أحدهما : - وهو المشهورُ عند الناسِ - أنَّها مُرْتفعةٌ باسمِ المفعول كقوله : { وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا } [ الزمر : 73 ] . واعْتُرِضَ على هذا بأن « مُفتَحةً » : إمَّا حالٌ ، وإمَّا نعتٌ ل « جنات » ، وعلى التقديرَيْن فلا رابطَ وأُجيب بوجهين ، أحدهما : قولُ البصريين : وهو أنَّ ثَمَّ ضميراً مقدراً تقديرُه : الأبوابُ منها . والثاني : أنَّ أل قامَتْ مقامَ الضمير؛ إذِ الأصلُ : أبوابُها . وهو قول الكوفيين وتقدَّم تحقيقُ هذا . والوجهان جاريان في قولِه : { فَإِنَّ الجنة هِيَ المأوى } [ النازعات : 41 ] . الثاني : أنها مرتفعةٌ على البدلِ من الضميرِ في « مُفَتَّحَةً » العائدِ على « جنات » وهو قولُ الفارسيِّ ، لمَّا رأى خُلُوَّها من الرابطِ لفظاً ادَّعَى ذلك . واعْتُرض على هذا : بأنَّ مِنْ بدلِ البعض أو الاشتمالِ ، وكلاهما لا بُدَّ فيهما مِنْ ضميرٍ فيُضْطَرُّ إلى تقديره كما تقدَّم . ورَجَّح بعضُهم الأولَ : بأنَّ فيه إضماراً واحداً ، وفي هذا إضماران وتَبعه الزمخشريُّ فقال : « والأبواب بدلٌ مِن الضمير في » مُفَتَّحَةً « أي : مفتحةً هي الأبواب كقولك : ضربَ زيدٌ اليدَ والرِّجْلَ ، وهو مِنْ بَدَلِ الاشتمال » فقوله : « بدلُ الاشتمال » إنما يعني به الأبواب ، لأنَّ الأبواب قد يُقال : إنها ليسَتْ بعضَ الجنات ، و « أمَّا ضَرَبَ زيدٌ اليدَ والرِّجْلَ » فهو بعضٌ مِنْ كل ليسَ إلاَّ.
وقرأ زيد بن علي وأبو حيوةَ { جَنَّاتُ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةٌ } برفعهما : إمَّا على أنهما جملةٌ مِنْ مبتدأ وخبرٍ ، وإمَّا على أنَّ كلَّ واحدةٍ خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي : هي جناتٌ ، هي مفتحةٌ . اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/337)


يعني حُوراً قد قَصَرْن طَرْفَهُن على أزواجهن فلا يَنْظُرْنَ إلى غيرهم.
(أَتْرَابٌ).
أقران ، (وَكَواعِبَ أَتْرَاباً) أي أسنانهن وَاحِدة ، وهن في غاية الشباب
والحُسْنِ.
* * *
(هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ (53)
أي ليوم تجزى كل نفس بِمَا عَملَتْ ، ثم أعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أن نعيم
أهل الجنة غير منقطع فقال :
* * *
(إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54)
أي ماله من انقطاع.
* * *
(هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55)
المعنى : الأمر هذا . فهذا رفع خبرَ الابتداء المحذوف ، وإن شئت كان
هذا رفعاً بالابتداء والخبر محذوف ، وجهنم بدل مِنْ (شَرَّ مَآب) ، أي شر مَرْجِع.
* * *
(هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57)
بتشديد السين وتخفيفها ، وحميم رفع من جهتين :
إحداهما على معنى هذا حميم وغسَّاق فليذوقوه.
ويجوز أن يكون (هذا) على معنى تفسير هذا (فليذوقوه) ثم قال بعد
(حميم وغسَّاق).
ويجوز أن يكون (هذا) في موضع نصب على هذا التفسير.
ويجوز أن يكون في موضع رفع.
فإذا كان في موضع نصب فعلى " فَلْيَذُقُوا هَذا " فليذقوه.
كما قال : (وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ). ومثْلُ ذَلِكَ زَيداً فاضربه .

(4/338)


ومن رفع فبالابتداء ويجعل الأمر في موضع خبر الابتداء ، مثل
(وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا).
وقيل إن معنى (غساق) الشديدُ البرْدِ الذي يُحْرِقُ من بَرْدِه ، وقيل إن
الغساقَ ما يغسق من جلود أهل النار.
ولو قطرت منه قطرة في المشرقِ لِأنْتَنَتْ أهل المغرب.
وكذلك لو سقطت في المغرب (1).
* * *
(وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58)
وَيُقْرأ (وأُخَرُ) (وَآخَرُ) عطف على قوله (حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ).
أي وعَذَابٌ آخَرُ مِنْ شَكْلِه - يقول مثل ذلك الأول.
ومن قرأ وأُخرُ ، فالمعنى وأنواع أُخَر من شكله.
لأن قوله : (أزواج) معناه أنواع.
* * *
(هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ (59)
الفوج هم تُبَّاعُ الرؤسَاءِ وَأَصْحابهم في الضلالة
وقيل لهم : (لَا مَرْحَبًا) مَنْصُوبٌ كقولك رَحُبَتْ بِلَادُكَ مرحبا ، وصَادفْتَ مَرْحَباً ، فأدْخَلْتَ (لا) على ذَلِكَ المعنى (2).
* * *
(قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ (60)
هذا قول الأتْباعِ للرؤساء.
* * *
(قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ (61)
أي زِدْه على عذابه عذاباً آخر.
ودليل هذا قوله تعالى : (رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ)
وَمعنى صعْفين مَعْنَى فِزده عذاباً ضِعْفاً.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { هذا فَلْيَذُوقُوهُ } : في « هذا » أوجهٌ ، أحدها : أَنْ يكونَ مبتدأً ، وخبرُه « حميمٌ وغَسَّاقٌ » . وقد تقدَّم أنَّ اسم الإِشارة يُكْتَفَى بواحدِه في المثنى كقوله : { عَوَانٌ بَيْنَ ذلك } [ البقرة : 68 ] ، أو يكون المعنى : هذا جامِعٌ بين الوصفَيْن ، ويكون قولُه : « فَلْيَذُوْقوه » جملةً اعتراضيةً . الثاني : أَنْ يكونَ « هذا » منصوباً بمقدَّرٍ على الاشتغال أي : لِيَذُوقوا هذا.
وشبَّهه الزمخشريُّ بقولِه تعالى : { وَإِيَّايَ فارهبون } [ البقرة : 40 ] ، يعني على الاشتغال . والكلامُ على مثلِ هذه الفائدةِ قد تقدَّم . و « حميمٌ » على هذا خبرُ مبتدأ مضمرٍ ، أو مبتدأٌ وخبره مضمرٌ أي : منه حميمٌ ومنه غَسَّاقٌ كقوله :
3874 حتى إذا ما أضاءَ البرقُ في غَلَسٍ . . . وغُودِرَ البَقْلُ مَلْوِيٌّ ومَحْصُوْدُ
أي : منه مَلْوِيٌّ ومنه مَحْصود . الثالث : أَنْ يكونَ « هذا » مبتدأ ، والخبرُ محذوفٌ أي : هذا كما ذُكِر ، أو هذا للطاغين . الرابع : أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي : الأمرُ هذا ، ثم استأنف أمراً فقال : فَلْيذوقوه . الخامس : أن يكونَ مبتدأً ، وخبرُه « فَلْيذوقوه » وهو رأيُ الأخفشِ . ومنه :
3875 وقائلةٍ خَوْلانُ فانْكِحْ فتاتَهُمْ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقد تقدَّم تحقيقُ هذا في المائدة عند { والسارق والسارقة } [ المائدة : 38 ] / وقرأ الأخَوان وحفصٌ « غَسَّاقٌ » بتشديد السينِ هنا وفي عمَّ يتساءَلْون ، وخَفَّفه الباقون فيهما . فأمَّا المثقلُ فهو صفةٌ كالجَبَّار والضَّرّاب مثالَ مبالغةٍ ، وذلك أنَّ فَعَّالاً في الصفاتِ أغلبُ منه في الأسماء . ومِنْ ورودِه في الأسماء : الكَلاَّء والجَبَّان والفَيَّاد لذَكَرِ البُوْم ، والعَقَّارُ والخَطَّارُ وأمَّا المخففُ فهو اسمٌ لا صفةٌ؛ لأنَّ فَعَالاً بالتخفيفِ في الأسماءِ كالعَذاب والنَّكال أغلبُ منه في الصفاتِ ، على أن منهم مَنْ جَعَله صفةً بمعنى ذي كذا أي : ذي غَسَقٍ . وقال أبو البقاء : « أو يكون فعَّال بمعنى فاعِل » . قلت : وهذا غيرُ مَعْروفٍ . والغَسَقُ : السَّيَلانُ . يقال : غَسَقَتْ عينُه أي : سالَتْ . وفي التفسير : أنه ماءٌ يَسيل مِنْ صَدِيدِهم . وقيل : غَسَق أي امتلأ . ومنه : غَسَقَتْ عينُه أي : امتلأت بالدمع ومنه الغاسقُ للقمرِ لامتلائِه وكمالِه . وقيل : الغَسَّاق ما قَتَل ببردِه . ومنه قيل لليلِ : غاسِق؛ لأنه أبردُ من النهار . وقيل : الغَسَق شدَّةُ الظُّلْمة ، ومنه قيل لليل : « غاسِق » . ويقال للقمر : غاسِقٌ إذا كُسِفَ لاسْوِداده ، ونُقِل القولان في تفسير قوله تعالى :
{ وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ } [ الفلق : 3 ] . اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(2) قال السَّمين :
قوله : { مُّقْتَحِمٌ } : مفعولُه محذوفٌ أي : مقتحِمٌ النارَ . والاقتحام : الدخولُ في الشيء بشدَّة ، والقُحْمَةُ : الشدةُ . وقال الراغب : الاقتحام توسُّطُ شِدَّةٍ مُخيفةٍ . ومنه قَحَمَ الفرسُ فارسَه أي : توغَّل به ما يُخافُ منه/ . والمقاحيم : الذين يَتَقَحَّمون في الأمر الذي يُتَجَنَّب «.
قوله : » معكم « يجوزُ أَنْ يكونَ نعتاً ثانياً ل فَوْج ، وأَنْ يكونَ حالاً منه لأنه قد وُصِفَ ، وأَنْ يكونَ حالاً من الضمير المستتر في » مُقْتَحِم « . قال أبو البقاء : » ولا يجوزُ أَنْ يكونَ ظرفاً لفسادِ المعنى « ، ولم أَدْرِ مِنْ أَيِّ أوجهٍ يَفْسُدُ ، والحاليةُ والصفةُ في المعنى كالظرفية؟
وقوله : » هذا فَوْجٌ « إلى قوله : » النار « يجوز أَنْ يكونَ مِنْ كلامِ الرؤساء بعضِهم لبعضِ ، وأَنْ يكونَ مِنْ كلامِ الخَزَنَةِ ، ويجوز أَنْ يكونَ » هذا فَوْجٌ « مِنْ كلامِ الملائكة ، والباقي من كلام الرؤساء ، وكان القياسُ على هذا أَنْ يُقال : بل هم لا مَرْحباً بهم لأنهم لا يقولون للملائكة ذلك ، إلاَّ أنهم عَدَلُوا عن خطاب الملائكةِ إلى خطابِ أعدائِهم تَشَفِّياً منهم.
قوله : { لاَ مَرْحَباً } في » مَرْحباً « وجهان ، أظهرُهما : أنه مفعولٌ بفعل مقدرٍ أي : لا أتَيْتُمْ مَرْحباً أو لا سَمِعتم مرحباً . والثاني : أنه منصوبٌ على المصدرِ . قاله أبو البقاء أي : لا رَحِبَتْكم دارُكم مَرْحباً بَلْ ضَيِّقاً . ثم في الجملةِ المنفيةِ وجهان ، أحدهما : أنها مستأنفةٌ سِيْقَتْ للدعاءِ عليهم ، وقوله : » بهم « بيانٌ للمدعُوِّ عليه . والثاني : أنها حاليةٌ . وقد يُعْتَرَضُ عليه : بأنه دعاءٌ ، والدعاءُ طلبٌ والطلبُ لا يَقَعُ حالاً . والجوابُ أنه على إضمارِ القولِ أي : مَقُولاً لهم لا مَرْحباً . اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/339)


