مجلد 5. و6. معاني القرآن وإعرابه - للزَّجَّاج أبو إسحاق إبراهيم السَّرِي بن سَهل " المعروف بـ الزَّجَّاج " (المتوفي 311 هـ)
مجلد 5. معاني القرآن وإعرابه - للزَّجَّاج
المؤلف : أبو إسحاق إبراهيم السَّرِي بن سَهل " المعروف بـ الزَّجَّاج " (المتوفي 311 هـ)
وحجة
من قال بهذا القول أنه جرى ذكر الكافرين ، فقال : (ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ
شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ) ثم قال بعد : (وإنْ مِنْكُمْ إلا وَارِدُها)
فكأنَّه على نظم ذلك الكلام عام.
ودليل من قال بهذا القول أيضاً قوله (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ
الظَّالِمِينَ)
ولم يقل وندخل الظالمين ، وكان (نَذَرُ) و (نترك) للشيء الذي قد
حصل في مكانه.
وقال قوم إن هَذَا إنما يُعْنَى به المشرِكُونَ خاصةً ، واحتجوا في هذا بأن
بعضهم قرأ : " وإن منهم إلا وَارِدُهَا " ، ويكون على مذهب هؤلاء
(ثم ننجي الذين اتقَوْا) أي نخرج المتقين من جملة من ندخله النار.
وقال قوم : إن الخلق يَردونها فتكون على المْؤمِنِ بَرْداً وَسَلاماً ، ثم
يُخْرَجُ مِنها فيدْخُلُ الجنة فيعلمَ فضلَ النعمةِ لما يُشاهِدُ فيه أهلَ العذاب
وما
رأى فيه أهل النار.
وقال ابن مسعود والحسَنُ وقَتَادَةُ : إن ورودها ليس دخولها ، وحجتهم في
ذلك جيدة جدا من جهات : إحداهن أن العرب تقول : وردت ماء كذا ولَمْ
تدخله ، وقال اللَّه عزَّ وجلَّ : (وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ
عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ) وتقول إذا بلغت البلد ولم تدخله : قد
وردت بلد كذا وكذا.
قال أبو إسحاق : والحجة القاطعة في هذا القول ما قال اللَّه عزَّ وجلَّ :
(إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا
مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا). . فهذا - واللَّه أعلم - دليل أن
أهل الحسنى لا يدخلون النار (1)
__________
(1) قال الإمام فخر الدين الرَّازي ما نصُّه :
واعلم أنه تعالى لما قال من قبل : {فَوَرَبّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ والشياطين} [
مريم : 68 ] ثم قال : {ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ} [ مريم : 68 ]
أردفه بقوله : {وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} يعني جهنم واختلفوا فقال بعضهم
المراد من تقدم ذكره من الكفار فكنى عنهم أولاً كناية الغيبة ثم خاطب خطاب
المشافهة ، قالوا : إنه لا يجوز للمؤمنين أن يردوا النار ويدل عليه أمور : أحدها :
قوله تعالى : {إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الحسنى أُوْلَئِكَ عَنْهَا
مُبْعَدُونَ} [ الأنبياء : 101 ] والمبعد عنها لا يوصف بأنه واردها.
والثاني : قوله : {لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا} [ الأنبياء : 102 ] ولو وردوا
جهنم لسمعوا حسيسها.
وثالثها : قوله : {وَهُمْ مّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ ءامِنُونَ} [ النحل : 89 ] وقال
الأكثرون : إنه عام في كل مؤمن وكافر لقوله تعالى : {وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ
وَارِدُهَا} فلم يخص.
وهذا الخطاب مبتدأ مخالف للخطاب الأول ، ويدل عليه قوله : {ثُمَّ نُنَجّى الذين
اتقوا} أي من الواردين من اتقى ولا يجوز أن يقال : {ثُمَّ نُنَجّى الذين اتقوا
وَّنَذَرُ الظالمين فِيهَا جِثِيّاً} إلا والكل واردون والأخبار المروية دالة على
هذا القول ، ثم هؤلاء اختلفوا في تفسير الورود فقال بعضهم : الورود الدنو من جهنم
وأن يصيروا حولها وهو موضع المحاسبة ، واحتجوا على أن الورود قد يراد به القرب
بقوله تعالى : {فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ} [ يوسف : 19 ] ومعلوم أن ذلك الوارد ما
دخل الماء وقال تعالى : {وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً
مّنَ الناس يَسْقُونَ} [ القصص : 23 ] وأراد به القرب.
ويقال : وردت القافلة البلدة وإن لم تدخلها فعلى هذا معنى الآية أن الجن والإنس
يحضرون حول جهنم : {كَانَ على رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً} [ مريم : 71 ] أي
واجباً مفروغاً منه بحكم الوعيد ثم ننجي أي نبعد الذين اتقوا عن جهنم وهو المراد
من قوله تعالى : {أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [ الأنبياء : 101 ] ومما يؤكد
هذا القول ما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال : " لا يدخل النار أحد شهد
بدراً والحديبية فقالت حفصة : أليس الله يقول : {وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا}
فقال عليه السلام فمه ثم ننجي الذين اتقوا " ولو كان الورود عبارة عن الدخول
لكان سؤال حفصة لازماً.
القول الثاني : أن الورود هو الدخول ويدل عليه الآية والخبر ، أما الآية فقوله
تعالى : {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ
لَهَا وَارِدُونَ} [ الأنبياء : 98 ] وقال : {فَأَوْرَدَهُمُ النار وَبِئْسَ الورد
المورود} [ هود : 98 ] ويدل عليه قوله تعالى : {أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ}
والمبعد هو الذي لولا التبعيد لكان قريباً فهذا إنما يحصل لو كانوا في النار ، ثم
إنه تعالى يبعدهم عنها ويدل عليه قوله تعالى : {وَّنَذَرُ الظالمين فِيهَا
جِثِيّاً} وهذا يدل على أنهم يبقون في ذلك الموضع الذي وردوه وهم إنما يبقون في
النار فلا بد وأن يكونوا قد دخلوا النار ، وأما الخبر فهو أن عبد الله بن رواحة
قال : « أخبر الله عن الورود ولم يخبر بالصدور ، فقال عليه السلام :
" يا ابن رواحة اقرأ ما بعدها ثم ننجي الذين اتقوا " وذلك يدل على أن
ابن رواحة فهم من الورود الدخول والنبي صلى الله عليه وسلم ما أنكر عليه في ذلك
وعن جابر : " أنه سئل عن هذه الآية فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول : الورود الدخول لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها فتكون على المؤمنين برداً
وسلاماً حتى أن للناس ضجيجاً من بردها ".
والقائلون بهذا القول يقولون : المؤمنون يدخلون النار من غير خوف وضرر ألبتة بل مع
الغبطة والسرور وذلك لأن الله تعالى أخبر عنهم أنهم : {لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع
الأكبر} [ الأنبياء : 103 ] ولأن الآخرة دار الجزاء لا دار التكليف ، وإيصال الغم
والحزن إنما يجوز في دار التكليف ، ولأنه صحت الرواية عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم : " إن الملائكة تبشر في القبر من كان من أهل الثواب بالجنة حتى يرى
مكانه في الجنة ويعلمه " وكذلك القول في حال المعاينة فكيف يجوز أن يردوا
القيامة وهم شاكون في أمرهم ، وإنما تؤثر هذه الأحوال في أهل النار لأنهم لا
يعلمون كونهم من أهل النار والعقاب ، ثم اختلفوا في أنه كيف يندفع عنهم ضرر النار
، فقال بعضهم : البقعة المسماة بجهنم لا يمتنع أن يكون في خلالها ما لا نار فيه ،
ويكون من المواضع التي يسلك فيها إلى دركات جهنم ، وإذا كان كذلك لم يمتنع أن يدخل
الكل في جهنم فالمؤمنون يكونون في تلك المواضع الخالية عن النار ، والكفار يكونون في
وسط النار.
وثانيها : أن الله تعالى يخمد النار فيعبرها المؤمنون وتنهار بغيرهم ، قال ابن
عباس رضي الله عنهما : «يردونها كأنها إهالة» وعن جابر بن عبد الله : " أنه
سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إذا دخل أهل الجنة الجنة قال بعضهم لبعض
أليس وعدنا ربنا بأن نرد النار فيقال لهم : قد وردتموها وهي خامدة " وثالثها
: أن حرارة النار ليست بطبعها فالأجزاء الملاصقة لأبدان الكفار يجعلها الله عليهم
محرقة مؤذية والأجزاء الملاصقة لأبدان المؤمنين يجعلها الله برداً وسلاماً عليهم ،
كما في حق إبراهيم عليه السلام.
وكما أن الكوز الواحد من الماء كان يشربه القبطي فكان يصير دماً ويشربه الإسرائيلي
فكان يصير ماء عذباً.
واعلم أنه لا بد من أحد هذه الوجوه في الملائكة الموكلين بالعذاب حتى يكونوا في
النار مع المعاقبين ، فإن قيل : إذا لم يكن على المؤمنين عذاب في دخولهم النار فما
الفائدة في ذلك الدخول ؟ قلنا فيه وجوه : أحدها : أن ذلك مما يزيدهم سروراً إذا
علموا الخلاص منه.
وثانيها : أن فيه مزيد غم على أهل النار حيث يرون المؤمنين الذين هم أعداؤهم
يتخلصون منها وهم يبقون فيها.
وثالثها : أن فيه مزيد غم على أهل النار من حيث تظهر فضيحتهم عند المؤمنين بل وعند
الأولياء وعند من كان يخوفهم من النار فما كانوا يلتفتون إليه.
ورابعها : أن المؤمنين إذا كانوا معهم في النار يبكتونهم فزاد ذلك غماً للكفار
وسروراً للمؤمنين.
وخامسها : أن المؤمنين كانوا يخوفونهم بالحشر والنشر ويقيمون عليهم صحة الدلائل
فما كانوا يقبلون تلك الدلائل ، فإذا دخلوا جهنم معهم أظهروا لهم أنهم كانوا
صادقين فيما قالوا ، وأن المكذبين بالحشر والنشر كانوا كاذبين.
وسادسها : أنهم إذا شاهدوا ذلك العذاب صار ذلك سبباً لمزيد التذاذهم بنعيم الجنة
كما قال الشاعر :
وبضدها تتبين الأشياء . . فأما الذين تمسكوا بقوله تعالى : {أُوْلَئِكَ عَنْهَا
مُبْعَدُونَ} [ الأنبياء : 101 ] فقد بينا أنه أحد ما يدل على الدخول في جهنم
وأيضاً فالمراد عن عذابها وكذا قوله : {لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا} [ الأنبياء :
102 ] فإن قيل : هل ثبت بالأخبار كيفية دخول النار ثم خروج المتقين منها إلى الجنة
؟ قلنا : ثبت بالأخبار أن المحاسبة تكون في الأرض أو حيث كانت الأرض ويدل عليه
أيضاً قوله تعالى : {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض} [ إبراهيم : 48 ] وجهنم
قريبة من الأرض والجنة في السماء ففي موضع المحاسبة يكون الاجتماع فيدخلون من ذلك
الموضع إلى جهنم ثم يرفع الله أهل الجنة وينجيهم ويدفع أهل النار فيها.
أما قوله : {كَانَ على رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً} فالحتم مصدر حتم الأمر إذا
أوجبه فسمى المحتوم بالحتم كقولهم : خلق الله وضرب الأسير ، واحتج من أوجب العقاب
عقلاً فقال : إن قوله : {كَانَ على رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً} يدل على وجوب ما
جاء من جهة الوعيد والأخبار لأن كلمة على للوجوب والذي ثبت بمجرد الأخبار لا يسمى
واجباً.
والجواب أن وعد الله تعالى لما استحال تطرق الخلف إليه جرى مجرى الواجب.
أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 21 صـ 207 - 209}
وقال السَّمين :
قوله : { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ } : في هذه الواوِ وجهان ، أحدهما : أنها عاطفةٌ
هذه الجملةَ على ما قبلَها . وقال ابن عطية « { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا
} قَسَمٌ والواو تَقْتَضيه ، ويُفَسِّره قولُ النبي صلى الله عليه وسلم : » مَنْ
ماتَ له ثلاثٌ من الولد لم تَمَسَّه النار إلا تَحِلَّة القسمِ « قال الشيخ : »
وذَهِلَ عن قولِ النحويين إنه لا يُستغنى عن القسمِ بالجواب لدلالةِ المعنى ، إلا
إذا كان الجوابُ باللامِ أو ب « إنْ » والجوابُ هنا على زَعْمه ب « إنْ » النافيةِ
فلا يجوز حَذْفُ القسم على ما نَصُّوا . وقوله : « والواو تَقْتَضِيه » يدلُّ على
أنها عنده واوُ القسم ، ولا يذهبُ نحويٌ إلى أنَّ مِثْلَ هذه الواوِ واوُ قسمٍ
لأنه يلزمُ مِنْ ذلك حَذْفُ المجرورِ وإبقاءُ الجارِّ ، ولا يجوز ذلك إلا إنْ
وَقَعَ في شعرٍ أو نادرِ كلامٍ بشرط أن تقومَ صفةُ المحذوف مَقامَه ، كما أوَّلوا
في قولهم : « نِعْمَ السيرُ على بئسَ العَيْرُ » ، أي : على عَيْرٍ بئسَ العَيْرُ
، وقولِ الشاعر :
3250- واللهِ ما ليلى بنامِ صاحِبُهْ . . . أي : برجلٍ نام صاحبُهْ ، وهذه الآيةُ
ليست من هذا الضَّرْبِ؛ إذ لم يُحْذَفِ المُقْسَمُ به وقامَتْ صفتُه مَقامَه «.
و » إنْ « حرفُ نفيٍ ، و » منكم « صفةٌ لمحذوفٍ تقديرُه : وإنْ أحدٌ منكم . ويجوز
أن يكونَ التقديرُ : وإن منكم إلا مَنْ هو وارِدُها . وقد تقدَّم لذلك نظائرُ.
والخطابُ في قولِه » منكمْ « يَحْتمل الالتفاتَ وعدمَه . قال الزمخشري : » التفاتٌ
إلى الإِنسان ، ويَعْضُدُه قراءةُ ابن عباس وعكرمةَ « وإنْ منهم » أو خطابٌ للناس
مِنْ غير التفاتٍ إلى المذكور «.
والحَتْمُ : القضاءُ والوجوبُ . حَتَمَ ، أي : أوجب [ وحَتَمَه ] حتماً ، ثم يُطلق
الحتم على الأمر المحتوم مقوله تعالى : » هذا خَلْقُ الله « و » هذا دِرْهَمٌ
ضَرْبُ الأميرِ « . و » على ربِّك « متعلِّقٌ ب » حَتْم « لأنه في معنى اسمِ
المفعول ، ولذلك وصَفَه ب » مَقْضِيَّاً « . اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(3/341)
وفي
اللغة وردت بلد كذا وكذا إذا أشرفت عليه ، دخلته أو لم تدخله ، قال
زهير :
فلمّا وَرَدْنَ الماءَ زُرْقاً جِمامُه وضَعْنَ عِصِيَّ الحاضرِ المُتَخَيِّم
المعنى بلغن إلى الماء ، أي أقمن عليه ، فالورود ههنا بالإجماع ليس
بدخول ، فهذه الروايات في هذه الآية ، واللَّه أعلم.
* * *
وقوله : (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ
نَدِيًّا (73)
(وَأَحْسَنُ نَدِيًّا).
معناه مجلساً
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ
أَثَاثًا وَرِئْيًا (74)
(أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا) (1).
فيها أربعة أوجُهٍ رِئْياً بهمزة قبل الياء ، والراء غير معجمة ، وَرِيًّا بتشديد
بياء مشددَةٍ ، وزِيًّا - بالزاي مُعجَمة ، وقد قرئ بهذه الثلاثة الأوجه.
ويجوز وجه رابع لم يقرأ به - بياء وبعدها همزة - وريئا :.
فأمَّا رِئْياً - بهمزة قبل الياء - فالمعنى فيه هم أحسن أثاثاً أي متاعاً ،
ورئياً
منظراً ، من رأيت ، ومن قرأ بغَيْرِ هَمْز فله تَفْسِيرَانِ : عَلَى مَعْنى الأول
بِطَرْحِ
الهمزة وعلى معنى أن منظَرَهم مُرْتوٍ من النعمةِ ، كأن النعيمَ بَيِّنٌ فيهم ،
ومن
قرأ زِيًّا فمعناه أن زيَّهم حسن يعني هيئتهم.
قال الشاعر :
أَشاقَتْكَ الظَّعائِنُ يومَ بانُوا بذي الرِّئْيِ الجمِيلِ منَ الأَثاثِ
ونصب (أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا) على نية التفسير.
المعنى وكم أهلكنا قبلهم من
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : « ورِئْياً » الجمهورُ على « رِئْياً » الجمهورُ على « رِئْيا » بهمزةٍ
ساكنةٍ بعدَها ياءٌ صريحةٌ وَصْلاً ووفقاً ، وحمزةُ إذا وَقَفَ يُبْدِلُ هذه
الهمزةَ ياءً على أصلِه في تخفيفِ الهمز ، ثم له بعد ذلك وجهان : الإِظهارُ
اعتباراً بالأصل ، والإِدغامُ اعتباراً باللفظ ، وفي الإِظهار صعوبةٌ لا تَخْفَى ،
وفي الإِدغامِ إبهامُ أنها مادةٌ أخرى : وهو الرَّيُّ الذي بمعنى الامتلاء
والنَّضارة ، ولذلك تَرَكَ أبو عمروٍ أصلَه في تخفيفِ همزِه.
وقرأ قالون عن نافع ، وابن ذكوان عن ابن عامر « ورِيَّا » بياءٍ مشددةٍ بعد الراءِ
، فقيل : هي مهموزةُ الأصلِ ، ثم أُبْدِلَتِ الهمزةُ ياءً وأُدْغِمَتْ . والرَّأْيُ
بالهمز ، قيل : مِنْ رُؤْية العَيْن ، وفِعْل فيه بمعنى مَفْعول ، أي : مَرْئِيٌّ
. وقيل من الرُّواء وحُسْنِ المنظر . وقيل : بل هو مِنَ الرَّيّ ضد العطش وليس
مهموزَ الأصلِ ، والمعنى : أحسنُ منظراً لأنَّ الرِّيَّ والامتلاءَ أحسنُ مِنْ
ضِدَّيْهما.
وقرأ حميد وأبو بكر بن عاصم في روايةِ الأعشى « وَرِيْئاً » بياءٍ ساكنةٍ بعدَها
همزةٌ وهو مقلوبٌ مِنْ « رِئْياً » في قراءةِ العامَّةِ ، ووزنه فِلْعٌ ، وهو مِنْ
راءه يَرْآه كقولِ الشاعر :
3252- وكلُّ خليلٍ راءَني فهو قائلٌ . . . مِنَ أجلِكَ : هذا هامةُ اليومِ أوغدِ
وفي القلب من القلبِ ما فيه.
ورَوَى اليزيديُّ قراءةَ « ورِياء » بياءٍ بعدها ألف ، بعدها همزة ، وهي من
المُراءاة ، أي : يُرِيْ بعضُهم حُسْنَ بعضٍ ، ثم خَفَّف الهمزةَ الأولى بقلبِها
ياءً ، وهو تخفيفٌ قياسيٌّ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(3/342)
قَرْنٍ
هم أحسن أثاثاً منهم وأحسن زِياً منهم . ومن قرأ رِيُئاً فهو بمعنى رئياً مقلوب
لأن من العرب من يقول قد رَاءَني زَيْد وتقول قَدْ رَآني.
في هذا المعنى قال الشاعر كثير :
وكل خليلِ رَاءني فهو قائل . . . من أجلك هذا هامة اليوم أوْ غَدِ
* * *
وقوله عزَّ . وجل : (قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ
الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ
وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا
(75)
هذا لفظ أمر في معنى الخبر ، وتأويله أن اللَّه عزَّ وجلَّ جعل جزاء
ضلالته أن يتركه فيها ، ويمده فيها ، كما قال - جلَّ وعزَّ -:
(مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ
يَعْمَهُونَ (186).
إلا أن لفظ الأمر يؤكد معنى الخبر كان لفظ الأمر يريد به المتكلم نفسه إلزاماً ،
كأنَّه يقول أفعل ذلك وآمر نفسي به ، فإذا قال القائل : من رآني فلأكرمه ، فهو
ألزم من قوله أكرمُه ، كأنَّه قال : من زارني فأنا آمر نفسي بإكرامه وألزمها ذلك.
وقوله : (إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ).
العذاب والساعة منصوبان على البدل من (ما يُوعدُون) المعنى حتى إذا
رأوا العداب أو رأوا الساعة ، فالعذاب ههنا ما وعدوا به من نصر المؤمنين
عليهم فإنهم يعذبونهم قتلاً وأسْراً.
والساعة يعنى بها يوم القيامة وبما وعدوا به فيها من الخلود في النار.
(فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا).
أي فسيعلمون بالنصر ، والقتل أنهم أضعف جنداً من جند النبي - صلى الله عليه وسلم -
والمسلمين ويعلمون بمكانهم من جهنم ، ومكان المؤمنين من الجنة مَنْ هُوَ شَرٌّ
مَكَانًا .
(3/343)
وقوله
عزَّ وجلَّ : (وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ
الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76)
قيل بالناسِخ والمنسوخ نحو ما كان من صوم رمضان من أنه كان يجوز
لمن يقدر على الصوم أن يطعم مسكيناً ويفطر ، فنسخ ذلك بإلزام الصوم.
وجائز أن يكون - : (وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى) يجعل جزاءهم أن
يزيدهم في يقينهم هُدى كما أضل اللَّهُ الفاسقَ بفسقه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ
ثَوَابًا).
معناه الأعمال الصالحة ، وأولها توحيد اللَّه ، وهو شهادة أن لَا إلَه إلا
اللَّهُ.
* * *
وقوله : (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا
وَوَلَدًا (77)
ويقرأ : وُوُلْداً ، فمن قرأ وُلْداً بالضَّمِ فهو على وجهين على جمع وَلدٍ.
يُقَالُ وَلَد وَوُلد مثل أسَدٍ وأُسْدٍ ، وجائز أن يكون الوُلْدُ في معنى
الوَلَدِ ، والوَلَدُ يصلح للواحد والجمع ، والوُلْدُ والوَلَدُ بمعنىً واحد ، مثل
العُرْب والعَرَب ، والعَجَمُ والعُجْمُ.
وقد جاء في التفسير أنه يعنى به العاص بن وائل . ويروى أن خَبَّاباً
قال : كنت قَيْناً في الجاهلية . والقَيْن ، هو الذي يصلح الأسِنَّة ، والحَدَّادُ
يقال له قَيْن ، قال وكان لي على العاصِ بِنِ وائل دين ، فدفعني بقضائه وقال لا
أدفعه إليك حتى تكفر بمحمد - صلى الله عليه وسلم - فقال خبَّاب : لا أكفر بمحمد
حتى تموت وتُبْعثَ.
فقال : إذَا مِتُّ ثم بعثتُ أعْطِيتُ مالاً وولداً وقضيتك مما أعطى ، يقول ذلك
مستهزئاً فقال اللَّه سبحانه :
(3/344)
(أَطَّلَعَ
الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78)
أي علم ذلك غيباً أم أعطي عهداً ، وهو مثل الذي قال : (وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى
رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36).
* * *
(كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79)
(كَلَّا).
رَدْعٌ وتنبيه ، أي هَذَا مما يَرْتَدَعُ منه ، ويُنَبه على وَجْه الضلالة فيه.
(سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ).
أي سنحفظ عليه.
* * *
(وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (80)
أي نجعل المال والولد لِغَيْرهِ ونسلبه ذلك ويأتينا فرداً.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ
عِزًّا (81)
أي أعوانا
* * *
وقوله : (كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82)
أي يصيرون عليهم أعوانا.
* * *
وقوله : (أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ
تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83)
في قوله (أرْسَلْنَا) وجهان :
أحدهما أنا خلينا الشياطين وإياهم ، فلم نعصمهم من القبول منهم -
قال أبو إسحاق : والوجِه الثاني - وهو المختار -
أنهم أرْسِلوا عليهم وقُيِّضُوا لهم بكفرهم كما قال عزَّ وجلَّ : (وَمَنْ يَعْشُ
عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36).
ومعنى (تَؤُزُّهُمْ أَزًّا) تُزْعِجُهُمْ حتى يركبوا المعاصي إزعاجاً فهو يَدُل
على صحة الإرْسَالِ والتًقْييض ، ومعنى الإرسال ههنا التسليط ، يقال قد
(3/345)
أرسلت
فلانا على فلانٍ إذا سلطته عليه ، كما قال : (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ
عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ).
فأَعلم اللَّه عزَّ وجلَّ : (أن من اتبعه هو مسلط عليه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85)
معنى الوفد الركبان المكرمون.
(وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86)
مشاة عطاشاً.
* * *
وقوله : (لَلَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ
عَهْدًا (87)
" مَنْ " جائز أن تكون في موضع رفع ، وفي موضع نصب.
فأمَّا الرفع فعلى البدل من الواو والنون ، والمعنى لا يملكون الشفاعة إلا من اتخد
عند الرحمن عهداً.
والعهد ههنا توحيه اللَّهِ جلً ثناؤه والإيمان به.
والنصب على الاستثناء ليس من الأول على : لَا يَمْلكُ الشفاعةَ
المجرمون ، ثم قال : (إلا من اتخذ عند الرحمن عهداً) ، على معنى لكن من
اتخذ عند الرحمن عهداً فإنه يملك الشفاعة.
* * *
وقوله : (لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89)
وتقرأ (أَدًّا) - بالفتح - ومعناه شيئاً عظيماً من الكفر ، وفيها لغة أخرى لا
أعلم أنه قرئ بها ، وهي : " شَيْء آدًّا على وزن رَادٍ ومادٍ ، ومعناه كله :
جئتم شيئاً عظيماً.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ
لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96)
أي محبة في قلوب المؤمنين .
(3/346)
وقوله
جلَّ وعزَّ : (فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ
الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97)
(قَوْمًا لُدًّا).
جمع ألَدّ مثل أصمْ وَصُمّ ، والألَدُّ الشدِيدُ الخُصُومَةِ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ
مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98)
(هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ).
يقال : هل أحْسَسْتَ صَاحِبَك أي هل رأيته ، وتقول : قد حَسَّسهمْ - بغير ألف -
إذا قتلهم.
وقوله : (أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا).
الركزُ الصوت الخفي .
(3/347)
سورة
طه
( مَكِّيَّة )
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله : طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2)
يقرأ طَهَ - بفتح الطاء والهاء ، وتقرأ طِهِ - بكسرهما - ويقرأ طهْ - بفتح
الطاء وإسكان الهاء ، وطَهِ بفتح الطاء وكسر الهاء.
واختلف في تفسيرها
فقال أهلُ اللغَةِ هي من فواتح السُّورِ نحو حم والم ، ويروى أن النبي - صلى الله
عليه وسلم - كان إذا صلى رفع رِجْلًا ووضع أخرى فأنزل اللَّه عزَّ وجلَّ : (طاها)
أيْ طَأ الأرضَ بِقَدمَيْكَ جَميعاً.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2)
أي لتُصَلِّيَ على إحْدَى رِجْلَيْك فتشتد عليك ، وقيل طه لغة بالعجمية
معناها يا رجل ، فأمَّا من فتح الطاء والهاء فلأن ما قبل الألف مفتوح ، ومن
كسر الطاء والهاء ، أمال إلى الكسر لأن الحرفَ مقصورٌ ، والمقصور تغلب عليه
الإمالة إلى الكسر ومن قرأ طَِهْ بإسكان الهاء ففيها وجهان أحدهما أن يكون أصله
" طَا " بالهمزة فأبدلت منها الهاء كما قالوا في إياك هياك وكما قالوا
في أرَقَت الماء هَرَقْتُ وجائز أن يكون من " وَطِي " عَلَى تَرْكِ
الهمزةِ.
فيكونُ " طَ "
(3/349)
يا
رَجُل - ثم أثبت فيها الهاء للوقف فقِيل طهْ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ
الْعُلَى (4)
المعنى أنزلناه تنزيلًا ، والعُلَى جمع العليا ، يقال : سماء عُلْيَا وسمواتٌ
عُلًى ، مثل الكبرى والكُبَر.
* * *
وقوله : (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)
الاختيار الرفعُ ، ويجوز الخفض على البدل من " منْ " المعنى تنزيلاً
من خالق الأرض والسَّمَاوَات الرحمن ، ثم أخبر بعد ذلك فقال : على العرش
استوى ، وقالوا معنى (استوى) استولى - واللَّه أعلم . والذي يدل عليه استوى في
اللغة على ما فعله من معنى الاستواء.
قوله : (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا
تَحْتَ الثَّرَى
(6)
الثرى في اللغة الندى ، وما تحت الأرض ندى ، وجاء في التفسير وما
تحت الثرى ما تحت الأرض.
* * *
وقوله : (وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7)
فَالسِّر ما أكننْتَهُ في نفسك ، و " أخفى " ما يكون من الغيب الذي لا
يعلمه
إلا اللَّه.
* * *
وقوله : (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (8)
يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال :
" للَّهِ تسعة وتسعونَ اسْماً من أحْصَاهَا دخل الجنة ".
وتأويل من أحصاها دخل الجنة ، من وحَّدَ اللَّهَ وذكر هذه الأسماء
الحسنى يريد بها توحيدَ اللَّه وإعْظَامَهُ دَخَل الجنةَ.
وقَدْ جاءَ أنه من قال
(3/350)
لا
إله إلا اللَّه دخل الجنة ، فهذا لِمَنْ ذَكَرَ اسْمَ الله مُوَحِّداً لَهُ بِهِ
فكيف بمن ذَكر أسْماءَهُ كلَّها يُريدُ بها توحيدَهُ والثناءَْ عليْهِ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي
آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ
هُدًى (10)
القَبَسُ ما أخَذْتَه في رأس . عُودٍ من النَّارِ أو رَأسِ فِتيلةٍ.
(أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى) جاء في التفسير أنه - صلى الله عليه وسلم - ضل
الطريق وجاء أنه ضل عن الماءِ فرجا أن يجد عند النار من يهديه الطريق أو يَدُلَّه
عَلَى الماء.
* * *
(فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ
نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12)
ويقرأ أَنَّي أنَا - بالفَتح والكسر ، فمن قرأ " أَنِي " فالمعنى نودي
بأني أنا
ربُّك ، وموضع " أَنَّي " نصبٌ.
وَمَنْ قَرأ (إِنِّي أَنَا رَبُّكَ) بالكسر فالمعنى نودي يا موسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ.
(فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى).
روي أنه أمِرَ بخَلْعِهمَا لأنهما كانتا من جِلْد حمارٍ مَيِّت ، وروي أنه أمر
بخلعهما ليطأ بقدميه الوادي المقدس ، وروي أنه قُدسَ مَرتَين.
وقوله : (طُوًى).
اسم الوادي ، ويجوز فيه أربعة أوجه :
طُوَى - بضم أوله ، بغير تنوين وتنوينٍ وبكسر أوله - بتنوين وبغير تنوين . فمن
نوَّنَه فهو اسم الوادي ، وهو مذكر سُمِّيَ بمذكرعلى فُعَل نحو حُطَم وصُرَد . ومن
لم ينونه ترك صرفه من جهتين :
إحداهما أن يكون معدولًا عن " طَاءٍ " فيصير مثل عُمَر المعدول عن عامر.
والجهة الأخرى أن يكون اسماً للبقعة كما قال الله عزَّ وجلَّ :
(3/351)
(في
البُقْعَةِ المُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ). وإذا كُسِرَ وَنوِّنَ طِوًى فهو -
مثل مِعًى وَضِلعٍ - مَصْرُوفَ.
ومَنْ لم ينوِّن جعله اسماً للبقعةِ.
* * *
وقوله - عزَّ وجلَّ - (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13)
ويقرأ (وَأَنَّا اخْتَرْنَاكَ) ، فمن قرأ : (وَأَنَّا اخْتَرْنَاكَ) فالمعنى يؤدي
بـ (وَأَنَّا اخْتَرْنَاكَ) ويجوز (وَإِنَّا اخْتَرْنَاكَ) على وجهين :
على الاستئناف وعلى معنى الحكاية لأنَّه معنى يُؤدىَ قيل له إِنَّا اخْتَرْنَاكَ.
* * *
وقوله : (إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ
الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)
(وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي).
هذا على معنيين أحدهما أقم الصلاة لأن تَذْكُرَني لأن الصلَاةَ لا تكونُ
إلا بذكر اللَّه ، والمعنى الثاني هو الذي عليه الناس ومعناه أقم الصلاة متى
ذَكَرْتَ أنَّ عليك صلاةً كنتَ في وقتها أو لم تكن ، لأن اللَّه عزَّ وجلَّ لا
يؤاخذُنا إن تسينا ما لم نَتعمَّدْ الأشياء التي تَشْغَلُ وتُلْهِي عن الصلاة ،
ولو ذَكَرَ ذَاكِر أنَّ عليه صلاةً في وقت طُلُوع الشمس أوعندَ مَغيبَها وَجَب أن
يصفيَها.
وقرئت لِلذِكْرَى - معناه في وقت ذكرك.
* * *
وقوله : (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ
بِمَا تَسْعَى (15)
بضم الألِفِ ، وجاء في التفسير : أكاد أخفيها من نفسي ، فالله أعلم
بحقيقة هذا التفسير ، وقرئت : أكاد أَخْفِيهَا - بفتح الألف - معناه أكاد
أُظْهِرها (1)
قال امرؤ القيس :
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { أَكَادُ أُخْفِيهَا } العامةُ على ضمِّ الهمزةِ مِنْ » أُخْفيها « .
وفيها تأويلاتٌ ، أحدُها : أن الهمزةَ في » أُخْفيها « للسَّلْبِ والإِزالةِ أي :
أُزيل خفاءَها نحو : أعجمتُ الكتابَ أي : أزلْتُ عُجْمَتَه . ثم في ذلك معنيان ،
أحدهما : أنَّ الخفاءَ بمعنى السَّتْر ، ومتى أزال سَتْرَها فقد أظهرَها . والمعنى
: أنها لتحقُّق وقوعِها وقُرْبِها أكادُ أُظْهِرُها لولا ما تَقْتضيه الحكمةُ من
التأخير . والثاني : أنَّ الخفاءَ هو الظهورُ كما سيأتي . والمعنى : أزيلُ ظهورَها
، وإذا أزالَ ظهورَها فقد استترَتْ . والمعنى : أني لِشدَّةِ أبهامها أكاد
أُخْفيها فلا أُظْهِرُها/ ألبتَّةََ ، وإن كان لا بد من إظهارِها؛ ولذلك يوجدُ في
بعض المصاحف كمصحف أُبَيّ : أكاد أُخْفيها مِنْ نفسي فكيف أُظْهِرُكُمْ عليها؟ وهو
على عادةِ العرب في المبالغة في الإِخفاء قال :
3277 أيامَ تَصْحَبُني هندٌ وأُخْبِرُها . . . ما كِدْت أكتُمُه عني من الخبرِ
وكيف يُتَصَوَّرُ كِتْمانُه مِنْ نفسه؟
والتأويلُ الثاني : أنَّ » كاد « زائدةٌ . قاله ابنُ جُبَيْر . وأنشدَ غيرُه
شاهداً عليه قولَ زيدِ الخيل :
3278 سريعٌ إلى الهَيْجاء شاكٍ سلاحُه . . . فما إنْ يكادُ قِرْنُه يتنفَّسُ
وقال آخر :
3279 وألاَّ ألومَ النفسَ فيما أصابني . . . وألا أكادَ بالذي نِلْتُ أَبْجَحُ
ولا حُجَّةَ في شيءٍ منه.
والتأويل الثالث : أنَّ الكَيْدُوْدَةَ بمعنى الإِرادة ونُسِبت للأخفش وجماعةٍ ،
ولا ينفعُ فيما قصدوه.
والتأويل الرابع : أنَّ خبرَها محذوفٌ تقديره : أكاد آتي به لقُرْبها . وأنشدوا
قول ضابىء البرجمي :
3280 هَمَمْتُ ولم أفْعَلْ وكِدْتُ وليتني . . . تَرَكْتُ على عثمانَ تَبْكي حلائِلُهْ
أي : وكِدْتُ أفعلُ ، فالوقفُ على » أكادُ « ، والابتداء ب » أُخْفيها « ،
واستحسنه أبو جعفر.
وقرأ أبو الدرداء وابنُ جبير والحسنُ ومجاهدٌ وحميدٌ » أَخْفيها « بفتح الهمزة .
والمعنى : أُظْهرها ، بالتأويل المتقدم يقال : خَفَيْتُ الشيءَ : أظهَرْتُه ،
وأَخْفَيْتُه : سترته ، هذا هو المشهور . وقد نُقِل عن أبي الخطاب أنَّ خَفَيْتُ
وأَخْفَيْتُ بمعنىً . وحُكي عن أبي عبيد أنَّ » أَخْفى « من الأضدادِ يكون بمعنى
أظهر وبمعنى سَتَر ، وعلى هذا تَتَّحد القراءتان . ومِنْ مجيءِ خَفَيْتُ بمعنى
أظهَرْت قولُ امرىء القيس :
3281 خَفَاهُنَّ مِنْ أَنْفاقِهِنَّ كأنما . . . خفاهُنَّ وَدْقٌ مِنْ عَشِيٍّ
مُجَلِّبِ
وقول الآخر :
3282 فإنْ تَدْفِنوا الداءَ لا نَخْفِهِ . . . وإنْ تُوْقِدُوْا الحربَ لا
نَقْعُدِ.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(3/352)
فإنْ
تَدْفِنوا الداءَ لا نَخْفِهِ . . . وإنْ تُوْقِدُوْا الحربَ لا نَقْعُدِ
أي أن ندفنوا الداء لا نظهره.
وهذه القراءة الثانية أبين في المعنى ، لأن معنى أكاد أظهرها ، أي قَدْ
أخفيتها وَكِدتُ أظْهِرُهَا . .
وقوله : (لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى).
معنى (بِما تسعى) بما تعمل ، و (لِتُجْزَى) متعلق بقوله : (إِنَّ السَّاعَةَ
آتِيَةٌ)
لتجزَى كل نَفْس بما تسعى.
ويجوز أن يكون على أقِمِ الصلاة لذكري لتجزى كل نفس بما تسعى.
* * *
وقوله : (فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ
فَتَرْدَى (16)
معناه واللَّه أعلم فلا يصدنك عن التصديق بها من لا يؤمن بها ، أي من
لا يؤمن بأنها تكون ، وخطابُ النبي - صلى الله عليه وسلم - هو خطابُ سائر أمتِه.
ومعنى لا يَصُدَّنَّكَ عنها : لا يَصُدَّنَّكُمْ ، قال اللَّه عزَّ وجلَّ : (يَا
أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ). فَنبَّه النبي - صلى الله
عليه وسلم - بالخطاب وخوطب هو وأمته بقوله (إِذَا طَلَّقْتُمُ).
وقوله : (فَتَرْدَى).
معناه فتهلك ، يقال رَدِيَ يَرْدَى ردًى ، إذا هلك ، وكذلك تَرَدَّى إذَا هلَكَ
في قوله عزَّ وجلَّ : (وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11).
* * *
قوله : (وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17)
تلك اسم مبهم يَجري مجرى التي ، ويوصل كما توصل التي ، المعنى
(3/353)
ما
التي بيمينك يا موسى.
وهذا الكلام لفظه لفظ الاستفهام ومجراه في الكلام
مجرى ما يسأل عنه ، ويجيب المخاطب بالِإقرار به لتثبت عليه الحجة بعدما
قد اعترف مستغنًى بإقراره عن أن يجحد بعد وقوع الحجة ، ومثله من الكلام
أنْ تُرِيَ المخاطب ماءً فتقول له ما هذا فيقول ماء ، ثم تحيله بشيء من الضِبْغ
فإن قال إنه لم يزل هكذا قلت له : ألست قد اعترفت بأنه ماء ؟
* * *
وقوله : (قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي
وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18)
وقرئ هي عَصَى بغير ألف ، وأجْوَدُهُمَا عَصَايَ . وَعَصَى لغَةُ هُذَيل.
والأصل في يا الإضافة أن يكسر ما قبلها ، تقول هذا حَجَرِي فتكسر الراء وهي في
موضع ضم وكذلك رأيت حجرِي ، فإذا جَاءتْ بَعْدَ الألف المقصورة لم تكسرها ؛ لأن
الألف لا تُحرَّكُ ، وكذلك إذا جاءت بعد ألف التثنية في الرفع في قولك هما غلاماي
، وبعد ياء النصب في قولك : رأيت غلامَيَّ ، وبعد كل ياء قبلها - كسرة نحو هذا
قاضِى ورأيت مُسْلِمِيَّ ، فجعلت هُذَيْلٌ بدلًا من كسرةِ الألف تغييرها إلى الياء
، وليس أحَدٌ من النحويين إلا وقد حكى هذه اللغة.
قال أبو ذؤيب.
سَبَقوا هَوَيَّ وأَعْنَقُوا لِهَواهُم . . . فتُخُرِّمُوا ولكُلِّ جَنْبٍ
مَصْرَعُ
* * *
قوله : (وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي).
- جاء في التفسير أخْبِطُ بها الشجرَ ، واشتقاقه من أني أحيلُ الشيءَ إلى
الهشاشة والإمكان.
- وقوله : (وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى).
جاء في التفسير حاجات أخَر ، وكذلك هُوَ في اللغة ، وواحد المآرب
(3/354)
مَأرُبَة
ومارَبة . وجاء (أُخْرَى) على لفظ صفة الواحدة ، لأن مآرب في معنى
جماعة فكأنَّها جماعات من الحاجات الأخرى ، فلو جاءت أخَرُ كان صواباً.
* * *
قوله : (قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21)
معنى (سِيرَتَهَا) طريقتها يعنى - هيئتها ، تقول إذا كان القوم مشتبهين : هم
على سيرة واحدة وطريقة - وَاحِدةٍ ، تريد أن هيئتهم واحدة وشبههم واحِد ، وإن كان
أصل السيرة والطريقة أكثر ما يقع بالفعل ، تقول : فلان على طريقة فلانٍ وعلى سيرته
أي أفعاله تشبه أفعال فلانٍ ، والمعنى : سنعيدها عَصاً كما كانت.
و (سِيرَتَهَا) منصوب على إسقاط الخافض ، وأفْضى الفعل إليها ، المعنى - والله
أعلم - سنعيدها إلى سيرتها الأولى ، فلما حُذِفَتْ " إلى " أفْضى الفعل
- وهو سنعيدها - فَنَصَب.
* * *
وقوله : (وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ
آيَةً أُخْرَى (22)
جناح الإنسان عَضُدُه إلى أصل " إبطه.
وقوله : (تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى).
(آيةً) مَنْصوبة لأنها في موضع الحال ، وهي اسم في موضع الحال.
المعنى - واللَّه أعلم - تخرج بيضاء مُبيِّنة آيَةً أُخْرَى.
ويجوز أن يكون (آيَةً أُخْرَى) منصوبةً على معنى آتيناك آية - أخرى أو سنؤتينك
آيَةً أُخْرَى ، لأنه لما قال : (تَخْرُج بَيْضَاءَ) كان في ذلك دَليل أنَّه يعطى
آيةً أخرى ، فلم يحتج إلى ذكر آتَينَاكَ لأن في الكلام دليلًا عليه.
ويجوز آية أخرى بالرفع على إضمار هذه آية أخْرَى.
* * *
وقوله : (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28)
جاء في التفسير أنه كان في لسانه رُتَّة ، لأن امْرأةَْ فِرْعَوْنَ جَعَلَتْ عَلَى
لِسَانه حجرةً لأنه كان أخذ وهو صبي بِلِحْيةِ فرعَوْنَ فهَمَّ به ، وقال هذا عدو
(3/355)
فأعلمته
أنه صبي لا يعقل وأن دليلها على ذلك أنه التقم جمرة فدرأت عنه ما
هَمَّ به فِرْعَوْنَ فيه.
* * *
وقوله : (وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30)
يجوز أن يكون نصب هارون من جهتين :
إحداهما أن يكون (اجْعَلْ) لا يَتَعدى إلى مفعولين فيكون المعنى اجعل هارون أخي
وزيري فتنصب " وَزِيرًا " على أنه مفعول ثانٍ.
ويجوز أن يكون هارون بدلاً من قوله " وَزِيرًا "
ويكون المعنى اجعل لي وَزِيرًا من أهلي ثم أبدل هارون من وَزِير.
والقول الأول أجودُ و (أخي) نعت لهارون.
* * *
وقوله : (اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32)
يقرأ على ضربين :
على مَعْنى اجعل أخي وزيراً ، فإنك إن فعلت ذلك
أشْدُدْ به أزْري . " أشْدُدْ " على الإِخْبَارِ عن النفس وأظهرت
التضعيف لأنه
جواب الأمر وأشْرِكُه في أمْرِي ، فيقرأ على هذا : هارون أخي أشْددْ به أزري
وأشرِكُهُ في أمري بقَطْع ألِفِ أشْدُدْ وضم الألف من وأُشْرِكْهُ.
ومن قرأ هارون أخي اشدد به أزري وأشْرِكه فعلى الدعاء.
المعنى : اللهم أشدد به أزري وأشْرِكْهُ في أمري.
* * *
(وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37)
قد بين المرة على ما هي وهي قوله :
(إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ
فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ
لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى
عَيْنِي (39)
لأنه نَجَّاهُ بهذَا من القتل ، لأنَّ فرعونَ كَان يَذْبَحُ الأبناءَ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي).
قالوا معناه ولتُغْذَى.
ومعنى أزرِي ، يقال آزَرْتُ فُلاناً على فلان إذَا أعنْتَه عَليْه وقوَّيتَه ،
ومِثلُه :
__________
(1) قال ابن الجوزي :
قوله تعالى : { ولِتُصْنَع على عيني } وقرأ أبو جعفر : «ولْتُصنعْ» بسكون اللام
والعين والإِدغام.
قال قتادة : لتُغذى على محبتي وإِرادتي.
قال أبو عبيدة : على ما أُريد وأُحِبّ.
قال ابن الأنباري : هو من قول العرب : غُذي فلان على عيني ، أي : على المَحَبَّة
مِنّي.
وقال غيره : لتُرَبَّى وتغذى بمرأىً مني ، يقال : صنع الرَّجل جاريته : إِذا
ربَّاها؛ وصنع فرسه : إِذا داوم على علفه ومراعاته ، والمعنى : ولِتُصْنَعَ على
عيني ، قدَّرنا مشي أختك. اهـ (زاد المسير. 5 / 284).
وقال السَّمين :
قوله : { وَلِتُصْنَعَ } قرأ العامَّةُ بكسر اللام وضم التاء وفتحِ النون على
البناءِ للمفعول ، ونصبِ الفعلِ بإضمار أَنْ بعد لام . وفيه وجهان ، أحدهما : أن
هذه العلةَ معطوفةٌ على علةٍ مقدرة قبلها . والتقديرُ : ليتلطَّفَ بك ولتُصْنَعَ ،
أو ليعطفَ عليك وتُرامَ ولتصنعَ . وتلك العلةٌ المقدرةُ متعلقةٌ بقوله : « وألقيتُ
» أي : ألقيتُ عليكم المحبة ليَعْطفَ عليك ولتُصْنَعَ . ففي الحقيقة هو متعلقٌ بما
قبله من إلقاءِ المحبة.
والثاني : أن هذه اللامَ تتعلقُ بمضمرٍ/ بعدها تقديرُه : ولتُصْنَعَ على عيني
فعلتُ ذلك ، أو كان كيت وكيت . ومعنى لتُصْنَعَ أي : لتربى ويُحْسَنَ إليك ، وأنا
مراعِيْكَ ومراقُبكَ كما يراعي الإِنسانُ الشيءَ بعينِه إذا اعتنى به . قاله
الزمخشري.
وقرأ الحسن وأبو نهيك « ولِتَصْنَعَ » بفتح التاء . قال ثعلب : « معناه لتكون
حركتُك وتصرُّفُك على عينٍ مني . وقال قريباً منه الزمخشري . وقال أبو البقاء : »
أي لتفعلَ ما آمُرك بمرأى مني «.
وقرأ أبو جعفر وشَيْبَةُ » ولْتُصْنَعْ « بسكون اللام والعين وضم التاء وهو أمرٌ
معناه : ليُرَبَّ وليُحْسَن إليك . وروي عن أبي جعفر في هذه القراءةِ كسرُ لامِ
الأمر . قلت : ويحتمل مع كسرِ اللام أو سكونِها حالةً تسكينِ العين أن تكونَ لامَ
كي ، وإنم سُكِّنَتْ تشبيهاً بكَتْف وكَبْد ، والفعل منصوب . والتسكينُ في العين
لأجل الإِدغام لا يُقْرأ في الوصل إلاَّ بالإِدغام فقط. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(3/356)
(فآزَرَهُ
فاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ).
فتأويله أقوى بهِ واستُعين به على أمري.
فأما الوزير في اللغة فاشتقاقه من الوَزَرِ ، والوَزَرُ الجَبلُ الذي يُعْتَصَم به
ليُنْجِيَ مِنَ الهكلَةِ ، وكذلك وزير الخليفة معناه الذي يَعْتمد عليه في أمُورِه
وَيلْتَجِئ إلى رأيه وقوله : (كَلَّا لاَ وَزَرَ) معناه لا شيءَ يُعْتَصَمُ بِه من
أمر
الله - عزَّ وجلَّ -.
* * *
وقوله : (إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ
فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ
نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ
فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40)
(وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا).
معناه اختبرناك اختباراً.
وقوله : (ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى).
قيل في التفسير : على مَوْعِدٍ ، وقيل على قَدَرٍ من تَكلِيمي إياك.
(اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42)
معناه ولا تضعُفَا ، يقال : وَنَى يني وَنْياً ووُنيًّا إذاضَعُفَ ، وقولك قد توانى
فلان في هذا الأمر أي قد فتر فِيه وضَعُفَ.
وقوله : (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)
لعل في اللغة ترجٍّ وطمع ، تقول : لَعلي أصير إلَى خيرٍ ، فمعناه أرجو
وأطمع أن أصير إلى خير ، واللَّه - عزَّ وجلَّ - خاطب العبادَ بما يعقلون
والمعنى عند سيبويه فيه : اذْهَبَا عَلَى رَجَائكما وَطَمَعَكُمَا.
والعلم من الله عزَّ وجلَّ قد أتى من وراء ما يكون . وقد علم الله عزَّ وجلَّ أنه
لا يتذكر ولا يخشى ، إلا أن الحجة إنما تجب عليه بالإبانة ، وإقامتها عليه ،
والبرهان .
(3/357)
ْوإنما
تبعَثُ الرسُل وهي لا تعلم الغيب ولا تدري أيقبل منها أم لا ، وهم
يرجون ويطمعون أن يقبل مِنهم ، ومعنى " لعل " متصور في أنفسهم ، وعلى
تصور ذلك تقوم الحجة ، وليس علم الله بما سيكون تجب به الحجة علم.
الآدميين ، ولو كان كذلك لم يكن في الرسل فائدة.
فمعنى : (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى).
هو الذي عليه بُعثَ حميعُ - الرُّسُلِ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا
أَوْ أَنْ يَطْغَى (45)
معنى يَفْرطَ علينا يُبَادر بعقوبتنا ، يقال : قد فرط منه أمر أي قَدْ بَدَرَ منه
أمر ، وقد أفرط في الشيء إذا سَقَط فيه ، وقد فرط في الشيء أي قَصَّرَ ومعناه كله
التقدم في الشيْءِ ، لأن الفرط في اللغة المتقدم.
ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - " أنا فَرَطُكُمْ على الحوض ".
* * *
وقوله : (فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي
إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ
وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47)
(وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى).
ليس يعنى به التحية ، وإنما معناه أن من اتبع الهدى سلم من عذاب
اللَّه وسخطه والدليل على أنه ليس بسلام أنه ليس ابتداء لقاء وخطاب.
ومعنى (فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ).
ولم يقل فَأتَيَاهُ فقَالاَ لَه إنا رَسُولا ربِّكَ ، لأن الكلام قدْ دل على ذلك
فاستغنى عنه أن يقال فيه فأتَياهُ فَقَالاَ ، لأن قوله : (قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا
يَا مُوسَى (49).
فيه دليل على أنهما أتَياهُ فَقَالَا لَهُ :
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ
هَدَى
(50)
معناه خلق كل شيء على الهيئة التي بها ينْتَفِعُ ، والتي هي أصلح
الخلق له ، ثم هَدَاهُ لمعِيشتِه ، وقد قيل ثم هداه لموضع مَا يكون منه الولد .
(3/358)
والأول
أبين في التفسير ، وهذا جائز ، لأنا نرى الذَّكرَ مِنَ الحيوان يأتي
الأنثى ولم ير ذكراً قد أتى أنثى قبله فألْهَمه اللَّه - عزَّ وجلَّ - ذلك وهداه
إلى المَأتي.
والقول الأول ينتظم هذا المعنى ، لأنَّه إذا هَداه لمصْلَحَتِه فهذا دَاخِلٌ
في المصْلحةِ ، واللَّه أعلم.
* * *
وقوله تَعَالَى : (قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51)
قال له موسى عليه السلام :
(قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52)
معناه لا يُضِلها ولا ينساها ، ولا يضله ربي ولا ينساه ، يعنى به الكتاب.
ومعنى ضَلَلْتُ الشيءَ وضَلِلْتُ بكسر اللام وفتحِهَا أضِلُّه وَأضَلُّه ، إذا
جعلته في مكان لم تدر أين هو ، وُيضِل من أضلَلْتُه ، ومعنى أضْلَلْتُه أضَعْتُه.
قال أبو إسحاق من قرأ بالفتح فمعناه لا يَضَل أيْ لا يَضَل عن رَبِّي . .
وإذا ضممت الياء فمعناه لا يوجد ربي ضَالًّا عنها.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ
لِأُولِي النُّهَى (54)
(إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى)
معناه لذوي العقول ، واحد لنهى نُهْيَة.
يقال : فلان ذو نُهيةٍ ومعناه ذو عقل ينتهي به عن المقابح ويدخل به في المحاسِنِ.
وقال بعض أهل اللغة : ذو النهْيِةِ الذي يُنْتهَى إلى رأيه وعقله.
وهَذَا حسن أيضاً
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ
تَارَةً أُخْرَى (55)
يعنى به الأرض ، لأن اللَّه - عزَّ وجلَّ - خلق آدم من تراب ، وَجَرَى
الإضْمَارُ على قوله : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لكُمْ
فِيهَا سُبُلًا).
وقوله : (تَارَةً أُخْرَى).
(3/359)
مِنْهَا
خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55)
متعلق بقوله (مِنْهَا نُخْرِجُكُمْ) ، لأن المعنى كمعنى الأول.
لأن معنى (وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ) بمنزلة منها خلقناكم ، فكأنَّه قال - واللَّه
أعلم - : ومنها نخلقكم تارة أخْرَى ، لأن إخراجَهُم وهم تراب بمنزلة خلق آدم من
تراب.
* * *
وقوله : (فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ
مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (58)
(مَكَانًا سِوًى)
وتقرأ سُوًى بِالضمِ ومَعْنَاهُ مَنْصَفاً ، أي مكاناً يكون النصفَ فيما بيننا
وبينك ، وقد جاء في اللغةَ " سَواء " في هذا المعنى ، تقول : هذا مكانٌ
سَوَاء
أي مُتَوسط بين المكانين ، ولكن لم يقرأ إلا بالْقَصْرِ سِوًى وسُوًى.
* * *
وقوله تعالى : (قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ
ضُحًى (59)
وتقرأ (يومَ الزينة) ، فالرفع على خبر الابتداء ، والمعنى وقت موعدكم يوم
الزينة ومن قرأ (يومَ) فمنصوبٌ على الظرف ، المعنى يقع يوم الزينة.
وقوله : (وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى).
موضع (أن) رفع ، المعنى مَوعِدُكم حَشرُ الناسِ ضُحًى ، وتأويله إذا رأيتم
الناس قد حُشِروا ضُحًى.
وقيل يوم الزينة يومُ عيدٍ كان لهم ، وقيل إنه كان يوم عاشوراء.
ويجوز أن يكون في موضع خَفْض عطفاً على الزينة.
المعنى موعدكم يوم الزينة ويوم حشْرِ الناس.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ
كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61)
(وَيْلَكُمْ) منصوبٌ على أن ألزمهم اللَّه ويلًا ، ويجوز أن يكون منصوباًْ
عَلَى النداءِ كما قال تعالى : (يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ)
و (يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا).
(3/360)
وقوله
: (فَيَسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ).
ويقرأ (فَيُسْحِتَكُمْ) - بضم الياء وكسر الحاء ، يقال سَحَتَهُ ، وأسْحَتَهُ إذا
استَأصَلَهُ وأهْلكُه ، قال الفرزدق :
وعَضّ زمانٍ يا ابنَ مَرْوانَ لم يَدَعْ . . . من المالِ إِلاَّ مُسْحَتاً أَو
مُجَلَّفُ
معنى لم يدع لم يستقر - من الدعة من المال ، وأكثر الرواية إِلاَّ مُسْحَتاً.
فهذا على أسْحَت فهو مُسْحَت.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62)
يعنى به السحرة ، قالوا بينهم : إِنْ غَلَبَنَا موسى آمنا به ، وكان الأمْر لَهُ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ
يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ
الْمُثْلَى (63)
(إن هَذَانِ لَسَاحِرَانِ) (1).
يَعْنُونَ موسى وهارون . وهذا الحرف من كتاب اللَّه عزَّ وجلَّ مُشْكِل على
أهل اللغة ، وقد كثر اختلافهم في تفسيره ، ونحن نذكر جميع ما قاله النحويون ونخبر
بما نظن أنه الصواب واللَّه أعلم ، وقبل شرح إعرابه نخبر بقراءة القُراءِ
أما قراءة أهل المدينة والأكْمَهِ في القراءة فبتشديد (إنَّ) والرفع في
(هذان) وكذلك قرأ أهْلُ العِراق حمزةُ وعاصم - في رواية أبي بكر بن عياش
والمدنيونَ.
ورُويِ عَنْ عاصم : إِنْ هذان بتخفيف (إنْ) ، ويُصَدِّق ما قرأه عاصم
في هذه القراءة ما يُرْوى عَنْ أُبَيٍّ فَإنهُ قرأ : ما هذان إِلَّا سَاحِرَانِ ،
ورُوِيَ أيضاً
عنه أنه قرأ : إنْ هَذَان إِلا سَاحِرانِ ، ورويت عن الخليل أيضاً : إنْ هذانْ
لَسَاحِرَان - بالتخفيف -.
والإجماع أنه لم يكن أحد بالنحو أعلم من الخليل.
وقرأ أبو عمرو وعيسى بن عمَر : إنَّ هَذَيْن لَسَاحرانِ ، بتشديد " إِنَّ
" ونصب هذين.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { إِنْ هذان } : اختلف القُرَّاءُ في هذه الآيةِ الكريمة : فقرأ ابن كثيرٍ
وحدَه « إنْ هذانِّ » بتخفيف إنْ ، والألفِ ، وتشديدِ النون . وحفصٌ كذلك إلاَّ
أنه خَفَّف نونَ « هذانٍ » . وقرأ أبو عمرو « إنَّ » بالتشديد « هذين » بالياء
وتخفيفِ النون . والباقون كذلك إلاَّ أنهم قَرَؤوا/ « هذان » بالألف.
فأَمَّا القراءةُ الأولى وهي قراءةُ ابنِ كثير وحفص فأوضحُ القراءاتِ معنىً ولفظاً
وخَطَّاً؛ وذلك أنهما جعلا « إنْ » المخففةَ من الثقيلة فَأُهْمِلَتْ ، ولَمَّا
أُهْمِلَتْ كما هو الأفصحُ مِنْ وجهيها خِيْفَ التباسُها بالنافية فجيء باللامِ
فارقةً في الخبر . ف « هذان » مبتدأٌ ، و « لَساحران » خبرُه ، ووافَقَتْ خَطَّ
المصحفِ؛ فإن الرسم « هذن » بدونِ ألفٍ ولا ياءٍ وسيأتي بيانُ ذلك.
وأمَّا تشديدُ نونِ « هذان » فعلى ما تقدَّم في سورةِ النساءِ ، وقد أَتْقَنتُ ذلك
هناك.
وأمَّا الكوفيون فيزعمون أنَّ « إنْ » نافيةٌ بمعنى ما ، واللامُ بمعنى إلاَّ ،
وهو خلافٌ مشهورٌ وقد وافقَ تخريجُهم هنا قراءةَ بعضِهم « ما هذانِ إلاَّ ساحران
».
