Translate فتح الباري وتفسير بن كثير كيكي520.

الخميس، 12 مايو 2022

مجلد 17 و18.فتح الباري المؤلف : أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ)

 مجلد 17 و18.فتح الباري
المؤلف : أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ)

17.

مجلد 17 فتح الباري أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ)
= الباطل، والله أعلم. قوله: "وكتمان الشهادة" هو معطوف على شهادة الزور، أي وما قيل في كتمان الشهادة بالحق من الوعيد. قوله: "لقوله تعالى:{وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ - إلى قوله: - عَلِيمٌ} والمراد منها قوله: {فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} . قوله: "تلووا ألسنتكم بالشهادة" هو تفسير ابن عباس أخرجه الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عنه في قوله: {وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا} أي تلووا ألسنتكم بالشهادة أو تعرضوا عنها، ومن طريق العوفي عن ابن عباس في هذه الآية قال: تلوي لسانك بغير الحق وهي اللجلجة فلا تقيم الشهادة على وجهها، والإعراض عنها الترك. وعن مجاهد من طرق حاصلها أنه فسر اللي بالتحريف، والإعراض بالترك، وكأن المصنف أشار بنظم كتمان الشهادة مع شهادة الزور إلى هذا الأثر وإلى أن تحريم شهادة الزور لكونها سببا لإبطال الحق فكتمان الشهادة أيضا سبب لإبطال الحق، وإلى الحديث الذي أخرجه أحمد وابن ماجة من حديث ابن مسعود مرفوعا: "إن بين يدي الساعة - فذكر أشياء ثم قال - وظهور شهادة الزور، وكتمان شهادة الحق" . ثم ذكر المصنف حديثين أحدهما قوله: "عن عبيد الله بن أبي بكر بن أنس عن أنس" في رواية محمد بن جعفر الآتية في الأدب عن محمد بن جعفر عن سعيد "حدثني عبيد الله بن أبي بكر سمعت أنس بن مالك". قوله: "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكبائر" زاد بهز عن شعبة عند أحمد "أو ذكرها" وفي رواية محمد بن جعفر "ذكر الكبائر أو سئل عنها" وكأن المراد بالكبائر أكبرها كما في حديث أبي بكرة الذي يليه، وكذا وقع في بعض الطرق عن شعبة كما سأبينه، وليس القصد حصر الكبائر فيما ذكر، وسيأتي الكلام إن شاء الله تعالى في تعريفها والإشارة إلى تعيينها في الكلام على حديث أبي هريرة "اجتنبوا السبع الموبقات" وهو في آخر كتاب الوصايا. قوله: "وشهادة الزور" في رواية محمد بن جعفر "قول الزور أو قال شهادة الزور" قال شعبة: "وأكثر ظني أنه قال شهادة الزور". قوله: "تابعه غندر" هو محمد بن جعفر المذكور. قوله: "وأبو عامر وبهز وعبد الصمد" أما رواية أبي عامر وهو العقدي فوصلها أبو سعيد النقاش في كتاب الشهود، وابن منده في كتاب الإيمان من طريقه عن شعبة بلفظ: "أكبر الكبائر الإشراك بالله" الحديث، وكذلك أخرجه المصنف في الديات عن عمرو بن عوف عن شعبة بلفظ: "أكبر الكبائر". وأما رواية بهز وهو ابن أسد المذكور فأخرجها أحمد عنه. أما رواية عبد الصمد وهو ابن عبد الوارث فوصلها المؤلف في الديات. قوله: "حدثنا الجريري" بضم الجيم وهو سعيد بن إياس، وسماه في رواية خالد الحذاء عنه في أوائل الأدب، وقد أخرج البخاري للعباس بن فروخ الجريري لكنه إذا أخرجه عنه سماه. قوله: "عن عبد الرحمن بن أبي بكرة" في رواية إسماعيل بن علية عن الجريري "حدثنا عبد الرحمن" وقد علقها المصنف آخر الباب. قوله: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر" هذا يقوي - إن كان المجلس متحدا - أحد الوجهين مما شك فيه شعبة، هل قال: ذلك ابتداء، أو لما سئل؟ وقد نظم كل من العقوق وشهادة الزور بالشرك في آيتين: إحداهما قوله تعالى : {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} ، ثانيهما قوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} . قوله: "ثلاثا" أي قال لهم ذلك ثلاث مرات، وكرره تأكيدا لينتبه السامع على إحضار فهمه، ووهم من قال: المراد بذلك عدد الكبائر، وقد ترجم البخاري في العلم "من أعاد الحديث ثلاثا ليفهم عنه" وذكر فيه طرفا من هذا الحديث تعليقا. قوله: "الإشراك بالله" يحتمل مطلق الكفر ويكون تخصيصه بالذكر لغلبته في الوجود، ولا سيما في بلاد العرب، فذكره تنبيها على غيره. ويحتمل أن يراد به

(5/262)


خصوصيته، إلا أنه يرد عليه أن بعض الكفر أعظم قبحا من الإشراك وهو التعطيل، لأنه نفي مطلق والإشراك إثبات مقيد فيترجح الاحتمال الأول. قوله: "وعقوق الوالدين" يأتي الكلام عليه في الأدب مع الكلام على الكبائر وضابطها وبيان ما قيل في عددها إن شاء الله تعالى. قوله: "وجلس وكان متكئا" يشعر بأنه اهتم بذلك حتى جلس بعد أن كان متكئا، ويفيد ذلك تأكيد تحريمه وعظم قبحه، وسبب الاهتمام بذلك كون قول الزور أو شهادة الزور أسهل وقوعا على الناس والتهاون بها أكثر، فإن الإشراك ينبو عنه قلب المسلم، والعقوق يصرف عنه الطبع، وأما الزور فالحوامل عليه كثيرة كالعداوة والحسد وغيرهما، فاحتيج إلى الاهتمام بتعظيمه، وليس ذلك لعظمها بالنسبة إلى ما ذكر معها من الإشراك قطعا، بل لكون مفسدة الزور متعدية إلى غير الشاهد، بخلاف الشرك فإن مفسدته قاصرة غالبا. قوله: "ألا وقول الزور" في رواية خالد عن الجريري "ألا وقول الزور وشهادة الزور" وفي رواية ابن عليه "شهادة الزور أو قول الزور" وكذا وقع في العمدة بالواو، قال ابن دقيق العيد: يحتمل أن يكون من الخاص بعد العام، لكن ينبغي أن يحمل على التأكيد، فإنا لو حملنا القول على الإطلاق لزم أن تكون الكذبة الواحدة مطلقا كبيرة، وليس كذلك. قال: ولا شك أن عظم الكذب ومراتبه متفاوتة بحسب تفاوت مفاسده، ومنه قوله تعالى: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} . قوله: "فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت" أي شفقة عليه، وكراهية لما يزعجه. وفيه ما كانوا عليه من كثرة الأدب معه صلى الله عليه وسلم والمحبة له والشفقة عليه. قوله: "وقال إسماعيل بن إبراهيم" أي ابن علية، وروايته موصولة في كتاب استتابة المرتدين، وفي الحديث انقسام الذنوب إلى كبير وأكبر، ويؤخذ منه ثبوت الصغائر لأن الكبيرة بالنسبة إليها أكبر منها؛ والاختلاف في ثبوت الصغائر مشهور، وأكثر ما تمسك به من قال ليس في الذنوب صغيرة كونه نظر إلى عظم المخالفة لأمر الله ونهيه، فالمخالفة بالنسبة إلى جلال الله كبيرة، لكن لمن أثبت الصغائر أن يقول وهي بالنسبة لما فوقها صغيرة كما دل عليه حديث الباب، وقد فهم الفرق بين الصغيرة والكبيرة من مدارك الشرع، وسبق في أوائل الصلاة ما يكفر الخطايا ما لم تكن كبائر، فثبت به أن من الذنوب ما يكفر بالطاعات، ومنها ما لا يكفر، وذلك هو عين المدعي، ولهذا قال الغزالي: إنكار الفرق بين الكبيرة والصغيرة لا يليق بالفقيه. ثم إن مراتب كل من الصغائر والكبائر مختلف بحسب تفاوت مفاسدها. وفي الحديث تحريم شهادة الزور: وفي معناها كل ما كان زورا من تعاطي المرء ما ليس له أهلا.

(5/263)


باب شهدة الأعمى وأمره ونكاحه وإنكاحة ومبايعته وقبوله في التأذين وغيره
...
11 - باب: شَهَادَةِ الأَعْمَى وَأَمْرِهِ وَنِكَاحِهِ وَإِنْكَاحِهِ وَمُبَايَعَتِهِ وَقَبُولِهِ فِي التَّأْذِينِ وَغَيْرِه.ِ
وَمَا يُعْرَفُ بِالأَصْوَاتِ. وَأَجَازَ شَهَادَتَهُ قَاسِمٌ وَالْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ وَالزُّهْرِيُّ وَعَطَاءٌ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: تَجُوزُ شَهَادَتُهُ إِذَا كَانَ عَاقِلًا. وَقَالَ الْحَكَمُ: رُبَّ شَيْءٍ تَجُوزُ فِيهِ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: أَرَأَيْتَ ابْنَ عَبَّاسٍ لَوْ شَهِدَ عَلَى شَهَادَةٍ أَكُنْتَ تَرُدُّهُ؟ وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَبْعَثُ رَجُلًا، إِذَا غَابَتْ الشَّمْسُ أَفْطَرَ. وَيَسْأَلُ عَنْ الْفَجْرِ فَإِذَا قِيلَ لَهُ طَلَعَ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ. وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ: اسْتَأْذَنْتُ عَلَى عَائِشَةَ فَعَرَفَتْ صَوْتِي، قَالَتْ: سُلَيْمَانُ؟ ادْخُلْ فَإِنَّكَ مَمْلُوكٌ مَا بَقِيَ عَلَيْكَ شَيْءٌ. وَأَجَازَ سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ شَهَادَةَ امْرَأَةٍ مُنْتَقِبَةٍ

(5/263)


2655- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ مَيْمُونٍ أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "سَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا يَقْرَأُ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ: رَحِمَهُ اللَّهُ، لَقَدْ أَذْكَرَنِي كَذَا وَكَذَا آيَةً أَسْقَطْتُهُنَّ مِنْ سُورَةِ كَذَا وَكَذَا" وَزَادَ عَبَّادُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَائِشَةَ "تَهَجَّدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِي فَسَمِعَ صَوْتَ عَبَّادٍ يُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ أَصَوْتُ عَبَّادٍ هَذَا؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: اللَّهُمَّ ارْحَمْ عَبَّادًا"
[الحديث 2655- أطرافه في: 5037 ، 5038 ، 5043 ، 6335]
2656- حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ بِلاَلًا يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُؤَذِّنَ - أَوْ قَالَ: حَتَّى تَسْمَعُوا أَذَانَ - ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ" وَكَانَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ رَجُلًا أَعْمَى لاَ يُؤَذِّنُ حَتَّى يَقُولَ لَهُ النَّاسُ: أَصْبَحْتَ
2657- حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ وَرْدَانَ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "قَدِمَتْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْبِيَةٌ فَقَالَ لِي أَبِي مَخْرَمَةُ انْطَلِقْ بِنَا إِلَيْهِ عَسَى أَنْ يُعْطِيَنَا مِنْهَا شَيْئًا فَقَامَ أَبِي عَلَى الْبَابِ فَتَكَلَّمَ فَعَرَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَوْتَهُ فَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ قَبَاءٌ وَهُوَ يُرِيهِ مَحَاسِنَهُ وَهُوَ يَقُولُ خَبَأْتُ هَذَا لَكَ خَبَأْتُ هَذَا لَك"
قوله: "باب شهادة الأعمى ونكاحه وأمره وإنكاحه ومبايعته وقبوله في التأذين وغيره وما يعرف بالأصوات" مال المصنف إلى إجازة شهادة الأعمى، فأشار إلى الاستدلال لذلك بما ذكر من جواز نكاحه ومبايعته وقبول تأذينه، وهو قول مالك والليث، سواء علم ذلك قبل العمى أو بعده. وفصل الجمهور فأجازوا ما تحمله قبل العمى لا بعده، وكذا ما يتنزل فيه منزلة المبصر، كأن يشهد شخص بشيء ويتعلق هو به إلى أن يشهد به عليه، وعن الحكم يجوز في الشيء اليسير دون الكثير، وقال أبو حنيفة ومحمد: لا تجوز شهادته بحال إلا فيما طريقه الاستفاضة، وليس في جميع ما استدل به المصنف دفع للمذهب المفصل إذ لا مانع من حمل المطلق على المقيد. قوله: "وأجاز شهادته القاسم والحسن وابن سيرين والزهري وعطاء"، أما القاسم فأظنه أراد ابن محمد بن أبي بكر أحد الفقهاء السبعة، وقد روى سعيد بن منصور عن هشيم عن يحيى بن سعيد هو الأنصاري قال: "سمعت الحكم بن عتيبة - هو بالمثناة والموحدة مصغر - يسأل القاسم بن محمد عن شهادة الأعمى فقال: جائزة". وأما قول الحسن وابن سيرين فوصله ابن أبي شيبة من طريق أشعث عنهما قالا: "شهادة الأعمى جائزة". وأما قول الزهري فوصله ابن أبي شيبة من طريق ابن أبي ذئب عنه "أنه كان يجيز شهادة الأعمى". وأما قول عطاء وهو ابن أبي رباح فوصله الأثرم من طريق ابن جريج عنه قال: "تجوز شهادة الأعمى". قوله: "وقال الشعبي تجوز شهادته إذا كان عاقلا" وصله ابن أبي شيبة عنه بمعناه، وليس مراده بقوله: "عاقلا" الاحتراز من الجنون لأن ذاك أمر لا بد

(5/264)


من الاحتراز منه سواء كان أعمى أو بصيرا، وإنما مراده أن يكون فطنا مدركا للأمور الدقيقة بالقرائن، ولا شك في تفاوت الأشخاص في ذلك. قوله: "وقال الحكم: رب شيء تجوز فيه" وصله ابن أبي شيبة عنه بهذا، وكأنه توسط بين مذهبي الجواز والمنع. قوله: "وقال الزهري: أرأيت ابن عباس لو شهد على شهادة أكنت ترده" ؟ وصله الكرابيسي في "أدب القضاء" من طريق ابن أبي ذئب عنه. قوله: "وكأن ابن عباس يبعث رجلا إلخ" وصله عبد الرزاق بمعناه من طريق أبي رجاء عنه، ووجه تعلقه به كونه كان يعتمد على خبر غيره مع أنه لا يرى شخصه وإنما سمع صوته. قال ابن المنير: لعل البخاري يشير بحديث ابن عباس إلى جواز شهادة الأعمى على التعريف، أي إذا عرف أن هذا فلان، فإذا عرف شهد، قال وشهادة التعريف مختلف فيها عند مالك وغيره، وقد جاء عن ابن عباس أنه كان لا يكتفي برؤية الشمس لأنها تواريها الجبال والسحاب، ويكتفي بغلبة الظلمة على الأفق الذي من جهة المشرق، وأخرجه سعيد بن منصور عنه. قوله: "وقال سليمان بن يسار: استأذنت على عائشة فعرفت صوتي فقالت: سليمان ادخل إلخ" تقدم الكلام عليه في آخر العتق، وفيه دليل على أن عائشة كانت ترى ترك الاحتجاب من العبد سواء كان في ملكها أو في ملك غيرها لأنه كان مكاتب ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وأما من قال يحتمل أنه كان مكاتبا لعائشة فمعارضة للصحيح من الأخبار بمحض الاحتمال وهو مردود، وأبعد من قال يحمل قوله على عائشة بمعنى من عائشة أي استأذنت عائشة في الدخول على ميمونة. قوله: "وأجاز سمرة بن جندب شهادة امرأة متنقبة" كذا قي رواية أبي ذر بالتشديد، ولغيره بسكون النون وتقديمها على المثناة. ثم ذكر المصنف في الباب ثلاثة أحاديث: حديث عائشة "سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يقرأ في المسجد" والغرض منه اعتماد النبي صلى الله عليه وسلم على صوته من غير أن يرى شخص. قوله: "وزاد عباد بن عبد الله" أي ابن الزبير عن أبيه عن عائشة، وصله أبو يعلى من طريق محمد بن إسحاق عن يحيي بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن عائشة "تهجد النبي صلى الله عليه وسلم في بيتي، وتهجد عباد بن بشر في المسجد، فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته فقال: يا عائشة هذا عباد بن بشر، قلت: نعم، فقال: اللهم ارحم عبادا" . قوله: "فسمع صوت عباد" وقوله: "أصوت عباد" هذا في رواية أبي يعلي المذكور عباد بن بشر في الموضعين كما سقته، وبهذا يزول اللبس عمن يظن اتحاد المسموع صوته والراوي عن عائشة، وهما اثنان مختلفا النسبة والصفة، فعباد بن بشر صحابي جليل وعباد بن عبد الله بن الزبير تابعي من وسط التابعين، وظاهر الحال أن المبهم في الرواية التي قبل هذه هو المفسر في هذه الرواية لأن مقتضى قوله: "زاد"أن يكون المزيد فيه والمزيد عليه حديثا واحدا فتتحد القصة، لكن جزم عبد الغني بن سعيد في "المبهمات" بأن المبهم في رواية هشام عن أبيه عن عائشة هو عبد الله بن يزيد الأنصاري، فروى من طريق عمرة عن عائشة "أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع صوت قارئ يقرأ فقال: صوت من هذا؟ قالوا. عبد الله بن يزيد، قال: لقد ذكرني آية يرحمه الله كنت أنسيتها" ويؤيد ما ذهب إليه مشابهة قصة عمرة عن عائشة بقصة عروة عنها، بخلاف قصة عباد بن عبد الله عنها فليس فيه تعرض لنسيان الآية، ويحتمل التعدد من جهة غير الجهة التي اتحدت، وهو أن يقال سمع صوت رجلين فعرف أحدهما فقال: هذا صوت عباد ولم يعرفه الآخر فسأل عنه، والذي لم يعرفه هو الذي تذكر بقراءته الآية التي نسيها، وسيأتي بقية الكلام على شرحه في كتاب فضائل القرآن إن شاء الله تعالى. ثانيها حديث ابن عمر في تأذين بلال وابن أم مكتوم، وقد مضى بتمامه وشرحه في الأذان، والغرض منه ما تقدم من الاعتماد على صوت الأعمى. ثالثها حديث المسور في إعطاء

(5/265)


النبي صلى الله عليه وسلم له القباء، والغرض منه قوله فيه: "فعرف النبي صلى الله عليه وسلم صوته فخرج ومنه قباء وهو يريه محاسنه ويقول: خبأت لك هذا" فإن فيه أنه اعتمد على صوته قبل أن يرى شخصه، وسيأتي شرحه في اللباس إن شاء الله تعالى. واحتج من لم يجز شهادة الأعمى بأن العقود لا تجوز الشهادة عليها إلا باليقين، والأعمى لا يتيقن الصوت لجواز شبهه بصوت غيره، وأجاب المجيزون بأن محل القبول عندهم إذا تحقق الصوت ووجدت القرائن الدالة لذلك، وأما عمد الاشتباه فلا يقول به أحد، ومن ذلك جواز نكاح الأعمى زوجته وهو لا يعرفها إلا بصوتها، لكنه يتكرر عليه سماع صوتها حتى يقع له العلم بأنها هي، وإلا فمتى احتمل عنده احتمالا قويا أنها غيرها لم يجز له الإقدام عليها. وقال الإسماعيلي: ليس في أحاديث الباب دلالة على الجواز مطلقا، لأن نكاح الأعمى يتعلق بنفسه لأنه في زوجته وأمته وليس لغيره فيه مدخل. وأما قصة عباد ومخرمة ففي شيء يتعلق بهما لا يتعلق بغيرهما. وأما التأذين فقد قال في بقية الحديث: "كان لا يؤذن حتى يقال له أصبحت" فالاعتماد على الجمع الذين يخبرونه بالوقت، قال: وأما ما ذكره الزهري في حق ابن عباس فهو تهويل لا تقوم به حجة، لأن ابن عباس كان أفقه من أن يشهد فيما لا تجوز فيها شهادته، فإنه لو شهد لأبيه أو ابنه أو مملوكه لما قبلت شهادته، وقد أعاذه الله من ذلك.

(5/266)


باب شهادة النساء وقوله تعالى (فإن لم يكنا رجلين ... الأية)
...
12 - باب: شَهَادَةِ النِّسَاءِ،
وَقَوْلِهِ تَعَالَى [282 البقرة]: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ}
2658- حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ أَخْبَرَنِي زَيْدٌ عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَلَيْسَ شَهَادَةُ الْمَرْأَةِ مِثْلَ نِصْفِ شَهَادَةِ الرَّجُلِ قُلْنَ بَلَى قَالَ فَذَلِكَ مِنْ نُقْصَانِ عَقْلِهَا"
قوله: "باب شهادة النساء، وقول الله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} " قال ابن المنذر أجمع العلماء على القول بظاهر هذه الآية، فأجازوا شهادة النساء مع الرجال، وخص الجمهور ذلك بالديون والأموال وقالوا لا تجوز شهادتهن في الحدود والقصاص، واختلفوا في النكاح والطلاق والنسب والولاء، فمنعها الجمهور وأجازها الكوفيون، قال: واتفقوا على قبول شهادتهن مفردات فيما لا يطلع عليه الرجال كالحيض والولادة والاستهلال وعيوب النساء، واختلفوا في الرضاع كما سيأتي في الباب الذي بعده. وقال أبو عبيد: أما اتفاقهم على جواز شهادتهن في الأموال فللآية المذكورة، وأما اتفاقهم على منعها في الحدود والقصاص فلقوله تعالى: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} وأما اختلافهم في النكاح ونحوه فمن ألحقها بالأموال فذلك لما فيها من المهور والنفقات ونحو ذلك، ومن ألحقها بالحدود فلأنها تكون استحلالا للفروج وتحريمها بها، قال: وهذا هو المختار، ويؤيد ذلك قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} ثم سماها حدودا فقال: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} والنساء لا يقبلن في الحدود، قال: وكيف يشهدن فيما ليس لهن فيه تصرف من عقد ولا حل انتهى، وهذا التفصيل لا ينافي الترجمة لأنها معقودة لإثبات شهادتهن في الجملة، وقد اختلفوا فيما لا يطلع عليه الرجال هل يكفي فيه قول المرأة وحدها أم لا؟ فعند الجمهور لا بد من أربع، وعن مالك وابن أبي ليلى يكفي شهادة اثنتين، وعن الشعبي والثوري تجوز شهادتها وحدها في ذلك وهو قول الحنفية. ثم ذكر المصنف حديث أبي سعيد مختصرا وقد مضى بتمامه في الحيض، والغرض منه قوله صلى الله عليه وسلم: "أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل" ؟ قال المهلب: ويستنبط منه التفاضل بين الشهود بقدر عقلهم وضبطهم، فتقدم

(5/266)


شهادة الفطن اليقظ على الصالح البليد، قال: وفي الآية أن الشاهد إذا نسي الشهادة فذكره بها رفيقه حتى تذكرها أنه يجوز أن يشهد بها. ومن اللطائف ما حكاه الشافعي عن أمه أنها شهدت عند قاضي مكة هي وامرأة أخرى، فأراد أن يفرق بينهما امتحانا فقالت له أم الشافعي: ليس لك ذلك، لأن الله تعالى يقول: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} .

(5/267)


باب شهادة الإيماء والعبيد
...
12 - باب: شَهَادَةِ الإِمَاءِ وَالْعَبِيدِ
وَقَالَ أَنَسٌ: شَهَادَةُ الْعَبْدِ جَائِزَةٌ إِذَا كَانَ عَدْلًا وَأَجَازَهُ شُرَيْحٌ وَزُرَارَةُ بْنُ أَوْفَى
وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: شَهَادَتُهُ جَائِزَةٌ إِلاَّ الْعَبْدَ لِسَيِّدِهِ وَأَجَازَهُ الْحَسَنُ وَإِبْرَاهِيمُ فِي الشَّيْءِ التَّافِهِ
وَقَالَ شُرَيْحٌ كُلُّكُمْ بَنُو عَبِيدٍ وَإِمَاءٍ
2659- حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ ح وحَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي عُقْبَةُ بْنُ الْحَارِثِ أَوْ سَمِعْتُهُ مِنْهُ "أَنَّهُ تَزَوَّجَ أُمَّ يَحْيَى بِنْتَ أَبِي إِهَابٍ قَالَ فَجَاءَتْ أَمَةٌ سَوْدَاءُ فَقَالَتْ قَدْ أَرْضَعْتُكُمَا فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْرَضَ عَنِّي قَالَ فَتَنَحَّيْتُ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ قَالَ وَكَيْفَ وَقَدْ زَعَمَتْ أَنْ قَدْ أَرْضَعَتْكُمَا فَنَهَاهُ عَنْهَا"
قوله: "باب شهادة الإماء والعبيد" أي في حال الرق، وقد ذهب الجمهور إلى أنها لا تقبل مطلقا. وقالت طائفة: تقبل مطلقا، وقد نقل المصنف بعض ذلك وهو قول أحمد وإسحاق وأبي ثور، وقيل تقبل في الشيء اليسير وهو قول الشعبي وشريح والنخعي والحسن. قوله: "وقال أنس: شهادة العبد جائزة إذا كان عدلا" وصله ابن أبي شيبة من رواية المختار بن فلفل قال: "سألت أنسا عن شهادة العبيد فقال جائزة". قوله: "وأجازه شريح وزرارة بن أبي أوفى" أما شريح فوصله ابن أبي شيبة من رواية عامر وهو الشعبي "أن شريحا أجاز شهادة العبيد" وروى سعيد بن منصور من رواية عمار الدهني قال: "سمعت شريحا أجاز شهادة عبد في الشيء اليسير" ورويناه في "جامع سفيان بن عيينة" عن هشام عن ابن سيرين "كان شريح يجيز شهادة العبد في الشيء اليسير إذا كان مرضيا" وروى ابن أبي شيبة أيضا من طريق أشعث عن الشعبي "كان شريح لا يجيز شهادة العبد، فقال علي: لكننا نجيزها فكان شريح بعد ذلك يجيزها إلا لسيده" وأما قول زرارة بن أبي أوفى وهو قاضي البصرة فلم أقف على سنده إليه. قوله: "وقال ابن سيرين شهادته" أي العبد "جائزة، إلا العبد لسيده" وصله عبد الله بن أحمد بن حنبل في "المسائل" من طريق يحيى بن عتيق عنه بمعناه. قوله: "وأجازه الحسن وإبراهيم في الشيء التافه" وصله ابن أبي شيبة من رواية منصور عن إبراهيم قال: "كانوا يجيزونها في الشيء الخفيف" ومن طريق أشعث الحمراني عن الحسن نحوه. قوله: "وقال شريح: كلكم بنو عبيد وإماء" كذا للأكثر، ولابن السكن "كلكم عبيد وإماء" وصله ابن أبي شيبة من طريق عمار الدهني "سمعت شريحا شهد عنده عبد فأجاز شهادته، فقيل له أنه عبد، فقال: كلنا عبيد وأمنا حواء" وأخرجه سعيد بن منصور

(5/267)


من هذا الوجه نحوه بلفظ: "فقيل له إنه عبد، فقال: كلكم بنو عبيد وبنو إماء" ثم أورد المصنف حديث عقبة بن الحارث في قصة الأمة السوداء المرضعة، وسيأتي الكلام عليه في الباب الذي بعده، ووجه الدلالة منه أنه صلى الله عليه وسلم أمر عقبة بفراق امرأته بقول الأمة المذكورة، فلو لم تكن شهادتها مقبولة ما عمل بها، واحتجوا أيضا بقوله تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} قالوا فإن كان الذي في الرق رضا فهو داخل في ذلك، وأجيب عن الآية بأنه تعالى قال في آخرها: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} والإباء إنما يتأتى من الأحرار لاشتغال الرقيق بحق السيد، وفي الاستدلال بهذا القدر نظر، وأجاب الإسماعيلي عن حديث الباب فقال: قد جاء في بعض طرقه: "فجاءت مولاة لأهل مكة" قال: وهذا اللفظ يطلق على الحرة التي عليها الولاء فلا دلالة فيه على أنها كانت رقيقة، وتعقب بأن رواية حديث الباب فيه التصريح بأنها أمة فتعين أنها ليست بحرة، وقد قال ابن دقيق العيد: إن أخذنا بظاهر حديث الباب فلا بد من القول بشهادة الأمة، وقد سبق إلى الجزم بأنها كانت أمة أحمد بن حنبل رواه عنه جماعة كأبي طالب ومهنا وحرب وغيرهم، وقد تقدم في العلم تسمية أم يحيى بنت أبي إهاب وإنها غنية بفتح المعجمة وكسر النون بعدها تحتانية مثقلة، ثم وجدت في النسائي أن اسمها زينب فلعل غنية لقبها، أو كان اسمها فغير بزينب كما غير اسم غيرها، والأمة المذكورة لم أقف على اسمها. قوله: "فأعرض عني" زاد في البيوع من طريق عبد الله بن أبي حسين عن ابن أبي مليكة "وتبسم النبي صلى الله عليه وسلم". قوله فيه "فتنحيت فذكرت ذلك له" في رواية النكاح "فأعرض عني، فأتيته من قبل وجهه فقلت: إنها كاذبة" وفي رواية الدار قطني "ثم سألته فأعرض عني وقال في الثالثة أو الرابعة".

(5/268)


14 - باب: شَهَادَةِ الْمُرْضِعَةِ
2660- حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: "تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً، فَجَاءَتْ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: إِنِّي قَدْ أَرْضَعْتُكُمَا، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: وَكَيْفَ وَقَدْ قِيلَ؟ دَعْهَا عَنْكَ أَوْ نَحْوَهُ"
قوله: "باب شهادة المرضعة" ذكر فيه حديث عقبة بن الحارث في قصة المرأة التي أخبرته أنها أرضعته وأرضعت امرأته، أخرجه في الباب الذي قبله، وفي هذا الباب عن أبي عاصم، لكن هنا عن عمر بن سعيد وفي الذي قبله عن ابن جريج كلاهما عن ابن أبي مليكة وكأن لأبي عاصم فيه شيخين، فقد وجدت له فيه ثالثا ورابعا أخرجه الدار قطني من طريق محمد بن يحيي عن أبي عاصم عن أبي عامر الخراز ومحمد بن سليم كلاهما عن ابن أبي مليكة أيضا، واحتج به من قبل شهادة المرضعة وحدها، قال علي بن سعد: سمعت أحمد يسأل عن شهادة المرأة الواحدة في الرضاع قال: تجوز على حديث عقبة بن الحارث وهو قول الأوزاعي. ونقل عن عثمان وابن عباس والزهري والحسن وإسحاق، وروى عبد الرزاق عن ابن جريج عن ابن شهاب قال: "فرق عثمان بين ناس تناكحوا بقول امرأة سوداء أنها أرضعتهم" قال ابن شهاب: الناس يأخذون بذلك من قول عثمان اليوم، واختاره أبو عبيد إلا أنه قال: إن شهدت المرضعة وحدها وجب على الزوج مفارقة المرأة ولا يجب عليه الحكم بذلك وإن شهدت معها أخرى وجب الحكم به. واحتج أيضا بأنه صلى الله عليه وسلم لم يلزم عقبة بفراق امرأته بل قال له "دعها عنك" وفي رواية ابن جريج "كيف وقد زعمت" فأشار

(5/268)


إلى أن ذلك على التنزيه، وذهب الجمهور إلى أنه لا يكفي في ذلك شهادة المرضعة لأنها شهادة على فعل نفسها، وقد أخرج أبو عبيد من طريق عمر والمغيرة بن شعبة وعلي بن أبي طالب وابن عباس أنهم امتنعوا من التفرقة بين الزوجين بذلك فقال عمر: فرق بينهما إن جاءت بينة، وإلا فخل بين الرجل وامرأته إلا أن يتنزها، ولو فتح هذا الباب لم تشأ امرأة أن تفرق بين الزوجين إلا فعلت. وقال الشعبي: تقبل مع ثلاث نسوة شرط أن لا تتعرض نسوة لطلب أجرة، وقيل لا تقبل مطلقا، وقيل تقبل في ثبوت المحرمية دون ثبوت الأجرة لها على ذلك، قال مالك تقبل مع أخرى. وعن أبي حنيفة لا تقبل في الرضاع شهادة النساء المتمحضات، وعكسه الإصطخري من الشافعية، وأجاب من لم يقبل شهادة المرضعة وحدها بحمل النهي في قوله: "فنهاه عنها" على التنزيه ويحمل الأمر في قوله: "دعها عنك" على الإرشاد. وفي الحديث جواز إعراض المفتي ليتنبه المستفتي على أن الحكم فيما سأله الكف عنه، وجواز تكرار السؤال لمن لم يفهم المراد والسؤال عن السبب المقتضي لرفع النكاح، وقوله في الإسناد الذي قبله "حدثني عقبة بن الحارث أو سمعته منه" فيه رد على من زعم أن ابن أبي مليكة لم يسمع من عقبة بن الحارث وقد حكاه ابن عبد البر، ولعل قائل ذلك أخذه من الرواية الآتية في النكاح من طريق ابن علية عن أيوب عن ابن أبي مليكة عن عبيد بن أبي مريم عن عقبة بن الحارث، قال ابن أبي مليكة: "وقد سمعته من عقبة ولكني لحديث عبيد أحفظ" وأخرجه أبو داود من طريق حماد عن أيوب ولفظه: "عن ابن أبي مليكة عن عقبة بن الحارث قال: وحدثنيه صاحب لي عنه وأنا لحديث صاحبي أحفظ" ولم يسمه، وفيه إشارة إلى التفرقة في صيغ الأداء بين الإفراد والجمع، أو بين القصد إلى التحديث وعدمه، فيقول الراوي فيما سمعه وحده من لفظ الشيخ أو قصد الشيخ تحديثه بذلك "حدثني" بالإفراد وفيما عدا ذلك "حدثنا" بالجمع أو "سمعت فلانا يقول"ووقع عند الدار قطني من هذا الوجه "حدثني عقبة بن الحارث" ثم قال: "لم يحدثني ولكني سمعته يحدث" وهذا يعين أحد الاحتمالين، وقد اعتمد ذلك النسائي فيما يرويه عن الحارث بن مسكين فيقول: "الحارث بن مسكين قراءة عليه وأنا اسمع" ولا يقول حدثني ولا أخبرني لأنه لم يقصده بالتحديث وإنما كان يسمعه من غير أن يشعر به. قوله فيه "إني قد أرضعتكما" زاد الدار قطني من طريق أيوب عن ابن أبي مليكة "فدخلت علينا امرأة سوداء فسألت فأبطأنا عليها فقالت: تصدقوا علي، فوالله لقد أرضعتكما جميعا" زاد البخاري في العلم من طريق عمر بن سعيد عن ابن أبي حسين عن ابن أبي مليكة "فقال لها عقبة ما أرضعتني ولا أخبرتني - أي بذلك - قبل التزوج" زاد في "باب إذا شهد بشيء فقال آخر ما علمت ذلك" وفي العلم "فركب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة فسأله" وترجم عليه "الرحلة في المسألة النازلة" وزاد في النكاح "فقالت لي قد أرضعتكما وهي كاذبة". قوله: "دعها عنك أو نحوه" في رواية النكاح "دعها عنك" حسب، زاد الدار قطني في رواية أيوب في آخره: "لا خير لك فيها"، وفي الباب الذي قبله "فنهاه عنها، زاد في الباب المشار إليه من الشهادات "ففارقها ونكحت زوجا غيره".

(5/269)


15 - باب: تَعْدِيلِ النِّسَاءِ بَعْضِهِنَّ بَعْضًا
2661- حَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ - وَأَفْهَمَنِي بَعْضَهُ أَحْمَدُ - حَدَّثَنَا فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَعَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ اللَّيْثِيِّ وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ

(5/269)


اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالَ لَهَا أَهْلُ الإِفْكِ مَا قَالُوا فَبَرَّأَهَا اللَّهُ مِنْهُ قَالَ الزُّهْرِيُّ وَكُلُّهُمْ حَدَّثَنِي طَائِفَةً مِنْ حَدِيثِهَا وَبَعْضُهُمْ أَوْعَى مِنْ بَعْضٍ وَأَثْبَتُ لَهُ اقْتِصَاصًا وَقَدْ وَعَيْتُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ الْحَدِيثَ الَّذِي حَدَّثَنِي عَنْ عَائِشَةَ وَبَعْضُ حَدِيثِهِمْ يُصَدِّقُ بَعْضًا زَعَمُوا أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ أَزْوَاجِهِ فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا مَعَهُ فَأَقْرَعَ بَيْنَنَا فِي غَزَاةٍ غَزَاهَا فَخَرَجَ سَهْمِي فَخَرَجْتُ مَعَهُ بَعْدَ مَا أُنْزِلَ الْحِجَابُ فَأَنَا أُحْمَلُ فِي هَوْدَجٍ وَأُنْزَلُ فِيهِ فَسِرْنَا حَتَّى إِذَا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَزْوَتِهِ تِلْكَ وَقَفَلَ وَدَنَوْنَا مِنْ الْمَدِينَةِ آذَنَ لَيْلَةً بِالرَّحِيلِ فَقُمْتُ حِينَ آذَنُوا بِالرَّحِيلِ فَمَشَيْتُ حَتَّى جَاوَزْتُ الْجَيْشَ فَلَمَّا قَضَيْتُ شَأْنِي أَقْبَلْتُ إِلَى الرَّحْلِ فَلَمَسْتُ صَدْرِي فَإِذَا عِقْدٌ لِي مِنْ جَزْعِ أَظْفَارٍ قَدْ انْقَطَعَ فَرَجَعْتُ فَالْتَمَسْتُ عِقْدِي فَحَبَسَنِي ابْتِغَاؤُهُ فَأَقْبَلَ الَّذِينَ يَرْحَلُونَ لِي فَاحْتَمَلُوا هَوْدَجِي فَرَحَلُوهُ عَلَى بَعِيرِي الَّذِي كُنْتُ أَرْكَبُ وَهُمْ يَحْسِبُونَ أَنِّي فِيهِ وَكَانَ النِّسَاءُ إِذْ ذَاكَ خِفَافًا لَمْ يَثْقُلْنَ وَلَمْ يَغْشَهُنَّ اللَّحْمُ وَإِنَّمَا يَأْكُلْنَ الْعُلْقَةَ مِنْ الطَّعَامِ فَلَمْ يَسْتَنْكِرْ الْقَوْمُ حِينَ رَفَعُوهُ ثِقَلَ الْهَوْدَجِ فَاحْتَمَلُوهُ وَكُنْتُ جَارِيَةً حَدِيثَةَ السِّنِّ فَبَعَثُوا الْجَمَلَ وَسَارُوا، فَوَجَدْتُ عِقْدِي بَعْدَ مَا اسْتَمَرَّ الْجَيْشُ فَجِئْتُ مَنْزِلَهُمْ وَلَيْسَ فِيهِ أَحَدٌ فَأَمَمْتُ مَنْزِلِي الَّذِي كُنْتُ بِهِ فَظَنَنْتُ أَنَّهُمْ سَيَفْقِدُونَنِي فَيَرْجِعُونَ إِلَيَّ فَبَيْنَا أَنَا جَالِسَةٌ غَلَبَتْنِي عَيْنَايَ فَنِمْتُ وَكَانَ صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطَّلِ السُّلَمِيُّ ثُمَّ الذَّكْوَانِيُّ مِنْ وَرَاءِ الْجَيْشِ فَأَصْبَحَ عِنْدَ مَنْزِلِي فَرَأَى سَوَادَ إِنْسَانٍ نَائِمٍ فَأَتَانِي وَكَانَ يَرَانِي قَبْلَ الْحِجَابِ فَاسْتَيْقَظْتُ بِاسْتِرْجَاعِهِ حِينَ أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ فَوَطِئَ يَدَهَا فَرَكِبْتُهَا فَانْطَلَقَ يَقُودُ بِي الرَّاحِلَةَ حَتَّى أَتَيْنَا الْجَيْشَ بَعْدَ مَا نَزَلُوا مُعَرِّسِينَ فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ فَهَلَكَ مَنْ هَلَكَ وَكَانَ الَّذِي تَوَلَّى الإِفْكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فَاشْتَكَيْتُ بِهَا شَهْرًا وَالنَّاسُ يُفِيضُونَ مِنْ قَوْلِ أَصْحَابِ الإِفْكِ وَيَرِيبُنِي فِي وَجَعِي أَنِّي لاَ أَرَى مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللُّطْفَ الَّذِي كُنْتُ أَرَى مِنْهُ حِينَ أَمْرَضُ إِنَّمَا يَدْخُلُ فَيُسَلِّمُ ثُمَّ يَقُولُ كَيْفَ تِيكُمْ لاَ أَشْعُرُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى نَقَهْتُ فَخَرَجْتُ أَنَا وَأُمُّ مِسْطَحٍ قِبَلَ الْمَنَاصِعِ مُتَبَرَّزُنَا لاَ نَخْرُجُ إِلاَّ لَيْلًا إِلَى لَيْلٍ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ نَتَّخِذَ الْكُنُفَ قَرِيبًا مِنْ بُيُوتِنَا وَأَمْرُنَا أَمْرُ الْعَرَبِ الأُوَلِ فِي الْبَرِّيَّةِ أَوْ فِي التَّنَزُّهِ فَأَقْبَلْتُ أَنَا وَأُمُّ مِسْطَحٍ بِنْتُ أَبِي رُهْمٍ نَمْشِي فَعَثَرَتْ فِي مِرْطِهَا فَقَالَتْ تَعِسَ مِسْطَحٌ فَقُلْتُ لَهَا بِئْسَ مَا قُلْتِ أَتَسُبِّينَ رَجُلًا شَهِدَ بَدْرًا فَقَالَتْ يَا هَنْتَاهْ أَلَمْ تَسْمَعِي مَا قَالُوا فَأَخْبَرَتْنِي بِقَوْلِ أَهْلِ الإِفْكِ فَازْدَدْتُ مَرَضًا عَلَى مَرَضِي. فَلَمَّا رَجَعْتُ إِلَى بَيْتِي دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلَّمَ فَقَالَ كَيْفَ تِيكُمْ فَقُلْتُ ائْذَنْ لِي إِلَى أَبَوَيَّ قَالَتْ وَأَنَا حِينَئِذٍ أُرِيدُ أَنْ أَسْتَيْقِنَ الْخَبَرَ مِنْ قِبَلِهِمَا -

(5/270)


فَأَذِنَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَيْتُ أَبَوَيَّ فَقُلْتُ لِأُمِّي مَا يَتَحَدَّثُ بِهِ النَّاسُ فَقَالَتْ يَا بُنَيَّةُ هَوِّنِي عَلَى نَفْسِكِ الشَّأْنَ، فَوَاللَّهِ لَقَلَّمَا كَانَتْ امْرَأَةٌ قَطُّ وَضِيئَةٌ عِنْدَ رَجُلٍ يُحِبُّهَا وَلَهَا ضَرَائِرُ إِلاَّ أَكْثَرْنَ عَلَيْهَا فَقُلْتُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَلَقَدْ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ بِهَذَا قَالَتْ فَبِتُّ تِلْكَ اللَّيْلَةَ حَتَّى أَصْبَحْتُ لاَ يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ وَلاَ أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ ثُمَّ أَصْبَحْتُ فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَأُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ حِينَ اسْتَلْبَثَ الْوَحْيُ يَسْتَشِيرُهُمَا فِي فِرَاقِ أَهْلِهِ فَأَمَّا أُسَامَةُ فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِالَّذِي يَعْلَمُ فِي نَفْسِهِ مِنْ الْوُدِّ لَهُمْ فَقَالَ أُسَامَةُ أَهْلُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلاَ نَعْلَمُ وَاللَّهِ إِلاَّ خَيْرًا وَأَمَّا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَمْ يُضَيِّقْ اللَّهُ عَلَيْكَ وَالنِّسَاءُ سِوَاهَا كَثِيرٌ وَسَلْ الْجَارِيَةَ تَصْدُقْكَ. فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَرِيرَةَ فَقَالَ يَا بَرِيرَةُ هَلْ رَأَيْتِ فِيهَا شَيْئًا يَرِيبُكِ فَقَالَتْ بَرِيرَةُ لاَ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ إِنْ رَأَيْتُ مِنْهَا أَمْرًا أَغْمِصُهُ عَلَيْهَا قَطُّ أَكْثَرَ مِنْ أَنَّهَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ تَنَامُ عَنْ الْعَجِينِ فَتَأْتِي الدَّاجِنُ فَتَأْكُلُهُ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ يَوْمِهِ فَاسْتَعْذَرَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ، فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ يَعْذُرُنِي مِنْ رَجُلٍ بَلَغَنِي أَذَاهُ فِي أَهْلِي فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ عَلَى أَهْلِي إِلاَّ خَيْرًا وَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلًا مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ إِلاَّ خَيْرًا وَمَا كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أَهْلِي إِلاَّ مَعِي فَقَامَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا وَاللَّهِ أَعْذُرُكَ مِنْهُ إِنْ كَانَ مِنْ الأَوْسِ ضَرَبْنَا عُنُقَهُ وَإِنْ كَانَ مِنْ إِخْوَانِنَا مِنْ الْخَزْرَجِ أَمَرْتَنَا فَفَعَلْنَا فِيهِ أَمْرَكَ فَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَهُوَ سَيِّدُ الْخَزْرَجِ وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ رَجُلًا صَالِحًا وَلَكِنْ احْتَمَلَتْهُ الْحَمِيَّةُ فَقَالَ كَذَبْتَ لَعَمْرُ اللَّهِ لاَ تَقْتُلُهُ وَلاَ تَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ. فَقَامَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ فَقَالَ كَذَبْتَ لَعَمْرُ اللَّهِ وَاللَّهِ لَنَقْتُلَنَّهُ فَإِنَّكَ مُنَافِقٌ تُجَادِلُ عَنْ الْمُنَافِقِينَ فَثَارَ الْحَيَّانِ الأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ حَتَّى هَمُّوا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَنَزَلَ فَخَفَّضَهُمْ حَتَّى سَكَتُوا وَسَكَتَ وَبَكَيْتُ يَوْمِي لاَ يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ وَلاَ أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ فَأَصْبَحَ عِنْدِي أَبَوَايَ وَقَدْ بَكَيْتُ لَيْلَتَيْنِ وَيَوْمًا حَتَّى أَظُنُّ أَنَّ الْبُكَاءَ فَالِقٌ كَبِدِي قَالَتْ فَبَيْنَا هُمَا جَالِسَانِ عِنْدِي وَأَنَا أَبْكِي إِذْ اسْتَأْذَنَتْ امْرَأَةٌ مِنْ الأَنْصَارِ فَأَذِنْتُ لَهَا فَجَلَسَتْ تَبْكِي مَعِي فَبَيْنَا نَحْنُ كَذَلِكَ إِذْ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَلَسَ وَلَمْ يَجْلِسْ عِنْدِي مِنْ يَوْمِ قِيلَ فِيَّ مَا قِيلَ قَبْلَهَا وَقَدْ مَكَثَ شَهْرًا لاَ يُوحَى إِلَيْهِ فِي شَأْنِي شَيْءٌ قَالَتْ فَتَشَهَّدَ ثُمَّ قَالَ يَا عَائِشَةُ فَإِنَّهُ بَلَغَنِي عَنْكِ كَذَا وَكَذَا فَإِنْ كُنْتِ بَرِيئَةً فَسَيُبَرِّئُكِ اللَّهُ وَإِنْ كُنْتِ أَلْمَمْتِ بِذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرِي اللَّهَ وَتُوبِي إِلَيْهِ فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا اعْتَرَفَ بِذَنْبِهِ ثُمَّ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ. فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقَالَتَهُ قَلَصَ دَمْعِي حَتَّى مَا أُحِسُّ مِنْهُ قَطْرَةً وَقُلْتُ لِأَبِي: أَجِبْ عَنِّي

(5/271)


رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ لِأُمِّي أَجِيبِي عَنِّي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا قَالَ قَالَتْ وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ وَأَنَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ لاَ أَقْرَأُ كَثِيرًا مِنْ الْقُرْآنِ فَقُلْتُ إِنِّي وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّكُمْ سَمِعْتُمْ مَا يَتَحَدَّثُ بِهِ النَّاسُ وَوَقَرَ فِي أَنْفُسِكُمْ وَصَدَّقْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ قُلْتُ لَكُمْ إِنِّي بَرِيئَةٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنِّي لَبَرِيئَةٌ لاَ تُصَدِّقُونِي بِذَلِكَ وَلَئِنْ اعْتَرَفْتُ لَكُمْ بِأَمْرٍ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ لَتُصَدِّقُنِّي وَاللَّهِ مَا أَجِدُ لِي وَلَكُمْ مَثَلًا إِلاَّ أَبَا يُوسُفَ إِذْ قَالَ {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} ثُمَّ تَحَوَّلْتُ عَلَى فِرَاشِي وَأَنَا أَرْجُو أَنْ يُبَرِّئَنِي اللَّهُ وَلَكِنْ وَاللَّهِ مَا ظَنَنْتُ أَنْ يُنْزِلَ فِي شَأْنِي وَحْيًا وَلاَنَا أَحْقَرُ فِي نَفْسِي مِنْ أَنْ يُتَكَلَّمَ بِالْقُرْآنِ فِي أَمْرِي وَلَكِنِّي كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَرَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّوْمِ رُؤْيَا يُبَرِّئُنِي، فَوَاللَّهِ مَا رَامَ مَجْلِسَهُ وَلاَ خَرَجَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ حَتَّى أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ فَأَخَذَهُ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ مِنْ الْبُرَحَاءِ حَتَّى إِنَّهُ لَيَتَحَدَّرُ مِنْهُ مِثْلُ الْجُمَانِ مِنْ الْعَرَقِ فِي يَوْمٍ شَاتٍ فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَضْحَكُ فَكَانَ أَوَّلَ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا أَنْ قَالَ لِي يَا عَائِشَةُ احْمَدِي اللَّهَ فَقَدْ بَرَّأَكِ اللَّهُ فَقَالَتْ لِي أُمِّي قُومِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ لاَ وَاللَّهِ لاَ أَقُومُ إِلَيْهِ وَلاَ أَحْمَدُ إِلاَّ اللَّهَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى[11 النور] {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} الْآيَاتِ فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ هَذَا فِي بَرَاءَتِي قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحِ بْنِ أُثَاثَةَ لِقَرَابَتِهِ مِنْهُ وَاللَّهِ لاَ أُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ شَيْئًا أَبَدًا بَعْدَ مَا قَالَ لِعَائِشَةَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى[22 النور]: {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا - إلى قوله - غَفُورٌ رَحِيمٌ} فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: بَلَى وَاللَّهِ إِنِّي لاَحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِي فَرَجَعَ إِلَى مِسْطَحٍ الَّذِي كَانَ يُجْرِي عَلَيْهِ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ عَنْ أَمْرِي فَقَالَ: يَا زَيْنَبُ مَا عَلِمْتِ؟ مَا رَأَيْتِ؟ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَحْمِي سَمْعِي وَبَصَرِي وَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ عَلَيْهَا إِلاَّ خَيْرًا قَالَتْ وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ تُسَامِينِي فَعَصَمَهَا اللَّهُ بِالْوَرَعِ قَالَ وَحَدَّثَنَا فُلَيْحٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ مِثْلَهُ قَالَ وَحَدَّثَنَا فُلَيْحٌ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ مِثْلَهُ
قوله: "باب تعديل النساء بعضهن بعضا" كذا للأكثر، زاد أبو ذر قبله حديث الإفك ثم قال باب إلخ. قوله: "حدثنا أبو الربيع سليمان بن داود" هو الزهراني العتكي بفتح المهملة والمثناة البصري، نزل بغداد، اتفق البخاري ومسلم على الرواية عنه، ومن جملة ما اتفقا عليه إخراج هذا الحديث عنه، وفي طبقته اثنان كل منهما أيضا أبو الربيع سليمان بن داود أحدهما الختلي بضم المعجمة وتشديد المثناة المفتوحة بغدادي انفرد مسلم بالرواية عنه والرشديني بكسر الراء وسكون المعجمة مصري لم يخرجا له وروي عنه أبو داود والنسائي. قوله: "وأفهمني بعضه أحمد قال: حدثنا

(5/272)


فليح" يحتمل أن يكون أحمد رفيقا لأبي الربيع في الرواية عن فليح وأن يكون البخاري حمله عنهما جميعا على الكيفية المذكورة، ويحتمل أن يكون أحمد رفيقا للبخاري في الرواية عن أبي الربيع وهو الأقرب إذ لو كان المراد الأول لكان يقول: قالا: حدثنا فليح بالتثنية. ولم أر ذلك في شيء من الأصول، ويؤيد الأول أيضا صنيع البرقاني فإنه أخرج الحديث في المصافحة ومقتضاه أن القدر المذكور عند البخاري عن أحمد عن أبي الربيع عن فليح، لكن وقع في أطراف خلف حدثنا أبو ربيع وأفهمني بعضه أحمد بن يونس، فإن كان محفوظا فلعل لفظ: "قالا" سقط من الأصل كما جرت العادة بإسقاطها كثيرا في الأسانيد فأثبت بعضهم بدلها "قال": بالإفراد، وبما قال خلف جزم الدمياطي، وأما جزم المزي بأن الذي ذكره خلف وهم فليس هذا الجزم بواضح، وزعم ابن خلفون أن أحمد هذا هو ابن حنبل بناء على القول الثاني، وجوز غيره أن يكون أحمد بن النضر النيسابوري وبه جزم الذهبي في طبقات القراء، وقد حدث به عن أبي الربيع الزهرائي ممن يسمى أحمد أيضا أبو بكر أحمد بن عمرو بن أبي عاصم وأبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى وغيرهما، وقد ذكرت في المقدمة طائفة ممن روى هذا الحديث عن فليح ممن تسمي أحمد، وكذلك من رواه عن أبي الربيع ممن يسمي أحمد أيضا، فالله أعلم. ثم ساق المصنف حديث الإفك بطوله من رواية فليح عن الزهري عن مشايخه، ثم من رواية فليح عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة وعبد الله بن الزبير قال مثله، ومن رواية فليح عن ربيعة ويحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد قال مثله، وسيأتي شرحه مستوفى في تفسير سورة النور وبيان ما زادت رواية كل واحد من هؤلاء على رواية الزهري وما نقصت عنها. وقد أخرجه الإسماعيلي عن جماعة أخبروه به عن أبي الربيع وزاد في آخره عن فليح "قال وسمعت ناسا من أهل العلم يقولون إن أصحاب الإفك جلدوا الحد". قلت: وسيأتي لذلك إسناد آخر في كتاب الاعتصام إن شاء الله تعالى. والغرض منه هنا سؤاله صلى الله عليه وسلم بريرة عن حال عائشة وجوابها ببراءتها واعتماد النبي صلى الله عليه وسلم على قولها حتى خطب فاستعذر من عبد الله بن أبي. وكذلك سؤاله من زينب بنت جحش عن حال عائشة وجوابها ببراءتها أيضا وقول عائشة في حق زينب: هي التي كانت تساميني فعصمها الله بالورع، ففي مجموع ذلك مراد الترجمة. قال ابن بطال: فيه حجة لأبي حنيفة في جواز تعديل النساء وبه قال أبو يوسف ووافق محمد الجمهور، قال الطحاوي: التزكية خبر وليست شهادة فلا مانع من القبول، وفي الترجمة الإشارة إلى قول ثالث وهو أن تقبل تزكيتهن لبعضهن لا للرجال لأن من منع ذلك اعتل بنقصان المرأة عن معرفة وجوه التزكية لا سيما في حق الرجال، وقال ابن بطال: لو قيل إنه تقبل تزكيتهن بقول حسن وثناء جميل يكون إبراء من سوء لكان حسنا كما في قصة الإفك، ولا يلزم منه قبول تزكيتهن في شهادة توجب أخذ مال، والجمهور على جواز قبولهن مع الرجال فيما تجوز شهادتهن فيه. قوله: "فأيتهن خرج سهمها أخرج بها معه" كذا للنسفي ولأبي ذر عن غير الكشميهني. وفي رواية الكشميهني والباقين "خرج" وهو الصواب، ولعل الأول أخرج بضم أوله على البناء للمجهول، قوله: "من جزع أظفار" كذا للأكثر. وفي رواية الكشميهني: "ظفار" وهو أصوب، وسيأتي توضيحه عند شرحه. قوله: "فاستيقظت باسترجاعه حتى أناخ راحلته" كذا للأكثر، وفي رواية الكشميهني والنسفي "حين أناخ راحلته". قوله: "وقد بكيت ليلتي ويوما" في رواية الكشميهني: "ليلتين ويوما" وفي رواية النسفي وأبي الوقت "ليلتي ويومي" وسيأتي بقية ألفاظه عند شرحه إن شاء الله تعالى.

(5/273)


باب إذ زكى رجل رجلا كفاه
...
16 - باب: إِذَا زَكَّى رَجُلٌ رَجُلًا كَفَاهُ .
وَقَالَ أَبُو جَمِيلَةَ: وَجَدْتُ مَنْبُوذًا فَلَمَّا رَآنِي عُمَرُ قَالَ: عَسَى الْغُوَيْرُ أَبْؤُسًا كَأَنَّهُ يَتَّهِمُنِي قَالَ عَرِيفِي إِنَّهُ رَجُلٌ صَالِحٌ قَالَ كَذَاكَ اذْهَبْ وَعَلَيْنَا نَفَقَتُهُ
2662- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا خَالِدٌ الْحَذَّاءُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: "أَثْنَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ وَيْلَكَ قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ مِرَارًا ثُمَّ قَالَ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَادِحًا أَخَاهُ لاَ مَحَالَةَ فَلْيَقُلْ: أَحْسِبُ فُلاَنًا وَاللَّهُ حَسِيبُهُ وَلاَ أُزَكِّي عَلَى اللَّهِ أَحَدًا أَحْسِبُهُ كَذَا وَكَذَا إِنْ كَانَ يَعْلَمُ ذَلِكَ مِنْهُ"
[الحديث 2662- طرفاه في: 6061 ، 6162]
قوله: "باب إذا زكى رجل رجلا كفاه" ترجم في أوائل الشهادات "تعديل كم يجوز" فتوقف هناك، وجزم هنا بالاكتفاء بالواحد، ومد قدمت توجيهه هناك. واختلف السلف في اشتراط العدد في التزكية، فالمرجح عند الشافعية والمالكية - وهو قول محمد بن الحسن - اشتراط اثنين كما في الشهادة، واختاره الطحاوي، واستثنى كثير منهم بطانة الحاكم لأنه نائبه فينزل قوله منزلة الحكم، وأجاز الأكثر قبول الجرح والتعديل من واحد لأنه ينزل منزلة الحكم والحكم لا يشترط فيه العدد. وقال أبو عبيد: لا يقبل في التزكية أقل من ثلاثة، واحتج بحديث قبيصة الذي أخرجه مسلم فيمن تحل له المسألة حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجا فيشهدون له، قال: وإذا كان هذا في حق الحاجة فغيرها أولى، وهذا كله في الشهادة، أما الرواية فيقبل فيها قول الواحد على الصحيح، لأنه إن كان ناقلا عن غيره فهو من جملة الأخبار ولا يشترط العدد فيها، وإن كان من قبل نفسه فهو بمنزلة الحاكم ولا يتعدد أيضا. قوله: "وقال أبو جميلة" بفتح الجيم وكسر الميم واسمه سنين بمهملة ونونين مصغر، ووهم من شدد التحتانية كالداودي، وقيل إنها رواية الأصيلي، قيل اسم أبيه فرقد، قال ابن سعد هو سلمي، وقال غيره هو ضمري، وقيل سليطي. وقد ذكره العجلي وجماعة في التابعين. وسيأتي في غزوة الفتح ما يدل على صحبته، وقد ذكره آخرون في الصحابة، ووقع سياق خبره من طريق معمر عن الزهري عن أبي جميلة قال: "أخبرنا ونحن مع ابن المسيب أنه أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وخرج معه عام الفتح" وذكر أبو عمر أنه جاء في رواية أخرى أنه حج حجة الوداع، وهو وارد على من لم يعرفه فقال إنه مجهول كابن المنذر، ونقل البيهقي عن الشافعي نحو ذلك. وفي الرواة أبو جميلة آخر اسمه ميسرة الطهوي بضم الطاء المهملة وفتح الهاء، وهو كوفي روي عن عثمان وعلي وليست له صحبة اتفاقا، ووهم من جعله صاحب هذه القصة كالكرماني. قوله: "وجدت منبوذا" بفتح الميم وسكون النون وضم الموحدة وسكون الواو بعدها معجمة أي شخصا منبوذا، أي لقيطا. قوله: "قال عسى الغوير أبؤسا" كذا للأصيلي ولأبي ذر عن الكشميهني وحده وسقط للباقين. والغوير بالمعجمة تصغير غار، وأبؤسا جمع بؤس وهو الشدة، وانتصب على أنه خبر عسى عند من يجيزه، أو بإضمار شيء تقديره عسى أن يكون الغوير أبؤسا. وجزم به صاحب المغني. وهو مثل مشهور يقال فيما ظاهره السلامة ويخشى منه العطب. وروى الخلال في علله عن الزهري أن أهل المدينة يتمثلون به في ذلك كثيرا، وأصله كما قال الأصمعي أن ناسا دخلوا غارا يبيتون فيه فانهار عليهم فقتلهم، وقيل وجدوا فيه

(5/274)


عدوا لهم فقتلهم، فقيل ذلك لكل من دخل في أمر لا يعرف عاقبته. وقال ابن الكلبي: الغوير مكان معروف فيه ماء لبني كلب كان فيه ناس يقطعون الطريق، وكان من يمر يتواصون بالحراسة. وقال ابن الأعرابي: ضرب عمر هذا المثل للرجل يعرض بأنه في الأصل ولده وهو يريد نفيه عنه بدعواه أنه التقطه، فهذا معني قوله كأنه يتهمني. وقيل أول من تكلم به الزباء - بفتح الزاي وتشديد الموحدة والمد - لما قتلت جذيمة الأبرش. وأراد قصير - بفتح القاف وكسر المهملة - أن يقتص منها. فتواطأ قصير وعمرو ابن أخت جذيمة على أن قطع عمرو أنف قصير فأظهر أنه هرب منه إلى الزباء فأمنت إليه. ثم أرسلته تاجرا فرجع إليها بربح كثير مرارا ثم رجع المرة الأخيرة ومعه الرجال في الأعدال معهم السلاح، فنظرت إلى الجمال تمشي رويدا لثقل من عليها فقالت: عسى الغوير أبؤسا أي لعل الشر يأتيكم من قبل الغوير، وكأن قصيرا أعلمها أنه سلك في هذه المرة طريق الغوير، فلما دخلت الأحمال قصرها خرجت الرجال من الأعدال فهلكت. قوله: "كأنه يتهمني" أي بأن يكون الولد له، وإنما أراد نفي نسبه عنه لمعني من المعاني، وأراد مع ذلك أن يتولى هو تربيته، وقيل اتهمه بأنه زنى بأمه ثم ادعاه وهو بعيد وما تقدم أولى. وقد أخرج البيهقي هذه القصة موصولة من طريق يحيى بن سعيد الأنصاري عن الزهري عن أبي جميلة أنه خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح وأنه وجد منبوذا في خلافة عمر فأخذه، قال فذكر ذلك عريفي لعمر، فلما رآني عمر قال فذكره وزاد: ما حملك على أخذ هذه النسمة؟ قلت: وجدتها ضائعة. وقد أخرج مالك في "الموطأ" هذه للزيادة عن الزهري أيضا، وصدر هذا الخبر سيأتي موصولا في أواخر المغازي من وجه آخر عن الزهري، وفي ذلك رد على من زعم أن أبا جميلة هذا هو الطهوي لأن الطهوي لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم ولا عمر، وأورد ابن الأثير عن البخاري ما ذكرته عنه وزاد فيه: "وأنه التقط منبوذا " فذكر القصة ولم أر ذلك في شيء من النسخ. قوله: "فقال له عريفي إنه رجل صالح" لم أقف على اسم هذا التعريف. إلا أن الشيخ أبا حامد ذكر في تعليقه أن اسمه سنان. وفي الصحابة لابن عبد البر: سنان الضمري استخلفه أبو بكر الصديق مرة على المدينة. فيحتمل أن يكون هو ذا فقد قيل إن أبا جميلة ضمري والله أعلم. قال ابن بطال: كان عمر قسم الناس، وجعل على كل قبيلة عريفا ينطر عليهم. قلت: فإن كان أبو جميلة سلميا فينظر من كان عريف بني سليم في عهد عمر. قوله: "قال كذاك" زاد مالك في روايته: "قال نعم". قوله: "اذهب وعلينا نفقته" في رواية مالك "فقال عمر: اذهب فهو حر، ولك ولاؤه وعلينا نفقته" وكذلك في رواية البيهقي. قال ابن بطال: في هذه القصة أن القاضي إذا سأل في مجلس نظره عن أحد فإنه يجتزئ بقول الواحد كما صنع عمر. فأما إذا كلف المشهود له أن يعدل شهوده فلا يقبل أقل من اثنين. قلت: غايته أنه حمل القصة على بعض محتملاتها، وقصة التكليف تحتاج إلى دليل من خارج، وفيها جواز الالتقاط وإن لم يشهد، وأن نفقته إذا لم يعرف في بيت المال، وأن ولاءه لملتقطه، وذلك مما اختلف فيه، وستأتي الإشارة إلى ذلك في كتاب الفرائض إن شاء الله تعالى. وقد وجه بعضهم معنى قوله: "لك ولاؤه" بكونه حين التقطه كأنه أعتقه من الموت أو أعتقه من أن يلتقطه غيره ويدعي أنه ملكه. "تنبيه": وقع في "المطالع" أن عمر لما اتهم أبا جميلة شهد له جماعة بالستر ا هـ، وليس في قصته أن الذي شهد ليس إلا عريفه وحده. وفيه تثبت عمر في الأحكام، وأن الحاكم إذا توقف في أمر أحد لم يكن ذلك قادحا فيه، ورجوع الحاكم إلى قول أمنائه. وفيه أن الثناء على الرجل في وجهه عند الحاجة لا يكره، وإنما يكره الإطناب في ذلك، ولهذه النكتة ترجم البخاري عقب هذا بحديث أبي موسى الذي

(5/275)


ساقه بمعنى حديث أبي بكرة الذي أورده في هدا الباب فقال: "ما يكره من الإطناب في المدح"، ووجه احتجاجه بحديث أبى بكرة أنه صلى الله عليه وسلم اعتبر تزكية الرجل إذا اقتصد لأنه لم يعب عليه إلا الإسراف والتغالي في المدح، واعترضه ابن المنير بأن هذا القدر كاف في قبول تزكيته، وأما اعتبار النصاب فمسكوت عنه، وجوابه أن البخاري جرى على قاعدته بأن النصاب لو كان شرطا لذكر، إذ لا يؤخر البيان عن وقت الحاجة. قوله: "أثنى رجل على رجل" يحتمل أن يفسر المثنى بمحجن بن الأدرع الأسلمي، وحديثه بذلك عند الطبراني وأحمد وإسحاق، وعند إسحاق فيه زيادة من وجه آخر قد يفسر منها المثنى عليه بأنه عبد الله ذو النجادين، وسيأتي بيان ذلك في كتاب الأدب مع تمام الكلام على حديث أبي بكرة إن شاء الله تعالى.

(5/276)


17 - باب: مَا يُكْرَهُ مِنْ الإِطْنَابِ فِي الْمَدْحِ وَلْيَقُلْ مَا يَعْلَمُ
2663- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ صَبَّاحٍ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ حَدَّثَنَا بُرَيْدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "سَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا يُثْنِي عَلَى رَجُلٍ وَيُطْرِيهِ فِي مَدْحِهِ فَقَالَ أَهْلَكْتُمْ - أَوْ قَطَعْتُمْ - ظَهَرَ الرَّجُلِ"
[الحديث 2663- أطرافه في: 6060]
قوله: "باب ما يكره من الإطناب في المدح، وليقل ما يعلم" أورد فيه حديث أبي موسى "سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يثني على رجل" يمكن أن يفسر بمن فسر في حديث أبي بكرة بناء على اتحاد القصة، قوله: "يطريه" بضم أوله، والإطراء مدح الشخص بزيادة على ما فيه. قوله: "أهلكتم أو قطعتم" شك من الراوي، وليس في الحديث ما زاده في الترجمة من قوله: "وليقل ما يعلم" وكأنه ذهب إلى اتحاد حديثي أبي بكرة وأبي موسى وقد قال في حديث أبي بكرة: "إن كان يعلم ذلك منه" والله أعلم.

(5/276)


باب بلوغ الصبيان وشهادتهم وقول الله تعالى (وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا)
...
18 - باب: بُلُوغِ الصِّبْيَانِ وَشَهَادَتِهِمْ، وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى [59 النور]: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا} . وَقَالَ مُغِيرَةُ: احْتَلَمْتُ وَأَنَا ابْنُ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً. وَبُلُوغُ النِّسَاءِ إلى الْحَيْضِ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ [4 الطلاق]: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ - إلى قوله - أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ أَدْرَكْتُ جَارَةً لَنَا جَدَّةً بِنْتَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ سَنَةً
2664- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ قَالَ حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي نَافِعٌ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرَضَهُ يَوْمَ أُحُدٍ وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً فَلَمْ يُجِزْنِي ثُمَّ عَرَضَنِي يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فَأَجَازَنِي" قَالَ نَافِعٌ: فَقَدِمْتُ عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَهُوَ خَلِيفَةٌ فَحَدَّثْتُهُ هَذَا الْحَدِيثَ فَقَالَ إِنَّ هَذَا لَحَدٌّ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، وَكَتَبَ إِلَى عُمَّالِهِ أَنْ يَفْرِضُوا لِمَنْ بَلَغَ خَمْسَ عَشْرَةَ"
[الحديث 2664- طرفه في: 4097]

(5/276)


19 - باب: سُؤَالِ الْحَاكِمِ الْمُدَّعِيَ هَلْ لَكَ بَيِّنَةٌ قَبْلَ الْيَمِينِ
2666 ، 2667- حدثنا محمد أخبرنا أبو معاوية عن الأعمش عن شقيق عن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من حلف على يمين - وهو فيها فاجر - ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان قال فقال الأشعث بن قيس: في والله كان ذلك، كان بيني وبين رجل من اليهود أرض فجحدني فقدمته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألك بينة؟ قال قلت: لا قال فقال لليهودي: احلف. قال قلت: يا رسول الله إذن يحلف ويذهب بمالي قال فأنزل الله تعالى [77 آل عمران]: {إِنَّ

(5/279)


الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً} إلى آخر الآية"
قوله: "باب سؤال الحاكم المدعي: هل لك بينة؟ قبل اليمين" أورد فيه حديث الأشعث "كان بيني وبين رجل أرض فجحدني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ألك بينة؟ قلت: لا. قال: يحلف" وفيه حديث ابن مسعود. وقوله في الترجمة "قبل اليمين" أي قبل يمين المدعى عليه، وهو المطابق للترجمة ولا يصح حمله على المدعي بأن يطلب منه الحاكم يمين الاستظهار بأن بينته شهدت له بحق لأنه ليس في حديث الأشعث تعرض لذلك، بل فيه ما قد يتمسك به في أن يمين الاستظهار غير واجبة، والله أعلم. وسيأتي مباحث حديثي الأشعث وابن مسعود في التفسير والأيمان والنذور إن شاء الله تعالى. وفي الحديث حجة لمن قال: لا تعرض اليمين على المدعى عليه إذا اعترف المدعي أن له بينة.

(5/280)


باب اليمين على المدعي عليه الأموال والحدود
...
20 - باب: الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي الأَمْوَالِ وَالْحُدُودِ.
وَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ" وَقَالَ قُتَيْبَةُ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ ابْنِ شُبْرُمَةَ كَلَّمَنِي أَبُو الزِّنَادِ فِي شَهَادَةِ الشَّاهِدِ وَيَمِينِ الْمُدَّعِي فَقُلْتُ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى [282 البقرة]: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} قُلْتُ: إِذَا كَانَ يُكْتَفَى بِشَهَادَةِ شَاهِدٍ وَيَمِينِ الْمُدَّعِي فَمَا تَحْتَاجُ أَنْ تُذْكِرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى مَا كَانَ يَصْنَعُ بِذِكْرِ هَذِهِ الأُخْرَى؟
2668- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا نَافِعُ بْنُ عُمَرَ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: "كَتَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ"
2669 ، 2670- حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ يَسْتَحِقُّ بِهَا مَالًا لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَ ذَلِكَ [77 آل عمران]: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ - إِلَى - عَذَابٌ أَلِيمٌ} ثُمَّ إِنَّ الأَشْعَثَ بْنَ قَيْسٍ خَرَجَ إِلَيْنَا فَقَالَ مَا يُحَدِّثُكُمْ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَحَدَّثْنَاهُ بِمَا قَالَ فَقَالَ صَدَقَ لَفِيَّ أُنْزِلَتْ كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ خُصُومَةٌ فِي شَيْءٍ فَاخْتَصَمْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ فَقُلْتُ لَهُ إِنَّهُ إِذًا يَحْلِفُ وَلاَ يُبَالِي: فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ يَسْتَحِقُّ بِهَا مَالًا وَهُوَ فِيهَا فَاجِرٌ لَقِيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَ ذَلِكَ ثُمَّ اقْتَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ"
قوله: "باب اليمين على المدعى عليه في الأموال والحدود" أي دون المدعي، ويستلزم ذلك شيئين: أحدهما أن لا تجب يمين الاستظهار، والثاني أن لا يصح القضاء بشاهد واحد ويمين المدعي. واستشهاد المصنف بقصة ابن شبرمة يشير إلى أنه أراد الثاني. وقوله: "في الأموال والحدود" يشير بذلك إلى الرد على الكوفيين في تخصيصهم اليمين على المدعى عليه في الأموال دون الحدود، وذهب الشافعي والجمهور إلى القول بعموم ذلك في الأموال والحدود والنكاح

(5/280)


ونحوه، واستثنى مالك النكاح والطلاق والعتاق والفدية فقال: لا يجب في شيء منها اليمين حتى يقيم المدعي البينة ولو شاهدا واحدا. قوله: "وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "شاهداك أو يمينه" وصله في آخر الباب من حديث الأشعث، والغرض منه أنه أطلق اليمين في جانب المدعى عليه ولم يقيده بشيء دون شيء، وارتفع "شاهداك" على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره المثبت لك أو الحجة أو ما يثبت لك، والمعنى ما يثبت لك شهادة شاهديك أو لك إقامة شاهديك فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فأعرب إعرابه فارتفع، وحذف الخبر للعلم به. وقد تقدم في الرهن بلفظ: "شهودك" وأنه روي بالرفع والنصب، وتقدم توجيهه. قوله: "وقال قتيبة حدثنا سفيان" هو ابن عيينة، ورأيت بخط القطب أنه رأى في بعض النسخ "حدثنا قتيبة" ورد ذلك مغلطاي بأن البخاري لم يحتج بابن شبرمة، وهو عجيب، فإنه أخرج له في الشواهد كما سيأتي في كتاب الأدب، وهذا من الشواهد فإنه حكاية واقعة اتفقت له مع ابن عيينة ليس فيها حديث مرفوع يحتج به. قوله: "عن ابن شبرمة" بضم المعجمة والراء بينهما موحدة ساكنة، وهو عبد الله بن شبرمة بن الطفيل بن حسان الضبي قاضي الكوفة للمنصور، مات سنة أربع وأربعين ومائة. قوله: "كلمني أبو الزناد" هو قاضي المدينة. قوله: "في شهادة الشاهد ويمين المدعي" أي في القول بجوازها، وكان مذهب أبي الزناد القضاء بذلك كأهل بلده، ومذهب ابن شبرمة خلافه كأهل بلده، فاحتج عليه أبو الزناد بالخبر الوارد في ذلك، فاحتج عليه ابن شبرمة بما ذكر في الآية الكريمة، وإنما تتم له الحجة بذلك على أصل مختلف فيه بين الفريقين وهو أن الخبر إذا ورد متضمنا لزيادة على ما في القرآن هل يكون نسخا والسنة لا تنسخ القرآن؟ أو لا يكون نسخا بل زيادة مستقلة بحكم مستقل إذا ثبت سنده وجب القول به؟ والأول مذهب الكوفيين، والثاني مذهب الحجازيين، ومع قطع النظر عن ذلك لا تنتهض حجة ابن شبرمة لأنه يصير معارضة للنص بالرأي وهو غير معتبر به، وقد أجاب عنه الإسماعيلي فقال؛ الحاجة إلى إذكار الأخرى إنما هو فيما إذا شهدتا، وإن لم تشهدا قامت مقامهما يمين الطالب ببيان السنة الثابتة، واليمين ممن هي عليه لو انفردت لحلت محل البينة في الأداء والإبراء، فكذلك حلت اليمين هنا محل المرأتين في الاستحقاق بها مضافة للشاهد الواحد. قال: ولو لزم إسقاط القول بالشاهد واليمين لأنه ليس في القرآن للزم إسقاط الشاهد والمرأتين لأنهما ليستا في السنة لأنه صلى الله عليه وسلم قال: "شاهداك أو يمينه" ا هـ. وحاصله أنه لا يلزم من التنصيص على الشيء نفيه عما عداه، لكن مقتضى ما بحثه أن لا يقضي باليمين مع الشاهد الواحد إلا عند فقد الشاهدين أو ما قام مقامهما من الشاهد والمرأتين، وهو وجه للشافعية، وصححه الحنابلة، ويؤيده ما رواه الدار قطني من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا: "قضى الله ورسوله في الحق بشاهدين فإن جاء بشاهدين اخذ حقه وإن جاء بشاهد واحد حلف مع شاهده" وأجاب بعض الحنفية بأن الزيادة على القرآن نسح، وأخبار الآحاد لا تنسخ المتواتر، ولا تقبل الزيادة من الأحاديث إلا إذا كان الخبر بها مشهورا، وأجيب بأن النسخ رفع الحكم ولا رفع هنا، وأيضا فالناسخ والمنسوخ لا بد أن يتواردا على محل واحد وهذا غير متحقق في الزيادة على النص، وغاية ما فيه أن تسمية الزيادة كالتخصيص نسخا اصطلاح فلا يلزم منه نسخ الكتاب بالسنة، لكن تخصيص الكتاب بالسنة جائز وكذلك الزيادة عليه كما في قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} وأجمعوا على تحريم نكاح العمة مع بنت أخيها، وسند الإجماع في ذلك السنة الثابتة، وكذلك قطع رجل السارق في المرة الثانية، وأمثلة ذلك كثيرة. وقد أخذ من رد الحكم بالشاهد واليمين لكونه زيادة على القرآن بأحاديث كثيرة في أحكام كثيرة كلها زائدة على ما في القرآن كالوضوء بالنبيذ والوضوء من القهقهة ومن القيء والمضمضة والاستنشاق في الغسل دون الوضوء واستبراء المسبية

(5/281)


وترك قطع من سرق ما يسرع إليه الفساد وشهادة المرأة الواحدة في الولادة ولا قود إلا بالسيف ولا جمعة إلا في مصر جامع ولا تقطع الأيدي في الغزو ولا يرث الكافر المسلم ولا يؤكل الطافي من السمك ويحرم كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير ولا يقتل الوالد بالولد ولا يرث القاتل من القتيل وغير ذلك من الأمثلة التي تتضمن الزيادة على عموم الكتاب، وأجابوا بأنها أحاديث شهيرة موجب العمل بها لشهرتها، فيقال لهم وحديث القضاء بالشاهد واليمين جاء من طرق كثيرة مشهورة، بل ثبت من طرق صحيحة متعددة، فمنها ما أخرجه مسلم من حديث ابن عباس "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بيمين وشاهد" وقال في اليمين إنه حديث صحيح لا يرتاب في صحته، وقال ابن عبد البر لا مطعن لأحد في صحته ولا إسناده، وأما قول الطحاوي: إن قيس بن سعد لا تعرف له رواية عن عمرو بن دينار، لا يقدح في صحة الحديث لأنهما تابعيان ثقتان مكيان وقد سمع قيس من أقدم من عمرو، وبمثل هذا لا ترد الأخبار الصحيحة. ومنها حديث أبي هريرة "أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى باليمين مع الشاهد" وهو عند أصحاب السنن ورجاله مدنيون ثقات، ولا يضره أن سهيل بن أبي صالح نسيه بعد أن حدث به ربيعة لأنه كان بعد ذلك يرويه عن ربيعة عن نفسه عن أبيه، وقصته بذلك مشهورة في سنن أبي داود وغيرها. ومنها حديث جابر مثل حديث أبي هريرة أخرجه الترمذي وابن ماجة وصححه ابن خزيمة وأبو عوانة. وفي الباب عن نحو من عشرين من الصحابة فيها الحسان والضعاف، وبدون ذلك تثبت الشهرة، ودعوى نسخه مردودة لأن النسخ لا يثبت بالاحتمال. وأما احتجاج مالك في الموطأ بأن اليمين تتوجه على المدعي عند النكول ورد اليمين بغير حلف فإذا حلف ثبت الحق بغير خلاف فيكون حلف المدعي ومعه شاهد آخر أولى، فهو متعقب، ولا يرد على الحنفية لأنهم لا يقولون برد اليمين. وقال الشافعي القضاء بشاهد ويمين لا يخالف ظاهر القرآن لأنه لم يمنع أن يجوز أقل مما نص عليه، يعني والمخالف لذلك لا يقول بالمفهوم فضلا عن مفهوم العدد والله أعلم. وقال ابن العربي: أظرف ما وجدت لهم في رد الحكم بالشاهد واليمين أمران: أحدهما أن المراد قضى بيمين المنكر مع شاهد الطالب، والمراد أن الشاهد الواحد لا يكفي في ثبوت الحق فيجب اليمين على المدعى عليه، فهذا المراد بقوله قضى بالشاهد واليمين. وتعقبه ابن العربي بأنه جهل باللغة، لأن المعية تقتضي أن تكون من شيئين في جهة واحدة لا في المتضادين. ثانيهما حمله على صورة مخصوصة وهي أن رجلا اشترى من آخر عبدا مثلا فادعى المشتري أن به عيبا وأقام شاهدا واحدا فقال البائع بعته بالبراءة فيحلف المشتري أنه ما اشترى بالبراءة ويرد العبد، وتعقبه بنحو ما تقدم، ولأنها صورة نادرة ولا يحمل الخبر عليها. قلت: وفي كثير من الأحاديث الواردة في ذلك ما يبطل هذا التأويل والله أعلم. ثم ذكر المصنف في الباب ثلاثة أحاديث: أحدها حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى باليمين على المدعى عليه، هكذا أخرجه في الرهن، وهنا مختصرا من طريق نافع بن عمر الجمحي عن ابن أبي مليكة، وأخرجه في تفسير آل عمران من طريق ابن جريج عن ابن أبي مليكة مثله، وذكر فيه قصة المرأتين اللتين ادعت إحداهما على الأخرى أنها جرحتها، وقد أخرجه الطبراني من رواية سفيان عن نافع عن ابن عمر بلفظ: "البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه" وقال: لم يروه عن سفيان إلا الفريابي، وأخرجه الإسماعيلي من رواية ابن جريج بلفظ: "ولكن البينة على الطالب واليمين على المطلوب" وأخرجه البيهقي من طريق عبد الله بن إدريس عن ابن جريج وعثمان بن الأسود عن ابن أبي مليكة قال: كنت قاضيا لابن الزبير على الطائف، فذكر قصة المرأتين، فكتبت إلى

(5/282)


ابن عباس، فكتب إلي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لو يعطي الناس بدعواهم لادعى رجال أموال قوم ودماءهم، ولكن البينة على المدعي واليمين على من أنكر" وهذه الزيادة ليست في الصحيحين، وإسنادها حسن. وقد بين صلى الله عليه وسلم الحكمة في كون البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه بقوله صلى الله عليه وسلم: "لو يعطي الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم" وسيأتي في تفسير آل عمران. وقال العلماء الحكمة في ذلك لأن جانب المدعي ضعيف لأنه يقول خلاف الظاهر فكلف الحجة القوية وهي البينة لأنها لا تجلب لنفسها نفعا ولا تدفع عنها ضررا فيقوى بها ضعف المدعي، وجانب المدعى عليه قوي لأن الأصل فراغ في ذمته فاكتفي منه باليمين وهي حجة ضعيفة لأن الحالف يجلب لنفسه النفع ويدفع الضرر فكان ذلك في غاية الحكمة. واختلف الفقهاء في تعريف المدعي والمدعى عليه، والمشهور فيه تعريفان: الأول المدعي من يخالف قوله الظاهر والمدعى عليه بخلافه. والثاني من إذا سكت ترك وسكوته والمدعى عليه من لا يخلى إذا سكت، والأول أشهر، والثاني أسلم. وقد أورد على الأول بأن المودع إذا ادعى الرد أو التلف فإن دعواه تخالف الظاهر، ومع ذلك فالقول قوله وقيل في تعريفهما غير ذلك. واستدل بقوله: "اليمين على المدعى عليه" للجمهور بحمله على عمومه في حق كل واحد سواء كان بين المدعي والمدعى عليه اختلاط أم لا، وعن مالك لا تتوجه اليمين إلا على من بينه وبين المدعي اختلاط لئلا يبتذل أهل السفه أهل الفضل بتحليفهم مرارا، وقريب من مذهب مالك قول الإصطخري من الشافعية: إن قرائن الحال إذا شهدت بكذب المدعي لم يلتفت إلى دعواه، واستدل بقوله: "لادعى ناس دماء ناس وأموالهم" على إبطال قول المالكية في التدمية، ووجه الدلالة تسويته صلى الله عليه وسلم بين الدماء والأموال. وأجيب بأنهم لم يسندوا القصاص مثلا إلى قول المدعي بل للقسامة، فيكون قوله ذلك لوثا يقوي جانب المدعي في بداءته بالأيمان. الحديث الثاني والثالث حديث الأشعث وعبد الله بن مسعود في سبب نزول قوله تعالى. {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ} الآية. وقد مضت الإشارة إليه قبل بباب. والمراد منه قوله: "شاهداك أو يمينه" وقد روي نحو هذه القصة وائل بن حجر وزاد فيها "ليس لك إلا ذلك" أخرجه مسلم وأصحاب السنن واستدل بهذا الحصر على رد القضاء باليمين والشاهد، وأجيب بأن المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: "شاهداك" أي بينتك سواء كانت رجلين أو رجلا وامرأتين أو رجلا ويمين الطالب، وإنما خص الشاهدين بالذكر لأنه الأكثر الأغلب، فالمعنى شاهداك أو ما يقوم مقامهما، ولو لزم من ذلك رد الشاهد واليمين لكونه لم يذكر للزم رد الشاهد والمرأتين لكونه لم يذكر فوضح التأويل المذكور، والملجئ إليه ثبوت الخبر باعتبار الشاهد واليمين، فدل على أن ظاهر لفظ الشاهدين غير مراد بل المراد هو أو ما يقوم مقامه.

(5/283)


21 - باب: إِذَا ادَّعَى أَوْ قَذَفَ فَلَهُ أَنْ يَلْتَمِسَ الْبَيِّنَةَ وَيَنْطَلِقَ لِطَلَبِ الْبَيِّنَةِ
2671- حدثنا محمد بن بشار حدثنا ابن أبي عدي عن هشام حدثنا عكرمة عن بن عباس رضي الله عنهما "أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم بشريك بن سحماء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: البينة، أو حد في ظهرك، فقال: يا رسول الله، إذا رأى أحدنا على امرأته رجلا ينطلق يلتمس البينة؟ فجعل يقول: البينة وإلا حد في ظهرك. فذكر حديث اللعان"

(5/283)


قوله: "باب إذ ادعى أو قذف فله أن يلتمس البينة وينطلق لطلب البينة" أورد فيه طرفا من حديث ابن عباس في قصة المتلاعنين، وسيأتي الكلام عليه مستوفي في مكانه، والغرض منه تمكين القاذف من إقامة البينة على زنا المقذوف لدفع الحد عنه، ولا يرد عليه أن الحديث ورد في الزوجين، والزوج له مخرج عن الحد باللعان إن عجز عن البينة بخلاف الأجنبي، لأنا نقول: إنما كان ذلك قبل نزول آيه اللعان حيث كان الزوج والأجنبي سواء، وإذا ثبت ذلك للقاذف ثبت لكل مدع من باب الأولى.

(5/284)


22 - باب: الْيَمِينِ بَعْدَ الْعَصْرِ
2672- حدثنا علي بن عبد الله حدثنا جرير بن عبد الحميد عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: رجل على فضل ماء بطريق يمنع منه بن السبيل. ورجل بايع رجلا لا يبايعه إلا للدنيا، فإن أعطاه ما يريد وفي له وإلا لم يف له. ورجل ساوم رجلا بسلعة بعد العصر فحلف بالله لقد أعطى بها كذا وكذا فأخذها"
قوله: "باب اليمين بعد العصر" ذكر فيه حديث أبي هريرة "ثلاثة لا يكلمهم الله" الحديث، وفيه: "ورجل ساوم بسلعة بعد العصر فحلف" الحديث، وسيأتي الكلام عليه في الأحكام، ونذكر ما يتعلق به من تغليظ اليمين بالزمان في الباب الذي بعده إن شاء الله تعالى. قال المهلب: إنما خص النبي صلى الله عليه وسلم هذا الوقت بتعظيم الإثم على من حلف فيه كاذبا لشهود ملائكة الليل والنهار ذلك الوقت انتهى. وفيه نظر، لأن بعد صلاة الصبح يشاركه في شهود الملائكة، ولم يأت فيه ما أتى في وقت العصر، ويمكن أن يكون اختص بذلك لكونه وقت ارتفاع الأعمال.

(5/284)


23 - باب: يَحْلِفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَيْثُمَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ وَلاَ يُصْرَفُ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى غَيْرِهِ
قَضَى مَرْوَانُ بِالْيَمِينِ عَلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ عَلَى الْمِنْبَرِ
فَقَالَ: أَحْلِفُ لَهُ مَكَانِي، فَجَعَلَ زَيْدٌ يَحْلِفُ، وَأَبَى أَنْ يَحْلِفَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَجَعَلَ مَرْوَانُ يَعْجَبُ مِنْهُ
وَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ" فَلَمْ يَخُصَّ مَكَانًا دُونَ مَكَانٍ"
2673- حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا عبد الواحد عن الأعمش عن أبي وائل عن بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من حلف على يمين ليقتطع بها مالا لقي الله وهو عليه غضبان"
قوله: "باب يحلف المدعى عليه حيثما وجبت عليه اليمين ولا يصرف من موضع إلى غيره" أي: وجوبا، وهو قول الحنفية والحنابلة، وذهب الجمهور إلى وجوب التغليظ، ففي المدينة عند المنبر، وبمكة بين الركن والمقام، وبغيرهما بالمسجد الجامع. واتفقوا على أن ذلك في الدماء والمال الكثير لا في القليل، واختلفوا في حد القليل والكثير في ذلك. قوله: "قضى مروان" أي ابن الحكم "على زيد بن ثابت باليمين على المنبر فقال: أحلف له مكاني إلخ" وصله مالك في الموطأ عن داود بن الحصين عن أبي غطفان - بفتح المعجمة ثم المهملة ثم الفاء - المزي بضم الميم

(5/284)


24 - باب: إِذَا تَسَارَعَ قَوْمٌ فِي الْيَمِينِ
2674- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرَضَ عَلَى قَوْمٍ الْيَمِينَ فَأَسْرَعُوا فَأَمَرَ أَنْ يُسْهَمَ بَيْنَهُمْ فِي الْيَمِينِ أَيُّهُمْ يَحْلِفُ"
قوله: "باب إذا تسارع قوم في اليمين" أي حيث تجب عليهم جميعا بأيهم يبدأ. قوله: "أن النبي صلى الله عليه وسلم عرض على قوم اليمين فأسرعوا، فأمر أن يسهم بينهم في اليمين أيهم يحلف" أي قبل الآخر، هذا اللفظ أخرجه النسائي أيضا عن محمد بن رافع عن عبد الرزاق وقال فيه: "فأسرع الفريقان" وقد رواه أحمد عن عبد الرزاق شيخ شيخ البخاري فيه بلفظ: "إذا أكره الاثنان على اليمين واستحباها فليستهما عليها" وأخرجه أبو نعيم في مسند إسحاق بن

(5/285)


راهويه عن عبد الرزاق مثل رواية البخاري، وتعقبه بأنه رآه في أصل إسحاق عن عبد الرزاق باللفظ الذي رواه أحمد، قال: وقد وهم شيخنا أبو أحمد في ذلك انتهى. قلت: وهكذا أخرجه الإسماعيلي من طريق إسحاق بن أبي إسرائيل عن عبد الرزاق، وأخرجه من طريق الحسن بن يحيى عن عبد الرزاق مثله لكن قال: "فاستحباها"، وأخرجه أبو داود عن أحمد وسلمة بن شبيب عن عبد الرزاق بلفظ: "أو استحباها" قال الإسماعيلي: هذا هو الصحيح، أي أنه بلفظ: "أو" لا بالفاء ولا بالواو. قلت: ورواية الواو يمكن حملها على رواية أو، وأما رواية الفاء فيمكن توجيهها بأنهما أكرها على اليمين في ابتداء الدعوى، فلما عرفا أنهما لا بد لهما منها أجابا إليها وهو المعبر عنه بالاستحباب، ثم تنازعا أيهما يبدأ فأرشد إلى القرعة. وقال الخطابي وغيره: الإكراه هنا لا يراد به حقيقته، لأن الإنسان لا يكره على اليمين، وإنما المعني إذا توجهت اليمين على اثنين وأرادا الحلف - سواء كانا كارهين لذلك بقلبهما وهو معني الإكراه، أو مختارين لذلك بقلبهما وهو معنى الاستحباب - وتنازعا أيهما يبدأ فلا يقدم أحدهما على الآخر بالتشهي بل بالقرعة، وهو المراد بقوله: "فليستهما" أي فليقترعا. وقيل صورة الاشتراك في اليمين أن يتنازع اثنان عينا ليست في يد واحد منهما ولا بينة لواحد منهما فيقرع بينهما، فمن خرجت له القرعة حلف واستحقها. ويؤيد ذلك ما روى أبو داود والنسائي وغيرهما من طريق أبي رافع عن أبي هريرة "أن رجلين اختصما في متاع ليس لواحد منهما بينة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: استهما على اليمين ما كان، أحبا ذلك أو كرها" وأما اللفظ الذي ذكره البخاري فيحتمل أن يكون عند عبد الرزاق فيه حديث آخر باللفظ المذكور، ويؤيده رواية أبى رافع المذكورة فإنها بمعناها، ويحتمل أن تكون قصة أخرى بأن يكون القوم المذكورون مدعى عليهم بعين في أيديهم مثلا وأنكروا ولا بينة للمدعى عليهم، فتوجهت عليهم اليمين، فتسارعوا إلى الحلف، والحلف لا يقع معتبرا إلا بتلقين المحلف، فقطع النزاع بينهم بالقرعة فمن خرجت له بدأ به في ذلك. والله أعلم.

(5/286)


باب قول الله تعالى (إن الذين يشبرون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا ... الأية)
...
25 - باب: قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}
2675- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ أَخْبَرَنَا الْعَوَّامُ قَالَ حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ أَبُو إِسْمَاعِيلَ السَّكْسَكِيُّ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ "أَقَامَ رَجُلٌ سِلْعَتَهُ فَحَلَفَ بِاللَّهِ لَقَدْ أَعْطَى بِهَا مَا لَمْ يُعْطِهَا. فَنَزَلَتْ [77 آل عمران]: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً}
وَقَالَ ابْنُ أَبِي أَوْفَى: "النَّاجِشُ آكِلُ رِبًا خَائِنٌ"
2676 ، 2677- حدثنا بشر بن خالد حدثنا محمد بن جعفر عن شعبة عن سليمان عن أبي وائل عن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من حلف على يمين كاذبا ليقتطع مال الرجل - أو قال أخيه - لقي الله وهو عليه غضبان. وأنزل الله تصديق ذلك في القرآن {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ

(5/286)


اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً – إلى قوله - عَذَابٌ أَلِيمٌ} فلقيني الأشعث فقال: ما حدثكم عبد الله اليوم؟ قلت كذا وكذا قال: في أنزلت"
قوله: "باب قول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً} ذكر فيه حديث ابن أبي أوفى في سبب نزولها، وحديث ابن مسعود والأشعث في نزولها أيضا، ولا تعارض بينهما لاحتمال أن تكون نزلت في كل من القصتين، وسيأتي مزيد بيان لذلك في التفسير. وقوله في طريق ابن أبي أوفى "حدثنا إسحاق حدثنا يزيد بن هارون" جزم أبو علي الغساني بأنه إسحاق بن منصور، وجزم أبو نعيم الأصبهاني بأنه إسحاق بن راهويه. وقوله: "أخبرنا العوام" هو ابن حوشب، وقوله: "قال ابن أبي أوفى: الناجش آكل ربا خائن" هو موصول بالإسناد المذكور إليه، وتقدم شرحه في باب النجش من كتاب البيوع.

(5/287)


26 - باب: كَيْفَ يُسْتَحْلَفُ؟ قَالَ تَعَالَى {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ}
وَقَوْلُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ {ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً} يُقَالُ بِاللَّهِ وَتَاللَّهِ وَ وَاللَّهِ
وَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وَرَجُلٌ حَلَفَ بِاللَّهِ كَاذِبًا بَعْدَ الْعَصْرِ" وَلاَ يُحْلَفُ بِغَيْرِ اللَّهِ
2678- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ عَمِّهِ أَبِي سُهَيْلِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَمِعَ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ رضي الله عنه يَقُولُ "جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُهُ عَنْ الإِسْلاَمِ، فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، فَقَالَ هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا قَالَ لاَ إِلاَّ أَنْ تَطَّوَّعَ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وَصِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ قَالَ هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُ قَالَ لاَ إِلاَّ أَنْ تَطَّوَّعَ قَالَ وَذَكَرَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزَّكَاةَ قَالَ هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا قَالَ لاَ إِلاَّ أَنْ تَطَّوَّعَ فَأَدْبَرَ الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ وَاللَّهِ لاَ أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلاَ أَنْقُصُ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ"
2679- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ قَالَ: ذَكَرَ نَافِعٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ"
[الحديث 2679- أطرافه في: 3836 ، 6108 ، 6646 ، 6648]
قوله: "باب كيف يستحلف" هو بضم أوله وفتح اللام على البناء للمجهول. قوله: وقول الله عز وجل: {ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ} إلى آخر ما ذكره من الآيات المناسبة لها، وغرضه بذلك أنه لا يجب تغليظ الحلف بالقول، قال ابن المنذر: اختلفوا فقالت طائفة يحلفه بالله من غير زيادة. وقال مالك: يحلفه بالله الذي لا إله إلا هو، وكذا قال الكوفيون والشافعي، قال: فإن اتهمه القاضي غلظه عليه فيزيد عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم الذي يعلم من السر ما يعلم من العلانية ونحو ذلك. قال ابن المنذر: وبأي ذلك استحلفه أجزأ. والأصل في ذلك أنه إذا حلف

(5/287)


بالله صدق عليه أنه حلف اليمين. قوله: "يقال بالله" أي بالموحدة "وتالله" أي بالمثناة "ووالله" أي بالواو، وكلها ورد بها القرآن، قال الله تعالى: {قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ} وقال تعالى: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} وقال تعالى: {تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا} . قوله: "وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ورجل حلف بالله كاذبا بعد العصر" هو طرف من حديث أبي هريرة المتقدم قريبا موصولا في "باب اليمين بعد العصر" لكن بالمعنى، وسيأتي في الأحكام بلفظ: "فحلف لقد أعطي بها كذا فصدقه رجل ولم يعط بها". قوله: "ولا يحلف بغير الله" هو من كلام المصنف على سبيل التكميل للترجمة، وذلك مستفاد من حديث ابن عمر ثاني حديثي الباب حيث قال: "من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت". ثم ذكر المصنف في الباب حديثين: أحدهما حديث طلحة في قصة الرجل الذي سأل عن الإسلام، وقد تقدم شرحه في كتاب الإيمان، والغرض منه قوله: "فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص" فإنه يستفاد منه الاقتصار على الحلف بالله دون زيادة. ثانيهما حديث ابن عمر "من كان حالفا فليحلف بالله" وسيأتي شرحه في كتاب الأيمان والنذور مستوفى إن شاء الله تعالى.

(5/288)


27 – باب: مَنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ بَعْدَ الْيَمِينِ،
وَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ" وَقَالَ طَاوُسٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَشُرَيْحٌ الْبَيِّنَةُ الْعَادِلَةُ أَحَقُّ مِنْ الْيَمِينِ الْفَاجِرَةِ
2680- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ زَيْنَبَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا بِقَوْلِهِ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ فَلاَ يَأْخُذْهَا"
قوله: "باب من أقام البينة بعد اليمين" أي يمين المدعى عليه سواء رضي المدعي بيمين المدعى عليه أم لا، وقد ذهب الجمهور إلى قبول البينة. وقال مالك في "المدونة": إن استحلفه ولا علم له بالبينة ثم علمها قبلت وقضي له بها، وإن علمها فتركها فلا حق له. وقال ابن أبي ليلى: لا تسمع البينة بعد الرضا باليمين، واحتج بأنه إذا حلف فقد برئ وإذا برئ فلا سبيل عليه، وتعقب بأنه إنما يبرأ في الصورة الظاهرة لا في نفس الأمر. قوله: "وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لعل بعضكم ألحن بحجته من بعض" هو طرف من حديث أم سلمة الموصول في الباب المذكور، وسيأتي الكلام عليه مستوفى في كتاب الأحكام إن شاء الله تعالى، وفيه الإشارة إلى الرد على ابن أبي ليلى، وأن الحكم الظاهر لا يصير الحق باطلا في نفس الأمر ولا الباطل حقا. قوله: "وقال طاوس وإبراهيم" أي النخعي "وشريح: البينة العادلة أحق من اليمين الفاجرة" أما قول طاوس وإبراهيم فلم أقف عليهما موصولين، وأما قول شريح فوصله البغوي في "الجعديات" من طريق ابن سيرين عن شريح قال: من ادعى قضائي فهو عليه حتى يأتي ببينة، الحق أحق من قضائي، الحق أحق من يمين فاجرة. وذكر ابن حبيب في "الواضحة" بإسناد له عن عمر قال: "البينة العادلة خير من اليمين الفاجرة" قال أبو عبيد: إنما قيد اليمين بالفاجرة إشارة إلى أن محل ذلك ما إذا شهد على الحالف بأنه أقر، بخلاف ما حلف عليه فتبين أن يمينه حينئذ فاجرة، وإلا فقد يوفي الرجل ما عليه من الحق ويحلف على ذلك وهو صادق ثم تقوم عليه البينة التي شهدت بأصل الحق ولم يحضر الوفاء فلا تكون اليمين حينئذ فاجرة. ثم أورد المصنف حديث أم سلمة

(5/288)


مرفوعا: "أنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض" الحديث، قال الإسماعيلي: ليس في حديث أم سلمة دلالة على قبول البينة بعد يمين المنكر. وأجاب ابن المنير فقال: موضع الاستشهاد من حديث أم سلمة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم لم يجعل اليمين الكاذبة مفيدة حلا ولا قطعا لحق المحق، بل نهاه بعد يمينه من القبض، وساوى بين حالتيه بعد اليمين وقبلها في التحريم، فيؤذن ذلك ببقاء حق صاحب الحق على ما كان عليه، فإذا ظفر في حقه ببينة فهو باق على القيام بها لم يسقط، كما لم يسقط أصل حقه من ذمة مقتطعة باليمين. وسيأتي الكلام على بقية شرح حديث أم سلمة في كتاب الأحكام إن شاء الله تعالى.

(5/289)


28 - باب: مَنْ أَمَرَ بِإِنْجَازِ الْوَعْدِ وَفَعَلَهُ الْحَسَنُ
وَذَكَرَ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَقَضَى ابْنُ الأَشْوَعِ بِالْوَعْدِ وَذَكَرَ ذَلِكَ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ
وَقَالَ: الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرَ صِهْرًا لَهُ قَالَ وَعَدَنِي فَوَفَى لِي
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: وَرَأَيْتُ إِسْحَاقَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ يَحْتَجُّ بِحَدِيثِ ابْنِ أَشْوَعَ
2681- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَخْبَرَهُ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو سُفْيَانَ أَنَّ هِرَقْلَ قَالَ لَهُ: "سَأَلْتُكَ مَاذَا يَأْمُرُكُمْ فَزَعَمْتَ أَنَّهُ أَمَرَكُمْ بِالصَّلاَةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ قَالَ وَهَذِهِ صِفَةُ نَبِيٍّ"
2682- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِي سُهَيْلٍ نَافِعِ بْنِ مَالِكِ بْنِ أَبِي عَامِرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاَثٌ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ"
2683- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا هِشَامٌ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ: "لَمَّا مَاتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ أَبَا بَكْرٍ مَالٌ مِنْ قِبَلِ الْعَلاَءِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ مَنْ كَانَ لَهُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَيْنٌ أَوْ كَانَتْ لَهُ قِبَلَهُ عِدَةٌ فَلْيَأْتِنَا قَالَ جَابِرٌ فَقُلْتُ وَعَدَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُعْطِيَنِي هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا فَبَسَطَ يَدَيْهِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ قَالَ جَابِرٌ فَعَدَّ فِي يَدِي خَمْسَ مِائَةٍ ثُمَّ خَمْسَ مِائَةٍ ثُمَّ خَمْسَ مِائَةٍ"
2684- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ شُجَاعٍ عَنْ سَالِمٍ الأَفْطَسِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: "سَأَلَنِي يَهُودِيٌّ مِنْ أَهْلِ الْحِيرَةِ: أَيَّ الأَجَلَيْنِ قَضَى مُوسَى؟ قُلْتُ: لاَ أَدْرِي حَتَّى

(5/289)


أَقْدَمَ عَلَى حَبْرِ الْعَرَبِ فَأَسْأَلَهُ فَقَدِمْتُ فَسَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ قَضَى أَكْثَرَهُمَا وَأَطْيَبَهُمَا إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَالَ فَعَلَ"
قوله: "باب من أمر بإنجاز الوعد" وجه تعلق هذا الباب بأبواب الشهادات أن وعد المرء كالشهادة على نفسه قاله الكرماني. وقال المهلب: إنجاز الوعد مأمور به مندوب إليه عند الجميع، وليس بفرض، لاتفاقهم على أن الموعود لا يضارب بما وعد به مع الغرماء ا هـ. ونقل الإجماع في ذلك مردود، فإن الخلاف مشهور، لكن القائل به قليل. وقال ابن عبد البر وابن العربي: أجل من قال به عمر بن عبد العزيز. وعن بعض المالكية إن ارتبط الوعد بسبب وجب الوفاء به وإلا فلا، فمن قال لآخر: تزوج ولك كذا فتزوج لذلك وجب الوفاء به. وخرج بعضهم الخلاف على أن الهبة هل تملك بالقبض أو قبله. وقرأت بخط أبي رحمه الله في إشكالات على "الأذكار للنووي": ولم يذكر جوابا عن الآية، يعني قوله تعالى: {كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} وحديث: "آية المنافق" قال: والدلالة للوجوب منها قوية، فكيف حملوه على كراهة التنزيه مع الوعيد الشديد؟ وينظر هل يمكن أن يقال يحرم الإخلاف ولا يجب الوفاء؟ أي يأثم بالإخلاف وإن كان لا يلزم بوفاء ذلك. قوله: "وفعله الحسن" أي الأمر بإنجاز الوعد. قوله: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} في رواية النسفي "وذكر إسماعيل أنه كان صادق الوعد"، وروى ابن أبي حاتم من طريق الثوري أنه بلغه أن إسماعيل عليه السلام دخل قرية هو ورجل فأرسله في حاجة وقال له أنه ينظره، فأقام حولا في انتظاره. ومن طريق ابن شوذب أنه اتخذ ذلك الموضع مسكنا فسمي من يومئذ صادق الوعد. قوله: وقضى ابن الأشوع بالوعد، وذكر ذلك عن سمرة بن جندب" هو سعيد بن عمرو بن الأشوع، كان قاضي الكوفة في زمان إمارة خالد القسري على العراق وذلك بعد المائة، وقد وقع بيان روايته كذلك عن سمرة بن جندب في تفسير إسحاق بن راهويه. قوله: "قال أبو عبد الله" هو المصنف "رأيت إسحاق بن إبراهيم" هو ابن راهويه "يحتج بحديث ابن أشوع" أي هذا الذي ذكره عن سمرة بن جندب، والمراد أنه كان يحتج به في القول بوجوب إنجاز الوعد. "تنبيه": وقع ذكر إسماعيل بين التعليق عن ابن الأشوع وبين نقل المصنف عن إسحاق في أكثر النسخ. والذي أوردته أولى والله أعلم. ثم ذكر المصنف في الباب أربعة أحاديث: أحدها حديث أبي سفيان بن حرب في قصة هرقل، أورد منه طرفا، وقد تقدم موصولا في بدء الوحي مع الإشارة إلى كثير من شرحه. ثانيها حديث أبي هريرة في آية المنافق، وقد تقدم شرحه في كتاب الإيمان. ثالثها حديث جابر في قصته مع أبي بكر فيما وعده به النبي صلى الله عليه وسلم من مال البحرين، وسيأتي الكلام عليه في "باب فرض الخمس" ومضى شيء من ذلك في الكفالة، وأشار غير واحد إلى أن ذلك من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم. وقال ابن بطال: لما كان النبي صلى الله عليه وسلم أولى الناس بمكارم الأخلاق أدى أبو بكر مواعيده عنه، ولم يسأل جابرا البينة على ما ادعاه لأنه لم يدع شيئا في ذمة النبي صلى الله عليه وسلم وإنما ادعى شيئا في بيت المال، وذلك موكول إلى اجتهاد الإمام. رابعها حديث ابن عباس في أي الأجلين قضى موسى. قوله: "عن سالم الأفطس" هو ابن عجلان الجزري، شامي ثقة، ليس له في البخاري سوى هذا الحديث وآخر في الطب، وكذا الراوي عنه مروان بن شجاع، وقد تابع سالما على روايته لهذا الحديث حكيم بن جبير عن سعيد بن جبير، وتابع سعيدا عكرمة عن ابن عباس، ورواه أيضا أبو ذر وأبو هريرة وعتبة

(5/290)


ابن النذر بضم النون وتشديد الذال المعجمة المفتوحة بعدها راء، وجابر وأبو سعيد، ورفعوه كلهم، وجميعها عند ابن مردويه في التفسير، وحديث عتبة وأبي ذر عند البزار أيضا، وحديث جابر عند الطبراني في الأوسط، ورواية عكرمة في مسند الحميدي. قوله: "سألني يهودي" لم أقف على اسمه، والحيرة بكسر المهملة بعدها تحتانية ساكنة بلد معروف بالعراق. قوله: "أي الأجلين" أي المشار إليهما في قوله تعالى: {ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ} . قوله: "حبر العرب" بفتح المهملة وبكسرها ورجحه أبو عبيد، ورجح ابن قتيبة الفتح وسكون الموحدة، والمراد به العالم الماهر، وإنما عبر به سعيد لكونها مستعملة عند الذي خاطبه، وقد أخرج أبو نعيم من حديث ابن عباس مرفوعا أن جبريل سماه بذلك، ومراده بالقدوم على ابن عباس أي بمكة. قوله: "قضى أكثرهما وأطيبهما" كذا رواه سعيد بن جبير موقوفا، وهو في حكم المرفوع لأن ابن عباس كان لا يعتمد على أهل الكتاب كما سيأتي بيانه في الباب الذي يليه. وذكر ابن دريد في "المنثور" أن عبد الله بن سعد بن أبي سرح لما غزا المغرب أرسل إلى ابن عباس جريجا فكلمه فقال: ما ينبغي لهذا إلا أن يكون حبر العرب، وقد صرح برفعه عكرمة عن ابن عباس "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل جبريل: أي الأجلين قضى موسى؟ قال: أتمهما وأكملهما" أخرجه الحاكم، وفي حديث جابر "أوفاهما" أخرجه الطبراني في الأوسط، وفي حديث أبي سعيد "أتمهما وأطيبهما عشر سنين" والمراد بالأطيب أي في نفس شعيب. قوله: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال فعل" المراد برسول الله صلى الله عليه وسلم من اتصف بذلك ولم يرد شخصا بعينه. وفي رواية حكيم ابن جبير "أن النبي صلى الله عليه وسلم: إذا وعد لم يخلف" زاد الإسماعيلي من الطريق التي أخرجها البخاري "قال سعيد: فلقيني اليهودي فأعلمته بذلك، فقال: صاحبك والله عالم" والغرض من ذكر هذا الحديث في هذا الباب بيان توكيد الوفاء بالوعد، لأن موسى صلى الله عليه وسلم لم يجزم بوفاء العشر، ومع ذلك فوفاها فكيف لو جزم. قال ابن الجوزي: لما رأى موسى عليه السلام طمع شعيب عليه السلام متعلقا بالزيادة لم يقتض كريم أخلاقه أن يخيب ظنه فيه.