وقوله تعالى : (أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ (63)
(أَتَّخَذْنَاهُمْ)
يقرأ بقطع الألفِ وفتحها على مَعْنَى الاستفهام (1)
ومن وصلها كان على
معنى . إنا اتخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا، ويقرأ (سِخْرِيًّا) و (سُخْرِيًّا) - بالكَسْر والضمِ.
والمعنى واحد ،.
وقَدْ قَال قَوْمٌ : إن ما كان من التسخير فهو مضموم الأول.
وما كان من الهزؤ فهو مكسور الأول.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64)
أي إن وَصْفَنَا الذي وصفناه عَنْهُم لَحَق (2)
ثم بين ما هو فقال : هو
تخاصم أهل النار ، وهذا كله على معنى إذا كان يومُ القيامة
قال أهل النار كذا وكذلك كلُّ شيء في القرآن
مما يحكي عن أهل الجنة والنار.
* * *
ْ(قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (65)
أي قل إنك تنذر ، وإنك تدعو إلى توحيد اللَّه.
وَلَوْ قُرِئَتْ : (إِلَّا اللَّهَ الْوَاحِدَ الْقَهَّارَ) - بالنصب - لجَازَتْ ولكنهُ لَم يقْرأ بها ، فَلَا تقرأن بها.
ومن نصب فعلى الاستثناء ، ومن رفع فعلى معنى ما إله إلا اللَّهُ.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68)
أي قل النبأ الَّذِي أنبأتكم به عن اللَّه - عزَّ وجلَّ - نبأ عَظِيم ، والذي
أنبأتكمْ به دليل على نُبُوتي.
يعني ما أنبأكم به النبي - صلى الله عليه وسلم - من قصة آدم
وإبليس ، فإن ذلك لا يعلم إلا بقراءة الكُتُبِ أو بِوَحْي من اللَّه ، وقد علم
الذين خاطبهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لم يقرأ كتاباً ولا خطه بيمينهِ ولا كان رَيْبٌ فيما يخبر به أنه وحيٌ ثم بيَّنَ ذلك فقال :
* * *
(مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69)
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { أَتَّخَذْنَاهُمْ } : قرأ الأخَوان وأبو عمروٍ بوَصْلِ الهمزةِ ، وهي تحتملُ وجهين ، أحدهما ، أَنْ يكونَ خبراً مَحْضاً ، وتكون الجملةُ في محلِّ نصبٍ صفةً ثانيةً ل « رِجالاً » كما وقع « كنا نَعُدُّهم » صفةً ، وأَنْ يكونَ المرادُ الاستفهامَ وحُذِفَتْ أداتُه لدلالةِ أم عليه كقوله :
3876 تَرُوْحُ من الحيِّ أَمْ تَبْتَكِرْ . . . وماذا عليك بأَنْ تَنْتَظِرْ
ف أم متصلةٌ على هذا ، وعلى الأول منقطعة بمعنى بل والهمزة لأنها لم تتقدَّمْها همزةُ استفهامٍ ولا تسويةٍ . والباقون بهمزةِ استفهامٍ سَقَطَتْ لأجلِها همزةُ الوصلِ . والظاهر أنه لا محلَّ للجملةِ حينئذٍ لأنها طلبيةٌ . وجَوَّزَ بعضُهم فيها أَنْ تكونَ صفةً لكنْ على إضمارِ القولِ أي : رجالاً مَقُولاً فيهم : أتخذناهم كقوله :
3877 جاؤُوْا بمَذْقٍ هل رَأَيْتَ الذئبَ قَطْ . . . إلاَّ أنَّ الصفةَ في الحقيقةِ ذلك القولُ المضمرُ . وقد تقدَّم الخلافُ في « سِخْرِيَّاً » في { قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون } . والمشهورُ أن المكسورَ في الهُزْء كقولِ الشاعر :
3778 إني أتاني لِسانٌ لا أُسَرُّ بها . . . مِنْ عَلْوَ لا كَذِبٌ فيها ولا سَخْرُ
وتقدَّم معنى لَحاقِ الياءِ المشددَّةِ في ذلك . وأم مع الخبرِ منقطعةٌ فقط كما تقدَّم ، ومع الاستفهام يجوزُ أَنْ تكونَ متصلةً ، وأن تكونَ منقطعةً كقولِك : « أزيدٌ عندك أم عندك عمروٌ » ، ويجوزُ أنْ يكونَ « أم زاغَتْ » متصلاً بقوله : « ما لنا » لأنه استفهامٌ ، إلاَّ أنه يَتَعَيَّنُ انقطاعُها لعَدَمِ الهمزةِ ، ويكون ما بينهما معترضاً على قراءةِ « أتَّخَذْناهم » بالاستفهام إنْ لم نجعَلْه صفةً على إضمارِ القولِ كما تقدَّمَ . اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(2) قال السَّمين :
قوله : { تَخَاصُمُ } : العامَّةُ على رَفْعِ « تَخاصُمُ » مضافاً لأهل . وفيه أوجه ، أحدها : أنَّه بدلٌ مِنْ « لَحَقٌّ » . الثاني : أنه عطفُ بيانٍ . الثالث : أنه بدلٌ مِنْ « ذلك » على الموضعِ ، حكاه مكي ، وهذا يُوافِقُ قولَ بعض الكوفيين . الرابع : أنه خبرُ ثانٍ ل « إنَّ » . الخامس : أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي : هو تخاصُمُ . السادس : أنه مرفوعٌ بقولِه « لَحَقٌّ » . إلاَّ أنَّ أبا البقاء قال : « ولو قيل : هو مرفوعٌ ب » حَقٌّ « لكان بعيداً لأنه يَصيرُ جملةً/ ولا ضميرَ فيها يعود على اسم » إن « . وهذا ردٌّ صحيحٌ . وقد يُجابُ عنه : بأنَّ الضميرَ مقدرٌ أي : لحقٌّ تخاصُمُ أهلِ النار فيه كقوله : { وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور } [ الشورى : 43 ] أي : منه . وقرأ ابن محيصن بتنوين » تخاصم « ورفع » أهلُ « فَرَفْعُ » تخاصُمٌ « على ما تقدَّم . وأمَّا رَفْعُ » أهلُ « فعلى الفاعلية بالمصدرِ المنونِ كقولك : » يُعْجبني تخاصمٌ الزيدون « أي : أنْ تخاصَموا . وهذا قولُ البصريين وبعضِ الكوفيين خلا الفراءَ.
وقرأ ابنُ أبي عبلة » تخاصُمَ « بالنصب مضافاً لأهل . وفيه أوجه ، أحدها : أنه صفةٌ ل » ذلك « على اللفظِ . قال الزمخشري : » لأنَّ أسماءَ الإِشارة تُوْصَفُ بأسماءِ الأجناس « . وهذا فيه نظرٌ؛ لأنهم نَصُّوا على أنَّ أسماء الإِشارة لا تُوْصَفُ إلاَّ بما فيه أل نحو : » يا هذا الرجلُ « ، ولا يجوز » يا هذا غلامَ الرجل « فهذا أبعدُ ، ولأن الصحيحَ أنَّ الواقع بعد اسمِ الإِشارة المقارنِ ل أل إنْ كان مشتقاً كان صفةً ، وإلاَّ كان بدَلاً و » تخاصُم « ليس مشتقاً . الثاني : أنه بدلٌ من ذلك . الثالث : أنه عطفُ بيانٍ . الرابع : على إضمارِ » أعني « . وقال أبو الفضل : » ولو نُصِبَ « تخاصم » على أنَّه بدلٌ من « ذلك » لجاز « انتهى . وكأنه لم يَطَّلِعْ عليها قراءةً . وقرأ ابن السَّمَيْفع » تخاصَمَ « فعلاً ماضياً » أهل « فاعلٌ به . وهي جملةٌ استئنافيةٌ . اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/340)