وأمَّا قراءةُ أبي عمروٍ فواضحةٌ من حيث الإِعرابُ والمعنى . أمَّا الإِعرابُ ف «
هذَيْن » اسمُ « إنَّ » وعلامةُ نصبِه الياءُ . و « لَساحِران » خبرُها ، ودخَلَتِ
اللام توكيداً . وأمَّا مِنْ حيث المعنى : فإنَّهم أَثْبتوا لهما السحرَ بطريق
تأكيديٍّ من طرفيه ، ولكنهم استشكلُوها من حيث خَطُّ المصحفِ؛ وذلك أنَّ رَسْمَه «
هذن » بدونِ ألفٍ ولا ياءٍ ، فإثباتُه بالياءِ زيادةٌ على خطِّ المصحفِ . قال أبو
إسحاق : « لا أُجيز قراءةَ أبي عمرو لأنَّها خلافُ المصحفِ » . وقال أبو عبيد : «
رأيتُهما في الإِمام مصحفِ عثمان » هذن « ليس فيها ألفٌ ، وهكذا رأيتُ رفعَ
الاثنين في ذلك المصحفِ بإسقاط الألفِ ، وإذا كتبوا النصبَ والخفضَ كتبُوه بالياء
، ولا يُسْقِطونها ».
قلت : وهذا لا ينبغي أَنْ يُرَدَّ به على أبي عمرو ، وكم جاء في الرسم أشياءُ
خارجةٌ عن القياسِ ، وقد نَصُّوا هم أنه لا يجوزُ القراءةُ بها فليكنْ هذا منها ،
أعني ممَّا خَرَجَ عن القياس . فإن قلتَ : ما نَقَلْتَه عن أبي عبيد مشتركُ
الإِلزامِ بين أبي عمروٍ وغيرِه ، فإنهم كما اعترضوا عليه بزيادةِ الياء يُعْترض
عليهم بزيادةِ الألفِ : فإنَّ الألفَ ثابتةٌ في قراءتِهم ، ساقطةٌ من خَطِّ
المصحفِ . فالجواب ما تقدَّم مِنْ قولِ أبي عبيدٍ أنهم رآهم يُسْقِطون الألفَ مِنْ
رفع الاثنين ، فإذا كتُبوا النصبَ والخفضَ كتبُوه بالياء.
وذهب جماعةٌ منهم عائشةُ رضي الله عنها وأبو عمروٍ إلى أن هذا ممّا لَحَنَ فيه
الكاتبُ وأُقيم بالصواب.
يَعْنُون أنه كان مِنْ حقه أن يكتبَه بالياءِ فلم يفعلْ ، فلم يقرَأْه الناسُ
إلاَّ بالياءِ على الصوابِ.
وأمَّا قراءةُ الباقين ففيها أوجه ، أحدُها : أن « إنَّ » بمعنى نَعَمْ ، و « هذان
» مبتدأٌ ، و « لَساحران » خبرُه ، وكَثُرَ ورودُ « إنَّ » بمعنى نعم وأنشدوا :
3297 بَكَرَ العَواذِلُ في المَشِيْ . . . بِ يَلُمْنَني وأَلوْمُهُنَّهْ
ويَقلْن شَيْبٌ قد عَلا . . . كَ وقد كَبِرْتَ فقلتُ إنَّهْ
أي : فقلت : نَعَمْ . والهاءُ للسَّكْتِ . وقال رجلٌ لابن الزبير : لَعَن اللهُ
ناقةً حَمَلَتْني إليكَ . فقال : « إنَّ وصاحبَها » أي : نعم . ولَعَنَ صاحبَها .
وهذا رأيُ المبردِ وعلي بن سليمان في آخرين . وهو مردودٌ من وجهين ، أحدهما : عدمُ
ثبوتِ « إنَّ » بمعنى نعم ، وما أوردُه مُؤَوَّلٌ : أمَّا البيتُ فإنّ الهاءَ
اسمُها ، والخبرَ محذوفٌ لفهمِ المعنى تقديرُه : إنه كذلك . وأمَّا قولُ ابنِ
الزبير فذلك مِنْ حَذْفِ المعطوفِ عليه وإبقاءِ المعطوف وحَذْفِ خبر « إنَّ »
للدلالةِ عليه ، تقديره : إنَّها وصاحَبها ملعونان ، وفيه تكلُّفٌ لا يَخْفَى والثاني
: دخولُ اللامِ على خبرِ المبتدأ غيرِ المؤكَّد ب « إنَّ » المكسورةِ ، لأَنَّ
مثلَه لا يقعُ إلاَّ ضرورةً كقولِه :
3298 أمُّ الحُلَيْسِ لَعَجُوْزٌ شَهْرَبَهْ . . . تَرْضَى من اللحمِ بعظمِ
الرَّقَبَهْ
وقد يُجاب عنه : بأنَّ « لَساحِران » يجوزُ أَنْ يكونَ خبرَ مبتدأ محذوفٍ دَخَلَتْ
عليه هذه اللامُ تقديرُه : لهما ساحران . وقد فعل ذلك الزجاج كما ستأتي حكايتُه
عنه.
الثاني : أنَّ اسمَها ضميرُ القصةِ وهو « ها » التي قبل « ذان » وليست ب « ها »
التي للتنبيهِ الداخلةِ على أسماءِ الإِشارةِ ، والتقدير : إنَّ القصةَ ذانِ
لساحران . وقد رَدُّوا هذا من وجهين ، أحدهما : من جهةِ الخَطِّ ، وهو أنه لو كان
كذلك لكان ينبغي أن تُكتبَ « إنها » فيصِلوا الضميرَ بالحرفِ قبلَه كقوله تعالى :
{ فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار } [ الحج : 46 ] فكَتْبُهم إياها مفصولةً من «
إنَّ » متصلةً باسمِ الإِشارة يمنع كونَها ضميراً ، وهو واضح . الثاني : أنَّه
يؤدِّي إلى دخولِ لامِ الابتداءِ في الخبرِ غيرِ المنسوخِ . وقد يُجاب عنه بما
تقدَّم.
الثالث : أنَّ اسمَها ضميرُ الشأنِ محذوفٌ ، والجملةُ من المبتدأ والخبرِ بعدَه في
محلِّ رفعٍ خبراً ل « إنَّ » ، التقديرُ : إنَّه ، أي : الأمرُ والشأنُ . وقد
ضُعِّفَ هذا بوجهين ، أحدهما : حَذْفُ اسمِ « إن » ، وهو غيرُ جائزٍ إلاَّ في شعرٍ
، بشرطِ أَنْ لا تباشرَ « إنَّ » فعلاً كقولِه :
3299 إنَّ مَنْ يَدْخُلِ الكنيسةَ يوماً . . . يَلْقَ فيها جَآذراً وظِباءَ
والثاني : دخولُ اللام في الخبرِ.
وقد أجابَ الزجَّاج بأنها داخلةٌ على مبتدأ محذوفٍ تقديرُه : لهما ساحران . وهذا
قد استحسنه شيخُه المبردُ ، أعني جوابَه بذلك.
الرابع : أنَّ « هذان » اسمُها ، و « لَساحران » خبرُها . وقد رُدَّ هذا بأنه كان
ينبغي أَنْ يكونَ « هذين » بالياءِ كقراءةِ أبي عمرو.
وقد أُجيب عن ذلك : بأنه على لغةِ بني الحارثِ وبين الهُجَيْم وبني العَنْبر
وزُبَيْد وعُذْرَة ومُراد وخَثْعَم . وحكى هذه اللغةَ الأئمةُ الكبارُ كأبي
الخَطَّاب وأبي زيد الأنصاري والكسائي . قال أبو زيد : « سمعتُ من العربِ مَنْ
يَقْلِبُ كلَّ ياءٍ ينفتح ما قبلها ألفاً » ، يجعلون المثنى كالمقصورِ فيُثْبِتون
ألفاً في جميع أحواله ، ويُقَدِّرون إعرابَه بالحركاتِ ، وأنشدوا قولَه :
3300 فأَطْرَق إطْراقَ الشُّجاعِ ولو يرى . . . مَسَاغاً لِناباه الشُّجاعُ
لصَمَّما
أي : لنابَيْه . وقولَه :
3301 إنَّ أباها وأبا أباها . . . قد بَلَغا في المجدِ غايتاها
أي : غايتيهما ، إلى غير ذلك من الشواهد.
وقرأ ابن مسعود : « أنْ هذان ساحِران » بفتح « أَنْ » وإسقاط اللامِ : على أنها
وما في حَيِّزها بدلٌ من « النجوى » كذا قاله الزمخشري ، وتبعه الشيخ ولم ينكره .
وفيه نظرٌ : لأنَّ الاعتراضَ بالجملة القولية بين البدلِ والمبدلِ منه لا يَصِحُّ
. وأيضاً فإنَّ الجملةَ القوليةَ مفسرةٌ للنجوى في قراءةِ العامَّة ، وكذا قاله
الزمخشريُّ أولاً فكيف يَصحُّ أَنْ يُجْعَلَ « أنْ هذان ساحران » بدلاً من «
النجوى »؟.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(3/361)
فهذه
الرواية فيه.
فأمااحتجاج النحويين فاحتجاج أبي عمرو في مخالفته المصحف في
هذا أنهُ رُوِيَ أنه من غَلطِ الكاتب ، وأن في الكتاب غَلَطاً سَتُقِيمُه العربُ
بألْسِنَتِها ، يروى ذلك عَنْ عُثْمَانَ بنِ عفَانِ وَعَنْ عائشة - رحمهما اللَّه
-.
وأما الاحتجاج في أنَّ هذان بتشديد أن ورفع هذانِ فحكى أبُو عُبَيْدَة عن
أبي الخطاب وهو رأس من رؤساء الرواة ، أنها لغة لِكنَانَة ، يجعلون ألف
الاثنين في الرفع والنَصْبِ والخفض على لفظ واحدٍ ، يقولون أتاني الزيدان.
ورأيت الزيْدَانِ ، ومررت بالزَيْدَانِ ، وهؤلاء ينشدون :
فأَطْرَقَ إطْراقَ الشُّجاعِ ولو رَأَى . . . مَساغاً لِنابَاه الشُّجاعُ
لَصَمَّما
وهؤلاء أيضاً يقولون : ضَرَبتُه بين أذُناه ، ومن يشتري مني الخُفَّانِ
وكذلك روى أهل الكوفة أنها لغة لبني الحرث بن كعْبٍ.
قال النحويون القُدَمَاء : ههنا هاء مضمرة ، المعنى إنهُ هذانِ لَسَاحِرَانِ ،
(3/362)
وقالوا
أيضاً أن معنى (إن) معنى (نَعَمْ) ، المعنى نعم هَذان لساحِرَانِ.
وينشدون :
ويَقُلْنَ شَيْبٌ قدْ علَّا . . . كَ وقد كَبِرْتَ فقلتُ إنَّهْ
ويَحتحون بأن هذه اللامَ - أصْلُهَا - أن تقع في الابتداء ، وأن وُقُوعَها في
الخبر جائز ، وينشدون في ذلك :
خالي لأَنتَ ومَن جَريرٌ خالُه . . . يَنَلِ العَلاءَ ويُكْرِمِ الأَخْوالا
وأنشدوا أيضاً :
أُمُّ الحُلَيْسِ لَعَجُوزٌ شَهْرَبَهْ . . . تَرْضى من الشاةِ بِعَظْمِ
الرَّقَبَهْ
قالوا : المعنى لأنت خالي ، والمعنى لأم الحليس عجوز.
وقال الفراء فى هذا : إنهم زادوا فيها النون في التثنية وتركوا الألف على حالها في
الرفع والنصب والجر كما فعلوا في الذي ، فقالوا الَّذِينَ في الرفع والنصب والجر.
فهذا جميع ما احتج به النحويون.
والذي عندي - واللَّه أعلم - وكنت عرضته على عالِمَيْنَا - محمد بن يزيد
وعلى إسماعيل بن إسحاق بن حماد بن زيد القاضي فقبلاه وذكرا أنَّه أجود ما
سمعاه في هذا ، وهو " أنَّ) قد وقعت موقع " نعم " ، وأن اللام وقعت
مَوْقِعَهَا ، وأن المعنى هذان لَهما ساحِرَانِ .
(3/363)
والذي
يلي هذه في الجودة مذهب بني كنانة في ترك ألف التثنية على
هيئة واحدة ، لأن حق الألف أنْ تَدُل على الاثنين ، وكان حقها ألا تتغيَّر كما لم
تتغير ألف رحى وعضى ، ولكن كان نقلها إلى الياء في النصْبِ والخفض
أبين وأفْضَلُ للتمييز بين المرفوع والمنصوب والمجرور.
فأمَّا قراءةَ عيسى بن عمر وأبي ععرو بن العلاء فلا أجيزها لأنها خلاف المصحف ،
وكل ما وجدته إلى موافقة المصحف أقرب لم أجِزْ مخَالفَتَه ، لأن اتباعه سنة.
وما عليه أكثر القراء ، ولكني أسْتَحسِنُ (إنْ هذان لساحران) بتخفيف (إنْ) وفيه
إمامان : عاصمٌ والخليلُ ، وموافقة أُبيٍّ في المعْنَى وأن خالفه اللفظ ، ويستحسن
أيضاً (إنَّ هذان) بالتشديد ، لأنه مذهب أكثر القراء ، وبه يقرأ وهو قوي في
العربية.
* * *
قوله تعالى : (وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى).
معناه في قول النحويين بجماعتكم الأشراف . والمثلى تأنيث الأمثل.
ومعنى الأمثل والمثلى معنى " ذوُ الفضل " الذي يستحق أن يقال فيه هذا
أمثل قَوْمِه.
وفي التفسير : (بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى) بأشْرَافكم ، والعرب تقول للرجل
الفاضل هذا طَرِيقةُ قوْمِه ، وَنَظِيرَة قومِه ، ونَظُورَة قومه.
كل هذا للرجل الفاضِل.
وإنما تأويله هذا الذي ينبغي أن يجعلَهُ قومُه قدوةً ويسْلكوا طريقته.
والذي قال أيضاً : هذا نظورة قومه ونظيرة قومه ، معناه هذا الذي ينبغي أن يَنْظُر
إليه قومُه وأن يتبعوه.
والذي عندي - واللَّه أعلم - أن في الكلام محذوفاً يدل عليه ما بقي.
إنما المعنى يذهبا بأهل طَرِيقتكم المثلى ، كما قال اللَّه عزَّ وجلَّ :
(3/364)
(وَاسْأَلِ
الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا) ، معناه وَاسأل أهل القرية ، وكذلك قول العرب
: هذا طريقة قومه معناه هذا صاحب طريقة قومه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسي).
. تأويله اخترتك لإقَامَةِ حُجتِي ، وجَعَلْتكَ بَيْني وبين خَلْقِي حتى صرت
في الخطاب عني والتبليغ عني بالمنزلة التي أكون بها لو خاطبتهم واحتججت
عليهم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ
أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (64)
وقرئتْ (فاجمعوا كيدكم) ، فمن قرأ فأجمِعُوا بقطع الألف ، فمعناه ليكن
عزمكم - كلكم على الكيد مُجْمَعاً عليه أي لا تَختلِفُوا فتخْتَلوا.
ومن قرأ (فاجمعوا) فمعناه جيئوا بكل كيد تقدرون عليه ، ولا تبقوا مِنْهُ شيئاً.
وقوله : (ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا).
معناه ائتوا الموضع الذي تجتمعون فيه لِعيدِكم وصَلَاتِكِم ، يقال : أتَيتَ
صَفًّا بمعنى أتيت المُصَلَّى ، ويجوز أن يكون (ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا) ثم ائتوا
مصطفين
مجتمعين ليكون أنظمَ لأموركم ، وأشد لهيئتكم.
(وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى).
ومعنى (مَنْ اسْتَعْلَى) من علا بالغلبة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ
يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66)
ولم يَقُل ههنا " فَأَلْقَوْا " فإذا حبالهم ، لأنه قد جاء في موضع آخر
، (فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ).
ويجوز في عِصِيٍّ عُصِيٍّ ، والكسر أكثر ، والأصْلُ
(3/365)
الضم
إلا أن الكسر يثقل بعد الضم فلذلك اختير كسر العين.
ويروى في التفسير أنَّ السَّحرةَ كانوا يومئذٍ سبعين ألف ساحِرٍ معهم
سبعون ألف حَبْل وَسَبْعون ألف عصا (1) ، فأوحى الله إلى موسى حين خُيِّلَ إليه من
سِحرهم أنها تسعى أن يُلْقِيَ عَصَاة فإذا هي ثعبان مُبين فَاغِر فَاه فابتلع
جَمِيعَ تلك الحبال ، وقرئت (فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ
إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى).
وموضع أن على هذه القراءة رفع ، المعنى يخيل إليه سَعْيُها ، ويقرأ
" تُخَيَّلُ " بالتاء ، وموضع أن عَلَى هذه القراءة يجوز أن يكون نصباً
، ويجوز أن يكون رفعا ، فأمَّا النصب فعلى معنى يخيل إليه أنها ذات سَعْي ويجوز أن
يكون مرفوعاً على البدل على معنى يخيل إليه سِعَايتُها ، وأبدل أنها تسعى من
المضمر في يخيل لاشتماله على المعنى ، ويكون إليه الخبر على هذا
التقدير.
ومثل ذلك ما حكاه سيبويه يقال : مالي بِهِمْ عِلْم أمْرُهُم ، أي مالي علم
بِأمرِهم ، ومثل ذلك من الشعر :
تَذَكَّرَتْ تَقْتَدَ بَرْدَ مائها
المعنى تَذَكَّرَتْ بَرْدَ مَاء تَقْتد (1).
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { فَإِذَا حِبَالُهُمْ } : هذه الفاءُ عاطفةٌ على جملةٍ محذوفةٍ دَلَّ
عليها السياقُ . والتقدير : فَأَلْقَوْا فإذا . و « إذا » هذه التي للمفاجَأة .
وفيها ثلاثة أقوال تقدَّمت . أحدُها : أنها باقيةٌ على ظرفيةِ الزمان . الثاني :
أنها ظرفُ مكانٍ . الثالث : أنها حرفٌ.
قال الزمخشري : « والتحقيق فيها أنها الكائنةُ بمعنى الوقتِ الطالبةُ ناصباً لها ،
وجملةً تُضاف إليها خُصَّتْ في بعضِ المواضع بأن يكونَ الناصبُ لها فعلاً مخصوصاً
، وهو فِعْلُ المفاجأةِ ، والجملةٌ ابتدائيةٌ لا غير . فتقديرُ قولِه تعالى {
فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ } : ففاجأ موسى وقتَ تخييلِ سَعْيِ حبالِهم وعِصيِّهم
، [ وهذا تمثيل . والمعنى : على مفاجأته حبالُهم وعصيُهم مُخَيِّلَةً إليه
السَّعْيَ » انتهى ].
قال الشيخ : « قوله » إنَّها زمانية « مرجوحٌ ، وهو مذهب الرِّياشي . وقوله »
الطالبةُ ناصباً « صحيحٌ . وقوله : » وجملةٌ تضاف إليها « ليس صحيحاً عند بعض
أصحابنا لأنها : إمَّا أَنْ تكونَ هي خبراً لمبتدأ ، وإمَّا أَنْ تكونَ معمولةً
لخبر المبتدأ . وإذا كان كذلك استحال أَنْ تُضافَ إلى الجملةِ؛ لأنها : إمَّا أَنْ
تكونَ بعضَ الجملةِ ، أو معمولةً لبعضِها فلا يمكن الإِضافةُ . وقوله : » خُصَّتْ
في بعض المواضع إلى آخره « قد بَيَّنَّا الناصبَ لها . وقولُه : » والجملةُ بعدها
ابتدائيةٌ لا غير « هذا الحَصْرُ ليس بصحيحٍ بل قد جَوَّز الأخفشُ ، ونصَّ على أن
الجملةَ الفعليةَ المقترنةَ ب » قد « تقع بعدَها نحو » خرجْتُ فإذا زيدٌ قد ضربه
عمروٌ « برفعِ » زيد « ونصبِه على الاشتغال . وقوله : » والمعنى : على مفاجأته
حبالُهم وعِصِيُّهم مخيِّلةً إليه السَّعْيَ « فهذا عكسُ ما قُدِّر بل المعنى :
على مفاجأةِ حبالِهم وعصيِّهم إياه . فإذا قتل : » خَرَجْتُ فِإذا السَّبُعُ «
فالمعنى : أنه فاجأني السَّبُعُ وهجم ظهورُه » انتهى ما رَدَّ به.
قوله وما رَدَّ به عليه غيرُ لازمٍ له ، لأنه يَرُدُّ عليه بقولِ بعض النحاةِ ،
وهو لا يلتزم ذلك القولَ حتى يَرُدَّ عليه لا سيما إذا كان المشهورُ غيرَه ،
ومقصودُه تفسيرُ المعنى.
وقال أبو البقاء : الفاءُ جوابُ ما حُذِف ، تقديرُه « فَأَلْقَوْا فإذا » ، ف «
إذا » في هذا ظرفُ مكانٍ ، العاملُ فيه « أَلْقَوْ » . وفي هذا نظر؛ لأنَّ «
أَلْقَوْا » هذا المقدَّرَ لا يَطْلُبُ جواباً حتى يقول : الفاءُ جوابُه ، بل كان
ينبغي أَنْ يقولَ : الفاءُ عاطفةٌ هذه الجملةَ الفجائية على جملةٍ أخرى مقدرةٍ .
وقولُه « ظرف مكانٍ » ، هذا مذهبُ المبردِ ، وظاهرُ قولِ سيبويه أيضاً ، وإن كان
المشهورَ بقاؤها على الزمان . وقوله : « إن العامل فيها » فأَلْقَوا « لا يجوز
لأنَّ الفاءَ تمنع من ذلك.
هذا كلامُ الشيخ ثم قال بعده : » ولأنَّ « إذا » هذه إنما هي معمولةٌ لخبرِ
المبتدأ الذي هو « حبالُهم وعِصٍيُّهم » إن لم يجَعلْها هي في موضع الخبر؛ لأنه
يجوزُ أن/ يكونَ الخبرُ « يُخَيَّل » ، ويجوز أَنْ تكونَ « إذا » و « يُخَيَّل »
في موضعِ الحال.
وهذا نظير : « خرجْتُ فإذا الأسدُ رابضٌ ورابضاً » فإذا رَفَعْتَ « رابضاً » كانت
« إذا » معمولةً له ، والتقدير : فالبحضرة الأسدُ رابضٌ ، أو في المكان . وإذا
نَصَبْتَ كانت « إذا » خبراً . ولذلك يُكْتفى بها وبالمرفوع بعدها كلاماً ، نحو :
« خَرَجْتُ فإذا الأسدُ ».
قوله : { يُخَيَّلُ إِلَيْهِ } قرأ العامَّة « يُخَيَّل » بضمِّ الياء الأولى
وفتحِ الثانية مبنياً للمفعول . و « أنَّها تَسْعى » مرفوعٌ بالفعلِ قبلَه لقيامِه
مقامَ الفاعلِ تقديرُه : يُخَيَّل إليه سَعْيُها . وجوَّز أبو البقاء فيه وجهين
آخرين : أحدهما : أَنْ يكونَ القائمُ مَقامَ الفاعلِ ضميرَ الحبالِ والعِصِيِّ ،
وإنما ذُكِّرَ ولم يَقُلْ ِ « تُخَيَّل » بالتاء مِنْ فوقُ؛ لأنَّ تأنيثَ الحبالِ
غيرُ حقيقي . الثاني : أنَّ القائمَ مقامَ الفاعلِ ضميرٌ يعودُ على المُلْقى ،
ولذلك ذُكِّرَ . وعلى الوجهين ففي قولِه « أنها تسعى » وجهان ، أحدُهما : أنَّه
بدلُ اشتمالٍ من ذلك الضمير المستترِ في « يُخَيَّل » . والثاني : أنه مصدرٌ في
موضع نصبٍ على الحالِ من الضميرِ المستتر أيضاً . والمعنى : يُخَيَّل إليه هي أنها
ذاتُ سَعْيٍ . ولا حاجةَ إلى هذا ، وأيضاً فقد نَصُّوا على أنَّ المصدرَ المؤول لا
يقع موقعَ الحالِ . لو قلت : « جاء زيدٌ أَنْ يركضَ » تريد ركضاً ، بمعنى ذا ركض ،
لم يَجُزْ.
وقرأ ابن ذكوان « تُخَيَّلُ » بالتاء من فوق . وفيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنَّ
الفعلَ مُسْنَدٌ لضميرِ الحبالِ والعِصِيِّ أي : تُخَيَّلُ الحبالُ والعِصِيُّ ، و
« أنَّها تَسْعَى » بدلُ اشتمال من ذلك الضميرِ . الثاني : كذلك إلاَّ أنَّ «
أنَّها تَسْعى » حالٌ أي : ذات سعي كما تقدَّم تقريرُه قبل ذلك . الثالث : أن
الفعلَ مسندٌ لقولِه « أنَّها تَسْعى » كقراءةِ العامَّةِ في أحدِ الأوجهِ ، وإنما
أَنَّثَ الفعلَ لاكتسابِ المرفوعِ التأنيثَ بالإِضافة؛ إذا التقديرُ : تُخَيَّلُ
إليه سعيُها فهو كقوله :
3302 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
شَرِقَتْ صدرُ القناةِ من الدمِ
[ وقوله تعالى : ] { فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } [ الأنعام : 160 ].
وقرأ أبو السَّمَّال « تَخَيَّلُ » بفتح التاءِ والياء مبنياً للفاعلِ ، والأصلُ :
تَتَخَيَّلُ فَحَذَفَ إحدى التاءَيْن نحو : { تَنَزَّلُ الملائكة } [ القدر : 4 ]
، و « أنَّها تسعى » بدلُ اشتمالٍ أيضاً من ذلك الضمير . وجَوَّز ابنُ عطيةَ أيضاً
أنه مفعولٌ مِنْ أجله . ونقل ابنُ جُبارة الهُذَليُّ قراءة أبي السمَّال «
تُخَيِّل » بضمِّ التاء مِنْ فوقُ وكسر الياء ، فالفعلُ مسندٌ لضميرِ الحِبال ، و
« أنها تسعى » مفعولٌ أي : تُخَيِّلُ الحبالُ سَعْيَها . ونَسَبَ ابنُ عطيةَ هذه
القراءةَ للحسنِ وعيسى الثقفيِّ.
وقرأ أبو حيوةَ « نُخَيِّل » بنونِ العظمة ، و « أنها تسعى » مفعولٌ به أيضاً على
هذه القراءةِ.
وقرأ الحسنُ والثقفيُّ « عُصِيُّهم » بضم العين حيث وقع ، وهو الأصلُ . وإنما
كُسِرَت العينُ إتباعاً للصادِ وكُسِرت الصادُ إتباعاً للياء . والأصلُ عُصُوْوٌ
بواوين فَأُعِلَّ كما ترى بقَلْب الواوين ياءَيْن استثقالاً لهما ، فكُسِرَت
الصادُ لتصِحَّ ، وكُسِرَتِ العينُ إتباعاً . ونقل صاحبُ « اللوامح » أنَّ قراءةَ
الحسنِ « عُصْيهُم » بضم العين وسكون الصاد وتخفيف الياء مع الرفع ، وهو أيضاً جمع
كالعامَّة ، إلاَّ أنه على فُعْلٍ كحُمْرٍ ، والأولُ على فُعُوْل كفُلُوس.
والجملةُ من « يُخَيَّل » يُحتمل أَنْ تكونَ في محلِّ رفع خبراً ل « هي » على أن «
إذا الفجائية » فَضْلَةٌ ، وأن تكونَ في محلِّ نصبٍ على الحالِ ، على أنَّ « إذا »
الفجائية هي الخبر . والضميرُ في « إليه » الظاهرُ عَوْدُه على موسى . وقيل : يعود
على فرعون ، ويَدُلُّ للأولِ قولُه تعالى : { فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً
موسى }. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(3/366)
وقوله
عزَّ وجلَّ : (وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا
صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69)
(إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ)
ويقرأ (كَيْدُ سِحْرٍ) ، ويجوز إنما صنعوا كيدُ سَاحِرٍ ، ويجوز ُكَيْدَ ساحِرٍ
بنصب الدال . فمن قرأ " أنما : نصب " أنَّمَا " على معنى تلقَفْ
مَا صَنَعُوا لِأنَّ ما صنعوا كيد ساحِر ، ولا أعلم أحداً قرأها هنا "
أنَّمَا " ، والقراءة بالكسر ، وَهُوَ أبْلَغُ في المَعْنَى.
فأمَّا رفع كيد فعلى معنى أن الذي صَنَعُوه كَيدُ سَاحِرٍ على خبر إنَّ
وَ " مَا " اسم ، ومن قرأ كيدَ ساحِرٍ جعل " ما " تمنع "
إِنَّ " العَمَل ، وتسَوِّغُ للفِعْلِ أن يكون بعدها ، وينتصبُ " كيْد
ساحر " بـ صَنعوا ، كما تقول : إنما ضَرَبْتُ زيداً.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى).
قالوا معناه حيث كان ، وقيل معناه حيث كان الساحر يجبُ أن يُقَتَلَ.
وكذلك مذهب أهل الفقه في السحرة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67)
وأصلها خِوْفَة ، ولكن الواو قلبت ياء لانكسار ما قبلها.
(وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا).
و " تَلْقَفُ " القراءة بالجزم جواب الأمر ، ويجوز الرفع على معنى
الحال.
كأنه قال ألقها مُتَلَقِّفَةً ، على حال مَتَوقِّعَةٍ ، ولم يقرأ بها ، ولا ينبغي
أن يقرأ بما
لم تتقدم به قراءة (1).
وقوله تعالى : (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ
وَمُوسَى (70)
(سُجَّدًا) منصوب على الحال ، وهي أيضاً حال مقدرة ، لأنهم خروا
وليسوا ساجدين ، إنما خروا مقدرين السجود.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { تَلْقَفْ } : قرأ العَامَّةُ بفتح اللام وتشديد القافِ وجزمِ الفاءِ على
جواب الأمر . وقد تقدم أنَّ حَفْصاً يقرأ « تَلْقَفْ » بسكون اللامِ وتخفيفِ القاف
. وقرأ ابن ذكوان هنا « تَلْقَفُ » بالرفع : إمَّا على الحالِ ، وإمَّا على
الاستئناف . وأَنَّثَ الفعلَ في « تَلْقَف » حَمْلاً على معنى « ما » لأنَّ معناها
العصا ، ولو ذُكِّر ذهاباً إلى لفظِها لجاز ، ولم يُقرأ به.
[ وقال أبو البقاء : « يجوز أَنْ يكونَ فاعلُ » تَلْقَف « ضميرَ موسى » فعلى هذا
يجوز أَنْ يكونَ « تلقفُ » في قراءة الرفع حالاً من « موسى » . وفيه بُعْدٌ ].
قوله : { كَيْدُ سَاحِرٍ } العامَّةُ على رَفْع « كَيْدُ » على أنه خبرُ « إنَّ »
و « ما » موصولةٌ . و « صَنَعُوا » صلَتُها ، والعائدُ محذوفٌ ، والموصولُ هو
الاسمُ ، والتقدير : إنَّ الذي صنعوه كيدُ ساحرٍ . ويجوز أَنْ تكونَ « ما »
مصدريةً فلا حاجةَ إلى العائد ، والإِعرابُ بحالِه . والتقدير : إنَّ صُنْعَهم كيدُ
ساحرٍ.
وقرأ مجاهد وحميد وزيد بن على « كَيْدَ » بالنصب على أنه مفعولٌ به ، و « ما »
مزيدة مُهَيِّئَةٌ.
وقرأ الأخَوان « كيدُ سِحْر » على أنَّ المعنى : كيدُ ذوي سِحْرٍ ، أو جُعِلوا
نفسَ السحر مبالغةً ، أو تبيينٌ للكيد؛ لأنه يكون سِحْراً وغيرَ سحرٍ ، كما تُمَيَّزُ
سائرُ الأعدادِ بما يُفَسِّرها نحو « مئة درهمٍ ، وألف دينار » . ومثلُه : علمُ
فقه ، وعلمُ نحو . وقال أبو البقاء : « كيدُ ساحر » إضافةُ المصدر إلى الفاعلِ و «
كيدُ سِحْر » إضافةُ الجنسِ إلى النوع «.
والباقون » ساحر « . وأفرد/ ساحراً ، وإنْ كان المرادُ به جماعةً . قال الزمخشري :
» لأن القَصْدَ في هذا الكلامِ إلى معنى الجنسية ، لا إلى معنى العددِ ، فلو جمِع
لخُيِّل أنَّ المقصودَ هو العددُ « . اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(3/367)
وقوله
: (قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي
عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ
وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ
عَذَابًا وَأَبْقَى (71)
(وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ)
معناه على جذوع النَخِل ، ولكنه جاز أن تقع " في " هَهُنَا لأنه في
الجذع
على جهة الطول ، والجذع مُشْتَمِل عليه فقد صار فيه.
قال الشاعر :
وهم صَلَبُوا العَبْدِيَّ في جِذْعِ نَخْلَةٍ . . . فلا عَطَسَتْ شَيْبانُ إِلا
بأَجْدَعا
قوله : (وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى).
" أيُّ " رفعت لأنها وضعت موضع الاستفهام ، ولا يعمل ما قبل " أيُّ
" فيهَا
لأن ما قبلها خبر وهي استفهام ، فلو عمل فيها لجاز أن يعمل فيما بعد الألف
في قولك : قد عَلِمْتُ أزَيد في الدار أم عمرو.
* * *
وقوله : (قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ
وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ
الدُّنْيَا (72)
موضع الذي خفض ، المعنى لن نؤثرك على اللَّه ، ويجوز أن يكون
" الّذي " خَفْضاً على القسم ، ويكون المعنى لن نؤثرك على ما جاءنا من
البَيِّناتِ وَاللَّهِ ، أي نحلف باللَّه.
قوله : (فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ).
أي : اصنع ما أنت صانع ، قال أبو ذؤيب :
(3/368)
وعليهما
مسرودتان قضاهما . . . داودُ أو صَنَع السَّوابغَ تبَّع
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (إِنَّمَا تَقْضِي هَذه الحَياةَ الدُّنْيَا).
القراءةُ بالنصب - الحيَاةَ الدُّنيا - ويجوز إنما تقضي هذه الحياة الدنيا
بالرفع ، تأويله أن الذي تقضيه متاع الحياة الدنيا ، ولا أعلم أحداً قرأها
بالرفع.
وقوله : (إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا
أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73)
(وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ)
موضع " ما " نصب ، المعنى لتغفر لنا خطايانا وإكراهك إيانا على السحر.
ويروى أن فرعون أكرههم على تعلم السحر.
ومعنى : (وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأبْقَى).
أي الله خير لنا منك وأبقى عذاباً لأنهم قالوا هذا لَهُ جَوابَ قوله :
(وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي
فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا
تَخْشَى (77)
(فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا).
ويجوز يابِساً وَيَبْساً ، بتسكين الباء ، فمن قال يابساً جعله نعتاً للطريق.
ومن قال يبَساً فإنه نعته بالمصدر المعنى طريقاً ذا يَبَسٍ ، يقال يبس الشيء
وَييْبِسُ يَبَساً ، ويُبْساً وَيبْساً ، ثلاث لغات في المصدر.
وقوله : (لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى).
ويجوز : لا تَخَفْ دَرَكاً وَلَا تَخْشى ، فمن قرأ (لا تخاف) فالمعنى لست
(3/369)
تخاف
دَرَكاً ، ومن قال لا تخفْ دَرَكاً فهو نهي عن أن يخاف ، ومعناه لا تخف
أن يدركك فرعونُ ولا تخشىْ الغرقَ.
* * *
(فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا
غَشِيَهُمْ (78)
ويقرأ فاتبَعَهُمْ فرعَونُ بجنوده ، فمن قرأ (فَأَتْبَعَهُمْ) ففيه دليل أنه
أتبَعَهُم
ومعه الجنود ، ومن قرأ (فاتَّبَعَهُمْ) فرعون بجنوده فمعناه ألْحَقَ جُنُودَهُ
بِهِم . وجائز أن يكون معهم على ذا اللفظ وجائز ألا يكون إلَّا أنه قد كان معهم.
(فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ).
اليم : البحر ، والمعنى فغشيهم من اليم ما غَرقَهُمْ.
* * *
وقوله : (كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ
فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (81)
ويقرأ (فيحُلَّ عليكم غضبي ، وَمَن يَحْلُلْ عليه غضبي.
فمن قرأ (فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ) فمعناه فيجب عليكم ، ومن قرأ (فيحُلَّ عليكم)
فمعناه فينزل عليكم.
والقراءة : ومن يَحْلِلْ بكسر اللام أكثر.
(فَقَد هَوَى)
أي هَلكَ وصار إلى الهاوِيةِ ، وهي قَعْرُ نار جَهنَّمَ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا
ثُمَّ اهْتَدَى
(82)
أي تاب من ذنبه ، وآمن بربِّه وعمل بطاعتِه ، ثم اهْتَدى ، أي ثم أقام
على إيمانه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ
لِتَرْضَى
(84)
(أُولَاءِ) مبني على الكسر ، (عَلَى أَثَرِي) من صلة (أُولَاءِ) ، ويجوز أن يكون
(3/370)
خَبراً
بَعْدَ خَبرٍ ، كأنَّه قال : هم على أثري هؤلاء ، والأجود أن يكون صلة.
ورويت أولَايَ على أثري ولا وجه لها ، لأن الياء لا تكون بعد الألف آخرةَ إلا
للإضافة نحو هداي ، ولا أعلم أحداً من القراء المشهورين قرأ بها وذكرها
الفراء ، ولا وجه لها.
* * *
قوله : (قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ
السَّامِرِيُّ (85)
أي ألقينَاهُمْ في فتنة ومِحْنَةٍ ، واختَبرْنَاهُمْ.
(وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ).
قال بعض أهل التفسير : السَّامِرِيُّ عِلْجٌ مِن أهْلِ كِرْمَانَ ، والأكثر في
التفسير أنَّه كان عظيماً من عظماء بني إسرائيل من قبيلة تعرف بالسَّامِرَةِ . وهم
إلى هذه الغاية في الشام يعرفون بالسامريين.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا
قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ
الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ
فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86)
(غَضْبَانَ أَسِفًا).
أسِف : شَدِيد الحُزْنِ مع غَضَبِه.
وقوله : (أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ).
القراءة فيها بالكسر في حاء يَحِل ، على معنَى أنه يجب عليكم ، فالضم
يجوز فيها على معنى أن ينزل عليكم غضب من ربكم.
* * *
(قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا
أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى
السَّامِرِيُّ (87)
يجوز الضم والكسر والفتح في الميم . بمُلْكِنَا ، وبِمَلْكِنَا ، وبِمِلْكِنَا.
فأصل الملك السلطان والقدرة ، والمِلْك ما حَوَتْهُ اليَدُ ، والمَلْك المصدَرُ.
تقول : ملكت الشيء أملِكه مَلْكاً.
وقيل في بعض التفسير : ما أخلَفْنَا مَوْعِدَك بأنْ مَلَكْنَا الصوابَ.
وجائز أن يكون ما أخلفنا موعدك بسلطانٍ كان لنا ولا
قدرة ، ثم أخبَروا سبب تأخرهم عنه فقالوا :
(وَلَكِنَّا [حَمَلْنَا] أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ).
(3/371)
ويقرأ
(حُمِّلْنَا أَوْزَارًا) ، بتشديد الميم وكسرها ، يعنون بالأوزار حُلِيًا كانوا
أخذوها من آل فرعون حينَ قذفهم البحرُ فألْقَاهُمْ عَلَى سَاحِلهِ ، فأخذوا الذهب
والفضة ، وسميت أوزاراً لأن معناهأ الأثام ، وجائز أن يكون سُمِّيَتْ أوزَاراً
يعنون بها أثْقَالًا ، لأن الوِزْرَ في اللغة الحِمْلُ ، وسُمِّيَ الإثمُ وِزْراً
لأن صاحبه قد حُمِّلَ بها ثقلاً ، قال اللَّه تعالى : (وَوَضَعْنَا عَنْكَ
وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3).
فقالوا : حملنا حُلِيًّا فقذفناها في النار ، وكذلك فعل السامِريُّ ، أي ألقى
حلْيًّا
كان معه (1).
(فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ
وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ
(88)
واختلف في تفسير خوارِه ، فقيل إنه كان يَخُورُ كما يَخورُ الثورُ من
الحيوان ، فإذا خار سجدوا له ، وإذا عاد الخوارُ رَفَعُوا من السجود ، وقال
بعضهم : إنما خَارَ خَوْرَةً واحدةً ، وَدَلِيله : (أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا
يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا).
وقال مجاهد : خُوارُه حَفِيفُ الريح إذَا دَخَلَتْ جَوْفَهُ.
وُيرْوى أن هارون عليه السلام مَر بالسَّامِرِيِّ وهو يصنع العجل
فقال له : ما تصنع ؟
قال أصنع ما لا ينفع ولا يَضُر ، وقال : أدْعُ ، فقال هارون اللَّهُمَّ أعْطِه ما
يَسألُ كما يُحِبُّ.
فسأل اللَّه عزَّ وجلَّ أن يجعل للعِجْل خُواراً ، والذي قاله مجاهِد من أن
خُوارَهُ
حفيفُ الريح فيه ، أسرع إلى القبول لأنه شيء ممكن.
والتفسير الآخر وهو أنه خوار ممكن في محنة اللَّه عزَّ وجلَّ - أن امْتَحَنَ
القَوْمَ بذلك ، وليس في خُوارِ صُفْرٍ ما يوجب عبادته لأنهم قد رأوه معمولاً
مصنوعاً ، فعبادتهم إياه لو خارَ وتكلَّم كما يتكلَّم الآدمي لم تجب به عبادته.
فقالوا : (هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ).
قيل إن السَّامِرِيَّ نسيَ ما كان عليه من الإيمان ، لأنه نافق لما عبر
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { بِمَلْكِنَا } : قرأ الأخَوان بضم الميم . ونافع وعاصم بفتحها ، والباقون
بكسرها : فقيل : لغاتٌ بمعنى واحدٍ كالنَّقْض والنِّقْضِ . ومعناها : القُدْرَةُ
والتسلُّطُ . وفرَّق الفارسيُّ وغيرُه بينها فقال : « المضمومُ معناه : لم يكنْ [
لنا ] مُلْكٌ فَنُخْلِفَ موعدَك بسُلْطَانِه ، وإنما فَعَلْناه بنظرٍ واجتهادٍ ،
فالمعنى على : أَنْ ليس لهم مُلْكٌ.
كقول ذي الرمة :
3313 لا تُشْتكى سَقْطَةٌ منها وقد رَقَصَتْ . . . بها المفاوِزُ حتى ظهرُها
حَدِبُ
أي : لا يقع منها سَقْطَةٌ فتشتكى » . وفتحُ الميمِ مصدرٌ مِنْ مَلَكَ أمرَه .
والمعنى : ما فعلناه بأنَّا مَلَكْنا الصوابَ ، بل غَلَبَتْنا أنفسُنا . وكسرُ
الميمِ كَثُر فيما تَحُوْزه اليدُ وتحويه ، ولكنه يُسْتعمل في الأمورِ التي
يُبْرِمُها الإِنسانُ ومعناها كمعنى التي قبلها . والمصدرُ في هذين الوجهين مضافٌ
لفاعلِه ، والمفعولُ محذوفٌ أي : بملكِنا الصوابَ.
قوله : { حُمِّلْنَآ } قرأ نافعٌ وابنُ كثير وابنُ عامر وحفصٌ بضم الحاء وكسر الميم
مشددة . وأبو جعفرٍ كذلك إلاَّ أنه خَفَّف الميم ، والباقون بفتحِهما خفيفةَ
الميمِ . فالقراءةُ الأولى والثانية نَسَبوا فيهما الفعلَ إلى غيرِهم ، وفي
الثالثةِ نَسَبُوه إلى أنفسهم.
و { أَوْزَاراً } مفعولٌ ثانٍ على غيرِ القراءة الثالثة . و { مِّن زِينَةِ } يجوز
أَنْ يكونَ متعلقاً ب « حُمِّلْنا » ، وأن يكونَ متعلِّقاً بمحذوفٍ على أنه صفةٌ ل
« أَوْزار ».
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(3/372)
البحر
، المعنى فترك ما كان عليه من الإيمان ، وقيل إن السَّامِريَّ قال لهم إن
موسى عليه السلام أراد هذا العجل فنسِيَ وترك الطريق الذي يصل إليه.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ : (أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا
يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (89)
كما قال : (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ
سَبِيلًا).
ويجوز أنْ لا يَرْجعَ بنصب بأن ، والاختيارُ مع رأيت وعلمتَ وَظَنَنْتُ أن لا
يفعلُ ، في معنَى قد علمت أنه لايفعَلُ.
* * *
وقوله - جلَّ وعزَّ -: (قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا
بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ
وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94)
(يا ابنَ أمَّ) بفتح الميم ، وإن شئت (يا ابن أمِّ) - بكسر الميم - وفتحت أم
والموضع موضع جر لأن (ابن) و (أم) جُعلا اسماً واحداً فبنى ابن وأم على
الفتح ، ومن قال (يا ابن أمِّ) أضافه إلى نفسه.
وفيها وجه ثالث " يا ابْنَ أُمِّي لَا تَأخُذْ "
ولكنه لا يقرأ بها . ليست ثابتة الياء في المصحف.
ومثل هذا من الشعر :
يا ابنَ أُمّي ويا شُقَيِّقَ نَفْسِي . . . أَنتَ خَلَّيْتَني لأمْرٍ شَدِيد
ولم يجئ هذا إلا في ابن أم ، وابن عم ، وذلك أنه يقال لمن ليس بأخ
لأمٍّ . ولا بأخ ألبتَّةَ : يا ابن أم ، وكذلك يقال للأجنبي : يا ابن عم ، فلما
أزيل عن بابه بني على الفتح ، وإن كان قد يقول القائل لأخيه من أمه أيضاً يا ابن
أمَّ ، فإنما أدخل أخاه في جملة من يقول له يا ابن أمَّ.
وقد قيل في هارون إنَّه لم يَكُنْ أخَا موسى لأمِّه - واللَّه أعلم - .
(3/373)
قوله
: (قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95)
معنى ما خطبك ما أمرك الذي تخاطب به.
* * *
(قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ
الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96)
يقال : قَدْ بَصُر الرجلَ يَبْصُرُ إذا كان عليما بالشيء ، وأبْصَرَ يُبْصِرُ إذا
نظر.
والتأويل علمتُ بما لم يعلموا به ، وكان رأى فرس جبريل عليه السلام فقبض
فبضة من تراب حافر الفرَسِ ، يقال : قبضت قبضةً ، وقَبَصْتُ قَبْصَةً - بالصاد غير
معجمةٍ - فالقبضة بجملة الكف ، والقبصة بأطراف الأصَابع . ويقرأ بالصاد والضاد ، وفيه
وجه آخر لم يقرأ به فيما علمت ، يجوز فقبصتُ قَبْصَةً وقُبْصَةً ، ولكن لا يجوز
القراءة بها - إن كان لم يقرأ بها - فالقبضة قبض الشيء مرةً واحدةً ، والقُبْصَةُ
مقْدَارُ مَا يقبصُ ، ونظير هذا قوله عزَّ وجلَّ : (إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ
غُرْفَةً بِيَدِهِ) ، و (غَرْفَةً بِيَدِه) (1).
(فَنَبَذْتُهَا).
ألْقَيْتُها في العِجْل لتَخُورَ.
(وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي).
أي زيَّنَتْ لي نَفْسِي ، ومثله : (الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى
لَهُمْ).
* * *
(قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ
لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ
عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97)
وأنَّ لك ، ويجوز لا مَسَاس ، ِ وأنَّ لك - بفتح الميم وكَسْرِ السين الآخرةِ
على وزن دَرَاكِ وتَراكِ ، والتأويل أن موسى عليه السلام حرَّم مُخَالَطةِ
السامِرِيِّ ، فالمعنى إنك في الدنيا لا تخالط جزاءً لفعلك.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { بَصُرْتُ } : يقال : بَصُرَ بالشيءِ أي عَلِمه ، وأبصرَه . أي : نظر إليه
. كذا قاله الزجاج . وقال غيره : « بَصْرَ به وأبصره بمعنى علم ».
والعامَّةُ على ضم الصاد في الماضي ومضارعِه . وقرأ الأعمش وأبو السَّمَّال «
بَصِرْتُ » بالكسر ، يَبْصَروا بالفتح وهي لغة . وعمرُو بن عبيد بالبناء للمفعول
في الفعلين أي : أُعْلِمْتُ بما لم يُعْلَموا به.
وقرأ الأخَوان « تَبْصُروا » خطاباً لموسى وقومه أو تعظيماً له كقوله : { إِذَا
طَلَّقْتُمُ النسآء } [ الطلاق : 1 ] و [ قوله ] :
3314 . . . . . . . حَرَّمْتُ النساءَ سواكُمُ . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . .
والباقون بالغَيْبة عن قومه.
والعامَّةُ على فتحِ القافِ من « قَبْضَة » وهي المرَّةُ من قَبَضَ . قال الزمخشري
: « وأمَّا القَبْضَةُ فالمَرَّةُ من القَبْض ، وإطلاقُها على المقبوضِ مِنْ تسمية
المفعولِ بالمصدر » قلت : والنحاة يقولون : إن المصدرَ الواقعَ كذلك لا يُؤَنَّثُ
بالتاء تقول : هذه حُلَّةٌ نَسْجُ اليمن « ولا تقول : نَسْجَةُ اليمن . ويعترضون
بهذه الآية ، ثم يُجيبون بأنَّ الممنوعَ إما هو التاءُ الدالةُ على التحديدِ لا
على مجرد التأنيث . وهذه التاءُ دالَّةٌ على مجردِ التأنيث ، وكذلك قوله : {
والأرض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ } [ الزمر : 67 ].
وقرأ الحسن » قُبْضَة « بضم القاف وهي كالغُرْفَة والمُضْغة في معنى المَغْروف
والمقبوض . ورُوي عنه » قُبْصَة « بالصاد المهملة . والقَبْضُ بالمعجمة بجميع
الكفِّ ، وبالمهملة بأطرافِ الأصابع . وله نظائر كالخَضْمِ وهو الأكلُ بجميع الفمِ
، والقَضْمِ بمقدَّمِه . والقَصْمُ : قطعٌ بانفصالٍ ، والفَصْمُ بالفاء باتصالٍ .
وقد تقدم شيءٌ من ذلك في البقرة. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(3/374)
فمن
قرأ لا مَساسَ - بفتح السين الأخيرة فهو منصوب على البدء به ، ومن قال : لا
مَسَاسِ فهو مبني على الكَسْرِ ، وهو نفي وقولك مَسَاسِ ، أي مساس القوم تأمر بذلك
، فإذا قلت لا مَسَاسِ فهو نفي ذلك ، وبنيت مسَاسِ على الكسر وأصلها الفتح لمكان
الألف ، ولكن مساس ودَرَاكِ مؤنث ، فاختير الكسر لالتقاء السَّاكنين لأنك تقول في
المؤنث فعَلْتِ يا امرأةُ ، وأعطيتك يا امرأة.
(وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ).
و (لن تُخْلِفُهُ) ، فمن قرأ (لن تُخْلِفُهُ) فالمعنى يكافئك الله على ما فعلت
في القيامة واللَّه لا يخلف الميعادَ ، ومن قرأ (لَنْ تُخْلَفَهُ)
فالمعنى إنك تبعث وتوافي يوم القيامَةِ ، لا تقدر على غير ذلك ، ولن تُخْلِفَه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا).
وظِلْتَ بفتح الظاء وكسرها ، فمن فتح فالأصل فيها ظَلِلْت ، ولكن اللامَ
ْحُذِفَتْ لثقل التضعيف والكسر ، وبقيت الظاء على فتحها.
ومن قرأ ظِلْتَ - بالكسْرِ - حَوَّلَ كَسْرةَ اللام على الظاء ، وقد يجوز في غير
المكسور نحو أحَسْتُ تُرِيدُ أحْسَسْتُ ، وقد حُكِيَتْ هَمْتُ بذلِكَ ، تريد
هَمَمْتُ ومعنى عاكف مُقيم ، وعاكف منصوب خبر ظلت ، ليس بِمنْصُوبٍ عَلى الحال.
وقوله : (لَنُحَرِّقَنَّهُ).
ويقرأ (لَنُحْرِقَنَّهُ). أي لَنَحْرِقَنه بالنارِ ، فإذا شَدَّدَ فالمعنى
نُحَرقُه مرة بعد مرةٍ.
وقرئت لَنحرُقَنَّهُ ، وتأويله لَنَبْرُدَنَّه بالمِبْرَدِ ، يقال حَرَقْتُ أحْرُق
وأحْرِقُ إذا بردت الشيء.
ولم يقرأ لنحرِقَنَّهُ ، ولو قرئتْ كانَتْ جائزة (1).
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { لاَ مِسَاسَ } : قرأ العامَّةُ بكسرِ الميمِ وفتحِ السين . وهو مصدرٌ ل
فاعَل كالقِتال مِنْ قاتَل ، فهو يقتضي المشاركةَ . وفي التفسير : لا تَمَسُّني
ولا أَمَسُّك ، وإنَّ مَنْ مَسَّه أصابَتْه الحمى.
وقرأ الحسن وأبو حيوة وابن أبي عبلة وقعنب بفتح الميم وكسر السين . قلت : هكذا
عَبَّر الشيخُ وتَبعَ فيه أبا البقاء . ومتى أَخَذْنا بظاهِر هذه العبارة لَزِم أن
يُقرأ « مَسِيس » بقلب الألفِ ياءً لانكسارِ ما قبلها ولكن لم يُرْوَ ذلك ، فينبغي
أَنْ يكونوا أرادوا بالكسرِ الإِمالةَ . ويَدُلُّ على ما قُلْتُه ما قاله
الزمخشريُّ : « وقُرِىء لا مَساسِ بوزن فَجار . ونحوُه قولهم في الظباء : » إن
وَرَدَتِ الماءَ فلا عَباب وإن فَقَدَتْه فلا أَباب « وهي أعلامٌ للمَسَّة
والعَبَّة والأَبَّة وهي المرَّة من الأَبِّ وهو الطلَبُ » . فهذا تصريحٌ منه
ببقاء الألفِ على حالِها.
ويدلُّ أيضاً قولُ صاحبِ « اللوامح » : « هو على صورة نَزَالِ ونَظارِ من أسماء
الأفعال بمعنى انْزِلْ وانْظُرْ » فهذا أيضاً تصريحٌ بإقرار الألِف على حالها . ثم
قال صاحب « اللوامح » : « فهذه الأسماء التي بهذه الصيغةِ معارفُ ، ولا تدخُلُ
عليها » لا « النافيةُ التي تَنْصِبُ النكراتِ ، نحو » لا مالَ لك « لكنه فيه
نَفْيُ الفعلِ فتقديرُه : لا يكون منك مساسٌ ، ومعناه النهيُ أي : لا تَمَسَّني ».
وقال ابنُ عطية : « لا مَساسِ هو معدولٌ عن المصدرِ كفَجارِ ونحوِه . وشبَّهه أبو
عبيدة وغيرُه بَنزالِ ودَراكِ ونحوه ، والشَّبَهُ صحيحٌ من حيث هُنَّ معدولاتٌ .
وفارقه في أنَّ هذه عُدِلَتْ عن الأمر ، ومَساس وفَجار عُدلت عن المصدر . ومِن هذا
قولُ الشاعر :
3315 تميمٌ كرَهْطِ السَّامِرِيِّ وقَوْلِه . . . ألا لا يريدُ السَّامِرِيُّ
مَساسِ
فكلامُ الزمخشريِّ وابنِ عطيةَ يعطي أنَّ » مَساس « على هذه القراءةِ معدولٌ عن
المصدرِ كفجَار عن الفَجَرة ، وكلامُ صاحبِ اللوامحِ يقتضي أنها معدولةٌ عن فعل
أمرٍ ، إلا أَنْ يكونَ مرادُه أنها مَعْدُوْلَةٌ ، كما أنَّ اسمَ الفعلِ معدولٌ ،
كما تَقَدَّم توجيهُ ابنِ عطية لكلام أبي عبيدة.
قوله : { لَّن تُخْلَفَهُ } قرأ ابنُ كثيرٍ وأبو عمرٍو بكسرِ اللامِ على البناء
للفاعل . والباقون بفتحِها على البناءِ للمفعولِ . وقرأ أبو نهيك فيما حكاه عنه
ابن خالويه بفتح التاء من فوقُ ، وضمِّ اللام ، وحكى عنه صاحب » اللوامح « كذلك ،
إلاَّ أن بالياء مِنْ تحتُ . وابنُ مسعودٍ والحسن بضمِّ نونِ العظمة وكسرِ اللام.
فأمَّا القراءةُ الأولى فمعناها : لن تجدَه مُخلَّفاً كقولك : أَحْمَدْتُه
وأَجْبَنْتُه/ أي : وَجَدْتُه مَحْمُوداً وجَباناً . وقيل : المعنى : سيصلُ إليك ،
ولن تستطيعَ الرَّوَغانَ ولا الحَيْدَة عنه . قال الزمخشري : » وهذا مِنْ
أَخْلَفْتُ الوعدَ إذا وجدتَه مُخْلَفاً . قال الأعشى :
3316 أثوى وقَصَّر لَيْلَةً لِيُزَوَّدا . . . فمضى وأَخْلَفَ مِنْ قُتَيْلَةَ
مَوْعِدا
ومعنى الثانيةِ : لن يُخْلِفَ اللهُ موعدَه الذي وَعَدك . وأمَّا قراءتا أبي نهيك
فهما مِنْ خَلَفَه يَخْلُفُه إذا جاء بعدَه أي : الموعدَ الذي لك لا يَدْفع قولَك
الذي تقولُه . وهي قراءةٌ مُشْكِلَةٌ . قال أبو حاتم : « لا نعرف لقراءةِ أبي نهيك
مذهباً » وأمَّا قراءةُ ابنِ مسعود فأسند الفعلَ فيها إلى الله تعالى . والمفعولُ
الأولُ محذوفٌ أي : لن يُخْلِفَكه.
قوله : { ظَلْتَ } العامَّةُ على فتح الظاء ، وبعدها لامٌ ساكنة . وابنُ مسعودٍ
وقتادةُ والأعمشُ بخلافٍ عنه وأبو حيوة وابن أبي عبلة ويحيى بن يعمر [ على ] كسرِ
الظاء . ورُوي عن ابن يعمر ضمُّها أيضاً . وأُبَيٌّ والأعمش في الرواية الأخرى «
ظَلِلْتَ » بلامَيْنِ أولاهما مكسورةٌ «.
فأمَّا قراءةُ العامَّة ففيها : حَذْفُ أحدِ المِثْلين ، وإبقاءُ الظاءِ على
حالِها مِنْ حركتها ، وإنما حُذف تخفيفاً . وعدَّه سيبويه في الشاذ . يعني شذوذَ
قياسٍ لا شذوذَ استعمالٍ ، وعَدَّ معه ألفاظاً أُخَرَ نحو : مَسْتُ وأَحَسْتُ
كقولِه :
3317 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . أَحَسْنَ به فهنَّ
إليه شُوْسُ
وعَدَّ ابنُ الأنباري » هَمْتُ « في » هَمَمْتُ « ولا يكونُ هذا الحذفُ إلاَّ إذا
سُكِّنَتْ لامُ الفعلِ . وذكر بعضُ المتأخرين أن هذا الحذفَ منقاسٌ في كلِّ مضاعفِ
العينِ واللامِ سَكَنَتْ لامُه ، وذلك في لغة سُلَيْم.
والذي أقولُه : إنه متى التقى التضعيفُ المذكورُ والكسرُ نحو : ظَلِلْتُ ومَسِسْتُ
انقاس الحذفِ . وهل يَجْري الضمُّ مجرى الكسرِ في ذلك؟ فالظاهرُ أنه يجري . بل
بطريق الأَوْلى؛ لأن الضمَّ أثقلُ من الكسر نحو : غُضْنَ يا نسوةُ أي : أغْضُضْنَ
أبصارَكُنَّ ، ذكره جمال الدين ابن مالك . وأمَّا الفتحُ فالحذفُ فيه ضعيفٌ نحو :
» قَرْن يا نسوةُ في المنزل « ومنه في أحدِ توجيهَيْ قراءةِ { وَقَرْنَ فِي
بُيُوتِكُنَّ } [ الأحزاب : 33 ] كا سيأتي إنْ شاء الله تعالى.
وأمَّا الكسرُ فوجهُه أنه نَقَل كسرةَ اللامِ إلى الفاءِ بعد سَلْبِها حركتَها
لتدُلَّ عليها . وأمَّا الضمُّ فيحتمل أن يكونَ جاء فيه لغةٌ على فَعَل يفعُل
بفتحِ العينِ في الماضي وضمِّها في المضارع ، ثم نُقِلَتْ ، كما تقدّم ذلك في
الكسر . وأمَّا ظَلِلْت بلامين فهذه هي الأصلُ ، وهي مَنْبَهَةٌ على غيرِها . و »
عاكفاً « خبرُ » ظلَّ «.
قوله : { لَّنُحَرِّقَنَّهُ } جوابُ قسمٍ محذوفٍ أي : واللهِ لَنُحَرِّقَنَّهُ .