(5/291)


29 - باب: لاَ يُسْأَلُ أَهْلُ الشِّرْكِ عَنْ الشَّهَادَةِ وَغَيْرِهَا.
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ لاَ تَجُوزُ شَهَادَةُ أَهْلِ الْمِلَلِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ لِقَوْلِهِ عز وجل [14 المائدة]: {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لاَ تُصَدِّقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَلاَ تُكَذِّبُوهُمْ وَ قُولُوا {آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ} الْآيَةَ"
2685- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ كَيْفَ تَسْأَلُونَ أَهْلَ الْكِتَابِ وَكِتَابُكُمْ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْدَثُ الأَخْبَارِ بِاللَّهِ تَقْرَءُونَهُ لَمْ يُشَبْ وَقَدْ حَدَّثَكُمْ اللَّهُ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ بَدَّلُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ وَغَيَّرُوا بِأَيْدِيهِمْ الْكِتَابَ فَقَالُوا [79 البقرة]: {هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً} أَفَلاَ يَنْهَاكُمْ مَا جَاءَكُمْ مِنْ الْعِلْمِ عَنْ مُسَاءَلَتِهِمْ؟ وَلاَ وَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا مِنْهُمْ رَجُلًا قَطُّ يَسْأَلُكُمْ عَنْ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْكُمْ"
[الحديث 2685- أطرافه في: 7363 ، 7522 ، 7523]

(5/291)


قوله: "باب لا يسأل أهل الشرك عن الشهادة وغيرها" هذه الترجمة معقودة لبيان حكم شهادة الكفار، وقد اختلف في ذلك السلف على ثلاثة أقوال: فذهب الجمهور إلى ردها مطلقا، وذهب بعض التابعين إلى قبولها مطلقا - إلا على المسلمين - وهو مذهب الكوفيين فقالوا تقبل شهادة بعضهم على بعض، وهي إحدى، الروايتين عن أحمد وأنكرها بعض أصحابه واستثنى أحمد حالة السفر فأجاز فيها شهادة أهل الكتاب كما سيأتي بيانه في أواخر الوصايا إن شاء الله تعالى. وقال الحسن وابن أبي ليلى والليث وإسحاق: لا تقيل ملة على ملة وتقبل بعض الملة على بعضها لقوله تعالى: {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} وهذا أعدل الأقوال لبعده عن التهمة، واحتج الجمهور بقوله تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} وبغير ذلك من الآيات والأحاديث. قوله: "وقال الشعبي: لا تجوز شهادة أهل الملل إلخ" وصله سعيد بن منصور "حدثنا هشيم حدثنا داود عن الشعبي: لا تجوز شهادة مله على أخرى إلا المسلمين فإن شهادتهم جائزة على جميع الملل" وروى عبد الرزاق عن الثوري عن عيسى - وهو الخياط - عن الشعبي قال: كان يجيز شهادة النصراني على اليهودي واليهودي على النصراني. وروى ابن أبي شيبة من طريق أشعث عن الشعبي قال: تجوز شهادة أهل الملل للمسلمين بعضهم على بعض. قلت فاختلف فيه على الشعبي. وروى ابن أبي شيبة عن نافع وطائفة الجواز مطلقا. وروى عبد الرزاق عن معمر عن الزهري الجواز مطلقا. قوله: "وقال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: لا تصدقوا أهل الكتاب إلخ" وصله في تفسير البقرة من طريق أبي سلمة عن أبي هريرة وفيه قصة، وسيأتي الكلام عليه ثم إن شاء الله تعالى. والغرض منه هنا النهي عن تصديق أهل الكتاب فيما لا يعرف صدقه من قبل غيرهم، فيدل على رد شهادتهم وعدم قبولها كما يقول الجمهور. قوله في حديث ابن عباس: "يا معشر المسلمين كيف تسألون أهل الكتاب" أي من اليهود والنصارى. قوله: "وكتابكم" أي القرآن. قوله: "أحدث الأخبار بالله" أي أقربها نزولا إليكم من عند الله عز وجل، فالحديث بالنسبة إلى المنزول إليهم وهو في نفسه قديم، وقوله: "لم يشب" بضم أوله وفتح المعجمة بعدها موحدة أي لم يخلط، ووقع عند أحمد من حديث جابر مرفوعا: "لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا" الحديث. وسيأتي مزيد بسط في ذلك في كتاب التوحيد إن شاء الله تعالى. والغرض منه هنا الرد على من يقبل شهادة أهل الكتاب، وإذا كانت أخبارهم لا تقبل فشهادتهم مردودة بالأولى، لأن باب الشهادة أضيق من باب الرواية.

(5/292)


30 - باب: الْقُرْعَةِ فِي الْمُشْكِلاَتِ
وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ [44 آل عمران]: {إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ}
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: اقْتَرَعُوا فَجَرَتْ الأَقْلاَمُ مَعَ الْجِرْيَةِ وَعَالَ قَلَمُ زَكَرِيَّاءَ الْجِرْيَةَ فَكَفَلَهَا زكَرِيَّاءُ
وَقَوْلِهِ [141الصافات]: {فَسَاهَمَ} أَقْرَعَ {فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ} مِنْ الْمَسْهُومِينَ وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ "عَرَضَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَوْمٍ الْيَمِينَ فَأَسْرَعُوا فَأَمَرَ أَنْ يُسْهِمَ بَيْنَهُمْ: أَيُّهُمْ يَحْلِفُ"
2686- حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ حَدَّثَنِي الشَّعْبِيُّ أَنَّهُ سَمِعَ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَثَلُ الْمُدْهِنِ فِي حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا مَثَلُ قَوْمٍ

(5/292)


اسْتَهَمُوا سَفِينَةً فَصَارَ بَعْضُهُمْ فِي أَسْفَلِهَا وَصَارَ بَعْضُهُمْ فِي أَعْلاَهَا فَكَانَ الَّذِي فِي أَسْفَلِهَا يَمُرُّونَ بِالْمَاءِ عَلَى الَّذِينَ فِي أَعْلاَهَا فَتَأَذَّوْا بِهِ فَأَخَذَ فَأْسًا فَجَعَلَ يَنْقُرُ أَسْفَلَ السَّفِينَةِ فَأَتَوْهُ فَقَالُوا مَا لَكَ قَالَ: تَأَذَّيْتُمْ بِي وَلاَ بُدَّ لِي مِنْ الْمَاءِ فَإِنْ أَخَذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَنْجَوْهُ وَنَجَّوْا أَنْفُسَهُمْ وَإِنْ تَرَكُوهُ أَهْلَكُوهُ وَأَهْلَكُوا أَنْفُسَهُمْ"
2687- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ حَدَّثَنِي خَارِجَةُ بْنُ زَيْدٍ الأَنْصَارِيُّ أَنَّ أُمَّ الْعَلاَءِ امْرَأَةً مِنْ نِسَائِهِمْ قَدْ بَايَعَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَتْهُ "أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ طَارَ لَهُ سَهْمُهُ فِي السُّكْنَى حِينَ أَقْرَعَتْ الأَنْصَارُ سُكْنَى الْمُهَاجِرِينَ قَالَتْ أُمُّ الْعَلاَءِ: فَسَكَنَ عِنْدَنَا عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ فَاشْتَكَى فَمَرَّضْنَاهُ حَتَّى إِذَا تُوُفِّيَ وَجَعَلْنَاهُ فِي ثِيَابِهِ دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ أَبَا السَّائِبِ فَشَهَادَتِي عَلَيْكَ لَقَدْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ فَقَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا يُدْرِيكِ أَنَّ اللَّهَ أَكْرَمَهُ فَقُلْتُ لاَ أَدْرِي بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَمَّا عُثْمَانُ فَقَدْ جَاءَهُ وَاللَّهِ الْيَقِينُ وَإِنِّي لاَرْجُو لَهُ الْخَيْرَ وَاللَّهِ مَا أَدْرِي وَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ مَا يُفْعَلُ بِهِ قَالَتْ فَوَاللَّهِ لاَ أُزَكِّي أَحَدًا بَعْدَهُ أَبَدًا وَأَحْزَنَنِي ذَلِكَ قَالَتْ فَنِمْتُ فَأُرِيتُ لِعُثْمَانَ عَيْنًا تَجْرِي فَجِئْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: ذَلكِ عَمَلُهُ"
2688- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا مَعَهُ وَكَانَ يَقْسِمُ لِكُلِّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ يَوْمَهَا وَلَيْلَتَهَا غَيْرَ أَنَّ سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ وَهَبَتْ يَوْمَهَا وَلَيْلَتَهَا لِعَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبْتَغِي بِذَلِكَ رِضَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
2689- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ سُمَيٍّ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الأَوَّلِ ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلاَّ أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لاَسْتَهَمُوا وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ لاَسْتَبَقُوا إِلَيْهِ وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ لاَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا"
قوله: "باب القرعة في المشكلات" أي مشروعيتها، ووجه إدخالها في كتاب الشهادات أنها من جملة البينات التي تثبت بها الحقوق، فكما تقطع الخصومة والنزاع بالبينة كذلك تقطع بالقرعة. ووقع في رواية السرخسي وحده "من المشكلات" والأول أوضح، وليست "من" للتبعيض إن كانت محفوظة، ومشروعية القرعة مما اختلف فيه،

(5/293)


والجمهور على القول بها في الجملة، وأنكرها بعض الحنفية، وحكى ابن المنذر عن أبي حنيفة القول بها، وجعل المصنف ضابطها الأمر المشكل، وفسرها غيره بما ثبت فيه الحق لاثنين فأكثر وتقع المشاححة فيه فيقرع لفصل النزاع. وقال إسماعيل القاضي: ليس في القرعة إبطال الشيء من الحق كما زعم بعض الكوفيين، بل إذا وجبت القسمة بين الشركاء فعليهم أن يعدلوا ذلك بالقيمة ثم يقترعوا فيصير لكل واحد ما وقع له بالقرعة مجتمعا مما كان له في الملك مشاعا فيضم في موضع بعينه ويكون ذلك بالعوض الذي صار لشريكه لأن مقادير ذلك قد عدلت بالقيمة، وإنما أفادت القرعة أن لا يختار واحد منهم شيئا معينا فيختاره الأخر فيقطع التنازع، وهي إما في الحقوق المتساوية وإما في تعيين الملك، فمن الأول عقد الخلافة إذا استووا في صفة الإمامة، وكذا بين الأئمة في الصلوات والمؤذنين والأقارب في تغسيل الموتى والصلاة عليهم والحاضنات إذا كن في درجة والأولياء في التزويج والاستباق إلى الصف الأول وفي إحياء الموات وفي نقل المعدن ومقاعد الأسواق والتقديم بالدعوى عند الحاكم والتزاحم على أخذ اللقيط والنزول في الخان المسبل ونحوه وفي السفر ببعض الزوجات وفي ابتداء القسم والدخول في ابتداء النكاح وفي الإقراع بين العبيد إذا أوصي بعتقهم ولم يسعهم الثلث، وهذه الأخيرة من صور القسم الثاني أيضا وهو تعيين الملك ومن صور تعيين الملك الإقراع بين الشركاء عند تعديل السهام في القسمة. قوله: "وقوله عز وجل: {إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} أشار بذلك إلى الاحتجاج بهذه القصة في صحة الحكم بالقرعة بناء على أن شرع من قبلنا شرع لنا إذا لم يرد في شرعنا ما يخالفه ولا سيما إذا ورد في شرعنا تقريره، وساقه مساق الاستحسان والثناء على فاعله وهذا منه. قوله: "وقال ابن عباس إلخ" وصله ابن جرير بمعناه. وقوله: "وعال قلم زكريا" أي ارتفع على الماء. وفي رواية الكشميهني: "وعلا" وفي نسخة "وعدا" بالدال. و "الجرية" بكسر الجيم والمعنى أنهم اقترعوا على كفالة مريم أيهم يكفلها فأخرج كل واحد منهم قلما وألقوها كلها في الماء فجرت أقلام الجميع مع. الجرية إلى أسفل وارتفع قلم زكريا فأخذها. وأخرج ابن العديم في "تاريخ حلب" بسنده إلى شعيب بن إسحاق أن النهر الذي ألقوا فيه الأقلام هو نهر قويق النهر المشهور بحلب. قوله: "وقوله" أي وقول الله عز وجل. قوله: "فساهم أقرع" هو تفسير ابن عباس أخرجه ابن جرير من طريق معاوية بن صالح عن علي من أبي طلحة عنه، وروي عن السدي قال: قوله: "فساهم" أي قارع وهو أوضح. قوله: "فكان من المدحضين: من المسهومين" هو تفسير ابن عباس أيضا أخرجه ابن جرير بالإسناد المذكور بلفظ: "فكان من المقروعين". ومن طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد بلفظ: "فكان من المسهومين" والاحتجاج بهذه الآية في إثبات القرعة يتوقف على القول بأن شرع من قبلنا شرع لنا، وهو كذلك ما لم يرد في شرعنا ما يخالفه، وهذه المسألة من هذا القبيل، لأنه كان في شرعهم جواز إلقاء البعض لسلامة البعض، وليس ذلك في شرعنا لأنهم مستوون في عصمة الأنفس فلا يجوز إلقاؤهم بقرعة ولا بغيرها. قوله: "وقال أبو هريرة: عرض النبي صلى الله عليه وسلم إلخ" وصله قبل بأبواب، وتقدم الكلام عليه في "باب إذا تسارع قوم في اليمين" وهو حجة في العمل بالقرعة. ثم ذكر المصنف في الباب أيضا أربعة أحاديث الأول حديث أم العلاء في قصة عثمان بن مظعون وقد وتقدم الكلام عليه في أوائل الجنائز ويأتي في الهجرة شيء من ترجمة أم العلاء المذكورة وعثمان بن مظعون إن شاء الله تعالى والغرض منه قولها فيه أن عثمان بن مظعون طار له سهمه في

(5/294)


السكنى ومعنى ذلك أن المهاجرين لما دخلوا المدينة لم يكن لهم مساكن فاقترع الأنصار في انزامهم فصار عثمان بن مظعون لآل أم العلاء فنزل فيهم الثاني حديث عائشة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه وهو طرف من أول حديث الإفك وباقيه يتعلق بالقسم وقد تقدم في باب هبة المرأة لغير زوجها وسبقت الإشارة إلى محل شرحه هناك الثالث حديث أبي هريرة لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا وقدتقدم مشروحا في أبواب الأذان من كتاب الصلاة والغرض منه لأن المراد بالاستهام هنا الإقرع وقد تقدم بيانه هناك الرابع حديث النعمان بن بشير. قوله: "مثل المدهن" بضم أوله وسكون المهملة وكسر الهاء بعدها نون أي المحابي بالمهملة والموحدة والمدهن والمداهن وأحد، والمراد به من يرائي ويضيع الحقوق ولا يغير المنكر. قوله: "والواقع فيها" كذا وقع هنا، وقد تقدم في الشركة من وجه آخر عن عامر وهو الشعبي "مثل القائم على حدود الله والواقع فيها" وهو أصوب لأن المدهن والواقع أي مرتكبها في الحكم واحد، والقائم مقابله. ووقع عند الإسماعيلي في الشركة "مثل القائم على حدود الله والواقع فيها" وهذا يشمل الفرق الثلاث وهو الناهي عن المعصية والواقع فيها والمرائي في ذلك، ووقع عند الإسماعيلي أيضا هنا "مثل الواقع في حدود الله تعالى والناهي عنها" وهو المطابق للمثل المضروب فإنه لم يقع فيه إلا ذكر فرقتين فقط لكن إذا كان المداهن مشتركا في الذم مع الواقع صارا بمنزلة فرقة واحدة، وبيان وجود الفرق الثلاث في المثل المضروب أن الذين أرادوا خرق السفينة بمنزله الواقع في حدود الله، ثم من عداهم إما منكر وهو القائم، وإما ساكت وهو المدهن. وحمل ابن التين قوله هنا "الواقع فيها" على أن المراد به القائم فيها واستشهد بقوله تعالى: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} أي قامت القيامة ولا يخفى ما فيه، وكأنه غفل عما وقع في الشركة من مقابلة الواقع بالقائم، وقد رواه الترمذي من طريق أبي معاوية عن الأعمش بلفظ: "مثل القائم على حدود الله والمدهن فيها" وهو مستقيم. وقال الكرماني: قال في الشركة "مثل القائم" وهنا "مثل المدهن" وهما نقيضان، فإن القائم هو الآمر بالمعروف والمدهن هو التارك له، ثم أجاب بأنه حيث قال القائم نظر إلى جهة النجاة، وحيث قال المدهن نظر إلى جهة الهلاك ولا شك أن التشبيه مستقيم على الحالين. قلت: كيف يستقيم هنا الاقتصار على ذكر المدهن وهو التارك للأمر بالمعروف وعلى ذكر الواقع في الحد وهو العاصي وكلاهما هالك، فالذي يظهر أن الصواب ما تقدم. والحاصل أن بعض الرواة ذكر المدهن والقائم وبعضهم ذكر الواقع والقائم وبعضهم جمع الثلاثة، وأما الجمع بين المدهن والواقع دون القائم فلا يستقيم. قوله: "استهموا سفينة" أي اقترعوها، فأخذ كل واحد منهم سهما أي نصيبا من السفينة بالقرعة بأن تكون مشتركة بينهم إما بالإجارة وإما بالملك، وإنما تقع القرعة بعد التعديل، ثم يقع التشاح في الأنصبة فتقع القرعة لفصل النزاع كما تقدم. قال ابن التين: وإنما يقع ذلك في السفينة ونحوها فيما إذا نزلوها معا، أما لو سبق بعضهم بعضا فالسابق أحق بموضعه. قلت: وهذا فيما إذا كان مسبلة مثلا، أما لو كانت مملوكة لهم مثلا فالقرعة مشروعة إذا تنازعوا والله أعلم. قوله: "فتأذوا به" أي بالمار عليهم بالماء حالة السقي. قوله: "فأخذ فأسا" بهمزة ساكنة معروف ويؤنث. قوله: "ينقر" بفتح أوله وسكون النون وضم القاف أي يحفر ليخرقها. قوله: "فإن أخذوا على يديه" أي منعوه من الحفر "أنجوه ونجوا أنفسهم" هو تفسير للرواية الماضية في الشركة حيث قال:

(5/295)


"نجوا ونجوا" أي كل من الآخذين والمأخوذين، وهكذا إقامة الحدود يحصل بها النجاة لمن أقامها وأقيمت عليه، وإلا هلك العاصي بالمعصية والساكت بالرضا بها. قال المهلب وغيره: في هذا الحديث تعذيب العامة بذنب الخاصة، وفيه نظر لأن التعذيب المذكور إذا وقع في الدنيا على من لا يستحقه فإنه يكفر من ذنوب من وقع به أو يرفع من درجته. وفيه استحقاق العقوبة بترك الأمر بالمعروف، وتبيين العالم الحكم بضرب المثل، ووجوب الصبر على أذى الجار إذا خشي وقوع ما هو أشد ضررا، وأنه ليس لصاحب السفل أن يحدث على صاحب العلو ما يضر به، وأنه إن أحدث عليه ضررا لزمه إصلاحه، وأن لصاحب العلو منعه من الضرر. وفيه جواز قسمة العقار المتفاوت بالقرعة وإن كان فيه علو وسفل. "تنبيه": وقع حديث النعمان هذا في بعض النسخ مقدما على حديث أم العلاء، وفي رواية أبي ذر وطائفة كما أوردته.
"خاتمة": اشتمل كتاب الشهادات وما اتصل به من القرعة وغير ذلك من الأحاديث المرفوعة على سنة وسبعين حديثا، المعلق منها أحد عشر حديثا والبقية موصولة، المكرر منها فيه وفيما مضى ثمانية وأربعون حديثا والخالص ثمانية وعشرون، وافقه مسلم على تخريجها سوى خمسة أحاديث وهي حديث عمر "كان الناس يؤخذون بالوحي" وحديث عبد الله بن الزبير في قصة الإفك، وحديث القاسم بن محمد فيه وهو مرسل، وحديث أبي هريرة في الاستهام في اليمين، وحديث ابن عباس في الإنكار على من يأخذ عن أهل الكتاب. وفيه من الآثار عن الصحابة والتابعين ثلاثة وسبعون أثرا. والله سبحانه وتعالى أعلم.

(5/296)


كتاب الصلح
باب ما جاء في الإصلاح بين الناس وقوله عز وجل (لا خير في كثير من نجواهم ... الآية)
...
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
53 - كِتَاب الصُّلْحِ
1 - باب: مَا جَاءَ فِي الإِصْلاَحِ بَيْنَ النَّاسِ. وَقَوْلِ عز وجل [114 النساء]:
{لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً}
وَخُرُوجِ الإِمَامِ إِلَى الْمَوَاضِعِ لِيُصْلِحَ بَيْنَ النَّاسِ بِأَصْحَابِهِ
2690- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ أُنَاسًا مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ كَانَ بَيْنَهُمْ شَيْءٌ فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ يُصْلِحُ بَيْنَهُمْ فَحَضَرَتْ الصَّلاَةُ وَلَمْ يَأْتِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَ بِلاَلٌ فَأَذَّنَ بِلاَلٌ بِالصَّلاَةِ وَلَمْ يَأْتِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُبِسَ وَقَدْ حَضَرَتْ الصَّلاَةُ فَهَلْ لَكَ أَنْ تَؤُمَّ النَّاسَ فَقَالَ نَعَمْ إِنْ شِئْتَ فَأَقَامَ الصَّلاَةَ فَتَقَدَّمَ أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ جَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْشِي فِي الصُّفُوفِ حَتَّى قَامَ فِي الصَّفِّ الأَوَّلِ فَأَخَذَ النَّاسُ بِالتَّصْفِيحِ حَتَّى أَكْثَرُوا وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ لاَ يَكَادُ يَلْتَفِتُ فِي الصَّلاَةِ فَالْتَفَتَ فَإِذَا هُوَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَاءَهُ فَأَشَارَ إِلَيْهِ بِيَدِهِ فَأَمَرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ كَمَا هُوَ فَرَفَعَ أَبُو بَكْرٍ يَدَهُ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ رَجَعَ الْقَهْقَرَى وَرَاءَهُ حَتَّى دَخَلَ فِي الصَّفِّ وَتَقَدَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى بِالنَّاسِ فَلَمَّا فَرَغَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِذَا نَابَكُمْ شَيْءٌ فِي صَلاَتِكُمْ أَخَذْتُمْ بِالتَّصْفِيحِ إِنَّمَا التَّصْفِيحُ لِلنِّسَاءِ مَنْ نَابَهُ شَيْءٌ فِي صَلاَتِهِ فَلْيَقُلْ سُبْحَانَ اللَّهِ فَإِنَّهُ لاَ يَسْمَعُهُ أَحَدٌ إِلاَّ الْتَفَتَ يَا أَبَا بَكْرٍ مَا مَنَعَكَ حِينَ أَشَرْتُ إِلَيْكَ لَمْ تُصَلِّ بِالنَّاسِ فَقَالَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لِابْنِ أَبِي قُحَافَةَ أَنْ يُصَلِّيَ بَيْنَ يَدَيْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
2691- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي أَنَّ أَنَسًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ أَتَيْتَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ فَانْطَلَقَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَكِبَ حِمَارًا فَانْطَلَقَ الْمُسْلِمُونَ يَمْشُونَ مَعَهُ وَهِيَ أَرْضٌ سَبِخَةٌ فَلَمَّا أَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ إِلَيْكَ عَنِّي وَاللَّهِ لَقَدْ آذَانِي نَتْنُ حِمَارِكَ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ مِنْهُمْ وَاللَّهِ لَحِمَارُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَطْيَبُ رِيحًا مِنْكَ فَغَضِبَ لِعَبْدِ اللَّهِ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ فَشَتَمَهُ فَغَضِبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَصْحَابُهُ فَكَانَ بَيْنَهُمَا ضَرْبٌ بِالْجَرِيدِ وَالأَيْدِي وَالنِّعَالِ فَبَلَغَنَا أَنَّهَا أُنْزِلَتْ {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [9 الحجرات]

(5/297)


قوله: "بسم الله الرحمن الرحيم - كتاب الصلح" كذا للنسفي والأصيلي وأبي الوقت. ولغيرهم "باب". وفي نسخة الصغاني "أبواب الصلح. باب ما جاء" وحذف هذا كله في رواية أبي ذر، واقتصر على قوله: "ما جاء في الإصلاح بين الناس" وزاد عن الكشميهني: "إذا تفاسدوا". والصلح أقسام: صلح المسلم مع الكافر، والصلح بين الزوجين، والصلح بين الفئة الباغية والعادلة، والصلح بين المتغاضبين كالزوجين، والصلح في الجراح كالعفو على مال، والصلح لقطع الخصومة إذا وقعت المزاحمة إما في الأملاك أو في المشتركات كالشوارع، وهذا الأخير هو الذي يتكلم فيه أصحاب الفروع، وأما المصنف فترجم هنا لأكثرها. قوله: "وقول الله عز وجل: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ} إلى آخر الآية" التقدير إلا نجوى من إلخ فإن في ذلك الخير، ويحتمل أن يكون الاستثناء منقطعا أي لكن من أمر بصدقة إلخ فإن في نجواه الخير، وهو ظاهر في فضل الإصلاح. قوله: "وخروج الإمام" إلى آخر بقية الترجمة. ثم أورد المصنف حديثين: أحدهما حديث سهل بن سعد في ذهابه صلى الله عليه وسلم إلى الإصلاح بين بني عمرو بن عوف، وقد تقدم شرحه مستوفى في كتاب الإمامة، وهو ظاهر فيما ترجم له. ثانيهما حديث أنس في المعنى قوله: "حدثنا معتمر" هو ابن سليمان التيمي، والإسناد كله بصريون. ووقع في نسخة الصغاني في آخر الحديث ما نصه: قال أبو عبد الله - وهو المصنف - هذا ما انتخبته من حديث مسدد قبل أن يجلس ويحدث. قوله: "أن أنسا قال" كذا في جميع الروايات ليس فيه تصريح بتحديث أنس لسليمان التيمي، وأعله الإسماعيلي بأن سليمان لم يسمعه من أنس، واعتمد على رواية المقدمي عن معتمر عن أبيه أنه بلغه عن أنس بن مالك. قوله: "قيل للنبي صلى الله عليه وسلم" لم أقف على اسم القائل. قوله: "لو أتيت عبد الله بن أبي" أي ابن سلول الخزرجي المشهور بالنفاق. قوله: "وهي أرض سبخة" بفتح المهملة وكسر الموحدة بعدها معجمة أي ذات سباخ، وهي الأرض التي لا تنبت، وكانت تلك صفة الأرض التي مر بها صلى الله عليه وسلم إذ ذاك، وذكر ذلك للتوطئة لقول عبد الله بن أبي إذ تأذى بالغبار. قوله: "فقال رجل من الأنصار منهم إلخ" لم أقف على اسمه أيضا، وزعم بعض الشراح أنه عبد الله بن رواحة، ورأيت بخط القطب أن السابق إلى ذلك الدمياطي ولم يذكر مستنده في ذلك فتتبعت ذلك فوجدت حديث أسامة بن زيد الآتي في تفسير آل عمران بنحو قصة أنس، وفيه أنه وقعت بين عبد الله بن رواحة وبين عبد الله بن أبي مراجعة، لكنها في غير ما يتعلق بالذي ذكر هنا، فإن كانت القصة متحدة احتمل ذلك، لكن سياقها ظاهر في المغايرة، لأن في حديث أسامة أنه صلى الله عليه وسلم أراد عيادة سعد بن عبادة فمر بعبد الله بن أبي. وفي حديث أنس هذا أنه صلى الله عليه وسلم دعي إلى إتيان عبد الله بن أبي، ويحتمل اتحادهما بأن الباعث على توجهه العيادة فاتفق مروره بعبد الله بن أبي فقيل له حينئذ لو أتيته فأتاه، ويدل على اتحادهما أن في حديث أسامة "فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة خمر عبد الله بن أبي أنفه بردائه". قوله: "فغضب لعبد الله" أي ابن أبي "رجل من قومه" لم أقف على اسمه. قوله: "فشتما" كذا للأكثر أي شتم كل واحد منهما الآخر. وفي رواية الكشميهني فشتمه. قوله: "ضرب بالجريد" كذا للأكثر بالجيم والراء. وفي رواية الكشميهني: "بالحديد" بالمهملة والدال، والأول أصوب. ووقع في حديث أسامة "فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكتوا". قوله: "فبلغنا" القائل ذلك هو أنس بن مالك، بينه الإسماعيلي في روايته المذكورة من طريق المقدمي فقال في آخره: "قال أنس: فأنبئت أنها نزلت فيهم" ولم أقف على اسم الذي أنبأ أنسا بذلك، ولم يقع ذلك في حديث أسامة بل في آخره: "وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعفون عن

(5/298)


المشركين وأهل الكتاب كما أمرهم الله، ويصبرون على الأذى" إلى آخر الحديث. وقد استشكل ابن بطال نزول الآية المذكورة وهي قوله: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} في هذه القصة، لأن المخاصمة وقعت بين من كان مع النبي صلى الله عليه وسلم من أصحابه وبين أصحاب عبد الله بن أبي، وكانوا إذ ذاك كفارا فكيف ينزل فيهم: {طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} ولا سيما إن كانت قصة أنس وأسامة متحدة، فإن في رواية أسامة فاستب المسلمون والمشركون. قلت: يمكن أن يحمل على التغليب، مع أن فيها إشكالا من جهة أخرى وهي أن حديث أسامة صريح في أن ذلك كان قبل وقعة بدر وقبل أن يسلم عبد الله بن أبي وأصحابه، والآية المذكورة في الحجرات ونزولها متأخر جدا وقت مجيء الوفود، لكنه يحتمل أن تكون آية الإصلاح نزلت قديما فيندفع الإشكال. "تنبيه": القصة التي في حديث أنس مغايرة للقصة التي في حديث سهل بن سعد الذي قبله، لأن قصة سهل في بني عمرو بن عوف وهم من الأوس وكانت منازلهم بقباء، وقصة أنس في رهط عبد الله بن أبي وسعد بن عبادة وهم من الخزرج وكانت منازلهم بالعالية، ولم أقف على سبب المخاصمة بين بني عمرو بن عوف في حديث سهل والله أعلم. وفي الحديث بيان ما كان النبي صلى الله عليه وسلم عليه من الصفح والحلم والصبر على الأذى في الله والدعاء إلى الله وتأليف القلوب على ذلك، وفيه أن ركوب الحمار لا نقص فيه على الكبار. وفيه ما كان الصحابة عليه من تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم والأدب منه والمحبة الشديدة، وأن الذي يشير على الكبير بشيء يورده بصورة العرض عليه لا الجزم. وفيه جواز المبالغة في المدح لأن الصحابي أطلق أن ريح الحمار أطيب من ريح عبد الله بن أبي وأقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك.

(5/299)


2 - باب: لَيْسَ الْكَاذِبُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ
2692- حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ حُمَيْدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَخْبَرَهُ أَنَّ أُمَّهُ أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ عُقْبَةَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "لَيْسَ الْكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ فَيَنْمِي خَيْرًا أَوْ يَقُولُ خَيْرًا"
قوله: "باب ليس الكاذب الذي يصلح بين الناس" ترجم بلفظ: "الكاذب" وساق الحديث بلفظ: "الكذاب" واللفظ الذي ترجم به لفظ معمر عن ابن شهاب وهو عند مسلم، وكان حق السياق أن يقول: ليس من يصلح بين الناس كاذبا، لكنه ورد على طريق القلب وهو سائغ. قوله: "عن صالح" هو ابن كيسان، والإسناد كله مدنيون، وفيه ثلاثة من التابعين في نسق، وأم كلثوم بنت عقبة أي ابن أبي معيط الأموية. قوله: "فينمي" بفتح أوله وكسر الميم أي يبلغ، تقول نميت الحديث أنميه إذا بلغته على وجه الإصلاح وطلب الخير، فإذا بلغته على وجه الإفساد والنميمة قلت نميته بالتشديد كذا قاله الجمهور، وادعى الحربي أنه لا يقال إلا نميته بالتشديد، قال: ولو كان ينمي بالتخفيف للزم أن يقول خير بالرفع، وتعقبه ابن الأثير بأن "خيرا" انتصب بينمي كما ينتصب بقال، وهو واضح جدا يستغرب من خفاء مثله على الحربي. ووقع في رواية: "الموطأ" ينمي بضم أوله، وحكى ابن قرقول عن رواية ابن الدباغ بضم أوله وبالهاء بدل الميم قال: وهو تصحيف، ويمكن تخريجه على معنى يوصل تقول: أنهيت إليه كذا إذا أوصلته. قوله: "أو يقول خيرا" هو شك من الراوي، قال العلماء: المراد هنا أنه يخبر بما علمه من الخير

(5/299)


ويسكت عما علمه من الشر ولا يكون ذلك كذبا لأن الكذب الإخبار بالشيء على خلاف ما هو به، وهذا ساكت، ولا ينسب لساكت قول. ولا حجة فيه لمن قال: يشترط في الكذب القصد إليه لأن هذا ساكت، وما زاده مسلم والنسائي من رواية يعقوب بن إبراهيم بن سعد عن أبيه في آخره: "ولم أسمعه يرخص في شيء مما يقول الناس إنه كذب إلا في ثلاث" فذكرها، وهي الحرب وحديث الرجل لامرأته والإصلاح بين الناس، وأورد النسائي أيضا هذه الزيادة من طريق الزبيدي عن ابن شهاب، وهذه الزيادة مدرجة، بين ذلك مسلم في روايته من طريق يونس عن الزهري فذكر الحديث قال: وقال الزهري. وكذا أخرجها النسائي مفردة من رواية يونس وقال: يونس أثبت في الزهري من غيره، وجزم موسى بن هارون وغيره بإدراجها، ورويناه في "فوائد ابن أبي ميسرة" من طريق عبد الوهاب بن رفيع عن ابن شهاب فساقه بسنده مقتصرا على الزيادة وهو وهم شديد، قال الطبري: ذهبت طائفة إلى جواز الكذب لقصد الإصلاح وقالوا: إن الثلاث المذكورة كالمثال، وقالوا: الكذب المذموم إنما هو فيما فيه مضرة، أو ما ليس فيه مصلحة. وقال آخرون: لا يجوز الكذب في شيء مطلقا وحملوا الكذب المراد هنا على التورية والتعريض كمن يقول للظالم: دعوت لك أمس، وهو يريد قوله اللهم اغفر للمسلمين. ويعد امرأته بعطية شيء ويريد إن قدر الله ذلك. وأن يظهر من نفسه قوة. قلت: وبالأول جزم الخطابي وغيره، وبالثاني جزم المهلب والأصيلي وغيرهما، وسيأتي في "باب الكذب في الحرب" في أواخر الجهاد مزيد لهذا إن شاء الله تعالى. واتفقوا على أن المراد بالكذب في حق المرأة والرجل إنما هو فيما لا يسقط حقا عليه أو عليها أو أخذ ما ليس له أو لها، وكذا في الحرب في غير التأمين. واتفقوا على جواز الكذب عند الاضطرار، كما لو قصد ظالم قتل رجل وهو مختف عنده فله أن ينفي كونه عنده ويحلف على ذلك ولا يأثم. والله أعلم.

(5/300)


3 - باب: قَوْلِ الإِمَامِ لِأَصْحَابِهِ اذْهَبُوا بِنَا نُصْلِحُ
2693- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأُوَيْسِيُّ وَإِسْحَاقُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَرْوِيُّ قَالاَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ أَهْلَ قُبَاءٍ اقْتَتَلُوا حَتَّى تَرَامَوْا بِالْحِجَارَةِ فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ فَقَالَ اذْهَبُوا بِنَا نُصْلِحُ بَيْنَهُمْ"
قوله: "باب قول الإمام لأصحابه اذهبوا بنا نصلح" ذكر فيه طرفا من حديث سهل بن سعد الماضي في أوائل كتاب الصلح، وهو ظاهر فيما ترجم له، وقوله في أول الإسناد "حدثنا محمد بن عبد الله" كذا للأكثر، ووقع في رواية النسفي وأبي أحمد الجرجاني بإسقاطه فصار الحديث عندهما عن البخاري عن عبد العزيز وإسحاق، وعبد العزيز الأويسي من مشايخ البخاري وهو الذي أخرج عنه الحديث الذي في الباب قبله، وروى عنه هذا بواسطة، وكذلك إسحاق بن محمد الفروي حدث عنه بواسطة وبغير واسطة، ومحمد بن جعفر شيخهما هو ابن أبي كثير، والإسناد كله مدنيون. وأما محمد بن عبد الله المذكور فجزم الحاكم بأنه محمد بن يحيى بن عبد الله بن خالد بن فارس الذهلي، نسبه إلى جده. والله أعلم.

(5/300)


باب قول الله تعالى (أن يصلحا بينهما صلحا... الآية)
...
4 - باب: قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى [128 النساء]: {أَنْ يَصَّالَحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا، وَالصُّلْحُ خَيْرٌ}
2694- حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا سفيان عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً} قالت "هو الرجل يرى من امرأته ما لا يعجبه كبرا أو غيره فيريد فراقها، فتقول: أمسكني، واقسم لي ما شئت. قالت فلا بأس إذا تراضيا"
قوله: "باب قول الله عز وجل: {أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} أورد فيه حديث عائشة في تفسير الآية، وسيأتي شرحه في تفسير سورة النساء إن شاء الله تعالى.

(5/301)


5 - باب: إِذَا اصْطَلَحُوا عَلَى صُلْحِ جَوْرٍ فَالصُّلْحُ مَرْدُودٌ
2665 ، 2696- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالاَ "جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ فَقَامَ خَصْمُهُ فَقَالَ صَدَقَ اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ فَقَالَ الأَعْرَابِيُّ إِنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ فَقَالُوا لِي عَلَى ابْنِكَ الرَّجْمُ فَفَدَيْتُ ابْنِي مِنْهُ بِمِائَةٍ مِنْ الْغَنَمِ وَوَلِيدَةٍ ثُمَّ سَأَلْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ فَقَالُوا إِنَّمَا عَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لاَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ أَمَّا الْوَلِيدَةُ وَالْغَنَمُ فَرَدٌّ عَلَيْكَ وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ وَأَمَّا أَنْتَ يَا أُنَيْسُ لِرَجُلٍ فَاغْدُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا فَارْجُمْهَا فَغَدَا عَلَيْهَا أُنَيْسٌ فَرَجَمَهَا"
2697- حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ"
رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ الْمَخْرَمِيُّ وَعَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَبِي عَوْنٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ
قوله: "باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود" يجوز في صلح جور الإضافة وأن ينون صلح ويكون جور صفة له. ذكر فيه حديث أبي هريرة وزيد بن خالد في قصة العسيف، وسيأتي شرحها مستوفى في كتاب الحدود إن شاء الله تعالى. والغرض منه هنا قوله في الحديث: "الوليدة والغنم رد عليك" لأنه في معنى الصلح عما وجب على العسيف من الحد، ولما كان ذلك لا يجوز في الشرع كان جورا. قوله: "حدثنا يعقوب" كذا للأكثر غير منسوب، وانفرد ابن السكن بقوله: "يعقوب بن محمد"، ووقع نظير هذا في المغازي في "باب فضل من شهد بدرا" قال البخاري: "حدثنا يعقوب حدثنا إبراهيم بن سعد" فوقع عند ابن السكن "يعقوب بن محمد" أي الزهري، وعند الأكثر غير منسوب، لكن قال أبو ذر في روايته في المغازي "يعقوب بن إبراهيم أي الدورقي" وقد روى البخاري في الطهارة "عن يعقوب بن إبراهيم عن إسماعيل بن علية حدثنا" فنسبه أبو ذر في روايته فقال: "الدورقي" وجزم الحاكم بأن يعقوب المذكور هنا هو ابن محمد كما في رواية ابن السكن، وجزم أبو

(5/301)


أحمد الحاكم وابن منده والحبال وآخرون بأنه يعقوب بن حميد بن كاسب، ورد ذلك البرقاني بأن يعقوب بن حميد ليس من شرطه، وجوز أبو مسعود أنه يعقوب بن إبراهيم بن سعد، ورد عليه بأن البخاري لم يلقه فإنه مات قبل أن يرحل، وأجاب البرقاني عنه بجواز سقوط الواسطة وهو بعيد، والذي يترجح عندي أنه الدورقي حملا لما أطلقه على ما قيده، وهذه عادة البخاري لا يهمل نسبة الراوي إلا إذا ذكرها في مكان آخر فيهملها استغناء بما سبق والله أعلم. وقد جزم أبو علي الصدفي بأنه الدورقي، وكذا جزم أبو نعيم في "المستخرج" بأن البخاري أخرج هذا الحديث الذي في الصلح عن يعقوب بن إبراهيم. قوله: "عن أبيه" هو سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، ووقع منسوبا كذلك في مسلم وقال في روايته: "حدثنا أبي". قوله: "عن القاسم" في رواية الإسماعيلي من طريق محمد بن خالد الواسطي عن إبراهيم بن سعد عن أبيه أن رجلا من آل أبي جهل أوصى بوصايا فيها أثرة في ماله، فذهبت إلى القاسم بن محمد أستشيره فقال القاسم "سمعت عائشة" فذكره. وسيأتي بيان الأثرة المذكورة في رواية المخرمي المعلقة عن العلاء بن عبد الجبار. قوله: "رواه عبد الله بن جعفر المخرمي" بفتح الميم وسكون المعجمة وفتح الراء نسبة إلى المسور بن مخرمة، فجعفر هو ابن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة، وروايته هذه وصلها مسلم من طريق أبي عامر العقدي والبخاري في "كتاب خلق أفعال العباد" كلاهما عنه عن سعد بن إبراهيم "سألت القاسم بن محمد عن رجل له مساكن فأوصى بثلث كل مسكن منها قال: يجمع ذلك كله في مسكن واحد" فذكر المتن بلفظ: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد" وليس لعبد الله بن جعفر في البخاري سوى هذا الموضع. قوله: "وعبد الواحد بن أبي عون" وصله الدار قطني من طريق عبد العزيز بن محمد عنه بلفظ: "من فعل أمرا ليس عليه أمرنا فهو رد" وليس لعبد الواحد أيضا في البخاري سوى هذا الموضع، وقد رويناه في "كتاب السنة لأبي الحسين بن حامد" من طريق محمد بن إسحاق عن عبد الواحد وفيه قصة قال: "عن سعد بن إبراهيم قال كان الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب أوصى بوصية، فجعل بعضها صدقة وبعضها ميراثا وخلط فيها، وأنا يومئذ على القضاء، فما دريت كيف أقضي فيها، فصليت بجنب القاسم بن محمد فسألته فقال: أجز من ماله الثلث وصية، ورد سائر ذلك ميراثا، فإن عائشة حدثتني" فذكره بلفظ إبراهيم بن سعد. وفي هذه الرواية دلالة على أن قوله في رواية الإسماعيلي المتقدمة "من آل أبي جهل" وهم، وإنما هو من آل أبي لهب، وعلى أن قوله في رواية مسلم: "يجمع ذلك كله في مسكن واحد" هو بقية الوصية وليس هو من كلام القاسم بن محمد، لكن صرح أبو عوانة في روايته بأنه كلام القاسم بن محمد، وهو مشكل جدا، فالذي أوصى بثلث كل مسكن أوصى بأمر جائز اتفاقا، وأما إلزام القاسم بأن يجمع في مسكن واحد ففيه نظر لاحتمال أن يكون بعض المساكن أغلى قيمة من بعض، لكن يحتمل أن تكون تلك المساكن متساوية فيكون الأولى أن تقع الوصية بمسكن واحد من الثلاثة، ولعله كان في الوصية شيء زائد على ذلك يوجب إنكارها كما أشارت إليه رواية أبي الحسين بن حامد والله أعلم. وقد استشكل القرطبي شارح مسلم ما استشكلته، وأجاب عنه بالحمل على ما إذا أراد أحد الفريقين الفدية، أو الموصى لهم القسمة وتمييز حقه، وكانت المساكن بحيث يضم بعضها إلى بعض في القسمة، فحينئذ تقوم المساكن قيمة التعديل ويجمع نصيب الموصى لهم في موضع واحد ويبقى نصيب الورثة فيما عدا ذلك والله أعلم. وهذا الحديث معدود من أصول الإسلام وقاعدة من قواعده، فإن معناه: من اخترع في الدين ما لا يشهد له أصل من أصوله فلا يلتفت إليه. قال النووي: هذا الحديث

(5/302)


مما ينبغي أن يعتنى بحفظه واستعماله في إبطال المنكرات وإشاعة الاستدلال به كذلك. وقال الطرقي: هذا الحديث يصلح أن يسمى نصف أدلة الشرع، لأن الدليل يتركب من مقدمتين، والمطلوب بالدليل إما إثبات الحكم أو نفيه، وهذا الحديث مقدمة كبرى في إثبات كل حكم شرعي ونفيه، لأن منطوقه مقدمة كلية في كل دليل ناف لحكم، مثل أن يقال في الوضوء بماء نجس: هذا ليس من أمر الشرع، وكل ما كان كذلك فهو مردود، فهذا العمل مردود. فالمقدمة الثانية ثابتة بهذا الحديث، وإنما يقع النزاع في الأولى. ومفهومه أن من عمل عملا عليه أمر الشرع فهو صحيح، مثل أن يقال في الوضوء بالنية: هذا عليه أمر الشرع، وكل ما كان عليه أمر الشرع فهو صحيح. فالمقدمة الثانية ثابتة بهذا الحديث والأولى فيها النزاع، فلو اتفق أن يوجد حديث يكون مقدمة أولى في إثبات كل حكم شرعي ونفيه لاستقل الحديثان بجميع أدلة الشرع، لكن هذا الثاني لا يوجد، فإذا حديث الباب نصف أدلة الشرع والله أعلم. وقوله: "رد" معناه مردود من إطلاق المصدر على اسم المفعول، مثل خلق ومخلوق ونسخ ومنسوخ، وكأنه قال: فهو باطل غير معتد به، واللفظ الثاني وهو قوله: "من عمل" أعم من اللفظ الأول وهو قوله: "من أحدث" فيحتج به في إبطال جميع العقود المنهية وعدم وجود ثمراتها المرتبة عليها، وفيه رد المحدثات وأن النهي يقتضي الفساد، لأن المنهيات كلها ليست من أمر الدين فيجب ردها، ويستفاد منه أن حكم الحاكم لا يغير ما في باطن الأمر لقوله: "ليس عليه أمرنا" والمراد به أمر الدين، وفيه أن الصلح الفاسد منتقض، والمأخوذ عليه مستحق الرد.

(5/303)


باب كيف يكتب (هذا ما صالح فلان فلان فلان بن فلان وإن لم ينسبه إلى قبيلته أو نسبه)
...
6 - باب: كَيْفَ يُكْتَبُ "هَذَا مَا صَالَحَ فُلاَنُ بْن فُلاَنٍ وَفُلاَنُ بْن فُلاَنٍ" وَإِنْ لَمْ يَنْسُبْهُ إِلَى قَبِيلَتِهِ أَوْ نَسَبِهِ
2698- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ سَمِعْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: لَمَّا صَالَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ الْحُدَيْبِيَةِ كَتَبَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بَيْنَهُمْ كِتَابًا فَكَتَبَ "مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ" فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ لاَ تَكْتُبْ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ لَوْ كُنْتَ رَسُولًا لَمْ نُقَاتِلْكَ فَقَالَ لِعَلِيٍّ امْحُهُ فَقَالَ عَلِيٌّ مَا أَنَا بِالَّذِي أَمْحَاهُ فَمَحَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ وَصَالَحَهُمْ عَلَى أَنْ يَدْخُلَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَلاَ يَدْخُلُوهَا إِلاَّ بِجُلُبَّانِ السِّلاَحِ فَسَأَلُوهُ مَا جُلُبَّانُ السِّلاَحِ فَقَالَ الْقِرَابُ بِمَا فِيهِ"
2699- حدثنا عبيد الله بن موسى عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء رضي الله عنه قال: "اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة، فأبى أهل مكة أن يدعوه يدخل مكة حتى قاضاهم على أن يقيم بها ثلاثة أيام. فلما كتبوا الكتاب كتبوا: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: لا نقر بها، فلو نعلم أنك رسول الله ما منعناك، لكن أنت محمد عبد الله. قال: أنا رسول الله، وأنا محمد بن عبد الله ، ثم قال لعلي: امح "رسول الله" قال: لا والله لا أمحوك أبداً، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب فكتب: هذا

(5/303)


ما قاضى عليه محمد بن عبد الله لا يدخل مكة سلاح إلا في القراب، وأن لا يخرج من أهلها بأحد إن أراد أن يتبعه، وأن لا يمنع أحدا من أصحابه أراد أن يقيم بها. فلما دخلها ومضى الأجل أتوا علياً فقالوا: قل لصاحبك أخرج عنا فقد مضى الأجل. فخرج النبي صلى الله عليه وسلم، فتبعتهم ابنة حمزة - يا عم، يا عم - فتناولها علي فأخذ بيدها وقال لفاطمة: دونك ابنة عمك احمليها. فاختصم فيها علي وزيد وجعفر. فقال علي: أنا أحق بها وهي ابنة عمي وخالتها تحتي. وقال زيد ابنة أخي فقضى بها النبي صلى الله عليه وسلم لخالتها وقال: الخالة بمنزلة الأم، وقال لعلي أنت مني وأنا منك. وقال لجعفر أشبهت خلقي وخلقي. وقال لزيد: أنت أخونا ومولانا"
قوله: "باب كيف يكتب: هذا ما صالح فلان ابن فلان فلان ابن فلان، وإن لم ينسبه إلى قبيلته أو نسبه" أي إذا كان مشهورا بدون ذلك بحيث يؤمن اللبس فيه فيكتفى في الوثيقة بالاسم المشهور ولا يلزم ذكر الحد والنسب والبلد ونحو ذلك. وأما قول الفقهاء: يكتب في الوثائق اسمه واسم أبيه وجده ونسبه، فهو حيث يخشى اللبس، وإلا فحيث يؤمن اللبس فهو على الاستحباب. واختلف في ضبط هذه اللفظة وهي قوله: "ونسبه" فقيل بالجر عطفا على قبيلته وعلى هذا فالتردد بين القبيلة والنسبة، وقيل بالنصب فعل ماض معطوف على المنفي، أي سواء نسبه أو لم ينسبه، والأول أولى، وبه جزم الصغاني. قوله: "لما صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم هل الحديبية كتب علي" سيأتي في الشروط من حديث المسور بن مخرمة بيان سبب ذلك مطولا، وقد ذكر المصنف هنا من طريق إسرائيل عن ابن إسحاق هذا الحديث أتم سياقا من طريق شعبة، ويأتي شرحه في "باب عمرة القضاء" من المغازي إن شاء الله تعالى. ونذكر هناك بيان الخلاف في مباشرته صلى الله عليه وسلم الكتابة، والغرض منه هنا اقتصار الكاتب على قوله: "محمد رسول الله" ولم ينسبه إلى أب ولا جد، وأقره صلى الله عليه وسلم اقتصر على محمد بن عبد الله بغير زيادة، وذلك كله لأمن الالتباس.

(5/304)


7 - باب: الصُّلْحِ مَعَ الْمُشْرِكِينَ فِيهِ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ
وَقَالَ عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "ثُمَّ تَكُونُ هُدْنَةٌ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ بَنِي الأَصْفَرِ وَفِيهِ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ "لقد رأيتنا يوم أبي اجندل" وَأَسْمَاءُ، وَالْمِسْوَرُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
2700- وَقَالَ مُوسَى بْنُ مَسْعُودٍ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "صَالَحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى ثَلاَثَةِ أَشْيَاءَ عَلَى أَنَّ مَنْ أَتَاهُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ رَدَّهُ إِلَيْهِمْ وَمَنْ أَتَاهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَرُدُّوهُ وَعَلَى أَنْ يَدْخُلَهَا مِنْ قَابِلٍ وَيُقِيمَ بِهَا ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَلاَ يَدْخُلَهَا إِلاَّ بِجُلُبَّانِ السِّلاَحِ السَّيْفِ وَالْقَوْسِ وَنَحْوِهِ فَجَاءَ أَبُو جَنْدَلٍ يَحْجُلُ فِي قُيُودِهِ فَرَدَّهُ إِلَيْهِمْ"
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: لَمْ يَذْكُرْ مُؤَمَّلٌ عَنْ سُفْيَانَ أَبَا جَنْدَلٍ وَقَالَ: "إِلاَّ بِجُلُبِّ السِّلاَحِ"

(5/304)


8 - باب: الصُّلْحِ فِي الدِّيَةِ
2703- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي حُمَيْدٌ أَنَّ أَنَسًا حَدَّثَهُمْ أَنَّ الرُّبَيِّعَ وَهِيَ ابْنَةُ النَّضْرِ كَسَرَتْ ثَنِيَّةَ جَارِيَةٍ فَطَلَبُوا الأَرْشَ وَطَلَبُوا الْعَفْوَ فَأَبَوْا فَأَتَوْا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَهُمْ بِالْقِصَاصِ فَقَالَ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ أَتُكْسَرُ ثَنِيَّةُ الرُّبَيِّعِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لاَ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لاَ تُكْسَرُ ثَنِيَّتُهَا فَقَالَ يَا أَنَسُ كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ فَرَضِيَ الْقَوْمُ وَعَفَوْا، فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لاَبَرَّهُ زَادَ الْفَزَارِيُّ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ "فَرَضِيَ الْقَوْمُ وَقَبِلُوا الأَرْشَ"
[الحديث 2703- أطرافه في: 2806 ، 4499 ، 4500 ، 4611 ، 6894]
قوله: "باب الصلح في الدية" أي بأن يجب القصاص فيقع الصلح على مال معين، ذكر فيه حديث أنس في قصة الربيع - وهو بضم الراء وفتح الموحدة وتشديد التحتانية المكسورة - وهي عمة أنس. وقوله زاد الفزاري يعني مروان بن معاوية. قوله: "فرضي القوم وقبلوا الأرش" أي زاد على رواية الأنصاري ذكر قبولهم الأرش، والذي وقع في رواية الأنصاري "فرضي القوم وعفوا" وظاهره أنهم تركوا القصاص والأرش مطلقا، فأشار المصنف إلى الجمع بينهما بأن قوله عفوا محمول على أنهم عفوا عن القصاص على قبول الأرش جمعا بين الروايتين، وطريق الفزاري هذه وصلها المؤلف في تفسير سورة المائدة، وسيأتي الكلام عليه مستوفى هناك إن شاء الله تعالى.

(5/306)


9 - باب: قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا:
"ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ، وَقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا}
2704- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ سَمِعْتُ الْحَسَنَ يَقُولُ: "اسْتَقْبَلَ وَاللَّهِ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ مُعَاوِيَةَ بِكَتَائِبَ أَمْثَالِ الْجِبَالِ فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ إِنِّي لاَرَى كَتَائِبَ لاَ تُوَلِّي حَتَّى تَقْتُلَ أَقْرَانَهَا فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ وَكَانَ وَاللَّهِ خَيْرَ الرَّجُلَيْنِ أَيْ عَمْرُو إِنْ قَتَلَ هَؤُلاَءِ هَؤُلاَءِ وَهَؤُلاَءِ هَؤُلاَءِ مَنْ لِي بِأُمُورِ النَّاسِ مَنْ لِي بِنِسَائِهِمْ مَنْ لِي بِضَيْعَتِهِمْ فَبَعَثَ إِلَيْهِ رَجُلَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَامِرِ بْنِ كُرَيْزٍ فَقَالَ اذْهَبَا إِلَى هَذَا الرَّجُلِ فَاعْرِضَا عَلَيْهِ وَقُولاَ لَهُ وَاطْلُبَا إِلَيْهِ فَأَتَيَاهُ

(5/306)


10 - باب: هَلْ يُشِيرُ الإِمَامُ بِالصُّلْحِ؟
2705-حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَخِي عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي الرِّجَالِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أُمَّهُ عَمْرَةَ بِنْتَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَتْ سَمِعْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَقُولُ "سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَوْتَ خُصُومٍ بِالْبَابِ عَالِيَةٍ أَصْوَاتُهُمَا وَإِذَا أَحَدُهُمَا يَسْتَوْضِعُ الْآخَرَ وَيَسْتَرْفِقُهُ فِي شَيْءٍ وَهُوَ يَقُولُ وَاللَّهِ لاَ أَفْعَلُ فَخَرَجَ عَلَيْهِمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَيْنَ الْمُتَأَلِّي عَلَى اللَّهِ لاَ يَفْعَلُ الْمَعْرُوفَ فَقَالَ أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَهُ أَيُّ ذَلِكَ أَحَبَّ"
2706- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ الأَعْرَجِ قَالَ: "حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ كَانَ لَهُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي حَدْرَدٍ الأَسْلَمِيِّ مَالٌ فَلَقِيَهُ فَلَزِمَهُ حَتَّى ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا فَمَرَّ بِهِمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا كَعْبُ - فَأَشَارَ بِيَدِهِ كَأَنَّهُ يَقُولُ: النِّصْفَ - فَأَخَذَ نِصْفَ مَا لَهُ عَلَيْهِ وَتَرَكَ نِصْفًا"
قوله: "باب هل يشير الإمام بالصلح" أشار بهذه الترجمة إلى الخلاف، فإن الجمهور استحبوا للحاكم أن يشير

(5/307)


بالصلح وإن اتجه الحق لأحد الخصمين، ومنع من ذلك بعضهم وهو عن المالكية، وزعم ابن التين أنه ليست في حديثي الباب ما ترجم به وإنما فيه الحض على ترك بعض الحق، وتعقب بأن الإشارة بذلك بمعنى الصلح، على أن المصنف ما جزم بذلك فكيف يعترض عليه. قوله: "حدثنا إسماعيل بن أبي أويس حدثني أخي" هو أبو بكر عبد الحميد، وسليمان هو ابن بلال، ويحيى بن سعيد هو الأنصاري، وأبو الرجال بالجيم محمد بن عبد الرحمن أي ابن حارثه بن النعمان الأنصاري كنيته أبو عبد الرحمن، وقيل له أبو الرجال لأنه ولد له عشرة ذكور، وهو من صغار التابعين، وكذا الراوي عنه؛ والإسناد كله مدنيون، وفيه ثلاثة من التابعين في نسق منهم قرينان. وهذا الحديث أخرجه مسلم قال: "حدثنا غير واحد عن إسماعيل من أبي أويس" فعده بعضهم في المنقطع والتحقيق أنه متصل في إسناده مبهم، وقد رواه عن إسماعيل أيضا محمد بن يحيى الذهلي أخرجه أبو عوانة والإسماعيلي وغيرهما من طريقه، وأخرجه أبو عوانة أيضا من طريق إبراهيم بن الحسين الكسائي وإسماعيل بن إسحاق القاضي، ورويناه في "المحامليات" عن عبد الله بن شبيب، فيحتمل أن يفسر من أبهمه مسلم بهؤلاء أو بعضهم، ولم ينفرد به إسماعيل بل تابعه أيوب بن سفيان عن أبي بكر بن أبي أويس أخرجه الإسماعيلي أيضا، ولا انفرد به يحيى بن سعيد فقد أخرجه ابن حبان من طريق عبد الرحمن ابن أبي الرجال عن أبيه. قوله: "سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوت خصوم بالباب عالية أصواتهم" في رواية: "أصواتهما"، وكأنه جمع باعتبار من حضر الخصومة وثنى باعتبار الخصمين، أو كأن التخاصم من الجانبين بين جماعة فجمع ثم ثنى باعتبار جنس الخصم، وليس فيه حجة لمن جوز صيغة الجمع بالاثنين كما زعم بعض الشراح، ويجوز في قوله: "عالية" الجر على الصفة والنصب على الحال. قوله: "وإذا أحدهما يستوضع الآخر" أي يطلب منه الوضيعة، أي الحطيطة من الدين. قوله: "ويسترفقه" أي يطلب منه الرفق به. وقوله: "في شيء" وقع بيانه في رواية ابن حبان فقال في أول الحديث: "دخلت امرأة على النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني ابتعت أنا وابني من فلان تمرا فأحصيناه. لا والذي أكرمك بالحق ما أحصينا منه إلا ما نأكله في بطوننا أو نطعمه مسكينا، وجئنا نستوضعه ما نقصنا" الحديث، فظهر بهذا ترجيح ثاني الاحتمالين المذكورين قبل، وأن المخاصمة وقعت بين البائع وبين المشتريين ولم أقف على تسمية واحد منهم، وأما تجويز بعض الشراح أن المتخاصمين هما المذكوران في الحديث الذي يليه ففيه بعد لتغاير القصتين، وعرف بهذه الزيادة أصل القصة. قوله: "أين المتألي" بضم الميم وفتح المثناة والهمزة وتشديد اللام المكسورة أي الحالف المبالغ في اليمين، مأخوذ من الألية بفتح الهمزة وكسر اللام وتشديد التحتانية وهي اليمين. وفي رواية ابن حبان: "فقال آلى أن لا يصنع خيرا ثلاث مرات فبلغ ذلك صاحب التمر". قوله: "فله أي ذلك أحب" أي من الوضع أو الرفق، وفي رواية ابن حبان: "فقال إن شئت وضعت ما نقصوا إن شئت من رأس المال، فوضع ما نقصوا" وهو يشعر بأن المراد بالوضع الحط من رأس المال، وبالرفق الاقتصار عليه وترك الزيادة، لا كما زعم بعض الشراح أنه يريد بالرفق الإمهال، وفي هذا الحديث الحض على الرفق بالغريم والإحسان إليه بالوضع عنه، والزجر عن الحلف على ترك فعل الخير، قال الداودي: إنما كره ذلك لكونه حلف على ترك أمر عسى أن يكون قد قدر الله وقوعه، وعن المهلب نحوه، وتعقبه ابن التين بأنه لو كان كذلك لكره الحلف لمن حلف ليفعلن خيرا، وليس كذلك بل الذي يظهر أنه كره له قطع نفسه عن فعل الخير، قال: ويشكل في هذا قوله صلى الله عليه وسلم للأعرابي الذي قال والله لا أزيد على هذا ولا أنقص "أفلح إن صدق" ولم يكر عليه حلفه على

(5/308)


القرطبي: لعل من أطلق كراهته أراد أنه خلاف الأولى. وفيه هبة المجهول، كذا قال ابن التين، وفيه نظر لما قدمناه من رواية ابن حبان والله أعلم. قوله: "حدثنا يحيى بن بكير" تقدم حديث كعب بهذا الإسناد في أول الملازمة، وتقدم شرح الحديث مستوفى في "باب التقاضي والملازمة في المسجد" من كتاب الصلاة، وأفاد ابن أبي شيبة في روايته أن الدين المذكور كان أوقيتين، قال ابن بطال: هذا الحديث أصل لقول الناس: خير الصلح على الشطر.

(5/309)


11 - باب: فَضْلِ الإِصْلاَحِ بَيْنَ النَّاسِ وَالْعَدْلِ بَيْنَهُمْ
2707- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ سُلاَمَى مِنْ النَّاس عَلَيْهِ صَدَقَةٌ كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ يَعْدِلُ بَيْنَ النَّاسِ صَدَقَةٌ"
[الحديث 2707- طرفاه في: 2891 ، 2989]
قوله: "باب فضل الإصلاح بين الناس والعدل بينهم" أورد فيه حديث أبي هريرة "تعدل بين الناس صدقة" وهو طرف من حديث طويل يأتي في الجهاد، ووقع هنا في أول الإسناد "حدثنا إسحاق" غير منسوب في جميع الروايات إلا عن أبي ذر فقال: "إسحاق بن منصور" ووقع في الجهاد في موضعين أحدهما "إسحاق بن نصر" والآخر "إسحاق" غير منسوب. وسياق إسحاق بن نصر مغاير لسياق إسحاق الآخر، فتعين أنه ابن منصور والله أعلم. قوله: "سلامى" بضم المهملة وتخفيف اللام مع القصر أي مفصل، ووقع عند مسلم حديث أبي ذر تفسيره بذلك وأن في الإنسان ثلاثمائة وستين مفصلا. قال ابن المنير: ترجم على الإصلاح والعدل ولم يورد في هذا الحديث إلا العدل، لكن لما خاطب الناس كلهم بالندل وقد علم أن فيهم الحكام وغيرهم كان عدل الحاكم إذا حكم، وعدل غيره إذا أصلح. وقال غيره: الإصلاح نوع من العدل، فعطف العدل عليه من عطف العام على الخاص.

(5/309)


12 - باب: إِذَا أَشَارَ الإِمَامُ بِالصُّلْحِ فَأَبَى حَكَمَ عَلَيْهِ بِالْحُكْمِ الْبَيِّنِ
2708- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ الزُّبَيْرَ كَانَ يُحَدِّثُ أَنَّهُ خَاصَمَ رَجُلًا مِنْ الأَنْصَارِ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شِرَاجٍ مِنْ الْحَرَّةِ كَانَا يَسْقِيَانِ بِهِ كِلاَهُمَا، فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لِلْزُّبَيْرِ اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ أَرْسِلْ إِلَى جَارِكَ فَغَضِبَ الأَنْصَارِيُّ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ آنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ اسْقِ ثُمَّ احْبِسْ حَتَّى يَبْلُغَ الْجَدْرَ فَاسْتَوْعَى

(5/309)


12 - باب: الصُّلْحِ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ وَأَصْحَابِ الْمِيرَاثِ وَالْمُجَازَفَةِ فِي ذَلِكَ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لاَ بَأْسَ أَنْ يَتَخَارَجَ الشَّرِيكَانِ فَيَأْخُذَ هَذَا دَيْنًا وَهَذَا عَيْنًا
فَإِنْ تَوِيَ لِأَحَدِهِمَا لَمْ يَرْجِعْ عَلَى صَاحِبِهِ
2709- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "تُوُفِّيَ أَبِي وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فَعَرَضْتُ عَلَى غُرَمَائِهِ أَنْ يَأْخُذُوا التَّمْرَ بِمَا عَلَيْهِ فَأَبَوْا وَلَمْ يَرَوْا أَنَّ فِيهِ وَفَاءً فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ إِذَا جَدَدْتَهُ فَوَضَعْتَهُ فِي الْمِرْبَدِ آذَنْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَ وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَجَلَسَ عَلَيْهِ وَدَعَا بِالْبَرَكَةِ ثُمَّ قَالَ ادْعُ غُرَمَاءَكَ فَأَوْفِهِمْ فَمَا تَرَكْتُ أَحَدًا لَهُ عَلَى أَبِي دَيْنٌ إِلاَّ قَضَيْتُهُ وَفَضَلَ ثَلاَثَةَ عَشَرَ وَسْقًا سَبْعَةٌ عَجْوَةٌ وَسِتَّةٌ لَوْنٌ أَوْ سِتَّةٌ عَجْوَةٌ وَسَبْعَةٌ لَوْنٌ. فَوَافَيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَغْرِبَ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ فَضَحِكَ فَقَالَ ائْتِ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ فَأَخْبِرْهُمَا فَقَالاَ لَقَدْ عَلِمْنَا إِذْ صَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا صَنَعَ أَنْ سَيَكُونُ ذَلِكَ"
وَقَالَ هِشَامٌ عَنْ وَهْبٍ عَنْ جَابِرٍ "صَلاَةَ الْعَصْرِ" وَلَمْ يَذْكُرْ "أَبَا بَكْرٍ" وَلاَ "ضَحِكَ" وَقَالَ: "وَتَرَكَ أَبِي عَلَيْهِ ثَلاَثِينَ وَسْقًا دَيْنًا"
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ وَهْبٍ عَنْ جَابِرٍ "صَلاَةَ الظُّهْرِ"
قوله: "باب الصلح بين الغرماء وأصحاب الميراث والمجازفة في ذلك" أي عند المعارضة، وقد قدمت توجيه ذلك في كتاب الاستقراض، ومراده أن المجازفة في الاعتياض عن الدين جائزة وإن كانت من جنس حقه وأقل، وأنه لا يتناوله النهي إذ لا مقابلة من الطرفين. قوله: "وقال ابن عباس إلخ" وصله ابن أبي شيبة، وقد تقدم شرحه في أول الحوالة حديث جابر يأتي الكلام عليه في علامات النبوة إن شاء الله تعالى، وقوله فيه: "وفضل" بفتح

(5/310)


المعجمة، وضبط عند أبي ذر بكسرها، قال سيبويه وهو نادر. وقوله: "وقال هشام" أي ابن عروة "عن وهب" أي ابن كيسان، ورواية هشام هذه تقدمت موصولة في الاستقراض. وقوله: "وقال ابن إسحاق عن وهب عن جابر صلاة الظهر" أي أن ابن إسحاق روى الحديث عن وهب بن كيسان كما رواه هشام بن عروة إلا أنهما اختلفا في تعيين الصلاة التي حضرها جابر مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى أعلمه بقصته فقال ابن إسحاق الظهر. وقال هشام العصر. وقال عبيد الله بن عمر المغرب، والثلاثة رووه عن وهب بن كيسان عن جابر، وكأن هذا القدر من الاختلاف لا يقدح في صحة أصل الحديث لأن المقصود منه ما وقع من بركته صلى الله عليه وسلم في التمر وقد حصل توافقهم عليه ولا يترتب على تعيين تلك الصلاة بعينها كبير معنى والله أعلم. وقوله: "وستة لون" اللون ما عدا العجوة، وقيل هو الدقل وهو الرديء، وقيل اللون اللين واللينة، وقيل الأخلاط من التمر، وسيأتي اللينة في تفسير سورة الحشر وأنه اسم للنخلة.

(5/311)


14 - باب: الصُّلْحِ بِالدَّيْنِ وَالْعَيْنِ
2710- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ أَخْبَرَنَا يُونُسُ ح
وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَعْبٍ أَنَّ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ تَقَاضَى ابْنَ أَبِي حَدْرَدٍ دَيْنًا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا حَتَّى سَمِعَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي بَيْتٍ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمَا حَتَّى كَشَفَ سِجْفَ حُجْرَتِهِ فَنَادَى كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ فَقَالَ يَا كَعْبُ فَقَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَشَارَ بِيَدِهِ أَنْ ضَعْ الشَّطْرَ فَقَالَ كَعْبٌ: قَدْ فَعَلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قُمْ فَاقْضِهِ"
قوله: "باب الصلح بالدين والعين" أورد فيه حديث كعب بن مالك وقصته مع ابن أبي حدرد، وقد تقدم قبل ثلاثة أبواب. وقال ابن التين ليس فيه ما ترجم به. وأجيب بأن فيه الصلح فيما يتعلق بالدين، وكأنه ألحق به الصلح فيما يتعلق بالعين بطريق الأولى. قال ابن بطال: اتفق العلماء على أنه إن صالح غريمه عن دراهم بدراهم أقل منها جاز إذا حل الأجل، فإذا لم يحل الأجل لم يجز أن يحط عنه شيئا قبل أن يقبضه مكانه، وإن صالحه بعد حلول الأجل عن دراهم بدنانير أو عن دنانير بدراهم جاز واشترط القبض ا هـ. قوله: "وقال الليث حدثني يونس" وصله الذهلي في "الزهريات" ولليث فيه إسناد آخر تقدم قبل ثلاثة أبواب.
"خاتمة": اشتمل كتاب الصلح من الأحاديث المرفوعة على أحد وثلاثين حديثا، المعلق منها اثنا عشر حديثا والبقية موصولة، المكرر منها فيه وفيما مضى تسعة عشر حديثا والخالص اثنا عشر حديثا، وافقه مسلم على تخريجها سوى حديث أبي بكرة في فضل الحسن، وحديث عوف والمسور المعلقين، وفيه من الآثار عن الصحابة ومن بعدهم ثلاثة آثار.

(5/311)


كتاب الشروط
باب ما يجوز من الشروط في الإسلام والأحكام والمبايعة
...
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
54 - كتاب الشروط
1 - باب: مَا يَجُوزُ مِنْ الشُّرُوطِ فِي الإِسْلاَمِ وَالأَحْكَامِ وَالْمُبَايَعَةِ
2712 ، 2711- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ مَرْوَانَ وَالْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يُخْبِرَانِ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَمَّا كَاتَبَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو يَوْمَئِذٍ كَانَ فِيمَا اشْتَرَطَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لاَ يَأْتِيكَ مِنَّا أَحَدٌ وَإِنْ كَانَ عَلَى دِينِكَ إِلاَّ رَدَدْتَهُ إِلَيْنَا وَخَلَّيْتَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ فَكَرِهَ الْمُؤْمِنُونَ ذَلِكَ وَامْتَعَضُوا مِنْهُ وَأَبَى سُهَيْلٌ إِلاَّ ذَلِكَ فَكَاتَبَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ فَرَدَّ يَوْمَئِذٍ أَبَا جَنْدَلٍ إِلَى أَبِيهِ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو وَلَمْ يَأْتِهِ أَحَدٌ مِنْ الرِّجَالِ إِلاَّ رَدَّهُ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا وَجَاءَتْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ وَكَانَتْ أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ مِمَّنْ خَرَجَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ وَهِيَ عَاتِقٌ فَجَاءَ أَهْلُهَا يَسْأَلُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَرْجِعَهَا إِلَيْهِمْ فَلَمْ يَرْجِعْهَا إِلَيْهِمْ لِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِنَّ : {إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ - إلى قوله - وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [1الممتحنة]
2713- قَالَ عُرْوَةُ فَأَخْبَرَتْنِي عَائِشَةُ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَمْتَحِنُهُنَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ – إِلَى - غَفُورٌ رَحِيمٌ} قَالَ عُرْوَةُ قَالَتْ عَائِشَةُ فَمَنْ أَقَرَّ بِهَذَا الشَّرْطِ مِنْهُنَّ قَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ بَايَعْتُكِ كَلاَمًا يُكَلِّمُهَا بِهِ وَاللَّهِ مَا مَسَّتْ يَدُهُ يَدَ امْرَأَةٍ قَطُّ فِي الْمُبَايَعَةِ وَمَا بَايَعَهُنَّ إِلاَّ بِقَوْلِهِ"
[الحديث 2713- أطرافه في: 2733 ، 4182 ، 4891 ، 5288 ، 7214]
2714- حدثنا أبو نعيم حدثنا سفيان عن زياد بن علاقة قال: سمعت جريرا رضي الله عنه يقول: "بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم فاشترط علي: والنصح لكل مسلم"
2715- حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن إسماعيل قال حدثني قيس بن أبي حازم عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: "بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم"
قوله: "باب ما يجوز من الشروط في الإسلام والأحكام والمبايعة" كذا لأبي ذر، وسقط كتاب الشروط لغيره. والشروط جمع شرط بفتح أوله وسكون الراء وهو ما يستلزم نفيه نفي أمر آخر غير السبب، والمراد به هنا بيان

(5/312)


ما يصح منها مما لا يصح. وقوله: "في الإسلام" أي عند الدخول فيه، فيجوز مثلا أن يشترط الكافر أنه إذا أسلم لا يكلف بالسفر من بلد إلى بلد مثلا، ولا يجوز أن يشترط أن لا يصلي مثلا. وقوله: "والأحكام" أي العقود والمعاملات. وقوله: "والمبايعة" من عطف الخاص على العام. قوله: "يخبران عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم" هكذا قال عقيل عن الزهري واقتصر غيره على رواية الحديث عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم، وقد تبين برواية عقيل أنه عنهما مرسل، وهو كذلك لأنهما لم يحضرا القصة، وعلى هذا فهو من مسند من لم يسم من الصحابة فلم يصب من أخرجه من أصحاب الأطراف في مسند المسور أو مروان، لأن مروان لا يصح له سماع من النبي صلى الله عليه وسلم ولا صحبة، وأما المسور فصح سماعه منه لكنه إنما قدم مع أبيه وهو صغير بعد الفتح وكانت هذه القصة قبل ذلك بسنتين. قوله: "لما كاتب سهيل بن عمرو" هكذا اقتضب هذه القصة من الحديث الطويل، وسيأتي بعد أبواب بطوله من وجه آخر عن ابن شهاب، ويأتي الكلام عليه مستوفى هناك. وقوله: "فامتعضوا" بعين مهملة وضاد معجمة أي أنفوا وشق عليهم، قال الخليل: معض بكسر العين المهملة والضاد المعجمة من الشيء وامتعض: توجع منه. وقال ابن القطاع: شق عليه وأنف منه. ووقع من الرواة اختلاف في ضبط هذه اللفظة، فالجمهور على ما هنا، والأصيلي والهمداني بظاء مشالة، وعند القابسي امعضوا بتشديد الميم وكذا العبدوسي، وعن النسفي انغضوا بنون وغين معجمة وضاد غير مشالة، قال عياض: وكلها تغييرات، حتى وقع عند بعضهم انفضوا بفاء وتشديد، وبعضهم أغيظوا من الغيظ. وقوله: "قال عروة فأخبرتني عائشة" هو متصل بالإسناد المذكور أولا، وسيأتي شرحه مستوفى في أواخر النكاح، ومضى الكلام على حديث جرير في أواخر كتاب الإيمان.

(5/313)


2 - باب: إِذَا بَاعَ نَخْلًا قَدْ أُبِّرَتْ
2716- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "مَنْ بَاعَ نَخْلًا قَدْ أُبِّرَتْ فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ إِلاَّ أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ"
قوله: "باب إذا باع نخلا قد أبرت" زاد أبو ذر عن الكشميهني: "ولم يشترط الثمن" أي المشتري. وذكر فيه حديث ابن عمر، وقد تقدم شرحه في كتاب البيوع، ولم يذكر جواب الشرط اكتفاء بما في الخبر.

(5/313)


3 - باب: الشُّرُوطِ فِي الْبُيُوعِ
2717- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَخْبَرَتْهُ "أَنَّ بَرِيرَةَ جَاءَتْ عَائِشَةَ تَسْتَعِينُهَا فِي كِتَابَتِهَا وَلَمْ تَكُنْ قَضَتْ مِنْ كِتَابَتِهَا شَيْئًا قَالَتْ لَهَا عَائِشَةُ ارْجِعِي إِلَى أَهْلِكِ فَإِنْ أَحَبُّوا أَنْ أَقْضِيَ عَنْكِ كِتَابَتَكِ وَيَكُونَ وَلاَؤُكِ لِي فَعَلْتُ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ بَرِيرَةُ إِلَى أَهْلِهَا فَأَبَوْا وَقَالُوا إِنْ شَاءَتْ أَنْ تَحْتَسِبَ عَلَيْكِ فَلْتَفْعَلْ وَيَكُونَ لَنَا وَلاَؤُكِ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهَا ابْتَاعِي فَأَعْتِقِي فَإِنَّمَا الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ"

(5/313)


4 - باب: إِذَا اشْتَرَطَ الْبَائِعُ ظَهْرَ الدَّابَّةِ إِلَى مَكَانٍ مُسَمًّى جَازَ
2718- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ قَالَ سَمِعْتُ عَامِرًا يَقُولُ حَدَّثَنِي جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَسِيرُ عَلَى جَمَلٍ لَهُ قَدْ أَعْيَا فَمَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضَرَبَهُ فَدَعَا لَهُ فَسَارَ بِسَيْرٍ لَيْسَ يَسِيرُ مِثْلَهُ ثُمَّ قَالَ بِعْنِيهِ بِوَقِيَّةٍ قُلْتُ لاَ ثُمَّ قَالَ بِعْنِيهِ بِوَقِيَّةٍ فَبِعْتُهُ فَاسْتَثْنَيْتُ حُمْلاَنَهُ إِلَى أَهْلِي فَلَمَّا قَدِمْنَا أَتَيْتُهُ بِالْجَمَلِ وَنَقَدَنِي ثَمَنَهُ ثُمَّ انْصَرَفْتُ فَأَرْسَلَ عَلَى إِثْرِي قَالَ مَا كُنْتُ لِآخُذَ جَمَلَكَ، فَخُذْ جَمَلَكَ ذَلِكَ فَهُوَ مَالُكَ"
قَالَ شُعْبَةُ عَنْ مُغِيرَةَ عَنْ عَامِرٍ عَنْ جَابِرٍ أَفْقَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ظَهْرَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ وَقَالَ إِسْحَاقُ عَنْ جَرِيرٍ عَنْ مُغِيرَةَ "فَبِعْتُهُ عَلَى أَنَّ لِي فَقَارَ ظَهْرِهِ حَتَّى أَبْلُغَ الْمَدِينَةَ وَقَالَ عَطَاءٌ وَغَيْرُهُ لَكَ ظَهْرُهُ إِلَى الْمَدِينَةِ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ "شَرَطَ ظَهْرَهُ إِلَى الْمَدِينَة"ِ وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ جَابِرٍ وَلَكَ ظَهْرُهُ حَتَّى تَرْجِعَ وَقَالَ أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ "أَفْقَرْنَاكَ ظَهْرَهُ إِلَى الْمَدِينَة"ِ وَقَالَ الأَعْمَشُ عَنْ سَالِمٍ عَنْ جَابِرٍ تَبَلَّغْ عَلَيْهِ إِلَى أَهْلِكَ وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ وَابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ وَهْبٍ عَنْ جَابِرٍ "اشْتَرَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَقِيَّةٍ". وَتَابَعَهُ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ جَابِرٍ وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ وَغَيْرِهِ عَنْ جَابِرٍ أَخَذْتُهُ بِأَرْبَعَةِ دَنَانِيرَ وَهَذَا يَكُونُ وَقِيَّةً عَلَى حِسَابِ الدِّينَارِ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَلَمْ يُبَيِّنْ الثَّمَنَ مُغِيرَةُ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ جَابِرٍ وَابْنُ الْمُنْكَدِرِ وَأَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ وَقَالَ الأَعْمَشُ عَنْ سَالِمٍ عَنْ "جَابِرٍ "وَقِيَّةُ ذَهَبٍ" وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ سَالِمٍ عَنْ جَابِرٍ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ" وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ قَيْسٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مِقْسَمٍ عَنْ جَابِرٍ "اشْتَرَاهُ بِطَرِيقِ تَبُوكَ أَحْسِبُهُ قَالَ بِأَرْبَعِ أَوَاقٍ". وَقَالَ أَبُو نَضْرَةَ عَنْ جَابِرٍ اشْتَرَاهُ بِعِشْرِينَ دِينَارًا وَقَوْلُ الشَّعْبِيِّ "بِوَقِيَّةٍ" أَكْثَرُ. الِاشْتِرَاطُ أَكْثَرُ وَأَصَحُّ عِنْدِي قَالَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
قوله: "باب إذا اشترط البائع ظهر الدابة إلى مكان مسمى جاز" هكذا جزم بهذا الحكم لصحة دليله عنده، وهو مما اختلف فيه وفيما يشبهه كاشتراط سكنى الدار وخدمة العبد، فذهب الجمهور إلى بطلان البيع لأن الشرط المذكور ينافي مقتضى العقد. وقال الأوزاعي وابن شبرمة وأحمد وإسحاق وأبو ثور وطائفة يصح البيع ويتنزل فيه الشرط منزلة الاستثناء لأن المشروط إذا كان قدره معلوما صار كما لو باعه بألف إلا خمسين درهما مثلا، ووافقهم مالك في الزمن اليسير دون الكثير، وقيل حده عنده ثلاثة أيام، وحجتهم حديث الباب، وقد رجح البخاري فيه الاشتراط كما سيأتي آخر كلامه، وأجاب عنه الجمهور بأن ألفاظه اختلفت: فمنهم من ذكر فيه الشرط، ومنهم من

(5/314)


ذكر فيه ما يدل عليه، ومنهم من ذكر ما يدل على أنه كان بطريق الهبة، وهي واقعة عين يطرقها الاحتمال. وقد عارضه حديث عائشة في قصة بريرة ففيه بطلان الشرط المخالف لمقتضى العقد كما تقدم بسطه في آخر العتق، وصح من حديث جابر أيضا النهي عن بيع الثنيا أخرجه أصحاب السنن وإسناده صحيح؛ وورد النهي عن بيع وشرط، وأجيب بأن الذي ينافي مقصود البيع ما إذا اشترط مثلا في بيع الجارية أن لا يطأها وفي الدار أن لا يسكنها وفي العبد أن لا يستخدمه وفي الدابة أن لا يركبها، أما إذا اشترط شيئا معلوما لوقت معلوم فلا بأس به، وأما حديث النهي عن الثنيا ففي نفس الحديث: "إلا أن يعلم" فعلم أن المراد أن النهي إنما وقع عما كان مجهولا، وأما حديث النهي عن بيع وشرط ففي إسناده مقال وهو قابل للتأويل، وسيأتي مزيد بسط لذلك في آخر الكلام على هذا الحديث إن شاء الله تعالى. قوله: "سمعت عامرا" هو الشعبي. قوله: "أنه كان يسير على جمل له قد أعيا" أي تعب، في رواية ابن نمير عن زكريا عند مسلم: "أنه كان يسير على جمل فأعيا فأراد أن يسيبه" أي يطلقه وليس المراد أن يجعله سائبة لا يركبه أحد كما كانوا يفعلون في الجاهلية لأنه لا يجوز في الإسلام، ففي أول رواية مغيرة عن الشعبي في الجهاد "غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلاحق بي وتحتي ناضح لي قد أعيا فلا يكاد يسير" والناضح بنون ومعجمة ثم مهملة هو الجمل الذي يستقى عليه سمي بذلك لنضحه بالماء حال سقيه. واختلف في تعيين هذه الغزوة كما سيأتي بعد هذا، ووقع عند البزار من طريق أبي المتوكل عن جابر أن الجمل كان أحمر. قوله: "فمر النبي صلى الله عليه وسلم فضربه فدعا له" كذا فيه بالفاء فيهما كأنه عقب الدعاء له بضربه. ولمسلم وأحمد من هذا الوجه "فضربه برحله ودعا له" وفي رواية يونس بن بكير عن زكريا عند الإسماعيلي: "فضربه رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا له فمشى مشية ما مشى قبل ذلك مثلها" وفي رواية مغيرة المذكورة "فزجره ودعا له" وفي رواية عطاء وغيره عن جابر المتقدمة في الوكالة "فمر بي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من هذا؟ قلت: جابر بن عبد الله قال: ما لك؟ قلت: إني على جمل ثفال. فقال: أمعك قضيب؟ قلت: نعم. قال: أعطنيه، فأعطيته فضربه فزجره فكان من ذلك المكان من أول القوم" وللنسائي من هذا الوجه "فأزحف فزجره النبي صلى الله عليه وسلم فانبسط حتى كان أمام الجيش" وفي رواية وهب بن كيسان عن جابر المتقدمة في البيوع "فتخلف. فنزل فحجنه بمحجنة ثم قال: اركب، فركبت، فقد رأيته أكفه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وعند أحمد من هذا الوجه "فقلت: يا رسول الله أبطأ بي جملي هذا، قال: أنخه، وأناخ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: أعطني هذه العصا - أو اقطع لي عصا من شجرة - ففعلت، فأخذها فنخسه بها نخسات فقال: اركب، فركبت " وللطبراني من رواية زيد بن أسلم عن جابر فأبطأ علي حتى ذهب الناس، فجعلت أرقبه ويهمني شأنه، فإذا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أجابر؟ قلت: نعم. قال: ما شأنك؟ قلت: أبطأ علي جملي، فنفث فيها - أي العصا - ثم مج من الماء في نحره ثم ضربه بالعصا فوثب" ولابن سعد من هذا الوجه "ونضح ماء في وجهه ودبره وضربه بعصية فانبعث، فما كدت أمسكه" وفي رواية أبي الزبير عن جابر عند مسلم: "فكنت بعد ذلك أحبس خطامه لأسمع حديثه" وله من طريق أبي نضرة عن جابر "فنخسه ثم قال: اركب بسم الله" زاد في رواية مغيرة المذكورة "فقال كيف ترى بعيرك؟ قلت بخير، قد أصابته بركتك". قوله: "ثم قال بعنيه بأوقية: قلت لا" في رواية أحمد "فكرهت أن أبيعه" وفي رواية مغيرة المذكورة "قال أتبيعنيه؟ فاستحييت ولم يكن لنا ناضح غيره، فقلت. نعم" وللنسائي من هذا الوجه "وكانت لي إليه حاجة شديدة" ولأحمد من رواية نبيح وهو بالنون والموحدة والمهملة مصغر وفي رواية عطاء قال: "بعنيه، قلت بل هو لك يا رسول الله، قال: بعنيه" زاد النسائي من طريق أبي الزبير قال: "اللهم اغفر

(5/315)


له، اللهم ارحمه" ولابن ماجه من طريق أبي نضرة عن جابر "فقال أتبيع ناضحك هذا والله يغفر لك" زاد النسائي من هذا الوجه "وكانت كلمة تقولها العرب: افعل كذا والله يغفر لك". ولأحمد "قال سليمان - يعني بعض رواته - فلا أدري كم من مرة" يعني قال له والله يغفر لك، وللنسائي من طريق أبي الزبير عن جابر "استغفر لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة البعير خمسا وعشرين مرة" وفي رواية وهب بن كيسان عن جابر عند أحمد "أتبيعني جملك هذا يا جابر؟ قلت: بل أهبه لك. قال: لا، ولكن بعنيه" وفي كل ذلك رد لقول ابن التين إن قوله: "لا" ليس بمحفوظ في هذه القصة. قوله: "بعنيه بوقية" في رواية سالم عن جابر عند أحمد "فقال بعنيه، قلت: هو لك، قال: قد أخذته بوقية" ولابن سعد وأبي عوانة من هذا الوجه "فلما أكثر علي قلت: إن لرجل علي أوقية من ذهب هو لك بها، قال: نعم" والوقية من الفضة كانت في عرف ذلك الزمان أربعين درهما وفي عرف الناس بعد ذلك عشرة دراهم وفي عرف أهل مصر اليوم اثنا عشر درهما وسيأتي بيان الاختلاف في قدر الثمن في آخر الكلام على هذا الحديث: قوله: "فاستثنيت حملانه إلى أهلي" الحملان بضم المهملة الحمل والمفعول محذوف، أي استثنيت حمله إياي، وقد رواه الإسماعيلي بلفظ: "واستثنيت ظهره إلى أن نقدم" ولأحمد من طريق شريك عن مغيرة " اشترى مني بعيرا على أن يفقرني ظهره سفري ذلك" وذكر المصنف الاختلاف في ألفاظه على جابر، وسيأتي بيانه. قوله: "فلما قدمنا" زاد مغيرة عن الشعبي كما مضى في الاستقراض "فلما دنونا من المدينة استأذنته فقال: تزوجت بكرا أم ثيبا" وسيأتي الكلام عليه في النكاح إن شاء الله تعالى، وزاد فيه: "فقدمت المدينة فأخبرت خالي ببيع الجمل فلامني". ووقع عند أحمد من رواية نبيح المذكورة "فأتيت عمتي بالمدينة فقلت لها: ألم تري أني بعت ناضحنا، فما رأيتها أعجبها ذلك" وسيأتي القول في بيان تسمية خاله في أوائل الهجرة إن شاء الله تعالى. وجزم ابن لقطة بأنه جد بفتح الجيم وتشديد الدال ابن قيس، وأما عمته فاسمها هند بنت عمرو، ويحتمل أنهما جميعا لم يعجبهما بيعه لما تقدم من أنه لم يكن عنده ناضح غيره. وأخرجه من هذا الوجه في كتاب الجهاد بلفظ: "ثم قال: ائت أهلك، فتقدمت الناس إلى المدينة" وفي رواية وهب بن كيسان في أوائل البيوع " وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة قبلي، وقدمت بالغداة فجئت إلى المسجد فوجدته فقال: الآن قدمت؟ قلت: نعم، قال: فدع الجمل وادخل فصل ركعتين" وظاهرهما التناقض، لأن في إحداهما أنه تقدم الناس إلى المدينة وفي الأخرى أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم قبله، فيحتمل في الجمع بينهما أن يقال أنه لا يلزم من قوله فتقدمت الناس أن يستمر سبقه لهم لاحتمال أن يكونوا لحقوه بعد أن تقدمهم إما لنزوله لراحة أو نوم أو غير ذلك، ولعله امتثل أمره صلى الله عليه وسلم بأن لا يدخل ليلا فبات دون المدينة واستمر النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن دخلها سحرا ولم يدخلها جابر حتى طلع النهار، والعلم عند الله تعالى. قوله: "أتيته بالجمل" في رواية مغيرة "فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة غدوت إليه بالبعير" ولأبي المتوكل عن جابر كما سيأتي في الجهاد "فدخلت - يعني المسجد - إليه وعقلت الجمل فقلت: هذا جملك، فخرج فجعل يطيف بالجمل ويقول: جملنا، فبعث إلي أواق من ذهب ثم قال: استوفيت الثمن؟ قلت نعم". قوله: "ونقدني ثمنه ثم انصرفت" في رواية مغيرة الماضية في الاستقراض فأعطاني ثمن الجمل والجمل وسهمي مع القوم" وفي روايته الآتية في الجهاد "فأعطاني ثمنه ورده علي" وهي كلها بطريق المجاز لأن العطية إنما وقعت له بواسطة بلال كما رواه مسلم من هذا الوجه "فلما قدمت المدينة قال لبلال: أعطه أوقية من ذهب وزده، قال فأعطاني أوقية وزادني قيراطا، فقلت لا تفارقني زيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحديث، وفيه ذكر أخذ أهل الشام له يوم

(5/316)


الحرة، وتقدم نحوه في الوكالة للمصنف من طريق عطاء وغيره عن جابر، ولأحمد وأبي عوانة من طريق وهب بن كيسان "فوالله ما زال ينمي ويزيد عندنا ونرى مكانه من بيتنا حتى أصيب أمس فيما أصيب للناس يوم الحرة" وفي رواية أبي الزبير عن جابر عند النسائي: "فقال: يا بلال أعطه ثمنه، فلما أدبرت دعاني فخفت أن يرده علي فقال: هو لك" وفي رواية وهب بن كيسان في النكاح "فأمر بلالا أن يزن لي أوقية فوزن بلال وأرجح لي في الميزان، فانطلقت حتى وليت فقال: أدع جابرا، فقلت. الآن يرد علي الجمل، ولم يكن شيء أبغض إلي منه فقال: خذ جملك ولك ثمنه" وهذه الرواية مشكلة مع قوله المتقدم "ولم يكن لنا ناضح غيره: "وقوله: "وكانت لي إليه حاجة شديدة ولكني استحييت منه" ومع تنديم خاله له على بيعه، ويمكن الجمع بأن ذلك كان في أول الحال، وكان الثمن أوفر من قيمته وعرف أنه يمكن أن يشتري به أحسن منه ويبقى له بعض الثمن فلذلك صار يكره رده عليه. ولأحمد من طريق أبي هبيرة عن جابر "فلما أتيته دفع إلي البعير وقال: هو لك، فمررت برجل من اليهود فأخبرته فجعل يعجب ويقول: اشتري منك البعير ودفع إليك الثمن ثم وهبه لك؟ قلت: نعم". قوله: "ما كنت لآخذ جملك، فخذ جملك ذلك فهو مالك" كذا وقع هنا، وقد رواه علي بن عبد العزيز عن أبي نعيم شيخ البخاري فيه بلفظ: "أتراني إنما ماكستك لآخذ جملك، خذ جملك ودراهمك هما لك" أخرجه أبو نعيم في "المستخرج" عن الطبراني عنه، وكذا أخرجه مسلم من طريق عبد الله بن نمير عن زكريا، لكن قال في آخره: "فهو لك" وعليها اقتصر صاحب "العمدة" ووقع لأحمد عن يحيى القطان عن زكريا بلفظ: "قاله أطننت حين ماكستك أذهب بجملك؟ خذ جملك وثمنه فهما لك" وهذه الرواية وكذلك رواية البخاري توضح أن اللام في قوله: "لآخذ" للتعليل وبعدها همزة ممدوده، ووقع لبعض رواة مسلم كما حكاه عياض لا بصيغة النفي، "خذ" بصيغة الأمر، ويلزم عليه التكرار في قوله: "خذ جملك" وقوله: "ماكستك" هو من المماكسة أي المناقصة في الثمن، وأشار بذلك إلى ما وقع بينهما من المساومة عند البيع كما تقدم، قال ابن الجوزي: هذا من أحسن التكرم، لأن من باع شيئا فهو في الغالب محتاج لثمنه، فإذا تعوض من الثمن بقي في قلبه من المبيع أسف على فراقه كما قيل:
وقد تخرج الحاجات يا أم مالك ... نفائس من رب بهن ضنين
فإذا رد عليه المبيع مع ثمنه ذهب الهم عنه وثبت فرحه وقضيت حاجته، فكيف مع ما انضم إلى ذلك من الزيادة في الثمن. قوله: "وقال شعبة عن مغيرة" أي ابن مقسم الضبي "عن عامر" هو الشعبي "عن جابر: أفقرني ظهره" بتقديم الفاء على القاف أي حملني على فقاره، والفقار عظام الظهر، ورواية شعبة هذه وصلها البيهقي من طريق يحيى بن كثير عنه. قوله: "وقال إسحاق" أي ابن إبراهيم "عن جرير عن مغيرة: فبعته على أن في فقار ظهره حتى أبلغ المدينة" وهذه الرواية تأتي موصولة في الجهاد، وهي دالة على الاشتراط، بخلاف رواية شعبة عن مغيرة فإنها لا تدل عليه، وقد رواه أبو عوانة عن مغيرة عند النسائي بلفظ محتمل قال فيه: "قال بعنيه ولك ظهره حتى تقدم" ووافق زكريا على ذكر الاشتراط فيه يسار عن الشعبي أخرجه أبو عوانة في صحيحه بلفظ: "فاشترى مني بعيرا على أن لي ظهره حتى أقدم المدينة". قوله: "وقال عطاء وغيره" أي عن جابر "ولك ظهره إلى المدينة" تقدم موصولا مطولا في الوكالة ولفظه: "قال بعنيه، قلت: هو لك، قال: قد أخذته بأربعة دنانير ولك ظهره إلى المدينة" وليس

(5/317)


فيها أيضا دلالة على الاشتراط. قوله: "وقال محمد بن المنكدر عن جابر: شرط لي ظهره إلى المدينة" وصله البيهقي من طريق المنكدر بن محمد بن المنكدر عن أبيه به، ووصله الطبراني من طريق عثمان بن محمد الأخنسي عن محمد بن المنكدر بلفظ: "فبعته إياه وشرطته - أى ركوبه - إلى المدينة". قوله: "وقال زيد بن أسلم عن جابر: ولك ظهره حتى ترجع" وصله الطبراني والبيهقي من طريق عبد الله بن زيد بن أسلم عن أبيه بتمامه. قوله: "وقال أبو الزبير عن جابر: أفقرناك ظهره إلى المدينة" وصله البيهقي من طريق حماد بن زيد عن أيوب عن أبي الزبير به، وهو عند مسلم من هذا الوجه بلفظ: "فبعته منه بخمس أواق، قلت: على أن لي ظهره إلى المدينة، قال: ولك ظهره إلى المدينة" وللنسائي من طريق ابن عيينة عن أيوب قال: "قد أخذته بكذا وكذا وقد أعرتك ظهره إلى المدينة". قوله: "وقال الأعمش عن سالم" هو ابن أبي الجعد "عن جابر تبلغ به إلى أهلك" وصله أحمد ومسلم وعبد بن حميد وغيرهم من طريق الأعمش، وهذا لفظ عبد بن حميد، ولفظ ابن سعد والبيهقي "تبلغ عليه إلى أهلك" ولفظ مسلم: "فتبلغ عليه إلى المدينة" ولفظ أحمد "قد أخذته بوقية، اركبه، فإذا قدمت فائتنا به" وهي متقاربة. قوله: "قال أبو عبد الله" هو المصنف: "الاشتراط أكثر وأصح عندي" أي أكثر طرقا وأصح مخرجا، وأشار بذلك إلى أن الرواة اختلفوا عن جابر في هذه الواقعة هل وقع الشرط في العقد عند البيع أو كان ركوبه للجمل بعد بيعه إباحة من النبي صلى الله عليه وسلم بعد شرائه على طريق العارية، وأصرح ما وقع في ذلك رواية النسائي المذكورة، لكن أختلف فيها حماد بن زيد وسفيان بن عيينة، وحماد أعرف بحديث أيوب من سفيان، والحاصل أن الذين ذكروه بصيغة الاشتراط أكثر عددا من الذين خالفوهم وهذا وجه من وجوه الترجيح فيكون أصح، ويترجح أيضا بأن الذين رووه بصيغة الاشتراط معهم زيادة وهما حفاظ فتكون حجة، وليس رواية من لم يذكر الاشتراط منافية لرواية من ذكره، لأن قوله: "لك ظهره" و "أفقرناك ظهره" و "تبلغ عليه" لا يمنع وقوع الاشتراط قبل ذلك. وقد رواه عن جابر بمعنى الاشتراط أيضا أبو المتوكل عند أحمد ولفظه: "فبعني ولك ظهره إلى المدينة" لكن أخرجه المصنف في الجهاد من طريق أخرى عن أبي المتوكل فلم يتعرض للشرط إثباتا ولا نفيا، ورواه أحمد من هذا الوجه بلفظ: "أتبيعني جملك؟ قلت: نعم. قال: أقدم عليه المدينة" ورواه أحمد من طريق أبي هبيرة عن جابر بلفظ: "فاشترى مني بعيرا فجعل لي ظهره حتى أقدم المدينة" ورواه ابن ماجه وغيره من طريق أبي نضرة عن جابر بلفظ: "فقلت يا رسول الله هو ناضحك إذا أتيت المدينة". ورواه أيضا عن جابر نبيح العنزي عند أحمد فلم يذكر الشرط ولفظه: "قد أخذته بوقية، قال فنزلت إلى الأرض فقال: مالك؟ قلت: جملك. قال اركب، فركبت حتى أتيت المدينة" ورواه أيضا من طريق وهب بن كيسان عن جابر فلم يذكر الشرط قال فيه: "حتى بلغ أوقية، قلت قد رضيت، قال. نعم، قلت: فهو لك، قال: قد أخذته. ثم قال: يا جابر هل تزوجت" الحديث. وما جنح إليه المصنف من ترجيح رواية الاشتراط هو الجاري على طريقة المحققين من أهل الحديث لأنهم لا يتوقفون عن تصحيح المتن إذا وقع فيه الاختلاف إلا إذا تكافأت الروايات، وهو شرط الاضطراب الذي يرد به الخبر، وهو مفقود هنا مع إمكان الترجيح، قال ابن دقيق العيد: إذا اختلفت الروايات وكانت الحجة ببعضها دون بعض توقف الاحتجاج بشرط تعادل الروايات، أما إذا وقع الترجيح لبعضها بأن تكون رواتها أكثر عددا أو أتقن حفظا فيتعين العمل بالراجح، إذ الأضعف لا يكون مانعا من العمل بالأقوى، والمرجوح لا يمنع التمسك بالراجح، وقد جنح الطحاوي إلى تصحيح الاشتراط لكن

(5/318)


تأوله بأن البيع المذكور لم يكن على الحقيقة لقوله في آخره: "أتراني ماكستك إلخ" قال: فإنه يشعر بأن القول المتقدم لم يكن على التبايع حقيقة، ورده القرطبي بأنه دعوى مجردة وتغيير وتحريف لا تأويل، قال: وكيف يصنع قائله في قوله: "بعته منك بأوقية" بعد المساومة؟ وقوله: "قد أخذته" وغير ذلك من الألفاظ المنصوصة في ذلك؟ واحتج بعضهم بأن الركوب إن كان من مال المشتري فالبيع فاسد لأنه شرط لنفسه ما قد ملكه المشتري، وإن كان من ماله ففاسد لأن المشتري لم يملك المنافع بعد البيع من جهة البائع، وإنما ملكها لأنها طرأت في ملكه. وتعقب بأن المنفعة المذكورة قدرت بقدر من ثمن المبيع ووقع البيع بما عداها، ونظيره من باع نخلا قد أبرت واستثنى ثمرتها، والممتنع إنما هو استثناء شيء مجهول للبائع والمشتري، أما لو علماه معا فلا مانع، فيحمل ما وقع في هذه القصة على ذلك. وأغرب ابن حزم فزعم أنه يؤخذ من الحديث أن البيع لم يتم لأن البائع بعد عقد البيع مخير قبل التفرق، فلما قال في آخره: "أتراني ماكستك" دل على أنه كان اختار ترك الأخذ، وإنما اشترط لجابر ركوب جمل نفسه، فليس فيه حجة لمن أجاز الشرط في البيع، ولا يخفى ما في هذا التأويل من التكلف. وقال الإسماعيلي: قوله: "ولك ظهره" وعد قام مقام الشرط لأن وعده لا خلف فيه وهبته لا رجوع فيها لتنزيه الله تعالى له عن دناءة الأخلاق، فلذلك ساغ لبعض الرواة أن يعبر عنه بالشرط، ولا يلزم أن يجوز ذلك في حق غيره. وحاصله أن الشرط لم يقع في نفس العقد وإنما وقع سابقا أو لاحقا، فتبرع بمنفعته أولا كما تبرع برقبته آخرا. ووقع في كلام القاضي أبي الطيب الطبري من الشافعية أن في بعض طرق هذا الخبر "فلما نقدني الثمن شرطت حملاني إلى المدينة" واستدل بها على أن الشرط تأخر عن العقد، لكن لم أقف على الرواية المذكورة، وإن ثبتت فيتعين تأويلها على أن معنى "نقدني الثمن" أي قرره لي واتفقا على تعيينه، لأن الروايات الصحيحة صريحة في أن قبضه الثمن إنما كان بالمدينة، وكذلك يتعين تأويل رواية الطحاوي "أتبيعني جملك هذا إذا قدمنا المدينة بدينار" الحديث، فالمعنى أتبيعني بدينار أوفيكه إذا قدمنا المدينة. وقال المهلب: ينبغي تأويل ما وقع في بعض الروايات من ذكر الشرط على أنه شرط تفضل لا شرط في أصل البيع ليوافق رواية من روى "أفقرناك ظهره" و "أعرتك ظهره" وغير ذلك مما تقدم، قال: ويؤيده أن القصة جرت كلها على وجه التفضل والرفق بجابر، ويؤيده أيضا قول جابر "هو لك، قال: لا بل بعنيه" فلم يقبل منه إلا بثمن رفقا به، وسبق الإسماعيلي إلى نحو هذا، وزعم أن النكتة في ذكر البيع أنه صلى الله عليه وسلم أراد أن يبر جابرا على وجه لا يحصل لغيره طمع في مثله فبايعه في جمله على اسم البيع ليتوفر عليه بره ويبقى البعير قائما على ملكه فيكون ذلك أهنأ لمعروفه. قال: وعلى هذا المعنى أمره بلالا أن يزيده على الثمن زيادة مهمة في الظاهر، فإنه قصد بذلك زيادة الإحسان إليه من غير أن يحصل لغيره تأميل في نظير ذلك. وتعقب بأنه لو كان المعنى ما ذكر لكان الحال باقيا في التأميل المذكور عند رده عليه البعير المذكور والثمن معا، وأجيب بأن حالة السفر غالبا تقتضي قلة الشيء بخلاف حالة الحضر فلا مبالاة عند التوسعة من طمع الآمل. وأقوى هذه الوجوه في نظري ما تقدم نقله عن الإسماعيلي من أنه وعد حل محل الشرط. وأبدى السهيلي في قصة جابر مناسبة لطيفة غير ما ذكره الإسماعيلي، ملخصها أنه صلى الله عليه وسلم لما أخبر جابرا بعد قتل أبيه بأحد أن الله أحياه وقال: "ما تشتهي فأزيدك" أكد صلى الله عليه وسلم الخبر بما يشتهيه فاشترى منه الجمل وهو مطيته بثمن معلوم، ثم وفر عليه الجمل والثمن وزاده على الثمن، كما اشترى الله من المؤمنين أنفسهم بثمن هو الجنة ثم رد عليهم أنفسهم وزادهم كما قال تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} . قوله: "وقال عبيد الله" أي ابن عمر

(5/319)


العمري "وابن إسحاق عن وهب" أي ابن كيسان "عن جابر" أي في هذا الحديث "اشتراه النبي صلى الله عليه وسلم بأوقية" وطريق ابن إسحاق وصلها أحمد وأبو يعلى والبزار مطولة وفيها "قال قد أخذته بدرهم، قلت: إذا تغبنني يا رسول الله، قال: فبدرهمين، قلت: لا، فلم يزل يرفع لي حتى بلغ أوقية" الحديث، ورواية عبيد الله وصلها المؤلف في البيوع ولفظه قال: "أتبيع جملك؟ قلت. نعم، فاشتراه مني بأوقية". قوله: "وتابعه زيد بن أسلم عن جابر" أي في ذكر الأوقية، وقد تقدم أنه موصول عند البيهقي. قوله: "وقال ابن جريج عن عطاء وغيره عن جابر: أخذته بأربعة دنانير" تقدم أنه موصول عند المصنف في الوكالة، وقوله: "وهذا يكون أوقية على حساب الدينار بعشرة" هو من كلام المصنف قصد به الجمع بين الروايتين، وهو كما قال بناء على أن المراد بالأوقية أي من الفضة وهي أربعون درهما، وقوله: "الدينار" مبتدأ وقوله: "بعشرة" خبره أي دينار ذهب بعشرة دراهم فضة، نسب شيخنا ابن الملقن هذا الكلام إلى رواية عطاء ولم أر ذلك في شيء من الطرق لا في البخاري ولا في غيره، وإنما هو من كلام البخاري. قوله: "ولم يبين الثمن مغيرة عن الشعبي عن جابر، وابن المنكدر وأبو الزبير عن جابر" ابن المنكدر معطوف على مغيرة، وأراد أن هؤلاء الثلاثة لم يعينوا الثمن في روايتهم، فأما رواية مغيرة فتقدمت موصولة في الاستقراض وتأتي مطولة في الجهاد وليس فيها ذكر الثمن، وكذا أخرجه مسلم والنسائي وغيرهما، ولذلك لم يعين يسار عن الشعبي في روايته الثمن أخرجه أبو عوانة من طريقه، ورواه أحمد من طريق يسار فقال: "عن أبي هبيرة عن جابر" ولم يعين الثمن في روايته أيضا. وأما ابن المنكدر فوصله الطبراني وليس فيه التعيين أيضا. وأما أبو الزبير فوصله النسائي ولم يعين الثمن، لكن أخرجه مسلم فعين الثمن ولفظه: "فبعته منه بخمس أواق، قلت على أن لي ظهره إلى المدينة" وكذلك أخرجه ابن سعد، ورويناه في "فوائد تمام" من طريق سلمة بن كهيل عن أبي الزبير فقال فيه: "أخذته منك بأربعين درهما". قوله: "وقال الأعمش عن سالم" أي ابن أبي الجعد "عن جابر: أوقية ذهب" وصله أحمد ومسلم وغيرهما هكذا. وفي رواية لأحمد صحيحة "قد أخذته بوقية" ولم يصفها لكن من وصفها حافظ فزيادته مقبولة. قوله: "وقال أبو إسحاق عن سالم" أي ابن أبي الجعد "عن جابر بمائتي درهم. وقال داود بن قيس عن عبيد الله بن مقسم عن جابر: اشتراه بطريق تبوك، أحسبه قال بأربع أواق". أما رواية أبي إسحاق فلم أقف على من وصلها، ولم تختلف نسخ البخاري أنه قال فيها. "بمائتي درهم". ووقع للنووي أن في بعض روايات البخاري "ثمانمائة درهم" وليس ذلك فيه أصلا، ولعله أراد هذه الرواية فتصحفت. وأما رواية داود بن قيس فجزم بزمان القصة وشك في مقدار الثمن، فأما جزمه بأن القصة وقعت في طريق تبوك فوافقه على ذلك علي بن زيد بن جدعان عن أبي المتوكل عن جابر "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بجابر في غزوة تبوك" فذكر الحديث، وقد أخرجه المصنف من وجه آخر عن أبي المتوكل فقال: "في بعض أسفاره" ولم يعينه، وكذا أبهمه أكثر الرواة عن جابر، ومنهم من قال: "كنت في سفر" ومنهم من قال: "كنت في غزوة تبوك" ولا منافاة بينهما. وفي رواية أبي المتوكل في الجهاد "لا أدري غزوة أو عمرة" ويؤيد كونه كان في غزوة قوله في آخر رواية أبي عوانة عن مغيرة "فأعطاني الجمل وثمنه وسهمي مع القوم" لكن جزم ابن إسحاق عن وهب بن كيسان في روايته المشار إليها قبل بأن ذلك كان في غزوة ذات الرقاع من نخل، وكذا أخرجه الواقدي من طريق عطية بن عبد الله بن أنيس عن جابر، وهي الراجحة في نظري لأن أهل المغازي أضبط لذلك من غيرهم، وأيضا فقد وقع في رواية الطحاوي أن

(5/320)


ذلك وقع في رجوعهم من طريق مكة إلى المدينة، وليست طريق تبوك ملاقية لطريق مكة بخلاف طريق غزوة ذات الرقاع، وأيضا فإن في كثير من طرقه أنه صلى الله عليه وسلم سأله في تلك القصة "هل تزوجت؟ قال: نعم، قال: أتزوجت بكرا أم ثيبا" الحديث، وفيه اعتذاره بتزوجه الثيب بأن أباه استشهد بأحد وترك أخواته فتزوج ثيبا لتمشطهن وتقوم عليهن، فأشعر بأن ذلك كان بالقرب من وفاة أبيه، فيكون وقوع القصة في ذات الرقاع أظهر من وقوعها في تبوك، لأن ذات الرقاع كانت بعد أحد بسنة واحدة على الصحيح، وتبوك كانت بعدها بسبع سنين والله أعلم، لا جرم جزم البيهقي في "الدلائل" بما قال ابن إسحاق. قوله: "وقال أبو نضرة عن جابر اشتراه بعشرين دينارا" وصله ابن ماجه من طريق الجريري عنه بلفظ: "فما زال يزيدني دينارا دينارا حتى بلغ عشرين دينارا" وأخرجه مسلم والنسائي من طريق أبي نضرة فأبهم الثمن. قوله: "وقول الشعبي بأوقية أكثر" أي موافقة لغيره من الأقوال، والحاصل من الروايات أوقية وهي رواية الأكثر، وأربعة دنانير وهي لا تخالفها كما تقدم، وأوقية ذهب وأربع أواق وخمس أواق ومائتا درهم وعشرون دينارا هذا ما ذكر المصنف؛ ووقع عند أحمد والبزار من رواية علي بن زيد عن أبي المتوكل "ثلاثة عشر دينارا" وقد جمع عياض وغيره بين هذه الروايات فقال: سبب الاختلاف أنهم رووا بالمعنى، والمراد أوقية الذهب، والأربع أواق والخمس بقدر ثمن الأوقية الذهب، والأربعة دنانير مع العشرين دينارا محمولة على اختلاف الوزن والعدد، وكذلك رواية الأربعين درهما مع المائتي درهم، قال: وكأن الإخبار بالفضة عما وقع عليه العقد، وبالذهب عما حصل به الوفاء أو بالعكس ا هـ ملخصا. وقال الداودي: المراد أوقية ذهب، ويحمل عليها قول من أطلق، ومن قال خمس أواق أو أربع أراد من فضة وقيمتها يومئذ أوقية ذهب، قال: ويحتمل أن يكون سبب الاختلاف ما وقع من الزيادة على الأوقية، ولا يخفى ما فيه من التعسف قال القرطبي: اختلفوا في ثمن الجمل اختلافا لا يقبل التلفيق، وتكلف ذلك بعيد عن التحقيق، وهو مبني على أمر لم يصح نقله ولا استقام ضبطه، مع أنه لا يتعلق بتحقيق ذلك حكم، وإنما تحصل من مجموع الروايات أنه باعه البعير بثمن معلوم بينهما وزاده عند الوفاء زيادة معلومة، ولا يضر عدم العلم بتحقيق ذلك. قال الإسماعيلي: ليس اختلافهم في قدر الثمن بضار، لأن الغرض الذي سبق الحديث لأجله بيان كرمه صلى الله عليه وسلم وتواضعه وحنوه على أصحابه وبركة دعائه وغير ذلك، ولا يلزم من وهم بعضهم في قدر الثمن توهينه لأصل الحديث. قلت: وما جنح إليه البخاري من الترجيح أقعد، وبالرجوع إلى التحقيق أسعد، فليعتمد ذلك وبالله التوفيق. وفي الحديث جواز المساومة لمن يعرض سلعته للبيع، والمماكسة في المبيع قبل استقرار العقد، وابتداء المشتري بذكر الثمن، وأن القبض ليس شرطا في صحة البيع، وأن إجابة الكبير بقول "لا" جائز في الأمر الجائز، والتحدث بالعمل الصالح للإتيان بالقصة على وجهها لا على وجه تزكيه النفس وإرادة الفخر. وفيه تفقد الإمام والكبير لأصحابه وسؤاله عما ينزل بهم، وإعانتهم بما تيسر من حال أو مال أو دعاء، وتواضعه صلى الله عليه وسلم. وفيه جواز ضرب الدابة للسير وإن كانت غير مكلفة، ومحله ما إذا لم يتحقق أن ذلك منها من فرط تعب وإعياء، وفيه توقير التابع لرئيسه. وفيه الوكالة في وفاء الديون، والوزن على المشتري، والشراء بالنسيئة. وفيه رد العطية قبل القبض لقول جابر "هو لك، قال لا بل بعنيه" وفيه جواز إدخال الدواب والأمتعة إلى رحاب المسجد وحواليه، واستدل من ذلك على طهارة أبوال الإبل، ولا حجة

(5/321)


فيه. وفيه المحافظة على ما يتبرك به لقول جابر. "لا تفارقني الزيادة". وفيه جواز الزيادة في الثمن عند الأداء، والرجحان في الوزن لكن برضا المالك، وهي هبة مستأنفة حتى لو ردت السلعة بعيب مثلا لم يجب ردها، أو هي تابعة للثمن حتى ترد فيه احتمال. وفيه فضيلة لجابر حيث ترك حظ نفسه وامتثل أمر النبي صلى الله عليه وسلم له ببيع جمله مع احتياجه إليه. وفيه معجزة ظاهرة للنبي صلى الله عليه وسلم، وجواز إضافة الشيء إلى من كان مالكه قبل ذلك باعتبار ما كان، واستدل به على صحة البيع بغير تصريح بإيجاب ولا قبول، لقوله فيه: "قال بعنيه بأوقية، فبعته" ولم يذكر صيغة. ولا حجة فيه لأن عدم الذكر لا يستلزم عدم الوقوع، وقد وقع في رواية عطاء الماضية في الوكالة "قال بعنيه، قال قد أخذته بأربعة دنانير" فهذا فيه القبول، ولا إيجاب فيه. وفي رواية جرير الآتية في الجهاد "قال بل بعنيه، قلت: لرجل علي أوقية ذهب فهو لك بها، قال: فد أخذته" ففيه الإيجاب والقبول معا. وأبين منها رواية ابن إسحاق عن وهب بن كيسان عند أحمد "قلت قد رضيت، قال: نعم، قلت. فهو لك بها، قال. قد أخذته" فيستدل بها على الاكتفاء في صيغ العقود بالكنايات. "تكميل": آل أمر جمل جابر هذا لما تقدم له من بركة النبي صلى الله عليه وسلم إلى مآل حسن، فرأيت في ترجمة جابر من "تاريخ ابن عساكر"بسنده إلى أبي الزبير عن جابر قال: "فأقام الجمل عندي زمان النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، فعجز، فأتيت به عمر فعرف قصته فقال: اجعله في إبل الصدقة وفي أطيب المراعي، ففعل به ذلك إلى أن مات".