أي ما علمت هذه الأقاصيص إِلا بِوَحْيٍ منَ اللَّهِ.
* * *
(إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71)
هم الملأ من الملائكة ، وملأ كل قرية وجوههم وأفَاضِلهَمَ.
* * *
(قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75)
((قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ)
تقرأ على ثلاثة أوجه :
(بِيَدَيَّ) على التَّثْنِية ، و (بِيَدَيَ اسْتَكْبَرْتَ) بفتح الياء
وتخفيفها وتوحيد اليد ، وبتسكين اليد والتوحيد ، (بِيَدَي استكبرت) (1).
* * *
(قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77)
أي فإنَّكَ لَعين ، معناه فإنك مرجوم باللعنة.
* * *
(وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78)
يوم تدان كل نفس بما كسبت ، ومعنى يوم الدين يوم الجزاء.
* * *
(إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81)
الَّذِي لَا يَعْلَمُه إِلا اللَّهُ ، ويوْم الوَقْتِ يَومُ القيامة.
* * *
وقوله : (إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83)
بفتح اللام ، أخْلَصَهُم اللَّه لِعِبَادَتِه ، ومن كسر اللام ، فإنَّمَا أراد الَّذِين
أخْلَصُوا دينَهُمْ اللَّه.
* * *
(قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84)
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { أَن تَسْجُدَ } : قد يَسْتَدِلُّ به مَنْ يَرَى أنَّ « لا » في { أَلاَّ تَسْجُدَ } [ الأعراف : 12 ] في السورةِ الأخرى زائدةٌ؛ حيث سقطَتْ هنا والقصةُ واحدةٌ . وقوله : « لما خَلَقْتُ » قد يَسْتَدِلُّ به مَنْ يرى جوازَ وقوع « ما » على العاقل؛ لأنَّ المرادَ به آدمُ . وقيل : لا دليلَ فيه؛ لأنه كان فَخَّاراً غيرَ جسمٍ حَسَّاسٍ فأشير إليه في تلك الحال . وقيل : « ما » مصدريةٌ والمصدرُ غيرُ مُرادٍ ، فيكون واقعاً موقعَ المفعولِ به أي : لمخلوقي.
وقرأ الجحدري « لَمَّا » بتشديدِ الميمِ وفتحِ اللامِ ، وهي « لَمَّا » الظرفيةُ عند الفارِسيِّ ، وحرفُ وجوبٍ لوجوبٍ عند سيبويه . والمسجود له على هذا غيرُ مذكورٍ أي : ما مَنَعَك من السجود لَمَّا خلقْتُ أي : حين خَلَقْتُ لِمَنْ أَمَرْتُك بالسجود له . وقُرِئ « بيَدَيِّ » بكسرِ الياءِ كقراءةِ حمزةَ « بِمُصْرِخِيِّ » وقد تقدَّم ما فيها . وقُرِئ « بيدي » بالإِفرادِ.
قوله : « أسْتَكْبَرْت » قرأ العامَّةُ بهمزةِ الاستفهام وهو استفهامُ توبيخٍ وإنكارٍ . و « أم » متصلةٌ هنا . هذا قولُ جمهورِ النحويين . ونقل ابنُ عطيةَ عن بعضِ النحويين أنها لا تكونُ معادِلَةً للألفِ مع اختلافِ الفعلَيْن ، وإنما تكونُ معادِلةً إذا دَخَلَتا على فِعْلٍ واحد كقولِك : أقامَ زيدٌ أم عمروٌ ، وأزيدٌ قام أم عمروٌ؟ وإذا اختلف الفعلان كهذه الآيةِ فليسَتْ معادِلةً . وهذا الذي حكاه عن بعض النحويين مَذْهَبٌ فاسِدٌ ، بل جمهورُ النحاةِ على خلافِه قال سيبويه : « وتقول : » أضرَبْتَ زيداً أمْ قَتَلْتَه؟ « فالبَدْءُ هنا بالفعل أحسنُ؛ لأنك إنما تَسْأل عن أحدِهما لا تدري أيهما كان؟ ولا تَسْأَلُ عن موضعِ أحدِهما كأنك قلت : أيُّ ذلك كان » انتهى . فعادل بها الألفَ مع اختلافِ الفعلين.
وقرأ جماعةٌ - منهم ابنُ كثير ، وليسَتْ مشهورةً عنه - « استكبَرْتَ » بألف الوصلِ ، فاحتملَتْ وجهين ، أحدهما : أنْ يكونَ الاستفهامُ مُراداً يَدُلُّ عليه « أم » كقولِه :
3879 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . بسَبْعٍ رَمَيْنَ الجَمْرَ أم بثمانِ
وقول الآخر :
3880 ترُوْحُ من الحَيِّ أم تَبْتَكِرْ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فتتفق القراءتان في المعنى ، واحتمل أَنْ يكونَ خبراً مَحْضاً ، وعلى هذا فأم منقطعةٌ لعدمِ شَرْطِها . اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/341)


وقرئت : (قَالَ فَالْحَقَّ وَالْحَقَّ أَقُولُ) بنصبهما جميعاً.
فَمن رَفَع فعلى ضربين :
على معنى فَأنا الحقُّ ، والحقُّ أقُولُ.
ويجوز رفْعُه علي معْنَى فَالحَقُّ مِنِّي.
ومن نصب فعلى معنى فالحقَّ أَقُولُ والحقَّ لأملأن جهنم حَقًّا.
* * *
(وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)
أي بعد الموت .