والعامَّة على ضمِّ النونِ وكسرِ الراءِ مشددةً مِنْ حَرَّقه يُحرِّقُه بالشديد .
وفيها تأويلان . أظهرُهما : أنها مِنْ حَرَّقه بالنار . والثاني : أنه مِنْ حَرَق
نابُ البعير ، إذا وقع عَضُّ ببعضِ أنيابِه على بعضٍ . والصوتُ المسموعُ منه يُقال
له الصَّريفُ . والمعنى : لنَبْرُدَنَّه بالمِبْرد بَرْداً نمحقُه به كما يفعل
البعيرُ بأنيابِه بعضها على بعض.
وقرأ الحسن وقتادة وأبو جعفر » لَنُحْرِقَنَّه « بضم النون وسكونِ الحاءِ وكسرِ
الراء ، مِنْ أحرق رباعياً . وقرأ ابن عباس وحميد وعيسى وأبو جعفر »
لَنَحْرُقَنَّه « كذلك إلاَّ أنه ضمَّ الراء . فيجوز أن يكونَ أَحْرق وحرَّق بمعنى
كأَنْزَل ونَزَّل . وأمَّا القراءةُ الأخيرة فبمعنى لنَبْرُدَنَّه بالمبرد. اهـ
(الدُّرُّ المصُون).
(3/375)
وقوله
عزَّ وجلَّ َ : (ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا).
اليم : البَحْر ، والنسف التذرِيَةُ.
* * *
وقوله : (خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا (101)
المعنى ساء الوِزْرُ لهم يوم القيامَةِ ، و (حِمْلًا) منصوب على التمييز.
* * *
(يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102)
قد جرى تفسيره فيما مَضى.
وأكثر ما يذهب إليه أهل اللغة أن الصور جمع صورة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا).
قيل عطاشا وقيل عُمْياً ، يخرجون من قبورهم بُصرَاءَ كما خلقوا أول مَرةٍ
ويعمَوْنَ في المَحْشرِ ، وإنما قيل زُرْقاً لأن السَواد يزرق إذا ذهبت
نواظرُهُمْ.
ومن قال عطاشا فجيِّدٌ أيْضاً ، لأنهم من شدةِ العَطشِ يتغير سواد أعْيُنهم حتى
يزرق.
* * *
وقوله - عزَّ وجلَّ - : (يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا
عَشْرًا (103)
أصل الخفوت في اللغة السكون ، والتخَافت ههنا السِّرارُ ، فالمعنى أنهم
يَتَسَارُّونَ بَيْنَهُمْ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ
طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (104)
(أمْثَلُهُمْ طَرِيقةً).
أي أعلمهمْ عند نفسه بما يقول
(إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا) ، معناه ما لبثتم إلا يوماً
* * *
وقوله : (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105)
النسف التذْرِيةُ
تصير الجبال كالهباء المنثور ، تذرَّى تَذْرِيَةً .
(3/376)
(فَيَذَرُهَا
قَاعًا صَفْصَفًا (106)
القاع من الأرض المكان الذي يعلوه الماء ، ويُقَالُ المكانُ الطيِب
والصَّفْصَفُ ، المستوي من الأرض.
* * *
(لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107)
العِوَج في العَصَا والجَبَلِ ألا يكون مستوياً ، والأمْتُ أن يغلظ مكان
ويدقَّ مَكانٌ.
* * *
قوله : (يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ
الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108)
المعنى لا عِوَجَ لَهم عن دعَائِه ، لا يقدرون أنْ لاَ يتَبِعُوا
وقوله - عزَّ وجلَّ - : . (فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا).
الهَمْسُ في اللغة الشيءُ الخَفِيُّ ، والهَمْسُ - ههنا - في التفسير صوت
وطء الأقدام.
* * *
وقوله : (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ
ظُلْمًا (111)
مَعنى عَنَتْ في اللغة خَضَعَتْ ، يقال عنا يعنو إذا خضع ، ومنه قيلَ
أُخِذَتِ البِلاَدُ عنْوة ، إذَا أخِذَتْ غَلَبة ، وأُخِذَتْ بخضوع من أهلها.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا
يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110).
ما بين أيديهم من أمر القيامة ، وجميع ما يكون ، وما خلفهم ما قد وقع
من أعمالِهِمْ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا
يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112)
الهضْمُ : النَّقْصُ ، يقال فلان يهضمني حَقي أي ينْقُصُنِي ، كذلك هذا
شيء يهْضِمُ الطعام ، أي ينقص ثِقْلَتَه .
(3/377)
وقوله
عزَّ وجلَّ : (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ
لَهُ عَزْمًا (115)
(فنَسِيَ) ههنا معناه فترك ، لأن النَّاسِيَ لا يُؤاخَذ بِنِسْيَانِهِ ، وجاء في
الحديث " لو وزِنَ حلم بني آدم مذْ كان آدم إلى أنْ تقُومَ السَّاعة ما وَفَى
حِلْم جميع من وَلَدَهُ وَحَزْمهمْ بحلم آدَمَ وَحَزْمِه - صلى الله عليه وسلم -.
* * *
وقال عزَّ وجلَّ : (وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا).
* * *
وقوله - سبحانه - : (وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119)
يجوز (وَإِنَّكَ) بالكسر ، (وَأَنَّكَ) بالفتح ، فإذَا كسرت فعلى الاستئْنَافِ
وعطف جملة كلام على جملة ، وإذا فتحت فعلى معنى إن لك " أنْ لا " تظمأ
فيها ، فَتَنْسقُ بأنَكَ عَلَى (أَلَّا تَجُوعَ).
ويكون أنك عَلَى هَذا القَوْل في موضع نصب.
ويجوز أن يكون في موضع رفع ، والعطف على اسْمِ إِن وأنَّ ، لأن
معنى إن زيداً قائم زيد قائم فالمعنى ذلك إنك لا تظمأ فيها.
ومعنى (لَا تَظْمَأُ) لَا تَعْطَشُ ، يقال ظمئ الرجل يظمأ ظمأً فهو ظمآن بمعنى
عطشان.
ومعنى (لا تَضْحَى) ولا تصيبكَ الشمسُ ، ولا تبرُز يقال ضحى الرجل يَضْحَى
إذا بَرزَ إلى الشمس.
قال الشَاعِر :
رَأَتْ رَجُلاً أَمَّا إِذا الشمس عارضَتْ . . . فيَضْحى وأَمَّا بالعَشيِّ
فَيَخْصَرُ
ومعنى - يخصر يُصِيبُه الخَصَرُ وهو شدة البرْد ، وبلوغه الأطراف.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا
وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124)
الضَّنْكُ : أصْله في اللغةِ الضيق والشدةَ ، ومعناه - واللَّه أعلم - أن هذه
المعيشة الضنك فِي نَارِجَهَنَّم.
وأكثر ما جاء في التفسير أنَّه عذابُ القبر .
(3/378)
وقوله
: (وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى).
مثل ونحشر المجرمين يومئذ زرقاً ، وقيل أعْمَى عن حجتِه ، وتأويله أنه
لا حجة له يهتدي إليها ، لا أن له حجةً ، وأنه يعمى عنها.
ما للناس على اللَّه حجة بعد الرسلِ ، وللًه الحجة البَالِغةُ وقد بَشَّرَ
وأنْذَرَ ، وَوَعَدَ وأوْعَدَ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا).
أي لعل الوعيد يُحْدِث لهم تَذَكُرَ العَذَابِ ، فيزجرهم عن المعاصي
وقيل : (أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا) أي : شَرَفاً.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى
إِلَيْكَ وَحْيُهُ).
أي من قبل أن يبَيَّنَ لَكَ بَيَانُه ، ويقرأ من قبل أنْ نَقْضِي إليك وحْيَهُ
بالنون ، ويجوز مِنْ قَبْل أنْ يَقْضِيَ إليك وَحْيَهُ ، أي من قبل أن يقضيَ
اللَّه إليكَ وَحْيَهُ ، ولم تُقْرأ " تَقْضِي " وقرئت يُقْضَى ونَقْضِي
- بالياء والنون.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ
الْيَوْمَ تُنْسَى (126)
أي كذلك تترك في النار كما تركت آيَاتِنَا.
* * *
وقوله : (أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ
يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (128)
قُرِئَتْ بالنُونِْ والياء ، فمن قرأ بالنُّونِ فمعناه أفلم نبين لهم بياناً
يهتدون
به ، ومن قرأ أفلم يَهْدِ - بالياء - فالمعنى أفلم يُبَيَّنْ لَهُم الأمْرُ بإهلاك
من قبلهم من القرون.
و " كم " في موضع نصب بـ (أهلكنا).
وكانت قريش تَتَجِر وترى مساكن عادٍ وثمودَ وبها علامات الِإهلاك ، فذلك قوله :
(يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ)
ويجوز (في مَسْكَنِهِمْ) أي في مَوضِع سُكْنَاهُمْ ولم يقرأ بها.
ويقرأ : (يُمَشَّوْنَ في مَسَاكِنهم) بالتشديد .
(3/379)
وقوله
: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى).
أي لذوي العقول والمَعْرِفةِ ، يقال : فلان ذو نُهْيةٍ إذا كان له عَقْل ينتهي
به عن المقابح.
* * *
وقوله : (وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ
مُسَمًّى (129)
أي لكان القتلُ الذي نالهم لَازِماً أبداً ، ولكان العذاب لازماً لهم.
(وَأَجَلٌ مُسَمًّى).
معطوف على (كَلِمَةٌ) المعنى لولا كلمة سَبَقَتْ وأجل مسمى لكان
لزاماً ، يُعنَى بالأجل المسمى أن الله وعَدَهُمُ العذابَ يومَ القيامَةِ.
وذلك قوله : (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46).
* * *
وقوله : (فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ
طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ
وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130)
(وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا).
وذلك وقتُ الغداة والعَشِى.
(وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ).
الآناء الساعات ، وواحد الآناء إنْيٌ - وقد بيَّنَّاه فيما مَضَى.
(فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ).
وأطراف النهار الظهرُ والعَصْرِ.
(لَعَلَّكَ تَرْضَى) ، ويقرأ تُرْضَى.
* * *
وقوله تعالى : (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا
مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ
خَيْرٌ وَأَبْقَى (131)
أي رِجالاً مِنْهُم.
(زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا).
وَ (زَهَرَة) جميعاً - بفتح الهاء وتسكينها - و (زَهْرَةَ) منصوب بمعنى مَتعْنَا
لأن
معناه جعلنا لهم الحياة الدنيا زهرة .
(3/380)
(لِنَفْتِنَهُمْ
فِيهِ).
أي لنجعل ذلك فتنة لهم
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ
تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (133)
معناه هلَّا يأتينا بآية أمن رَبِّه ، وقد أتتهم البينات والآيات ولكنَهُم
طلبوا أن يقترحوا هم ما يؤيدون من الآيات.
* * *
وقوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا
رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ
أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (134)
(مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى).
يجوز فيها يُذَل وُيخْزَى.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ
أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى (135)
(فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ)
" مَن " في موضع رفع ، ولا يجوز أن يعمل فيها (فَسَتَعْلَمُونَ) ، لأن
معناه
معنى التسوية ، المعنى فستعلمون أصحاب الصراط السوي نَحْنُ أم هُمْ ، فلم
يعْمَلْ (فَسَتَعْلَمُونَ) لأن لفظ الكلام لفظه لفظ الاستفهام.
ومعنى (أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ) أصْحَابُ الطريق المستقيم ، ويَجُوزُ من
أصحاب الصراط السُّوَي ومن اهتدى.
(وَمَنِ اهْتَدَى).
أي فسيعلمون من أصحاب الطَريقة السوءَى ومن المهتدي .
(3/381)
سورة
الأنبياء
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله عزَّ وجلَّ : (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ
مُعْرِضُونَ (1)
معناه اقتربت القيامة ، ومثله : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ).
والمعنى - واللَّه أعلم - اقترب للناس وقت حسابهم.
* * *
وقوله : (مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا
اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ
(2)
الخفضً القراءة ، ويجوز في غَير القراءة (مُحْدَثاً ومُحْدَثٌ).
النصب على الحال ، والرفع بإضمار هو.
* * *
(لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا
إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3)
(لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ)
معطوفٌ على معنى (إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ).
معناه استمعوه لاعبين
(لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ) ويجوز أن يكون (لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ) منصوباً بقوله
(يلعبون).
(وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا).
في (أَسَرُّوا) قولان أجْوَدهمَا أن يكون (الَّذِينَ ظَلَمُوا) في موضع رفع بدلًا
من
الواو من (أَسَرُّوا) ومُبَيِّناً عن معنى الواو.
والمعنى إلا استمعوه وهم يلعمون.
(وَأَسَرُّوا النَّجْوَى) ، ثم بين من هم هؤلاء فكان بدلاً من الواو.
ويجوز أن يكون
(3/383)
رفعاَ
على الذم على معنى هم الذين ظلموا.
ويجوز أن يكون في موضع نصبٍ على معنى أعني الذين ظلموا.
وقوله : (هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ).
بينَ ما أسروه ، والمعنى قالوا سِرًّا هل هذا إلَا بشرٌ مثلكم ، يعنون
النبي - صلى الله عليه وسلم - أعلمهم الله عزَّ وجلَّ أنه يعلم القول في السماء
والأرض ، وأطلَعَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى قِيلِهِمْ ، وسَرِّهِمْ.
* * *
(قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ
الْعَلِيمُ (4)
وقرئت (قَلْ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ) ، و (قَالَ رَبِّي)
* * *
وقوله : (بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ
فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5)
أي قالوا : الذي يأتي به النبي - صلى الله عليه وسلم - أضْغَاث أحْلام . وجاء في
التفسير أهاوِيل أحْلام ، والأضغاثُ في اللغة الأشياء المختلطة.
(بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ).
أي أخذوا ينقضون أقوالهم بعضها ببعض ، فيقولون مرة : هذه أحلام.
ومرة هذا شعر ومرة مفترى.
(فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ).
فاقترحوا الآيات التي لا يقع معها إمْهَالٌ إذَا كُذِّبَ بهَا ، فقال اللَّه
عزَّ وجلَّ : (مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ
يُؤْمِنُونَ (6)
أي ما آمن أهل قرية أتتهم هذه الآيات حتى أوجب الله استئصالهم
وإهلاكهم بالعذاب ، واللَّه جعل مَوْعِدَ هذه الأمةِ القيامةَ.
فقال :
(3/384)
(بَلِ
السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46).
واللَّهُ قد أعطاهم الآيات التي تبينُوا بها نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم - من
القرآن الذي دُعُوا أنْ يأتوا بسورةٍ مثله ، ومن انشقاق القمر ، ومن
قوله : (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) فظهر أهل الِإسلام حتى صاروا أكثر
من كل
فرقةٍ فليس أهلُ مِلَّةٍ واحدة لهم كثرة أهْلِ الِإسْلَامِ ، وأظهره اللَّه أيضاً
بالحجة القاطعة.
* * *
وقوله تعالى : (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ
فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7)
أي سَلُوا كل من يقر برسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - من أهل التوراة
والإِنجيل.
(إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ).
أي إن كنتم لَمْ تَعْلَمُوا أنَّ الرسُلَ بَشَر.
وهذا السؤال واللَّه أعلم لمن كان مؤمناً من أهل هذه الكتب ، لأن القبول يكون من
أهل الصدق والثقة.
* * *
وقوله : (وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا
خَالِدِينَ (8)
(جَسَداً) هو واحد ينبئ عن جماعة ، أي وما جَعَلْنَاهم ذوي أجَسَادٍ إلا
ليأكُلُوا الطعَامَ ، وذلك أنهم قَالُوا : (مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ
الطَّعَامَ)
فأُعْلِمُوا أن الرسُلَ أجمعين يأكلون الطعام ، وأنهُم يَمُوتُونَ وهوَ قوله تعالى
: (وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ).
* * *
وقوله : (لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا
تَعْقِلُونَ (10)
أي فيه تذْكِرة لكم بما تلقونه من رحمة أو عذاب ، كما قال عزَّ وجلَّ :
(كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ)
وقد قيل (فِيه ذِكُرُكمْ) فيه شَرَفُكُمْ.
* * *
وقوله : (وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا
قَوْمًا آخَرِينَ
(11)
(3/385)
"
كم " في موضع نصب بـ (قصَمْنَا)
ومعنى قصمنا أهلكنا وأذهبنا ، يقال قصم اللَّه عُمْرَ الكافِرِ أي أذْهبَهُ
* * *
وقوله : (فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12)
أي يهربون من العذاب.
* * *
(لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ
لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13)
جاء في التفسير أنه قيل لهم ذلك على جهة الاستهزاء بهم.
وقيل لعلكم تسألون شيئاً مما أُتْرفتُم فيه.
ويجوز لعلكم تسألون فتجيبون عما تشاهدون
إذا رأيتم ما نزل بمساكنكم وَمَا أترفتم فيه.
* * *
وقوله : (قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14)
" ويل " كلمة تقال لكل من وقع في هَلَكَةٍ ، وكذلك يقولها كل من وقع
في هلكة.
* * *
وقوله : (فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا
خَامِدِينَ (15)
أي ما زالت الكلمةُ التي هي قولُهم : (يَا ويلَنَا إنا كُنا ظَالِمِينَ) دعواهم.
يجوز أن تكون (تلك) في موضع رفع اسم زَالتْ
و (دعواهم) في موضع نصب خبر زالت
وجائز أن يكون (دعواهم) الاسم في موضع رفع ، و (تلك) في موضع
نصب على الخبر لا اختلاف بين النحويين في الوجْهَيْن.
* * *
وقوله : (لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا
إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (17)
اللَّهْو في لُغَةِ حَضْرمَوْتَ الولد ، وقيل اللهو المرأةُ ، وتأويلُه أن
الوَلَدَ لَهْوُ
الدنْيَا ، فلو أردنا أن نتخِذَ ذَا لَهْوٍ يُلْهَى بِهِ.
ومعنى (لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا) أي لاصطفيناه مما نخلق.
(إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ).
(3/386)
معناه
ما كنا فاعلين.
وكذلك جاء في التفسير.
ويجوز أن يكون للشرط أي : إنْ كُنا مِمنْ يَفْعَلُ ذلك ولسنا ممن يفعله . والقول
الأول قول المفسرين ، والقول الثاني قول النحويين ، وهم أجمعون يقولون القولَ
الأول ويستجيدُونه.
لأن (إنْ) تكون في معنى النفي ، إلا أن أكثر ما تأتي مع اللام تقول : إن كنت
لصالحاً ، معناه مَا كنْتَ إلا صَالِحاً.
* * *
وقوله : (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ
زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18)
يعنى بالحق القرآن على باطلهم
" فَيَدْمَغُهُ " فيذهبُه ذهاب الصغار والإذلال.
(فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ).
أي ذاهب.
(وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ).
أي مِمَّا تَكْذِبُونَ في وصفكم في قولكم إنَّ للَّهِ وَلَداً.
* * *
وقوله : (وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا
يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19)
أي هؤلاء الذين ذكرتم أنهم أوْلَادُ اللَّه - عزَّ وجلَّ - عبادُ اللَّهِ ، وهم
الملائكة.
وقوله : (لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ).
أي لا يَعْيَوْنَ ، يُقَال حَسِرَ واسْتَحْسَرَ إذَا تَعِب وأعْيَا ، فالملائكة لا
يَعْيَوْنَ.
* * *
(يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20)
أي لا يشْغَلُهم عن التسبيح رِسَالة ، ومجرى التسبيح منهم كمجرى
(3/387)
النفس
منا ، لا يشغلنا عن النفسِ شيء ، فكذلك تسبيحُهمْ دائم.
* * *
وقوله : (أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21)
و (يَنْشِرُونَ) ، فمن قرأ (يُنْشِرُونَ) فمعناه أم اتخذوا آلهة يُحْيُونَ
الموتَى.
يقال : أنْشَر اللَّهُ الموْتَى ونَشَرُوا هُمْ ، ومن قرأ يَنْشُرون بفتح الياء ،
فمعناه : أم اتخذوا آلهة لا يَمُوتُونَ يَحيَوْنَ أبَداً.
* * *
وقوله : (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ
اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22)
(فِيهِمَا) في السماء والأرْضِ.
وَ " إِلَّا " في معنى " غير " ، المعنى لو كان فيهما آلهة
غير الله لفسدتَا.
ف " إِلَّا " صفة في معنى غير ، فلذلك ارتفع ما بعدها على لفظ الذي
قبلها قال الشاعر :
وكلُّ أخٍ مُفارِقُه أَخُوه . . . لَعَمْرُ أَبِيكَ إلاَّ الفَرْقدانِ
المعنى وكل أخ غير الفرقدين مفارقه أخوه.
* * *
وقوله : (فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ).
(سبحان اللَّهِ) معناه تنزيه الله من السوء وقد فسرنا ذلك.
وهذا تفسير عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
* * *
وقوله : (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)
أي لَا يُسْأَلُ في القيامة عن حكمه في عباده ، وَيَسأل عباده عن أعمالهم
سؤالُ مُوَبِّخٍ لمن يستحق التوبيخ ، ومجَازِياً بالمغفرة لمن استحق ذلك ، لأن
اللَّه عزَّ وجلَّ قد علم أعمَال العِبَادِ ، ولكن يسألهم إيجاباً للحجة عليهم ،
وهو
(3/388)
قوله
: (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24).
أي سؤال الحجة التي ذكرنا ، فأما قوله :
(فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39).
فهذا معناه لا يسأل عن ذنبه ليستعلم منه ، لأن الله قد علم أعمالهم قبل وقوعها
وحين وقوعها وبعد وقوعها . (عَالِم الغَيبِ والشهادة).
* * *
وقوله : (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا
ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ
الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24)
قد أبَانَ اللَّه الحجةَ عَلَيهم في تثبيت توحيده وأن آلهتهم لا تُغْني عنهم
شيئاً ، ثم قيل لهم : هاتوا برهانكم بأنَّ رَسُولاً من الرسل أنبأ أمَّتَة بأنَّ
لهم إلهاً
غير اللَّه ، فهلْ في ذكرِ مَنْ معيَ وذِكْر مَنْ قبلي إلا توحيدُ الله عزَّ وجلَّ
، وقد
قُرِئَتْ : هذا ذكرٌ مِنْ مَعِي وذكرٌ مِنْ قَبْلِي ، ووجهها جَيدٌ.
ومَعْنَاه : هذا ذكرٌ مما أنزل عَلَى مِمَّا هو مَعِي ، وذكرٌ مِنْ قبلي.
قال أبو إسحاق : يريد بقوله " مَن مَعِي " أي من الذي عندي ، أو من
الذي قبلي . ثم بين فقال :
(وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا
إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ
(25)
و (نُوحِي إِلَيْهِ) ويجوز يُوحِي إليه أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا
فَاعْبُدُونِ).
* * *
وقوله : (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ
مُكْرَمُونَ (26)
يعنى الملائكة وعيسى ابنَ مَرْيَمَ عليه السلام.
والذي في التفسير أنهم الملائكةُ ، ولو قرئت بل عباداً مكْرَمِينَ لم يجز لمخالفة
المصحف ، وهي في العربية جائزة ويكون المعنى : بل اتَخَذَ عِباداً مُكْرَمِين ،
والرفع أجْود وأحْسَنُ
قوله : (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ
كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ
أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30)
(3/389)
قال
(كانتا) لأن السَّمَاوَات يعبر عنها بلفظ الواحدِ ، وأن السَّمَاوَات كانتا
سماء واحدة ، وكذلك الأرضون كانت أرضاً واحدة ، فالمعنى أن السَّمَاوَات
كانتا سماء واحدة مُرْتَتَقَةً ليس فيها ماء ، ففتق اللَّه السماء فجعلها سَبْعاً
وجعل الأرْضَ سَبْعَ أرضين.
وجاء في التفسير أن السًماء فتقت بالمطر ، والأرضَ بالنبَاتِ ، وَيَدلُّ على
أنه يراد بفتقها كون المطر فيهَا قوله - عزَّ وجلَّ - : (وَجَعَلْنَا مِنَ
الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ).
وقيل (رَتْقاً) ولم يَقُلْ رتقَيْن ، لأن الرتق مَصْدَر.
المعنى كانتا ذَوَاتِيْ رَتْقٍ فَجُعِلَتَا ذواتَيْ فتْقٍ.
ودَلَّهم بهذا عَلَى توحِيده - جلَّ وعزَّ - ثم بَكَّتَهُمْ فقال : (أفَلَا
يؤمِنُونَ).
* * *
وقول : (وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا
فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31)
المعنى كراهة أن تميد بهم ، وقال قوم : معناه ألا تميدَ بهم.
والمعنى كذلك ، إلا أن " لا " لا تُضْمَرُ والاسم المضاف يحذف ، وكراهة
أن تميدَ بِهِمْ يؤدي عن معنى ألَّا تميد بهم.
ومعنى تميد في اللغة تدور ، ويقال للذي يُدَارُ بِهِ إذا رَكِبَ البحرَ مَائِد.
ومَيْدَى
والرواسي تعني الجبال الثوابت.
(وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً).
فِجَاج : جَمع فَجٍّ ، وهوكل منخرق بين جبلين ، وسُبُلاً : طُرَقاً.
* * *
(وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32)
حَفِظَهُ اللَّه من الوُقُوع على الأرْض (إلا بإذْنِهِ) وقيل محفوظاً ، أيْ
(3/390)
محفوظاً
بالكواكب كما قال عزَّ وجلَّ : (إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ
الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7).
(وَهُمْ عَنْ آيَاتنَا مُعْرِضُونَ).
معناه وهم عنْ شَمْسِها وقَمرها ونُجُومها ، وقد قُرئت عن آيتها ، وتأويله
أن الآية فيها في نفسها أعظم آيةً لأنها مُمْسَكة بقدرته عزَّ وجلَّ ، وقد يقال
للذي ينتظم علامات كثيرةً آية ، يراد به أنه بجملته دليل على توحيد اللَّه
عزَّ وجلَّ.
* * *
وقوله : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ
كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33)
(كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ).
قيل يسبحون كما يقال لما يعقل ، لأن هذه الأشياء وصفت بالفعل كما
يوصف مَنْ يعقل ، كما قالت العرب - في رواية جميع النحويين - أكلوني
البراغيث لما وصفت بالأكل قيل أكلوني.
قال الشاعر :
شربت بها والدِّيكُ يَدْعُو صَباحَهُ . . . إِذا ما بَنُو نَعْشٍ دَنَوْا
فتَصَوَّبُوا
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ
مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34)
(أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ).
يُقْرأ مُتَّ بضم الميم ، ومِتَّ بكسرها ، وأكثر القُراء بِالضم.
وقد فسرنا ما في هذا الباب .
(3/391)
والفاء
دخلت عَلَى " إنْ " جوابَ الجزاء ، كما تدخل في قولك : إنْ
زُرْتني فأنا أخوك ، ودخلت الفَاءُ على " هم " لأنها جواب (إنْ).
* * *
وقوله : (وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا
أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ
(36)
(أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ)
(هذا) على إضمار الحكاية ، المعنى وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ
يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا يقولون أهذا الذي يَذْكُرُ آلهتكم.
والمعنى أهذا الذي يعيب آلهتكم يقال فلان يَذْكُرُ الناس أي يغْتَابُهُمْ
ويَذْكُرُهُمْ بالعُيوبِ ، ويقال فلان يذكر اللَّه ، أي يصفه بالعظمة ، وُيثْنِي
عليه وُيوَحِّدُه . وإنما يحذف مع الذكر ما عُقِلَ معناه.
قال الشاعر :
لا تذكري فرسي وما أطعمته . . . فيكون لَوْنُكِ مثل لون الأجْرَبِ
المعنى لا تذكري فرسي وإحساني إليه فتعيبيني بإيثاري إيَّاهُ عليك.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا
تَسْتَعْجِلُونِ (37)
قال أهل اللغة : المعنى خُلِقَتِ العَجَلَةُ مِنَ الإنْسانِ ، وحقيقته يدل
عليها ، (وَكَانَ الإنْسَانُ عَجُولًا) ، وإنما خوطبت العرب بما تعقل ، والعرب
تقول للذي يكثر الشيء خُلِقْتَ منه ، كما تقول : أنْتَ مِنْ لَعِبٍ ، وخلقت من
لعبٍ ، نريد المبالغة بوصفه باللعب.
* * *
وقوله : (لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ
النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (39)
أي حينَ لا يَدْفَعُونَ عن وُجُوهِهمُ النارَ ، وجَوَابُ (لو) محذوف ، المعنى
(3/392)
لعلموا
صِدْقَ الوعْدِ ، لأنهم قالوا (مَتَى هَذَا الوَعْدُ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ).
وجعل الله عزَّ وجلَّ الساعة مَوْعِدَهم ثم قال :
(بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا
هُمْ يُنْظَرُونَ (40)
بغتة فُجَاءَةً وهم غافلون عنها ، فتبهتم فتحيرهم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ
الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42)
معناه - واللَّه أعلم - من يحفظكم من بأس الرحمن ، كما قال : (فَمَنْ
يَنْصُرُني مِنَ اللَّه) أي من عذاب الله.
وقوله : (بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ
الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ
أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44)
(أفَهُمُ الغَالِبُونَ).
أي قد تبين لكم أنا ننقص الأرض من أطرافها ، ولأن الغلبة لنا ، وقد
فسرنا نأتي الأرض نَنقصُهَا من أطرافها في سورة الرعد ، أي فاللَّه الغالب
وهم المغلوبون ، أعني حزب الشيطان.
* * *
وقوله : (قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ
الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (45)
(وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ).
ويجوز ولا تُسمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ ، والضم هَهُنا المعوضون عَما يُتْلَى
عَلَيْهِمْ من ذكر اللَّه فهم بمنزلة من لا يسمع كما قال الشاعر :
أصم عما ساءه سميعُ.
* * *
وقوله تعالى : (وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ
يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46)
أي إن مَسَّتْهُمْ أدنى شيء من العذاب.
(لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ).
(3/393)
والويل
ينادَى به ، وينادي به كلُ مَنْ وقع في هلكة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ
فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ
أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)
(القسط) العدل ، المعنى ونضع الموازين ذوات القسط ، وقِسْط مثل
عدل مصدر يوصف به ، تقول ميزان قِسْط وميزانان قِسْط ، وموازين - قِسْطِ.
والميزان في القيامة - جاء في التفسير - أن له لساناً وكفتين ، وتُمثَّلُ الأعمال
بما يوزَنُ ، وجاء في التفسير أنه يوزن خاتمة العَمَل ، فمن كانت خاتمة عَمَله
خيراً جوزي بخير ، ومن كانت خاتمة عمله شرا فجزاؤه الشر.
وقوله : (وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ).
نصب (مِثْقَالَ) على معنى وإنْ كان العَمَلُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ من خردل ، ويقرأ
وإن كان مثقالُ حبَّةٍ بالرفع على معنى وإن حصل للعبد مثقال حبة من خردَل
أتَيْنَا بها.
(أَتَيْنَا بِهَا) معناه جئنا بها ، وقد قُرئت آتينا بها على معنى جازينا بها
وأعطينا بها ، وأتَيْنَا بها أحسنُ في القراءة وأقْرَبُ في أمل العَفْو.
(وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ).
منصوب على وَجْهَيْن ، على التمييز ، وعلى الحال ، ودخلت الباء في
وكفى بنا ، لأنه خبر في معنى الأمر ، المعنى اكتفوا باللَّهِ حسيباً.
* * *
وقوله : (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا
لِلْمُتَّقِينَ (48)
جاء عن ابن عباس أنه يرى حذف الواو ، وقال بعض النحويين معناه
ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان ضِياء وعند البَصْريينَ أن الواو لا تُزَادُ وَلَا
تَأتي إلُّا بمعنى العطف.
وتفسير الفرقان : التوراةُ التي فيها الفرق بين الحلال
(3/394)
والحرام
، و (ضِيَاءً) ههنا مثل قوله : (فِيهِ هُدًى وَنُورٌ)
ويجوز وذكرى لِلمُتقينَ.
* * *
وقوله : (وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50)
المعنى هذا القرآن ذكر مبارك.
* * *
وقوله : (وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ
عَالِمِينَ (51)
أي آتيناه هداه حَدَثاً ، وهو مثل قوله : (وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ
هُدَاهَا).
* * *
وقوله : (إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي
أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ
(52)
" إذْ " في موضع نصبٍ ، المعنى آتيناه رشده في ذلك الوقت ، ومعنى
التماثيل ههنا الأصنام ، ومعنى العُكوفُ المُقَامُ على الشيء.
* * *
وقوله : (وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا
مُدْبِرِينَ (57)
معناه - واللَّه أعلم - وَوَاللَّهِ لأكيدَن ، ولا تصلح التاء في القسم إلا في
الله ، تقول : وحق اللَّهِ لأفْعَلَنَّ ، ولا يجوز تَحق اللَّه لأفعلن ، وتقول وحق
زيد لأفعلن ، والتاء بدل من الواو ، ويجوز وَبِاللَّهِ لأكيدَنَّ أصنامكم.
وقراءةُ أهل الأمصار تاللَّهِ ، ولا نعلم أحداً من أهل الأمصار قرأ بالباء ،
ومعناها صحيح جيِّدٌ.
* * *
وقوله : (فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ
يَرْجِعُونَ (58)
وَجِذَاذاً تقرأ بالضمِّ والكسر فمن قرأ (جُذَاذاً) فَإن بِنْيةَ كُل ما كُسِّر
(3/395)
وقُطِّعَ
على فعالٍ نحو الجُذَاذ والحُطام والرفَاتُ ، ومن قال جِذَاذ فهو جمع
جذِيذ وجِذَاذٍ نحو ثَقيل وثقال وخَفيف وخِفَاف.
ويجوز جَذاذاً على معنى القَطَاع والحَصَادِ ، ويجوز نُجذُذ على معنى جَذِيدَ
وجُذُذ مثل جَدِيد وجُدُد.
وقوله : (إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ) أي كسَّر هذه الأصْنَام إلَّا أكبَرَهَا ،
وجائزٌ أن يكون
أكبرها عندهم في تعظيمهم إياه ، لا في الخلقة ، ويجوز أن يكون أعظمَها
خلقة.
ومعنى (لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ).
أي لعلْهم باحتجاج إبراهيم عليهم به يَرْجِعُون فيعلمون وجوبَ الحجةِ -
عليهم.
* * *
قوله : (قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60)
أيْ يَذْكُرُهُمْ بالعَيْب ، وقالوا للأصنام يَذْكرهم لأنهم جعلوها في عبادتِهم
إياها بمنزله ما يعقل ، وإبراهيم يرتفع على وجهين :
أحَدُهُما على معنى يقال له هو إبراهيم ، والمعروف به إبراهيم ، وعلى النداء على
معنى يقال له يا إبراهيم.
* * *
(قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61)
أي لعلهم يعرفونه بهذا القول فَيَشْهَدُونَ عَلَيْه ، فيكون ما ينزله بهِ بحُجةٍ
عليه ، وجائز أن يكون لَعَلَّهم يَشْهدون عقوبتنا إياه.
* * *
(قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63)
يعني الصَّنَم العظيم.
(فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ).
(3/396)
قال
بعضهم : إنما المعنى ، بل فعله كبيرهم هذا إن كانوا ينطقون ، وجاء
في التفسير أن إبراهيم نطق بثلاث كلمات على غير ما يوجبه لفطها لما في
ذلك من الصلاح ، وهي قوله : (فَقَالَ إني سَقِيم) وقوله (فَعَلَه كَبيرهمْ هَذَا).
وقوله إنَّ سَارَّة أخْتي ، والثلاث لهن وجه في الصدْقِ بَيِّنٌ.
فسَارَّة أخته في الدِّين ، وقوله (إني سَقِيمٌ) فيه غير وجه أحدها إني مغْتَمٌّ
بِضَلاَلتِكمْ حتى أنا كالسقيم ، ووجه آخر إني سقيم عندكم ، وجائز أن يكون ناله في
هذا الوقت مَرَضٌ.
ووجه الآية ما قلناه في قوله : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ
إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ).
واحتج قوم بأن قول إبراهيم مثل قول يوسف لِإخوته : (أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ
لَسَارِقُونَ) ولَم يَسْرِقوا الصَّاعَ ، وهذا تأويله - واللَّه أعلم - إنكم
لسارقونَ يوسف.
* * *
وقوله : (ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ
يَنْطِقُونَ (65)
جاء في التفسير أنه أدْركتِ القومَ حَيْرَة.
ومعنى : (لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ).
أي ثم نكسوا على رؤوسهم فقالوا لِإبراهيم عليه ابسلام : (لَقَدْ عَلِمْتَ ما
هؤلاء يَنْطِقَون) ، فقد اعترفوا بعجز ما يعبدونه عن النطق .
(3/397)
وقوله
: (أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67)
يقرأ (أُفِّ لَكُمْ) بغير تنوين ، وَ (أُفٍّ) بتنوين ، ويجوز أفٌّ لكم وأفُّ لكم
- بالضم والتنوين وبترك التنوين - ويجوز أُفَّ لكم بالفتح.
فأمَّا الكسر بغير تنوين فلالتقاء السَّاكنين وهما الفاءان في قوله أف ، لأن ما
أصل الكلمة السكون لأنها بمنزلة الأصوات ، وحذف التنوين لأنها معرفة لا يَجِبُ
إعرابها ، وتفسيرها (النَّتْنُ) لكم ولما تعبدون فمن نَوَّنَ جعله نكرة بمنزلة
نَتْناً لكم ولما تعبدون من دون اللَّه ، وكسر لأن أصل التقاء السَّاكنين الكسر ،
ولأن أكثر الأصوات مَبْني على الكسر نحو قوله غَاقْ وجَيْرِ وأمْسِ وويه ، ويجوز
الفتح لالتقاء السَّاكنين لثقل التضعيف والكسر ، ويجوز الضم لضمةِ الألفِ كما
قالوا : رُدَّ يا هذا ورُدُ ، ورُدِ - بالكسر ، ومن نوَّنَ مع الضم فبمنزلة
التنوين مع الكسر.
* * *
وقوله : (وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا
لِلْعَالَمِينَ (71)
جاء في التفسير أنها من أرض الشام إلى العراق.
* * *
قوله : (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا
صَالِحِينَ (72)
النافلة ههنا وَلَدُ الوَلدِ ، يعني به يعقوبُ خاصة
* * *
وقوله : (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا
إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ
وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73)
(إقَامَ الصَّلَاةِ).
إِقام مفرد قليل في اللغة ، تقول أقمت إقامَةً ، قاما إقام الصلاة فجائز
لأن الِإضافة عوض من الهاء.
* * *
وقوله : (وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ
الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ
فَاسِقِينَ (74)
(لوطاً) منصوب بفعل مضْمَرٍ لأن قبله فعلاً ، فالمعنى وأوحينا إليهم وآتينا
لُوطاً آتيناه حكماً وعِلْماً ، والنصب ههنا أحسن من الرفع لأن قبل آتينا فِعْلاً
وقد
(3/398)
ذكر
بعض النحويين أنه منصوب على " واذْكر لوطاً " ، وهذا جائز لأن ذكر
إبراهيم قد جرى فحمل لوط على معنى واذكر.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ (وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ
فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76)
منصوب على واذكر ، وكذلك قوله :
(وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ
غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78)
على مَعْنى واذكر داوود وسليمان (إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ
فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ)
النفْش بالليل ، والهَمَلُ بالنهار.
وجاء في التفسير أن غنماً على عهد داوود وسُلَيْمَانَ مَرتْ بحَرْثٍ لِقَوم
فَأفْسدَتْه ، ورُوِيَ أن الحَرْث كان حنطة ، ورُوِيَ أنه كان كرماً ، فأفسدت ذلك
الحرث فحكم داود بدفع الغنم إلى أصحاب الكرم وحكم سليمان بأن يدفع الغنم إلى أصحاب
الكرم فيأخذوا منافعها من ألْبانها وأصوافها وعَوَارِضها إلى أن يعودَ الكرمُ
كهيئتِه وقت أفْسِدَ فإذا عاد الكرم إلى هيئته رُدَّتِ الغنم إلى أرْبابها ويدفع
الكرم إلى صاحب الكرم.
قال أبو إسحاق : يجوز أن تكون عوارضُها من أحد وجهين ، إما أن يكون
جمع عريض وعُرْضَان ، وهو اسم للحَمَلِ ، وأكثر ذلك في الجدْي ، ويجوز أن
يكون بما يعرض من منافِعِها حتى يَعُودَ الكَرْمُ كما كان ، وهذا - واللَّه أعلم -
يدل على أن سُليمان عَلِمَ أن قيمةَ ما أفْسَدَتِ الغنمُ من الكرم بمقدار نفع
الغنم.
قال اللَّه عزَّ وجلَّ : (فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا
وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ
وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79)
أي فهمناه القَضيةَ ، والحكومةَ.
(وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا).
(3/399)
وقوله
عزَّ وجلَّ : (وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ).
ويجوز والطُّيْرُ ، على العطف على ما في يسبحن ، ولا أعلم أحداً قَرأ بها.
(وَكُنَّا فَاعِلِينَ).
أي وكنا نقدر على ما نريده ، ونصب " الطيرَ " من جهتين "
إحداهما على معنى وسَخرنَا الطيرَ.
والأخرى على معنى يسبحن مع الطير.
* * *
وقوله : (وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ
فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80)
وقرئت (لنحصنكم من بأسكم) بالنون ، ويجوز (ليُحصِنكُمْ) بالياء.
فمن قرأ بالياء أراد ليحصنكم هذا اللبوسُ ، ويجوز على معنى ليحصنَكُمْ بالياء ،
فمن قرأ بالياء أراد ليحصنكم هذا اللبوسُ ، ويجوز على معنى ليحصنَكُمْ اللَّهُ من
باسكم وهي مثل لِنُحَصنَكُمْ - بالنون
ومن قرأ بالتاء أراد لتُحْصِنَكُمْ الصنعةُ.
فهذه الثلاثة الأوجه قد قرئ بهِنَّ ، ويجوز فيها ثلاث لم يُقْرأ بهِنَ ، ولا ينبغي
أن يُقْرأ بهِنَ لأن القراءة سنة.
يجوز لنحصِّنَكمْ بالنون والتشديد ، ولتحصِّنَكُمْ بالتاء والتشديد.
وليحصِّنَكمْ بالياء مشددَةَ الصاد في هذه الثلاث.
وعلَّم الله داوودَ صنعةَ الدروع من الزَرَدِ ، ولم تَكن قبلَ دَاوود عليه السلام
فجمَعَتِ الخفَةَ والتحْصِينَ ، كذا رُوِيَ.
* * *
(وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي
بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81)
وقرئت الرياح عاصفة ، وقرئت الريحُ عاصفةً - برفع الريح.
فمن قرأ الريحُ عَاصِفَةً بالنصب فهي عطف على الجبال.
والمعنى وسخرنا مع داود الجبال ، وسخرنا لسليمان الريح ، وعاصفةً منصوب على الحال
ومن قرأ الريحُ
(3/400)
رفع
كما تقول : لزيد المال ، وهذا داخل في معنى التسخير ، لأنه إذا قال
(تجري بأمره إلى الأرض) ففي الكلام دليل على أن اللَّه جل ثناؤه - سخَّرهَا.
* * *
وقوله : (وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ
ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82)
يجوز أن يكون موضع " مَنْ " نصباً عطفاً على الريح ، ويجوز أن يكون
" مَنْ "
- في موضع رفع من جهتين :
إحداهما العطف على الريح ، المعنى ولسليمان الريح وله من يَغُوصونَ من الشياطين ،
ويجوز أن يكون رفعاً بالابتداء ، ويكون " له " الخبر.
وقوله : (وَيعملون عَمَلاً دُونَ ذَلِكَ).
معناه سوى ذلك ، أي سوى الغوص.
(وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ).
كان اللَّه يحفظهم مِن أنْ يُفْسِدُوا مَا عَمِلُوا.
* * *
وقوله : (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ
أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ
(83)
(أَيُّوبَ) منصوب على معنى واذكر أَيُّوبَ.
* * *
وقوله : (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ
أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ
(84)
أكثر التفاسير أن اللَّه - جل ثناؤه - أحيا من مات من بنيه وَبَنَاتِه ورَزَقَه
مِثلهمْ من الْوَلَدِ ، وقيل (آتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ) آتيناه
في الآخرة.
* * *
(وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85)
هذا كله منصوب على (واذكر).
يقال إن ذا الكفل سمي بهذا الاسم لأنه تكفل بأمر نَبّيٍّ في أمَّتِهِ فقام بما يجب
فيهم وفيه ، ويقال إنه تكفل بعمل رجل صالحٍ فقام به ، والكِفْلُ في اللغة الكسَاءُ
الذي يُجْعَلُ وراء الرَّحْل على
(3/401)
عجز
البعير ، وقيل الكفلُ أيْضاً النصيبُ ، قال اللَّه عزَّ وجلَّ : (يُؤْتِكُمْ
كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ).
* * *
وقوله : (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ
عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ
إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)
(ذَا النُّونِ) يونس ، والنون السمكة ، والمعنى واذكر ذا النون ، ويررى أنه
ذهب مغاضباً قومه ، وقيل إنه ذهَب مغاضبا مَلِكاً من الملوك.
(فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ).
أي ظن أن لن نُقَدِّرَ عَليه ما قَدَّرْنَاهُ من كونه في بطن الحوت ، ويقْدِر
بمعنى يُقَدِّر.
وقد جاء هذا في التفسير ، وقد روي عن الحسن أنه قال عَبْدٌ أبَق
مِنْ رَبِّه ، وتأويل قول الحسن أنه هرب من عذاب رَبِّه ، لا أن يُونُسَ ظن أن
الهرب ينجيه من اللَّه - عزَّ وجلَّ - وَلَا مِنْ قَدَرِه.
وقوله : (فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ).
(في الظلمات) وجهانِ ، أحدهما يعنى به ظلمةُ الليل وظلمةُ البحر.
وظلمةُ بطن الحوت ، ويجوز أن يكون " نادى في الظلمات " أن يكون أكثر
دعائه وندائه كان في ظُلُماتِ الليْلِ.
والأجود التفسير الأول لأنه في بطن الحوت لا أحسبه كان يفصل بين ظلمة الليل وظلمة
غيره ولكنه أولُ ما صادف ظلمةُ الليل ثم ظلمة البحر ثم ظلمة بطن الحوت.
وجائز أنْ يَكُونَ الظلُماتُ اتفَقت في وقتٍ واحِدٍ ، فتكون ظلمة بطن الحوت في
الليل والبحرِ نهايَةً في الشِّدَّةِ .
(3/402)
وقوله
: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي
الْمُؤْمِنِينَ (88)
(وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ)
الذي في المصحف بنون واحدة ، كَتِبَتْ ، لأن النون الثانية تَخْفَى مَعَ
الجيم ، فأمََّا ما روي عَنْ عَاصم بنون واحدة فَلَحْن لا وجه له ، لأن ما لا
يُسمَّى فاعِلُه لا يكون بِغَير فاعل.
وقد قال بعضهم : نُجِّي النَجَاءُ المؤمنين.
وهذا خطأ بإجماع النحويين كلهم ، لا يجوز ضُرِبَ زيداً - ، تريد ضرب الضرب زيداً
لأنك إذا قلتَ ضرب زيد فقد علم أنه الذي ضُربَه ضَرْبٌ ، فلا فائدة في إضماره
وإقامته مع الفاعل.
ورواية أبي بكر بن عياش في قوله نُجِّي المؤمنين يخالف قراءة أبي عمروٍ نُنْجي
بنونين (1).
* * *
وقوله : (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ
زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا
وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90)
(وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ)
يروى أنها كانت عقيماً فجعلها اللَّه - عزَّ وجلَّ - ولوداً ، ويروى أنه كان
في خُلُقِها سُوءٌ فأصلح اللَّه ذلك وحسنَ خُلُقَها.
وقوله : (وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا).
وقرئتْ رغْباً ورَهْباً ، فالرَّغبُ والرهْبُ مَصْدرَانِ ، ويجوز رُغْباً ورُهْباً
، ولا
أعلم أحداً قرأ بهما ، أعني الرغْب والرهْبُ - في هذا المَوْضِع.
والرُّغْبُ والرَّغَب مثل البُخْل والبَخَل ، والرُّشْد والرَّشَد.
* * *
وقوله : (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا
وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (91)
" التي " في موضع نَصْبٍ ، المعنى واذكر التي أحصنت فرجها.
ويروى في بعض التفسير أنه يعني جيبها.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { وكذلك نُنجِي } : الكاف نعتٌ لمصدرٍ أو حالٌ من ضميرِ المصدرِ . وقرأ
العامَّة « نُنْجي » بضم النونِ الأولى وسكونِ الثانية مِنْ أَنْجى يُنْجي . وقرأ
ابن عامر وأبو بكر عن عاصم « نُجِّيْ » بتشديد الجيمِ وسكونِ الياءِ . وفيها أوجهٌ
، أحسنها : أن يكونَ الأصل « نُنَجِّي » بضمِّ الأولى وفتح الثانيةِ وتشديد الجيمِ
، فاستثقل توالي مِثْلين ، فحُذِفت الثانيةٌ ، كما حُذِفَت في قوله { وَنُزِّلَ
الملائكة } [ الفرقان : 25 ] في قراءةِ مَنْ قرأه كما تقدَّم ، وكما حُذِفَتْ
التاءُ الثانيةُ في قولِه { تَذَكَّرُونَ } [ الأنعام : 152 ] و { تَظَاهَرُونَ }
[ البقرة : 85 ] وبابِه.
ولكنَّ أبا البقاء استضعَفَ هذا التوجيهَ بوجهين فقال : « أحدهُما : أنَّ النونَ
الثانية أصلٌ ، وهي فاءُ الكلمةِ فَحَذْفُها يَبْعُدُ جداً . والثاني : أنَّ
حركَتها غيرُ حركةِ النونِ الأولى ، فلا يُسْتَثْقَلُ الجمعُ بينهما بخلافِ »
تَظاهَرون « ألا ترى أنَّك لو قلتَ : » تُتَحامى المظالِمُ « لم يَسُغْ حَذْفُ
الثانية ».
أمَّا كونُ الثانيةِ أصلاً فلا أثرَ له في مَنْعِ الحَذْفِ ، ألا ترى أن
النَّحْويين اختلفوا في إقامة واستقامة : أيُّ الألفينِ المحذوفة؟ مع أنَّ الأولى
هي أصلٌ لأنَّها عينُ الكلمةِ . وأمَّا اختلافُ الحركةِ فلا أثرَ له أيضاً؛ لأنَّ
الاستثقالَ باتحادِ لفظِ الحرفين على أيِّ حركةٍ كانا.
الوجه الثاني : أن « نُجِّي » فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ للمفعول ، وإنما سُكِّنَتْ لامُه
تخفيفاً ، كما سُكِّنت في قوله : { مَا بَقِيْ مِنَ الربا } [ البقرة : 278 ] في
قراءةٍ شاذةٍ تقدَّمَتْ لك . قالوا : وإذا كان الماضي الصحيحُ قد سُكِّن تخفيفاً
فالمعتلُّ أولى ، فمنه :
3357 إنّما شِعْرِيَ قَيْدٌ . . . قد خُلِطْ بجُلْجُلانِ
وقد ذَكَرْتُ منه جملةً صالحةً.
وأُسْنِدَ هذا الفعلُ إلى ضميرِ المصدرِ مع وجودِ المفعول الصريحِ كقراءةِ أبي
جعفرٍ { ليجزى قَوْماً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } [ الجاثية : 14 ] وهذا رأيُ
الكوفيين والأخفش . وقد ذكرْتُ له شواهدَ فيما مضى من هذا التصنيفِ ، والتقدير :
نُجِّيَ النَّجاءُ . قال أبو البقاء : « وهو ضعيفٌ من وجهين ، أحدُهما : تسكينُ آخرِ
الفعلِ الماضي ، والآخرُ إقامةُ المصدرِ مع وجودِ المفعولِ الصَّريح » . قلت :
عَرَفْتَ جوابَهما ممَّا تقدم.
الوجه الثالث : أنَّ الأصلَ : ننجِّي كقراءةِ العامة ، إلاَّ أنَّ النونَ الثانيةَ
قُلِبَتْ جيماً ، وأُدغِمت في الجيم بعدها . وهذا ضعيفٌ جداً؛ لأن النونَ لا
تُقارِبُ الجيمَ فتُدغَمُ فيها.
الوجه الرابع : أنه ماضٍ مسندٌ لضمير المصدرِ أي : نُجِّي النَّجاءُ كما تقدم في
الوجه الثاني ، إلاَّ أن « المؤمنين » ليس منصوباً بنجِّي بل بفعلٍ مقدرٍ ، وكأنَّ
صاحبَ هذا الوجهِ فَرَّ من إقامةِ غيرِ المفعول به مع وجودِه ، فجعله مِنْ جملةٍ
أخرى.
وهذا القراءةُ متواترةٌ ، ولا التفاتَ على مَنْ طَعَن على قارئِها ، وإنْ كان أبو
عليٍ قال : « هي لحنٌ » . وهذه جرأةٌ منه قد سبقه إليها أبو إسحاق الزجَّاج .
وأمَّا الزمخشري فلم يَطْعن عليها ، إنما طعن على بعضِ الأوجهِ التي قدَّمْتُها فقال
: « ومَنْ تَمَحَّل لصحتِه فجعله فُعِل وقال : نُجِّي النَّجاءُ المؤمنين ، فأرسل
الياء وأسنده إلى مصدرِه ونَصَبَ المؤمنين ، فتعسُّفٌ باردُ التعسُّفِ » . قلت :
فلم يَرْتَضِ هذا التخريجَ بل للقراءةِ عنده تخريجٌ آخرُ . وقد يمكنُ أن يكونَ هو
الذي بدأت به لسلامتِه ممَّا تقدَّم من الضعف.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(3/403)
(وَجَعَلْنَاهَا
وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ)
لو قيل آيتين لصلح ، ولكن لما كان شأنهما واحدا ، وكانت الآية فيهما جميعا معناها
آية واحدة ، وهي ولادة من غير فحل ، جاز أن يقول آية.
وقوله : (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ
فَاعْبُدُونِ (92)
(أُمَّتُكُمْ) رفع خبر هذه ، المعنى أن هذه أمتكم في حال اجتماعها على الحق ، فإذا
افترقت فليس من خالف الحق داخلا فيها ، ويقرأ (أمةٌ واحدةٌ) ، على أنه خبر بعد خبر
، ومعناه إن هذه أمة واحدة ليست أمماً ، ويجوز نصب (أُمَّتَكُمْ) على معنى التوكيد
، قيل إن أمتكم كلها أمة واحدة (1).
وقوله : (وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ
بَيْنَهُمْ)
المعنى أن الله أعلمهم أن أمر الحجة واحد ، وأنهم تفرقوا ، لأن تقطيعهم أمرهم بينهم
تفرقة.
وقوله : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ
لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (94)
كفران : مصدر مثل الغفران والشكران ، والعرب تقول :
غفرانك لا كفرانك.
وقوله عز وجل : (وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا
يَرْجِعُونَ (95)
قُرئت : حِرمٌ وحَرَامٌ ، هاتان أكثر القراءة ، وقد قرئت حَرُمَ على قريةٍ ،
وحَرِم على قريةٍ.
وجاء في التفسير حِرمٌ في معنى حتْمٌ.
وجاء أيضا عن ابن عباس أنه قال :
حَتْم عليهم ألا يرجعوا إلى دنياهم ، وجاء عنه وعن قَتادة أنهم لا يرجعون إلى توبة
، وعند أهل اللغة حِرْمٌ وحرام في معنى واحد ، مثل : حِلٌ وحلالٌ.
وظاهر "حرام عليهم أنهم لا يرجعون" ، يحتاج إلى أن يُبَيَّن ، ولا أعلم
أحداً من أهل اللغة ، ولا من أهل التفسير بَيَّنه.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { أُمَّةً وَاحِدَةً } : العامَّةُ على رفع « أمتكُم » خبراً ل « إنَّ »
ونصب « أمةً واحدةً » على الحالِ . وقيل على البدل من « هذه » ، فيكونُ قد فُصِلَ
بالخبرِ بين البدلِ والمبدلِ منه نحو « إن زيداً قائمٌ أخاك ».
وقرأ الحسنُ « أُمَّتَكم » بالنصبِ على البدل من « هذه » أو عطف البيان . وقرأ
أيضاً هو وابن أبي إسحاق والأشهبُ العقيلي وأبو حيوة وابن أبي عبلة وهارون عن أبي
عمرو « أُمَّتُكم أمَّةٌ واحدةٌ » برفع الثلاثة على أنْ تكونَ « أمتُكم » خبرَ «
إنَّ » كما تقدَّم و « أمةٌ واحدةٌ » بدلٌ منها بدلُ نكرةٍ من معرفةٍ ، أو تكونَ «
أمةٌ واحدةٌ » خبرَ مبتدأ محذوفٍ . اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(3/404)
وهو
- واللَّه أعلم - أنه لما قال : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ
مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (94)
أعلمنا أن اللَّه عزَّ وجلَّ قَِد حرَّمَ قُبُولَ أعمال الكافرين وبين ذلك بقوله :
(الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ)
فالمعنى حَرام عَلَى قَرْيةٍ أهلكناها أن نَتقبل منهم عملًا لأنهم لا يرجعون ، أي
لا يتوبون ، وحَرِمَ وحَرُمَ في معنى حرام.
إلا أنَّ حَرَاماً اسم ، وحَرِمَ وَحَرُمُ فعل (1).
* * *
وقوله : (حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ
يَنْسِلُونَ
(96)
بهمزٍ وغير هَمْزٍ ، وهما قبيلَتَانِ من خلق اللَّه.
ويروى أن الناس عشرة أجزاء تسعة منهم يأجوج ومأجوج ، وهما اسمان أعجميان ،
واشتقَاقُ مثلهما من كلام العَرَبِ يخرج من أججت النار ، ومن النار الأجَاجِ وهو
أشَد وهو الشديد الملوحة ، المحرق من مُلُوحَتِهِ.
وقوله : (وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ)
ورويت أيضاً من كل جَدَثٍ ينسلون ، - بالجيم والثاء - والأجود في
هذا الحرف ، (حَدَبٍ يَنْسِلُونَ) بالحاء ، والحدب كل أكَمةٍ ، و (يَنْسِلُونَ)
يُسْرِعُونَ.
* * *
وقوله : (وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ
الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ
كُنَّا ظَالِمِينَ (97)
قال بعضهم : [لا يجوز طرح الواو] (2).
والجوابُ عِندَ البَصْريِّينَ قوله : (يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ
مِنْ هَذَا)
وههنا قول محذوف ، المعنى حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوجُ واقترب الوعْدُ الحق قالوا :
(يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ).
وجاء في التفسير أن خروجَ يأجوجَ ومأجوجَ من أعْلَامِ الساعة.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { وَحَرَامٌ } : قرأ الأخَوان وأبو بكر ورُوِيَتْ عن أبي عمرو « وحِرْمٌ »
بكسرِ الحاء وسكونِ الراءِ . وهما لغتان كالحِلِّ والحَلال . وقرأ بن عباس
وعِكْرمة و « حَرِمَ » بفتح الحاء وكسر الراء وفتح الميم ، على أنه فعلٌ ماضٍ ،
ورُوي عنهما أيضاً وعن أبي العالية بفتح الحاء والميم وضمِّ الراءِ بزنة كُرمَ ،
وهو فعلٌ ماض أيضاً . ورُوي عن ابن عباس فتحُ الجميع . وهو فعلٌ ماضٍ أيضاً .
واليمانيُّ بضم الحاء وكسر الراءِ مشددةً وفتح الميم ماضياً مبنياً للمفعول .
ورُوي عن عكرمةَ بفتح الحاء وكسرِ الراء و تنوين الميم.
فَمَنْ جعله اسماً : ففي رفعه وجهان ، أحدهما : أنه مبتدأ ، وفي الخبر حينئذٍ
ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدهُا : قوله { أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } وفي ذلك حينئذٍ
أربعةُ تأويلاتٍ ، التأويلُ الأولُ : أنَّ « لا » زائدةٌ والمعنى : وممتنعٌ على
قريةٍ قدَّرْنا إهلاكَها لكفرِهم رجوعُهم إلى الإِيمانِ ، إلى أَنْ تقومَ الساعةُ
. وممَّن ذهب إلى زيادتِها أبو عمروٍ مستشهداً عليه بقولِه تعالى : { مَا مَنَعَكَ
أَلاَّ تَسْجُدَ } [ الأعراف : 12 ] يعني في أحدِ القولين . التأويل الثاني : أنها
غيرُ زائدةٍ ، وأنَّ المعنى : أنَّهم غيرُ راجعين عن معصيتهم وكفرِهم . التأويلُ
الثالث : أنَّ الحرامَ يُرادُ به الواجب . ويَدُلُّ عليه قولُه تعالى : { قُلْ
تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ } [
الأنعام : 151 ] وتَرْكُ الشِّرْكِ واجبٌ ، ويَدُلُّ عليه أيضاً قولُ الخنساء :
3359 حرامٌ عليَّ لا أرى الدهرَ باكياً . . . على شَجْوِه إلا بَكَيْتُ على صَخْرِ
وأيضاً فمن الاستعمالِ إطلاقُ أحدٍ الضدين على الآخرِ.