(5/322)


5 - باب: الشُّرُوطِ فِي الْمُعَامَلَةِ
2719- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "قَالَتْ الأَنْصَارُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اقْسِمْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ إِخْوَانِنَا النَّخِيلَ. قَالَ: لاَ. فَقَالَ: تَكْفُونَا الْمَئُونَةَ وَنُشْرِكْكُمْ فِي الثَّمَرَةِ قَالُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا"
2720- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ بْنُ أَسْمَاءَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ الْيَهُودَ أَنْ يَعْمَلُوهَا وَيَزْرَعُوهَا وَلَهُمْ شَطْرُ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا"
قوله: "باب الشروط في المعاملة" أي من مزارعة وغيرها. وذكر فيه حديثين: أحدهما حديث أبي هريرة في توافق المهاجرين أن يكفوا الأنصار المؤونة والعمل ويشركوهم في الثمرة مزارعة وقد تقدم الكلام عليه في "فضل المنيحة" في أواخر الهبة، والشرط المذكور لغوي اعت بره الشارع فصار شرعيا، لأن تقديره إن تكفونا نقسم بينكم. ثانيهما حديث ابن عمر في قصة مزارعة أهل خيبر، ذكره مختصرا، وقد تقدم الكلام عليه في المزارعة.

(5/322)


6 - باب: الشُّرُوطِ فِي الْمَهْرِ عِنْدَ عُقْدَةِ النِّكَاحِ
وَقَالَ عُمَرُ: إِنَّ مَقَاطِعَ الْحُقُوقِ عِنْدَ الشُّرُوطِ وَلَكَ مَا شَرَطْتَ وَقَالَ الْمِسْوَرُ:
"سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ صِهْرًا لَهُ فَأَثْنَى عَلَيْهِ فِي مُصَاهَرَتِهِ فَأَحْسَنَ قَالَ حَدَّثَنِي وَصَدَقَنِي وَوَعَدَنِي فَوَفَى لِي"

(5/322)


7 - باب: الشُّرُوطِ فِي الْمُزَارَعَةِ
2722- حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: سَمِعْتُ حَنْظَلَةَ الزُّرَقِيَّ قَالَ سَمِعْتُ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: "كُنَّا أَكْثَرَ الأَنْصَارِ حَقْلًا فَكُنَّا نُكْرِي الأَرْضَ فَرُبَّمَا أَخْرَجَتْ هَذِهِ وَلَمْ تُخْرِجْ ذِهِ فَنُهِينَا عَنْ ذَلِكَ وَلَمْ نُنْهَ عَنْ الْوَرِقِ"
قوله: "باب الشروط في المزارعة" هذه الترجمة أخص من الماضية قبل بباب، ثم ذكر فيه حديث رافع بن خديج مختصرا، وقد تقدم الكلام عليه مستوفى في المزارعة".

(5/323)


8 - باب: مَا لاَ يَجُوزُ مِنْ الشُّرُوطِ فِي النِّكَاحِ
2723- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لاَ يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ وَلاَ تَنَاجَشُوا وَلاَ يَزِيدَنَّ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ وَلاَ يَخْطُبَنَّ عَلَى خِطْبَتِهِ وَلاَ تَسْأَلْ الْمَرْأَةُ طَلاَقَ أُخْتِهَا لِتَسْتَكْفِئَ إِنَاءَهَا"
قوله: "باب ما لا يجوز من الشروط في النكاح" ذكر فيه حديث أبي هريرة وفيه: "ولا يخطبن على خطبه أخيه" وسيأتي الكلام عليه في كتاب النكاح، وتقدم ما يتعلق به من البيوع في مكانه، وقوله: "طلاق أختها" أي بالنسبة إلى كونهما يصيران ضرتين، أ و المراد أخوة الإسلام لأنها الغالب.

(5/323)


باب الشروط التي لا يحل في الحدود
...
9 - باب: الشُّرُوطِ الَّتِي لاَ تَحِلُّ فِي الْحُدُودِ
2724 ، 2725- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا لَيْثٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا قَالاَ "إِنَّ رَجُلًا مِنْ الأَعْرَابِ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْشُدُكَ اللَّهَ إِلاَّ قَضَيْتَ لِي بِكِتَابِ اللَّهِ فَقَالَ الْخَصْمُ الْآخَرُ - وَهُوَ

(5/323)


10 - باب: مَا يَجُوزُ مِنْ شُرُوطِ الْمُكَاتَبِ إِذَا رَضِيَ بِالْبَيْعِ عَلَى أَنْ يُعْتَقَ
2726- حَدَّثَنَا خَلاَدُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَيْمَنَ الْمَكِّيُّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: "دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: دَخَلَتْ عَلَيَّ بَرِيرَةُ وَهِيَ مُكَاتَبَةٌ فَقَالَتْ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ اشْتَرِينِي فَإِنَّ أَهْلِي يَبِيعُونِي فَأَعْتِقِينِي قَالَتْ: نَعَمْ. قَالَتْ: إِنَّ أَهْلِي لاَ يَبِيعُونِي حَتَّى يَشْتَرِطُوا وَلاَئِي. قَالَتْ: لاَ حَاجَةَ لِي فِيكِ فَسَمِعَ ذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ بَلَغَهُ فَقَالَ مَا شَأْنُ بَرِيرَةَ؟ فَقَالَ: اشْتَرِيهَا فَأَعْتِقِيهَا وَلْيَشْتَرِطُوا مَا شَاءُوا. قَالَتْ فَاشْتَرَيْتُهَا فَأَعْتَقْتُهَا وَاشْتَرَطَ أَهْلُهَا وَلاَءَهَا، فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ وَإِنْ اشْتَرَطُوا مِائَةَ شَرْطٍ"
قوله: "باب ما يجوز من شروط المكاتب إذا رضي بالبيع على أن يعتق" ذكر فيه حديث عائشة في قصة بريرة وقد تقدم الكلام عليه مستوفى في أواخر العتق.

(5/324)


11 - باب: الشُّرُوطِ فِي الطَّلاَقِ
وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنُ وَعَطَاءٌ: إِنْ بَدَا بِالطَّلاَقِ أَوْ أَخَّرَ فَهُوَ أَحَقُّ بِشَرْطِهِ
2727- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَرْعَرَةَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ التَّلَقِّي وَأَنْ يَبْتَاعَ الْمُهَاجِرُ لِلْأَعْرَابِيِّ وَأَنْ تَشْتَرِطَ الْمَرْأَةُ طَلاَقَ أُخْتِهَا وَأَنْ يَسْتَامَ الرَّجُلُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ وَنَهَى عَنْ النَّجْشِ وَعَنْ التَّصْرِيَةِ"
تَابَعَهُ مُعَاذٌ وَعَبْدُ الصَّمَدِ عَنْ شُعْبَةَ
وَقَالَ غُنْدَرٌ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ "نُهِيَ" وَقَالَ آدَمُ "نُهِينَا". وَقَالَ النَّضْرُ وَحَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ "نَهَى"

(5/324)


باب الشروط مع الناش بالقول
...
12 - باب: الشُّرُوطِ مَعَ النَّاسِ بِالْقَوْلِ
2728- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا هِشَامٌ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُ قَالَ أَخْبَرَنِي يَعْلَى بْنُ مُسْلِمٍ وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ يَزِيدُ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ وَغَيْرُهُمَا قَدْ سَمِعْتُهُ يُحَدِّثُهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ إِنَّا لَعِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ حَدَّثَنِي أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مُوسَى رَسُولُ اللَّهِ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} : كَانَتْ الأُولَى نِسْيَانًا وَالْوُسْطَى شَرْطًا وَالثَّالِثَةُ عَمْدًا . {قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً} {لَقِيَا غُلاماً فَقَتَلَهُ} ، {فَانْطَلَقَا..فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ} قَرَأَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ "أَمَامَهُمْ مَلِكٌ"
قوله: "باب الشروط مع الناس بالقول" ذكر فيه طرقا من حديث ابن عباس عن أبي بن كعب في قصة موسى والخضر، والمراد منه قوله: "كانت الأولى نسيانا والوسطى شرطا والثالثة عمدا" وأشار بالشرط إلى قوله: {إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني} والتزام موسى بذلك ولم يكتبا ذلك ولم يشهدا أحدا. وفيه دلالة على العمل بمقتضى ما دل عليه الشرط، فإن الخضر قال لموسى لما أخلف الشرط: "هذا فراق بيني وبينك" ولم ينكر موسى عليه السلام ذلك.

(5/326)


13 - باب: الشُّرُوطِ فِي الْوَلاَءِ
2729- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: "جَاءَتْنِي بَرِيرَةُ فَقَالَتْ كَاتَبْتُ أَهْلِي عَلَى تِسْعِ أَوَاقٍ فِي كُلِّ عَامٍ أُوقِيَّةٌ فَأَعِينِينِي فَقَالَتْ إِنْ أَحَبُّوا أَنْ أَعُدَّهَا لَهُمْ وَيَكُونَ وَلاَؤُكِ لِي فَعَلْتُ فَذَهَبَتْ بَرِيرَةُ إِلَى أَهْلِهَا فَقَالَتْ لَهُمْ فَأَبَوْا عَلَيْهَا فَجَاءَتْ مِنْ عِنْدِهِمْ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ فَقَالَتْ إِنِّي قَدْ عَرَضْتُ ذَلِكِ عَلَيْهِمْ فَأَبَوْا إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْوَلاَءُ لَهُمْ فَسَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَتْ عَائِشَةُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ خُذِيهَا وَاشْتَرِطِي لَهُمْ الْوَلاَءَ فَإِنَّمَا الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ فَفَعَلَتْ عَائِشَةُ ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّاسِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ "مَا بَالُ رِجَالٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا كَانَ مِنْ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ قَضَاءُ اللَّهِ أَحَقُّ وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ وَإِنَّمَا الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ"
قوله: "باب الشروط في الولاء" ذكر فيه طرفا من حديث عائشة في قصة بريرة، وقد تقدم الكلام عليه مستوفى في آخر كتاب العتق.

(5/326)


باب إذا اشبرط في المزارعة (إذا شئت أخرجتك)
...
14 - باب: إِذَا اشْتَرَطَ فِي الْمُزَارَعَةِ "إِذَا شِئْتُ أَخْرَجْتُكَ"
2730- حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ مَرَّارُ بْنُ حَمُّويَهْ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى أَبُو غَسَّانَ الْكِنَانِيُّ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "لَمَّا فَدَعَ أَهْلُ خَيْبَرَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَامَ عُمَرُ خَطِيبًا فَقَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عَامَلَ يَهُودَ خَيْبَرَ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَقَالَ نُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمْ اللَّهُ وَإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ خَرَجَ إِلَى مَالِهِ هُنَاكَ فَعُدِيَ عَلَيْهِ مِنْ اللَّيْلِ فَفُدِعَتْ يَدَاهُ وَرِجْلاَهُ وَلَيْسَ لَنَا هُنَاكَ عَدُوٌّ غَيْرَهُمْ هُمْ عَدُوُّنَا وَتُهْمَتُنَا وَقَدْ رَأَيْتُ إِجْلاَءَهُمْ فَلَمَّا أَجْمَعَ عُمَرُ عَلَى ذَلِكَ أَتَاهُ أَحَدُ بَنِي أَبِي الْحُقَيْقِ فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَتُخْرِجُنَا وَقَدْ أَقَرَّنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَامَلَنَا عَلَى الأَمْوَالِ وَشَرَطَ ذَلِكَ لَنَا فَقَالَ عُمَرُ أَظَنَنْتَ أَنِّي نَسِيتُ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفَ بِكَ إِذَا أُخْرِجْتَ مِنْ خَيْبَرَ تَعْدُو بِكَ قَلُوصُكَ لَيْلَةً بَعْدَ لَيْلَةٍ فَقَالَ كَانَتْ هَذِهِ هُزَيْلَةً مِنْ أَبِي الْقَاسِمِ قَالَ كَذَبْتَ يَا عَدُوَّ اللَّهِ فَأَجْلاَهُمْ عُمَرُ وَأَعْطَاهُمْ قِيمَةَ مَا كَانَ لَهُمْ مِنْ الثَّمَرِ مَالًا وَإِبِلًا وَعُرُوضًا مِنْ أَقْتَابٍ وَحِبَالٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ"
رَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ أَحْسِبُهُ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اخْتَصَرَهُ
قوله: "باب إذا اشترط في المزارعة: إذا شئت أخرجتك" كذا ذكر هذه الترجمة مختصرة، وترجم لحديث الباب في المزارعة بأوضح من هذا فقال: "إذا قال رب الأرض: أقرك ما أقرك الله ولم يذكر أجلا معلوما فهما على تراضيهما" وأخرج هناك حديث ابن عمر في قصة يهود خيبر بلفظ: "نقركم على ذلك ما شئنا" وأورده هنا بلفظ: "نقركم ما أقركم الله" فأحال في كل ترجمة على لفظ المتن الذي في الأخرى، وبينت إحدى الروايتين مراد الأخرى وأن المراد بقوله: "ما أقركم الله" ما قدر الله أنا نترككم فيها فإذا شئنا فأخرجناكم تبين أن الله قدر إخراجكم، والله أعلم. وقد تقدم في المزارعة توجيه الاستدلال به على جواز المخابرة، وفيه جواز الخيار في المساقاة للمالك لا إلى أمد، وأجاب من لم يجزه باحتمال أن المدة كانت مذكورة ولم تنقل، أو لم تذكر لكن عينت كل سنة بكذا، أو أن أهل خيبر صاروا عبيدا للمسلمين ومعاملة السيد لعبده لا يشترط فيها ما يشترط في الأجنبي، والله أعلم. قوله: "حدثنا أبو أحمد" كذا للأكثر غير مسمى ولا منسوب، ولابن السكن في روايته عن الفربري ووافقه أبو ذر "حدثنا أبو أحمد مرار بن حمويه" وهو بفتح الميم وتشديد الراء، وأبوه بفتح الحاء المهملة وتشديد الميم، قال ابن الصلاح أهل الحديث يقولونها بضم الميم وسكون الواو وفتح التحتانية، وغيرهم بفتح الميم والواو وسكون التحتانية وآخرها هاء عند الجميع، ومن قاله من المحدثين بالتاء المثناة الفوقانية بدل الهاء فقد غلط. قلت: لكن وقع في شعر لابن دريد ما يدل على تجويز ذلك وهو قوله: "إن كان نفطويه من نسلي" وهو همذاني بفتح الميم ثقة مشهور، وليس له في البخاري غير هذا الحديث، وكذا شيخه، وهو من فوقه مدنيون. وقال الحاكم: أهل بخاري يزعمون أنه أبو أحمد محمد بن يوسف البيكندي. ويحتمل أن يكون المراد أبو أحمد محمد بن عبد الوهاب الفراء، فإن أبا عمر المستملي رواه عنه عن أبي غسان انتهى، والمعتمد ما وقع في ذلك عند ابن السكن ومن وافقه، وجزم أبو نعيم أنه مرار المذكور وقال: لم يسمه البخاري والحديث حديثه. ثم أخرجه من طريق موسى بن هارون عن مرار.

(5/327)


قلت: وكذا أخرجه الدار قطني في "الغرائب" من طريقه، ورواه ابن وهب عن مالك بغير إسناد، وأخرجه عمر بن شبة في "أخبار المدينة". قوله: "حدثنا محمد بن يحيى" أي ابن علي الكاتب. قوله: "فدع" بفتح الفاء والمهملتين، الفدع بفتحتين زوال المفصل، فدعت يداه إذا أزيلتا من مفاصلهما. وقال الخليل: الفدع عوج في المفاصل، وفي خلق الإنسان الثابت إذا زاغت القدم من أصلها من الكعب وطرف الساق فهو الفدع. وقال الأصمعي: هو زيغ في الكف بينها وبين الساعد وفي الرجل بينها وبين الساق، هذا الذي في جميع الروايات وعليها شرح الخطابي وهو الواقع في هذه القصة. ووقع في رواية ابن السكن بالغين المعجمة أي فدغ وجزم به الكرماني، وهو وهم لأن الفدغ بالمعجمة كسر الشيء المجوف قاله الجوهري، ولم يقع ذلك لابن عمر في القصة. قوله: "فعدي عليه من الليل" قال الخطابي: كأن اليهود "سحروا عبد الله بن عمر فالتوت يداه ورجلاه، كذا قال، ويحتمل أن يكونوا ضربوه ويؤيده تقييده بالليل في هذه الرواية. ووقع في رواية حماد بن سلمة التي علق المصنف إسنادها آخر الباب بلفظ: "فلما كان زمان عمر غشوا المسلمين وألقوا ابن عمر من فوق بيت ففدعوا يديه" الحديث. قوله: "تهمتنا" بضم المثناة وفتح الهاء ويجوز إسكانها، أي الذين نتهمهم بذلك. قوله: "وقد رأيت إجلاءهم. فلما أجمع" أي عزم. وقال أبو الهيثم: أجمع على كذا أي جمع أمره جميعا بعد أن كان مفرقا، وهذا لا يقتضي حصر السبب في إجلاء عمر إياهم، وقد وقع لي فيه سببان آخران: أحدهما رواه الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: ما زال عمر حتى وجد الثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يجتمع بجزيرة العرب دينان" فقال: من كان له من أهل الكتابين عهد فليأت به أنفذه له، وإلا فإني مجليكم. فأجلاهم. أخرجه ابن أبي شيبة وغيره. ثانيهما رواه عمر بن شبة في "أخبار المدينة" من طريق عثمان بن محمد الأخنسي قال: لما كثر العيال - أي الخدم - في أيدي المسلمين وقووا على العمل في الأرض أجلاهم عمر. ويحتمل أن يكون كل من هذه الأشياء جزء علة في إخراجهم. والإجلاء الإخراج عن المال والوطن على وجه الإزعاج والكراهة. قوله: "أحد بني أبي الحقيق" بمهملة وقافين مصغر، وهو رأس يهود خيبر، ولم أقف على اسمه. ووقع في رواية البرقاني "فقال رئيسهم لا تخرجنا" وابن أبي الحقيق الآخر هو الذي زوج صفية بنت حيي أم المؤمنين، فقتل بخيبر وبقي أخوه إلى هذه الغاية. قوله: "تعدو بك قلوصك" بفتح القاف وبالصاد المهملة: الناقة الصابرة على السير وقيل الشابة وقبل أول ما يركب من إناث الإبل وقيل الطويلة القوائم، وأشار صلى الله عليه وسلم إلى إخراجهم من خيبر وكان ذلك من إخباره بالمغيبات قبل وقوعها. قوله: "كان ذلك" في رواية الكشميهني: "كانت هذه". قوله: "هزيلة" تصغير الهزل وهو ضد الجد. قوله: "مالا" تمييز للقيمة، وعطف الإبل عليه وكذلك العروض من عطف الخاص على العام، أو المراد بالمال النقد خاصة والعروض ما عدا النقد، وقيل ما لا يدخله الكيل ولا يكون حيوانا ولا عقارا. قوله: "رواه حماد بن سلمة عن عبيد الله" بالتصغير هو العمري. قوله: "أحسبه عن نافع" أي أن حمادا شك في وصله، وصرح بذلك أبو يعلى في روايته الآتية، وزعم الكرماني أن في قوله: "عن النبي صلى الله عليه وسلم: "قرينة تدل على أن حمادا اقتصر في روايته على ما نسبه إلى النبي صلى الله عليه وسلم في هذه القصة من قول أو فعل دون ما نسب إلى عمر. قلت: وليس كما قال، وإنما المراد أنه اختصر من المرفوع دون الموقوف، وهو الواقع في نفس الأمر، فقد رويناه في "مسند أبي يعلى" و "فوائد البغوي" كلاهما عن عبد الأعلى بن حماد عن حماد بن سلمة ولفظه: "قال عمر: من كان له سهم بخيبر فليحضر حتى نقسمها، فقال رئيسهم

(5/328)


لا تخرجنا ودعنا كما أقرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، فقال له عمر: أتراه سقط علي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كيف بك إذا رقصت بك راحلتك نحو الشأم يوما ثم يوما ثم يوما، فقسمها عمر بين من كان شهد خيبر من أهل الحديبية" قال البغوي هكذا رواه غير واحد عن حماد، ورواه الوليد بن صالح عن حماد بغير شك، قلت: وكذا رويناه في مسند عمر النجار من طريق هدبة بن خالد عن حماد بغير شك وفيه قوله: "رقصت بك" أي أسرعت في السير، وقوله: "نحو الشام" تقدم في المزارعة "أن عمر أجلاهم إلى تيماء وأريحاء". "تنبيه": وقع للحميدي نسبة رواية حماد بن سلمة مطولة جدا إلى البخاري، وكأنه نقل السياق من "مستخرج البرقاني" كعادته وذهل عن عزوه إليه، وقد نبه الإسماعيلي على أن حمادا كان يطوله تارة ويرويه تارة مختصرا، وقد أشرت إلى بعض ما في روايته قبل، قال المهلب: في القصة دليل على أن العداوة توضح المطالبة بالجناية كما طالب عمر اليهود بفدع ابنه، ورجح ذلك بأن قال: ليس لنا عدو غيرهم، فعلق المطالبة بشاهد العداوة. وإنما لم يطلب القصاص لأنه فدع وهو نائم فلم يعرف أشخاصهم. وفيه أن أفعال النبي صلى الله عليه وسلم وأقواله محمولة على الحقيقة حتى يقوم دليل المجاز.

(5/329)


باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط
...
رواية أبي الأسود المذكورة "فبعث إليهم فقدموا عليه" وفي رواية موسى بن عقبة عن الزهري "فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بصير، فقدم كتابه وأبو بصير يموت، فمات وكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في يده، فدفنه أبو جندل مكانه وجعل عند قبره مسجدا. قال وقدم أبو جندل ومن معه إلى المدينة فل يزل بها إلى أن خرج إلى الشام مجاهدا فاستشهد في خلافة عمر، قال فعلم الذين كانوا أشاروا بأن لا يسلم أبا جندل إلى أبيه أن طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم خير مما كرهوا" وفي قصة أبي بصير من الفوائد جواز قتل المشرك المعتدي غيلة، ولا يعد ما وقع من أبي بصير غدرا لأنه لم يكن في جملة من دخل في المعاقدة التي بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قريش، لأنه إذ ذاك كان محبوسا بمكة، لكنه لما خشي أن المشرك يعيده إلى المشركين درأ عن نفسه بقتله، ودافع عن دينه بذلك، ولم ينكر النبي قوله ذلك. وفيه أن من فعل مثل فعل أبي بصير لم يكن عليه قود ولا دية، قد وقع عند ابن إسحاق "أن سهيل بن عمرو لما بلغه قتل العامري طالب بديته لأنه من رهطه، فقال له أبو سفيان: ليس على محمد مطالبة بذلك لأنه وفي بما عليه وأسلمه لرسولكم، ولم يقتله بأمره. ولا على آل أبي بصير أيضا شيء لأنه ليس على دينهم". وفيه أنه كان لا يرد على المشركين من جاء منهم إلا بطلب منهم، لأنهم لما طلبوا أبا بصير أول مرة أسلمه لهم، ولما حضر إليه ثانيا لم يرسله لهم، بل لو أرسلوا إليه وهو عنده لأرسله، فلما خشي أبو بصير من ذلك نجا بنفسه. وفيه أن شرط الرد أن يكون الذي حضر من دار الشرك باقيا في بلد الإمام، ولا يتناول من لم يكن تحت يد الإمام ولا متحيزا إليه. واستنبط منه بعض المتأخرين أن بعض ملوك المسلمين مثلا لو هادن بعض ملوك الشرك فغزاهم ملك آخر من المسلمين فقتلهم وغنم أموالهم جاز له ذلك، لأن عهد الذي هادنهم لم يتناول من لم يهادنهم، ولا يخفى أن محل ذلك ما إذا لم يكن هناك قرينة تعميم. قوله: "فأنزل الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ} كذا هنا، ظاهره أنها نزلت في شأن أبي بصير، وفيه نظر، والمشهور في سبب نزولها ما أخرجه مسلم من حديث سلمة بن الأكوع ومن حديث أنس بن مالك أيضا، وأخرجه أحمد والنسائي من حديث عبد الله بن مغفل بإسناد صحيح أنها نزلت بسبب القوم الذين أرادوا من قريش أن يأخذوا من المسلمين غرة فظفروا بهم، فعفا عنهم النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت الآية. وقيل في نزولها غير ذلك. قوله: "معرة العر الجرب" يعني أن المعرة مشتقة من العر بفتح المهملة وتشديد الراء. قوله: "تزيلوا تميزوا، حميت القوم منعتهم حماية إلخ" هذا القدر من تفسير سورة الفتح في المجاز لأبي عبيدة وهو في رواية المستملي وحده. قوله: "قال عقيل عن الزهري" تقدم موصولا بتمامه في أول الشروط، وأراد المصنف بإيراده بيان ما وقع في رواية معمر من الإدراج. قوله: "وبلغنا" هو مقول الزهري، وصله ابن مردويه في تفسيره من طريق عقيل. وقوله: "وبلغنا أن أبا بصير إلخ" هو من قول الزهري أيضا والمراد به أن قصة أبي بصير في رواية عقيل من مرسل الزهري، وفي رواية معمر موصولة إلى المسور، لكن قد تابع معمرا على وصلها ابن إسحاق كما تقدم، وتابع عقيلا الأوزاعي على إرسالها. فلعل الزهري كان يرسلها تارة ويوصلها أخرى والله أعلم. ووقع في هذه الرواية الأخيرة من الزيادة "وما نعلم أن أحدا من المهاجرات ارتدت بعد إيمانها" وفيها قوله: "أن أبا بصير بن أسيد بفتح الهمزة قدم مؤمنا" كذا للأكثر، وفي رواية السرخسي والمستملي: "قدم من منى" وهو تصحيف. قوله: "أن عمر طلق امرأتين قريبة" يأتي ضبطها وبيان الحكم في ذلك في كتاب النكاح في "باب نكاح من أسلم من المشركات". وقوله: "فلما أبى الكفار أن يقروا بأداء ما أنفق المسلمون على أزواجهم" يشير إلى قوله تعالى: {وَاسْأَلُوا

(5/51)


16 - باب: الشُّرُوطِ فِي الْقَرْضِ
2734- وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ

(5/352)


"عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ ذَكَرَ رَجُلًا سَأَلَ بَعْضَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يُسْلِفَهُ أَلْفَ دِينَارٍ فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى"
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَعَطَاءٌ: "إِذَا أَجَّلَهُ فِي الْقَرْضِ جَازَ"
قوله: "باب الشروط في القرض" ذكر فيه طرفا من حديث أبي هريرة في قصة الذي أقرض الألف الدينار، وأثر ابن عمر وعطاء في تأجيل القرض، وقد مضى جميع ذلك والكلام عليه في كتاب القرض، وسقط ميع ذلك هنا للنسفي، لكن زاد في الترجمة التي تليه فقال: "باب الشروط في القرض والمكاتب إلخ".

(5/353)


باب المكاتب وما لا يحل من الشروط التي تخالف الكتاب والسنة
...
17 - باب: الْمُكَاتَبِ وَمَا لاَ يَحِلُّ مِنْ الشُّرُوطِ الَّتِي تُخَالِفُ كِتَابَ اللَّهِ
وَقَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي الْمُكَاتَبِ: شُرُوطُهُمْ بَيْنَهُمْ
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ - أَوْ عُمَرُ -: كُلُّ شَرْطٍ خَالَفَ كِتَابَ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ اشْتَرَطَ مِائَةَ شَرْطٍ
وقَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: وَيُقَالُ عَنْ كِلَيْهِمَا عَنْ عُمَرَ وَابْنِ عُمَرَ
2735- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ يَحْيَى عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "أَتَتْهَا بَرِيرَةُ تَسْأَلُهَا فِي كِتَابَتِهَا فَقَالَتْ إِنْ شِئْتِ أَعْطَيْتُ أَهْلَكِ وَيَكُونُ الْوَلاَءُ لِي فَلَمَّا جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَّرْتُهُ ذَلِكَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ابْتَاعِيهَا فَأَعْتِقِيهَا فَإِنَّمَا الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَنْ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَلَيْسَ لَهُ وَإِنْ اشْتَرَطَ مِائَةَ شَرْطٍ"

(5/353)


18 - باب: مَا يَجُوزُ مِنْ الِاشْتِرَاطِ وَالثُّنْيَا فِي الإِقْرَارِ وَالشُّرُوطِ الَّتِي يَتَعَارَفُهَا النَّاسُ بَيْنَهُمْ وَإِذَا قَالَ مِائَةٌ إِلاَّ وَاحِدَةً أَوْ ثِنْتَيْنِ.
وَقَالَ ابْنُ عَوْنٍ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ رَجُلٌ لِكَرِيِّهِ أَرْحِلْ رِكَابَكَ فَإِنْ لَمْ أَرْحَلْ مَعَكَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا فَلَكَ مِائَةُ دِرْهَمٍ فَلَمْ يَخْرُجْ فَقَالَ شُرَيْحٌ مَنْ شَرَطَ عَلَى نَفْسِهِ طَائِعًا غَيْرَ مُكْرَهٍ فَهُوَ عَلَيْهِ وَقَالَ أَيُّوبُ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ إِنَّ رَجُلًا بَاعَ طَعَامًا وَقَالَ إِنْ لَمْ آتِكَ الأَرْبِعَاءَ فَلَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بَيْعٌ فَلَمْ يَجِئْ فَقَالَ شُرَيْحٌ لِلْمُشْتَرِي أَنْتَ أَخْلَفْتَ فَقَضَى عَلَيْهِ
2736- حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب حدثنا أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن لله تسعة وتسعين اسما، مائة إلا واحدة من أحصاها دخل الجنة"
[الحديث 2736- طرفاه في: 6410 ، 7392]
قوله: "باب ما يجوز من الاشتراط والثنيا" بضم المثلثة وسكون النون بعدها تحتانية مقصور أي الاستثناء "في الإقرار" أي سواء كان استثناء قليل من كثير أو كثير من قليل، واستثناء القليل من الكثير لا خلاف في جوازه، وعكسه مختلف فيه، ذهب الجمهور إلى جوازه أيضا، وأقوى حججهم قوله تعالى: {إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} مع قوله: {إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} لأن أحدهما أكثر من الآخر لا محالة، وقد استثني كلا منهما من الآخر. وذهب بعض المالكية كابن الماجشون إلى فساده، وإليه ذهب ابن قتيبة وزعم أنه مذهب البصريين من أهل اللغة، وأن الجواز مذهب الكوفيين، وممن حكاه عنهم الفراء، وسيأتي بسط هذا عند الكلام على الحديث المرفوع في الباب في كتاب الدعوات إن شاء الله تعالى. قوله: "وقال ابن عون إلخ" وصله سعيد بن منصور عن هشيم عنه ولفظه: "أن رجلا تكارى من آخر فقال: اخرج يوم الاثنين" فذكر نحوه. قوله: "وقال أيوب عن ابن سرين إلخ" وصله سعيد بن منصور أيضا عن سفيان عن أيوب، وحاصله أن شريحا في المسألتين قضى على المشترط بما اشترطه على نفسه بغير إكراه، وواقفه على المسألة الثانية أبو حنيفة وأحمد وإسحاق. وقال مالك والأكثر: يصح البيع ويبطل الشرط، وخالفه الناس في المسألة الأولى، ووجهه بعضهم بأن العادة أن صاحب الجمال يرسلها إلى المرعى، فإذا اتفق مع التاجر على يوم بعينه فأحضر له الإبل فلم يتهيأ للتاجر السفر أضر ذلك بحال الجمال لما يحتاج إليه من العلف، فوقع بينهم التعارف على مال معين يشترطه التاجر على نفسه إذا أخلف ليستعين به الجمال على العلف. وقال الجمهور: هي عدة فلا يلزم الوفاء بها، والله أعلم.

(5/354)


19 - باب: الشُّرُوطِ فِي الْوَقْفِ
2737- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيُّ حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ قَالَ أَنْبَأَنِي نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "أَنْ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَصَابَ أَرْضًا بِخَيْبَرَ فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَأْمِرُهُ فِيهَا فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَصَبْتُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ لَمْ أُصِبْ مَالًا قَطُّ أَنْفَسَ عِنْدِي مِنْهُ فَمَا تَأْمُرُ بِهِ؟ قَالَ: إِنْ شِئْتَ

(5/354)


حَبَسْتَ أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْتَ بِهَا قَالَ فَتَصَدَّقَ بِهَا عُمَرُ أَنَّهُ لاَ يُبَاعُ وَلاَ يُوهَبُ وَلاَ يُورَثُ وَتَصَدَّقَ بِهَا فِي الْفُقَرَاءِ وَفِي الْقُرْبَى وَفِي الرِّقَابِ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَالضَّيْفِ لاَ جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ وَيُطْعِمَ غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ قَالَ فَحَدَّثْتُ بِهِ ابْنَ سِيرِينَ فَقَالَ "غَيْرَ مُتَأَثِّلٍ مَالًا"
قوله: "باب الشروط في الوقف" ذكر فيه حديث ابن عمر في قصة وقف عمر، وسيأتي الكلام عليه في أثناء الكتاب الذي يليه إن شاء الله تعالى.
"خاتمة": اشتمل كتاب الشروط من الأحاديث المرفوعة على سبعة وأربعين حديثا، الخالص منها خمسة أحاديث والبقية مكررة، والمعلق منها سبعة وعشرون طريقا وكلها عند مسلم سوى بلاغ الزهري. وفيه من الآثار عن الصحابة فمن بعدهم أحد عشر أثرا والله أعلم.

(5/355)


كتاب الوصايا
باب الوصايا وقول النبي صلى الله عليه وسلم (وصية الرجل مكتوبة)
...
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
55 - كِتَاب الْوَصَايَا
قوله: "بسم الله الرحمن الرحيم - كتاب الوصايا" كذا للنسفي، وأخر الباقون البسملة. والوصايا جمع وصية كالهدايا وتطلق على فعل الموصي وعلى ما يوصي به من مال أو غيره من عهد ونحوه، فتكون بمعني المصدر وهو الإيصاء، وتكون بمعنى المفعول وهو الاسم. وفي الشرع عهد خاص مضاف إلى ما بعد الموت، وقد يصحبه التبرع. قال الأزهري: الوصية من وصيت الشيء بالتخفيف أوصيه إذا وصلته، وسميت وصية لأن الميت يصل بها ما كان في حياته بعد مماته، ويقال وصية بالتشديد، ووصاة بالتخفيف بغير همز. وتطلق شرعا أيضا على ما يقع به الزجر عن المنهيات والحث على المأمورات.
1 - باب: الْوَصَايَا، وَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصِيَّةُ الرَّجُلِ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ
وَقَوْلِ اللَّهِ عز وجل [180 البقرة]: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
جَنَفًا: مَيْلًا. مُتَجَانِفٌ: مَائِلٌ
2738- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إِلاَّ وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ"
تَابَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ عَمْرٍو عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

(5/355)


2739- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَارِثِ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْجُعْفِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ خَتَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخِي جُوَيْرِيَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ قَالَ: "مَا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ مَوْتِهِ دِرْهَمًا وَلاَ دِينَارًا وَلاَ عَبْدًا وَلاَ أَمَةً وَلاَ شَيْئًا إِلاَّ بَغْلَتَهُ الْبَيْضَاءَ وَسِلاَحَهُ وَأَرْضًا جَعَلَهَا صَدَقَةً"
[الحديث 2739- أطرافه في: 2873 ، 2912 ، 3098 ، 4461]
2740- حَدَّثَنَا خَلاَدُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا مَالِكٌ هُوَ ابْنُ مِغْوَلٍ حَدَّثَنَا طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ قَالَ سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: هَلْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْصَى؟ فَقَالَ: لاَ. فَقُلْتُ: كَيْفَ كُتِبَ عَلَى النَّاسِ الْوَصِيَّةُ أَوْ أُمِرُوا بِالْوَصِيَّةِ؟ قَالَ أَوْصَى بِكِتَابِ اللَّهِ"
[الحديث 2740- طرفاه في: 4460 ، 5022]
2741- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ عَنْ ابْنِ عَوْنٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الأَسْوَدِ قَالَ "ذَكَرُوا عِنْدَ عَائِشَةَ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانَ وَصِيًّا فَقَالَتْ: مَتَى أَوْصَى إِلَيْهِ وَقَدْ كُنْتُ مُسْنِدَتَهُ إِلَى صَدْرِي - أَوْ قَالَتْ: حَجْرِي - فَدَعَا بِالطَّسْتِ، فَلَقَدْ انْخَنَثَ فِي حَجْرِي فَمَا شَعَرْتُ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ، فَمَتَى أَوْصَى إِلَيْهِ"؟
[الحديث 2741- طرفه في: 4459]
قوله: "باب الوصايا" أي حكم الوصايا. قوله: "وقول النبي صلى الله عليه وسلم: وصية الرجل مكتوبة عنده" لم أقف على هذا الحديث باللفظ المذكور، وكأنه بالمعنى، فإن المرء هو الرجل لكن التعبير به خرج مخرج الغالب، وإلا فلا فرق - في الوصية الصحيحة - بين الرجل والمرأة، ولا يشترط فيها إسلام ولا رشد ولا ثيوبة ولا إذن زوج، وإنما يشترط في صحتها العقل والحرية، وأما وصية الصبي المميز ففيها خلاف: منعها الحنفية والشافعي في الأظهر، وصححها مالك وأحمد والشافعي في قول رجحه ابن أبي عصرون وغيره، ومال إليه السبكي وأيده بأن الوارث لا حق له في الثلث فلا وجه لمنع وصية المميز، قال: والمعتبر فيه أن يعقل ما يوصي به. وروى الموطأ فيه أثرا عن عمر أنه أجاز وصية غلام لم يحتلم، وذكر البيهقي أن الشافعي علق القول به على صحة الأثر المذكور، وهو قوي فإن رجاله ثقات وله شاهد، وقيد مالك صحتها بما إذا عقل ولم يخلط، وأحمد بسبع وعنه بعشر. قوله: "وقال الله عز وجل: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ - إلى – جَنَفاً} كذا لأبي ذر، وللنسفي الآية، وساق الباقون الآيات الثلاث إلى {غَفُورٌ رَحِيمٌ} وتقدير الآية: كتب عليكم الوصية وقت حضور الموت، ويجوز أن تكون الوصية مفعول كتب، أو الوصية مبتدأ وخبره للوالدين، ودل قوله: {إِنْ تَرَكَ خَيْراً} بعد الاتفاق على أن المراد به المال على أن من لم يترك مالا لا تشرع له الوصية بالمال، وقيل المراد بالخير المال الكثير فلا تشرع لمن له مال قليل. قال ابن عبد البر أجمعوا على أن من لم يكن عنده إلا اليسير التافه من المال أنه لا تندب له الوصية، وفي نقل الإجماع نظر، فالثابت عن الزهري أنه قال: جعل الله الوصية حقا فيما قل أو كثر، والمصرح به عند الشافعية ندبية الوصية من

(5/356)


غير تفريق بين قليل وكثير. نعم قال أبو الفرج السرخسي منهم: إن كان المال قليلا والعيال كثيرا استحب له توفرته عليهم، وقد تكون الوصية بغير المال كأنه يعين من ينظر في مصالح ولده أو يعهد إليهم بما يفعلونه من بعده من مصالح دينهم ودنياهم، وهذا لا يدفع أحد ندبيته. واختلف في حد المال الكثير في الوصية، فعن علي سبعمائة مال قليل، وعنه ثمانمائة مال قليل، وعن ابن عباس نحوه، وعن عائشة فيمن ترك عيالا كثيرا وترك ثلاثة آلاف ليس هذا بمال كثير. وحاصله أنه أمر نسبي يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال والله أعلم. قوله: "جنفا ميلا" هو تفسير عطاء رواه الطبري عنه بإسناد صحيح، ونحوه قول أبي عبيدة في المجاز: الجنف العدول عن الحق وأخرج السدي وغيره أن الجنف الخطأ والإثم العمد. قوله: "متجانف متمايل" كذا للأكثر، ولأبي ذر "مائل". قال أبو عبيدة في المجاز: قوله: "غير متجانف لإثم" أي غير منعوج مائل للإثم، ونقل الطبري عن ابن عباس وغيره أن معناه غير متعمد لإثم. ثم ذكر المصنف في الباب أربعة أحاديث: أحدها حديث ابن عمر من وجهين، قوله: "ما حق امرئ مسلم" كذا في أكثر الروايات، وسقط لفظ: "مسلم"من رواية أحمد عن إسحاق بن عيسى عن مالك، والوصف بالمسلم خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له، أو ذكر للتهييج لتقع المبادرة لامتثاله لما يشعر به من نفي الإسلام عن تارك ذلك، ووصية الكافر جائزة في الجملة، وحكى ابن المنذر فيه الإجماع، وقد بحث فيه السبكي من جهة أن الوصية شرعت زيادة في العمل الصالح والكافر لا عمل له بعد الموت، وأجاب بأنهم نظروا إلى أن الوصية كالإعتاق وهو يصح من الذمي والحربي والله أعلم. قوله: "شيء يوصي فيه" قال ابن عبد البر: لم يختلف الرواة عن مالك في هذا اللفظ، ورواه أيوب عن نافع بلفظ: "له شيء يريد أن يوصي فيه" ورواه عبيد الله بن عمر عن نافع مثل أيوب أخرجهما مسلم، ورواه أحمد عن سفيان عن أيوب بلفظ: "حق على كل مسلم أن لا يبيت ليلتين وله ما يوصي فيه" الحديث. ورواه الشافعي عن سفيان بلفظ: "ما حق امرئ يؤمن بالوصية" الحديث، قال ابن عبد البر: فسره ابن عيينة أي يؤمن بأنها حق ا هـ. وأخرجه أبو عوانة من طريق هشام بن الغاز عن نافع بلفظ: "لا ينبغي لمسلم أن يبيت ليلتين" الحديث. وذكره ابن عبد البر عن سليمان بن موسى عن نافع مثله، وأخرجه الطبراني من طريق الحسن عن ابن عمر مثله، وأخرجه الإسماعيلي من طريق روح بن عبادة عن مالك وابن عون جميعا عن نافع بلفظ: "ما حق امرئ مسلم له مال يريد أن يوصي فيه" وذكره ابن عبد البر من طريق ابن عون بلفظ: "لا يحل لامرئ مسلم له مال" وأخرجه الطحاوي أيضا، وقد أخرجه النسائي من هذا الوجه ولم يسق لفظه قال أبو عمر: لم يتابع ابن عون على هذه اللفظة. قلت: إن عني عن نافع بلفظها فمسلم، ولكن المعنى يمكن أن يكون متحدا كما سيأتي. وإن عني عن ابن عمر فمردود لما سيأتي قريبا ذكر من رواه عن ابن عمر أيضا بهذا اللفظ، قال ابن عبد البر: قوله: "له مال" أولى عندي من قول من روى "له شي" لأن الشيء يطلق على القليل والكثير بخلاف المال، كذا قال، وهي دعوى لا دليل عليها، وعلى تسليمها فرواية: "شيء" أشمل لأنها تعم ما يتمول وما لا يتمول كالمختصات والله أعلم. قوله: "يبيت" كأن فيه حذفا تقديره أن يبيت، وهو كقوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ} الآية. ويجوز أن يكون "يبيت" صفة لمسلم وبه جزم الطيبي قال: هي صفة ثانية، وقوله: "يوصي فيه" صفة شيء، ومفعول "يبيت" محذوف تقديره آمنا أو ذاكرا، وقال ابن التين: تقديره موعوكا، والأول أولى لأن استحباب الوصية لا يختص بالمريض. نعم قال العلماء: لا يندب أن يكتب جميع الأشياء المحقرة ولا ما جرت

(5/357)


العادة بالخروج منه والوفاء له عن قرب. والله أعلم. قوله: "ليلتين" كذا لأكثر الرواة، ولأبي عوانة والبيهقي من طريق حماد بن زيد عن أيوب "يبيت ليلة أو ليلتين"، ولمسلم والنسائي من طريق الزهري عن سالم عن أبيه "يبيت ثلاث ليال"، وكأن ذكر الليلتين والثلاث لرفع الحرج لتزاحم أشغال المرء التي يحتاج إلى ذكرها ففسح له هذا القدر ليتذكر ما يحتاج إليه، واختلاف الروايات فيه دال على أنه للتقريب لا للتحديد، والمعنى لا يمضي عليه زمان وإن كان قليلا إلا ووصيته مكتوبة، وفيه إشارة إلى اغتفار الزمن اليسير، وكأن الثلاث غاية للتأخير، ولذلك قال ابن عمر في رواية سالم المذكورة "لم أبت ليلة منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك إلا ووصيتي عندي" قال الطيبي: في تخصيص الليلتين والثلاث بالذكر تسامح في إرادة المبالغة، أي لا ينبغي أن يبيت زمانا ما، وقد سامحناه في الليلتين والثلاث فلا ينبغي له أن يتجاوز ذلك. قوله: "تابعه محمد بن مسلم" هو الطائفي "عن عمرو" هو ابن دينار "عن ابن عمر" يعني في أصل الحديث، ورواية محمد بن مسلم هذه أخرجها الدار قطني في الأفراد من طريقه وقال: تفرد به عمران بن أبان - يعني الواسطي - عن محمد بن مسلم، وعمران أخرج له النسائي وضعفه، قال ابن عدي: له غرائب عن محمد بن مسلم ولا أعلم به بأسا، ولفظه عند الدار قطني "لا يحل لمسلم أن يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده" واستدل بهذا الحديث مع ظاهر الآية على وجوب الوصية، وبه قال الزهري وأبو مجلز وعطاء وطلحة بن مصرف في آخرين، وحكاه البيهقي عن الشافعي في القديم، وبه قال إسحاق وداود، واختاره أبو عوانة الإسفرايني وابن جرير وآخرون. ونسب ابن عبد البر القول بعدم الوجوب إلى الإجماع سوى من شذ، كذا قال، واستدل لعدم الوجوب من حيث المعنى لأنه لو لم يوص لقسم جميع ماله بين ورثته بالإجماع، فلو كانت الوصية واجبة لأخرج من ماله سهم ينوب عن الوصية، وأجابوا عن الآية بأنها منسوخة كما قال ابن عباس: على ما سيأتي بعد أربعة أبواب "كان المال للولد وكانت الوصية للوالدين، فنسخ الله من ذلك ما أحب فجعل لكل واحد من الأبوين السدس" الحديث. وأجاب من قال بالوجوب بأن الذي نسخ الوصية للوالدين والأقارب الذين يرثون وأما الذي لا يرث فليس في الآية ولا في تفسير ابن عباس ما يقتضي النسخ في حقه، وأجاب من قال بعدم الوجوب عن الحديث بأن قوله: "ما حق امرئ" بأن المراد الحزم والاحتياط، لأنه قد يفجؤه الموت وهو على غير وصية، ولا ينبغي للمؤمن أن يغفل عن ذكر الموت والاستعداد له، وهذا عن الشافعي، وقال غيره: الحق لغة الشيء الثابت، ويطلق شرعا على ما ثبت به الحكم، والحكم الثابت أعم من أن يكون واجبا أو مندوبا، وقد يطلق على المباح أيضا لكن بقلة قاله القرطبي، قال: فإن اقترن به "على" أو نحوها كان ظاهرا في الوجوب، وإلا فهو على الاحتمال، وعلى هذا التقدير فلا حجة في هذا الحديث لمن قال بالوجوب، بل اقترن هذا الحق بما يدل على الندب وهو تفويض الوصية إلى إرادة الموصي حيث قال: "له شيء يريد أن يوصي فيه: "فلو كانت واجبة لما علقها بإرادته، وأما الجواب عن الرواية التي بلفظ: "لا يحل" فلاحتمال أن يكون راويها ذكرها وأراد بنفي الحل ثبوت الجواز بالمعنى الأعم الذي يدخل تحته الواجب والمندوب والمباح، واختلف القائلون بوجوب الوصية فأكثرهم ذهب إلى وجوبها في الجملة، وعن طاوس وقتادة والحسن وجابر بن زيد في آخرين "تجب للقرابة الذين لا يرثون خاصة" أخرجه ابن جرير وغيره عنهم، قالوا: فإن أوصى لغير قرابته لم تنفذ ويرد الثلث كله إلى قرابته وهذا قول طاوس. وقال الحسن وجابر بن زيد: ثلثا الثلث. وقال قتادة: ثلث الثلث، وأقوى ما يرد على هؤلاء ما احتج به الشافعي من

(5/358)


حديث عمران بن حصين في قصة الذي أعتق عند موته ستة أعبد له لم يكن له مال غيرهم، فدعاهم النبي صلى الله عليه وسلم فجزأهم ستة أجزاء فأعتق اثنين وأرق أربعة، قال فجعل عتقه في المرض وصية، ولا يقال لعلهم كانوا أقارب المعتق لأنا نقول لم تكن عادة العرب أن تملك من بينها وبينه قرابة، وإنما تملك من لا قرابة له أو كان من العجم، فلو كانت الوصية تبطل لغير القرابة لبطلت في هؤلاء، وهو استدلال قوي والله أعلم. ونقل ابن المنذر عن أبي ثور أن المراد بوجوب الوصية في الآية والحديث يختص بمن عليه حق شرعي يخشى أن يضيع على صاحبه إن لم يوص به كوديعة ودين لله أو لآدمي، قال: ويدل على ذلك تقييده بقوله: "له شيء يريد أن يوصي فيه"لأن فيه إشارة إلى قدرته على تنجيزه ولو كان مؤجلا. فإنه إذا أراد ذلك ساغ له، وإن أراد أن يوصي به ساغ له، وحاصله يرجع إلى قول الجمهور إن الوصية غير واجبة لعينها، وإن الواجب لعينه الخروج من الحقوق الواجبة للغير سواء كانت بتنجيز أو وصية، ومحل وجوب الوصية إنما هو فيما إذا كان عاجزا عن تنجيز ما عليه وكان لم يعلم بذلك غيره ممن يثبت الحق بشهادته، فأما إذا كان قادرا أو علم بها غيره فلا وجوب، وعرف من مجموع ما ذكرنا أن الوصية قد تكون واجبة وقد تكون مندوبة فيمن رجا منها كثرة الأجر، ومكروهة في عكسه، ومباحة فيمن استوى الأمران فيه، ومحرمة فيما إذا كان فيها إضرار كما ثبت عن ابن عباس "الإضرار في الوصية من الكبائر" رواه سعيد بن منصور موقوفا بإسناد صحيح، ورواه النسائي ورجاله ثقات، واحتج ابن بطال تبعا لغيره بأن ابن عمر لم يوص. فلو كانت الوصية واجبة لما تركها وهو راوي الحديث، وتعقب بأن ذلك إن ثبت عن ابن عمر فالعبرة بما روى لا بما رأى، على أن الثابت عنه في صحيح مسلم كما تقدم أنه قال: "لم أبت ليلة إلا ووصيتي مكتوبة عندي" والذي احتج بأنه لم يوص اعتمد على ما رواه حماد بن زيد عن أيوب عن نافع قال: "قيل لابن عمر في مرض موته: ألا توصي؟ قال: أما مالي فالله يعلم ما كنت أصنع فيه، وأما رباعي فلا أحب أن يشارك ولدي فيها أحد" أخرجه ابن المنذر وغنوه وسنده صحيح، ويجمع بينه وبين ما رواه مسلم بالحمل على أنه كان يكتب وصبته ويتعاهدها؛ ثم صار ينجز ما كان يوصي به معلقا، وإليه الإشارة بقوله: "فالله يعلم ما كنت أصنع في مالي". ولعل الحامل له على ذلك حديثه الذي سيأتي في الرقاق "إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح" الحديث، فصار ينجز ما يريد التصدق به فلم يحتج إلى تعليق، وسيأتي في آخر الوصايا أنه وقف بعض دوره، فبهذا يحصل التوفيق والله أعلم. واستدل بقوله: "مكتوبة عنده" على جواز الاعتماد على الكتابة والخط ولو لم يقترن ذلك بالشهادة، وخص أحمد ومحمد بن نصر من الشافعية ذلك بالوصية لثبوت الخبر فيها دون غيرها من الأحكام، وأجاب الجمهور بأن الكتابة ذكرت لما فيها من ضبط المشهود به، قالوا: ومعنى "وصيته مكتوبة عنده" أي بشرطها. وقال المحب الطبري: إضمار الإشهاد فيه بعد، وأجيب بأنهم استدلوا على اشتراط الإشهاد بأمر خارج كقوله تعالى: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ} فإنه يدل على اعتبار الإشهاد في الوصية، وقال القرطبي: ذكر الكتابة مبالغة في زيادة التوثق، وإلا فالوصية المشهود بها متفق عليها ولو لم تكن مكتوبة والله أعلم. واستدل بقوله: "وصيته مكتوبة عنده" على أن الوصية تنفذ إن كانت عند صاحبها ولم يجعلها عند غيره، وكذلك لو جعلها عند غيره وارتجعها، وفي الحديث منقبة لابن عمر لمبادرته لامتثال قول الشارع ومواظبته عليه، وفيه الندب إلى التأهب للموت والاحتراز قبل الفوت، لأن الإنسان لا يدري متى يفجؤه الموت، لأنه ما من سن يفرض إلا وقد مات فيه جمع جم؛ وكل واحد بعينه جائز أن يموت في الحال، فينبغي أن يكون متأهبا لذلك فيكتب

(5/359)


وصيته، ويجمع فيها ما يحصل له به الأجر ويحبط عنه الوزر من حقوق الله وحقوق عباده، والله المستعان. واستدل بقوله: "له شيء" أو "له مال" على صحة الوصية بالمنافع، وهو قول الجمهور. ومنعه ابن أبي ليلى وابن شبرمة وداود وأتباعه، واختاره ابن عبد البر. وفي الحديث الحض على الوصية ومطلقها يتناول الصحيح، لكن السلف خصوها بالمريض، وإنما لم يقيد به في الخبر لإطراد العادة به، وقوله: "مكتوبة" أعم من أن تكون بخطه أو بغير خطه، ويستفاد منه أن الأشياء المهمة ينبغي أن تضبط بالكتابة لأنها أثبت من الضبط بالحفظ لأنه يخون غالبا. الحديث الثاني قوله: "حدثنا إبراهيم بن الحارث" هو بغدادي سكن نيسابور وليس له في البخاري سوى هذا الحديث، وشيخه يحيى بن أبي بكير بالتصغير وأداة الكنية هو الكرماني وليس هو يحيى بن بكير المصري صاحب الليث وأبو إسحاق هو السبيعي وعمرو بن الحارث هو الخزاعي المصطلقي أخو جويرية بالجيم والتصغير أم المؤمنين، ووقع التصريح بسماع أبي إسحاق له من عمرو بن الحارث في الخمس من هذا الكتاب. قوله: "ولا عبدا ولا أمة" أي في الرق، وفيه دلالة على أن من ذكر من رقيق النبي صلى الله عليه وسلم في جميع الأخبار كان إما مات وإما أعتقه، واستدل به على عتق أم الولد بناء على أن مارية والدة إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم عاشت بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وأما على قول من قال إنها ماتت في حياته صلى الله عليه وسلم فلا حجة فيه. قوله: "ولا شيئا" في رواية الكشميهني: "ولا شاة" والأول أصح، وهي رواية الإسماعيلي أيضا من طريق زهير، نعم روى مسلم وأبو داود والنسائي وغيرهم من طريق مسروق عن عائشة قالت: "ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم درهما ولا دينارا ولا شاة ولا بعيرا ولا أوصى بشيء". قوله: "إلا بغلته البيضاء وسلاحه وأرضا جعلها صدقة" سيأتي ذكر البغلة والسلاح في آخر المغازي، وأما الصدقة ففي رواية أبي الأحوص عن أبي إسحاق في أواخر المغازي "وأرضا جعلها لابن السبيل صدقة" قال ابن المنير: أحاديث الباب مطابقة للترجمة إلا حديث عمرو بن الحارث هذا فليس فيه للوصية ذكر، قال: لكن الصدقة المذكورة يحتمل أن تكون قبله ويحتمل أن تكون موصى بها فتطابق الترجمة من هذه الحيثية انتهى. ويظهر أن المطابقة تحصل على الاحتمالين لأنه تصدق بمنفعة الأرض فصار حكمها حكم الوقف، وهو في هذه الصورة في معنى الوصية لبقائها بعد الموت، ولعل البخاري قصد ما وقع في حديث عائشة الذي هو شبيه حديث عمرو بن الحارث، وهو نفي كونه صلى الله عليه وسلم أوصى. الحديث الثالث حديث عبد الله بن أبي أوفى وإسناده كله كوفيون، وقوله: "حدثنا مالك" هو ابن مغول، ظاهره أن شيخ البخاري لم ينسبه فلذلك قال البخاري: "هو ابن مغول" وهو بكسر الميم وسكون المعجمة وفتح الواو، وذكر الترمذي أن مالك بن مغول تفرد به. قوله: "هل كان النبي صلى الله عليه وسلم أوصى؟ فقال: لا" هكذا أطلق الجواب، وكأنه فهم أن السؤال وقع عن وصية خاصة فلذلك ساغ نفيها، لا أنه أراد نفي الوصية مطلقا، لأنه أثبت بعد ذلك أنه أوصى بكتاب الله. قوله: "أو أمروا بالوصية" شك من الراوي: هل قال كيف كتب على المسلمين الوصية، أو قال كيف أمروا بها؟ زاد المصنف في فضائل القرآن "ولم يوص" وبذلك يتم الاعتراض، أي كيف يؤمر المسلمون بشيء ولا يفعله النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال النووي: لعل ابن أبي أوفى أراد لم يوص بثلث ماله لأنه لم يترك بعده مالا، وأما الأرض فقد سبلها في حياته، وأما السلاح والبغلة ونحو ذلك فقد أخبر بأنها لا تورث عنه بل جميع ما يخلفه صدقة، فلم يبق بعد ذلك ما يوصي به من الجهة المالية. وأما الوصايا بغير ذلك فلم يرد ابن أبي أوفى نفيها، ويحتمل أن يكون المنفي وصيته إلى علي بالخلافة كما وقع التصريح به في حديث عائشة الذي بعده، ويؤيده ما وقع في رواية الدارمي عن محمد بن يوسف

(5/360)


شيخ البخاري فيه، وكذلك عند ابن ماجه وأبي عوانة في آخر حديث الباب: "قال طلحة فقال هزيل بن شرحبيل: أبو بكر كان يتأمر على وصي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ود أبو بكر أنه كان وجد عهدا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فخزم أنفه بخزام" وهزيل هذا بالزاي مصغر أحد كبار التابعين ومن ثقات أهل الكوفة، فدل هذا على أنه كان في الحديث قرينة تشعر بتخصيص السؤال بالوصية بالخلافة ونحو ذلك، لا مطلق الوصية. قلت: أخرج ابن حبان الحديث من طريق ابن عيينة عن مالك بن مغول بلفظ يزيل الإشكال فقال: "سئل ابن أبي أوفى: هل أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: ما ترك شيئا يوصي فيه. قيل: فكيف أمر الناس بالوصية ولم يوص؟ قال: أوصى بكتاب الله" وقال القرطبي: استبعاد طلحة واضح لأنه أطلق، فلو أراد شيئا بعينه لخصه به، فاعترضه بأن الله كتب على المسلمين الوصية وأمروا بها فكيف لم يفعلها النبي صلى الله عليه وسلم؟ فأجابه بما يدل على أنه أطلق في موضع التقييد، قال: وهذا يشعر بأن ابن أبي أوفى وطلحة بن مصرف كانا يعتقدان أن الوصية واجبة، كذا قال، وقول ابن أبي أوفى "أوصى بكتاب الله" أي بالتمسك به والعمل بمقتضاه، ولعله أشار لقوله صلى الله عليه وسلم: "تركت فيكم ما إن تمسكتم به لم تضلوا كتاب الله" ، وأما ما صح في مسلم وغيره أنه صلى الله عليه وسلم: "أوصى عند موته بثلاث: لا يبقين بجزيرة العرب دينان" وفي لفظ: "أخرجوا اليهود من جزيرة العرب" وقوله: "أجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم به" ولم يذكر الراوي الثالثة، وكذا ما ثبت في النسائي أنه صلى الله عليه وسلم. "كان آخر ما تكلم به الصلاة وما ملكت أيمانكم" وغير ذلك من الأحاديث التي يمكن حصرها بالتتبع، فالظاهر أن ابن أبي أوفى لم يرد نفيه، ولعله اقتصر على الوصية بكتاب الله لكونه أعظم وأهم، ولأن فيه تبيان كل شيء إما بطريق النص وإما بطريق الاستنباط، فإذا اتبع الناس ما في الكتاب عملوا بكل ما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم به لقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} الآية، أو يكون لم يحضر شيئا من الوصايا المذكورة أو لم يستحضرها حال قوله، والأولى أنه إنما أراد بالنفي الوصية بالخلافة أو بالمال، وساغ إطلاق النفي أما في الأول فبقرينة الحال وأما في الثاني فلأنه المتبادر عرفا، وقد صح عن ابن عباس: "أنه صلى الله عليه وسلم لم يوص" أخرجه ابن أبي شيبة من طريق أرقم بن شرحبيل عنه، مع أن ابن عباس هو الذي روى حديث أنه صلى الله عليه وسلم أوصى بثلاث، والجمع بينهما على ما تقدم. وقال الكرماني: قوله: "أوصى بكتاب الله" الباء زائدة أي أمر بذلك وأطلق الوصية على سبيل المشاكلة، فلا منافاة بين النفي والإثبات. قلت: ولا يخفى بعدما قال وتكلفه، ثم قال: أو المنفي الوصية بالمال أو الإمامة، والمثبت الوصية بكتاب الله، أي بما في كتاب الله أن يعمل به انتهى. وهذا الأخير هو المعتمد. الحديث الرابع قوله: "حدثنا عمرو بن زرارة" هو النيسابوري، وهو بفتح العين وزرارة بضم الزاي، وأما عمر بن زرارة بضم العين فهو بغدادي ولم يخرج عنه البخاري شيئا. ووقع في رواية أبي علي بن السكن بدل "عمرو بن زرارة" في هذا الحديث: "إسماعيل بن زرارة" يعني الرقي، قال أبو علي الجياني: لم أر ذلك لغيره، قال: وقد ذكر الدار قطني وأبو عبد الله بن منده في شيوخ البخاري إسماعيل بن زرارة الثغري ولم يذكره الكلاباذي ولا الحاكم. قوله: "أخبرنا إسماعيل" هو المعروف بابن علية، وإبراهيم هو النخعي، والأسود هو ابن يزيد خاله. قوله: "ذكروا عند عائشة أن عليا رضي الله عنهما كان وصيا" قال القرطبي: كانت الشيعة قد وضعوا أحاديث في أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى بالخلافة لعلي، فرد عليهم جماعة من الصحابة ذلك، وكذا من بعدهم، فمن ذلك ما استدلت به عائشة كما سيأتي، ومن ذلك أن عليا لم يدع ذلك لنفسه، ولا بعد أن ولي الخلافة، ولا ذكره أحد من الصحابة يوم

(5/361)


السقيفة. وهؤلاء (1) صلى الله عليه وسلم تنقصوا عليا من حيث قصدوا تعظيمه، لأنهم نسبوه - مع شجاعته العظمى وصلابته في الدين - إلى المداهنة والتقية والإعراض عن طلب حقه مع قدرته على ذلك. وقال غيره: الذي يظهر أنهم ذكروا عندها أنه أوصى له بالخلافة في مرض موته فلذلك ساغ لها إنكار ذلك، واستندت إلى ملازمتها له في مرض موته إلى أن مات في حجرها ولم يقع منه شيء من ذلك، فساغ لها نفي ذلك، كونه منحصرا في مجالس معينة لم تغب عن شيء منها. وقد أخرج أحمد وابن ماجه بسند قوي وصححه من رواية أرقم بن شرحبيل عن ابن عباس في أثناء حديث فيه أمر النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه أبا بكر أن يصلي بالناس، قال في آخر الحديث: "مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يوص" وسيأتي في الوفاة النبوية عن عمر "مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يستخلف" وأخرج أحمد والبيهقي في "الدلائل" من طريق الأسود بن قيس عن عمرو بن أبي سفيان عن علي أنه لما ظهر يوم الجمل قال: "يا أيها الناس، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعهد إلينا في هذه الإمارة شيئا" الحديث. وأما الوصايا بغير الخلافة فوردت في عدة أحاديث يجتمع منها أشياء: منها حديث أخرجه أحمد وهناد بن السري في "الزهد" وابن سعد في "الطبقات" وابن خزيمة كلهم من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في وجعه الذي مات فيه: "ما فعلت الذهبية؟ قلت عندي. فقال: أنفقيها" الحديث. وأخرج ابن سعد من طريق أبي حازم عن أبي سلمة من عائشة نحوه، ومن وجه آخر عن أبي حازم عن سهل بن سعد وزاد فيه: "ابعثي بها إلى علي بن أبي طالب ليتصدق بها" وفي "المغازي لابن إسحاق" رواية يونس بن بكير عنه حدثني صالح بن كيسان عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: "لم يوص رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موته إلا بثلاث: لكل من الداريين والرهاويين والأشعريين بحاد (2) صلى الله عليه وسلم مائة وسق من خيبر، وأن لا يترك في جزيرة العرب دينان، وأن ينفذ بعث أسامة" وأخرج مسلم في حديث ابن عباس "وأوصى بثلاث: أن تجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم" الحديث، وفي حديث ابن أبي أوفى الذي قبل هذا "أوصى بكتاب الله" وفي حديث أنس عنه عند النسائي وأحمد وابن سعد واللفظ له "كانت عامة وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حضره الموت الصلاة وما ملكت أيمانكم" وله شاهد من حديث علي عند أبي داود وابن ماجه وآخر من رواية نعيم بن يزيد عن علي "وأدوا الزكاة بعد الصلاة" أخرجه أحمد، ولحديث أنس شاهد آخر من حديث أم سلمة عند النسائي بسند جيد، وأخرج سيف بن عمر في "الفتوح" من طريق ابن أبي مليكة عن عائشة "أن النبي صلى الله عليه وسلم حذر من الفتن في مرض موته، ولزوم الجماعة والطاعة" وأخرج الواقدي من مرسل العلاء بن عبد الرحمن أنه أوصى فاطمة فقال: "قولي إذا مت: إنا لله وإنا إليه راجعون" وأخرج الطبراني في الأوسط من حديث عبد الرحمن بن عوف "قالوا: يا رسول الله أوصنا - يعني في مرض موته - فقال: أوصيكم بالسابقين الأولين من المهاجرين وأبنائهم من بعدهم" وقال: لا يروى عن عبد الرحمن إلا بهذا الإسناد، تفرد به عتيق بن يعقوب انتهى، وفيه من لا يعرف حاله. وفي سنن ابن ماجه من حديث علي قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أنا مت فغسلوني بسبع قرب من بئر غرس" وكانت بقباء وكان يشرب منها وسيأتي ضبطها وزيادة في حالها في
ـــــــ
(1) أي الشيعة
(2) قال مصحح طبعة بولاق: كذا بالأصول التي بأيدينا، وحرر الرواية

(5/362)


الوفاة النبوية. وفي مسند البزار ومستدرك الحاكم بسند ضعيف "أنه صلى الله عليه وسلم أوصى أن يصلوا عليه أرسالا بغير إمام" ومن أكاذيب الرافضة ما رواه كثير بن يحيى وهو من كبارهم عن أبي عوانة عن الأجلح عن زيد بن علي بن الحسين قال: "لما كان اليوم الذي توفي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم - فذكر قصة طويلة فيها - فدخل علي فقامت عائشة" فأكب عليه فأخبره بألف باب مما يكون قبل يوم القيامة، يفتح كل باب منها ألف باب" وهذا مرسل أو معضل، وله طريق أخرى موصولة عند ابن عدي في كتاب الضعفاء من حديث عبد الله بن عمر بسند واه. وقولها: "انخنث" بالنون والخاء المعجمة ثم نون مثلثة أي انثنى ومال، وسيأتي بقية ما يتعلق بشرحه في باب الوفاة من آخر المغازي إن شاء الله تعالى.

(5/363)


2 - باب: أَنْ يَتْرُكَ وَرَثَتَهُ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَتَكَفَّفُوا النَّاسَ
2742- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "جَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُنِي وَأَنَا بِمَكَّةَ وَهُوَ يَكْرَهُ أَنْ يَمُوتَ بِالأَرْضِ الَّتِي هَاجَرَ مِنْهَا قَالَ يَرْحَمُ اللَّهُ ابْنَ عَفْرَاءَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أُوصِي بِمَالِي كُلِّهِ قَالَ لاَ قُلْتُ فَالشَّطْرُ قَالَ لاَ قُلْتُ الثُّلُثُ قَالَ فَالثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ إِنَّكَ أَنْ تَدَعَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ فِي أَيْدِيهِمْ وَإِنَّكَ مَهْمَا أَنْفَقْتَ مِنْ نَفَقَةٍ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ حَتَّى اللُّقْمَةُ الَّتِي تَرْفَعُهَا إِلَى فِي امْرَأَتِكَ وَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَرْفَعَكَ فَيَنْتَفِعَ بِكَ نَاسٌ وَيُضَرَّ بِكَ آخَرُونَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ يَوْمَئِذٍ إِلاَّ ابْنَةٌ"
قوله: "باب أن يترك ورثته أغنياء خير من أن يتكففوا الناس" هكذا اقتصر على لفظ الحديث فترجم به. ولعله أشار إلى من لم يكن له من المال إلا القليل لم تندب له الوصية كما مضى. قوله: "عن سعد بن إبراهيم" أي ابن عبد الرحمن بن عوف، وعامر بن سعد شيخه هو خاله لأن أم سعد بن إبراهيم هي أم كلثوم بنت سعد بن أبي وقاص وسعد وعامر زهريان مدنيان تابعيان، ووقع في رواية مسعر عن سعد بن إبراهيم "حدثني بعض آل سعد قال: مرض سعد" وقد حفظ سفيان اسمه ووصله فروايته مقدمة، وقد روى هذا الحديث عن عامر أيضا جماعة منهم الزهري وتقدم سياق حديثه في الجنائز، ويأتي في الهجرة وغيرها، ورواه عن سعد بن أبي وقاص جماعة غير ابنه عامر كما سأشير إليه. قوله: "جاء النبي صلى الله عليه وسلم يعودني وأنا بمكة" زاد الزهري في روايته: "في حجة الوداع من وجع اشتد بي" وله في الهجرة "من وجع أشفيت منه على الموت" واتفق أصحاب الزهري على أن ذلك كان في حجة الوداع، إلا ابن عيينة فقال: "في فتح مكة" أخرجه الترمذي وغيره من طريقه، واتفق الحفاظ على أنه وهم فيه. وقد أخرجه البخاري في الفرائض من طريقه فقال: "بمكة" ولم يذكر الفتح، وقد وجدت لابن عيينة مستندا فيه، وذلك فيما أخرجه أحمد والبزار والطبراني والبخاري في التاريخ وابن سعد من حديث عمرو بن القاري "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم فخلف سعدا مريضا حيث خرج إلى حنين، فلما قدم من الجعرانة معتمرا دخل عليه وهو مغلوب فقال: يا رسول الله إن لي مالا، وإني أورث كلالة، أفأوصي بمالي" الحديث، وفيه: "قلت: يا رسول الله أميت أنا بالدار الذي خرجت منها مهاجرا؟ قال: لا، إني لأرجو أن يرفعك الله حتى ينتفع بك أقوام"

(5/363)


الحديث، فلعل ابن عيينة انتقل ذهنه من حديث إلى حديث، ويمكن الجمع بين الروايتين بأن يكون ذلك وقع له مرتين مرة عام الفتح ومرة عام حجة الوداع، ففي الأولى لم يكن له وارث من الأولاد أصلا، وفي الثانية كانت له ابنة فقط، فالله أعلم. قوله: "وهو يكره أن يموت بالأرض التي هاجر منها" يحتمل أن تكون الجملة حالا من الفاعل أو من المفعول، وكل منهما محتمل، لأن كلا من النبي صلى الله عليه وسلم ومن سعد كان يكره ذلك، لكن إن كان حالا من المفعول وهو سعد ففيه التفات لأن السياق يقتضي أن يقول: "وأنا أكره"، وقد أخرجه مسلم من طريق حميد بن عبد الرحمن عن ثلاثة من ولد سعد عن سعد بلفظ: "فقال: يا رسول الله خشيت أن أموت بالأرض التي هاجرت منها كما مات سعد بن خولة" وللنسائي من طريق جرير بن يزيد عن عامر بن سعد "لكن البائس سعد بن خولة مات في الأرض التي هاجر منها" وله من طريق بكير بن مسمار عن عامر بن سعد في هذا الحديث: "فقال سعد: يا رسول الله أموت بالأرض التي هاجرت منها؟ قال. لا إن شاء الله تعالى " وسيأتي بقية ما يتعلق بكراهة الموت بالأرض التي هاجر منها في كتاب الهجرة إن شاء الله تعالى. قوله: "قال يرحم الله ابن عفراء" كذا وقع في هذه الرواية في رواية أحمد والنسائي من طريق عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان "فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يرحم الله سعد ابن عفراء ثلاث مرات" قال الداودي: "ابن عفراء" غير محفوظ. وقال الدمياطي: هو وهم، والمعروف "ابن خولة" قال: ولعل الوهم من سعد بن إبراهيم فإن الزهري أحفظ منه وقال فيه: "سعد بن خولة" يشير إلى ما وقع في روايته بلفظ: "لكن البائس سعد بن خولة يرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مات بمكة" قلت. وقد ذكرت آنفا من وافق الزهري وهو الذي ذكره أصحاب المغازي وذكروا أنه شهد بدرا ومات في حجة الوداع. وقال بعضهم في اسمه "خولي" بكسر اللام وتشديد التحتانية واتفقوا على سكون الواو، وأغرب ابن التين فحكى عن القابسي فتحها، ووقع في رواية ابن عيينة في الفرائض "قال سفيان وسعد بن خولة رجل من بني عامر بن لؤي" ا هـ. وذكر ابن إسحاق أنه كان حليفا لهم ثم لأبي رهم بن عبد العزي منهم، وقيل كان من الفرس الذين نزلوا اليمن، وسيأتي شيء من خبره في غزوة بدر من كتاب المغازي إن شاء الله تعالى في حديث سبيعة الأسلمية، ويأتي شرح حديث سبيعة في كتاب العدد من آخر كتاب النكاح، وجزم الليث بن سعد في تاريخه عن يزيد بن أبي حبيب بأن سعد بن خولة مات في حجة الوداع وهو الثابت في الصحيح، خلافا لمن قال إنه مات في مدة الهدنة مع قريش سنة سبع، وجوز أبو عبد الله بن أبي الخصال الكاتب المشهور في حواشيه على البخاري أن المراد بابن عفراء عوف بن الحارث أخو معاذ ومعوذ أولاد عفراء وهي أمهم، والحكمة في ذكره ما ذكره ابن إسحاق أنه قال يوم بدر "ما يضحك الرب من عبده؟ قال: أن يغمس يده في العدو حاسرا، فألقى الدرع التي هي عليه فقاتل حتى قتل" قال: فيحتمل أن يكون لما رأى اشتياق سعد بن أبي وقاص للموت وعلم أنه يبقى حتى يلي الولايات ذكر ابن عفراء وحبه للموت ورغبته في الشهادة كما يذكر الشيء بالشيء فذكر سعد بن خولة لكونه مات بمكة وهي دار هجرته وذكر ابن عفراء مستحسنا لميتته ا هـ ملخصا. وهو مردود بالتنصيص على قوله: "سعد ابن عفراء" فانتفى أن يكون المراد عوف وأيضا فليس في شيء من طرق حديث سعد بن أبي وقاص أنه كان راغبا في الموت، بل في بعضها عكس ذلك وهو أنه "بكى فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يبكيك؟ فقال: خشيت أن أموت بالأرض التي هاجرت منها كما مات سعد بن خولة" وهو عند النسائي، وأيضا فمخرج الحديث متحد والأصل عدم التعدد، فالاحتمال بعيد لو صرح بأنه عوف ابن عفراء والله أعلم. وقال التيمي:

(5/364)


يحتمل أن يكون لأمه اسمان خولة وعفراء ا هـ، ويحتمل أن يكون أحدهما اسما والآخر لقبا أو أحدهما اسم أمه والآخر اسم أبيه أو والآخر اسم جدة له، والأقرب أن عفراء اسم أمه والآخر اسم أبيه لاختلافهم في أنه خولة أو خولي، وقول الزهري في روايته: "يرثي له إلخ" قال ابن عبد البر: زعم أهل الحديث أن قوله: "يرثي إلخ" من كلام الزهري، وقال ابن الجوزي وغيره: هو مدرج من قول الزهري. قلت: وكأنهم استندوا إلى ما وقع في رواية أبي داود الطيالسي عن إبراهيم بن سعد عن الزهري فإنه فصل ذلك، لكن وقع عند المصنف في الدعوات عن موسى بن إسماعيل عن إبراهيم بن سعد في آخره: "لكن البائس سعد بن خولة، قال سعد: رثى له رسول الله صلى الله عليه وسلم إلخ" فهذا صريح في وصله فلا ينبغي الجزم بإدراجه، ووقع في رواية عائشة بنت سعد عن أبيها في الطب من الزيادة "ثم وضع يده على جبهتي ثم مسح وجهي وبطني ثم قال: اللهم اشف سعدا وأتمم له هجرته، قال: فما زلت أجد بردها" ولمسلم من طريق حميد بن عبد الرحمن المذكورة "قلت فادع الله أن يشفيني، فقال: اللهم اشف سعدا ثلاث مرات". قوله: "قلت يا رسول الله أوصي بمالي كله" في رواية عائشة بنت سعد عن أبيها في الطب "أفأتصدق بثلثي مالي" وكذا وقع في رواية الزهري، فأما التعبير بقوله: "أفأتصدق" فيحتمل التنجيز والتعليق بخلاف "أفأوصي" لكن المخرج متحد فيحمل على التعليق للجمع بين الروايتين، وقد تمسك بقوله: "أتصدق" من جعل تبرعات المريض من الثلث، وحملوه على المنجزة وفيه نظر لما بينته، وأما الاختلاف في السؤال فكأنه سأل أولا عن الكل ثم سأل عن الثلثين ثم سأل عن النصف ثم سأل عن الثلث، وقد وقع مجموع ذلك في رواية جرير بن يزيد عند أحمد وفي رواية بكير بن مسمار عند النسائي كلاهما عن عامر بن سعد، وكذا لهما من طريق محمد بن سعد عن أبيه ومن طريق هشام بن عروة عن أبيه عن سعد، وقوله في هذه الرواية: "قلت فالشطر" هو بالجر عطفا على قوله: "بمالي كله" أي فأوصي بالنصف، وهذا رجحه السهيلي. وقال الزمخشري: هو بالنصب على تقدير فعل أي أسمي الشطر أو أعين الشطر، ويجوز الرفع على تقدير أيجوز الشطر. قوله: "قلت الثلث؟ قال فالثلث، والثلث كثير" كذا في أكثر الروايات، وفي رواية الزهري في الهجرة "قال الثلث يا سعد، والثلث كثير" وفي رواية مصعب بن سعد عن أبيه عند مسلم: "قلت فالثلث؟ قال: نعم، والثلث كثير" وفي رواية عائشة بنت سعد عن أبيها في الباب الذي يليه "قال: الثلث، والثلث كبير أو كثير" وكذا للنسائي من طريق أبي عبد الرحمن السلمي عن سعد وفيه: "فقال: أوصيت؟ فقلت: نعم. قال: بكم؟ قلت: بمالي كله. قال: فما تركت لولدك "؟ وفيه: "أوص بالعشر، قال فما زال يقول وأقول، حتى قال: أوص بالثلث والثلث كثير أو كبير" يعني بالمثلثة أو بالموحدة، وهو شك من الراوي والمحفوظ في أكثر الروايات بالمثلثة، ومعناه كثير بالنسبة إلى ما دونه، وسأذكر الاختلاف فيه في الباب الذي بعد هذا، وقوله: "قال الثلث والثلث كثير" بنصب الأول على الإغراء، أو بفعل مضمر نحو عين الثلث، وبالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أو المبتدأ والخبر محذوف والتقدير يكفيك الثلث أو الثلث كاف، ويحتمل أن يكون قوله: "والثلث كثير" مسوقا لبيان الجواز بالثلث وأن الأولى أن ينقص عنه ولا يزيد عليه وهو ما يبتدره الفهم، ويحتمل أن يكون لبيان أن التصدق بالثلث هو الأكمل أي كثير أجره، ويحتمل أن يكون معناه كثير غير قليل قال الشافعي رحمه الله " وهذا أولى معانيه " يعني أن الكثرة أمر نسبي، وعلى الأول عول ابن عباس كما سيأتي في حديث الباب الذي بعده. قوله: "إنك أن تدع" بفتح "أن" على التعليل وبكسرها على الشرطية، قال النووي: هما

(5/365)


صحيحان صوريان، وقال القرطبي: لا معني للشرط هنا لأنه يصير لا جواب له ويبقى "خير" لا رافع له. وقال ابن الجوزي: سمعناه من رواة الحديث بالكسر، وأنكره شيخنا عبد الله بن أحمد - يعني ابن الخشاب - وقال: لا يجوز الكسر لأنه لا جواب له لخلو لفظ: "خير" من الفاء وغيرها مما اشترط في الحواب، وتعقب بأنه لا مانع من تقديره وقال ابن مالك: جزاء الشرط قوله: "خير" أي فهو خير، حذف الفاء جائز وهو كقراءة طاوس: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} قال: ومن خص ذلك بالشعر بعد عن التحقيق، وضيق حيث لا تضييق، لأنه كثير في الشعر قليل في غيره، وأشار بذلك إلى ما وقع في الشعر فيما أنشده سيبويه: من يفعل الحسنات الله يشكرها أي فالله يشكرها، وإلى الرد على من زعم أن ذلك خاص بالشعر قال: ونظيره قوله في حديث اللقطة "فإن جاء صاحبها وإلا استمتع بها" بحذف الفاء، وقوله في حديث اللعان "البينة وإلا حد في ظهرك" . قوله: "ورثتك" قال الزين بن المنير: إنما عبر له صلى الله عليه وسلم بلفظ الورثة ولم يقل أن تدع بنتك مع أنه لم يكن له يومئذ إلا ابنة واحدة لكون الوارث حينئذ لم يتحقق، لأن سعدا إنما قال ذلك بناء على موته في ذلك المرض وبقائها بعده حتى ترثه، وكان من الجائز أن تموت هي قبله فأجاب صلى الله عليه وسلم بكلام كلي مطابق لكل حالة وهي قوله: "ورثتك" ولم يخص بنتا من غيرها. وقال الفاكهي شارح العمدة: إنما عبر صلى الله عليه وسلم بالورثة لأنه اطلع على أن سعدا سيعيش ويأتيه أولاد غير البنت المذكورة فكان كذلك، وولد له بعد ذلك أربعة بنين ولا أعرف أسماءهم، ولعل الله أن يفتح بذلك. قلت: وليس قوله: "أن تدع بنتك" متعينا لأن ميراثه لم يكن منحصرا فيها، فقد كان لأخيه عتبة بن أبي وقاص أولاد إذ ذاك منهم هاشم بن عتبة الصحابي الذي قتل بصفين، وسأذكر بسط ذلك، فجاز التعبير بالورثة لتدخل البنت وغيرها ممن يرث لو وقع موته إذ ذاك أو بعد ذلك. أما قول الفاكهي إنه ولد له بعد ذلك أربعة بنين وإنه لا يعرف أسماءهم ففيه قصور شديد، فإن أسماءهم في رواية هذا الحديث بعينه عند مسلم من طريق عامر ومصعب ومحمد ثلاثتهم عن سعد، ووقع ذكر عمر بن سعد فيه في موضع آخر، ولما وقع ذكر هؤلاء في هذا الحديث عند مسلم اقتصر القرطبي على ذكر الثلاثة، ووقع في كلام بعض شيوخنا تعقب عليه بأن له أربعة من الذكور غير الثلاثة وهم عمر وإبراهيم ويحيى وإسحاق، وعزا ذكرهم لابن المديني وغيره، وفاته أن ابن سعد ذكر له من الذكور غير السبعة أكثر من عشرة وهم عبد الله وعبد الرحمن وعمرو وعمران وصالح وعثمان وإسحاق الأصغر وعمر الأصغر وعمير مصغرا وغيرهم، وذكر له من البنات ثنتي عشرة بنتا. وكأن ابن المديني اقتصر على ذكر من روى الحديث منه والله أعلم. قوله: "عالة" أي فقراء وهو جمع عال وهو الفقير والفعل منه عال يعيل إذا افتقر. قوله: "يتكففون الناس" أي يسألون الناس بأكفهم، يقال تكفف الناس واستكف إذا بسط كفه للسؤال، أو سأل ما يكف عنه الجوع، أو سأل كفا كفا من طعام. وقوله: في أيديهم أي بأيديهم أو سألوا بأكفهم وضع المسئول في أيديهم وقع في رواية الزهري أن سعدا قال: "وأنا ذو مال" ونحوه في رواية عائشة بنت سعد في الطب، وهذا اللفظ يؤذن بمال كثير، وذو المال إذا تصدق بثلثه أو بشطره وأبقى ثلثه بين ابنته وغيرها لا يصيرون عالة، لكن الجواب أن ذلك خرج على التقدير لأن بقاء المال الكثير إنما هو على سبيل التقدير وإلا فلو تصدق المريض بثلثيه مثلا ثم طالت حياته ونقص وفني المال فقد تجحف الوصية بالورثة، فرد الشارع الأمر إلى شيء معتدل وهو الثلث. قوله: "وإنك مهما أنفقت من نفقة فإنها صدقة" هو معطوف على قوله: "إنك أن تدع" وهو علة للنهي عن الوصية

(5/366)


بأكثر من الثلث، كأنه قيل لا تفعل لأنك إن مت تركت ورثتك أغنياء وإن عشت تصدقت وأنفقت فالأجر حاصل لك في الحالين، وقوله: "فإنها صدقة" كذا أطلق في هذه الرواية وفي رواية الزهري "وإنك لن تنفق نفق تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها" مقيدة بابتغاء وجه الله، وعلق حصول الأجر بذلك وهو المعتبر، ويستفاد منه أن أجر الواجب يزداد بالنية لأن الإنفاق على الزوجة واجب وفي فعله الأجر، فإذا نوى به ابتغاء وجه الله ازداد أجره بذلك قاله ابن أبي جمرة، قال: ونبه بالنفقة على غيرها من وجوه البر والإحسان. قوله: "حتى اللقمة" بالنصب عطفا على نفقة ويجوز الرفع على أنه مبتدأ و "تجعلها" الخبر، وسيأتي الكلام على حكم نفقة الزوجة في كتاب النفقات إن شاء الله تعالى، ووجه تعلق قوله: "وإنك لن تنفق نفقة إلخ" بقصة الوصية أن سؤال سعد يشعر بأنه رغب في تكثير الأجر فلما منعه الشارع من الزيادة على الثلث قال له على سبيل التسلية إن جميع ما تفعله في مالك من صدقة ناجزة ومن نفقة ولو كانت واجبة تؤجر بها إذا ابتغيت بذلك وجه الله تعالى، ولعله خص المرأة بالذكر لأن نفقتها مستمرة بخلاف غيرها، قال ابن دقيق العيد: فيه أن الثواب في الإنفاق مشروط بصحة النية وابتغاء وجه الله، وهذا عسر إذا عارضه مقتضى الشهوة، فإن ذلك لا يحصل الغرض من الثواب حتى يبتغي به وجه الله، وسبق تخليص هذا المقصود مما يشوبه، قال: وقد يكون فيه دليل على أن الواجبات إذا أديت على قصد أداء الواجب ابتغاء وجه الله أثيب عليها، فإن قوله: "حتى ما تجعل في امرأتك" لا تخصيص له بغير الواجب ولفظة "حتى" هنا تقتضي المبالغة في تحصيل هذا الأجر بالنسبة إلى المعنى، كما يقال جاء الحاج حتى المشاة. قوله: "وعسى الله أن يرفعك" أي يطيل عمرك، وكذلك اتفق، فإنه عاش بعد ذلك أزيد من أربعين سنة بل قريبا من خمسين، لأنه مات سنة خمس وخمسين من الهجرة وقيل سنة ثمان وخمسين وهو المشهور، فيكون عاش بعد حجة الوداع خمسا وأربعين أو ثمانيا وأربعين. قوله: "فينتفع بك ناس ويضر بك آخرون" أي ينتفع بك المسلمون بالغنائم مما سيفتح الله على يديك من بلاد الشرك، ويضر بك المشركون الذين يهلكون على يديك. وزعم ابن التين أن المراد بالنفع به ما وقع من الفتوح على يديه كالقادسية وغيرها، وبالضرر ما وقع من تأمير ولده عمر بن سعد على الجيش الذين قتلوا الحسين بن علي ومن معه، وهو كلام مردود لتكلفه لغير ضرورة تحمل على إرادة الضرر الصادر من ولده، وقد وقع منه هو الضرر المذكور بالنسبة إلى الكفار. وأقوى من ذلك ما رواه الطحاوي من طريق بكير بن عبد الله بن الأشج عن أبيه أنه سأل عامر بن سعد عن معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم هذا فقال: لما أمر سعد على العراق أتي بقوم ارتدوا فاستتابهم فتاب بعضهم وامتنع بعضهم فقتلهم، فانتفع به من تاب وحصل الضرر للآخرين. قال بعض العلماء: "لعل" وإن كانت للترجي لكنها من الله للأمر الواقع، وكذلك إذا وردت على لسان رسوله غالبا. قوله: "ولم يكن له يومئذ إلا ابنة" في رواية الزهري ونحوه في رواية عائشة بنت سعد أن سعدا قال: "ولا يرثني إلا ابنة واحدة" قال النووي وغيره: معناه لا يرثني من الولد أو من خواص الورثة أو من النساء، وإلا فقد كان لسعد عصبات لأنه من بني زهرة وكانوا كثيرا. وقيل معناه لا يرثني من أصحاب الفروض، أو خصها بالذكر على تقدير لا يرثني ممن أخاف عليه الضياع والعجز إلا هي، أو ظن أنها ترث جميع المال، أو استكثر لها نصف التركة. وهذه البنت زعم بعض من أدركناه أن اسمها عائشة، فإن كان محفوظا فهي غير عائشة بنت سعد التي روت هذا الحديث عنده في الباب الذي يليه وفي الطب، وهي تابعية عمرت حتى أدركها مالك وروى عنها وماتت سنة سبع عشرة،

(5/367)


لكن لم يذكر أحد من النسابين لسعد بنتا تسمى عائشة غير هذه، وذكروا أن أكبر بناته أم الحكم الكبرى وأمها بنت شهاب بن عبد الله من الحارث بن زهرة، وذكروا له بنات أخرى أمهاتهن متأخرات الإسلام بعد الوفاة النبوية، فالظاهر أن البنت المشار إليها هي أم الحكم المذكورة لتقدم تزويج سعد بأمها، ولم أر من حرر ذلك، وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدم مشروعية زيارة المريض للإمام فمن دونه، وتتأكد باشتداد المرض، وفيه وضع اليد على جبهة المريض ومسح وجهه ومسح العضو الذي يؤلمه والفسخ له في طول العمر، وجواز إخبار المريض بشدة مرضه وقوة ألمه إذا لم يقترن بذلك شيء مما يمنع أو يكره من التبرم وعدم الرضا بل حيث يكون ذلك لطلب دعاء أو دواء وربما استحب، وأن ذلك لا ينافي الاتصاف بالصبر المحمود، وإذا جاز ذلك في أثناء المرض كان الإخبار به بعد البرء أجوز، وأن أعمال البر والطاعة إذا كان منها ما لا يمكن استدراكه قام غيره في الثواب والأجر مقامه، وربما زاد عليه، وذلك أن سعدا خاف أن يموت بالدار التي هاجر منها فيفوت عليه بعض أجر هجرته، فأخبره صلى الله عليه وسلم بأنه إن تخلف عن دار هجرته فعمل عملا صالحا من حج أو جهاد أو غير ذلك كان له به أجر يعوض ما فاته من الجهة الأخرى، وفيه إباحة جمع المال بشرطه لأن التنوين في قوله: "وأنا ذو مال" للكثرة وقد وقع في بعض طرقه صريحا "وأنا ذو مال كثير" والحث على صلة الرحم والإحسان إلى الأقارب، وأن صلة الأقرب أفضل من صلة الأبعد، والإنفاق في وجوه الخير لأن المباح إذا قصد به وجه الله صار طاعة؛ وقد نبه على ذلك بأقل الحظوظ الدنيوية العادية وهو وضع اللقمة في فم الزوجة إذ لا يكون ذلك غالبا إلا عند الملاعبة والممازحة ومع ذلك فيؤجر فاعله إذا قصد به قصدا صحيحا، فكيف بما هو فوق ذلك، وفيه منع نقل الميت من بلد إلى بلد إذ لو كان ذلك مشروعا لأمر بنقل سعد بن خولة قاله الخطابي، وبأن من لا وارث له تجوز له الوصية بأكثر من الثلث لقوله صلى الله عليه وسلم: "أن تذر ورثتك أغنياء" فمفهومه أن من لا وارث له لا يبالي بالوصية بما زاد لأنه لا يترك ورثة يخشى عليهم الفقر، وتعقب بأنه ليس تعليلا محضا وإنما فيه تنبيه على الأحظ الأنفع، ولو كان تعليلا محضا لاقتضى جواز الوصية بأكثر من الثلث لمن كانت ورثته أغنياء، ولنفذ ذلك عليهم بغير إجازتهم ولا قائل بذلك، وعلى تقدير أن يكون تعليلا محضا فهو للنقص عن الثلث لا للزيادة عليه، فكأنه لما شرع الإيصاء بالثلث وأنه لا يعترض به على الموصي إلا أن الانحطاط عنه أولى ولا سيما لمن يترك ورثة غير أغنياء، فنبه سعدا على ذلك. وفيه سد الذريعة لقوله صلى الله عليه وسلم: "ولا تردهم على أعقابهم" لئلا يتذرع بالمرض أحد لأجل حب الوطن قاله ابن عبد البر. وفيه تقييد مطلق القرآن بالسنة لأنه قال سبحانه وتعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} فأطلق، وقيدت السنة الوصية بالثلث، وأن من ترك شيئا لله لا ينبغي له الرجوع فيه ولا في شيء منه مختارا، وفيه التأسف على فوت ما يحصل الثواب، وفيه حديث: "من ساءته سيئة" وأن من فاته ذلك بادر إلى جبره بغير ذلك وفيه تسلية من فاته أمر من الأمور بتحصيل ما هو أعلى منه لما أشار صلى الله عليه وسلم لسعد من عمله الصالح بعد ذلك، وفيه جواز التصدق بجميع المال لمن عرف بالصبر ولم يكن له من تلزمه نفقته وقد تقدمت المسألة في كتاب الزكاة، وفيه الاستفسار عن المحتمل إذا احتمل وجوها لأن سعدا لما منع من الوصية بجميع المال احتمل عنده المنع فيما دونه والجواز فاستفسر عما دون ذلك، وفيه النظر في مصالح الورثة، وأن خطاب الشارع للواحد يعم من كان بصفته من المكلفين لإطباق العلماء على الاحتجاج بحديث سعد هذا وإن كان الخطاب إنما وقع له بصيغة الإفراد، ولقد أبعد من قال: إن ذلك يختص

(5/368)


بسعد ومن كان في مثل حاله ممن يخلف وارثا ضعيفا أو كان ما يخلفه قليلا لأن البنت من شأنها أن يطمع فيها، وإن كانت بغير مال لم يرغب فيها، وفيه أن من ترك مالا قليلا فالاختيار له ترك الوصية وإبقاء المال للورثة، واختلف السلف في ذلك القليل كما تقدم في أول الوصايا، واستدل به التيمي لفضل الغني على الفقير وفيه نظر، وفيه مراعاة العدل بين الورثة ومراعاة العدل في الوصية، وفيه أن الثلث في حد الكثرة، وقد اعتبره بعض الفقهاء في غير الوصية، ويحتاج الاحتجاج به إلى ثبوت طلب الكثرة في الحكم المعين، واستدل بقوله: "ولا يرثني إلا ابنة لي" من قال بالرد على ذوي الأرحام للحصر في قوله: "لا يرثني إلا ابنة " وتعقب بأن المراد من ذوي الفروض كما تقدم، ومن قال بالرد لا يقول بظاهره لأنهم يعطونها فرضها ثم يردون عليها الباقي، وظاهر الحديث أنها ترث الجميع ابتداء.

(5/369)


3- باب: الْوَصِيَّةِ بِالثُّلُثِ
وَقَالَ الْحَسَنُ لاَ يَجُوزُ لِلذِّمِّيِّ وَصِيَّةٌ إِلاَّ الثُّلُثَ وَقَالَ اللَّهُ عز وجل[49 المائدة]: {وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ}
2743- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ "لَوْ غَضَّ النَّاسُ إِلَى الرُّبْعِ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ"
2744- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ بْنُ عَدِيٍّ حَدَّثَنَا مَرْوَانُ عَنْ هَاشِمِ بْنِ هَاشِمٍ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "مَرِضْتُ فَعَادَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ لاَ يَرُدَّنِي عَلَى عَقِبِي قَالَ: لَعَلَّ اللَّهَ يَرْفَعُكَ وَيَنْفَعُ بِكَ نَاسًا قُلْتُ أُرِيدُ أَنْ أُوصِيَ وَإِنَّمَا لِي ابْنَةٌ قُلْتُ أُوصِي بِالنِّصْفِ؟ قَالَ: النِّصْفُ كَثِيرٌ قُلْتُ فَالثُّلُثِ؟ قَالَ: الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ - أَوْ كَبِيرٌ – قَالَ: فَأَوْصَى النَّاسُ بِالثُّلُثِ وَجَازَ ذَلِكَ لَهُمْ"
قوله: "باب الوصية بالثلث" أي جوازها أو مشروعيتها، وقد سبق تقرير ذلك في الباب الذي قبله، واستقر الإجماع على منع الوصية بأزيد من الثلث، لكن اختلف فيمن كان له وارث، وسيأتي تحريره في "باب لا وصية لوارث" وفيمن لم يكن له وارث خاص فمنعه الجمهور وجوزه الحنفية وإسحاق وشريك وأحمد في رواية وهو قول علي وابن مسعود، واحتجوا بأن الوصية مطلقة بالآية فقيدتها السنة بمن له وارث فيبقى من لا وارث له على الإطلاق وقد تقدم في الباب الذي قبله توجيه لهم آخر. واختلفوا أيضا هل يعتبر ثلث المال حال الوصية أو حال الموت؟ على قولين، وهما وجهان للشافعية أصحهما الثاني، فقال بالأول مالك وأكثر العراقيين وهو قول النخعي وعمر بن عبد العزيز. وقال بالثاني أبو حنيفة وأحمد والباقون وهو قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه وجماعة من التابعين، وتمسك الأولون بأن الوصية عقد والعقود تعتبر بأولها، وبأنه لو نذر أن يتصدق بثلث ماله اعتبر ذلك حالة النذر اتفاقا، وأجيب بأن الوصية ليست عقدا من كل جهة ولذلك لا تعتبر بها الفورية ولا القبول، وبالفرق بين النذر والوصية بأنها يصح الرجوع عنها والنذر يلزم، وثمرة هذا الخلاف تظهر فيما لو حدث له مال بعد الوصية،

(5/369)


واختلفوا أيضا: هل يحسب الثلث من جميع المال أو تنفذ بما علمه الموصي دون ما خفي عليه أو تجدد له ولم يعلم به؟ وبالأول قال الجمهور، وبالثاني قال مالك، وحجة الجمهور أنه لا يشترط أن يستحضر تعداد مقدار المال حالة الوصية اتفاقا ولو كان عالما بجنسه، فلو كان العلم به شرطا لما جاز ذلك. "فائدة": أول من أوصى بالثلث في الإسلام البراء بن المعرور بمهملات، أوصى به للنبي صلى الله عليه وسلم وكان قد مات قبل أن يدخل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة بشهر، فقبله النبي صلى الله عليه وسلم ورده على ورثته، أخرجه الحاكم وابن المنذر من طريق يحيى بن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه عن جده. قوله: "وقال الحسن" أي البصري "لا يجوز للذمي وصية إلا بالثلث" قال ابن بطال: أراد البخاري بهذا الرد على من قال كالحنفية بجواز الوصية بالزيادة على الثلث لمن لا وارث له، قال: ولذلك احتج بقوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} والذي حكم به النبي صلى الله عليه وسلم من الثلث هو الحكم بما أنزل الله، فمن تجاوز ما حده فقد أتى ما نهي عنه. وقال ابن المنير: لم يرد البخاري هذا وإنما أراد الاستشهاد بالآية على أن الذمي إذا تحاكم إلينا ورثته لا ينفذ من وصيته إلا الثلث، لأنا لا نحكم فيهم إلا بحكم الإسلام لقوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} الآية. قوله: "حدثنا سفيان" هو ابن عيينة فإن قتيبة لم يلحق الثوري. قوله: "عن هشام بن عروة" وفي رواية الحميدي في مسنده عن سفيان "حدثنا هشام" وليس لعروة بن الزبير عن ابن عباس في البخاري سوى هذا الحديث الواحد. قوله: "لو غض الناس" بمعجمتين أي نقص، و "لو" للتمني فلا يحتاج إلى جواب، أو شرطية والجواب محذوف، وقد وقع في رواية ابن أبي عمر في مسنده عن سفيان بلفظ: "كان أحب إلي" أخرجه الإسماعيلي من طريقه ومن طريق أحمد بن عبدة أيضا وأخرجه من طريق العباس بن الوليد عن سفيان بلفظ: "كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله: "إلى الربع" زاد الحميدي "في الوصية" وكذا رواه أحمد عن وكيع عن هشام بلفظ: "وددت أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع في الوصية" الحديث، وفي رواية ابن نمير عن هشام عند مسلم: "لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع". قوله: "لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال" هو كالتعليل لما اختاره من النقصان عن الثلث، وكأن ابن عباس أخذ ذلك من وصفه صلى الله عليه وسلم الثلث بالكثرة، وقد قدمنا الاختلاف في توجيه ذلك في الباب الذي قبله، ومن أخذ بقول ابن عباس في ذلك كإسحاق بن راهويه، والمعروف في مذهب الشافعي استحباب النقص عن الثلث، وفي شرح مسلم للنووي: إن كان الورثة فقراء استحب أن ينقص منه وإن كانوا أغنياء فلا. قوله: "والثلث كثير" في رواية مسلم: "كثير أو كبير" بالشك هل هي بالموحدة أو بالمثلثة. قوله: "حدثني محمد بن عبد الرحيم" هو الحافظ المعروف بصاعقة وهو من أقران البخاري وأكبر منه قليلا. قوله: "حدثنا مروان" هو ابن معاوية الفزاري. قوله: "عن هاشم بن هاشم" أي ابن عتبة بن أبي وقاص، وقد نزل البخاري في هذا الإسناد درجتين، لأنه يروي عن مكي بن إبراهيم ومكي يروي عن هاشم المذكور، وسيأتي في مناقب سعد له بهذا الإسناد حديث عن مكي عن هاشم عن عامر بن سعد عن أبيه. قوله: "فقلت يا رسول الله ادع الله أن لا يردني على عقبي" هو إشارة إلى ما تقدم من كراهية الموت بالأرض التي هاجر منها وقد تقدم توجيهه وشرحه في الباب الذي قبله. قوله: "لعل الله يرفعك" زاد أبو نعيم في "المستخرج" في روايته من وجه آخر عن زكريا بن عدي "يعني يقيمك من مرضك". قوله في هذه الرواية "قلت أوصي بالنصف؟ قال: النصف كثير" لم أر في غيرها من طرقه وصف النصف بالكثرة، وإنما فيها "قال لا في كله، ولا في ثلثيه" وليس في هذه الرواية إشكال إلا من جهة وصف النصف بالكثرة ووصف الثلث بالكثرة فكيف امتنع النصف

(5/370)


دون الثلث؟ وجوابه أن الرواية الأخرى التي فيها جواب النصف دلت على منع النصف ولم يأت مثلها في الثلث بل اقتصر على وصفه بالكثرة، وعلل بأن إبقاء الورثة أغنياء أولى، وعلى هذا فقوله: "الثلث" خبر مبتدأ محذوف تقديره مباح، ودل قوله: "والثلث كثير" على أن الأولى أن ينقص منه والله أعلم. قوله: "قال وأوصى الناس بالثلث فجار ذلك لهم" ظاهره أنه من قول سعد بن أبي وقاص، ويحتمل أن يكون من قول من دونه والله أعلم، وكأن البخاري قصد بذلك الإشارة إلى أن النقص من الثلث في حديث ابن عباس للاستحباب لا للمنع منه، جمعا بين الحديثين، والله أعلم.

(5/371)


باب قول الوصي لوصيه تعاهد ولدي وما يجوز للوصي من الدعوى
...
4 - باب: قَوْلِ الْمُوصِي لِوَصِيِّهِ تَعَاهَدْ وَلَدِي وَمَا يَجُوزُ لِلْوَصِيِّ مِنْ الدَّعْوَى
2745- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا قَالَتْ "كَانَ عُتْبَةُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ عَهِدَ إِلَى أَخِيهِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّ ابْنَ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ مِنِّي فَاقْبِضْهُ إِلَيْكَ فَلَمَّا كَانَ عَامُ الْفَتْحِ أَخَذَهُ سَعْدٌ فَقَالَ ابْنُ أَخِي قَدْ كَانَ عَهِدَ إِلَيَّ فِيهِ فَقَامَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ فَقَالَ أَخِي وَابْنُ أَمَةِ أَبِي وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ فَتَسَاوَقَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ سَعْدٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ ابْنُ أَخِي كَانَ عَهِدَ إِلَيَّ فِيهِ فَقَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ أَخِي وَابْنُ وَلِيدَةِ أَبِي فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ ثُمَّ قَالَ لِسَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ احْتَجِبِي مِنْهُ لِمَا رَأَى مِنْ شَبَهِهِ بِعُتْبَةَ فَمَا رَآهَا حَتَّى لَقِيَ اللَّهَ"
قوله: "باب قول الموصي لوصيه تعاهد لولدي وما يجوز للوصي من الدعوى" أورد فيه حديث عائشة في قصة مخاصمة سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة في ابن وليدة زمعة، وقد ترجم له في كتاب الإشخاص "دعوى الموصي للميت" أي عن الميت، وانتزاع الأمرين المذكورين في الترجمة من الحديث المذكور واضح، وسيأتي الكلام عليه في الفرائض إن شاء الله تعالى.