(4/342)


سُورَة الزُّمَر
( مَكِّيَّة )
ما خلا ثلاث آيات نزلت بالمدينة
(قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ)
إلى تمام ثلاث آيَاتٍ.
يقال سورة الغُرَف ويقال سورة الزمَر.
روي عن وهب بن منبه أنه قَالَ : مَنْ أَحَبَّ أن يعرف قضاء اللَّه في
خلقه فليقرأ سورةَ الغُرَف.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله جلَّ وعزَّ : (تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ).
الكتاب ههنا القرآن ، ورفع تنزيل الكتاب من جهتين :
إحداهما الابتداء ويكون الخبر من اللَّه ، أي نزل من عند اللَّه.
ويجوز أن يكون رفعه على : هذا تنزيل الكتاب.
* * *
وقوله : (فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2)
(الدِّينَ) منصوب بوقوع الفعل عليه ، و (مُخْلصاً) منصوب على الحال ، أي
فاعبد اللَّه موحداً لا تشرك به شيئاً.
وزعم بعض النحويين أنه يجوز مخلصاً له الدِّينُ ، وقال يرفع الدِّينُ على قولك مخلِصاً ، له الدِّينُ ، ويكون مخلصاً تمام الكلام.
ويكون له الدين ابتداء.
وهذا لا يجوز من جهتين.
إحداهما أنه لم يقرأ به ،

(4/343)


والأخرى أنه يفسده (أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ) فيكون " له الدينُ " مكرراً
في الكلام ، لا يحتاج إليه ، وإنما الفائدة في (أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ)
تحسن بقوله (مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ).
ومعنى إخلاص الدِّينِ ههنا عبادة الله وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، وهذا جرى
تثبيتاً للتوحيد ، ونفياً للشرك ، ألا ترى قوله : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3)
أي فَأَخْلِصْ أَنْتَ الدِّينَ ، ولا تتخذ من دونه أولياء ، فهذا كله يؤكده
مخلصاً له الدِّينَ.
وموضع (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ . .)
(الَّذِينَ) رفع بالابتداء ، وخبرهم محذوف ، في الكلام دليل عليه
المعنى والذين اتخذوا مِنْ دُونهِ أَوْليَاءَ يقولون مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى.
والدليل على هذا أيضاً قراءة أُبَى : (مَا نَعْبُدكُمْ إلا لتُقرِّبُونَا إلَى اللَّهِ).
هذا تصحيح الحكاية.
المعنى يَقُولُون لأوليَائِهِمْ : ما نعبدكم إلا لتقربونا إلى اللَّه زلفى ، وعلى هذا
المعنى ، يقولون ما نعبدهم ، أي يقولون لمن يقول لهم لم عبدتموهم :
ما نعبدهم إلا ليُقَربُونَا إلى الله زلفى . أَيْ قُرْبَى.
ثم أعلم عزَّ وجلَّ - أنه لا يهدي هؤلاء فقال :
(إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ).
ثُمَّ أَعْلَمَ جلَّ وعزَّ : أنه تعالى عن هذه الصفة فقال :
(لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (4)

(4/344)


أي تنزيهاً له عن ذلك . .
(هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ).
وفي هذا دليل أن الذين اتخذوا من دونه أولياء قد دخل فيهم من قال
عيسى ابن اللَّه - جلَّ اللَّه وعزَّ عن ذلك -.
ومن قال : العُزيْرُ ابن اللَّه.
ثم بَيَّنَ - جلَّ وعزَّ - مَا يَدُل على توحيده بما خلق ويعجز عنه المخلوقونَ فقال :
(خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6)
" ثُمَّ " لا تكون إلا لشيءٍ بعد شيء.
والنفس الواحدة يعني بها آدم - صلى الله عليه وسلم - وزوجها حَوَّاءُ . وإنَّما قوله " ثُمَّ " لمعنى خلقكم من نَفْس واحدةٍ ، أي خلقها
وَاحِدة ثم جعل منها زوجها ، أي خلقها ثم جَعَل مِنها زَوْجَها قَبْلَكُمْ.
وقوله : (وأنْزَلَ لَكُمْ مِن الأنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ).
يعنى من الإبل ذَكَراً وأُنْثَى ، ومن البقر ذكراً وأنثى ومن الضأن كذلك
ومِن المَعْزِ ذكراً وأُنثى.
يقال للذكر والأنثى زوجان كل وَاحِدٍ منهما يقال له
زوج.
(يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ).
نُطَفاً ثم عَلَقاً ثم مُضَغاً ثم عِظَاما ثم تُكْسَى العظامُ لحْماً ، ثم تُصَوَّرُ
وتنفخُ فيها الروحُ ، فذلك معنى قوله : خَلْقاً من بعْدِ خَلْقٍ في ظلمات ثلاث في البطن ، والرَّحِم ، والمشيمة.
وقد قيل في الأصلاب والرحِم والبَطْن.
(ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ).
المعنى الَّذِي دَبَّر الخَلْقَ هَذا التَدْبِيرَ لَيْس كَمثِله شيء.
(فَأَنَّى تُصْرَفُونَ).

(4/345)


المعنى فمن أين تصرفون عن طريق الحق ، مثل : (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ)
أي ْفكيف تعدلون عن الحق بعد هذا البيانِ الذي يدل على صحة التوحيد.
* * *
(إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)
(وَإنْ تَشكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ).
معناه يرضى الشكر ، لأن قوله ((وَإنْ تَشكُرُوا) يَدُلُّ عَلَى الشكر.
وقوله : (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى).
لا يؤخذ أَحَذ بِذنب أَحَدٍ.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8)
(مُنِيبًا إِلَيْهِ) أي تائباً إليه.
(ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ).
أي أذهب الضُّرَّ عَنْهُ وَأَنْعَمَ عَلَيْهِ.
(نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ).
يقول : نسي الذعَاء الذي كان يتضرع به إلى اللَّه - جلَّ وعزَّ -
وجائز أن يكون معناه نسي اللَّه الذي كان يَتَضَرع إلَيْهِ من قبل.
ومثله : (وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5).
فكانت (ما) تدل على اللَّه ، و " من " عبارة عن كل مُمَيِّز.
و (ما) يكون لكل نوع ، تقول : ما عندك ؟ فيكونُ الجوابُ رجل
أو فرس أو ما شئت من الأجناس ، فَيَدْخُل المميز في (ما) من جهةِ دُخولها
على الأجناس.
(قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا).
لفظ هذا لفظ أمر ، ومعناه - التهديد والوعيد.
ومثله (فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) ومثله : (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) ، ومثله قوله

(4/346)


لمن يتهدده : عُدْ لِما أكره وَحَسْبُكَ ، فأنت لست تأمره في المعنى وإنَّمَا تتوعده وتتهدده.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9)
(أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ)
ساعات الليل ، وأكثر القراءة بتشديد الميم عَلى معنى بل أم من هو
قانت - والقانت المقيم على الطاعة ، ودعاء القُنُوتِ الدعاء في القيام ، فالقانت القائم بما يجب عليه من أمر اللَّه ، ويُقرأ (أَمَنْ هو قانِتٌ) بتخفيف الميم ، وتأويله : أمن هو قانت كهذا الذي ذكرنا ممن جعل للَّهِ أنداداً ، وكذلك (أَمَّنْ) معناه بَلْ أَمَنْ هو قانت كغيره ، أي أمن هو مُطيعٌ كَمن هُوَ عَاص.
(يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ).
معناه يحذر عذاب الآخرة.
(قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ).
أي لا يستوي العالم والجاهل ، وكذلك لا يَسْتَوي المُطيعُ والعَاصِي
و (أولُوا الألْبَابِ) : ذوو العقول ، وواحد الألباب لب وهي العقول.
**
(قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10)
ذكر سعة الأرض ههنا لِمَن كان يعبد الأصنام.
وَأَمَرنا بالمهاجرة عن البَلَدِ الذي يُكَرَهُ فيه على عبادتها ، كما قال :
(أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا)
وقد جرى ذكر الأوثان في قوله : (وَجَعلَ للَّهِ أنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلهِ).
(إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ).