ومِنْ ثَمَّ قال الحسن والسدي : لا يَرْجِعون عن الشرك . وقال قتادة : إلى الدنيا
. التأويل الرابع : قال أبو مسلم ابن بَحْر : « حرامٌ : ممتنع . وأنهم لا يرجعون :
انتفاء الرجوعِ إلى الآخرةِ ، فإذا امتنع الانتفاءُ وَجَبَ الرجوعُ . فالمعنى :
أنه يجبُ رجوعُهم إلى الحياة في الدار الآخرة . ويكون الغرضُ إبطالَ قولِ مَنْ
يُنْكر البعثَ . وتحقيقُ ما تقدَّم من أنه لا كُفْرانَ لسَعْي أحدٍ ، وأنه يُجْزَى
على ذلك يومَ القيامةِ » . وقولُ ابن عطية قريبٌ من هذا قال : « وممتنعٌ على
الكفرةَ المُهْلَكين أنهم لا يَرْجعون إلى عذاب الله وأليم عِقابِه ، فتكون » لا «
على بابِها ، والحرامُ على بابه ».
الوجه الثاني : أنَّ الخبرَ منحذوفٌ تقديرُه : حرامٌ توبتُهم أو رجاءُ بعثهم ،
ويكونُ « أنَّهم لا يَرْجعون » علةً لما تقدَّم من معنى الجملة ، ولكن لك حينئذ في
« لا » احتمالان ، الاحتمال الأول : أَنْ تكونَ زائدةً . ولذلك قال أبو البقاء في
هذا الوجهِ بعدَ تقديرِه الخبرَ المتقدم : « إذا جَعَلْتَ لا زائدةً » قلت :
والمعنى عنده : لأنهم يَرْجعون إلى الآخرة وجزائها . الاحتمال الثاني : أن تكونَ
غيرَ زائدةٍ بمعنى : ممتنعٌ توبتُهم أو رجاءُ بعثِهم؛ لأنهم لا يَرْجعون إلى
الدنيا فَيَسْتدركوا فيها ما فاتهم من ذلك.
الوجهُ الثالث : أَنْ يكونَ هذا المبتدأ لا خبرَ له لفظاً ولا تقديراً ، وإنما
رَفَع شيئاً يقوم مقامَ خبرِه من باب « أقائم أخواك » . قال أبو البقاء : «
والجيدُ أن يكونَ » أنهم « فاعلاً سَدَّ مَسَدَّ الخبر » ، قلت : وفي هذا نظرٌ؛
لأن ذلك يًُشْترطُ فيه أن يَعتمد الوصفُ على نفيٍ أو استفهامٍ ، وهنا فلم يعتمِدْ
المبتدأُ على شيءٍ من ذلك ، اللهم إلاَّ أَنْ ينحوَ نَحْوَ الأخفشِ ، فإنه لا
يَشترطُ ذلك . وقد قررتُ هذه المسألةَ في غيرِ هذا الموضوع ، والذي يظهر قولُ
الأخفش ، وحينئذ يكون في « لا » الوجهان المتقدمان من الزيادة وعدمِها ، باختلاف
معنيين : أي امتنع رجوعُهم إلى الدنيا أو عن شركِهم إذا قَدَّرْتَها زائدةٌ ، أو
امتنع عدمُ رجوعِهم إلى عقابِ اللهِ في الآخرة إذا قَدَّرْتها غيرَ زائدة.
الوجه الثاني : من وجهَيْ رفعِ « حرام » أنه خبرُ مبتدأ محذوف ، فقدَّره بعضهم :
الإِقالةُ والتوبةُ حرامٌ . وقَدَّره أبو البقاء : « أي ذلك الذي ذُكِرَ من العملِ
الصالحِ حرامٌ » . وقال الزمخشري : « وحرامٌ على قريةٍ أهلكناها ذَاك ، وهو
المذكورُ في الآية المتقدمةِ من العملِ الصالح والسَّعيِ المشكورِ غير المكفورِ .
ثم عَلَّل فقيل : إنهم لا يرجعون عن الكفر فكيف لا يمتنع ذلك؟
وقرأ العامَّةُ » أَهْلكناها « بنونِ العظمة . وقرأ أبو عبد الرحمن وقتادةُ »
أهلكتُها « بتاءِ المتكلم . ومَن قرأ » حَرِمٌ « بفتح الحاءِ وكسرِ الراء وتنوينِ
الميم ، فهو في قراءتِه صفةٌ على فَعلِ نحو : حَذِر . وقال :
3360 وإن أتاه خليلٌ يومَ مسألةٍ . . . يقولُ لا غائبٌ مالي ولا حَرِمُ
ومَنْ قرأه فعلاً ماضياً فهو في قراءتِه مسندٌ ل » أنَّ « وما في حَيِّزها . ولا
يَخْفى الكلامُ في » لا « بالنسبة إلى الزيادةِ وعدمِها ، فإنَّ المعنى واضحٌ مما
تقدَّم وقُرِىء » إنَّهم « بالكسرِ على الاستئناف ، وحينئذٍ فلا بد من تقديرِ
مبتدأ يَتِمُّ به الكلام ، تقديرُه : ذلك العملُ الصالحُ حرامٌ . وتقدَّم تحريرُ
ذلك. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(2) التصويب من تفسير البغوي.
(3/405)
قوله
: (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ
لَهَا وَارِدُونَ
(98)
قرئت على ثلاثهَ أوجه ، حَصَبُ " جهَنمَ ، وحطب جهَنَّمَ ، وحَضَبُ جَهَنمَ
- بالضاد معجمة - . فمن قرأ حصَبُ فمعناها كل ما يرمى به في جهنم ومن
قال حطب فمعناه ما توقد به جهنم - كما قال عزَّ وجلَّ : (وَقُودُهَا النَّاسُ
والحِجَارَةُ) ، ومن قال . حَضب - بالضادِ معجمة - فمعناه ما تهيجُ به النارُ
وتُذْكى به ، والحَضْبُ الحيَّةُ (1).
* * *
وقوله : (يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا
بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104)
وللكتاب ، ويقرأ السِّجْل بتخفيف اللام ، فمن خَففَ أسْكَنَ الجيم.
وجاء في التفسير أن السِّجِل الصحِيفةُ التي فيها الكتابُ.
وقيل إن السِّجِلً مَلَك وقيل إن السِّجل بِلُغَةُ الجيْشِ الرجُل.
وعن أبي الجوزاء أن السِّجِل كاتب كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - وتَمَامُ
الكلام (للكُتُب).
وقوله : (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ).
مستأنف ، المعنى نبعث الخلق كما بدأناهم ، أي قدرتنا على الإعادة
كَقدرتنا على الابتداء ، ويجوز " يوم تُطوى السَّمَاءُ كطي السجِل "
ويجوز يوم يَطْوِي السمَاءَ كطيِّ السُّجِل ، ولم يقرأ (يَطْوِي).
وقرئت نَطْوِي وتُطْوَى بالنون والتاء (2).
وقوله : (وَعْدًا عَلَيْنَا).
(وَعْدًا) منصوب على المصَدْرِ ، لأن قوله (نُعِيدُهُ) بمعنى وَعَدْنَا هَذَا
وَعْدًا
__________
(1) قال السَّمين :
وقرأ العامَّةُ « حَصَبُ » بالمهملتين والصادُ مفتوحةٌ ، وهو ما يُحْصَبُ أي :
يرمى في النارِ ، ولا يقالُ له حَصَب إلاَّ وهو في النارِ . فأمَّا [ ما ] قبل ذلك
فَحَطَبٌ وشجرٌ وغير ذلك وقيل : هي لغةٌ حبشية . وقيل : يُقال له حَصَبٌ قبل
الإِلقاء في النار . وقرأ ابن السَّميفع وابن أبي عبلة ورُويت عن ابنِ كثير بسكونِ
الصادِ وهو مصدرٌ ، فيجوز أن يكونَ واقعاً موقع المفعول ، أو على المبالغةِ أو على
حَذْفِ مضافٍ . وقرأ ابن عباس بالضاد معجمةً مفتوحة أو ساكنةً ، وهو أيضاً ما
يُرمَى به في النار ، ومنه المِحْضَبُ : عُوْدٌ تُحَرَّك به النارُ لِتُوقَدَ .
وأًنْشِدَ :
3364 فلا تَكُ في حَرْبِنا مِحْضَباً . . . فتجعلَ قومَك شَتَّى شُعوبا
وقرأ أميرُ المؤمنين وأُبَيٌّ وعائشة وابن الزبير « حَطَبُ » بالطاء ، ولا أظنُّها
إلاَّ تفسيراً لا تلاوةً . اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(2) قال السَّمين :
قوله : { يَوْمَ نَطْوِي } : فيه أوجهٌ ، أحدها : أنه منصوبٌ ب « لا يَحْزُنُهم »
. والثاني : أنه منصوبٌ ب « تتلقَّاهم » . الثالث أنه منصوبٌ بإضمار اذكر أو أعني
. الرابع : أنه بدلٌ من العائدِ المقدرِ تقديرُه : تُوْعَدُونه/ يومَ نَطْوي ف «
يومَ » بدل من الهاء . ذكره أبو البقاء . وفيه نظرٌ؛ إذ يَلْزَمُ مِنْ ذلك خُلُوُّ
الجملةِ الموصولِ بها من عائدٍ على الموصول ، ولذلك مَنَعُوا « جاء الذي مررتُ به
أبي عبد الله » على أن يكونَ « أبي عبد الله » بدلاً من الهاء لِما ذكرْتُ ، وإن
كان في المسألة خلاف . الخامس : أنه منصوبٌ بالفزع ، قاله الزمخشري ، وفيه نظر؛ من
حيث إنه أَعْمَلَ المصدرَ الموصوفَ قبل أَخْذِه معمولَه.
وقد تقدَّم أنَّ نافعاً يقرأ « يُحْزِنُ » بضم الياء إلاَّ هنا ، وأن شيخَه ابن َ
القَعْقاع يَقْرأ « يَحْزُن » بالفتح إلاَّ هنا.
وقرأ العامَّة « نَطْوي » بنون العظمة وشيبة بن نصاح في آخرين « يطوي » بياء
الغَيْبة ، والفاعلُ هو الله تعالى ، وقرأ أبو جعفر في آخرين « تطوى » بضمِّ
التاءِ مِنْ فوقُ وفتحِ الواوِ مبنياً للمفعول.
وقرأ العامَّةُ « السِّجِلِّ » بكسر السينِ والجيمِ وتشديدِ اللامِ كالطِّمِرِّ .
وقرأ أبو هريرة وصاحبُه أبو زرعةَ بن عمرو بن جرير بضمِّهما ، واللامُ مشددةٌ
أيضاً بزنةِ « عُتُلّ » . ونقل أبو البقاء تخفيفَها في هذه القراءةِ أيضاً ،
فتكونَ بزنةِ عُنُق ، وأبو السَّمَّال وطلحة والأعمش بفتح السين . والحسن وعيسى بن
عمر [ بكسرِها ] . والجيمُ في هاتين القراءتين ساكنةٌ واللامُ مخففةٌ ، قال أبو عمرو
: « قراءةُ أهلِ مكةً مثل قراءةِ الحسن ».
والسِّجِلُّ : الصحيفةُ مطلقاً . وقيل : بل هو مخصوصٌ بصحيفةِ العهد ، وهي من
المساجلةِ ، والسَجْل : الدَلْوُ الملأى . وقال بعضهم : هو فارسيٌّ معرَّب فلا
اشتقاقَ له.
و « طَيّ » مصدرٌ مضافٌ للمفعولِ . والفاعلُ محذوفٌ تقديرُه : كما يطوي الرجلُ
الصحيفةَ ليكتبَ فيها ، أَو لما يكتُبه فيها من المعاني ، والفاعلُ يُحْذف مع
المصدرِ باطِّراد . والكلامُ في الكاف معروفٌ أعني كونَها نعتاً لمصدرٍ مقدرٍ أو
حالاً مِنْ ضميرِه . وأصلُ طيّ : طَوْيٌ فأُعِلَّ كنظائره.
وقيل : السِّجِلُّ سامُ مَلَكٍ يَطْوي كتبَ أعمالِ بني آدم . وقيل : اسمُ رجلٍ كان
يكتب لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم . وعلى هذين القولين يكون المصدرُ مضافاً
لفاعله . و « الكتاب » اسمٌ للصحيفةِ المكتوبِ فيها . وقال أبو إسحاق : «
السِّجِلُّ : الرجلُ بلسان الحبشة » . وقال الزمخشري : كما يطوى الطُّومارُ
للكتابة ، أي : ليُكتبَ فيه ، أو لما يُكتب فيه؛ لأن الكتابَ أصلُه المصدرُ
كالبناء ثم يوقع على المكتوب « . فقدَّره الزمخشريُّ من الفعلِ المبنيِّ للمفعول.
وقد عَرَفْتَ ما فيه من الخلاف.
واللام في « للكتاب » : إمَّا مزيدةٌ في المفعولِ إنْ قلنا إنَّ المصدرَ مضافٌ
لفاعلِه ، وإمَّا متعلقةٌ بطَيّ ، وإمَّا بمعنى « على » . وهذا ينبغي أَنْ لا
يجوزَ لبُعْدِ معناه على كل قولٍ . والقراءاتُ المذكورةُ في « السِّجِلْ » كلُّها
لغات . وقرأ الأخَوان وحفص « للكتب » جمعاً ، والباقون « للكتاب » مفرداً ،
والرسُم يحتملهما : فالإِفرادُ يُراد به الجنسُ ، والجمعُ للدلالةِ على الاختلافِ.
قوله : { كَمَا بَدَأْنَآ } في متعلِّقِ هذه الكافِ وجهان ، أحدُهما : أنَّها
متعلقةٌ ب « نُعِيده » ، و « ما » مصدريةٌ و « بدأنا » صلتُها ، فهي وما في
حَيِّزِها في محلِّ جر بالكاف . و « أولَ خَلْقٍِ » مفعولُ « بَدَأْنا » ، والمعنى
: نُعيد أولَ خَلْقٍ إعادةً مثلَ بَداءَتِنا له أي : كما أبْرَزْناه من العَدَمِ
إلى الوجودِ نُعيده من العَدَمِ إلى الوجود . وإلى هذا نحا أبو البقاء فإنه قال :
« الكافُ نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ أي : نُعيده عَوْداً مثلَ بَدْئه » وفي قولِه : «
عَوْد » نظرٌ إذ الأحسنُ أَنْ يقولَ : إعادة.
والثاني : أنها تتعلَّقُ بفعلٍ مضمرٍ . قال الزمخشري : « ووجهٌ آخرُ : وهو أَنْ
تَنْتَصِبَ الكافُ بفعلٍ مضمرٍ يفسِّره » نُعيده « و » ما « موصولةٌ أي : نُعيد
مثلَ الذي بَدَأْنا نُعيده ، و » أولَ خَلْقٍ « ظرف ل » بَدَأْناه « أي : أولَ ما
خلق ، أو حالٌ من ضميرِ الموصولِ السَّاقط من اللفظِ الثابتِ في المعنى ».
قال الشيخ : « وفي تقديرِه تهيئةُ » بَدَأْنا « لأَنْ يَنْصِبَ » أولَ خَلْقٍ «
على المفعوليةِ وقَطْعُه عنه ، من غيرِ ضرورةٍ تدعو إلى ذلك ، وارتكابُ إضمارٍ
بعيدٍ مُفَسَّراً ب » نُعِيْدُه « ، وهذه عُجْمَةٌ في كتاب الله . وأمَّا قولُه »
ووجهٌ آخرُ : وهو أن تنتصبَ الكافُ بفعلٍ مضمرٍ يفسِّرُه « نُعِيْدُه » فهو ضعيفٌ
جداً؛ لأنه مبنيٌّ على أن الكافَ اسمٌ لا حرفٌ ، وليس مذهبَ الجمهور ، وإنما ذهب
إلى ذلك الأخفشُ . وكونُها اسماً عند البصريين مخصوصٌ بالشعرِ « . قلت : كلُّ ما
قَدَّره فهو جارٍ على القواعدِ المنضبطةِ ، وقادَه إلى ذلك المعنى الصحيحُ ، فلا
مُؤَاخَذَةَ عليه . يظهرُ ذلك بالتأمُّلِ لغيرِ الفَطِنِ.
وأمَّا قوله : » ما « ففيها ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها : أنها مصدريةٌ . والثاني :
أنَّها بمعنى الذي . وقد تقدَّم تقريرُ هذين والثالث : أنها كافةٌ للكافِ عن
العملِ كما هي في قولِه :
3366 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . كما الناسُ
مَجْرُوْمٌ عليه وجارِمُ
فيمَنْ رفع » الناس « . قال الزمخشري : » أولَ خَلْقٍ « مفعولُ » نُعيد « الذي
يُفَسِّره » نُعِيده « ، والكافُ مكفوفةٌ ب » ما « . والمعنى : نُعيد أولَ
الخَلْقِ كما بَدَأْناه تَشْبيهاً للإِعادةِ بالابتداء في تناوُلِ/ القُدْرَةِ
لهما على السَّواء.
فإنْ قلتَ : فما أولُ الخَلْقِ حتى يُعيدَه كما بدأه؟ قلت : أوَّلُه إيجادُه عن
العَدَمِ ، فكما أوجدَه أولاً عن عدمٍ يُعيده ثانياً عن عدمٍ «.
وأمَّا » أولَ خلق « فتَحصَّل فيه أربعةُ أوجهٍ ، أحدها : أنه مفعولُ » بَدَأْنا «
. والثاني : أنه ظرفٌ ل » بَدَأْنا « . والثالث : أنه منصوبٌ على الحال مِنْ ضميرِ
الموصولِ كما تقدَّم تقريرُ كل ذلك . والرابع : أنه حالٌ مِنْ مفعول » نُعيده «
قاله أبو البقاء ، والمعنى : مثلَ أولِ خَلْقِه.
وأمَّا تنكيرُ » خَلْقِ « فللدلالةِ على التفصيلِ . قاله الزمخشري : » فإن قلتَ «
ما بالُ » خَلْقٍ « منكَّراً؟ قلت : هو كقولِك : » هو أولُ رجلٍ جاءني « تريد :
أول الرجال . ولكنك وَحَّدْتَه ونَكَّرتَه إرادةَ تفصيلِهم رجلاً رجلاً ، وكذلك
معنى » أولَ خَلْقٍ « بمعنى : أول الخلائق؛ لأنَّ الخَلْقَ مصدرٌ لا يُجْمَعُ ».
قوله : { وَعْداً } منصوبٌ على المصدرِ المؤكِّد لمضمونِ الجملة المتقدِّمة ، فناصبُه
مضمرٌ أي : وَعَدْنا ذلك وَعْداً. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(3/406)
وقوله
: (إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ).
أي قادرين على فِعْل ما تشاءُ.
* * *
وقوله : (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ
الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105)
الزَّبُور : جميع الكتب ، التوراة ، والإنجيل ، والفرقان ، زبور ، لأن الزَّبُورَ
والكتاب بمعنىً واحدٍ . ويقال زَبَرْتُ وكتبتُ بمعنىً واحدٍ ، والمعنى : ولقد
كتبنا في الكتُبِ من بَعْدِ ذِكْرِنَا في السماء (الأرْضَ يرثها عبادِيَ
الصالِحُونَ).
قيل في التفسير إنها أرْضُ الجنة ، ودَليلُ هذا القول قوله :
(أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ).
وقيل إن الأرض ههنا يعنى بها أرض الدنيا ، وهَذَا القَوْلُ أشْبَهُ -
كما قال اللَّه عزَّ وجلَّ : (يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي
الْأَرْضِ) والأرْضُ إذَا ذُكِرَتْ فهي دليلة على الأرض التي نعرفها ، ودليل هذا
القول أيضاً : قوله : (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ
مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا).
وهذه الآية من أجل شواهد الفقهاء أن الأرض ليس مجراها مجرى سائرِ
مَا يُعْمَرُ.
* * *
وقوله : (قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ
أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ
(108)
الأجود (أَنَّمَا إِلَهُكُمْ) بفتح أنَّ ، وهي القراءة ، ولو قرئت إنما لجاز ، لأن
معنى
(3/407)
(يُوحَى
إِلَيَّ) يُقالُ لي " ولكن القراءة الفتح لا غير.
* * *
وقوله : (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي
أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109)
(آذَنْتُكُمْ) أعْلَمْتكُم بما يوحى إليَّ لِتَسْتَوُوا في الإِيمان به.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى
حِينٍ (111)
أي وما أدري ما آذنتكم به فتنة لكم أي اختبارٌ لَكُمْ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ
الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112)
(قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ).
ويقرأ : (قَلْ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ).
ويجوز وقد قرئ به : قال رَبِّي أَحْكَمُ بالحقِّ ، وكان من مضى من الرُّسل يقولون
: (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ).
ومعناه احكم ، فأمر اللَّه - عزَّ وجلَّ - نَبِيه أن يقول : (رَبِّ احكُمْ
بالحَقِّ) (1).
وقوله : (وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ).
أَيْ عَلى مَا تَكْذِبُون.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { قَالَ } : قرأ حفص « قال » خبراً عن الرسولِ عليه السلام . الباقون « قل
» على الأمر . وقرأ العامَّةُ « رَبِّ » بكسرِ الباءِ اجتزاءً بالكسرةِ عن ياءِ
الإِضافةِ ، وهي الفصحى . وقرأ أبو جعفر بضمِّ الباءِ ، فقال صاحبُ « اللوامح » :
« إنه منادى مفردٌ ثم قال : » وحَذْفُ حَرْفِ النداء فيما جاز أن يكونَ وصفاً ل «
أَيّ » بعيدٌ ، بابُه الشعرُ « . قلت : ليس هذا من المنادى المفردِ ، بل نَصَّ
بعضُهم على أنَّ هذه بعضُ اللغاتِ الجائزةِ في المضافِ إلى ياء المتكلم حالَ
ندائه.
وقرأ العامَّةُ » احْكُمْ « على صورةِ الأمر . وقرأ ابن عباس وعكرمة وابن يعمر »
رَبِّيْ « بسكونِ الياء » أَحْكَمُ « أفعلُ تفضيلٍ فهما مبتدأ وخبر.
وقُرِىء » أَحْكَمَ « بفتح الميم كألزَمَ ، على أنَّه فعلٌ ماضٍ في محلِّ خبرٍ
أيضاً ل » ربِّي « وقرأ العامَّةُ » تَصِفُوْن « بالخطاب . وقرأ رسولُ الله صلَّى
الله عليه وسلَّم على أُبَي رضي الله عنه » يَصِفُون « بالياء مِنْ تحت ، وهي
مَرْوِيَّةٌ أيضاً عن عاصم وابن عامر . والغيبة والخطاب واضحان. اهـ (الدُّرُّ
المصُون).
(3/408)
سورة
الحج
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ
شَيْءٌ عَظِيمٌ (1)
(يَا أَيُّهَا) نداء مبهم مفرد ، وها للتنبيه ، وهو مبْنى على الضم ، والناس رفع
تبع لـ (يا أيها) ، والنحويون لا يجيزون إلا رفع الناس ههنا.
والمازني أجاز النَصْبَ في يا أيها الرجُلَ أقْبلْ ، كما تقول يا زيدُ الظريفَ
والظريفُ ، وهذا غلط من المازني ، لأن زيداً يجوز الوقف والاقتصار عليه دون الظريف
ويا أيها ليس بكلام ، وإنما القصد الناسُ ، فكأنَّه بمنزلة - يا ناس اتقوا ربكم.
وجاء في التفسير أن كل شيء جاء في كتاب اللَّه من (يا أيها الناس)
فمكي ، وما كان فيه من (يا أيها الذين آمنوا) فمدني.
* * *
وقوله : (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ).
قيل إِن هذه الزلزلة في الدنيا وأن يكون بعدها طلوع الشمس من مغربها
وقيل إنها الزلزلة التي تكون مع الساعة.
* * *
(يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ
ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى
وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)
ويجوز (تُذْهِل كُلَّ مُرْضِعَةٍ) ، ومعنى تُذْهِلُ تحَيّرُ ، وتترك كل مرضعة قد
ذَهَلَتْ عَمّا أرْضَعَتْ.
و (مُرْضِعَةٍ) جار على المُفْعِل على ما أرضعت ، ويقال :
(3/409)
امرأة
مُرْضِع أي ذات رضاع أرضعت وَلَدَهَا أوْ أرْضعت غيرَهُ والقصْد قصد مُلْبِن أي
ذات لَبُون وَلَبَنٍ.
وقوله : (وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى).
وقرئت : (وَتَرَى النَّاسَ سَكْرَى) واسم الفاعل مضمر في ترى.
المعنى ترى أنت أيها الِإنسان الناسَ ، ومن قرأ : (وَتَرَى النَّاسَ سَكْرَى) كان
بمنزلة وترى أنت الناس سَكرى.
وفيه وجه آخرُ مَا قُرِئ بِهِ وهو (وُيرَى الناسُ سَكْرَى)
فيكون الناس اسم يُرَى ، ووجه آخر لم يقرأ به : (ويرَى النَّاسَ سَكرى).
المعنى ويرَى الِإنسانُ الناس سَكرى.
ويقرأ وتَرَى الناسَ سَكْرَى وما هم بسَكرى ، وترى الناسَ سُكارى وما هم
بسكارى.
ويجوز وترى الناس سَكارَى ومال هم بسَكارَى.
والقراءة الكثيرة : (وترى الناسَ سَكْرَى وما هُمْ بسُكْرى).
(وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى) أيضاً.
والتفسير أنك تراهم سكارى من العذاب والخوف ، وما هم بسكارى من
الشَرابِ ويدل عليه : (وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ) (1).
* * *
وقوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ
كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3)
أي يتبع ما يُسَوِل له الشيطان ، ومرِيد وَمَارِد معناه أنه قد مَرَدَ في الشرِّ.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { يَوْمَ } : فيه أوجهٌ ، أحدُها : أَنْ يَنْتَصِبَ ب « تَذْهَلُ » ولم
يذكُرِ الزمخشريُّ غيره . الثاني : أنه منصوبٌ ب « عظيم » . الثالث : أنه منصوبٌ
بإضمار اذكر . الرابع : أنه بدلٌ من الساعة . وإنما فُتح لأنه مبنيٌّ لإِضافتِه
إلى الفعلِ . وهذا إنما يتمشى على قولِ الأخفش ، وقد تَقَدَّم تحقيقُه آخرَ
المائدة . الخامس : أنه بدلٌ من « زلزلة » بدلُ اشتمالٍ؛ لأنَّ كلاً من الحدثِ
والزمانِ يَصْدُقُ أنه مشتملٌ على الآخر ، ولا يجوزُ أَنْ ينتصِبَ ب « زلزلة »
لِمَا يَلْزَمُ من الفصلِ بين المصدرِ ومعمولِه بالخبر.
قوله : { تَرَوْنَهَا } في هذا الضميرِ قولان ، أظهرهما : أنه ضميرُ الزلزلةِ
لأَنها المحدَّثُ عنها ، ويؤيِّدُه أيضاً قولُه { تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ } .
والثاني : أنه ضميرُ الساعةِ . فعلى الأولِ يكونُ الذُّهولُ والوَضْعُ حقيقةً لأنه
في الدنيا ، وعلى الثاني يكونُ على سبيلِ التعظيم والتهويل ، وأنها بهذه الحيثيةِ
، إذ المرادُ بالساعةِ القيامةُ ، وهو كقولِه : { يَوْماً يَجْعَلُ الولدان شِيباً
} [ المزمل : 17 ].
قوله : { تَذْهَلُ } في محلِّ نصب على الحال من « ها » في « تَرَوْنَها » فإنَّ
الرؤيَةَ هنا بَصَريةٌ ، وهذا إنما يَجِيْءُ على غيرِ الوجهِ الأولِ . وأمَّا
الوجهُ الأولُ وهو أنَّ « تَذْهَلُ » ناصِبٌ ل « يومَ تَرَوْنَها » فلا محلَّ
للجملةِ من الإِعرابِ لأنها مستأنفةٌ ، أو يكونُ محلُّها النصبَ على الحال من
الزلزلة ، أو من الضمير في « عظيم » ، وإنْ كان مذكراً ، لأنَّه هو الزَّلْزَلَةُ
في المعنى ، أو من الساعة ، وإن كانت مضافاً إليها ، لأنها : إمَّا فاعلٌ أو
مفعولٌ كما تقدَّم . وإذا جَعَلْناها حالاً فلا بُدَّ من ضميرٍ محذوفٍ تقديرُه :
تَذْهَلُ فيها.
وقرأ العامة « تَذْهَلُ » بفتح التاءِ والهاءِ ، مِنْ ذَهِل عن كذا يَذْهَلُ .
وقرأ ابن أبي عبلة واليماني بضم التاء وكسرِ الهاءِ ونصبِ « كل » على المفعولية ،
مِنْ أَذْهَلَه عن كذا يُذْهِله عَدَّاه بالهمزةِ ، والذُّهولُ : الاشتغالُ عن
الشيءِ . وقيل : إذا كان مع دَهْشَة . وقيل : إذا كان ذلك لطَرَآنِ شاغِلٍ مِنْ هَمٍّ
ومَرَضٍ ونحوِهما . وذُهْل بنُ شَيْبان أصلُه من هذا.
والمُرْضِعَةُ : مَنْ تَلَبَّسَتْ بالفعل ، والمُرْضِعُ : مَنْ شَأْنُها أَنْ
تُرْضِعَ كحائض ، فإذا أريد التلبُّسُ قيل : حائِضة.
قال الزمخشري : « فإن قلتَ : لِمَ قيل مُرْضِعَة دون مُرْضع؟ قلت : المُرْضِعَةُ
التي هي في حال الإِرضاعِ ملقمةٌ ثديَها الصبيَّ ، والمرضعُ التي مِنْ شأنِها أَنْ
تُرْضِعَ وإن لم تباشِرْ الإِرضاعَ في حالِ وَصْفِها به » والمعنى : إنَّ مِنْ
شِدَّة الهَوْلِ تَذْهَلُ هذه عن ولدِها فكيف بغيرِها؟ وقال بعضُ الكوفيين :
المُرْضِعَةُ تقال للأمِّ ، والمُرْضِعُ تقال للمستأجَرَةِ غيرِ الأمِّ ، وهذا
مردودٌ بقولِ الشاعر :
3369 كمُرْضِعَةٍ أولادَ أخرى وضَيَّعَتْ . . . بني بطنِها هذا الضلالُ عن القصدِ
فأَطْلَقَ المُرْضِعَةَ بالتاء على غير الأمِّ.
وقولُ العرب مُرْضِعَة يَرُدُّ أيضاً قولَ الكوفيين : إنَّ الصفاتِ المختصةَ
بالمؤنثِ لا يلحقها تاءُ التأنيثِ نحو : حائِض وطالق . فالذي يُقال : إنْ قُصِد
النَّسَبُ فالأمرُ على ما ذَكَروا ، وإنْ قُصِد الدلالةُ على التلبُّسِ بالفعلِ
وَجَبَتِ التاءُ فيقال : حائضة وطالقة وطامِثة.
قوله : { عَمَّآ أَرْضَعَتْ } يجوزُ في « ما » أَنْ تكونَ مصدريةً أي : عن
إرْضاعِها . ولا حاجةَ إلى تقديرِ حَذْفٍ على هذا . ويجوزُ أَنْ تكونَ بمعنى الذي
فلا بُدَّ من حَذْفِ عائدٍ أي : أَرْضَعَتْه . ويُقَوِّيه تعدِّي « تَضَعُ » إلى
مفعولٍ دونَ مصدرٍ . والحَمْلُ بالفتحِ : ما كان في بَطْنٍ أو على رأسِ شجرة ،
وبالكسرِ ما كان على ظَهْرٍ.
قوله : { وَتَرَى الناس سكارى } العامَّةُ على فتحِ التاءِ من « ترى » على خطابِ
الواحد . وقرأ زيدُ بن علي بضمِّ التاءِ وكسرِ الراءِ ، على أنَّ الفاعلَ ضميرُ
الزلزلةِ أو الساعةِ . وعلى هذه القراءةِ فلا بُدَّ من مفعولٍ أولَ محذوفٍ
ليَتِمَّ المعنى به أي : وتُرِي الزلزلةُ أو الساعةُ الخَلْقَ الناسَ سكارى .
ويؤيِّد هذا قراءةُ أبي هريرة وأبي زرعة وأبي نهيك « ترى الناس سكارى » . بضمِّ
التاء وفتح الراء على ما لم يُسَمَّ فاعله ، ونصب « الناسَ » ، بَنَوْه من
المتعدِّي لثلاثةٍ : فالأولُ قام مَقامَ الفاعلِ ، وهو ضميرُ الخطابِ ، و « الناسَ
سُكارى » هما الأولُ والثاني . ويجوز أن يكونَ متعدِّياً لاثنين فقط على معنى :
وتُرِي الزلزلةُ أو الساعةُ/ [ الناسَ ] قوماً سكارى . فالناسَ هو الأول و « سكارى
» هو الثاني.
وقرأ الزعفرانيُّ وعباسٌ في اختياره « وترى » كقراءة أبي هريرة إلاَّ أنهما رفعاً
« الناسُ » على أنه مفعول لم يُسَمَّ فاعلُه . والتأنيثُ في الفعلِ على تأويلِهم
بالجماعة.
وقرأ الأخَوان « سكرى » « وما هم بسكرى » على وزنِ وَصْفِ المؤنثةِ بذلك .
واخْتُلف في ذلك : هل هو صيغةٌ جمعٍ على فَعْلَى كمَرْضى وقَتْلى ، أو صفةٌ مفردةٌ
اسْتُغني بها في وصفِ الجماعة؟ خلافٌ مشهورٌ تقدَّمَ الكلامُ عليه في قوله : «
أسرى » . وظاهرُ كلامِ سيبويه أنه جمعُ تكسيرٍ فإنه قال : « وقومٌ يقولون : سكرى ،
جَعَلوه مثلَ مرضى لأنهما شيئان يَدْخلان على الإِنسان ، ثم جَعَلوا » روبى « مثلَ
سكرى وهم المُسْتَثْقلون نَوْماً من شربِ الرائب . وقال الفارسي : » ويَصِحُّ أن
يكونَ جمعَ « سَكِر » كزَمِن وزمنى . وقد حُكي « رجلٌ سَكِر » بمعنى سَكْران
فيجيءُ سكرى حينئذٍ لتأنيث الجمع « . قلت : ومِنْ ورودِ » سَكِر « بمعنى سَكْران
قولُه :
3370 وقد جَعَلْتُ إذا ما قُمْتُ يُثْقِلُني . . . ثَوْبي فأنهضُ نَهْضَ الشاربِ
السَّّكِرِ
وكنتُ أَمْشي على رِجْلين مُعْتَدِلاً . . . فصِرْتُ أَمْشِي على أخرى من الشَّجر
ويُروى البيتُ الأول » الشارِبِ الثَّمِلِ « ، والأولُ أَصَحُّ لدلالةِ البيت
الثاني عليه.
وقرأ الباقون » سكارى « بضمِّ السين.
وقد تَقَدَّم لنا في البقرة خلافٌ : هل هذه الصيغةُ جمعُ تكسيرٍ أو اسمُ جمع؟
وقرأ أبو هريرةَ وأبو نهيك وعيسى بفتح السين فيهما ، وهو جمع تكسير ، واحدُه
سَكْران . قال أبو حاتم : « وهي لغةُ تميم ».
وقرأ الحسنُ والأعرج وأبو زرعة والأعمش « سكرى » « بسكرى » بضمِّ السين فيهما .
فقال ابن جني : « هي اسمٌ مفردٌ كالبُشْرَى . بهذا أفتاني أبو علي » . وقال أبو
الفضل : « فُعْلَى بضمِّ الفاءِ مِنْ صفةِ الواحدةِ من الإِناثِ ، لكنها لَمَّا
جُعِلَتْ من صفاتِ الناس وهم جماعة ، أُجْرِيَتْ الجماعة بمنزلة المؤنثِ الموحَّدِ
» . وقال الزمخشري : « هو غريبٌ » . قلت : ولا غرابةَ؛ فإنَّ فعلى بضم الفاء كَثُر
مجيئُها في أوصافِ المؤنثة نحو الربى والحبلى وجَوَّز أبو البقاء فيه أن يكونَ
محذوفاً مِنْ سكارى . وكان مِنْ حَقِّ هذا القارىء أَنْ يُحَرِّكَ الكافَ بالفتح
إبقاءً لها على ما كانَتْ عليه . وقد رواها بعضُهم كذلك عن الحسن . وقُرِىء « ويرى
الناسُ » بالياء من تحت ورفع « الناسُ ».
وقرأ أبو زرعة في روايةٍ « سَكْرى » بالفتح ، « بسُكْرى » بالضم . وعن ابن جبير
كذلك ، إلاَّ أنه حَذَف الألفَ من الأول دون الثاني.
وإثباتُ السُّكْرِ وعَدَمُه بمعنى الحقيقة والمجاز أي : وترى الناس سكرى على
التشبيه ، وما هم بسَكْرى على التحقيق . قال الزمخشري : « فإنْ قلتَ : لِمَ قيل
أولاً : تَرَوْن ، ثم قيل : » ترى « على الإِفراد؟ قلت : لأنَّ الرؤيةَ أولاً
عُلِّقَتْ بالزلزلة ، فَجُعِل الناسُ جميعاً رائِيْنَ لها ، وهي معلَّقَةٌ أخيراً
بكونِ الناسِ على حالِ السُّكر ، فلا بُدَّ أن يُجْعَلَ كلُّ واحدٍ منهم رائياً
لسائرِهم ». اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(3/410)
وتأويل
المروَدِ أن يبلغ الغاية التي يخرج بها من جملة ما عليه ذلك الصنفُ.
وجائز أن يُسْتَعْمل ذلك في غير الشيطان ، فتقول قد تمرد هذا السيِّئ أي قد
جاوز حَدَّ مثله ، وأصله في اللغة امْلِسَاسُ الشيء ، من ذلك قولك للِإنسان
أمْرَدَ إذا لم يكن في وَجْهِهِ شَعْر ، ويَقَال للصخرة مرداء إذا كانت ملساء.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ
وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4)
(أَنَّهُ) في موضع رفع.
(فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ) ، عطف عليه ، وموضعه رفع أيضاً ، والفاء الأجود فيها
أن تكون في معنى الجزاء ، وجائز كسر إنَّ مع الفاء ، ويكون جزاء لا غير.
والتأويل : كُتِب عليه أي على الشيطان إضْلَال متَولِّيه وهدايتُهم إلى
عذاب السعير ، وحقيقة " أن " الثانية أنها مكررة مع الأولى على جهة
التوكيد ، لأن المعنى كُتبَ عليه أنه من تولاه أضله.
* * *
وقوله : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا
خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ
مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي
الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ
لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ
إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى
الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ
وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5)
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ)
ويقرأ من البَعَثِ بفتح العين ، والريب الشك ، فأمَّا البَعَثَ بفتحْ العين -
فذكر جميع الكوفيين أن كل ما كان ثانيه حرفاً من حروف الحلق ، وكان
مُسكَناً مفتوح الأول جاز فيه فتح المسَكن نحو نَعْل ونَعَل ، وشَعْر وشَعَر ،
ونَهْر ونَهَر ، ونَخْل ونَخَل.
فأمَّا البصريون فيزعمونَ أن ما جاء من هذا فيه اللغتان
تُكُلِّمَ به على ما جاءَ.
وما كان لم يسمع لم يَجزْ فيه التحريك نحو وَعْد ، لأنك
لا تقول : لك عَلَيَّ وَعَدٌ ، أي عَلَيَّ وِعْدَة ، ولا في هذا الأمْر وَهَن - في
(3/411)
معنى
وَهْن - . وهذا في بابه مثل رَكٍّ ، ورَكَكٍ وقدْرٍ وقدَرٍ ، وَقَصِّ الشَاةِ
وقَصَصِهَا فلا فرق في هذا بين حروف الحلق وغيرها.
وقيل للذين جحدوا البعث وهم المشركون : إن كنتم في شَكِّ من أنَّ
اللَّه يبعث الموتى فتدبروا أمر خلقكم وابتدائكم فإنكم لا تجدون في القدرة
فرقاً بين ابتداء الخلق وإعادته ، وإحياء الموتى.
ثم بين لهم ابتداء خَلْقِهم فَأعْلَمهُم أنهم خُلقوا من تراب ، وهو خلق آدم عليه
السلام ، ثم خُلِقَ ولدُه من نطفة ، ثم من عَلَقَةٍ ثم من مُضْغَةٍ.
وأعلمهم أحوال خلقهم.
ويُروى أن الِإنسانَ يكُونُ في البطن نطفةً أربعين يوماً ثم مُضْغَةً أرْبَعينَ
يوماً ، ثم يبعث اللَّهُ مَلَكاً فينفخ - فيه الروح.
ومعنى (مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ)
وصف الخَلق أو منهم من يُتَمَّمُ مضغته فتخلَقُ له الأعضاءُ التي تكمل آلات
الِإنْسَانِ ومنهم من لا يتمم اللَّه خلقه.
وقوله : (لِنُبَيِّنَ لَكُمْ).
أي ذكرنا أحوال خلق الِإنسان.
ووجه آخر هو خلقناكم هذا الخلق (لِنُبَيِّنَ لَكُمْ).
(وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ).
لا يجوز فيها إلا الرفع ، - ولا يجوز أن يكون معناه فعلْنَا ذلك لنُقِر في
الأرحام ، وَأنَّ اللَّه - عزَّ وجلَّ - لم يخلق الأنام لما يُقَر في الأرحام ،
وإنما
خلقَهُم ليدُلَّهُمْ عَلَى رُشدهم وَصَلَاحِهِمْ.
وقوله - عزَّ وجلَّ - : (ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا).
في معنى أطفال ، ودل عليه ذكر الجماعة.
وكأنَّ طفلاً يَدُل على معنى ويُخْرَجُ كل واحدٍ منكم طفلاً .
(3/412)
(ثُمَّ
لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ).
قد فسرنا الأشدَّ ، وتأويله الكَمالُ في القُوَّةِ والتمييز ، وهو ما بين الثلاثين
إلى الأربعين.
وقوله : (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ).
أرذل العمر هو الذي يخرف فيه الإِنسان من الكِبَر حتَى لا يَعْقِلَ ، وَبيَنَ
ذلك بقوله : (لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ).
ثم دَلَّهُمْ عَلى إحْيائه الموتى بإحيائه الأرض فقال :
(وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً).
يعنى جافةً ذاتَ تُرابِ.
(فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ).
وتقرأ ورَبأتْ.
فاهتزازها تحركُها عند وقُوع المَاءِ بها وإنباتها.
ومَنْ قرأ : (وَرَبَتْ) فهو من ربا يربو إذا زاد على أي الجهات ، وَمَنْ قَرأ
وَرَبَأتْ بالهمز فمعناه ارْتَفَعَتْ.
(وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ).
أي من كل صنف حَسَنٍ من النبات.
* * *
(ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6)
المعنى الأمر ذلك ، أي الأمر ما وُصف لكم وبُيِّنَ لكُمْ (بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ
الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
فالأجْوَدُ أن يكون موضع (ذلك) رفعاً.
ويجوز أن يكون نصباً على معنى فعل اللَّه ذلك بأنه هو الحق وأنه يحي الموتى .
(3/413)
وقوله
: (ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ
وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9)
وليَضِل عن سبيل اللَّه ، و (ثَانِيَ) منصوب على الحال ، ومعناه التنوين.
ومعناه ثانياً عِطفَه ، وجاء في التفسير أن معناه لَاوِياً عُنُقَه ، وهذا يوصف
به.
فالمعنى ومن الناس من يجادل في الله بغير علم مُتَكَبِّراً.
* * *
وقوله : (ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ
لِلْعَبِيدِ (10)
يقال : هذا العذاب بما قدمت يداك ، وموضع (ذلك) رفع بالابتداء.
وخبره (بما قَدَّمَتْ يَدَاكَ) ، وموضع " أن " خفض
المعنى ذلك بما قدمت يداك وبأن الله ليس بظلام للعبيد.
ولو قرئت (إن) بالكسر لجاز.
ويجوز أن يكون موضع (ذلك) رفعاً على خبر الابتداء.
المعنى الأمر (ذلك بما قدمت يداك).
ويكون موضع أن الرفع على معنى (أنَّ اللَّهَ ليس بظلام للعبيد).
* * *
(قوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ
خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ
خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11)
جاء في التفسير على شَكٍّ ، وحقيقتُه أنَّه يعبدُ اللَّه على حَرْفِ الطرِيقَةِ
في الدِّينِ ، لا يدخل فيه دخول متمكن.
(فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ).
أي إن أصابه خِصْث وكَثرَ مَالُه وماشِيَتُه اطْمأنَّ بما أصابه ورضي بدينه.
(وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ).
اختبار بجدْب وقِلَّةِ مَالٍ.
(انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ).
رجع عن دينه إلى الكفر وعبادة الأوثان.
* * *
وقوله : (يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ
ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12)
يعنى يدعو الوثن الذي لا يَسْمَع ولا يُبْصِر ولا ينفعُ ولا يضرُّ .
(3/414)
وقوله
: (يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ
الْعَشِيرُ (13)
فقال : ولا يضره ، وقال ضَره أقربُ من نفعه ، معناه الضَرَرُ بعبادَتِه أقرب
من النفع.
فإن قال قائل : كيف يقال : أقرث من نفعه ولا نفع من قِبَلِهِ ألبتَّةَ ؟
فالعرب تقول لِمَا لَا يكون : هذا بعيد ، والدليل على ذلك قوله تعالى :
(أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3).
وقد اختلف الناس في تفسير هذه اللام ، وفي (يدعو) بأي شْيء هي
معلَّقَة ونحن نفسر جميع ما قالوه وما أغفلوه مما هو بيِّنٌ من جميع ما قالوا إن
شاء اللَّه.
قال البصريون والكوفيون : اللام معناها التأخير ، المعنى يدعو من لضَرِّه
أقربُ من نَفْعِهِ ولم يُشْبِعُوا الشرحَ ، ولا قالوا من أين جاز أن تَكُونَ اللام
فِي
غير مَوْضِعِها.
وشرح ذلك أن اللام لليمين والتوكيد فحقها أن تكون في أول
الكلام فقدمت لِتُجْعَلَ في حقها ، وإن كان أصلُها أنْ تكون في " لَضَرُّهُ
" كما
أن لام " إن " حَقها أن تكون في الابتداء ، فلما لم يجز أنْ تَلِيَ
" إنَّ " جُعِلَت في الخَبر في مثل قولك : إنَّ زيداً لقائمٌ ، ولا
يَجُوزُ " إنَّ لَزَيْداً قائِمٌ " ، فإذا أمكن أن يكون ذلك في الاسم
كان ذلك أجود الكلام ، تقول إن في ذلك لآية ، فهذا قول.
وقالوا أيضاً . أن يَدعُو مَعَها هاء مُضمَرةٌ ، وأن (ذلِك) في موضع رفع
و (يدعو) في موضع الحال.
المعنى ، ذلك هو الضلال البعيد يدْعُوه ، المعنى في
(3/415)
حال
دُعَائِه إيَّاهُ ، ويكون (لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ) مستأنفاً
مرفوعاً بالابتداء
وخبره (لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ).
وفيه وجه آخَرُ ثَالث ، يكون يدعو في معنى يقول ، يكون من في
موضع رفع وخَبرُه محذوف ، ويكون المعنى : يقول لمن ضره أقرب من نفعه
هو مولاي ، ومثله يدعو في معنى يقول في قول عنترة.
يدعون عنتر والرماح كأنَّها . . . أشطان بئر في لبان الأدهم
ويجوز أن يكون " يَدْعو " في معنى " يُسَمِّي "
كما قال ابن أحْمَر :
أَهْوَى لها مِشْقَصاً جَشْراً فشَبْرَقَها . . . وكنتُ أَدْعُو قَذَاها الإثْمِدَ
القَرِدا
ووجه هذا القول الذي قبله.
وفيها وجه رابع وهو الذي أغفله الناس ، أن " ذلك " في موضع نصب
بوقوع يدعو عليه ، ويكون " ذلك " في تأويل الذي ، ويكون المعنى الذي هو
الضلال البعيد يدعو ، ويكون (لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ) مستأنفاً (1)
، وهذا مثل قوله : (وَمَا تِلْكَ بِيَمينِك) على معنى وما التِي بيَمِينِك يَا
مُوسَى.
ومثله قول الشاعر :
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ } : فيه عشرةُ أوجه ،
وذلك أنَّه : إمَّا بجَعْلِ « يَدْعُو » متسلِّطاً على الجملة مِنْ قولِه : {
لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ } أو لا . فإنْ جَعَلْنَاه مُتَسَلِّطاً
عليها كان في سبعةُ أوجه ، أحدها : أنَّ « يَدْعُو » بمعنى يَقُوْل ، واللامُ
للابتداء ، و « مَنْ » موصولةٌ في محلِّ رفعٍ بالابتدء . و « ضَرُّه » مبتدأ ثانٍ
و « أقربُ » خبرُه . وهذه الجملةُ صلةٌ للموصول ، وخبرُ الموصولِ محذوفٌ تقديرُه :
يقول لَلَّذي ضَرُّه أقربُ من نَفْعِه إلهٌ أو إلهي أو نحوُ ذلك . والجملةُ كلُّها
في محلٍّ نصبٍ ب « يَدْعُو » لأنَّه بمعنى يَقُول ، فهي محكيَّةٌ به . وهذا قولُ
أبي الحسنِ . وعلى هذا فيكون قولُه : { لَبِئْسَ المولى } مستأنفاً ليس داخلاً في
المَحْكيِّ قبلَه؛ لأنَّ الكفار لا يقولون في أصنامِهم ذلك . وقد رَدَّ بعضُهم هذا
القولَ بأنه فاسدُ المعنى ، والكافرُ لا يَعتقد في الأصنامِ أنَّ ضَرَّها أقربُ
مِنْ نفعِها ألبتَّةََ.
الثاني : أنَّ « يَدْعُو » مُشَبَّهٌ بأفعالِ القلوب؛ لأنَّ الدعاءَ لا يَصْدُرُ
إلاَّ عن اعتقادٍ ، وأفعال القلوب تُعَلَّق ، ف « يَدْعُو » مُعَلَّقٌ أيضاً
باللام . و « مَنْ » مبتدأٌ موصولٌ . والجملةُ بعده صلةٌ ، وخبرُه محذوفٌ على ما
مَرَّ في الوجهِ قبلَه.
والجملة في محلِّ نصبٍ ، كما تكون كذلك بعد أفعالِ القلوب . الثالث : أَنْ
يُضَمَّن يَدْعُو معنى يزعم ، فيُعَلَّق كما يُعَلَّقُ ، والكلامُ فيه كالكلامِ في
الوجهِ الذي قبله . الرابع : أن الأفعالَ كلَّها يجوزُ أَنْ تُعَلَّق قلبيةً كانت
أو غيرَها فاللامُ معلِّقَةٌ ل « يَدْعوا » ، وهو مذهبُ يونسَ . فالجملةُ بعده
الكلامُ فيها كما تقدَّم.
الخامس : أنَّ « يَدْعُوا » بمعنى يُسَمِّي ، فتكونَ اللامُ مزيدةً في المفعولِ
الأولِ وهو الموصولُ وصلتُه ، ويكون المفعولُ الثاني محذوفاً تقديرُه : يُسَمِّي
الذي ضَرُّه أقربُ مِنْ نفعِه إلهاً ومعبوداً ونحو ذلك . السادس : أنَّ اللامَ
مُزالَةٌ/ مِنْ موضِعها . والأصلُ : يَدْعُو مَنْ لَضَرُّه أقربُ . فقُدِّمَتْ
مِنْ تأخيرٍ . وهذا قولُ الفراء . وقد رَدُّوا هذا بأنَّ ما في صلةِ الموصولِ لا
يتقدَّمُ على الموصولِ . السابع : أنَّ اللامَ زائدةٌ في المفعول به وهو « مَنْ »
. والتقديرُ : يَدْعُو مَنْ ضَرُّه أقرب . ف « مَنْ » موصولٌ ، والجملةُ بعدَها
صلتُها ، والموصولُ هو المفعولُ ب « يَدْعُو » زِيْدتْ فيه اللامُ كزيادتِها في
قولِه { رَدِفَ لَكُم } [ النمل : 72 ] في أحدِ القولين . وقد رُدَّ هذا بأنَّ
زيادةَ اللام إنما تكونُ إذا كان العاملُ فَرْعاً ، أو بتقديم المعمول . وقرأ عبد
الله « يَدْعُو مَنْ ضَرُّه » بعيرِ لامِ ابتداءٍ ، وهي مؤيدةٌ لهذا الوجهِ.
وإنْ لم تجعَلْه متسلِّطاً على الجملةِ بعدَه كان فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أظهرُها :
أنَّ « يَدْعُو » الثاني توكيدٌ ل « يَدْعو » الأولِ فلا معمولَ له ، كأنه قيل :
يَدْعو يَدْعو مِنْ دونِ الله الذي لا يَضُرُّه ولا ينفعه.
وعلى هذا فتكونُ الجملةُ مِنْ قولِه { ذلك هُوَ الضلال } معترضةً بين المؤكَّدِ
والتوكيدِ؛ لأنَّ فيها تَسْديداً وتأكيداً للكلام ، ويكون قولُه { لَمَنْ ضَرُّهُ
} كلاماً مستأنفاً . فتكونُ اللامُ للابتداء و « مَنْ » موصولةٌ ، و « ضَرُّه »
مبتدأ و « أقربُ » خبرُه . والجملةُ صلةٌ ، و « لَبِئْسَ » جوابٌ قسمٍ مقدر . وهذا
القسمُ المقدرُ وجوابُه خبرُ المبتدأ الذي هو الموصول.
الثاني : أن يُجْعَلَ « ذلك » موصولاً بمعنى الذي . و « هو » مبتدأ ، و « الضلالُ
» خبره والجملةُ صلةٌ . وهذا الموصولُ مع صلتِه في محلِّ نصبٍ مفعولاً ب « يَدْعو
» أي : يدعو الذي هو الضلالُ . وهذا منقولٌ عن أبي علي الفارسي ، وليس هذا بماشٍ
على رأي البصريين؛ إذ لا يكونُ عندهم من أسماءِ الإِشارةِ موصولٌ إلاَّ « ذا »
بشروطٍ ذكرْتُها فيما تقدَّم . وأمَّا الكوفيون فيُجيزون في أسماءِ الإِشارة
مطلقاً أن تكونَ موصولةً ، وعلى هذا فيكونُ « لَمَنْ ضَرُّه أَقْرَبُ » مستأنفاً ،
على ما تقدَّم تقريرُه.
والثالث : أن يُجْعَلَ « ذلك » مبتدأ . و « هو » : جوَّزوا فيه أن يكونَ بدلاً أو
فَصْلاً أو مبتدأً ، و « الضلالُ » خبرُ « ذلك » أو خبرُ « هو » على حَسَبِ
الخلافِ في « هو » و « يَدْعُو » حالٌ ، والعائدُ منه محذوفٌ تقديرُه : يَدْعوه ،
وقدَّروا هذا الفعلَ الواقعَ موقعَ الحال ب « مَدْعُوَّاً » قال أبو البقاء : «
وهو ضعيفٌ » ، ولم يُبَيِّنْ وجه ضَعْفِه . وكأنَّ وجهَه أنَّ « يَدْعُو » مبنيٌّ
للفاعلِ فلا يناسِبُ أن تُقَدَّرَ الحالُ الواقعةُ موقعَه اسمَ مفعولٍ ، بل المناسِبُ
أن تُقَدَّرَ اسمَ فاعل ، فكان ينبغي أَنْ يُقَدِّروه : داعياً ولو كان التركيبُ «
يدعى » مبنياً للمفعول لَحَسُن تقديرُهم مَدْعُوَّاً . ألا ترى أنَّك إذا قلتَ : «
جاء زيدٌ يضربُ » كيف تُقَدِّره ب « ضارب » لا ب مَضْروب.
والمخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ ، وتقديرُه : لبِئْسَ المولى ولبئس العشيرُ ذلك
المَدْعُوُّ.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(3/416)
عَدَسْ
ما لعَبَّادٍ عليك إِمارةٌ . . . نَجَوْتِ وهذا تَحْمِلِينَ طَلِيقُ
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ
فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15)
هذه الهاء لمحمد - صلى الله عليه وسلم - أي من كان يظن أن لن ينصر اللَّه مُحمداً
- صلى الله عليه وسلم - حتى يظهره على الدين كله فليمت غيظاً ، وهو تفسير قوله :
(فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ).
السبب الحبل ، والسماء السقف ، أي فليشدُدْ حَبْلاً في سَقْفِهِ.
(ثُمَّ لْيَقْطَعْ).
أي ليمد الحبل حتى ينقطع فيموت مختنقاً.
(هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ).
أي هل يذهبن كيده غيظه.
وقُرِئت ثم لِيَقْطع ، وثم لْيَقْطعْ ، بكسر اللام وجزمها.
* * *
وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ
وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ
بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17)
يَفْصِل اللَّه بين هذه الفرق الخَمْس وبين المؤمنين.
* * *
(هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ
لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19)
(فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ).
والمؤمنون يدخلون الجنة وهو
قوله : (إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ).
وخبر (إِنَّ) الأولى جملة الكلام مع إنَّ الثانيةِ . وقَدْ زعم قوم أن قولك : إنَّ
زَيداً إنه قائم رديء وأنَّ هذه الآية إنما صلحت في الذي.
ولا فرق بين الذي وغيره في باب (إِنَّ).
إن قلت إن زيداً إنه قائم كان جيداً
ومثله قول الشاعر :
(3/417)
إن
الخليفَةَ إِنَّ اللَّه سَربَلَهُ
وليس بين البصريين خلاف في أن " (إِنَّ) تدخل على كل ابتداء وخبر.
تقول إِنَّ زيداً هو قائم وإِنَّ زيداً إِنَّه قائم.
* * *
وقوله : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ
فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ
وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ
وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا
يَشَاءُ
(18)
والسجود ههنا الخضوع للَّهِ عزَّ وجلَّ ، وهىِ طاعة ممن خلق الله من
الحيوان والموات.
والدليل على أنه سجودُ طَاعَةٍ قوله : (وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ
عَلَيْهِ الْعَذَابُ).
هذا أجود الوجوه أنْ يكونَ تَسْجُدُ مُطِيعةً ، للَّهِ عزَّ وجلَّ.
كما قال اللَّه تعالى : (فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ
كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) ، وكما قال : (وَإِنَّ مِنْهَا) يعني
الحجارة (لما جهبط من خَشْيَةِ اللَّهِ) ، فالخشية لا تكون إلَّا لما أعْطاه
اللَّه مما يَخْتَبِرُ به خشيته.
وقال قوم : السجود من هذه الأشياء التي هي موات ومن الحيوان الذي لا يعقل إنما هو
أثَرَ الصنعَةِ فيها والخضوع الذي يدل على أنها مخلوقة ، واحتجوا في ذلك بقول
الشاعر : :
بجَيْشٍ يَضِل البلق في حَجَراتِه . . . ترى الأُكْمَ فيها سُجَّداً للحوافِرِ
أي قد خشعت من وطء الحوافِرِ عَلَيْهَا ، وذلك القول الذي قالوه لأن
السجود الذي هو طاعة عندهم إنما يكونُ ممن يَعْقِلُ ، والذي يكسر هذا ما
وصف اللَّهُ عزَّ وجلَّ مِنْ أن مِن الحجارةِ لما يهبط من خشية اللَّه ، والخشية
والخوفُ ما عقلناه إلا للآدميين ، وقد أعلمنا اللَّه - عزَّ وجلَّ - أن من الحجارة
(3/418)
ما
يخشاه ، وأعلمنا أنه سَخر معَ داودَ الجبالَ والطيرَ تسبح معه ، فلو كان تسبيح
الجبال والطير أثرَ الصنعة : ما قيل سخرنا ولا قيل مع داود الجبال لأن أثر الصنعة
يتبين معَ دَاوُدَ وَغيرِه ، فَهُوَ سُجودُ طاعةٍ لا محالة ، وكذلك التسبيح في
الجبال والطير ، ولكنا لا نعلم تسبيحها إلا أن يجيئنا في الحديث كيف تسبيح ذلك.
وقال اللَّه عزَّ وجلَّ - (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ
وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ
كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ
الْحَمِيمُ (19)
الخصمان المُؤمِنُونَ والكَافِرون - جاء في التفسير أن إليهود قالوا
للمسلمين ديننا أقْدَمُ من دينكم وكتابنا أقدَمُ من كتابكم ، فأجابهم المسلمونَ
بأنَّا آمنا بما أنزل إلينا وأنزل إليكم وآمنا باللَّهِ وملائكته وكتبه ورسله لا
نفرق بين أحد من رسله ، وأنتم كفرتم ببعض الرسل فظهرت حجة المسلمين على الكافرين.