(5/371)


باب إذا ومأ المريض برأسه إشارة بينة جازت
...
5 - باب: إِذَا أَوْمَأَ الْمَرِيضُ بِرَأْسِهِ إِشَارَةً بَيِّنَةً جَازَتْ
2746- حَدَّثَنَا حَسَّانُ بْنُ أَبِي عَبَّادٍ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ يَهُودِيًّا رَضَّ رَأْسَ جَارِيَةٍ بَيْنَ حَجَرَيْنِ فَقِيلَ لَهَا: مَنْ فَعَلَ بِكِ؟ أَفُلاَنٌ أَوْ فُلاَنٌ؟ حَتَّى سُمِّيَ الْيَهُودِيُّ فَأَوْمَأَتْ بِرَأْسِهَا، فَجِيءَ بِهِ، فَلَمْ يَزَلْ حَتَّى اعْتَرَفَ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرُضَّ رَأْسُهُ بِالْحِجَارَةِ"
قوله: "باب إذا أومأ المريض برأسه إشارة بينة تعرف" أي هل يحكم بها؟ أورد فيه حديث أنس في قصة الجارية التي رض اليهودي رأسها، وسيأتي الكلام عليه في القصاص إن شاء الله تعالى.

(5/371)


6 - باب: لاَ وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ
2747- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ وَرْقَاءَ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "كَانَ الْمَالُ لِلْوَلَدِ وَكَانَتْ الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ فَنَسَخَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ مَا أَحَبَّ فَجَعَلَ لِلذَّكَرِ مِثْلَ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ وَجَعَلَ لِلْأَبَوَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسَ وَجَعَلَ لِلْمَرْأَةِ الثُّمُنَ وَالرُّبُعَ وَلِلزَّوْجِ الشَّطْرَ وَالرُّبُعَ"
[الحديث 2747- طرفاه في: 4578 ، 6739]
قوله: "باب لا وصية لوارث" هذه الترجمة لفظ حديث مرفوع كأنه لم يثبت على شرط البخاري فترجم به كعادته واستغنى بما يعطي حكمه. وقد أخرجه أبو داود والترمذي وغيرهما من حديث أبي أمامة "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته في حجة الوداع: إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث" وفي إسناده إسماعيل بن عياش، وقد قوى حديثه عن الشاميين جماعة من الأئمة منهم أحمد والبخاري. وهذا من روايته عن شرحبيل بن مسلم وهو شامي ثقة، وصرح في روايته بالتحديث عند الترمذي وقال الترمذي: حديث حسن. وفي الباب عن عمرو بن خارجة عند الترمذي والنسائي، وعن أنس عند ابن ماجة، وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عند الدار قطني وعن جابر عند الدار قطني أيضا وفال: الصواب إرساله، وعن علي عند ابن أبي شيبة، ولا يخلو إسناد كل منها عن مقال، لكن مجموعها يقتضي أن للحديث أصلا، بل جنح الشافعي في "الأم" إلى أن هذا المتن متواتر فقال: وجدنا أهل الفتيا ومن حفظنا عنهم من أهل العلم بالمغازي من قريش وغيرهم لا يختلفون في أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عام الفتح "لا وصية لوارث" ويؤثرون عمن حفظوه عنه ممن لقوه من أهل العلم، فكان نقل كافة عن كافة، فهو أقوى من نقل واحد. وقد نازع الفخر الرازي في كون هذا الحديث متواترا وعلى تقدير تسليم ذلك فالمشهور من مذهب الشافعي أن القرآن لا ينسخ بالسنة لكن الحجة في هذا الإجماع على مقتضاه كما صرح به الشافعي وغيره، والمراد بعدم صحة وصية الوارث عدم اللزوم، لأن الأكثر على أنها موقوفة على إجازة الورثة كما سيأتي بيانه، وروى الدار قطني من طريق ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس مرفوعا: "لا تجوز وصية لوارث إلا أن يشاء الورثة" كما سيأتي بيانه، ورجاله ثقات، إلا أنه معلول: فقد قيل إن عطاء هو الخراساني والله أعلم. وكأن البخاري أشار إلى ذلك فترجم بالحديث، وأخرج من طريق عطاء وهو ابن أبي رباح عن ابن عباس حديث الباب وهو موقوف لفظا، إلا أنه في تفسيره إخبار بما كان من الحكم قبل نزول القرآن فيكون في حكم المرفوع بهذا التقدير، ووجه دلالته للترجمة من جهة أن نسخ الوصية للوالدين وإثبات الميراث لهما بدلا منها يشعر بأنه لا يجمع لهما بين الميراث والوصية، وإذا كان كذلك كان من دونهما أولى بأن لا يجمع ذلك له، وقد أخرجه ابن جرير من طريق مجاهد بن جبر عن ابن عباس بلفظ: "وكانت الوصية للوالدين والأقربين إلخ" فظهرت المناسبة بهذه الزيادة، وقد وافق محمد بن يوسف - وهو الفريابي في روايته إياه عن ورقاء - عيسى بن ميمون كما أخرجه ابن جرير، وخالف ورقاء شبل عن ابن أبي نجيح فجعل مجاهدا موضع عطاء أخرجه ابن جرير أيضا، ويحتمل أنه كان عند ابن أبي نجيح على الوجهين والله أعلم. قوله: "وجعل

(5/372)


للمرأة الثمن والربع" أي في حالين وكذلك للزوج، قال جمهور العلماء: كانت هذه الوصية في أول الإسلام واجبة لوالدي الميت وأقربائه على ما يراه من المساواة والتفضيل، ثم نسخ ذلك بآية الفرائض، وقيل كانت للوالدين والأقربين دون الأولاد فإنهم كانوا يرثون ما يبقى بعد الوصية، وأغرب ابن شريح فقال كانوا مكلفين بالوصية للوالدين والأقربين بمقدار الفريضة التي في علما الله قبل أن ينزلها؛ واشتد إنكار إمام الحرمين عليه في ذلك. وقيل إن الآية مخصوصة لأن الأقربين أعم من أن يكونوا وراثا، وكانت الوصية واجبة لجميعهم فخص منها من ليس بوارث بآية الفرائض وبقوله صلى الله عليه وسلم: "لا وصية لوارث" وبقي حق من لا يرث من الأقربين من الوصية على حاله قاله طاوس وغيره، وقد تقدمت الإشارة إليه قبل. واختلف في تعيين ناسخ آية {الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} فقيل آية الفرائض وقيل الحديث المذكور، وقيل دل الإجماع على ذلك وإن لم يتعين دليله. واستدل بحديث: "لا وصية لوارث" بأنه لا تصح الوصية للوارث أصلا كما تقدم، وعلى تقدير نفاذها من الثلث لا تصح الوصية له ولا لغيره بما زاد على الثلث ولو أجازت الورثة، وبه قال المزني وداود، وقواه السبكي واحتج له بحديث عمران بن حصين في الذي أعتق ستة أعبد فإن فيه عند مسلم: "فقال له النبي صلى الله عليه وسلم قولا شديدا" وفسر القول الشديد في رواية أخرى بأنه قال: "لو علمت ذلك ما صليت عليه" ولم ينقل أنه راجع الورثة فدل على منعه مطلقا، وبقوله في حديث سعد بن أبي وقاص: "وكان بعد ذلك الثلث جائزا" فإن مفهومه أن الزائد على الثلث ليس بجائز، وبأنه صلى الله عليه وسلم منع سعدا من الوصية بالشطر ولم يستثن صورة الإجازة واحتج من أجازه بالزيادة المتقدمة وهي قوله: "إلا أن يشاء الورثة" فإن صحت هذه الزيادة فهي حجة واضحة. واحتجوا من جهة المعنى بأن المنع إنما كان في الأصل لحق الورثة، فإذا أجازوه لم يمتنع واختلفوا بعد ذلك في وقت الإجازة فالجمهور على أنهم إن أجازوا في حياة الموصي كان لهم الرجوع متى شاءوا، وإن أجازوا بعده نفذ، وفصل المالكية في الحياة بين مرض الموت وغيره فألحقوا مرض الموت بما بعده، واستثنى بعضهم ما إذا كان المجيز في عائلة الموصي وخشي من امتناعه انقطاع معروفه عنه لو عاش فإن لمثل هذا الرجوع، وقال الزهري وربيعة ليس لهم الرجوع مطلقا واتفقوا على اعتبار كون الموصي له وارثا بيوم الموت حتى لو أوصى لأخيه الوارث حيث لا يكون له ابن يحجب الأخ المذكور فولد له ابن قبل موته يحجب الأخ فالوصية للأخ المذكور صحيحة، ولو أوصى لأخيه وله ابن فمات الابن قبل موت الموصي فهي وصية لوارث، واستدل به على منع وصية من لا وارث له سوى بيت المال لأنه ينتقل إرثا للمسلمين، والوصية للوارث باطلة، وهو وجه ضعيف جدا حكاه القاضي حسين، ويلزم قائله أن لا يجيز الوصية للذمي أو يقيد ما أطلق، والله أعلم.

(5/373)


7 - باب: الصَّدَقَةِ عِنْدَ الْمَوْتِ
2748- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ عُمَارَةَ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "قَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ حَرِيصٌ، تَأْمُلُ الْغِنَى وَتَخْشَى الْفَقْرَ، وَلاَ تُمْهِلْ حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ قُلْتَ: لِفُلاَنٍ كَذَا وَلِفُلاَنٍ كَذَا وَقَدْ كَانَ لِفُلاَنٍ"

(5/373)


قوله: "باب الصدقة عند الموت" أي جوازها، وإن كانت في حال الصحة أفضل. أورد فيه حديث أبي هريرة قال: "قال رجل: يا رسول الله أي الصدقة أفضل؟ قال أن تصدق وأنت صحيح" الحديث، وقد تقدم في كتاب الزكاة من وجه آخر، وبينت هناك اختلاف ألفاظه. ووقع التصريح بالتحديث هناك في جميع إسناده بدل العنعنة هنا. قوله: "أن تصدق" بتخفيف الصاد على حذف إحدى التاءين، وأصله أن تتصدق. وبالتشديد على إدغامها. قوله: "ولا تمهل" بالإسكان على أنه نهي، وبالرفع على أنه نفي، ويجوز النصب. قوله: "قلت لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان" الظاهر أن هذا المذكور على سبيل المثال. وقال الخطابي: فلان الأول والثاني الموصى له وفلان الأخير الوارث لأنه إن شاء أبطله وإن شاء أجازه، وقال غيره: يحتمل أن يكون المراد بالجميع من يوصى له وإنما أدخل "كان" في الثالث إشارة إلى تقدير القدر له بذلك. وقال الكرماني: يحتمل أن يكون الأول الوارث والثاني المورث والثالث الموصى له. قلت: ويحتمل أن يكون بعضها وصية وبعضها إقرارا، وقد وقع في رواية ابن المبارك عن سفيان عند الإسماعيلي: "قلت اصنعوا لفلان كذا وتصدقوا بكذا" ووقع في حديث بسر بن جحاش وهو يضم الموحدة وسكون المهملة وأبوه بكسر الجيم وتخفيف المهملة وآخره شين معجمة عند أحمد وابن ماجة وصححه واللفظ لابن ماجة قال "بزق النبي صلى الله عليه وسلم في كفه ثم وضع إصبعه السبابة وقال: يقول الله أني يعجزني ابن آدم، وقد خلقتك من قبل من مثل هذه، فإذا بلغت نفسك إلى هذه - وأشار إلى حلقه - قلت أتصدق، وأني أوان الصدقة" وزاد في رواية أبي اليمان "حتى إذا سويتك وعدلتك مشيت بين بردين وللأرض منك وئيد، فجمعت ومنعت، حتى إذا بلغت التراقي قلت لفلان كذا وتصدقوا بكذا" وفي الحديث أن تنجيز وفاء الدين والتصدق في الحياة وفي الصحة أفضل منه بعد الموت وفي المرض، وأشار صلى الله عليه وسلم إلى ذلك بقوله: "وأنت صحيح حريص تأمل الغنى إلخ" لأنه في حال الصحة يصعب علبه إخراج المال غالبا لما يخوفه به الشيطان ويزين له من إمكان طول العمر والحاجة إلى المال كما قال تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ} الآية، وأيضا فإن الشيطان ربما زين له الحيف في الوصية أو الرجوع عن الوصية فيتمحض تفضيل الدقة الناجزة، قال بعض السلف عن بعض أهل الترف: يعصون الله في أموالهم مرتين: يبخلون بها وهي في أيديهم يعني في الحياة، ويسرفون فيها إذا خرجت عن أيديهم، يعني بعد الموت. وأخرج الترمذي بإسناد حسن وصححه ابن حبان عن أبي الدرداء مرفوعا قال: "مثل الذي يعتق ويتصدق عند موته مثل الذي يهدي إذا شبع" ، وهو يرجع إلى معنى حديث الباب، وروى أبو داود وصححه ابن حبان من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعا: "لأن يتصدق الرجل في حياته وصحته بدرهم خير له من أن يتصدق عند موته بمائة" .

(5/374)


باب قول الله عز وجل (من بعد وصية يوصى بها أو دين)
...
8 - باب: قَوْلِ اللَّهِ عز وجل [22 النساء]: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ}
وَيُذْكَرُ أَنَّ شُرَيْحًا وَعُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَطَاوُسًا وَعَطَاءً وَابْنَ أُذَيْنَةَ أَجَازُوا إِقْرَارَ الْمَرِيضِ بِدَيْنٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ: أَحَقُّ مَا تَصَدَّقَ بِهِ الرَّجُلُ آخِرَ يَوْمٍ مِنْ الدُّنْيَا وَأَوَّلَ يَوْمٍ مِنْ الْآخِرَةِ وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ وَالْحَكَمُ: إِذَا أَبْرَأَ الْوَارِثَ مِنْ الدَّيْنِ بَرِئَ. وَأَوْصَى رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ أَنْ لاَ تُكْشَفَ امْرَأَتُهُ الْفَزَارِيَّةُ عَمَّا أُغْلِقَ عَلَيْهِ بَابُهَا. وَقَالَ الْحَسَنُ إِذَا قَالَ لِمَمْلُوكِهِ عِنْدَ الْمَوْتِ: كُنْتُ أَعْتَقْتُكَ جَازَ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: إِذَا قَالَتْ الْمَرْأَةُ عِنْدَ مَوْتِهَا: إِنَّ زَوْجِي

(5/374)


قَضَانِي وَقَبَضْتُ مِنْهُ جَازَ وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ لاَ يَجُوزُ إِقْرَارُهُ لِسُوءِ الظَّنِّ بِهِ لِلْوَرَثَةِ ثُمَّ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ يَجُوزُ إِقْرَارُهُ بِالْوَدِيعَةِ وَالْبِضَاعَةِ وَالْمُضَارَبَةِ وَقَدْ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ وَلاَ يَحِلُّ مَالُ الْمُسْلِمِينَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "آيَةُ الْمُنَافِقِ إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى [58 النساء]: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} فَلَمْ يَخُصَّ وَارِثًا وَلاَ غَيْرَهُ فِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
2749- حدثنا سليمان بن داود أبو الربيع حدثنا إسماعيل بن جعفر حدثنا نافع بن مالك بن أبي عامر أبو سهيل عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا أؤتمن خان وإذا وعد أخلف"
قوله: "باب قول الله عز وجل: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} أراد المصنف - والله أعلم - بهذه الترجمة الاحتجاج بما اختاره من جواز إقرار المريض بالدين مطلقا، سواء كان المقر له وارثا أو أجنبيا. ووجه الدلالة أنه سبحانه وتعالى سوى بين الوصية والدين في تقديمهما على الميراث ولم يفصل، فخرجت الوصية للوارث بالدليل الذي تقدم، وبقي الإقرار بالدين على حاله، وقوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ} متعلق بما تقدم من المواريث كلها إلا بما يليه وحده، وكأنه قيل قسمة هذه الأشياء تقع من بعد وصية والوصية هنا المال الموصى به، وقوله: {يُوصِي بِهَا} هذه الصفة تقيد الموصوف، وفائدته أن يعلم أن للميت أن يوصي، قاله السهيلي، قال: وأفاد تنكير الوصية أنها مندوبة، إذ لو كانت واجبة لقال من بعد الوصية، كذا قال. قوله: "ويذكر أن شريحا وعمر بن عبد العزيز وطاوسا وعطاء وابن أذينة أجازوا إقرار المريض بدين" كأنه لم يجزم بالنقل عنهم لضعف الإسناد إلى بعضهم، فأما أثر شريح فوصله ابن أبي شيبة عنه بلفظ: "إذا أقر في مرض الموت لوارث بدين لم يجز إلا ببينة، وإذا أقر لغير وارث جاز" وفي إسناده جابر الجعفي وهو ضعيف، وأخرجه من طريق آخر أضعف من هذه، ولكن سيأتي له إسناد أصح من هذا بعد. وأما عمر بن عبد العزيز فلم أقف على من وصله عنه، وأما طاوس فوصله ابن أبي شيبة أيضا عنه بلفظ: "إذا أقر لوارث جاز" وفي الإسناد ليث بن أبي سليم وهو ضعيف. وأما قول عطاء فوصله ابن أبي شيبة عنه بمثله ورجال إسناده ثقات، وأما ابن أذينة واسمه عبد الرحمن وكان قاضي البصرة وأبوه بالمهملة مصغر وهو تابعي ثقة مات سنة خمس وتسعين من الهجرة ووهم من ذكره في الصحابة وأثره هذا وصله ابن أبي شيبة أيضا من طريق قتادة عنه "في الرجل يقر لوارث بدين قال: يجوز" ورجال إسناده ثقات. قوله: "وقال الحسن: أحق ما تصدق به الرجل آخر يوم من الدنيا وأول يوم من الآخرة" هذا أثر صحيح رويناه بعلو في مسند الدارمي من طريق قتادة قال: "قال ابن سيرين عن شريح: لا يجوز إقرار لوارث، قال وقال الحسن: أحق ما جاز عليه عند موته أول يوم من أيام الآخرة وآخر يوم من أيام الدنيا". قوله: "وقال إبراهيم والحكم: إذا أبرأ الوارث من الدين بريء" وصله ابن أبي شيبة من طريق الثوري عن ابن أبي ليلى عن الحكم عن إبراهيم "في المريض إذا أبرأ الوارث برئ" وعن مطرف عن الحكم مثله. قوله: "وأوصى رافع بن خديج أن لا تكشف امرأته الفزارية عما أغلق عليه بابها" في رواية المستملي والسرخسي "عن مال أغلق عليه بابها" ولم أقف على هذا الأثر موصولا بعد. قوله: "وقال

(5/375)


الحسن إذا قال لمملوكه عند الموت: كنت أعتقتك جاز" لم أقف على من وصله وهو على طريقة الحسن في تنفيذ إقرار المريض مطلقا. قوله: "وقال الشعبي: إذا قالت المرأة عند موتها إن زوجي قضاني وقبضت منه جاز"، قال ابن التين: وجهه أنها لا تتهم بالميل إلى زوجها في تلك الحال، ولا سيما إذا كان لها ولد من غيره. قوله: "وقال بعض الناس لا يجوز إقراره" أي المريض "لسوء الظن به للورثة" وفي رواية المستملي: "بسوء الظن" بالموحدة بدل اللام. قوله: "ثم استحسن فقال: يجوز إقراره بالوديعة والبضاعة والمضاربة" قالا ابن التين: إن أراد هذا القائل ما إذا أقر بالمضاربة مثلا للوارث لزمه التناقض وإلا فلا، وفرق بعض الحنفية بألا ربح المال في المضاربة مشترك بين العامل والمالك فلم يكن كالدين المحض. وقال ابن المنذر: أجمعوا على أن إقرار المريض لغير الوارث جائز، لكن إن كان عليه دين في الصحة فقد قالت طائفة منهم النخعي وأهل الكوفة: يبدأ بدين الصحة ويتحاص أصحاب الإقرار في المرض، واختلفوا في إقرار المريض للوارث فأجازه مطلقا الأوزاعي وإسحاق وأبو ثور، وهو المرجح عند الشافعية، وبه قال مالك إلا أنه استثنى ما إذا أقر لبنته ومعها من يشاركها من غير الولد كابن العم مثلا، قال: لأنه يتهم في أن يزيد بنته وينقص ابن عمه من غير عكس، واستثني ما إذا أقر لزوجته التي يعرف بمحبتها والميل إليها وكان بينه وبين ولده من غيرها تباعد ولا سيما إن كان له منها في تلك الحالة ولد، وحاصل المنقول عن المالكية مدار الأمر على التهمة وعدمها فإن فقدت جاز وإلا فلا؛ وهو اختيار الروياني من الشافعية. وعن شريح والحسن بن صالح لا يجوز إقراره لوارث إلا لزوجته بصداقها، وعن القاسم وسالم والثوري والشافعي في قول زعم ابن المنذر أن الشافعي رجع عن الأول إليه، وبه قال أحمد لا يجوز إقرار المريض لوارثه مطلقا لأنه منع الوصية له فلا يأمن أن يزيد الوصية له فيجعلها إقرارا، واحتج من أجاز مطلقا بما تقدم عن الحسن أن التهمة في حق المحتضر بعيدة، وبالفرق بين الوصية والدين لأنهم اتفقوا على أنه لو أوصى في صحته لوارثه بوصية وأقر له بدين ثم رجع أن رجوعه عن الإقرار لا يصح، خلاف الوصية فيصح رجوعه عنها، واتفقوا على أن المريض إذا أقر بوارث صح إقراره مع أنه يتضمن الإقرار له بالمال، وبأن مدار الأحكام على الظاهر فلا يترك إقراره للظن المحتمل، فإن أمره فيه إلى الله تعالى. قوله: "وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث" هو طرف من حديث وصله المصنف في الأدب من وجهين عن أبي هريرة، وقصد بذكره هنا الرد على من أساء الظن بالمريض فمنع تصرفه ومعني قوله: "أكذب الحديث" أي أكذب في الحديث من غيره لأن الصدق والكذب يوصف بهما القول لا الظن. قوله: "ولا يحل مال المسلمين لقول النبي صلى الله عليه وسلم: آية المنافق إذا ائتمن خان" هو طرف من حديث تقدم شرحه في كتاب الإيمان، ووجهه تعلقه بالرد على من منع إجازة إقرار المريض من جهة أنه دال على ذم الخيانة، فلو ترك ذكر ما عليه من الحق وكتمه لكان خائنا للمستحق فلزم من وجوب ترك الخيانة وجوب الإقرار لأنه إذا كتم صار خائنا، ومن لم يعتبر إقراره كان حمله على الكتمان. قوله: "وقال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} فلم يخصن وارثا ولا غيره" أي لم يفرق بين الوارث وغيره في الأمر بأداء الأمانة، فيصح الإقرار سواء كان لوارث أو غيره. قوله: "فيه عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم" يعني حديث آية المنافق الذي علقه مختصرا، وقد تقدم موصولا بتمامه في كتاب الإيمان ولفظه: "أربع من كن فيه كان منافقا خالصا. وفيه وإذا ائتمن خان" وحديث أبي هريرة الذي أورده في هذا الباب بلفظ: "آية المنافق ثلاث" تقدم هناك أيضا بإسناده

(5/376)


ومتنه، وتقدم شرحه أيضا والله المستعان".

(5/377)


9 - باب: تَأْوِيلِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى [12 النساء]. {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ}
وَيُذْكَرُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالدَّيْنِ قَبْلَ الْوَصِيَّةِ وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ. [58 النساء]: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} فَأَدَاءُ الأَمَانَةِ أَحَقُّ مِنْ تَطَوُّعِ الْوَصِيَّةِ. وَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لاَ صَدَقَةَ إِلاَّ عَنْ ظَهْرِ غِنًى وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لاَ يُوصِي الْعَبْدُ إِلاَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِ وَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الْعَبْدُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ"
2750- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْطَانِي ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي ثُمَّ قَالَ لِي يَا حَكِيمُ إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرٌ حُلْوٌ فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ وَكَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلاَ يَشْبَعُ وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى قَالَ: حَكِيمٌ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لاَ أَرْزَأُ أَحَدًا بَعْدَكَ شَيْئًا حَتَّى أُفَارِقَ الدُّنْيَا فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَدْعُو حَكِيمًا لِيُعْطِيَهُ الْعَطَاءَ فَيَأْبَى أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُ شَيْئًا ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ دَعَاهُ لِيُعْطِيَهُ فَيَأْبَى أَنْ يَقْبَلَهُ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ إِنِّي أَعْرِضُ عَلَيْهِ حَقَّهُ الَّذِي قَسَمَ اللَّهُ لَهُ مِنْ هَذَا الْفَيْءِ فَيَأْبَى أَنْ يَأْخُذَهُ فَلَمْ يَرْزَأْ حَكِيمٌ أَحَدًا مِنْ النَّاسِ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى تُوُفِّيَ رَحِمَهُ اللَّهُ"
2751- حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ السَّخْتِيَانِيُّ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَالِمٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَالإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَالْمَرْأَةُ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا رَاعِيَةٌ وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا وَالْخَادِمُ فِي مَالِ سَيِّدِهِ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ قَالَ: وَحَسِبْتُ أَنْ قَدْ قَالَ: وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي مَالِ أَبِيهِ"
قوله: "باب تأويل قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} " أي بيان المراد بتقديم الوصية في الذكر على الدين مع أن الدين هو المقدم في الأداء. وبهذا يظهر السر في تكرار هذه الترجمة. قوله: "ويذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالدين قبل الوصية" هذا طرف من حديث أخرجه أحمد والترمذي وغيرهما من طريق الحارث وهو الأعور عن علي بن أبي طالب قال: "قضى محمد صلى الله عليه وسلم أن الدين قبل الوصية، وأنتم تقرءون الوصية قبل الدين" لفظ أحمد وهو إسناد ضعيف، لكن قال الترمذي: إن العمل عليه عند أهل العلم، وكأن البخاري اعتمد عليه لاعتضاده بالاتفاق على مقتضاه، وإلا فلم تجر عادته أن يورد الضعيف في مقام الاحتجاج به، وقد أورد في الباب ما يعضده أيضا، ولم

(5/377)


يختلف العلماء في أن الدين يقدم على الوصية إلا في صورة واحدة وهي ما لو أوصى الشخص بألف مثلا وصدقه الوارث وحكم به ثم ادعى آخر أن له في ذمة الميت دينا يستغرق موجوده وصدقه الوارث ففي وجه للشافعية تقدم الوصية على الدين في هذه الصورة الخاصة، ثم قد نازع بعضهم في إطلاق كون الوصية مقدمة على الدين في الآية لأنه ليس فيها صيغة ترتيب بل المراد أن المواريث إنما تقع بعد قضاء الدين ونفاذ الوصية، وأتى بأو للإباحة وهي كقولك جالس زيدا أو عمرا، أي لك مجالسة كل منهما اجتمعا أو افترقا، وإنما قدمت لمعنى اقتضى الاهتمام لتقديمها واختلف في تعيين ذلك المعنى، وحاصل ما ذكره أهل العلم من مقتضيات التقديم ستة أمور: أحدها الخفة والثقل كربيعة ومضر، فمضر أشرف من ربيعة لكن لفظ ربيعة لما كان أخف قدم في الذكر، وهذا يرجع إلى اللفظ. ثانيها بحسب الزمان كعاد وثمود. ثالثها بحسب الطبع كثلاث ورباع. رابعها بحسب الرتبة كالصلاة والزكاة لأن الصلاة حق البدن والزكاة حق المال والبدن مقدم على المال، خامسها تقديم السبب على المسبب كقوله تعالى: {عَزِيزٌ حَكِيمٌ} قال بعض السلف عز فلما عز حكم. سادسها بالشرف والفضل كقوله تعالى: {مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ} . وإذا تقرر ذلك فقد ذكر السهيلي أن تقديم الوصية في الذكر على الدين لأن الوصية إنما تقع على سبيل البر والصلة بخلاف الدين فإنه إنما يقع غالبا بعد الميت بنوع تفريط فوقعت البداءة بالوصية لكونها أفضل. وقال غيره: قدمت الوصية لأنها شيء يؤخذ بغير عوض والدين يؤخذ بعوض فكان إخراج الوصية أشق على الوارث من إخراج الدين، وكان أداؤها مظنة التفريط، بخلاف الدين فإن الوارث مطمئن بإخراجه فقدمت الوصية لذلك. وأيضا فهي حظ فقير ومسكين غالبا، والدين حظ غريم يطلبه بقوة وله مقال، كما صح أن لصاحب الدين مقالا، وأيضا فالوصية ينشئها الموصي من قبل نفسه فقدمت تحريضا على العمل بها بخلاف الدين فإنه ثابت بنفسه مطلوب أداؤه سواء ذكر أو لم يذكر. وأيضا فالوصية ممكنة من كل أحد ولا سيما عند من يقول بوجوبها فإنه يقول بلزومها لكل أحد فيشترك فيها جميع المخاطبين لأنها تقع بالمال وتقع بالعهد كما تقدم وقل من يخلو عن شيء من ذلك، بخلاف الدين فإنه يمكن أن يوجد وأن لا يوجد، وما يكثر وقوعه مقدم على ما يقل وقوعه. وقال الزين بن المنير: تقديم الوصية على الدين في اللفظ لا يقتضي تقديمها في المعنى لأنهما معا قد ذكرا في سياق البعدية، لكن الميراث يلي الوصية في البعدية ولا يلي الدين بل هو بعد بعده فيلزم أن الدين يقدم في الأداء ثم الوصية ثم الميراث، فيتحقق حينئذ أن الوصية تقع بعد الدين حال الأداء باعتبار القبلية، فتقديم الدين على الوصية في اللفظ وباعتبار البعدية فتقدم الوصية على الدين في المعنى والله أعلم. قوله: "وقال ابن عباس: لا يوصي العبد إلا بإذن أهله" وصله ابن أبي شيبة من طريق شبيب بن عرقدة عن جندب قال: "سأل طهمان ابن عباس: أيوصي العبد؟ قال: لا إلا بإذن أهله". قوله: "وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "العبد راع في مال سيده" هو طرف من حديث تقدم ذكره موصولا في "باب كراهية التطاول على الرقيق" من كتاب العتق من حديث نافع عن ابن عمر، وأراد البخاري بذلك توجيه كلام ابن عباس المذكور، قال ابن المنير: لما تعارض في مال العبد حقه وحق سيده قدم الأقوى وهو حق السيد، وجعل العبد مسئولا عنه، وهو أحد الحفظة فيه، فكذلك حق الدين لما عارضه حق الوصية - والدين واجب والوصية تطوع - وجب تقديم الدين، فهذا وجه مناسبة هذا الأثر والحديث للترجمة. ثم أورد المصنف في الباب حديثين: أحدهما حديث حكيم بن حزام "إن هذا المال خضر حلو" الحديث، وقد تقدم مشروحا في كتاب الزكاة، قال ابن المنير: وجه دخوله في هذا

(5/378)


الباب من جهة أنه صلى الله عليه وسلم زهده في قبول العطية، وجعل يد الآخذ سفلى تنقيرا عن قبولها، ولم يقع مثل ذلك في تقاضي الدين، فالحاصل أن قابض الوصية يده سفلى وقابض الدين مستوف لحقه، إما أن تكون يده عليا بما تفضل به من القرض، وإما أن لا تكون يده سفلى فيتحقق بذلك تقديم الدين على الوصية. ثانيهما حديث: "كلكم راع ومسئول عن رعيته" من طريق سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه، وقد تقدم من وجه آخر في العتق، ويأتي الكلام عليه في كتاب الأحكام إن شاء الله تعالى. وقد خالف الطحاوي في هذه المسألة أصحابه فذكر اختلاف العلماء نحو ما سبق، ثم ذكر أن الصحيح ما ذهب إليه الجماعة، وصرح بتزييف ما تقدم عن أبي حنيفة وزفر وأبي يوسف ومحمد في هذه المسألة. "تنبيه": وقع في شرح مغلطاي أن البخاري قال هنا: "وقال إسماعيل بن جعفر أخبرني عبد العزيز عن إسحاق عن أنس في قصة بيرحاء" ونقلت عن أبي العباس الطرقي أن البخاري وصله عن الحسن بن شوكر عن إسماعيل. وقال شيخنا ابن الملقن: إن هذا وهم، وإنما ذكره البخاري في "باب من تصدق إلى وكيله" كما سيأتي.

(5/379)


باب إذا ةقف أو أوصى لأقاربه ومن الأقارب؟
...
10 - باب: إِذَا وَقَفَ أَوْ أَوْصَى لِأَقَارِبِهِ وَمَنْ الأَقَارِبُ؟
وَقَالَ ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ "قال النبي صلى الله عليه وسلم لِأَبِي طَلْحَةَ: اجْعَلْهَا لِفُقَرَاءِ أَقَارِبِكَ فَجَعَلَهَا لِحَسَّانَ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَقَالَ الأَنْصَارِيُّ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ ثُمَامَةَ عَنْ أَنَسٍ مِثْلَ حَدِيثِ ثَابِتٍ قَالَ: اجْعَلْهَا لِفُقَرَاءِ قَرَابَتِكَ قَالَ أَنَسٌ فَجَعَلَهَا لِحَسَّانَ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَكَانَا أَقْرَبَ إِلَيْهِ مِنِّي وَكَانَ قَرَابَةُ حَسَّانٍ وَأُبَيٍّ مِنْ أَبِي طَلْحَةَ وَاسْمُهُ زَيْدُ بْنُ سَهْلِ بْنِ الأَسْوَدِ بْنِ حَرَامِ بْنِ عَمْرِو بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ عَدِيِّ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ وَحَسَّانُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ المُنْذِرِ بْنِ حَرَامٍ فَيَجْتَمِعَانِ إِلَى حَرَامٍ وَهُوَ الأَبُ الثَّالِثُ وَحَرَامُ بْنُ عَمْرِو بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ عَدِيِّ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ فَهُوَ يُجَامِعُ حَسَّانَ وَأَبَا طَلْحَةَ وَأُبَيًّا إِلَى سِتَّةِ آبَاءٍ إِلَى عَمْرِو بْنِ مَالِكٍ وَهُوَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبِ بْنِ قَيْسِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ زَيدِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ فَعَمْرُو بْنُ مَالِكٍ يَجْمَعُ حَسَّانَ وَأَبَا طَلْحَةَ وَأُبَيًّا وَقَالَ بَعْضُهُمْ إِذَا أَوْصَى لِقَرَابَتِهِ فَهُوَ إِلَى آبَائِهِ فِي الإِسْلاَمِ
2752- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "قال النبي صلى الله عليه وسلم لِأَبِي طَلْحَةَ: أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الأَقْرَبِينَ، قَالَ أَبُو طَلْحَةَ أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ". وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ "لَمَّا نَزَلَتْ {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} جَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنَادِي: يَا بَنِي فِهْرٍ، يَا بَنِي عَدِيٍّ لِبُطُونِ قُرَيْشٍ". وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَة:َ "لَمَّا نَزَلَتْ {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ"
قوله: "باب إذا وقف أو أوصى لأقاربه، ومن الأقارب؟" وقع في بعض النسخ "أوقف" بزيادة ألف وهي لغة قليلة، وحذف المصنف جواب قوله: "إذا" إشارة إلى الخلاف في ذلك، أي هل يصح أم لا؟ وأورد المصنف

(5/379)


المسألة الأخرى مورد الاستفهام لذلك أيضا، وتضمنت الترجمة التسوية بين الوقف والوصية فيما يتعلق بالأقارب. وقد استطرد المصنف من هنا إلى مسائل الوقف فترجم لما ظهر له منها، ثم رجع أخيرا إلى تكملة كتاب الوصايا، وقد قال الماوردي تجوز الوصية لكل من جاز الوقف عليه من صغير وكبير وعاقل ومجنون وموجود ومعدوم إذا لم يكن وارثا ولا قاتلا، والوقف منع بيع الرقبة والتصدق بالمنفعة على وجه مخصوص، وقد اختلف العلماء في الأقارب فقال أبو حنيفة: القرابة كل ذي رحم محرم من قبل الأب أو الأم، ولكن يبدأ بقرابة الأب قبل الأم. وقال أبو يوسف ومحمد: من جمعهم أب منذ الهجرة من قبل أب أو أم من غير تفصيل، زاد زفر: ويقدم من قرب منهم، وهي رواية عن أبي حنيفة أيضا. وأقل من يدفع إليه ثلاثة، وعند محمد اثنان، وعند أبي يوسف واحد، ولا يصرف للأغنياء عندهم إلا أن يشرط ذلك. وقالت الشافعية: القريب من اجتمع في النسب سواء قرب أم بعد مسلما كان أو كافرا غنيا كان أو فقيرا ذكرا كان أو أنثى وارثا أو غير وارث محرما أو غير محرم، واختلفوا في الأصول والفروع على وجهين وقالوا: إن وجد جمع محصورون أكثر من ثلاثة استوعبوا، وقيل يقتصر على ثلاثة. وإن كانوا غير محصورين فنقل الطحاوي الاتفاق على البطلان، وفيه نظر لأن عند الشافعية وجها بالجواز ويصرف منهم لثلاثة ولا تجب التسوية، وقال أحمد في القرابة كالشافعي، إلا أنه أخرج الكافر، وفي رواية عنه: القرابة كل من جمعه والموصي الأب الرابع إلى ما هو أسفل منه، وقال مالك: يختص بالعصبة سواء كان يرثه أو لا، ويبدأ بفقرائهم حتى يغنوا ثم يعطي الأغنياء، وحديث الباب يدل لما قاله الشافعي سوى اشتراط ثلاثة فظاهره الاكتفاء باثنين، وسأذكر بيان ذلك إن شاء الله تعالى. قوله: "وقال ثابت عن أنس قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لأبي طلحة: اجعله لفقراء أقاربك ، فجعلها لحسان وأبي بن كعب" هو طرف من حديث أخرجه أحمد ومسلم والنسائي وغيرهم من طريق حماد بن سلمة عن ثابت، وسأذكر ما فيه من زيادة بعد أبواب. قوله: "وقال الأنصاري" هو محمد بن عبد الله بن المثنى، وثمامة هو ابن عبد الله بن أنس بن مالك، والإسناد كله أنسيون بصريون، وقد سمع البخاري من الأنصاري هذا كثيرا. قوله: "بمثل حديث ثابت قال: اجعلها لفقراء قرابتك، قال أنس فجعلها لحسان وأبي بن كعب" كدا اختصره هنا، وقد وصله في تفسير آل عمران مختصرا أيضا عقب راوية إسحاق بن أبي طلحة عن أنس في هذه القصة قال: "حدثنا الأنصاري" فذكر هذا الإسناد قال: "فجعلها لحسان وأبي وكانا أقرب إليه، ولم يجعل لي منها شيئا" وسقط هذا القدر من رواية أبي ذر، وقد أخرجه ابن خزيمة والطحاوي جميعا عن ابن مرزوق، وأبو نعيم في "المستخرج" من طريقه، والبيهقي من طريق أبي حاتم الرازي كلاهما عن الأنصاري بتمامه ولفظه: "لما نزلت: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرّ} الآية أو {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} جاء أبو طلحة فقال: يا رسول الله، حائطي لله، فلو استطعت أن أسره لم أعلنه، فقال: اجعله في قرابتك وفقراء أهلك، قال أنس: فجعلها لحسان ولأبى، ولم يجعل لي منها شيئا لأنهما كانا أقرب إليه مني" لفظ أبي نعيم. وفي رواية الطحاوي "كانت لأبي طلحة أرض فجعلها الله فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له اجعلها في فقراء قرابتك فجعلها لحسان وأبي وكانا أقرب إليه مني" وفي رواية أبي حاتم الرازي فقال: "حائطي بكذا وكذا" وقال فيه: "فقال: اجعلها في فقراء أهل بيتك. قال فجعلها في حسان بن ثابت وأبي بن كعب" وأخرجه الدار قطني من طريق صاعقة عن الأنصاري فذكر فيه للأنصاري شيخا آخر فقال: "حدثنا حميد عن أنس قال: لما نزلت: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ} الآية أو {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} . قال

(5/380)


أبو طلحة: يا رسول الله. حائطي في مكان كذا وكذا صدقة لله تعالى" والباقي مثل رواية أبي حاتم إلا أنه قال: "اجعلها في فقراء أهل بيتك وأقاربك" ثم ساقه بالإسناد الأول قال مثله وزاد فيه: "فجعلها لأبي بن كعب وحسان بن ثابت وكان أقرب إليه مني" وإنما أوردت هده الطرق لأني رأيت بعض الشراح ظن أن الذي وقع في البخاري من شرح قرابة أبي طلحة من حسان وأبي بقيه من الحديث المذكور، وليس كذلك بل انتهى الحديث إلى قوله: "وكانا أقرب إليه مني" ومن قوله: "وكان قرابة حسان وأبي من أبي طلحة إلخ" من كلام البخاري أو من شيخه فقال: "واسمه - أي اسم أبي طلحة - زيد بن سهل بن الأسود بن حرام - وهو بالمهملتين - ابن عمرو بن زيد مناة - وهو بالإضافة - ابن عدي بن عمرو بن مالك بن النجار. وحسان بن ثابت بن المنذر بن حرام - يعني ابن عمرو المذكور - فيجتمعان إلى حرام وهو الأب الثالث" ووقع هنا في رواية أبي ذر "وحرام بن عمرو" وساق النسب ثانيا إلى النجار، وهو زيادة لا معنى لها، ثم قال: "وهو يجامع حسان وأبا طلحة وأبيا إلى ستة آباء إلى عمرو بن مالك " هكذا أطلق في معظم الروايات، فقال الدمياطي ومن تبعه: هو ملبس مشكل، وشرع الدمياطي في بيانه، ويغني عن ذلك ما وقع في رواية المستملي حيث قال عقب ذلك "وأبي بن كعب هو ابن قيس بن عبيد بن زيد بن معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار، فعمرو بن مالك يجمع حسان وأبا طلحة وأبيا" اهـ وقال أبو داود في السنن: بلغني عن محمد بن عبد الله الأنصاري أنه قال: "أبو طلحة هو زيد بن سهل" فساق نسبه ونسب حسان بن ثابت وأبي بن كعب كما تقدم، ثم قال الأنصاري: فبين أبي طلحة وأبي بن كعب ستة آباء، قال: "وعمرو بن مالك يجمع حسانا وأبيا وأبا طلحة" فظهر من هذا أن الذي وقع في البخاري من كلام شيخه الأنصاري والله أعلم. وذكر محمد بن الحسن بن زبالة في "كتاب المدينة" من مرسل أبي بكر بن حزم زيادة على ما في حديث أنس ولفظه: "أن أبا طلحة تصدق بماله وكان موضعه قصر بني حديلة، فدفعه إلى رسول الله فرده على أقاربه أبي بن كعب وحسان بن ثابت وثبيط بن جابر وشداد بن أوس أو ابنه أوس بن ثابت فتقاوموه، فصار لحسان، فباعه من معاوية بمائة ألف فابتنى قصر بني حديلة في موضعها" اهـ. وجد ثبيط بن جابر مالك بن عدي بن زيد مناة بن عدي بن مالك بن النجار يجتمع مع أبي بن كعب في مالك بن النجار، فهو أبعد من أبي بن كعب بواحد، وابن زبالة ضعيف فلا يحتج بما ينفرد به فكيف إذا خالف، وملخص ذلك أن أحد الرجلين اللذين خصهما أبو طلحة بذلك أقرب إليه من الآخر فحسان يجتمع معه في الأب الثالث وأبي يجتمع معه في الأب السادس، فلو كانت الأقربية معتبرة لخص بذلك حسان بن ثابت دون غيره فدل على أنها غير معتبرة، وإنما قال أنس "لأنهما كانا أقرب إليه مني" لأن الذي يجمع أبا طلحة وأنسا النجار لأنه من بني عدي بن النجار وأبو طلحة وأبي بن كعب كما تقدم من بني مالك بن النجار فلهذا كان أبي بن كعب أقرب إلى أبي طلحة من أنس. ويحتمل أن يكون أبو طلحة راعى فيمن أعطاه من قرابته الفقر لكن استثنى من كان مكفيا ممن تجب عليه نفقته فلذلك لم يدخل أنسا فظن أنس أن ذلك لبعد قرابته منه، والله أعلم. واستدل لأحمد بأن المراد بذي القربى في قوله تعالى: {وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} بنو هاشم وبنو المطلب لتخصيص النبي صلى الله عليه وسلم إياهم بسهم ذي القربى وإنما يجتمع مع بني عبد المطلب في الأب الرابع، وتعقبه الطحاوي بأنه لو كان المراد ذلك لشرك معهم بني نوفل وبني عبد شمس لأنهما ولدا عبد مناف كالمطلب وهاشم، فلما خص بني هاشم وبني المطلب دون بني نوفل وعبد شمس دل على أن المراد بسهم ذوي القربى دفعه لناس مخصوصين بينه النبي صلى الله عليه وسلم بتخصيصه

(5/381)


بني هاشم وبني المطلب "فلا يقاس عليه من وقف أو أوصى لقرابته، بل يحمل اللفظ على مطلقه وعمومه حتى يثبت ما يقيده أو يخصصه والله أعلم. قوله: "وقال بعضهم" هو قول أبي يوسف: ومن وافقه كما تقدم، ثم ذكر المصنف قصة أبي طلحة من طريق إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس، أوردها مختصرة، وستأتي بتمامها في "باب إذا وقف أرضا ولم يبين الحدود". قوله: "وقال ابن عباس لما نزلت: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} جعل النبي صلى الله عليه وسلم ينادي: يا بني فهر، يا بني عدي. لبطون من قريش" هكذا أورده مختصرا، وقد وصله في مناقب قريش وتفسير سورة الشعراء بتمامه من طريق عمرو بن مرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، وأورد في آخر الجنائز طرفا منه في قصة أبي لهب موصولة، وسيأتي شرحه وشرح الذي بعده في تفسير سورة الشعراء إن شاء الله تعالى. قوله: "وقال أبو هريرة: لما نزلت: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} قال النبي صلى الله عليه وسلم: يا معشر قريش" هو طرف من حديث وصله في الباب الذي بعده.

(5/382)


11 - باب: هَلْ يَدْخُلُ النِّسَاءُ وَالْوَلَدُ فِي الأَقَارِبِ؟
2753- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال:َ "قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} قَالَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ - أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا - اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ، لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا. يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لاَ أُغْنِي عَنْكَ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا وَيَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا"
تَابَعَهُ أَصْبَغُ عَنْ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ
[الحديث 2753- طرفاه في: 3527 ، 4771]
قوله: "باب هل يدخل النساء والولد في الأقارب" ؟ هكذا أورد الترجمة بالاستفهام لما في المسألة من الاختلاف كما تقدم. ثم أورد في الباب حديث أبي هريرة قال. "قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل الله عز وجل: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} قال: يا معشر قريش، أو كلمة نحوها" الحديث بطوله، وموضع الشاهد منه قوله فيه: "ويا صفية ويا فاطمة" فإنه سوى صلى الله عليه وسلم في ذلك بين عشيرته فعمهم أولا ثم خص بعض البطون، ثم ذكر عمه العباس وعمته صفية وابنته فدل على دخول النساء في الأقارب وعلى دخول الفروع أيضا، وعلى عدم التخصيص بمن يرث ولا بمن كان مسلما. ويحتمل أن يكون لفظ الأقربين صفة لازمة للعشيرة، والمراد بعشيرته قومه وهم قريش، وقد روى ابن مردويه من حديث عدي بن حاتم "أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر قريشا فقال: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} يعني قومه" وعلى هذا فيكون قد أمر بإنذار قومه فلا يختص ذلك بالأقرب منهم دون الأبعد، فلا حجة فيه في مسألة الوقف لأن صورتها ما إذا وقف على قرابته أو على أقرب الناس إليه مثلا، والآية تتعلق بإنذار العشيرة فافترقا والله أعلم. وقال ابن المنير: لعله كان هناك قرينة فهم بها النبي صلى الله عليه وسلم تعميم الإنذار فلذلك عمهم انتهى. ويحتمل أن يكون

(5/382)


أولا خص اتباعا بظاهر القرابة ثم عم لما عنده من الدليل على التعميم لكونه أرسل إلى الناس كافة. "تنبيه": يجوز في يا عباس وفي يا صفية وفي يا فاطمة الضم والنصب. قوله: "تابعه أصبغ عن ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب" وصله الذهلي في "الزهريات" عن أصبغ، وهو عند مسلم عن حرملة عن ابن وهب

(5/383)


12 - باب: هَلْ يَنْتَفِعُ الْوَاقِفُ بِوَقْفِهِ؟
وَقَدْ اشْتَرَطَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لاَ جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا. وَقَدْ يَلِي الْوَاقِفُ وَغَيْرُهُ
وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ جَعَلَ بَدَنَةً أَوْ شَيْئًا لِلَّهِ فَلَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا كَمَا يَنْتَفِعُ غَيْرُهُ وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ
2754- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلًا يَسُوقُ بَدَنَةً فَقَالَ لَهُ: ارْكَبْهَا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهَا بَدَنَةٌ قَالَ فِي الثَّالِثَةِ أَوْ فِي الرَّابِعَةِ ارْكَبْهَا وَيْلَكَ - أَوْ وَيْحَكَ"
2755- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلًا يَسُوقُ بَدَنَةً فَقَالَ: ارْكَبْهَا، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهَا بَدَنَةٌ، قَالَ: ارْكَبْهَا وَيْلَكَ. فِي الثَّانِيَةِ أَوْ فِي الثَّالِثَةِ"
قوله: "باب هل ينتفع الواقف بوقفه" أي بأن يقف على نفسه ثم على غيره، أو بأن يشرط لنفسه من المنفعة جزءا معينا، أو يجعل للناظر على وقفه شيئا ويكون هو الناظر؟ وفي هذا كله خلاف، فأما الوقف على النفس فسيأتي البحث فيه في "باب الوقف كيف يكتب" وأما شرط شيء من المنفعة فسيأتي في "باب قوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} " وأما ما يتعلق بالنظر فأذكره هنا. ووقع قبل الباب في "المستخرج" لأبي نعيم "كتاب الأوقاف، باب هل ينتفع الواقف بوقفه" ولم أر ذلك لغيره. قوله: "وقد اشترط عمر إلخ" هو طرف من قصة وقف عمر، وقد تقدمت موصولة في آخر الشروط، وقوله: "وقد يلي الواقف وغيره إلخ". هو من تفقه المصنف، وهو يقتضي أن ولاية النظر للواقف لا نزاع فيها، وليس كذلك وكأنه فرعه على المختار عنده، وإلا فعند المالكية أنه لا يجوز، وقيل إن دفعه الواقف لغيره ليجمع غلته ولا يتولى تفرقتها إلا الواقف جاز، قال ابن بطال: وإنما منع مالك من ذلك سدا للذريعة لئلا يصير كأنه وقف على نفسه، أو يطول العهد فينتسى الوقف، أو يفلس الواقف فيتصرف فيه لنفسه، أو يموت فيتصرف فيه ورثته، وهذا لا يمنع الجواز إذا حصل الأمن من ذلك، لكن لا يلزم من أن النظر يجوز للواقف أن ينتفع به. نعم إن شرط ذلك جاز على الراجح، والذي احتج به المصنف من قصة عمر ظاهر في الجواز، ثم قواه بقوله: "وكذلك كل من جعل بدنة أو شيئا لله فله أن ينتفع به كما ينتفع غيره وإن لم يشترطه" ثم أورد حديثي أنس وأبي هريرة في قصة الذي ساق البدنة وأمره صلى الله عليه وسلم بركوبها، وقد قدمت الكلام عليه في الحج مستوفى وبينت هناك من أجاز ذلك مطلقا ومن منع ومن قيد بالضرورة والحاجة، وقد تمسك به من أجاز الوقف على النفس من جهة أنه إذا جاز له الانتفاع بما أهداه بعد خروجه عن ملكه بغير شرط فجوازه بالشرط أولى، وقد اعترضه ابن

(5/383)


المنير بأن الحديث لا يطابق الترجمة إلا عند من يقول إن المتكلم داخل في عموم خطابه، وهي من مسائل الخلاف في الأصول، قال: والراجح عند المالكية تحكيم العرف حتى يخرج غير المخاطب من العموم بالقرينة. وقال ابن بطال: لا يجوز للواقف أن ينتفع بوقفه لأنه أخرجه لله وقطعه عن ملكه فانتفاعه بشيء منه رجوع في صدقته، ثم قال: وإنما يجوز له ذلك إن شرطه في الوقف أو افتقر هو أو ورثته انتهى. والذي عند الجمهور جواز ذلك إذا وقفه على الجهة العامة دون الخاصة كما سيأتي في أواخر كتاب الوصايا في ترجمة مفردة، ومن فروع المسألة: لو وقف على الفقراء مثلا ثم صار فقيرا أو أحد من ذريته هل يتناول ذلك؟ والمختار أنه يجوز بشرط أن لا يختص به لئلا يدعي أنه ملكه بعد ذلك.

(5/384)


13 - باب: إِذَا وَقَفَ شَيْئًا قَبْلَ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى غَيْرِهِ فَهُوَ جَائِزٌ
لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَوْقَفَ فَقَالَ: لاَ جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهُ أَنْ يَأْكُلَ وَلَمْ يَخُصَّ إِنْ وَلِيَهُ عُمَرُ أَوْ غَيْرُهُ وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لِأَبِي طَلْحَةَ أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الأَقْرَبِينَ فَقَالَ أَفْعَلُ فَقَسَمَهَا فِي أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ"
قوله: "باب إذا وقف شيئا قبل أن يدفعه إلى غيره فهو جائز" أي صحيح وهو قول الجمهور، وعن مالك لا يتم الوقف إلا بالقبض، وبه قال محمد بن الحسن والشافعي في قول، واحتج الطحاوي للصحة بأن الوقف شبيه بالعتق لاشتراكهما في أنهما تمليك لله تعالى فينفذ بالقول المجرد عن القبض، ويفارق الهبة في أنها تمليك لآدمي فلا تتم إلا بقبضه، واستدل البخاري في ذلك بقصة عمر فقال: لأن عمر أوقف وقال: "لا جناح على من وليه أن يأكل" ولم يخص إن وليه عمر أو غيره، وفي وجه الدلالة منه غموض، وقد تعقب بأن غاية ما ذكر عن عمر هو أن كل من ولي الوقف أبيح له التناول، وقد تقدم ذلك في الترجمة التي قبلها، ولا يلزم من ذلك أن كل أحد يسوغ له أن يتولى الوقف المذكور، بل الوقف لا بد له من متول، فيحتمل أن يكون صاحبه ويحتمل أن يكون غيره فليس في قصة عمر ما يعين أحد الاحتمالين، والذي يظهر أن مراده أن عمر لما وقف ثم شرط لم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بإخراجه عن يده فكان تقريره لذلك دالا على صحة الوقف وإن لم يقبضه الموقوف عليه، وأما ما زعمه ابن التين من أن عمر دفع الوقف لحفصة فمردود كما سأوضحه في "باب الوقف كيف يكتب" إن شاء الله تعالى. "تنبيه": قوله: "أوقف" كذا ثبت للأكثر وهي لغة نادرة، والفصيح المشهور "وقف" بغير ألف، ووهم من زعم أن أوقف لحن، قال ابن التين قد ضرب على الألف في بعض النسخ، وإسقاطها صواب، قال: ولا يقال أوقف إلا لمن فعل شيئا ثم نزع عنه. قوله: "وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لأبي طلحة: أرى أن تجعلها في الأقربين" الحديث تقدم موصولا قريبا، وهذا لفظ إسحاق بن أبي طلحة، قال الداودي: ما استدل به البخاري على صحة الوقف قبل القبض من قصة عمر وأبي طلحة حمل الشيء على ضده وتمثيله بغير جنسه ودفع للظاهر عن وجهه، لأنه هو روى أن عمر دفع الوقف لابنته، وأن أبا طلحة دفع صدقته إلى أبي بن كعب وحسان، وأجاب ابن التين بأن البخاري إنما أراد أن النبي صلى الله عليه وسلم أخرج عن أبي طلحة ملكه بمجرد قوله: "هي لله صدقة" ولهذا يقول مالك: إن الصدقة تلزم بالقول وإن كان يقول إنها لا تتم إلا بالقبض، نعم استدلاله بقصة عمر معترض وانتقاد الداودي صحيح انتهى، وقد قدمت توجيهه، وأما ابن بطال فنازع في الاستدلال بقصة أبي طلحة بأنه يحتمل أن تكون خرجت من يده ويحتمل أنها استمرت فلا دلالة فيها،

(5/384)


وأجاب ابن المنير بأن أبا طلحة أطلق صدقة أرضه وفوض إلى النبي صلى الله عليه وسلم مصرفها، فلما قال له "أرى أن تجعلها في الأقربين" ففوض له قسمتها بينهم صار كأنه أقرها في يده بعد أن مضت الصدقة. قلت: وسيأتي التصريح بأن أبا طلحة هو الذي تولى قسمتها وبذلك يتم الجواب، وقد باشر أبو طلحة تعيين مصرفها تفصيلا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان عين له جهة المصرف لكنه أجمل فاقتصر على الأقربين، فلما لم يمكن أبا طلحة أن يعم بها الأقربين لانتشارهم اقتصر على بعضهم فخص بها من اختار منهم.

(5/385)


باب إذا قال: داري لله، ولم يبين للفقراء أو غيرهم فهو جائز ويعطها للأقربين أو حيث أراد
...
14 - باب: إِذَا قَالَ: دَارِي صَدَقَةٌ لِلَّهِ، وَلَمْ يُبَيِّنْ لِلْفُقَرَاءِ أَوْ غَيْرِهِمْ فَهُوَ جَائِزٌ وَيَضَعُهَا فِي الأَقْرَبِينَ أَوْ حَيْثُ أَرَادَ.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لِأَبِي طَلْحَةَ حِينَ قَالَ أَحَبُّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءَ وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ فَأَجَازَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ لاَ يَجُوزُ حَتَّى يُبَيِّنَ لِمَنْ وَالأَوَّلُ أَصَحُّ
قوله: "باب إذا قال داري صدقة لله ولم يبين للفقراء أو غيرهم فهو جائز، ويعطيها للأقربين أو حيث أراد" أي تتم الصدقة قبل تعيين جهة مصرفها ثم يعين بعد ذلك فيما شاء. قوله: "قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لأبي طلحة إلخ" هو من سياق إسحاق بن أبي طلحة أيضا، وقوله: "فأجاز النبي صلى الله عليه وسلم ذلك" هو من تفقه المصنف. وقوله: "وقال بعضهم لا يجوز حتى يبين لمن" أي حتى يعين، وسيأتي بيانه في الباب الذي يليه.

(5/385)


15 - باب: إِذَا قَالَ أَرْضِي أَوْ بُسْتَانِي صَدَقَةٌ لِلَّهِ عَنْ أُمِّي فَهُوَ جَائِزٌ، وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ لِمَنْ ذَلِكَ
2756- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ أَخْبَرَنَا مَخْلَدُ بْنُ يَزِيدَ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي يَعْلَى أَنَّهُ سَمِعَ عِكْرِمَةَ يَقُولُ: أَنْبَأَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تُوُفِّيَتْ أُمُّهُ وَهُوَ غَائِبٌ عَنْهَا فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أُمِّي تُوُفِّيَتْ وَأَنَا غَائِبٌ عَنْهَا، أَيَنْفَعُهَا شَيْءٌ إِنْ تَصَدَّقْتُ بِهِ عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ . قَالَ: فَإِنِّي أُشْهِدُكَ أَنَّ حَائِطِيَ الْمِخْرَافَ صَدَقَةٌ عَلَيْهَا"
[الحديث 2756 طرفاه- في: 2762 ، 2770]
قوله: "باب إذا قال أرضي أو بستاني صدقة لله عن أمي فهو جائز، وإن لم يبين لمن ذلك" فهذه الترجمة أخص من التي قبلها، لأن الأولى فيما إذا لم يعين المتصدق عنه ولا المتصدق عليه، وهذه فيما إذا عين المتصدق عنه فقط، قال ابن بطال: ذهب مالك إلى صحة الوقف وإن لم يعين مصرفه، ووافقه أبو يوسف ومحمد والشافعي في قول، قال ابن القصار: وجهه أنه إذا قال وقف أو صدقه فإنما أراد به البر والقربة، وأولى الناس ببره أقاربه ولا سيما إذا كانوا فقراء، وهو كمن أوصى بثلث ماله ولم يعين مصرفه فإنه يصح ويصرف في الفقراء. والقول الآخر للشافعي أن الوقف لا يصح حتى يعين جهة مصرفه وإلا فهو باق على ملكه، وقال بعض الشافعية: إن قال وقفته وأطلق فهو محل الخلاف، وإن قال وقفته لله خرج عن ملكه جزما، ودليله قصة أبي طلحة. قوله: "حدثنا محمد" كذا للأكثر غير منسوب، وفي رواية أبي ذر وابن شبويه "حدثنا محمد بن سلام". قوله: "أخبرني يعلى" هو ابن مسلم

(5/385)


باب إذا بصدق أو وقف بعض رقيقه أو دوابه فهو جائز
...
16 - باب: إِذَا تَصَدَّقَ أَوْ أَوْقَفَ بَعْضَ مَالِهِ أَوْ بَعْضَ رَقِيقِهِ أَوْ دَوَابِّهِ فَهُوَ جَائِزٌ
2757- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ كَعْبٍ قَالَ سَمِعْتُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: "أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ. قُلْتُ: فَإِنِّي أُمْسِكُ سَهْمِي الَّذِي بِخَيْبَرَ"
[الحديث 2757- أطرافه في: 2947 ، 2948 ، 2949 ، 2950 ، 3088 ، 3556 ، 3889 ، 3951 ، 4418 ، 4673 ، 4676 ، 4677 ، 4678 ، 6255 ، 6690 ، 7225]
قوله: "باب إذا تصدق، أو وقف بعض ماله أو بعض رقيقه أو دوابه فهو جائز" هذه الترجمة معقودة لجواز وقف المنقول، والمخالف فيه أبو حنيفة، ويؤخذ منها جواز وقف المشاع، والمخالف فيه محمد بن الحسن لكن خص المنع بما يمكن قسمته، واحتج له الجوري بضم الجيم وهو من الشافعية بأن القسمة بيع وبيع الوقف لا يجوز، وتعقب بأن القسمة إفراز فلا محذور، ووجه كونه يؤخذ منه وقف المشاع ووقف المنقول هو من قوله: "أو بعض رقيقه أو دوابه" فإنه يدخل فيه ما إذا وقف جزءا من العبد أو الدابة أو وقف أحد عبديه أو فرسيه مثلا فيصح كل ذلك عند من يجيز وقف المنقول ويرجع إليه في التعيين. قوله: "قلت يا رسول الله إن من توبتي إلخ" هذا طرف من حديث كعب بن مالك في قصة تخلفه عن غزوة تبوك، وسيأتي الحديث بطوله في كتاب المغازي مع استيفاء شرحه. وشاهد الترجمة منه قوله: "أمسك عليك بعض مالك" فإنه ظاهر في أمره بإخراج بعض ماله وإمساك بعض ماله من غير تفصيل بين أن يكون مقسوما أو مشاعا، فيحتاج من منع وقف الشارع إلى دليل المنع والله أعلم. واستدل به على كراهة التصدق بجميع المال؛ وقد تقدم البحث فيه في كتاب الزكاة، ويأتي شيء منه في كتاب الأيمان والنذور إن شاء الله تعالى.

(5/386)


17 - باب: مَنْ تَصَدَّقَ إِلَى وَكِيلِهِ ثُمَّ رَدَّ الْوَكِيلُ إِلَيْهِ
2758- وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ لاَ أَعْلَمُهُ إِلاَّ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} جَاءَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي كِتَابِهِ {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءَ قَالَ وَكَانَتْ حَدِيقَةً كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْخُلُهَا وَيَسْتَظِلُّ بِهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَائِهَا فَهِيَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْجُو بِرَّهُ وَذُخْرَهُ فَضَعْهَا أَيْ رَسُولَ اللَّهِ حَيْثُ أَرَاكَ اللَّهُ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بَخْ يَا أَبَا طَلْحَةَ ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ قَبِلْنَاهُ مِنْكَ وَرَدَدْنَاهُ عَلَيْكَ فَاجْعَلْهُ فِي الأَقْرَبِينَ فَتَصَدَّقَ بِهِ أَبُو طَلْحَةَ عَلَى ذَوِي رَحِمِهِ قَالَ وَكَانَ مِنْهُمْ أُبَيٌّ وَحَسَّانُ قَالَ وَبَاعَ حَسَّانُ حِصَّتَهُ مِنْهُ مِنْ مُعَاوِيَةَ فَقِيلَ لَهُ تَبِيعُ صَدَقَةَ أَبِي طَلْحَةَ فَقَالَ أَلاَ أَبِيعُ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ بِصَاعٍ مِنْ دَرَاهِمَ قَالَ وَكَانَتْ تِلْكَ الْحَدِيقَةُ فِي مَوْضِعِ قَصْرِ بَنِي حُدَيْلَةَ الَّذِي بَنَاهُ مُعَاوِيَةُ"
قوله: "باب من تصدق إلى وكيله ثم رد الوكيل إليه" هذه الترجمة وحديثها سقط من أكثر الأصول ولم يشرحه ابن بطال، وثبت في رواية أبي ذر عن الكشميهني خاصة، لكن في روايته: "على وكيله" وثبتت الترجمة وبعض الحديث في رواية الحموي، وقد نوزع البخاري من انتزاع هذه الترجمة من قصة أبي طلحة، وأجيب بأن مراده أن أبا طلحة لما أطلق أنه تصدق وفوض إلى النبي صلى الله عليه وسلم تعيين المصرف وقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "دعها في الأقربين" كان شبيها بما ترجم به، ومقتضى ذلك الصحة. قوله: "وقال إسماعيل أخبرني عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة" يعني الماجشون كذا ثبت في أصل أبي ذر، ووقع في الأطراف لأبي مسعود وخلف جميعا أن إسماعيل المذكور هو ابن جعفر، وبه جزم أبو نعيم في "المستخرج" وقال: رأيته في نسخة أبي عمرو يعنى الجيزي "قال إسماعيل بن جعفر" ولم يوصله أبو نعيم ولا الإسماعيلي، وزاد الطرقي في الأطراف أن البخاري أخرجه عن الحسن ابن شوكر عن إسماعيل بن جعفر وانفرد بذلك فإن الحسن بن شوكر لم يذكره أحد في شيوخ البخاري، وهو ثقة، وأبوه بالمعجمة وزن جعفر، وجزم المزي بأن إسماعيل هو ابن أبي أويس ولم يذكر لذلك دليلا، إلا أنه وقع في أصل الدمياطي بخطه في البخاري "حدثنا إسماعيل" فإن كان محفوظا تعين أنه ابن أبي أويس وإلا فالقول ما قال خلف ومن تبعه، وعبد العزيز بن أبي سلمة وإن كان من أقران إسماعيل بن جعفر فلا يمتنع أن يروي إسماعيل عنه والله أعلم. وقد تقدمت الإشارة إلى شيء من هذا في "باب إذا وقف أو أوصى لأقاربه". قوله: "عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة لا أعلمه إلا عن أنس" كذا وقع عند البخاري، وذكره ابن عبد البر في "التمهيد" فقال: روى هذا الحديث عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك، فذكره بطوله جازما، والذي يظهر أن الذي

(5/387)


قال: "لا أعلمه إلا عن أنس" هو البخاري. قوله: "لما نزلت: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} جاء أبو طلحة" زاد ابن عبد البر "ورسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر" قال: "وكانت دار أبي جعفر والدار التي تليها إلى قصر بني حديلة حوائط لأبي طلحة، قال وكان قصر بني حديلة حائطا لأبي طلحة يقال لها بيرحاء" فذكر الحديث، ومراده بدار أبي جعفر التي صارت إليه بعد ذلك وعرفت به، وهو أبو جعفر المنصور الخليفة المشهور العباسي، وأما قصر بني حديلة وهو بالمهملة مصغر، ووهم من قاله بالجيم فنسب إليهم القصر بسبب المجاورة، وإلا فالذي بناه هو معاوية بن أبي سفيان؛ وبنو حديلة بالمهملة مصغر بطن من الأنصار وهم بنو معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار وكانوا بتلك البقعة فعرفت بهم، فلما اشترى معاوية حصة حسان بنى فيها هذا القصر فعرف بقصر بني حديلة ذكر ذلك عمرو بن شبة وغيره في "أخبار المدينة" قالوا وبني معاوية القصر المذكور ليكون له حصنا لما كانوا يتحدثون به بينهم مما يقع لبني أمية أي من قيام أهل المدينة عليهم، قال أبو غسان المدني: وكان لذلك القصر بابان أحدهما شارع على خط بني حديلة والآخر في الزاوية الشرقية، وكان الذي ولي بناءه لمعاوية الطفيل بن أبي بن كعب انتهى، وأغرب الكرماني فزعم أن معاوية الذي بني القصر المذكور هو معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار أحد أجداد أبي طلحة وغيره، وما ذكرته عمن صنف في أخبار المدينة يرد عليه، وهو أعلم بذلك من غيرهم. قوله: "وباع حسان حصته منه من معاوية" هذا يدل على أن أبا طلحة ملكهم الحديقة المذكورة ولم يقفها عليهم، إذ لو وقفها ما ساغ لحسان أن يبيعها، فيعكر على من استدل بشيء من قصة أبي طلحة في مسائل الوقف إلا فيما لا تخالف فيه الصدقة الوقف، ويحتمل أن يقال شرط أبو طلحة عليهم لما وقفها عليهم أن من احتاج إلى بيع حصته منهم جاز له بيعها، وقد قال بجواز هذا الشرط بعض العلماء كعلي وغيره والله أعلم. ووقع في "أخبار المدينة لمحمد بن الحسن المخزومي" من طريق أبي بكر بن حزم أن ثمن حصة حسان مائة ألف درهم قبضها من معاوية بن أبي سفيان.

(5/388)


باب قول الله عز وجل (وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى... الآية)
...
18 - باب: قَوْلِ اللَّهِ عز وجل {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ}
2759- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "إِنَّ نَاسًا يَزْعُمُونَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نُسِخَتْ وَلاَ وَاللَّهِ مَا نُسِخَتْ وَلَكِنَّهَا مِمَّا تَهَاوَنَ النَّاسُ هُمَا وَالِيَانِ وَالٍ يَرِثُ وَذَاكَ الَّذِي يَرْزُقُ وَوَالٍ لاَ يَرِثُ فَذَاكَ الَّذِي يَقُولُ بِالْمَعْرُوفِ يَقُولُ لاَ أَمْلِكُ لَكَ أَنْ أُعْطِيَكَ"
[الحديث 2759- طرفه في: 4576]
قوله: "باب قول الله عز وجل: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ} الآية" وذكر فيه حديث ابن عباس قال: "إن ناسا يزعمون أن هذه الآية نسخت" الحديث، وسيأتي الكلام عليه في التفسير، وذكر من أراد ابن عباس بقوله: "إن ناسا يزعمون" وأن منهم عائشة رضي الله عنها، وغير ذلك من الأقوال في دعوى كونها محكمة أو منسوخة.

(5/388)


باب ما سيتحب لمن توفي فجاءة أن يتصدقوا عنه وقضاء النذور عن الميت
...
19 - باب: مَا يُسْتَحَبُّ لِمَنْ تُوُفِّيَ فُجَاءَةً أَنْ يَتَصَدَّقُوا عَنْهُ وَقَضَاءِ النُّذُورِ عَنْ الْمَيِّتِ
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا "أَنَّ رَجُلًا

(5/388)


20 - باب: الإِشْهَادِ فِي الْوَقْفِ وَالصَّدَقَةِ
2762- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ قَالَ أَخْبَرَنِي يَعْلَى أَنَّهُ سَمِعَ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ يَقُولُ: "أَنْبَأَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَخَا بَنِي سَاعِدَةَ - تُوُفِّيَتْ أُمُّهُ وَهُوَ غَائِبٌ، عَنْهَا فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أُمِّي تُوُفِّيَتْ وَأَنَا غَائِبٌ عَنْهَا فَهَلْ يَنْفَعُهَا شَيْءٌ إِنْ تَصَدَّقْتُ بِهِ عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ . قَالَ: فَإِنِّي أُشْهِدُكَ أَنَّ حَائِطِيَ الْمِخْرَافَ صَدَقَةٌ عَلَيْهَا"

(5/390)


قوله: "باب الإشهاد في الوقف والصدقة" أورد فيه حديث ابن عباس المذكور آنفا لقوله فيه: "أشهدك أن حائطي المخراف صدقة" وألحق المصنف الوقف بالصدقة، لكن في الاستدلال لذلك بقصة سعد نظر، لأن قوله: "أشهدك" يحتمل إرادة الإشهاد المعتبر ويحتمل أن يكون معناه الإعلام، واستدل المهلب للإشهاد في الوقف بقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} قال فإذا أمر بالإشهاد في البيع وله عوض فلأن يشرع في الوقف الذي لا عوض له أولى. وقال ابن المنير: كأن البخاري أراد دفع التوهم عمن يظن أن الوقف من أعمال البر فيندب إخفاؤه، فبين أنه يشرع إظهاره لأنه بصدد أن ينازع فيه ولا سيما من الورثة.

(5/391)


باب قول الله تعالى (وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ... الآية)
...
21 - باب: قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى [12 - 13 النساء]
{وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ}
2763- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ كَانَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ يُحَدِّثُ أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} قَالَتْ: هِيَ الْيَتِيمَةُ فِي حَجْرِ وَلِيِّهَا فَيَرْغَبُ فِي جَمَالِهَا وَمَالِهَا وَيُرِيدُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِأَدْنَى مِنْ سُنَّةِ نِسَائِهَا فَنُهُوا عَنْ نِكَاحِهِنَّ إِلاَّ أَنْ يُقْسِطُوا لَهُنَّ فِي إِكْمَالِ الصَّدَاقِ وَأُمِرُوا بِنِكَاحِ مَنْ سِوَاهُنَّ مِنْ النِّسَاءِ قَالَتْ عَائِشَةُ: ثُمَّ اسْتَفْتَى النَّاسُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ [127 النساء]: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} قَالَتْ فَبَيَّنَ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْيَتِيمَةَ إِذَا كَانَتْ ذَاتَ جَمَالٍ وَمَالٍ رَغِبُوا فِي نِكَاحِهَا وَلَمْ يُلْحِقُوهَا بِسُنَّتِهَا بِإِكْمَالِ الصَّدَاقِ فَإِذَا كَانَتْ مَرْغُوبَةً عَنْهَا فِي قِلَّةِ الْمَالِ وَالْجَمَالِ تَرَكُوهَا وَالْتَمَسُوا غَيْرَهَا مِنْ النِّسَاءِ. قَالَ فَكَمَا يَتْرُكُونَهَا حِينَ يَرْغَبُونَ عَنْهَا فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَنْكِحُوهَا إِذَا رَغِبُوا فِيهَا إِلاَّ أَنْ يُقْسِطُوا لَهَا الأَوْفَى مِنْ الصَّدَاقِ وَيُعْطُوهَا حَقَّهَا"
قوله: "باب قوله عز وجل: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ - إلى قوله - فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} أورد فيه حديث عائشة في تفسير قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} وفي تفسير قوله تعالى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} وسيأتي الكلام على هذا الحديث مستوفى في التفسير، وقد أغفل المزي عزو هذا الحديث إلى كتاب الوصايا.

(5/391)


باب قول الله تعالى (وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح ... الآية)
...
22 - باب: قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى [6 النساء]: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ، وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ، فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ، وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً. لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً} حَسِيبًا يَعْنِي كَافِيًا

(5/391)


باب: وما َلِلْوَصِيِّ أَنْ يَعْمَلَ فِي مَالِ الْيَتِيمِ وَمَا يَأْكُلُ مِنْهُ بِقَدْرِ عُمَالَتِهِ
2764- حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ الأَشْعَثِ حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ حَدَّثَنَا صَخْرُ بْنُ جُوَيْرِيَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "أَنَّ عُمَرَ تَصَدَّقَ بِمَالٍ لَهُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ يُقَالُ لَهُ ثَمْغٌ وَكَانَ نَخْلًا فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي اسْتَفَدْتُ مَالًا وَهُوَ عِنْدِي نَفِيسٌ فَأَرَدْتُ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِهِ، فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "تَصَدَّقْ بِأَصْلِهِ لاَ يُبَاعُ وَلاَ يُوهَبُ وَلاَ يُورَثُ وَلَكِنْ يُنْفَقُ ثَمَرُهُ فَتَصَدَّقَ بِهِ عُمَرُ فَصَدَقَتُهُ تِلْكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَفِي الرِّقَابِ وَالْمَسَاكِينِ وَالضَّيْفِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَلاَ جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ بِالْمَعْرُوفِ أَوْ يُوكِلَ صَدِيقَهُ غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ بِهِ"
2765- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا {وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} قَالَتْ أُنْزِلَتْ فِي وَالِي الْيَتِيمِ أَنْ يُصِيبَ مِنْ مَالِهِ إِذَا كَانَ مُحْتَاجًا بِقَدْرِ مَالِهِ بِالْمَعْرُوفِ"
قوله: "وما للوصي أن يعمل في مال اليتيم وما يأكل منه بقدر عمالته" كذا للأكثر، وسقطت "ما" الأولى لأبي ذر، وهذه من مسائل الخلاف: فقيل يجوز للوصي أن يأخذ من مال اليتيم قدر عمالته وهو قول عائشة كما في ثاني حديثي الباب وعكرمة والحسن وغيرهم، وقيل لا يأكل منه إلا عند الحاجة. ثم اختلفوا فقال عبيدة بن عمرو وسعيد بن جبير ومجاهد: إذا أكل ثم أيسر قضى، وقيل لا يجب القضاء، وقيل إن كان ذهبا أو فضة لم يجز أن يأخذ منه شيئا إلا على سبيل القرض، وإن كان غير ذلك جاز بقدر الحاجة، وهذا أصح الأقوال عن ابن عباس، وبه قال الشعبي وأبو العالية وغيرهما، أخرج جميع ذلك ابن جرير في تفسيره. وقال هو بوجوب القضاء مطلقا وانتصر له، ومذهب الشافعي يأخذ أقل الأمرين من أجرته ونفقته ولا يجب الرد على الصحيح، وحكى ابن التين عن ربيعة أن المراد بالفقير والغني في هذه الآية اليتيم، أي إن كان غنيا فلا يسرف في الإنفاق عليه، وإن كان فقيرا فليطعمه من ماله بالمعروف، ولا دلالة فيها على الأكل من مال اليتيم أصلا والمشهور ما تقدم. ثم أورد المصنف في الباب حديثين: أحدهما حديث عمر، قوله: "حدثنا هارون بن الأشعث" هو الهمداني بسكون الميم أصله من الكوفة ثم سكن بخارى، ولم يخرج عنه البخاري في هذا الكتاب سوى هذا الموضع، ووقع في بعض الروايات

(5/392)


كرواية النسفي "حدثنا هارون" غير منسوب، فزعم ابن عدي أنه هارون بن يحيى المكي الزبيري ولم يعرف من حاله شيء، والمعتمد ما وقع عند أبي ذر وغيره منسوبا. قوله: "تصدق بمال له" هو من إطلاق العام على الخاص لأن المراد بالمال هنا الأرض التي لها غلة. قوله: "يقال له ثمغ" بفتح المثلثة وسكون الميم بعدها معجمة، ومنهم من فتح الميم حكاه المنذري، قال أبو عبيد البكري هي أرض تلقاء المدينة كانت لعمر. قلت: وسأذكر في "باب الوقف كيف يكتب" كيفية مصيره إلى عمر مع بيان الاختلاف في ذلك إن شاء الله تعالى. قوله: "فصدقته تلك" كذا للكشميهني ولغيره: "ذلك". قوله: "ولا جناح على من وليه أن يأكل منه بالمعروف" قال المهلب: شبه البخاري الوصي بناظر الوقف، ووجه الشبه أن النظر للموقوف عليهم من الفقراء وغيرهم كالنظر لليتامى، وتعقبه ابن المنير بأن الواقف هو المالك لمنافع ما وقفه، فإن شرط لمن يلي نظره شيئا ساغ له ذلك، والموصي ليس كذلك لأن ولده يملكون المال بعده بقسمة الله لهم فلم يكن في ذلك كالواقف اهـ. ومقتضاه أن الموصي إذا جعل للوصي أن يأكل من مال الموصى عليهم لا يصح ذلك، وليس كذلك بل هو سائغ إذا عينه، وإنما اختلف السلف فيما إذا أوصى ولم يعين للموصي شيئا هل له أن يأخذ بقدر عمله أم لا؟ وقال الكرماني: وجه المطابقة هو من جهة أن القصد أن الوصي يأخذ من مال اليتيم أجره بدليل قول عمر "لا جناح على من وليه أن يأكل بالمعروف" . ثانيهما حديث عائشة في قوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ} الآية، قالت عائشة: أنزلت في والي اليتيم، وفي رواية المستملي: "في والي مال اليتيم إلخ" وقد قدمت بيان الاختلاف في ذلك، يأتي بقية شرحه في تفسير سورة النساء إن شاء الله تعالى.

(5/393)


باب قول الله تعالى (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما ... الآية)
...
23 - باب: قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى [10 النساء]
{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً}
2766- حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ بِلاَلٍ عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ الْمَدَنِيِّ عَنْ أَبِي الْغَيْثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا هُنَّ قَالَ الشِّرْكُ بِاللَّهِ وَالسِّحْرُ وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَكْلُ الرِّبَا وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلاَتِ"
[الحديث 2766- طرفاه في: 5764 ، 6857]
قوله: باب قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} أورد فيه حديث أبي هريرة في السبع الموبقات وفيه: "وأكل مال اليتيم" وسيأتي شرحه مستوفى في كتاب الحدود إن شاء الله تعالى، وكنت قدمت في الشهادات أنني أشرح هذا الحديث هنا، ثم حصل ذهول فاستدركته في الموضع الذي أعاده فيه المصنف من كتاب الحدود، وذكرت الاختلاف في ضابط الكبيرة وفي عددها في أوائل كتاب الأدب.

(5/393)


باب ( يسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير ... الآية)
...
24 - باب
[220 البقرة]: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَهُمْ خَيْرٌ، وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنْ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لاَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} لاَعْنَتَكُمْ: لاَحْرَجَكُمْ وَضَيَّقَ وَعَنَتِ: خَضَعَتْ
2767- وَقَالَ لَنَا سُلَيْمَانُ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ قَالَ: مَا رَدَّ ابْنُ عُمَرَ عَلَى أَحَدٍ وَصِيَّةً وَكَانَ ابْنُ سِيرِينَ أَحَبَّ الأَشْيَاءِ إِلَيْهِ فِي مَالِ الْيَتِيمِ أَنْ يَجْتَمِعَ إِلَيْهِ نُصَحَاؤُهُ وَأَوْلِيَاؤُهُ فَيَنْظُرُوا الَّذِي هُوَ خَيْرٌ لَهُ وَكَانَ طَاوُسٌ إِذَا سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْيَتَامَى قَرَأَ {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنْ الْمُصْلِحِ} وَقَالَ عَطَاءٌ فِي يَتَامَى الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ يُنْفِقُ الْوَلِيُّ عَلَى كُلِّ إِنْسَانٍ بِقَدْرِهِ مِنْ حِصَّتِهِ
قوله: "باب {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} ، إلى آخر الآية" كذا لأبي ذر، وساق غيره الآية. قوله: "لأعنتكم لأحرجكم وضيق" هو تفسير ابن عباس أخرجه ابن المنذر من طريق علي بن أبي طلحة عنه، وزاد بعد قوله ضيق عليكم "ولكنه وسع ويسر فقال: ومن كان غنيا فليستعفف، ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف" يقول يأكل الفقير إذا ولي مال اليتيم بقدر قيامه على ماله ومنفعته ما لم يسرف أو يبذر، ثم أخرج من طريق سعيد بن جبير قال في قوله: "لأعنتكم": لأحرجكم اهـ، وقوله: أعنتكم فعل ماض من العنت بفتح المهملة والنون بعدها مثناة والهمزة للتعدية أي أوقعكم في العنت. قوله: "وعنت خضعت" كذا وقع هنا، واستغرب لأنه لا تعلق له بقوله: "أعنتكم" بل هو فعل ماض من العنو بضم المهملة والنون وتشديد الواو، وليس هو من العنت في شيء لأن التاء في العنت أصلية وفي عنت للتأنيث ولام الفعل منه واو لكنها ذهبت في الوصل، فلعل المصنف ذكر ذلك هنا استطرادا، وتفسير {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ} بخضعت أخرجه ابن المنذر أيضا من طريق مجاهد وأخرج من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: "قوله وعنت الوجوه أي ذلت" ومن طريق أبي عبيدة قال: "عنت استأسرت" لأن العاني هو الأسير فكأن من فسره بخضعت فسره بلازمه لأن من لازم الأسر الذلة والخضوع غالبا. قوله: "وقال لنا سليمان بن حرب إلخ" هو موصول، وسليمان من شيوخ البخاري، وجرت عادة البخاري الإتيان بهذه الصيغة في الموقوفات غالبا وفي المتابعات نادرا، ولم يصب من قال أنه لا يأتي بها إلا في المذاكرة، وأبعد من قال إن ذلك للإجازة. قوله: "ما رد ابن عمر على أحد وصيته" يعني أنه كان يقبل وصية من يوصي إليه، قال ابن التين كأنه كان يبتغي الأجر بذلك لحديث: "أنا وكافل اليتيم كهاتين" الحديث اهـ. وسيأتي في كتاب الأدب مع الكلام عليه، ومحل كراهة الدخول في الوصايا أن يخشى التهمة أو الضعف عن القيام بحقها. قوله: "وكان ابن سيرين أحب الأشياء إليه إلخ" لم أقف عليه موصولا عنه. قوله: "وكان طاوس إلخ" وصله سفيان بن عيينة في تفسيره عن هشام بن حجير بمهملة ثم جيم مصغر عن طاوس أنه "كان إذا سئل عن مال اليتيم يقرأ: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} قوله: "وقال عطاء إلخ" وصله ابن أبي شيبة من رواية عبد الملك بن أبي سليمان عنه "أنه سئل عن الرجل يلي أموال أيتام فيهم الصغير والكبير ومالهم

(5/394)


جميع لم يقسم، قال: ينفق على كل إنسان منهم من ماله على قدره" وقد روى عبد بن حميد من طريق قتادة قال: "لما نزلت: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} كانوا لا يخالطونهم في مطعم ولا غيره، فاشتد عليهم، فأنزل الله الرخصة {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} وروى الثوري في تفسيره عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير "أن سبب نزول الآية المذكورة لما نزلت: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً} عزلوا أموالهم عن أموالهم، فنزلت: {قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} قال فخلطوا أموالهم بأموالهم" وهذا هو المحفوظ مع إرساله، وقد وصله عطاء بن السائب بذكر ابن عباس فبه أخرجه أبو داود والنسائي واللفظ له وصححه الحاكم من طريق عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: "لما نزلت هذه الآية: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ - إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً} اجتنب الناس مال اليتيم وطعامه فشق ذلك عليهم، فشكوا إلى النبي ذلك فنزلت: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى} الآية" ورواه النسائي من وجه آخر عن عطاء بن السائب موصولا أيضا وزاد فيه: "وأحل لهم خلطهم" وروى عبد بن حميد من طريق السدي عمن حدثه عن ابن عباس قال: "المخالطة أن تشرب من لبنه ويشرب من لبنك وتأكل من قصعته ويأكل من قصعتك {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ } من يتعمد أكل مال اليتيم ومن يتجنبه" وقال أبو عبيد المراد بالمخالطة أن يكون اليتيم بين عيال المولى عليه فيشق عليه إفراز طعامه، فيأخذ مق مال اليتيم قدر ما يرى أنه كافيه بالتحري فيخلطه بنفقة عياله، ولما كان ذلك قد تقع فيه الزيادة والنقصان خشوا من ذلك، فوسع الله عليهم، وهو نظير النهد حيث وسع عليهم في خلط الأزواد في الأسفار كما تقدم في الشركة. والله أعلم.

(5/395)


باب استخدام اليتيم في السفر والحضر إذا كان صلاحا له ونظر الأم أو ازوجها للينيم
...
25 - باب: اسْتِخْدَامِ الْيَتِيمِ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ إِذَا كَانَ صَلاَحًا لَهُ وَنَظَرِ الأُمِّ وَزَوْجِهَا لِلْيَتِيمِ
2768- حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ كَثِيرٍ حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ لَيْسَ لَهُ خَادِمٌ فَأَخَذَ أَبُو طَلْحَةَ بِيَدِي فَانْطَلَقَ بِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَنَسًا غُلاَمٌ كَيِّسٌ فَلْيَخْدُمْكَ قَالَ فَخَدَمْتُهُ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ مَا قَالَ لِي لِشَيْءٍ صَنَعْتُهُ لِمَ صَنَعْتَ هَذَا هَكَذَا وَلاَ لِشَيْءٍ لَمْ أَصْنَعْهُ لِمَ لَمْ تَصْنَعْ هَذَا هَكَذَا؟ "
[الحديث- طرفاه في: 6038 ، 6911]
قوله: "باب استخدام اليتيم في السفر والحضر إذا كان صلاحا له ونظر الأم أو زوجها لليتيم" أورد فيه حديث أنس قال: "قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وليس له خادم، فأخذ أبو طلحة بيدي فانطلق بي" الحديث، وسيأتي الكلام على شرحه مستوفى: أما صدره ففي الجهاد، وأما بقيته ففي كتاب الأدب. وعبد العزيز المذكور في الإسناد هو ابن صهيب، والإسناد كله بصريون. وأبو طلحة كان زوج أم سليم والدة أنس فالحديث مطابق لأحد ركني الترجمة، وأما الركن الذي قبله وهو نظر الأم فكأنه استفيد من كون أبي طلحة لم يفعل ذلك إلا بعد رضا أم سليم، أو أشار إلى ما ورد في بعض طرقه: "أن أم سليم هي التي أحضرته إلى النبي صلى الله عليه وسلم أول ما قدم المدينة" وأما أبو طلحة فأحضره إليه لما أراد الخروج إلى غزوة خيبر كما سيأتي ذلك صريحا في "باب من غزا بصبي للخدمة" من كتاب الجهاد،

(5/395)


ومن طريق عمرو بن أبي عمرو عن أنس، وقد اختلف في حكم ما ترجم به: فعن المالكية للأم وغيرها التصرف في مصالح من في كفالتهم من الأيتام وإن لم يكونوا أوصياء، واستشكل بعضهم جواز ذلك فإنه يفضي إلى أن اليتيم يشتغل بالخدمة عن التأديب وهو ضد المطلوب، وجوابه أن انتزاع الحكم المذكور من هذا الخبر يقتضي التقييد بما ورد في الخبر المستدل به وهو أن يكون عند من يؤدبه وينتفع بتأديبه كما وقع لأنس في الخدمة النبوية فإنه استفاد بالمواظبة عليها من الآداب ما فاق غيره ممن أدبه أبوه.

(5/396)


26 - باب: إِذَا وَقَفَ أَرْضًا وَلَمْ يُبَيِّنْ الْحُدُودَ فَهُوَ جَائِزٌ وَكَذَلِكَ الصَّدَقَةُ
2769- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ أَنْصَارِيٍّ بِالْمَدِينَةِ مَالًا مِنْ نَخْلٍ أَحَبُّ مَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرُحَاءَ مُسْتَقْبِلَةَ الْمَسْجِدِ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ قَالَ أَنَسٌ: فَلَمَّا نَزَلَتْ {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} قَامَ أَبُو طَلْحَةَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءَ وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللَّهِ فَضَعْهَا حَيْثُ أَرَاكَ اللَّهُ فَقَالَ بَخْ ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ - أَوْ رَايِحٌ شَكَّ ابْنُ مَسْلَمَةَ - وَقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الأَقْرَبِينَ قَالَ أَبُو طَلْحَةَ أَفْعَلُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ وَفِي بَنِي عَمِّهِ"
وَقَالَ: إِسْمَاعِيلُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ وَيَحْيَى بْنُ يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ "رَايِحٌ"
2770- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ أَخْبَرَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ أُمَّهُ تُوُفِّيَتْ أَيَنْفَعُهَا إِنْ تَصَدَّقْتُ عَنْهَا قَالَ: نَعَمْ قَالَ: فَإِنَّ لِي مِخْرَافًا وَأُشْهِدُكَ أَنِّي قَدْ تَصَدَّقْتُ بِهِ عَنْهَا"
قوله: "باب إذا وقف أرضا ولم يبين الحدود فهو جائز، وكذلك الصدقة" كذا أطلق الجواز وهو محمول على ما إذا كان الموقوف أو المتصدق به مشهورا متميزا بحيث يؤمن أن يلتبس بغيره، وإلا فلا بد من التحديد اتفاقا لكن ذكر الغزالي في فتاويه أن من قال: اشهدوا على أن جميع أملاكي وقف على كذا وذكر مصرفها ولم يحدد شيئا منها صارت جميعها وقفا، ولا يضر جهل الشهود بالحدود. ويحتمل أن يكون مراد البخاري أن الوقف يصح بالصيغة التي لا تحديد فيها بالنسبة إلى اعتقاد الواقف وإرادته لشيء معين في نفسه، وإنما يعتبر التحديد لأجل الإشهاد عليه ليبين حق الغير والله أعلم. قوله: "أكثر الأنصار" في رواية الكشميهني: "أكثر أنصاري" أي أكثر كل واحد من الأنصار، والإضافة إلى المفرد النكرة عند إرادة التفضيل سائغ. قوله: "مالا من نخل" تقدم في رواية عبد العزيز الماجشون عن إسحاق تسمية حدائق أبي طلحة قريبا. قوله: "وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدخلها" زاد في رواية عبد

(5/396)


العزيز "ويستظل فيها". قوله: "بيرحاء" تقدم شيء من ضبطها في الزكاة، ومنه عند مسلم: "بريحاء" بفتح الموحدة وكسر الراء وتقديمها على التحتانية الساكنة ثم حاء مهملة، ورجح هذا صاحب الفائق وقال: هي وزن فعيلاء من البراح وهي الأرض الظاهرة المنكشفة، وعند أبي داود باريحاء وهو بإشباع الموحدة والباقي مثله، ووهم من ضبطه بكسر الموحدة وفتح الهمزة، فإن أريحاء من الأرض المقدسة، ويحتمل أن كان محفوظا أن تكون سميت باسمها قال عياض: رواية المغاربة إعراب الراء والقصر في حاء، وخطأ هذا الصوري. وقال الباجي: أدركت أهل العلم ومنهم أبو ذر يفتحون الراء في كل حال، زاد الصوري وكذلك الباء أي أوله، وقد قدمت في الزكاة أنه انتهى الخلاف في النطق بها إلى عشرة أوجه، ونقل أبو علي الصدفي عن أبي ذر الهروي أنه جزم أنها مركبة من كلمتين بير كلمة وحاء كلمة ثم صارت كلمة واحدة، واختلف في حاء هل هي اسم رجل أو امرأة أو مكان أضيفت إليه البئر أو هي كلمة زجر لإبل وكأن الإبل كانت ترعى هناك وتزجر بهذه اللفظة فأضيفت البئر إلى اللفظة المذكورة. قوله: "بخ" بفتح الموحدة وسكون المعجمة، وقد تنون مع التثقيل والتخفيف بالكسر والرفع والسكون ويجوز التنوين لغات، ولو كررت فالاختيار أن تنون الأولى وتسكن الثانية، وقد يسكنان جميعا كما قال الشاعر: بخ بخ لوالده وللمولود ومعناها تفخيم الأمر والإعجاب به. قوله: "رابح أو رايح شك ابن مسلمة" أي القعنبي أي هل هو بالتحتانية أو بالموحدة. قوله: "أفعل" بضم اللام على أنه قول أبي طلحة. قوله: "فقسمها أبو طلحة" فيه تعيين أحد الاحتمالين في رواية غيره حيث وقع فيها "أفعل فقسمها" فإنه احتمل الأول واحتمل أن يكون أفعل صيغة أمر وفاعل قسمها النبي صلى الله عليه وسلم، وانتفى هذا الاحتمال الثاني بهذه الرواية. وذكر ابن عبد البر أن إسماعيل القاضي رواه عن القعنبي عن مالك فقال في روايته: "فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم في أقاربه وبني عمه"، قال وقوله: "في أقاربه" أي أقارب أبي طلحة، قلت: ووقع في رواية ثابت عن أنس كما تقدم، وكذا في رواية همام عن إسحاق بن أبي طلحة: "فقال صلى الله عليه وسلم: ضعها في قرابتك، فجعلها حدائق بين حسان بن ثابت وأبي بن كعب" لفظ إسحاق أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده عنه، وحديث ثابت نحوه، قال ابن عبد البر: إضافة القسم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كان سائغا شائعا في لسان العرب على معنى أنه الآمر به لكن أكثر الرواة لم يقولوا ذلك، والصواب رواية من قال: "فقسمها أبو طلحة". قوله: "في أقاربه وبني عمه" في رواية ثابت المتقدمة " فجعلها لحسان وأبي" وكذا في رواية همام عن إسحاق كما ترى، وكذا في رواية الأنصاري عن أبيه عن ثمامة، وقد تمسك به من قال: أقل من يعطى من الأقارب إذا لم يكونوا منحصرين اثنان، وفيه نظر لأنه وقع في رواية الماجشون عن إسحاق المتقدمة "فجعلها أبو طلحة في ذي رحمه وكان منهم حسان وأبي بن كعب" فدل على أنه أعطى غيرهما معهما، ثم رأيت في مرسل أبي بكر بن حزم المتقدم "فرده على أقاربه أبي بن كعب وحسان بن ثابت وأخيه - أو ابن أخيه - شداد بن أوس ونبيط بن جابر فتقاوموه، فباع حسان حصته من معاوية بمائة ألف درهم". قوله: "وقال إسماعيل" أي ابن أبي أويس "وعبد الله بن يوسف ويحيى بن يحيى عن مالك" أي بهذا الإسناد "رايح" أي بالتحتانية، وقد وصل حديث إسماعيل في التفسير وحديث عبد الله بن يوسف في الزكاة وحديث يحيى بن يحيى في الوكالة، وقد تقدم توجيه الروايتين في كتاب الزكاة. وفي قصة أبي طلحة من الفوائد غير ما تقدم أن منقطع الآخر في الوقف يصرف لأقرب الناس إلى الواقف، وأن الوقف لا يحتاج في انعقاده إلى قبول الموقوف عليه. واستدل به بعض المالكية على صحة

(5/397)


الصدقة المطلقة ثم يعينها المتصدق لمن يريد، واستدل به للجمهور في أن من أوصى أن يفرق ثلث ماله حيث أرى الله الوصي صحت وصيته ويفرقه الوصي في سبيل الخير ولا يأكل منه شيئا ولا يعطي منه وارثا للميت، وخالف في ذلك أبو ثور وفاقا للحنفية في الأول دون الثاني. وفيه جواز التصدق من الحي في غير مرض الموت بأكثر من ثلث ماله لأنه صلى الله عليه وسلم لم يستفصل أبا طلحة عن قدر ما تصدق به وقال لسعد بن أبي وقاص "الثلث كثير" وفيه تقديم الأقرب من الأقارب على غيرهم، وفيه جواز إضافة حب المال إلى الرجل الفاضل العالم ولا نقص عليه في ذلك وقد أخبر تعالى عن الإنسان {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} والخير هنا المال اتفاقا، وفيه اتخاذ الحوائط والبساتين ودخول أهل الفضل والعلم فيها والاستظلال بظلها والأكل من ثمرها والراحة والتنزه فيها، وقد يكون ذلك مستحبا يترتب عليه الأجر إذا قصد به إجمام النفس من تعب العبادة وتنشيطها للطاعة، وفيه كسب العقار، وإباحة الشرب من دار الصديق ولو لم يكن حاضرا إذا علم طيب نفسه، وفيه إباحة استعذاب الماء وتفضيل بعضه على بعض، وفيه التمسك بالعموم لأن أبا طلحة فهم من قوله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} تناول ذلك بجميع أفراده، فلم يقف حتى يرد عليه البيان عن شيء بعينه بل بدر إلى إنفاق ما يحبه، وأقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك. استدل به لما ذهب إليه مالك من أن الصدقة تصح بالقول من قبل القبض، فإن كانت لمعين استحق المطالبة بقبضها، وإن كانت لجهة عامة خرجت عن ملك القائل وكان للإمام صرفه في سبيل الصدقة، وكل هذا ما إذا لم يظهر مراد المتصدق فإن ظهر اتبع. وفيه جواز تولي المتصدق قسم صدقته، وفيه جواز أخذ الغني من صدقة التطوع إذا حصل له بغير مسألة، واستدل به على مشروعية الحبس والوقف خلافا لمن منع ذلك وأبطله، ولا حجة فيه لاحتمال أن تكون صدقة أبي طلحة تمليكا وهو ظاهر سياق الماجشون عن إسحاق كما تقدم، وفيه زيادة الصدقة في التطوع على قدر نصاب الزكاة خلافا لمن قيدها به، وفيه فضيلة لأبي طلحة لأن الآية تضمنت الحث على الإنفاق من المحبوب فترقى هو إلى إنفاق أحب المحبوب فصوب صلى الله عليه وسلم رأيه وشكر عن ربه فعله، ثم أمره أن يخص بها أهله، وكنى عن رضاه بذلك بقوله: "بخ". وفيه أن الوقف يتم بقول الواقف جعلت هذا وقفا، وتقدم البحث فيه قبل أبواب، وأن الصدقة على الجهة العامة لا تحتاج إلى قبول معين بل للإمام قبولها منه ووضعها فيما يراه كما في قصة أبي طلحة. وفيه أنه لا يعتبر في القرابة من يجمعه والواقف أب معين لا رابع ولا غيره، لأن أبيا إنما يجتمع مع أبي طلحة في الأب السادس، وأنه لا يجب تقديم القريب على القريب الأبعد، لأن حسانا وأخاه أقرب إلى أبي طلحة من أبي ونبيط، ومع ذلك فقد أشرك معهما أبيا ونبيط بن جابر، وفيه أنه لا يجب الاستيعاب لأن بني حرام الذي اجتمع فيه أبو طلحة وحسان كانوا بالمدينة كثيرا فضلا عن عمرو بن مالك الذي يجمع أبا طلحة وأبيا. قوله في حديث ابن عباس "أن رجلا" هو سعد بن عبادة كما تقدم قريبا.

(5/398)


باب إذا وقف جماعة أرضا مشاعا فهو جائز
...
27 - باب: إِذَا أَوْقَفَ جَمَاعَةٌ أَرْضًا مُشَاعًا فَهُوَ جَائِزٌ
2771- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبِنَاءِ الْمَسْجِدِ فَقَالَ يَا بَنِي النَّجَّارِ ثَامِنُونِي بِحَائِطِكُمْ هَذَا قَالُوا لاَ وَاللَّهِ لاَ نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إِلاَّ إِلَى اللَّهِ"

(5/398)


قوله: "باب إذا وقف جماعة أرضا مشاعا فهو جائز" قال ابن المنير: احترز عما إذا وقف الواحد المشاع فإن مالكا لا يجيزه لئلا يدخل الضرر على الشريك، وفي هذا نظر، لأن الذي يظهر أن البخاري أراد الرد على من ينكر وقف المشاع مطلقا، وقد تقدم قبل أبواب أنه ترجم "إذا تصدق أو وقف بعض ماله فهو جائز" وهو وقف الواحد المشاع، وقد تقدم البحث فيه هناك. وأورد المصنف في الباب حديث أنس في قصة بناء المسجد، وقد تقدم بهذا الإسناد مطولا في أبواب المساجد من أوائل كتاب الصلاة، والغرض منه هنا ما اقتصر عليه من قولهم "لا نطلب ثمنه إلا إلى الله عز وجل" فإن ظاهره أنهم تصدقوا بالأرض لله عز وجل، فقبل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، ففيه دليل لما ترجم له، وأما ما ذكره الواقدي أن أبا بكر دفع ثمن الأرض لمالكها منهم وقدره عشرة دنانير فإن ثبت ذلك كانت الحجة للترجمة من جهة تقرير النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك ولم ينكر قولهم ذلك، فلو كان وقف المشاع لا يجوز لأنكر عليهم وبين لهم الحكم، واستدل بهذه القصة على أن حكم المسجد يثبت للبناء إذا وقع بصورة المسجد ولو لم يصرح الباني بذلك، وعن بعض المالكية إن أذن فيه ثبت له حكم المسجد، وعن الحنفية إن أذن للجماعة بالصلاة فيه ثبت والمسألة مشهورة، ولا يثبت عند الجمهور إلا إن صرح الباني بالوقفية أو ذكر صيغة محتملة ونوى معها. وجزم بعض الشافعية بمثل ما نقل عن الحنفية لكن في الموات خاصة، والحق أنه ليس في حديث الباب ما يدل لإثبات ذلك ولا نفيه والله أعلم. قوله: "لا نطلب ثمنه إلا إلى الله" أي لا نطلب ثمنه من أحد لكن هو مصروف إلى الله، فالاستثناء على هذا التقدير منقطع، أو التقدير لا نطلب ثمنه إلا مصروفا إلى الله، فهو متصل.

(5/399)


28 - باب: الْوَقْفِ كَيْفَ يُكْتَبُ؟
2772- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "أَصَابَ عُمَرُ بِخَيْبَرَ أَرْضًا فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَصَبْتُ أَرْضًا لَمْ أُصِبْ مَالًا قَطُّ أَنْفَسَ مِنْهُ فَكَيْفَ تَأْمُرُنِي بِهِ قَالَ: إِنْ شِئْتَ حَبَّسْتَ أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْتَ بِهَا فَتَصَدَّقَ عُمَرُ أَنَّهُ لاَ يُبَاعُ أَصْلُهَا وَلاَ يُوهَبُ وَلاَ يُورَثُ فِي الْفُقَرَاءِ وَالْقُرْبَى وَالرِّقَابِ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالضَّيْفِ وَابْنِ السَّبِيلِ لاَ جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ أَوْ يُطْعِمَ صَدِيقًا غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ فِيهِ"

(5/399)


باب الوقف للغني والفقير والضيف
...
29 - باب: الوقف للغني والفقير والضعيف
2773- حدثنا أبو عاصم حدثنا بن عون عن نافع عن ابن عمر "أن عمر رضي الله عنه وجد مالا بخيبر، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره قال: إن شئت تصدقت بها فتصدق بها في الفقراء والمساكين وذي القربى والضيف"
قوله: "باب الوقف كيف يكتب" ذكر فيه حديث ابن عمر في قصة وقف عمر، وقد ترجم له في 0 آخر الشروط "في الوقف" وترجم له بعد هذا "الوقف على الغني والفقير" وبعد بابين "نفقة قيم الوقف" ومن قبل بأبواب "ما للوصي أن يعمل في مال اليتيم" هذا جميع المواضع التي أورده فيها موصولا طوله في بعضها واستدل منه بأطراف

(5/399)


30 - باب: وَقْفِ الأَرْضِ لِلْمَسْجِدِ
2774- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ قَالَ سَمِعْتُ أَبِي حَدَّثَنَا أَبُو التَّيَّاحِ قَالَ حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ أَمَرَ بِبِنَاءِ الْمَسْجِدِ وَقَالَ يَا بَنِي النَّجَّارِ ثَامِنُونِي بِحَائِطِكُمْ هَذَا قَالُوا لاَ وَاللَّهِ لاَ نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إِلاَّ إِلَى اللَّهِ"
قوله: "باب وقف الأرض للمسجد" لم يختلف العلماء في مشروعية ذلك لا من أنكر الوقف ولا من نفاه، إلا أن في الجزء المشاع احتمالا لبعض الشافعية، قال ابن الرفعة: يظهر أن المشاع فيما لا يمكن الانتفاع به لا يصح،

(5/404)


وجزم ابن الصلاح بالصحة حتى يحرم على الجنب المكث فيه ونوزع في ذلك، قال الزين بن المنير: لعل البخاري أراد الرد على من خص جواز الوقف بالمسجد، وكأنه قال قد نفذ وقف الأرض المذكورة أن تكون مسجدا فدل على أن صحة الوقف لا تختص بالمسجد، ووجه أخذه من حديث الباب أن الذين قالوا لا نطلب ثمنها إلا إلى الله كأنهم تصدقوا بالأرض المذكورة فتم انعقاد الوقف قبل البناء، فيؤخذ منه أن من وقف أرضا على أن يبنيها مسجدا انعقد الوقف قبل البناء. قلت: ولا يخفى تكلفه. قوله: "حدثني إسحاق" كذا للجميع إلا الأصيلي فنسبه فقال: "حدثنا إسحاق بن منصور" ووقع في رواية أبي علي بن شبويه "حدثنا إسحاق هو ابن منصور"، وأما عبد الصمد فهو ابن عبد الوارث، والإسناد كله بصريون. قوله: "بالمسجد" في رواية الكشميهني: "ببناء المسجد" وستأتي بقية مباحث الحديث في أوائل الهجرة إن شاء الله تعالى.

(5/405)


31 - باب: وَقْفِ الدَّوَابِّ وَالْكُرَاعِ وَالْعُرُوضِ وَالصَّامِتِ
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ فِيمَنْ جَعَلَ أَلْفَ دِينَارٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَدَفَعَهَا إِلَى غُلاَمٍ لَهُ تَاجِرٍ يَتْجِرُ بِهَا وَجَعَلَ رِبْحَهُ صَدَقَةً لِلْمَسَاكِينِ وَالأَقْرَبِينَ هَلْ لِلرَّجُلِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ رِبْحِ ذَلِكَ الأَلْفِ شَيْئًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جَعَلَ رِبْحَهَا صَدَقَةً فِي الْمَسَاكِينِ قَالَ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا
2775- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "أَنَّ عُمَرَ حَمَلَ عَلَى فَرَسٍ لَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَعْطَاهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا رَجُلًا فَأُخْبِرَ عُمَرُ أَنَّهُ قَدْ وَقَفَهَا يَبِيعُهَا فَسَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَبْتَاعَهَا فَقَالَ لاَ تَبْتَعْهَا وَلاَ تَرْجِعَنَّ فِي صَدَقَتِكَ"
قوله: "باب وقف الدواب والكراع والعروض والصامت" هذه الترجمة معقودة لبيان وقف المنقولات، والكراع بضم الكاف وتخفيف الراء اسم لجميع الخيل، فهو بعد الدواب من عطف الخاص على العام. والعروض بضم المهملة جمع عرض بالسكون وهو جميع ما عدا النقد من المال. والصامت بالمهملة بلفظ ضد الناطق، والمراد من النقد الذهب والفضة، ووجه أخذ ذلك من حديث الباب المشتمل على قصة فرس عمر أنها دالة على صحة وقف المنقولات فيلحق به ما في معناه من المنقولات إذا وجد الشرط وهو تحبيس العين، فلا تباع ولا توهب بل ينتفع بها، والانتفاع في كل شيء بحسبه. قوله: "وقال الزهري إلخ" هو ذهاب من الزهري إلى جواز مثل ذلك، وقد أخرجه عنه هكذا ابن وهب في موطئه عن يونس عن الزهري، ثم ذكر المصنف حديث ابن عمر في قصة عمر في حمله على الفرس في سبيل الله ثم وجده يباع، وقد تقدم شرحه مستوفى في كتاب الهبة، واعترضه الإسماعيلي فقال: لم يذكر في الباب إلا الأثر عن الزهري، والحديث في قصة الفرس التي حمل عليها عمر فقط، وأثر الزهري خلاف ما تقدم من الوقف الذي أذن فيه النبي صلى الله عليه وسلم لعمر بأن يحبس أصله وينتفع بثمرته، والصامت إنما ينتفع به بأن يخرج بعينه إلى شيء غيره، وليس هذا بتحبيس الأصل والانتفاع بالثمرة بل المأذون فيه ما عاد منه نفع بفضل كالثمرة والغلة والارتفاق والعين قائمة، فأما ما لا ينتفع به إلا بإفاتة عينه فلا. اهـ ملخصا. وجواب هذا الاعتراض

(5/405)


أن الذي حصره في الانتفاع بالصامت ليس بمسلم، بل يمكن الانتفاع بالصامت بطريق الارتفاق بأن يحبس مثلا منه ما يجوز لبسه للمرأة فيصح بأن يحبس أصله وينتفع به النساء باللبس عند الحاجة إليه كما قدمت توجيهه والله أعلم.