(4/347)


أي من صبر على البلاء في طاعة اللَّه أُعْطِيَ أَجْرَهُ بغَير حساب.
جاء في التفسير بغير مكيال وَغير مِيزَانٍ.
يُغْرَفُ لَهُ غَرْفاً ، وهذا وإن كان الثوابُ لا يقع على بعضه كيل ولا وَزْن مِما يَتنَغمُ به الإنسان من اللذَةَ@ والسرُور والرَّاحة ، فإنهُ
يمثل ما يعلم بحاسَّةِ القلب بما يدرك بالنظَرِ ، فيعرف مقدار القلَّة من الكثرة.
* * *
وقوله : (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11)
يقول : إني أمرت بتوحيد اللَّه ، وأُمِرَ الخلقُ كلُّهُمْ بذلك ، وَأَلَّا يُتخذَ من
دُوبهِ وَليًّا ولا يجعلَ له أَنْدَاداً.
* * *
وقوله : (فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15)
(فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ)
هذا على ما قلنا من الوعيد مثل قوله : (قُلْ تمتعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً).
وهذا يدل - واللَّه أعلم - على أنه قَبْلَ أن يؤمَرَ المسلمون بالحرب ، وهو مثل (فمن شاء فليؤمن ومَنْ شَاءَ فَليَكْفُر).
وقد بين حظ المؤمنين من جزيل الثواب ، وحظ الكافرين من عظيم العقاب.
وقوله تعالى : (قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ).
هذا يعني به الكفار ، فإنهم خسروا أَنْفُسَهُم بالتخليد في النارِ ، وَخَسِرُوا
أهْليهم لأنهم لم يدْخُلوا مَدْخَل المؤمنين الذين لهم أهل في الجنة ، ثم بين
حَالهم فقال : (أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ).
* * *
(لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (16)
وهذا مثل قوله (يَوْمَ يَغْشَاهُمُ العَذَابُ مِنْ فَوْقهِمْ)

(4/348)


(ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ).
أي ذلك الذي وُصِفَ مِن العَذَابِ وما أَعَدَّهُ لأهل الضلَالِ الَّذِي يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ.
(يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ).
القراءة بحذف الياء ، وهو الاختيار عند أهل العربية ، ويجوز : يَا عِبَادِي
وَيَا عِبَادِيَ ، والحذف أجود وعليه القراءة.
* * *
وقوله : (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17)
أي الذين اجْتَنَبُوا الشياطين أن يتبعوهم.
(وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ
(18)
وهذا فيه واللَّه أعلم وَجهَانِ :
أَحَدهما أن يكون يستمعون القرآن وغيره فيتبَعُونَ القرآن.
وجائز أن يكونوا يستمعون جميع ما أمر الله به فيتبِعون أحسن
ذلك نحو القصاص والعفو ، فإن من عفا وترك ما يجب له أعظم ثواباً ممن
اقتص ، ومثله : (وَلَمَنْ صَبَر وَغَفَرَ إن ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِْ الأمُورِ).
(وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41).
* * *
وقوله : (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19)
هذا من لطيف العربية ، ومعناه معنى الشرط والجزاء.
وأَلِفُ الاستفهام ههنا مَعْنَاهَا معنى التوقيف، والألف الثانية في
(أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ) جاءت مُؤَكِّدةً مُعَادَةً لمَّا طال الكلام ، لأنه لا يصلح في العربية أن تأتي بألف الاستفهام في الاسْمِ وألف أُخْرَى في الخبر.
والمعنى أفمن حق عليه كلمة العذاب أفانت تنقذه.
وَمِثْلُه (أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35).

(4/349)


أعَادَ " أنكم " - ثانية ، والمعنى أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا
مُخْرَجونَ ، ويكون - واللَّه أعلم - على وجه آخر ، على أنه حُذِفَ وفي الكلام دليل على المحذوف ، على معنى أفمن حق عليه كلمة العذاب يَتَخَلَّصُ منه ، أو يِنْجُو مِنه ، أفأنت تنقذه ، أي لا يقدر أحد أن ينقذَ مَنْ أَضَلَّه اللَّهُ ، وسبق في علمه أَنه من أَهْلِ النارِ.
* * *
وقوله - جلَّ وعزَّ - : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (21)
جاء في التفسير أَنَ كلَّ مَا فِي الأرْضِ فابتَداؤه مِنَ السَّمَاءِ ، ومعنى
" ينابيعُ " الأمكنة التي ينبع منها الماء ، وواحد الينابيع يَنْبُوع ، وتقدره يَفْعُول من نَبَعَ يَنْبُعُ.
* * *
(لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ).
منازل في الجنة رفيعة ، وفوقها منازل أَرْفَعُ مِنْهَا.
(وَعْدَ اللَّهِ).
القراءة النصب ، ويجوز (وَعْدُ اللَّهِ)
فَمَنْ نَصَبَ وَهِي القِراءةُ ، فبِمَعْنى لَهُم غُرَفٌ . لأن المراد وعدهم اللَّه غرفاً وَعْداً ، فوعدُ اللَّه مَنْصُوبٌ عَلَى المَصْدَرِ.
ومن رفع فالمعنى : ذلك وَعْدُ اللَّهِ.
* * *
وقوله - جلَّ وعزَّ - : (ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ).
ألوانه خُضْرة وصُفْرة وحُمْرة وبياض وغير ذلك.
(ثُمَّ يَهِيجُ)
قال الأصْمَعي يقال للنبْتِ إذَا تَمَّ جفافه : قد هَاجَ
يَهِيجُ هيجاً .

(4/350)


(ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا).
الحطام ما تَفَتَّتَ وَتَكَسَّر من النبْتِ وغَيْره ، ومثل الحطام الرفاتُ
والدَّرِين.
(إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ).
أي تَفَكر لذوي العُقُولِ ، فيذكرون ما لهم في هذا من الدلالة على
توحيد اللَّه جلَّ وعزَّ.
* * *
(أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22)
فهذه الفاء فاء المجازاة ، والمعنى أفمن شرح اللَّه صَدْرَهُ فاهْتَدَى كمن
طبع على قلبه فلم يَهْتَدِ لِقَسْوته.
والجواب متروك لأن الكلام دَالٌّ عليه.
وُيؤكد ذَلك قوله - جلَّ وعزَّ : (فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ)
يقال : قسا قلبه عن ذكر اللَّه ومن ذكر اللَّه.
فَمَن قال من ذكر اللَّه ، فالمعنى كلما تُلِيَ عليه ذكر اللَّه قَسَا قلبه ، كما قال : (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ).
ومن قال : عن ذكر اللَّه فالمعنى أنه غلظ قلبه وجفا عن قبول ذكر اللَّه.
(أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ).
يعني القاسية قلوبهم . الآية.
* * *
وقوله : (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23)
يعني القرآن ، ومعنى متشابهاً ، يشابه بعضه بعضاً في الفضل والحكمة ، لا تناقض فيه.
و (كتاباً) منصوب على البدل من (أَحْسَنَ الْحَدِيثِ).
وقوله : (مَثَانِيَ) من نعت قوله (كِتَاباً) منصوب على النعت ، ولم
ينصرف (مثاني) لما فسرناه من إنَّه جمع ليسَ عَلَى مِثالِ الوَاحِدِ .