وقيل اختصموا وقد قال خَصْمَانِ لأنهما جَمْعانِ.
(فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ).
وجاء في التفسير أن الثيَابَ التي من نارٍ هي نُحَاسٌ قَدْ أُذِيبَ.
قوله عزَّ وجلَّ . : (يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ
بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20)
يغلى به ما في بطونهم حتى يَخْرُجَ من أدْبَارِهم ، فهذا لأحد الخصمين.
وقال في الخصم الذين هم مؤمنون :
(إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ
ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23)
و (لُولُؤ) يقرأان جميعاً ، فمن قرأ (ولؤلؤاً) فعلى معنى يحلون فيها أساور من
(3/419)
ذهب
ويُحلوْنَ لؤلُؤاً ، ومن قرأ وَلؤلُؤ أراد وَمِنْ لؤلؤ.
وجائز أن يكون أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤٍ ، فيكون ذلك فيها خلطاً مِنَ
الصنْفيْن ويقرأ (يَحْلَوْنَ فيها) على معنى قَوْلك حَلِيَ يَحْلَى إذا صار ذا
حَلْيٍ (1).
* * *
وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ
وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ
أَلِيمٍ (25)
لفظ (يَصُدُّونَ) لفظ مستقبل عطف به على لفظ الماضي ، لأن معنى الذين
كفروا الذين هم كافرون ، فكأنَّه قال إنَّ الكَافرين والصَّادِّينَ.
وخبر (إِنَّ) فيه قولان أحدهما أن يكون محذوفاً فيكون المعنى إِنَّ الذين هذه
صِفَتُهم هلكوا وجائز أن يكون - وهو الوجه - الخبر (نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ
ألِيمٍ).
فيكون المعنى إِنَّ الكافرين والملحدين في المسجد الحرام نذِقْهمْ مِنْ
عَذَابٍ ألِيمً.
وقوله تعالى ، : (سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ).
القراءة الرفعُ في (سَوَاء) ، ورفعه من جهتين :
إحداهما أن يكون وقف التمام هو (الذي جَعَلْنَاهُ للنَاسِ) ، كما قَال : (إِن أولَ
بَيْتٍ وُضِعَ للنَّاسِ).
ويكون سواء العاكف فيه والباد - على الابتداء والخبر ، ويجوز أن يكون على جعلناه
سواء العاكف فيه ، فيرتفع (سَوَاءٌ) على الابتداء ، ويكون الخبر ههنا (العاكف فيه)
، أعني خبر (سواء العاكف) ويكون خبر (جَعَلْنَاهُ) الجملة.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { يُحَلَّوْنَ } : العامَّةُ على الياءِ وفتحِ اللامِ مشددةً ، مِنْ
حَلاَّه يُحَلِّيه إذا ألبسَه الحُلِيَّ . وقُرِىءَ بسكون الحاءِ وفتحِ اللامِ
مخففةً ، وهو بمعنى الأول ، كأنَّهم عَدَّوْه تارةً بالتضعيف وتارةً بالهمزةِ .
قال أبو البقاء : « مِنْ قولك : أحلى أي ألبسَ الحُلِيَّ ، وهو بمعنى المشدَّد ».
وقرأ أبنُ عباسٍ بفتحِ الياءِ وسكونِ الحاءِ وفتحِ اللامِ مخففةً . وفيها ثلاثةُ
أوجهٍ . أحدُها : أنَّه من حَلِيَتْ المرأةُ تَحْلَى فهي حالٍ . وكذلك حَلِيَ
الرجلُ فهو حالٍ ، إذا لَبِسا الحُلِيَّ أو صارا دونَ حُلِيّ . الثاني : أنَّه من
حَلِيَ بعيني كذا يَحْلَى إذا اسْتَحْسَنْته . و « مِنْ » مزيدةٌ في قولِه { مِنْ
أَسَاوِرَ } قال : « فيكونُ المعنى : يَسْتَحْسِنون فيها الأساور الملبوسة » .
ولما نقل الشيخ هذا الوجهَ عن أبي الفضل الرازي قال : « وهذا ليس بجيد لأنه جَعَلَ
حَلِيَ فعلاً متعدياً ، ولذلك حَكَم بزيادةِ » مِنْ « في الواجبِ . وليس مذهبَ
البصريين . وينبغي على هذا التقديرِ أَنْ لا يجوزَ؛ لأنه لا يُحْفَظُ بهذا المعنى
إلاَّ لازِماً ، فإنْ كان بهذا المعنى كانَتْ » مِنْ « للسببِ أي : بلباسِ أساورِ
الذهبِ يَحْلَوْن بعينِ مَنْ رآهم ، أي : يحلى بعضُهم بعينِ بعضٍ ».
قلت : وهذا الذي نقله عن أبي الفضلِ قاله أبو البقاء ، وجَوَّز في مفعولِ الفعلِ
وجهاً آخرَ فقال : « ويجوزُ أن يكونَ مِنْ حَلِيَ بعيني كذا إذا حَسُن ، وتكونُ »
مِنْ « زائدةً أو يكونُ المفعولُ محذوفاً ، و » مِنْ أساورَ « نعتٌ له » . فقد
حكمَ عليه بالتعدِّي ليس إلاَّ ، وجَوَّز في المفعول الوجهَيْن المذكورَيْن.
الثالث : أنَّه مِنْ حَلِيَ بكذا إذا ظَفِرَ به ، فيكونُ التقديرُ : يَحْلَوْن
بأساورَ . ف « مِنْ » بمعنى الباء . ومِنْ مجيءِ حَلِيَ بمعنى ظَفِرَ قولُهم : لم
يَحْلَ فلانٌ بطائلٍ أي : لم يظفرْ به . واعلم أنَّ حَلِي بمعنى لبس الحلية ، أو
بمعنى ظَفِر من مادةِ الياءِ لأنهما مِن الحِلْيَةِ . وأمَّا حَلِيَ بعيني كذا
فإنه من مادة الواو لأنه من الحلاوة ، وإنما قلبت الواو ياءً لانكسار ما قبلها.
قوله : { مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ } في « مِنْ » الأولى ثلاثةُ أوجه ، أحدُها :
أنها زائدةٌ ، كما تقدَّم تقريره عن الرازي وأبي البقاء . وإن لم يكنْ مِنْ أصولِ
البصريين . والثاني : أنَّها للتعبيضِ أي : بعض أساور . والثالث : أنها لبيانِ
الجنسِ ، قاله ابن عطية ، وبه بدأ . وفيه نظرٌ إذ لم يتقدَّمْ شيءٌ مبهمٌ . وفي «
مِنْ ذهب » لابتداءِ الغايةِ ، هي نعتٌ لأساورَ كما تقدَّم.
وقرأ ابن عباس « مِنْ أَسَوِرَ » دونَ ألفٍ ولا هاءٍ ، وهو محذوفٌ مِنْ « أساوِر »
كما [ في ] جَنَدِلٍ والأصل جَنادِل ، قال الشيخ : « وكان قياسه صَرْفَه؛ لأنه
نَقَصَ بناؤُه فصار كجَنَدِلٍ ، لكنه قَدَّر المحذوفَ موجوداً فمعنه الصرف ».
قلت : فقد جعل أنَّ التنوينَ في جَنَدِلٍ المقصور مِنْ « جنادل » تنوينُ صَرْفٍ .
وقد نصَّ بعض النحاة على أنه تنوينُ عوضٍ كهو في جَوارٍ وغَواشٍ وبابِهما.
قوله : { وَلُؤْلُؤاً } قرأ نافعٌ وعاصمٌ بالنصبِ . والباقون بالخفضِ . فأمَّا
النصبُ ففيه أربعةُ أوجهٍ ، أحدها : أنَّه منصوبٌ بإضمار فعلٍ تقديرُه :
ويُؤْتَوْن لُؤْلؤاً . ولم يذكر الزمخشريُّ غيرَه/ ، وكذا أبو الفتح حَمَله على
إضمار فعلٍ . الثاني : أنَّه منصوبٌ نَسَقاً على موضع « مِنْ أساور » ، وهذا
كتخريجِهم « وأرجُلَكُمْ » بالنصب عطفاً على محلِّ { برؤوسكم } [ المائدة : 6 ] ،
ولأن { يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ } في قوة : « يَلْبَسون أساور » فَحُمِل
هذا عليه . والثالث : أنه عطفٌ على « أساور »؛ لأنَّ « مِنْ » مزيدةٌ فيها كما
تقدَّم تقريرُه . الرابع : أنه معطوفٌ على ذلك المفعولِ المحذوفِ . التقديرُ : يُحَلَّوْن
فيها الملبوسَ مِنْ أساور ولؤلؤاً . ف « لؤلؤاً » عطفٌ على الملبوس.
وأمَّا الجرُّ فعلى وجهَيْن ، أحدُهما : عطفُه على « أساور » . والثاني : عَطْفُه
على « مِنْ ذهبٍ » لأنَّ السِّوارَ يُتَّخَذُ من اللؤلؤ أيضاً ، يُنْظَمُ بعضُه
إلى بعضٍ . وقد منع أبو البقاء العطفَ على « ذهب » قال : « لأنَّ السِّوار لا
يكونَ مِنْ لؤلؤ في العادة ويَصِحُّ أن يكونَ حُلِيّاً ».
واختلف الناسُ في رَسْمِ هذه اللفظةِ في الإِمام : فنقل الأصمعيُّ أنها في الإِمام
« لؤلؤ » بغير ألفٍ بعد الواو ، ونقل الجحدريُّ أنها ثابتةٌ في الإِمامِ بعد الواو
. وهذا الخلافُ بعينه قراءةً وتوجيهاً جارٍ في حَرْف فاطر أيضاً.
وقرأ أبو بكر في رواية المُعَلّى بن منصور عنه « لؤلوا » بهمزةٍ أولاً وواوٍ
آخِراً . وفي روايةِ يحيى عنه عكسُ ذلك.
وقرأ الفياض « ولُوْلِيا » بواوٍ أولاً وياءٍ أخيراً ، والأصل : لُؤْلُؤاً أبدل
الهمزتينِ واوَيْن ، فبقي في آخرِ الاسم واوٌ بعد ضمةٍ . فَفُعِل فيها ما فُعِل ب
أَدْلٍ جمعَ دَلْو : بأنْ قُلِبَتْ الواوُ ياءً والضمةُ كسرةً.
وقرأ ابنُ عباس : « وَلِيْلِيا » يياءَيْنِ ، فَعَل ما فَعَل الفياض ، ثم أتبعَ
الواوَ الأولى للثانيةِ في القلبِ . وقرأ طلحة « وَلُوْلٍ » بالجر عطفاً على
المجرورِ قبلَه . وقد تقدم ، والأصل « ولُوْلُوٍ » بواوين ، ثم أُعِلَّ إعلالَ
أَدْلٍ.
واللُّؤْلُؤُ : قيل : كِبارُ الجوهر وقيل صغِارُه . اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(3/420)
وتفسير
قوله : (سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ) أنه يستوي في سُكنى مكةَ المقيم بها
والنارح إليها من أيْ بَلَدٍ كانَ ، وقيل سواء في تفضيله وإقامة المَنَاسِكِ
العاكف . المقيم بالحرم والنارحُ إلَيْهِ.
وقوله : (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإلْحَادٍ بظُلْمٍ).
قيل الإِلحاد فيه الشرك باللَّهِ ، وقيل كُل ظَالِمٍ فيه مُلْحِدٌ.
وجاء عن عُمَر أن احتكار الطعام بمكة إلحادٌ.
وقال أهل اللغة إن معنى الباء الطرح.
المعنى ومن يرد فيه إلحاداً بظلم.
وأنشدوا قول الشاعر :
هُنَّ الحَرائِرُ لا ربَّاتُ أَحْمِرةٍ . . . سُودُ المَحاجِرِ لا يَقْرَأْنَ
بالسُّوَرِ
المعنى عِنْدهم لا يقرأن السُّور ، وأنشدوا :
بوادٍ يمانٍ يُنْبِتُ الشَّثَّ فَرْعُه . . . وأَسْفَلُه بالمَرْخِ والشَّبَهانِ
أي وينبت أسفلُه المرخَ والشبهان.
والذي يذهب إليه أصحابنا أن الباءَ ليست بملغاةٍ ، المعنى عندهم ومن إرادته فيه
بأن يلحد بظلم وهو مثل قوله :
أُريدُ لأَنسى ذِكرَها فكأَنما . . . تَمثَّلُ لي لَيْلى بكلِّ سبيلِ
المعنى أريد ، وإرادتي لهذا.
ومعنى الإلحاد في اللغة العدول عن القَصْد (1).
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { وَيَصُدُّونَ } : فيه ثلاثةُ أوجه ، أحدها : أنه معطوفٌ على ما قبلَه .
وحينئذٍ ففي عطفِه على الماضي ثلاثةُ تأويلاتٍ . أحدُها : أنَّ المضارعَ قولاً
يُقْصَدُ به الدلالةُ على زمنٍ معينٍ من حالٍ ، أو استقبالٍ ، وإنما يُراد به
مجردُ الاستمرارِ . ومثلُه { الذين آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ
الله } [ الرعد : 28 ] . الثاني : أنه مؤولٌ بالماضي لعطفِه على الماضي . الثالث :
أنه على بابِه ، وأنَّ الماضي قبلَه مُؤَوَّل بالمستقبل.
الوجه الثاني : أنَّه حالٌ من فاعل « كفروا » وبه بدأ أبو البقاء . وهو فاسدٌ
ظاهراً؛ لأنه مضارعٌ مثبتٌ ، وما كان كذلك لا تَدْخُل عليه الواو ، وما ورد منه
على قِلَّتِه مؤولٌ فلا يُحْمل عليه القرآنُ ، وعلى هذين القولَيْنِ فالخبرُ
محذوفٌ . واختلفوا في موضعِ تقديرِه : فقدَّره ابن عطية بعد قولِه « والبادِ » أي
: إن الذين كفروا خَسِروا أو هلكوا ونحو ذلك . وقدَّره الزمخشري بعد قوله {
والمسجد الحرام } أي : إنَّ الذين كفروا نُذِيْقُهم من عذاب أليم . وإنما قَدَّره
كذلك لأن قوله : { نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } يَدُلُّ عليه.
إلاَّ أنَّ الشيخَ قال في تقدير الزمخشري بعد المسجد الحرام : « لا يصحُّ » ، قال
: « لأنَّ » الذي « صفة للمسجد الحرام ، فموضعُ التقديرِ هو بعد » البادِ « يعني :
أنه يلزمُ من تقديرِه الفصلُ بينَ الصفةِ والموصوفِ بأجنبيّ ، وهو خبرُ » إنّ « ،
فيصيرُ التركيبُ هكذا : إنَّ الذين كفروا ويَصُدُّون عن سبيلِ اللهِ والمسجدِ
الحرام نُذيقُهم مِنْ عذابٍ أليمٍ الذي جَعَلْناه للناس . وللزمخشريِّ أّنْ
ينفصِلَ عن هذا الاعتراضِ بأن » الذي جَعَلْناه « لا نُسَلِّمُ أنَّه نعتٌ للمسجد
حتى يَلْزَمَ ما ذَكَر ، بل نَجْعَلُه مقطوعاً عنه نَصْباً أو رفعاً.
ثم قال الشيخ : » لكنَّ مُقَدَّرَ الزمخشريِّ أحسنُ من مقدَّرِ ابنِ عطية؛ لأنه
يَدُلُّ عليه الجملةُ الشرطية بعدُ مِنْ جهة اللفظ ، وابنُ عطية لَحَظَ من جهةِ
المعنى؛ لأنَّ مَنْ أّذيق العذابَ خَسِر وهَلَكَ «.
الوجه الثالث : أنَّ الواوَ في » ويَصُدُّون « مزيدةٌ في خبر » إنَّ « تقديرُه :
إنَّ الذين كفروا يَصُدُّون . وزيادةُ الواوِ مذهبٌ كوفي تقدَّم بُطلانُه ، وقال
ابنُ عطية : » وهذا مْفْسِدٌ للمعنى المقصودِ « . قلت : ولا أَدْري فسادَ المعنى
من أيِّ جهة؟ ألا ترى أنه لو صُرِّح بقولِنا : إنَّ الذين كفروا يَصُدُّون لم يكنْ
فيه فسادُ معنى . فالمانع إنما هو أمرٌ صناعيٌّ عند أهل البصرة لا معنويٌّ . اللهم
إلاَّ أَنْ يريدَ معنىً خاصاً/ يَفْسُدُ لهذا التقديرِ فيُحتاج إلى بيانه.
قوله : { الذي جَعَلْنَاهُ } يجوزُ جَرُّه على النعتِ أو البدلِ أو البيانِ ،
والنصبُ بإضمار فعلٍ ، والرفعُ بإضمارِ مبتدأ . و » جَعَلَ « يجوز أن يتعدى لاثنين
بمعنى صَيَّر ، وأَنْ يتعدَّى لواحدٍ.
والعامَّةُ على رفعِ ِ « سواءٌ » وقرأه حفصٌ عن عاصم بالنصبِ هنا وفي الجاثية : {
سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ } [ الآية : 21 ] . ووافق على الذي في الجاثيةِ الأخَوان ،
وسيأتي توجيهُه . فأمَّا على قراءةِ الرفع فإن قلنا : إنَّ جَعَلَ بمعنى صَيَّر
كان في المفعولِ الثاني أوجهٌ ، أحدها : وهو الأظهرُ أنَّ الجملةَ مِنْ قولِه {
سَوَآءٌ العاكف فِيهِ } هي المفعولُ الثاني ، ثم الأحسنُ في رفع « سواءٌ » أن يكون
خبراً مقدماً ، والعاكفُ والبادي مبتدأ مؤخر . وإنما وُحِّد الخبرُ وإن كان
المبتدأُ اثنين؛ لأنَّ سواء في الأصل مصدرٌ وُصِفَ به . وقد تقدَّم هذا أولَ
البقرة . وأجاز بعضُهم أن يكون « سواءٌ » مبتدأ ، واما بعدَه الخبر . وفيه ضَعْفٌ
أو مَنْعٌ من حيث الابتداءُ بالنكرة من غير مُسَوِّغٍ ، ولأنه متى اجتمع معرفةٌ
ونكرةٌ جُعِلت المعرفةُ المبتدأ . وعلى هذا الوجهِ أعني كونَ الجملة مفعولاً
ثانياً فقولُه « للناس » يجوز فيه وجهان ، أحدُهما : أن يتعلق بالجَعْل أي :
جَعَلْناه لأجلِ الناسِ كذا . والثاني : أنه متعلقٌ بمحذوفٍ ، على أنَّه حالٌ مِنْ
مفعول « جَعَلْناه » ولم يذكر أبو البقاء فيه على هذا الوجهِ غيرَ ذلك وليس معناه
متضحاً.
الوجه الثاني : أنَّ « للناس » هو المفعولُ الثاني . والجملةُ مِنْ قوله { سَوَآءٌ
العاكف } في محلِّ نصب على الحال : إمَّا من الموصول ، وإمَّا مِنْ عائِدِه .
وبهذا الوجه بدأ أبو البقاء . وفيه نظرٌ؛ لأنه جعل هذه الجملةَ التي هي محطُّ
الفائدةِ فَضْلةً.
الوجه الثالث : أنَّ المفعولَ الثاني محذوفٌ ، قال ابن عطية : « والمعنى : الذي
جَعَلْناه للناس قِبْلةً ومتعبَّداً . فتقدير ابنِ عطية هذا مُرْشِدٌ لهذا الوجهِ
. إلاَّ أن الشيخ » . قال « ولا يُحتاج إلى هذا التقديرِ ، إلاَّ إنْ كان أراد
تفسيرَ المعنى لا الإِعراب . فيَسُوغ لأنَّ الجملةَ في موضعِ المفعولِ الثاني ،
فلا يُحتاج إلى هذا التقديرِ . وإنْ جَعَلْناها متعديةً لواحدٍ كان قولُه » للناس
« متعلقاً بالجَعْلِ على العِلَّيَّة . وجَوَّزَ فيه أبو البقاء وجهين آخرين ،
أحدهما : أنه حالٌ من مفعولِ » جَعَلْناه « . والثاني : أنه مفعولٌ تعدَّى إليه
بحرف الجر . وهذا الثاني لا يُتَعَقَّل ، كيف يكون » للناس « مفعولاً عُدِّي إليه
الفعلُ بالحرف؟ هذا ما لا يعقلُ . فإن أراد أنه مفعولٌ مِنْ أجله فهي عبارةٌ
بعيدةٌ من عبارة النحاة.
وأمَّا على قراءةِ حفصٍ : فإنْ قلنا : » جَعَلَ « يتعدى لاثنين كان » سواءً «
مفعولاً ثانياً . وإنْ قُلْنا يتعدَّى لواحدٍ كان حالاً من هاءِ » جَعَلْناه «
وعلى التقديرين : فالعاكفُ مرفوعٌ به على الفاعليةِ؛ لأنه مصدرٌ وُصِفَ به فهو في
قوةِ اسم الفاعل المشتقِّ تقديرُه : جَعَلْناه مُسْتوياً فيه العاكفُ . ويَدُلُّ
عليه قولُهم : » مررتُ برجلٍ سواءٍ هو والعَدَمُ « . ف » هو « تأكيدٌ للضميرِ
المستترِ فيه ، و » العَدَمُ « نسقٌ على الضميرِ المستترِ ولذلك ارتفعَ.
ويروى : « سواءٍ والعدمُ » بدونِ تأكيدٍ وهو شاذٌّ.
وقرأ الأعمش وجماعةٌ « سَواءً » نصباً ، « العاكف » جراً . وفيه وجهان ، أحدهما :
أنه بدلٌ من « الناس » بدلُ تفصيل . والثاني : أنه عطفٌ بيانٍ . وهذا أراد ابنُ
عطية بقولِه « عَطْفاً على الناس » ويمتنع في هذه القراءةِ رفعُ « سواء » لفسادِه
صناعةً ومعنىً؛ ولذلك قال أبو البقاء : « وسواءً على هذا نصبٌ لا غير ».
وأثبتَ ابنُ كثير ياءَ « والبادي » وصلاً ووقفاً ، وأثبتها أبو عمرو وورش وصلاً
وحذفاها وقفاً . وحَذَفَها الباقون وَصْلاً ووَقْفاً وهي محذوفةٌ في الإِمام.
قوله : { وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ } فيه أربعةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنَّ
مفعولَ « يُرِدْ » محذوفٌ ، وقولُه : « بإلحادٍ بظلم » حالان مترادفتان .
والتقديرُ : ومَنْ يُرِدْ فيه مراداً ما ، عادِلاً عن القصدِ ظالماً ، نُذِقْه من
عذابٍ أليم . وإنما حُذِفَ ليتناولَ كلَّ متناوَلٍ . قال معناه الزمخشريُّ .
والثاني : أن المفعولَ أيضاً محذوفٌ تقديرُه : ومَنْ يُرِدْ فيه تَعَدِّياً ، و «
بإلحادٍ » حال أي : مُلْتَبِساً بإلحادٍ . و « بظُلْمٍ » بدلٌ بإعادةِ الجارِّ .
الثالث : أَنْ يكونَ « بظلمٍ » متعلقاً ب « يُرِدْ » ، والباءُ للسببيةِ أي بسببِ
الظلم و « بإلحاد » مفعولٌ به . والباءُ مزيدةٌ فيه كقولِه : { وَلاَ تُلْقُواْ
بِأَيْدِيكُمْ } [ البقرة : 195 ] [ وقولِه : ]
3380 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . لا يَقْرَأْنَ بالسُّوَر
وإليه ذهب أبو عبيدة ، وأنشد للأعشى :
3381 ضَمِنَتْ برزقِ عيالِنا أرماحُنا . . . . . . . . .
أي : ضَمِنَتْ رزقَ . ويؤيِّده قراءة الحسن « ومَنْ يُرِدْ إلحادهُ بظُلْمٍ » .
قال الزمخشري : أراد إلحاده فيه فأضافه على الاتِّساعِ في الظرف ك { مَكْرُ اليل }
[ سبأ : 33 ] ومعناه : ومَنْ يُرِدْ أن يُلْحِدَ فيه ظالماً . الرابع : أن
يُضَمَّنَ « يُرِدْ » معنى يتلبَّس ، فلذلك تعدى بالباء أي : ومَنْ يتلَبَّسْ
بإلحادٍ مُرِيْداً له.
والعامَّةُ على « يُرِدْ » بضم الياء من الإِرادة . وحكى الكسائي والفراء أنه
قُرِىء « يَرِدْ » بفتح الياء . وقال الزمخشري : « من الوُرُوْد ومعناه : مَنْ أتى
فيه بإلحادٍ ظالماً ».
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(3/421)
وقوله
عزَّ وجلَّ : (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا
تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ
وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26)
جعلنا مكان البيت مبوأً لإبراهيم ، والمبوأ المنزل ، فالمعنى أن اللَّه أعلم
إبراهيم مكان البيت فبنى البيتْ على أسه القديم ، وكان البيت في أيام الطوفان رفع
إلى السماء حينَ غَرَّقَ اللَّهُ الأرضَ ومَا عليها فَشَرَّفَ بيْتَه بأن أخرجه عن
جُملة مَا غَرَق.
ويروى أن البيت كان من ياقوتة حمراء.
وقوله : (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ)
قيل : المعنى طهِره من الشرك.
والقائمونَ هَهُنا المصَلُّونَ.
* * *
وقوله : (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ
ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27)
رُوي أن أذان إبراهيم بالحَج أن وقف في المقام فقال : أيها الناسُ
أجيبوا يا عباد اللَّه أطيعوا الله يا عباد الله اتقوا اللَّه ، فَوَقَرَتْ في قلب
كل مؤمن ومؤمنة وأسمع ما بين السماء والأرض وأجابه مَن في الأصلاب ممن كتب له الحج
، فكل من حج فهو ممن أجاب إبراهيم ، ويروى أنَّ أذَانَه بالحج كانَ
يا أيها الناس كتب عليكم الحج.
وقوله تعالى : (يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ).
(رِجَالًا) جمع راجل مثل صَاحِب وصِحَابٍ ، وقائِم وقِيَام.
(وَعَلَى كُل ضَامِرٍ يَأتِيَن) ، أي يأتوك رِجَالاً ورُكبَانلً.
وقال يأتين على معنى الِإبل
المعنى وعلى كل بعيد ضامر يأتي من كل فج عميق.
وعميق بعيد.
قال رؤبة :
وَقَاتِم الأعْماق خاوي المخترق
الأعماق الأقْعَار ، ومن هذا قيل : هذه بِئر " عَمِيقة " ، أي بَعِيدَة
القَرار .
(3/422)
وقوله
تعالى : (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ
مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا
وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28)
أي ليشهدوا مَا نَدَبَهُم اللَّهُ إليه مما فيه النفع لهم في آخرتهم.
(وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ
بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ).
يعنى به يومَ النحْر والأيَّامُ التي بعده يُنْحَرُ فِيهَا لأن الذكر ههنا يدل -
على
التسمية على ما يُنْحَر لقوله (عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ
الْأَنْعَامِ).
* * *
وقوله : (فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ).
(البائس : الذي قد ناله بؤس ، والبؤس شدة الفقر ، يقال : قد بؤس ، وبأس
إذا صار ذا بؤس.
وقوله (فَكُلوا مِنْهَا) ليس بأمر لازم ، من شاء أكل من أضحيته
ومن شاء لم يأكل ، وإنما هو إباحة كما قال : (وإذا حَلَلْتُم فَاصْطَادُوا).
فإنما قال فاصطادوا ، لأنه كان قد حظر عليهم الصيد وهم مُحْرِمون.
فأباحَهمُ الصيْدَ.
وكذلك هذا الأمر ههنا إباحة بعد حظرهم على أنفسهم أكل
الأضاحي ، لأن أهل الجاهلية كانوا إذا نحروا لم يستحلوا أن يأكلوا من
نساكِهِم شيئاً ، فأَعلم اللَّه عزَّ وجلَّ أن ذلك جائز.
* * *
وقوله : (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا
بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)
قرئتْ (ثُمَّ لِيَقْضُوا) بكسر اللام ، وكذلك قرأ أبو عَمْرٍو ، والقراءة بالتسكين
مع - ثم كثيرة . .
والتفث في التفسير جاء ، وأهل اللغة لا يعرفون إلا من التفسير ، قالوا
(3/423)
التفث
الأخذ من الشارب وتقليم الأظافر ونتف الإبِطِ وحَلقُ العَانة والأخْذُ مِنَ الشعَرِ
، كأنَّه الخروج منى الإحرام إلى الإحلال.
قوله : (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ).
قيل في العتيق أقوال ، قال الحسنِ هو البيت القديم ، ودليل الحسن
على ذلك قوله : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ
مُبَارَكًا).
وقيل إن البيت العتيق الذي عَتَق من الغرق أيام الطوفانِ ، ودليل هذا
القول : (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ) ، فهذا دليل أن
البيت رفع وبقي مكانه.
وأكثر ما جاء في التفسير أنه اعْتِقَ من الجبابرة ، فلم يَغْلِبُ عليه جَبارٌ.
وقيل إنه سُمِّيَ العتيقَ لأنه لم يَدعْهُ أحَد من الناس.
وقيل إنما سمي العتيق لأنه لم يقصده جبار إلا أهلكه اللَّه ، يقال أعتقت المملوك
فهو مُعْتَقْ وَعَتِيق.
وكل ما مرَّ في تفسير العتيق فجائز حَسن - واللَّه أعلم بحقيقة ذلك -
وهذه الآية تدل على أن الطواف يوم النحر فرضٌ.
* * *
وقوله : (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ
رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ
فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30)
وحرماتُ اللَّه الحجُّ والعمرةُ وسائر المناسك ، وكل ما فرض الله فهو من
حرمات اللَّه ، والحرمةُ ما وجب القيامُ به وحَرمَ تركهُ والتفريطَ فيه.
وموضع (ذلك) رفع ، المعنى الأمر ذلك.
وقوله : (وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ).
" ما " في موضع نصب أي إلا ما يتلى عليكم من الميتة والدم والمنخنقة
والموقودَةِ وسائر ما تلي تحريمه.
وقوله : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ).
(3/424)
"
مِنْ " ههنا لتخليص جنس من أجناس.
المعنى فاجتنبوا الرجس الذي هو وَثَنٌ (1).
وقوله : (وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ).
الزور الكذب ، وقيل إنه ههنا الشرْكُ باللَّهِ ، وقيل أيضاً شهادَةُ الزور.
وهذا كله جائز.
والآية تدل - واللَّه أعلم - على أنهم نُهُوا أن يُحرمُوا ما حَرم
أصحابُ الأوْثانِ نحو قولهم : ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورِنا ومحرم
على أزواجنا ، ونحو نحرهم البَحيرَةَ والسائِبَةَ ، فأعلمهم اللَّه أنَّ
الأنْعَامَ مُحَلًلَة
إلَّا ما حرَّمَ اللَّهُ منها ، ونهاهم الله عن قول الزور أن يقولوا هذا حلال وهذا
حرام لِيَفْتَروا على اللَّهِ كَذِباً.
* * *
وقوله : (حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ
فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ
الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31)
(حُنَفَاءَ لِلَّهِ)
منصوب على الحال ، وتأويله مُسْلِمِين لا يَمِيلُونَ إلى دِينٍ غير الإسلام.
وقوله : (غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ
مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ).
ويقرأ فَتَخْطَفهُ الطيرُ وفَتَخِطَّفُهُ . وقرأ الحسن فَتِخِطِّفُهُ بكسر التاء
والخاء
والطاء.
فمن قرأ فتَخْطَفُه بالتخفيف فهو من خَطِفَ يخطَفُ ، والخَطْفُ الأخْذُ
بسرعة ، ومن قرأ فتَخطِّفُه - بكسر الطاء والتشديد - فالأصل فَتَخْتَطِفه فأدغم
التاء في الطاء وألقى حركة التاء على الخاء ففتحها ، ومن قَالَ بكسر الخاء والطاء
، كسر الخاء لسكونها وسُكُون الطاء ، ومن كسر التاء والخاء والطاء - وهي قراءة
الحسن - فهو على أن الأصل تَخْتَطِفُه.
وهذا مثل ضَرْبةِ الله للكافر في بُعْده عِنَ الحق - فأعلمَ اللَّهُ أن بُعْدَ من
أشْركَ به مِنَ الحق كبُعْدِ مَنْ خرَّ من السماء فذهبت به الطير أو هَوَتْ به
الريحُ في مكانٍ سحيق - أي ، بَعِيدٍ (2).
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { مِنَ الأوثان } في « مِنْ » ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها : أنها لبيانِ الجنسِ ،
وهو مشهورُ قول المُعْرِبين ، ويَتَقَدَّرُ بقولك : الرِّجْسُ الذي هو الأوثان .
وقد تقدَّم أنَّ شرطَ كونِها بيانيةً ذلك . وتجيءُ مواضعُ كثيرةٌ لا يتأتى فيها
ذلك ولا بعضُه . والثاني : أنَّها لابتداءِ الغايةِ . وقد خَلَط أبو البقاء القولين
فجَعَلَهما قولاً واحداً فقال : « ومِنْ لبيانِ الجنسٍ أي : اجْتَنِبوا الرجسَ من
هذا القبيل ، وهو بمعنى ابتداء الغاية ههنا » يعني أنه في المعنى يَؤُول إلى ذلِك
، ولا يَؤُول إليه ألبتَّةََ . الثالث : أنها للتبعيض . وقد غَلَّط ابنُ عطية
القائلَ بكونِها للتبعيضِ ، فقال : « ومَنْ قال : إن » مِنْ « للتبعيض قَلَبَ معنى
الآيةِ فأفسده » وقد يُمْكِنُ التبعيضُ فيها : بأَنْ يَعْني بالرِّجْسِ عبادة
الأوثانِ . وبه قال ابنُ عباس وابنُ جريج ، فكأنه قال : فاجْتَنِبوا من الأوثانِ
الرِّجسَ وهو العبادةُ؛ لأنَّ المُحَرَّمَ من الأوثان إنما هو العبادةُ ألا ترى
أنه قد يُتَصَوَّرُ استعمالُ الوثَنِ في بناءٍ وغيرِه ممَّا لم يُحَرِِّمِ الشرعُ
استعمالَه ، وللوَثَنِ جهاتٌ منها عبادتُها ، وهي بعض جهاتِها . قاله الشيخ . وهو
تأويلٌ بعيدٌ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(2) قال السَّمين :
قوله : { فَتَخْطَفُهُ } قرأ نافعٌ بفتحِ الخاءِ والطاء مشددةً . وأصلُها
تَخْتَطِفُه فأدغم . وباقي السبعةِ « فَتَخْطَفُه » بسكون الخاء وتخفيفِ الطاء .
وقرأ الحسنُ والأعمشُ وأبو رجاء بكسر التاء والخاء والطاء مع التشديد . ورُوِي عن
الحسن أيضاً فتحُ الطاءِ مشددةً مع كسرِ التاءِ والخاءِ . ورُوِي عن الأعمش
كقراءةِ العامَّةِ إلاَّ أنه بغير فاء : « تَخْطَفُه » . وتوجيهُ هذه القراءاتِ قد
تقدَّم مستوفى في أوائل البقرة عند ذِكْري القراءاتِ في قولِه تعالى : { يَكَادُ
البرق يَخْطَفُ } [ البقرة : 20 ] فلا أُعيدها.
وقرأ أبو جعفر « الرياحُ » جمعاً . وقولِه « خَرَّ » في معنى يَخِرُّ؛ ولذلك
عُطِفَ عليه المستقبلُ وهو « فَتَخْطَفُهُ » ، ويجوز أن يكون على بابه ، ولا يكونُ
« فَتَخْطَفُه » عطفاً عليه ، بل هو خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي : فهو يَخْطَفُه.
قال الزمخشري : « ويجوزُ في هذا التشبيهِ أن يكونَ من المركب والمفرَّق . فإن كان
تشبيهاً مركباً فكأنه قال : مَنْ أشرك بالله فقد أهلكَ نفسَه إهلاكاً ليس بعده [
هلاكٌ ] : بأَنْ صَوَّر حالَه بصورةِ حالِ مَنْ خَرَّ من السماءِ فاخْتَطَفَتْه
الطيرُ ، فتفرَّق مِزَعاً في حَواصلِها ، أو عَصَفَتْ به الريحُ حتى هَوَتْ به في
بعض المطاوحِ البعيدةِ . وإن كان مُفَرَّقاً فقد شَبَّه الإِيمانَ في عُلُوِّه
بالسماءَ ، والذي تركَ الإِيمانَ وأشرك بالله ، بالساقط من السماء ، والأهواءَ
التي تتوزَّعُ أفكارَه بالطير المتخطفةِ ، والشيطانَ الذي يُطَوِّحُ به في وادي
الضَّلالةِ بالريح التي تهوي بما عَصَفَتْ به في بعض المهاوي المُتْلِفَةِ » . قلت
: وهذه العبارةُ من أبي القاسم مما يُنَشِّطُك إلى تَعَلُّم عِلْمِ البيان فإنها
في غاية/ البلاغة.
والأَوْثان : جمع وَثَن . والوَثَنُ يُطْلَقُ على ما صُوِّر من نحاسٍ وحديدٍ
وخَشَبٍ . ويُطْلَقُ أيضاً على الصَّليب . « عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم أنه
قال لعدي بن حاتم وقد رأى في عنقه صليباً : أَلْقِ هذا الوثنَ عنك » وقال الأعشى :
3387 يطوفُ العبادُ بأبوابِه . . . كطَوْفِ النصارى ببَيْتِ الوَثَنْ
واشتقاقُه مِن وَثَن الشيءُ أي : أقام بمكانه وثَبَتَ فهو واثِنٌ . وأُنشد لرؤبة :
3388 على أَخِلاَّء الصَّفاءِ الوُثَّنِ . . . أي : المقيمين على العهد . وقد
تقدَّم الفرقُ بين الوَثَنِ والصنم.
والسَّحيقُ : البعيدُ . ومنه سَحَقَه اللهُ أي : أبعده . وقوله عليه السلام : «
فأقولُ سُحْقاً سُحْقاً » أي : بُعْداً بُعْداً . والنَّخْلة السَّحُوقُ :
الممتدةُ في السماء ، من ذلك.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(3/425)
قوله
: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ
(32)
شعائر اللَّه المعالم التي نَدَبَ إليها وأمَر بِالقِيامِ بِها ، واحَدتها شعيرة.
فالصفا والمروةُ من شعائر اللَّه ، " الذى يُعْنَى به هنا البُدْنُ.
* * *
وقوله : (لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى
الْبَيْتِ الْعَتِيقِ
(33)
يعنى أن لكم في البدن - قبل أن تُعْلِمُوهَا ، وتُسَموهَا هَدياً إلى بيتي -
مَنَافِع.
فإذا أشْعَرْتُموهَا - والإشعار أن يشق في السنام حتى يَدْمَى ويعلق عليها نَعْلاً
ليعلم أنها بدنة ، فأكثرُ النَّاسِ لا يرى الانتفاع بها إذا جُعِلَتْ بدنةً ، لا
بِلَبَنِهَا ولا بِوَبَرِهَا وَلَا بِظَهْرِهَا ، يقول لا يُعْطَى لبنها ووبرها
وظهرها أحَداً لأنها
بدنة فلا ينتفع بها غير أهْل اللَّهِ إلاَّ عند الضرورة المخُوفِ معها الموت.
وبعضهم يقول : إنَّ له أنْ ينتفع بها فيركبها المُعْيِي وينتفع بمنافعها إلى وقت
محلها - مَكانِ نَحْرِها -.
والحجة في ذلك أن النَبي - صلى الله عليه وسلم - مرَّ برَجُلِ يسُوقُ بدَنَةً
فأمره - صلى الله عليه وسلم - بركوبها ، فقال : إنها بدنة فأمَره الثانية وأمَره
الثالثة ، وقال له في الثالثة : اركبها وْيحَكَ ، فهذا - يجوز أنَّ النبي - صلى
الله عليه وسلم - رآه مُضْطراً في ركوبها من شدة
الإعياء ، وجائز على ظاهر الحديث أن يكون ركوبُها جائزاً.
ومن أجاز ركوبَها والانتفاع بها يقول : ليس له أنْ يُهْزِلَها وينضِيَها لأنها
بدنة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ
اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ
فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34)
وتقرأ مَنْسِكاً ، والمنسك في هذا الموضع يدل على معنى النحر فكأنه
قال جعلنا لكل أُمَّةٍ أن تتقربَ بأن تَذْبح الذبَائح لِلَّه ، ويدل على ذلك قوله
تعالى (ليَذكُروا اسمَ اللَّهِ على ما رَزَقَهُم من بَهيمَةِ الأنْعَامِ).
المعنى ليذكروا اسم الله على نَحْرِ ما رَزقهم من بهيمة الأنعام.
وقال بعضهم : المنْسَكُ الموضِع الذي يجب تعهده ، وذلك جائز .
(3/426)
ومن
قال مَنْسِك فمعناه مكانُ نُسُكٍ مثل مَخلِس مكان خلوس.
ومن قال مَنْسَك فهو بمعنى المصدر نحو النُّسُك والنُّسُوكِ.
وقوله : (فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ).
أي لا ينبغي أن تذكروا على ذَبَائُحكم إلا اللَّهَ وحده.
وقوله : (وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ).
قيل المخبتون المتواضعون ، وقيل المخبتون المطمئنون بالإِيمان بالله
عزَّ وجلَّ ، وقيل المخبتون الذين لا يظلمون وإذا ظُلِموا لم ينتصروا.
وكل ذلك جائز.
واشتقاقه من الخَبْتِ مِنَ الأرْضِ وهي المكان المنخْفِض منها ، فكل
مُخْبِت متواضع.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ
وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا
رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35)
(وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ).
القراءة الخفضُ وإسقاط التَنْوِين ، والخفض على الإِضَافة ، ويجوز :
والمقيمين الصَّلَاةَ ، إلا أنه بخلاف المصحف.
ويجوز أيضاً على بُعْدٍ والمقِيمي الصَّلَاةَ ، على حذف النون ونصب الصلاة لطول
الاسم ، وأنشد سيبويه :
الحافظو عورةَ العشيرةِ لا . . . يأتيهم من ورَائِهم نطف
وزعم أنه شَاذٌّ.
* * *
وقوله تعالى : (وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ
فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ
جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ
سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36)
النصب أحسن لأن قبله فِعْلًا ، المعنى وَجَعَلْنَا البدْنَ ، فنصب بفعل
(3/427)
مُضْمَرٍ
الذي ظهر يفسره.
وإن شئت رفعت على الاستئناف.
والبدْن بتسكين الدالِ وَضَمها . بَدَنَة وبُدْنٌ ، وبُدْن مثل قوله ثَمَرَةٌ
وثُمْر وثُمُر.
وإنما سميت بَدَنَةً لأنها تَبْدُن ، أي تَسْمَن.
وقوله : (فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ).
(صَوَافَّ) منصوبة على الحال ، ولكنها لا تنون لأنها لا تنصرف ، أي قَدْ
صَفَّتْ قَوَائِمَها ، أي فاذكروا اسم الله عليها في حال نحرها.
والبَعِير ينحر قائماً ، وهذه الآية تدل على ذلك ، وتقرأ صَوَافِنَ ، والصافن الذي
يقوم على ثَلَاث ، فَالبَعِير إذا أرادوا نحَره تعقل إحدى يديه فَهُو صَافِن ،
والجمع صَوافِنُ يا هذا ، وقرئت صَوافِيَ بالياء وبالفتح بِغَيْر تَنْوِينِ
وتفسيره خَوَالص - أي خالصة لله عزَّ وجلَّ ، لا تُشْرِكوا في التَسْمِيةِ على
نحرها أحَداً.
وقوله : (فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُها).
أي إذا سقطت إلى الأرض.
(فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ).
بتشديد الراء ، ويجوز والمعْتَرَي بالمِاء ، ويقال : وجب الحائط يَجِبُ
وَجْبَةً إذَا سَقَط ، ووجب القلب يجب وَجْباً وَوَجيبا إِذَا تَحَركَ من فَزَع ،
ووجب البيْعُ يجب وجُوباً وجِبَةً ، والمستقبل في ذلك كله يجب.
وقيل في القَانع الذي يَقْنَعُ بما تُعْطِيهِ ، وقيل الذي يَقنع باليسير.
وقيل وهو مذهب أهْل اللغَةِ السائل ، يقال قَنعَ الرجل قُنُوعاً إذَا سألَ ، فهو
قانع ، وأنْشَدُوا للشماخِ.
لَمَالُ المَرْءِ يُصْلِحه فيُغْني . . . مَفاقِرَه أَعفّ من القُنُوعِ
أي أعَفُّ من السؤال ، وقنِعَ قناعةً إذا رَضِيَ فهو قَنِعٌ ، والمُعْتَرُ : الذي
(3/428)
يعتريك
فيطلب مَا عِنْدَكَ ، سألك إذ سئلِتَ عن السؤال وكذلك المعتري (1).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ
يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ
عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)
وقرئت : (لَن تَنَالَ اللَّهَ لحُومُها) بالتاء ، فمن قرأ بالياء فَلِجَمْعِ
اللحوم.
ومن قرأ بالتاء فلجماعة اللحوم - وكانوا إذا ذَبَحُوا لَطخوا البيت بالدمِ ، فأعلم
اللَّه - عزَّ وجلَّ - أنَّ الَّذِي يَصِلُ إليهِ تَقْواهُ وطَاعَتُه فيما يَأمُر
بِهِ.
(وَلَكِنْ يَنَالُه التَقْوَى مِنْكُمْ).
وتناله - التقوى منكم - بالياء والتاء - فمن أنثَ فللفظ التقوى ، ومَنْ ذَكَرَ
فلأن معنى التقوى والتقى واحِدٌ.
* * *
وقوله : (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا
يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38)
ويدْفَعُ عن الذين آمنوا.
هذا يدل على النَصْرِ مِنْ عِنْده ، أي فَإذَا دَفَعْتُم ، أي فإذا فَعَلْتُم هذا
، وخَالَفْتُم الجَاهِليةَ فيما تفعلونَهُ فِي نَحْرِهِمْ.
وإشراكهم بالله ، فإنَّ اللَّه يدْفَعُ عن حِزْبِه.
وقوله : (كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ).
(خَوَّانٍ) فعَّال من الخِيَانَةِ ، أي من ذكر اسم غير الله وتَقَرَّبَ إلى
الأصنام
بِذَبِيحَتِه فهو خَوَّانٌ كَفُورٌ.
والبُدْنُ قيل إنها الإبِلُ خاصَّةً ، وقيل إنها الإبل والبَقَرُ ، وَلَا أعْلَمُ
أحَداً
قال : إن الشاء داخلة فيها ، فأمَّا من قال إنَها الِإبِلُ والبَقَرُ فَهُمْ أكبر
فقهاء
الأمْصَارِ ، ولكن الاستعمال في السِّيَاقةِ إلَى البَيْتِ الإبِل فلذلك قال من
قال
إنها - الإبِلُ.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { والبدن } : العامَّةُ على نصب « البُدْنَ » على الاشتغال . ورُجِّح
النصبُ وإن كان مُحْوِجاً لإِضمارٍ ، على الرفع الذي لم يُحْوِجْ إليه ، لتقدُّمِ
جملةٍ فعليةٍ على جملةِ الاشتغالِ . وقُرِىء برفعِها على الابتداءِ ، والجملةُ
بعدها الخبرُ.
والعامَّةُ أيضاً على تسكينِ الدالِ . وقرأ الحسن وتُرْوى نافعٍ وشيخةِ أبي جعفر
بضمِّها ، وهما جمعان ل « بَدَنَة » نحو : ثَمَرةٍ وثُمُرٍ وثُمْرٍ . فالتسكينُ
يحتمل أن يكونَ تخفيفاً من المضمومِ ، وأَنْ يكونَ أصلاً . وقيل : البُدْنُ
والبُدُنُ جمعُ بَدَن ، والبَدَنُ جمعٌ لبَدَنَة نحو : خَشَبة وخَشَب ، ثم يُجْمع
خَشَباً على خُشُب وخُشْب . / وقيل : البُدْنُ اسمٌ مفردٌ لا جمعٌ يَعْنُون اسمَ
جنسٍ . وقرأ ابنُ أبي إسحاق « البُدُنَّ » بضم الباء والدال وتشديد النون . وهي
تحتمل وجهين ، أحدُهما : أنَّه قرأ كالحسن ، فوقَفَ على الكلمةِ وضَعَّفَ لامَها
كقولِهم : « هذا فَرُخّْ » ثم أجرى الوصلَ مجرى الوقفِ في ذلك . ويُحتمل أَنْ
يكونَ اسماً على فُعُل ك عُتُلّ.
وسُمِّيَت البَدَنة بَدَنةً لأنها تُبْدَنُ أي : تُسَمَّنُ . وهنل تختصُّ بالإِبل؟
الجمهورُ على ذلك . قال الزمخشري : « والبُدْنُ : جمعُ بَدَنَة سُمِّيَتْ لعِظَمِ
بَدَنِها ، وهي الإِبِلُ خاصةً؛ لأنَّ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم ألحق
البقرَ بالإِبل حين قال : » البَدَنَةُ عن سبعةٍ ، والبقرة عن سبعة « فجَعَلَ
البقرَ في حُكْمِ الإِبلِ ، صارَت البَدَنةُ متناوَلَةً في الشريعة للجنسين عند
أبي حنيفة وأصحابِه ، وإلاَّ فالبُدْنُ هي الإِبلُ وعليه تَدُلُّ الآيةُ » . وقيل
لا تختصُّ ، فقال الليث : البَدَنَةُ بالهاء تقعُ على الناقةِ والبقرة والبعير وما
يجوز في الهَدْي والأضاحي ، ولا تقعُ على الشاة . وقال عطاءٌ وغيرُه : ما أشعر
مِنْ ناقة أو بقرةٍ . وقال آخرون : البُدْنُ يُراد به العظيمُ السِّنِّ من الإِبل
والبقر . ويقال للسَّمين من الرجال . وهو اسمُ جنسٍ مفردٍ.
قوله : { مِّن شَعَائِرِ الله } هو المفعولُ الثاني للجَعْل بمعنى التصيير.
قوله : { لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ } الجملةُ حالٌ : إمَّا من « ها » « جَعَلْناها » ،
وإمَّا مِنْ شعائر الله . وهذان مبنيَّان على أن الضميرَ في « فيها » هل هو عائدٌ
على « البُدْن » أو على شعائر؟ والأولُ قولُ الجمهورِ.
قوله : { صَوَآفَّ } نصبٌ على الحال أي : مُصْطَفَّةً جنبَ بعضِها إلى بعض . وقرأ
أبو موسى الأشعري والحسن ومجاهد وزيد بن أسلم « صَوافي » جمعَ صافِيَة أي : خالصةً
لوجهِ الله تعالى . وقرأ عمرو بن عبيد كذلك ، إلاَّ أنه نَوَّنَ الياءَ فقرأ «
صَوافياً » . واسْتُشْكِلَتْ من حيث إنه جمعٌ متَناهٍ . وخُرِّجَتْ على وجهين ،
أحدُهما : ذكره الزمخشري وهو أَنْ يكونَ التنوينُ عِوَضاً من حرفِ الإِطلاقِ عند
الوقف . يعني أنه وَقَفَ على « صَوافي » بإشباع فتحةَ الياءِ فَتَوَلَّد منها
أَلِفٌ يُسَمَّى حرفَ الإِطلاق ، ثم عَوَّضَ عنه هذا التنوينَ ، وهو الذي
يُسَمِّيه أهلُ النحوِ تنوينَ الترنُّم.
والثاني : أنه جاء على لغةِ مَنْ يَصْرِفُ ما لا يَنْصَرِفُ.
وقرأ الحسنُ « صَوافٍ » بالكسرِ والتنوين . وتوجيهُها : أنه نصبها بفتحة مقدرةٍ ،
فصار حكمُ هذه الكلمةِ كحكمِها حالةً الرفعِ والجرِّ في حَذْفِ الياءِ وتعويض
التنوينِ نحو : « هؤلاء جوارٍ » ، ومررت بجوارٍ . وتقديرُ الفتحةِ في الياءِ كثيرٌ
كقولهم : « أعْطِ القوسَ بارِيْها » وقولِه :
3389 كأنَّ أيْدِيهنَّ بالقاعِ القَرِقْ . . . أيديْ جوارٍ يتعاطَيْنَ الوَرِق
وقوله :
3390 وكَسَوْتُ عارٍ لَحْمُه . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . .
ويدلُّ على ذلك قراءةُ بعضِهم « صَوافيْ » بياءٍ ساكنةٍ من غيرِ تنوينٍ ، نحو : «
رأيتُ القاضيْ يا فتى » بسكون الياء . ويجوز أن يكونَ سكَّن الياءَ في هذه
القراءةِ للوقفِ ثم أَجْرَى الوصلَ مُجْراه.
وقرأ العبادلة ومجاهدٌ والأعمش « صَوافِنْ » بالنون جمعَ « صَافِنَة » وهي التي
تقومُ على ثلاثٍ وطرفِ الرابعة ، إلاَّ أنَّ ذلك إنما يُسْتَعْمَلُ في الخيلِ كقوله
: { الصافنات الجياد } [ ص : 31 ] ، وسيأتي ، فيكون استعمالُه في الإِبلِ
استعارةً.
والوجوبُ : السُّقوطُ . وجَبَتِ الشَمسُ ِأي : سَقَطَتْ . ووجَبَ الجِدَارُ أي :
سَقَطَ ، ومنه الواجبُ الشرعي كأنه وقع علينا ولَزِمَنا . وقال أوس بن حجر :
3391 ألم تُكْسَفِ الشمسُ شمسُ النَّها . . . رِ والبدرُ للجبل الواجبِ
قوله : « القانِعَ والمعتَّر » فيهما أقوالٌ . فالقانِعُ : السائل والمُعْتَرُّ :
المعترضُ من غيرِ سؤالٍ . وقال قومٌ بالعكس . وقال ابن عباس : القانِعُ : المستغني
بما أعطيتَه ، والمعترُّ : المعترضُ من غيرِ سؤالٍ . وعنه أيضاً : القانعُ :
المتعفِّفُ ، والمعترُّ : السائلُ . وقال بعضُهم : القانِعُ : الراضي بالشيءِ
اليسيرِ . مِنْ قَنِعَ يَقْنَعُ قَناعةً فهو قانِعٌ . والقَنِعُ : بغير ألفٍ هو
السَّائلُ . ذكره أبو البقاء . وقال الزمخشري : « القانِعُ : السَّائلُ . مِنْ
قَنِعْتُ وكَنَعْتُ إذا خَضَعْتَ له . وسألتُه قُنُوْعاً . والمُعْتَرُّ :
المعترِّضُ بغيرِ سؤالٍ ، أو القانِعُ الراضي . بما عندَه ، وبما يعطى ، من غيرِ
سؤالٍ . مِنْ قَنِعْتُ قَنَعاً وقَناعة . والمعترُّ : المتعرض بالسؤال » . انتهى .
وفرَّق بعضهم بين المعنيين بالمصدر فقال : قَنِعَ يَقْنَع قُنوعاً أي سأل ،
وقَناعة أي : تعفَّف ببُلْغَته واستغنى بها . وأنشد للشماخ :
3392 لَمالُ المَرْءِ يُصْلِحُه فيُغْني . . . مَفاقِرَه أَعَفُّ من القُنوعِ
وقال ابن قتيبة : « المُعْتَرُّ : المتعرِّضُ من غير سؤال . يُقال : عَرَّه/ واعتَرَّه
وعَراه واعْتراه أي : أتاه طالباً معروفَه قال :
3393 لَعَمْرُك ما المُعتَرُّ يَغْشى بلادَنا . . . لِنَمْنَعَه بالضائعِ
المُتَهَضِّمِ
وقوله الآخر :
3394 سَلي الطارِقَ المعترَّ يا أمَّ مالِكٍ . . . إذا ما اعْتَراني بينَ قِدْري
ومَجْزَري
وقرأ أبو رجاء » القَنِع « دون ألف . وفيها وجهان ، أحدهما : أنَّ أصلَها »
القانِع « فَحَذَفَ الألف كما قالوا : مِقْوَل ومِخْيَط وجَنَدِل وعُلَبِط في :
مِقْوال ومِخْياط وجَنَادل وعُلابط . والثاني : أن القانِعَ هو الراضي باليسير ،
والقَنِع : السائلُ ، كما تقدَّم تقريره ، قال الزمخشري : » والقَنِعُ : الراضي لا
غير «.
وقرأ الحسن : » والمُعْتري « اسمُ فاعلٍ مِنْ اعْتَرى يَعْتري . وقرأ إسماعيل
وتروى عن أبي رجاء والحسن أيضاً » والمُعْتَرِ « بكسر الراء اجتزاءً بالكسرة عن
لامِ الكلمة.
وقُرِىء » المُعْتَرِيَ « بفتح الياء . قال أبو البقاء : » وهو في معناه « أي : في
معنى » المعترّ « في قراءة العامَّة.
و [ قوله : ] { كذلك سَخَّرْنَاهَا } الكافُ نعتُ مصدرٍ أ و حالٌ من ذلك المصدرِ.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(3/429)
وقوله
: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى
نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39)
ويقرأ (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ) ، وُيقرأ (أُذِنَ لِلَّذِينَ
يُقَاتِلُونَ) وُيقَاتَلونَ.
والمعنى أذن للذين يقاتلون أن يقاتِلُوا.
ويرْوَى أنَّها أول آيَةٍ نزلت في القِتَالِ.
(بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا).
أي أُذِنَ لهم أن يقاتلوا بسبب ما ظلموا
وقوله : (وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ).
وعدهم الله النَصْرَ ، ولا يجوز أن يقرأ و " أَنَّ " اللَّه - بفتح أنَّ
، ولا بَيْن
أهل اللغة خِلاَفٌ في أن هذا لا يجوز لأن " أنَّ " إذا كانت معها اللام
لم
تفتح أبَداً.
* * *
وقوله : (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ
يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ
بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا
اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ
لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)
(الذين) في موضع جَر ، المعنى " أُذِنَ للذين أُخْرجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ
بغير حق
إلا أنْ يَقُولُوا رَبنَا اللَّهُ "
" أنْ " في مَوْضِع جَر ، المعنى أخرِجُوا بلا حَقٍّ ، إلَّا بِقَوْلهم
رَبُّنَا اللَّهُ أي لم
يخرجوا إلا بأن وَحدُوا اللَّه ، فأخرَجَتْهُمْ عَبَدَةُ الأوثان لتوحيدهم.
وقوله . : (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ
صَوَامِعُ).
المعنى : ولولا أن دفع اللَّه بعض الناس ببعضٍ لَهُدّمَتْ صوامع.
وتقرأ (لَهُدِمَتْ) وهي صوامع الرهْبَانِ.
(وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَسَاجِدُ).
والبيَعُ بيَعُ النصارى ، والصَّلَوَاتُ كنَائِسُ اليَهود ، وهي بالعبرانية
صَلُوتَا ،
(3/430)
وقرئت
صَلَاةٌ وَمَسَاجِدُ ، وقيل إنها مَوْضعُ صَلَواتِ الصَّابِئِين.
وتأويل هذا : لولا أن اللَه - عزَّ وجل - دَفَع بعض الناس بَبَعْض لهُدِّمَ في
شريعة كُلِّ نَبيٍّ المَكَانَ الَّذِي كان يُصَلِّي فيه ، فَكَانَ لولَا الدفعُ
لَهُدِمَ في زمن موسى عليه السلام الكنائس التي كان يصلي فيها في شريعته ، وفي
زَمَنِ عيسى الصوامع والبِيَعُ ، وفي زمن محمد - صلى الله عليه وسلم - المساجِدُ.
وقوله . : (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ).
أي من أقام شريعة مِن شرائعه ، نصر على إقامة ذلك ، إلا أنَّهُ لَا يُقام
في شريعة نَبِيٍّ إلَّا ما أتِيَ به ذلك النبي وُينْتَهَى عما نَهَى عَنْهُ (1).
* * *
وقوله : (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ
وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ
وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)
(الذين) في موضع نصب على تفسير مَنْ ، المعنى وليَنْصُرَنَ اللَّهُ مَنْ
ينصُرُه ثم بين صِفَةَ ناصِريه فقال :
(الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا
الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ).
فَصِفةُ حِزْبِ اللَّه الذينَ يُوحدونَه ، إقَامة الصلاة ، وإِيتاءُ الزّكاة
والأمْر
بالمَعْرُوف والنهى عن المنكر ، وهما واجبان كوجوب الصلاة والزكاة
أعنِي الأمرَ بالمعروف والَّنْهِيَ عَنِ المُنْكَر.
* * *
(فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ
عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45)
ويقرأ أهْلكتُها ، المعنى فكيف كانَ نِكير أيْ تم أخَذْتَهم فأبْلَغْتُ أبلغ
الِإنكار.
فأهْلكت قُرى كثيرةً ، لأن معنى (فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ) معنى فكم مِنْ
قَرْيةٍ ، ومعنى كم من قريةٍ عدد كثير من القُرَى.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { الذين أُخْرِجُواْ } : يجوز أن يكونَ في محلِّ جرٍّ ، نعتاً للموصول
الأولِ أو بياناً له ، أو بدلاً منه ، وأن يكونَ في محلِّ نصبٍ على المدح ، وأن
يكونَ في محلِّ رفعٍ على إضمارِ مبتدأ.