(5/406)


32 - باب: نَفَقَةِ الْقَيِّمِ لِلْوَقْفِ
2776- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال : "لاَ يَقْتَسِمُ وَرَثَتِي دِينَارًا وَلاَ دِرْهَمًا مَا تَرَكْتُ بَعْدَ نَفَقَةِ نِسَائِي وَمَئُونَةِ عَامِلِي فَهُوَ صَدَقَةٌ"
[الحديث 2776- طرفاه في: 3096 ، 6729]
2777- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ عُمَرَ اشْتَرَطَ فِي وَقْفِهِ أَنْ يَأْكُلَ مَنْ وَلِيَهُ وَيُؤْكِلَ صَدِيقَهُ غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ مَالًا"
قوله: "باب نفقة القيم للوقف" في رواية الحموي "نفقة بقية الوقف" والأول أظهر، ورد حديث أبي هريرة مرفوعا: "لا تقسم ورثتي دينارا ولا درهما، ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقة" وهو دال على مشروعية أجرة العامل على الوقف، والمراد بالعامل في هذا الحديث القيم على الأرض والأجير ونحوهما أو الخليفة بعده صلى الله عليه وسلم، ووهم من قال إن المراد به أجرة حافر قبره. وقوله: "لا تقتسم ورثتي" بإسكان الميم على النهي ويضمها على النفي وهو الأشهر وبه يستقيم المعنى حتى لا يعارض ما تقدم عن عائشة وغيرها أنه لم يترك صلى الله عليه وسلم مالا يورث عنه، وتوجيه رواية النهي أنه لم يقطع بأنه لا يخلف شيئا بل كان ذلك محتملا فنهاهم عن قسمة ما يخلف إن اتفق أنه خلف، وقوله صلى الله عليه وسلم: "ورثتي" سماهم ورثة باعتبار أنهم كذلك بالقوة، لكن منعهم من الميراث الدليل الشرعي وهو قوله: "لا نورث ما تركنا صدقة" وسيأتي شرحه مستوى في كتاب الخمس إن شاء الله تعالى. ثم أورد المصنف حديث ابن عمر في وقف عمر مختصرا، وقد تقدم شرحه مستوفى قبل بباب، وقد اعترضه الإسماعيلي بأن المحفوظ عن حماد بن زيد عن أيوب عن نافع "أن عمر" ليس فيه ابن عمر، ثم أورده كذلك من طريق سليمان بن حرب وغير واحد عن حماد. قلت: لكن البخاري أخرجه عن قتيبة عنه، وقتيبة من الحفاظ، وقد تابعه يونس بن محمد عن حماد بن زيد فوصله أخرجه أحمد عنه مطولا، ووصله أيضا يزيد بن زريع عن أيوب أخرجه الإسماعيلي. وقال الحميدي: لم أقف على طريق قتيبة في صحيح البخاري، وهو ذهول شديد منه، فإنه ثابت في جميع النسخ.

(5/406)


باب إذا وقف أرضا أو بئرا أو اشترط لنفسه مثل دلاء المسلمين
...
33 - باب: إِذَا وَقَفَ أَرْضًا أَوْ بِئْرًا وَاشْتَرَطَ لِنَفْسِهِ مِثْلَ دِلاَءِ الْمُسْلِمِينَ
وَأَوْقَفَ أَنَسٌ دَارًا، فَكَانَ إِذَا قَدِمَهَا نَزَلَهَا وَتَصَدَّقَ الزُّبَيْرُ بِدُورِهِ وَقَالَ لِلْمَرْدُودَةِ مِنْ بَنَاتِهِ أَنْ تَسْكُنَ غَيْرَ مُضِرَّةٍ وَلاَ مُضَرٍّ بِهَا فَإِنْ اسْتَغْنَتْ بِزَوْجٍ فَلَيْسَ لَهَا حَقٌّ وَجَعَلَ ابْنُ عُمَرَ نَصِيبَهُ مِنْ دَارِ عُمَرَ سُكْنَى لِذَوِي الْحَاجَةِ مِنْ آلِ عَبْدِ اللَّهِ
2778- وَقَالَ عَبْدَانُ أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ شُعْبَةَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ

(5/406)


34 - باب: إِذَا قَالَ الْوَاقِفُ لاَ نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إِلاَّ إِلَى اللَّهِ فَهُوَ جَائِزٌ
2779- حدثنا مسدد حدثنا عبد الوارث عن أبي التياح عن أنس رضي الله عنه قال: "قال النبي صلى الله عليه وسلم: يا بني النجار ثامنوني بحائطكم، قالوا: لا نطلب ثمنه إلا إلى الله"
قوله: "باب إذا قال الواقف لا نطلب ثمنه إلا إلى الله تعالى" أورد فيه حديث أنس في قول بني النجار "لا نطلب ثمنه إلا إلى الله" أورده مختصرا جدا، وقد تقدم بسنده وزيادة في متنه قبل خمسة أبواب، قال الإسماعيلي المعنى أنهم لم يبيعوه ثم جعلوه مسجدا، إلا أن قول المالك لا أطلب ثمنه إلا إلى الله لا يصيره وقفا، وقد يقول الرجل هذا لعبد فلا يصير وقفا ويقوله للمدبر فيجوز بيعه، وقال ابن المنير: مراد البخاري أن الوقف يصح بأي لفظ دل عليه إما بمجرده وإما بقرينة والله أعلم، كذا قال، وفي الجزم بأن هذا مراده نظر، بل يحتمل أنه أراد أنه لا يصير بمجرد ذلك وقفا

(5/409)


باب قول الله عز وجل (يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا جضر أحدكم الموت ... الآية)
...
35 - باب: قَوْلِ اللَّهِ عز وجل [106 - 107 المائدة]: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} . الأَوْلَيَانِ وَاحِدُهُمَا أَوْلَى وَمِنْهُ أَوْلَى بِهِ عُثِرَ أُظْهِرَ أَعْثَرْنَا: أَظْهَرْنَا
2780- و قَالَ لِي عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الْقَاسِمِ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَهْمٍ مَعَ تَمِيمٍ

(5/409)


باب قضاء الوصي جيون الميت بغير محضر من الورثة
...
26 - باب: قَضَاءِ الْوَصِيِّ دُيُونَ الْمَيِّتِ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْ الْوَرَثَةِ
2781- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَابِقٍ - أَوْ الْفَضْلُ بْنُ يَعْقُوبَ عَنْهُ - حَدَّثَنَا شَيْبَانُ أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ فِرَاسٍ قَالَ: قَالَ الشَّعْبِيُّ حَدَّثَنِي جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "أَنَّ أَبَاهُ اسْتُشْهِدَ يَوْمَ أُحُدٍ وَتَرَكَ سِتَّ بَنَاتٍ وَتَرَكَ عَلَيْهِ دَيْنًا فَلَمَّا حَضَرَ جِدَادُ النَّخْلِ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ عَلِمْتَ أَنَّ وَالِدِي اسْتُشْهِدَ يَوْمَ أُحُدٍ وَتَرَكَ عَلَيْهِ دَيْنًا كَثِيرًا وَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ يَرَاكَ الْغُرَمَاءُ قَالَ اذْهَبْ فَبَيْدِرْ كُلَّ تَمْرٍ عَلَى نَاحِيَتِهِ فَفَعَلْتُ ثُمَّ دَعَوْتُهُ فَلَمَّا نَظَرُوا إِلَيْهِ أُغْرُوا بِي تِلْكَ السَّاعَةَ فَلَمَّا رَأَى مَا يَصْنَعُونَ أَطَافَ حَوْلَ أَعْظَمِهَا بَيْدَرًا ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ جَلَسَ عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ ادْعُ أَصْحَابَكَ فَمَا زَالَ يَكِيلُ لَهُمْ حَتَّى أَدَّى اللَّهُ أَمَانَةَ وَالِدِي وَأَنَا وَاللَّهِ رَاضٍ أَنْ يُؤَدِّيَ اللَّهُ أَمَانَةَ وَالِدِي وَلاَ أَرْجِعَ إِلَى أَخَوَاتِي بِتَمْرَةٍ فَسَلِمَ وَاللَّهِ الْبَيَادِرُ كُلُّهَا حَتَّى أَنِّي أَنْظُرُ إِلَى الْبَيْدَرِ الَّذِي عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَأَنَّه لَمْ يَنْقُصْ تَمْرَةً وَاحِدَة"ً
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ "أُغْرُوا بِي" يَعْنِي هِيجُوا بِي {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ}
قوله: "باب قضاء الوصي ديون الميت بغير محضر من الورثة" قال الداودي: لا خلاف بين العلماء في حكم هذه الترجمة أنه جائز. قوله: "حدثنا محمد بن سابق، أو الفضل بن يعقوب عنه" هكذا وقع هنا بالشك، وقد روى البخاري عن أبي جعفر محمد بن سابق البغدادي مولى بني تميم بواسطة من أول حديث في الجهاد وهو عقب هذا سواء

(5/413)


وفي المغازي والنكاح والأشربة، ولم يرو عنه بغير واسطة إلا في هذا الموضع مع التردد في ذلك، وأما الفضل بن يعقوب فتقدم ذكره في البيوع، وأخرج عنه أيضا في الجزية وغيرها، وشيبان هو ابن عبد الرحمن، وفراس بكسر الفاء وتخفيف الراء. وحديث جابر المذكور يأتي الكلام عليه مستوفى في علامات النبوة، وقد سبق في الصلح والاستقراض وفي الهبة وغيرها، وقوله فيه: "اذهب فبيدر" بفتح الموحدة وسكون التحتانية بعدها دال مكسورة بصيغة فعل الأمر، أي اجعل كل صنف في بيدر - أي جرين - يخصه. ووقع في رواية أبي ذر عن السرخسي "فبادر". وقوله: "ولا أرجع إلى أخواتي تمرة" كذا للأكثر بنزع الخافض، وللكشميهني: "بتمرة" بإثباتها. قوله: "قال أبو عبد الله "أغروا بي" يعني هيجوا بي {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} وقع هذا للمستملي وحده وأغروا بضم الهمزة مبني لما لم يسم فاعله، يقال أغرى بكذا إذا لهج به وأولع. وقال أبو عبيدة في "المجاز" في قوله تعالى: {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} : الإغراء التهييج والإفساد، والله أعلم.
"خاتمة": اشتمل كتاب الوصايا وما معه من أبواب الوقف من الأحاديث المرفوعة على ستين حديثا، المعلق منها ثمانية عشر طريقا والبقية موصولة، المكرر منها فيه وفيما مضى اثنان وأربعون حديثا والخالص ثمانية عشر حديثا وافقه مسلم على تخريجها سوى حديث عمرو بن الحارث "ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا" وحديث ابن عباس "كان المال للولد"، وحديثه "هما واليان" وحديثه في قصة تميم الداري، وحديث الدين قبل الوصية، وأما حديث: "لا صدقة إلا عن ظهر غنى" فمذكور عند مسلم بالمعنى، وأما حديث عثمان في بئر رومة فما هو عنده لكن تقدم في الشرب مختصرا معلقا، وأغفله المزي في الأطراف هنا وهناك. وفيه من الآثار عن الصحابة فمن بعدهم اثنان وعشرون أثرا. والله تعالى أعلم.
تم الجزء الخامس
ويليه - إن شاء الله – الجزء السادس ، وأوله "كتاب الجهاد"

(5/414)


المجلد السادس
كتاب الجهاد و السير
مدخل
...
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
56- كِتَاب الْجِهَادِ وَالسِّيَرِ
قوله: "كتاب الجهاد" كذا لابن شبويه، وكذا للنسفي لكن قدم البسملة، وسقط "كتاب" للباقين واقتصروا على "باب فضل الجهاد" لكن عند القابسي "كتاب فضل الجهاد" ولم يذكر باب، ثم قال بعد أبواب كثيرة "كتاب الجهاد. باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام" وسيأتي. والجهاد بكسر الجيم أصله لغة المشقة، يقال: جهدت جهادا بلغت المشقة. وشرعا: بذل الجهد في قتال الكفار، ويطلق أيضا على مجاهدة النفس والشيطان والفسَّاق. فأما مجاهدة النفس فعلى تعلم أمور الدين ثم على العمل بها ثم على تعليمها، وأما مجاهدة الشيطان فعلى دفع ما يأتي به من الشبهات وما يزينه من الشهوات، وأما مجاهدة الكفار فتقع باليد والمال واللسان والقلب، وأما مجاهدة الفساق فباليد ثم اللسان ثم القلب، وقد روى النسائي من حديث سبرة - بفتح المهملة وسكون الموحدة - ابن الفاكه - بالفاء وكسر الكاف بعدها هاء - في أثناء حديث طويل قال: "فيقول - أي الشيطان - يخاطب الإنسان: تجاهد فهو جهد النفس والمال" واختلف في جهاد الكفار هل كان أولا فرض عين أو كفاية. وسيأتي البحث فيه في "باب وجوب النفير".

(6/3)


باب فضل الجهاد و السير
...
باب فَضْلِ الْجِهَادِ وَالسِّيَرِ
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى [111 التوبة ]: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ} إلى قوله: {وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْحُدُودُ الطَّاعَةُ
2782- حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ صَبَّاحٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَابِقٍ حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ مِغْوَلٍ قَالَ سَمِعْتُ الْوَلِيدَ بْنَ الْعَيْزَارِ ذَكَرَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ قَالَ: "الصَّلاَةُ عَلَى مِيقَاتِهَا قُلْتُ ثُمَّ أَيٌّ قَالَ ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ قُلْتُ ثُمَّ أَيٌّ قَالَ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَسَكَتُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَنِي".
2783- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ حَدَّثَنِي مَنْصُورٌ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لاَ هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا".

(6/3)


2784- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا خَالِدٌ حَدَّثَنَا حَبِيبُ بْنُ أَبِي عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ طَلْحَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ تُرَى الْجِهَادَ أَفْضَلَ الْعَمَلِ أَفَلاَ نُجَاهِدُ قَالَ لَكِنَّ أَفْضَلَ الْجِهَادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ".
2785- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ أَخْبَرَنَا عَفَّانُ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جُحَادَةَ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو حَصِينٍ أَنَّ ذَكْوَانَ حَدَّثَهُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَدَّثَهُ قَالَ: "جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يَعْدِلُ الْجِهَادَ قَالَ لاَ أَجِدُهُ قَالَ هَلْ تَسْتَطِيعُ إِذَا خَرَجَ الْمُجَاهِدُ أَنْ تَدْخُلَ مَسْجِدَكَ فَتَقُومَ وَلاَ تَفْتُرَ وَتَصُومَ وَلاَ تُفْطِرَ قَالَ وَمَنْ يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ إِنَّ فَرَسَ الْمُجَاهِدِ لَيَسْتَنُّ فِي طِوَلِهِ فَيُكْتَبُ لَهُ حَسَنَاتٍ".
قوله: "باب فضل الجهاد والسير" بكسر المهملة وفتح التحتانية جمع سيرة، وأطلق ذلك على أبواب الجهاد لأنها متلقاة من أحوال النبي صلى الله عليه وسلم في غزواته.قوله: "وقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} الآيتين إلى قوله: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}" كذا للنسفي وابن شبويه، وساق في رواية الأصيلي وكريمة الآيتين جميعا، وعند أبي ذر إلى قوله: {وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً} ثم قال: إلى قوله: {وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} والمراد بالمبايعة في الآية ما وقع في ليلة العقبة من الأنصار أو أعم من ذلك، وقد ورد ما يدل على الاحتمال الأول عند أحمد عن جابر، وعند الحاكم في "الإكليل" عن كعب بن مالك، وفي مرسل محمد بن كعب "قال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله اشترط لربك ولنفسك ما شئت، قال: أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم. قالوا: فما لنا إذا فعلنا ذلك؟ قال: الجنة. قالوا: ربح البيع، لا نقيل ولا نستقيل " فنزل: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى} الآية". قوله: "قال ابن عباس: الحدود الطاعة" وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عنه في قوله: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} يعني طاعة الله، وكأنه تفسير باللازم، لأن من أطاع وقف عند امتثال أمره واجتناب نهيه. حديث ابن مسعود "أي العمل أفضل" وقد تقدم الكلام عليه في المواقيت، وأغرب الداودي فقال في شرح هذا الحديث: إن أوقع الصلاة في ميقاتها كان الجهاد مقدما على بر الوالدين، وإن أخرها كان البر مقدما على الجهاد.ولا أعرف له في ذلك مستندا، فالذي يظهر أن تقديم الصلاة على الجهاد والبر لكونها لازمة للمكلف في كل أحيانه، وتقديم البر على الجهاد لتوقفه على إذن الأبوين. وقال الطبري: إنما خص صلى الله عليه وسلم هذه الثلاثة بالذكر لأنها عنوان على ما سواها من الطاعات، فإن من ضيع الصلاة المفروضة حتى يخرج وقتها من غير عذر مع خفة مؤنتها عليه وعظيم فضلها فهو لما سواها أضيع، ومن لم يبر والديه مع وفور حقهما عليه كان لغيرهما أقل برا، ومن ترك جهاد الكفار مع شدة عدواتهم للدين كان لجهاد غيرهم من الفساق أترك، فظهر أن الثلاثة تجتمع في أن من حافظ عليها كان لما سواها أحفظ، ومن ضيعها كان لما سواها أضيع. الثاني: حديث ابن عباس "لا هجرة بعد الفتح" وسيأتي شرحه بعد أبواب في "باب وجوب النفير". الثالث: حديث عائشة "جهادكن الحج" ، وقد تقدم شرحه في كتاب الحج، ووجه دخوله في هذا الباب من تقريره صلى الله عليه وسلم لقولها: "نرى

(6/4)


الجهاد أفضل الأعمال". الرابع: قوله: "حدثنا إسحاق" كذا للأكثر غير منسوب، وللأصيلي وابن عساكر: "حدثنا إسحاق بن منصور" وأما أبو علي الجياني فقال: لم أره منسوبا لأحد، وهو إما ابن راهويه أو ابن منصور. قوله: "جاء رجل" لم أقف على اسمه. قوله: "قال لا أجده" هو جواب النبي صلى الله عليه وسلم. وقوله: "قال هل تستطيع" كلام مستأنف. ولمسلم من طريق سهيل بن أبي صالح عن أبيه بلفظ: "قيل: ما يعدل الجهاد؟ قال: لا تستطيعونه: فأعادوا عليه مرتين أو ثلاثة كل ذلك يقول: لا تستطيعونه. وقال في الثالثة: مثل الجهاد في سبيل الله" الحديث. وأخرج الطبراني نحو هذا الحديث من حديث سهل بن معاذ بن أنس عن أبيه وقال في آخره: "لم يبلغ العشر من عمله" وسيأتي بقية الكلام عليه في الباب الذي يليه. قوله: "قال ومن يستطيع ذلك" في رواية أبي بكر بن أبي شيبة عن سفيان "قال لا أستطيع ذلك" وهذه فضيلة ظاهرة للمجاهد في سبيل الله تقتضي أن لا يعدل الجهاد شيء من الأعمال، وأما ما تقدم في كتاب العيدين من حديث ابن عباس مرفوعا: "ما العمل في أيام أفضل منه في هذه - يعني أيام العشر - قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد" فيحتمل أن يكون عموم حديث الباب خص بما دل عليه حديث ابن عباس، ويحتمل أن يكون الفضل الذي في حديث الباب مخصوصا بمن خرج قاصدا المخاطرة بنفسه وماله فأصيب كما في بقية حديث ابن عباس "خرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع بشيء" فمفهومه أن من رجع بذلك لا ينال الفضيلة المذكورة. لكن يشكل عليه ما وقع في آخر حديث الباب(1): "وتوكل الله للمجاهد إلخ" ويمكن أن يجاب بأن الفضل المذكور أولا خاص بمن لم يرجع، ولا يلزم من ذلك أن لا يكون لمن يرجع أجر في الجملة كما سيأتي البحث فيه في الذي بعده. وأشد مما تقدم في الإشكال ما أخرجه الترمذي وابن ماجة وأحمد وصححه الحاكم من حديث أبي الدرداء مرفوعا: "ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إنفاق الذهب والورق وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا بلى. قال: ذكر الله" فإنه ظاهر في أن الذكر بمجرده أفضل من أبلغ ما يقع للمجاهد وأفضل من الإنفاق مع ما في الجهاد والنفقة من النفع المتعدي. قال عياض: اشتمل حديث الباب على تعظيم أمر الجهاد، لأن الصيام وغيره مما ذكر من فضائل الأعمال قد عدلها كلها الجهاد حتى صارت جميع حالات المجاهد وتصرفاته المباحة معادلة لأجر المواظب على الصلاة وغيرها، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "لا تستطيع ذلك " وفيه أن الفضائل لا تدرك بالقياس وإنما هي إحسان من الله تعالى لمن شاء، واستدل به على أن الجهاد أفضل الأعمال مطلقا لما تقدم تقريره. وقال ابن دقيق العيد: القياس يقتضي أن يكون الجهاد أفضل الأعمال التي هي وسائل لأن الجهاد وسيلة إلى إعلان الدين ونشره وإخماد الكفر ودحضه، ففضيلته بحسب فضيلة ذلك والله أعلم. قوله: "قال أبو هريرة إن فرس المجاهد ليستن" أي يمرح بنشاط. وقال الجوهري هو أن يرفع يديه ويطرحهما معا. وقال غيره أن يلج في عدوه مقبلا أو مدبرا. وفي المثل "استنت الفصال حتى القرعي" يضرب لمن يتشبه بمن هو فوقه، وقوله: "في طوله" بكسر المهملة وفتح الواو وهو الحبل الذي يشد به الدابة ويمسك طرفه ويرسل في المرعى، وقوله: "فيكتب له حسنات" بالنصب على أنه مفعول ثان أي يكتب له الاستنان حسنات، وهذا القدر ذكره أبو حصين عن أبي صالح هكذا موقوفا، وسيأتي بعد بضعة وأربعين بابا في
ـــــــ
(1) ذكرت في الباب الذي يليه.

(6/5)


"باب الخيل ثلاثا" من طريق زيد بن أسلم عن أبي صالح مرفوعا ويأتي بقية الكلام عليه مستوفى هناك إن شاء الله تعالى.

(6/6)


باب أفضل الناس مؤمن مجاهد بنفسه و ماله في سبيل الله
...
2- باب أَفْضَلُ النَّاسِ مُؤْمِنٌ مُجَاهِدٌ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
وَقَوْلُهُ تَعَالَى [10 الصف]: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}
2786- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ حَدَّثَنِي عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ اللَّيْثِيُّ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَدَّثَهُ قَالَ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مُؤْمِنٌ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ قَالُوا ثُمَّ مَنْ قَالَ مُؤْمِنٌ فِي شِعْبٍ مِنْ الشِّعَابِ يَتَّقِي اللَّهَ وَيَدَعُ النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ"
[الحديث 2786 – طرفه في: 6494]
2787- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَثَلُ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِهِ كَمَثَلِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ وَتَوَكَّلَ اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِهِ بِأَنْ يَتَوَفَّاهُ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ أَوْ يَرْجِعَهُ سَالِمًا مَعَ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ
قوله: "باب أفضل الناس مؤمن مجاهد" في رواية الكشميهني: "يجاهد" بلفظ المضارع. قوله: "وقوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ}" أي تفسير هاتين الآيتين، وقد روى ابن أبي حاتم من طريق سعيد بن جبير "أن هذه الآية لما نزلت قال المسلمون: لو علمنا هذه التجارة لأعطينا فيها الأموال والأهلين، فنزلت: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ} الآية" هكذا ذكره مرسلا، وروى هو والطبري من طريق قتادة قال: "لولا أن الله بينها ودل عليها لتلهف عليها رجال أن يكونوا يعلمونها حتى يطلبونها". قوله: "قيل يا رسول الله" لم أقف على اسمه، وقد تقدم أن أبا ذر سأله عن نحو ذلك. قوله: "أي الناس أفضل" في رواية مالك من طريق عطاء بن يسار مرسلا، ووصله الترمذي والنسائي وابن حبان من طريق إسماعيل بن عبد الرحمن عن عطاء بن يسار عن ابن عباس "خير الناس منزلا" وفي رواية للحاكم "أي الناس أكمل إيمانا" وكأن المراد بالمؤمن من قام بما تعين عليه القيام به ثم حصل هذه الفضيلة، وليس المراد من اقتصر على الجهاد وأهمل الواجبات العينية، وحينئذ فيظهر فضل المجاهد لما فيه من بذل نفسه وماله لله تعالى، ولما فيه من النفع المتعدي، وإنما كان المؤمن المعتزل يتلوه في الفضيلة لأن الذي يخالط الناس لا يسلم من ارتكاب الآثام فقد لا يفي هذا بهذا، وهو مقيد بوقوع الفتن. قوله: "مؤمن في شعب" في رواية مسلم من طريق معمر عن الزهري "رجل معتزل". قوله: "يتقي الله" في رواية مسلم من طريق الزبيدي عن الزهري "يعبد الله" وفي حديث ابن عباس "معتزل في شعب يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويعتزل شرور

(6/6)


الناس" وللترمذي وحسنه والحاكم وصححه من طريق ابن أبي ذئاب عن أبي هريرة "أن رجلا مر بشعب فيه عين عذبة، فأعجبه فقال: لو اعتزلت، ثم استأذن النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لا تفعل، فإن مقام أحدكم في سبيل الله أفضل من صلاته في بيته سبعين عاما" وفي الحديث فضل الانفراد لما فيه من السلامة من الغيبة واللغو ونحو ذلك، وأما اعتزال الناس أصلا فقال الجمهور: محل ذلك عند وقوع الفتن كما سيأتي بسطه في كتاب الفتن، ويؤيد ذلك رواية بعجة ابن عبد الله عن أبي هريرة مرفوعا: "يأتي على الناس زمان يكون خير الناس فيه منزلة من أخذ بعنان فرسه في سبيل الله يطلب الموت في مظانه، ورجل في شعب من هذه الشعاب يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويدع الناس إلا من خير" أخرجه مسلم وابن حبان من طريق أسامة بن زيد الليثي عن بعجة، وهو بموحدة وجيم مفتوحتين بينهما مهملة ساكنة، قال ابن عبد البر: إنما أوردت هذه الأحاديث بذكر الشعب والجبل لأن ذلك في الأغلب يكون خاليا من الناس، فكل موضع يبعد على الناس فهو بداخل في هذا المعنى. قوله: "مثل المجاهد في سبيل الله والله أعلم بمن يجاهد في سبيله" فيه إشارة إلى اعتبار الإخلاص، وسيأتي بيانه في حديث أبي موسى بعد اثني عشر بابا. قوله: "كمثل الصائم القائم" ، ولمسلم من طريق أبي صالح عن أبي هريرة "كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله لا يفتر من صلاة ولا صيام" ، زاد النسائي من هذا الوجه "الخاشع الراكع الساجد" وفي الموطأ وابن حبان: "كمثل الصائم القائم الدائم الذي لا يفتر من صيام ولا صلاة حتى يرجع" ، ولأحمد والبزار من حديث النعمان بن بشير مرفوعا: "مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم نهاره القائم ليله" وشبه حال الصائم القائم بحال المجاهد في سبيل الله في نيل الثواب في كل حركة وسكون لأن المراد من الصائم القائم من لا يفتر ساعة عن العبادة فأجره مستمر، وكذلك المجاهد لا تضيع ساعة من ساعاته بغير ثواب لما تقدم من حديث: "أن المجاهد لتستن فرسه فيكتب له حسنات" وأصرح منه قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ} الآيتين. قوله: "وتوكل الله إلخ" تقدم معناه مفردا في كتاب الإيمان من طريق أبي زرعة عن أبي هريرة وسياقه أتم، ولفظه: "انتدب الله" ، ولمسلم من هذا الوجه بلفظ: "تضمن الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا إيمان بي" وفيه التفات وإن فيه انتقالا من ضمير الحضور إلى ضمير الغيبة. وقال ابن مالك: فيه حذف القول والاكتفاء بالمقول، وهو سائغ شائع سواء كان حالا أو غير حال، فمن الحال قوله تعالى :{وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ} أي قائلين ربنا، وهذا مثله أي قائلا لا يخرجه إلخ، وقد اختلفت الطرق عن أبي هريرة في سياقه، فرواه مسلم من طريق الأعرج عنه بلفظ: "تكفل الله لمن جاهد في سبيله لا يخرجه من بيته إلا جهاد في سبيله وتصديق كلمته" وسيأتي كذلك من طريق أبي الزناد في كتاب الخمس، وكذلك أخرجه مالك في الموطأ عن أبي الزناد في كتاب الخمس، وأخرجه الدارمي من وجه آخر عن أبي الزناد بلفظ: "لا يخرجه إلا الجهاد في سبيل الله وتصديق كلماته" ، نعم أخرجه أحمد والنسائي من حديث ابن عمر، فوقع في روايته التصريح بأنه من الأحاديث الإلهية، ولفظه: "عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يحكي عن ربه قال: أيما عبد من عبادي خرج مجاهدا في سبيل ابتغاء مرضاتي ضمنت له إن رجعته أن أرجعه بما أصاب من أجر أو غنيمة" الحديث رجاله ثقات، وأخرجه الترمذي من حديث عبادة بلفظ: "يقول الله عز وجل: المجاهد في سبيلي هو علي ضامن إن رجعته رجعته بأجر أو غنيمة" الحديث وصححه الترمذي، وقوله: "تضمن الله وتكفل الله وانتدب الله" بمعنى واحد، ومحصله تحقيق الوعد المذكور في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} وذلك التحقيق على وجه

(6/7)


الفضل منه سبحانه وتعالى، وقد عبر صلى الله عليه وسلم عن الله سبحانه وتعالى بتفضيله بالثواب بلفظ الضمان ونحوه مما جرت به عادة المخاطبين فيما تطمئن به نفوسهم، وقوله: "لا يخرجه إلا الجهاد" نص على اشتراط خلوص النية في الجهاد، وسيأتي بسط القول فيه بعد أحد عشر بابا، وقوله: "فهو علي ضامن" أي مضمون، أو معناه أنه ذو ضمان. قوله: "بأن يتوفاه أن يدخله الجنة" أي بأن يدخله الجنة إن توفاه، في رواية أبي زرعة الدمشقي عن أبي اليمان "إن توفاه" بالشرطية والفعل الماضي أخرجه الطبراني وهو أوضح. قوله: "أن يدخله الجنة" أي بغير حساب ولا عذاب، أو المراد أن يدخله الجنة ساعة موته، كما ورد "أن أرواح الشهداء تسرح في الجنة" وبهذا التقرير يندفع إيراد من قال: ظاهر الحديث التسوية بين الشهيد والراجع سالما لأن حصول الأجر يستلزم دخول الجنة، ومحصل الجواب أن المراد بدخول الجنة دخول خاص. قوله: "أو يرجعه" بفتح أوله، وهو منصوب بالعطف على يتوفاه. قوله: "مع أجر أو غنيمة" أي مع أجر خالص إن لم يغنم شيئا أو مع غنيمة خالصة معها أجر، وكأنه سكت عن الأجر الثاني الذي مع الغنيمة لنقصه بالنسبة إلى الأجر الذي بلا غنيمة، والحامل على هذا التأويل أن ظاهر الحديث أنه إذا غنم لا يحصل له أجر، وليس ذلك مرادا بل المراد أو غنيمة معها أجر أنقص من أجر من لم يغنم، لأن القواعد تقتضي أنه عند عدم الغنيمة أفضل منه وأتم أجرا عند وجودها، فالحديث صريح في نفي الحرمان وليس صريحا في نفي الجمع. وقال الكرماني: معنى الحديث أن المجاهد إما يستشهد أو لا، والثاني لا ينفك من أجر أو غنيمة ثم إمكان اجتماعهما، فهي قضية مانعة الخلو لا الجمع، وقد قيل في الجواب عن هذا الإشكال: إن أو بمعنى الواو، وبه جزم ابن عبد البر والقرطبي ورجحها التوربشتي، والتقدير بأجر وغنيمة. وقد وقع كذلك في رواية لمسلم من طريق الأعرج عن أبي هريرة رواه كذلك عن يحيى بن يحيى عن مغيرة بن عبد الرحمن عن أبي الزناد، وقد رواه جعفر الفريابي وجماعة عن يحيى بن يحيى فقالوا: أجر أو غنيمة بصيغة أو، وقد رواه مالك في الموطأ بلفظ: "أو غنيمة" ولم يختلف عليه إلا في رواية يحيى بن بكير عنه فوقع فيه بلفظ: "وغنيمة" ورواية يحيى بن بكير عن مالك فيها مقال. ووقع عند النسائي من طريق الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة بالواو أيضا وكذا من طريق عطاء بن ميناء عن أبي هريرة وكذلك أخرجه أبو داود بإسناد صحيح عن أبي أمامة بلفظ: "بما نال من أجر وغنيمة" فإن كانت هذه الروايات محفوظة تعين القول بأن "أو" في هذا الحديث بمعنى الواو كما هو مذهب نحاة الكوفيين، لكن فيه إشكال صعب لأنه يقتضي من حيث المعنى أن يكون الضمان وقع بمجموع الأمرين لكل من رجع، وقد لا يتفق ذلك فإن كثيرا من الغزاة يرجع بغير غنيمة، فما فر منه الذي ادعى أن "أو" بمعنى الواو وقع في نظيره لأنه يلزم على ظاهرها أن من رجع بغنيمة بغير أجر، كما يلزم على أنها بمعنى الواو أن كل غاز يجمع له بين الأجر والغنيمة معا، وقد روى مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعا: "ما من غازية تغزو في سبيل الله فيصيبون الغنيمة إلا تعجلوا ثلثي أجرهم من الآخرة ويبقى لهم الثلث، فإن لم يصيبوا غنيمة تم لهم أجرهم" وهذا يؤيد التأويل الأول وأن الذي يغنم يرجع بأجر لكنه أنقص من أجر من لم يغنم، فتكون الغنيمة في مقابلة جزء من أجر الغزو، فإذا قوبل أجر الغانم بما حصل له من الدنيا وتمتعه بأجر من لم يغنم مع اشتراكهما في التعب والمشقة كان أجر من غنم دون أجر من لم يغنم، وهذا موافق لقول خباب في الحديث الصحيح الآتي "فمنا من مات ولم يأكل من أجره شيئا" الحديث. واستشكل بعضهم نقص ثواب المجاهد بأخذه الغنيمة،

(6/8)


وهو مخالف لما يدل عليه أكثر الأحاديث، وقد اشتهر تمدح النبي صلى الله عليه وسلم بحل الغنيمة وجعلها من فضائل أمته، فلو كانت تنقص الأجر ما وقع التمدح بها. وأيضا فإن ذلك يستلزم أن يكون أجر أهل بدر أنقص من أجر أهل أحد مثلا مع أن أهل بدر أفضل بالاتفاق. وسبق إلى هذا الإشكال ابن عبد البر، وحكاه عياض وذكر أن بعضهم أجاب عنه بأنه ضعف حديث عبد الله بن عمرو لأنه من رواية حميد بن هانئ وليس بمشهور، وهذا مردود لأنه ثقة يحتج به عند مسلم، وقد وثقه النسائي وابن يونس وغيرهما ولا يعرف فيه تجريح لأحد. ومنهم من حمل نقص الأجر على غنيمة أخذت على غير وجهها، وظهور فساد هذا الوجه يغني عن الإطناب في رده، إذ لو كان الأمر كذلك لم يبق لهم ثلث الأجر ولا أقل منه، ومنهم من حمل نقص الأجر عل من قصد الغنيمة في ابتداء جهاده وحمل تمامه على من قصد الجهاد محضا، وفيه نظر لأن صدر الحديث مصرح بأن المقسم راجع إلى من أخلص لقوله في أوله "لا يخرجه إلا إيمان بي وتصديق برسلي". وقال عياض: الوجه عندي إجراء الحديثين على ظاهرهما واستعمالهما على وجههما. ولم يجب عن الإشكال المتعلق بأهل بدر. وقال ابن دقيق العيد: لا تعارض بين الحديثين، بل الحكم فيهما جار على القياس لأن الأجور تتفاوت بحسب زيادة المشقة فيما كان أجره بحسب مشقته، إذ للمشقة دخول في الأجر، وإنما المشكل العمل المتصل بأخذ الغنائم، يعني فلو كانت تنقص الأجر لما كان السلف الصالح يثابرون عليها، فيمكن أن يجاب بأن أخذها من جهة تقديم بعض المصالح الجزئية على بعض لأن أخذ الغنائم أول ما شرع كان عونا على الدين وقوة لضعفاء المسلمين، وهي مصلحة عظمى يغتفر لها بعض النقص في الأجر من حيث هو. وأما الجواب عمن استشكل ذلك بحال أهل بدر فالذي ينبغي أن يكون التقابل بين كمال الأجر ونقصانه لمن يغزو بنفسه إذا لم يغنم أو يغزو فيغنم، فغايته أن حال أهل بدر مثلا عند عدم الغنيمة أفضل منه عند وجودها ولا ينفي ذلك أن يكون حالهم أفضل من حال غيرهم من جهة أخرى، ولم يرد فيهم نص أنهم لو لم يغنموا كان أجرهم بحاله من غير زيادة، ولا يلزم من كونه مغفورا لهم وأنهم أفضل المجاهدين أن لا يكون وراءهم مرتبة أخرى. وأما الاعتراض بحل الغنائم فغير وارد، إذ لا يلزم من الحل ثبوت وفاء الأجر لكل غاز، والمباح في الأصل لا يستلزم الثواب بنفسه، لكن ثبت أن أخذ الغنيمة واستيلاءها من الكفار يحصل الثواب، ومع ذلك فمع صحة ثبوت الفضل في أخذ الغنيمة وصحة التمدح بأخذها لا يلزم من ذلك أن كل غاز يحصل له من أجر غزاته نظير من لم يغنم شيئا البتة قلت: والذي مثل بأهل بدر أراد التهويل، وإلا فالأمر على ما تقرر آخرا بأنه لا يلزم من كونهم مع أخذ الغنيمة أنقص أجرا مما لو لم يحصل لهم أجر الغنيمة أن يكونوا في حال أخذهم الغنيمة مفضولين بالنسبة إلى من بعدهم كمن شهد أحدا لكونهم لم يغنموا شيئا بل أجر البدري في الأصل أضعاف أجر من بعده، مثال ذلك أن يكون لو فرض أن أجر البدري بغير غنيمة ستمائة وأجر الأحدي مثلا بغير غنيمة مائة فإذا نسبنا ذلك باعتبار حديث عبد الله بن عمرو كان للبدري لكونه أخذ الغنيمة مائتان وهي ثلث الستمائة فيكون أكثر أجرا من الأحدي، وإنما امتاز أهل بدر بذلك لكونها أول غزوة شهدها النبي صلى الله عليه وسلم في قتال الكفار وكان مبدأ اشتهار الإسلام وقوة أهله، فكان لمن شهدها مثل أجر من شهد المغازي التي بعدها جميعا، فصارت لا يوازيها شيء في الفضل والله أعلم. واختار ابن عبد البر أن المراد بنقص أجر من غنم أن الذي لا يغنم يزداد أجره لحزنه على ما فاته من الغنيمة، كما يؤجر من أصيب بما له فكان الأجر لما نقص عن المضاعفة بسبب الغنيمة عند ذلك كالنقص من أصل الأجر، ولا يخفى مباينة هذا التأويل

(6/9)


لسياق حديث عبد الله بن عمرو الذي تقدم ذكره. وذكر بعض المتأخرين للتعبير بثلثي الأجر في حديث عبد الله ابن عمرو حكمة لطيفة بالغة وذلك أن الله أعد للمجاهدين ثلاث كرامات: دنيويتان وأخروية، فالدنيويتان السلامة والغنيمة والأخروية دخول الجنة، فإذا رجع سالما غانما فقد حصل له ثلثا ما أعد الله له وبقي له عند الله الثلث، وإن رجع بغير غنيمة عوضه الله عن ذلك ثوابا في مقابلة ما فاته، وكأن معنى الحديث أنه يقال للمجاهد: إذا فات عليك شيء من أمر الدنيا عوضتك عنه ثوابا. وأما الثواب المختص بالجهاد فهو حاصل للفريقين معا، قال: وغاية ما فيه عد ما يتعلق بالنعمتين الدنيويتين أجرا بطريق المجاز والله أعلم. وفي الحديث أن الفضائل لا تدرك دائما بالقياس، بل هي بفضل الله. وفيه استعمال التمثيل في الأحكام، وأن الأعمال الصالحة لا تستلزم الثواب لأعيانها، وإنما تحصل بالنية الخالصة إجمالا وتفصيلا، والله أعلم.

(6/10)


باب الدعاء بالجهاد و الشهادة للرجال و النساء
...
3 - باب الدُّعَاءِ بِالْجِهَادِ وَالشَّهَادَةِ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ
وَقَالَ عُمَرُ: اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي شَهَادَةً فِي بَلَدِ رَسُولِكَ
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْخُلُ عَلَى أُمِّ حَرَامٍ بِنْتِ مِلْحَانَ فَتُطْعِمُهُ وَكَانَتْ أُمُّ حَرَامٍ تَحْتَ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ فَدَخَلَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَطْعَمَتْهُ وَجَعَلَتْ تَفْلِي رَأْسَهُ فَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ اسْتَيْقَظَ وَهُوَ يَضْحَكُ قَالَتْ فَقُلْتُ وَمَا يُضْحِكُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ غُزَاةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَرْكَبُونَ ثَبَجَ هَذَا الْبَحْرِ مُلُوكًا عَلَى الأَسِرَّةِ أَوْ مِثْلَ الْمُلُوكِ عَلَى الأَسِرَّةِ شَكَّ إِسْحَاقُ قَالَتْ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهمْ فَدَعَا لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ وَضَعَ رَأْسَهُ ثُمَّ اسْتَيْقَظَ وَهُوَ يَضْحَكُ فَقُلْتُ وَمَا يُضْحِكُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ غُزَاةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَا قَالَ فِي الأَوَّلِ قَالَتْ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ قَالَ أَنْتِ مِنْ الأَوَّلِينَ فَرَكِبَتْ الْبَحْرَ فِي زَمَانِ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ فَصُرِعَتْ عَنْ دَابَّتِهَا حِينَ خَرَجَتْ مِنْ الْبَحْرِ فَهَلَكَتْ".
[الحديث 2788 – أطرفه في: 2799، 2877، 2894، 6282، 7001]
[الحديث 2789 – أطرافه في: 2800، 2878، 2895، 2924، 6283، 7002]
قوله: "باب الدعاء بالجهاد والشهادة للرجال والنساء" قال ابن المنير وغيره: وجه دخول هذه الترجمة في الفقه أن الظاهر من الدعاء بالشهادة يستلزم طلب نصر الكافر على المسلم وإعانة من يعصي الله على من يطيعه، لكن القصد الأصلي إنما هو حصول الدرجة العليا المترتبة على حصول الشهادة، وليس ما ذكره مقصودا لذاته وإنما يقع من ضرورة الوجود، فاغتفر حصول المصلحة العظمى من دفع الكفار وإذلالهم وقهرهم بقصد قتلهم بحصول ما يقع في ضمن ذلك من قتل بعض المسلمين، وجاز تمني الشهادة لما يدل عليه من صدق من وقعت له من إعلاء كلمة الله حتى

(6/10)


بذل نفسه في تحصيل ذلك. ثم أورد المصنف فيه حديث أنس في قصة أم حرام، والمراد منه قول أم حرام: ادع الله أن يجعلني منهم، فدعا لها، وسيأتي الكلام على استيفاء شرحه في كتاب الاستئذان إن شاء الله تعالى، وهو ظاهر فيما ترجم له في حق النساء، ويؤخذ منه حكم الرجال بطريق الأولى وأغرب ابن التين فقال: ليس في الحديث تمني الشهادة وإنما فيه تمني الغزو، ويجاب بأن الشهادة هي الثمرة العظمى المطلوبة في الغزو، وأم حرام بفتح المهملتين هي خالة أنس، ولم يختلف على مالك في إسناده، لكن رواه بشر بن عمر عنه فقال: "عن أنس عن أم حرام" وهو موافق رواية محمد بن يحيى بن حبان عن أنس التي ستأتي. قوله: "وقال عمر إلخ" تقدم في أواخر الحج بأتم من هذا السياق، وتقدم هناك شرحه وبيان من وصله.

(6/11)


باب درجات المجاهدين في سبيل الله . يقال هذه سبيلي ، و هذا سبيلي
...
4 - باب دَرَجَاتِ الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُقَالُ هَذِهِ سَبِيلِي وَهَذَا سَبِيلِي
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: غُزًّا وَاحِدُهَا غَازٍ. هُمْ دَرَجَاتٌ: لَهُمْ دَرَجَاتٌ
2790- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ عَنْ هِلاَلِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَصَامَ رَمَضَانَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ جَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ جَلَسَ فِي أَرْضِهِ الَّتِي وُلِدَ فِيهَا فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلاَ نُبَشِّرُ النَّاسَ قَالَ إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَأَعْلَى الْجَنَّةِ أُرَاهُ فَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ فُلَيْحٍ عَنْ أَبِيهِ وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ".
[الحديث 2790 – طرفه في: 7423]
2791- حَدَّثَنَا مُوسَى حَدَّثَنَا جَرِيرٌ حَدَّثَنَا أَبُو رَجَاءٍ عَنْ سَمُرَةَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أَتَيَانِي فَصَعِدَا بِي الشَّجَرَةَ فَأَدْخَلاَنِي دَارًا هِيَ أَحْسَنُ وَأَفْضَلُ لَمْ أَرَ قَطُّ أَحْسَنَ مِنْهَا قَالاَ أَمَّا هَذِهِ الدَّارُ فَدَارُ الشُّهَدَاءِ
قوله: "باب درجات المجاهدين في سبيل الله" أي بيانها، وقوله: "يقال هذه سبيلي" أي أن السبيل يذكر ويؤنث وبذلك جزم الفراء فقال في قوله تعالى :{لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً} الضمير يعود على آيات القرآن وإن شئت جعلته للسبيل لأنها قد تؤنث قال الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي} وفي قراءة أبي بن كعب {وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوها سَبِيلاً} انتهى. ويحتمل أن يكون قوله تعالى :{هَذِهِ} إشارة إلى الطريقة أي هذه الطريقة المذكورة هي سبيلي فلا يكون فيه دليل على تأنيث السبيل. قوله: "غزا" بضم المعجمة وتشديد الزاي مع التنوين "واحدها غاز" وقع هذا في رواية المستملي وحده وهو من كلام أبي عبيدة قال: وهو مثل قول وقائل انتهى. قوله: "هم درجات لهم درجات" هو من كلام أبي عبيدة أيضا قال: قوله: "هم درجات" أي منازل ومعناه لهم درجات. وقال

(6/11)


غيره: التقدير هم ذوو درجات. قوله: "عن هلال بن علي" في رواية محمد بن فليح عن أبيه "حدثني هلال". قوله: "عن عطاء بن يسار" كذا لأكثر الرواة عن فليح. وقال أبو عامر العقدي "عن فليح عن هلال عن عبد الرحمن بن أبي عمرة " بدل عطاء بن يسار أخرجه أحمد وإسحاق في مسنديهما عنه، وهو وهم من فليح في حال تحديثه لأبي عامر، وعند فليح بهذا الإسناد حديث غير هذا سيأتي في الباب الذي بعد هذا لعله انتقل ذهنه من حديث إلى حديث، وقد نبه يونس بن محمد في روايته عن فليح على أنه كان ربما شك فيه، فأخرج أحمد عن يونس عن فليح عن هلال عن عبد الرحمن بن أبي عمرة وعطاء بن يسار عن أبي هريرة فذكر هذا الحديث، قال فليح: ولا أعلمه إلا ابن أبي عمرة، قال يونس: ثم حدثنا به فليح فقال عطاء ابن يسار ولم يشك انتهى. وكأنه رجع إلى الصواب فيه. ولم يقف ابن حبان على هذه العلة فأخرجه من طريق أبي عامر، والله الهادي إلى الصواب. وقد وافق فليحا على روايته إياه عن هلال عن عطاء عن أبي هريرة محمد بن جحادة عن عطاء أخرجه الترمذي من روايته مختصرا، ورواه زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار فاختلف عليه: فقال هشام بن سعد وحفص بن ميسرة والدراوردي عنه عن عطاء عن معاذ بن جبل أخرجه الترمذي وابن ماجه. وقال همام عن زيد عن عطاء عن عبادة بن الصامت أخرجه الترمذي والحاكم ورجح رواية الدراوردي ومن تابعه على رواية همام، ولم يتعرض لرواية هلال مع أن بين عطاء بن يسار ومعاذ انقطاعا. قوله: "وصام رمضان إلخ" قال ابن بطال لم يذكر الزكاة والحج لكونه لم يكن فرض. قلت: بل سقط ذكره على أحد الرواة، فقد ثبت الحج في الترمذي في حديث معاذ بن جبل وقال فيه: "لا أدري أذكر الزكاة أم لا" ، وأيضا فإن الحديث لم يذكر لبيان الأركان فكان الاقتصار على ما ذكر إن كان محفوظا لأنه هو المتكرر غالبا، وأما الزكاة فلا تجب إلا على من له مال بشرطه، والحج فلا يجب إلا مرة على التراخي. قوله: "أو جلس في بيته" فيه تأنيس لمن حرم الجهاد وأنه ليس محروما من الأجر، بل له من الإيمان والتزام الفرائض ما يوصله إلى الجنة وإن قصر عن درجة المجاهدين. قوله: "فقالوا يا رسول الله" الذي خاطبه بذلك هو معاذ بن جبل كما في رواية الترمذي، أو أبو الدرداء كما وقع عند الطبراني، وأصله في النسائي لكن قال فيه: "فقلنا". قوله: "إن في الجنة مائة درجة" قال الطيبي: هذا الجواب من أسلوب الحكيم، أي بشرهم بدخولهم الجنة بما ذكر من الأعمال ولا تكتف بذلك بل بشرهم بالدرجات، ولا تقتنع بذلك بل بشرهم بالفردوس الذي هو أعلاها. قلت: لو لم يرد الحديث إلا كما وقع هنا لكان ما قال متجها، لكن وردت في الحديث زيادة دلت على أن قوله: "في الجنة مائة درجة" تعليل لترك البشارة المذكورة، فعند الترمذي من رواية معاذ المذكورة "قلت يا رسول الله ألا أخبر الناس؟ قال ذر الناس يعلمون، فإن في الجنة مائة درجة" فظهر أن المراد لا تبشر الناس بما ذكرته من دخول الجنة لمن آمن وعمل الأعمال المفروضة عليه فيقفوا عند ذلك ولا يتجاوزوه إلى ما هو أفضل منه من الدرجات التي تحصل بالجهاد، وهذه هي النكتة في قوله: "أعدها الله للمجاهدين" وإذا تقرر هذا كان فيه تعقب أيضا على قول بعض شراح المصابيح: سوى النبي صلى الله عليه وسلم بين الجهاد في سبيل الله وبين عدمه وهو الجلوس في الأرض التي ولد المرء فيها، ووجه التعقب أن التسوية ليست كل عمومها وإنما هي في أصل دخول الجنة لا في تفاوت الدرجات كما قررته، والله أعلم. وليس في هذا السياق ما ينفي أن يكون في الجنة درجات أخرى أعدت لغير المجاهدين دون درجة المجاهدين. قوله: "كما بين السماء والأرض" في رواية محمد بن جحادة عند الترمذي "ما بين كل درجتين مائة عام" وللطبراني من هذا الوجه

(6/12)


"خمسمائة عام" فإن كانتا محفوظتين كان اختلاف العدد بالنسبة إلى اختلاف السير، زاد الترمذي من حديث أبي سعيد "لو أن العالمين اجتمعوا في إحداهن لوسعتهم". قوله: " أوسط الجنة وأعلى الجنة" المراد بالأوسط هنا الأعدل والأفضل كقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} فعلى هذا فعطف الأعلى عليه للتأكيد. وقال الطيبي: المراد بأحدها العلو الحسي وبالآخر العلو المعنوي. وقال ابن حبان: المراد بالأوسط السعة، وبالأعلى الفوقية. قوله: "أراه" بضم الهمزة، وهو شك من يحيى بن صالح شيخ البخاري فيه، وقد رواه غيره عن فليح فلم يشك منهم يونس بن محمد عند الإسماعيلي وغيره. قوله: "ومنه تفجر أنهار الجنة" أي من الفردوس، ووهم من زعم أن الضمير للعرش، فقد وقع في حديث عبادة بن الصامت عند الترمذي "والفردوس أعلاها درجة ومنها - أي من الدرجة التي فيها الفردوس - تفجر أنهار الجنة الأربعة ومن فوقها يكون عرش الرحمن" وروى إسحاق بن راهويه في مسنده من طريق شيبان عن قتادة عنه قال: "الفردوس أوسط الجنة وأفضلها" وهو يؤيد التفسير الأول. قوله: "قال محمد بن فليح عن أبيه وفوقه عرش الرحمن" يعني أن محمدا روى هذا الحديث عن أبيه بإسناده هذا فلم يشك كما شك يحيى بن صالح بل جزم عنه بقوله: "وفوقه عرش الرحمن" قال أبو علي الجياني: وقع في رواية أبي الحسن القابسي "حدثنا محمد بن فليح" وهو وهم لأن البخاري لم يدركه. قلت: وقد أخرج البخاري رواية محمد بن فليح لهذا الحديث في كتاب التوحيد عن إبراهيم بن المنذر عنه بتمامه، ويأتي بقية شرحه هناك ورجال إسناده كلهم مدنيون. والفردوس هو البستان الذي يجمع كل شيء، وقيل هو الذي فيه العنب، وقيل هو بالرومية وقيل بالقبطية وقيل بالسريانية وبه جزم أبو إسحاق الزجاج، وفي الحديث فضيلة ظاهرة للمجاهدين، وفيه عظم الجنة وعظم الفردوس منها، وفيه إشارة إلى أن درجة المجاهد قد ينالها غير المجاهد إما بالنية الخالصة أو بما يوازيه من الأعمال الصالحة لأنه صلى الله عليه وسلم أمر الجميع بالدعاء بالفردوس بعد أن أعلمهم أنه أعد للمجاهدين، وقيل فيه جواز الدعاء بما لا يحصل للداعي لما ذكرته، والأول أولى والله أعلم. قوله: "حدثنا موسى" هو ابن إسماعيل وجرير هو ابن حازم، وحديث سمرة تقدم بطوله في الجنائز، وهذه القطعة شاهدة لحديث أبي هريرة المذكور قبله ومفسرة، لأن المراد بالأوسط الأفضل لوصفه دار الشهداء في حديث سمرة بأنها أحسن وأفضل.

(6/13)


باب الغدوة و الروحة في سبيل الله ، و قاب قوس أحدكم في الجنة
...
5 - باب الْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَابِ قَوْسِ أَحَدِكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ
2792- حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَغَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ رَوْحَةٌ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا"
[الحديث 2792 – طرفاه في: 2796، 6568]
2793- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُلَيْحٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ هِلاَلِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَقَابُ قَوْسٍ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِمَّا تَطْلُعُ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَتَغْرُبُ وَقَالَ لَغَدْوَةٌ أَوْ رَوْحَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِمَّا تَطْلُعُ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَتَغْرُبُ".
[الحديث 2793 – طرفه في: 3253]

(6/13)


2794- حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الرَّوْحَةُ وَالْغَدْوَةُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَفْضَلُ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا".
[الحديث 2794 – أطرافه في: 2892، 3250، 6415]
قوله: "باب الغدوة والروحة في سبيل الله" أي فضلها، والغدوة بالفتح المرة الواحدة من الغدو وهو الخروج في أي وقت كان من أول النهار إلى انتصافه، والروحة المرة الواحدة من الرواح وهو الخروج في أي وقت كان من زوال الشمس إلى غروبها. قوله: "في سبيل الله" أي الجهاد. قوله: "وقاب قوس أحدكم" أي قدره، والقاب بتخفيف القاف وآخره موحدة معناه القدر، وكذلك القيد بكسر القاف بعدها تحتانية ساكنة ثم دال وبالموحدة بدل الدال، وقيل القاب ما بين مقبض القوس وسيته، وقيل ما بين الوتر والقوس، وقيل المراد بالقوس هنا الذراع الذي يقاس به، وكأن المعنى بيان فضل قدر الذراع من الجنة. قوله: "عن أنس" في رواية أبي إسحاق عن حميد "سمعت أنس بن مالك" وهو في الباب الذي يليه، والإسناد كله بصريون. قوله: "لغدوة" في رواية الكشميهني الغدوة بزيادة ألف في أوله بصيغة التعريف والأول أشهر واللام للقسم. قوله: "خير من الدنيا وما فيها" قال ابن دقيق العيد: يحتمل وجهين أحدهما أن يكون من باب تنزيل المغيب منزلة المحسوس تحقيقا له في النفس لكون الدنيا محسوسة في النفس مستعظمة في الطباع فلذلك وقعت المفاضلة بها، وإلا فمن المعلوم أن جميع ما في الدنيا لا يساوي ذرة مما في الجنة. والثاني أن المراد أن هذا القدر من الثواب خير من الثواب الذي يحصل لمن لو حصلت له الدنيا كلها لأنفقها في طاعة الله تعالى. قلت: ويؤيد هذا الثاني ما رواه ابن المبارك في كتاب الجهاد من مرسل الحسن قال: "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشا فيهم عبد الله بن رواحة، فتأخر ليشهد الصلاة مع النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده لو أنفقت ما في الأرض ما أدركت فضل غدوتهم " والحاصل أن المراد تسهيل أمر الدنيا وتعظيم أمر الجهاد، وأن من حصل له من الجنة قدر سوط يصير كأنه حصل له أمر أعظم من جميع ما في الدنيا فكيف بمن حصل منها أعلى الدرجات، والنكتة في ذلك أن سبب التأخير عن الجهاد الميل إلى سبب من أسباب الدنيا فنبه هذا المتأخر أن هذا القدر اليسير من الجنة أفضل من جميع ما في الدنيا. قوله: "عن عبد الرحمن بن أبي عمرة" هو الأنصاري، والإسناد كله مدنيون. قوله: "لقاب قوس في الجنة" في حديث أنس في الباب الذي يليه "لقاب قوس أحدكم" وهو المطابق لترجمة هذا الباب. قوله: "خير مما تطلع عليه الشمس وتغرب" هو المراد بقوله في الذي قبله "خير من الدنيا وما فيها". قوله: "حدثنا سفيان" هو الثوري. قوله: "عن أبي حازم" هو ابن دينار. قوله: "الروحة والغدوة في سبيل الله أفضل" في رواية مسلم من طريق وكيع عن سفيان "غدوة أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا" والمعنى واحد، وفي الطبراني من طريق أبي غسان عن أبي حازم "لروحة" بزيادة لام القسم.

(6/14)


باب الحور العين و صفتهن
...
6 - باب الْحُورِ الْعِينِ وَصِفَتِهِنَّ
يُحَارُ فِيهَا الطَّرْفُ شَدِيدَةُ سَوَادِ الْعَيْنِ شَدِيدَةُ بَيَاضِ الْعَيْنِ {وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ} أَنْكَحْنَاهُمْ
2795- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ حُمَيْدٍ قَالَ: سَمِعْتُ

(6/14)


أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَا مِنْ عَبْدٍ يَمُوتُ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ يَسُرُّهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا وَأَنَّ لَهُ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا إِلاَّ الشَّهِيدَ لِمَا يَرَى مِنْ فَضْلِ الشَّهَادَةِ فَإِنَّهُ يَسُرُّهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا فَيُقْتَلَ مَرَّةً أُخْرَى".
[الحديث 2795 – طرفه في: 2817]
2796- قَالَ: وَسَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "لَرَوْحَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ غَدْوَةٌ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا وَلَقَابُ قَوْسِ أَحَدِكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ أَوْ مَوْضِعُ قِيدٍ يَعْنِي سَوْطَهُ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ اطَّلَعَتْ إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ لاَضَاءَتْ مَا بَيْنَهُمَا وَلَمَلاَتْهُ رِيحًا وَلَنَصِيفُهَا عَلَى رَأْسِهَا خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا"
قوله: "الحور العين وصفتهن" كذا لأبي ذر بغير باب وثبت لغيره، ووقع عند ابن بطال "باب نزول الحور العين إلخ " ولم أره لغيره. قوله: "يحار فيها الطرف" أي يتحير، قال ابن التين: هذا يشعر بأنه رأى أن اشتقاق الحور عن الحيرة، وليس كذلك، فإن الحور بالواو والحيرة بالياء، وأما قول الشاعر "حوراء عيناء من العين الحير" فهو للاتباع. قلت: لعل البخاري لم يرد الاشتقاق الأصغر. قوله: "شديدة سواد العين شديدة بياض العين" كأنه يريد تفسير العين، والعين بالكسر جمع عيناء وهي الواسعة العين الشديدة السواد والبياض قاله أبو عبيدة. قوله: "وزوجناهم بحور : أنكحناهم" هو تفسير أبي عبيدة ولفظه: زوجناهم أي جعلناهم أزواجا أي اثنين اثنين كما تقول زوجت النعل بالنعل. وقال في موضع آخر: أي جعلنا ذكران أهل الجنة أزواجا بحور من النساء. وتعقب بأن زوج لا يتعدى بالباء قاله الإسماعيلي وغيره، وفيه نظر لأن صاحب المحكم حكاه لكن قال: أنه قليل، والله أعلم. قوله: "حدثنا عبد الله بن محمد" هو الجعفي، ومعاوية بن عمرو هو الأزدي، وهو من شيوخ البخاري يروى عنه تارة بواسطة كما هنا وتارة بلا واسطة كما في كتاب الجمعة. قوله: "حدثنا أبو إسحاق" هو الفزاري إبراهيم بن محمد. اشتمل هذا السياق على أربعة أحاديث: الأول يأتي شرحه بعد ثلاثة عشر بابا، الثاني تقدم شرحه في الذي قبله، الثالث والرابع يأتي شرحهما في صفة الجنة من كتاب الرقاق. وقوله في الباب: "ولقاب قوس أحدكم" تقدم شرح، "القاب" في الذي قبله، وقوله هنا "أو موضع قيد يعني سوطه" شك من الراوي هل قال قاب أو قيد، وقد تقدم أنهما بمعنى وهو المقدار. وقوله: "يعني سوطه" تفسير للقيد غير معروف، ولهذا جزم بعضهم بأنه تصحيف وأن الصواب "قد" بكسر القاف وتشديد الدال وهو السوط المتخذ من الجلد. قلت: ودعوى الوهم في التفسير أسهل من دعوى التصحيف في الأصل ولا سيما والقيد بمعنى القاب كما بينته، والمقصود من ذلك لهذه الترجمة الأخير، وقوله فيه، "ولنصيفها" بفتح النون وكسر الصاد المهملة بعدها تحتانية ساكنة ثم فاء هو الخمار بكسر المعجمة وتخفيف الميم، قال المهلب: إنما أورد حديث أنس هذا ليبين المعنى الذي من أجله يتمنى الشهيد أن يرجع إلى الدنيا ليقتل مرة أخرى في سبيل الله، لكونه يرى من الكرامة بالشهادة فوق ما في نفسه، إذ كل واحدة يعطاها من الحور العين لو اطلعت على الدنيا لأضاءت كلها انتهى. وروى ابن ماجه من طريق شهر بن حوشب عن أبي هريرة قال: "ذكر

(6/15)


الشهيد عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لا تجف الأرض من دم الشهيد حتى تبتدره زوجاته من الحور العين وفي يد كل واحدة منها حلة خير من الدنيا وما فيها" ولأحمد والطبراني من حديث عبادة بن الصامت مرفوعا: "أن للشهيد عند الله سبع خصال " فذكر الحديث وفيه: "ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين" إسناده حسن، وأخرجه الترمذي من حديث المقدام بن معد يكرب وصححه.

(6/16)


7 - باب تَمَنِّي الشَّهَادَةِ
2797- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلاَ أَنَّ رِجَالًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لاَ تَطِيبُ أَنْفُسُهُمْ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنِّي وَلاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُهُمْ عَلَيْهِ مَا تَخَلَّفْتُ عَنْ سَرِيَّةٍ تَغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي أُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ".
2798- حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ الصَّفَّارُ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُلَيَّةَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلاَلٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "خَطَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ ثُمَّ أَخَذَهَا جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ ثُمَّ أَخَذَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ ثُمَّ أَخَذَهَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ غَيْرِ إِمْرَةٍ فَفُتِحَ لَهُ وَقَالَ مَا يَسُرُّنَا أَنَّهُمْ عِنْدَنَا" قَالَ أَيُّوبُ أَوْ قَالَ "مَا يَسُرُّهُمْ أَنَّهُمْ عِنْدَنَا وَعَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ"
قوله: "باب تمني الشهادة" تقدم توجيهه في أول كتاب الجهاد وأن تمنيها والقصد لها مرغب فيه مطلوب. وفي الباب أحاديث صريحة في ذلك منها عن أنس مرفوعا: "من طلب الشهادة صادقا أعطيها ولو لم يصبها أي أعطي ثوابها ولو لم يقتل" أخرجه مسلم، وأصرح منه في المراد ما أخرجه الحاكم بلفظ: "من سأل القتل في سبيل الله صادقا ثم مات أعطاه الله أجر شهيد" وللنسائي من حديث معاذ مثله، وللحاكم من حديث سهل ابن حنيف مرفوعا: "من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه". قوله: "أن أبا هريرة" هذا الحديث رواه عن أبي هريرة جماعة من التابعين منهم سعيد بن المسيب هنا وأبو زرعة بن عمرو في "باب الجهاد من الإيمان" من كتاب الإيمان، وأبو صالح وهو في "باب الجعائل والحملان" في أثناء كتاب الجهاد، والأعرج وهو في كتاب التمني، وهمام وهو عند مسلم وسأذكر ما في رواية كل واحد منهم من زيادة فائدة. قوله: "والذي نفسي بيده لولا أن رجالا من المؤمنين لا تطيب أنفسهم" في رواية أبي زرعة وأبي صالح "لولا أن أشق على أمتي" ورواية الباب تفسر المراد بالمشقة المذكورة وهي أن نفوسهم لا تطيب بالتخلف ولا يقدرون على التأهب لعجزهم عن آلة السفر من مركوب وغيره وتعذر وجوده عند النبي صلى الله عليه وسلم، وصرح بذلك في رواية همام ولفظه: "لكن لا أجد سعة فأحملهم، ولا يجدون سعة فيتبعوني، ولا تطيب أنفسهم أن يقعدوا بعدي" وفي رواية أبي زرعة عند مسلم نحوه، ورواه الطبراني من حديث أبي مالك الأشعري وفيه: "ولو خرجت ما بقي أحد فيه خير إلا انطلق معي، وذلك يشق علي وعليهم"، ووقع في رواية أبي صالح من الزيادة "ويشق على أن يتخلفوا عني". قوله: "والذي نفسي بيده لوددت" وقع في رواية أبي

(6/16)


زرعة المذكورة بلفظ: "ولوددت أني أقتل" بحذف القسم، وهو مقدر لما بينته هذه الرواية، فظهر أن اللام لام القسم وليست بجواب لولا، وفهم بعض الشراح أن قوله: "لوددت" معطوف على قوله: "ما قعدت" فقال: يجوز حذف اللام وإثباتها من جواب لولا، وجعل الودادة ممتنعة خشية وجود المشقة لو وجدت، وتقدير الكلام عنده: لولا أن أشق على أمتي لوددت أني أقتل في سبيل الله. ثم شرع يتكلف استشكال ذلك والجواب عنه، وقد بينت رواية الباب أنها جملة مستأنفة وأن اللام جواب القسم. ثم النكتة في إيراد هذه الجملة عقب ثلث إرادة تسلية الخارجين في الجهاد عن مرافقته لهم، وكأنه قال: الوجه الذي يسيرون له فيه من الفضل ما أتمنى لأجله أني أقتل مرات، فمهما فاتكم من مرافقتي والقعود معي من الفضل يحصل لكم مثله أو فوقه من فضل الجهاد، فراعى خواطر الجميع. وقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم في بعض المغازي وتخلف عنه المشار إليهم، وكان ذلك حيث رجحت مصلحة خروجه على مراعاة حالهم، وسيأتي بيان ذلك في "باب من حبسه العذر". قوله: "أقتل في سبيل الله" استشكل بعض الشراح صدور هذا التمني من النبي صلى الله عليه وسلم مع علمه بأنه لا يقتل، وأجاب ابن التين بأن ذلك لعله كان قبل نزول قوله تعالى :{وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} وهو متعقب فإن نزولها كان في أوائل ما قدم المدينة، وهذا الحديث صرح أبو هريرة بأنه سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما قدم أبو هريرة في أوائل سنة سبع من الهجرة، والذي يظهر في الجواب أن تمني الفضل والخير لا يستلزم الوقوع، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "وددت لو أن موسى صبر" كما سيأتي في مكانه، وسيأتي في كتاب التمني نظائر لذلك، وكأنه صلى الله عليه وسلم أراد المبالغة في بيان فضل الجهاد وتحريض المسلمين عليه، قال ابن التين: وهذا أشبه.
وحكى شيخنا ابن الملقن أن بعض الناس زعم أن قوله: "ولوددت" مدرج من كلام أبي هريرة قال: وهو بعيد، قال النووي: في هذا الحديث الحض على حسن النية، وبيان شدة شفقة النبي صلى الله عليه وسلم على أمته ورأفته بهم واستحباب طلب القتل في سبيل الله، وجواز قول وددت حصول كذا من الخير وإن علم أنه لا يحصل. وفيه ترك بعض المصالح لمصلحة راجحة أو أرجح أو لدفع مفسدة، وفيه جواز تمني ما يمتنع في العادة، والسعي في إزالة المكروه عن المسلمين. وفيه أن الجهاد على الكفاية إذ لو كان على الأعيان ما تخلف عنه أحد قلت: وفيه نظر، لأن الخطاب إنما يتوجه للقادر، وأما العاجز فمعذور، وقد قال سبحانه {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} وأدلة كون الجهاد فرض كفاية تؤخذ من غير هذا، وسيأتي البحث في "باب وجوب النفير" إن شاء الله تعالى. قوله: "حدثنا يوسف بن يعقوب الصفار" بالمهملة وتشديد الفاء، كوفي ثقة يكنى أبا يعقوب، لم يخرج عنه البخاري سوى هذا الحديث، ورجال الإسناد من شيخه إسماعيل بن علية فصاعدا بصريون، وسيأتي شرح المتن في غزوة مؤتة من كتاب المغازي، ووجه دخوله في هذه الترجمة من قوله: "ما يسرهم أنهم عندنا" أي لما رأوا من الكرامة بالشهادة فلا يعجبهم أن يعودوا إلى الدنيا كما كانوا من غير أن يستشهدوا مرة أخرى، وبهذا التقرير يحصل الجمع بين حديثي الباب، ودليل ما ذكرته من الاستثناء ما سيأتي بعد أبواب من حديث أنس أيضا مرفوعا: "ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا إلا الشهيد" الحديث.

(6/17)


8 - باب فَضْلِ مَنْ يُصْرَعُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمَاتَ فَهُوَ مِنْهُمْ
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى [100 النساء]: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} وَقَعَ: وَجَبَ

(6/17)


2799، 2800- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ خَالَتِهِ أُمِّ حَرَامٍ بِنْتِ مِلْحَانَ قَالَتْ نَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا قَرِيبًا مِنِّي ثُمَّ اسْتَيْقَظَ يَتَبَسَّمُ فَقُلْتُ مَا أَضْحَكَكَ قَالَ أُنَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ يَرْكَبُونَ هَذَا الْبَحْرَ الأَخْضَرَ كَالْمُلُوكِ عَلَى الأَسِرَّةِ قَالَتْ فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ فَدَعَا لَهَا ثُمَّ نَامَ الثَّانِيَةَ فَفَعَلَ مِثْلَهَا فَقَالَتْ مِثْلَ قَوْلِهَا فَأَجَابَهَا مِثْلَهَا فَقَالَتْ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ فَقَالَ أَنْتِ مِنْ الأَوَّلِينَ فَخَرَجَتْ مَعَ زَوْجِهَا عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ غَازِيًا أَوَّلَ مَا رَكِبَ الْمُسْلِمُونَ الْبَحْرَ مَعَ مُعَاوِيَةَ فَلَمَّا انْصَرَفُوا مِنْ غَزْوِهِمْ قَافِلِينَ فَنَزَلُوا الشَّأْمَ فَقُرِّبَتْ إِلَيْهَا دَابَّةٌ لِتَرْكَبَهَا فَصَرَعَتْهَا فَمَاتَتْ
قوله: "باب فضل من يصرع في سبيل الله فمات فهو منهم" أي من المجاهدين، ومن موصولة، وكأنه ضمنها معنى الشرط فعطف عليها بالفاء وعطف الفعل الماضي على المستقبل وهو قليل، وكان نسق الكلام أن يقول: من صرع فمات، أو من يصرع فيموت، وقد سقط لفظ فمات من رواية النسفي. قوله: "وقول الله عز وجل: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً} الآية، أي يحصل الثواب بقصد الجهاد إذا خلصت النية فحال بين القاصد وبين الفعل مانع، فإن قوله: {ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ} أعم من أن يكون بقتل أو وقوع من دابته وغير ذلك فتناسب الآية الترجمة، وقد روى الطبري من طريق سعيد بن جبير والسدي وغيرهما أن الآية نزلت في رجل كان مسلما مقيما بمكة، فلما سمع قوله تعالى: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} قال لأهله وهو مريض أخرجوني إلى جهة المدينة فأخرجوه فمات في الطريق، فنزلت، واسمه ضمرة على الصحيح، وقد أوضحت ذلك في كتابي في الصحابة. قوله: "وقع: وجب" ليس هذا في رواية المستملي وثبت لغيره، وهو تفسير أبي عبيدة في "المجاز" قال: قوله فقد وقع أجره على الله أي وجب ثوابه. ثم ذكر المصنف حديث أم حرام وقد تقدم قريبا أن شرحه يأتي في كتاب الاستئذان: والشاهد منه قوله فيه: "فقربت إليها دابة لتركبها فصرعتها فماتت"، مع دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لها أن تكون من الأولين وأنهم كالملوك على الأسرة في الجنة، وقوله في الرواية الماضية "فصرعت عن دابتها" لا يعارض قوله في هذه الرواية: "فقربت لتركبها فصرعتها" لأن التقدير فقربت إليها دابة لتركبها فركبتها فصرعتها. قال ابن بطال: وروى ابن وهب من حديث عقبة بن عامر مرفوعا: "من صرع عن دابته في سبيل الله فمات فهو شهيد" فكأنه لما لم يكن على شرط البخاري أشار إليه في الترجمة. قلت: هو عند الطبراني وإسناده حسن قال: وفي حديث أم حرام أن حكم الراجع من الغزو حكم الذاهب إليه في الثواب. ويحيى المذكور في هذا الإسناد هو ابن سعيد الأنصاري، وفي الإسناد تابعيان هو وشيخه وصحابيان أنس وخالته، وقوله فيه: "أول ما ركب المسلمون البحر مع معاوية" كان ذلك في سنة ثمان وعشرين في خلافة عثمان.

(6/18)


9 - باب مَنْ يُنْكَبُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
2801- حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرُ الْحَوْضِيُّ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ إِسْحَاقَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ بَعَثَ النَّبِيُّ

(6/18)


صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْوَامًا مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ إِلَى بَنِي عَامِرٍ فِي سَبْعِينَ فَلَمَّا قَدِمُوا قَالَ لَهُمْ خَالِي أَتَقَدَّمُكُمْ فَإِنْ أَمَّنُونِي حَتَّى أُبَلِّغَهُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِلاَ كُنْتُمْ مِنِّي قَرِيبًا فَتَقَدَّمَ فَأَمَّنُوهُ فَبَيْنَمَا يُحَدِّثُهُمْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ أَوْمَئُوا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ فَطَعَنَهُ فَأَنْفَذَهُ فَقَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ فُزْتُ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ ثُمَّ مَالُوا عَلَى بَقِيَّةِ أَصْحَابِهِ فَقَتَلُوهُمْ إِلاَّ رَجُلًا أَعْرَجَ صَعِدَ الْجَبَلَ قَالَ هَمَّامٌ فَأُرَاهُ آخَرَ مَعَهُ فَأَخْبَرَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَم النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ قَدْ لَقُوا رَبَّهُمْ فَرَضِيَ عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ فَكُنَّا نَقْرَأُ أَنْ بَلِّغُوا قَوْمَنَا أَنْ قَدْ لَقِينَا رَبَّنَا فَرَضِيَ عَنَّا وَأَرْضَانَا ثُمَّ نُسِخَ بَعْدُ فَدَعَا عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا عَلَى رِعْلٍ وَذَكْوَانَ وَبَنِي لَحْيَانَ وَبَنِي عُصَيَّةَ الَّذِينَ عَصَوْا اللَّهَ وَرَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
2802- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ الأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ جُنْدَبِ بْنِ سُفْيَانَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "كَانَ فِي بَعْضِ الْمَشَاهِدِ وَقَدْ دَمِيَتْ إِصْبَعُهُ فَقَالَ هَلْ أَنْتِ إِلاَّ إِصْبَعٌ دَمِيتِ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا لَقِيتِ".
[الحديث 2802 – طرفه في: 6146]
قوله: "باب من ينكب" بضم أوله وسكون النون وفتح الكاف بعدها موحدة، والنكبة أن يصيب العضو شيء فيدميه، والمراد بيان فضل من وقع له ذلك في سبيل الله. حديث أنس في قصة قتل خاله وهو حرام بن ملحان وسيأتي شرحه في كتاب المغازي في غزوة بئر معونة، وقوله فيه: "عن إسحاق " هو ابن عبد الله بن أبي طلحة. قوله: "بعث النبي صلى الله عليه وسلم أقواما من بني سليم إلى بني عامر" قال الدمياطي: هو وهم، فإن بني سليم مبعوث إليهم، والمبعوث هم القراء وهم من الأنصار. قلت: التحقيق أن المبعوث إليهم بنو عامر، وأما بنو سليم فغدروا بالقراء المذكورين، والوهم في هذا السياق من حفص بن عمر شيخ البخاري، فقد أخرجه هو في المغازي عن موسى بن إسماعيل عن همام فقال: "بعث أخا لأم سليم في سبعين راكبا، وكان رئيس المشركين عامر بن الطفيل" الحديث، ويأتي شرحه مستوفى هناك، فلعل الأصل "بعث أقواما معهم أخو أم سليم إلى بني عامر" فصارت من بني سليم، وقد تكلف لتأويله بعض الشراح فقال: يحمل على أن أقواما منصوب بنزع الخافض أي بعث إلى أقوام من بني سليم منضمين إلى بني عامر وحذف مفعول بعث اكتفاء بصفة المفعول عنه، أو "في" زائدة ويكون "سبعين" مفعول بعث، ويحتمل أن تكون "من" لبست بيانية بل ابتدائية، أي بعث أقواما ولم يصفهم من بني سليم أو من جهة بني سليم انتهى. وهذا أقرب من التوجيه الأول ولا يخفى ما فيهما من التكلف. وقوله في آخر الحديث: "على رعل" بكسر الراء وسكون المهملة بعدها لام هم بطن من بني سليم، وكذا بعض من ذكر معهم؛ وسيأتي الحديث في أواخر الجهاد أنه دعا على أحياء من بني سليم حيث قتلوا القراء، وهو أصرح في المقصود. ثانيهما: حديث جندب، وسيأتي الكلام عليه في "باب ما يجوز من الشعر" من كتاب الأدب، ووقع فيه بلفظ: "نكبت إصبعه" وهو الموافق للترجمة، وكأنه أشار فيها إلى حديث معاذ الذي أشير إليه في الباب الذي يليه، وفي الباب ما أخرجه أبو داود والحاكم والطبراني من حديث أبي مالك الأشعري مرفوعا: "من وقصه فرسه

(6/19)


أو بعيره في سبيل الله أو لدغته هامة أو مات على أي حتف شاء الله فهو شهيد".

(6/20)


10 - باب مَنْ يُجْرَحُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ يُكْلَمُ أَحَدٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِهِ إِلاَّ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ"
قوله: "باب من يجرح في سبيل الله" أي فضله. قوله: "لا يكلم" بضم أوله وسكون الكاف وفتح اللام أي يجرح. قوله: "أحد" قيده في رواية همام عن أبي هريرة بالمسلم. قوله: "والله أعلم بمن يكلم في سبيله" جملة معترضة قصد بها التنبيه على شرطية الإخلاص في نيل هذا الثواب. قوله: "إلا جاء يوم القيامة واللون لون الدم" في رواية همام عن أبي هريرة الماضية في كتاب الطهارة " تكون يوم القيامة كهيئتها إذا طعنت تفجر دما". قوله: "والريح ريح المسك" في رواية همام "والعرف" بفتح المهملة وسكون الراء بعدها فاء وهو الرائحة، ولأصحاب السنن وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم من حديث معاذ بن جبل "من جرح جرحا في سبيل الله أو نكب نكبة فإنها تجيء يوم القيامة كأغزر ما كانت، لونها الزعفران وريحها المسك" وعرف بهذه الزيادة أن الصفة المذكورة لا تختص بالشهيد بل هي حاصلة لكل من جرح، ويحتمل أن يكون المراد بهذا الجرح هو ما يموت صاحبه بسببه قبل اندماله لا ما يندمل في الدنيا فإن أثر الجراحة وسيلان الدم يزول، ولا ينفي ذلك أن يكون له فضل في الجملة، لكن الظاهر أن الذي "يجيء يوم القيامة وجرحه يثعب دما" من فارق الدنيا وجرحه كذلك، ويؤيده ما وقع عند ابن حبان في حديث معاذ المذكور "عليه طابع الشهداء" وقوله: "كأغزر ما كانت" لا ينافي قوله: "كهيئتها" لأن المراد لا ينقص شيئا بطول العهد، قال العلماء: الحكمة في بعثه كذلك أن يكون معه شاهد بفضيلته ببذله نفسه في طاعة الله تعالى. واستدل بهذا الحديث على أن الشهيد يدفن بدمائه وثيابه ولا يزال عنه الدم بغسل ولا غيره، ليجيء يوم القيامة كما وصف النبي صلى الله عليه وسلم. وفيه نظر لأنه لا يلزم من غسل الدم في الدنيا أن لا يبعث كذلك، ويغني عن الاستدلال لترك غسل الشهيد في هذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم في شهداء أحد "زملوهم بدمائهم" كما سيأتي بسطه في مكانه إن شاء الله تعالى.

(6/20)


باب قول الله عز وجل[52 التوبة] ( قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنين ) و الحرب سجال
...
11 - باب قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ [52 التوبة]{قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} وَالْحَرْبُ سِجَالٌ
2804- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ حَدَّثَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ هِرَقْلَ قَالَ لَهُ سَأَلْتُكَ كَيْفَ كَانَ قِتَالُكُمْ إِيَّاهُ فَزَعَمْتَ أَنَّ الْحَرْبَ سِجَالٌ وَدُوَلٌ فَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْتَلَى ثُمَّ تَكُونُ لَهُمْ الْعَاقِبَةُ
قوله: "باب قول الله عز وجل: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} سيأتي في تفسير براءة تفسير

(6/20)


باب قول الله عز وجل [23 الأحزاب]{من المؤمنيبن رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ، فمنهم من قضى نحبه و منهم من ينتظر و ما بدلوا تبديلا}
...
12 - باب قَوْلِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ [23 الأحزاب]
{مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا}
2805- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ الْخُزَاعِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى عَنْ حُمَيْدٍ قَالَ سَأَلْتُ أَنَسًا قَالَ ح و حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ حَدَّثَنَا زِيَادٌ قَالَ حَدَّثَنِي حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ غَابَ عَمِّي أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ عَنْ قِتَالِ بَدْرٍ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ غِبْتُ عَنْ أَوَّلِ قِتَالٍ قَاتَلْتَ الْمُشْرِكِينَ لَئِنْ اللَّهُ أَشْهَدَنِي قِتَالَ الْمُشْرِكِينَ لَيَرَيَنَّ اللَّهُ مَا أَصْنَعُ فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ وَانْكَشَفَ الْمُسْلِمُونَ قَالَ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعْتَذِرُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلاَءِ يَعْنِي أَصْحَابَهُ وَأَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلاَءِ يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ تَقَدَّمَ فَاسْتَقْبَلَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ فَقَالَ يَا سَعْدُ بْنَ مُعَاذٍ الْجَنَّةَ وَرَبِّ النَّضْرِ إِنِّي أَجِدُ رِيحَهَا مِنْ دُونِ أُحُدٍ قَالَ سَعْدٌ فَمَا اسْتَطَعْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا صَنَعَ قَالَ أَنَسٌ فَوَجَدْنَا بِهِ بِضْعًا وَثَمَانِينَ ضَرْبَةً بِالسَّيْفِ أَوْ طَعْنَةً بِرُمْحٍ أَوْ رَمْيَةً بِسَهْمٍ وَوَجَدْنَاهُ قَدْ قُتِلَ وَقَدْ مَثَّلَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ فَمَا عَرَفَهُ أَحَدٌ إِلاَّ أُخْتُهُ بِبَنَانِهِ قَالَ أَنَسٌ كُنَّا نُرَى أَوْ نَظُنُّ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِ وَفِي أَشْبَاهِهِ {مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ".
[الحديث 2805 – طرفاه في: 4048، 4783]
2806- وَقَالَ إِنَّ أُخْتَهُ وَهِيَ تُسَمَّى الرُّبَيِّعَ كَسَرَتْ ثَنِيَّةَ امْرَأَةٍ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقِصَاصِ فَقَالَ أَنَسٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لاَ تُكْسَرُ ثَنِيَّتُهَا فَرَضُوا بِالأَرْشِ وَتَرَكُوا الْقِصَاصَ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لاَبَرَّهُ"
2807- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ ح و حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي أَخِي عَنْ سُلَيْمَانَ أُرَاهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عَتِيقٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "نَسَخْتُ

(6/21)


الصُّحُفَ فِي الْمَصَاحِفِ فَفَقَدْتُ آيَةً مِنْ سُورَةِ الأَحْزَابِ كُنْتُ أَسْمَعُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ بِهَا فَلَمْ أَجِدْهَا إِلاَّ مَعَ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ الأَنْصَارِيِّ الَّذِي جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهَادَتَهُ شَهَادَةَ رَجُلَيْنِ وَهُوَ قَوْلُهُ {مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ}
[الحديث 2807 – أطرافه في: 4049، 4679، 4784، 4986، 4988، 4989، 7191، 7425]
قوله: "باب قول الله عز وجل: {مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} الآية المراد بالمعاهدة المذكورة ما تقدم ذكره من قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ} وكان ذلك أول ما خرجوا إلى أحد، وهذا قول ابن إسحاق، وقيل ما وقع ليلة العقبة من الأنصار إذ بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤوه وينصروه ويمنعوه، والأول أولى. وقوله: {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ} أي مات، وأصل النحب النذر، فلما كان كل حي لا بد له من الموت فكأنه نذر لازم له، فإذا مات فقد قضاه، والمراد هنا من مات على عهده لمقابلته بمن ينتظر ذلك. وأخرج ذلك ابن أبي حاتم بإسناد حسن عن ابن عباس. قوله: "حدثنا محمد بن سعيد الخزاعي" هو بصري يلقب بمردويه ماله في البخاري سوى هذا الحديث وآخر في غزوة خيبر، وعبد الأعلى هو ابن عبد الأعلى السامي بالمهملة. قوله: "سألت أنسا" كذا أورده وعطف عليه الطريق الأخرى فأشعر بأن السياق لها، وأفادت رواية عبد الأعلى تصريح حميد له بالسماع من أنس فأمن تدليسه. وقد أخرجه مسلم والترمذي والنسائي من رواية ثابت عن أنس. قوله: "حدثنا زياد" لم أره منسوبا في شيء من الروايات، وزعم الكلاباذي ومن تبعه أنه ابن عبد الله البكائي بفتح الموحدة وتشديد الكاف، وهو صاحب ابن إسحاق وراوي المغازي عنه، وليس له ذكر في البخاري سوى هذا الموضع. قوله: "غاب عمي أنس بن النضر" زاد ثابت عن أنس "الذي سميت به". قوله: "عن قتال بدر" زاد ثابت "فكبر عليه ذلك". قوله: "أول قتال" أي لأن بدرا أول غزوة خرج فيها النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه مقاتلا، وقد تقدمها غيرها لكن ما خرج فيها صلى الله عليه وسلم بنفسه مقاتلا. قوله: "لئن الله أشهدني" أي أحضرني. قوله: "ليرين الله ما أصنع" بتشديد النون للتأكيد، واللام جواب القسم المقدر، ووقع في رواية ثابت عند مسلم: "ليراني الله" بتخفيف النون بعدها تحتانية، وقوله: "ما أصنع" أعربه النووي بدلا من ضمير المتكلم. وفي رواية محمد بن طلحة عن حميد الآتية في المغازي "ليرين الله ما أجد" وهو بضم الهمزة وكسر الجيم وتشديد الدال، أو بفتح الهمزة وضم الجيم مأخوذ من الجد ضد الهزل، وزاد ثابت "وهاب أن يقول غيرها" أي خشي أن يلتزم شيئا فيعجز عنه فأبهم، وعرف من السياق أن مراده أنه يبالغ في القتال وعدم الفرار. قوله: "وانكشف المسلمون" في رواية عبد الوهاب الثقفي عن حميد عند الإسماعيلي: "وانهزم الناس" وسيأتي بيان ذلك في غزوة أحد. قوله: "أعتذر" أي من فرار المسلمين "وأبرأ" أي من فعل المشركين. قوله: "ثم تقدم" أي نحو المشركين "فاستقبله سعد بن معاذ" زاد ثابت عن أنس "منهزما" كذا في مسند الطيالسي، ووقع عند النسائي مكانها "مهيم" وهو تصحيف فيما أظن. قوله: "فقال: يا سعد بن معاذ، الجنة ورب النضر" كأنه يريد والده، ويحتمل أن يريد ابنه فإنه كان له ابن يسمى النضر وكان إذ ذاك صغيرا. ووقع في رواية عبد الوهاب "فوالله" وفي رواية عبد الله بن بكر عن حميد عند الحارث بن أبي أسامة عنه "والذي نفسي بيده"، والظاهر أنه قال بعضها والبقية بالمعنى، وقوله: "الجنة"

(6/22)


بالنصب على تقدير عامل نصب أي أريد الجنة أو نحوه، ويجوز الرفع أي هي مطلوبي. قوله: "إني أجد ريحها" أي ريح الجنة "من دون أحد". وفي رواية ثابت، "واها لريح الجنة أجدها دون أحد" قال ابن بطال وغيره: يحتمل أن يكون على الحقيقة وأنه وجد ريح الجنة حقيقة أو وجد ريحا طيبة ذكره طيبها بطيب ريح الجنة، ويجوز أن يكون أراد أنه استحضر الجنة التي أعدت للشهيد فتصور أنها في ذلك الموضع الذي يقاتل فيه فيكون المعنى إني لأعلم أن الجنة تكتسب في هذا الموضع فاشتاق لها. وقوله: "واها" قاله إما تعجبا وإما تشوقا إليها، فكأنه لما ارتاح لها واشتاق إليها صارت له قوة من اشتنشقها حقيقة. قوله: "قال سعد: فما استطعت يا رسول الله ما صنع أنس" قال ابن بطال يريد ما استطعت أن أصف ما صنع أنس من كثرة ما أغنى وأبلى في المشركين. قلت: وقع عند يزيد بن هارون عن حميد "فقلت أنا معك فلم استطع أن أصنع ما صنع. وظاهره أنه نفي استطاعة إقدامه الذي صدر منه حتى وقع له ما وقع من الصبر على تلك الأهوال بحيث وجد في جسده ما يزيد على الثمانين من طعنة وضربة ورمية، فاعترف سعد بأنه لم يستطع أن يقدم إقدامه ولا يصنع صنيعه، وهذا أولى مما تأوله ابن بطال. قوله: "فوجدنا به" في رواية عبد الله بن بكر "قال أنس فوجدناه بين القتلى وبه". قوله: "بضعا وثمانين" لم أر في شيء من الروايات بيان هذا البضع وقد تقدم أنه ما بين الثلاث والتسع، وقوله: "ضربة بالسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم" أو هنا للتقسيم، ويحتمل أن تكون بمعنى الواو، وتفصيل مقدار كل واحدة من المذكورات غير معين. قوله: "وقد مثل به" بضم الميم وكسر المثلثة وتخفيفها وقد تشدد وهو من المثلة بضم الميم وسكون المثلثة وهو قطع الأعضاء من أنف وأذن ونحوها. قوله: "فما عرفه أحد إلا أخته" في رواية ثابت "فقالت عمتي الربيع بنت النضر أخته: فما عرفت أخي إلا ببنانه" زاد النسائي من هذا الوجه "وكان حسن البنان" والبنان الإصبع، وقيل طرف الإصبع. ووقع في رواية محمد بن طلحة المذكورة بالشك "ببنانه أو بشامة" بالشين المعجمة والأولى أكثر. قوله: "قال أنس: كنا نرى أو نظن" شك من الراوي وهما بمعنى واحد. وفي رواية أحمد عن يزيد ابن هارون عن حميد "فكنا نقول" وكذا لعبد الله بن بكر؛ وفي رواية أحمد بن سنان عن يزيد "وكانوا يقولون" أخرجه ابن أبي حاتم عنه، وكأن التردد فيه من حميد، ووقع في رواية ثابت "وأنزلت هذه الآية" بالجزم. قوله: "وقال إن أخته" كذا وقع هنا عند الجميع ولم يعين القائل، وهو أنس بن مالك راوي الحديث، والضمير في قوله: "أخته" للنضر بن أنس، ويحتمل أن يكون فاعل "قال" واحدا من الرواة دون أنس ولم أقف على تعيينه، ولا استخرج الإسماعيلي هذا الحديث هنا، وهي تسمى الربيع، بالتشديد أي أخت أنس ابن النضر وهي عمة أنس بن مالك، وسيأتي شرح قصتها في كتاب القصاص. وفي قصة أنس بن النضر من الفوائد جواز بذل النفس في الجهاد، وفضل الوفاء بالعهد ولو شق على النفس حتى يصل إلى إهلاكها، وأن طلب الشهادة في الجهاد لا يتناوله النهي عن الإلقاء إلى التهلكة. وفيه فضيلة ظاهرة لأنس بن النضر وما كان عليه من صحة الإيمان وكثرة التوقي والتورع وقوة اليقين. قال الزين بن المنير: من أبلغ الكلام وأفصحه قول أنس بن النضر في حق المسلمين "أعتذر إليك" وفي حق المشركين "أبرأ إليك" فأشار إلى أنه لم يرض الأمرين جميعا مع تغايرهما(1) في المعنى، وسيأتي في غزوة أحد من
ـــــــ
(1) في هامش طبعة بولاق: في نسخة "مع تقاربهما".

(6/23)


المغازي بيان ما وقعت الإشارة إليه هنا من انهزام بعض المسلمين ورجوعهم وعفو الله عنهم، رضي الله عنهم وقوله أجمعين. قوله: "وحدثنا إسماعيل" هو ابن أبي أويس، وأخوه هو أبو بكر عبد الحميد، وسليمان هو ابن بلال أراه عن محمد بن أبي عتيق هو بضم الهمزة أي أظنه، وهو قول إسماعيل المذكور. قوله: "عن خارجة بن زيد" أي ابن ثابت، وللزهري في هذا الحديث شيخ آخر وهو عبيد بن السباق، لكن اختلف خارجة وعبيد في تعيين الآية التي ذكر زيد أنه وجدها مع خزيمة فقال خارجة: إنها قوله تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا} وقال عبيد إنها قوله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} وقد أخرج البخاري الحديثين جميعا بالإسنادين المذكورين فكأنهما جميعا صحا عنده، ويؤيد ذلك أن شعيبا حدث عن الزهري بالحديثين جميعا، وكذلك رواهما عن الزهري جميعا إبراهيم بن سعد كما سيأتي في فضائل القرآن. وفي رواية عبيد بن السباق زيادات ليست في رواية خارجة، وانفرد خارجة بوصف خزيمة بأنه "الذي جعل النبي صلى الله عليه وسلم شهادته شهادة رجلين" وسأذكر ما في هذه الزيادة من بحث في تفسير سورة الأحزاب إن شاء الله تعالى. والسياق الذي ساقه هنا لابن أبي عتيق، وأما سياق شعيب فسيأتي بيانه في تفسير الأحزاب وقال فيه عن الزهري "أخبرني خارجة" وتأتي بقية مباحثه في فضائل القرآن إن شاء الله تعالى.

(6/24)


باب عمل صالح قبل القتال . و قال أبو الدرداء : إنما تقاتلون بأعمالكم
...
13 - باب عَمَلٌ صَالِحٌ قَبْلَ الْقِتَالِ. وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: إِنَّمَا تُقَاتِلُونَ بِأَعْمَالِكُمْ
وَقَوْلُهُ [الصف 2-4] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ}
2808- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ حَدَّثَنَا شَبَابَةُ بْنُ سَوَّارٍ الْفَزَارِيُّ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ سَمِعْتُ الْبَرَاءَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ مُقَنَّعٌ بِالْحَدِيدِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أُقَاتِلُ أَوْ أُسْلِمُ قَالَ أَسْلِمْ ثُمَّ قَاتِلْ فَأَسْلَمَ ثُمَّ قَاتَلَ فَقُتِلَ. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عَمِلَ قَلِيلًا وَأُجِرَ كَثِيرًا".
قوله: "باب عمل صالح قبل القتال. وقال أبو الدرداء: إنما تقاتلون بأعمالكم" هكذا وقع عند الجميع ولعله كان قاله أبو الدرداء وقال: "إنما تقاتلون بأعمالكم" وإنما قلت ذلك لأنني وجدت ذلك في "المجالسة للدينوري" من طريق أبي إسحاق الفزاري "عن سعيد بن عبد العزيز عن ربيعة بن يزيد أن أبا الدرداء قال: أيها الناس عمل صالح قبل الغزو، فإنما تقاتلون بأعمالكم". ثم ظهر لي سبب تفصيل البخاري، وذلك أن هذه الطريق منقطعة بين ربيعة وأبي الدرداء، وقد روى ابن المبارك في كتاب الجهاد عن سعيد بن عبد العزيز عن ربيعة بن يزيد عن ابن حلبس بفتح المهملة والموحدة بينهما لام ساكنة وآخره سين مهملة عن أبي الدرداء قال: "إنما تقاتلون بأعمالكم" ولم يذكر ما قبله فاقتصر البخاري على ما ورد بالإسناد المتصل فعزاه إلى أبي الدرداء، ولذلك جزم به عنه، واستعمل بقية ما ورد عنه بالإسناد المنقطع في الترجمة إشارة إلى أنه لم يغفله. قوله: "وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} إلى قوله: {بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} ذكر فيه حديث البراء في قصة الذي قتل حين أسلم، قال ابن المنير: مناسبة الترجمة والآية للحديث ظاهرة وفي مناسبة الترجمة للآية خفاء وكأنه من جهة أن الله عاتب من قال إنه يفعل

(6/24)


الخير ولم يفعله، وأثنى على من وفى وثبت عند القتال، أو من جهة أنه أنكر على من قدم على القتال قولا غير مرضي فكشف الغيب أنه أخلف، فمفهومه ثبوت الفضل في تقديم الصدق والعزم الصحيح على الوفاء وذلك من أصلح الأعمال انتهى. وهذا الثاني أظهر فيما أرى والله أعلم. وقال الكرماني: المقصود من الآية في هذه الترجمة قوله في آخرها "صفا كأنهم بنيان مرصوص" لأن الصف في القتال من العمل الصالح قبل القتال، انتهى. وسيأتي تفسير قوله: "مرصوص" في التفسير. قوله: "حدثني محمد بن عبد الرحيم" هو الحافظ المعروف بصاعقة، وإسرائيل هو ابن يونس بن أبي إسحاق السبيعي. قوله: "أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل" لم أقف على اسمه ووقع عند مسلم من طريق زكريا بن أبي زائدة عن أبي إسحاق أنه من الأنصار ثم من بني النبيت بفتح النون وكسر الموحدة بعدها تحتانية ساكنة ثم مثناة فوق ولولا ذلك لأمكن تفسيره بعمرو بن ثابت بن وقش بفتح الواو والقاف بعدها معجمة وهو المعروف بأصرم بن عبد الأشهل، فإن بني عبد الأشهل بطن من الأنصار من الأوس وهم غير بني النبيت، وقد أخرج ابن إسحاق في المغازي قصة عمرو بن ثابت بإسناد صحيح عن أبي هريرة أنه كان يقول: "أخبروني عن رجل دخل الجنة لم يصل صلاة؟ ثم يقول: هو عمرو بن ثابت" قال ابن إسحاق قال الحصين بن محمد: قلت لمحمود ابن لبيد: كيف كانت قصته؟ قال: "كان يأبى الإسلام، فلما كان يوم أحد بدا له فأخذ سيفه حتى أتى القوم فدخل في عرض الناس فقاتل حتى وقع جريحا، فوجده قومه في المعركة فقالوا: ما جاء بك؟ أشفقة على قومك، أم رغبة في الإسلام؟ قال: بل رغبة في الإسلام، قاتلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أصابني ما أصابني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه من أهل الجنة" وروى أبو داود والحاكم من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة "كان عمرو يأبى الإسلام لأجل ربا كان له في الجاهلية، فلما كان يوم أحد قال: أين قومي؟ قالوا بأحد، فأخذ سيفه ولحقهم، فلما رأوه قالوا: إليك عنا، قال: إني قد أسلمت، فقاتل حتى جرح، فجاءه سعد بن معاذ فقال: خرجت غضبا لله ولرسوله، ثم مات فدخل الجنة وما صلى صلاة. فيجمع بين الروايتين بأن الذين رأوه وقالوا له: إليك عنا، ناس غير قومه، وأما قومه فما شعروا بمجيئه حتى وجدوه في المعركة". ويجمع بينهما وبين حديث الباب بأنه جاء أولا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستشاره ثم أسلم ثم قاتل، فرآه أولئك الذين قالوا له إليك عنا. ويؤيد هذا الجمع قوله لهم "قاتلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم" وكأن قومه وجدوه بعد ذلك فقالوا له ما قالوا. ويؤيد الجمع أيضا ما وقع في سياق حديث البراء عند النسائي، فإنه أخرجه من رواية زهير بن معاوية عن أبي إسحاق نحو رواية إسرائيل وفيه أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو أني حملت على القوم فقاتلت حتى أقتل أكان خيرا لي ولم أصل صلاة؟ قال نعم" ونحوه لسعيد بن منصور من وجه آخر عن أبي إسحاق وزاد في أوله أنه قال: "أخير لي أن أسلم؟ قال نعم : فأسلم" فإنه موافق لقول أبي هريرة "إنه دخل الجنة وما صلى لله صلاة" وأما كونه من بني عبد الأشهل ونسب في رواية مسلم إلى بني النبيت فيمكن أن يحمل على أن له في بني النبيت نسبة ما، فإنهم إخوة بني عبد الأشهل يجمعهم الانتساب إلى الأوس. قوله: "مقنع" بفتح القاف والنون مشددة، وهو كناية عن تغطية وجهه بآلة الحرب. قوله: "وأجر كثيرا" بالضم على البناء أي أجر أجرا كثيرا، وفي هذا الحديث أن الأجر الكثير قد يحصل بالعمل اليسير فضلا من الله وإحسانا.

(6/25)


14 - باب مَنْ أَتَاهُ سَهْمٌ غَرْبٌ فَقَتَلَهُ
2809- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَبُو أَحْمَدَ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ قَتَادَةَ حَدَّثَنَا

(6/25)


أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ أُمَّ الرُّبَيِّعِ بِنْتَ الْبَرَاءِ وَهِيَ أُمُّ حَارِثَةَ بْنِ سُرَاقَةَ أَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَلاَ تُحَدِّثُنِي عَنْ حَارِثَةَ وَكَانَ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ أَصَابَهُ سَهْمٌ غَرْبٌ فَإِنْ كَانَ فِي الْجَنَّةِ صَبَرْتُ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ اجْتَهَدْتُ عَلَيْهِ فِي الْبُكَاءِ قَالَ يَا أُمَّ حَارِثَةَ إِنَّهَا جِنَانٌ فِي الْجَنَّةِ وَإِنَّ ابْنَكِ أَصَابَ الْفِرْدَوْسَ الأَعْلَى".
[الحديث 2809 – أطرافه في: 3982، 6550، 6567]
قوله: "باب من أتاه سهم غرب" بتنوين سهم وبفتح المعجمة وسكون الراء بعدها موحدة هذا هو الأشهر وسيأتي بيان الخلاف فيه. قوله: "حدثنا محمد بن عبد الله" جزم الكلاباذي وتبعه غير واحد بأنه الذهلي، وهو محمد بن يحيى ابن عبد الله، نسبه البخاري إلى جده، ووقع في رواية أبي علي بن السكن: حدثنا محمد بن عبد الله بن المبارك المخرمي بضم الميم وفتح المعجمة وتشديد الراء، فإن لم يكن ابن السكن نسبه من قبل نفسه وإلا فما قاله هو المعتمد. وقد أخرجه ابن خزيمة في التوحيد من صحيحه عن محمد بن يحيى الذهلي عن حسين بن محمد وهو المروزي بهذا الإسناد. قوله: "أن أم الربيع بنت البراء" كذا لجميع رواة البخاري. وقال بعد ذلك "وهي أم حارثة بن سراقة" وهذا الثاني هو المعتمد، والأول وهم نبه عليه غير واحد من آخرهم الدمياطي فقال: قوله أم الربيع بنت البراء وهم، وإنما هي الربيع بنت النضر عمة أنس بن مالك بن النضر بن ضمضم بن عمرو، وقد تقدم ذكر قتل أخيها أنس بن النضر وذكرها في آخر حديثه قريبا وهي أم حارثة بن سراقة بن الحارث بن عدي من بني عدي بن النجار ذكره ابن إسحاق وموسى بن عقبة وغيرهما فيمن شهد بدرا، واتفقوا على أنه رماه حبان بكسر المهملة بعدها موحدة ثقيلة ابن العرقة - بفتح المهملة وكسر الراء بعدها قاف - وهو على حوض فأصاب نحره فمات. قلت: ووقع في رواية ابن خزيمة المذكورة أن الربيع بنت البراء بحذف "أم" فهذا أشبه بالصواب، لكن ليس في نسب الربيع بنت النضر أحد اسمه البراء فلعله كان فيه: "الربيع عمة البراء" فإن البراء بن مالك أخو أنس بن مالك فكل منهما ابن أخيها أنس بن النضر، وقد رواه الترمذي وابن خزيمة أيضا من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة فقال: "عن أنس أن الربيع بنت النضر أتت النبي صلى الله عليه وسلم وكان ابنها حارثة بن سراقة أصيب يوم بدر" الحديث، ورواه النسائي من طريق سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس قال: "انطلق حارثة ابن عمتي فجاءت عمتي أمه" وحكى أبو نعيم الأصبهاني أن الحكم بن عبد الملك رواه عن قتادة كذلك وقال: "حارثة بن سراقة" قال ابن الأثير في "جامع الأصول" الذي وقع في كتب النسب والمغازي وأسماء الصحابة أن أم حارثة هي الربيع بنت النضر عمة أنس، وأجاب الكرماني بأنه لا وهم للبخاري لأنه ليس في رواية النسفي إلا الاقتصار على قول أنس "أن أم حارثة بن سراقة" قال فيحمل على أنه كان في رواية الفربري حاشية لبعض الرواة غير صحيحة فألحقت بالمتن انتهى. وقد راجعت أصل النسفي من نسخة ابن عبد البر فوجدتها موافقة لرواية الفربري فالنسخة التي وقعت للكرماني ناقصة وادعاء الزيادة في مثل هذا الكتاب مردود على قائله، والظاهر أن لفظ أم وبنت وهم كما تقدم توجيهه قريبا، والخطب فيه سهل ولا يقدح ذلك في صحة الحديث ولا في ضبط رواته. وقد وقع في رواية سعيد بن أبي عروبة التي ضبط فيها اسم الربيع بنت النضر وهم في اسم ابنها فسماه "الحارث" بدل "حارثة". وقد روى هذا الحديث أبان عن قتادة فقال: أن أم حارثة لم ترد أخرجه أحمد، وكذلك أخرجه من رواية حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس

(6/26)


وسيأتي كذلك في المغازي من طريق حميد عن أنس. ثم شرع الكرماني في إبداء احتمالات بعيدة متكلفة لتوجيه الرواية التي في البخاري فقال: يحتمل أن يكون للربيع ابن يسمى الربيع يعني بالتخفيف من زوج آخر غير سراقة يسمى البراء وأن يكون "بنت البراء" خبرا لأن وضمير "هي" راجع إلى الربيع وأن يكون "بنت" صفة لوالدة الربيع فأطلق الأم على الجدة تجوزا وأن تكون إضافة الأم إلى الربيع للبيان أي الأم التي هي الربيع وبنت مصحف من عمة، قال: وارتكاب بعض هذه التكلفات أولى من تخطئة العدول الأثبات. قلت: إنما اختار البخاري رواية شيبان على رواية سعيد لتصريح شيبان في روايته بتحديث أنس لقتادة، وللبخاري حرص على مثل ذلك إذا وقعت الرواية عن مدلس أو معاصر، وقد قال هو في تسمية من شهد بدرا "وحارثة ابن الربيع وهو حارثة بن سراقة" فلم يعتمد على ما وقع في رواية شيبان أنه حارثة بن أم الربيع بل جزم بالصواب، والربيع أمه وسراقة أبوه. قوله: "أصابه سهم غرب" أي لا يعرف راميه، أو لا يعرف من أين أتى، أو جاء على غير قصد من راميه قاله أبو عبيد وغيره. والثابت في الرواية بالتنوين وسكون الراء، وأنكره ابن قتيبة فقال: كذا تقوله العامة والأجود فتح الراء والإضافة، وحكى الهروي عن ابن زيد: أن جاء من حيث لا يعرف فهو بالتنوين والإسكان، وإن عرف راميه لكن أصاب من لم يقصد فهو بالإضافة وفتح الراء، قال: وذكره الأزهري بفتح الراء لا غير، وحكى ابن دريد وابن فارس والقزاز وصاحب المنتهى وغيرهم الوجهين مطلقا. وقال ابن سيده: أصابه سهم غرب وغرب إذا لم يدر من رماه، وقيل إذا أتاه من حيث لا يدري، وقيل إذا قصد غيره فأصابه، قال وقد يوصف به. قلت: فحصلنا من هذا على أربعة أرجه. وقصة حارثة منزلة على الثاني فإن الذي رماه قصد غرته فرماه وحارثة لا يشعر به، وقد وقع في رواية ثابت عند أحمد أن حارثة خرج نظارا، زاد النسائي من هذا الوجه: ما خرج لقتال. قوله: "اجتهدت عليه في البكاء" قال الخطابي: أقرها النبي صلى الله عليه وسلم على هذا أي فيؤخذ منه الجواز. قلت: كان ذلك قبل تحريم النوح فلا دلالة فيه، فإن تحريمه كان عقب غزوة أحد، وهذه القصة كانت عقب غزوة بدر. ووقع في رواية سعيد بن أبي عروبة "اجتهدت في الدعاء" بدل قوله: "في البكاء" وهو خطأ، ووقع ذلك في بعض النسخ دون بعض، ووقع في رواية حميد الآتية في صفة الجنة من الرقاق وعند النسائي: "فإن كان في الجنة لم أبك عليه" وهو دال على صحة الرواية بلفظ البكاء. وقال في رواية حميد هذه "وإلا فسترى ما أصنعه" ونحوه في رواية حماد عن ثابت عند أحمد. قوله: "إنها جنان في الجنة" كذا هنا. وفي رواية سعيد بن أبي عروبة، "أنها جنان في جنة" وفي رواية أبان عند أحمد "أنها جنان كثيرة في جنة" وفي رواية حميد(1) المذكورة "أنها جنان كثيرة" فقط، والضمير في قوله: "إنها جنان" يفسره ما بعده، وهو كقولهم: هي العرب تقول ما شاءت، والقصد بذلك التفخيم والتعظيم، ومضى الكلام على "الفردوس" قريبا.
ـــــــ
(1) في هامش طبعة بولاق: في نسخة صحيحة "حماد".