(4/351)


(تَقْشَعِر مِنْهُ جلودَ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ).
يقول : إذا ذكرت آيات العذاب اقشعرت جلود الخاشعين للَّهِ.
(ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذَكْرِ اللَّهِ).
إذا ذكرت آيات الرحمة لأنت جلودهم وقلوبهم.
(ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدي بِهِ مَنْ يَشَاءُ).
يقول : الذي وهبه الله لهم من خشيته وخوف عَذَابِهِ ورجاء رحمته هدي
اللَّه.
* * *
(أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24)
هذا مما جوابه محذوف ، المعنى كمن يَدخل الجنة ، وجاء في التفسير أن
الكافِرَ يُلْقَى في النار مَغْلُولًا ، لا يتهيأ له أن يتقيَ النار إلا بِوَجْهِه.
* * *
وقوله : (وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28)
(عَرَبِيًّا) منصوب على الحال.
المعنى : ضرَبْنا للنْاس في هذا القرآن في حال عربيَّته وبيانه.
وذكر (قرآناً) توكيداً ، كما تقول : جاءني زيدا رَجُلًا صالِحاً.
وجاءني عمرو إنْسَاناً عَاقِلًا.
فَتَذْكُرُ رَجُلاً . . و " إنساناً " توكيداً.
* * *
وقوله جلَّ وَعَزَّ : (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29)
ويقرأ (سَلَمًا) وَ (سِلْمًا) ، فسالماً على معنى اسم الفاعل.
سَلِمَ فَهُوَ سَالِم ، وَسَلْمٌ وَسِلْمٌ مصدران وصف بهما على معنى وَرَجُلًا ذا سَلَم.
ومثله مما جاء

(4/352)


من المصادر فِعْلاً وَفَعَلاً قولهم : رَبِحْتُ رِبْحاً وَرَبْحاً.
قال الشاعِرُ :
إِذا الحَسْناءُ لم تَرْحَضْ يَدَيْها . . . ولم يُقْصَرْ لها بَصَرٌ بِسِتْرِ
قَرَوْا أَضْيافَهُمْ رَبَحاً بِبُحٍّ . . . يَعِيشُ بفَضْلِهِنَّ الحَيُّ سُمْرِ
أَيْ قَرَوْا أَضْيافَهُمْ بذبح القِداح التِي يضْرِبُونَ بها فِي المَيْسرِ.
وَتَفسيرُ هذا المثل أنه ضُرِبَ لمن وحَّدَ اللَّه ، ولمَن جَعَلَ له شريكاً.
فالذي وحد الله مثله مثل السَّالِم لرجل لا يشركه فيه غيرُه.
ومثل الذي عَبَدَ غير اللَّه مثل صاحب الشرَكاءِ المَتَشاكِسين.
و " الشركاء المتشاكسون " المختلفون العَسِيرُونَ الذين لا يتفِقُونَ.
* * *
وقوله : (هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً).
أي هل يَسْتَوِي مَثَلُ الموَحِّدِ وَمَثَلُ المشرك.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)
يَخْتَصِم المؤمِنُ والكافِرُ ، ويخاصِمُ المظلومَ الظالِمَ.
* * *
(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32)
المعنى أي أحد أظلمُ مِمن كذب على اللَّه وكذَّب نبيَّه - صلى الله عليه وسلم -.
* * *
(وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33)

(4/353)


وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33)
روي عن علي رحمه اللَّه أنه قال : الَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ محمد - صلى الله عليه وسلم - والذي صدَّق به أبو بَكْرٍ . رحمه اللَّه.
وروي أن الَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ جبريل ، والذي صدَّق به محمد صلى اللَّه عليهما.
وروي أن الَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ محمد - صلى الله عليه وسلم -
وصدَّق به المؤمِنون.
وجميع هذه الوجوه صحيح.
والذي جاء في حرف ابن مسعودٍ : والَّذِينَ جَاءُوا بِالصِّدْقِ وصدَّقُوا بِهِ
و (الذين) ههنا و (الذي) في معنى واحد ، توحيده - لأنه غير مُوَقت - جائز
وهو بمنزلة قولك من جاء بِالصِّدْقِ وصدَّقَ به.
(أولَئِكَ هُمُ المُتَقُونَ).
و (الذي) ههنا للجنس ، المعنى والقبيل الذي جاء بالصدق.
وقوله (أولَئِكَ هُمُ المُتَقُونَ) يدل على معنى الجماعة.
ومثله من الشِعر :
إِنَّ الَّذِي حانَت بِفَلْجٍ دِماؤُهُمْ . . . هُمُ القَوْم كلُّ القَوْمِ يا أُمَّ خالِدِ
* * *
(أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36)
(أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ)
ويقرأ (عباده) ، ولو قرئت " كافِي عَبْدِه " و " كافي عِبادِه " لجازَتْ ، ولكن
القراءة سنة لا تخالف.
ومعنَى بكاف عبده يدل على النصر ، وعلى أنه كقوله :
(لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) ، وهو مثل : (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95).

(4/354)


(وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ).
أي يخوفون بآلهتهم وأوْثَانِهِم.
ويروى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث خالد بن الوليد إلى العُزى ليكسرها ، فلما جاء خالد قال له سَادِنُها : أُحَذِرُكَهَا يَا خَالِدُ
إن لها شدةً لا يقوم لها شيء فعمد خالِذ إلى العزى فهشم أنفها ، فهذا معنى
(وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) ، لأن تخويفهم خالِداً هو تخويفهم النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه وجهه.
ثم أعلم - مَعَ عِبَادَتِهم العُزى وَالْأوْثَان - أنهم مُقرونَ بأن اللَّهِ خَالِقُهُمْ
فقال : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38)
ويقرأ كاشفاتُ ضُره - بترك التنوين والخفض في ضره ورحمته -
فمن قرأ بالتنوين فلأنه غير واقع في معنى هَلْ يكشِفْنَ ضره أو يُمْسِكنَ رحمَتَه ومن أضاف وخفض فعلى الاستخفاف وحذف التنوين.
وكلا الوجهين حسن قرئ بهما.
* * *
(قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39)
و (عَلَى مَكَانَاتِكُمْ). هذا اللفظ أمر على معنى الوعيد والتهدُّدِ بعد أن
أعلموا ما يجب أن يعملوا به ، ثم قيل لهم :
(فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) ، وهذا كلام يستعمله الناس في التهدد والوعيد.
تقول : متى أسأت إلى فلانٍ انتقمت مِنْكَ ، ومتى أحْسَنتَ إليه أحسنتُ إليك فاعمل ما شئت واختر

(4/355)


لنفسك ، فخوطب العباد على قدر مُخَاطَبَاتِهِم وَعِلْمِهِمْ ، وقوله على
(مَكَانَاتِكُمْ) و (مَكَانَتِكُمْ) معناه على ناحيتكم التي اخترتموها ، وجهتكم التي
تمَكنْتُمْ - عند أنْفُسِكم - في العلم بها.
(إِنِّي عَامِلٌ).
ولم يقل على جهتي ، لأن فِي الكلام دَلِيلاً على ذلك.
* * *
(إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41)
(وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيل).
أي ما أنت عليهم بحفيظ ، ثم أخبر بأنه الحفيظ عليهم القدير فقال :
* * *
(اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42)
أي ويتوفى الأنفس التي لم تَمُتْ في مَنَامِها ، فالميتَةُ المتَوَفاةُ وَفَاةَ
المَوْتِ التي قد فارقتها النفس التي يكون بها الحياة.
والحركة ، والنفسُ التي تميز بها . والتي تتوفى في النوم نفس التمييز لا نفس الحياة ، لأن نفس الحياة إِذا زَالَتْ زال معها النفَسُ ، والنائم يتنفسُ.
فهذا الفرق بين تَوفِّي نفس النائم في النوم وَنَفْس الحيِّ.
* * *
(وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45)
معنى (اشْمَأَزَّتْ) نفرت ، وكانوا - أعني المشركين - إذا ذكر اللَّه فقيل :
" لا إله إلا اللَّه " نَفَرُوا من هذا ، لأنهم كانوا يقولون : اللات والعزى ، وهذه الأوثان آلهة .

(4/356)


وقوله عزَّ وجلَّ : (فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49)
(ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ) أعْطَيْنَاهُ ذلك تفضلاً ، وكل من أعطى على غير جزاء
فقد خول.
(قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ).
أي أعطيته على شَرفٍ وفَضْل يجب له به هذا الَّذِي أعطيت ، فقد
علمت أني ساُعْطَى هُدى ، فأَعلم اللَّه أنه قد يعطى اختباراً وابتلاءً فقال :
(بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ).
أي تلكَ العَطِيَّةَ فِتْنَةً من الله وبلوى يبتلى بها العَبْدُ ليشكر أو يكفر.
* * *
(قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50)
يقول : فأحْبَطت أعمالهم.
* * *
(فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51)
أي إلى الله مرجعهم فيجَازِيهم بِاعْمالهم.
* * *
(قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)
ومعنى (لَا تَقْنَطُوا) لا تيأسوا ، وجاء في التفسير أن قوماً من أهل مكة قالوا
إنَّ محمداً يقول : إن منْ عَبدَ الأوثان واتخذ مع الله إلها وقتل النفس ، لا يغفر
له ، فأَعلم اللَّه أن من تاب وآمن غفر اللَّه له كل ذنب ، فقال :
(لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا).
وقال : (وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54)
أي توبوا ، وقيل إنَها نزلت في قوم فتنوا ، في دينهم ، وعُذِبُوا يمكةَ