قوله : { إِلاَّ أَن يَقُولُواْ } فيه وجهان ، أحدهما : أنه منصوبٌ على الاستثناءِ
المنقطع ، وهذا ممَّا يُجْمِعُ العربُ على نصبه؛ لأنه منقطعٌ لا يمكنُ تَوَجُّهُ
العاملِ إليه ، وما كان كذا أجمعوا على نصبهِ ، نحو : « ما زاد إلاَّ ما نقصَ » ،
« وما نفعَ إلاَّ ما ضَرَّ » . فلو توجَّهَ العاملُ جاز فيه لغتان : النصبُ وهو
لغةُ الحجاز ، وأَنْ يكونَ كالمتصلِ في النصبِ والبدل نحو : « ما فيها أحدٌ إلاَّ
حمارٌ » ، وإنما كانت الآيةُ الكريمةُ من الذي لا يتوجَّه عليه العاملُ؛ لأنك لو
قلت : « الذين أُخْرِجوا مِنْ ديارهم إلا أَنْ يقولوا ربُّنا الله » لم يَصحَّ .
الثاني : أنه في محلِّ جر بدلاً من « حَقّ » قال الزمخشري : « أي بغير موجِبٍ سوى التوحيد
الذي ينبغي أن يكون موجب الإِقرارِ والتمكينِ لا موجبَ الإِخراجِ والتسييرِ .
ومثلُه : { هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّآ إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بالله } [ المائدة : 59 ].
وممَّنْ جَعَلَه في موضع جرٍّ بدلاً ممَّا قبله الزجاجُ . إلاَّ أن الشيخ قد رَدَّ
ذلك فقال : » ما أجازاه من البدل لا يجوز؛ لأنَّ البدلَ لا يجوزُ إلاَّ حيث سبقه
نفيٌ أو نهيٌ أو استفهامٌ في معنى النفي . وأمَّا إذا كان الكلام موجَباً أو أمراً
فلا يجوزُ البدلُ؛ لأنَّ البدلَ لا يكون إلا حيثُ يكونُ العاملُ يَتَسَلَّطُ عليه
. ولو قلت : « قام إلاَّ زيدٌ » ، و « لْيَضْرِبْ إلاَّ عمروٌ » لم يجز . ولو قلت
في غير القرآن : « أُخْرِجَ الناسُ مِنْ ديارِهم إلاَّ بأَنْ يقولوا : لا إلهَ
إلاَّ اللهُ » لم يكن كلاماً . هذا إذا تُخُيِّل أَنْ يكونَ { إِلاَّ أَن
يَقُولُواْ } في موضعِ جرٍّ بدلاً من « غير » المضاف إلى « حَقٍّ » . وأمَّا إذا
كان بدلاً من « حق » كما نَصَّ عليه الزمخشريُّ فهو في غايةِ الفسادِ؛ لأنه
يَلْزَمُ منه أن يكونَ البدلُ يلي « غيراً » فيصير التركيبُ : بغير إلاَّ أَنْ
يقولوا ، وهذا لا يَصِحُّ ، ولو قَدَّرْنا [ إلاَّ ] ب « غير » كما/ يُقَدَّرُ في
النفي في : « ما مررت بأحدٍ إلاَّ زيدٍ » فتجعلُه بدلاً لم يَصِحَّ؛ لأنه يصيرُ
التركيبُ : بغير غيرِ قولِهم ربُّنا اللهُ ، فتكون قد أضَفْتَ غيراً إلى « غير »
وهي هي فيصير : بغير غير ، ويَصِحُّّ في « ما مررتُ بأحدٍ إلاَّ زيدٍ » أن تقول :
ما مررت بغير زيد ، ثم إن الزمخشري حيث مَثَّل البدلَ قَدَّره : بغير موجبٍ سوى
التوحيدِ ، وهذا تمثيلٌ للصفة جَعَلَ [ إلاَّ ] بمعنى سِوَى ، ويَصِحُّ على الصفةِ
فالتبسَ عليه بابُ الصفة بباب البدل.
ويجوز أن تقولَ : « مررتُ بالقومِ إلاَّ زيدٍ » على الصفة لا على البدل «.
قوله : { وَلَوْلاَ دَفْعُ الله } قد تقدَّم الخلافُ فيه في البقرة وتوجيهُ
القراءتين.
وقرأ » لَهُدِمَتْ « بالتخفيفِ نافعٌ وابن كثير . والباقون بالتثقيل الدالِّ على
التكثيرِ؛ لأنَّ المواضعَ كثيرةٌ متعددةٌ ، والقراءةُ الأولى صالحةٌ لهذا المعنى
أيضاً.
والعامَّةُ على » صَلَواتٌ « بفتح الصاد واللام جمعَ صلاةٍ . وقرأ جعفر ابن محمد »
وصُلُوات « بضمِّهما . ورُوي عنه أيضاً بكسرِ الصاد وسكونِ اللام . وقرأ الجحدري
بضم الصاد وفتح اللام . وأبو العالية بفتح الصادِ وسكونِ اللام . والجحدريُّ أيضاً
» وصُلُوْت « بضمِّهما وسكونِ الواو ، بعدها تاءٌ مثناةٌ من فوقُ مثلَ : صُلْب
وصُلُوب.
والكلبيُّ والضحاكُ كذلك ، إلاَّ أنهما أَعْجَما التاءَ بثلاثٍ مِنْ فوقها .
والجحدريُّ أيضاً وأبو العاليةِ وأبو رجاءٍ ومجاهدٌ كذلك ، إلاَّ أنَّهم جعلوا بعد
الثاءِ المثلثة ألفاً فقرؤوا » صُلُوْثا « ورُوي عن مجاهدٍ في هذه التاءِ
المثنَّاةِ مِنْ فوقُ أيضاً . ورُوي عن الجحدريِّ أيضاً » صُلْواث « بضم الصادِ
وسكونِ اللامِ وألفٍ بعد الواوِ والثاءِ مثلثةً.
وقرأ عكرمة » صلويثى « بكسر الصاد وسكون اللام ، وبعدها واوٌ مكسورةٌ بعدَها ياءٌ
مثنَّاةٌ مِنْ تحتُ بعدها ثاءٌ مثلثةٌ ، وحكى ابنُ مجاهد أنه قُرِىءَ » صِلْواث «
بكسر الصاد وسكون اللام . بعدها واوٌ ، بعدها ألف ، بعدها ثاءٌ مثلثةٌ.
وقرأ الجحدري » وصُلُوب « مثل كُعُوْب بالباء الموحدةِ وهو جمع » صليب « ،
وفُعُوْل جمعُ فعيل شاذٌّ نحو : ظريف وظروف وأَسِينة وأُسُون ، ورُوي عن أبي عمرو
» صلواتُ « كالعامَّةِ ، إلاَّ أنَّه لم يُنَوِّن ، مَنَعه الصرفَ للعلميَّة
والعجمة؛ لأنه جعله اسمَ موضعٍ ، فهذه أربعَ عشرةَ قراءةً ، المشهورُ منها واحدةٌ
، وهي هذه الصلاةُ المعهودة.
ولا بُدَّ مِنْ حَذْفِ مضافٍ ليَصِحَّ تَسَلُّطُ الهَدْمِ عليها أي : مواضع صلواتٍ
، أو يُضَمَّن » هُدِّمَتْ « معنى » عُطِّلَتْ « فيكون قَدْراً مشتركاً بين
المواضع والأفعال؛ فإنَّ تعطيلَ كلِّ شيءٍ بِحَسبِه . وأخَّر المساجدَ لحُدوثِها
في الوجود ، أو الانتقالِ إلى الأشرفِ . والصلواتُ في الأمم . . . . . . صلاةُ
كلِّ مِلَّةٍ بحَسَبِها . وظاهرُ كلام الزمخشري أنها بنفسِها اسمُ مكان فإنه قال :
» وسُمِّيَتْ الكنسيةُ صلاةً لأنه يُصَلَّى فيها . وقيل : هي كلمةٌ مُعَرَّبَةٌ
أصلُها بالعبرانيةِ صَلُوثا « . انتهى.
وأمَّا غيرُها من القراءات فقيل : هي سريانيةٌ أو عبرانيةٌ دَخَلَتْ في لسانِ
العربِ . ولذلك كَثُر فيها اللغاتُ.
والصَّوامِعُ : جمعُ صَوْمَعَة وهي البناءُ المرتفعُ الحديدُ الأعلى ، مِنْ قولِهم
رجلٌ أصمعُ ، وهو الحديدُ القولِ . ووزنها فَوْعَلة كدَوْخَلة . وهي متعبَّد
الرهبانِ لأنهم ينفردون . وقيل : متعبَّدُ الصَّابِئين.
والبِيَعُ : جمع بِيْعَة ، وهي متعبَّدُ النصارى . وقيل : كنائس إليهود . والأشهر
أنَّ الصوامِعَ للرهبانِ والبِيَعَ للنصارى ، والصَّلَواتِ لليهود ، والمساجدَ
للمسلمين.
و { يُذْكَرُ فِيهَا اسم الله } يجوز أَنْ يكونَ صفةً للمواضعِ المتقدمةِ كلِّها ،
إنْ أَعَدْنا الضميرَ مِنْ » فيها « عليها ، أو صفةً للمساجد فقط ، إنْ خَصَصْنا
الضميرَ في » فيها « بها ، والأولُ أظهر. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(3/431)
ويجوز
كائن بتشديد الياء ، ويجوز كائِن مِنْ قَرْيَةٍ ، وهو عند البَصْريين
في معنى العدد الكبير ، نقول : وكائن مِنْ رَجُل جَاءَنِي معناه العدد الكثيرُ
مِنَ
الرجَالَ.
(فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا).
والعُروش السقوفُ ، فالمعنى أنها قَدْ خَرِبَتْ وخَلَتْ فصارت على
سُقُوفها كما قال في مَوْضع آخر : (فَجَعَلْنَا عَالِيَها سَافِلَهَا) ، يقال خوتِ
الدارُ
والمدينةُ خَواءً ، ممدود ، فهي خاوِية ، وخَوِيتِ المرأةُ وخوِيَ الِإنْسَانُ إذا
خَلَا
مِنَ الطعَامِ خَوًى ، مَقْصور فهو خَوٍ.
وقوله : (وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ).
أكثر ما جاء في مَشِيدٍ من التَفْسِير مُجَصَّص ، والشَيدُ الجصُّ والكَلْسُ
أيضاً شِيد ، وَقِيلَ مَشِيد مُحَصَّن مُرْتَفِع ، والمُشَيد إذَا قيل مُجَصَّص
فهو مُرْتفع
في قَدْرِهِ وَإن لَمْ يرتفع في سُمكِهِ ، وأصل الشَيدِ الجصُّ والنورَةُ ، وكل ما
بُنيَ
بِهِمَا أو بِأحَدِهمَا فهو مُشَيدٌ.
* * *
وقوله : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ
بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ
وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)
(وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ).
القلبُ لا يكون إلا في الصدْرِ - ولكن جَرَى عَلَى التَوكِيدِ كما قال
عز وَجَل (يَقُولُونَ بأفْوَاهِهِمْ) ، وكما قال : (وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ
بِجَنَاحَيْهِ).
وكما قرأ بعضهم : (لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً).
فالتوكيد جار في الكلام مبالغ في الإفْهَامَ (1).
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { التي فِي الصدور } صفةٌ أو بدلٌ أو بيانٌ . وهل هو توكيدٌ؛ لأنَّ القلوبَ
لا تكونُ في غير الصدور ، أو لها معنى زائدٌ؟ كما قال الزمخشري : « الذي قد
تُعُوْرِف واعتُقِدَ أنَّ العمى في الحقيقة مكانُه البصرُ ، وهو أن تصابَ
الحَدَقَةُ بما يَطْمِسُ نورَها ، واستعمالُه في القلبِ استعارةٌ ومَثَلٌ . فلمَّا
أُريدَ إثباتُ ما هو خلافُ المعتقدِ مِنْ نسبةِ العمى إلى القلوبِ حقيقةً ، ونفيُه
عن الأبصارِ ، احتاج هذا التصويرُ إلى زيادةِ تعيينٍ وفَضْلِ تعريفٍ؛ ليتقرَّرَ
أنَّ مكانَ العمى هو القلوبُ لا الأبصارُ ، كما تقولُ : ليس المَضَاءُ للسَّيْفَ ،
ولكنه لِلِسانِك الذي بينَ فَكَّيْكَ . فقولُك : » الذي بين فَكَّيْكَ « تقريرٌ
لِما ادَّعَيْتَه لِلِسانِه وتثبيتٌ؛ لأنَّ مَحَلَّ المَضاءِ هو هو لا غير ،
وكأنَّك قلتَ : ما نَفَيْتُ المَضاءَ عن السيفِ وأثبتَّه لِلِسانِك فلتةً مني ولا
سَهواً ، ولكن تَعَمَّدْتُ به إيَّاه بعينه تَعَمُّداً.
وقد رَدَّ الشيخ على أبي القاسم قولَه : » تَعَمَّدْتُ به إياه « وجعل هذه
العبارةَ عُجْمَةً من حيث إنه فَصَلَ الضميرَ ، وليس من مواضعِ فَصْلِه ، وكان
صوابُه أن يقول : تعمَّدْتُه به كما تقول : » السيفُ ضربتُك به « لا » ضربْتُ به
إياك «.
قلت : وقد تقدَّم لك نظيرُ هذا الردِّ والجوابُ عنه بما أُجيب عن قولِه تعالى : {
يُخْرِجُونَ الرسول وَإِيَّاكُمْ } [ الممتحنة : 1 ] ، { وَلَقَدْ وَصَّيْنَا
الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ } [ النساء : 131 ] : وهو أنه
مع قَصْدِ تقديمِ غيرِ الضميرِ عليه لغرضٍ يمتنعُ اتصالُه ، وأيُّ خطأ في مثل هذا
حتى يَدَّعي العُجْمَةَ على فصيحٍ شَهِدَ له بذلك أعداؤُه ، وإن كان مُخْطِئاً في
بعضِ الاعتقاداتِ ممَّا لا تَعَلُّقَ له فيما نحن بصدِده؟
وقال الإِمامُ فخر الدين : « وفيه عندي وجهٌ آخرُ : وهو أنَّ القلبَ قد يُجْعَلُ
كنايةً عن الخاطرِ والتدبُّرِ ، كقولِه تعالى : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لذكرى لِمَن
كَانَ لَهُ قَلْبٌ } [ ق : 37 ] . وعند قومٍ أنَّ محلَّ الذِّكْرِ هو الدماغُ ،
فاللهُ تعالى بيَّن أنَّ مَحَلَّ ذلك هو الصدرُ » . وفي محلِّ العقلِ خلافٌ مشهورٌ
، وإلى الأولِ مَيْلُ ابنِ عطية قال : « هو مبالغةٌ كما تقول : نظرتُ إليه بعيني ،
وكقوله : يقولون بأَفْواههم » . قلت : وقد أَبْدَيْتُ فائدةً في قوله « بأفواههم »
زيادةً على التأكيد. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(3/432)
وقوله
: (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ
يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47)
قيل إن يوْماً من أيامِ عَذَابِهم كألف سَنَةٍ ، ويدل على ذلك الحديث
الذي يُرْوَى أن الفقراء يُدْخُلونَ الجنةَ قَبْلَ الأغْنِياءِ بِنِصفِ يومٍ.
وجاء في حديث آخر تفسير هذا القول بخمسمائةِ عَامٍ.
فهذا يدل على أنَّ اليومَ مِن أيامِ القِيامة ألف سَنَةٍ ، والذي تدل عليه الآية -
واللَّهُ أعلَم - أنهم اسْتَعجَلوا فأعلمَ اللَّهُ عز وَجَلَّ أنه لا يَفُوته شيء
وأن يوماً عنده وألف سنةٍ في قُدْرَتِه وَاحدٌ ، وأن الاستعجال في ميعادهم لا فرق
فيه بين وقوع ما يستعجلون به من العذاب وتأخره في القدرة إلَّا أنَّ اللَّهَ - جل
ثناؤه - تفضل بالإِمهال ، وغَفَر بِالتوبَةِ ، فالتأخير الفرق بينه وبين التقديم
تفَضل الله عزَّ وَجَل بالنَظِرَةِ.
ثم أعلم - عزَّ وَجَلً - أنَّه قد أخذ قَوْماً بعد الإِملاءِ والتأخير عُقوبةً منه
ليزدادوا إثماً فقال بعد قوله : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ) ، وبعد تمام
الآية (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ
أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48).
المعنى ثم أخَذْتها بالعَذَابِ ، واستُغنِيَ عن ذكر العذاب لِتقَدُمِ ذكره في
قوله : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ).
* * *
وقوله : (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ
الْجَحِيمِ (51)
أي ظانِّينَ أنهم يعجزونَنَا لأنهم ظَنوا أنهم لا يُبْعَثُونَ ، وأنَّهُ لاَ
جنَّةَ ولا
نار.
وقيل في التفسير معاجزين معاندين ، وليس بخارج من القول الأول.
وقُرِئت معَجِّزِين ، وتأويلها أنهم كانوا يُعَجِّزُونَ من اتبع النبي - صلى الله
عليه وسلم - وُيثَبِّطونَهمْ عنه.
* * *
وقوله : (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا
إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا
يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52)
معنى (إِذَا تَمَنَّى)إذَا تَلَا ، ألقى الشيطان في تِلَاوَتِهِ ، فذلك
(3/433)
محنة
من اللَّه ، - عزَّ وجلَّ - وله أنْ يمْتحن بما شاء ، فألقى الشيطان على
لسان النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئاً من صفة الأصنام فافتتن بذلك أهلُ الشقاق
والنفاقِ ومن في قلبه مرض (1) فقال اللَّهُ عر وَجَل :
(لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ
وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ
ثم أعلم أنهم ظالِمونَ ، وأنهم في شِقاقٍ دَائِم ، والشقاق غاية العداوةِ فقال - :
(وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ).
ثم أعلم أن هؤلاَءِ لا يَتوبونَ فقال :
(وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ) أي في شك مِنه.
(حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً) أي مفاجأة.
(أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ).
أصل العُقم ، العقم في الولادة ، يقال : هَذِهِ امرأة عقيمٌ ، كما قال
اللَّه - عَزً وَجَلً - : (قَالَتْ عجوزٌ عقيم).
وكذلك رجل عقيم إذا كان لا يُولدُ
قال الشاعر :
عُقِمَ النِّساءُ فلن يَلِدْنَ شَبيهَه . . . إن النِّساءَ بمثْلِه عُقْمُ
والريح العقيم التي لا تأتي بسحاب يُمْطِر ، وإنما تأتي بالعذاب ، واليوم
العقيم هُوَ الَّذي لا يَأتي فيه خيرٌ ، فيوم القيامةِ عقيمٌ على الكفار كما قال
اللَّه - عزَّ وجلَّ -
__________
(1) قال الإمام فخر الدين الرَّازي ما نصُّه :
أما قوله تعالى : {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ
إِلاَّ إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان فِى أُمْنِيَّتِهِ} ففيه مسائل :
المسألة الأولى :
من الناس من قال : الرسول هو الذي حدث وأرسل ، والنبي هو الذي لم يرسل ولكنه ألهم
أو رأى في النوم ، ومن الناس من قال : إن كل رسول نبي ، وليس كل نبي يكون رسولاً ،
وهو قول الكلبي والفراء.
وقالت المعتزلة كل رسول نبي ، وكل نبي رسول ، ولا فرق بينهما ، واحتجوا على فساد
القول الأول بوجوه : أحدها : هذه الآية فإنها دالة على أن النبي قد يكون مرسلاً ،
وكذا قوله تعالى : {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مّن نَّبِيٍّ} [ الأعراف : 94
] ، وثانيها : أن الله تعالى خاطب محمداً مرة بالنبي ومرة بالرسول ، فدل على أنه
لا منافاة بين الأمرين ، وعلى القول الأول المنافاة حاصلة وثالثها : أنه تعالى نص
على أنه خاتم النبيين ورابعها : أن اشتقاق لفظ النبي إما من النبأ وهو الخبر ، أو
من قولهم نبأ إذا ارتفع ، والمعنيان لا يحصلان إلا بقبول الرسالة.
أما القول الثاني : فاعلم أن شيئاً من تلك الوجوه لا يبطله ، بل هذه الآية دالة
عليه لأنه عطف النبي على الرسول ، وذلك يوجب المغايرة وهو من باب عطف العام على
الخاص.
وقال في موضع آخر {وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيّ فِى الأولين} [ الزخرف : 6 ]
وذلك يدل على أنه كان نبياً ، فجعله الله مرسلاً وهو يدل على قولنا : « وقيل لرسول
الله صلى الله عليه وسلم كم المرسلون ؟ فقال ثلثمائة وثلاثة عشرة ، فقيل وكم
الأنبياء ؟ فقال مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً الجم الغفير » إذا ثبت هذا فنقول :
ذكروا في الفرق بين الرسول والنبي أموراً : أحدها : أن الرسول من الأنبياء من جمع
إلى المعجزة الكتاب المنزل عليه ، والنبي غير الرسول من لم ينزل عليه كتاب ، وإنما
أمر أن يدعو إلى كتاب من قبله والثاني : أن من كان صاحب المعجزة وصاحب الكتاب ونسخ
شرع من قبله فهو الرسول ، ومن لم يكن مستجمعاً لهذه الخصال فهو النبي غير الرسول ،
وهؤلاء يلزمهم أن لا يجعلوا إسحق ويعقوب وأيوب ويونس وهرون وداود وسليمان رسلاً
لأنهم ما جاءوا بكتاب ناسخ والثالث : أن من جاءه الملك ظاهراً وأمره بدعوة الخلق
فهو الرسول ، ومن لم يكن كذلك بل رأى في النوم كونه رسولاً ، أو أخبره أحد من
الرسال بأنه رسول الله ، فهو النبي الذي لا يكون رسولاً وهذا هو الأولى.
المسألة الثانية :
ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآية أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما رأى إعراض
قومه عنه وشق عليه ما رأى من مباعدتهم عما جاءهم به تمنى في نفسه أن يأتيهم من
الله ما يقارب بينه وبين قومه وذلك لحرصه على إيمانهم فجلس ذات يوم في ناد من
أندية قريش كثير أهله وأحب يومئذ أن لا يأتيه من الله شيء ينفروا عنه وتمنى ذلك
فأنزل الله تعالى سورة {والنجم إِذَا هوى} [ النجم : 1 ] فقرأها رسول الله صلى
الله عليه وسلم حتى بلغ قوله {أَفَرَءيْتُمُ اللات والعزى * ومناة الثالثة الأخرى}
[ النجم : 19 ، 20 ] ألقى الشيطان على لسانه « تلك الغرانيق العلى منها الشفاعة
ترتجى » فلما سمعت قريش ذلك فرحوا ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في قراءته
فقرأ السورة كلها فسجد وسجد المسلمون لسجوده وسجد جميع من في المسجد من المشركين
فلم يبق في المسجد مؤمن ولا كافر إلا سجد سوى الوليد بن المغيرة وأبي أحيحة سعيد
بن العاصي فإنهما أخذا حفنة من التراب من البطحاء ورفعاها إلى جبهتيهما وسجدا
عليها لأنهما كانا شيخين كبيرين فلم يستطيعا السجود وتفرقت قريش وقد سرهم ما سمعوا
وقالوا قد ذكر محمد آلهتنا بأحسن الذكر فلما أمسى رسول الله صلى الله عليه وسلم
أتاه جبريل عليه السلام فقال ماذا صنعت تلوت على الناس ما لم آتك به عن الله وقلت
ما لم أقل لك ؟ ! فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم حزناً شديداً وخاف من الله
خوفاً عظيماً حتى نزل قوله تعالى : {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ
وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان فِى أُمْنِيَّتِهِ} الآية.
هذا رواية عامة المفسرين الظاهريين ، أما أهل التحقيق فقد قالوا هذه الرواية باطلة
موضوعة واحتجوا عليه بالقرآن والسنة والمعقول.
أما القرآن فوجوه : أحدها : قوله تعالى : {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ
الأقاويل * لأَخَذْنَا مِنْهُ باليمين * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوتين} [
الحاقة : 44 46 ] ، وثانيها : قوله : {قُلْ مَا يَكُونُ لِى أَنْ أُبَدّلَهُ مِن
تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ} [ يونس : 15 ]
وثالثها : قوله : {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يوحى} {النجم
: 3 ] فلو أنه قرأ عقيب هذه الآية تلك الغرانيق العلي لكان قد ظهر كذب الله تعالى
في الحال وذلك لا يقوله مسلم ورابعها : قوله تعالى : {وَإِن كَادُواْ
لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الذى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِىَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ
وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً} [ الإسراء : 73 ] وكلمة كاد عند بعضهم معناه قرب
أن يكون الأمر كذلك مع أنه لم يحصل وخامسها : قوله : {وَلَوْلاَ أَن ثبتناك لَقَدْ
كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً} [ الإسراء : 74 ] وكلمة لولا تفيد
انتفاء الشيء لانتفاء غيره فدل على أن ذلك الركون القليل لم يحصل وسادسها : قوله :
{كذلك نُثَبّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [ الفرقان : 32 ].
وسابعها : قوله : {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى} [ الأعلى : 6 ].
وأما السنة فهي ما روي عن محمد بن إسحق بن خزيمة أنه سئل عن هذه القصة فقال هذا
وضع من الزنادقة وصنف فيه كتاباً.
وقال الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل ثم
أخذ يتكلم في أن رواة هذه القصة مطعون فيهم ، وأيضاً فقد روى البخاري في صحيحه أن
النبي عليه السلام قرأ سورة النجم وسجد فيها المسلمون والمشركون والإنس والجن وليس
فيه حديث الغرانيق.
وروي هذا الحديث من طرق كثيرة وليس فيها ألبتة حديث الغرانيق.
وأما المعقول فمن وجوه : أحدها : أن من جوز على الرسول صلى الله عليه وسلم تعظيم
الأوثان فقد كفر لأن من المعلوم بالضرورة أن أعظم سعيه كان في نفي الأوثان وثانيها
: أنه عليه السلام ما كان يمكنه في أول الأمر أن يصلى ويقرأ القرآن عند الكعبة
آمناً أذى المشركين له حتى كانوا ربما مدوا أيديهم إليه وإنما كان يصلي إذا لم
يحضروها ليلاً أو في أوقات خلوة وذلك يبطل قولهم وثالثها : أن معاداتهم للرسول
كانت أعظم من أن يقروا بهذا القدر من القراءة دون أن يقفوا على حقيقة الأمر فكيف
أجمعوا على أنه عظم آلهتهم حتى خروا سجداً مع أنه لم يظهر عندهم موافقته لهم
ورابعها : قوله : {فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِى الشيطان ثُمَّ يُحْكِمُ الله
ءاياته} وذلك لأن إحكام الآيات بإزالة ما يلقيه الشيطان عن الرسول أقوى من نسخه
بهذه الآيات التي تبقى الشبهة معها ، فإذا أراد الله إحكام الآيات لئلا يلتبس ما
ليس بقرآن قرآناً ، فبأن يمنع الشيطان من ذلك أصلاً أولى وخامسها : وهو أقوى
الوجوه أنا لو جوزنا ذلك ارتفع الأمان عن شرعه وجوزنا في كل واحد من الأحكام
والشرائع أن يكون كذلك ويبطل قوله تعالى : {يا أيها الرسول بَلّغْ مَا أُنزِلَ
إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ والله
يَعْصِمُكَ مِنَ الناس} [ المائدة : 67 ] فإنه لا فرق في العقل بين النقصان عن
الوحي وبين الزيادة فيه فبهذه الوجوه عرفنا على سبيل الإجمال أن هذه القصة موضوعة
أكثر ما في الباب أن جمعاً من المفسرين ذكروها لكنهم ما بلغوا حد التواتر ، وخبر
الواحد لا يعارض الدلائل النقلية والعقلية المتواترة ، ولنشرع الآن في التفصيل
فنقول التمني جاء في اللغة لأمرين : أحدهما : تمنى القلب والثاني : القراءة قال
الله تعالى : {وَمِنْهُمْ أُمّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الكتاب إِلاَّ أَمَانِيَّ} [
البقرة : 78 ] أي إلا قراءة لأن الأمي لا يعلم القرآن من المصحف وإنما يعلمه قراءة
، وقال حسان :
تمنى كتاب الله أول ليلة . . وآخرها لاقى حمام المقادر
قيل إنما سميت القراءة أمنية لأن القارىء إذا انتهى إلى آية رحمة تمنى حصولها وإذا
انتهى إلى آية عذاب تمنى أن لا يبتلى بها ، وقال : أبو مسلم التمني هو التقدير
وتمنى هو تفعل من منيت والمنية وفاة الإنسان في الوقت الذي قدره الله تعالى ، ومنى
الله لك أي قدر لك.
وقال رواة اللغة الأمنية القراءة واحتجوا ببيت حسان ، وذلك راجع إلى الأصل الذي
ذكرناه فإن التالي مقدر للحروف ويذكرها شيئاً فشيئاً ، فالحاصل من هذا البحث أن
الأمنية ، إما القراءة ، وإما الخاطر ، أما إذا فسرناها بالقراءة ففيه قولان :
الأول : أنه تعالى أراد بذلك ما يجوز أن يسهو الرسول صلى الله عليه وسلم فيه
ويشتبه على القارىء دون ما رووه من قوله تلك الغرانيق العلى الثاني : المراد منه
وقوع هذه الكلمة في قراءته ثم اختلف القائلون بهذا على وجوه : الأول : أن النبي
صلى الله عليه وسلم لم يتكلم بقوله تلك الغرانيق العلى ولا الشيطان تكلم به ولا
أحد تكلم به لكنه عليه السلام لما قرأ سورة النجم اشتبه الأمر على الكفار فحسبوا
بعض ألفاظه ما رووه من قولهم تلك الغرانيق العلى وذلك على حسب ما جرت العادة به من
توهم بعض الكلمات على غير ما يقال وهذا الوجه ذهب إليه جماعة وهو ضعيف لوجوه :
أحدها : أن التوهم في مثل ذلك إنما يصح فيما قد جرت العادة بسماعه فأما غير
المسموع فلا يقع ذلك فيه وثانيها : أنه لو كان كذلك لوقع هذا التوهم لبعض السامعين
دون البعض فإن العادة مانعة من اتفاق الجم العظيم في الساعة الواحدة على خيال واحد
فاسد في المحسوسات وثالثها : لو كان كذلك لم يكن مضافاً إلى الشيطان الوجه الثاني
: قالوا إن ذلك الكلام كلام شيطان الجن وذلك بأن تلفظ بكلام من تلقاء نفسه أوقعه
في درج تلك التلاوة في بعض وقفاته ليظن أنه من جنس الكلام المسموع من الرسول صلى
الله عليه وسلم قالوا والذي يؤكده أنه لا خلاف في أن الجن والشياطين متكلمون فلا
يمتنع أن يأتي الشيطان بصوت مثل صوت الرسول عليه السلام فيتكلم بهذه الكلمات في
أثناء كلام الرسول عليه السلام وعند سكوته فإذا سمع الحاضرون تلك الكلمة بصوت مثل
صوت الرسول وما رأوا شخصاً آخر ظن الحاضرون أنه كلام الرسول ، ثم هذا لا يكون
قادحاً في النبوة لما لم يكن فعلاً له ، وهذا أيضاً ضعيف فإنك إذا جوزت أن يتكلم
في أثناء الشيطان كلام الرسول صلى الله عليه وسلم بما يشتبه على كل السامعين كونه
كلاماً للرسول بقي هذا الاحتمال في كل ما يتكلم به الرسول فيفضي إلى ارتفاع الوثوق
عن كل الشرع فإن قيل هذا الاحتمال قائم في الكل ولكنه لو وقع لوجب في حكمة الله
تعالى أن يشرح الحال فيه كما في هذه الواقعة إزالة للتلبيس ، قلنا لا يجب على الله
إزالة الاحتمالات كما في المتشابهات وإذا لم يجب على الله ذلك تمكن الاحتمال من
الكل الوجه الثالث : أن يقال المتكلم بذلك بعض شياطين الإنس وهم الكفرة فإنه عليه
السلام لما انتهى في قراءة هذه السورة إلى هذا الموضع وذكر أسماء آلهتهم وقد علموا
من عادته أنه يعيبها فقال بعض من حضر تلك الغرانيق العلى فاشتبه الأمر على القوم
لكثرة لغط القوم وكثرة صياحهم وطلبهم تغليطه وإخفاء قراءته ، ولعل ذلك كان في
صلاته لأنهم كانوا يقربون منه في حال صلاته ويسمعون قراءته ويلغون فيها ، وقيل إنه
عليه السلام كان إذا تلا القرآن على قريش توقف في فصول الآيات فألقى بعض الحاضرين
ذلك الكلام في تلك الوقفات فتوهم القوم أنه من قراءة الرسول صلى الله عليه وسلم ثم
أضاف الله تعالى ذلك إلى الشيطان لأنه بوسوسته يحصل أولاً ولأنه سبحانه جعل ذلك
المتكلم في نفسه شيطاناً وهذا أيضاً ضعيف لوجهين : أحدهما : أنه لو كان كذلك لكان
يجب على الرسول صلى الله عليه وسلم إزالة الشبهة وتصريح الحق وتبكيت ذلك القائل
وإظهار أن هذه الكلمة منه صدرت وثانيهما : لو فعل ذلك لكان ذلك أولى بالنقل ، فإن
قيل إنما لم يفعل الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك لأنه كان قد أدى السورة بكمالها
إلى الأمة من دون هذه الزيادة فلم يكن ذلك مؤدياً إلى التلبيس كما يؤدي سهوه في
الصلاة بعد أن وصفها إلى اللبس ، قلنا إن القرآن لم يكن مستقراً على حالة واحدة في
زمان حياته لأنه كان تأتيه الآيات فيلحقها بالسور فلم يكن تأدية تلك السورة بدون
هذه الزيادة سبباً لزوال اللبس ، وأيضاً فلو كان كذلك لما استحق العتاب من الله
تعالى على ما رواه القوم الوجه الرابع : هو أن المتكلم بهذا هو الرسول صلى الله
عليه وسلم ثم هذا يحتمل ثلاثة أوجه فإنه إما أن يكون قال هذه الكلمة سهواً أو
قسراً أو اختياراً أما الوجه الأول : وهو أنه عليه السلام قال هذه الكلمة سهواً
فكما يروى عن قتادة ومقاتل أنهما قالا إنه عليه السلام كان يصلي عند المقام فنعس
وجرى على لسانه هاتان الكلمتان فلما فرغ من السورة سجد وسجد كل من في المسجد وفرح
المشركون بما سمعوه وأتاه جبريل عليه السلام فاستقرأه ، فلما انتهى إلى الغرانيق
قال لم آتك بهذا ، فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن نزلت هذه الآية وهذا
ضعيف أيضاً لوجوه : أحدها : أنه لو جاز هذا السهو لجاز في سائر المواضع وحينئذ
تزول الثقة عن الشرع وثانيها : أن الساهي لا يجوز أن يقع منه مثل هذه الألفاظ
المطابقة لوزن السورة وطريقتها ومعناها ، فإنا نعلم بالضرورة أن واحداً لو أنشد
قصيدة لما جاز أن يسهو حتى يتفق منه بيت شعر في وزنها ومعناها وطريقتها وثالثها :
هب أنه تكلم بذلك سهواً ، فكيف لم ينبه لذلك حين قرأها على جبريل عليه السلام وذلك
ظاهر أما الوجه الثاني : وهو أنه عليه السلام تكلم بذلك قسراً وهو الذي قال قوم إن
الشيطان أجبر النبي صلى الله عليه وسلم على أن يتكلم بهذا فهذا أيضاً فاسد لوجوه :
أحدها : أن الشيطان لو قدر على ذلك في حق النبي عليه السلام لكان اقتداره علينا
أكثر فوجب أن يزيل الشيطان الناس عن الدين ولجاز في أكثر ما يتكلم به الواحد منا
أن يكون ذلك بإجبار الشياطين وثانيها : أن الشيطان لو قدر على هذا الإجبار لارتفع
الأمان عن الوحي لقيام هذا الاحتمال وثالثها : أنه باطل بدلالة قوله تعالى حاكياً
عن الشيطان {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مّن سلطان إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ
فاستجبتم لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُمْ} [ إبراهيم : 22 ] وقال
تعالى : {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ على الذين ءَامَنُواْ وعلى رَبّهِمْ
يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سلطانه على الذين يَتَوَلَّوْنَهُ} [ النحل : 99 ، 100
] وقال : {إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين} [ الحجر : 40 ] ولا شك أنه عليه
السلام كان سيد المخلصين أما الوجه الثالث : وهو أنه عليه السلام تكلم بذلك
اختياراً فههنا وجهان : أحدهما : أن نقول إن هذه الكلمة باطلة والثاني : أن نقول
إنها ليست كلمة باطلة أما على الوجه الأول فذكروا فيه طريقين : الأول : قال ابن
عباس رضي الله عنهما في رواية عطاء إن شيطاناً يقال له الأبيض أتاه على صورة جبريل
عليه السلام وألقى عليه هذه الكلمة فقرأها فلما سمع المشركون ذلك أعجبهم فجاء
جبريل عليه السلام فاستعرضه فقرأها فلما بلغ إلى تلك الكلمة قال جبريل عليه السلام
أنا ما جئتك بهذه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه أتاني آت على صورتك
فألقاها على لساني الطريق الثاني : قال بعض الجهال إنه عليه السلام لشدة حرصه على
إيمان القوم أدخل هذه الكلمة من عند نفسه ثم رجع عنها ، وهذان القولان لا يرغب
فيهما مسلم ألبتة لأن الأول يقتضي أنه عليه السلام ما كان يميز بين الملك المعصوم
والشيطان الخبيث والثاني يقتضي أنه كان خائناً في الوحي وكل واحد منهما خروج عن
الدين أما الوجه الثاني : وهو أن هذه الكلمة ليست باطلة فههنا أيضاً طرق الأول :
أن يقال الغرانيق هم الملائكة وقد كان ذلك قرآناً منزلاً في وصف الملائكة.
فلما توهم المشركون أنه يريد آلهتهم نسخ الله تلاوته الثاني : أن يقال المراد منه
الاستفهام على سبيل الإنكار ، فكأنه قال : أشفاعتهن ترتجى ؟ الثالث : أن يقال إنه
ذكر الإثبات وأراد النفي كقوله تعالى : {يُبَيّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ} [
النساء : 176 ] أي لا تضلوا كما قد يذكر النفي ويريد به الإثبات كقوله تعالى :
{قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ
بِهِ شَيْئاً } [ الأنعام : 151 ] والمعنى أن تشركوا ، وهذان الوجهان الأخيران
يعترض عليهما بأنه لو جاز ذلك بناء على هذا التأويل فلم لا يجوز أن يظهروا كلمة
الكفر في جملة القرآن أو في الصلاة بناء على هذا التأويل ، ولكن الأصل في الدين أن
لا يجوز عليهم شيء من ذلك لأن الله تعالى قد نصبهم حجة واصطفاهم للرسالة فلا يجوز
عليهم ما يطعن في ذلك أو ينفر ، ومثل ذلك في التنفير أعظم من الأمور التي حثه الله
تعالى على تركها كنحو الفظاظة والكتابة وقول الشعر فهذه الوجوه المذكورة في قوله
تلك الغرانيق العلا قد ظهر على القطع كذبها ، فهذا كله إذا فسرنا التمني بالتلاوة.
وأما إذا فسرناها بالخاطر وتمنى القلب فالمعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم متى
تمنى بعض ما يتمناه من الأمور يوسوس الشيطان إليه بالباطل ويدعوه إلى ما لا ينبغي
ثم إن الله تعالى ينسخ ذلك ويبطله ويهديه إلى ترك الالتفات إلى وسوسته ، ثم
اختلفوا في كيفية تلك الوسوسة على وجوه : أحدها : أنه يتمنى ما يتقرب به إلى
المشركين من ذكر آلهتهم بالثناء قالوا إنه عليه السلام كان يحب أن يتألفهم وكان
يردد ذلك في نفسه فعندما لحقه النعاس زاد تلك الزيادة من حيث كانت في نفسه وهذا
أيضاً خروج عن الدين وبيانه ما تقدم وثانيها : ما قال مجاهد من أنه عليه السلام
كان يتمنى إنزال الوحي عليه على سرعة دون تأخير فنسخ الله ذلك بأن عرفه بأن إنزال
ذلك بحسب المصالح في الحوادث والنوازل وغيرها وثالثها : يحتمل أنه عليه السلام عند
نزول الوحي كان يتفكر في تأويله إن كان مجملاً فيلقى الشيطان في جملته ما لم يرده
، فبين تعالى أنه ينسخ ذلك بالإبطال ويحكم ما أراده الله تعالى بأدلته وآياته
ورابعها : معنى الآية إذا تمنى إذا أراد فعلاً مقرباً إلى الله تعالى ألقى الشيطان
في فكره ما يخالفه فيرجع إلى الله تعالى في ذلك وهو كقوله تعالى : {إِنَّ الذين
اتقوا إِذَا مَسَّهُمْ طَيفٌ مّنَ الشيطان تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ}
[ الأعراف : 201 ] وكقوله : {وَإِمَّا يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ فاستعذ
بالله} [ الأعراف : 200 ] ومن الناس من قال لا يجوز حمل الأمنية على تمني القلب
لأنه لو كان كذلك لم يكن ما يخطر ببال رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنة للكفار
وذلك يبطله قوله تعالى : {لّيَجْعَلَ مَا يُلْقِى الشيطان فِتْنَةً لّلَّذِينَ فِى
قُلُوبِهِم مَّرَضٌ والقاسية قُلُوبُهُمْ} ، والجواب : لا يبعد أنه إذا قوي التمني
اشتغل الخاطر به فحصل السهو في الأفعال الظاهرة بسببه فيصير ذلك فتنة للكفار فهذا
آخر القول في هذه المسألة.
المسألة الثالثة :
يرجع حاصل البحث إلى أن الغرض من هذه الآية بيان أن الرسل الذين أرسلهم الله تعالى
وإن عصمهم عن الخطأ مع العلم فلم يعصمهم من جواز السهو ووسوسة الشيطان بل حالهم في
جواز ذلك كحال سائر البشر فالواجب أن لا يتبعوا إلا فيما يفعلونه عن علم فذلك هو
المحكم ، وقال أبو مسلم معنى الآية أنه لم يرسل نبياً إلا إذا تمنى كأنه قيل : وما
أرسلنا إلى البشر ملكاً وما أرسلنا إليهم نبياً إلا منهم ، وما أرسلنا نبياً خلا
عند تلاوته الوحي من وسوسة الشيطان وأن يلقي في خاطره وما يضاد الوحي ويشغله عن
حفظه فيثبت الله النبي على الوحي وعلى حفظه ويعلمه صواب ذلك وبطلان ما يكون من
الشيطان ، قال وفيما تقدم من قوله : {قُلْ يا أيها الناس إِنَّمَا أَنَاْ لَكُمْ
نَذِيرٌ مُّبِينٌ} تقوية لهذا التأويل فكأنه تعالى أمره أن يقول للكافرين أنا نذير
لكم لكني من البشر لا من الملائكة ، ولم يرسل الله تعالى مثلي ملكاً بل أرسل
رجالاً فقد وسوس الشيطان إليهم ، فإن قيل هذا إنما يصح لو كان السهو لا يجوز على
الملائكة ، قلنا إذا كانت الملائكة أعظم درجة من الأنبياء لم يلزم من استيلائهم
بالوسوسة على الأنبياء استيلاؤهم بالوسوسة على الملائكة ، واعلم أنه سبحانه لما
شرح حال هذه الوسوسة أردف ذلك ببحثين
البحث الأول : كيفية إزالتها وذلك هو قوله تعالى : {فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِي
الشيطان} فالمراد إزالته وإزالة تأثيره فهو النسخ اللغوي لا النسخ الشرعي المستعمل
في الأحكام. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 23 صـ 43 - 48}
(3/434)
(عَلَى
الكَافِرينَ غَيرُ يَسِيرٍ).
وليس هو على المؤمنين الذين أَدْخِلوا في رحمة اللَّه كذلك.
وأنشد بعض أهل اللغة في قوله تمنى في معنى تلا قول الشاعر :
تَمَنَّى كتابَ اللهِ أَوَّلَ لَيْلِه . . . وآخِرَه لاقَى حِمامَ المَقادِرِ
أي تلا كتاب اللَّه مترسلًا فيهِ كما تلا داود الزبور مترسِّلاً فيه.
* * *
وقوله : (ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ
لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60)
(ذلك) في موضع رفع ، المعنى الأمر ذلك ، أي الأمره ، قصصنا لحيكم.
قوله : (وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِ).
الأول لم يكن عقوبةً ، وإنما العقوبة الجزاء ، ولكنه سُمِّي عقوبةً لأن
الفِعلَ الذي هو عقوبة كان جزاء فسمِّي الأول الذي جوزيَ عليه عقوبة لاستواء
الفعلين في جنس المكروه.
كما قال عزَّ وَجَلَّ : (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا).
فالأول سيئة والمجازاة عليها حسنةٌ من حسنات المجَازِي عليها إلا أنها سُمِّيَتْ
سيئَةً بأنها وقَعَتْ إساءة بالمفعول به ، لأنه فعِلَ بِهِ ما يَسُوءه.
وكذلك قوله (مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) ، جعل مجازاتهم
باستهزائهم مسمَّى بلفظ فِعْلِهِمْ لأنه جَزَاءُ فعلهم.
* * *
وقوله : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ
الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63)
وقرئت مَخْضَرَة .
(3/435)
ذكر
الله جل ثناؤه - ما يدل على توحيده من إيلاج الليل في النَّهَارِ
والنهار في الليل ، وذكر إنزاله الماء يُنْبِتُ وذكر تسخير الفلك في البحر
وإمساك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه ، فدل أنه الواحد الَّذي خلق
الخلق وأتى بما لا يمكن الْبَشَرَ أن يأتوا بمثله ، ثم ذكر جهل المشركين في
عِبَادَتِهِمْ الأصنام فقال عزَّ وَجَل :
(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا
لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71)
أي ما لم يُنْزِلْ بِهِ حُجةً وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ.
ثم ضرب لهم مَثَلَ مَا يَعْبُدون ، وأنه لا ينفع ولا يضر.
وأما القراءة : (فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) لَا غَيرُ
قال سيبويه : سألت الخليل عن قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ
مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) فقال هذا واجبٌ ومعناه
التنبيه كأنَّه قال : أتَسْمَعُ ؟
أنْزَلَ الله من السماء ماء ، فكان كذا وكذا ، وقال غيره مثل قوله.
قال مجاز هذا الكلام مجاز الخبر كأنه قال : الله ينزل من السماء ماء ، فتصبح
الأرضِ مخضرةً.
وأنشدوا.
أَلم تَسْأَلِ الرَّبْعَ القَواءَ فَيَنْطِقُ . . . وهَلْ تُخْبِرَنْكَ اليَوْمَ
بَيْداءُ سَمْلَقُ ؟
قال الخليل : المعنى فهو مما ينطق ، وأما من قرأ مَخْضَرَة فهو على
معنى ذات مَخْضَرة مثل مَبْقَلة ذات بقل ، ومَشْبَعة ذات شِبَع ، ولا يجوز
مَخَضَرَّة - بفتح الميم وتشديد الراء - لأن مَفْعَلَّة ليس في الكلام ولا معنى
له.
* * *
وقوله عزَّ وَجَلَّ : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي
الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ
أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ
لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65)
(3/436)
(الفلْكَ)
بالنصْب نَسق - على " ما " المعنى وسخر لكم الفلك.
ويكون (تجري) حالاً ، أي وسخر لكم الفلك في حَاِل جريها.
ويقرأ : (والفلكُ تجري في البحر بأمْره) ، فيكون الفلكُ مرفوعاً بالابتداء ،
وتجْري هو الخبر ، والمعنى معنى التسخير لأن جريها بأمره هو التسخير.
وقوله : (وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ).
على معنى كراهة أن تقع على الأرْض ، وموضع " أن " نَصبٌ بيُمْسِكً.
وهي مفعول . المعنى لكراهة أن تقع.
* * *
وقوله : (لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا
يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى
مُسْتَقِيمٍ (67)
ومَنْسِكاً ، وقد تقدم الشرح في هذا.
وقوله : (فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ)
أي لا يجادِلُنَّكَ فيه ، ومعناه لا تنازعهم ، والدليل عنى أن المعنى
لا يُجَادِلنَّك وَلَا تُجَادِلَنَّهُمْ قوله : (وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ
أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ).
هذا قبل القتال.
فإن قال قائل : فهم قد جَادَلُوه فَلِمَ قيل (فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ)
وهم قد نازعوه ؟
فالمعنى أنه نَهْيٌ له - صلى الله عليه وسلم - عن منازعَتِهِمْ كما يقول : لا
يخَاصِمَنَّكَ فُلَانٌ في هذا أبداً ، وهذا جائز في الفعل الذي لا يَكونُ إلا من
اثنين لأن المجادلة والمخاصمة لا تتم إلا باثنين ، فإذا قلت لا يُجَادِلَنَكَ
فُلان
فهو بمنزلة لا تجادِلِنَّهُ ، ولا يجوز هذا في قوله : لا يَضْرِبَنَّكَ فُلَانٌ ،
وأنت تريد
لا تضرِبْهُ.
ولكن لو قلت لا يُضَارِبنَّكَ فلان لكان كقولك لا تُضَارِبَنَّ فلاناً.
ويقرأ : " فَلَا يَنْزِعُنَّك في الأمر " : معناه لا يغلِبُنَّكَ في
المنازعة فيه ، يقال : نَازَعَنِي فُلَانٌ فنزعتُه وَعَازَّني فَعَزَزْتُه ، أنزعه
وأغلِبُه ، المعنى فلا يَغْلِبُنَّكَ في الأمْرِ.
* * *
وقوله : (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ
الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ
عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ
وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72)
(3/437)
أي
يكادون يبطشونَ بسطوةٍ على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ، والذين يتلون
عليهم القرآن.
وقوله ، : (قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا
اللَّهُ).
القراءة بالرفع وهي أثبت في النحو مِنَ الجر والنَصْبِ والخفض.
والنَّصْبُ جائز ، فأمَّا من رفع فعلى معنى هو النَّارُ ، وهي النَّارُ ، كأنَّهم
قالوا : مَا هَذَا الذي هُوَ شَرٌّ ؟
فقِيلَ النَّارُ . ومن قال النَّارِ بالجر ، فعلى البَدَلِ مِنْ شَرٍّ ، ومَنْ
قَالَ النَّارَ بِالنَصْبِ ، فهو على معنى أعْني النَّارَ ، وعلى معنى أنَبُئكُمْ
بشَرٍّ من
ذلكم كأنَّه قال أعَرفُكُم شَرًّا من ذلكم النَّارَ.
* * *
وقوله : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ
تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ
وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ
الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73)
لأنهم عبدوا من دون اللَّه ما لا يَسْمَع ولا يُبْصِرُ وما لم يُنَزِّلْ به حجةً.
فَأَعْلَمَهُم اللَّهِ عزَّ وَجَل الجواب فيما جعلوه للَّه مثلاً ، وجعلوه له
نيًرا ، فقال : (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا
ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ).
يعنى الأصنام ، وكل من دُعِيَ مِن دُونِ اللَّهِ إِلهاً لَا إلهَ إلا اللَّهُ
وحْدَه.
وقوله : (وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ).
أعلم اللَّه - جلّ ثناؤه - أنه الخالق ، ودل على وحدانيته بجميع ما خلق
ثم أعلم أن الذِين عُبِدُوا مِنْ دُونهِ لا يَقْدِرون على خَلقِ وَاحِدٍ قَلِيل
ضعيفٍ مِنْ
خَلْقِه ، ولا على اسْتِنْقَاذِ تَافِهٍ حقيرٍ منه.
* * *
ثم قال : (مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74)
أي ما عظموه حقَّ عَظَمتِه ، ثم أعلَمَ بَعْدَ ذِكره ضعْفَ قوة المَعْبُودِينَ
قوَّته فقال : (إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ).
(3/438)
وقوله
(ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ)
يجوز ضَعُفَ ، وضُعِفَ الطالب والمطلوب ، أي فهم يضعفون عن أن
يخلقوا ذبَاباً ، وعن أن يستنقذوا من الذُّبَابشيئاً ضعف الذباب.
وقوله - عزَّ وجلَّ - : (اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ
النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75)
اصطفى اللَّه من الملائكة جبريل وميكائيل وإسرافيل ومَلَكَ الموتِ
واصطفى من الناسِ النبيينَ والمرسلين صلى الله عليهم وسلم أحمعين.
* * *
وقوله : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا
رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77)
أي اقصدوا بركوعكم وسجودكم الله وحده.
(وَافْعَلُوا الْخَيْرَ).
والخير كل مَا أمرَ اللَّه بِهِ.
وقوله : (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)
هذا ليس بشك ، ولكن معناه لترجوا أن تكونوا على فلاح ، كما قال
لموسى وهارون : (اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ
قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44).
أي اذهبا على رجائِكمَا كما كما يرجو النبي ممنْ يُبْعَث إليه ، واللَّه
عز وَجَلَّ من وراء العلم بما يؤول إليه أمر فرعون إلا أن الحجةَ لا تَقوم إلا
بَعدَ الإِبَانَةِ.
وقوله عزَّ وَجَل : (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ
وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ
هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ
شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ
وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى
وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)
قيل إنه بمنزلة قوله : (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ) وأن نسخها قوله :
(فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ).
وقوله : (هو اجْتَبَاكمْ) معناه : اختاركم.
* * ** * ** * ** * ** * ** * ** * **
(3/439)
وقوله
: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ).
أي مِنْ ضيقٍ ، جعل الله على من لم يستطع الشيء الذي يثقل في
وَقتٍ ، ما هُو أخف منه ، فجعل للصائم الإفطار في السفر ، وبِقَصْر الصلاة
للمُصَلِّي إذا لم يُطِقِ القِيام أن يُصَلِّيَ قَاعدِاً ، وإِن لم يطق القُعُودَ
أن يُومِئَ
إيماءً ، وجعل للرجل أن يتزوج أَرْبعاً ، وجعل له جميع ما ملكتْهُ يمينُهُ.
فوسَّعَ اللَّه - عزَّ وَجَلَّ - عَلَى خلقِه.
وقوله : (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ).
معناه اتبعوا مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ.
وجائز أن يكون مَنْصُوباً بقوله : اعبدوا ربكم وافعلوا الخير فعْلَ أبيكم إبراهيم.
وقوله : (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا).
" هُوَ " رَاجِعَةٌ إلى اللَّه - عَر وَجَلً - المعنى : اللَّهُ
سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِنْ
قَبْلِ أن يُنَزِّلَ القرآن ، وفي هذا القرآن سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ.
وجائز أنْ يكون إبراهيمُ عليه السلام سَمَّاكُمُ المُسلِمِينَ من قبل ، وفي هذا ،
أي حكم إبراهيم أن كل من آمن بمحمد مُوَحِّداً لِلَّهِ فقد سمَّاه إبراهيم
مُسْلِماً.
وقوله : (وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ).
يروى أن الله سبحانه أعطى هذه الأمة ثلاثة أشياء لم يعْطَها إلا الأنبياء.
جُعِلَتْ شَهِيدَة على سائر الأمَمِ ، والشهادة لكل نبيٍّ على أُمَّتِه.
وأن يقال للنبي عليه السلام : اذهب ولا حرج عليك ، وقال اللَّه لهذه الأُمَّة :
(وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) ، وأنه قال لكل نَبِيٍّ سَلْ
تُعْطَه ، وقال لهذه الأمَّةِ : (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ).
(3/440)
سُورَةُ
المؤْمِنون
(مَكِيَّة)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
ومن السورة التي يذكر فيها المؤمنون.
قوله تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1)
أي قد نَالُوا البَقاء الدائم في الخير ، ومن قرأ قد أُفْلِحَ المؤمنونَ.
كان معناه : قد أُصِيرُوا إلى الفلاح.
ويروى عن كعب الحَبْر : أن الله عزَّ وجلَّ لم يخلق بيده إلا ثلاثة أشياء ، خلق
آدمَ - صلى الله عليه وسلم - بِيَدِه وخلق جنَّةَ عَدْنٍ بيده ، وكتب
التوراة بيده ، فقال لجنَّة عدنٍ تكلمي فقالت ((قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ)
لما رأت فيها من الكرامة لأهلها ،
(4/5)
و(الْمُؤْمِنُونَ)
المصدِّقونَ بما أتى من عند اللَّه ، وبأنه واحد لا شريك له.
وأن محمداً - صلى الله عليه وسلم - نبيُّه
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)
أصل الخشوع في اللغة الخضوع والتَوَاضع ، ودليل ذلك قوله :
(وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا).
وقال الحسن وقتَادَةُ : خاشعون خائفون.
وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان إذا وقف في صلاته رفع بصره نحو
السماء ، فلما نزلت (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ) جَعَلَ نظره موضع
سُجُودِه . .
* * *
(وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3)
اللغو كل لَعِبٍ وهَزْلٍ ، وكُلُّ مَعْصِيَةٍ فمُطَّرحةٌ مُلْغَاة ، وهم الذين قد
شغلهم الجد فيما أمرهم اللَّه به عن اللغْوِ.
* * *
وقوله : (وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4)
معنى (فَاعِلُونَ) مُؤتُونَ.
* * *
(وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5)
أي يحفظون فروجهم عن المعاصي.
* * *
(إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ
مَلُومِينَ (6)
مَوْضِعُ " ما " خفَضٌ ودخلت " على " ههنا لأن المعنى أنهم
يلامون في
إطْلاقِ ما حُظِرَ عَلَيْهم ، (إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ فِإنَهُم لَا يُلَامون
على ما أُحِلَّ لَهُمْ
مِنْ تَزوج أرْبع ، ومِنْ ملك اليَمِين ، والمعنى أنهم يلامون على ما سِوى
أَزْوَاجِهِمْ وملك أيمانِهِمْ .
(4/6)
(فَمَنِ
ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7)
أي فمن طلب مَا بَعْدَ ذَلِكَ.
(فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ).
ومعنى (الْعَادُونَ) الجائرون الظالمونَ الذين قَدْ تَعدَّوا فِي الظلْمِ.
* * *
(وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8)
ويقرأ لأمانتهم واحداً وَجَمْعاً.
(وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ).
أي يقومُون على حفظ أَمَانَتِهِمْ وَعَهْدِهم ، يَرْعَوْنَ ذلك ، وأصل الرَّعْيِ
في اللغَةِ القيامُ على إصلاح ما يتولَّاه الراعي من كل شيءٍ تقول : الِإمام
يَرْعَى رَعِيتَهُ ، والقيِّمُ بالغنم يَرْعَى غَنَمه ، وفلان يَرْعَى مَا بَيْنَه
وبَيْنَ فُلانٍ ، أي يقوم على إصْلاح ما بينه وبينه.
* * *
(وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9)
(وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ).
وَصَلَواتِهِم يقرأ أن جميعاً.
(يُحَافِظُونَ).
معناه يُصَلونَها لوقتها ، والمحافظة على الصلَواتِ أَن تُصَلَّى في أَوْقَاتِها.
فأمَّا الترك فَداخل في بَابِ الخُرُوجِ عَنِ الدِّينِ.
والذين وُصِفُوا بالمحافظة هم الذين يرْعَوْنَ أَوْقَاتَها.
* * *
(أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10)
أيَ من وصف بما جرى من الِإيمَانِ والعَمَلِ بما يلزم المؤمِنَ أُولئِكَ هُم
الْوَارِثُونَ.
* * *
(الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)
(4/7)
روي
أن اللَّه - جل ثناؤه - جعل لكل امْرِئ بَيْتاً في الجَنَّةِ وَبَيْتاً في
النَّارِ
فمن عَمِلَ عَمَلَ أهلَ النَّارِ وَرِث بيتَه مِنَ الجَنَّةِ مَنْ عَمِلَ عَمَلَ
أهلِ الجَنَّةِ ، ومن
عَمِلَ عَمَلَ أهْلِ الجنَّة ورث بيته من النار من عَمِلَ عَمَل أهل النَّارِ ،
والفِرْدَوْس : أصله رُومي أعرب وهو البسْتَان ، كذلك جاء في التفسير.
وقد قيل إنَّ الفِرْدَوْس يعرفه العَرَب ، وسُمِّى الموضِع الذي فيه كرم فردوساً.
قال أبو إسحاق : روينا عَنْ أَحْمَدَ بنِ حَنْبل رحمه الله في كتابه " كتاب
التفسير " ، وهو ما أجازه لي عبد الله ابنه عنه أن اللَّه عزَّ وجلَّ ، بنى
جَنَّةَ
الفِرْدَوْسِ لَبِنةً من ذهب ولَبِنةً من فِضةٍ ، وجَعَلَ جِبَالها المِسْكَ
الأذْفَر.