(6/27)


15 - باب مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا
2810- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَمْرٍو عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ

(6/27)


جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ الرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلْمَغْنَمِ وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلذِّكْرِ وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِيُرَى مَكَانُهُ فَمَنْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ: "مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ".
قوله: "باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا" أي فضله، أو الجواب محذوف تقديره فهو المعتبر. قوله: "عن عمرو" هو ابن مرة. قوله: "عن أبي وائل عن أبي موسى" في رواية غندر عن شعبة في فرض الخمس "سمعت أبا وائل حدثنا أبا موسى". قوله: "جاء رجل" في رواية غندر المذكورة "قال أعرابي" وهذا يدل على وهم ما وقع عند الطبراني من وجه آخر "عن أبي موسى أنه قال يا رسول الله" فذكره، فإن أبا موسى وإن جاز أن يبهم نفسه لكن لا يصفها بكونه أعرابيا، وهذا الأعرابي يصلح أن يفسر بلاحق بن ضميرة، وحديثه عند أبي موسى المديني في "الصحابة" من طريق عفير بن معدان "سمعت لاحق بن ضميرة الباهلي قال: وفدت على النبي صلى الله عليه وسلم فسألته عن الرجل يلتمس الأجر والذكر فقال: لا شيء له" الحديث، وفي إسناده ضعف، وروينا في "فوائد أبي بكر بن أبي الحديد" بإسناد ضعيف، عن معاذ بن جبل أنه قال: يا رسول الله كل بني سلمة يقاتل فمنهم من يقاتل رياء الحديث فلو صح لاحتمل أن يكون معاذ أيضا سأل عما سأل عنه الأعرابي، لأن سؤال معاذ خاص وسؤال الأعرابي عام، ومعاذ أيضا لا يقال له أعرابي فيحمل على التعدد. قوله: "الرجل يقاتل للمغنم" في رواية منصور عن أبي وائل الماضية في العلم، فقال: "ما القتال في سبيل الله؟ فإن أحدنا يقاتل". قوله: "والرجل يقاتل للذكر" أي ليذكر بين الناس ويشتهر بالشجاعة وهي رواية الأعمش عن أبي وائل الآتية في التوحيد حيث قال: "ويقاتل شجاعة". قوله: "والرجل يقاتل ليرى مكانه" في رواية الأعمش "ويقاتل رياء" فمرجع الذي قبله إلى السمعة ومرجع هذا إلى الرياء وكلاهما مذموم، وزاد في رواية منصور والأعمش "ويقاتل حمية" أي لمن يقاتل لأجله من أهل أو عشيرة أو صاحب، وزاد في رواية منصور "ويقاتل غضبا" أي لأجل حظ نفسه، ويحتمل أن يفسر القتال للحمية بدفع المضرة، والقتال غضبا بجلب المنفعة، فالحاصل من رواياتهم أن القتال يقع بسبب خمسة أشياء: طلب المغنم، وإظهار الشجاعة، والرياء، والحمية، والغضب، وكل منها يتناوله المدح والذم، فلهذا لم يحصل الجواب بالإثبات ولا بالنفي. قوله: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله" المراد بكلمة الله دعوة الله إلى الإسلام، ويحتمل أن يكون المراد أنه لا يكون في سبيل الله إلا من كان سبب قتاله طلب إعلاء كلمة الله فقط بمعنى أنه لو أضاف إلى ذلك سببا من الأسباب المذكورة أخل بذلك، ويحتمل أن لا يخل إذا حصل ضمنا لا أصلا ومقصودا وبذلك صرح الطبري فقال: إذا كان أصل الباعث هو الأول لا يضره ما عرض له بعد ذلك، وبذلك قال الجمهور، لكن روى أبو داود والنسائي من حديث أبي أمامة بإسناد جيد قال: "جاء رجل فقال: يا رسول الله: أرأيت رجلا غزا يلتمس الأجر والذكر ماله؟ قال لا شيء له، فأعادها ثلاثا كل ذلك يقول: لا شيء له، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصا وابتغي به وجهه" ويمكن أن يحمل هذا على من قصد الأمرين معا على حد واحد فلا يخالف المرجح أولا، فتصير المراتب خمسا: أن يقصد الشيئين معا، أو يقصد أحدهما صرفا أو يقصد أحدهما ويحصل الآخر ضمنا، فالمحذور أن يقصد غير الإعلاء، فقد يحصل الإعلاء ضمنا، وقد لا يحصل ويدخل تحته مرتبتان، وهذا ما دل عليه حديث أبي موسى، ودونه أن يقصدهما معا فهو محذور أيضا على ما دل عليه

(6/28)


حديث أبي أمامة، والمطلوب أن يقصد الإعلاء صرفا، وقد يحصل غير الإعلاء وقد لا يحصل ففيه مرتبتان أيضا، قال ابن أبي جمرة: ذهب المحققون إلى أنه إذا كان الباعث الأول قصد إعلاء كلمة الله لم يضره ما انضاف إليه اهـ. ويدل على أن دخول غير الإعلاء ضمنا لا يقدح في الإعلاء إذا كان الإعلاء هو الباعث الأصلي ما رواه أبو داود بإسناد حسن عن عبد الله بن حوالة قال: "بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أقدامنا لنغنم، فرجعنا ولم نغنم شيئا، فقال: اللهم لا تكلهم إلي" الحديث. وفي إجابة النبي صلى الله عليه وسلم بما ذكر غاية البلاغة والإيجاز، وهو من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، لأنه لو أجابه بأن جميع ما ذكره ليس في سبيل الله احتمل أن يكون ما عدا ذلك كله في سبيل الله وليس كذلك، فعدل إلى لفظ جامع عدل به عن الجواب عن ماهية القتال إلى حال المقاتل فتضمن الجواب وزيادة، ويحتمل أن يكون الضمير في قوله: "فهو" راجعا إلى القتال الذي في ضمن قاتل أي فقتاله قتال في سبيل الله، واشتمل طلب إعلاء كلمة الله على طلب رضاه وطلب ثوابه وطلب دحض أعدائه وكلها متلازمة. والحاصل مما ذكر أن القتال منشؤه القوة العقلية والقوة الغضبية والقوة الشهوانية، ولا يكون في سبيل الله إلا الأول. وقال ابن بطال: إنما عدل النبي صلى الله عليه وسلم عن لفظ جواب السائل لأن الغضب والحمية قد يكونان لله فعدل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك إلى لفظ جامع فأفاد دفع الإلباس وزيادة الإفهام، وفيه بيان أن الأعمال إنما تحتسب بالنية الصالحة، وأن الفضل الذي ورد في المجاهد يختص بمن ذكر، وقد تقدم بعض مباحثه في أواخر كتاب العلم. وفيه جواز السؤال عن العلة وتقدم العلم على العمل، وفيه ذم الحرص على الدنيا وعلى القتال لحظ النفس في غير الطاعة.

(6/29)


16 - باب مَنْ اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
وَقَوْلِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ [120 التوبة]: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنْ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ} إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}
2811- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُبَارَكِ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ قَالَ حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ أَخْبَرَنَا عَبَايَةُ بْنُ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو عَبْسٍ هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جَبْرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "مَا اغْبَرَّتْ قَدَمَا عَبْدٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَمَسَّهُ النَّارُ".
قوله: "باب من اغبرت قدماه في سبيل الله" أي بيان ماله من الفضل. قوله: "وقول الله عز وجل: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ} إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} قال ابن بطال: مناسبة الآية للترجمة أنه سبحانه وتعالى قال في الآية {وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئاً يُغِيظُ الْكُفَّارَ} وفي الآية {إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} قال: ففسر صلى الله عليه وسلم العمل الصالح أن النار لا تمس من عمل بذلك، قال: والمراد في سبيل الله جميع طاعاته ا هـ. وهو كما قال، إلا أن المتبادر عند الإطلاق من لفظ سبيل الله الجهاد، وقد أورده المصنف في "فضل المشي إلى الجمعة" استعمالا للفظ في عمومه، ولفظه هناك "حرمه الله على النار" وقال ابن المنير: مطابقة الآية من جهة أن الله أثابهم بخطواتهم وإن لم يباشروا قتالا، وكذلك دل الحديث على أن من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار سواء باشر قتالا أم لا. اهـ. ومن تمام المناسبة أن الوطء يتضمن المشي المؤثر لتغبير القدم، ولا سيما في ذلك الزمان. قوله: "حدثنا إسحاق" قال أبو علي الجياني: نسبه الأصيلي ابن منصور. قلت:

(6/29)


وأخرجه الإسماعيلي من طريق إسحاق بن زيد الخطابي نزيل حران عن محمد بن المبارك المذكور، لكن زاد في آخر المتن قوله: "فتمسها النار أبدا" فالظاهر أنه ابن منصور، ويؤيده أن أبا نعيم أخرجه من طريق الحسن بن سفيان عن إسحاق بن منصور، ويزيد المذكور في الإسناد بالزاي، وعباية بفتح المهملة، وأبو عبس بسكون الموحدة هو ابن جبر بفتح الجيم وسكون الموحدة. قوله: "ما اغبرتا" كذا في رواية المستملي بالتثنية وهو لغة، وللباقين "ما اغبرت" وهو الأفصح، زاد أحمد من حديث أبي هريرة "ساعة من نهار". وقوله: "فتمسه النار" بالنصب، والمعنى أن المس ينتفي بوجود الغبار المذكور، وفي ذلك إشارة إلى عظيم قدر التصرف في سبيل الله، فإذا كان مجرد مس الغبار للقدم يحرم عليها النار فكيف بمن سعى وبذل جهده واستنفد وسعه؟ وللحديث شواهد: منها ما أخرجه الطبراني في الأوسط عن أبي الدرداء مرفوعا: "من اغبرت قدماه في سبيل الله باعد الله منه النار مسيرة ألف عام للراكب المستعجل" وأخرج ابن حبان من حديث جابر أنه كان في غزاة فقال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: فذكر نحو حديث الباب، قال: "فتواثب الناس عن دوابهم، فما رؤى أكثر ماشيا من ذلك اليوم".

(6/30)


17 - باب مَسْحِ الْغُبَارِ عَنْ الرَّأْسِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
2812- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ لَهُ وَلِعَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ائْتِيَا أَبَا سَعِيدٍ فَاسْمَعَا مِنْ حَدِيثِهِ فَأَتَيْنَاهُ وَهُوَ وَأَخُوهُ فِي حَائِطٍ لَهُمَا يَسْقِيَانِهِ فَلَمَّا رَآنَا جَاءَ فَاحْتَبَى وَجَلَسَ فَقَالَ كُنَّا نَنْقُلُ لَبِنَ الْمَسْجِدِ لَبِنَةً لَبِنَةً وَكَانَ عَمَّارٌ يَنْقُلُ لَبِنَتَيْنِ لَبِنَتَيْنِ فَمَرَّ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَسَحَ عَنْ رَأْسِهِ الْغُبَارَ وَقَالَ: "وَيْحَ عَمَّارٍ تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ عَمَّارٌ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ وَيَدْعُونَهُ إِلَى النَّارِ".
قوله: "باب مسح الغبار عن الرأس في سبيل الله" قال ابن المنير: ترجم بهذا وبالذي بعده دفعا لتوهم كراهية غسل الغبار ومسحه لكونه من جملة آثار الجهاد كما كره بعض السلف المسح بعد الوضوء. قلت: والفرق بينهما من جهة أن التنظيف مطلوب شرعا، والغبار أثر الجهاد وإذا انقضى فلا معنى لبقاء أثره. وأما الوضوء فالمقصود به الصلاة فاستحب بقاء أثره حتى يحصل المقصود فافترق المسحان. ثم أورد حديث أبي سعيد في قصة عمار في بناء المسجد، وقد تقدم الكلام عليه مستوفى في "باب التعاون في بناء المسجد" في أوائل الصلاة، وفيه ما يتعلق بقوله: "فأتيناه وهو وأخوه في حائط لهما" والمراد منه هنا قوله: "ومر به النبي صلى الله عليه وسلم فمسح عن رأسه الغبار".

(6/30)


باب الغسل بعد الحرب و الغبار
...
18 - باب الْغَسْلِ بَعْدَ الْحَرْبِ وَالْغُبَارِ
2813- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَجَعَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَوَضَعَ السِّلاَحَ وَاغْتَسَلَ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ وَقَدْ عَصَبَ رَأْسَهُ الْغُبَارُ فَقَالَ: "وَضَعْتَ السِّلاَحَ فَوَاللَّهِ مَا وَضَعْتُهُ. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فَأَيْنَ؟ قَالَ: هَا هُنَا وَأَوْمَأَ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ قَالَتْ فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".

(6/30)


19 - باب فَضْلِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى [آل عمران 179-181]: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ . فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ . يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ}
2814- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الَّذِينَ قَتَلُوا أَصْحَابَ بِئْرِ مَعُونَةَ ثَلاَثِينَ غَدَاةً عَلَى رِعْلٍ وَذَكْوَانَ وَعُصَيَّةَ عَصَتْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ قَالَ أَنَسٌ أُنْزِلَ فِي الَّذِينَ قُتِلُوا بِبِئْرِ مَعُونَةَ قُرْآنٌ قَرَأْنَاهُ ثُمَّ نُسِخَ بَعْدُ بَلِّغُوا قَوْمَنَا أَنْ قَدْ لَقِينَا رَبَّنَا فَرَضِيَ عَنَّا وَرَضِينَا عَنْهُ".
2815- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ "اصْطَبَحَ نَاسٌ الْخَمْرَ يَوْمَ أُحُدٍ ثُمَّ قُتِلُوا شُهَدَاءَ فَقِيلَ لِسُفْيَانَ مِنْ آخِرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ قَالَ لَيْسَ هَذَا فِيهِ".
[الحديث 2815 – طرفاه في: 4044، 4618]
قوله: "باب فضل قول الله تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} إلى قوله: {وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} كذا لأبي ذر، وساق الأصيلي وكريمة الآيتين، ومعنى قوله: "فضل قول الله" أي فضل من ورد فيه قول الله، وقد حذف الإسماعيلي لفظ فضل من الترجمة. ثم ذكر فيه حديثين: أحدهما: حديث أنس في قصة الذين قتلوا في بئر معونة أوردها مختصرة، وستأتي بتمامها في المغازي، وأشار بإيراد الآية إلى ما ورد في بعض طرقه كما سأذكره هناك في آخره عند قوله: "فأنزل فيهم بلغوا قومنا أنا قد لقينا ربنا فرضي عنا ورضينا عنه"، زاد عمر بن يونس عن إسحاق بن أبي طلحة فيه: "فنسخ بعدما قرأناه زمانا وأنزل الله تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} الآية". ثانيهما: حديث جابر "اصطبح ناس الخمر يوم أحد ثم قتلوا شهداء" سيأتي في المغازي أن والد جابر كان من جملة من أشار إليهم، قال ابن المنير: مطابقته للترجمة فيه عسر، إلا أن يكون مراده أن الخمر التي شربوها يومئذ لم تضرهم لأن الله عز وجل أثنى عليهم بعد موتهم ورفع عنهم الخوف والحزن، وإنما كان ذلك لأنها كانت يومئذ مباحة. قلت: ويمكن أن يكون أورده للإشارة إلى أحد الأقوال في سبب نزول الآية المترجم بها، فقد روى الترمذي من حديث جابر أيضا أن الله لما كلم والد جابر وتمنى أن يرجع إلى الدنيا ثم قال: "يا رب بلغ من ورائي، فأنزل الله {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} الآية". قوله: "فقيل لسفيان من آخر ذلك اليوم" قال: "ليس هذا فيه" أي أن في الحديث: "فقتلوا شهداء من آخر ذلك اليوم" فأنكر ذلك سفيان، وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق القواريري عن سفيان بهذه الزيادة ولكن بلفظ: "اصطبح

(6/31)


قوم الخمر أول النهار وقتلوا آخر النهار شهداء" فلعل سفيان كان نسيه ثم تذكر، وقد أخرجه المصنف في المغازي عن عبد الله بن محمد عن سفيان بدون الزيادة، وأخرجه في تفسير المائدة عن صدقة بن الفضل عن سفيان بإثباتها، وسيأتي بقية شرحه في كتاب المغازي إن شاء الله تعالى.

(6/32)


20 - باب ظِلِّ الْمَلاَئِكَةِ عَلَى الشَّهِيدِ
2816- حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ قَالَ أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ قَالَ سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ الْمُنْكَدِرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرًا يَقُولُ: "جِيءَ بِأَبِي إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ مُثِّلَ بِهِ وَوُضِعَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَذَهَبْتُ أَكْشِفُ عَنْ وَجْهِهِ فَنَهَانِي قَوْمِي فَسَمِعَ صَوْتَ صَائِحَةٍ فَقِيلَ ابْنَةُ عَمْرٍو أَوْ أُخْتُ عَمْرٍو فَقَالَ لِمَ تَبْكِي أَوْ لاَ تَبْكِي مَا زَالَتْ الْمَلاَئِكَةُ تُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا قُلْتُ لِصَدَقَةَ أَفِيهِ حَتَّى رُفِعَ؟ قَالَ رُبَّمَا قَالَهُ".
قوله: "باب ظل الملائكة على الشهيد" ذكر فيه حديث جابر في قصة قتل أبيه، وسيأتي بيانه في غزوة أحد، وهو ظاهر فيما ترجم له، وقد تقدم الكلام عليه في كتاب الجنائز. قوله: "قلت لصدقة" القائل هو المصنف، وصدقة هو ابن الفضل شيخه فيه، وقد تقدم في الجنائز عن علي بن عبد الله وهو ابن المديني عن سفيان وفي آخره: "حتى رفع" وكذلك رواه الحميدي وجماعة عن سفيان.

(6/32)


21 - باب تَمَنِّي الْمُجَاهِدِ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا
2817- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ سَمِعْتُ قَتَادَةَ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَا أَحَدٌ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ يُحِبُّ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا وَلَهُ مَا عَلَى الأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ الشَّهِيدُ يَتَمَنَّى أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا فَيُقْتَلَ عَشْرَ مَرَّاتٍ لِمَا يَرَى مِنْ الْكَرَامَةِ".
قوله: "باب تمني المجاهد أن يرجع إلى الدنيا" أورد فيه حديث قتادة " سمعت أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم: ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا " الحديث، وقد ورد بلفظ التمني وذلك فيما أخرجه النسائي والحاكم من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يؤتى بالرجل من أهل الجنة فيقول الله تعالى: يا ابن آدم كيف وجدت منزلك؟ فيقول: أي رب خير منزل، فيقول: سل وثمنه، فيقول: ما أسألك وأتمنى؟ أن تردني إلى الدنيا فأقتل في سبيلك عشر مرات، لما رأى من فضل الشهادة" الحديث، ولمسلم من حديث ابن مسعود رفعه في الشهداء قال: "فاطلع عليهم ربك اطلاعة فقال: هل تشتهون شيئا؟ قالوا: نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى" ولابن أبي شيبة من مرسل سعيد بن جبير أن الخاطب بذلك حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير، وللترمذي وحسنه والحاكم وصححه من حديث جابر قال: "قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا أخبرك ما قال الله لأبيك؟ قال: يا عبد الله تمن علي أعطك، قال: يا رب تحييني فأقتل فيك ثانية، قال: إنه سبق مني أنهم إليها لا يرجعون". قول شعبة في الإسناد "سمعت قتادة" في رواية أبي خالد الأحمر عن شعبة عن قتادة

(6/32)


22 - باب الْجَنَّةُ تَحْتَ بَارِقَةِ السُّيُوفِ
وَقَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ أَخْبَرَنَا نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ رِسَالَةِ رَبِّنَا: مَنْ قُتِلَ مِنَّا صَارَ إِلَى الْجَنَّةِ.
وَقَالَ عُمَرُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَيْسَ قَتْلاَنَا فِي الْجَنَّةِ وَقَتْلاَهُمْ فِي النَّارِ؟ قَالَ: بَلَى.
2818- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ سَالِمٍ أَبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ وَكَانَ كَاتِبَهُ قَالَ: كَتَبَ إِلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلاَلِ السُّيُوفِ" تَابَعَهُ الأُوَيْسِيُّ عَنْ ابْنِ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ.
[الحديث 2818 – أطرافه في: 2833، 2966، 3024، 7237]
قوله: "باب الجنة تحت بارقة السيوف" هو من إضافة الصفة إلى الموصوف وقد تطلق البارقة ويراد بها نفس السيف فتكون الإضافة بيانية، وقد أورده بلفظ: "تحت ظلال السيوف" وكأنه أشار بالترجمة إلى حديث عمار بن ياسر، فأخرج الطبراني بإسناد صحيح عن عمار بن ياسر أنه قال يوم صفين "الجنة تحت الأبارقة" كذا وقع فيه والصواب "البارقة" وهي السيوف اللامعة، وكذا وقع على الصواب في ترجمة عمار من طبقات ابن سعد، وروى سعيد بن منصور بإسناد رجاله ثقات من مرسل أبي عبد الرحمن الحبلي مرفوعا: "الجنة تحت الأبارقة" ويمكن تخريجه على ما قاله الخطابي الأبارقة جمع إبريق وسمي السيف إبريقا فهو إفعيل من البريق، ويقال أبرق الرجل بسيفه إذا لمع به والبارقة اللمعان، قال ابن المنير: كأن البخاري أراد أن السيوف لما كانت لها بارقة كان لها أيضا ظل، قال القرطبي: وهو من الكلام النفيس الجامع الموجز المشتمل على ضروب من البلاغة مع الرجازة وعذوبة اللفظ، فإنه أفاد الحض على الجهاد والإخبار بالثواب عليه والحض على مقاربة العدو واستعمال السيوف والاجتماع حين الزحف حتى تصير السيوف تظل المتقاتلين. وقال ابن الجوزي، المراد أن الجنة تحصل بالجهاد. والظلال جمع ظل وإذا تدانى الخصمان صار كل منهما تحت ظل سيف صاحبه لحرصه على رفعه عليه ولا يكون ذلك إلا عند التحام القتال. قوله: "وقال المغيرة إلخ" هو طرف من حديث طويل وصله المصنف بتمامه في الجزية، وقوله هنا "عن رسالة ربنا" ثبت للكشميهني وحده وهو كذلك في الطريق الموصولة، ويحتمل أن يكون حذف هنا اختصارا. قوله: "وقال عمر إلخ" هو طرف من حديث سهل بن حنيف في قصة عمرة الحديبية، وسيأتي بتمامه موصولا في

(6/33)


المغازي، وتقدمت الإشارة إليه في الشروط. قوله: "حدثنا عبد الله بن محمد" هو الجعفي، وأبو إسحاق هو الفزاري وعمر بن عبيد الله أي ابن معمر هو التيمي وكان أميرا على حرب الخوارج. قوله: "وكان كاتبه" أي أن سالما كان كاتب عبد الله بن أبي أوفى. قال: "كتب إليه عبد الله بن أبي أوفى" الضمير لعمر بن عبيد الله، قال الدار قطني في التتبع: أخرجا حديث موسى بن عقبة عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله قال: "كتب إليه عبد الله بن أبي أوفى فقرأته " الحديث. وقال أبو النضر لم يسمع من ابن أبي أوفى فهو حجة في رواية المكاتبة، وتعقب بأن شرط الرواية بالمكاتبة عند أهل الحديث أن تكون الرواية صادرة إلى المكتوب إليه، وابن أبي أوفى لم يكتب إلى سالم إنما كتب إلى عمر بن عبيد الله فعلى هذا تكون رواية سالم له عن عبد الله بن أبي أوفى من صور الوجادة، ويمكن أن يقال: الظاهر أنه من رواية سالم عن مولاه عمر بن عبيد الله بقراءته عليه لأنه كان كاتبه أبي عن عبد الله بن أبي أوفى أنه كتب إليه فيصير حينئذ من صور المكاتبة، وفيه تعقب على من صنف في رجال الصحيحين فإنهم لم يذكروا لعمر بن عبيد الله ترجمة، وقد ذكره ابن أبي حاتم وذكر له رواية عن بعض التابعين ولم يذكر فيه جرحا. قوله: "واعلموا أن الجنة" هكذا أورده هنا مختصرا، وذكر طرفا منه أيضا بهذا الإسناد بعد أبواب في "باب الصبر عند القتال" وأخرجه بعد أبواب كثيرة في "باب تأخير القتال حتى تزول الشمس" بهذا الإسناد مطولا، ثم أخرجه بعد أبواب أيضا مطولا من وجه آخر في النهي عن تمني لقاء العدو، ويأتي الكلام على شرحه هناك إن شاء الله تعالى. قوله: "تابعه الأويسي عن ابن أبي الزناد عن موسى بن عقبة" قلت: الأويسي هو عبد العزيز بن عبد الله أحد شيوخ البخاري، وقد حدث عنه بهذا الحديث موصولا خارج الصحيح، ورويناه في كتاب الجهاد لابن أبي عاصم قال: حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري به، وقد رواه عمر بن شبة عن الأويسي فبين أن ذلك كان يوم الخندق. قال المهلب: في هذه الأحاديث جواز القول بأن قتلى المسلمين في الجنة، لكن على الإجمال لا على التعيين.

(6/34)


23 - باب مَنْ طَلَبَ الْوَلَدَ لِلْجِهَادِ
2819- وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ عَلَيْهِمَا السَّلاَم لاَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى مِائَةِ امْرَأَةٍ - أَوْ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ - كُلُّهُنَّ يَأْتِي بِفَارِسٍ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَلَمْ يَقُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَلَمْ يَحْمِلْ مِنْهُنَّ إِلاَّ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ جَاءَتْ بِشِقِّ رَجُلٍ "وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ قَالَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فُرْسَانًا أَجْمَعُونَ".
[الحديث 2819 – أطرافه في: 3424، 5242، 6639، 6720، 7469]
قوله: "باب من طلب الولد للجهاد" أي ينوي عند المجامعة حصول الولد ليجاهد في سبيل الله فيحصل له بذلك أجر وإن لم يقع ذلك. قوله: "وقال الليث إلخ" وصله أبو نعيم في المستخرج من طريق يحيى بن بكير عن الليث بهذا الإسناد، وسيأتي الكلام عليه في كتاب الأيمان والنذور إن شاء الله تعالى، ثم تعجلت فشرحته في ترجمة سليمان.

(6/34)


باب الشجاعة في الحرب و الجبن
...
24 - باب الشَّجَاعَةِ فِي الْحَرْبِ وَالْجُبْنِ
2820- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ وَاقِدٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْسَنَ النَّاسِ وَأَشْجَعَ النَّاسِ وَأَجْوَدَ النَّاسِ وَلَقَدْ فَزِعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبَقَهُمْ عَلَى فَرَسٍ وَقَالَ: وَجَدْنَاهُ بَحْرًا".
2821- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ جُبَيْرٍ قَالَ أَخْبَرَنِي جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ أَنَّهُ بَيْنَمَا هُوَ يَسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ النَّاسُ مَقْفَلَهُ مِنْ حُنَيْنٍ فَعَلِقَهُ النَّاسُ يَسْأَلُونَهُ حَتَّى اضْطَرُّوهُ إِلَى سَمُرَةٍ فَخَطِفَتْ رِدَاءَهُ فَوَقَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "أَعْطُونِي رِدَائِي لَوْ كَانَ لِي عَدَدُ هَذِهِ الْعِضَاهِ نَعَمًا لَقَسَمْتُهُ بَيْنَكُمْ ثُمَّ لاَ تَجِدُونِي بَخِيلًا وَلاَ كَذُوبًا وَلاَ جَبَانًا".
[الحديث 2821 – طرفه في: 3148]
قوله: "باب الشجاعة في الحرب والجبن" أي مدح الشجاعة وذم الجبن، والجبن بضم الجيم وسكون الموحدة ضد الشجاعة. وأورد فيه حديثين: أحدهما عن أنس قال كان النبي صلى الله عليه وسلم أشجع الناس، وسيأتي شرحه بعد عشرين بابا، ومضى بعض شرحه في آخر الهبة. وقوله: "وجدناه بحرا" أي واسع الجري. ثانيهما: حديث جبير بن مطعم في مقفله صلى الله عليه وسلم من حنين، والغرض منه قوله في آخره: "ثم لا تجدونني بخيلا ولا جبانا" وسيأتي شرحه في كتاب فرض الخمس. وعمر بن محمد بن جبير بن مطعم لم يرو عنه غير الزهري، وقد وثقه النسائي، وهذا مثال للرد على من زعم أن شرط البخاري أن لا يروي الحديث الذي يخرجه أقل من اثنين عن أقل من اثنين، فإن هذا الحديث ما رواه عن محمد بن جبير غير ولده عمر، ثم ما رواه عن عمر غير الزهري، هذا مع تفرد الزهري بالرواية عن عمر مطلقا، وقد سمع الزهري من محمد بن جبير أحاديث، وكأنه لم يسمع هذا منه فحمله عن ولده والله أعلم. وقوله فيه: "مقفله" بفتح الميم، وسكون القاف وفتح الفاء وباللام يعني زمان رجوعه، وقوله فعلقت بفتح العين وكسر اللام الخفيفة بعدها قاف. وفي رواية الكشميهني: "فطفقت" وهو بوزنه ومعناه. وقوله: "اضطروه إلى سمرة" أي ألجؤوه وإلى شجرة من شجر البادية ذات شوك، وقوله: "فخطفت" بكسر الطاء، وقوله: "العضاه" بكسر المهملة بعدها معجمة خفيفة وفي آخره هاء هو شجر ذو شوك، يقرأ في الوصل وفي الوقف بالهاء، وقوله: "نعم" بفتح النون والغير كذا لأبي ذر بالرفع على أنه اسم كان. و"عدد" بالنصب خبر مقدم، ولغيره، "نعما" بالنصب إما على التمييز وإما على أنه الخبر وعدد هو الاسم، والله أعلم.

(6/35)


25 - باب مَا يُتَعَوَّذُ مِنْ الْجُبْنِ
2822- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ سَمِعْتُ عَمْرَو بْنَ مَيْمُونٍ الأَوْدِيَّ قَالَ: "كَانَ سَعْدٌ يُعَلِّمُ بَنِيهِ هَؤُلاَءِ الْكَلِمَاتِ كَمَا يُعَلِّمُ الْمُعَلِّمُ الْغِلْمَانَ الْكِتَابَةَ وَيَقُولُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ

(6/35)


صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَعَوَّذُ مِنْهُنَّ دُبُرَ الصَّلاَةِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْجُبْنِ وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ. فَحَدَّثْتُ بِهِ مُصْعَبًا فَصَدَّقَهُ".
[الحديث 2822 – أطرافه في: 6365، 6370، 6374، 6390]
2823- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ قَالَ سَمِعْتُ أَبِي قَالَ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَالْجُبْنِ وَالْهَرَمِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ".
[الحديث 2823 – أطرافه في: 4707، 6367، 6371]
قوله: "باب ما يتعوذ من الجبن" كذا للجميع بضم أول يتعوذ على البناء للمجهول. وذكر فيه حديثين: أحدهما: حديث سعد وهو ابن أبي وقاص في التعوذ من الجبن وغيره وسيأتي شرحه في كتاب الدعوات إن شاء الله تعالى، وقوله في آخره: "فحدثت به مصعبا فصدقه" قائل ذلك هو عبد الملك بن عمير، ومصعب هو ابن سعد بن أبي وقاص، وأغرب المزي فقال في الأطراف في رواية عمرو بن ميمون هذه عن سعد: لم يذكر البخاري مصعبا وذكره النسائي، كذا قال، وهو ثابت عند البخاري في جميع الروايات. وقوله في أوله "كان سعد يعلم بنيه" لم أقف على تعيينهم، وقد ذكر محمد بن سعد في الطبقات أولاد سعد فذكر من الذكور أربعة عشر نفسا ومن الإناث سبع عشرة وروى عنه الحديث منهم خمسة: عامر ومحمد ومصعب وعائشة وعمر. ثانيهما: حديث أنس بن مالك في التعوذ من العجز والكسل وغيرهما وسيأتي شرحه أيضا في الدعوات، والفرق بين العجز والكسل أن الكسل ترك الشيء مع القدرة على الأخذ في عمله، والعجز عدم القدرة.

(6/36)


باب من حدث بمشاهدة الحرب . قاله أبو عثمان عن سعد
...
26 - باب مَنْ حَدَّثَ بِمَشَاهِدِهِ فِي الْحَرْبِ. قَالَهُ أَبُو عُثْمَانَ عَنْ سَعْدٍ
2824- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا حَاتِمٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ عَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: "صَحِبْتُ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ وَسَعْدًا وَالْمِقْدَادَ بْنَ الأَسْوَدِ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَمَا سَمِعْتُ أَحَدًا مِنْهُمْ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلاَّ أَنِّي سَمِعْتُ طَلْحَةَ يُحَدِّثُ عَنْ يَوْمِ أُحُدٍ".
[الحديث 2824 – طرفه في: 4062]
قوله: "باب من حدث بمشاهده في الحرب، قاله أبو عثمان" أي النهدي "عن سعد" أي ابن أبي وقاص، وأشار بذلك إلى ما سيأتي موصولا في المغازي عن أبي عثمان عن سعد "أني أول من رمى بسهم في سبيل الله"، وإلى ما سيأتي أيضا موصولا في فضل طلحة عن أبي عثمان "لم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الأيام التي قاتل فيها غير طلحة وسعد، عن حديثهما" أي أنهما حدثاه بذلك. قوله: "حدثنا حاتم" هو ابن إسماعيل، ومحمد بن يوسف هو الكندي وهو سبط للسائب المذكور، والسائب صحابي صغير ابن صحابيين، والإسناد كله مدنيون إلا قتيبة. قوله: "وسعدا" أي ابن أبي وقاص. قوله: "فما سمعت أحدا منهم يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم" في رواية يحيى بن سعيد

(6/36)


الأنصاري عن السائب "صحبت سعد بن مالك من المدينة إلى مكة فما سمعته يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم بحديث واحد" أخرجه ابن ماجه، وسعد بن مالك هو ابن أبي وقاص. وأخرج آدم بن أبي إياس في العلم له من هذا الوجه فقال فيه: "صحبت سعدا كذا وكذا سنة". قوله: "إلا أني سمعت طلحة يحدث عن يوم أحد" لم يعين ما حدث به من ذلك، وقد أخرج أبو يعلى من طريق يزيد بن خصيفة عن السائب بن يزيد عمن حدثه عن طلحة أنه ظاهر بين درعين يوم أحد، قال ابن بطال وغيره: كان كثير من كبار الصحابة لا يحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خشية المزيد والنقصان، وقد تقدم بيان ذلك في العلم، وأما تحديث طلحة فهو جائز إذا أمن الرياء والعجب، ويترقى إلى الاستحباب إذا كان هناك من يقتدي بفعله.

(6/37)


باب وجوب النفير ، و ما يجب من الجهاد و النية
...
27- باب وُجُوبِ النَّفِيرِ وَمَا يَجِبُ مِنْ الْجِهَادِ وَالنِّيَّةِ.
وَقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ [41 التوبة]: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمْ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ} الْآيَةَ. وَقَوْلِهِ [38 التوبة] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الْآخِرَةِ} إلى قوله: {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
يُذْكَرُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: "انْفِرُوا ثُبَاتٍ: سَرَايَا مُتَفَرِّقِينَ". ويُقَالُ: واحَدُ الثُّبَاتِ ثُبَةٌ
2825- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ حَدَّثَنِي مَنْصُورٌ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمَ الْفَتْحِ لاَ هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا".
قوله: "باب وجوب النفير" بفتح النون وكسر الفاء أي الخروج إلى قتال الكفار، وأصل النفير مفارقة مكان إلى مكان لأمر حرك ذلك. قوله: "وما يجب من الجهاد والنية" أي وبيان القدر الواجب من الجهاد ومشروعية النية في ذلك، وللناس في الجهاد حالان: إحداهما في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، والأخرى بعده، فأما الأولى فأول ما شرع الجهاد بعد الهجرة النبوية إلى المدينة اتفاقا. ثم بعد أن شرع هل كان فرض عين أو كفاية؟ قولان مشهوران للعلماء وهما في مذهب الشافعي. وقال الماوردي: كان عينا على المهاجرين دون غيرهم، ويؤيده وجوب الهجرة قبل الفتح في حق كل من أسلم إلى المدينة لنصر الإسلام. وقال السهيلي: كان عينا على الأنصار دون غيرهم، ويؤيده مبايعتهم للنبي صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة على أن يؤووا رسول الله صلى الله عليه وسلم وينصروه، فيخرج من قولهما أنه كان عينا على الطائفتين كفاية في حق غيرهم، ومع ذلك فليس في حق الطائفتين على التعميم، بل في حق الأنصار إذا طرق المدينة طارق، وفي حق المهاجرين إذا أريد قتال أحد من الكفار ابتداء، ويؤيد هذا ما وقع في قصة بدر فيما ذكره ابن إسحاق، فإنه كالصريح في ذلك، وقيل كان عينا في الغزوة التي يخرج فيها النبي صلى الله عليه وسلم دون غيرها، والتحقيق أنه كان عينا على من عينه النبي صلى الله عليه وسلم في حقه ولو لم يخرج. الحال الثاني بعده صلى الله عليه وسلم فهو فرض كفاية على المشهور إلا أن تدعو الحاجة إليه

(6/37)


كأن يدهم العدو ويتعين على من عينه الإمام، ويتأدى فرض الكفاية بفعله في السنة مرة عند الجمهور، ومن حجتهم أن الجزية تجب بدلا عنه ولا تجب في السنة أكثر من مرة اتفاقا فليكن بدلها كذلك، وقيل يجب كلما أمكن وهو قوي، والذي يظهر أنه استمر على ما كان عليه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن تكاملت فتوح معظم البلاد وانتشر الإسلام في أقطار الأرض ثم صار إلى ما تقدم ذكره، والتحقيق أيضا أن جنس جهاد الكفار متعين على كل مسلم إما بيده وإما بلسانه وإما بماله وإما بقلبه والله أعلم. قوله: "وقول الله عز وجل: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} الآية" هذه الآية متأخرة عن التي بعدها، والأمر فيها مقيد بما قبلها لأنه تعالى عاتب المؤمنين الذين يتأخرون بعد الأمر بالنفير ثم عقب ذلك بأن قال: "انفروا خفافا وثقالا" وكأن المصنف قدم آية الأمر على آية العتاب لعمومها، وقد روى الطبري من رواية أبي الضحى قال: "أول ما نزل من براءة {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} وقد فهم بعض الصحابة من هذا الأمر العموم فلم يكونوا يتخلفون عن الغزو حتى مات منهم أبو أيوب الأنصاري والمقداد بن الأسود وغيرهم" ومعنى قوله خفافا وثقالا: متأهبين أو غير متأهبين نشاطا أو غير نشاط، وقيل رجالا وركبانا. قوله: "وقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ} الآية" قال الطبري: يجوز أن يكون قوله تعالى: {إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً} خاصا والمراد به من استنفره رسول الله صلى الله عليه وسلم فامتنع. وأخرج عن الحسن البصري وعكرمة أنها منسوخة بقوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} ثم تعقب ذلك، والذي يظهر أنها مخصوصة وليست بمنسوخة والله أعلم، وطريق عكرمة أخرجها أبو داود من وجه آخر حسن عنه عن ابن عباس. قوله: "ويذكر عن ابن عباس انفروا ثبات سرايا متفرقين" وصله الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عنه بهذا، أي اخرجوا سرية بعد سرية، أو انفروا جميعا أي مجتمعين، وزعم بعضهم أنها ناسخة لقوله تعالى :{انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} والتحقيق أن لا نسخ، بل الرجوع في الآيتين إلى تعيين الإمام وإلى الحاجة إلى ذلك. "تنبيه": وقع في رواية أبي ذر والقابسي "ثباتا" بالألف، وهو غلط لا وجه له لأنه جمع ثبة كما سترى. قوله: "ويقال واحد الثبات: ثبة" أي بضم المثلثة وتخفيف الموحدة بعدها هاء تأنيث، وهو قول أبي عبيدة في "المجاز" وزاد: ومعناها جماعات في تفرقة، ويؤيده قوله بعده {أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً} قال وقد يجمع ثبة على ثبين وقال النحاس ليس من هذا ثبة الحوض وهو وسطه سمي بذلك لأن الماء يثوب إليه أي يرجع إليه ويجتمع فيه لأنها من ثاب يثوب وتصغيرها ثويبة، وثبة بمعنى الجماعة من ثبا يثبو وتصغيرها ثبية، والله أعلم. قوله: "لا هجرة بعد الفتح" أي فتح مكة، قال الخطابي وغيره: كانت الهجرة فرضا في أول الإسلام على من أسلم لقلة المسلمين بالمدينة وحاجتهم إلى الاجتماع، فلما فتح الله مكة دخل الناس في دين الله أفواجا فسقط فرض الهجرة إلى المدينة وبقي فرض الجهاد والنية على من قام به أو نزل به عدو انتهى. وكانت الحكمة أيضا في وجوب الهجرة على من أسلم ليسلم من أذى ذويه من الكفار فإنهم كانوا يعذبون من أسلم منهم إلى أن يرجع عن دينه، وفيهم نزلت: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا
ـــــــ
(1) في هامش طبعة بولاق: في نسخة "من أذى من يؤذيه".

(6/38)


فِيهَا} الآية، وهذه الهجرة باقية الحكم في حق من أسلم في دار الكفر وقدر على الخروج منها، وقد روى النسائي من طريق بهز بن حكيم بن معاوية عن أبيه عن جده مرفوعا: "لا يقبل الله من مشرك عملا بعدما أسلم أو يفارق المشركين" ولأبي داود من حديث سمرة مرفوعا: "أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين" وهذا محمول على من لم يأمن على دينه، وسيأتي مزيد لذلك في أبواب الهجرة من أول كتاب المغازي إن شاء الله تعالى. قوله: "ولكن جهاد ونية" قال الطيبي وغيره: هذا الاستدراك يقتضي مخالفة حكم ما بعده لما قبله، والمعنى أن الهجرة التي هي مفارقة الوطن التي كانت مطلوبة على الأعيان إلى المدينة انقطعت إلا أن المفارقة بسبب الجهاد باقية، وكذلك المفارقة بسبب نية صالحة كالفرار من دار الكفر والخروج في طلب العلم والفرار بالدين من الفتن والنية في جميع ذلك. قوله: "وإذا استنفرتم فانفروا" قال النووي: يريد أن الخبر الذي انقطع بانقطاع الهجرة يمكن تحصيله بالجهاد والنية الصالحة، وإذا أمركم الإمام بالخروج إلى الجهاد ونحوه من الأعمال الصالحة فاخرجوا إليه. وقال الطيبي: قوله: "ولكن جهاد" معطوف على محل مدخول "لا هجرة" أي الهجرة من الوطن إما للفرار من الكفار أو إلى الجهاد أو إلى غير ذلك كطلب العلم، فانقطعت الأولى وبقي الأخريان فاغتنموهما ولا تقاعدوا عنهما، بل إذا استنفرتم فانفروا. قلت: وليس الأمر في انقطاع الهجرة من الفرار من الكفار على ما قال، وقد تقدم تحرير ذلك. وقال ابن العربي: الهجرة هي الخروج من دار الحرب إلى دار الإسلام، كانت فرضا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم واستمرت بعده لمن خاف على نفسه، والتي انقطعت أصلا هي القصد إلى النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان. وفي الحديث بشارة بأن مكة تبقى دار إسلام أبدا. وفيه وجوب تعيين الخروج في الغزو على من عينه الإمام، وأن الأعمال تعتبر بالنيات. "تكملة": قال ابن أبي جمرة ما محصله: إن هذا الحديث يمكن تنزيله على أحوال السالك لأنه أولا يؤمر بهجرة مألوفه حتى يحصل له الفتح، فإذا لم يحصل له أمر بالجهاد وهو مجاهدة النفس والشيطان مع النية الصالحة في ذلك.

(6/39)


باب الكافر يقتل المسلم ، ثم يسلم فيسدد بعد و يقتل
...
28 - باب الْكَافِرِ يَقْتُلُ الْمُسْلِمَ ثُمَّ يُسْلِمُ فَيُسَدِّدُ بَعْدُ وَيُقْتَلُ
2826- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "يَضْحَكُ اللَّهُ إِلَى رَجُلَيْنِ يَقْتُلُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ يَدْخُلاَنِ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُ هَذَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلُ ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَى الْقَاتِلِ فَيُسْتَشْهَدُ".
2827- حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ قَالَ أَخْبَرَنِي عَنْبَسَةُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِخَيْبَرَ بَعْدَ مَا افْتَتَحُوهَا فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَسْهِمْ لِي فَقَالَ بَعْضُ بَنِي سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ لاَ تُسْهِمْ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ هَذَا قَاتِلُ ابْنِ قَوْقَلٍ فَقَالَ ابْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ وَاعَجَبًا لِوَبْرٍ تَدَلَّى عَلَيْنَا مِنْ قَدُومِ ضَأْنٍ يَنْعَى عَلَيَّ قَتْلَ رَجُلٍ مُسْلِمٍ أَكْرَمَهُ اللَّهُ عَلَى يَدَيَّ وَلَمْ يُهِنِّي عَلَى يَدَيْهِ قَالَ فَلاَ أَدْرِي أَسْهَمَ لَهُ أَمْ لَمْ يُسْهِمْ لَهُ".

(6/39)


قَالَ سُفْيَانُ وَحَدَّثَنِيهِ السَّعِيدِيُّ عَنْ جَدِّهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ السَّعِيدِيُّ هُوَ عَمْرُو بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ.
[الحديث 2827 – أطرافه في: 4237، 4238، 4239]
قوله: "باب الكافر يقتل المسلم ثم يسلم" أي القاتل فيسدد بعد، أي يعيش على سداد أي استقامة في الدين. قوله: "ويقتل" في رواية النسفي "أو يقتل" وعليها اقتصر ابن بطال والإسماعيلي، وهي أليق بمراد المصنف. قال ابن المنير: في الترجمة "فيسدد" والذي وقع في الحديث: "فيستشهد" وكأنه نبه بذلك على أن الشهادة ذكرت للتنبيه على وجوه التسديد، وأن كل تسديد كذلك وإن كانت الشهادة أفضل، لكن دخول الجنة لا يختص بالشهيد، فجعل المصنف الترجمة كالشرح لمعنى الحديث. قلت: ويظهر لي أن البخاري أشار في الترجمة إلى ما أخرجه أحمد والنسائي والحاكم من طريق أخرى عن أبي هريرة مرفوعا: "لا يجتمعان في النار مسلم قتل كافرا ثم سدد المسلم وقارب" الحديث. قوله: "عن أبي الزناد" كذا هو في الموطأ، ولمالك فيه إسناد آخر رواه أيضا عن إسحاق بن أبي طلحة عن أنس أخرجه الدار قطني. قوله: "يضحك الله إلى رجلين" في رواية النسائي من طريق ابن عيينة عن أبي الزناد "أن الله يعجب من رجلين" قال الخطابي: الضحك الذي يعتري البشر عندما يستخفهم الفرح أو الطرب غير جائز على الله تعالى، وإنما هذا مثل ضرب لهذا الصنيع الذي يحل محل الإعجاب عند البشر فإذا رأوه أضحكهم، ومعناه الإخبار عن رضا الله بفعل أحدهما وقبوله للآخر ومجازاتهما على صنيعهما بالجنة ثم اختلاف حاليهما، قال: وقد تأول البخاري الضحك في موضع آخر على معنى الرحمة وهو قريب، وتأويله على معنى الرضا أقرب، فإن الضحك يدل على الرضا والقبول، قال: والكرام يوصفون عندما يسألهم السائل بالبشر وحسن اللقاء، فيكون المعنى في قوله: "يضحك الله" أي يجزل العطاء. قال وقد يكون معنى ذلك أن يعجب الله ملائكته ويضحكهم من صنيعهما، وهذا يتخرج على المجاز ومثله في الكلام يكثر. وقال ابن الجوزي: أكثر السلف يمتنعون من تأويل مثل هذا ويمرونه كما جاء(1) وينبغي أن يراعى في مثل هذا الإمرار اعتقاد أنه لا تشبه صفات الله صفات الخلق، ومعنى الإمرار عدم العلم بالمراد منه مع اعتقاد التنزيه. قلت: ويدل على أن المراد بالضحك الإقبال بالرضا تعديته بإلى تقول: ضحك فلان إلى فلان إذا توجه إليه طلق الوجه مظهرا للرضا عنه. قوله: "يدخلان الجنة" زاد مسلم من طريق همام عن أبي هريرة "قالوا كيف يا رسول الله؟". قوله: "يقاتل هذا في سبيل الله فيقتل" زاد همام فيلج الجنة، قال ابن عبد البر: معنى هذا الحديث عند أهل العلم أن القاتل الأول كان كافرا. قلت: وهو الذي استنبطه البخاري في ترجمته، ولكن لا مانع أن يكون مسلما لعموم قوله: "ثم يتوب الله على القاتل" كما لو قتل مسلم مسلما عمدا بلا شبهة ثم تاب القاتل واستشهد في سبيل الله، وإنما يمنع دخول مثل هذا من يذهب إلى أن قاتل المسلم عمدا لا تقبل له توبة، وسيأتي البحث فيه في تفسير سورة النساء إن شاء الله تعالى، ويؤيده الأول أنه وقع في رواية همام "ثم يتوب الله على الآخر فيهديه إلى الإسلام" وأصرح من ذلك ما أخرجه أحمد من طرين الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي
ـــــــ
(1) وهذا هو الصواب الذي جرت عليه الملة وعمل به أئمتها من العصر النبوي إلى زمن الأئمة المتبوعين، والخروج عن هذه الطريقة إلى التأويل عدول عن طريقة الصحابة والتابعين والتابعين لهم بإحسان

(6/40)


هريرة بلفظ: "قيل: كيف يا رسول الله؟ قال: يكون أحدهما كافرا فيقتل الآخر ثم يسلم فيغزو فيقتل". قوله: "ثم يتوب الله على القاتل فيستشهد" زاد همام "فيهديه إلى الإسلام، ثم يجاهد في سبيل الله فيستشهد" قال ابن عبد البر: يستفاد من هذا الحديث أن كل من قتل في سبيل الله فهو في الجنة. قوله: "حدثنا الزهري" في رواية على بن المديني في المغازي عن سفيان "سمعت الزهري وسأله إسماعيل ابن أمية" وفي رواية ابن أبي عمر في مسنده عن سفيان "سمعت إسماعيل بن أمية يسأل الزهري". قوله: "أخبرني عنبسة" بفتح المهملة وسكون النون "ابن سعيد" أي ابن العاص بن سعيد بن العاص ابن أمية. قوله: "عن أبي هريرة" في رواية الزبيدي عن الزهري التصريح بسماع عنبسة له من أبي هريرة وسيأتي بيان ذلك في المغازي. قوله: "فقال بعض بني سعيد بن العاص لا تسهم له" هو أبان بن سعيد كما بينته رواية الزبيدي. قوله: "قلت هذا قاتل ابن قوقل" بقافين وزن جعفر يعني النعمان بن مالك بن ثعلبة بن أصرم بمهملتين وزن أحمد بن فهم بن ثعلبة بن غنم بفتح المعجمة وسكون النون بعدها ميم ابن عمرو بن عوف الأنصاري الأوسي، وقوقل لقب ثعلبة وقيل لقب أصرم، وقد ينسب النعمان إلى جده فيقال النعمان بن قوقل، وله ذكر في حديث جابر عند مسلم قال: "جاء النعمان بن قوقل فقال: يا رسول الله أرأيت إذا صليت المكتوبات" الحديث. وروى البغوي في "الصحابة" أن النعمان بن قوقل قال يوم أحد: أقسمت عليك يا رب أن لا تغيب الشمس حتى أطأ بعرجتي في الجنة. فاستشهد ذلك اليوم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لقد رأيته في الجنة" وذكر بعض أهل المغازي أن صفوان بن أمية هو الذي قتله، وهو مرجوح بهذا الحديث الذي في البخاري، ولعلهما جميعا اشتركا في قتله، وسيأتي بقية شرح حديث أبي هريرة هذا في كتاب المغازي، والمراد منه هنا قول أبان "أكرمه الله على يدي ولم يهنى على يديه" وأراد بذلك أن النعمان استشهد بيد أبان فأكرمه الله بالشهادة ولم يقتل أبان على كفره فيدخل النار، وهو المراد بالإهانة، بل عاش أبان حتى تاب وأسلم، وكان إسلامه قبل خيبر بعد الحديبية. وقال ذلك الكلام بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم وأقره عليه، وهو موافق لما تضمنته الترجمة، قوله: "من قدوم ضأن" قال ابن دقيق العيد: وقع للجميع هنا بالنون، إلا في رواية الهمداني فباللام وهو الصواب وهو السدر البري، قلت وسيأتي في غزوة خيبر بأبسط من هذا. قوله: "فلا أدري أسهم له أم لم يسهم" سيأتي في غزوة خيبر في آخره: "فقال له يا أبان اجلس، ولم يقسم لهم" واحتج به من قال: إن من حضر بعد فراغ الوقعة ولو كان خرج مددا لهم أن لا يشارك من حضرها وهو قول الجمهور، وعند الكوفيين يشاركهم، وأجاب عنهم الطحاوي بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان أرسل إلى نجد قبل أن يشرع في التجهيز إلى خيبر فلذلك لم يقسم له، وأما من أراد الخروج مع الجيش فعاقه عائق ثم لحقهم فإنه الذي يقسم له كما أسهم النبي صلى الله عليه وسلم لعثمان وغيره ممن لم يحضر الوقعة، لكن كانوا ممن أراد الخروج معه فعاقهم عن ذلك عوائق شرعية. قوله: "قال سفيان" أي ابن عيينة، ووقع في رواية الحميدي في مسنده "عن سفيان وحدثنيه السعيدي أيضا"، وفي رواية ابن أبي عمر "عن سفيان سمعت السعيدي". قوله: "وحدثنيه السعيدي" هو معطوف على قوله: "حدثنا الزهري" وهو موصول بالإسناد الذي قبله. قوله: "السعيدي هو عمرو إلخ" هو كلام البخاري، ووقع لغير أبي ذر "قال أبو عبد الله" فذكره.

(6/41)


29- باب مَنْ اخْتَارَ الْغَزْوَ عَلَى الصَّوْمِ
2828- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:

(6/41)


"كَانَ أَبُو طَلْحَةَ لاَ يَصُومُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَجْلِ الْغَزْوِ فَلَمَّا قُبِضَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ أَرَهُ مُفْطِرًا إِلاَّ يَوْمَ فِطْرٍ أَوْ أَضْحَى".
قوله: "باب من اختار الغزو على الصوم" أي لئلا يضعفه الصوم عن القتال، ولا يمتنع ذلك لمن عرف أنه لا ينقصه كما سيأتي بعد ستة أبواب. قوله: "لا يصوم" في رواية أبي الوليد عند أبي نعيم وعلي بن الجعد كلاهما عن شعبة عند الإسماعيلي: "لا يكاد يصوم" وفي رواية عاصم بن علي عن شعبة عند الإسماعيلي: "كان قلما يصوم"، فدل على أن النفي في رواية آدم ليس على إطلاقه، وقد وافق آدم سليمان بن حرب عند الإسماعيلي أيضا. قوله: "إلا يوم فطر أو أضحى" أي فكان لا يصومهما، والمراد بيوم الأضحى ما تشرع فيه الأضحية فيدخل أيام التشريق، وفي هذه القصة إشعار بأن أبا طلحة لم يكن يلازم الغزر بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما ترك التطوع بالصوم لأجل الغزو خشية أن يضعفه عن القتال، مع أنه في آخر عمره رجع إلى الغزو، فروى ابن سعد والحاكم وغيرهما من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس "أن أبا طلحة قرأ: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} فقال: استنفرنا الله شيوخا وشبانا جهزوني، فقال له بنوه: نحن نغزو عنك، فأبى فجهزوه، فغزا في البحر فمات، فدفنوه بعد سبعة أيام ولم يتغير" قال المهلب: مثل النبي صلى الله عليه وسلم المجاهد بالصائم لا يفطر، يعني كما تقدم في أول الجهاد فلذلك قدمه أبو طلحة على الصوم، فلما توطأ الإسلام وعلم أنه صار في سعة أراد أن يأخذ حظه من الصوم إذ فاته الغزو، وفيه أنه كان لا يرى بصيام الدهر بأسا. "تنبيه": وقع عند الحاكم في المستدرك من رواية حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس "أن أبا طلحة أقام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين سنة لا يفطر إلا يوم فطر أو أضحى". وعلى الحاكم فيه مأخذان أحدهما أن أصله في البخاري فلا يستدرك، ثانيهما أن الزيادة في مقدار حياته بعد النبي صلى الله عليه وسلم غلط فإنه لم يقم بعده سوى ثلاث أو أربع وعشرين سنة. فلعلها كانت أربعا وعشرين فتغيرت.

(6/42)


30 - باب الشَّهَادَةُ سَبْعٌ سِوَى الْقَتْلِ
2829- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ سُمَيٍّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "الشُّهَدَاءُ خَمْسَةٌ الْمَطْعُونُ وَالْمَبْطُونُ وَالْغَرِقُ وَصَاحِبُ الْهَدْمِ وَالشَّهِيدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ".
2830- حدثنا بشر بن محمد أخبرنا عبد الله أخبرنا عاصم عن حفصة بنت سيرين عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الطَّاعُونُ شَهَادةٌ لكلِّ مُسْلِمٍ".
[الحديث 2830 – طرفه في: 5732]
قوله: "باب الشهادة سبع سوى القتل" اختلف في سبب تسمية الشهيد شهيدا، فقال النضر بن شميل: لأنه حي فكأن أرواحهم شاهدة أي حاضرة. وقال ابن الأنباري: لأن الله وملائكته يشهدون له بالجنة. وقيل: لأنه يشهد عند خروج روحه ما أعد له من الكرامة. وقيل: لأنه يشهد له بالأمان من النار. وقيل: لأن عليه شاهدا بكونه

(6/42)


شهيدا. وقيل: لأنه لا يشهده عند موته إلا ملائكة الرحمة. وقيل: لأنه الذي يشهد يوم القيامة بإبلاغ الرسل. وقيل: لأن الملائكة تشهد له بحسن الخاتمة. وقيل: لأن الأنبياء تشهد له بحسن الاتباع. وقيل: لأن الله يشهد له بحسن نيته وإخلاصه. وقيل: لأنه يشاهد الملائكة عند احتضاره. وقيل: لأنه يشاهد الملكوت من دار الدنيا، ودار الآخرة. وقيل لأنه مشهود له بالأمان من النار. وقيل لأن عليه علامة شاهدة بأنه قد نجا. وبعض هذه يختص بمن قتل في سبيل الله، وبعضها يعم غيره، وبعضها قد ينازع فيه. وهذه الترجمة لفظ حديث أخرجه مالك من رواية جابر بن عتيك بفتح المهلة وكسر المثناة بعدها تحتانية ساكنة ثم كاف "أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء يعود عبد الله بن ثابت" فذكر الحديث وفيه: "ما تعدون الشهيد فيكم؟ قالوا: من يقتل في سبيل الله" وفيه: "الشهداء سبعة سوى القتل في سبيل الله"، فذكر زيادة على حديث أبي هريرة "الحريق، وصاحب ذات الجنب، والمرأة تموت بجمع". وتوارد مع أبي هريرة في المبطون والمطعون والغريق وصاحب الهدم. فأما صاحب ذات الجنب فهو مرض معروف ويقال له الشوصة، وأما المرأة تموت بجمع فهو بضم الجيم وسكون الميم، وقد تفتح الجيم وتكسر أيضا وهي النفساء؛ وقيل التي يموت ولدها في بطنها ثم تموت بسبب ذلك، وقيل التي تموت بمزدلفة وهو خطأ ظاهر، وقيل التي تموت عذراء والأول أشهر. قلت: حديث جابر بن عتيك أخرجه أيضا أبو داود والنسائي وابن حبان، وقد روى مسلم من طريق أبي صالح عن أبي هريرة شاهدا لحديث جابر بن عتيك ولفظه: "ما تعدون الشهداء فيكم" وزاد فيه ونقص، من زيادته "ومن مات في سبيل الله فهو شهيد" ولأحمد من حديث عبادة بن الصامت نحوه حديث جابر بن عتيك ولفظه: "وفي النفساء يقتلها ولدها جمعا شهادة" وله من حديث راشد بن حبيش نحوه وفيه: "والسل" وهو بكسر المهملة وتشديد اللام، وللنسائي من حديث عقبة بن عامر "خمس من قبض فيهن فهو شهيد" فذكر فيهم النفساء وروى أصحاب السنن وصححه الترمذي من حديث ابن زيد مرفوعا: "من قتل دون ماله فهو شهيد" وقال في الدين والدم والأهل مثل ذلك، وللنسائي من حديث سويد بن مقرن مرفوعا: "من قتل دون مظلمته فهو شهيد" قال الإسماعيلي الترجمة مخالفة للحديث. وقال ابن بطال: لا تخرج هذه الترجمة من الحديث أصلا، وهذا يدل على أنه مات قبل أن يهذب كتابه. وأجاب ابن المنير بأن ظاهر كلام ابن بطال أن البخاري أراد أن يدخل حديث جابر بن عتيك فأعجلته المنية عن ذلك، وفيه نظر، قال: ويحتمل أن يكون أراد التنبيه على أن الشهادة لا تنحصر في القتل بل لها أسباب أخر وتلك الأسباب اختلفت الأحاديث في عددها ففي بعضها خمسة وفي بعضها سبعة، والذي وافق شرط البخاري الخمسة فنبه بترجمة على أن العدد الوارد ليس على معنى التحديد انتهى. وقال بعض المتأخرين يحتمل أن يكون بعض الرواة - يعني رواة الخمسة - نسى الباقي. قلت: وهو احتمال بعيد، لكن يقربه ما تقدم من الزيادة في حديث أبي هريرة عند مسلم، وكذا وقع لأحمد من وجه آخر عنه "والمجنوب شهيد" يعني صاحب ذات الجنب، والذي يظهر أنه صلى الله عليه وسلم أعلم بالأقل ثم أعلم زيادة على ذلك فذكرها في وقت آخر ولم يقصد الحصر في شيء من ذلك. وقد اجتمع لنا من الطرق الجيدة أكثر من عشرين خصلة، فإن مجموع ما قدمته مما اشتملت عليه الأحاديث التي ذكرتها أربع عشرة خصلة، وتقدم في "باب من ينكب في سبيل الله" حديث أبي مالك الأشعري مرفوعا: "من وقصه فرسه أو بعيره أو لدغته هامة أو مات على فراشه على أي حتف شاء الله تعالى فهو شهيد" وصح الدار قطني من حديث ابن عمر "موت الغريب شهادة" ولابن حبان من حديث أبي هريرة "من مات مرابطا مات شهيدا"

(6/43)


الحديث، وللطبراني من حديث ابن عباس مرفوعا: "المرء يموت على فراشه في سبيل الله شهيد" وقال ذلك أيضا في المبطون واللديغ والغريق والشريق والذي يفترسه السبع والخار عن دابته وصاحب الهدم وذات الجنب، ولأبي داود من حديث أم حرام "المائد في البحر الذي يصيبه القيء له أجر شهيد" ، وقد تقدمت أحاديث فيمن طلب الشهادة بنية صادقة أنه يكتب شهيدا في "باب تمني الشهادة" ويأتي في كتاب الطب حديث فيمن صبر في الطاعون أنه شهيد، وتقدم حديث عقبة بن عامر فيمن صرعته دابته وأنه عند الطبراني. وعنده من حديث ابن مسعود بإسناد صحيح "أن من يتردى من رءوس الجبال وتأكله السباع ويغرق في البحار لشهيد عند الله" ووردت أحاديث أخرى في أمور أخرى لم أعرج عليها لضعفها، قال ابن التين: هذه كلها ميتات فيها شدة تفضل الله على أمة محمد صلى الله عليه وسلم بأن جعلها تمحيصا لذنوبهم وزيادة في أجورهم يبلغهم بها مراتب الشهداء. قلت: والذي يظهر أن المذكورين ليسوا في المرتبة سواء، ويدل عليه ما روى أحمد وابن حبان في صحيحه من حديث جابر الدارمي وأحمد والطحاوي من حديث عبد الله بن حبشي، وابن ماجه من حديث عمرو بن عنبسة "أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل أي الجهاد أفضل؟ قال: من عقر جواده وأهريق دمه" وروى الحسن بن علي الحلواني في "كتاب المعرفة" له بإسناد حسن من حديث ابن أبي طالب قال: "كل موتة يموت بها المسلم فهو شهيد" غير أن الشهادة تتفاضل وسيأتي شرح كثير من هذه الأمراض المذكورة في كتاب الطب، وكذا الكلام على حديث أنس في الطاعون إن شاء الله تعالى. ويتحصل مما ذكر في هذه الأحاديث أن الشهداء قسمان: شهيد الدنيا، وشهيد الآخرة وهو من يقتل في حرب الكفار مقبلا غير مدبر مخلصا. وشهيد الآخرة وهو من ذكر، بمعنى أنهم يعطون من جنس أجر الشهداء ولا تجري عليهم أحكامهم في الدنيا. وفي حديث العرباض بن سارية عند النسائي وأحمد ولأحمد من حديث عتبة بن عبد نحوه مرفوعا: "يختصم الشهداء والمتوفون على الفراش في الذين يتوفون من الطاعون فيقول: انظروا إلى جراحهم، فإن أشبهت جراح المقتولين فإنهم معهم ومنهم، فإذا جراحهم قد أشبهت جراحهم" . وإذا تقرر ذلك فيكون إطلاق الشهداء على غير المقتول في سبيل الله مجازا، فيحتج به من يجيز استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه، والمانع يجيب بأنه من عموم المجاز فقد يطلق الشهيد على من قتل في حرب الكفار لكن لا يكون له ذلك في حكم الآخرة لعارض يمنعه كالانهزام وفساد النية والله أعلم. قوله: "الشهداء خمسة - ثم قال - والشهيد في سبيل الله" قال الطيبي: يلزم منه حمل الشيء على نفسه لأن قوله: "خمسة" خبر للمبتدأ والمعدود بعده ببيان له، وأجاب بأنه من باب قول الشاعر " أنا أبو النجم وشعري شعري". ويحتمل أن يكون المراد بالشهيد في سبيل الله المقتول، فكأنه قال والمقتول فعبر عنه بالشهيد، ويؤيده قوله في رواية جابر بن عتيك "الشهداء سبعة سوى القتيل في سبيل الله" ويجوز أن يكون الشهيد مكررا في كل واحد منها فيكون من التفصيل بعد الإجمال والتقدير الشهداء خمسة الشهيد كذا والشهيد كذا إلى آخره.

(6/44)


باب قول الله عز وجل { لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر و المجاهدون في سبيل الله بأموالهم و أنفسهم
...
31 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ} إلى قوله: {غَفُورًا رَحِيمًا}

(6/44)


2831- حدثنا أبو الوليد حدثنا شعبة عن أبي إسحاق قال: سمعت البراء رضي الله عنه يقول: "لما نزلت {لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ} دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم زيدا، فجاءه بكتف فكتبها. وشكا ابن أم مكتوم ضرارته، فنزلت {لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ}".
[الحديث 2831 – طرفاه في: 4593، 4594، 4990]
2832- حدَّثنا عبد العزيز بن عبد الله حدثنا إبراهيم بن سعد الزهري قال: حدثني صالح بن كيسان عن ابن شهاب عن سهل بن سعد الساعدي أنه قال: "رأيت مروان بن الحكم جالسا في المسجد فأقبلت حتى جلست إلى جنبه، فأخبرنا أن زيد بن ثابت أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أملى عليَّ {لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} قال: فجاءه ابن أم مكتوم وهو يملها عليَّ، فقال: يا رسول الله، لو أستطيع الجهاد لجاهدت – وكان رجلا أعمى – فأنزل الله تبارك وتعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم فخذه على فخذي، فثقلت عليَّ حتى خفت أن ترضَّ فخذي، ثم سُرِّيَ عنه، فأنزل الله عز وجل: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ}".
[الحديث 2832 – طرفه في: 4592]
قوله باب قول الله عز وجل: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} ذكر فيه حديثي البراء بن عازب وزيد بن ثابت في سبب نزولها، وفيه ذكر ابن أم مكتوم، وسيأتي الكلام على ذلك مستوفى في تفسير سورة النساء.

(6/45)


32 - باب الصَّبْرِ عِنْدَ الْقِتَالِ
2833- حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا معاوية بن عمرو حدثنا أبو إسحاق عن موسى بن عقبة عن سالم أبي النضر أن عبد الله بن أبي أوفى كتب فقرأته إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا لقيتموهم فاصبروا".
قوله: "باب الصبر عند القتال" ذكر فيه طرفا من حديث ابن أبي أوفى، وقد تقدم التنبيه عليه قريبا.

(6/45)


33 - باب التَّحْرِيضِ عَلَى الْقِتَالِ وَقَوْلِ الله عزَّ وجلَّ [65 الأنفال]: {حَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ}
2834- حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا معاوية بن عمرو حدثنا أبو إسحاق عن حميد قال: سمعت أنسا رضي الله عنه يقول: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخندق، فإذا المهاجرون والأنصار يحفرون في غداة باردة، فلم يكن لهم عبيد يعملون ذلك لهم، فلما رأى ما بهم من النصب والجوع، قال: "اللهم إن العيش عيش الآخرة، فاغفر اللهم للأنصار والمهاجرة" فقالوا مجيبين له:

(6/45)


34- باب حَفْرِ الْخَنْدَقِ
2835- حدثنا أبو معمر حدثنا عبد الوارث حدثنا عبد العزيز عن أنس رضي الله عنه قال: "جعل المهاجرون والأنصار يحفرون الخندق حول المدينة وينقلون التراب على متونهم ويقولون: نحن الذين بايعوا محمدا، على الجهاد ما بقينا أبدا. والنبي صلى الله عليه وسلم يجيبهم ويقول: اللهم إنه لا خير إلا خير الآخرة، فبارك في الأنصار والمهاجرة".
2836- حدثنا أبو الوليد حدثنا شعبة عن أبي إسحاق سمعت البراء رضي الله عنه يقول: "كان النبي صلى الله عليه وسلم ينقل ويقول: "لولا أنت ما اهتدينا".
[الحديث 2836 – أطرافه في: 2837، 3034، 4104، 4106، 6620، 7136]
2837- حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة عن أبي إسحاق عن البراء رضي الله عنه قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب ينقل التراب – وقد وارى التراب بياض بطنه – وهو يقول: لولا أنت ما اهتدينا، ولا تصدقنا ولا صلينا، فأنزل سكينة علينا، وثبت الأقدام إن لاقينا، إن الألى قد بغوا علينا، إذا أرادوا فتنة أبينا".
قوله: "باب حفر الخندق" ذكر فيه حديث أنس من وجه آخر وسيأتي في المغازي، وسياقه هناك أتم، وذكر فيه حديث البراء بن عازب في ذلك من وجهين، ويأتي هناك شرحه مستوفى إن شاء الله تعالى.

(6/46)


35 - باب مَنْ حَبَسَهُ الْعُذْرُ عَنْ الْغَزْوِ
2838- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ أَنَّ أَنَسًا حَدَّثَهُمْ قَالَ: "رَجَعْنَا مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
[الحديث 2838 – طرفاه في: 2839، 4423]
2839- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ هُوَ ابْنُ زَيْدٍ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ النَّبِيَّ

(6/46)


36 - باب فَضْلِ الصَّوْمِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
2840- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ وَسُهَيْلُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ أَنَّهُمَا سَمِعَا النُّعْمَانَ بْنَ أَبِي عَيَّاشٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بَعَّدَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنْ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا".

(6/47)


قوله: "باب فضل الصوم في سبيل الله" قال ابن الجوزي: إذا أطلق ذكر سبيل الله فالمراد به الجهاد. وقال القرطبي: سبيل الله طاعة الله، فالمراد من صام قاصدا وجه الله. قلت: ويحتمل أن يكون ما هو أعم من ذلك. ثم وجدته في "فوائد أبي الطاهر الذهلي" من طريق عبد الله بن عبد العزيز الليثي عن المقبري عن أبي هريرة بلفظ: "ما من مرابط يرابط في سبيل الله فيصوم يوما في سبيل الله" الحديث. وقال ابن دقيق العيد: العرف الأكثر استعماله في الجهاد، فإن حمل عليه كانت الفضيلة لاجتماع العبادتين، قال: ويحتمل أن يراد بسبيل الله طاعته كيف كانت، والأول أقرب، ولا يعارض ذلك أن الفطر في الجهاد أولى لأن الصائم يضعف عن اللقاء كما تقدم تقريره في "باب من اختار الغزو على الصوم" لأن الفضل المذكور محمول على من لم يخش ضعفا، ولا سيما من اعتاد به فصار ذلك من الأمور النسبية، فمن لم يضعفه الصوم عن الجهاد فالصوم في حقه أفضل ليجمع بين الفضيلتين، وقد تقدم مزيد لذلك في كتاب الصيام في الكلام على الصوم في السفر. قوله: "أخبرني يحيى بن سعيد" هو الأنصاري، وسهيل بن أبي صالح لم يخرج له البخاري موصولا إلا هذا، ولم يحتج به لأنه قرنه بيحيى بن سعيد، وقد اختلف في إسناده على سهيل فرواه الأكثر عنه هكذا، وخالفهم شعبة فرواه عنه عن صفوان بن يزيد عن أبي سعيد أخرجه النسائي، ولعل لسهيل فيه شيخين. وأخرجه النسائي أيضا من طريق أبي معاوية عن سهيل عن المقبري عن أبي سعيد، ووهم فيه أبو معاوية، وإنما يرويه المقبري عن أبي هريرة لا عن أبي سعيد، وإنما رواه سهيل من حديث أبي هريرة عن أبيه عنه لا عن المقبري. كذلك أخرجه النسائي من طريق سعيد بن عبد الرحمن عن سهيل عن أبيه، وكذا أخرجه أحمد عن أنس بن عياض عن سهيل. قوله: "سبعين خريفا" الخريف زمان معلوم من السنة، والمراد به هنا العام، وتخصيص الخريف بالذكر دون بقية الفصول - الصيف والشتاء والربيع - لأن الخريف أزكى الفصول لكونه يجني فيه الثمار. ونقل الفاكهاني أن الخريف يجتمع فيه الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة دون غيره، ورد بأن الربيع كذلك. قال القرطبي: ورد ذكر السبعين لإرادة التكثير كثيرا انتهى. ويؤيده أن النسائي أخرج الحديث المذكور عن عقبة بن عامر والطبراني عن عمرو بن عبسة وأبو يعلى عن معاذ بن أنس فقالوا جميعا في رواياتهم "مائة عام".

(6/48)


37 - باب فَضْلِ النَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
2841- حَدَّثَنِي سَعْدُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ دَعَاهُ خَزَنَةُ الْجَنَّةِ كُلُّ خَزَنَةِ بَابٍ أَيْ فُلُ هَلُمَّ قَالَ أَبُو بَكْرٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَاكَ الَّذِي لاَ تَوَى عَلَيْهِ. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي لاَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ".
2842- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ حَدَّثَنَا هِلاَلٌ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ: "إِنَّمَا أَخْشَى عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِي مَا يُفْتَحُ عَلَيْكُمْ مِنْ بَرَكَاتِ الأَرْضِ ثُمَّ ذَكَرَ زَهْرَةَ الدُّنْيَا فَبَدَأَ بِإِحْدَاهُمَا وَثَنَّى بِالأُخْرَى فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أو يأتي الْخَيْرُ

(6/48)


ِالشَّرِّ؟ فَسَكَتَ عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْنَا يُوحَى إِلَيْهِ وَسَكَتَ النَّاسُ كَأَنَّ عَلَى رُءُوسِهِمْ الطَّيْرَ ثُمَّ إِنَّهُ مَسَحَ عَنْ وَجْهِهِ الرُّحَضَاءَ فَقَالَ أَيْنَ السَّائِلُ آنِفًا أَوَخَيْرٌ هُوَ؟ ثَلاَثًا إِنَّ الْخَيْرَ لاَ يَأْتِي إِلاَّ بِالْخَيْرِ وَإِنَّهُ كُلَّمَا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ مَا يَقْتُلُ حَبَطًا أَوْ يُلِمُّ إِلاَّ آكِلَةَ الْخَضِرِ كُلَّمَا أَكَلَتْ حَتَّى إِذَا امْتَلاَتْ خَاصِرَتَاهَا اسْتَقْبَلَتْ الشَّمْسَ فَثَلَطَتْ وَبَالَتْ ثُمَّ رَتَعَتْ وَإِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ وَنِعْمَ صَاحِبُ الْمُسْلِمِ لِمَنْ أَخَذَهُ بِحَقِّهِ فَجَعَلَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَنْ لَمْ يَأْخُذْهُ بِحَقِّهِ فَهُوَ كَالْآكِلِ الَّذِي لاَ يَشْبَعُ وَيَكُونُ عَلَيْهِ شَهِيدًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ".
قوله: "باب فضل النفقة في سبيل الله" ذكر فيه حديثين: أحدهما: عن أبي هريرة "من أنفق زوجين في سبيل الله" وقد تقدم في أول الصوم من وجه آخر، وقوله في هذا الإسناد عن أبي سلمة يأتي الكلام عليه وعلى قوله: "أي فل" في فضل أبي بكر، وأن الخطابي جزم أنه ترخيم من فلان، وجزم غيره بأنه لغة فيه، وتقدم في "باب من لم ير الوضوء إلا من المخرجين" التنبيه على وهم القابسي في قوله: "سعيد بن حفص" وقوله: "زوجين" أي شيئين من أي نوع كان مما ينفق، والزوج يطلق على الواحد وعلى الاثنين وهو هنا على الواحد جزما، وقوله: "كل خزنة باب" كأنه من المقلوب لأن المراد خزنة كل باب، قال المهلب. في هذا الحديث أن الجهاد أفضل الأعمال، لأن المجاهد يعطي أجر المصلى والصائم والمتصدق وإن لم يفعل ذلك، لأن باب الريان للصائمين، وقد ذكر في هذا الحديث أن المجاهد يدعى من تلك الأبواب كلها بإنفاق قليل المال في سبيل الله انتهى. وما جرى فيه على ظاهر الحديث يرده ما قدمته في الصيام من زيادة في الحديث لأحمد حيث قال فيه: "لكل أهل عمل باب يدعون بذلك العمل" وهذا يدل على أن المراد بسبيل الله ما هو أعم من الجهاد وغيره من الأعمال الصالحة، وقوله: "لا توى عليه" بالمثناة والأكثر أنه مقصور، وحكى ابن فارس المد. حديث أبي سعيد "إنما أخشى عليكم من بعدي ما يفتح عليكم من بركات الأرض" وسيأتي شرحه مستوفى في الرقاق إن شاء الله تعالى، والغرض منه هنا قوله، "فجعله في سبيل الله" فإنه مطابق لما ترجم له، وقد روى النسائي وصححه ابن حبان من حديث خريم بالراء مصغر ابن فاتك بفاء ومثناة مكسورة رفعه: "من أنفق نفقة في سبيل الله كتب له سبعمائة ضعف" قلت: وهو موافق لقوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ} الآية. وقوله في هذه الرواية: "وإنه كل ما ينبت الربيع يقتل أو يلم" بضم أوله وكسر اللام وتشديد الميم أي يقرب من القتل. وقوله: "أكلت حتى إذا امتدت" وقع في السياق حذف تقديره إلا آكله الخضر أكلت، وقد بين في الرواية الأخرى، وكذا أثبته الأصيلي هنا وسقط للباقين، وكذا سقط قوله: "حبطا" وهو بفتح المهملة والموحدة، وهو انتفاخ البطن من كثرة الأكل.

(6/49)


38 - باب فَضْلِ مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا أَوْ خَلَفَهُ بِخَيْرٍ
2843- حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ حَدَّثَنِي يَحْيَى قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ قَالَ حَدَّثَنِي بُسْرُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ حَدَّثَنِي زَيْدُ بْنُ خَالِدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَدْ غَزَا وَمَنْ خَلَفَ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِخَيْرٍ فَقَدْ غَزَا".

(6/49)


2844- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَدْخُلُ بَيْتًا بِالْمَدِينَةِ غَيْرَ بَيْتِ أُمِّ سُلَيْمٍ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِ فَقِيلَ لَهُ فَقَالَ: "إِنِّي أَرْحَمُهَا قُتِلَ أَخُوهَا مَعِي".
قوله: "باب فضل من جهز غازيا" أي هيأ له أسباب سفره "أو خلفه" بفتح المعجمة واللام الخفيفة أي قام بحال من يتركه. قوله: "حدثنا الحسين" هو المعلم نسبه الطبراني عن حفص بن عمر عن أبي معمر، وكذا صرح به مسلم في روايته من وجه آخر عنه، ويحيى هو ابن أبي كثير، وفي الإسناد ثلاثة من التابعين في نسق هو وأبو سلمة وبسر وهو بضم الموحدة وسكون المهملة، وقد سمع أبو سلمة من زيد بن خالد وحدث عنه هنا بواسطة وحدث عنه بلا واسطة في غير هذا عند أبي داود والترمذي وصححه وغيرهما. قوله: "فقد غزا" قال ابن حبان: معناه أنه مثله في الأجر وإن لم يغز حقيقة. ثم أخرجه من وجه آخر عن بسر بن سعيد بلفظ: "كتب له مثل أجره، غير أنه لا ينقص من أجره شيء" ولابن ماجه وابن حبان من حديث عمر نحوه بلفظ: "من جهز غازيا حتى يستقل كان له مثل أجره حتى يموت أو يرجع" وأفادت فائدتين إحداهما أن الوعد المذكور مرتب على تمام التجهيز، وهو المراد بقوله: "حتى يستقل". ثانيهما أنه يستوي معه في الأجر إلى أن تنقضي تلك الغزوة. وأما ما أخرجه مسلم من حديث أبي سعيد "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بعثا وقال: ليخرج من كل رجلين رجل والأجر بينهما" وفي رواية له "ثم قال للقاعد: وأيكم خلف الخارج في أهله وماله بخير كان له مثل نصف أجر الخارج" ففيه إشارة إلى أن الغازي إذا جهز نفسه أو قام بكفاية من يخلفه بعده كان له الأجر مرتين. وقال القرطبي: لفظة "نصف" يشبه أن تكون مقحمة، أي مزيدة من بعض الرواة، وقد احتج بها من ذهب إلى أن المراد بالأحاديث التي وردت بمثل ثواب الفعل حصول أصل الأجر له بغير تضعيف، وأن التضعيف يختص بمن باشر العمل، قال القرطبي: ولا حجة له في هذا الحديث لوجهين: أحدهما أنه لا يتناول محل النزاع لأن المطلوب إنما هو أن الدال على الخير مثلا هل له مثل أجر فاعله ثم التضعيف أو بغير تضعيف، وحديث الباب إنما يقتضي المشاركة والمشاطرة فافترقا. ثانيهما ما تقدم من احتمال كون لفظة "نصف" زائدة. قلت: ولا حاجة لدعوى زيادتها بعد ثبوتها في الصحيح؛ والذي يظهر في توجيهها أنها أطلقت بالنسبة إلى مجموع الثواب الحاصل للغازي والخالف له بخير، فإن الثواب إذا انقسم بينهما نصفين كان لكل منهما مثل ما للآخر فلا تعارض بين الحديثين. وأما من وعد بمثل ثواب العمل وإن لم يعمله إذا كانت له فيه دلالة أو مشاركة أو نية صالحة فليس على إطلاقه في عدم التضعيف لكل أحد، وصرف الخبر عن ظاهره يحتاج إلى مستند، وكأن مستند القائل أن العامل يباشر المشقة بنفسه بخلاف الدال ونحوه، لكن من يجهز الغازي بماله مثلا وكذا من يخلفه فيمن يترك بعده يباشر شيئا من المشقة أيضا، فإن الغازي لا يتأتى منه الغزر إلا بعد أن يكفي ذلك العمل فصار كأنه يباشر معه الغزو، بخلاف من اقتصر على النية مثلا والله أعلم. وستكون لنا عودة إلى البحث في هذا الكلام على قوله: "قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن" في شرح فضائل القرآن إن شاء الله تعالى. قوله: "عن إسحاق بن عبد الله" أي ابن أبي طلحة. وفي رواية عمرو بن عاصم عن همام "أخبرنا إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة" أخرجه ابن سعد عنه، وعند الإسماعيلي من طريق حبان بن هلال عن همام

(6/50)


"حدثنا إسحاق". قوله: "لم يكن يدخل بالمدينة بيتا غير بيت أم سليم" قال الحميدي: لعله أراد على الدوام، وإلا فقد تقدم أنه كان يدخل على أم حرام. وقال ابن التين: يريد أنه كان يكثر الدخول على أم سليم، وإلا فقد دخل على أختها أم حرام، ولعلها أي أم سليم كانت شقيقة المقتول أو وجدت عليه أكثر من أم حرام. قلت: لا حاجة إلى هذا التأويل فإن بيت أم حرام وأم سليم واحد، ولا مانع أن تكون الأختان في بيت واحد كبير لكل منهما فيه معزل فنسب تارة إلى هذه وتارة إلى هذه. قوله: "فقيل له" لم أقف على اسم القائل. قوله: "إني أرحمها، قتل أخوها معي" هذه العلة أولى من قول من قال: إنما كان يدخل عليها لأنها كانت محرما له، وسيأتي بيان ما في هذه القصة في كتاب الاستئذان إن شاء الله تعالى. والمراد بقوله: "أخوها" حرام بن ملحان الذي تقدم ذكره في "باب من ينكب في سبيل الله" وستأتي قصة قتله في غزوة بئر معونة من كتاب المغازي، والمراد بقوله: "معي" أي مع عسكري أو على أمري وفي طاعتي، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشهد بئر معونة وإنما أمرهم بالذهاب إليها، وغفل القرطبي فقال: قتل أخوها معه في بعض حروبه وأظنه يوم أحد، ولم يصب في ظنه، والله أعلم. "تنبيه": قال ابن المنير: مطابقة حديث أنس للترجمة من جهة قوله: "أو خلفه في أهله" لأن ذلك أعم من أن يكون في حياته أو بعد موته، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يجبر قلب أم سليم بزيارتها، ويعلل ذلك بأن أخاها قتل معه، ففيه أنه خلفه في أهله بخير بعد وفاته، وذلك من حسن عهده صلى الله عليه وسلم.

(6/51)


39 - باب التَّحَنُّطِ عِنْدَ الْقِتَالِ
2845- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ عَنْ مُوسَى بْنِ أَنَسٍ قَالَ وَذَكَرَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ قَالَ: "أَتَى أَنَسٌ ثَابِتَ بْنَ قَيْسٍ وَقَدْ حَسَرَ عَنْ فَخِذَيْهِ وَهُوَ يَتَحَنَّطُ فَقَالَ يَا عَمِّ مَا يَحْبِسُكَ أَنْ لاَ تَجِيءَ قَالَ الْآنَ يَا ابْنَ أَخِي وَجَعَلَ يَتَحَنَّطُ يَعْنِي مِنْ الْحَنُوطِ ثُمَّ جَاءَ فَجَلَسَ فَذَكَرَ فِي الْحَدِيثِ انْكِشَافًا مِنْ النَّاسِ فَقَالَ هَكَذَا عَنْ وُجُوهِنَا حَتَّى نُضَارِبَ الْقَوْمَ مَا هَكَذَا كُنَّا نَفْعَلُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِئْسَ مَا عَوَّدْتُمْ أَقْرَانَكُمْ". رَوَاهُ حَمَّادٌ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ.
قوله: "باب التحنط عند القتال" أي استعمال الحنوط، وهو ما يطيب به الميت، وقد تقدم بيانه في كتاب الجنائز. قوله: "عن موسى بن أنس" أي ابن مالك. قوله: "ذكر" كذا للحموي وللباقين "وذكره" بزيادة الواو وهي للحال. قوله: "يوم اليمامة" أي حين حاصرت المسلمون مسيلمة الكذاب وأتباعه في خلافة أبي بكر الصديق. قوله: "أتى أنس بن مالك ثابت بن قيس" بالنصب على المفعولية، قال الحميدي كذا قال، لم يقل عن أنس، وأخرجه البرقاني من وجه آخر فقال: "عن موسى بن أنس عن أبيه قال أتيت ثابت بن قيس". قلت: وصله الطبري والإسماعيلي من طريق ابن أبي زائدة عن ابن عون. وقال ابن سعد في الطبقات "حدثنا الأنصاري حدثنا ابن عون حدثنا موسى بن أنس عن أنس بن مالك قال: لما كان يوم اليمامة جئت إلى ثابت بن قيس بن شماس" فذكره، وأخرجه الحاكم في "المستدرك" من طريق أخرى عن الأنصاري كذلك. قوله: "وقد حسر" بمهملتين مفتوحتين أي كشف وزنه ومعناه. قوله: "يا عم" إنما دعاه بذلك لأنه كان أسن منه، ولأنه من قبيلة الخزرج.

(6/51)


قوله: "ما يحبسك" أي يؤخرك. وفي رواية الأنصاري "فقلت يا عم ألا ترى ما يلقى الناس" زاد معاذ بن معاذ عن ابن عون عند الإسماعيلي: "ألا تجئ" وكذا أخرجه خليفة في تاريخه عن معاذ وقال في جوابه "بلى يا ابن أخي الآن". قوله: "ألا" بالتشديد وتجيء بالنصب. قوله: "وجعل يتحنط يعني من الحنوط" كذا في الأصل، وكأن قائلها أراد دفع من يتوهم أنها من الحنطة، ولم يقع ذلك في رواية الأنصاري المذكورة. قوله: "فذكر من الناس انكشافا" في رواية ابن أبي زائدة "فجاء حتى جلس في الصف، والناس ينكشفون" أي ينهزمون. قوله: "فقال: هكذا عن وجوهنا" أي افسحوا لي حتى أقاتل. قوله: "ما هكذا كنا نفعل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي بل كان الصف لا ينحرف عن موضعه. قوله: "بئس ما عودتم أقرانكم" كذا للأكثر، ووقع في رواية المستملي: "عودكم أقرانكم" أي نظراؤكم، وهو جمع قرن بكسر القاف، وهو الذي يعادل الآخر في الشدة، والقرن بكسر القاف من يعادل في السن، وأراد ثابت بقوله هذا توبيخ المنهزمين، أي عودتم نظراءكم في القوة من عدوكم القرار منهم حتى طمعوا فيكم، وزاد معاذ بن معاذ الأنصاري وابن أبي زائدة في روايتهما: "فتقدم فقاتل حتى قتل". قوله: "رواه حماد" أي ابن أبي سلمة "عن ثابت عن أنس" كذا قال، وكأنه أشار إلى أصل الحديث، وإلا فرواية حماد أتم من رواية موسى بن أنس، وقد أخرجه ابن سعد والطبراني والحاكم من طرق عنه ولفظه: "أن ثابت بن قيس بن شماس جاء يوم اليمامة وقد تحنط ولبس ثوبين أبيضين يكفن فيهما وقد انهزم القوم، فقال: اللهم أني أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء المشركون واعتذر إليك مما صنع هؤلاء - ثم قال - بئس ما عودتم أقرانكم منذ اليوم، خلوا بيننا وبينهم ساعة، فحمل فقاتل حتى قتل، وكانت درعه قد سرقت، فرآه رجل فيما يرى النائم فقال: أنها في قدر تحت إكاف بمكان كذا، فأوصاه بوصايا، فوجدوا الدرع كما قال، وأنفذوا وصاياه". وأخرج الحاكم قصة الدرع والوصية مطولة من وجه آخر عن بنت ثابت بن قيس المذكورة وفيها "أنه أوصى بعتق بعض رقيقه"، وسمى الواقدي في كتاب الردة من وجه آخر من أوصى بعتقه وهم سعد وسالم، وأفاد الواقدي أن رائي المنام هو بلال المؤذن، قال المهلب وغيره: فيه جواز استهلاك النفس في الجهاد وترك الأخذ بالرخصة، والتهيئة للموت بالتحنط والتكفين، وفيه قوة ثابت بن قيس وصحة يقينه ونيته، وفيه التداعي إلى الحرب والتحريض عليها وتوبيخ من يفر، وفيه الإشارة إلى ما كان الصحابة عليه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم من الشجاعة والثبات في الحرب، واستدل به على أن الفخذ ليست عورة، وقد مضى البحث فيه في أوائل كتاب الصلاة.

(6/52)


40 - باب فَضْلِ الطَّلِيعَةِ
2846- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ يَأْتِينِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ يَوْمَ الأَحْزَابِ قَالَ الزُّبَيْرُ أَنَا ثُمَّ قَالَ مَنْ يَأْتِينِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ قَالَ الزُّبَيْرُ أَنَا. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيًّا وَحَوَارِيَّ الزُّبَيْرُ".
[الحديث 2846 – أطرافه في: 2847، 2997، 3719، 4113، 7261]
قوله: "باب فضل الطليعة" أي من يبعث إلى العدو ليطلع على أحوالهم، وهو اسم جنس يشمل الواحد فما فرقه، وقد تقدم في كتاب الشروط في حديث المسور الطويل بيان ذلك. قوله: "حدثنا سفيان" هو الثوري. قوله:

(6/52)


"من يأتيني بخبر القوم يوم الأحزاب" في رواية وهب بن كيسان عن جابر عند النسائي: "لما اشتد الأمر يوم بني قريظة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يأتينا بخبرهم" الحديث، وفيه أن الزبير توجه إلى ذلك ثلاث مرات، ومنه يظهر المراد بالقوم في رواية ابن المنكدر، وسيأتي بيان ذلك في المغازي، وأن الأحزاب من قريش وغيرهم لما جاءوا إلى المدينة وحفر النبي صلى الله عليه وسلم الخندق بلغ المسلمين أن بني قريظة من اليهود نقضوا العهد الذي كان بينهم وبين المسلمين ووافقوا قريشا على حرب المسلمين، وسيأتي الكلام على شرح "الحواري" في المناقب إن شاء الله تعالى.

(6/53)


41 - باب هَلْ يُبْعَثُ الطَّلِيعَةُ وَحْدَهُ
2747- حَدَّثَنَا صَدَقَةُ أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُنْكَدِرِ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "نَدَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ قَالَ صَدَقَةُ أَظُنُّهُ يَوْمَ الْخَنْدَقِ فَانْتَدَبَ الزُّبَيْرُ ثُمَّ نَدَبَ النَّاسَ فَانْتَدَبَ الزُّبَيْرُ ثُمَّ نَدَبَ النَّاسَ فَانْتَدَبَ الزُّبَيْرُ، فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيًّا وَإِنَّ حَوَارِيَّ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ".
قوله: "باب هل يبعث الطليعة وحده" ذكر فيه حديث جابر المذكور من رواية سفيان بن عيينة. وقوله: "ندب النبي صلى الله عليه وسلم الناس قال صدقة أظنه يوم الخندق" صدقة هو ابن الفضل شيخ البخاري فيه، وما ظنه هو الواقع فقد رواه الحميدي عن ابن عيينة فقال فيه: "يوم الخندق" ولم يشك، في الحديث جواز استعمال التجسس في الجهاد، وفيه منقبة للزبير وقوة قلبه وصحة يقينه، وفيه جواز سفر الرجل وحده، وأن النهي في السفر وحده إنما هو حيث لا تدعو الحاجة إلى ذلك، وسيأتي مزيد بحث في ذلك في أواخر الجهاد في "باب السير وحده". واستدل به بعض المالكية علي أن طليعة اللصوص المحاربين يقتل وإن كان لم يباشر قتلا ولا سلبا، وفي أخذه من هذا الحديث تكلف.

(6/53)


42 - باب سَفَرِ الِاثْنَيْنِ
2848- حدثنا أحمد بن يونس حدثنا أبو شهاب عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن مالك بن الحويرث قال: "انصرفت من عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال لنا – أنا وصاحب لي -: "أذِّنا وأقيما وليؤمَّكما أكبرُكمَا".
قوله: "باب سفر الاثنين" أي جوازه، والمراد سفر الشخصين لا سفر يوم الاثنين، بخلاف ما فهمه الداودي ثم اعترض على البخاري، ورده ابن التين بأن البخاري أورد فيه حديث مالك بن الحويرث "أذنا وأقيما" وأشار بذلك إلى ما وقع في بعض طرقه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهما ذلك حين أرادا السفر إلى قومهما، فيؤخذ الجواز من إذنه لهما. قلت: وكأنه لمح بضعف الحديث الوارد في الزجر عن سفر الواحد والاثنين، وهو ما أخرجه أصحاب السنن من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا: "الراكب شيطان والراكبان شيطانان، والثلاثة ركب". قلت: وهو حديث حسن الإسناد، وقد صححه ابن خزيمة والحاكم، وأخرجه الحاكم من حديث أبي هريرة وصححه وترجم له ابن خزيمة: "النهي عن سفر الاثنين وأن ما دون الثلاثة عصاة" لأن معنى قوله شيطان أي عاص. وقال الطبري: هذا الزجر زجر أدب وإرشاد لما يخشى على الواحد من الوحشة والوحدة، وليس بحرام فالسائر وحده في فلاة وكذا البائت في بيت وحده لا يأمن من الاستيحاش لا سيما إذا كان ذا فكرة رديئة وقلب ضعيف، والحق أن

(6/53)


43 - باب الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ
2849- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الْخَيْلُ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ".
[الحديث 2849 – طرفه في: 3644]
حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ حُصَيْنٍ وَابْنِ أَبِي السَّفَرِ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الْجَعْدِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ". قَالَ سُلَيْمَانُ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ تَابَعَهُ مُسَدَّدٌ عَنْ هُشَيْمٍ عَنْ حُصَيْنٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ.
[الحديث 2850 – أطرافه في: 2852، 3119، 3643]
2851- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ شُعْبَةَ عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الْبَرَكَةُ فِي نَوَاصِي الْخَيْلِ".
[الحديث 2851 – طرفه في: 3645]
قوله: "باب الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة" هكذا ترجم بلفظ الحديث من غير مزيد، وقد استنبط منه ما يأتي في الباب بعده وذكر فيه ثلاثة أحاديث. الأول: حديث ابن عمر قوله: "الخيل في نواصيها الخير" كذا في الموطأ ليس فيه: "معقود" ووقع بإثباتها عند الإسماعيلي من رواية عبد الله بن نافع عن مالك، وسيأتي في علامات النبوة من طريق عبيد الله بن عمر عن نافع بإثباتها وذلك في رواية أبي ذر عن الكشميهني وحده. الحديث الثاني: حديث عروة بن الجعد قوله: "عن حصين" بالتصغير هو ابن عبد الرحمن، وابن أبي السفر بفتح المهملة والفاء هو عبد الله. قوله: "عن عروة بن الجعد" في رواية زكريا عن الشعبي "حدثنا عروة" وهو في الباب الذي بعده. قوله: "قال سليمان" هو ابن حرب "عن شعبة عن عروة بن أبي الجعد" يعني أن سليمان بن حرب خالف حفص بن عمر في اسم والد عروة فقال حفص "عروة بن الجعد" وقال سليمان "عروة بن أبي الجعد"، وطريق سليمان وصلها الطبراني عن أبي مسلم الكجي عنه، وأخرجها أبو نعيم في المستخرج من وجه آخر عن أبي مسلم، قال الإسماعيلي: قال أكثر الرواة عن شعبة "عروة بن الجعد" إلا سليمان وابن أبي عدي. قلت: رواية ابن أبي عدي عند النسائي وتابعهما مسلم بن إبراهيم أخرجه ابن أبي خيثمة عنه، ولشعبة فيه إسناد آخر فقال فيه: "عروة بن الجعدي" أيضا أخرجه مسلم من طريق غندر عنه عن أبي إسحاق عن العيزار بن حريث عن عروة.

(6/54)


قوله: "تابعه مسدد عن هشيم عن حصين إلخ" هكذا رويناه موصولا في مسند مسدد رواية معاذ في المثنى عنه وقال فيه: "عروة بن أبي الجعد" كما قال البخاري، ولكن رواه أحمد في مسنده عن هشيم فقال: "عروة البارقي" وكذا قال زكريا في الباب الذي بعده، وكذا أخرجه مسلم من طريق ابن فضيل وابن إدريس عن حصين، وأخرجه من طريق جرير عن حصين فقال: "عروة بن الجعد" وصوب ابن المديني أنه "عروة بن أبي الجعد" وذكر ابن أبي حاتم أن اسم أبي الجعد سعد، وأما الرشاطي فقال: هو عروة بن عياض بن أبي الجعد نسب في الرواية إلى جده، قال: وكان ممن شهد فتوح الشام ونزلها، ثم نقله عثمان إلى الكوفة. قلت: ويأتي في علامات النبوة أنه كان يربط الخيل الكثيرة حتى قال الراوي: رأيت في داره سبعين فرسا. ولمسدد في هذا الحديث شيخ آخر سيأتي في "باب حل الغنائم" عنه عن خالد وهو الطحان عن حصين وقال فيه أيضا عروة البارقي، ووقع في رواية ابن إدريس عن حصين في هذا الحديث من الزيادة "والإبل عز لأهلها والغنم بركة" أخرجه البرقاني في مستخرجه ونبه عليه الحميدي. والبارقي بالموحدة وكسر الراء بعدها قاف نسبة إلى بارق جبل باليمن، وقيل ماء بالسراة نزله بنو عدي بن حارثة بن عمر. وقبيلة من الأزد، ولقب به منهم سعد بن عدي وكان يقال له بارق، وزعم الرشاطي أنه منسوب إلى ذي بارق قبيلة من ذي رعين. قوله: "حدثنا يحيى" هو القطان، وأبو التياح بمثناة وتحتانية ثقيلة وآخره مهملة، والإسناد كله بصريون. قوله: "البركة في نواصي الخيل" كذا وقع، ولا بد فيه من شيء محذوف يتعلق به المجرور وأولى ما يقدر ما ثبت في رواية أخرى فقد أخرجه الإسماعيلي من طريق عاصم بن علي بن شعبة بلفظ: "البركة تنزل في نواصي الخيل" وأخرجه من طريق ابن مهدي عن شعبة بلفظ: "الخير معقود في نواصي الخيل" وسيأتي في علامات النبوة من طريق خالد بن الحارث عن شعبة بلفظ حديث عروة البارقي إلا أنه ليس فيه: "إلى يوم القيامة" قال عياض إذا كان في نواصيها البركة فيبعد أن يكون فيها شؤم، فيحتمل أن يكون الشؤم الآتي ذكره في غير الخيل التي ارتبطت للجهاد وأن الخيل التي أعدت له هي المخصوصة بالخير والبركة أو يقال الخير والشر يمكن اجتماعهما في ذات واحدة، فإنه فسر الخير بالأجر والمغنم، ولا يمنع ذلك أن يكون ذلك الفرس مما يتشاءم به. قلت: وسيأتي مزيد لذلك بعد ثلاثة أبواب، قوله: "الخيل" المراد بها ما يتخذ للغزو بأن يقاتل عليه أو يرتبط للأجل ذلك لقوله في الحديث الآتي بعد أربعة أبواب "الخيل ثلاثة" الحديث، فقد روى أحمد من حديث أسماء بنت يزيد مرفوعا: "الخيل في نواصيها الخير معقود إلى يوم القيامة، فمن ربطها عدة في سبيل الله وأنفق عليه احتسابا كان شبعها وجوعها وريها وظمؤها وأرواثها وأبوالها فلاحا في موازينه يوم القيامة" الحديث، ولقوله في رواية زكريا كما في الباب الذي يليه "الأجر والمغنم" وقوله الأجر بدل من قوله الخير، أو هو خبر مبتدأ محذوف أي هو الأجر والمغنم، ووقع عند مسلم من رواية جرير عن حصين "قالوا: بم ذاك يا رسول الله؟ قال: الأجر والمغنم" قال الطيبي: يحتمل أن يكون الخير الذي فسر بالأجر والمغنم استعارة لظهوره وملازمته، وخص الناصية لرفعة قدرها وكأنه شبهه لظهوره بشيء محسوس معقود على مكان مرتفع فنسب الخير إلى لازم المشبه به وذكر الناصية تجريدا للاستعارة، والمراد بالناصية هنا الشعر المسترسل على الجبهة قاله الخطابي وغيره. قالوا: ويحتمل أنما يكون كني بالناصية عن جميع ذات الفرس كما يقال فلان مبارك الناصية، ويبعده لفظ الحديث الثالث، وقد روى مسلم من حديث

(6/55)


جرير قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلوي ناصية فرسه بإصبعه ويقول" فذكر الحديث، فيحتمل أن تكون الناصية خصت بذلك لكونها المقدم منها، إشارة إلى أن الفضل في الإقدام بها على العدو دون المؤخر لما فيه من الإشارة إلى الأدبار، واستدل به على أن الذي ورد فيها من الشؤم على غير ظاهره، لكن يحتمل أن يكون المراد هنا جنس الخيل، أي أنها بصدد أن يكون فيها الخير، فأما من ارتبطها لعمل غير صالح فحصول الوزر لطريان ذلك الأمر العارض، وسيأتي مزيد لذلك في مكانه بعد أبواب. قال عياض: في هذا الحديث مع وجيز لفظه من البلاغة والعذوبة ما لا مزيد عليه في الحسن، مع الجناس السهل الذي بين الخيل والخير. قال الخطابي: وفيه إشارة إلى أن المال الذي يكتسب باتخاذ الخيل من خير وجوه الأموال وأطيبها، والعرب تسمى المال خيرا كما تقدم في الوصايا في قوله تعالى: {إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ} وقال ابن عبد البر: فيه إشارة إلى تفضيل الخيل على غيرها من الدواب، لأنه لم يأت عنه صلى الله عليه وسلم في شيء غيرها مثل هذا القول، وفي النسائي عن أنس بن مالك "لم يكن شيء أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخيل". الحديث الثالث=

18.

الكتاب مجلد  18. فتح الباري أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ)
 =باب الجهاد ماض مع البر و الفاجر
...
44 - باب الْجِهَادُ مَاضٍ مَعَ الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ
لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ"
2852- حدثنا أبو نعيم حدثنا زكريا عن عامر حدثنا عروة البارقي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الخيلُ معقُودٌ في نواصيهًا الخيرُ إلى يومِ القيَامةِ: الأجرُ وَالمغنَمُ".
قوله: "باب الجهاد ماض مع البر والفاجر" هذه الترجمة لفظ حديث أخرجه بنحوه أبو داود وأبو يعلى مرفوعا وموقوفا عن أبي هريرة، ولا بأس برواته، إلا أن مكحولا لم يسمع من أبي هريرة. وفي الباب عن أنس أخرجه سعيد بن منصور وأبو داود أيضا وفي إسناده ضعف. قوله: "لقول النبي صلى الله عليه وسلم الخيل معقود إلخ" سبقه إلى الاستدلال بهذا الإمام أحمد، لأنه صلى الله عليه وسلم ذكر بقاء الخير في نواصي الخيل إلى يوم القيامة، وفسره بالأجر والمغنم، المغنم المقترن بالأجر إنما يكون من الخيل بالجهاد، ولم يقيد ذلك بما إذا كان الإمام عادلا فدل على أن لا فرق في حصول هذا الفضل بين أن يكون الغزو مع الإمام العادل أو الجائر. وفي الحديث الترغيب في الغزو على الخيل، وفيه أيضا بشرى ببقاء الإسلام وأهله إلى يوم القيامة، لأن من لازم بقاء الجهاد بقاء المجاهدين وهم المسلمون، وهو مثل الحديث الآخر "لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق" الحديث. واستنبط منه الخطابي إثبات سهم للفرس يستحقه الفارس من أجله، فإن أراد السهم الزائد للفارس على الراجل فلا نزاع فيه، وإن أراد أن للفرس سهمين غير سهم راكبه فهو محل النزاع ولا دلالة من الحديث عليه، وسيأتي القول فيه قريبا إن شاء الله تعالى. "تنبيه": حكى ابن التين أنه وقع في رواية أبي الحسن القابسي في لفظ الترجمة "الجهاد ماض على البر والفاجر" قال: ومعناه أنه يجب على كل أحد. قلت: إلا أنه لم يقع في شيء من النسخ التي وقفنا عليها، وقد وجدته في نسخة قديمة من رواية القابسي كالجماعة، والذي يليق بلفظ الحديث ما وقع في سائر الأصول بلفظ: "مع" بدل "على" والله أعلم. "تكملة": روى حديث: "الخيل معقود في نواصيها الخير" جمع من الصحابة غير من تقدم ذكره، وهم ابن عمر وعروة وأنس

(6/56)


وجرير، وممن لم يتقدم سلمة بن نفيل وأبو هريرة عند النسائي وعتبة بن عبد عند أبي داود وجابر وأسماء بنت يزيد وأبو ذر عند أحمد والمغيرة وابن مسعود عند أبي يعلى وأبو كبشة عند أبي عوانة وابن حبان في صحيحيهما وحذيفة عند البزار وسوادة بن الربيع وأبو أمامة وعريب - وهو بفتح المهلة وكسر الراء بعدها تحتانية ساكنة ثم موحدة - المليكي والنعمان بن بشير وسهل بن الحنظلية عند الطبراني وعن علي عند ابن أبي عاصم في الجهاد. وفي حديث جابر من الزيادة "في نواصيها الخير والنيل" وهو بفتح النون وسكون التحتانية بعدها لام وزاد أيضا: "وأهلها معانون عليها، فخذوا بنواصيها وادعوا بالبركة" ، وقوله: "وأهلها معانون عليها" في رواية سلمة بن نفيل أيضا.

(6/57)


باب مناحتبس فرسا في سبيل الله
...
45 - باب مَنْ احْتَبَسَ فَرَسًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى [60 الأنفال]: {وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ}
2853- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ أَخْبَرَنَا طَلْحَةُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ سَمِعْتُ سَعِيدًا الْمَقْبُرِيَّ يُحَدِّثُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ احْتَبَسَ فَرَسًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِيمَانًا بِاللَّهِ وَتَصْدِيقًا بِوَعْدِهِ فَإِنَّ شِبَعَهُ وَرِيَّهُ وَرَوْثَهُ وَبَوْلَهُ فِي مِيزَانِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ".
قوله: "باب من احتبس فرسا في سبيل الله لقوله عز وجل: {وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} أي بيان فضله، وروى ابن مردويه في التفسير من حديث ابن عباس في هذه الآية قال: "إن الشيطان لا يستطيع ناصية فرس". قوله: "حدثنا علي بن حفص" هو المروزي، قال البخاري في التاريخ: لقيته بعسقلان سنة سبع عشرة. قلت: وما أخرج عنه غير هذا الحديث وآخر في مناقب الزبير موقوفا وآخر في آخر كتاب القدر قرنه وفيه ببشر بن محمد، وقد تعقب ابن أبي حاتم تسميته على البخاري في الجزء الذي جمع فيه أوهامه وقال: الصواب أنه ابن الحسين بن نشيط بفتح النون وكسر المعجمة بوزن عظيم قال: وقد لقيه أبي بعسقلان سنة سبع عشرة. قلت: فيحتمل أن يكون حفص اسم جده، وقد وقع للبخاري نسبة بعض مشايخه إلى أجدادهم. قوله: "أخبرنا طلحة بن أبي سعيد" هو المصري نزيل الإسكندرية وكان أصله من المدينة، وليس له في البخاري سوى هذا الموضع، بل قال أبو سعيد بن يونس: ما روى حديثا مسندا غيره. قوله: "وتصديقا بوعده" أي الذي وعد به من الثواب على ذلك، وفيه إشارة إلى المعاد كما أن في لفظ الإيمان إشارة إلى المبدأ. وقوله: "شبعه" بكسر أوله أي ما يشبع به، وكذا قوله: "ريه" بكسر الراء وتشديد التحتانية ووقع في حديث أسماء بنت يزيد الذي أشرت إليه في الباب الماضي "ومن ربطها رياء وسمعة" الحديث وقال فيه: "فإن شبعها وجوعها إلخ خسران في موازينه" قال المهلب وغيره: في هذا الحديث جواز وقف الخيل للمدافعة عن المسلمين، ويستنبط منه جواز وقف غير الخيل من المنقولات ومن غير المنقولات من باب الأولى. وقوله: "وروثه" يريد ثواب ذلك لا أن الأرواث بعينها توزن، وفيه أن المرء يؤجر بنيته كما يؤجر العامل، وأنه لا بأس بذكر الشيء المستقذر بلفظه للحاجة لذلك. وقال ابن أبي جمرة: يستفاد من هذا الحديث أن هذه الحسنات تقبل من صاحبها لتنصيص الشارع على أنها في ميزانية، بخلاف غيرها فقد لا تقبل فلا تدخل الميزان، وروى ابن ماجه من حديث تميم الداري مرفوعا: "من ارتبط فرسا في سبيل الله ثم عالج علفه بيده كان له بكل حبة حسنة".