(4/357)


فَرجَعُوا عن الإسلام ، فقيل إن هؤلاء لا يُغْفَرُ لَهم بعد رُجوعهم عن الإسلام
فأَعلم اللَّه أنهم إن تابوا وأسلموا غفر لهم.
* * *
(وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55)
يعني القرآن ودليله : (اللَّهُ نَزَلَ أَحْسَنَ الحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً).
وقوله : (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ).
بِغتة : فجأة.
* * *
(أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56)
أي يا نَدَما ، وحرف النداء يدل على تمكن القصة من صاحبها ، إذَا قال
القائل : يا حسرتاه ويَا ويلَاهُ ، فتأويله الحسرة والويل قَدْ حَلَّ بِهِ وأنهما لازمان له غير مفارقين.
ويجوز يا حسرتي.
وزعم الفراء أنه يجوز يا حسرتاهُ على كذا وكذا بفتح الهاء.
ويا حَسْرَتَاهُ - بالكسر والضم.
والنحويون أجمعون لا يجيزون أن تثبت هذه الها في الوصل وزعم أنه أنشده من بني فَقْعس رجل من بني أسد :.
يا ربِّ يا رَبَّاهُ إِيَّاكَ أَسَلْ عَفْراء يا رَبَّاهُ مِنْ قَبْلِ الأَجلْ
وأنشده أيضاً :

(4/358)


يا مَرْحَبَاهِ بِحَمارِ ناهية
والذي أعرف أن الكوفيين ينشدون :
يا مرحَبَاهُ بجمار ناهية
قال أبو إسحاق : ولا أدري لم اسْتُشْهِدَ بهذَا ، ولم يُقرأْ بِهِ قط ، ولا ينفع
في تفسير هذه الآية شيئاً ، وهو خطأ.
وَمَعْنَى : (أنْ تَقُولَ نَفْسٌ).
خوفَ أن تَقُولَ نفس وَكَراهة أن تَقُولَ نفسٌ . المعنى اتبعوا أَحْسَنَ ما
أُنْزِلَ خوفاً أن تصيروا إلى حَال يقال فيها هذا - القول ، وهي حال الندَامَةِ ومعنى (على ما فَرطْتُ في جَنبِ اللَّه) في أمر اللَّه ، أي فرطت في الطريق الذي هو طريق اللَّه الذي دعاني إليه وهو توحيده والإقرار بنبوة رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -.
(وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ).
أي وما كنت إلا من المستهزئين.
* * *
(أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58)
أي وكراهة أن تقول هذا القول الذي يؤدي إلى مثل هذه الحال التي
الإنسان فيها في الدنيا ، لأن اللَّه قد بين طرُقَ الهدى ، والحي في نيَّتِهِ بمنزلة
من قد بعث ، لأن اللَّه خلقه من نطفة وبلغه إلى أن مَيَّزَ ، فالحجة عليه.
* * *
وقوله (بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59)
(بَلَى) جواب النفي وليس في الكلام لفظ النفي.
ومعنى (لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي) ، و (لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً).
كأنَّه قيل : ما هدِيت ، فقيل :

(4/359)


(بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ).
وقال اللَّه تعالى : (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ)
أي : حيث قالوا : (يَا ليتَنَا نُرَدُّ) - الآية.
وقد رويت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بكسر الكاف :
" بَلَى قَدْ جَاءَتْكِ آيَاتي " جواب للفظ النفس - كما قال : (أنَّ تقول نفس).
وإذا قال : (بلى قد جَاءَتْكَ آيَاتِي) بالفتح ، فلأن النفس تقع على
الذكر والأنثى ، فخوطب المذكرون.
ومثل (قد جاءتكِ آياتي) - على خطابه المؤنث :
(يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28).
* * *
وقوله - عزَّ وجلَّ - : (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60)
القراءة على رفع (وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) على الابتداء والخبر.
ويجوز " وُجُوهَهُمْ مُسْوَدَّةً " على البدل من الذين كفروا.
المعنى ويوم القيامة ترى وجوه الذين كذبوا على الله مُسْوَدَّةً.
والرفع أكثر وعليه القُراءُ ومثل النصب قول عَدِي بن زيدٍ :
دَعِيني إن أَمْرَكِ لَنْ يُطَاعا . . . وما أَلْفَيْتِني حلمي مضاعاً
* * *
(وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (61)
(بِمفَازَتِهِمْ).
و (بمفازاتهم) يقرأ أن جميعاً .

(4/360)


(لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (63)
أي مفاتيح السَّمَاوَات ، المعنى ما كان من شيء من السَّمَاوَات والأرض
فالله خالقه وفاتح بابه.
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا بآياتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ).
أي الذين يقولون إن شيئاً ليس مما خَلَقَ اللَّهُ أو رزقه من السَّمَاوَات
والأرض فليس الله خالِقَه ، أولَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ.
ثم أعلم اللَّه - جَل وعز - أنه إنما ينبغي أن يعبد الخالق وحده لا شريك
له فقال قل لهم بعد هذا البيان :
(قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64)
(أَفَغَيْرَ) منصوب بـ (أَعْبُدُ) لا بقوله (تَأْمُرُونِّي) المعنى أفغير اللَّه أعْبدُ
أيها الجَاهِلُونَ فيما تأمرونني.
* * *
(بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66)
نصب لفظ (اللَّهَ - جلَّ وعزَّ - بقولك (فَاعْبُدْ) ، وهو إجماع في قول
البصريين والكوفيين ، والفاء جاءت على معنى المجازاة ، كأنَّه قال :
قد تَبينْتَ فَاعْبُدِ اللَّهَ.
* * *
(وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)
(وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ)
ويقرأ (قدَرِهُ) - بفتح الدالَ.
جاء في التفسير : ما عَظَّمُوه حق عَظَمَتِهُ.
والقدْرُ والقَدَر ههنا بمعنى وَاحِدٍ.
(والأرضُ جميعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ).
(جميعاً) منصوب عَلَى الحالِ.
المعنى والأرض إذا كانت مجتمعةً قَبْضَتُه يومَ القيامة
(وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ).

(4/361)


أكْثَرُ القِرَاءَةِ رَفْع (مَطْوِيَّاتٌ) على الابتداء والخبر.
وقد قرئت : (وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٍ) - بكسر التاء على معنى :
والأرض جميعاً والسَّمَاوَات قبضته يَوْمَ القِيَامَةِ
وَ (مَطْوِيَّاتٍ) منصوب على الحال.
وقد أجاز بعض النحويين (قَبْضَتَهُ) بنصب التاء ، وهذا لم يقرأ به ولا
يجيزه النحويونَ البصريون ، لا يقولون : زَيْد قَبْضَتَكَ ، ولا المال قَبْضَتَكَ
على معنى في قبْضَتِكِ ، ولو جاز هذا لجاز زيد دَارَكَ يريدون زَيْد في دَارِكَ.
* * *
(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68)
(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ)
وقد فسرناه.
(فَصَعِقَ) أي مات.
(مَنْ فِي السَّمَاواتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ).
وجاء في التفسير أنه القَرْن الذي ينفخ فيه إسرافيل.
وقال بعض أهل اللغة : هو جمع صورة.
(إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ).
جاء في التفسير أن هذا الاستثناء وقع على جبريل وميكائيل ومَلَكِ
الموت ، وجاء أن الاستثناء على حملة العرش.
* * *
(وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69)
معناها لما أراد اللَّه الحساب والمجازاة أَشْرقت الأرض.
وفي حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قيل له : أنرى رَبَّنَا يا رسول اللَّه ؟
فقال : أَتُضَارُّن في رُؤية الشَمْسِ والقمر في غير سحَابٍ ؟
قالوا : لا ، قال فإنكم لا تُضَارُونَ في رُؤيته .