ورَوينَا عن غيره أن اللَّه - جَلَّ ثناؤه - كنس جَنّة الفردَوْسِ بِيدِه ، وبناها
لبنةً من ذهب مُصَفًّى ولبنةً مِنْ مِسْكٍ مذَرًّى ، وغرس فيها مِنْ جَيِّدِ
الفَاكِهَةِ وَجَيِّد الريْحَانِ.
* * *
قوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12)
سُلَالَة : فعالة . فخلق اللَّه آدم - عليه السلام - مِنْ طِينٍ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13)
على هذا القول يَعْنِي وَلَدَ آدم.
وِقيل مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طينٍ ، من مَنِيِّ آدم - صلى الله عليه وسلم -
وسُلَالَة : القليل فيما يَنْسَلُ . وكل مَبْنَى عَلَى فُعالة ، يراد به القليل.
فمن ذلك الفُضَالَة والنُّخَالة والقُلاَمَة . فَعَلَى هذَا قياسُه.
* * *
وقوله : (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً
فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ
أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ
(14)
(فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا
الْعِظَامَ لَحْمًا)
وتقرأ على أرْبَعةِ أوْجهٍ :
أحدها ما ذكرنا . وتقرأ : (فَخَلَقنا المضغة عَظْماً فكسونا العَظْمَ لحماً)
ويقرأ : (فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العَظْمَ لحماً)
ويقرأ : (فخلقنا المضغة عَظْماً فكسونا العظام لحماً).
والتوحيد والجمع ههنا جائزان ، لأنه يُعْلم أن الإنسانَ ذُو عظام ، فإِذَا ذُكِرَ
على التوحيد فِلأنه يَدلُّ على
(4/8)
الجمع
، ولأنَّهُ مَعه اللحْمَ ، ولفظه لفظ الواحِدِ ، فقد عُلِمَ أن العَظْمَ يُرَادُ
به
العِظَامُ.
وقد يجوز من التوحيد إذا كان في الكلام دليل على الجمع مَا هُوَ أشَدُّ
مِنْ هذا قال الشاعر :
في حلقكم عظم وقد شجينا
يريد في حلوقكم عِظامٌ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ).
فيه ثلاثة أقوال : قِيل جُعِلَ ذكراً أَوْ أنثى ، وقيل نفخ فيه الروح.
وقيلَ أنْبِتَ عليه الشًعْرُ.
ويروى أَن عمَر كان عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين نزلت هذه الآية ،
فقال عَمر : فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخَالِقِينَ ، فقال - صلى الله عليه وسلم
- لعمر إن الله قد ختم بها الآية.
* * *
وقوله : (ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15)
ويجوز لمائِتون ، ويجوز لَميْتون.
وأجْوَدها (لَمَيِّتُونَ) ، وعليها القراءة.
وجاءت مائتون لأنها لما يستقبل.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا
عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17)
يعنَى به سبع سموات ، فكل واحدة طريقة.
(وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ) ، أي لم نكن لنغفلَ عن حفظهنَّ ، كما
قال : (وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفوظاً).
وجائز أن يكون (وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ) أي إنا لِحِفْظِنَا
إيَّاهُمْ خلقنا هذا الخلق .
(4/9)
(وَأَنْزَلْنَا
مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى
ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18)
ويروى أن أربعة أنهار من الجنة ، دجلةُ والفراتُ وَسِيحانُ وجِيحانُ.
ومعنى (فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ) جعلناه ثابتاً فيها لا يزول.
* * *
وقوله : (وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ
لِلْآكِلِينَ (20)
(شَجَرَةً) منصوب ، عطف على قوله : (فَأنْشَأنَا لَكُمْ به جَنَّاتٍ) أي، وأنشأنا
لكم به شجرةً.
ويقرأ (من طور سَيْنَاءَ) بفتحَ السين ، وبكسر السين (1) ، والطور
الجبل ، وقيل إن سيناء حجارةٌ ، وهو - واللَّه أعلم - اسمٌ لِمكَانٍ.
فمن قال سَيْناء ، فهو على وصف صحراء ، لا ينصرف ، ومن قال سِينَاء - بكسر السين -
فليس في الكلام على وزن فِعْلاَء على أن الألف للتأنيث ، لأنه ليس في الكلام ما
فيه ألف التأنيث على وزن فِعْلَاءَ ، وفي الكلام نحو عِلْباءٍ مُنْصَرِفٌ.
إلا أن سِيناء ههنا اسم للبقعة فلا ينصرف.
قوله : (تَنْبًتُ بِالذُهْنِ).
يقال نبت الشجر وأَنْبَتَ في مَعْنًى واحدٍ ، قال زُهير :
رأيت ذوي الحاجات حول بيوتهم قطيناً لهم حتى إذا أنبت البَقْلُ
ومعنى (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) أي تنبت وفيها دُهْنٌ وَمَعَها دُهْن كما تقول :
جاءني زيد . بالسيف ، تريد جاءني ومعه السيف.
وقوله تعالى : (وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ).
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { وَشَجَرَةً } : عطفٌ على « جناتٍ » . وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو «
سِيناء » بكسر السين . والباقون بفتحها . والأعمش كذلك إلاَّ أنه قَصَرها . فأمَّا
القراءةُ الأولى فالهمزةُ فيها ليسَتْ للتأنيثِ؛ إذ ليس في الكلام فِعْلاء بكسر
الأول ، وهمزتُه للتأنيث ، بل للإِلحاقِ ك « سِرْداح » و « قِرْطاس » فهي كِعلْباء
فتكونُ الهمزةُ منقلبةً عن ياءٍ أو واوٍ؛ لأن الإِلحاقَ يكون بهما ، فلمَّا وقع
حرفُ العلةِ متطرفاً بعد ألفٍ زائدة قُلِبَتْ همزةً كرِداء وكِساء ، قال الفارسي :
« وهي الياءُ التي ظهرَتْ في » دِرْحايَة « . والدِّرْحاية : الرجلُ القصيرُ
السمينُ.
وجعل أبو البقاءِ هذه الهمزةَ أصليةً فقال : » والهمزةُ على هذا أصلٌ مثل «
حِمْلاق » وليسَتْ للتأنيثِ إذ ليس في الكلام مثلُ [ حِمْراء والياءُ أصلٌ إذ ليس
في الكلام « سنأ » ] يعني : مادة سين ونون وهمزة . وهذا مخالِفٌ لِما تَقَدَّمَ
مِنْ كونِها بدلاً من زائدٍ ملحقٍ بالأصل . على أن كلامَه محتملٌ للتأويلِ إلى ما
تقدَّم ، وعلى هذا فَمَنْعُ الصرفِ للتعريف والتأنيث؛ لأنها اسمُ بُقعةٍ بعينها ،
وقيل : للتعريف والعُجْمة ، قال بعضهم : والصحيحُ أن « سِيْناء » اسمٌ أعجمي
نَطَقَتْ به العربُ فاختلفَتْ فيه لغاتُها فقالوا : سَيْناء كحَمْراء وصَفْراء ،
وسِيناء كعِلباء وحِرْباء وسِيْنين كخِنْذِيْذ وزِحليل ، والخِنْذِيْذ : الفحلُ
والخَصِيُّ أيضاً ، فهو مِن الأضداد ، وهو أيضاً رأسُ الجبلِ المرتفعُ ،
والزِّحْلِيلُ : المُتَنَحِّي مِنْ زَحَل إذا تنحى.
وقال الزمخشري : « طُوْرُ سيناء وطور سينين : لا يخلوا : إمَّا أن يُضافَ فيه
الطورُ إلى بقعةٍ اسمُها سيناء ، وسينون ، وإمَّا أَنْ يكونَ اسماً للجبلِ مركباً
مِنْ مضافٍ ومضافٍ إليه كامرىء القيس وبعلبك ، فيمَنْ أضاف . فَمَنْ كَسَرَ سينَ »
سيناء « فقد مَنَعَ الصرفَ للتعريفِ والعجمةِ ، أو التأنيثِ ، لأنها بقعة وفِعْلاء
لا تكون ألفه للتأنيث كعِلْباء وحِرْباء . قلت : وكونُ ألفِ فِعْلاء بالكسر ليست
للتأنيث هو قولُ أهل البصرة ، وأمَّا الكوفيون فعندهم أن ألفها تكون للتأنيثِ ،
فهي عندهم ممنوعةٌ للتأنيثِ اللازم كحمراء وبابها . وكسرُ السين من » سِيْناء «
لغةُ كِنانة.
وأمَّا القراءة الثانية فألِفُها للتأنيث ، فَمَنْع الصرف واضحٌ . قال أبو البقاء
: » وهمزتُه للتأنيث إذ ليس في الكلامِ فَعْلال بالفتح . وما حكى الفراء مِنْ
قولهم : ناقةٌ فيها خَزْعال « لا يَثْبُتُ ، وإنْ ثبت فهو شاذٌّ لا يُحمل عليه ».
وقد وَهِم بعضُهم فجعل « سيناء » مشتقةً من السَّنا وهو الضوءُ ، ولا يَصِحُّ ذلك
لوجهين أحدُهما : أنه ليس عربيَّ الوَضْعِ . نَصُّوا على ذلك كما/ تقدم ، الثاني :
أنَّا وإنْ سلَّمنا أنه عربيُّ الوَضْعِ ، لكنْ المادتان مختلفتان ، فإنَّ عَيْنَ
« السنا » نونٌ وعينَ « سيناء » ياء.
كذا قال بعضُهم . وفيه نظرٌ؛ إذ لقائلٍ أَنْ يقولَ : لا نُسَلِّم أن عينَ « سيناء
» ياءٌ ، بل هي عينُها نونٌ وياؤُها مزيدةٌ ، وهمزتُها منقلبةٌ عن واوٍ كما قُلِبت
السَّناء ، ووزنها حينئذٍ فِيْعال ، وفِيْعال موجودٌ في كلامِهم كمِيْلاع وقِيْتال
مصدرُ قاتلَ.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(4/10)
يعنى
بها الزَيْتُون.
* * *
قوله : (إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25)
(جِنَّةٌ) في معنى جُنُون ، والجنَّةُ اسم للجِن.
* * *
وقوله : (وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ
الْمُنْزِلِينَ (29)
تقرأ مُنْزَلاً وَمَنْزِلاً جميعاً ، فالمَنْزِل اسم لكل ما نزلتَ فيه ،
والمُنْزَلَ
المصدر بمعنى الإنزال ، يَقُول : أَنْزَلْتُه إنْزَالاً وَمُنْزَلاً ويجوز
مَنْزَلاً ، ولم يقرأ بها
- فلا تقرأن بها - . على معنى نزلت نزولاً وَمَنْزَلاً.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا
وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36)
وهذا جوابُ الملأ مِنْ قَوْمِ ثمودَ (1).
فأمََّا " أَنَّكُمْ " الأولى ، فموضعها نصب
على معنى أيَعدُكم بأَنكُمْ إذا متم ، وموضع " أَنَّ " الثانية عند قوم
كموضع
الأولى ، وإنما ذُكِرَتْ تَوْكِيداً.
فالمعنى على هذا القول : أَيَعِدُكم أَنكُمْ تُخرَجُونَ إِذَا مِتمْ ، فلما بَعُدَ
مَا بَيْنَ أن الأولى والثانية بقوله : (إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً
وَعِظَاما) أُعِيدَ ذِكر " أنَّ " كما قال عزَّ وجلَّ : (أَلَمْ
يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ
جَهَنَّمَ) المعنى فله نار جهنم.
هذا عَلَى مذهب سيبويه ، وفيها قولان آخران أجودهما أن تكون أن الثانية وما عملت
فيه في موضع رفع ويكون المعنى أَيَعدُكُمْ أنكم إخراجُكم إذا مُتم . فيكون أنكم
مخرجون في معنى إخراجكم ، كأنَّه قيل : أيعدكم أنكم إخراجكم وقت موتكم وبعد
مَوْتكم ، ويكون العامِلُ في " إذَا " إخراجكم ، على أن
" إذا " ظرف ، والمعنى أنكم يكونُ إخراجكم إذا مِتم.
الثالث أن يكون إذا العامِلُ فيها " مَتَمْ " ، فيكون المعنى إنكمْ
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ } : الآيةُ في إعرابها ستةُ أوجهٍ ، أحدُها :
أنَّ اسم « أنَّ » الأولى مضافٌ لضميرِ الخطاب حُذِفَ وأقيم المضافُ إليه مُقامَه
، والخبرُ قولُه : { إِذَا مِتٌّمْ } و { أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ } تكريرٌ ل « أنَّ
» الأولى للتأكيدِ والدلالةِ على المحذوفِ والمعنى : أنَّ إخراجَكم إذا مِتُّمْ
وكُنْتُم.
الثاني : أنَّ خبرَ « أنَّ » الأولى هو « مُخْرَجُون » ، وهو العامل في « إذا » ،
وكُرِّرَتْ الثانيةُ توكيداً لَمَّا طال الفصلُ . وإليه ذهبَ الجرميُّ والمبردُّ
والفراءُ.
الثالث : أنَّ { أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ } مُؤَولٌ بمصدرٍ مرفوع بفعلٍ محذوفٍ ،
ذلك الفعلُ المحذوفُ هو جوابُ « إذا » الشرطيةِ ، وإذا الشرطيةُ وجوابُها
المقدَّرُ خبرٌ ل « أنَّكم » الأولى ، تقديرُه : يَحْدُث أنكم مُخْرَجون.
الرابع : كالثالثِ في كونِه مرفوعاً بفعلٍ مقدرٍ ، إلاَّ أنَّ هذا الفعلَ
المقدَّرَ خبرٌ ل « أنَّ » الأولى ، وهو العاملُ في « إذا ».
الخامس : أنَّ خبر الأولى محذوفٌ لدلالةِ خبرِ الثانيةِ عليه ، تقديرُه : أنكم
تُبْعَثُون ، وهو العاملُ في الظرف ، وأنَّ الثانية وما في حَيِّزِها بدلٌ من
الأولى ، وهذا مذهبُ سيبويه.
السادس : أنَّ { أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ } مبتدأٌ ، وخبرُه الظرفُ مقدَّماً عليه ،
والجملةُ خبرٌ عن « أنكم » الأولى ، والتقديرُ : أيَعِدُكم أنَّكم إخراجُكم كائنٌ
أو مستقرٌ وقتَ موتِكم . ولا يجوزُ أَنْ يكونَ العاملُ في « إذا » « مُخْرَجُون »
على كلِّ قولٍ؛ لأنَّ ما في حيِّز « أنَّ » لا يعمل فيما قبلها ، ولا يعمل فيها «
مِتُّم » لأنه مضافٌ إليه ، و « أنَّكم » وما في حَيِّزه في محلِّ نصبٍ أو جرّ بعد
حَذْفِ الحرفِ ، إذ الأصلُ : أيَعِدُكم بأنَّكم . ويجوزُ أَنْ لا يُقَدَّرَ حرفُ
جرّ ، فيكونُ في محلِّ نصبٍ فقط نحو : وَعَدْتُ زيداً خيراً.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(4/11)
متى
مُتمْ يقع إخْراجُكم ، فيكون خبر إنّ مُضْمَراً ، والقولَان الأولانَ جَيدانِ.
ويجوز ُ : أيَعِدُكم أنكُمْ إِذا مِتُّم أنكم مُخْرجُونَ ، ولم يُقْرأ بِهَا فلا
تقرأنَّ
بها . ويكونَ المعنى في يعدكم يقول لكم ولكنها لا تجوز في القراءة لِأنَّ
القِرَاءَةَ سُنَةٌ.
* * *
وقوله : (هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36)
يقرأ بفتح التاء وبكسر التاء (1) ، ويجوز هيهاتٍ هيهاتٍ - بالتنوين - ويجوز
هيهاتاً هيهاتاً ، فأما الفتح والكسر بغير تنوينٍ فكثيرتان في القراءة ، وذكرهما
القراء والنحويون ، وقد قرئت بالكسر والتنوين ، فأما التنوين والفتح فلا أعلَمُ
أحَدَاً قَرأ بِهِمَا ، فلا تقرأنَّ بِهَا.
فأمَّا الفتح فالوقف فيه بالهاء . تقول هَيْهاهْ هَيْهاهْ - إذا فتحت ووقفت بَعْد
الفتح ، فإذا فتحتَ وَقَفْت على التاء سواء عليك كنت تنوِّن في الأصل أو كنت مِمنْ
لا ينَوِّن.
فمن فتحها - وموضعها الرفْع وتأويلها البعد لما توعدونَ - فلأنها بمنزلة
الأصواتِ ، وليْست مشتقَةً من فِعْلِ فَبنَيَتْ هيهاه كما بُنِيَتْ ذَيَّه
وَذِيَّه.
فإذَا كَسَرْتَ جَعْلَتها جَمْعاً وبَنيتها على الكسر.
قال سيبويه : هي بمنزلة عَلقاه.
يعني في تأنيثها.
ومن جَعَلَها جَمْعاً فهي بمنزلة قول العرب : استأصل اللَّه عَرْقَاتِهمْ
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ } : اسمُ فعلٍ معناه : بَعُدَ ، وكُرِّر للتوكيدِ ،
فليسَتِ المسألةُ من التنازعِ . قال جرير :
3413 فهيهاتَ هيهاتَ العَقيقُ وأهلُه . . . وهيهاتَ خِلٌّ بالعقيقِ نُواصِلُهْ
وفَسَّره الزجَّاجُ في ظاهر عبارتِه بالمصدرِ فقال : « البُعْدُ لِما تُوعدون ، أو
بَعُدَ لِما توعدون » . فظاهرُها أنَّه مصدرٌ بدليلِ عَطْفِ الفعل عليه . ويمكنُ
أَنْ يكونَ فَسَّر المعنى فقط . و « هيهاتَ » اسمُ فعلٍ قاصرٍ يرفعُ الفاعلَ ،
وهنا قد جاء ما ظاهرُه الفاعلُ مجروراً باللامِ : فمنهم مَنْ جعله على ظاهِره وقال
: « ما توعدون » فاعلٌ به ، وزِيْدت فيه اللامُ . التقديرُ : بَعُدَ بَعُدَ ما
تُوْعَدُون . وهو ضعيفٌ إذ لم يُعْهَدْ زيادتُها في الفاعلِ . ومنهم مَنْ جَعَل
الفاعلَ مضمراً لدلالةِ الكلامِ عليه ، فقَدَّره أبو البقاء : « هيهاتَ التصديقُ
أو الصحةُ لِما تُوْعَدون » . وقدَّره غيرُه : بَعُدَ إخراجُكم ، و « لِما
تُوْعدون » للبيانِ . قال/ الزمخشريُّ : « لبيانِ المُسْتَبْعَدِ ما هو بَعْدَ
التصويبِ بكلمةِ الاستبعادِ؟ كما جاءَتِ اللامُ في { هَيْتَ لَكَ } [ يوسف : 23 ]
لبيانِ المُهَيَّتِ به » . وقال الزجاج : « البُعْدُ لِما تُوعدون » فجعله مبتدأً
، والجارُّ بعدَه الخبرُ . قال الزمخشري : « فإنْ قلت : ما تُوعدون هو المستبعَدُ
، ومِنْ حَقِّه أَنْ يرتفع ب » هيهاتَ « كما ارتفع بقولِه :
فهيهاتَ هيهاتَ العَقيقُ وأهلُه . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . .
فما هذه اللام؟ قلت : قال الزجاجُ في تفسيرِه : » البُعْدُ لِما تُوْعَدون ، أو
بُعْدٌ لِما تُوْعَدون فيمَنْ نَوَّن فَنَزَّلَه مَنْزِلَةَ المصدر « . قال الشيخ
: » وقولُ الزمخشري : فَمَنْ نَوَّنَه نَزَّله منزلةَ المصدرِ ، ليس بواضحٍ ،
لأنهم قد نَوَّنوا أسماءَ الأفعال ولا نقول : إنها إذا نُوِّنَتْ تَنَزَّلَتْ
منزلةَ المصادر « . قلت : الزمخشريُّ لم يَقُل كذا ، إنما قال فيمن نَوَّن نَزَّله
منزلةَ المصدرِ لأجلِ قولِه : » أو بُعْدٌ « فالتنوينُ علةٌ لتقديره إياه نكرةً لا
لكونِه مُنَزَّلاً منزلةَ المصدرِ؛ فإنَّ أسماءَ الأفعال ما نُوِّن منها نكرةٌ ،
وما لم يُنَوَّنْ معرفةٌ نحو : صَهْ وصَهٍ ، تقديرُ الأول بالسكوت ، والثاني
بسكوتٍ ما.
وقال ابن عطية : » طَوْراً تلي الفاعلَ دون لامٍ ، تقول : هيهات مجيءُ زيدٍ أي :
بَعُدَ ، وأحياناً يكون الفاعلُ محذوفاً عند اللام كهذه الآيةِ . التقديرُ :
بَعُدَ الوجودُ لِما تُوْعدون « . ولم يَسْتَجْوِزْه الشيخُ ومن حيث قولُه حُذِفَ
الفاعلُ ، والفاعلُ لا يُحْذَفُ . ومن حيث إن فيه حَذْفَ المصدرِ وهو الوجودُ
وإبقاءَ معمولِه وهو » لِما تُوعدون « . وهيهاتَ الثاني تأكيدٌ للأولِ تأكيداً
لفظياً . وقد جاء غيرَ مؤكَّدٍ كقوله :
3414 هيهات مَنْزِلُنا بنَعْفِ سُوَيْقَةٍ . . . كانت مباركةً على الأيام
وقال آخر :
3415 هيهاتَ ناسٌ مِنْ أُناسٍ ديارُهُمْ . . . دُقاقٌ ودارُ الآخرين الأوانسُ
وقال رؤبة :
3416 هيهاتَ مِنْ مُنْخَرِقٍ هَيْهاؤه . . . قال القيسي شارحُ » أبيات الإِيضاح «
: » وهذا مِثْلُ قولِك : بَعُدَ بُعْدُه؛ وذلك أنه بنى من هذه اللفظةِ فَعْلالاً ،
فجاء به مجيءَ القَلْقَال والزَّلْزال.
والألفُ في « هيهات » غيرُ الألفِ في « هيهاؤه » ، وهي في « هيهات » لامُ الفعلِ
الثانيةُ كقاف الحَقْحَقَة الثانية ، وهي في « هيهاؤه » ألف الفَعْلال الزائدة «.
وفي هذه اللفظةِ لغاتٌ كثيرةٌ تزيد على الأربعين ، وأذكر هنا مشهورَها وما قُرِىء
به : فالمشهورُ هَيْهات بفتح التاءِ من غيرِ تنوينٍ ، بُني لوقوعِه موقعَ المبنيِّ
أو لشِبْهِه بالحرفِ وقد تقدَّم تحقيق ذلك . وبها قرأ العامَّةُ وهي لغة الحجازيين
. و » هَيْهاتاً « بالفتح والتنوين ، وبها قرأ أبو عمروٍ في روايةِ هارون عنه .
ونسبها ابن عطية لخالد بن إلياس . و » هَيْهاتٌ « بالضمِّ والتنوين وبها قرأ
الأحمر وأبو حيوة . وبالضم من غير تنوين ، وتروى عن أبي حيوةَ أيضاً ، فعنه فيها
وجهان ، وافقه أبو السَّمَّال في الأول دونَ الثانية.
و » هَيْهاتٍ « بالكسر والتنوين ، وبها قرأ عيسى وخالد بن إلياس ، وبالكسرِ من غير
تنوين ، وهي قرءاةُ أبي جعفرٍِ وشَيْبة ، وتروى عن عيسى أيضاً ، وهي لغة تميم وأسد
. وهَيْهاتْ بإسكانِ التاء ، وبها قرأ عيسى أيضاً وخارجة عن أبي عمرو والأعرج .
وهَيْهاهْ » بالهاء آخراً وصلاً ووَقْفاً . و « أَيْهاتَ » بإبدال الهاء همزة مع فتح
التاء ، وبهاتين قرأ بعضُ القرَّاء فيما نقل أبو البقاء . فهذه تسعُ لغاتٍ قد
قُرِىء بهن ، ولم يتواتَرْ منها غيرُ الأولى.
ويجوز إبدالُ الهمزةِ من الهاء الأولى في جميعِ ما تقدَّم فيَكْمُل بذلك ستَ عشرةَ
لغةً . و « إيهان » بالنون آخراً ، و « أيهى » بالألفِ آخراً . فَمَنْ فَتَح
التاءَ قالوا فهي عنده اسم مفرد . ومَنْ كسرها فهي عنده جمعٌ تأنيثٍ كزَيْنبات
وهنِْدات ويُعْزى هذا لسيبويه لأنه قال : « هي مثل بَيْضات » فنُسِب إليه أنه
جَمْعٌ مِنْ ذلك ، حتى قال بعض النحويين : مفردُها هَيْهَة مثل بَيْضَة . وليس
بشيءٍ بل مفردُها هَيْهات قالوا : وكان ينبغي على أصلِه أن يُقال فيها :
هَيْهَيَات بقلب ألف هَيْهات ياءً لزيادتِها على الأربعة نحو : مَلْهَيات
ومَغْوَيَات ومَرْمَيات؛ لأنها من بناتِ الأربعة المضعَّفة من الياء من باب
حاحَيْت وصِيصِيَة . وأصلُها بوزنِ القَلْقَلة والحَقْحَقَةُ/ فانقلبت الياءُ
ألفاً لتحرُّكِها وانفتاحِ ما قبلَها فصارَتْ هَيْهاة كالسَّلْقاة والجَعْباة ،
وإنْ كانت الياءُ التي انقلبَتْ عنها ألفُ « سَلْقاة » و « جَعْباة » زائدةً ،
وياء هَيْهَيَة أصلاً ، فلمَّا جُمِعت كان قِياسُها على قولِهم أَرْطَيات وعَلْقيات
أن يقلولوا فيها هَيْهَيَات ، إلاَّ أنهم حَذَفوا الألف لالتقاء الساكنين لما كانت
في آخر اسمٍ مبنيٍّ ، كما حَذَفوها في ذان واللتان وتان ليَفْصِلوا بين الألفاتِ
في أواخر المبنية والألفات في أواخر المتمكنة ، وعلى هذا حذفوها في أُوْلات وذوات
لتخالِفَ ياء « حَصَيَات » و « نَوَيات ».
وقالوا : مَنْ فتح تاء « هيهات » فحقُّه أَنْ يكتبَها هاء لأنها في مفرد كتمرة
ونواة . ومَنْ كسرها فَحَقُّه أَنْ يكتبَها تاءً لأنها في جمعٍ كهندات . وكذلك
حكمُ الوقفِ سواءٌ . ولا التفاتَ إلى لغة « كيف الإِخوةُ والأخَواهْ » ولا « هذه ثَمَرَتْ
» لقلَّتِها . وقد رُسِمَتْ في المصحفِ بالهاء.
واختلف القراءُ في الوقفِ عليها : فمنهم مَنْ اتَّبع الرسمَ فَوَقَفَ بالهاءِ وهما
الكسائيُّ والبزيُّ عن ابن كثير . ومنهم مَنْ وَقَفَ بالتاءِ ، وهم الباقونَ .
وكان ينبغي أَنْ يكونَ الأكثرُ على الوقفِ بالهاءِ لوجهين ، أحدُهما : موافقةُ
الرسمِ . والثاني : أنهم قالوا : المفتوح اسمٌ مفردٌ أصله هَيْهَيَة كزَلْزَلة
وقَلْقَلَة من مضاعفِ الرُّباعي . وقد تقدَّم : أنَّ المفردَ يُوقف على تاء
تأنيثِه بالهاء.
وأمَّا التنوينُ فهو على قاعدةِ تنوينِ أسماء الأفعال : دخولُه دالٌّ على التنكيرِ
، وخروجُه دالٌّ على التعريف . قال القَيْسِيُّ : « مَنْ نَوَّن اعتقد تنكيرَها
وتَصَوَّر معنى المصدرِ النكرةِ كِأنه قال : بُعْداً بُعْداً . ومَنْ لم ينوِّنْ
اعتقد تعريفَها وتَصَوَّر معنى المصدرِ المعرفةِ كأنه قال : البُعْدَ البُعْدَ
فجعل التنوينَ دليلَ التنكيرِ وعدمَه دليلَ التعريفِ » . انتهى . ولا يُوجد تنوينُ
التنكير إلاَّ في نوعين : أسماءِ الأفعال وأسماءِ الأصوات نحو : سيبويهِ وسيبويهٍ
، وليس بقياسٍ : بمعنى أنه ليس لك أَنْ تُنَوِّن منها ما شِئْتَ بل ما سُمِع
تنوينُه اعَتُقِد تنكيرُه . والذي يُقال في القراءاتِ المتقدمةِ : إنَّ مَنْ
نَوَّن جعله للتنكيرِ كما تقدَّمَ ، ومَنْ لم يُنَوِّنْ جَعَلَ عدَم التنوينَ
للتعريفِ . ومَنْ فَتَحَ فللخِفَّةِ وللإِتْباع ، ومَنْ كَسَرَ فعلى أصلِ التقاءِ
الساكنين ، ومن ضم فتشبيهاً بقبلُ وبعدُ ، ومَنْ سَكَّن فلأنَّ أصلَ البناءِ
السكونُ ، ومَنْ وقف بالهاءِ فإتْباعاً للرسم ، ومن وقف بالتاءِ فعلى الأصلِ سواءً
كُسِرت التاءُ أو فُتحت؛ لأنَّ الظاهرَ أنهما سواءٌ ، وإنما ذلك مِنْ تغييرِ
اللغاتِ ، وإن كان المنقولُ مِنْ مذهب سيبويه ما تقدَّم . هكذا ينبغي أن تُعَلَّل
القراءاتُ المتقدمةُ.
وقال ابنُ عطية فيمَنْ ضَمَّ ونَوَّن : « إنه اسمٌ معربٌ مستقلٌ مرفوعٌ بالابتداءِ
، وخبرُه » لِما تُوْعَدون « أي : البعدُ لوعدكم كما تقول : النُّجح لسَعْيك » .
وقال الرازي في « اللوامح » : « فأمَّا مَنْ رَفع ونَوَّنَ احتمل أَنْ يكونا اسمين
متمكنين مرفوعين [ بالابتداء ] ، خبرُهما من حروف الجر بمعنى : البُعْدُ لِما
تُوعدون . والتكرارُ للتأكيد . ويجوز أَنْ يكونا اسماً للفعل . والضمُّ للبناء مثل
: حَوْبُ في زَجْرِ الإِبل ، لكنه نَوَّنه نكرةً » . قلت : وكان ينبغي لابنِ عطيةَ
ولأبي الفضل أن يَجْعلاه اسماً أيضاً في حالةِ النصبِ مع التنوين ، على أنه مصدرٌ
واقعٌ موقعَ الفعلِ.
قرأ ابنُ أبي عبلةَ « هَيْهات هَيْهات ما تُوْعدون » من غير لامِ جرٍّ . وهي
واضحةٌ مؤيِّدَةٌ لمدَّعي زيادتِها في قراءةِ العامَّة.
و « ما » في « لِما تُوْعدون » تحتمل المصدريةَ أي : لِوَعْدِكم ، وأَنْ تكونَ
بمعنى الذي ، والعائدُ محذوفٌ أي : تُوْعَدُوْنَه. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(4/12)
وَعَرقاتَهُمْ
. فالذي يقول : عرقاتِهم - بالكسر ، جعلها جمعاً ، وواحدها كأنَّه
عَرْقَة وَعَرْقٌ ، وواحد هيهات على هذا اللفظ وأن لم يكن حاله واحِداً : هَيْهة.
فإن هذا تقديره - وإن لم ننطق به.
وأما عَرْقَاتٌ فقد تكلم بِوَاحِدِهَا.
يقال عرق وعرقاة وَعَرْقَةٌ وَعَرْقَان.
وإنما كُسِرَ في الجَمْعِ لأنَّ تاء الفتح في الجمع كسر
تقول : مررت بالهنداتِ ، وكذلك رأيتُ الهنداتِ.
ويقال أَيْهَات في معنى هيهات . ويقال هيهات ما قلتَ وهيهات لما
قُلْتَ ، فمن قال هيهات ما قلت فمعناه البعد ما قلت ، ومن قال : هيهات لما
قلت فمعناهُ البعد لقولك ، وأنشدوا :
فأيهات أيهات العقيق ومن به . . . وأيهات خل بالعقيق نواصله
فأمَّا مَنْ نَوَّنَ هيهات فجعلها نكرة ، ويكون المعنى : بُعدٌ لِمَا تُوعَدون.
* * *
وقوله تعالى : (قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (40)
معناهُ عَنْ قليل ، و " مَا " زائدة بمعنى التوكيد ، كأنَّ مَعْنَاه :
عَنْ قَلِيل
لَيُصْبِحُن نَادِمِينَ حَقًّا.
* * *
وقوله : (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً
فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41) ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ
قُرُونًا آخَرِينَ (42)
الغثاء الهالكُ والْبَالِي من وَرَق الشجرِ الذي إذا جرى السيلُ رأيته
مُخَالِطاً زَبَدَهُ.
* * *
وقوله : (ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا
كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ
فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (44)
ويقرأ تَتْرًى ، ويجوز تَتْرِي غير مُنَوَّية بالكسر ، ولم يُقْرَأْ بِهِ فلا
تَقْرأَنَّ بهِ.
(4/13)
من
قرأ بالتنوين فمعناه وَتْراً فاَبْدَل التاءَ من الواو كما قالوا تَوْلج وهو من
وَلجَ ، وأصله وَوْلج ، وكما قالَ الشًاعِرُ.
فإِن يكن أَمْسى البِلَى تَيْقورِي
أَي : وَقاري ، وهو فيعول من الوقار . وكما قالوا : تُجَاه وإنما هو وُجَاه
من المُواجِهة ، ومن قال تترى بغير تَنْوينِ فإنما جعلها على فَعْلَى بألف
التأنيثِ
فلم ينَون ، ومعنى تَتْرَى من المواتَرةِ ، وقال الأصمعي معنى واتَرْتُ الخبرَ
اتبعت بعضَه بَعْضاً وبين الخبرين هُنيَّة.
وقال غيره : الموَاتَرَةُ المتابعة ، وأصل
كل هذا من الوِتْر ، وهو الفَرْدُ ، وهو أَنْ جَعَلْتَ كل وَاحِدٍ بعد صاحبه
فَرْداً فَرْداً (1).
* * *
وقوله : (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى
رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50)
ولم يقل آيتين ، لأن المعنى فيهما آيَة واحدة ، ولو قيل آيَتَيْن لجاز
لأنهما قد كان في كل واحد منهما ما لم يكن في ذَكَرٍ وَلَا أَنثى ، مِنْ أَن
مَرْيَمَ
وَلَدَتْ من غير فَحْل ، ولأن عيسى روح من اللَّه ألقاه إلى مَرْيَمَ ولم يكن هذا
في ولدٍ قط.
وقوله : (وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ).
في ربوة ثلاث لغات رَبْوَة ، ورِبْوَة ، ورُبوة ، وفيها وجهان آخران ، رَبَاوَة.
وَرِباوة . وهو عند أهل اللغة المكانُ المرتَفِع وجاء في التفسير أنه يعني بربوة
هَنَا بيتُ المَقْدِس ، وأَنه كَبِدُ الأرْضِ وأنه أقرب الأرض إلى السماء.
وقيل يعني به دِمَشْق ، وقيل فلسطينُ والرحْلَةُ.
وكل ذلك قد جاء في التفسير.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ).
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { تَتْرَى } : فيه وجهان ، أحدُهما : وهو الظاهرُ أنَّه منصوبٌ على الحالِ
مِنْ « رُسُلَنا » بمعنى متواتِرين أي : واحداً بعد واحدٍ ، أو مُتتابعين على
حَسَبِ الخلافِ في معناه كما سيأتي . وحقيقتُه أنه مصدرٌ واقعٌ موقعَ الحالِ .
والثاني : أنه نعتٌ مصدرٍ محذوف تقديرُه : إرسالاً تَتْرى أي : متتابعين أو
إرسالاً إثرَ إرْسال.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وهي قراءةُ الشافعيِّ « تَتْرَىً » بالتنوين . وباقي
السبعةِ « تترى » بألفٍ صريحةٍ دونَ تنوينٍ . وهذه هي اللغةُ المشهورةُ ، فَمَنْ
نَوَّن فله وجهان ، أحدُهما : أنَّ وَزْنَ الكلمةِ فَعْل كفَلْس ، فقوله : «
تَتْرَىً » كقولك : نَصَرْتُه نَصْراً . وَوَزْنُه في قراءتِهم فَعْلاً . وقد
رُدَّ هذا الوجهُ بأنَّه لم يُحْفَظْ جَرَيانُ حركاتِ الإِعرابِ على رائِه ،
فيُقال : هذا تَتْرٌ ومررت بتَتْرٍ نحو : هذا نَصْرٌ ، ورأيت نصراً ، ومررتُ بنصرٍ
. فإذا لم يُحْفَظْ ذلك بَطَلَ أَنْ يكونَ وزنُه فَعْلاً . الثاني : أن ألفَه
للإِلحاقِ ب جَعْفر كهي في أَرْطى وعَلْقى فلمَّا نُوِّن ذَهَبَتْ لالتقاءِ
الساكنين . وهذا أقربُ مِمَّا قبلَه ، ولكنه يلزمُ منه وجودُ ألفِ الإِلحاقِ في
المصادرِ وهو نادرٌ ، الثالث : أنها للتأنيثِ كدعوى . وهي واضحةً فتحصَّلَ في
ألفِه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنها بدلٌ من التنوينِ في الوقفِ . الثاني : أنها
للإِلحاق . الثالث للتأنيث . واخْتُلف فيها : هل هي مصدرٌ كدعوى وذكرى ، أو اسمُ
جمعٍ كأسرى وشتى ، كذا قالهما الشيخ . وفيه نظرٌ ، إذ المشهورُ أنَّ أسرى وشَتَّى
جمعا تكسيرٍ لا اسما جمعٍ . وفاؤُها في الأصلِ واوٌ؛ لأنَّها من المُواترة
والوِتْر ، فقُلِبَتْ تاءً كما قُلِبَتْ تاءً في تَوْارة وتَوْلج وتَيْقُور
وتُخَمَة وتُراث وتُجاه ، فإنها من الوَرْي والوُلوج والوَقار والوَخامة والوِراثة
والوَجْه.
واختلفوا في مَدْلُولِها : فعن الأصمعيِّ : واحداً بعد واحد ، وبينهما مُهْلَة .
وقال غيره : هي من المُواترة وهي التتابُعُ بغير مُهْلة . وقال الراغب : «
والتواتُرُ : تتابُعُ الشيءِ وِتْراً وفرادى . قال تعالى : { ثُمَّ أَرْسَلْنَا
رُسُلَنَا تَتْرَى } والوَتِيْرَة : السَّجِيَّةُ والطريقة . يقال : هم على
وَتيرةٍ واحدةٍ . والتِرَةُ : الذَّحْلُ . والوَتيرة : الحاجزُ بين المَنْخِرَيْن.
قوله : { أَحَادِيثَ } قيل : هو جمعُ » حديث « ولكنه شاذٌّ . وقيل : بل هو جمعُ
أُحْدُوْثَة كأُضْحُوكة . وقال الأخفش : » لا يُقال ذلك إلاَّ في الشَّرِّ . ولا
يُقال في الخير . وقد شَذَّتِ العربُ في أُلَيْفاظ فجمعوها على صيغة مَفاعيل
كأَباطيل وأَقاطيع « . وقال الزمخشري : » الأحاديث تكونَ اسمَ جمعٍ للحديث ، ومنه
أحاديث رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم « . قال الشيخ : » وأَفاعيل ليس من
أبنيةِ اسمِ الجمع ، وإنما ذكرَه أصحابُنا فيما شَذَّ من الجموعِ كقَطيع وأقاطيع ،
وإذا كان عَباديد قد حكموا عليه بأنه جمعُ تكسيرٍ مع أنهم لم يَلْفِظوا له بواحدٍ
فأحرى « أحاديث » وقد لُفِظ له بواحدٍ وهو « حديث » فاتضح أنه جمُع تكسيرٍ لا اسمُ
جمعٍ لما ذكَرْنا «. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(4/14)
أي
ذات مُسْتَقَر ، و " مَعين " ماء جَارٍ من العُيُونِ . وَقَالَْ
بَعْضهمْ يجوز أن
يكون " فَعِيلا " من المَعْنِ ، مشتقا من المَاعُونِ.
وهذا بَعِيد لأن المَعْن في اللغة الشيء القليل ، والماعونُ هُوَ الزكاةُ ، وهو
فاعول من المَعْنِ ، " وإنما سُمِّيتِ الزَكَاةُ بالشيء القليل ، لأنه يؤخَذُ
مِنَ المالِ رُبْعَ عُشْرِهِ ، فهو قليل من كثير.
قال الراعي :
قوْمٌ على التَّنْزيِلِ لَمَّا يَمْنَعُوا . . . ماعونَهم ويُبَدِّلُوا
التَّنْزِيلا
* * *
وقوله : (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا
إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51)
أي كلوا من الحلال ، وكل مأكول حَلَالٍ مُسْتَطَابِ فهو داخل في هذا.
وإنَّمَا خُوطب بهذا رسولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فقيل يَأَ أَيُّها
الرسُلُ ، َ وتَضَمَنَ هَذَا الخطابُ أن الرسُلُ جَمِيعاً كذا أُمِرُوا.
وَرُوِيَ أن عيسى عليه السلام كان يأكل مِنْ غَزْل أُمِّه ، وأَطْيبُ الطيباتِ
الغَنائمُ.
* * *
وقوله : (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ
فَاتَّقُونِ (52)
أي فاتْقون لِهذَا.
وقد فسرنا في سورةِ الأنْبياء كل ما يجوز في نظير هذه
الآية.
وجملة تأويلها أن دينَكمْ دِينٌ واحد ، وهو الإسلام.
وأعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أَنَ قَوماً جعلوا دينهم أَدْيَاناً فقال :
(فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ
فَرِحُونَ (53)
(4/15)
ويقرأ
زُبَراً ، فمن قرأ زُبُراً فتأويله جعلوا دينهم كتُباً مُخْتَلِفة جمع زَبُورٍ
وَزُبُرٍ ، ومن قرأ زُبَراً أراد قِطَعاً.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54)
ويجوز في غَمَراتِهِمْ ، ومعناه في عَمايَتهِمْ وَحَيْرتِهِم.
ومعنى : (حَتَّى حِينٍ).
أي إلى حين يأتيهم ما وُعِدُوا به من العَذَابِ.
* * *
وقوله تعالى : (أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ
(55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56)
(نُسَارِعُ) - بالنون - يُسَارَعُ - بالياء - ويُسَارَعُ على ما لم يُسَم فاعله.
وتأويله أيحسبون أن إمْدَادَ اللَّهِ لَهُمْ بالمال والبنين مجازاة لَهُمْ ؛
وإنَّما هو
استدراج من اللَّه لهم ، و " ما " في معنى الذي ، المعنى أيحسبون أن الَّذِي
نمدهم به من مال وبنين . والخبر معه محذوف المعنى نسارع لهم به في
الخيرات ، أي أيحسبون إمْدَادَ ما نُسارعُ لهم به.
فأمَّا من قرأ يُسَارَعُ فعلى وَجْهَين ، أَحَدُهُمَا لا يحتاج إلى إضمار ، المعنى
: أيحسبون أن إمدادنا لهم يسارع لهم في الخيرات ، ويجوز أن يكون على معنى يسارع
اللَّه لهم به في الخيرات ، فيكون مثل نُسَارِعُ ، ومن قرأ يسارَع لهم في الخيرات
يكون على معنى يُسارَع الإمْدَادُ لهم في الخيرات وعلى معنى نسارَع لهم في الخيرات
، فيكون تقوم مقام مَا لَمْ يُسَمَّ لهم ، ويكون مضمراً معه به . كما قلنا(1).
* * *
وقوله : (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ
إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60)
ويقرأ يَأتُونَ مَا أَتَوْا - بالقَصْرِ - وكلاهما جيِّدٌ بَالغ ، فمن قرأ
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ } : في « ما » هذه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنَّها
بمعنى الذي وهي اسمُ « أنْ » و « نُمِدُّهم » صلتُها وعائدُها . « ومن مال » حالٌ
من الموصولِ ، أو بيانٌ له ، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ . و « نُسارعُ » خبرُ « أنَّ »
والعائدُ من هذه الجملةِ إلى اسم « أنَّ » محذوفٌ تقديرُه : نُسارِعُ لهم به ، أو
فيه ، إلاَّ أنَّ حَذْفَ مثلِه قليلٌ . وقيل : الرابطُ بين هذه الجملةِ باسم «
أنَّ » هو الظاهرُ الذي قامَ مقامَ الضميرِ مِنْ قولِه « في الخيرات » ، إذ الأصل
: نُسارِعُ لهم فيه ، فأوقع « الخيرات » موقعَه تعظيماً وتنبيهاً على كونِه من
الخيرات . وهذا يتمشى على مذهبِ الأخفشِ؛ إذ يَرَى الرَّبْطَ بالأسماءِ الظاهرةِ ،
وإن . لم يكنْ بلفظِ الأولِ ، فيُجيز « زيد الذي قام أبو عبد الله » إذا كان « أبو
عبد الله » كنيةَ « زيد » . وتقدَّمَتْ منه أمثلةُ . قال أبو البقاء : « ولا يجوزُ
أَنْ يكونَ الخبرُ » مِنْ مالٍ « لأنه كان » مِنْ مال « ، فلا يُعاب عليهم [ ذلك ،
وإنما يعابُ عليهم ] اعتقادُهم أنَّ تلك الأموالَ خيرٌ لهم ».
الثاني : أن تكونَ « ما » مصدريةً فينسَبِكُ منه ومِمَّا بعدَها مصدرٌ هو اسم «
أنَّ » و « نُسارع » هو الخبرُ . وعلى هذا فلا بُدَّ مِنْ حَذْفِ « أنْ »
المصدريةِ قبل « نُسارع » ليصِحَّ الإِخبارُ ، تقديرُه : أَنْ نسارعَ . فلمَّا
حُذِفَتْ « أنْ » ارتفعَ المضارعُ بعدَها . والتقديرُ : أَيَحْسَبون أنَّ
إِمْدادَنا لهم من كذا مسارعةٌ منَّا لهم في الخيرات . والثالث : أنها مُهَيِّئَة
كافَّةٌ . وبه قال الكسائي في هذه/ الآية وحينئذٍ يُوقف على « وَبَنِين » لأنه قد
حَصَل بعد فِعْلِ الحُسْبانِ نسبةٌ مِنْ مسندٍ ومسندٍ إليه نحو : حَسِبْتُ أنَّما
ينطلق عمروٌ ، وأنما تقومُ أنت.
وقرأ يحيى بنُ وَثَّاب « إنما » بكسرِ الهمزة على الاستئنافِ ، ويكونُ حَذْفُ
مفعولَي الحُسْبان اقتصاراً أو اختصاراً . وابنُ كثيرٍ في روايةٍ « يُمِدُّهم »
بالياءِ ، وهو اللهُ تعالى . وقياسُه أَنْ يقرأ « يُسارع » بالياء أيضاً . وقرأ
السلمي وابن أبي بكرةَ « يُسارع » بالياءِ وكسرِ الراء . وفي فاعِله وجهان ،
أحدُهما : الباري تعالى الثاني : ضميرُ « ما » الموصولة إنْ جَعَلْناها بمعنى الذي
، أو على المصدرِ إنْ جَعَلْناها مصدريةً . وحينئذٍ يكون « يسارِعُ لهم » الخبرَ .
فعلى الأولِ يُحتاجُ إلى تقديرِ عائدٍ أي : يُسارع اللهُ لهم به أو فيه . وعلى
الثاني لا يُحْتاج إذ الفاعلُ ضميرُ « ما » الموصولةِ.
وعن أبي بكرة المتقدمِ أيضاً « يُسارَع » بالياء مبنياً للمفعول و « في الخيرات »
هو القائمُ مَقامَ الفاعل . والجملةُ خبرُ « أنَّ » والعائدُ محذوفٌ على ما تقدَّم
وقرأ الحسن « نُسْرع » بالنون مِنْ « أَسْرَعَ » وهي ك « نُسارع فيما تقدَّم.
و { بَل لاَّ يَشْعُرُونَ } إضرابٌ عن الحُسْبانِ المُسْتفهمِ عنه استفهامَ
تقْريعٍ ، وهو إضرابُ انتقالٍ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(4/16)
(يؤتُونَ
مَا آتَوْا) فإن معناه يعطون ما أَعْطَوْا وهم يخافون ألا يَتقبل منهم . قلوبُهم
خائفة لأنهم إلى رَبِّهم رَاجِعُونَ ، أي لأنهم يوقنون بأنهم راجعون إلى اللَّه -
عز وجل -.
ومن قرأ (يأتون ما أَتَوْا) أي يعملون من الخيرات مَا يَعْمَلُونَ وقلوبُهم
خَائِفة.
يخافون أن يكونوا مع اجتهادهم مقصرين.
* * *
(أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61)
وجائز يُسْرِعُونَ في الخيرات ، ومعناه معنى يسارعون.
يقال أسْرَعت ، وسَارَعْتُ في معنى واحدٍ ، إلا أن سارعت أبلغ من أَسْرَعْتُ.
وقوله : (وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ).
فيهِ وجهانِ أحدهما معناه إليها سابقون ، كما قال : (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى
لَهَا)
أي أَوحَى إليها.
ويجوز : (وَهُمْ لها سابِقُونَ) أي من أجل اكتسابها ، كما تقول : أَنَا أُكْرِمُ
فُلَانَاً لك ، أي مِنْ أَجْلِكَ.
* * *
وقوله : (وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ
بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62)
ويجوز : ولا يُكلِّفُ نفساً إلا وُسْعَها ، ولم يقرأ بها ولو قرئ بها لكانت
النون أجود - لقوله عزَّ وجلَّ : (وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ).
* * *
وقوله : (بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ
ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63)
يجوز أن يكون " هَذَا " إشارةً إلى ما وصف من أعمالِ البِرِّ في قوله :
(إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ) - إلى قوله
(يُسَارِعُونَ في الخيرات).
أي قُلُوبُ هؤلاء في عَمَايةٍ من هذا ، ويجوز أن يكون " هذا " إشارةً
إلى
(4/17)
الكتاب
، المعنى بل قلوبهم في غمرة من الكتاب الذي ينطِقْ بالحق.
وأعمالهم مُحْصَاةٌ فيه.
قوله : (وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ).
أخبر اللَّه - عزَّ وجلَّ - بما سيكون فيهمُ ، فأعلم أنهم سيعملون أَعْمالًا
تباعد من الله غير الأعمال التي ذكروا بها.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا
هُمْ يَجْأَرُونَ (64)
أي : يضجُّون ، والعذاب الذي أُخِذُوا بِهِ السيْف ، يقال جَأَر يجأر جُؤاراً ،
إذَا ضَجَّ.
* * *
وقوله : (قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ
تَنْكِصُونَ (66)
(تَنْكِصُونَ) أي : تَرْجِعُونَ.
* * *
وقوله : (مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67)
منصوب على الحال ، وقوله " به " أي بالبيْتِ الحرام ، يقولون : البَيْتُ
لَنَا (1).
وقوله : (سَامِرًا).
بمعنى " سُمَّرا " ويجوز سُمَّارا ، والسامِرُ الجَمَاعَةِ الذين
يَتَحَدَّثونَ لَيْلاً.
وإنما شمُّوا سُمَّارا مِنَ السَّمَرِ ، وهو ظل القمر ، وكذلِكَ السُّمْرَة مثشقة
من
هذا.
وقوله : (تَهْجُرُونَ).
أي تَهجْرونَ القرآن ، ويجوز تَهْجِرُونَ : تَهذونَ . وَقرِئَتْ : تهْجِرُونَ أي
تقولون الهُجْرَ ، وقيل كانوا يسبُون النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ويجوز أن تكون الهاء للكتاب.
ويكون المعْنَى فكنتمْ على أَعْقَابَكمْ تَنكِصُون مستكبرين بالكتاب.
أي يحدث
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { مُسْتَكْبِرِينَ } : حالٌ مِنْ فاعل « تَنْكِصُون » . قوله : « به » فيه
قولان ، أحدُهما : أنَّه يتعلقُ ب « مُسْتكْبرين » . والثاني أنه متعلقٌ ب «
سامِراً » . وعلى الأولِ فالضميرُ للقرآن أو للبيتِ شَرَّفه اللهُ تعالى ، أو
للرسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم أو للنُكوصِ المدلولِ عليه ب « تَنْكِصون » ،
كقوله : { اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ } [ المائدة : 8 ] . والباءُ في هذا كلِّه
للسببية؛ لأنه استكبروا بسببِ القرآنِ لَمَّا تُلِيَ عليهم ، وبسببِ البيتِ
لأنَّهم يقولون : نحن وُلاتُه وبالرسولِ لأنهم يقولون : هو مِنَّا دونَ غيرِه ، أو
بالنُّكوصِ لأنه سببُ الاستكبارِ . وقيل : ضَمَّنَ الاستكبارَ معنى التكذيبِ؛ فلذلك
عُدِّيَ بالباءِ ، وهذا يَتَأَتَّى على أن يكونَ الضميرُ للقرآنِ أو للرسولِ.
وأمَّا على الثاني وهو تَعَلُّقُه ب « سامِراً » فيجوزُ أن يكونَ الضميرُ عائداً
على ما عادَ عليه فيما تقدَّم ، إلاَّ النكوصَ لأنهم كانوا يَسْمُرُون بالقرآن
وبالرسول أي : يجعلونَهما حديثاً لهم يَخُوضون في ذلك كما يُسْمَرُ بالأحاديث ،
وكانوا يَسْمُرُون في البيتِ ، فالباء ظرفيةٌ على هذا ، و « سامِراً » نصبٌ على
الحالِ : إمَّا مِنْ فاعل « تَنْكِصُون » ، وإمَّا مِنَ الضمير في « مُسْتَكْبرين
».
وقرأ ابنُ مسعود وابنُ عباس وأبو حيوة وتروى عن أبي عمرٍو « سُمَّراً » بضمِّ
الفاءِ وفتحِ العين مشددةً . وزيد بن علي وأبو رجاء وابن عباس أيضاً « سُمَّاراً »
كذلك ، إلاَّ أنَّه بزيادةِ ألفٍ بين الميمِ والراء ، وكلاهما جمعٌ ل « سامِِر » .
وهما جمعان مَقيسان ل « فاعِل » الصفةِ نحو : ضُرَّب وضُرَّاب في ضارِب . والأفصحُ
الإِفرادُ؛ لأنه يقعُ على ما فوق الواحِد بلفظ الإِفرادِ تقول : قومٌ سامِرٌ .
والسَّامِرُ مأخوذٌ من السَّمَرِ وهو سَهَرُ الليلِ ، مأخوذٌ من السَّمَرِ وهو ما
يقعُ على الشجر من ضوءِ القمر ، فيجلِسُون إليه يتحدثون مُسْتَأْنِسين به . قال
الشاعر :
3422 كأَن لم يكُنْ بين الحَجونِ إلى الصَّفا . . . أنيسٌ ولم يَسْمُرْ بمكةَ
سامِرُ
وقال الراغب : « السَّامِرُ : الليلُ المظلم ، ولا آتِيْكَ ما سَمَر ابنا سَمِيرٍ
، يَعْنُون الليل والنهار . والسُّمْرة : أحدُ الألوان ، والسَّمْراء : كُني بها
عن الحِنْطة ».
قوله : { تَهْجُرُونَ } قرأ العامَّةُ بفتح التاءِ وضمِّ الجيمِ ، وهي تحتمل وجهين
، أحدهما : أنَّها مِن الهَجْرِ بسكونِ الجيمِ ، وهو القطع والصَّدُ ، أي :
تهجُرُون آياتِ الله ورسولَه وتَزْهَدون فيهما ، فلا تَصِلُونهما . الثاني : أنها
من الهَجَرِ بفتحها وهو الهَذَيانُ . يقال : هَجَر المريضُ هَجَراً أي هذى فلا
مفعولَ له . ونافع وابن محيصن بضم التاءِ وكسرِ الجيم مِنْ أهجر إهْجاراً أي :
أَفْحَشَ في مَنْطِقِه . قال ابن عباس : « يعني سَبَّ الصحابةِ » . زيد بن علي
وابن محيصن وأبو نهيك بضمِّ التاءِ وفتحِ الهاء وكسرِ الجيمِ مشددةً مضارعَ هَجَّر
بالتشديد . وهو محتمِلٌ لأَنْ يكونَ تضعيفاً للهَجْر أو الهَجَر أو الهُجْر . وقرأ
ابن أبي عاصم كالعامَّةِ ، إلاَّ أنَّه بالياءِ من تحتُ وهو التفاتٌ. اهـ
(الدُّرُّ المصُون).
(4/18)
لكم
بتلاوته عَلَيكُمْ اسْتِكْبَار ، ويجوز تنكصُون ، وَلا أعْلَمُ أَحَداً قرأ بها.
* * *
وقوله : (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ
وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ
ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71)
جَاءَ في التفسير أن الحق هو اللَّه - عزَّ وجلَّ - ويجوز أن يكون الحق
الأول في قوله : (بَلْ جَاءَهُمْ بِالحَق) التنزيل ، أي بالتنزيل الذي هُوَ الحَق.
ويكون تأويل : (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ) أي لو كان التنزيل بمَا
يُحِبُّونَ لَفَسدتِ السَّمَاوَاتُ والأرْضُ.
وقوله : (بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ).
أي بما فيه فخرهم وشَرَفَهُمْ ، ويجوز أن يكون بذكرهم ، أي بالذكر
الذي فيه حظ لهم لو اتَبَعُوهُ.
* * *
وقوله : (أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ
الرَّازِقِينَ (72)
أي (أَمْ تَسْأَلُهُمْ) على ما أتيتهم به أجراً.
ويقرأ : (خِرَاجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ).
ويجوز (خَرَاجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ).
* * *
وقوله : (وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ
لَنَاكِبُونَ (74)
معناه لَعَادِلًونَ عن القَصْدِ.
* * *
وقوله : (وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ
وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76)
أي ما تواضعوا . والذي أخذوا به الجُوعُ.
* * *
(حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ
مُبْلِسُونَ (77)
قيل السيف والقتل.
(إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ).
(4/19)
المبلس
الساكن المتحيِّر.
* * *
(قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84)
سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85)
هذه (للَّهِ) لا اختلاف بَيْنَ القُرَّاء فيها ، ولو قرئت اللَّهُ لَكَانَ
جَيْداً.
فأما اللَّتَانِ بعدها فالقراءة فيهما سيقولون (اللَّهُ) و (للَّهِ).
فمن قرأ (سيقولون اللَّهُ) فهو على جواب السؤال ، إذا قال : (من رب السَّمَاوَات
السْبع) ، فالجواب اللَّهُ ، وهي قراءة أهل البَصْرَة ، ومن قرأ (للَّهِ) فَجيْدٌ
أيْضاً ، لو قيل مَنْ صَاحِبُ هذه الدار فأجيب زيد لكان هذا جواباً على لفظ
السؤال.
وَلَوْ قلت في جواب من صاحب هذه الدار : لِزَيْدٍ ، جاز.
لأن معنى " من صاحب هذه الدار " - لمن هذه الدار.
* * *
وقوله : (قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ
عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88)
أي هُوَ يُجير من عَذَابِه ولا يجير عليه أَحَدٌ من عَذَابه.
وكذلك هو يجير من خلقه ولا يجير عليه أَحَدٌ.
* * *
وقوله : (سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89)
معنى تُسْحَرُونَ ، وتؤفَكُونَ : تصرفون عن القَصْدِ والحَق.
* * *
وقوله تعالى : (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ
إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ
سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91)
(إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ)
أي طلب بعضُهم مغالبَة بعْضٍ.
(سُبْحَانَ اللَّهِ).
معناه تنزيه اللَّه وتبرئته من السُوءِ ، ومن أن يكون إله غَيرٌه تعالَى عَنْ
ذَلِك عُلُوا كَبيراً.
* * *
وقوله : (قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلَا
تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94)
(4/20)
الفاء
جَوَابُ الشرْطِ شرط الجزاء ، وهو اعتراض بين الشرط
والجزاء ، المعنىِ إمَّا تُرِيَني مَا يُوعَدُونَ فلا تَجعلني يا ربِّ في القوم
الظالمين ، أي إنْ نزَلَتْ بِهِمُ النقمةَ يا ربِّ فاجعلني خارجاً عنهم.
ويجوز " فَلَا تَجْعَلَنِّي " ولم يقرأ بها.
* * *
وقوله : (وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97)
واحد الهمزات هَمْزَة ، وهو مَسُّ الشَيْطانِ ، ويجوز أن يكون نَزَغَاتِ
الشيطان ، ونَزْغُ الشيطان وَسْوَسَتُه حتى يَشْغَل عَنْ أَمْرِ اللَّهِ تعالَى.
* * *
وقوله : (وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98)
ويجوز " وَأَعُوذُ بِكَ رَبُّ أَنْ يَحْضُرُونِ " ولم يقرأ بها فلا
تقرأنَّ بها.
ويجوز وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّي أَنْ يَحْضُرُونِ ، ويجوز رَبِّيْ.