(6/57)


باب اسم الفرس و الحمار
...
46 - باب اسْمِ الْفَرَسِ وَالْحِمَارِ
2854- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ "أَنَّهُ خَرَجَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَخَلَّفَ أَبُو قَتَادَةَ مَعَ بَعْضِ أَصْحَابِهِ وَهُمْ مُحْرِمُونَ وَهُوَ غَيْرُ مُحْرِمٍ فَرَأَوْا حِمَارًا وَحْشِيًّا قَبْلَ أَنْ يَرَاهُ فَلَمَّا رَأَوْهُ تَرَكُوهُ حَتَّى رَآهُ أَبُو قَتَادَةَ فَرَكِبَ فَرَسًا لَهُ يُقَالُ لَهُ الْجَرَادَةُ فَسَأَلَهُمْ أَنْ يُنَاوِلُوهُ سَوْطَهُ فَأَبَوْا فَتَنَاوَلَهُ فَحَمَلَ فَعَقَرَهُ ثُمَّ أَكَلَ فَأَكَلُوا فَنَدِمُوا فَلَمَّا أَدْرَكُوهُ قَالَ هَلْ مَعَكُمْ مِنْهُ شَيْءٌ قَالَ مَعَنَا رِجْلُهُ فَأَخَذَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَكَلَهَا".
2855- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا مَعْنُ بْنُ عِيسَى حَدَّثَنَا أُبَيُّ بْنُ عَبَّاسِ بْنِ سَهْلٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: "كَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَائِطِنَا فَرَسٌ يُقَالُ لَهُ اللُّحَيْفُ ". قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ وَقَالَ بَعْضُهُمُ: "اللُّخَيْفُ".
2856- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ سَمِعَ يَحْيَى بْنَ آدَمَ حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ عَنْ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "كُنْتُ رِدْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حِمَارٍ يُقَالُ لَهُ عُفَيْرٌ فَقَالَ يَا مُعَاذُ هَلْ تَدْرِي حَقَّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ؟ وَمَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: فَإِنَّ حَقَّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَحَقَّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ أَنْ لاَ يُعَذِّبَ مَنْ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلاَ أُبَشِّرُ بِهِ النَّاسَ؟ قَالَ: لاَ تُبَشِّرْهُمْ فَيَتَّكِلُوا".
[الحديث 2856 – أطرافه في: 5967، 6267، 6500، 7373]
2857- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ سَمِعْتُ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "كَانَ فَزَعٌ بِالْمَدِينَةِ فَاسْتَعَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَسًا لَنَا يُقَالُ لَهُ مَنْدُوبٌ فَقَالَ مَا رَأَيْنَا مِنْ فَزَعٍ وَإِنْ وَجَدْنَاهُ لَبَحْرًا".
قوله: "باب اسم الفرس والحمار" أي مشروعية تسميتهما، وكذا غيرهما من الدواب بأسماء تخصها غير أسماء أجناسها. وقد اعتنى من ألف في السيرة النبوية بسرد أسماء ما ورد في الأخبار من خيله صلى الله عليه وسلم وغير ذلك من دوابه، وفي الأحاديث الواردة في هذا الباب ما يقوي قول من ذكر أنساب بعض الخيول العربية الأصيلة لأن الأسماء توضع للتمييز بين أفراد الجنس. وذكر البخاري في هذا الباب أربعة أحاديث: الأول: حديث أبي قتادة في قصة صيد الحمار الوحشي، وقد تقدمت مباحثه في كتاب الحج، والغرض منه قوله فيه: "فركب فرسا يقال له الجرادة " وهو بفتح الجيم وتخفيف الراء، والجراد اسم جنس. ووقع في السيرة لابن هشام أن اسم فرس أبي قتادة الحزوة

(6/58)


أي بفتح المهملة وسكون الزاي بعدها واو، فإما أن يكون لها اسمان، وإما أن أحدهما تصحف والذي في الصحيح هو المعتمد. ومحمد بن أبي بكر شيخ البخاري فيه هو المقدمي، وحكى أبو علي الجياني أنه وقع في نسخة أبي زيد المروزي "محمد بن بكر" وهو غلط. حديث سهل وهو ابن سعبد الساعدي. قوله: "يقال له اللحيف" يعني بالمهملة والتصغير، قال ابن قرقول: وضبطوه عن ابن سراج بوزن رغيف. قلت: ورجحه الدمياطي، وبه جزم الهروي وقال: سمي بذلك لطول ذنبه، فعيل بمعنى فاعل، وكأنه يلحف الأرض بذنبه. قوله: "وقال بعضهم اللخيف" بالخاء المعجمة، وحكوا فيه الوجهين، وهذه رواية عبد المهيمن بن عباس بن سهل وهو أخو أبي بن عباس، ولفظه عند ابن منده "كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم عند سعد بن سعد والد سهل ثلاثة أفراس، فسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يسميهن لزاز - بكسر اللام وبزايين الأولى خفيفة - والظرب بفتح المعجمة وكسر الراء بعدها موحدة، واللخيف" وحكى سبط ابن الجوزي أن البخاري قيده بالتصغير والمعجمة قال: وكذا حكاه ابن سعد عن الواقدي وقال: أهداه له ربيعة بن أبي البراء مالك بن عامر العامري وأبوه الذي يعرف بملاعب الأسنة انتهى. ووقع عند ابن أبي خيثمة: أهداه له فروة بن عمرو. وحكى ابن الأثير في النهاية أنه روى بالجيم بدل الخاء المعجمة، وسبقه إلى ذلك صاحب المغيث ثم قال: فإن صح فهو سهم عريض النصل كأنه سمي بذلك لسرعته. وحكى ابن الجوزي أنه روى بالنون بدل اللام من النحافة. الثالث: حديث معاذ بن جبل قوله: "عن عمرو بن ميمون" هو الأودي بفتح الهمزة وسكون الواو من كبار التابعين، وسيأتي أنه أدرك الجاهلية في أخبار الجاهلية. وأبو إسحاق الراوي عنه هو السبيعي. والإسناد كله كوفيون إلا الصحابي، وأبو الأحوص شيخ يحيى بن آدم فيه كنت أظن أنه سلام بالتشديد وهو ابن سليم وعلى ذلك يدل كلام المزي، لكن أخرج هذا الحديث النسائي عن محمد بن عبد الله بن المبارك المخزومي عن يحيى بن آدم شيخ شيخ البخاري فيه فقال: "عن عمار بن زريق عن أبي إسحاق" والبخاري أخرجه ليحيى بن آدم عن أبي الأحوص عن أبي إسحاق، وكنية عمار بن زريق أبو الأحوص فهو هو، ولم أر من نبه على ذلك. وقد أخرجه مسلم عن أبي بكر ابن أبي شيبة وأبو داود عن هناد بن السري كلاهما عن أبي الأحوص عن أبي إسحاق، وأبو الأحوص هذا هو سلام بن سليم فإن أبا بكر وهنادا أدركاه ولم يدركا عمارا والله أعلم. قوله: "كنت ردف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار يقال له عفير" بالمهملة والفاء مصغر مأخوذ من العفر وهو لون التراب كأنه سمي بذلك للونه والعفرة حمرة يخالطها بياض، وهو تصغير أعفر أخرجوه عن بناء أصله كما قالوا سويد في تصغير أسود، ووهم من ضبطه بالغين المعجمة وهو غير الحمار الآخر الذي يقال له يعفور، وزعم ابن عبدوس أنهما واحد وقواه صاحب الهدي، ورده الدمياطي فقال: عفير أهداه المقوقس ويعفور أهداه فروة بن عمرو وقيل بالعكس. ويعفور بسكون المهملة وضم الفاء هو اسم ولد الظبي كأنه سمي بذلك لسرعته. قال الواقدي: نفق يعفور منصرف النبي صلى الله عليه وسلم من حجة الوداع، وبه جزم النووي عن ابن الصلاح، وقيل طرح نفسه في بئر يوم مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقع ذلك في حديث طويل ذكره ابن حبان في ترجمة محمد بن مرثد في الضعفاء، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم غنمه من خيبر، وأنه كلم النبي صلى الله عليه وسلم وذكر له أنه كان ليهودي وأنه خرج من جده ستون حمارا لركوب الأنبياء فقال: ولم يبق منهم غيري، وأنت خاتم الأنبياء، فسماه يعفورا. وكان يركبه في حاجته ويرسله إلى الرجل فيقرع بابه برأسه فيعرف أنه أرسل إليه، فلما مات النبي صلى الله عليه وسلم جاء إلى بئر أبي الهيثم بن التيهان فتردى فيها فصارت قبره، قال ابن حبان: لا أصل له، وليس سنده

(6/59)


بشيء. قوله: "أن تعبدوه ولا تشركوا" في رواية الكشميهني: "أن تعبدوا" بحذف المفعول. قوله: "فيتكلوا" بتشديد المثناة. وفي رواية الكشميهني بسكون النون، وقد تقدم شرح ذلك في أواخر كتاب العلم، وسيأتي هذا الحديث في الرقاق من طريق أنس بن مالك عن معاذ ولم يسم فيه الحمار، ونستكمل بقية الكلام عليه هناك إن شاء الله تعالى. وتقدم في العلم من حديث أنس بن مالك أيضا لكن فيما يتعلق بشهادة أن لا إله إلا الله، وهذا فيما يتعلق بحق الله على العباد فهما حديثان، ووهم الحميدي ومن تبعه حيث جعلوهما حديثا واحدا. نعم وقع في كل منهما منعه صلى الله عليه وسلم أن يخبر بذلك الناس لئلا يتكلموا، ولا يلزم من ذلك أن يكونا حديثا واحدا. وزاد في الحديث الذي في العلم "فأخبر بها معاذ عند موته تأثما" ولم يقع ذلك هنا والله أعلم. الحديث الرابع: حديث أنس في فرس أبي طلحة، وقد تقدم في أواخر الهبة مع شرحه، وهو ظاهر فيما ترجم به هنا.

(6/60)


47 - باب مَا يُذْكَرُ مِنْ شُؤْمِ الْفَرَسِ
2858- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّمَا الشُّؤْمُ فِي ثَلاَثَةٍ فِي الْفَرَسِ وَالْمَرْأَةِ وَالدَّارِ".
2859- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي حَازِمِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إِنْ كَانَ فِي شَيْءٍ فَفِي الْمَرْأَةِ وَالْفَرَسِ وَالْمَسْكَنِ".
[الحديث 2859 – طرفه في: 5095]
قوله: "باب ما يذكر من شؤم الفرس" أي هل هو على عمومه، أو مخصوص ببعض الخيل؟ وهل هو على ظاهره، أو مؤول؟ وسيأتي تفصيل ذلك. وقد أشار بإيراد حديث سهل بعد حديث ابن عمر إلى أن الحصر الذي في حديث ابن عمر ليس على ظاهره، وبترجمة الباب الذي بعده وهي "الخيل لثلاثة" إلى أن الشؤم مخصوص ببعض الخيل دون بعض وكل ذلك من لطيف نظره ودقيق فكره. قوله: "أخبرني سالم" كذا صرح شعيب عن الزهري بإخبار سالم له، وشذ ابن أبي ذئب فأدخل بين الزهري وسالم محمد بن زبيد بن قنفذ، واقتصر شعيب على سالم وتابعه ابن جريج عن ابن شهاب عند أبي عوانة وكذا عثمان بن عمر عن يونس عن الزهري كما سيأتي في الطب، وكذا قال أكثر أصحاب سفيان عنه عن الزهري، ونقل الترمذي عن ابن المديني والحميدي أن سفيان كان يقول: لم يرو الزهري هذا الحديث إلا عن سالم انتهى. وكذا قال أحمد عن سفيان: إنما نحفظه عن سالم. لكن هذا الحصر مردود فقد حدث به مالك عن الزهري عن سالم وحمزة ابني عبد الله بن عمر عن أبيهما، ومالك من كبار الحفاظ ولا سيما في حديث الزهري، وكذا رواه ابن أبي عمر عن سفيان نفسه أخرجه مسلم والترمذي عنه، وهو يقتضي رجوع سفيان عما سبق من الحضر. وأما الترمذي فجعل رواية ابن أبي عمر هذه مرجوحة، وقد تابع مالكا أيضا يونس من رواية ابن وهب عنه كما سيأتي في الطب، وصالح بن كيسان عند مسلم وأبو أويس عند أحمد ويحيى بن سعيد وابن أبي عتيق وموسى بن عقبة ثلاثتهم عند النسائي كلهم عن الزهري عنهما، ورواه إسحاق ابن راشد عن الزهري فاقتصر على حمزة أخرجه النسائي، وكذا أخرجه ابن خزيمة وأبو عوانة من طريق عقيل وأبو عوانة من طريق شبيب بن

(6/60)


سعيد كلاهما عن الزهري، ورواه القاسم بن مبرور عن يونس فاقتصر على حمزة أخرجه النسائي أيضا. وكذا أخرجه أحمد من طريق رباح بن زيد عن معمر مقتصرا على حمزة، وأخرجه النسائي من طريق عبد الواحد عن معمر فاقتصر على سالم، فالظاهر أن الزهري يجمعهما تارة ويفرد أحدهما أخرى، وقد رواه إسحاق في مسنده عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري فقال: عن سالم أو حمزة أو كلاهما، وله أصل عن حمزة من غير رواية الزهري أخرجه مسلم من طريق عتبة بن مسلم عنه والله أعلم. قوله: "إنما الشؤم" بضم المعجمة وسكون الهمزة وقد تسهل فتصير واوا. قوله: "في ثلاث" يتعلق بمحذوف تقديره كائن قاله ابن العربي، قال: والحصر فيها بالنسبة إلى العادة لا بالنسبة إلى الخلقة انتهى. وقال غيره: إنما خصت بالذكر لطول ملازمتها، وقد رواه مالك وسفيان وسائر الرواة بحذف "إنما" لكن في رواية عثمان بن عمر "لا عدوى ولا طيرة، وإنما الشؤم في الثلاثة" قال مسلم لم يذكر أحد في حديث ابن عمر "لا عدوى " إلا عثمان بن عمر. قلت: ومثله في حديث سعد بن أبي وقاص الذي أخرجه أبو داود، لكن قال فيه، "إن تكن الطيرة في شيء" الحديث، والطيرة والشؤم بمعنى واحد كما سأبينه في أواخر شرح الطب إن شاء الله تعالى، وظاهر الحديث أن الشؤم والطيرة في هذه الثلاثة، قال ابن قتيبة: ووجهه أن أهل الجاهلية كانوا يتطيرون فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم وأعلمهم أن لا طيرة، فلما أبوا أن ينتهوا بقيت الطيرة في هذه الأشياء الثلاثة. قلت: فمشى ابن قتيبة على ظاهره، ويلزم على قوله أن من تشاءم بشيء منها نزل به ما يكره، قال القرطبي: ولا يظن به أنه يحمله على ما كانت الجاهلية تعتقده بناء على أن ذلك يضر وينفع بذاته فإن ذلك خطأ وإنما عني أن هذه الأشياء هي أكثر ما يتطير به الناس، فمن وقع في نفسه شيء أبيح له أن يتركه ويستبدل به غيره، قلت: وقد وقع في رواية عمر العسقلاني - وهو ابن محمد ابن زيد بن عبد الله بن عمر - عن أبيه عن ابن عمر كما سيأتي في النكاح بلفظ: "ذكروا الشؤم فقال: إن كان في شيء ففي" ولمسلم: "إن يك من الشؤم شيء حق" وفي رواية عتبة بن مسلم: "إن كان الشؤم في شيء" وكذا في حديث جابر عند مسلم وهو موافق لحديث سهل بن سعد ثاني حديثي الباب، وهو يقتضي عدم الجزم بذلك بخلاف رواية الزهري، قال ابن العربي: معناه إن كان خلق الله الشؤم في شيء مما جرى من بعض العادة فإنما يخلقه في هذه الأشياء، قال المازري: بحمل هذه الرواية إن يكن الشؤم حقا فهذه الثلاث أحق به، بمعنى أن النفوس يقع فيها التشاؤم بهذه أكثر مما يقع بغيرها. وجاء عن عائشة أنها أنكرت هذا الحديث، فروى أبو داود الطيالسي في مسنده عن محمد بن راشد عن مكحول قال: قيل لعائشة إن أبا هريرة قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الشؤم في ثلاثة" فقالت: لم يحفظ، إنه دخل وهو يقول: "قاتل الله اليهود، يقولون الشؤم في ثلاثة" فسمع آخر الحديث ولم يسمع أوله. قلت: ومكحول لم يسمع من عائشة فهو منقطع، لكن روى أحمد وابن خزيمة والحاكم من طريق قتادة عن أبي حسان "أن رجلين من بني عامر دخلا على عائشة فقالا: إن أبا هريرة قال: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الطيرة في الفرس والمرأة والدار" فغضبت غضبا شديدا وقالت: ما قاله، وإنما قال: "إن أهل الجاهلية كانوا يتطيرون من ذلك" انتهى. ولا معنى لإنكار ذلك على أبي هريرة مع موافقة من ذكرنا من الصحابة له في ذلك، وقد تأوله غيرها على أن ذلك سيق لبيان اعتقاد الناس في ذلك، لا أنه إخبار من النبي صلى الله عليه وسلم بثبوت ذلك، وسياق الأحاديث الصحيحة المتقدم ذكرها يبعد هذا التأويل. قال ابن العربي: هذا جواب ساقط لأنه صلى الله عليه وسلم لم يبعث ليخبر الناس عن معتقداتهم الماضية والحاصلة، وإنما بعث ليعلمهم ما يلزمهم أن يعتقدوه انتهى.

(6/61)


وأما ما أخرجه الترمذي من حديث حكيم بن معاوية قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا شؤم، وقد يكون اليمن في المرأة والدار والفرس" ففي إسناده ضعف ثم مخالفته للأحاديث الصحيحة. وقال عبد الرزاق في مصنفه عن معمر سمعت من يفسر هذا الحديث يقول: شؤم المرأة إذا كانت غير ولود وشؤم الفرس إذا لم يغز عليه، وشؤم الدار جار السوء. وروى أبو داود في الطب عن ابن القاسم عن مالك أنه سئل عنه فقال: كم من دار سكنها ناس فهلكوا. قال المازري: فيحمله مالك على ظاهره، والمعنى أن قدر الله ربما اتفق ما يكره عند سكنى الدار فتصير في ذلك كالسبب فتسامح في إضافة الشيء إليه اتساعا. وقال ابن العربي: لم يرد مالك إضافة الشؤم إلى الدار، وإنما هو عبارة عن جري العادة فيها فأشار إلى أنه ينبغي للمرء الخروج عنها صيانة لاعتقاده عن التعلق بالباطل. وقيل: معنى الحديث أن هذه الأشياء يطول تعذيب القلب بها مع كراهة أمرها لملازمتها بالسكنى والصحبية ولو لم يعتقد الإنسان الشؤم فيها، فأشار الحديث إلى الأمر بفراقها ليزول التعذيب. قلت: وما أشار إليه ابن العربي في تأويل كلام مالك أولى، وهو نظير الأمر بالفرار من المجذوم مع صحة نفي العدوى، والمراد بذلك حسم المادة وسد الذريعة لئلا يوافق شيء من ذلك القدر فيعتقد من وقع له أن ذلك من العدوى أو من الطيرة فيقع في اعتقاد ما نهى عن اعتقاده، فأشير إلى اجتناب مثل ذلك. والطريق فيمن وقع له ذلك في الدار مثلا أن يبادر إلى التحول منها، لأنه متى استمر فيها ربما حمله ذلك على اعتقاد صحة الطيرة والتشاؤم. وأما ما رواه أبو داود وصححه الحاكم من طريق إسحاق بن طلحة عن أنس "قال رجل: يا رسول الله إنا كنا في دار كثير فيها عددنا وأموالنا، فتحولنا إلى أخرى فقل فيها ذلك، فقال: ذروها ذميمة". وأخرج من حديث فروة بن مسيك بالمهلة مصغرا ما يدل على أنه هو السائل، وله شاهد من حديث عبد الله بن شداد بن الهاد أحد كبار التابعين، وله رواية بإسناد صحيح إليه عند عبد الرزاق، قال ابن الحربي ورواه مالك عن يحيى بن سعيد منقطعا قال: والدار المذكورة في حديثه كانت دار مكمل بضم الميم وسكون الكاف وكسر الميم بعدها لام - وهو ابن عوف أخو عبد الرحمن ابن عوف - قال: وإنما أمرهم بالخروج منها لاعتقادهم أن ذلك منها، وليس كما ظنوا، لكن الخالق جل وعلا جعل ذلك وفقا لظهور قضائه، وأمرهم بالخروج منها لئلا يقع لهم بعد ذلك شيء فيستمر اعتقادهم. قال ابن العربي: وأفاد وصفها بكونها ذميمة جواز ذلك، وأن ذكرها بقبيح ما وقع فيها سائغ من غير أن يعتقد أن ذلك كان منها، ولا يمتنع ذم محل المكروه وإن كان ليس منه شرعا كما يذم العاصي على معصيته وإن كان ذلك بقضاء الله تعالى. وقال الخطابي: هو استثناء من غير الجنس، ومعناه إبطال مذهب الجاهلية في التطير، فكأنه قال: إن كانت لأحدكم دار يكره سكناها أو امرأة يكره صحبتها أو فرس يكره سيره فليفارقه. قال: وقيل: إن شؤم الدار ضيقها وسوء جوارها، وشؤم المرأة أن لا تلد، وشؤم الفرس أن لا يغزى عليه. وقيل المعنى ما جاء بإسناد ضعيف رواه الدمياطي في الخيل "إذا كان الفرس ضروبا فهو مشئوم، وإذا حنت المرأة إلى بعلها الأول فهي مشئومة، وإذا كانت الدار بعيدة من المسجد لا يسمع منها الأذان فهي مشئومة". وقيل: كان قوله ذلك في أول الأمر، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ} الآية، حكاه ابن عبد البر، والنسخ لا يثبت بالاحتمال، لا سيما مع إمكان الجمع ولا سيما وقد ورد في نفس هذا الخبر نفي التطير ثم إثباته في الأشياء المذكورة. وقيل: يحمل الشؤم على قلة الموافقة وسوء الطباع، وهو كحديث سعد بن أبي وقاص رفعه "من سعادة المرء المرأة الصالحة، والمسكن الصالح، والمركب الهنيء. ومن شقاوة

(6/62)


المرء المرأة السوء، والمسكن السوء، والمركب السوء" أخرجه أحمد. وهذا يختص ببعض أنواع الأجناس المذكورة دون بعض، وبه صرح ابن عبد البر فقال: يكون لقوم دون قوم، وذلك كله بقدر الله. وقال المهلب ما حاصله: أن المخاطب بقوله: "الشؤم في ثلاثة" من التزم التطير ولم يستطع صرفه عن نفسه، فقال لهم: إنما يقع ذلك في هذه الأشياء التي تلازم في غالب الأحوال، فإذا كان كذلك فاتركوها عنكم ولا تعذبوا أنفسكم بها، ويدل على ذلك تصديره الحديث بنفي الطيرة. واستدل لذلك بما أخرجه ابن حبان عن أنس رفعه: "لا طيرة، والطيرة على من تطير، وإن تكن في شيء ففي المرأة" الحديث، وفي صحته نظر لأنه من رواية عتبة بن حميد عن عبيد الله بن أبي بكر عن أنس، وعتبة مختلف فيه، وسيكون لنا عودة إلى بقية ما يتعلق بالتطير والفأل في آخر كتاب الطب حيث ذكره المصنف إن شاء الله تعالى. "تكميل": اتفقت الطرق كلها على الاقتصار على الثلاثة المذكورة، ووقع عند ابن إسحاق في رواية عبد الرزاق المذكورة: قال معمر قالت أم سلمة "والسيف" قال أبو عمر: رواه جويرية عن مالك عن الزهري عن بعض أهل أم سلمة عن أم سلمة، قلت: أخرجه الدار قطني في "غرائب مالك" وإسناده صحيح إلى الزهري، ولم ينفرد به جويرية بل تابعه سعيد بن داود عن مالك أخرجه الدار قطني أيضا قال: والمبهم المذكور هو أبو عبيدة بن عبد الله بن زمعة، سماه عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري في روايته. قلت: أخرجه ابن ماجه من هذا الوجه موصولا فقال: "عن الزهري عن أبي عبيدة بن عبد الله بن زمعة عن زينب بنت أم سلمة عن أم سلمة أنها حدثت بهذه الثلاثة وزادت فيهن والسيف" وأبو عبيدة المذكور هو ابن بنت أم سلمة أمه زينب بنت أم سلمة، وقد روى النسائي حديث الباب من طريق ابن أبي ذئب عن الزهري فأدرج فيه السيف وخالف فيه في الإسناد أيضا. قوله: "عن أبي حازم" هو سلمة بن دينار. قوله: "إن كان في شيء ففي المرأة والفرس والمسكن" كذا في جميع النسخ، وكذا هو في الموطأ، لكن زاد في آخره: "يعني الشؤم" وكذا رواه مسلم، ورواه إسماعيل بن عمر عن مالك ومحمد بن سليمان الحراني عن مالك بلفظ: "إن كان الشؤم في شيء ففي المرأة إلخ" أخرجهما الدار قطني، لكن لم يقل إسماعيل في شيء، وأخرجه أبو بكر بن أبي شيبة والطبراني من رواية هشام بن سعد عن أبي حازم قال: "ذكروا الشؤم عند سهل بن سعد فقال" فذكره، وقد أخرجه مسلم عن أبي بكر لكن لم يسق لفظه.

(6/63)


48 - باب الْخَيْلُ لِثَلاَثَةٍ، وَقَوْلُ الله عزَّ وجلَّ [8 النحل] {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}
2860- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "الْخَيْلُ لِثَلاَثَةٍ لِرَجُلٍ أَجْرٌ وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ وَعَلَى رَجُلٍ وِزْرٌ فَأَمَّا الَّذِي لَهُ أَجْرٌ فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأَطَالَ فِي مَرْجٍ أَوْ رَوْضَةٍ فَمَا أَصَابَتْ فِي طِيَلِهَا ذَلِكَ مِنْ الْمَرْجِ أَوْ الرَّوْضَةِ كَانَتْ لَهُ حَسَنَاتٍ وَلَوْ أَنَّهَا قَطَعَتْ طِيَلَهَا فَاسْتَنَّتْ شَرَفًا أَوْ شَرَفَيْنِ كَانَتْ أَرْوَاثُهَا وَآثَارُهَا حَسَنَاتٍ لَهُ وَلَوْ أَنَّهَا مَرَّتْ بِنَهَرٍ فَشَرِبَتْ مِنْهُ وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَسْقِيَهَا كَانَ ذَلِكَ حَسَنَاتٍ لَهُ. فأمَّا الرَّجلُ الَّذي هي عليه وزر، فهوَ رَجُلٌ

(6/63)


رَبَطَهَا فَخْرًا وَرِئَاءً وَنِوَاءً لِأَهْلِ الإِسْلاَمِ فَهِيَ وِزْرٌ عَلَى ذَلِكَ. وَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْحُمُرِ فَقَالَ: مَا أُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهَا إِلاَّ هَذِهِ الْآيَةُ الْجَامِعَةُ الْفَاذَّةُ {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}.
قوله: "باب الخيل لثلاثة" هكذا اقتصر على صدر الحديث، وأحال بتفسيره على ما ورد فيه، وقد فهم بعض الشراح منه الحصر فقال: اتخاذ الخيل لا يخرج عن أن يكون مطلوبا أو مباحا أو ممنوعا، فيدخل في المطلوب الواجب والمندوب، ويدخل في الممنوع المكروه والحرام بحسب اختلاف المقاصد. واعترض بعضهم بأن المباح لم يذكر في الحديث لأن القسم الثاني الذي يتخيل فيه ذلك جاء مقيدا بقوله: "ولم ينس حق الله فيها" فيلتحق بالمندوب قال: والسر فيه أنه صلى الله عليه وسلم غالبا إنما يعتني بذكر ما فيه حض أو منع، وأما المباح الصرف فيسكت عنه لما عرف أن سكوته عنه عفو. ويمكن أن يقال: القسم الثاني هو في الأصل المباح إلا أنه ربما ارتقى إلى الندب بالقصد، بخلاف القسم الأول فإنه من ابتدائه مطلوب. والله أعلم. قوله: "وقول الله عز وجل {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ} الآية" أي أن الله خلقها للركوب والزينة، فمن استعملها في ذلك فعل ما أبيح له، فإن اقترن بفعله قصد طاعة ارتقى إلى الندب، أو قصد معصية حصل له الإثم، وقد دل حديث الباب على هذا التقسيم. قوله: "عن زيد بن أسلم" الإسناد كله مدنيون. قوله: "الخيل لثلاثة" في رواية الكشميهني: " الخيل ثلاثة " ووجه الحصر في الثلاثة أن الذي يقتنى الخيل إما أن يقتنيها للركوب أو للتجارة، وكل منهما إما أن يقترن به فعل طاعة الله وهو الأول، ومعصيته وهو الأخير، أو يتجرد عن ذلك وهو الثاني. قوله: "في مرج أو روضة" شك من الراوي، والمرج موضع الكلأ، وأكثر ما يطلق على الموضع المطمئن، والروضة أكثر ما يطلق في الموضع المرتفع، وقد مضى الكلام على قوله: " أرواثها وآثارها" قبل بابين. قوله: "فما أصابت في طيلها" بكسر الطاء المهملة وفتح التحتانية بعدها لام هو الحبل الذي تربط به ويطول لها لترعى، ويقاد له طول بالواو المفتوحة أيضا كما تقدم في أول الجهاد، وتقدم تفسير الاستنان هناك. وقوله: "ولم يرد أن يسقيها" فيه أن الإنسان يؤجر على التفاصيل التي تقع في فعل الطاعة إذا قصد أصلها وإن لم يقصد تلك التفاصيل، وقد تأوله بعض الشراح فقال ابن المنير: قيل إنما أجر لأن ذلك وقت لا ينتفع بشربها فيه فيغتم صاحبها بذلك فيؤجر، وقيل: إن المراد حيث تشرب من ماء الغير بغير إذنه فيغتم صاحبها لذلك فيؤجر، وكل ذلك عدول عن القصد. قوله: "رجل ربطها فخرا" هكذا وقع بحذف أحد الثلاثة وهو من ربطها تغنيا، وسيأتي بتمامه بهذا الإسناد بعينه في علامات النبوة، وتقدم تاما من وجه آخر عن ماك في أواخر كتاب الشرب، وقوله: "تغنيا" بفتح المثناة والمعجمة ثم نون ثقيلة مكسورة وتحتانية أي استغناء عن الناس تقول تغنيت بما رزقني الله تغنيا وتغانيت تغانيا واستغنيت استغناء كلها بمعنى، وسيأتي بسط ذلك في فضائل القرآن في الكلام على قوله: "ليس منا من لم يتغن بالقرآن". وقوله: "تعففا" أي عن السؤال، والمعنى أنه يطلب بنتاجها أو بما يحصل من أجرتها ممن يركبها أو نحو ذلك الغني عن الناس والتعفف عن مسألتهم، ووقع في رواية سهيل عن أبيه عند مسلم: "وأما الذي هي له ستر فالرجل يتخذها تعففا وتكرما وتجملا، وقوله: "ولم ينس حق الله في رقابها" قيل المراد حسن ملكها وتعهد شبعها وريها والشفقة عليها في الركوب، وإنما خص رقابها بالذكر

(6/64)


لأنها تستعار كثيرا في الحقوق اللازمة ومنه قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} وهذا جواب من لم يوجب الزكاة في الخيل وهو قول الجمهور. وقيل: المراد بالحلق إطراق فحلها والحمل عليها في سبيل الله هو قول الحسن والشعبي ومجاهد، وقيل المراد بالحق الزكاة وهو قول حماد وأبي حنيفة، وخالفه صاحباه وفقهاء الأمصار. قال أبو عمر: لا أعلم أحدا سبقه إلى ذلك. قوله: "فخرا" أي تعاظما، وقوله: "ورياء" أي إظهارا لطاعة والباطن بخلاف ذلك. ووقع في رواية سهيل المذكورة "وأما الذي هي عليه وزر فالذي يتخذها أشرا وبطرا وبذخا ورياء للناس". قوله: "ونواء لأهل الإسلام" بكسر النون والمد هو مصدر تقول ناوأت العدو مناوأة ونواء، وأصله من ناء إذا نهض ويستعمل في المعاداة، قال الخليل: ناوأت الرجل ناهضته بالعداوة، وحكى عياض عن الداودي الشارح أنه وقع عنده "ونوى" بفتح النون والقصر قال: ولا يصح ذلك، قلت حكاه الإسماعيلي عن رواية إسماعيل بن أبي أويس، فإن ثبت فمعناه: وبعدا لأهل الإسلام، أي منهم. والظاهر أن الواو في قوله ورياء ونواء بمعنى. "أو" لأن هذه الأشياء قد تفترق في الأشخاص وكل واحد منها مذموم على حدته، وفي هذا الحديث بيان أن الخيل إنما تكون في نواصيها الخير والبركة إذا كان اتخاذها في الطاعة أو في الأمور المباحة، وإلا فهي مذمومة. قوله: "وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم" لم أقف على تسمية السائل صريحا، وسيأتي ما قيل فيه في كتاب الاعتصام إن شاء الله تعالى. قوله: "عن الحمر فقال: ما أنزل على فيها إلا هذه الآية الجامعة الفاذة" بالفاء وتشديد المعجمة سماها جامعة لشمولها لجميع الأنواع من طاعة ومعصية، وسماها فاذة لانفرادها في معناها، قال ابن التين: والمراد أن الآية دلت على أن من عمل في اقتناء الحمير طاعة رأى ثواب ذلك، وإن عمل معصية رأى عقاب ذلك، قال ابن بطال: فيه تعليم الاستنباط والقياس، لأنه شبه ما لم يذكر الله حكمه في كتابه وهو الحمر بما ذكره من عمل مثقال ذرة من خير أو شر إذ كان معناهما واحدا، قال: وهذا نفس القياس الذي ينكره من لا فهم عنده. وتعقبه ابن المنير بأن هذا ليس من القياس في شيء، وإنما هو استدلال بالعموم وإثبات لصيغته، خلافا لمن أنكر أو وقف. وفيه تحقيق لإثبات العمل بظواهر العموم وأنها ملزمة حتى يدل دليل التخصيص، وفيه إشارة إلى الفرق بين الحكم الخاص المنصوص والعام الظاهر، وأن الظاهر دون المنصوص في الدلالة.

(6/65)


49 - باب مَنْ ضَرَبَ دَابَّةَ غَيْرِهِ فِي الْغَزْوِ
2861- حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ حَدَّثَنَا أَبُو عَقِيلٍ حَدَّثَنَا أَبُو الْمُتَوَكِّلِ النَّاجِيُّ قَالَ أَتَيْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيَّ فَقُلْتُ لَهُ حَدِّثْنِي بِمَا سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ سَافَرْتُ مَعَهُ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ قَالَ أَبُو عَقِيلٍ لاَ أَدْرِي غَزْوَةً أَوْ عُمْرَةً فَلَمَّا أَنْ أَقْبَلْنَا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَتَعَجَّلَ إِلَى أَهْلِهِ فَلْيُعَجِّلْ قَالَ جَابِرٌ فَأَقْبَلْنَا وَأَنَا عَلَى جَمَلٍ لِي أَرْمَكَ لَيْسَ فِيهِ شِيَةٌ وَالنَّاسُ خَلْفِي فَبَيْنَا أَنَا كَذَلِكَ إِذْ قَامَ عَلَيَّ فَقَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا جَابِرُ اسْتَمْسِكْ فَضَرَبَهُ بِسَوْطِهِ ضَرْبَةً فَوَثَبَ الْبَعِيرُ مَكَانَهُ فَقَالَ أَتَبِيعُ الْجَمَلَ قُلْتُ نَعَمْ فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ وَدَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسْجِدَ فِي طَوَائِفِ أَصْحَابِهِ فَدَخَلْتُ إِلَيْهِ وَعَقَلْتُ الْجَمَلَ فِي نَاحِيَةِ الْبَلاَطِ فَقُلْتُ لَهُ: هَذَا

(6/65)


جَمَلُكَ فَخَرَجَ فَجَعَلَ يُطِيفُ بِالْجَمَلِ وَيَقُولُ الْجَمَلُ جَمَلُنَا فَبَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَاقٍ مِنْ ذَهَبٍ فَقَالَ أَعْطُوهَا جَابِرًا ثُمَّ قَالَ اسْتَوْفَيْتَ الثَّمَنَ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ الثَّمَنُ وَالْجَمَلُ لَكَ".
قوله: "باب من ضرب دابة غيره في الغزو" أي إعانة له ورفقا به. قوله: "حدثنا مسلم" هو ابن إبراهيم، وتقدم هذا الحديث بهذا الإسناد في المظالم مختصرا وساقه هنا تاما، وقد تقدمت مباحثه مستوفاة في الشروط. قوله: "أم عمرة" في رواية الكشميهني: "أو" بدل "أم". قوله: "فليعجل" في رواية الكشميهني: "فليتعجل". قوله: "أرمك" براء وكاف وزن أحمر، والمراد به ما خالط حمرته سواد. قوله: "ليس فيها شية" بكسر المعجمة وفتح التحتانية الخفيفة أي علامة، والمراد أنه ليس فيه لمعة من غير لونه. ويحتمل أن يريد ليس فيه عيب، ويؤيده قوله: "والناس خلق، فبينا أنا كذلك إذ قام عليَّ" لأنه يشعر بأنه أراد أنه كان قويا في سيره لا عيب فيه من جهة ذلك حتى كأنه صار قدام الناس. فطرأ عليه حينئذ الوقوف. قوله: "إذ قام علي" أي وقف فلم يسر من التعب.

(6/66)


باب الركوب على الدابة الصعبة و الفحولة من الخيل
...
50 - باب الرُّكُوبِ عَلَى الدَّابَّةِ الصَّعْبَةِ وَالْفُحُولَةِ مِنْ الْخَيْلِ
وَقَالَ رَاشِدُ بْنُ سَعْدٍ: كَانَ السَّلَفُ يَسْتَحِبُّونَ الْفُحُولَةَ لِأَنَّهَا أَجْرَى وَأَجْسَرُ
2862- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "كَانَ بِالْمَدِينَةِ فَزَعٌ فَاسْتَعَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَسًا لِأَبِي طَلْحَةَ يُقَالُ لَهُ مَنْدُوبٌ فَرَكِبَهُ وَقَالَ مَا رَأَيْنَا مِنْ فَزَعٍ وَإِنْ وَجَدْنَاهُ لَبَحْرًا".
قوله: "باب الركوب على الدابة الصعبة" بسكون العين أي الشديدة. قوله: "والفحولة" بالفاء والمهملة جمع فحل والتاء فيه لتأكيد الجمع كما جوزه الكرماني، وأخذ المصنف ركوب الصعبة من ركوب الفحل لأنه في الغالب أصعب ممارسة من الأنثى، وأخذ كونه فحلا من ذكره بضمير المذكر. وقال ابن المنير: هو استدلال ضعيف، لأن العود يصح على اللفظ ولفظ الفرس مذكر وإن كان يقع على المؤنث وعكسه الجماعة، فيجوز إعادة الضمير على اللفظ وعلى المعنى، قال: وليس في حديث الباب ما يدل على تفضيل الفحولة إلا أن نقول أثنى عليه الرسول وسكت عن الأنثى فثبت التفضيل بذلك. وقال ابن بطال: معلوم أن المدينة لم تخل عن إناث الخيل، ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا جملة من أصحابه أنهم ركبوا غير الفحول، إلا ما ذكر عن سعد بن أبي وقاص، كذا قال وهو محل توقف وقد روى الدار قطني أن فرس المقداد كان أنثى. قوله: "وقال راشد بن سعد" هو المقرأ بفتح الميم وتضم وسكون القاف وفتح الراء بعدها همزة، تابعي وسط شامي، مات سنة ثلاث عشرة ومائة، وما له في البخاري سوى هذا الأثر الواحد. قوله: "كان السلف" أي من الصحابة فمن بعدهم. وقوله: "أجرأ وأجسر" بهمز "أجرأ" من الجراءة وبغير همز من الجري، و"أجسر" بالجيم والمهملة من الجسارة، وحذف المفضل عليه اكتفاء بالسياق أي من الإناث أو المخصية. وروى أبو عبيدة في "كتاب الخيل" له عن عبد الله بن محيريز نحو هذا الأثر وزاد: "وكانوا يستحبون إناث الخيل في الغارات والبيات" وروى الوليد بن مسلم في الجهاد له من طريق عبادة بن نسى

(6/66)


بنون ومهملة مصغرا وابن محيريز "أنهم كانوا يستحبون إناث الخيل في الغارات والبيات ولما خفي من أمور الحرب ويستحبون الفحول في الصفوف والحصون ولما ظهر من أمور الحرب". وروى عن خالد ابن الوليد أنه كان لا يقاتل إلا على أنثى لأنها تدفع البول وهي أقل صهلا، والفحل يحبسه في جريه حتى ينفتق ويؤذي بصهيله. ثم ذكر المصنف حديث أنس في فرس أبي طلحة وقد تقدم قريبا وأن شرحه سبق في كتاب الهبة، وأحمد بن محمد شيخه فيه هو المروزي ولقبه مردويه واسم جده موسى. وقال الدار قطني هو الذي لقبه شبويه واسم جده ثابت، والأول أكثر.

(6/67)


51 - باب سِهَامِ الْفَرَسِ
2863- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ وَلِصَاحِبِهِ سَهْمًا وَقَالَ مَالِكٌ يُسْهَمُ لِلْخَيْلِ وَالْبَرَاذِينِ مِنْهَا لِقَوْلِهِ [8 النحل]: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا} وَلاَ يُسْهَمُ لِأَكْثَرَ مِنْ فَرَسٍ.
[الحديث 2863 – طرفه في: 4228]
قوله: "باب سهام الفرس" أي ما يستحقه الفارس من الغنيمة بسبب فرسه. قوله: "وقال مالك: يسهم للخيل والبراذين" جمع برذون بكسر الموحدة وسكون الراء وفتح المعجمة والمراد الجفاة الخلقة من الخيل، وأكثر ما تجلب من بلاد الروم ولها جلد على السير في الشعاب والجبال والوعر بخلاف الخيل العربية. قوله: "لقوله تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا}" قال ابن بطال: وجه الاحتجاج بالآية أن الله تعالى امتن بركوب الخيل، وقد أسهم لها رسول الله صلى الله عليه وسلم. واسم الخيل يقع على البرذون والهجين بخلاف البغال والحمير، وكأن الآية استوعبت ما يركب من هذا الجنس لما يقتضيه الامتنان، فلما لم ينص على البرذون والهجين فيها دل على دخولها في الخيل. قلت: وإنما ذكر الهجين لأن مالكا ذكر هذا الكلام في الموطأ وفيه: "والهجين"، والمراد بالهجين ما يكون أحد أبويه عربيا والآخر غير عربي، وقيل الهجين الذي أبوه فقط عربي، وأما الذي أمه فقط عربية فيسمى المقرف. وعن أحمد: الهجين البرذون. ويحتمل أن يكون أراد في الحكم. وقد وقع لسعيد بن منصور وفي المراسيل لأبي داود عن مكحول "أن النبي صلى الله عليه وسلم هجن الهجين يوم خيبر وعرب العراب، فجعل للعربي سهمين وللهجين سهما" ، وهذا منقطع، ويؤيده ما روى الشافعي في "الأم" وسعيد بن منصور من طريق علي بن الأقمر قال: "أغارت الخيل فأدركت العراب وتأخرت البراذن، فقام ابن المنذر الوادعي فقال: لا أجعل ما أدرك كمن لم يدرك، فبلغ ذلك عمر فقال: هبلت الوادعي أمه لقد أذكرت به، أمضوها على ما قال. فكان أول من أسهم للبراذين دون سهام العراب" وفي ذلك يقول شاعرهم:
ومنا الذي قد سن في الخيل سنة ... وكانت سواء قبل ذاك سهامها
وهذا منقطع أيضا، وقد أخذ أحمد بمقتضى حديث مكحول في المشهور عنه كالجماعة، وعنه إن بلغت البراذين مبالغ العربية سوى بينهما وإلا فضلت العربية، واختارها الجوزجاني وغيره. وعن الليث: يسهم للبرذون والهجين

(6/67)


دون سهم الفرس. قوله: "ولا يسهم لأكثر من فرس " هو بقية كلام مالك وهو قول الجمهور. وقال الليث وأبو يوسف وأحمد وإسحاق: يسهم لفرسين لا لأكثر، وفي ذلك حديث أخرجه الدار قطني بإسناد ضعيف عن أبي عمرة قال: "أسهم لي رسول الله صلى الله عليه وسلم لفرسي أربعة أسهم ولي سهما، فأخذت خمسة أسهم" قال القرطبي: ولم يقل أحد إنه يسهم لأكثر من فرسين إلا ما روي عن سليمان بن موسى أنه يسهم لكل فرس سهمان بالغا ما بلغت، ولصاحبه سهما أي غير سهمي الفرس. قوله: "عن عبيد الله" هو ابن عمر العمري. قوله: "جعل للفرس سهمين ولصاحبه سهما" أي غير سهمي الفرس فيصير للفارس ثلاثة أسهم، وسيأتي في غزوة خيبر أن نافعا فسره كذلك ولفظه: "إذا كان مع الرجل فرس فله ثلاثة أسهم، فإن لم يكن معه فرس فله سهم" ولأبي داود عن أحمد عن أبي معاوية عن عبيد الله بن عمر بلفظ "أسهم لرجل ولفرسه ثلاثة أسهم سهما له وسهمين لفرسه" وبهذا التفسير يتبين أن لا وهم فيما رواه أحمد بن منصور الرمادي عن أبي بكر ابن أبي شيبة عن أبي أسامة وابن نمير كلاهما عن عبيد الله بن عمر فيما أخرجه الدار قطني بلفظ: "أسهم للفارس سهمين" قال الدار قطني عن شيخه أبي بكر النيسابوري: وهم فيه الرمادي وشيخه. قلت: لا، لأن المعنى أسهم للفارس بسبب فرسه سهمين غير سهمه المختص به، وقد رواه ابن أبي شيبة في مصنفه ومسنده بهذا الإسناد فقال: "للفرس" وكذلك أخرجه ابن أبي عاصم في كتاب الجهاد له عن ابن أبي شيبة، وكأن الرمادي رواه بالمعنى. وقد أخرجه أحمد عن أبي أسامة وابن نمير معا بلفظ: "أسهم للفرس" وعلى هذا التأويل أيضا يحمل ما رواه نعيم بن حماد عن ابن المبارك عن عبيد الله مثل رواية الرمادي أخرجه الدار قطني وقد رواه علي ابن الحسن بن شقيق وهو أثبت من نعيم عن ابن المبارك بلفظ: "أسهم للفرس" وتمسك بظاهر هذه الرواية بعض من احتج لأبي حنيفة في قوله: إن للفرس سهما واحدا ولراكبه سهم آخر، فيكون للفارس سهمان فقط، ولا حجة فيه لما ذكرنا. واحتج له أيضا بما أخرجه أبو داود من حديث مجمع بن جارية بالجيم والتحتانية في حديث طويل في قصة خيبر قال: "فأعطى للفارس سهمين وللراجل سهما، وفي إسناده ضعف؛ ولو ثبت يحمل على ما تقدم لأنه يحتمل الأمرين، والجمع بين الروايتين أولى، ولا سيما والأسانيد الأولى أثبت ومع رواتها زيادة علم، وأصرح من ذلك ما أخرجه أبو داود من حديث أبي عمرة "أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى للفرس سهمين ولكل إنسان سهما فكان للفارس ثلاثة أسهم" وللنسائي من حديث الزبير "أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب له أربعة أسهم سهمين لفرسه وسهما له وسهما لقرابته" ، قال محمد بن سحنون: انفرد أبو حنيفة بذلك دون فقهاء الأمصار، ونقل عنه أنه قال: أكره أن أفضل بهيمة على مسلم، وهي شبهة ضعيفة لأن السهام في الحقيقة كلها للرجل. قلت: لو لم يثبت الخبر لكانت الشبهة قوية لأن المراد المفاضلة بين الراجل والفارس فلولا الفرس ما ازداد الفارس سهمين عن الراجل، فمن جعل للفارس سهمين فقد سوى بين الفرس وبين الرجل، وقد تعقب هذا أيضا لأن الأصل عدم المساواة بين البهيمة والإنسان، فلما خرج هذا عن الأصل بالمساواة فلتكن المفاضلة كذلك، وقد فضل الحنفية الدابة على الإنسان في بعض الأحكام فقالوا: لو قتل كلب صيد قيمته أكثر من عشرة آلاف أداها، فإن قتل عبدا مسلما لم يؤد فيه إلا دون عشرة آلاف درهم. والحق أن الاعتماد في ذلك على الخبر، ولم ينفرد أبو حنيفة بما قال فقد جاء عن عمر وعلي وأبي موسى، لكن الثابت عن عمر وعلي كالجمهور من حيث المعنى بأن الفرس يحتاج إلى مؤنة لخدمتها وعلفها، وبأنه يحصل بها من الغني في الحرب مالا يخفى، واستدل به على أن المشرك إذا حضر الوقعة

(6/68)


وقاتل مع المسلمين يسهم له، وبه قال بعض التابعين كالشعبي، ولا حجة فيه إذ لم يرد هنا صيغة عموم، واستدل للجمهور بحديث: "لم تحل الغنائم لأحد قبلنا" وسيأتي في مكانه. وفي الحديث حض على اكتساب الخيل واتخاذها للغزو لما فيها من البركة وإعلاء الكلمة وإعظام الشوكة كما قال تعالى: {وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} واختلف فيمن خرج إلى الغزو ومعه فرس فمات قبل حضور القتال، فقال مالك: يستحق سهم الفرس. وقال الشافعي والباقون: لا يسهم له إلا إذا حضر القتال، فلو مات الفرس في الحرب استحق صاحبه وإن مات صاحبه استمر استحقاقه وهو للورثة. وعن الأوزاعي فيمن وصل إلى موضع القتال فباع فرسه: يسهم له، لكن يستحق البائع مما غنموا قبل العقد والمشترى مما بعده، وما اشتبه قسم. وقال غيره: يوقف حتى يصطلحا. وعن أبي حنيفة: من دخل أرض العدو راجلا لا يقسم له إلا سهم راجل ولو اشترى فرسا وقاتل عليه. واختلف في غزاة البحر إذا كان معهم خيل، فقال الأوزاعي والشافعي: يسهم له. "تكميل": هذا الحديث يذكره الأصوليون في مسائل القياس في مسألة الإيماء، أي إذا اقترن الحكم بوصف لولا أن ذلك الوصف للتعليل لم يقع الاقتران، فلما جاء سياق واحد أنه صلى الله عليه وسلم أعطى للفرس سهمين وللراجل سهما دل على افتراق الحكم.

(6/69)


52 - باب مَنْ قَادَ دَابَّةَ غَيْرِهِ فِي الْحَرْبِ
2864- حدثنا قتيبة حدثنا سهل بن يوسف عن شعبة عن أبي إسحاق "قال رجلٌ للبراء بن عازب رضي الله عنه: أفررتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين؟ قال: لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفرَّ، إن هوازن كانوا قوما رماة، وإنا لما لقيناهم حملنا عليهم فانهزموا، فأقبل المسلمون على الغنائم، فاستقبلونا بالسهام، فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يفر، فلقد رأيته وإنه لعلى بغلته البيضاء، وإن أبا سفيان آخذ بلجامها والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: أنا النبيُّ لا كذب، أنا ابن عبد المطلب".
[الحديث 2864 – أطرافه في: 2874، 2930، 3042، 4315، 4316، 4317]
قوله: "باب من قاد دابة غيره في الحرب" ذكر فيه حديث البراء بن عازب "أن هوازن كانوا قوما رماة" الحديث، والغرض منه قوله فيه: "وأبو سفيان - وهو ابن الحارث بن عبد المطلب - أخذ بلجامها" وسيأتي شرحه مستوفى في غزوة حنين من كتاب المغازي إن شاء الله تعالى.

(6/69)


باب الركاب و الغرز للدابة
...
53 - باب الرِّكَابِ وَالْغَرْزِ للدَّابَّةِ
2865- حَدَّثَنِي عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَدْخَلَ رِجْلَهُ فِي الْغَرْزِ وَاسْتَوَتْ بِهِ نَاقَتُهُ قَائِمَةً أَهَلَّ مِنْ عِنْدِ مَسْجِدِ ذِي الْحُلَيْفَةِ".
قوله: "باب الركاب والغرز للدابة" قيل الركاب يكون من الحديد والخشب، والغرز لا يكون إلا من الجلد، وقيل هما مترادفان، أو الغرز للجمل والركاب للفرس. وذكر فيه حديث ابن عمر "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أدخل رجله في الغرز أهلَّ" الحديث، وهو ظاهر فيما ترجم له من الغرز، وأما الركاب فألحقه به لأنه في معناه. وقال ابن

(6/69)


54- باب رُكُوبِ الْفَرَسِ الْعُرْيِ
2866- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "اسْتَقْبَلَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى فَرَسٍ عُرْيٍ مَا عَلَيْهِ سَرْجٌ فِي عُنُقِهِ سَيْفٌ".
قوله: "باب ركوب الفرس العري" بضم المهملة وسكون الراء، أي ليس عليه سرج ولا أداة، ولا يقال في الآدميين إنما يقال عريان قاله ابن فارس، قال: وهي من النوادر انتهى. وحكى ابن التين أنه ضبط في الحديث بكسر الراء وتشديد التحتانية، وليس في كتب اللغة ما يساعده. ذكر فيه حديث أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم استقبلهم على فرس عري ما عليه سرج في عنقه سيف" وهو طرف من الحديث الذي تقدم في أنه استعار فرسا لأبي طلحة، وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق أخرى عن حماد بن زيد وفي أوله "فزع أهل المدينة ليلة، فتلقاهم النبي صلى الله عليه وسلم قد سبقهم إلى الصوت، وهو على فرس بغير سرج" وفي رواية له "وهو على فرس لأبي طلحة" وقد سبق في "باب الشجاعة في الحرب" في حديث أوله "كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وأشجع الناس" بعض هذا الحديث، وقد سبق شرحه في الهبة، وفيه ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من التواضع والفروسية البالغة فإن الركوب المذكور لا يفعله إلا من أحكم الركوب وأدمن على الفروسية، وفيه تعليق السيف في العنق إذا احتاج إلى ذلك حيث يكون أعون له، وفي الحديث ما يشير إلى أنه ينبغي للفارس أن يتعاهد الفروسية ويروض طباعه عليها لئلا يفجأه شدة فيكون قد استعد لها.

(6/70)


55 - باب الْفَرَسِ الْقَطُوفِ
2867- حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى بْنُ حَمَّادٍ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ فَزِعُوا مَرَّةً فَرَكِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَسًا لِأَبِي طَلْحَةَ كَانَ يَقْطِفُ أَوْ كَانَ فِيهِ قِطَافٌ فَلَمَّا رَجَعَ قَالَ وَجَدْنَا فَرَسَكُمْ هَذَا بَحْرًا فَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ لاَ يُجَارَى".
قوله: "باب الفرس القطوف" أي البطيء المشي، قال أبو زيد وغيره: قطفت الدابة تقطف قطافا وقطوفا، والقطوف من الدواب المقارب الخطو وقيل الضيق المشي. وقال الثعالبي: إن مشي وثبا فهو قطوف، وإن كان يرفع يديه ويقوم على رجليه فهو سبوت، وإن التوى براكبه فهو قموص، وإن منع ظهره فهو شموس. ذكر فيه حديث أنس "أن أهل المدينة فزعوا مرة فركب النبي صلى الله عليه وسلم فرسا لأبي طلحة كان يقطف" الحديث، وقوله: "يقطف" بكسر الطاء وبضمها وقد سبق شرحه في الهبة، وقوله: "أو كان فيه قطاف" شك من الراوي، وسيأتي في "باب السرعة والركض" من طريق محمد بن سيرين عن أنس بلفظ: "فركب فرسا لأبي طلحة بطيئا". وقوله: "لا يجارى" بضم أوله زاد في نسخة الصغاني "قال أبو عبد الله أي لا يسابق" لأنه لا يسبق في الجري، وفيه بركة النبي صلى الله عليه وسلم لكونه ركب ما كان بطيئا فصار سابقا، وسيأتي في رواية محمد بن سيرين المذكورة "فما سبق بعد ذلك اليوم".

(6/70)


56 - باب السَّبْقِ بَيْنَ الْخَيْلِ
2868- حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "أَجْرَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا ضُمِّرَ مِنْ الْخَيْلِ مِنْ الْحَفْيَاءِ إِلَى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ وَأَجْرَى مَا لَمْ يُضَمَّرْ مِنْ الثَّنِيَّةِ إِلَى مَسْجِدِ بَنِي زُرَيْقٍ". قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَكُنْتُ فِيمَنْ أَجْرَى. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ قَالَ سُفْيَانُ بَيْنَ الْحَفْيَاءِ إِلَى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ خَمْسَةُ أَمْيَالٍ أَوْ سِتَّةٌ وَبَيْنَ ثَنِيَّةَ إِلَى مَسْجِدِ بَنِي زُرَيْقٍ مِيلٌ
قوله: "باب السبق بين الخيل" أي مشروعية ذلك والسبق بفتح المهملة وسكون الموحدة مصدر وهو المراد هنا، وبالتحريك الرهن الذي يوضع لذلك.

(6/71)


57 - باب إِضْمَارِ الْخَيْلِ لِلسَّبْقِ
2869- حدثنا أحمد بن يونس حدثنا الليث عن نافع عن عبد الله رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل التي لم تضمر، وكان أمدها من الثنية إلى مسجد بني زريق، وأن عبد الله بن عمر كان سابق بها" . قال أبو عبد الله: أمدا: غاية. {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ} [19 الحديد].
ثم قال: "باب إضمار الخيل للسبق" إشارة إلى أن السنة في المسابقة أن يتقدم إضمار الخيل وإن كانت التي لا تضمر لا تمتنع المسابقة عليها.

(6/71)


58 - باب غَايَةِ السَّبْقِ لِلْخَيْلِ الْمُضَمَّرَةِ
2870- حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا معاوية حدثنا أبو إسحاق عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "سابق رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الخيل التي قد ضمرت، فأرسلها من الحفياء، وكان أمدها ثنية الوداع. فقلت لموسى: فكم كان بين ذلك؟ قال: ستة أميال أو سبعة. وسابق بين الخيل التي لم تضمر، فأرسلها من ثنية الوداع، وكان أمدها مسجد بني زريق. قلت: فكم بين ذلك؟ قال: ميل أو نحوه. وكان ابن عمر ممن سابق فيها".
ثم قال: "باب غاية السباق للخيل المضمرة" أي بيان ذلك وبيان غاية التي لم تضمر، وذكر في الأبواب الثلاثة حديث ابن عمر في ذلك. وقوله في الطريق الأولى "من الحفياء" بفتح المهملة وسكون الفاء بعدها تحتانية ومد: مكان خارج المدينة من جهة(1) ويجوز القصر، وحكى الحازمي تقديم الياء التحتانية على الفاء وحكى عياض ضم أوله وخطأه، وقوله فيها " أجرى " قال في التي تليها "سابق" وهو بمعناه. وقال فيها "قال ابن عمر وكنت فيمن
ـــــــ
(1) بياض في الأصل. ولعله: "من جهة سافلتها" كما في مادة "النقيع" من معجم ما استعجم، للبكري.

(6/71)


باب ناقة النبي صلى الله عليه و سلم
...
59 - باب نَاقَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَرْدَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُسَامَةَ عَلَى الْقَصْوَاءِ. وَقَالَ الْمِسْوَرُ: قال النبي صلى الله عليه وسلم: مَا خَلاَتْ الْقَصْوَاءُ.
2871- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ حُمَيْدٍ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: "كَانَتْ نَاقَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَالُ لَهَا الْعَضْبَاءُ".
[الحديث 2871 – طرفه في: 2872]
2872- حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَاقَةٌ تُسَمَّى الْعَضْبَاءَ لاَ تُسْبَقُ قَالَ حُمَيْدٌ أَوْ لاَ تَكَادُ تُسْبَقُ فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ عَلَى قَعُودٍ فَسَبَقَهَا فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ حَتَّى عَرَفَهُ. فَقَالَ: "حَقٌّ عَلَى اللَّهِ أَنْ لاَ يَرْتَفِعَ شَيْءٌ مِنْ الدُّنْيَا إِلاَّ وَضَعَهُ".
طَوَّلَهُ مُوسَى عَنْ حَمَّادٍ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قوله: "باب ناقة النبي صلى الله عليه وسلم" كذا أفرد للناقة في الترجمة إشارة إلى أن العضباء والقصواء واحدة. قوله: "وقال ابن عمر: أردف النبي صلى الله عليه وسلم أسامة على القصواء" هو طرف من حديث وصله المصنف في الحج، وقد تقدم شرحه في حجة الوداع. قوله: "وقال المسور: ما خلأت القصواء" هو طرف من الحديث الطويل الماضي مع شرحه في كتاب الشروط وفيه ضبط القصواء. قوله: "حدثنا معاوية" هو ابن عمرو الأزدي وأبو إسحاق هو الفزاري. قوله: "طوله موسى عن حماد عن ثابت عن أنس" أي رواه مطولا، وهذا التعليق وقع في رواية المستملي وحده هنا، وموسى هو ابن إسماعيل التبوذكي وحماد هو ابن سلمة، ووقع في رواية من عدا الهروي بعد سياق رواية زهير، وقد وصله أبو داود عن موسى بن إسماعيل المذكور وليس سياقه بأطول من سياق زهير بن معاوية عن حميد، نعم هو أطول من سياق أبي إسحاق الفزاري فتترجح رواية المستملي، وكأنه اعتمد رواية أبي إسحاق لما

(6/73)


وقع فيها من التصريح بسماع حميد من أنس، وأشار إلى أنه روى مطولا من طريق ثابت ثم وجده من رواية حميد أيضا مطولا فأخرجه والله أعلم. قوله: "لا تسبق، قال حميد أو لا تكاد تسبق" شك منه، وهو موصول بالإسناد المذكور، وفي بقية الروايات بغير شك، وقوله: "أن لا يرتفع شيء من الدنيا" وفي رواية موسى بن إسماعيل "أن لا يرفع شيئا" وكذا للمصنف في الرقاق، وكذا قال النفيلي عن زهير عند أبي داود. وفي رواية شعبة عند النسائي: "أن لا يرفع شيء نفسه في الدنيا" وقوله: "فجاء أعرابي فسبقها" في رواية ابن المبارك وغيره عن حميد عند أبي نعيم "فسابقها فسبقها". وفي رواية شعبة "سابق رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابي"، ولم أقف على اسم هذا الأعرابي بعد التتبع الشديد. قوله: "على قعود" بفتح القاف ما استحق الركوب من الإبل، قال الجوهري هو البكر حتى يركب وأقل ذلك أن يكون ابن سنتين إلى أن يدخل السادسة فيسمى جملا. وقال الأزهري: لا يقال إلا للذكر، ولا يقال للأنثى قعودة وإنما يقال لها قلوص، قال: وقد حكى الكسائي في "النوادر" قعودة للقلوص وكلام الأكثر على خلافه. وقال الخليل: القعودة من الإبل ما يقعده الراعي لحمل متاعه، والهاء فيه للمبالغة. قوله: "حتى عرفه" أي عرف أثر المشقة. وفي رواية المصنف في الرقاق "فلما رأى ما في وجوههم وقالوا سبقت العضباء"، الحديث. والعضباء بفتح المهملة وسكون المعجمة بعدها موحدة ومد هي المقطوعة الأذن أو المشقوقة. وقال ابن فارس: كان ذلك لقبا لها لقوله تسمى العضباء. ولقوله: "يقال لها العضباء" ولو كانت تلك صفتها لم يحتج لذلك. وقال الزمخشري: العضباء منقول من قولهم ناقة عضباء أي قصيرة اليد، واختلف هل العضباء هي القصواء أو غيرها، فجزم الحربي بالأول وقال: تسمى العضباء والقصواء والجدعاء، وروى ذلك ابن سعد عن الواقدي. وقال غيره بالثاني وقال: الجدعاء كانت شهباء وكان لا يحمله عند نزول الوحي غيرها، وذكر له عدة نوق غير هذه تتبعها من اعتنى بجمع السيرة. وفي الحديث اتخاذ الإبل للركوب والمسابقة عليها، وفيه التزهيد في الدنيا للإشارة إلى أن كل شيء منها لا يرتفع إلا اتضع. وفيه الحث على التواضع. وفيه حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم وتواضعه وعظمته في صدور أصحابه.

(6/74)


60- بابُ الغَزو عَلى الحمير
قوله: "باب الغزو على الحمير" كذا في رواية المستملى وحده بغير النسفي هذه الترجمة للتي بعدها فقال: "باب الغزو على الحمير، وبغلة النبي صلى الله عليه وسلم البيضاء" ولم يتعرض لذلك أحد من الشراح وهو مشكل على الحالين، لكن في رواية المستملى أسهل لأنه يحمل على أنه وضع الترجمة وأخلى بياضا للحديث اللائق بها فاستمر ذلك، وكأنه أراد أن يكتب طريقا لحديث معاذ: "كنت ردف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار يقال له عفير". وقد تقدم قريبا في باب "اسم الفرس والحمار". وكونه كان راكبه يحتمل أن يكون في الحضر وفي السفر فيحصل مقصود الترجمة على طريقة من لا يفرق بين المطلق والعام والله أعلم. وأما رواية النسفي فليس في حديثي الباب إلا ذكر البغلة خاصة. ويمكن أن يكون أخلى آخر الباب بياضا كما قلنا في رواية المستملى، أو يؤخذ حكم الحمار من البغلة. وقد أخرج عبد بن حميد من حديث أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوم خيبر على حمار مخطوم بحبل من ليف" . وفي سنده مقال.

(6/74)


باب بغلة النبي صلى الله عليه و سلم البيضاء ، قاله أنس
...
61 - باب بَغْلَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَيْضَاءِ، قَالَهُ أَنَسٌ
وَقَالَ أَبُو حُمَيْدٍ: أَهْدَى مَلِكُ أَيْلَةَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَغْلَةً بَيْضَاءَ

(6/74)


62 - باب جِهَادِ النِّسَاءِ
2875- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ طَلْحَةَ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "اسْتَأْذَنْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْجِهَادِ، فَقَالَ: جِهَادُكُنَّ الْحَجُّ". وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْوَلِيدِ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مُعَاوِيَةَ بِهَذَا
2876- حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مُعَاوِيَةَ بِهَذَا وَعَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ

(6/75)


طَلْحَةَ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَهُ نِسَاؤُهُ عَنْ الْجِهَادِ فَقَالَ: "نِعْمَ الْجِهَادُ الْحَجُّ".
قوله: "باب جهاد النساء" ذكر فيه حديث عائشة "جهادكن الحج"، وقد تقدم في أول الجهاد، ومضى شرحه في كتاب الحج وله شاهد من حديث أبي هريرة أخرجه النسائي بلفظ: "جهاد الكبير - أي العاجز الضعيف - والمرأة الجج والعمرة". قوله فيه "وقال عبد الله بن الوليد" هو العدني، وروايته موصولة في "جامع سفيان" وقوله في الطريق الأخرى "وعن حبيب بن أبي عمرة" هو موصول من رواية قبيصة المذكورة والحاصل أن عنده فيه عن سفيان إسنادين، وقد وصله الإسماعيلي من طريق هناد بن السري عن قبيصة كذلك وقال ابن بطال دل حديث عائشة على أن الجهاد غير واجب على النساء، ولكن ليس في قوله: "جهادكن الحج" أنه ليس لهن أن يتطوعن بالجهاد وإنما لم يكن عليهن واجبا لما فيه من مغايرة المطلوب منهن من الستر ومجانبة الرجال، فلذلك كان الحج أفضل لهن من الجهاد. قلت: وقد لمح البخاري بذلك في إيراده الترجمة مجملة وتعقيبها بالتراجم المصرحة بخروج النساء إلى الجهاد.

(6/76)


63 - باب غَزْوِ الْمَرْأَةِ فِي الْبَحْرِ
2877، 2878- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ هُوَ الْفَزَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَنْصَارِيِّ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ابْنَةِ مِلْحَانَ فَاتَّكَأَ عِنْدَهَا ثُمَّ ضَحِكَ فَقَالَتْ لِمَ تَضْحَكُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي يَرْكَبُونَ الْبَحْرَ الأَخْضَرَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَثَلُهُمْ مَثَلُ الْمُلُوكِ عَلَى الأَسِرَّةِ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ قَالَ اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا مِنْهُمْ ثُمَّ عَادَ فَضَحِكَ فَقَالَتْ لَهُ مِثْلَ أَوْ مِمَّ ذَلِكَ فَقَالَ لَهَا مِثْلَ ذَلِكَ فَقَالَتْ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ قَالَ أَنْتِ مِنْ الأَوَّلِينَ وَلَسْتِ مِنْ الْآخِرِينَ قَالَ قَالَ أَنَسٌ فَتَزَوَّجَتْ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ فَرَكِبَتْ الْبَحْرَ مَعَ بِنْتِ قَرَظَةَ فَلَمَّا قَفَلَتْ رَكِبَتْ دَابَّتَهَا فَوَقَصَتْ بِهَا فَسَقَطَتْ عَنْهَا فَمَاتَتْ".
قوله: "باب غزو المرأة في البحر" ذكر فيه حديث أنس في قصة أم حرام، وقد تقدم قريبا في "باب فضل من يصرع في سبيل الله" ويأتي شرحه في كتاب الاستئذان إن شاء الله تعالى وقوله في آخره: "قال أنس فتزوجت عبادة بن الصامت" ظاهره أنها تزوجته بعد هذه المقالة، ووقع في رواية إسحاق عن أنس في أول الجهاد بلفظ: "وكانت أم حرام تحت عبادة بن الصامت، فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم". وظاهره أنها كانت حينئذ زوجته، فإما أن يحمل على أنها كانت زوجته ثم طلقها ثم راجعها بعد ذلك وهذا جواب ابن التين، وإما أن يجعل قوله في رواية إسحاق "وكانت تحت عبادة" جملة معترضة أراد الراوي وصفها به غير مقيد بحال من الأحوال، وظهر من رواية غيره أنه إنما تزوجها بعد ذلك وهذا الثاني أولى لموافقة محمد بن يحيى بن حبان عن أنس على أن عبادة تزوجها بعد ذلك كما سيأتي بعد اثني عشر بابا وقوله في آخره: "فركبت البحر مع بنت قرظة" هي زوج معاوية واسمها فاختة وقيل كنود، وكانت تحت عتبة ابن سهل قبل معاوية ويحتمل أن يكون معاوية تزوج الأختين واحدة بعد أخرى، وهذه

(6/76)


رواية ابن وهب في موطآته عن ابن لهيعة عمن سمع، قال: ومعاوية أول من ركب البحر للغزاة، وذلك في خلافة عثمان وأبوها قرظة بفتح القاف والراء والظاء المعجمة هو ابن عبد عمرو بن نوفل بن عبد مناف، وهي قرشية نوفلية، وظن بعض الشراح أنها بنت قرظة بن كعب الأنصاري فوهم، والذي قلته صرح به خليفة بن خياط في تاريخه وزاد أن ذلك كان سنة ثمان وعشرين، والبلاذري في تاريخه أيضا وذكر أن قرظة بن عبد عمرو مات كافرا فيكون لها هي رؤية، وكذا لأخيها مسلم بن قرظة الذي قتل يوم الجمل مع عائشة. "تنبيهان" يتعلقان بهذا الإسناد: أحدهما: وقع في هذا الإسناد "حدثنا أبو إسحاق هو الفزاري عن عبد الله بن عبد الرحمن الأنصاري" هكذا هو في جميع الروايات ليس بينهما أحد وزعم أبو مسعود في "الأطراف" أنه سقط بينهما "زائدة بن قدامة" وأقره المزي على ذلك وقواه بأن المسيب بن واضح رواه عن أبي إسحاق الفزاري عن زائدة عن أبي طوالة، وقد قال أبو علي الجياني: تأملته في "السير لأبي إسحاق الفزاري" فلم أجد فيها زائدة، ثم ساقه من طريق عبد الملك بن حبيب عنه عن أبي طوالة ليس بينهما زائدة، ورواية المسيب بن واضح خطأ، وهو ضعيف لا يقتضي بزيادته على خطأ ما وقع في الصحيح، ولا سيما وقد أخرجه الإمام أحمد في مسنده عن معاوية بن عمرو شيخ شيخ البخاري فيه كما أخرجه البخاري سواء ليس فيه زائدة، وسبب الوهم من أبي مسعود أن معاوية بن عمرو رواه أيضا عن زائدة عن أبي طوالة، فظن أبو مسعود أنه عند معاوية بن عمرو عن أبي إسحاق عن زائدة، وليس كذلك بل هو عنده عن أبي إسحاق وزائدة معا، جمعهما تارة وفرقهما أخرى، أخرجه أحمد عنه عاطفا لروايته عن أبي إسحاق على روايته عن زائدة، وأخرجه الإسماعيلي من طريق أبي خيثمة عن معاوية بن عمرو عن زائدة وحده به، وكذا أخرجه أبو عوانة في صحيحه عن جعفر الصائغ عن معاوية فوضحت صحة ما وقع في الصحيح ولله الحمد. ثانيهما: هذا الحديث، رواه عن أنس إسحاق بن أبي طلحة ومحمد بن يحيى بن حبان وأبو طوالة، فقال إسحاق في روايته عن أنس "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل على أم حرام" وقال أبو طوالة في روايته: "دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على بنت ملحان" وكلاهما ظاهر في أنه من مسند أنس، وأما محمد بن يحيى فقال: "عن أنس عن خالته أم حرام"، وهو ظاهر في أنه من مسند أم حرام وهو المعتد، وكأن أنسا لم يحضر ذلك فحمله عن خالته، وقد حدث به عن أم حرام عمير بن الأسود أيضا كما سيأتي بعد أبواب، وقد أحال المزي برواية أبي طوالة في مسند أنس على مسند أم حرام ولم يفعل ذلك في رواية إسحاق بن أبي طلحة فأوهم خلاف الواقع الذي حررته، والله الهادي.

(6/77)


64 - باب حَمْلِ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ فِي الْغَزْوِ دُونَ بَعْضِ نِسَائِهِ
2879- حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ النُّمَيْرِيُّ حَدَّثَنَا يُونُسُ قَالَ سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ قَالَ سَمِعْتُ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ وَسَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ وَعَلْقَمَةَ بْنَ وَقَّاصٍ وَعُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ كُلٌّ حَدَّثَنِي طَائِفَةً مِنْ الْحَدِيثِ قَالَتْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ فَأَيَّتُهُنَّ يَخْرُجُ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَقْرَعَ بَيْنَنَا فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا فَخَرَجَ فِيهَا سَهْمِي فَخَرَجْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبلَ أنْ يَنْزِلَ الْحِجَابُ".

(6/77)


قوله: "باب حمل الرجل امرأته في الغزو دون بعض نسائه" ذكر فيه طرفا من حديث عائشة في قصة الإفك وهو ظاهر فيما ترجم له. وسيأتي شرح حديث الإفك تاما في التفسير، وفيه التصريح بأن حمل عائشة معه كان بعد القرعة بين نسائه.

(6/78)


باب غزو النساء و قتالهن مع الرجال
...
65 - باب غَزْوِ النِّسَاءِ وَقِتَالِهِنَّ مَعَ الرِّجَالِ
2880- حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ انْهَزَمَ النَّاسُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "وَلَقَدْ رَأَيْتُ عَائِشَةَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ وَأُمَّ سُلَيْمٍ وَإِنَّهُمَا لَمُشَمِّرَتَانِ أَرَى خَدَمَ سُوقِهِمَا تَنْقُزَانِ الْقِرَبَ وَقَالَ غَيْرُهُ تَنْقُلاَنِ الْقِرَبَ عَلَى مُتُونِهِمَا ثُمَّ تُفْرِغَانِهِ فِي أَفْوَاهِ الْقَوْمِ ثُمَّ تَرْجِعَانِ فَتَمْلاَنِهَا ثُمَّ تَجِيئَانِ فَتُفْرِغَانِهَا فِي أَفْوَاهِ الْقَوْمِ".
[الحديث 2880 – أطرافه في: 2902، 3811، 4064]
قوله: "باب عزو النساء وقتالهن مع الرجال" وقع في هذه الترجمة حديث الربيع بنت معوذ، وسيأتي بعد باب وفي حديث أم عطية الذي مضى في الحيض وفي حديث ابن عباس عند مسلم: "كان يغزو بهن فيداوين الجرحى" الحديث. ووقع في حديث آخر مرسل أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن الزهري قال: "كان النساء يشهدن مع النبي صلى الله عليه وسلم المشاهد ويسقين المقاتلة ويداوين الجرحى" ولأبى داود من طريق حشرج بن زياد عن جدته أنهن خرجن مع النبي صلى الله عليه وسلم في حنين وفيه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم سألهن عن ذلك فقلن: خرجنا نغزل الشعر ونعين في سبيل الله ونداوي الجرحى ونناول السهام ونسقى السويق" ، ولم أر في شيء من ذلك التصريح بأنهن قاتلن، ولأجل ذلك قال ابن المنير: بوب على قتالهن وليس هو في الحديث، فإما أن يريد أن إعانتهن للغزاة غزو وإما أن يريد أنهن ما ثبتن لسقى الجرحى ونحو ذلك ألا وهن بصدد أن يدافعن عن أنفسهن، وهو الغالب انتهى وقد وقع عند مسلم من وجه آخر عن أنس "أن أم سليم اتخذت خنجرا يوم حنين فقالت: اتخذته إن دنا منى أحد من المشركين بقرت به بطنه" ويحتمل أن يكون غرض البخاري بالترجمة أن يبين أنهن لا يقاتلن وإن خرجن في الغزو، فالتقدير بقوله: "وقتالهن مع الرجال" أي هل هو سائغ، أو إذا خرجن مع الرجال في الغزر ويقتصرن على ما ذكر من مداواة الجرحى ونحو ذلك؟ ثم ذكر المصنف حديث أنس "لما كان يوم أحد انهزم الناس" الحديث، والغرض منه قوله فيه: "ولقد رأيت عائشة بنت أبي بكر وأم سليم وإنهما لمشمرتان" وقد أخرجه في المغازي بهذا الإسناد بأتم من هذا السياق ويأتي شرحه هناك إن شاء الله تعالى وقوله: "خدم سوقهما" بفتح الخاء المعجمة والدال المهملة وهي الخلاخيل، وهذه كانت قبل الحجاب، ويحتمل أنها كانت عن غير قصد للنظر، وقوله: "تنقزان" بضم القاف بعدها زاي، و"القرب" بكسر القاف وبالموحدة جمع قربة، وقوله: "وقال غيره تنقلان القرب" يعني باللام دون الزاي وهي رواية جعفر بن مهران عن عبد الوارث أخرجها الإسماعيلي، وقوله: "تنقزان" قال الداودي: معناه تسرعان المشي كالهرولة. وقال عياض: قيل معنى تنقزان تثبان، والنقز: الوثب والقفز، كناية عن سرعة السير، وضبطوا القرب بالنصب وهو مشكل على هذا التأويل بخلاف رواية تنقلان، قال: وكان بعض الشيوخ يقرؤه برفع القرب على أن الجملة حال، وقد خرج رواية النصب على نزع الخافض كأنه قال تثبان بالقرب، قال: وضبطه بعضهم تنقزان بضم أوله

(6/78)


أي تحركان القرب لشدة عدوهما، وتصح على هذا رواية النصب وقال الخطابي: أحسب الرواية، "تزفران" بدل تنقزان، والزفر حمل القرب الثقال كما في الحديث الذي بعده.

(6/79)


66 - باب حَمْلِ النِّسَاءِ الْقِرَبَ إِلَى النَّاسِ فِي الْغَزْوِ
2881- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ ثَعْلَبَةُ بْنُ أَبِي مَالِكٍ "إِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَسَمَ مُرُوطًا بَيْنَ نِسَاءٍ مِنْ نِسَاءِ الْمَدِينَةِ فَبَقِيَ مِرْطٌ جَيِّدٌ فَقَالَ لَهُ بَعْضُ مَنْ عِنْدَهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَعْطِ هَذَا ابْنَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي عِنْدَكَ يُرِيدُونَ أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ عَلِيٍّ فَقَالَ عُمَرُ أُمُّ سَلِيطٍ أَحَقُّ وَأُمُّ سَلِيطٍ مِنْ نِسَاءِ الأَنْصَارِ مِمَّنْ بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "عُمَرُ فَإِنَّهَا كَانَتْ تَزْفِرُ لَنَا الْقِرَبَ يَوْمَ أُحُدٍ". قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ تَزْفِرُ تَخِيطُ.
[الحديث 2881 – طرفه في: 4071]
قوله: "باب حمل النساء القرب إلى الناس في الغزو" أي جواز ذلك. قوله: "قال ثعلبة بن أبي مالك" في رواية بن وهب عن يونس عند أبي نعيم في "المستخرج" عن ثعلبة القرظي بضم القاف وفتح الراء بعدها معجمة مختلف في صحبته. قال ابن معين: له رواية. وقال ابن سعد قدم أبو مالك واسمه عبد الله بن سام من اليمن وهو من كندة فتزوج امرأة من بني قريظة فعرف بهم وحالف الأنصار. قلت: وكانت اليهودية قد فشت في اليمين فلذلك صاهرهم أبو مالك، وكأنه قتل في بني قريظة فقد ذكر مصعب الزبيري أن ثعلبة ممن لم يكن أثبت قوله فترك، وكان ثعلبة إمام قومه، وله حديث مرفوع عند ابن ماجة، لكن جزم أبو حاتم بأنه مرسل، وقد صرح الزهري عنه بالإخبار في حديث آخر سيأتي في "باب لواء النبي صلى الله عليه وسلم". قوله: "فقال له بعض من عنده" لم أقف على اسمه. قوله: "يريدون أم كلثوم" كان عمر قد تزوج أم كلثوم بنت علي وأمها فاطمة ولهذا قالوا لها بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت قد ولدت في حياته وهي أصغر بنات فاطمة عليها السلام. قوله: "أم سليط" كذا فيه بفتح المهملة وكسر اللام وزن رغيف، ولم أر لها في كتب من صنف في الصحابة ذكرا إلا في الاستيعاب فذكرها مختصرة بالذي هنا، وقد ذكرها ابن سعد في طبقات النساء وقال: هي أم قيس بنت عبيد بن زياد بن ثعلبة من بني مازن، تزوجها أبو سليط بن أبي حارثة عمرو بن قيس من بني عدى بن النجار فولدت له سليطا وفاطمة، يعني فلذلك يقال لها أم سليط، وذكر أنها شهدت خيبر وحنينا، وغفل عن ذكر شهودها أحدا وهو ثابت بهذا الحديث، وذكر في ترجمة أم عمارة الأنصارية شبيها بهذه القصة من وجه آخر عن عمر لكن فيه: "فقال بعضهم أعطه صفية بنت أبي عبيد زوت عبد الله بن عمر" وقال فيه أيضا: "لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما التفت يمينا ولا شمالا يوم أحد إلا وأنا أراها تقاتل دوني" فهذا يشعر بأن القصة تعددت. قوله: "تزفر" بفتح أوله وسكون الزاي وكسر الفاء أي تحمل وزنا ومعنى. قوله: "قال أبو عبد الله: تزفر تخيط" كذا في رواية المستملي وحده، وتعقب بأن ذلك لا يعرف في اللغة وإنما الزفر الحمل وهو بوزنه ومعناه، قال الخليل: "زفر بالحمل زفرا نهض به" والزفر أيضا القربة نفسها وقيل إذا كانت مملوءة ماء، ويقال للإماء إذا حملن الترب زوافر، والزفر أيضا البحر الفياض، وقيل: الزافر: الذي يعين في حمل القربة. قلت: وقع

(6/79)


عند أبي نعيم في "المستخرج" بعد أن أخرجه من طريق عبد الله بن وهب عن يونس قال عبد الله تزفر تحمل. وقال أبو صالح كاتب الليث: تزفر تخرز. قلت: فلعل هذا مستند البخاري في تفسيره، وسيأتي بقية الكلام على فوائد هذا الحديث في غزوة أحد إن شاء الله تعالى.

(6/80)


67 - باب مُدَاوَاةِ النِّسَاءِ الْجَرْحَى فِي الْغَزْوِ
2882- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ ذَكْوَانَ عَنْ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ قَالَتْ كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَسْقِي وَنُدَاوِي الْجَرْحَى وَنَرُدُّ الْقَتْلَى إِلَى الْمَدِينَةِ "
[الحديث 2882 – طرفاه في: 2883، 5679]

(6/80)


باب رد النساء الجرحى و القتلى
...
68 - باب رَدِّ النِّسَاءِ الْجَرْحَى وَالْقَتْلَى
2883- حدثنا مسدد حدثنا بشر بن المفضل عن خالد بن ذكوان عن الربيع بنت معوذ قالت: "كنا نغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم فنسقي القوم ونخدمهم، ونرد الجرحى والقتلى إلى المدينة".
قوله: "باب مداواة النساء الجرحى" أى من الرجال وغيرهم "في الغزو".
ثم قال بعده: "باب رد النساء الجرحى والقتلى" كذا للأكثر، وزاد الكشميهيني: "إلى المدينة". قوله: "عن الربيع" بالتشديد، وأبوها معوذ بالتشديد أيضا والذال المعجمة لها ولأبيها صحبة. قوله: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم نسقي" كذا أورده في الأول مختصرا، وأورده في الذي بعده وسياقه أتم وأوفى بالمقصود، وزاد الإسماعيلي من طريق أخرى خالد بن ذكوان "ولا نقاتل" وفيه جواز معالجة المرأة الأجنبية الرجل الأجنبي للضرورة. قال ابن بطال: ويختص ذلك بذوات المحارم ثم بالمتجالات منهن لأن موضع الجرح لا يلتذ بلمسه بل يقشعر منه الجلد، فإن دعت الضرورة لغير المتجالات فليكن بغير مباشرة ولا مس، ويدل على ذلك اتفاقهم على أن المرأة إذا ماتت ولم توجد امرأة تغسلها أن الرجل لا يباشر غسلها بالمس بل يغسلها من وراء حائل في قول بعضهم كالزهري وفي قول الأكثر تيمم. وقال الأوزاعي: تدفن كما هي. قال ابن المنير: الفرق بين حال المداواة وتغسيل الميت أن الغسل عبادة والمداواة ضرورة، والضرورات تبيح المحظورات.

(6/80)


69 - باب نَزْعِ السَّهْمِ مِنْ الْبَدَنِ
2884- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ رُمِيَ أَبُو عَامِرٍ فِي رُكْبَتِهِ فَانْتَهَيْتُ إِلَيْهِ قَالَ انْزِعْ هَذَا السَّهْمَ فَنَزَعْتُهُ فَنَزَا مِنْهُ الْمَاءُ فَدَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعُبَيْدٍ أَبِي عَامِرٍ".
[الحديث 2884 – طرفاه في: 4323، 6382]

(6/80)


70 - باب الْحِرَاسَةِ فِي الْغَزْوِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
2885- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ خَلِيلٍ أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ سَمِعْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَقُولُ: "كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَهِرَ فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ قَالَ لَيْتَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِي صَالِحًا يَحْرُسُنِي اللَّيْلَةَ إِذْ سَمِعْنَا صَوْتَ سِلاَحٍ فَقَالَ مَنْ هَذَا فَقَالَ أَنَا سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ جِئْتُ لِأَحْرُسَكَ وَنَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
[الحديث 2885- طرفه في: 7231]
2886- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ يَعْنِي ابْنَ عَيَّاشٍ عَنْ أَبِي حَصِينٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ وَالْقَطِيفَةِ وَالْخَمِيصَةِ إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ وَإِنْ لَمْ يُعْطَ لَمْ يَرْضَ لَمْ يَرْفَعْهُ إِسْرَائِيلُ وَمُحَمَّدُ بْنُ جُحَادَةَ عَنْ أَبِي حَصِينٍ.
[الحديث 2886 – طرفاه في: 2887، 6435]
2887- وَزَادَنَا عَمْرٌو قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ وَعَبْدُ الْخَمِيصَةِ إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ تَعِسَ وَانْتَكَسَ وَإِذَا شِيكَ فَلاَ انْتَقَشَ طُوبَى لِعَبْدٍ آخِذٍ بِعِنَانِ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَشْعَثَ رَأْسُهُ مُغْبَرَّةٍ قَدَمَاهُ إِنْ كَانَ فِي الْحِرَاسَةِ كَانَ فِي الْحِرَاسَةِ وَإِنْ كَانَ فِي السَّاقَةِ كَانَ فِي السَّاقَةِ إِنْ اسْتَأْذَنَ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ وَإِنْ شَفَعَ لَمْ يُشَفَّعْ".
قال أبو عبد الله: لم يرفعْه إسرائيل ومحمَّد بن جُحادة عن أبي حصَين. وَقَالَ: "تَعْسًا" فكَأَنَّهُ يَقُولُ: فَأَتْعَسَهُمْ اللَّهُ. "طُوبَى" فُعْلَى مِنْ كُلِّ شَيْءٍ طَيِّبٍ، وَهِيَ يَاءٌ حُوِّلَتْ إِلَى الْوَاوِ، وَهِيَ مِنْ يَطِيبُ.
قوله: "باب الحراسة في الغزو في سبيل الله" أى بيان ما فيها من الفضل. وذكر فيه حديثين: أحدهما: عن عائشة. قوله: "أخبرنا يحيى بن سعيد" هو الأنصاري، وعبد الله بن عامر بن ربيعة هو العنزي له رؤية ولأبيه صحبة.

(6/81)


قوله: "كان النبي صلى الله عليه وسلم سهر، فلما قدم المدينة قال: ليت رجلا صالحا من أصحابي يحرسني الليلة" هكذا في هذه الرواية ولم يبين زمان السهر، وظاهره أن السهر كان قبل القدوم والقول بعده، وقد أخرجه مسلم من طريق الليث عن يحيى بن سعيد وقال فيه: "سهر رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدمه المدينة ليلة فقال" فذكره، وظاهره أن السهر والقول مها كانا بعد القدوم، وقد أخرجه النسائي من طريق أبي إسحاق الفزاري عن يحيى بن سعيد بلفظ: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أول ما قدم المدينة يسهر من الليل" وليس المراد بقدومه المدينة أول قدومه إليها من الهجرة لأن عائشة إذ ذاك لم تكن عنده ولا كان سعد أيضا ممن سبق، وقد أخرجه أحد عن يزيد بن هارون عن يحيى بن سعيد بلفظ: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سهر ذات ليلة وهي إلى جنبه، قالت فقلت: ما شأنك يا رسول الله" الحديث وقد روى الترمذي من طريق عبد الله بن شقيق عن عائشة قالت: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرس حتى نزلت هذه الآية : {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}" وإسناده حسن واختلف في وصله وإرساله. قوله: "جئت لأحرسك" في رواية الليث المذكورة " فقال وقع في نفسي خوف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئت أحرسه، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم". قوله: "فنام النبي صلى الله عليه وسلم" زاد المصنف في التمني من طريق سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد "حتى سمعنا غطيطه" وفي الحديث الأخذ بالحذر والاحتراس من العدو، وأن على الناس أن يحرسوا سلطانهم خشية القتل وفيه الثناء على من تبرع بالخير وتسميته صالحا، وإنما عانى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك مع قوة توكله للاستنان به في ذلك، وقد ظاهر بين درعين مع أنهم كانوا إذا اشتد البأس كان أمام الكل وأيضا فالتوكل لا ينافي تعاطي الأسباب لأن التوكل عمل القلب وهي عمل البدن وقد قال إبراهيم عليه السلام "ولكن ليطمئن قلبي" وقال عليه الصلاة والسلام "اعقلها وتوكل" قال ابن بطال: نسخ ذلك كما دل عليه حديث عائشة؛ وقال القرطبي: ليس في الآية ما ينافي الحراسة كما أن إعلام الله نصر دينه وإظهاره ما يمنع الأمر بالقتال وإعداد العدد، وعلى هذا فالمراد العصمة من الفتنة والإضلال أو إزهاق الروح والله أعلم. قوله: "وزاد لنا عمرو" ابن مرزوق هكذا، وعمرو هو من شيوخ البخاري وقد صرح بسماعه منه في مواضع أخرى، وجميع الإسناد سواء مدنيون، وفيه تابعيان عبد الله بن دينار وأبو صالح، والمراد بالزيادة قوله في آخره: "تعس وانتكس إلخ " وقد وصله أبو نعيم من طريق أبي مسلم الكجي وغيره عن عمرو بن مرزوق وسيأتي مزيدا لهذا في التمني إن شاء الله تعالى. قوله: "تعس عبد الدينار" الحديث سيأتي بهذا الإسناد والمتن في كتاب الرقاق ونذكر شرحه هناك إن شاء الله تعالى، والغرض منه هنا قوله في الطريق الثانية "طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه" الحديث لقوله: "إن كان في الحراسة كان في الحراسة". قوله: "تعس" بفتح أوله وكسر المهملة ويجوز فتحها وهو ضد سعد، تقول تعس فلان أي شقي. وقيل: معنى التعس الكب على الوجه، قال الخليل: التعس أن يعثر فلا يفيق من عثرته. وقيل: التعس الشر. وقيل: البعد. وقيل: الهلاك. وقيل: التعس أن يخر على وجهه والنكس أن يخر على رأسه. وقيل: تعس أخطأ حجته وبغيته. وقوله: "وانتكس" بالمهملة أي عاوده المرض، وقيل إذا سقط اشتغل بسقطته حتى يسقط أخرى وحكى عياض أن بعضهم رواه "انتكش" بالمعجمة وفسره بالرجوع، وجعله دعاء له لا عليه، والأول أولى. قوله: "وإذا شيك فلا انتقش" شيك: بكسر المعجمة وسكون التحتانية بعدها كاف، وانتقش: بالقاف والمعجمة، والمعنى إذا أصابته الشوكة فلا وجد من يخرجها منه بالمنقاش، تقول نقشت الشوك إذا استخرجته وذكر ابن قتيبة أن بعضهم رواه بالعين المهملة بدل القاف، ومعناه صحيح لكن مع ذكر الشوكة

(6/82)


تقوى رواية القاف ووقع في رواية الأصيلي عن أبي زيد المروزي "وإذا شيت" بمثناة فوقانية بدل الكاف وهو تغيير فاحش، وفي الدعاء بذلك إشارة إلى عكس مقصوده لأن من عثر فدخلت في رجله الشوكة فلم يجد من يخرجها يصير عاجزا عن الحركة والسعي في تحصيل الدنيا وفي قوله: "طوبى لعبد إلخ " إشارة إلى الحض على العمل بما يحصل به خير الدنيا والآخرة. قوله: "أشعث" صفة لعبد وهو مجرور بالفتحة لعدم الصرف و "رأسه " بالرفع الفاعل، قال الطيبي "أشعث رأسه مغبرة قدماه" حالان من قوله: "لعبد" لأنه موصوف وقال الكرماني: يجوز الرفع ولم يوجهه وقال غيره: ويجوز في أشعث الرفع على أنه صفة رأس، أي رأسه أشعث، وكذا قوله: "مغبرة قدماه". قوله: "إن كان في الحراسة كان في الحراسة وإن كان في الساقة كان في الساقة" هذا من المواضع التي اتحد فيها الشرط والجزاء لفظا لكن المعنى مختلف، والتقدير إن كان المهم في الحراسة كان فيها، وقيل معنى "فهو في الحراسة" أي فهو في ثواب الحراسة، وقيل هو للتعظيم أي إن كان في الحراسة فهو في أمر عظيم، والمراد منه لازمه أي فعليه أن يأتي بلوازمه ويكون مشتغلا بخويصة عمله وقال ابن الجوزي: المعنى أنه خامل الذكر لا يقصد السمو، فإن أنفق له السير سار؛ فكأنه قال: إن كان في الحراسة استمر فيها، وإن كان في الساقة استمر فيها. قوله: "إن استأذن لم يؤذن له وإن شفع لم يشفع" فيه ترك حب الرياسة والشهرة وفضل الخمول والتواضع، وسيأتي مزيد لذلك في كتاب الرقاق إن شاء الله تعالى. قوله: "فتعسا كأنه يقول فأتعسهم الله" وقع هذا في رواية المستملي، وهي على عادة البخاري في شرح اللفظة التي توافق ما في القرآن بتفسيرها، وهكذا قال أهل التفسير في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ} . قوله: "طوبى" فعلى من كل شيء طيب وهي ياء حولت إلى الواو وهو من يطيب" كذا في رواية المستملي أيضا والقول فيه كالقول في الذي قبله. وقال غيره: المراد الدعاء له بالجنة، لأن طوبى أشهر شجرها وأطيبه، فدعا له أن ينالها، ودخول الجنة ملزوم نيلها. "تكميل": ورد في فضل الحراسة عدة أحاديث ليست على شرط البخاري، منها حديث عثمان مرفوعا: "حرس ليلة في سبيل الله خير من ألف ليلة يقام ليلها ويصام نهارها" أخرجه ابن ماجة والحاكم، وحديث سهل بن معاذ عن أبيه مرفوعا: "من حرس وراء المسلمين متطوعا لم ير النار بعينه إلا تحلة القسم" أخرجه أحمد، وحديث أبي ريحانه مرفوع "حرمت النار على عين سهرت في سبيل الله" أخرجه النسائي، ونحوه للترمذي عن ابن عباس، وللطبراني من حديث معاوية بن حيدة، ولأبي يعلى من حديث أنس وإسنادها حسن وللحاكم عن أبي هريرة نحوه.

(6/83)


71 - باب فَضْلِ الْخِدْمَةِ فِي الْغَزْوِ
2888- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَرْعَرَةَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "صَحِبْتُ جَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ فَكَانَ يَخْدُمُنِي وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْ أَنَسٍ قَالَ جَرِيرٌ إِنِّي رَأَيْتُ الأَنْصَارَ يَصْنَعُونَ شَيْئًا لاَ أَجِدُ أَحَدًا مِنْهُمْ إِلاَّ أَكْرَمْتُهُ".
2889- حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو مَوْلَى الْمُطَّلِبِ بْنِ حَنْطَبٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: "خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى خَيْبَرَ

(6/83)


أَخْدُمُهُ فَلَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَاجِعًا وَبَدَا لَهُ أُحُدٌ قَالَ: "هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ ثُمَّ أَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ" قَالَ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أُحَرِّمُ مَا بَيْنَ لاَبَتَيْهَا كَتَحْرِيمِ إِبْرَاهِيمَ مَكَّةَ اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي صَاعِنَا وَمُدِّنَا".
2831- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ أَبُو الرَّبِيعِ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ زَكَرِيَّاءَ حَدَّثَنَا عَاصِمٌ عَنْ مُوَرِّقٍ الْعِجْلِيِّ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْثَرُنَا ظِلًّا الَّذِي يَسْتَظِلُّ بِكِسَائِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ صَامُوا فَلَمْ يَعْمَلُوا شَيْئًا وَأَمَّا الَّذِينَ أَفْطَرُوا فَبَعَثُوا الرِّكَابَ وَامْتَهَنُوا وَعَالَجُوا. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ذَهَبَ الْمُفْطِرُونَ الْيَوْمَ بِالأَجْرِ".
قوله: "باب الخدمة في الغزو" أي فضلها، سواء كانت من صغير لكبير أو عكسه أو مع المساواة، وأحاديث الباب الثلاثة يؤخذ منها حكم هذه الأقسام، وثلاثتها عن أنس. قوله: "حدثنا محمد بن عرعرة" بمهملتين، وقد ذكر الطبراني في "الأوسط" أنه تفرد به عن شعبة، وهو من كبار شيوخ البخاري ممن روى عنه الباقون بواسطة. قوله: "صحبت جرير بن عبد الله" في رواية مسلم عن نصر بن على عن محمد بن عرعرة "خرج مع جرير بن عبد الله البجلي في سفر". قوله: "فكان يخدمني وهو أكبر من أنس" فيه التفات أو تجريد، لأنه قال: "من أنس" ولم يقل مني. وفي رواية مسلم عن محمد بن المثنى عن ابن عرعرة "وكان جرير أكبر من أنس" ولعل هذه الجملة من قول ثابت، وزاد مسلم عن نصر بن علي "فقلت لا تفعل". قوله: "يصنعون شيئا" في رواية نصر "يصنعون برسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا" أي من التعظيم وأبهم ذلك مبالغة في تكثير ذلك. قوله: "لا أجد أحدا منهم إلا أكرمته" في رواية نصر "آليت - أي حلفت - أن لا أصحب أحدا منهم إلا خدمته" وفي رواية للإسماعيلي من وجه آخر عن ابن عرعرة "لا أزال أحب الأنصار" وفي هذا الحديث فضل الأنصار وفضل جرير وتواضعه ومحبته للنبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث من الأحاديث التي أوردها المصنف في غير مظنتها، وأليق المواضع بها المناقب. حديث أنس أيضا: "خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر أخدمه" وسيأتي بأتم من هذا السياق بعد بابين. حديث أنس أيضا: وعاصم هو ابن سليمان، ومورق بتشديد الراء المكسورة، وهما تابعيان في نسق والإسناد كله بصريون. قوله: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم" زاد مسلم من وجه آخر عن عاصم "في سفر، فمنا الصائم ومنا المفطر، قال فنزلنا منزلا في يوم حار". قوله: "أكثرنا ظلا من يستظل بكسائه" في رواية مسلم: "وأكثرنا ظلا صاحب الكساء" وزاد: "ومنا من يتقي الشمس بيده". قوله: "فأما الذين صاموا فلم يصنعوا شيئا" في رواية مسلم "فسقط الصوام" أي عجزوا عن العمل. قوله: "وأما الذين أفطروا فبعثوا الركاب" أي أثاروا الإبل لخدمتها وسقيها وعلفها. وفي رواية مسلم: "فضربوا الأخبية وسقوا الركاب". قوله: "بالأجر" أي الوافر، وليس المراد نقص أجر الصوام بل المراد أن المفطرين حصل لهم أجر عملهم ومثل أجر الصوام لتعاطيهم أشغالهم وأشغال الصوام، فلذلك قال: "بالأجر كله" لوجود الصفات المقتضية لتحصيل الأجر منهم، قال ابن أبي صفرة: فيه أن أجر الخدمة في الغزو أعظم من أجر الصيام. قلت: وليس ذلك على العموم وفيه الحض على المعاونة في الجهاد، وعلى أن الفطر في السفر أولى من الصيام وأن الصيام في السفر جائز خلافا لمن قال لا ينعقد وليس في الحديث بيان كونه

(6/84)


إذ ذاك كان صوم فرض أو تطوع وهذا الحديث من الأحاديث التي أوردها المصنف أيضا في غير مظنها لكونه لم يذكره في الصيام واقتصر على إيراده هنا والله أعلم.

(6/85)


72 - باب فَضْلِ مَنْ حَمَلَ مَتَاعَ صَاحِبِهِ فِي السَّفَرِ
2891- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "كُلُّ سُلاَمَى عَلَيْهِ صَدَقَةٌ كُلَّ يَوْمٍ يُعِينُ الرَّجُلَ فِي دَابَّتِهِ يُحَامِلُهُ عَلَيْهَا أَوْ يَرْفَعُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ وَكُلُّ خَطْوَةٍ يَمْشِيهَا إِلَى الصَّلاَةِ صَدَقَةٌ وَدَلُّ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ".
قوله: "باب فضل من حمل متاع صاحبه في السفر" ذكر فيه حديث أبي هريرة، وهو ظاهر فيما ترجم له، لأنه يتناول حالة السفر من هذا الإطلاق بطريق الأولى، والسلامي تقدم تفسيره في الصلح في بعض الكلام عليه، ويأتي بقيته بعد خمسين بابا في "باب من أخذ بالركاب". وقوله: "حدثنا إسحاق بن نصر" هو ابن إبراهيم بن نصر نسب لجده السعدي وهو بالمهملة الساكنة وفتح أوله وقيل بالضم والمعجمة، وقوله: "كل يوم" منصوب على الظرفية. وقوله: "يعين" يأتي توجيه وقوله: "يحامله" أي يساعده في الركوب، وفي الحمل على الدابة قال ابن بطال: وبين في الرواية الآتية في "باب من أخذ بالركاب" أن المراد من أعان صاحب الدابة عليها حيث قال: "ويعين الرجل على دابته" قال: وإذا أجر من فعل ذلك بدابة غيره فإذا حمل غيره على دابة نفسه احتسابا كان أعظم أجرا. وقوله: "دل الطريق" بفتح الدال أي بيانه لمن احتاج إليه، وهو بمعنى الدلالة.

(6/85)


73 - باب فَضْلِ رِبَاطِ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ . وَقَوْلِ اللَّهِ عز وجلَّ [20 أل عمران]: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}
2892- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُنِيرٍ سَمِعَ أَبَا النَّضْرِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا وَمَوْضِعُ سَوْطِ أَحَدِكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا وَالرَّوْحَةُ يَرُوحُهَا الْعَبْدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ الْغَدْوَةُ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا".
قوله: "باب فضل رباط يوم في سبيل الله، وقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} الآية" الرباط بكسر الراء وبالموحدة الخفيفة ملازمة المكان الذي بين المسلمين والكفار لحراسة المسلمين منهم، قال ابن التين: بشرط أن يكون غير الوطن، قاله ابن حبيب عن مالك. قلت: وفيه نظر في إطلاقه فقد يكون وطنه وينوي بالإقامة فيه دفع العدو، ومن ثم اختار كثير من السلف سكنى الثغور، فبين المرابطة والحراسة عموم وخصوص وجهي، واستدلال المصنف بالآية اختيار لأشهر التفاسير، فعن الحسن البصري وقتادة " اصبروا" على طاعة الله {وَصَابِرُوا} أعداء الله في الجهاد {وَرَابِطُوا} في سبيل الله. وعن محمد بن

(6/85)


74 - باب مَنْ غَزَا بِصَبِيٍّ لِلْخِدْمَةِ
2893- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ عَنْ عَمْرٍو عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَبِي طَلْحَةَ الْتَمِسْ غُلاَمًا مِنْ غِلْمَانِكُمْ يَخْدُمُنِي حَتَّى أَخْرُجَ إِلَى خَيْبَرَ فَخَرَجَ بِي أَبُو طَلْحَةَ مُرْدِفِي وَأَنَا غُلاَمٌ رَاهَقْتُ الْحُلُمَ فَكُنْتُ أَخْدُمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا نَزَلَ فَكُنْتُ أَسْمَعُهُ كَثِيرًا يَقُولُ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَالْبُخْلِ وَالْجُبْنِ وَضَلَعِ الدَّيْنِ وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ ثُمَّ قَدِمْنَا خَيْبَرَ فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْحِصْنَ ذُكِرَ لَهُ جَمَالُ صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ وَقَدْ قُتِلَ زَوْجُهَا وَكَانَتْ عَرُوسًا فَاصْطَفَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنَفْسِهِ فَخَرَجَ بِهَا حَتَّى بَلَغْنَا سَدَّ الصَّهْبَاءِ حَلَّتْ فَبَنَى بِهَا ثُمَّ صَنَعَ حَيْسًا فِي نِطَعٍ صَغِيرٍ ثُمَّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "آذِنْ مَنْ حَوْلَكَ فَكَانَتْ تِلْكَ وَلِيمَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى صَفِيَّةَ ثُمَّ خَرَجْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ قَالَ فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَوِّي لَهَا وَرَاءَهُ بِعَبَاءَةٍ ثُمَّ يَجْلِسُ عِنْدَ بَعِيرِهِ فَيَضَعُ رُكْبَتَهُ فَتَضَعُ صَفِيَّةُ

(6/86)


رِجْلَهَا عَلَى رُكْبَتِهِ حَتَّى تَرْكَبَ فَسِرْنَا حَتَّى إِذَا أَشْرَفْنَا عَلَى الْمَدِينَةِ نَظَرَ إِلَى أُحُدٍ فَقَالَ هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ ثُمَّ نَظَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أُحَرِّمُ مَا بَيْنَ لاَبَتَيْهَا بِمِثْلِ مَا حَرَّمَ إِبْرَاهِيمُ مَكَّةَ اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي مُدِّهِمْ وَصَاعِهِمْ".
قوله: "باب من غزا بصبي للخدمة" يشير إلى أن الصبي لا يخاطب بالجهاد ولكن يجوز الخروج به بطريق التبعية ويعقوب المذكور في الإسناد هو ابن عبد الرحمن الإسكندراني وعمرو هو ابن أبي عمرو مولى المطلب، وسأذكر معظم شرحه في غزوة خيبر من كتاب المغازي إن شاء الله تعالى وقد اشتمل على عدة من أحاديث الاستعاذة ويأتي شرحها في الدعوات، وقصة صفية بنت حيي والبناء بها ويأتي شرح ذلك في النكاح، وقوله صلى الله عليه وسلم لأحد "هذا جبل يحبنا ونحبه" وقوله عن المدينة "اللهم إني أحرم ما بين لابتيها" وقد تقدم شرحه في أواخر الحج، وقد تقدم من أصل الحديث شيء يتعلق بستر العورة في كتاب الصلاة لكن ذلك القدر ليس في هذه الرواية، والغرض من الحديث هنا صدره، وقد استشكل من حيث أن ظاهره أن ابتداء خدمة أنس للنبي صلى الله عليه وسلم من أول ما قدم المدينة لأنه صح عنه أنه قال: "خدمت النبي صلى الله عليه وسلم تسع سنين" وفي رواية: "عشر سنين" وخيبر كانت سنة سبع فيلزم أن يكون إنما خدمه أربع سنين قاله الداودي وغيره، وأجيب بأن معنى قوله لأبي طلحة "التمس لي غلاما من غلمانكم " تعيين من يخرج معه في تلك السفرة فعين له أبو طلحة أنسا، فينحط الالتماس على الاستئذان في المسافرة به لا في أصل الخدمة فإنها كانت متقدمة فيجمع بين الحديثين بذلك وفي الحديث جواز استخدام اليتيم بغير أجرة لأن ذلك لم يقع ذكره في هذا الحديث، وحل الصبيان في الغزو كذا قاله بعض الشراح وتبعوه، وفيه نظر لان أنسا حينئذ كان قد زاد على خمسة عشر لأن خيبر كانت سنة سبع من الهجرة وكان عمره عند الهجرة ثمان سنين، ولا يلزم من عدم ذكر الأجرة عدم وقوعها. قوله: "هذا جبل يحبنا ونحبه" قيل هو على الحقيقة ولا مانع من وقوع مثل ذلك بأن يخلق الله المحبة في بعض الجمادات، وقيل هو على المجاز والمراد أهل أحد، على حد قوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} وقال الشاعر:
وما حب الديار شغفن قلبي ... ولكن حب من سكن الديارا

(6/87)


75 - باب رُكُوبِ الْبَحْرِ
2894، 2895- حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ يَحْيَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ حَدَّثَتْنِي أُمُّ حَرَامٍ "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمًا فِي بَيْتِهَا فَاسْتَيْقَظَ وَهُوَ يَضْحَكُ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا يُضْحِكُكَ قَالَ عَجِبْتُ مِنْ قَوْمٍ مِنْ أُمَّتِي يَرْكَبُونَ الْبَحْرَ كَالْمُلُوكِ عَلَى الأَسِرَّةِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ فَقَالَ أَنْتِ مِنْهُمْ ثُمَّ نَامَ فَاسْتَيْقَظَ وَهُوَ يَضْحَكُ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ فَيَقُولُ أَنْتِ مِنْ الأَوَّلِينَ فَتَزَوَّجَ بِهَا عُبَادَةُ

(6/87)


بْنُ الصَّامِتِ فَخَرَجَ بِهَا إِلَى الْغَزْوِ فَلَمَّا رَجَعَتْ قُرِّبَتْ دَابَّةٌ لِتَرْكَبَهَا فَوَقَعَتْ فَانْدَقَّتْ عُنُقُهَا".
قوله: "باب ركوب البحر" كذا أطلق الترجمة، وخصوص إيراده في أبواب الجهاد يشير إلى تخصيصه بالغزو، وقد اختلف السلف في جواز ركوبه، وتقدم في أوائل البيوع قول مطر الوراق: ما ذكره الله إلا بحق، واحتج بقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} وفي حديث زهير بن عبد الله يرفعه: "من ركب البحر إذا ارتج فقد برئت منه الذمة" وفي رواية: "فلا يلومن إلا نفسه" أخرجه أبو عبيد في "غريب الحديث" وزهير مختلف في صحبته، وقد أخرج البخاري حديثه في تاريخه فقال في روايته: "عن زهير عن رجل من الصحابة" وإسناده حسن وفيه تقييد المنع بالارتجاج، ومفهومه الجواز عند عدمه، وهو المشهور من أقوال العلماء، فإذا غلبت السلامة فالبر والبحر سواء ومنهم من فرق بين الرجل والمرأة وهو عن مالك، فمنعه للمرأة مطلقا، وهذا الحديث حجة للجمهور، وقد تقدم قريبا أن أول من ركبه للغزو معاوية بن أبي سفيان في خلافة عثمان، وذكر مالك أن عمر كان يمنع الناس من ركوب البحر حتى كان عثمان فما زال معاوية يستأذنه حتى أذن له. قوله: "عن يحيى" هو ابن سعيد الأنصاري وقد سبق الحديث قريبا وأن شرحه سيأتي في كتاب الاستئذان.