(4/362)


وجاء في الحديث : لا تضامون في رؤيته ، والذي جاء في الحديث مخفف
تُضَارونَ ، وتضامُونَ ، وله وجه حسن في العربيَّةِ.
وهذَا مَوضِع يحتاجِ إلى أن يُسْتَقْصَى تفسيره لأنه أصل في السنة
والجماعة ومعناه لا يَنالُكُمْ ضيز وَلاَ ضَيمٌ في رُؤْيَيهِ.
أي ترونه حتى تستووا في الرؤية فلا يَضِيمُ بعضُكم بَعْضاً ، ولا يِضِيرُ بعضكم بعضاً.
وقال أهل اللغة قولين آخرين : قالوا : لا تُضَارُّون بتشديد الراء ولا
تضامُّون بتشديد الميم . مع ضم التاء في تُضامون وتُضارُّون.
وقال بعض أهل اللغة بفتح التاء وتشديد الراء تَضازون في رُؤيته ولا
تَضَامونَ على معنى تتضارون وتتضامون.
وتفسير هذا أنه لا يُضَام بَعْضُكمْ بَعضاً وَلاَ يُخَالِفُ بَعْضُكم بَعْضاً في ذلك . يقال : ضارَرْتُ الرجُلَ أُضَارُّه مضارَّةً
وضِراراً إذا خالفته
قال نابغة بني جَعدَة :
وخَصْمَيْ ضِرارٍ ذَوَيْ تُدْارَإِ . . . متى باتَ سِلْمُها يَشْغَبا
ومعنى لا تضامونَ في رؤيته لا ينضم بعضكم إلى بعض ، ويقول واحد
للآخر : أرنيه كما تفعلون عند النظر إلى الهلال ، فهذا تفسير بيَّنَ.
وكلٌّ ما قيل في هذا.
(واشْرَقَتِ الأرْضُ) أُلْبِسَتِ الإشْرَاق بِنُورِ اللَّهِ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ
(73)
اختلف الناس في الجواب لقوله (حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا).
فقال قوم : الواو مسقطة المعنى حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها.
قال أبو إسحاق : سمعت محمد بن يزيد يذكر أن الجواب محذوف ، وإن

(4/363)


المعنى ، حتى إذا جاءوها إلى آخر الآية سعدوا.
قال فالمعنى في الجواب حتى إذا كانت هذه الأشياء صاروا إلى السعادة.
وقال قوم حتّى إذَا جَاءُوها جَاءُوها وفتحت أبوابها ، فالمعنى عندهم أن
(جاءوها) محذوف
وعلي معنى قول هؤلاء أنه اجْتَمَع المجيءُ مع الدخول في حال.
المعنى حتى إذا جاءوها وقع مجيئهم مع فتح أَبْوَابِها.
قال أبو إسحاق : والذي قلته أنا - وهو القول إن شاء اللَّه - أن المعنى
(حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ) دخلوها.
فالجواب " دخلوها " ، وحذف لأن في الكلام دليلاً عليه.
ومعنى (طِبْتُم) أي كنتم طيبِين في الدُّنْيَا لم تكونوا خبيثين ، أي لم تكونوا
أصحابَ خبائثَ.
* * *
وقوله : (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74)
(وَأوْرثَنَا الأرْضَ).
يعني أرض الجنة نتخذ منها من المنازل ما شئنا ، والعرب تقول لكل
من اتخذ منزلًا : تبوأ فلان منزلاً.
* * *
(وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)
معنى (حَافِّينَ) مُحْدِقين ، وكذا جاء في التفسير.
(وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ).
فابتدأ اللَّه - عزَّ وجلَّ - خَلْقَ الأشياء بالحمد وخَتمْه بالحمد ، فقال :
(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ)
فلما أفنى الخلق وبعثهم وَحَكَم بَيْنَهُم ، فاستقر أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار ختم بقوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ).

(4/364)


سُورَةُ غافر
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2)
الحواميم كلها مكية ، نزلت بمكة ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل الحواميم في القرآن كمثل الحِبَرات في الثياب.
وقال ابن مسعود : الحواميم ديباج القرآنُ.
وجاء في التفسير عن ابن عباس - رحمه اللَّه - ثلاثة أقوال في حم.
قال : حم اسم اللَّه الأعظم ، وقال : حم قَسَم.
وقال : حم حروف الرحمن مقطعه.
والمعنى : " الر " و "حم " و " نون " بمنزلة الرحمن.
وقد فسرنا إعراب حروف الهجاء في أول البقرة.
والقراءة فيها على ضربين.
حم بفتح الحاء ، وحم بكسر الحاء.
فأمَّا الميم فساكنة في قراءة القراء كلهم إلا عيسى بن عمر فإنه قرأ : حَمَ
والكتاب ، بفتح الميم ، وهو على ضربين :
أحدهما أن يجعل حم اسما للسُّورَةِ ، فينصبه ولا ينوِّنه لأنه على لفظ الأسماء الأعجمية نحو هابيل وقابيل ، ويكون المعنى اتل حم.
والأجود أن يكون فتح لالتقاء السَّاكنين حيث جعله اسماً
للسورة ، ويكون حكاية حروف هجاء .

(4/365)


وقوله عزَّ وجلَّ : (غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)
على صفات اللَّه ، فأمَا خفضُ (شديدِ العقاب) فعلى البدل لأنه مما
يوصف به النكرة.
وقوله : (ذِي الطَّوْلِ).
معناه ذي الغِنَى والفضل والقدرة.
تقول : لفلان على فُلانٍ طَوْل إذا كان له عليه فضل.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (4)
المعنى في دفع آيات اللَّه بالباطل ليُدْحِضَ به الحق ، إلا الذين كَفرُوا.
ومعنى (فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلبُهُمْ فِي البِلَادِ).
أي فلا تغررك سَلَامَتُهُمْ بَعد كُفْرهم حتى إنهمْ ، يَتَصرفُونَ كيف شاءُوا ، فإن
عاقبة كفرهم العَذَابُ والهلاكُ.
ثم بين كيف ذلك وأعلم أن الأمم التي كذبتْ قبلَهُم أنهُمْ أهلكوا بقوله :.
(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ
(5)
يعني عاداً وثمودَ وَقَومَ لوط والأمم التي أُهْلِكَتْ بيْنَ ذلك.
(وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ).
أي ليتمكنوا منه فيَقْتُلوه.
(وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ).
أي ليدفعوا به الحق .

(4/366)


(فَأَخَذْتُهُمْ).
أي جعلت جزاءهم على إرادة أخذ الرسُلِ أَنْ أَخَذْتُهم فَعَاقَبتُهمْ.
(فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ).
أي إنهم يجتازون بالأمكنة التي أهلك فيهَا القَوْمُ فيرونَ آثار الهلاك.
* * *
(وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ
(6)
أي ومثل ذلك حقت كلمة ربك - يعني به ، قوله (لأمْلأن جَهَنَّمَ)
(أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ).
ويجوز " إنهُمْ " ، ثم أخبر - جَلَّ وعز - بِفَضْل المؤمنين فقال :
(الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7)
يعني الملائكة.
(يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا).
فالمؤمن تستغفر له الملائكة المقَرَّبُونَ.
ويعني : (رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ).
المعنى يقولون : ربنا وسعت كل شيء ، أي تقول الملائكة.
وقوله : (رَحْمَةً وَعِلْمًا) منصوب على التمييز.
(فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ).

(4/367)


أي لزموا طريق الهدى التي دعوت إليْهَا.
* * *
وقوله تعالى : (رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8)
(وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ).
" مَنْ " في موضع نَصْب ، عطف على الهاء والميم في قوله :
(رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ) أي ، وأدخل من صلح.
ويصلح أن يكون عطفاً على الهاء والميم في قوله : (وَعَدْتَهُمْ) فيكون المعنى وَعَدْتَهُمْ ووعدت من صلح من آبَائِهِمْ.
* * *
وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ (10)
معناه إن الذين كفروا ينادون إذا كانوا في حالِ العذاب لمقت اللَّه إياكم
في الدنيا (إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ).
(أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ) إذ عُذِبُتُم في النارِ.
* * *
(قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11)
(رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا)
أي : قد أريتنا من الآيات ما أوجب أن علينا أن نعترف
وقالوا في (أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) أي خلقتنا أمواتاً ثم أحْييتنا ثم أَمَتَّنَا
بعدُ ، ثم بعَثْتَنا بعدَ المَوْت.
وقد جاء في بعض التفاسير أن إحدى الحياتين ، وإحدى الموتتين أن
يحيا في القبر ثم يموت ، فذالك أدل على أَحْيَيْتَنَا وأمَتنَا ، والأول أكثر في
التفسير.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15)
جاء في التفسير أن الروحَ الوحي ، وجاء أن الروح القرآنُ وجاء أن الروح ==

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أشعار النساء - ط عالم الكتب المؤلف المرزباني

  أشعار النساء للمرزباني ثالث ما ألف من الكتب في أشعار النساء، بعد (أشعار الجواري) للمفجع البصري المتوفى سنة 327هـ و(الإماء الشواعر)...