فهذه أربعة أَوْجُهٍ.
ولا ينبغي أن يقرأ إلا بواحد ، وهو الذي عليه الناس . . رَبِّ بِكسر الباء وحَذْفِ
الياء ، والياء حُذِفَتْ للبدَاء والمعنى وأعوذ بك يا رَبِّ.
من قال ربُّ بالضمِ فعلى معنى يا أيها الربُّ ومن قال رَبِّي فعلى الأصل . كما قال
يا عبادِي فاتَّقُونِ.
* * *
وقوله : (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99)
يعني به الذين ذُكِرُوا قَبْلَ هذا المَوْضِع . ودَفَعُوا البَعْثَ فأعلم أنه إذا
حضر أحَدَهُم الموتُ (قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا
فِيمَا تَرَكْتُ) (1).
وقوله : (ارْجِعُونِ) وهو يريد اللَّه - عزَّ وجلَّ - وَحْدَه ، فجاء الخطابُ في
المسألة على لفظ الإخْبار لأن الله عزَّ وجلَّ قال : (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي
وَنُمِيتُ).
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { حتى إِذَا } : في « حتى » هذه أوجهٌ ، أحدُها : أنها غايةٌ لقولِه : «
بما يَصِفون » . والثاني : أنها غايةٌ ل « كاذبون » . وبَيَّنَ هذين الوجهين قولُ
الزمخشري : « حتى تتعلق ب » يَصِفون « أي : لا يزالون على سوءِ الذكر إلى هذا
الوقت ، والآيةُ فاصلةٌ بينهما على وجهِ الاعتراضِ والتأكيدٍ » . ثم قال : « أو
على قولِه » وإنهم لكاذِبون « . قلت : قوله : أو على قولِه كذا » كلام محمولٌ على المعنى
إذ التقدير « حتى » مُعَلَّقَةٌ على « يَصِفُون » أو على قوله : « لَكاذِبون » .
وفي الجملة فعبارةٌ مُشْكلة.
الثالث : قال ابنُ عطية : « حتى » في هذه المواضع حرفُ ابتداءٍ . ويُحتمل أَنْ
تكونَ غايةً مجردةً بتقديرِ كلامٍ محذوفٍ . والأولُ أَبْيَنُ؛ لأنَّ ما بعدها هو
المَعْنِيُّ به المقصودُ ذِكْرُه « . قال الشيخ : » فَتَوَهَّمَ ابنُ عطية أن «
حتى » إذا كانت حرفَ ابتداءٍ لا تكونَ غايةً ، وهي وإنْ كانَتْ : حرفَ ابتداءٍ ،
فالغايةُ معنًى لا يُفاريقها ، ولم يُبَيِّنْ الكلامَ المحذوفَ المقدَّرَ « . وقال
أبو البقاء : » حتى « غايةٌ في معنى العطفِ » . وقال الشيخ : « والذي يَظْهر لي أن
قبلها جملةً محذوفةً تكون » حتى « غايةً لها يَدُلُّ عليها ما قبلها . التقديرُ :
فلا أكونُ كالكفارِ الذين تَهْمِزُهم الشياطينُ ويَحْضُرونهم ، حتى إذا جاء .
ونظيرُ حَذْفِها قولُ الشاعر :
3424 فيا عَجَبا حتى كُلَيْبٌ تَسُبُّني . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . .
أي : يَسُبُّني الناسُ كلُّهم حتى كُلَيْبٌ . إلاَّ أن في البيت دَلَّ ما بعدها
عليها بخلافِ الآيةِ الكريمة.
قوله : { رَبِّ ارجعون } في قوله » ارْجِعُون « بخطابِ الجمع ثلاثةُ أوجهٍ ،
أجودُها : أنه على سبيلِ التعظيمِ كقولِ الشاعر :
3425 فإنْ شِئْتِ حَرَّمْتُ النساءَ سِواكمُ . . . وإن شِئْتِ لم أَطْعَمْ نُقاخاً
ولا بَرْدا
وقال آخر :
2326 ألا فارْحَمُوني يا إلَهَ محمدٍ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . .
قد يُؤْخَذُ من هذا البيتِ ما يَرُدُّ على الشيخ جمال الدين بن مالك حيث قال : »
إنه لم يَعْلَمْ أحداً أجاز للداعي يقول : يا رحيمون « . قال : » لئلاَّ يؤْهِمُ
خلافَ التوحيِد « . وقد أخْبر تعالى عن نفسه بهذه الصيغةِ وشِبْهِها للتعظيمِ في
غيرِ موضعٍ من كتابِه الكريم.
الثاني : أنه نادى ربَّه ، ثم خاطب ملائكةَ ربِّه بقوله : » ارْجِعُون « ويجوز على
هذا الوجهِ أَنْ يكونَ على حَذْفِ مضافٍ أي : يا ملائكةً ربي ، فحذف المضافَ ثم
التفت إليه عَوْدِ الضميرِ كقوله : { وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا } ثم قال
: { أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ } [ الأعراف : 4 ] التفاتاً ل » أهل « المحذوف.
الثالث : أنَّ ذلك يَدُلُّ على تكريرِ الفعل ، كأنه قال : ارْجِعُون ارْجِعون
ارْجِعون . نقله أبو البقاء . وهو يُشْبِهُ ما قالوه في قوله : { أَلْقِيَا فِي
جَهَنَّمَ } [ ق : 24 ] أنه بمعنى : أَلْقِ أَلْقِ ثُنِّي الفعلُ للدلالةِ على ذلك
، وأنشدوا قولَه :
3427 قِفا نَبْكِ مِنْ ذِكْرى حبيبٍ ومَنْزِلِ . . . . . . . . . . . . .
أي : قِفْ قِفْ . اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(4/21)
وهو
وحْدَهُ يُحْييِ وُيمِيتُ . وهذا لفظ تعرفه العَرَبُ للجليل الشأن يخبر عن
نفسه بما يخبر به الجماعةُ ، فَكذلك جاء الخطاب في (ارْجِعُونِ).
وقوله : (كَلَّا) ردع وتنبيه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ : (وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)
" يوم " مضاف إلى " يُبْعَثُونَ " لأن اسماء الزمان تضاف إلى
الأفعال والبرزخ
في اللغة الحاجز ، وهو هَهُنا ما بَيْنَ موت الميت وبَعْثِه.
* * *
وقوله تعالى : (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ
يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101)
قيل : هذا في النفخة الأولى ويجوز أن يكون بعد النفخة الثانية
والصور ، جاء في التفسير أنه قَرْن ينفخ فيه فيبعث الناس في النفخة الثانية ، قال
عز وجلَّ (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإذَا هُمْ قِيَامْ يَنْظُرُونَ).
وقال أهل اللغة كثير منهم : الصور جَمْعُ صورة ، والذي جاء في اللغَةِ جمع صورة
صُوَر ، وكذلك جاء في القرآن : (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) ، ولم يقرأ
أحد فأحسن صُورَكم ، ولو كان أيضاً جمع صُورة لقال أيضاً : ثم نُفِخَ فِيهَا
أُخْرَى ، لأنك تقول : هذه صُور ، ولا تقول هَذَا صُوَر إلا على ضَعْفٍ فهو عَلَى
مَاجَاء في التفسير.
فاَما قوله : (وَلَا يَتَسَاءَلُونَ).
وقال في موضع - آخر : (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24)
وقال في موضع آخر (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ)
فيقول القائل : كيف جاء " ولا يتساءلون "
وجاء (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ).
فإن يوم القيامةِ مقداره خمسون
(4/22)
ألف
سنة ، ففيه أزمنة وأحوال.
وإنما قيل يومَئِذٍ كما تقول : نحن اليوم بفعل كذا وكذا ، وليس تريد به في يومك
إنما تريد نحن في هذا الزمان ، " فيومَ " تقع للقطعة من الزمان.
وأمَّا (فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ).
فَلَا يسأل عن ذنْبِه ليستفهم ، قد علم اللَّه عزَّ وجلَّ ما سَلَفَ مِنْهُمْ.
وَأَما قوله : (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ) فيسألون سؤال توبيخ
لا سؤال اسْتِفْهَام كما قال : (وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ
ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9).
وإنما تسأل لتوبيخ مَنْ قَتَلَهَا.
وكذلك قوله : (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ
دُونِ اللَّهِ).
فما يُسأل عنه يومَ القيامة تَقْرِير وتوبيخ ، واللَّه - عزَّ وجلَّ - قَدْ عَلِمَ
ما كان ، وأَحْصَى كبير ذلَك وصَغِيرَهُ.
* * *
وقوله : (تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104)
يلفح وينفح في مَعْنًى واحِدٍ ، إلا أن اللفح أَعْظمُ تأثيراً.
(وَهُمْ فِيها كَالِحُونَ).
والكَالِحُ الذي قَد تَشَمَّرتْ شَفَتُه عَنْ أَسنانِه ، نحو ما ترى من رُؤوسِ
الغَنَم إذا مسَّتْهَا النار فبرزت الأسنان وتشمرت الشِفَاهُ
* * *
(قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106)
وَتُقْرَأُ شَقَاوَتُنَا ، والمعنى وَاحِد (1).
(وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ).
أَقَرُّوا بذلك.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { شِقْوَتُنَا } : قرأ الأخَوان : « شَقاوتُنا » بفتح الشين وألفٍ بعد
القاف . والباقون بكسرِ الشينِ وسكونِ القافِ وهما مصدران بمعنى واحدٍ ،
فالشَّقاوة كالقَساوة وهي لغةٌ فاشِيَةٌ ، والشِّقْوةُ كالفِطْنَة والنِّعْمة .
وأنشد الفراء :
3430 كُلِّفَ مِنْ عَنائِهِ وشِقْوَتِهْ . . . بنتَ ثمانِيَْ عَشْرةٍ مِنْ
حِجَّتِهْ
وهي لغةُ الحجاز . قرأ قتادة والحسن في روايةٍ كالأَخَوَيْن إلاَّ أنهما كَسَرا
الشينَ . وشبلٌ في اختياره كالباقين ، إلاَّ أنَّه فَتَح الشينَ.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(4/23)
وقوله
: (قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108)
معنى (اخْسَئُوا) تباعَدوا تَبَاعدَ سُخْطٍ.
يقال خَسَأتُ الكلْبُ أَخْسُؤهُ إذا زجَرْته ليتباعَدَ.
* * *
وقوله : (فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ
مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110)
الأجود إدْغام الدال في التاء لِقُرْب المَخْرَجَيْن ، وإن شئت أظهرت.
لأن الدال من كلمة والتاءَ مِنْ كلمة ، والدال بينها وبين التاء في المخرجِ شيء
مِنَ التَبَاعِد ، وليست الذال من التاء بمنزلة الدال من التاء.
والتاءُ والطَاءُ مِنْ مَكَانٍ وَاحِدٍ ، وهي من أصُولِ الثنايَا العُلَا وطرف
اللسَانِ . والذال من أطراف الثنايا العُلَا وَدُوينَ طَرَفِ اللسَانِ.
وقوله : (سِخْرِيًّا) . يقرأ بِالضم والكَسْر ، وكلاهما جَيِّد ، إلا أنهمْ قالوا
إن
بعض أهل اللغة قال : ما كان من الاستهزاء فهو بالكسر ، وَمَا كان من جهة
التسخير فهو بالضم ، وكلاهما عند سيبويه والخليل وَاحِد ، والكسر لإتباع
الكسر أحسن (1).
وقوله : (إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ
الْفَائِزُونَ (111)
الكسر أجود لأن الكسر على معنى إني جَزَيْتهمْ بِمَا صَبروا ، ثم أَخْبَر
فقال : إنهم همُ الفَائِزُونَ : والفتح جيِّدٌ بالغ ، على معنى : (إني جَزَيتُهم
لأنهم
هم الفائزون ، وفيه وجه آخر : يكون المعنى جزيتهم الفوز ، لأن معنى
(أنَّهُم هم الفَائِزُونَ). فوزُهُمْ ، فيكون المعنى جزيتهم فَوزَهُمْ.
* * *
وقوله : (قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112)
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { سِخْرِيَّاً } : مفعولٌ ثانٍ للاتخاذ . وقرأ الأخَوان ونافعٌ هنا وفي (ص)
بكسرِ السين . والباقون بضمِّها في المؤمنين . واختلف الناس في معناهما . فقيل :
هما بمعنىً واحدٍ ، وهو قولُ الخليلِ وسيبويه والكسائي وأبي زيد . وقال يونس : «
إن أُرِيْدَ الخِدْمَةُ والسُّخْرة فالضمُّ لا غيرُ . وإنْ أريدَ الهُزْءُ فالضمُّ
والكسر . ورجَّح أبو عليٍ وتبعه مكي قراءةَ الكسرِ قالا : لأنَّ ما بعدها أليقُ
لها لقولِه : { وَكُنْتُمْ مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ } . قلت : ولا حجةَ فيه لأنَّهم
جمعوا بين الأمرَيْن : سَخَّروهم في العمل ، وسَخِروا منهم استهزاءً . والسُّخْرَة
بالتاء : الاستخدام ، و » سُخْرِيَّاً « بالضمِّ منها ، والسُّخْرُ بدونها : الهزء
، والمكسورُ منه . قال الأعشى :
3431 إنِّي أتاني حديثٌ لا أُسَرُّ به . . . مِنْ عَلْوَ لا كَذِبٌ فيه ولا سُخْرُ
ولم يَختلف السبعةُ في ضَمِّ ما في الزخرف؛ لأنَّ المرادَ الاستخدامُ وهو يُقَوِّي
قولَ مَنْ فَرَّق بينهما . إلاَّ أنَّ ابنَ محيصن وابن مسلم وأصحابَ عبدِ الله
كسروه أيضاً ، وهي مُقَوِّيَةٌ لقولِ مَنْ جعلهما بمعنى.
والياءُ في » سِخريَّاً « و » سُخْريَّاً « للنسبِ زِيْدَتْ للدلالةِ على قوةِ
الفعل ، فالسُّخْرِيُّ أقوى من السُّخْر ، كما قيل في الخصوص : خصوصيَّة ، دلالةً
على قوةِ ذلك ، قال معناه الزمخشري. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(4/24)
"
كم " في موضع نَصْبٍ بقوله : (لَبِثْتُم) ، و (عَدَدَ سِنينَ) منصوب
بـ " كم " ويجوز كم لَبِثم في الأرض مُشَددَ التاءِ.
وكذلك يجوز في الجَوابِ.
* * *
(قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113)
(لَبِثْنَا) و (لُبِثْنَا)
وقوله : (فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ) (1).
أي فاسأل الملائكة الذين يحفظون عَدَدَ مَا لَبِثْنا).
* * *
(قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114)
معناه ما لَبِثْتُمْ إلا قَليلاً.
* * *
وقوله : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا
لَا تُرْجَعُونَ (115)
(تُرْجَعُونَ) وَ (تَرْجِعُونَ).
* * *
وقوله : (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ
فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117)
(فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ).
التأويل حسابه عند رَبِّه فإنه لا يفلح الكافرون
والمعنى الذي له عند رَبِّهِ أنه لا يفلح - وجائز أَنه لا يفلح الكافرونَ بفتح
أَنَّ ، ويجوز أن يكون (فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ) فيجازيه عليه كما
قال :
(ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ) (2).
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ } : قرأ الأخَوان « قل : كم لَبِثْتُمْ » . « قُلْ
إنْ لبثتم » بالأمر في الموضعين ، وابن كثير كالأخوين في الأول فقط ، والباقون «
قال » في الموضعين ، على الإِخبار عن الله أو المَلَك . والفعلان مرسومان بغيرِ
ألفٍ في مصاحفِ الكوفة ، وبألفٍ في مصاحفِ مكةَ والمدينةِ والشامِ والبصرةِ ،
فحمزةُ والكسائيُّ وافقا مصاحفَ الكوفة وخالفها عاصمٌ ، أو وافقها على تقديرِ
حَذْفِ الألفِ من الرسم وإرادتها . وابن كثير وافق في الثاني مصاحفَ مكة ، وفي
الأولِ غيرَها ، أو أتاها على تقديرِ حَذْفِ الألف وإرادتِها . وأمَّا الباقون
فوافقوا مصاحفَهم في الأول والثاني.
و « كم » في موضعِ نصبٍ على ظرفِ الزمانِ أي : كم سنة . و « عددَ » بدلٌ مِنْ « كم
» قاله أبو البقاء : وقال غيره : إن « عد سنين » تمييز ل « كم » وهذا هو الصحيحُ.
وقرأ الأعمش والمفضل عن عاصم « عَدَداً » منوناً . وفيه أوجهٌ ، أحدُها : أَنْ
يكونَ « عدداً » مصدراً أُقيم مُقام الاسمِ ، فهو نعتٌ تقدَّم على المنعوت . قاله
صاحب « اللوامح » . يعني أن الأصل : « سنين عدداً » أي : معدودة ، لكنه يُلتزم
تقديمُ النعتِ على المنعوتِ ، فصوابُه أن يقول : فانتصبَ حالاً . هذا مذهبُ
البصريين . والثاني : أنَّ « لَبِثْتُم » بمعنى عَدَدْتُم . فيكون نصبُ « عدداً »
على المصدر و « سنين » بدلٌ منه . وقال صاحب « اللوامح » أيضاً : « وفيه بُعْدٌ؛
لعدم دلالة اللُّبث على العدد » . والثالث : أنَّ « عدداً » تمييزٌ ل « كم » و «
سنين » بدلٌ منه.
قوله : { العآدين } : جمعُ « عادٍّ » من العَدَد . وقرأ الحسن والكسائي في روايةٍ
بتخفيفِ الدالِ جمعَ « عادٍ » اسم فاعل مِنْ عدا أي/ : الظَّلَمَة . وقال أبو
البقاء : « وقُرىء بالتخفيفِ على معنى العادِيْن المتقدِّمين كقولك : » وهذه
بِئْرٌ عادية « ، أي : سَلْ من تقدَّمَنا . وحَذَفَ إحدى ياءَي النسَب كما قالوا
الأشعرون وحَذَفَ الأخرى لالتقاء الساكنين » . قلت : المَحْذوفُ أولاً مِن الياء
الثانية لأنها المتحركةُ ، وبحذفِها يلتقي ساكنان . ويؤيِّد ما ذكره أبو البقاء ما
ذكره الزمخشري فقال : « وقُرىء » العادِيِّين « أي : القدماء المُعَمَّرين فإنهم يستقصرونها
فكيف بمن دونهم؟ » . وقال ابن خالويه : « ولغةٌ أخرى » العاديِّين « يعني بياءٍ
مشددة جمع عادِيَّة بمعنى القدماء » . اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(2) قال السَّمين :
قوله : { وَمَن يَدْعُ } : شرطٌ . وفي جوابِه وجهان أصحُّهما : أنه قوله « فإنما
حِسابُه » وعلى هذا ففي الجملة المتقدمة وهي قولُه : { لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ }
وجهان ، أحدُهما : أنها صفةٌ ل « إلهاً » وهو صفةٌ لازمةٌ . أي : لا يكون الإِلَهُ
المَدْعُوُّ من دون اللهِ إلاَّ كذا ، فليس لها مفهومٌ لفسادِ المعنى . ومثلُه {
وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } [ الأنعام : 38 ] لا يُفْهم أنَّ ثَمَّ
إلَهاً آخرَ مَدْعُوَّاً من دونِ اللهِ له برهان ، وأن ثَمَّ طائراً يطير بغير
جناحيه . الثاني : أنها جملةٌ اعتراضٍ بين الشرطِ وجوابِه . وإلى الوجهين أشار
الزمخشري بقولِه : « وهي صفةٌ لازمةٌ كقوله : » يَطير بجناحيه « ، جيء بها للتوكيد
لا أَنْ يكونَ في الآلهة ما يجوز أَنْ يقومَ عليه بُرْهانٌ . ويجوز أَنْ يكونَ
اعتراضاً بين الشرطِ والجزاءِ كقولك : » مَنْ أحسن إلى زيدٍ لا أحقَّ بالإِحسان
منه فاللهُ مُثيبُه «.
الثاني : من الوجهين الأولين : أنَّ جوابَ الشرطِ » قولُه لا بُرْهانَ له به «
كأنه فَرَّ مِنْ مفهومِ الصفةِ لِما يلزمُ مِنْ فسادِه فَوَقَعَ في شيءٍ لا يجوزُ
إلاَّ في ضرورةِ شعرٍ ، وهو حَذْفُ فاءِ الجزاءِ من الجملةِ الاسميةِ ، كقوله :
3432 مَنْ يَفْعَلِ الحسناتِ اللهُ يَشْكُرُها . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . .
البيت . وقد تقدَّم تخريجُ كونِ » لا برهانَ له « على الصفةِ . ولا إشكال؛ لأنها
صفةٌ لازمةٌ ، أو على أنها جملةٌ اعتراضٍ.
قوله : { إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ } الجمهور على كسرِ الهمزةِ على الاستئنافِ المُفيد
للعلمِ . وقرأ الحسنُ وقتادةُ » أنه « بالفتح . وخَرَّجَه الزمخشري على أَنْ يكنَ
خبر » حِسابُه « قال : ومعناه : حسابُه عدمُ الفلاحِ . والأصلُ : حسابُه أنه لا
يُفلح هو ، فوضع » الكافرون « في موضع الضمير ، لأن مَنْ يَدْعُ في معنى الجمع
وكذلك » حِسابُه أنه لا يُفلح « في معنى : حسابهم أنهم لا يُفْلحون » انتهى .
ويجوزُ أَنْ يكونَ ذلك على حَذْفِ حرفِ العلةِ أي [ ل ] أنَّه لا يُفْلح . وقرأ
الحسن « لا يَفْلح » بفتح الياءِ واللام ، مضارعَ فَلَح بمعنى أفلح ، فَعَل
وأَفْعَل فيه بمعنىً . والله أعلم ، وهو يقول الحقَّ ويَهْدي السبيلَ.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(4/25)
سُورَةُ
النُّور
(مدنية)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله عزَّ وجلَّ : (سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا
آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1)
القراءة الرفعُ ، وقرأ عيسى بنُ عُمَر (سُورَةً) بالنصْب (1).
فأمَّا الرفع فَعلى إضمار هذه سُورَة أَنْزَلْنَاهَا ، ورفعها بالابتداء قبيخ
لأنها نَكِرَة و (أَنْزَلْناهَا) صفة لها . والنصْب على وَجْهَيْن ، على معنى
أنزلنا سُورَةً ، كما تقول زيداً ضربته ، وعلى معنى اتْلُ سُورَةً أنزلناها.
(وَفَرَضْنَاهَا).
بتخفيف الراء ، ويقرأ بالتشديد في الراء ، فمن قرأ بالتخفيف فَمَعْنَاهُ
ألزمناكم العَمَل بما فُرِضَ فيها ، ومن قرأ بالتشْدِيد فَعَلَى وجهين :
أحدهما على معنى التكثير ، على معنى أنا فَرَضْنَا فيها فُرُوضاً كثيرةً وعلى معنى
بيَّنَّا وفضلنَا ما فيها من الحلال والحرام.
* * *
وقوله : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ
جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ
تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)
القراءة الرفع ، وقرأ عيسى بنُ عُمرَ بالنصب ، (الزانيةَ والزانِي) بفتح التاء.
وزعم الخليل وسيبويه أن النصب المختارُ وزعم سيبويه أن القراءة الرفع.
وزعم غيرهم من البصريين والكوفيين أن الاختيار الرفعُ ، وكذا هُو عِندي ، لأن
الرفع كالإجماع في القراءة ، وهُوَ أَقْوَى فِي العربيَّةِ ، لأن معناها معنى - من
زَنَى
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا } : يجوزُ في رَفْعِها وجهان . أحدهما : أن يكونَ
مبتدأً . والجملةُ بعدَها صفةٌ لها ، وذلك هو المُسَوِّغ للابتداءِ بالنكرةِ . وفي
الخبرِ وجهان ، أحدُهما : أنَّه الجملةُ مِنْ قولِه : { الزانية والزاني } وإلى
هذا نحا ابنُ عطية ، فإنه قال : « ويجوز أن يكونَ مبتدأً . والخبرُ { الزانية
والزاني } وما بَعد ذلك . والمعنى : السورةٌ المُنَزَّلَةُ المَفْرُوْضَةُ كذا
وكذا؛ إذ السورةُ عبارةٌ عن آياتٍ مسرودةٍ لها بَدْءٌ وخَتْم » . والثاني : أنَّ
الخبرَ محذوفٌ أي : فيما يُتْلَى عليكم سورةٌ ، أو فيما أَنْزَلْنا سورةٌ.
والوجهُ الثانِي مِنَ الوجَهين الأَوَلَيْن : أَنْ يكونَ خبرُ المبتدأ مضمراً أي :
هذه سورةٌ . وقال أبو البقاء : « سورةٌ بالرفع على تقديرِ : هذه سورةٌ ، أو مِمَّا
يُتْلى عليك سورةٌ فلا تكونُ » سورةٌ « مبتدأَةً لأنها نكرةٌ » . وهذه عبارةٌ
مُشكلة على ظاهِرها . كيف يقول : لا تكونُ مبتدأً مع تقديرِه : فيما يُتْلى عليك
سورةٌ؟ وكيف يُعَلِّلُ المنعَ بأنها نكرةٌ مع تقديرِه لخبرِها جارَّاً مُقَدَّماً
عليها ، وهو مُسَوِّغٌ للابتداء بالنكرة.
وقرأه العامَّةُ بالرفعِ على ما تقدَّم . وقرأ الحسن بن عبد العزيز وعيسى الثقفي
وعيسى الكوفي ومجاهدٌ وأبو حيوة في آخرين « سورةً » بالنصبِ . وفيها أوجهٌ ، أحدها
: أنها منصوبةٌ بفعلٍ مقدرٍ غير مفسَّرٍ بما بعدَه . تقديره : اتْلُ سورةً أو اقرأ
سورةً . والثاني : أنها منصوبةٌ بفعلٍ مضمرٍ يُفَسِّره ما بعده . والمسألةُ من
الاشتغال . تقديرُه : أَنْزَلْنا سورةً أنزلناها . والفرقُ بين الوجهين : أنَّ
الجملةَ بعد « سورةً » في محلِّ نصبٍ على الأول ، ولا محلَّ لها على الثاني .
الثالث : أنها منصوبةٌ على الإِغراء ، أي : دونَكَ سورةً . قال الزمخشري ، ورَدَّه
الشيخُ : بأنه لا يجوزُ حَذْفُ أداة الإِغْراءِ ، واستشكل الشيخُ أيضاً على وجهِ
الاشتغالِ جوازَ الابتداءِ بالنكرةِ من غيرِ مُسَوِّغٍ . ومعنى ذلك : أنه ما مِنْ
مَوْضع يجوز [ فيه ] النصبُ على الاشتغالُ إلاَّ ويجوز أن يُرْفَعَ على الابتداءِ
، وهنا لو رُفِعَتْ « سورة » بالابتداءِ لم يَجُزْ؛ إذ لا مُسَوِّغٍ . فلا يُقال :
رجلاً ضربتُه لامتناعهِ : رجلٌ ضربتُه . ثم أجاب : بأنه إنْ اعتُقد حَذْفُ وصفٍ
جاز ، أي : سورة مُعَظَّمة أو مُوَضَّحة أَنْزَلْناها ، فيجوزُ ذلك.
الرابع : أنَّها منصوبةٌ على الحال مِنْ « ها » في « أَنْزِلْناها » . والحالُ من
المكنى يجوز أن تتقدَم عليه . قاله الفراء . وعلى هذا فالضميرُ في « أَنْزَلْناها
» ليس عائداً على سورة بل على الأحكام . كأنه قيل : أَنْزلنا الأحكامَ سورةً مِنْ
سُوَرِ القرِآن ، فهذه الأحكامُ ثابتةٌ بالقرآنِ ، بخلافِ غيرِها فإنَّه قد
ثَبَتَتْ بالسُّنة.
قوله : { وَفَرَضْنَاهَا } قرأ ابن كثير وأبو عمرو بالتشديدِ . والباقون بالتخفيف
. فالتشديد : إمَّا للمبالغةِ في الإِيجاب وتوكيداً ، وإمَّا لتكثير المفروض عليهم
، وإمَّا لتكثيرِ الشيءِ المفروض . والتخفيفُ بمعنى : أَوْجَبْناها وجعلناها
مقطوعاً بها.
اهـ (الدُّرُّ المصُون)
(4/27)
فاجلدُوه
، فتأويله الابتداء ، وقال سيبويه والخليلُ إن الرفع على معنى :
" وَفِيما فَرَضْنَا عَلَيكُمُ الزانيةُ والزاني " - بالرفع - أو
الزانيةُ والزاني فيما فُرِضَ عَلَيْكم.
والدليل على أن الاختيار الرفع قوله عزَّ وجلَّ : (واللذَانِ يَأتِيانِها مِنْكُمْ
فآذُوهُما).
وإنَّما اختارَالخليل وسيبويه النَصْبَ لأنه أَمْر ، وَأَنَّ الأمْرَ بالفعل أولى
. والنصب جائز على مَعْنى اجلدوا الزانيةَ والزانيَ.
والإجماع أن الجَلْدَ على غير المحصنين ، يجلد غير المحصن وغير
المُحْصَنَةِ مائة جلدة ، وينفى مَعَ الجَلْدِ في قول كثير من الفقهاء ، يجلد
مَائةً
ويُغرب عَاماً.
فأمَّا أهل العراق فيجلدونه مِائةً.
وقوله : (وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ).
وتقرأ رَآفَةٌ في دين الله على وزن رَعَافَة ، وتقرأ " يأخذكم بالياء ".
ورآفة مثلُ السآمَةِ مثل قولك سئمت سآمَةً ، ومثله كآبة ففعاله من أسْمَاءِ
المَصَادِر ، وسآمة على قياس كلَالَة.
وَفَعَالَةٌ في الخِصَالِ مثل القَبَاحَةِ - والمَلَاحَة والفخامة.
وهذا يكثر جداً.
ومعنى (وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ) ، لَا
تَرْحَمُوهُمَا فَتُسْقِطُوا عنهما مَا أمَر اللَّهُ بِهِ من الحَدِّ ، وقيلَ
يبالغ في جلدِهِمَا.
وقوله تعالى : (وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَة مِنَ المؤمِنِينَ).
القراءةُ إسْكانُ اللام ، ويجوز كسرها.
واختلف الناس في الطائفة ، فقال بعضم الواحد فما فوقه طائفة ، وقال
آخرون لا تكون الطائفة أقل من اثنين ، وقال بعضهم ثلاثة ، وقال بعضهم
أَرْبَعِةٌ ، وقال بعضهم عَشَرة ، فأمَّا من قال واحِدٌ فهو على غير ما عندَ
أَهْلِ
(4/28)
اللغة
، لأن الطائفة في معنى الجماعَةِ وأقل الجماعة اثنان ، وأقل ما يجب في
الطائفة عِنْدِي اثنان.
والذي ينبغي أن يُتَحَرى في شَهَادَة عَذَاب الزانِي أَن
يكونُوا جَمَاعةً لأن الأغلب على الطائفة الجَمَاعَةُ.
* * *
وقوله : (الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ
لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ (3)
ويجوز الزاني لا يُنْكَحُ إلَّا زانية ، والزانِيَةُ لا يُنْكَحُهَا إلا زَانٍ
ولم يقرأ بها . وتأويل (الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً) على معنى لا
يتزوَّجُ.
وكذلك الزانية لا يتَزَوجها إلا زانٍ.
وقَالَ قومٌ : إنَّ مَعْنَى النكاح ههنا الوَطْء ، فالمعنى عندهم
الزاني لَا يَطَأ إلَّا زانيةً والزانية لا يطؤها إلا زَانٍ.
وهذا القول يَبْعُد ، لأنه لا يعرف شيء من ذكر النكاح في كتاب اللَّه إلا على معنى
التزويج ، قال اللَّهُ سُبْحَانَه : (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ
وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ) ، فهذا تزويج لَا شكَّ فيهِ.
وقال اللَّه ، عزَّ وجلَّ : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ
الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ).
فاعلم عزَّ وجلَّ أن عقد التزويج يُسمَّى النكاح.
وَأَكْثَرُ التفسير أَن هذه الآيةَ نزلت في قومٍ مِنَ الْمسلمين فقراء كانوا
بِالمَدينة ، فهمُّوا بأن يتزوجوا بِبَغايَا من بالمدينة - يزنين ، ويأخُذْن
الأجْرَةَ.
فَأرَادُوا التزْوِيج بهِن لِيَعُلْنَهُمْ ، فأنزل الله عزَّ وجلَّ تَحرِيمَ
ذَلِكَ ، وقيل إنهم
أرادوا أن يُسَامحوهُنَّ ، فأُعلموا أن ذَلك حَرَام .
(4/29)
ويروى
أن الحَسَنَ قال : إن الزاني إذا أُقِيمَ عَلَيْهِ الحَدُّ لا يزوج إلا بامرأة
أُقيمَ عليها الحَدُّ مِثْلُه ، وكذلك المرأة إذا أقيم عليها الحدُّ عِنْدَهُ لا
تزوج إلا
برجل مثلها.
وقال بَعْضُهم : الآية منسوخة نسخها قوله : (وأنْكِحُوا الأيَامَى مِنْكُم).
وأكثر القول أن المعنى هَهُنَا على التزويج.
ويجوز " وَحَرَّمَ ذَلِكَ عَلَى المُؤْمِنِينَ " بمعنى وحرَّمَ اللَّه
ذلك على
المُؤْمِنين ، ولم يقرأ بها.
وهذا لفظُه لفظ خَبَرٍ ، ومعناه معنى الأمْرِ ، ولو كان على ماقال مَنْ قَالَ إنه
الوَطْءُ لما كان في الكلام فَائِدَةٌ ، لأن القائل إذا قال الزانية لا تَزْني إلا
بِزَانٍ.
والزاني لا يزني إلا بزانيةٍ ، فليس فيه فائدة إلا عَلَى جهة التغليظ في الأمر ،
كما تقول للرجل الذي قَدْ عَرفْتَهُ بالكذبِ : هذا كذاب ، تريدُ تغليظ أَمْرِهِ .
فعلى ما فيه الفائدة ومَا توجِبُه اللغَةُ أن المعنى مَعنى التزْوِيج.
* * *
وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا
بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا
لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ
(4)
معنى (يَرْمُونَ المحصنَاتِ) أي ، بالزِنا ، لكنه لم يَقُلْ بالزنَا ، لأن فيما
تَقَدَّمَ
مِنْ ذِكْر الزانِيةِ والزاني دليلًا على أن المعنى ذَلِك.
ومَوْضِعُ (الذين) رفع بالابتداء.
وعلى قراءة عيسى بن عُمَر ، يجب أن يكون مَوضَعُ (الذين يَرْمُونَ
المُحْصَنَاتِ) نَصْباً على معْنى اجلدوا الذين يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ ثم لم
يأتوا
بأربعة شهداء.
وعلى ذلك اختيار سيبويه والخليل.
والمحصنات ههنا : اللواتي أحْصَنَّ فُرُوجَهُنَّ بالعِفَّةِ (1).
وقوله : (وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ
الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا
فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { والذين يَرْمُونَ المحصنات } : كقولِه : { الزانية والزاني فاجلدوا } [
النور : 2 ] ، فيعودُ فيه ما تقدَّم بحاله . وقوله : { المحصنات } فيه وجهان
أحدُهما : أنَّ المرادَ به النساءُ فقط ، وإنَّما خَصَّهُنَّ بالذِّكْر؛ لأنَّ
قَذْفَهُنَّ أشنعُ . والثاني : أنَّ المرادَ بهنَّ النساءُ والرجال ، وعلى هذا
فيقالُ : كيف غَلَّبَ المؤنَّثَ على المذكر؟ والجوابُ : أنه صفةٌ لشيء محذوفٍ
يَعُمُّ الرجالَ والنساءَ ، أي : الأنفسَ المحصناتِ وهو بعيدٌ . أو تقولُ : ثَمَّ
معطوفٌ محذوفٌ لفهمِ المعنى ، والإِجماعُ على أنَّ حكمَهم حكمُهن أي : والمُحْصَنين.
قوله : { بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ } العامَّة على إضافة اسمِ العددِ للمعدود . وقرأ
أبو زرعة وعبد الله بن مسلم بالتنوينِ في العدد ، واستفصحَ الناسُ هذه القراءةَ
حتى جاوزَ بعضُهم الحدَّ ، كابنِ جني ، ففضَّلها على قراءة العامَّةِ قال : «
لأنَّ المعدودَ متى كان صفةً فالأجودُ الإِتباعُ دونَ الإِضافةِ . تقول : عندي
ثلاثةُ ضاربون ، ويَضْعُفُ ثلاثةُ ضاربين » وهذا غلطٌ ، لأن الصفةَ التي جَرَتْ
مجرى الأسماءِ تُعْطى حكمَها فيُضاف إليها العددُ ، و « شهداء » مِنْ ذلك؛ فإنه
كَثُرَ حَذْفُ موصوفِه . قال تعالى : { مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ } { واستشهدوا
شَهِيدَيْنِ } [ البقرة : 282 ] وتقول : عندي ثلاثةُ أَعْبُدٍ ، وكلُّ ذلك صفةٌ في
الأصل.
ونَقَل ابنُ عطية عن سيبويهِ أنه لا يُجيزَ تنوينَ العددِ إلاَّ في شعرٍ ، وليس
كما نقله عنه ، إنما قال سيبويه ذلك في الأسماءِ نحو : ثلاثةُ رجالٍ ، وأمَّا
الصفاتُ ففيها التفصيلُ المتقدمُ.
وفي { شُهَدَآءَ } على هذه القراءةِ ثلاثةُ أوجهٍ . أحدُها : أنه تمييزٌ . وهذا
فاسد؛ لأنَّ مِنْ ثلاثة إلى عشرة يُضافُ لمميِّزه ليس إلاَّ ، وغيرُ ذلك ضرورةٌ .
الثاني : أنه حالٌ وهو ضعيفٌ أيضاً لمجيئها من النكرةِ من غيرِ مخصِّص . الثالث :
أنها مجرورةٌ نعتاً لأربعة ، ولم ينصَرِفْ لألف التأنيث . اهـ (الدُّرُّ المصُون)
(4/30)
اختلف
الناس في قبول شهادة القاذف ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ : إذَا تَابَ مِنْ قَذْفِهِ
قُبِلَتْ شهادَتُه.
ويروى أَنَ عُمَر بنَ الخَطَابِ قَبلَ شهادة قاذفيْن ، وقال لأبي بكرة
إنْ تُبْتَ قَبِلتُ شَهَادَتَك.
وتوبتُه أَن يرْجَع عن القذف.
وهذا مذهب أكثر الفقهاء ، وأما أَهْلُ العِرَاقِ فيقولون شهادَتُه غير مقبولة
لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : (وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا) ، قالوا
، وقوله : (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ
اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
قالوا : هذا الاستثناء من قوله : (وأولئك هم الفاسقون) ، فاسْتُثْنِيَ التائبُونَ
مِنَ الفَاسِقين.
وقال من زعم أن شهادته مَقْبُولَةٌ أن الاستثناء من قوله :
(وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أبداً . إِلا الَّذِينَ تَابُوا قالوا وقوله :
(وَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ) صِفَةٌ لَهُمْ.
وَأَجْمَعُوا أن من قذف وهوكافر ثم أسلم وتَابَ ، وكان بَعْدَ إسْلاَمِه
عَدْلاً قبلت شَهادَتُه وإن كان قاذفاً ، والقياس قبول شهادة القاذف إن تاب
واللَّه - عزَّ وجلَّ - يقول في الشهادات : (مِمنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشهَدَاءِ)
فليس القاذف بِأَشد جُرْماً مِنَ الكافِر ، فحقه أنه إذا تاب وأصلح قُبِلَتْ
شهادَتُه ، كما أن الكافِرَ إذا أسلم وأصلح قبلت شَهادَتُه.
فإن قال قائل : فما الفائدة في قوله (أَبَدًا) ؟
قيل الفَائِدَةُ أن الأبدَ لكل إنسان مقدار مُدتِهِ في حياته ، ومقدار مدَّتِه
فيما يتصل بقصَّتِهِ . فتقول : الكافر لا يُقْبَلُ منه شَيْء أَبَداً فمعناه ، ما
دام كافراً فلا يقْبَلُ منه شيء.
وكذلك إذَا قُلْتَ : القَاذِفُ لا تُقْبَل منه شَهادَة أبداً ، فمعناه ما دَامَ
قَاذِفاً ، فإذا زال عنه الكفر فقد زال أَبَدُه ، وكذلك القاذفُ إذا زال عنه
القذفُ فقد زال عنه أَبَدُه ، ولا فرقَ بين هَذا وذَلكَ . -
وتقرأ (ثم لم يأتوا بِأربَعَةٍ شهدَاءَ) - بالتنوين - (فَاجْلِدُوهًمْ) ، فأرْبَعة
(4/31)
مخفُوضَة
مُنَؤَنةٌ ، وَ (شَهداء) صفة للأربعة ، في موضع جَرٍّ.
ويَجَوْزُ أنْ يَكونَ فِي موضع نَصْبٍ مِنْ جهتين :
إحداهما على معنى ثم لم يُحْضِرُوا أرْبَعةً شهداءَ ، وعلى
نصب الحال مع النكِرةِ ثم لم يأتوا حال الشهادة.
فأمَّا (إلا الَّذِينَ تَابُوا) فيجوز أَنْ يَكُونَ في مَوْضِع جَر على البَدَلِ
من
الهاء والميم ، على معنى ولا تقبلوا لهم شهادةً أبداً إلا الذين تابوا.
ويجوز أن يكون في موضع نَصْبٍ على الاستثناء على قوله :
(وأولئك هم الفَاسِقُونَ - إلا الَّذِينَ تَابُوا) ، وإذا استُئنُوا من
الفَاسِقينَ أيضاً.
فقد وجب قبول شَهَادَتِهم لأنهم قد زال عنهم اسم الفِسْقِ (1).
* * *
وقوله : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ
إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ
إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6)
معناه والذين يرمون أزواجهم بالزِنَا.
وقوله : (فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ باللَّهِ).
ويقرأ أربعَ شهاداتٍ باللَّهِ بِالنَصْبِ ، فمن قرأ أرْبَعُ بالرفْع فَعَلَى خبر
الابتداء ، المعنى فشهادة أحدهم التي تدرأ حَدَّ القَاذف أَربعٌ ، والدليل على
ذلك قوله عزَّ وجلَّ : (وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ
شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ).
ومن نصب أَرْبعاً فالمعنى فَعَلَيْهم أن يَشْهَدَ أَحَدُهُم أرْبَعَ شهاداتٍ.
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { إِلاَّ الذين تَابُواْ } : في هذا الاستثناءِ خلافٌ : هل يعودُ لِما
تقدَّمه من الجملِ أم إلى الجملة الأخيرة فقط؟ وتكلم عليها من النحاةِ ابنُ مالك
والمهاباذي . فاختار ابنُ مالك عَوْدَه إلى الجملةِ المتقدمةِ ، والمهاباذي إلى
الأخيرة . وقال الزمخشري : « ردُّ شهادةِ القاذفِ مُعَلَّقٌ عند أبي حنيفة رحمه
الله باستيفاءِ الحدِّ . فإذا شهد [ به ] قبل الحَدَّ أو قبلَ تمام استيفائِه
قُبِلَتْ شهادتُه . فإذا اسْتُوفي لم تُقْبَلْ شهادتُه أبداً ، وإن تاب وكان من
الأبرار الأتقياء . وعند الشافعيِّ رحمه الله يتعلَّقُ رَدُّ شهادِته بنفسِ
القَذْفِ . فإذا تاب عن القَذْفِ بأَنْ يرجعَ عنه عاد مقبولَ الشهادة . وكلاهما
متمسِّكٌ بالآية : فأبو حنيفةَ رحمه الله جَعَلَ جزاءَ الشرطِ الذي هو الرميُ
الجَلْدَ ورَدَّ الشهادةِ عقيبَ الجَلْدِ على التأبيد ، وكانوا مردودي الشهادة
عندَه في أَبَدِهم وهومدةُ حياتِهم ، وجعل قولَه { وأولئك هُمُ الفاسقون } كلاماً
مستأنفاً غيرَ داخلٍ في حَيِّزِ جزاءِ الشرط ، كأنه حكايةُ حالِ الرامين عند الله
بعد انقضاءِ الجملةِ الشرطيةِ ، و { إِلاَّ الذين تَابُواْ } استثناءٌ من »
الفاسقين « . ويَدُلُّ عليه قولُه : { فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .
والشافعيُّ رحمه الله جَعَل جزاءَ الشرطِ الجملتين أيضاً ، غيرَ أنه صَرَفَ الأبدَ
إلى مدةِ كونهِ قاذفاً وهي تنتهي بالتوبة [ والرجوع ] عن القذف ، وجعل الاستثناء
بالجملةِ الثانية متعلقاً » . انتهى ، وإنما ذكرتُ الحكمَ؛ لأنَّ الإِعرابَ متوقفٌ
عليه.
ومَحَلُّ المستثنى فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنه منصوبٌ على أصلِ الاستثناء .
الثاني : أنه مجرورٌ بدلاً من الضمير في « لهم » وقد أوضح الزمخشري ذلك بقولِه «
وحَقُّ المستثنى عنده أي الشافعي أن يكونَ مجروراً بدلاً مِنْ » هم « في » لهم « ،
وحقُّه عند أبي حنيفة أن يكونَ منصوباً؛ لأنه عن مُوْجَبٍ . والذي يقتضيه ظاهرُ
الآيةِ ونظمُها أن تكونَ الجملُ الثلاثُ بمجموعِهِنَّ جزاءَ الشرط كأنه قيل :
ومَنْ قَذَفَ المُحْصناتِ فاجْلِدوهم ، ورُدُّوا شهادتَهم وفَسِّقوهم أي :
فاجْمَعُوا لهم الجَلْدَ والردَّ والتفسيقَ ، إلاَّ الذين تابوا عن القَذْفِ
وأصلحوا فإنَّ اللهَ يغفرُ لهم فينقلبون غيرَ مجلودِين ولا مَرْدودين ولا
مُفَسَّقين » . قال الشيخ : « وليس ظاهرُ الآية يقتضي عَوْدَ الاستثناءِ إلى
الجملِ الثلاثِ ، بل الظاهرُ/ هو ما يَعْضُده كلامُ العرب وهو الرجوعُ إلى الجملةِ
التي تَليها ».
والوجه الثالث : أنَّه مرفوعٌ بالابتداءِ ، وخبرُه الجملةُ من قولِه { فَإِنَّ
الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } . واعتُرِض بخُلُوِّها مِنْ رابطٍ . وأُجيب بأنه محذوفٌ
أي : غفورٌ لهم ، واختلفوا أيضاً في هذا الاستثناءِ : هل هو متصلٌ أو منقطع؟
والثاني ضعيفٌ جداً.
اهـ (الدُّرُّ المصُون)
(4/32)
وعلى
معنى فالذي يَِرَأُ عنها العَذَابَ أَنْ يَشْهَدَ أَحَدُهم أَرْبَعَ شهاداتٍ
* * *
(والخَامِسَةُ أَن لَعْنَةَ الله عَلَيْهِ).
ويجوز والخامِسَةَ أَن لَعْنَةَ اللَّه عليه ، وكذلك والخَامِسَةُ أَنَ غضبَ
اللَّهِ
عليها ، والخامِسَةَ جميعاً ، فمن قال : والخامِسَةَ فعلى مَعْنَى وَيَشْهَدُ
الخامِسَةَ.
فإذا قَذَف القاذِفُ امرأَتَه ، فشهادَتُه أَن يَقُولَ : أَشْهَدُ باللَّه إني
لَمِنَ
الصادِقِينَ فِيمَا قَذَفْتُها بِهِ ، أو يقول : أحلف باللَّهِ إني لمن الصادِقينَ
فِيما قَذَفْتُها به ، أَرْبَعَ مَراتٍ ، ويقول في الخامِسَةِ لعنة اللَّه عليه إن
كان من الكَاذبين.
وكذلك تقولُ المرأَةُ : أَشْهَدُ بِالله إئهُ لِمنَ الكاذبين فيما قذفني به ، أربع
مرات ، وتقول في الخامِسَةِ : وعَلَيَّ غَضَبُ الله إن كان من الصادقين.
وهذا هو اللِّعَانُ ، فإذا تلاعنا فُرقَ بينهما ، واعتدَّت عِدَّةَ المطلَّقَةِ من
وقتها ذلك.
فإذا فعلا ذلك لم يَتَزوجْهَا أبداً في قول أكثر الفقهاء من أهل الحجاز وبعضُ
الكوفيين يُتابِعُهُمْ ، وهو أبو يوسُفَ ، والقياسُ ما عليه أهل الحجاز ، لأن
القاذفَ قَذَفَها بالزِّنَا ، فهو لا ينبغي له أن يتزوَّج بزانيةٍ ، وليس يظهر
لهذا تَوْبَةٌ ، واللِّعَانُ لا يكون إلا بحاكم من حكام المسلمين (1).
* * *
وقوله تعالى : (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ
تَوَّابٌ حَكِيمٌ
(10)
ههنا جواب لولا متروك ، والمعنى - واللَّهُ أعلم - ولولا فضلُ الله عليكم
لنال الكاذب لما ذكرنا عَذابٌ عظيم ، ويدل عليه : (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ
عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا
أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14).
* * *
وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا
تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا
اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ
عَظِيمٌ (11)
معنى الِإفك ههنا الكذبُ . وقد سُمِّيَ بعضُهُمْ في الآثار ، وَلَمْ يُسمَّوْا في
__________
(1) قال السَّمين :
قوله : { وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَآءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ } : في رفع « أنفسهم
» وجهان ، أحدُهما : أنه بدلٌ مِنْ « شهداء » ، ولم يذكر الزمخشري في غضونِ كلامِه
غيرَه . والثاني : أنه نعتٌ له ، على أنَّ « إلاَّ » بمعنى « غير » . قال أبو
البقاء : « ولو قُرىء بالنصبِ لجاز على أن يكونَ خبرَ كان ، أو منصوباً على
الاستثناء . وإنما كان الرفعُ هنا أقوى؛ لأنَّ » إلاَّ « هنا صفةٌ للنكرةِ كما
ذَكْرنا في سورة الأنبياء » . قلت : وعلى قراءةِ الرفعِ يُحتمل أَنْ تكونَ « كان »
ناقصةً ، وخبرُها الجارُّ ، وأَنْ تكونَ تامةً أي : ولم يُوجَدْ لهم شهداءُ.
وقرأ العامَّةُ « يكن » بالياءِ من تحتُ ، وهو الفصيحُ؛ لأنه إذا أُسْنِد الفعلُ
لِما بعدَ « إلاَّ » على سبيلِ التفريغ وَجَبَ عند بعضِهم التذكيرُ في الفعل نحو :
« ما قام إلاَّ هندٌ » ولا يجوز : ما قامَتْ ، إلاَّ في ضرورة كقوله :
3433 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وما بَقِيَتْ إلاَّ
الضلوعُ الجَراشعُ
أو في شذوذٍ كقراءةِ الحسنِ : « لا ترى إلاَّ مَساكنُهم » وقرىء « ولم تَكُنْ »
بالتاءِ من فوقُ وقد عَرَفْتَ ما فيه.
قوله : { فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ } في رفعِها ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أن يكونَ
مبتدأ ، وخبرُه مقدرُ التقديمِ أي : فعليهم شهادة ، أو مُؤَخَّرهُ أي : فشهادة
أحدِهم كافيةٌ أو واجبةٌ . الثاني : أن يكون خبرَ مبتدأ مضمرٍ أي : فالجوابُ
شهادةُ أحدِهم . الثالث : أن يكونَ فاعلاً بفعلٍ مقدرٍ أي : فيكفي . والمصدرُ هنا
مضافٌ للفاعلِ.
وقرأ العامَّةُ « أربعَ شهاداتٍ » بالنصبِ على المصدر . والعاملُ فيه « شهادة »
فالناصبُ للمصدرِ مصدرٌ مثلُه ، كما تقدَّم في قولِه { فَإِنَّ جَهَنَّمَ
جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُوراً } [ الإسراء : 63 ] . وقرأ الأخَوان وحفصٌ برفع «
أربع » على أنها خبرُ المبتدأ ، وهو قوله : « فشهادة ».
ويتخرَّجُ على القراءاتين تعلُّقُ الجارِّ في قوله : « بالله » ، فعلى قراءةِ
النصبِ يجوزُ فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أَنْ يتعلَّقَ بشهادات؛ لأنه أقربُ إليه
. والثاني : أنه متعلِّقٌ بقوله : « فشهادةُ » أي : فشهادةُ أحدِهم بالله . ولا يَضُرُّ
الفصلُ ب « أربع » لأنها معلومةٌ للمصدرِ فليسَتْ أجنبيةً . والثالث : أن المسألةَ
من باب التنازعِ؛ فإنَّ كلاً مِنْ شهادة وشهادات تَطْلُبه من حيث المَعنى ، وتكون
المسألةُ من إعْمال الثاني للحَذْفِ من الأول ، وهو مختار البصريين . وعلى قراءةِ
الرفعِ يتعيَّن تَعَلُّقُه بشهادات؛ إذ لو عَلَّقْتَه بشهادة لَزِمَ الفصلُ بين
المصدرِ ومعمولِه بالجرِّ ، ولا يجوزُ لأنه أجنبيٌّ . ولم يُختلفْ في « أربع »
الثانية وهي قولُه « أَنْ تَشْهد أربعَ شهاداتٍ أنها منصوبةٌ للتصريح بالعاملِ
فيها . وهو الفعلُ.
قوله : { والخامسة } : اتفق السبعةُ على رفع الخامسة الأولى ، واختلفوا في الثانية
: فنصبها حفصٌ ، ونَصَبهما معاً الحسنُ والسلمي وطلحة والأعمش . فالرفعُ على
الابتداءِ ، وما بعده مِنْ « أنَّ » وما في حَيِّزها الخبرُ . وأمَّا نصبُ الأولى
فعلى قراءةِ مَنْ نصبٍ « أربعَ شهادات » يكون النصبُ للعطفِ على المنصوبِ قبلها .
وعلى قراءةِ مَنْ رَفَعَ يكونُ النصبُ بفعلٍ مقدرٍ أي : ويَشْهَدُ الخامسةَ .
وأمَّا نصبُ الثانيةِ فعطفٌ على ما قبلَها من المنصوبِ وهو « أربع شهادات » .
والنصبُ هنا أقوى منه في الأولى لقوةِ النصبِ فيما قبلَها كما تقدَّم تقريرُه :
ولذلك لم يُخْتَلَفْ فيه . وأمَّا « أنَّ » وما في حَيِّزها : فعلى قراءةِ الرفعِ
تكونُ في محلِّ رفعٍ خبراً للمبتدأ كما تقدَّم ، وعلى قراءةِ النصبِ تكونُ على
إسقاطِ الخافضِ ، ويتعلَّقُ الخافضُ بذلك الناصبِ للخامسةِ أي : ويشهد الخامسةَ
بأنَّ لعنةَ الله وبأنَّ غضبَ اللهِ . وجَوَّز أبو البقاء أن يكونَ بدلاً من
الخامسة.
قوله : { أَنَّ لَعْنَةَ الله عَلَيْهِ } قرأ العامَّةُ بتشديد « أنَّ » في
الموضعين . وقرأ نافعٌ بتخفيفها في الموضعين ، إلاَّ أنه يقرأ « غَضِبَ اللهُ »
بجَعْلِ « غَضِبَ » فعلاً ماضياً ، والجلالة فاعلَه . كذا نقل الشيخ عنه التخفيفَ
في الأولى أيضاً ، ولم ينقُلْه غيره . فعلى قراءتِه يكون اسمُ « أنْ » ضميرَ
الشأنِ في الموضعين ، و « لعنةُ الله » مبتدأ و « عليه » خبرُها . والجملةُ خبرُ «
أنْ » . وفي الثانية يكون « غضِبَ الله » جملةً فعليةً في محل خبر « أنْ » أيضاً ،
ولكنه يقال : يلزمُكم أحدُ أَمْرَيْن ، وهو إمَّا عَدَمُ الفصلِ بين المخففةِ
والفعلِ الواقعِ خبراً ، وإمَّا وقوعُ الطلبِ خبراً في هذا البابِ وهو ممتنعٌ .
تقريرُ ذلك : أنَّ خبرَ المخففةِ متى كان فعلاً متصرفاً/ غير مقرونٍ ب « قد »
وَجَبَ الفصلُ بينهما . بما تقدَّم في سورة المائدة . فإنْ أُجيب بأنه دعاءٌ
اعتُرِض بأنَّ الدعاءَ طلبٌ ، وقد نَصُّوا على أنَّ الجملَ الطلبيةَ لا تقع خبراً
ل « إنَّ » . حتى تأوَّلوا قولَه :
3434 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . إنَّ الرِّياضةَ لا
تُنْصِبْك للشَّيْبِ
وقوله :
3435 إنَّ الذينَ قَتَلْتُمْ أمسِ سَيِّدَهُمْ . . . لا تَحْسَبوا ليلَهم عن
ليلِكم ناما
على إضمارِ القول . ومثلُه { أَن بُورِكَ مَن فِي النار } [ النمل : 8 ] . وقرأ
الحسن وأبو رجاء وقتادة والسلميُّ وعيسى بتخفيف « أنْ و » غَضَبُ الله « بالرفع
على الابتداء ، والجارُّ بعدَه خبرُه . والجملةُ خبرُ » أنْ «.
وقال ابنُ عطية : » وأنْ الخفيفةُ على قراءة الرفعِ في قوله : « أَنْ غَضِبَ » وقد
وليها الفعلُ . قال أبو علي : « وأهلُ العربيةِ يَسْتَقْبِحون أَنْ يليَها الفعلُ
إلاَّ بأَنْ يُفْصل بينها وبينه بشيء نحو قولِه { عَلِمَ أَن سَيَكُونُ } [ المزمل
: 20 ] { أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ } [ طه : 89 ] فأمَّا قولُه : { وَأَن
لَّيْسَ لِلإِنسَانِ } [ النجم : 39 ] فذلك لقلةِ تمكُّنِ » ليس « في الأفعال .
وأمَّا قولُه : { أَن بُورِكَ مَن فِي النار } ف » بُوْرِكَ « في معنى الدعاء فلم
يَجىءْ دخولُ الفاصلِ لئلا يَفْسُدَ المعنى » . قلت : فظاهرُ هذا أنَّ « غَضِبَ »
ليس دعاءً ، بل هو خبرٌ عن « غَضَِبَ الله عليها » والظاهرُ أنه دعاءٌ ، كما أنَّ
« بُورك » كذلك . وليس المعنى على الإِخبارِ فيهما فاعتراضُ أبي علي ومتابعةُ أبي
محمد له ليسا بمَرْضِيَّيْنِ. اهـ (الدُّرُّ المصُون)
(4/33)
ْالقرآن
فمِمنْ سُمِّيَ حسانُ بنُ ثَابتٍ ، ومِسْطَح بنُ أُثاثَةَ ، وعبدُ اللَّه بنُ
أُبَيٍّ.
ومن النساء حِمْنة بِنت جَحش.
(لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ).
وقيل لكم والتي قُصِدَتْ عائشة رحمها اللَّه ، فقيل لكم يعنى به هِيَ ومن
بسببها من النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر رحمه اللَّه.
وقوله : (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ).
ويُقْرأ (كُبْرَهُ مِنْهُم لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ).
(4/34)
فمن
قرأ (كِبْرَه) فمعناه من تَولَّى الإثْمَ في ذلك ، ومن قرأ كُبْرَه أراد
مُعْظَمَهُ.
ويروى أن حسان بن ثابت دَخَل علَى عائشة ، فقيل لها أَتُدْخِلين هذا
الذي قال اللَّه عزَّ وجلَّ - فيه : (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ
عَذَابٌ عَظِيمٌ) فقالت أَوَ لَيْسَ قَدْ ذهب بَصَرُه.
ويروى أنَّه أنشدها قوله في بيته :
حَصَانٌ رَازانٌ ما تُزَنُّ بِريبةٍ . . . وتُصْبِحُ غَرْثَى من لُحومِ الغَوافِل
فقالت له : لكنك لست كذلك.
وقوله تعالى : (والْخَامِسَةُ أَن غَضَبُ اللَّهِ عَلَيْهَا).
بتخفيف أَن ورَفع غَضَبُ على معنَى أَنَه غَضَبُ الله عليها ، ويجوز أَنْ
غَضِبَ اللَّهِ عليها ، وههنا " هاء " مُضْمرة ، وأن مخففَة من
الثقِيَلَةِ.
المعنى أَنهُ غَضِبَ اللَّه عليها ، وأنه غَضَبُ اللَّهِ عليها.
قال الشاعر :
في فتية كسيوف الهند قد علموا . . . أن هالك كل من يَحْفَى وَيَنْتَعلُ
وجاء في التفسير في قوله : (لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ
لَكُمْ)
أنه يعنى به عَائِشةُ وصَفوانُ بنُ المعَطِّل ، ويجوز " لكم " في معنى
(4/35)