(6/88)


باب من استعان بالضعفاء و الصالحين في الحرب
...
76 - باب مَنْ اسْتَعَانَ بِالضُّعَفَاءِ وَالصَّالِحِينَ فِي الْحَرْبِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَخْبَرَنِي أَبُو سُفْيَانَ "قَالَ لِي قَيْصَرُ سَأَلْتُكَ أَشْرَافُ النَّاسِ اتَّبَعُوهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟ فَزَعَمْتَ ضُعَفَاءَهُمْ وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ".
2896- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ طَلْحَةَ عَنْ طَلْحَةَ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: "رَأَى سَعْدٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ لَهُ فَضْلًا عَلَى مَنْ دُونَهُ، فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إِلاَّ بِضُعَفَائِكُمْ".
2897- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو سَمِعَ جَابِرًا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يَأْتِي زَمَانٌ يَغْزُو فِئَامٌ مِنْ النَّاسِ فَيُقَالُ فِيكُمْ مَنْ صَحِبَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُقَالُ نَعَمْ فَيُفْتَحُ عَلَيْهِ ثُمَّ يَأْتِي زَمَانٌ فَيُقَالُ فِيكُمْ مَنْ صَحِبَ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُقَالُ نَعَمْ فَيُفْتَحُ ثُمَّ يَأْتِي زَمَانٌ فَيُقَالُ فِيكُمْ مَنْ صَحِبَ صَاحِبَ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُقَالُ نَعَمْ فَيُفْتَحُ".
[الحديث 2897 – طرفاه في: 3594، 3649]
قوله: "باب من استعان بالضعفاء والصالحين في الحرب" أي ببركتهم ودعائهم. قوله: "وقال ابن عباس أخبرني أبو سفيان" أي ابن حرب فذكر طرفا من الحديث الطويل وقد تقدم موصولا في بدء الوحي، والغرض منه قوله في الضعفاء "وهم أتباع الرسل" وطريق الاحتجاج به حكاية ابن عباس ذلك وتقريره له ثم ذكر في الباب حديثين. قوله: "حدثنا محمد بن طلحة" أي أبو مصرف. وقوله: "عن طلحة" أي ابن مصرف وهو والد محمد بن طلحة الراوي عنه، و"مصعب بن سعد" أي ابن أبي وقاص، و قوله: "رأى سعد" أي ابن أبي وقاص وهو والد مصعب الراوي عنه ثم أن صورة هذا السياق مرسل لأن مصعبا يدرك زمان هذا القول، لكن هو محمول على أنه سمع ذلك من أبيه، وقد وقع التصريح عن مصعب بالرواية له عن أبيه عند الإسماعيلي فأخرجه من طريق معاذ بن هانئ

(6/88)


حدثنا محمد بن طلحة فقال فيه: "عن مصعب بن سعد عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" فذكر المرفوع دون ما في أوله، وكذا أخرجه هو والنسائي من طريق مسعر عن طلحة بن مصرف عن مصعب عن أبيه ولفظه: "أنه ظن أن له فضلا على من دونه" الحديث، ورواه عمرو بن مرة عن مصعب بن سعد عن أبيه مرفوعا أيضا لكنه اختصره ولفظه: "ينصر المسلمون بدعاء المستضعفين" أخرجه أبو نعيم في ترجمته في "الحلية" من رواية عبد السلام بن حرب عن أبي خالد الدالاني عن عمرو بن مرة وقال: غريب من حديث عمرو تفرد به عبد السلام. قوله: "رأى" أي ظن وهي رواية النسائي. قوله: "على من دونه" زاد النسائي: "من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي بسبب شجاعته ونحو ذلك. قوله: "هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم" في رواية النسائي: "إنما نصر الله هذه الأمة بضعفتهم، بدعواتهم وصلاتهم وإخلاصهم" وله شاهد من حديث أبي الدرداء عند أحمد والنسائي بلفظ: "إنما تنصرون وترزقون بضعفائكم" قال ابن بطال: تأويل الحديث أن الضعفاء أشد إخلاصا في الدعاء وأكثر خشوعا في العبادة لخلاء قلوبهم عن التعلق بزخرف الدنيا. وقال المهلب: أراد صلى الله عليه وسلم بذلك حض سعد على التواضع ونفى الزهو على غيره وترك احتقار المسلم في كل حالة، وقد روى عبد الرزاق من طريق مكحول في قصة سعد هذه زيادة مع إرسالها فقال: "قال سعد يا رسول الله أرأيت رجلا يكون حامية القوم ويدفع عن أصحابه أيكون نصيبه كنصيب غيره؟" فذكر الحديث، وعلى هذا فالمراد بالفضل إرادة الزيادة من الغنيمة، فأعلمه صلى الله عليه وسلم أن سهام القاتلة سواء فإن كان القوي يترجح بفضل شجاعته فإن الضعيف يترجح بفضل دعائه وإخلاصه، وبهذا يظهر السر في تعقب المصنف له بحديث أبي سعيد الثاني. قوله: "عن عمرو" هو ابن دينار، وجابر هو ابن عبد الله، وروايته عن أبي سعيد من رواية الأقران. قوله: "يغزو فئام" بكسر الفاء ويجوز فتحها وبهمزة على التحتانية ويجوز تسهيلها أي جماعة، وسيأتي شرحه في علامات النبوة وفضائل الصحابة، قال ابن بطال: هو كقوله في الحديث الأخر "خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم" لأنه يفتح للصحابة لفضلهم ثم للتابعين لفضلهم لتابعهم لفضلهم، قال ولذلك كان الصلاح والفضل والنصر للطبقة الرابعة أقل فكيف بمن بعدهم والله المستعان.

(6/89)


77 - باب لاَ يَقُولُ فُلاَنٌ شَهِيدٌ
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِهِ".
2898- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْتَقَى هُوَ وَالْمُشْرِكُونَ فَاقْتَتَلُوا فَلَمَّا مَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى عَسْكَرِهِ وَمَالَ الْآخَرُونَ إِلَى عَسْكَرِهِمْ وَفِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ لاَ يَدَعُ لَهُمْ شَاذَّةً وَلاَ فَاذَّةً إِلاَّ اتَّبَعَهَا يَضْرِبُهَا بِسَيْفِهِ فَقَالَ مَا أَجْزَأَ مِنَّا الْيَوْمَ أَحَدٌ كَمَا أَجْزَأَ فُلاَنٌ. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَمَا إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ أَنَا صَاحِبُهُ قَالَ فَخَرَجَ مَعَهُ كُلَّمَا وَقَفَ وَقَفَ مَعَهُ وَإِذَا أَسْرَعَ أَسْرَعَ مَعَهُ قَالَ فَجُرِحَ الرَّجُلُ جُرْحًا شَدِيدًا فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ فَوَضَعَ نَصْلَ سَيْفِهِ بِالأَرْضِ وَذُبَابَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ ثُمَّ تَحَامَلَ عَلَى

(6/89)


سَيْفِهِ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَخَرَجَ الرَّجُلُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ قَالَ وَمَا ذَاكَ قَالَ الرَّجُلُ الَّذِي ذَكَرْتَ آنِفًا أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَأَعْظَمَ النَّاسُ ذَلِكَ فَقُلْتُ أَنَا لَكُمْ بِهِ فَخَرَجْتُ فِي طَلَبِهِ ثُمَّ جُرِحَ جُرْحًا شَدِيدًا فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ فَوَضَعَ نَصْلَ سَيْفِهِ فِي الأَرْضِ وَذُبَابَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ ثُمَّ تَحَامَلَ عَلَيْهِ فَقَتَلَ نَفْسَهُ. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عِنْدَ ذَلِكَ إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ".
[الحديث 2898 – أطرافه في: 4202، 4207، 6493، 6607]
قوله: "باب لا يقال فلان شهيد" أي على سبيل القطع بذلك إلا إن كان بالوحي، وكأنه أشار إلى حديث عمر أنه خطب فقال: "تقولون في مغازيكم فلان شهيد ومات فلان شهيدا، ولعله قد يكون قد أوقر راحلته، ألا لا تقولوا ذلكم ولكن قولوا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من مات في سبيل الله أو قتل فهو شهيد" وهو حديث حسن أخرجه أحمد وسيد بن منصور وغيرهما من طريق محمد بن سيرين عن أبي العجفاء بفتح المهملة وسكون الجيم ثم فاء عن عمر، وله شاهد في حديث مرفوع أخرجه أبو نعيم من طريق عبد الله بن الصلت عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من تعدون الشهيد؟ قالوا: من أصابه السلاح، قال: كم من أصابه السلاح وليس بشهيد ولا حميد، وكم من مات على فراشه حتف أنفه عند الله صديق وشهيد" وفي إسناده نظر، فإنه من رواية عبد الله بن خبيق بالمعجمة والموحدة والقاف مصغر عن يوسف بن أسباط الزاهد المشهور، وعلى هذا فالمراد النهي عن تعيين وصف واحد بعينه بأنه شهيد، بل يجوز أن يقال ذلك على طريق الإجمال. قوله: "قال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : الله أعلم بمن يجاهد في سبيله والله أعلم بمن يكلم في سبيله" أى يجرح، وهذا طرف من حديث تقدم في أوائل الجهاد من طريق سعيد بن المسيب عن أبي هريرة باللفظ الأول، ومن طريق الأعرج عنه باللفظ الثاني، ووجه أخذ الترجمة منه يظهر من حديث أبي موسى الماضي "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله" ولا يطلع على ذلك إلا بالوحي، فمن ثبت أنه في سبيل الله أعطى حكم الشهادة، فقوله: "والله أعلم بمن يكلم في سبيله" أي فلا يعلم ذلك إلا من أعلمه الله، فلا ينبغي إطلاق كون كل مقتول في الجهاد أنه في سبيل الله. حديث سهل بن سعد في قصة الذي بالغ في القتال حتى قال المسلمون: ما أجزأ أحد ما أجزأ، ثم كان آخر أمره أن قتل نفسه، وسيأتي شرحه مستوفى في المغازي حيث ذكره المصنف، ووجه أخذ الترجمة منه أنهم شهدوا رجحانه في أمر الجهاد، فلو كان قتل لم يمتنع أن يشهدوا له بالشهادة، وقد ظهر منه أنه لم يقاتل لله وإنما قاتل غضبا لقومه، فلا يطلق على كل مقتول في الجهاد أنه شهيد لاحتمال أن يكون مثل هذا، وإن كان مع ذلك يعطى حكم الشهداء في الأحكام الظاهرة، ولذلك أطبق السلف على تسمية المقتولين في بدر وأحد وغيرهما شهداء، والمراد بذلك الحكم الظاهر المبني على الظن الغالب والله أعلم. وروي سعيد بن منصور بإسناد صحيح عن مجاهد قال: "لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك قال: لا يخرج معنا إلا مقوى فخرج رجل على بكر ضعيف فوقص فمات، فقال الناس: الشهيد الشهيد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا بلال ناد إن الجنة لا يدخلها عاص" وفيه إشارة إلى أن الشهيد لا يدخل النار لأنه صلى الله عليه وسلم قال: "إنه من أهل النار" ولم يتبين منه إلا

(6/90)


قتل نفسه وهو بذلك عاص لا كافر، لكن يحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم اطلع على كفره في الباطن أو أنه استحل قتل نفسه وقد يتعجب من المهلب حيث قال: إن حديث الباب ضد ما ترجم به البخاري لأنه قال: "لا يقال فلان شهيد" والحديث فيه ضد الشهادة، وكأنه لم يتأمل مراد البخاري، وهو ظاهر كما قررته بحمد الله تعالى.

(6/91)


78 - باب التَّحْرِيضِ عَلَى الرَّمْيِ
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى [60 الأنفال]: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ}
2899- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ قَالَ سَمِعْتُ سَلَمَةَ بْنَ الأَكْوَعِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى نَفَرٍ مِنْ أَسْلَمَ يَنْتَضِلُونَ. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ارْمُوا بَنِي إِسْمَاعِيلَ فَإِنَّ أَبَاكُمْ كَانَ رَامِيًا ارْمُوا وَأَنَا مَعَ بَنِي فُلاَنٍ قَالَ فَأَمْسَكَ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ بِأَيْدِيهِمْ. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا لَكُمْ لاَ تَرْمُونَ؟ قَالُوا كَيْفَ نَرْمِي وَأَنْتَ مَعَهُمْ؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ارْمُوا فَأَنَا مَعَكُمْ كُلِّكُمْ".
[الحديث 2899 – طرفاه في: 3373، 3507]
2900- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْغَسِيلِ عَنْ حَمْزَةَ بْنِ أَبِي أُسَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يَوْمَ بَدْرٍ حِينَ صَفَفَنَا لِقُرَيْشٍ وَصَفُّوا لَنَا إِذَا أَكْثَبُوكُمْ فَعَلَيْكُمْ بِالنَّبْلِ".
[الحديث 2900 – طرفاه في: 3984، 3985]
قوله: "باب التحريض على الرمي وقول الله عز وجل: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} الآية" لمح بما جاء في تفسير القوه في هذه الآية أنها الرمي، وهو عند مسلم من حديث عقبة بن عامر ولفظه: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو على المنبر {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} ألا إن القوة الرمي ثلاثا" ولأبي داود وابن حبان من وجه آخر عن عقبة بن عامر رفعه: "أن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة الجنة: صانعه يحتسب في صنعته الخير، والرامي به، ومنبله فارموا واركبوا، وأن ترموا أحب إلي من أن تركبوا" الحديث، وفيه: "ومن ترك الرمي بعد علمه رغبة عنه فإنه نعمة كفرها" ولمسلم من وجه آخر عن عقبة رفعه: "من علم الرمي ثم تركه فليس منا أو فقد عصى" ورواه ابن ماجه بلفظ: "فقد عصاني" قال القرطبي: إنما فسر القوة بالرمي وإن كانت القوة تظهر بأعداد غيره من آلات الحرب لكون الرمي أشد نكاية في العدو وأسهل مؤنة، لأنه قد يرمي رأس الكتيبة فيصاب فيهزم من خلفه وذكر المصنف في الباب حديثين. أحدهما: حديث سلمة بن الأكوع قوله: "مر النبي صلى الله عليه وسلم على نفر من أسلم" أي من بني أسلم القبيلة المشهورة، وهي بلفظ أفعل التفضيل من السلامة. قوله: "ينتضلون" بالضاد المعجمة أى يترامون، والتناضل الترامي للسبق، وفضل فلان فلانا إذا غلبه. قوله: "وأنا مع بني فلان" في حديث أبي هريرة في نحو هذه القصة عند ابن حبان والبزار "وأنا مع ابن الأذرع" انتهى، واسم ابن الأذرع محجن، وقع ذلك من حديث حمزة بن عمرو الأسلمي في هذا الحديث عند الطبراني قال فيه: "وأنا مع محجن بن الأذرع" ومثله في مرسل عروة أخرجه السراج عن قتيبة عن ابن لهيعة عن أبي الأسود عنه، وهو صحابي معروف له حديث آخر في الأدب المفرد للبخاري وفي أبي داود والنسائي وابن خزيمة، وقيل اسم ابن الأذرع سلمة حكاه ابن منده قال: والأدرع

(6/91)


لقب واسمه ذكوان والله أعلم. قوله: "قالوا كيف نرمي وأنت معهم" اسم قائل ذلك منهم نضلة الأسلمي ذكره ابن إسحاق في المغازي عن سفيان بن فروة الأسلمي عن أشياخ من قومه من الصحابة قالوا "بينا محجن بن الأذرع يناضل رجلا من أسلم يقال له نضلة"، فذكر الحديث وفيه: "فقال نضلة وألقى قوسه من يده: والله لا أرمي معه وأنت معه". قوله: "وأنا معكم كلكم" بكسر اللام، ووقع في رواية عروة "وأنا مع جماعتكم" والمراد بالمعية معية القصد إلى الخير، ويحتمل أن يكون قام مقام المحلل فيخرج السبق من عنده ولا يخرج كما تقدم، ولا سيما وقد خصه بعضهم بالإمام قال المهلب يستفاد منه أن من صار السلطان عليه في جملة المناضلين له أن لا يتعرض لذلك كما فعل هؤلاء القوم حيث أمسكوا لكون النبي صلى الله عليه وسلم مع الفريق الآخر خشية أن يغلبوهم فيكون النبي صلى الله عليه وسلم مع من وقع عليه الغلب فأمسكوا عن ذلك تأدبا معه انتهى وتعقب بأن المعنى الذي أمسكوا له لم ينحصر في هذا بل الظاهر أنهم أمسكوا لما استشعروا من قوة قلوب أصحابهم بالغلبة حيث صار النبي صلى الله عليه وسلم معهم وذلك من أعظم الوجوه المشعرة بالنصر وقد وقع في رواية حمزة ابن عمرو عند الطبراني "فقالوا من كنت معه فقد غلب" وكذا في رواية ابن إسحاق "فقال نضلة: لا نغلب من كنت معه" واستدل بهذا الحديث على أن اليمن من بني إسماعيل، وفيه نظر لما سيأتي في مناقب قريش من أنه استدلال بالأخص على الأعم وفيه أن الجد الأعلى يسمى أبا، وفيه التنويه بذكر الماهر في صناعته ببيان فضله وتطييب قلوب من هم دونه وفيه حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم ومعرفته بأمور الحرب وفيه الندب إلى اتباع خصال الآباء المحمودة، والعمل بمثلها وفيه حسن أدب الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم. حديث أبي أسيد بضم الهمزة، ووقع في رواية السرخسي وحده بفتحها، وهو خطأ وقوله: "إذا أكثبوكم" ، كذا في نسخ البخاري بمثلثة ثم موحدة، والكثب بفتحتين القرب، فالمعنى إذا دنوا منكم وقد استشكل بأن الذي يليق بالدنو المطاعنة بالرمح والمضاربة بالسيف، وأما الذي يليق برمي النبل فالبعد، وزعم الداودي أن معنى أكثبوكم كاثروكم، قال: وذلك أن النبل إذا رمى في الجمع لم يخطئ غالبا ففيه ردع لهم، وقد تعقب هذا التفسير بأنه لا يعرف، وتفسير الكثب بالكثرة غريب، والأول هو المعتمد وقد بينته رواية أبي داود حيث زاد في آخره: "واستبقوا نبلكم" وفي رواية له " ولا تسلوا السيوف حتى يغشوكم" فظهر أن معنى الحديث الأمر بترك الرمي والقتال حتى يقربوا لأنهم إذا رموهم على بعد قد لا تصل إليهم وتذهب في غير منفعة، وإلى ذلك الإشارة بقوله: "واستبقوا نبلكم" وعرف بقوله: "ولا تسلوا السيوف حتى يغشوكم" أن المراد بالقرب المطلوب في الرمي قرب نسبى بما بحيث تنالهم السهام لأقرب قريب بحيث يلتحمون معهم، والنبل بفتح النون وسكون الموحدة جمع نبلة ويجمع أيضا على نبال وهي السهام العربية اللطاف. "تنبيه": وقع في إسناد هذا الحديث اختلاف سأبينه إن شاء الله تعالى في غزوة بدر.

(6/92)


79 - باب اللَّهْوِ بِالْحِرَابِ وَنَحْوِهَا
2901- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا هِشَامٌ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ ابْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ بَيْنَا الْحَبَشَةُ يَلْعَبُونَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحِرَابِهِمْ دَخَلَ عُمَرُ فَأَهْوَى إِلَى الْحَصَى فَحَصَبَهُمْ

(6/92)


بِهَا فَقَالَ: "دَعْهُمْ يَا عُمَرُ " وَزَادَ عَلِيٌّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ " فِي الْمَسْجِدِ".
قوله: "باب اللهو بالحراب ونحوها" أي من آلات الحرب، وكأنه يشير بقوله ونحوها إلى ما روى أبو داود والنسائي وصححه ابن جبان من حديث عقبة بن عامر مرفوعا: "ليس من اللهو - أي مشروع أو مطلوب - إلا تأديب الرجل فرسه وملاعبته أهله ورميه بقوسه ونبله" . حديث أبي هريرة "بينا الحبشة يلعبون عند النبي صلى الله عليه وسلم" الحديث، ولم يقع في هذه الرواية ذكر الحراب وكأنه أشار إلى ما ورد في بعض طرقه كما تقدم بيانه في "باب أصحاب الحراب في المسجد" من كتاب الصلاة وذكرنا فوائده هناك، وفي كتاب العيدين. قال ابن التين يحتمل أن يكون عمر لم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعلم أنه رآهم، أو ظن أنه رآهم واستحيا أن يمنعهم، وهذا أولى لقوله في الحديث: "وهم يلعبون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم". قلت: وهذا لا يمنع الاحتمال المذكور أولا، ويحتمل أن يكون إنكاره لهذا شبيه إنكاره على المغنيتين، وكان من شدته في الدين ينكر خلاف الأولى، والجد في الجملة أولى من اللعب المباح. وأما النبي صلى الله عليه وسلم فكان بصدد بيان الجواز. وقوله: "زاد علي حدثنا عبد الرزاق، وقع في رواية الكشميهني: "زادنا على".

(6/93)


80 - باب الْمِجَنِّ وَمَنْ يَتَّرِسُ بِتُرْسِ صَاحِبِهِ
2902- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا الأَوْزَاعِيُّ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "كَانَ أَبُو طَلْحَةَ يَتَتَرَّسُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتُرْسٍ وَاحِدٍ وَكَانَ أَبُو طَلْحَةَ حَسَنَ الرَّمْيِ فَكَانَ إِذَا رَمَى تَشَرَّفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَنْظُرُ إِلَى مَوْضِعِ نَبْلِهِ".
2903- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلٍ قَالَ: "لَمَّا كُسِرَتْ بَيْضَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَأْسِهِ وَأُدْمِيَ وَجْهُهُ وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ وَكَانَ عَلِيٌّ يَخْتَلِفُ بِالْمَاءِ فِي الْمِجَنِّ وَكَانَتْ فَاطِمَةُ تَغْسِلُهُ فَلَمَّا رَأَتْ الدَّمَ يَزِيدُ عَلَى الْمَاءِ كَثْرَةً عَمَدَتْ إِلَى حَصِيرٍ فَأَحْرَقَتْهَا وَأَلْصَقَتْهَا عَلَى جُرْحِهِ فَرَقَأَ الدَّمُ".
2904- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "كَانَتْ أَمْوَالُ بَنِي النَّضِيرِ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا لَمْ يُوجِفْ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ بِخَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ فَكَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَتِهِ ثُمَّ يَجْعَلُ مَا بَقِيَ فِي السِّلاَحِ وَالْكُرَاعِ عُدَّةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ".
[الحديث 2904 – أطرافه في: 3094، 4033، 4885، 5357، 5358، 6728، 7305]
2905- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ سُفْيَانَ قَالَ حَدَّثَنِي سَعْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ عَنْ عَلِيٍّ ح حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ قَالَ سَمِعْتُ عَلِيًّا

(6/93)


رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: "مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُفَدِّي رَجُلًا بَعْدَ سَعْدٍ سَمِعْتُهُ يَقُولُ ارْمِ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي".
[الحديث 2905 – أطرافه في: 4058، 4059، 6184]
قوله: "باب المجن" في رواية ابن شبوية "الترسة" جمع ترس، والمجن بكسر الميم وفتح الجيم وتثقيل النون أي الدرقة، قال ابن المنير: وجه هذه التراجم دفع من يتخيل أن اتخاذه هذه الآلات ينافي التوكل، والحق أن الحذر لا يرد القدر، ولكن يضيق مسالك الوسوسة لما طبع عليه البشر. قوله: "ومن يترس بترس صاحبه" أي فلا بأس به، ثم ذكر فيه أربعة أحاديث. حديث أنس "كان أبو طلحة يترس مع النبي صلى الله عليه وسلم بترس واحد" الحديث، أورده مختصرا من هذا الوجه، وسيأتي بأتم من هذا السياق في المناقب في غزوة أحد، قيل إن الرامي يحتاج إلى من يستره لشغله يديه جميعا بالرمي، فلذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يترسه بترسه. حديث سهل وهو ابن سعده "لما كسرت بيضة النبي صلى الله عليه وسلم على رأسه" الحديث، والغرض منه قوله: "وكان على يختلف بالماء في المجن" وقد تقدمت له طريق أخرى قريبا، ويأتي الكلام عليه في غزوة أحد إن شاء الله تعالى. حديث عمر "كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله" الحديث، ذكر منه طرفا، وسيأتي شرحه مستوفى في كتاب فرض الخمس وفي الفرائض، والغرض منه قوله هنا "ثم يجعل ما بقي في السلاح والكراع عدة، لأن المجن من جملة آلات السلاح" كما روى سعيد بن منصور بإسناد صحيح عن ابن عمر "أنه كانت عنده درقة فقال: لولا أن عمر قال لي: احبس سلاحك لأعطيت هذه الدرقة لبعض أولادي". حديث عليّ في قوله صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص "ارم فداك أبي وأمي" وسيأتي شرحه مستوفي في المناقب وفي غزوة أحد. وقوله فيه: "حدثنا قبيصة" هو ابن عقبة، وسفيان هو الثوري. وزعم أبو نعيم في "المستخرج" أن لفظ قبيصة هنا تصحيف ممن دون البخاري وأن الصواب حدثنا قتيبة، وعلى هذا فسفيان هو ابن عيينة لأن قتيبة لم يسمع من الثوري، لكن لا أعرف لإنكاره معنى إذ لا مانع أن يكون عند السفيانين، وقد أخرجه المصنف في الأدب من طريق يحيى القطان عن سفيان الثوري، ووقع في رواية النسفي هنا عن مسدد عن يحيى أيضا، ودخول هذا الحديث هنا غير ظاهر لأنه لا يوافق واحدا من ركني الترجمة، وقد أثبت ابن شبويه في روايته قبله لفظ: "باب" بغير ترجمة. وله مناسبة بالترجمة التي قبله من جهة أن الرامي لا يستغنى عن شيء يقي به عن نفسه سهام من يراميه، وفي حديث على جواز التفدية، وسيأتي بسط ذلك بأدلته وبيان ما يعارضه في كتاب الأدب إن شاء الله تعالى.

(6/94)


81 - باب الدَّرَقِ
2906- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ قَالَ عَمْرٌو حَدَّثَنِي أَبُو الأَسْوَدِ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا "دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدِي جَارِيَتَانِ تُغَنِّيَانِ بِغِنَاءِ بُعَاثَ فَاضْطَجَعَ عَلَى الْفِرَاشِ وَحَوَّلَ وَجْهَهُ فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ فَانْتَهَرَنِي وَقَالَ مِزْمَارَةُ الشَّيْطَانِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ دَعْهُمَا فَلَمَّا غَفَلَ غَمَزْتُهُمَا فَخَرَجَتَا".
2907- قَالَتْ وَكَانَ يَوْمُ عِيدٍ يَلْعَبُ السُّودَانُ بِالدَّرَقِ وَالْحِرَابِ فَإِمَّا سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِمَّا

(6/94)


قَالَ: تَشْتَهِينَ تَنْظُرِينَ؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ، فَأَقَامَنِي وَرَاءَهُ خَدِّي عَلَى خَدِّهِ وَيَقُولُ دُونَكُمْ بَنِي أَرْفِدَةَ حَتَّى إِذَا مَلِلْتُ قَالَ: حَسْبُكِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ قَالَ: فَاذْهَبِي. قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: قَالَ أَحْمَدُ: عَنْ ابْنِ وَهْبٍ فَلَمَّا غَفَلَ".
قوله: "باب الدرق" جمع درقة أي جواز اتخاذ ذلك أو مشروعيته. قوله: "حدثنا إسماعيل" هو ابن أبي أويس كما جزم به المزي في "الأطراف" وأغفل ذلك في "التهذيب" وهذا الحديث قد تقدم في أول العيدين عن أحمد عن ابن وهب، وبينت هناك الاختلاف في أبيه، وهو المراد بقوله في هذا الباب: "قال أحمد" يعني عن ابن وهب بهذا السند، وقوله فيه: "فقال دعهما، فلما غفل غمزتها فخرجتا" في رواية أبي ذر "عمد" بدل "غفل" وكذا في رواية أبي زيد المروزي، قال عياض: ورواية الأكثر هي الوجه.

(6/95)


82 - باب الْحَمَائِلِ وَتَعْلِيقِ السَّيْفِ بِالْعُنُقِ
2908- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْسَنَ النَّاسِ وَأَشْجَعَ النَّاسِ وَلَقَدْ فَزِعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ لَيْلَةً فَخَرَجُوا نَحْوَ الصَّوْتِ فَاسْتَقْبَلَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ اسْتَبْرَأَ الْخَبَرَ وَهُوَ عَلَى فَرَسٍ لِأَبِي طَلْحَةَ عُرْيٍ وَفِي عُنُقِهِ السَّيْفُ وَهُوَ يَقُولُ لَمْ تُرَاعُوا لَمْ تُرَاعُوا ثُمَّ قَالَ وَجَدْنَاهُ بَحْرًا أَوْ قَالَ إِنَّهُ لَبَحْرٌ".
قوله: "باب الحمائل وتعليق السيف بالعنق" الحمائل بالمهملة جمع حميلة وهي ما يقلد به السيف. حديث أنس وقد تقدم في "باب الفرس العرى" و"باب الشجاعة في الحرب" وسياقه هنا أتم، وسبق شرحه في الهبة، والغرض منه هنا قوله: "وفي عنقه السيف" فدل على جواز ذلك. وقوله: "لم تراعوا" وقع في رواية الحموي والكشميهني مرتين. قال ابن المنير: مقصود المصنف من هذه التراجم أن يبين زي السلف في آلة الحرب وما سبق استعماله في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ليكون أطيب للنفس وأنفى للبدعة.

(6/95)


83 - باب مَا جَاءَ فِي حِلْيَةِ السُّيُوفِ
2909- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا الأَوْزَاعِيُّ قَالَ سَمِعْتُ سُلَيْمَانَ بْنَ حَبِيبٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا أُمَامَةَ يَقُولُ: "لَقَدْ فَتَحَ الْفُتُوحَ قَوْمٌ مَا كَانَتْ حِلْيَةُ سُيُوفِهِمْ الذَّهَبَ وَلاَ الْفِضَّةَ إِنَّمَا كَانَتْ حِلْيَتُهُمْ الْعَلاَبِيَّ وَالْآنُكَ وَالْحَدِيدَ".
قوله: "باب ما جاء في حلية السيوف" أي من الجواز وعدمه. قوله: "سمعت سليمان بن حبيب" هو المحاربي قاضي دمشق في زمن عمر بن عبد العزيز وغيره ومات سنة عشرين أو بعدها، وليس له في البخاري سوى هذا الحديث. قوله: "لقد فتح الفتوح قوم" وقع عند ابن ماجه لتحديث أبي أمامة بذلك سبب وهو " دخلنا على أبي أمامة فرأى في سيوفنا شيئا من حلية فضة، فغضب وقال: "فذكره، وزاد الإسماعيلي في روايته أنه دخل عليه بحمص وزاد فيه: "لأنتم أبخل من أهل الجاهلية، إن الله يرزق الرجل منكم الدرهم ينفقه في سبيل الله بسبعمائة ثم أنتم

(6/95)


باب من علق سيفه بالشجر فب السفر عند القائلة
...
84 - باب مَنْ عَلَّقَ سَيْفَهُ بِالشَّجَرِ فِي السَّفَرِ عِنْدَ الْقَائِلَةِ
2910- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ حَدَّثَنِي سِنَانُ بْنُ أَبِي سِنَانٍ الدُّؤَلِيُّ وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ " أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَخْبَرَ أَنَّهُ غَزَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِبَلَ نَجْدٍ فَلَمَّا قَفَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَفَلَ مَعَهُ فَأَدْرَكَتْهُمْ الْقَائِلَةُ فِي وَادٍ كَثِيرِ الْعِضَاهِ فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَفَرَّقَ النَّاسُ يَسْتَظِلُّونَ بِالشَّجَرِ فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْتَ سَمُرَةٍ وَعَلَّقَ بِهَا سَيْفَهُ وَنِمْنَا نَوْمَةً فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُونَا وَإِذَا عِنْدَهُ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ إِنَّ هَذَا اخْتَرَطَ عَلَيَّ سَيْفِي وَأَنَا نَائِمٌ فَاسْتَيْقَظْتُ وَهُوَ فِي يَدِهِ صَلْتًا فَقَالَ مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي فَقُلْتُ اللَّهُ ثَلاَثًا وَلَمْ يُعَاقِبْهُ وَجَلَسَ".
[الحديث 2910 – أطرافه في: 2913، 4134، 4135، 4136]
قوله: "باب من علق سيفه بالشجر في السفر عند القائلة" ذكر فيه حديث جابر في قصة الأعرابي الذي اخترط سيف النبي صلى الله عليه وسلم وهو نائم. والغرض منه قوله: "فنزل تحت شجرة فعلق بها سيفه" وسيأتي شرحه في كتاب المغازي.

(6/96)


85 - باب لُبْسِ الْبَيْضَةِ
2911- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَهْلٍ رَضِيَ اللَّهُ

(6/96)


باب من لم يكسر السلاح عند الموت
...
86 - باب مَنْ لَمْ يَرَ كَسْرَ السِّلاَحِ عِنْدَ الْمَوْتِ
2912- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَبَّاسٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: "مَا تَرَكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلاَّ سِلاَحَهُ وَبَغْلَةً بَيْضَاءَ وَأَرْضًا جَعَلَهَا صَدَقَةً".
قوله: "باب من لم ير كسر السلاح وعقر الدواب عند الموت" كأنه يشير إلى رد ما كان عليه أهل الجاهلية من كسر السلاح وعقر الدواب إذا مات الرئيس فيهم، وربما كان يعهد بذلك لهم قال ابن المنير: وفي ذلك إشارة إلى انقطاع عمل الجاهلي الذي كان يعمله لغير الله وبطلان آثاره وخمول ذكره، بخلاف سنة المسلمين في جميع ذلك انتهى ولعل المصنف لمح بذلك إلى من نقل عنه أنه كسر رمحه عند الاصطدام حتى لا يغنمه العدو أن لو قتل وكسر جفن سيفه وضرب بسيفه حتى قتل كما جاء نحو ذلك عن جعفر بن أبي طالب في غزوة مؤتة، فأشار إلى أن هذا شيء فعله جعفر وغيره عن اجتهاد، والأصل عدم جواز إتلاف المال، لأنه يفعل شيئا محققا في أمر غير محقق. وذكر فيه حديث عمرو بن الحارث الخزاعي "ما ترك النبي صلى الله عليه وسلم - أي عند موته - إلا سلاحه" الحديث وقد تقدم في الوصايا، وسيأتي شرحه في المغازي. وزعم الكرماني أن مناسبته للترجمة أنه صلى الله عليه وسلم مات وعليه دين ولم يبع فيه شيئا من سلاحه ولو كان رهن درعه. وعلى هذا فالمراد بكسر السلاح بيعه. ولا يخفى بعده.

(6/97)


باب تفرق الناس عن الإمام عند القائبة و الاستظلا ل بالشجر
...
87 - باب تَفَرُّقِ النَّاسِ عَنْ الإِمَامِ عِنْدَ الْقَائِلَةِ وَالِاسْتِظْلاَلِ بِالشَّجَرِ
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ حَدَّثَنَا سِنَانُ بْنُ أَبِي سِنَانٍ وَأَبُو سَلَمَةَ أَنَّ جَابِرًا أَخْبَرَهُ ح وحَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ سِنَانِ بْنِ أَبِي سِنَانٍ الدُّؤَلِيِّ أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَخْبَرَهُ "أَنَّهُ غَزَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَدْرَكَتْهُمْ الْقَائِلَةُ فِي وَادٍ كَثِيرِ الْعِضَاهِ فَتَفَرَّقَ النَّاسُ فِي الْعِضَاهِ يَسْتَظِلُّونَ بِالشَّجَرِ فَنَزَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْتَ شَجَرَةٍ فَعَلَّقَ بِهَا سَيْفَهُ ثُمَّ نَامَ فَاسْتَيْقَظَ وَعِنْدَهُ رَجُلٌ وَهُوَ لاَ يَشْعُرُ بِهِ. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ هَذَا اخْتَرَطَ سَيْفِي فَقَالَ: فمَنْ يَمْنَعُكَ؟ قُلْتُ: اللَّهُ. فَشَامَ السَّيْفَ فَهَا هُوَ ذَا جَالِسٌ ثُمَّ لَمْ يُعَاقِبْهُ".
قوله: "باب تفرق الناس عن الإمام عند القائلة والاستظلال بالشجر" ذكر فيه حديث جابر الماضي قبل بابين

(6/97)


88 - باب مَا قِيلَ فِي الرِّمَاحِ. وَيُذْكَرُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"جُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي وَجُعِلَ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي"
2914- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ مَوْلَى أَبِي قَتَادَةَ الأَنْصَارِيِّ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إِذَا كَانَ بِبَعْضِ طَرِيقِ مَكَّةَ تَخَلَّفَ مَعَ أَصْحَابٍ لَهُ مُحْرِمِينَ وَهُوَ غَيْرُ مُحْرِمٍ فَرَأَى حِمَارًا وَحْشِيًّا فَاسْتَوَى عَلَى فَرَسِهِ فَسَأَلَ أَصْحَابَهُ أَنْ يُنَاوِلُوهُ سَوْطَهُ فَأَبَوْا فَسَأَلَهُمْ رُمْحَهُ فَأَبَوْا فَأَخَذَهُ ثُمَّ شَدَّ عَلَى الْحِمَارِ فَقَتَلَهُ فَأَكَلَ مِنْهُ بَعْضُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَى بَعْضٌ فَلَمَّا أَدْرَكُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلُوهُ عَنْ ذَلِكَ قَالَ: "إِنَّمَا هِيَ طُعْمَةٌ أَطْعَمَكُمُوهَا اللَّهُ".
وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ فِي الْحِمَارِ الْوَحْشِيِّ مِثْلُ حَدِيثِ أَبِي النَّضْرِ قَالَ: "هَلْ مَعَكُمْ مِنْ لَحْمِهِ شَيْءٌ".
قوله: "باب ما قيل في الرماح" أي في اتخاذها واستعمالها أي من الفضل. قوله: "ويذكر عن ابن عمر إلخ" هو طرف من حديث أخرجه أحمد من طريق أبي منيب - بضم الميم وكسر النون ثم تحتانية ساكنة ثم موحدة - الجرشي بضم الجيم وفتح الراء بعدها معجمة عن ابن عمر بلفظ: "بعثت بين يدي الساعة مع السيف، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعلت الذلة والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم" وأخرج أبو داود منه قوله: "من تشبه بقوم فهو منهم" حسب من هذا الوجه، وأبو منيب لا يعرف اسمه وفي الإسناد عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان مختلف في توثيقه، وله شاهد مرسل بإسناد حسن أخرجه ابن أبي شيبة من طريق الأوزاعي عن سعيد بن جبلة عن النبي صلى الله عليه وسلم بتمامه، وفي الحديث إشارة إلى فضل الرمح، وإلى حل الغنائم لهذه الأمة وإلى أن رزق النبي صلى الله عليه وسلم جعل فيها لا في غيرها من المكاسب، ولهذا قال بعض العلماء أنها أفضل المكاسب، والمراد بالصغار وهو بفتح المهملة وبالمعجمة بذل الجزية. وفي قوله: "تحت ظل رمحي" إشارة إلى أن ظله ممدود إلى أبد الآباد، والحكمة في الاقتصار على ذكر الرمح دون غيره من آلات الحرب كالسيف أن عادتهم جرت بجعل الرايات في أطراف الرمح، فلما كان ظل الرمح أسبغ كان نسبة الرزق إليه أليق وقد تعرض في الحديث الآخر لظل السيف كما سيأتي قريبا من قوله صلى الله عليه وسلم:

(6/98)


"الجنة تحت ظلال السيوف" فنسب الرزق إلى ظل الرمح لما ذكرته أن المقصود بذكر الرمح الراية، ونسبت الجنة إلى ظل السيف لأن الشهادة تقع به غالبا ولأن ظل السيف يكثر ظهوره بكثرة حركة السيف في يد المقاتل؛ ولأن ظل السيف لا يظهر إلا بعد الضرب به لأنه قبل ذلك يكون مغمودا معلقا. حديث أبي قتادة في قصة الحمار الوحشي بإسنادين لمالك، وقد تقدم شرحه مستوفى في الحج، والغرض منه قوله: "فسألهم رمحه فأبوا".

(6/99)


باب ما قيل في درع النبي صبى الله عليه و سلم و القميص في الحرب
...
89 - باب مَا قِيلَ فِي دِرْعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقَمِيصِ فِي الْحَرْبِ
وَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَمَّا خَالِدٌ فَقَدْ احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ".
2915- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم – وَهُوَ فِي قُبَّةٍ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَنْشُدُكَ عَهْدَكَ وَوَعْدَكَ اللَّهُمَّ إِنْ شِئْتَ لَمْ تُعْبَدْ بَعْدَ الْيَوْمِ فَأَخَذَ أَبُو بَكْرٍ بِيَدِهِ فَقَالَ حَسْبُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَدْ أَلْحَحْتَ عَلَى رَبِّكَ وَهُوَ فِي الدِّرْعِ فَخَرَجَ وَهُوَ يَقُولُ {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ بَلْ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ}.
وَقَالَ وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا خَالِدٌ "يَوْمَ بَدْرٍ".
[الحديث 2915 – أطرافه في: 3953، 4875، 4877]
2916- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ عِنْدَ يَهُودِيٍّ بِثَلاَثِينَ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ" . وَقَالَ يَعْلَى: حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ "دِرْعٌ مِنْ حَدِيدٍ". وَقَالَ مُعَلًّى: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ وَقَالَ: "رَهَنَهُ دِرْعًا مِنْ حَدِيدٍ".
2917- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا ابْنُ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَثَلُ الْبَخِيلِ وَالْمُتَصَدِّقِ مَثَلُ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُبَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ قَدْ اضْطَرَّتْ أَيْدِيَهُمَا إِلَى تَرَاقِيهِمَا فَكُلَّمَا هَمَّ الْمُتَصَدِّقُ بِصَدَقَتِهِ اتَّسَعَتْ عَلَيْهِ حَتَّى تُعَفِّيَ أَثَرَهُ وَكُلَّمَا هَمَّ الْبَخِيلُ بِالصَّدَقَةِ انْقَبَضَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ إِلَى صَاحِبَتِهَا وَتَقَلَّصَتْ عَلَيْهِ وَانْضَمَّتْ يَدَاهُ إِلَى تَرَاقِيهِ فَسَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: فَيَجْتَهِدُ أَنْ يُوَسِّعَهَا فَلاَ تَتَّسِعُ".
قوله: "باب ما قيل في درع النبي صلى الله عليه وسلم" أي من أي شيء كانت؟ وقوله: "والقميص في الحرب" أي حكمه وحكم لبسه. قوله: "وقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما خالد احتبس أدراعه في سبيل الله" هو طرف من حديث لأبي هريرة تقدم شرحه في كتاب الزكاة، والأدراع جمع درع وهو القميص المتخذ من الزرد، وأشار المصنف بذكر هذا الحديث إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم كما لبس الدرع فيما ذكره في الباب ذكر الدرع ونسبه إلى بعض الشجعان من الصحابة فدل على مشروعيته وأن لبسها لا ينافي التوكل. ثم ذكر فيه أحاديث: الأول: حديث ابن عباس في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر، والغرض منه قوله، وهو في الدرع، وقوله فيه: "حدثنا عبد الوهاب" هو ابن عبد المجيد الثقفي، وقوله: "وقال وهيب" يعني ابن

(6/99)


خالد "حدثنا خالد: يوم بدر" يعني أن وهيب بن خالد رواه عن خالد وهو الحذاء شيخ عبد الوهاب فيه عن عكرمة عن ابن عباس فزاد بعد قوله وهو في قبة "يوم بدر" وقد رواه محمد بن عبد الله بن حوشب عن عبد الوهاب كذلك كما سيأتي في المغازي، وكذلك قال إسحاق بن راهويه عن عبد الوهاب الثقفي، فلعل محمد ابن المثنى شيخ البخاري لم يحفظها، ورواية وهيب وصلها المؤلف في تفسير سورة القمر، ويأتي بيان ما استشكل من هذا الحديث في غزوة بدر، وهو من مراسيل الصحابة لأن ابن عباس لم يحضر ذلك، وسيأتي ما فيه هناك. حديث عائشة "توفي النبي صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة". قوله: "وقال يعلى حدثنا الأعمش: درع من حديد" يعني أن يعلى وهو ابن عبيد رواه عن الأعمش بالإسناد المذكور فزاد أن الدرع كانت من حديد، وقد وصله المؤلف في السلم كذلك. قوله: "وقال معلى عن عبد الواحد" يعني أن معلى بن أسد رواه عن عبد الواحد بن زياد فقال فيه أيضا: "رهنه درع من حديد" وقد وصله المصنف في الاستقراض، وتقدم الكلام على شرحه مستوفى في كتاب الرهن. ثالثها: حديث أبي هريرة في البخيل المتصدق وقد تقدم شرحه مستوفى في كتاب الزكاة، والغرض منه هنا ذكر الجبتين، فإنه روى بالموحدة وهو المناسب لذكر القميص في الترجمة، وروى بالنون وهو المناسب للدرع، وقد تقدم بيان اختلاف الرواة في ذلك هناك والجبة بالموحدة ما قطع من الثياب مشمرا قاله في المطالع، ومحل استشهاده للترجمة - وإن كان الممثل به في المثل لا يشترط وجوده فضلا عن مشروعيته - من جهة أنه مثل بدرع الكريم فتشبيه الكريم المحمود بالدرع يشعر بأن الدرع محمود، وموضع الشاهد منه درع الكريم لا درع البخيل، وكأنه أقام الكريم مقام الشجاع لتلازمهما غالبا وكذلك ضدهما.

(6/100)


90 - باب الْجُبَّةِ فِي السَّفَرِ وَالْحَرْبِ
2918- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ أَبِي الضُّحَى مُسْلِمٍ هُوَ ابْنُ صُبَيْحٍ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ حَدَّثَنِي الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ قَالَ: "انْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَاجَتِهِ ثُمَّ أَقْبَلَ فَلَقِيتُهُ بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ شَأْمِيَّةٌ فَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَغَسَلَ وَجْهَهُ فَذَهَبَ يُخْرِجُ يَدَيْهِ مِنْ كُمَّيْهِ فَكَانَا ضَيِّقَيْنِ فَأَخْرَجَهُمَا مِنْ تَحْتُ فَغَسَلَهُمَا وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ وَعَلَى خُفَّيْهِ".
قوله: "باب الجبة في السفر والحرب" ذكر فيه حديث المغيرة في قصة المسح على الخفين. حديث المغيرة في قصة المسح على الخفين وفيه: "وعليه جبة شامية" وفيه: "فذهب يخرج يديه من كميه وكانا ضيقين" وهو ظاهر فيما ترجم له، وقد تقدم الكلام على الحديث مستوفى في "باب المسح على الخفين" من كتاب الطهارة.

(6/100)


91 - باب الْحَرِيرِ فِي الْحَرْبِ
2919- حدثنا أحمد بن المقدام حدثنا خالد حدثنا سعيد عن قتادة أن أنسا حدثهم "أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لعبد الرحمن بن عوف والزبير في قميص من حرير من حكة كانت بهما".
[الحديث 2919 – أطرافه في: 2920، 2921، 2922، 5839]

(6/100)


92 - باب مَا يُذْكَرُ فِي السِّكِّينِ
2923- حدثنا عبد العزيز بن عبد الله قال حدثني إبراهيم بن سعد عن بن شهاب عن جعفر بن عمرو بن أمية عن أبيه قال: "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يأكل من كتف يحتز منها ثم دعي إلى الصلاة فصلى ولم يتوضأ". حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري وزاد "فألقى السكين".
قوله: "باب ما يذكر في السكين" ذكر فيه حديث جعفر بن عمرو بن أمية عن أبيه "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يحتز من كتف شاة" الحديث، وفي الطريق الأخرى "فألقى السكين" وقد تقدم شرحه في كتاب الطهارة.

(6/102)


93 - باب مَا قِيلَ فِي قِتَالِ الرُّومِ
2924- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ يَزِيدَ الدِّمَشْقِيُّ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ قَالَ حَدَّثَنِي ثَوْرُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ أَنَّ عُمَيْرَ بْنَ الأَسْوَدِ الْعَنْسِيَّ حَدَّثَهُ أَنَّهُ أَتَى عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ وَهُوَ نَازِلٌ فِي سَاحَةِ حِمْصَ وَهُوَ فِي بِنَاءٍ لَهُ وَمَعَهُ أُمُّ حَرَامٍ قَالَ عُمَيْرٌ فَحَدَّثَتْنَا أُمُّ حَرَامٍ أَنَّهَا سَمِعَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "أَوَّلُ جَيْشٍ مِنْ أُمَّتِي يَغْزُونَ الْبَحْرَ قَدْ أَوْجَبُوا". قَالَتْ أُمُّ حَرَامٍ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا فِيهِمْ؟ قَالَ: أَنْتِ فِيهِمْ، ثُمَّ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَوَّلُ جَيْشٍ مِنْ أُمَّتِي يَغْزُونَ مَدِينَةَ قَيْصَرَ مَغْفُورٌ لَهُمْ. فَقُلْتُ: أَنَا فِيهِمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: لاَ".
قوله: "باب ما قيل في قتال الروم" أي من الفضل واختلفت في الروم فالأكثر أنهم من ولد عيص بن إسحاق بن إبراهيم، واسم جدهم قيل روماني وقيل هو ابن ليطا بن يونان بن يافث بن نوح. قوله: "عن خالد بن معدان" بفتح الميم وسكون المهملة، والإسناد كله شاميون، وإسحاق بن يزيد شيخ البخاري فيه هو إسحاق بن إبراهيم بن يزيد الفراديسي نسب لجده. قوله: "عمير بن الأسود العنسي" بالنون والمهملة، وهو شامي قديم يقال اسمه عمرو، وعمير بالتصغير لقبه، وكان عابدا مخضرما، وكان عمر يثنى عليه، ومات في خلافة معاوية، وليس له في البخاري سوى هذا الحديث عند من يفرق بينه وبين أبي عياض عمرو بن الأسود، والراجح التفرقة وأم حرام بمهملتين تقدم ذكرها في أوائل الجهاد في حديث أنس، وقد حدث عنها أنس هذا الحديث أتم من هذا السياق وأخرج الحسن بن سفيان هذا الحديث في مسنده عن هشام بن عمار عن يحيى بن حمزة بسند البخاري وزاد في آخره: "قال هشام رأيت قبرها بالساحل". قوله: "يغزون مدينة قيصر" يعني القسطنطينية، قال المهلب: في هذا الحديث منقبة لمعاوية لأنه أول من غزا البحر، ومنقبة لولده يزيد لأنه أول من غزا مدينة قيصر وتعقبه ابن التين وابن المنير بما حاصله: أنه لا يلزم من دخوله في ذلك العموم أن لا يخرج بدليل خاص إذ لا يختلف أهل العلم أن قوله صلى الله عليه وسلم مغفور لهم مشروط بأن يكونوا من أهل المغفرة حتى لو ارتد واحد ممن غزاها بعد ذلك لم يدخل في ذلك العموم اتفاقا فدل على أن المراد مغفور لمن وجد شرط المغفرة فيه منهم وأما قول ابن التين يحتمل أن

(6/102)


94 - باب قِتَالِ الْيَهُودِ
2925- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَرْوِيُّ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "تُقَاتِلُونَ الْيَهُودَ حَتَّى يَخْتَبِيَ أَحَدُهُمْ وَرَاءَ الْحَجَرِ فَيَقُولُ يَا عَبْدَ اللَّهِ هَذَا يَهُودِيٌّ وَرَائِي فَاقْتُلْهُ".
[الحديث 2925 – طرفه في: 3593]
2926- حدثنا إسحاق بن إبراهيم أخبرنا جرير عن عمارة بن القعقاع عن أبي زرعة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود حتى يقول الحجر وراءه اليهودي: يا مسلم هذا يهودي ورائي فاقتله".
قوله: "باب قتال اليهود" ذكر فيه حديثي ابن عمر وأبي هريرة في ذلك، وهو إخبار بما يقع في مستقبل الزمان. قوله: "الفروي" بفتح الفاء والراء منسوب إلى جده أبي فروة، وإسحاق هذا غير إسحاق بن عبد الله ابن أبي فروة الضعيف، وهو - أعني إسحاق بن عبد الله - عم والد هذا وإسحاق هذا ربما روى عنه البخاري بواسطة وهذا الحديث مما حدث به مالك خارج الموطأ، ولم ينفرد به إسحاق المذكور بل تابعه ابن وهب ومعن ابن عيسى وسعيد بن داود والوليد بن مسلم أخرجها الدار قطني في "غرائب مالك" وأخرج الإسماعيلي طريق ابن وهب فقط. قوله: "تقاتلون" فيه جواز مخاطبة الشخص والمراد غيره ممن يقول ويعتقد اعتقاده، لأنه من المعلوم أن الوقت الذي أشار إليه صلى الله عليه وسلم لم يأت بعد، وإنما أراد بقوله: "تقاتلون" مخاطبة المسلمين ويستفاد منه أن الخطاب الشفاهي يعم المخاطبين ومن بعدهم، وهو متفق عليه من جهة الحكم وإنما وقع الاختلاف فيه في حكم الغائبين: هل وقع بتلك المخاطبة نفسها، أو بطريق الإلحاق؟ وهذا الحديث يؤيد من ذهب إلى الأول وفيه إشارة إلى بقاء دين الإسلام إلى أن ينزل عيسى عليه السلام، فإنه الذي يقاتل الدجال، ويستأصل اليهود الذين هم تبع الدجال على ما ورد من طريق أخرى، وسيأتي بيانها مستوفى في علامات النبوة إن شاء الله تعالى.

(6/103)


95 - باب قِتَالِ التُّرْكِ
2927- حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ قَالَ سَمِعْتُ الْحَسَنَ يَقُولُ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ تَغْلِبَ

(6/103)


96 - باب قِتَالِ الَّذِينَ يَنْتَعِلُونَ الشَّعَرَ
2929- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ الزُّهْرِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا قَوْمًا نِعَالُهُمْ الشَّعَرُ وَلاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا قَوْمًا كَأَنَّ وُجُوهَهُمْ الْمَجَانُّ الْمُطْرَقَةُ قَالَ سُفْيَانُ وَزَادَ فِيهِ أَبُو الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رِوَايَةً صِغَارَ الأَعْيُنِ ذُلْفَ الأُنُوفِ كَأَنَّ وُجُوهَهُمْ الْمَجَانُّ الْمُطْرَقَةُ".
قوله: "باب قتال الذين ينتعلون الشعر" ذكر فيه حديث أبي هريرة المذكور من وجه آخر. قوله: "قال سفيان

(6/104)


وزاد فيه أبو الزناد" هو موصول بالإسناد المذكور، وأخطأ من زعم أنه معلق، وقد وصله الإسماعيلي من طريق محمد بن عبادة عن سفيان بالإسنادين معا. قوله: "رواية" هو عوض عن قوله: "عن النبي صلى الله عليه وسلم: "وقد وقع عند الإسماعيلي من طريق محمد بن عباد عن سفيان بلفظ: "عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ووقع في الباب الذي قبله من وجه آخر عن الأعرج بلفظ: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وزاد فيه: "حمر الوجوه " ولم يذكر " صغار الأعين " وقوله: "ذلف الأنوف " أي صغارها، والعرب تقول أملح النساء الذلف، وقيل الذلف الاستواء في طرف الأنف، وقيل قصر الأنف وانبطاحه، وسيأتي بقية شرح هذا الحديث في علامات النبوة إن شاء الله تعالى.

(6/105)


97 - باب مَنْ صَفَّ أَصْحَابَهُ عِنْدَ الْهَزِيمَةِ وَنَزَلَ عَنْ دَابَّتِهِ وَاسْتَنْصَرَ
2930- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ الْحَرَّانِيُّ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ وَسَأَلَهُ رَجُلٌ أَكُنْتُمْ فَرَرْتُمْ يَا أَبَا عُمَارَةَ يَوْمَ حُنَيْنٍ؟ قَالَ: لاَ وَاللَّهِ مَا وَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنَّهُ خَرَجَ شُبَّانُ أَصْحَابِهِ وَأَخِفَّاؤُهُمْ حُسَّرًا لَيْسَ بِسِلاَحٍ فَأَتَوْا قَوْمًا رُمَاةً جَمْعَ هَوَازِنَ وَبَنِي نَصْرٍ مَا يَكَادُ يَسْقُطُ لَهُمْ سَهْمٌ فَرَشَقُوهُمْ رَشْقًا مَا يَكَادُونَ يُخْطِئُونَ فَأَقْبَلُوا هُنَالِكَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ وَابْنُ عَمِّهِ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ يَقُودُ بِهِ فَنَزَلَ وَاسْتَنْصَرَ ثُمَّ قَالَ أَنَا النَّبِيُّ لاَ كَذِبْ أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ ثُمَّ صَفَّ أَصْحَابَهُ".
قوله: "باب من صف أصحابه عند الهزيمة" أي صف من ثبت معه بعد هزيمة من انهزم. وذكر فيه حديث البراء في قصة حنين، وهو ظاهر فيما ترجم له، ووقع في آخره: "ثم صف أصحابه وذلك بعد أن نزل واستنصر" والمراد بقوله: واستنصر أي استنصر الله بعد أن رمى الكفار بالتراب، وسيأتي شرح ذلك مستوفى في كتاب المغازي إن شاء الله تعالى.

(6/105)


98 - باب الدُّعَاءِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِالْهَزِيمَةِ وَالزَّلْزَلَةِ
2931- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا عِيسَى حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ عَبِيدَةَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لَمَّا كَانَ يَوْمُ الأَحْزَابِ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَلاَ اللَّهُ بُيُوتَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَارًا شَغَلُونَا عَنْ الصَّلاَةِ الْوُسْطَى حَتَّى غَابَتْ الشَّمْسُ".
[الحديث 2931 – أطرافه في: 4111، 4533، 6396]
2932- حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ ابْنِ ذَكْوَانَ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو فِي الْقُنُوتِ: اللَّهُمَّ أَنْجِ سَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ، اللَّهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ، اللَّهُمَّ أَنْجِ عَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ، اللَّهُمَّ أَنْجِ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ، اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، اللَّهُمَّ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ".

(6/105)


99 - باب هَلْ يُرْشِدُ الْمُسْلِمُ أَهْلَ الْكِتَابِ أَوْ يُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ؟
2936- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَمِّهِ قَالَ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إِلَى قَيْصَرَ وَقَالَ: "فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الأَرِيسِيِّينَ".
[الحديث 2936 – طرفه في: 2940]
قوله: "باب هل يرشد المسلم أهل الكتاب أو يعلمهم الكتاب" المراد بالكتاب الأول التوراة والإنجيل، وبالكتاب الثاني ما هو أعم منهما ومن القرآن وغير ذلك. وأورد فيه طرفا من حديث ابن عباس في شأن هرقل، وقد ذكره بعد بابين من وجه آخر عن ابن شهاب بطوله؛ وإسحاق شيخه فيه هو ابن منصور، وهذه الطريق أهملها المزي في الأطراف وإرشادهم منه ظاهر، وأما تعليمهم الكتاب فكأنه استنبطه من كونه كتب إليهم بعض القرآن بالعربية وكأنه سلطهم على تعليمه إذ لا يقرءونه حتى يترجم لهم ولا يترجم لهم حتى يعرف المترجم كيفية استخراجه، وهذه المسألة مما اختلف فيه السلف فمنع مالك من تعليم الكافر القرآن، ورخص أبو حنيفة، واختلف قول الشافعي والذي يظهر أن الراجح التفصيل بين من يرجى منه الرغبة في الدين والدخول فيه مع الأمن منه أن يتسلط بذلك إلى الطعن فيه، وبين من يتحقق أن ذلك لا ينجح فيه أو يظن أنه يتوصل بذلك إلى الطعن في الدين والله أعلم. ويفرق أيضا بين القليل منه والكثير كما تقدم في أوائل كتاب الحيض.

(6/107)


100 - باب الدُّعَاءِ لِلْمُشْرِكِينَ بِالْهُدَى لِيَتَأَلَّفَهُمْ
2937- حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب حدثنا أبو الزناد أن عبد الرحمن قال: قال أبو هريرة رضي الله عنه: "قدم طفيل بن عمرو الدوسي وأصحابه على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله! إن دوسا عصت وأبت،

(6/107)


101 - باب دَعْوَةِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَعَلَى مَا يُقَاتَلُونَ عَلَيْهِ
وَمَا كَتَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى كِسْرَى وَقَيْصَرَ وَالدَّعْوَةِ قَبْلَ الْقِتَالِ
2938- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: "لَمَّا أَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَكْتُبَ إِلَى الرُّومِ قِيلَ لَهُ إِنَّهُمْ لاَ يَقْرَءُونَ كِتَابًا إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَخْتُومًا فَاتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى بَيَاضِهِ فِي يَدِهِ وَنَقَشَ فِيهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ".
2939- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ بِكِتَابِهِ إِلَى كِسْرَى فَأَمَرَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى عَظِيمِ الْبَحْرَيْنِ يَدْفَعُهُ عَظِيمُ الْبَحْرَيْنِ إِلَى كِسْرَى فَلَمَّا قَرَأَهُ كِسْرَى حَرَّقَهُ فَحَسِبْتُ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ قَالَ فَدَعَا عَلَيْهِمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُمَزَّقُوا كُلَّ مُمَزَّقٍ".
قوله: "باب دعوة اليهود والنصارى" أي إلى الإسلام، و قوله: "وعلى ما يقاتلون" إشارة إلى أن ما ذكر في الباب الذي بعده عن على حيث قال: "تقاتلوهم يكونوا مثلنا " وفيه أمره صلى الله عليه وسلم له بالنزول بساحتهم ثم دعائهم إلى الإسلام ثم القتال، ووجه أخذه من حديثي الباب أنه صلى الله عليه وسلم كتب إلى الروم يدعوهم إلى الإسلام قبل أن يتوجه إلى مقاتلهم. قوله: "وما كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وقيصر" قد ذكر ذلك في الباب مسندا، وقوله والدعوة قبل القتال كأنه يشير إلى حديث ابن عون في إغارة النبي صلى الله عليه وسلم على بني المصطلق على غرة، وهو متخرج عنده في كتاب الفتن وهو محمول عند من يقول باشتراط الدعاء قبل القتال على أنه بلغتهم الدعوة، وهي مسألة خلافية: فذهب طائفة منهم عمر بن عبد العزيز إلى اشتراط الدعاء إلى الإسلام قبل القتال، وذهب الأكثر إلى أن ذلك كان في بدء الأمر قبل انتشار دعوة الإسلام، فإن وجد من لم تبلغه الدعوة لم يقاتل حتى يدعى، نص عليه الشافعي وقال مالك: من قربت داره قوتل بغير دعوة لاشتهار الإسلام، ومن بعدت داره فالدعوة أقطع للشك وروى سعيد بن منصور بإسناد صحيح عن أبي عثمان النهدي أحد كبار التابعين قال: كنا ندعو وندع. قلت: وهو منزل على الحالين

(6/108)


المتقدمين. ثم ذكر في الباب حديثين: أحدهما: حديث أنس في اتخاذ الخاتم، وسيأتي الكلام عليه مستوفى في كتاب اللباس. ثانيهما: حديث ابن عباس "أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث كتابه إلى كسرى" وسيأتي شرحه في أواخر المغازي وفيه أن المبعوث به كان عبد الله بن حذافة السهمي، ونذكر هناك ما يتعلق بكسرى وما المراد بعظيم البحرين وفي الحديث الدعاء إلى الإسلام بالكلام والكتابة وأن الكتابة تقوم مقام النطق وفيه إرشاد المسلم إلى الكافر وأن العادة جرت بين الملوك بترك قتل الرسل ولهذا مزق كسرى الكتاب ولم يتعرض للرسول.

(6/109)


102 - باب دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ إِلَى الإِسْلاَمِ وَالنُّبُوَّةِ، وَأَنْ لاَ يَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى [79 آل عمران]: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ
2940- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "كَتَبَ إِلَى قَيْصَرَ يَدْعُوهُ إِلَى الإِسْلاَمِ وَبَعَثَ بِكِتَابِهِ إِلَيْهِ مَعَ دِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ وَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى عَظِيمِ بُصْرَى لِيَدْفَعَهُ إِلَى قَيْصَرَ وَكَانَ قَيْصَرُ لَمَّا كَشَفَ اللَّهُ عَنْهُ جُنُودَ فَارِسَ مَشَى مِنْ حِمْصَ إِلَى إِيلِيَاءَ شُكْرًا لِمَا أَبْلاَهُ اللَّهُ فَلَمَّا جَاءَ قَيْصَرَ كِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ حِينَ قَرَأَهُ الْتَمِسُوا لِي هَا هُنَا أَحَدًا مِنْ قَوْمِهِ لِأَسْأَلَهُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
2941- قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَأَخْبَرَنِي أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ أَنَّهُ كَانَ بِالشَّأْمِ فِي رِجَالٍ مِنْ قُرَيْشٍ قَدِمُوا تِجَارًا فِي الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ كُفَّارِ قُرَيْشٍ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ فَوَجَدَنَا رَسُولُ قَيْصَرَ بِبَعْضِ الشَّأْمِ فَانْطُلِقَ بِي وَبِأَصْحَابِي حَتَّى قَدِمْنَا إِيلِيَاءَ فَأُدْخِلْنَا عَلَيْهِ فَإِذَا هُوَ جَالِسٌ فِي مَجْلِسِ مُلْكِهِ وَعَلَيْهِ التَّاجُ وَإِذَا حَوْلَهُ عُظَمَاءُ الرُّومِ فَقَالَ لِتَرْجُمَانِهِ سَلْهُمْ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ نَسَبًا إِلَى هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ فَقُلْتُ أَنَا أَقْرَبُهُمْ إِلَيْهِ نَسَبًا قَالَ مَا قَرَابَةُ مَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ فَقُلْتُ هُوَ ابْنُ عَمِّي وَلَيْسَ فِي الرَّكْبِ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ غَيْرِي فَقَالَ قَيْصَرُ أَدْنُوهُ وَأَمَرَ بِأَصْحَابِي فَجُعِلُوا خَلْفَ ظَهْرِي عِنْدَ كَتِفِي ثُمَّ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ قُلْ لِأَصْحَابِهِ إِنِّي سَائِلٌ هَذَا الرَّجُلَ عَنْ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ فَإِنْ كَذَبَ فَكَذِّبُوهُ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ وَاللَّهِ لَوْلاَ الْحَيَاءُ يَوْمَئِذٍ مِنْ أَنْ يَأْثُرَ أَصْحَابِي عَنِّي الْكَذِبَ لَكَذَبْتُهُ حِينَ سَأَلَنِي عَنْهُ وَلَكِنِّي اسْتَحْيَيْتُ أَنْ يَأْثُرُوا الْكَذِبَ عَنِّي فَصَدَقْتُهُ ثُمَّ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ قُلْ لَهُ كَيْفَ نَسَبُ هَذَا الرَّجُلِ فِيكُمْ قُلْتُ هُوَ فِينَا ذُو نَسَبٍ قَالَ فَهَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ أَحَدٌ مِنْكُمْ قَبْلَهُ قُلْتُ لاَ فَقَالَ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ عَلَى الْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ قُلْتُ لاَ قَالَ فَهَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ؟ قُلْتُ: لاَ. قَالَ: فَأَشْرَافُ

(6/109)


النَّاسِ يَتَّبِعُونَهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ قُلْتُ بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ قَالَ فَيَزِيدُونَ أَوْ يَنْقُصُونَ قُلْتُ بَلْ يَزِيدُونَ قَالَ فَهَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ قُلْتُ لاَ قَالَ فَهَلْ يَغْدِرُ قُلْتُ لاَ وَنَحْنُ الْآنَ مِنْهُ فِي مُدَّةٍ نَحْنُ نَخَافُ أَنْ يَغْدِرَ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ وَلَمْ يُمْكِنِّي كَلِمَةٌ أُدْخِلُ فِيهَا شَيْئًا أَنْتَقِصُهُ بِهِ لاَ أَخَافُ أَنْ تُؤْثَرَ عَنِّي غَيْرُهَا قَالَ فَهَلْ قَاتَلْتُمُوهُ أَوْ قَاتَلَكُمْ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ فَكَيْفَ كَانَتْ حَرْبُهُ وَحَرْبُكُمْ قُلْتُ كَانَتْ دُوَلًا وَسِجَالًا يُدَالُ عَلَيْنَا الْمَرَّةَ وَنُدَالُ عَلَيْهِ الأُخْرَى قَالَ فَمَاذَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ قَالَ يَأْمُرُنَا أَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ لاَ نُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا وَيَنْهَانَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَيَأْمُرُنَا بِالصَّلاَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْعَفَافِ وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ فَقَالَ لِتَرْجُمَانِهِ حِينَ قُلْتُ ذَلِكَ لَهُ قُلْ لَهُ إِنِّي سَأَلْتُكَ عَنْ نَسَبِهِ فِيكُمْ فَزَعَمْتَ أَنَّهُ ذُو نَسَبٍ وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ فِي نَسَبِ قَوْمِهَا وَسَأَلْتُكَ هَلْ قَالَ أَحَدٌ مِنْكُمْ هَذَا الْقَوْلَ قَبْلَهُ فَزَعَمْتَ أَنْ لاَ فَقُلْتُ لَوْ كَانَ أَحَدٌ مِنْكُمْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ قَبْلَهُ قُلْتُ رَجُلٌ يَأْتَمُّ بِقَوْلٍ قَدْ قِيلَ قَبْلَهُ وَسَأَلْتُكَ هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ فَزَعَمْتَ أَنْ لاَ فَعَرَفْتُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَدَعَ الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ وَيَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ وَسَأَلْتُكَ هَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ فَزَعَمْتَ أَنْ لاَ. فَقُلْتُ لَوْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مَلِكٌ قُلْتُ يَطْلُبُ مُلْكَ آبَائِهِ وَسَأَلْتُكَ أَشْرَافُ النَّاسِ يَتَّبِعُونَهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ فَزَعَمْتَ أَنَّ ضُعَفَاءَهُمْ اتَّبَعُوهُ وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَزِيدُونَ أَوْ يَنْقُصُونَ فَزَعَمْتَ أَنَّهُمْ يَزِيدُونَ وَكَذَلِكَ الإِيمَانُ حَتَّى يَتِمَّ وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ فَزَعَمْتَ أَنْ لاَ فَكَذَلِكَ الإِيمَانُ حِينَ تَخْلِطُ بَشَاشَتُهُ الْقُلُوبَ لاَ يَسْخَطُهُ أَحَدٌ وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَغْدِرُ فَزَعَمْتَ أَنْ لاَ وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ لاَ يَغْدِرُونَ وَسَأَلْتُكَ هَلْ قَاتَلْتُمُوهُ وَقَاتَلَكُمْ فَزَعَمْتَ أَنْ قَدْ فَعَلَ وَأَنَّ حَرْبَكُمْ وَحَرْبَهُ تَكُونُ دُوَلًا وَيُدَالُ عَلَيْكُمْ الْمَرَّةَ وَتُدَالُونَ عَلَيْهِ الأُخْرَى وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْتَلَى وَتَكُونُ لَهَا الْعَاقِبَةُ وَسَأَلْتُكَ بِمَاذَا يَأْمُرُكُمْ فَزَعَمْتَ أَنَّهُ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَيَنْهَاكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَيَأْمُرُكُمْ بِالصَّلاَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْعَفَافِ وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ قَالَ وَهَذِهِ صِفَةُ النَّبِيِّ قَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ خَارِجٌ وَلَكِنْ لَمْ أَظُنَّ أَنَّهُ مِنْكُمْ وَإِنْ يَكُ مَا قُلْتَ حَقًّا فَيُوشِكُ أَنْ يَمْلِكَ مَوْضِعَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ وَلَوْ أَرْجُو أَنْ أَخْلُصَ إِلَيْهِ لَتَجَشَّمْتُ لُقِيَّهُ وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ قَدَمَيْهِ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُرِئَ فَإِذَا فِيهِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ سَلاَمٌ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الإِسْلاَمِ أَسْلِمْ تَسْلَمْ وَأَسْلِمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَعَلَيْكَ إِثْمُ

(6/110)


الأَرِيسِيِّينَ وَ {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [64 آل عمران] قَالَ أَبُو سُفْيَانَ فَلَمَّا أَنْ قَضَى مَقَالَتَهُ عَلَتْ أَصْوَاتُ الَّذِينَ حَوْلَهُ مِنْ عُظَمَاءِ الرُّومِ وَكَثُرَ لَغَطُهُمْ فَلاَ أَدْرِي مَاذَا قَالُوا وَأُمِرَ بِنَا فَأُخْرِجْنَا فَلَمَّا أَنْ خَرَجْتُ مَعَ أَصْحَابِي وَخَلَوْتُ بِهِمْ قُلْتُ لَهُمْ لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ هَذَا مَلِكُ بَنِي الأَصْفَرِ يَخَافُهُ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ وَاللَّهِ مَا زِلْتُ ذَلِيلًا مُسْتَيْقِنًا بِأَنَّ أَمْرَهُ سَيَظْهَرُ حَتَّى أَدْخَلَ اللَّهُ قَلْبِي الإِسْلاَمَ وَأَنَا كَارِهٌ".
2942- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ القَعْنَبِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ يَوْمَ خَيْبَرَ: "لاَعْطِيَنَّ الرَّايَةَ رَجُلًا يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ فَقَامُوا يَرْجُونَ لِذَلِكَ أَيُّهُمْ يُعْطَى فَغَدَوْا وَكُلُّهُمْ يَرْجُو أَنْ يُعْطَى فَقَالَ أَيْنَ عَلِيٌّ فَقِيلَ يَشْتَكِي عَيْنَيْهِ فَأَمَرَ فَدُعِيَ لَهُ فَبَصَقَ فِي عَيْنَيْهِ فَبَرَأَ مَكَانَهُ حَتَّى كَأَنَّه لَمْ يَكُنْ بِهِ شَيْءٌ فَقَالَ نُقَاتِلُهُمْ حَتَّى يَكُونُوا مِثْلَنَا فَقَالَ عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإِسْلاَمِ وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ فَوَاللَّهِ لاَنْ يُهْدَى بِكَ رَجُلٌ وَاحِدٌ خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ".
[الحديث 2942 – أطرافه في: 3009، 3701، 4210]
2943- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ حُمَيْدٍ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا غَزَا قَوْمًا لَمْ يُغِرْ حَتَّى يُصْبِحَ فَإِنْ سَمِعَ أَذَانًا أَمْسَكَ وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ أَذَانًا أَغَارَ بَعْدَ مَا يُصْبِحُ فَنَزَلْنَا خَيْبَرَ لَيْلًا".
2944- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا غَزَا بِنَا ...".
2945- حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن حميد عن أنس رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى خيبر فجاءها ليلا وكان إذا جاء قوما بليل لا يغير عليهم حتى يصبح فلما أصبح خرجت زفر بمساحيهم ومكاتلهم فلما رأوه قالوا محمد والله محمد والخميس فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الله أكبر خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين".
2946- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ

(6/111)


اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ فَمَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي نَفْسَهُ وَمَالَهُ إِلاَّ بِحَقِّهِ وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ رَوَاهُ عُمَرُ وَابْنُ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
قوله: "باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الناس إلى الإسلام والنبوة وأن لا يتخذ بعضهم بعضا أربابا من دون الله، وقوله تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ} الآية" أورد فيه أحاديث. وأما قوله تعالى :{مَا كَانَ لِبَشَرٍ} فالمراد من الآية الإنكار على من قال: {كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ} ومثلها قوله تعالى :{يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ} الآية، وقوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآية. حديث ابن عباس في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى قيصر، وفيه حديث عن أبي سفيان بن حرب وقد تقدم بطوله في بدء الوحي والكلام عليه مستوفى، وهو ظاهر فيما ترجم به، ويأتي شيء من الكلام عليه في تفسير سورة آل عمران إن شاء الله تعالى. حديث سهل بن سعد في إعطاء على الراية يوم خيبر، وسيأتي شرحه في المغازي، والغرض منه قوله: "ثم ادعهم إلى الإسلام". حديث أنس في ترك الإغارة على من سمع منهم الأذان، ذكره من وجهين، وسيأتي وشرحه في غزوة خيبر أيضا، وهو دال على جواز قتال من بلغته الدعوة بغير دعوة، فيجمع بينه وبين حديث سهل الذي قبله بأن الدعوة مستحبة لا شرط، وفيه دلالة على الحكم بالدليل لكونه كف عن القتال بمجرد سماع الأذان، وفيه الأخذ بالأحوط في أمر الدعاء لأنه كف عنهم في تلك الحالة مع احتمال أن لا يكون ذاك على الحقيقة، ووقع هنا "فلما أصبح خرجت يهود خيبر بمساحيهم" ووقع في رواية حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس عند مسلم: "فأتيناهم حين بزغت الشمس" ويجمع بأنهم وصلوا أول البلد عند الصبح فنزلوا فصلوا فتوجهوا، وأجرى النبي صلى الله عليه وسلم فرسه حينئذ في زقاق خيبر كما في الرواية الأخرى فوصل في آخر الزقاق إلى أول الحصون حين بزغت الشمس. حديث أبي هريرة "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله" ، الحديث، وهو ظاهر فيها ترجم له أولا حيث قال: "وعلام تقاتلون" وقد مضى شرحه في كتاب الإيمان في الكلام على حديث ابن عمر، لكن في حديث ابن عمر زيادة إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وقد وردت الأحاديث بذلك زائدا بعضها على بعض، ففي حديث أبي هريرة الاقتصار على قول لا إله إلا الله، وفي حديثه من وجه آخر عند مسلم: "حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا سول الله" وفي حديث ابن عمر ما ذكرت، وفي حديث أنس الماضي في أبواب القبلة "فإذا صلوا واستقبلوا وأكلوا ذبيحتنا" قال الطبري وغيره: أما الأول فقاله في حالة قتاله لأهل الأوثان الذين لا يقرون بالتوحيد، وأما الثاني فقاله في حالة قتال أهل الكتاب الذين يعترفون بالتوحيد ويجحدون نبوته عموما أو خصوصا وأما الثالث ففيه الإشارة إلى أن من دخل في الإسلام وشهد بالتوحيد وبالنبوة ولم يعمل بالطاعات أن حكمهم أن يقاتلوا حتى يذعنوا إلى ذلك، وقد تقدمت الإشارة إلى شيء من ذلك في أبواب القبلة. قوله: "رواه عمر وابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم" أي مثل حديث أبي هريرة، أما رواية عمر فوصلها المؤلف في الزكاة، وأما رواية ابن عمر فوصلها المؤلف في الإيمان

(6/112)


103 - باب مَنْ أَرَادَ غَزْوَةً فَوَرَّى بِغَيْرِهَا وَمَنْ أَحَبَّ الْخُرُوجَ يَوْمَ الْخَمِيسِ
2947- حدثنا يحيى بن بكير حدثنا الليث عن عقيل عن بن شهاب قال أخبرني عبد الرحمن بن

(6/112)


عبد الله بن كعب بن مالك أن عبد الله بن كعب رضي الله عنه وكان قائد كعب من بنيه قال: "سمعت كعب بن مالك حين تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غزوة إلا ورى بغيرها".
2948- حدثنا أحمد بن محمد أخبرنا عبد الله أخبرنا يونس عن الزهري قال أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك قال سمعت كعب بن مالك رضي الله عنه يقول: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قلما يريد غزوة يغزوها إلا ورى بغيرها حتى كانت غزوة تبوك فغزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديد واستقبل سفرا بعيدا ومفازا واستقبل غزو عدو كثير فجلى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبه عدوهم وأخبرهم بوجهه الذي يريد".
2949- وعن يونس عن الزهري قال أخبرني عبد الرحمن بن كعب بن مالك أن كعب بن مالك رضي الله عنه كان يقول: "لقلما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج إذا خرج في سفر إلا يوم الخميس".
2950- حدثني عبد الله بن محمد حدثنا هشام أخبرنا معمر عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوم الخميس في غزوة تبوك وكان يحب أن يخرج يوم الخميس".
قوله: "باب من أراد غزوة فورى بغيرها ومن أحب الخروج إلى السفر يوم الخميس" أما الجملة الأولى فمعنى "ورى" ستر وتستعمل في إظهار شيء مع إرادة غيره، وأصله من الوري بفتح ثم سكون وهو ما يجعل وراء الإنسان لأن من ورى بشيء كأنه جعله وراءه، وقيل هو في الحرب أخذ العدو على غرة وقيده السيرافي في شرح سيبويه بالهمزة قال: وأصحاب الحديث لم يضبطوا فيه الهمزة وكأنهم سهلوها. وأما الخروج يوم الخميس فلعل سببه ما روى من قوله صلى الله عليه وسلم: "بورك لأمتي في بكورها يوم الخميس" وهو حديث ضعيف أخرجه الطبراني من حديث نبيط بنون وموحدة مصغر ابن شريط بفتح المعجمة أوله. وكونه صلى الله عليه وسلم كان يحب الخروج يوم الخميس لا يستلزم المواظبة عليه لقيام مانع منه، وسيأتي بعد باب أنه خرج في بعض أسفاره يوم السبت. ثم أورد المصنف أطرافا من حديث كعب بن مالك الطويل في قصة غزوة تبوك ظاهرة فيما ترجم له، وروى سعيد بن منصور عن مهدي بن ميمون عن واصل مولى أبي عتيبة قال: "بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سافر أحب أن يخرج يوم الخميس". وقوله في الطريق الثانية "وعن يونس عن الزهري" هو موصول بالإسناد الأول عن عبد الله وهو ابن المبارك عن يونس، ووهم من زعم أن الطريق الثانية معلقة، وقد أخرجه الإسماعيلي من وجه آخر عن ابن المبارك عن يونس بالحديثين جميعا بالوجهين، نعم توقف الدار قطني في هذه الرواية التي وقع فيها التصريح بسماع عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك من جده وقد أوضحت ذلك في المقدمة. والحاصل أن رواية الزهري للجملة الأولى هي عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك، وروايته للجملة الثانية المتعلقة بيوم الخميس هي عن عمه عبد الرحمن بن كعب بن مالك،

(6/113)


وقد سمع الزهري منهما جميعا، وحدث يونس عنه بالحديثين مفصلا، وأراد البخاري بذلك دفع الوهم واللبس عمن يظن فيه اختلافا، وسيأتي مزيد بسبط لذلك في المغازي إن شاء الله تعالى.

(6/114)


104 - باب الْخُرُوجِ بَعْدَ الظُّهْرِ
2951- حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد عن أيوب عن أبي قلابة عن أنس رضي الله عنه ثم أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالمدينة الظهر أربعا والعصر بذي الحليفة ركعتين وسمعتهم يصرخون بهما جميعا".
قوله: "باب الخروج بعد الظهر" ذكر فيه حديث أنس وقد تقدم في الحج، وكأنه أورده إشارة إلى أن قوله صلى الله عليه وسلم: "بورك لأمتي في بكورها، لا يمنع جواز التصرف في غير وقت البكور، وإنما خص البكور بالبركة لكونه وقت النشاط، وحديث: "بورك لأمتي في بكورها" أخرجه أصحاب السنن وصححه ابن حبان من حديث صخر الغامدي بالغين المعجمة، وقد اعتنى بعض الحفاظ بجمع طرقه فبلغ عدد من جاء عنه من الصحابة نحو العشرين نفسا.

(6/114)


105 - باب الْخُرُوجِ آخِرَ الشَّهْرِ
وَقَالَ كُرَيْبٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا انْطَلَقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمَدِينَةِ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ وَقَدِمَ مَكَّةَ لِأَرْبَعِ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ
2952- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهَا سَمِعَتْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَقُولُ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِخَمْسِ لَيَالٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ وَلاَ نُرَى إِلاَّ الْحَجَّ فَلَمَّا دَنَوْنَا مِنْ مَكَّةَ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ إِذَا طَافَ بِالْبَيْتِ وَسَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ أَنْ يَحِلَّ قَالَتْ عَائِشَةُ فَدُخِلَ عَلَيْنَا يَوْمَ النَّحْرِ بِلَحْمِ بَقَرٍ فَقُلْتُ مَا هَذَا فَقَالَ نَحَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَزْوَاجِهِ قَالَ يَحْيَى فَذَكَرْتُ هَذَا الْحَدِيثَ لِلقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ فَقَالَ أَتَتْكَ وَاللَّهِ بِالْحَدِيثِ عَلَى وَجْهِهِ".
قوله: "باب الخروج آخر الشهر" أي ردا على من كره ذلك من طريق الطيرة، وقد نقل ابن بطال أن أهل الجاهلية كانوا يتحرون أوائل الشهور للأعمال، ويكرهون التصرف في محاق القمر. قوله: "وقال كريب عن ابن عباس رضي الله عنهما انطلق النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة لخمس بقين" هو طرف من حديث وصله المصنف في الحج. حديث عمرة عن عائشة في ذلك، وقد مضى الكلام عليهما في كتاب الحج، وفيه استعمال الفصيح في التاريخ وهو ما دام في النصف الأول من الشهر يؤرخ بما خلا، وإذا دخل النصف الثاني يؤرخ بما بقي، وقد استشكل قول ابن عباس وعائشة "أنه خرج لخمس بقين" لأن ذا الحجة كان أوله الخميس للاتفاق على أن الوقفة كانت الجمعة فيلزم من ذلك أن يكون خرج يوم الجمعة، ولا يصح ذلك لقول أنس في الحديث الذي قبله "أنه صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بالمدينة أربعا ثم خرج" وأجيب بأن الخروج كان يوم السبت، وإنما قال الصحابة "لخمس بقين" بناء على العدد، لأن ذا القعدة كان أوله الأربعاء فاتفق أن جاء ناقصا، فجاء أول ذي الحجة الخميس، فظهر أن الذي كان بقي من الشهر

(6/114)


106 - باب الْخُرُوجِ فِي رَمَضَانَ
2953- حدثنا علي بن عبد الله حدثنا سفيان قال حدثني الزهري عن عبيد الله عن بن عباس رضي الله عنهما قال: "خرج النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان فصام حتى بلغ الكديد أفطر".
قال سفيان: قال الزهري: أخبرني عبيد الله عن ابن عباس ... وساق الحديث
قوله: "باب الخروج في رمضان" ذكر فيه حديث ابن عباس في ذلك، وقد مضى شرحه في كتاب الصيام، وأراد به رفع وهم من يتوهم كراهة ذلك.

(6/115)


107 - باب التَّوْدِيعِ
2954- وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي عَمْرٌو عَنْ بُكَيْرٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْثٍ وَقَالَ لَنَا: "إِنْ لَقِيتُمْ فُلاَنًا وَفُلاَنًا لِرَجُلَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ سَمَّاهُمَا فَحَرِّقُوهُمَا بِالنَّارِ قَالَ ثُمَّ أَتَيْنَاهُ نُوَدِّعُهُ حِينَ أَرَدْنَا الْخُرُوجَ فَقَالَ إِنِّي كُنْتُ أَمَرْتُكُمْ أَنْ تُحَرِّقُوا فُلاَنًا وَفُلاَنًا بِالنَّارِ وَإِنَّ النَّارَ لاَ يُعَذِّبُ بِهَا إِلاَّ اللَّهُ فَإِنْ أَخَذْتُمُوهُمَا فَاقْتُلُوهُمَا".
[الحديث 2954 – طرفه في: 3016]
قوله: "باب التوديع" عند السفر أي أعم من أن يكون من المسافر للمقيم أو عكسه، وحديث الباب ظاهر للأول، ويؤخذ الثاني منه بطريق الأولى، وهو الأكثر في الوقوع. قوله: "وقال ابن وهب إلخ" وصله النسائي والإسماعيلي من طريقه، وسيأتي موصولا للمصنف من وجه آخر ويأتي شرحه هناك بعد اثنين وأربعين بابا، وفيه تسمية من أبهم في هذا.

(6/115)


108 - باب السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لِلْإِمَامِ
2955- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ح و حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ صَبَّاحٍ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ حَقٌّ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِالْمَعْصِيَةِ فَإِذَا أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلاَ سَمْعَ وَلاَ طَاعَةَ".
[الحديث 2955 – طرفه في: 7144]
قوله: "باب السمع والطاعة للإمام" زاد في رواية الكشميهني ما لم يأمر بمعصية، والإطلاق محمول عليه كما مر

(6/115)


109 - باب يُقَاتَلُ مِنْ وَرَاءِ الإِمَامِ وَيُتَّقَى بِهِ
2956- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ أَنَّ الأَعْرَجَ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ".
2957- وَبِهَذَا الإِسْنَادِ "مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَمَنْ يُطِعْ الأَمِيرَ فَقَدْ أَطَاعَنِي وَمَنْ يَعْصِ الأَمِيرَ فَقَدْ عَصَانِي وَإِنَّمَا الإِمَامُ جُنَّةٌ يُقَاتَلُ مِنْ وَرَائِهِ وَيُتَّقَى بِهِ فَإِنْ أَمَرَ بِتَقْوَى اللَّهِ وَعَدَلَ فَإِنَّ لَهُ بِذَلِكَ أَجْرًا وَإِنْ قَالَ بِغَيْرِهِ فَإِنَّ عَلَيْهِ مِنْهُ".
[الحديث 2957 – طرفه في: 7137]
قوله: "باب يقاتل من وراء الإمام ويتقى به" يقاتل بفتح المثناة، ولم يزد البخاري على لفظ الحديث. والمراد به المقاتلة للدفع عن الإمام، سواء كان ذلك من خلفه حقيقة أو قدامه، ووراء يطلق على المعنيين. قوله: "نحن الآخرون السابقون" الحديث طرف من حديث سبق بيانه في كتاب الجمعة، وسبق في الطهارة أن عادته في إيراد هذه النسخة - وهي شعيب عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة - أن يصدر بأول حديث فيها ويعطف الباقي عليه لكونه سمعها هكذا، وأن مسلما في نسخة معمر عن همام عن أبي هريرة سلك طريقا نحو هذه، فإنه يقول في أول كل حديث منها: فذكر أحاديث منها وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كيت وكيت" . وتكلَّف ابن المنير فقال: وجه مطابقة الترجمة لقوله: "نحن الآخرون السابقون" الإشارة إلى أنه الإمام وأنه يجب على كل أحد أن يقاتل عنه وينصره، لأنه وإن تأخر في الزمان لكنه متقدم في أخذ العهد على كل من تقدمه أنه إن أدرك زمانه أن يؤمن به وينصره، فهم في الصورة أمامه وفي الحقيقة خلفه فناسب ذلك قوله: "يقاتل من ورائه لأنه أعم من أن يراد بها الخلف أو الأمام. وبالإسناد السابق "من أطاعني فقد أطاع الله " وقوله فيه: "وإن قال بغيره فإن عليه منه" كذا هنا، قيل استعمل القول بمعنى الفعل حيث قال: "فإن قال بغيره" كذا قال بعض الشراح، وليس بظاهر فإنه قسيم قوله: "فإن أمر" فيحمل على أن المراد وأن أمر، والتعبير عن الأمر بالقول لا إشكال فيه. وقيل معنى "قال" هنا حكم، ثم قيل إنه مشتق من القيل بفتح القاف وسكون التحتانية وهو الملك الذي ينفذ حكمه بلغة حمير، وقوله: "فإن عليه منه" أي وزرا وحذف في هذه الرواية على طريق الاكتفاء لدلالة مقابلة عليه، وقد ثبت في غير هذه الرواية كما سيأتي إن شاء الله تعالى. ويحتمل أن يكون "من" في قوله: "فإن عليه منه" تبعيضية، أي فإن عليه بعض ما يقول. وفي رواية أبي زيد المروزي "منة" بضم الميم وتشديد النون بعدها هاء تأنيث، وهو تصحيف بلا ريب؛ وبالأول جزم أبو ذر. وقوله: "إنما الإمام جنة" بضم الجيم أي سترة، لأنه يمنع العدو من أذى المسلمين ويكف أذى بعضهم عن بعض، والمراد بالإمام كل قائم بأمور الناس والله أعلم. وسيأتي بقية شرحه في كتاب الأحكام.

(6/116)


110 - باب الْبَيْعَةِ فِي الْحَرْبِ أَنْ لاَ يَفِرُّوا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَلَى الْمَوْتِ
لِقَوْلِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ [18 الفتح] {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ}
2958- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ عَنْ نَافِعٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: "رَجَعْنَا مِنْ الْعَامِ الْمُقْبِلِ فَمَا اجْتَمَعَ مِنَّا اثْنَانِ عَلَى الشَّجَرَةِ الَّتِي بَايَعْنَا تَحْتَهَا كَانَتْ رَحْمَةً مِنْ اللَّهِ فَسَأَلْتُ نَافِعًا عَلَى أَيِّ شَيْءٍ بَايَعَهُمْ عَلَى الْمَوْتِ قَالَ لاَ بَلْ بَايَعَهُمْ عَلَى الصَّبْرِ".
2959- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "لَمَّا كَانَ زَمَنُ الْحَرَّةِ أَتَاهُ آتٍ فَقَالَ لَهُ إِنَّ ابْنَ حَنْظَلَةَ يُبَايِعُ النَّاسَ عَلَى الْمَوْتِ فَقَالَ لاَ أُبَايِعُ عَلَى هَذَا أَحَدًا بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
[الحديث 2959 – طرفه في: 4167]
2960- حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "بَايَعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ عَدَلْتُ إِلَى ظِلِّ الشَّجَرَةِ فَلَمَّا خَفَّ النَّاسُ قَالَ يَا ابْنَ الأَكْوَعِ أَلاَ تُبَايِعُ قَالَ قُلْتُ قَدْ بَايَعْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ وَأَيْضًا فَبَايَعْتُهُ الثَّانِيَةَ فَقُلْتُ لَهُ يَا أَبَا مُسْلِمٍ عَلَى أَيِّ شَيْءٍ كُنْتُمْ تُبَايِعُونَ يَوْمَئِذٍ قَالَ عَلَى الْمَوْتِ".
[الحديث 2960 – أطرافه في: 4169، 7206، 7208]
2961- حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ حُمَيْدٍ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: "كَانَتْ الأَنْصَارُ يَوْمَ الْخَنْدَقِ تَقُولُ:
نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدَا ... عَلَى الْجِهَادِ مَا حَيِينَا أَبَدَا.
فَأَجَابَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: اللَّهُمَّ لاَ عَيْشَ إِلاَّ عَيْشُ الْآخِرَهْ، فَأَكْرِمْ الأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَهْ".
2962، 2963- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ سَمِعَ مُحَمَّدَ بْنَ فُضَيْلٍ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ عَنْ مُجَاشِعٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا وَأَخِي فَقُلْتُ بَايِعْنَا عَلَى الْهِجْرَةِ فَقَالَ مَضَتْ الْهِجْرَةُ لِأَهْلِهَا فَقُلْتُ عَلاَمَ تُبَايِعُنَا قَالَ عَلَى الإِسْلاَمِ وَالْجِهَادِ".
[الحديث 2962 – أطرافه في: 3078، 4305، 4307]
[الحديث 2963 – أطرافه في: 3079، 4306، 4308]
قوله: "باب البيعة في الحرب على أن لا يفروا. وقال بعضهم: على الموت" كأنه أشار إلى أن لا تنافي بين

(6/117)


الروايتين لاحتمال أن يكون ذلك في مقامين، أو أحدهما يستلزم الآخر. قوله: "لقوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ} الآية" قال ابن المنبر: أشار البخاري بالاستدلال بالآية إلى أنهم بايعوا على الصبر، ووجه أخذه منها قوله تعالى: {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ} والسكينة الطمأنينة في موقف الحرب، فدل ذلك على أنهم أضمروا في قلوبهم أن لا يفروا فأعانهم على ذلك، وتعقب بأن البخاري إنما ذكر الآية عقب القول الصائر إلى أن المبايعة وقعت على الموت، ووجه انتزاع ذلك منها أن المبايعة فيها مطلقة، وقد أخبر سلمة بن الأكوع - وهو ممن بايع تحت الشجرة - أنه بايع على الموت، فدل ذلك على أنه لا تنافي بين قولهم بايعوه على الموت وعلى عدم الفرار، لأن المراد بالمبايعة على الموت أن لا يفروا ولو ماتوا، وليس المراد أن يقع الموت ولا بد، وهو الذي أنكره نافع وعدل إلى قوله: "بل بايعهم على الصبر" أي على الثبات وعدم الفرار سواء أفضى بهم ذلك إلى الموت أم لا، والله أعلم. وسيأتي في المغازي موافقة المسيب بن حزن - والد سعيد - لابن عمر على خفاء الشجرة، وبيان الحكمة في ذلك وهو أن لا يحصل بها افتتان لما وقع تحتها من الخير، فلو بقيت لما أمن تعظيم بعض الجهال لها حتى ربما أفضى بهم إلى اعتقاد أن لها قوة نفع أو ضر كما نراه الآن مشاهدا فيما هو دونها، وإلى ذلك أشار ابن عمر بقوله: "كانت رحمة من الله" أي كان خفاؤها عليهم بعد ذلك رحمة من الله تعالى. ويحتمل أن يكون معنى قوله رحمة من الله أي كانت الشجرة موضع رحمة الله ومحل رضوانه لنزول الرضا عن المؤمنين عندها. حديث ابن عمر "رجعنا من العام المقبل فما اجتمع منا اثنان على الشجرة التي بايعنا - أي النبي صلى الله عليه وسلم - تحتها" أي في عمرة الحديبية. قوله: "فسألنا نافعا" قائل ذلك هو جويرية بن أسماء الراوي عنه، وقد تعقبه الإسماعيلي بأن هذا من قول نافع وليس بمسند، وأجيب بأن الظاهر أن نافعا إنما جزم بما أجاب به لما فهمه عن مولاه ابن عمر فيكون مسندا بهذه الطريقة. حديث عبد الله بن زيد أي ابن عاصم الأنصاري المازني. قوله: "لما كان زمن الحرة" أي الوقعة التي كانت بالمدينة في زمن يزيد بن معاوية سنة ثلاث وستين كما سيأتي بيان ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى. قوله: "إن ابن حنظلة" أي عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر الذي يعرف أبوه بغسيلي الملائكة، والسبب في تلقيبه بذلك أنه قتل بأحد وهو جنب فغسلته الملائكة، وعلقت امرأته تلك الليلة بابنه عبد الله بن حنظلة، فمات النبي صلى الله عليه وسلم وله سبع سنين وقد حفظ عنه. وأتى الكرماني بأعجوبة فقال: ابن حنظلة هو الذي كان يأخذ البيعة ليزيد بن معاوية، والمراد به نفس يزيد لأن جده أبا سفيان كان يكنى أيضا أبا حنظلة فيكون التقدير أن ابن أبي حنظلة، ثم حذف لفظ أي تخفيفا أو يكون نسب إلى عمه حنظلة بن أبي سفيان استخفافا واستهجانا واستبشاعا بهذه الكلمة المرة انتهى. ولقد أطال رحمه الله في غير طائل، وأتى بغير الصواب. ولو راجع موضعا آخر من البخاري لهذا الحديث بعينه لرأي فيه ما نصه "لما كان يوم الحرة والناس يبايعون لعبد الله بن حنظلة، فقال عبد الله بن زيد: علام يبايع حنظلة الناس؟" الحديث. وهذا الموضع في أثناء غزوة الحديبية من كتاب المغازي، فهذا يرد احتماله الثاني، وأما احتماله الأول فيرده اتفاق أهل النقل على أن الأمير الذي كان من قبل يزيد بن معارية اسمه مسلم بن عقبة لا عبد الله بن حنظلة، وأن ابن حنظلة كان الأمير على الأنصار، وأن عبد الله بن مطيع كان الأمير على من سواهم وأنهما قتلا جميعا في تلك الوقعة. والله المستعان. قوله: "لا أبايع على هذا أحدا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم" فيه إيماء إلى أنه بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك وليس بصريح، ولذلك عقبه المصنف بحديث سلمة بن الأكوع لتصريحه فيه بذلك. قال ابن المنير:

(6/118)


والحكمة في قول الصحابي إنه لا يفعل ذلك بعد النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان مستحقا للنبي صلى الله عليه وسلم على كل مسلم أن يقيه بنفسه، وكان فرضا عليهم أن لا يفروا عنه حتى يموتوا دونه، وذلك بخلاف غيره. ثالثها: حديث سلمة فقوله: "فقلت له يا أبا مسلم"، هي كنية سلمة بن الأكوع، والقائل "فقلت" الراوي عنه وهو يزيد بن أبي عبيد مولاه، وهذا الحديث أحد ثلاثيات البخاري، وقد أخرجه في الأحكام أيضا ويأتي الكلام عليه هناك إن شاء الله تعالى. قال ابن المنير: الحكمة في تكراره البيعة لسلمة أنه كان مقداما في الحرب فأكد عليه العقد احتياطا. قلت: أو لأنه كان يقاتل قتال الفارس والراجل فتعددت البيعة بتعدد الصفة. رابعها: حديث أنس "كانت الأنصار يوم الخندق تقول: نحن الذين بايعوا محمدا على الجهاد ما بقينا أبدا" وهو ظاهر فيما ترجم به، وقد تقدم موصولا في أوائل الجهاد، ويأتي الكلام عليه في المغازي إن شاء الله تعالى. خامسها: حديث مجاشع وهو ابن مسعود، وأخوه اسمه مجالد بجيم، وسيأتي الكلام عليه في المغازي في غزوة الفتح إن شاء الله تعالى.

(6/119)


111 - باب عَزْمِ الإِمَامِ عَلَى النَّاسِ فِيمَا يُطِيقُونَ
2964- حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَقَدْ أَتَانِي الْيَوْمَ رَجُلٌ فَسَأَلَنِي عَنْ أَمْرٍ مَا دَرَيْتُ مَا أَرُدُّ عَلَيْهِ فَقَالَ أَرَأَيْتَ رَجُلًا مُؤْدِيًا نَشِيطًا يَخْرُجُ مَعَ أُمَرَائِنَا فِي الْمَغَازِي فَيَعْزِمُ عَلَيْنَا فِي أَشْيَاءَ لاَ نُحْصِيهَا فَقُلْتُ لَهُ وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لَكَ إِلاَّ أَنَّا كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَسَى أَنْ لاَ يَعْزِمَ عَلَيْنَا فِي أَمْرٍ إِلاَّ مَرَّةً حَتَّى نَفْعَلَهُ وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَنْ يَزَالَ بِخَيْرٍ مَا اتَّقَى اللَّهَ وَإِذَا شَكَّ فِي نَفْسِهِ شَيْءٌ سَأَلَ رَجُلًا فَشَفَاهُ مِنْهُ وَأَوْشَكَ أَنْ لاَ تَجِدُوهُ وَالَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ مَا أَذْكُرُ مَا غَبَرَ مِنْ الدُّنْيَا إِلاَّ كَالثَّغْبِ شُرِبَ صَفْوُهُ وَبَقِيَ كَدَرُهُ".
قوله: "باب عزم الإمام على الناس فيما يطيقون" المراد بالعزم الأمر الجازم الذي لا تردد فيه، والذي يتعلق به الجار والمجرور محذوف تقديره مثلا محله، والمعنى وجوب طاعة الإمام محله فيما لهم به طاقة. قوله: "قال عبد الله" أي ابن مسعود، وهذا الإسناد كله كوفيون. قوله: "أتاني اليوم رجل" لم أقف على اسمه. قوله: "مؤديا" بهمزة ساكنة وتحتانية خفيفة أي كامل الأداء أي أداة الحرب، ولا يجوز حذف الهمزة منه لئلا يصير من أودى إذا هلك. وقال الكرماني: معناه قويا، وكأنه فسره باللازم. وقوله: "نشيطا" بنون وبمعجمة من النشاط. قوله: "نخرج مع أمرائنا" كذا في الرواية بالنون من قوله نخرج، وعلى هذا فالمراد بقوله رجلا أحدنا، أو هو محذوف الصفة أي رجلا منا، وعلى هذا عول الكرماني لأن السياق يقتضي أن يقول مع امرأته، وفيه حينئذ التفات. ويحتمل أن يكون بالتحتانية بدل النون وفيه أيضا التفات. قوله: "لا نحصيها" أي لا نطيقها لقوله تعالى :{عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} وقيل لا ندري أهي طاعة أم معصية، والأول مطابق لما فهم البخاري فترجم به، والثاني موافق لقول ابن مسعود "وإذا شك في نفسه شيء سأل رجلا فشفاه منه" ، أي من تقوى الله أن لا يقدم المرء على ما يشك فيه حتى يسأل من عنده علم فيدله على ما فيه شفاؤه. وقوله: " شك نفسه في شيء" من المقلوب، إذ التقدير: وإذا شك نفسه في شيء، أو ضمن شك معنى لصق، والمراد بالشيء ما يتردد في جوازه وعدمه. وقوله: "حتى يفعله" غاية لقوله: "لا يعزم" أو للعزم الذي

(6/119)


يتعلق به المستثنى وهو مرة. والحاصل أن الرجل سأل ابن مسعود عن حكم طاعة الأمير فأجابه ابن مسعود بالوجوب بشرط أن يكون المأمور به موافقا لتقوى الله تعالى. قوله: "ما غبر" بمعجمة وموحدة مفتوحتين أي مضى، وهو من الأضداد يطلق على ما مضى وعلى ما بقي، وهو هنا محتمل للأمرين. قال ابن الجوزي: هو بالماضي هنا أشبه كقوله: "ما أذكر". والثغب بمثلثة مفتوحة ومعجمة ساكنة ويجوز فتحها. قال الفزاز: وهو أكثر، وهو الغدير يكون في ظل فيبرد ماؤه ويروق، وقيل هو ما يحتفره السيل في الأرض المنخفضة فيصير مثل الأخدود فيبقى الماء فيه فتصفقه الريح فيصير صافيا باردا، وقيل هو نفرم في صخرة يبقى فيها الماء كذلك؛ فشبه ما مضى من الدنيا بما شرب من صفوه، وما بقي منها بما تأخر من كدره. وإذا كان هذا في زمان ابن مسعود وقد مات هو قبل مقتل عثمان ووجود تلك الفتن العظيمة فماذا يكون اعتقاده فيما جاء بعد ذلك وهلم جرا؟ وفي الحديث أنهم كانوا يعتقدون وجوب طاعة الإمام، وأما توقف ابن مسعود عن خصوص جوابه وعدوله إلى الجواب العام فللإشكال الذي وقع له من ذلك، وقد أشار إليه في بقية حديثه، ويستفاد منه التوقف في الإفتاء فيما أشكل من الأمر كما لو أن بعض الأجناد استفتى أن السلطان عينه في أمر مخوف بمجرد التشهي وكلفه من ذلك ما لا يطيق، فمن أجابه بوجوب طاعة الإمام أشكل الأمر لما وقع من الفساد، وأن أجابه بجواز الامتناع أشكل الأمر لما قد يفضي به ذلك إلى الفتنة، فالصواب التوقف عن الجواب في ذلك وأمثاله. والله الهادي إلى الصواب.

(6/120)


112 - باب كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا لَمْ يُقَاتِلْ أَوَّلَ النَّهَارِ أَخَّرَ الْقِتَالَ حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ
2965- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ سَالِمٍ أَبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ وَكَانَ كَاتِبًا لَهُ قَالَ كَتَبَ إِلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَقَرَأْتُهُ "إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ أَيَّامِهِ الَّتِي لَقِيَ فِيهَا انْتَظَرَ حَتَّى مَالَتْ الشَّمْسُ".
2966- "ثُمَّ قَامَ فِي النَّاسِ خَطِيبًا قَالَ أَيُّهَا النَّاسُ لاَ تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ وَسَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلاَلِ السُّيُوفِ ثُمَّ قَالَ اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ وَمُجْرِيَ السَّحَابِ وَهَازِمَ الأَحْزَابِ اهْزِمْهُمْ وَانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ".
قوله: "باب كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا لم يقاتل أول النهار أخر القتال حتى تزول الشمس" أي لأن الرياح تهب غالبا بعد الزوال فيحصل بها تبريد حدة السلاح والحرب وزيادة في النشاط. أورد فيه حديث عبد الله بن أبي أوفى بمعنى ما ترجم به؛ لكن ليس فيه: "إذا لم يقاتل أول النهار" وكأنه أشار بذلك إلى ما ورد في بعض طرقه، فعند أحمد من وجه آخر عن موسى بن عقبة بهذا الإسناد "أنه كان صلى الله عليه وسلم يحب أن ينهض إلى عدوه عند زوال الشمس" ولسعيد بن منصور من وجه آخر عن ابن أبي أوفى "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمهل إذا زالت الشمس ثم ينهض إلى عدوه" وللمصنف في الجزية من حديث النعمان بن مقرن "كان إذا لم يقاتل أول النهار انتظر حتى تهب الأرواح وتحضر الصلوات" وأخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن حبان من وجه آخر وصححاه، وفي روايتهم "حتى

(6/120)


تزول الشمس وتهب الأرواح وينزل النصر" فيظهر أن فائدة التأخير لكون أوقات الصلاة مظنة إجابة الدعاء، وهبوب الريح قد وقع النصر به في الأحزاب فصار مظنة لذلك والله أعلم. وقد أخرج الترمذي حديث النعمان بن مقرن من وجه آخر عنه لكن فيه انقطاع، ولفظه يوافق ما قلته قال: "غزوت مع النبي صلى الله عليه وسلم فكان إذا طلع الفجر أمسك حتى تطلع الشمس فإذا طلعت قاتل، فإذا انتصف النهار أمسك حتى تزول الشمس فإذا زالت الشمس قاتل، فإذا دخل وقت العصر أمسك حتى يصليها ثم يقاتل، وكان يقال: عند ذلك تهيج رياح النصر ويدعو المؤمنون لجيوشهم في صلاتهم". "تنبيه": وقع في رواية الإسماعيلي من هذا الوجه زيادة في الدعاء، وسيأتي التنبيه عليها في "باب لا تتمنوا لقاء العدو" مع بقية الكلام على شرحه إن شاء الله تعالى.

(6/121)


113 - باب اسْتِئْذَانِ الرَّجُلِ الإِمَامَ لِقَوْلِهِ [62 النور] {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ
2967- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ عَنْ الْمُغِيرَةِ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فَتَلاَحَقَ بِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا عَلَى نَاضِحٍ لَنَا قَدْ أَعْيَا فَلاَ يَكَادُ يَسِيرُ فَقَالَ لِي مَا لِبَعِيرِكَ قَالَ قُلْتُ عَيِيَ قَالَ فَتَخَلَّفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَزَجَرَهُ وَدَعَا لَهُ فَمَا زَالَ بَيْنَ يَدَيْ الإِبِلِ قُدَّامَهَا يَسِيرُ فَقَالَ لِي كَيْفَ تَرَى بَعِيرَكَ قَالَ قُلْتُ بِخَيْرٍ قَدْ أَصَابَتْهُ بَرَكَتُكَ قَالَ أَفَتَبِيعُنِيهِ قَالَ فَاسْتَحْيَيْتُ وَلَمْ يَكُنْ لَنَا نَاضِحٌ غَيْرُهُ قَالَ فَقُلْتُ نَعَمْ قَالَ فَبِعْنِيهِ فَبِعْتُهُ إِيَّاهُ عَلَى أَنَّ لِي فَقَارَ ظَهْرهِ حَتَّى أَبْلُغَ الْمَدِينَةَ قَالَ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي عَرُوسٌ فَاسْتَأْذَنْتُهُ فَأَذِنَ لِي فَتَقَدَّمْتُ النَّاسَ إِلَى الْمَدِينَةِ حَتَّى أَتَيْتُ الْمَدِينَةَ فَلَقِيَنِي خَالِي فَسَأَلَنِي عَنْ الْبَعِيرِ فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا صَنَعْتُ فِيهِ فَلاَمَنِي قَالَ وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِي حِينَ اسْتَأْذَنْتُهُ هَلْ تَزَوَّجْتَ بِكْرًا أَمْ ثَيِّبًا فَقُلْتُ تَزَوَّجْتُ ثَيِّبًا فَقَالَ هَلاَ تَزَوَّجْتَ بِكْرًا تُلاَعِبُهَا وَتُلاَعِبُكَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ تُوُفِّيَ وَالِدِي أَوْ اسْتُشْهِدَ وَلِي أَخَوَاتٌ صِغَارٌ فَكَرِهْتُ أَنْ أَتَزَوَّجَ مِثْلَهُنَّ فَلاَ تُؤَدِّبُهُنَّ وَلاَ تَقُومُ عَلَيْهِنَّ فَتَزَوَّجْتُ ثَيِّبًا لِتَقُومَ عَلَيْهِنَّ وَتُؤَدِّبَهُنَّ قَالَ فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ غَدَوْتُ عَلَيْهِ بِالْبَعِيرِ فَأَعْطَانِي ثَمَنَهُ وَرَدَّهُ عَلَيَّ". قَالَ الْمُغِيرَةُ هَذَا فِي قَضَائِنَا حَسَنٌ لاَ نَرَى بِهِ بَأْسًا.
قوله: "باب استئذان الرجل" أي من الرعية "الإمام" أي في الرجوع أو التخلف عن الخروج أو نحو ذلك.
قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} قال ابن التين: هذه الآية احتج بها الحسن على أنه ليس لأحد أن يذهب من العسكر حتى يستأذن الأمير، وهذا عند سائر الفقهاء كان خاصا بالنبي صلى الله عليه وسلم، كذا قال، والذي يظهر أن الخصوصية في عموم وجوب الاستئذان، وإلا فلو كان ممن عينه الإمام فطرأ له ما يقتضي التخلف أو الرجوع فأنه يحتاج إلى الاستئذان. ثم أورد فيه حديث جابر في قصة

(6/121)


جمله وقد تقدم شرحه في كتاب الشروط، والغرض منه هنا قوله: "إني عروس فاستأذنته فأذن لي" وسيأتي الكلام على ما يتعلق بتزويجه في النكاح. "تنبيه": قوله في آخر هذا الحديث: "قال المغيرة: هذا في قضائنا حسن لا نرى به بأسا" هذا موصول بالإسناد المذكور إلى المغيرة، وهو ابن مقسم الضبي أحد فقهاء الكوفة، ومراده بذلك ما وقع من جابر من اشتراط ركوب جملة إلى المدينة. وأعرب الداودي فقال: مراده جواز زيادة الغريم على حقه، وأن ذلك ليس خاصا بالنبي صلى الله عليه وسلم وقد تعقبه ابن التين بأن هذه الزيادة لم ترد في هذه الطريق هنا، وهو كما قال.

(6/122)


باب من غزا وهو حديث عهد بعرسه. فيه جابرعن النبي صلى الله عليه و سلم
...
114 - باب مَنْ غَزَا وَهُوَ حَدِيثُ عَهْدٍ بِعُرْسِهِ. فِيهِ جَابِرٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قوله: "باب من غزا وهو حديث عهد بعرسه" بكسر العين أي بزوجته، وبضمها أي بزمان عرسه. وفي رواية الكشميهني: "بعرس" وهو يؤيد الاحتمال الثاني. قوله: "فيه جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم" يشير إلى حديثه المذكور في الباب قبله وأن ذلك في بعض طرقه، وسيأتي في أوائل النكاح من طريق سيار عن الشعبي بلفظ: "فقال ما يعجلك؟ قلت: كنت حديث عهد بعرس" الحديث.

(6/122)


باب من اختار الغزو بعد البناء. فيه أبُو هريرة عن الَنبي صلى الله عليه و سلم
...
115 - باب مَنْ اخْتَارَ الْغَزْوَ بَعْدَ الْبِنَاءِ. فِيهِ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قوله: "باب من اختار الغزو بعد البناء فيه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم" يشير إلى حديثه الآتي في الخمس من طريق همام عنه فقال: "غزا نبي من الأنبياء. فقال: لا يتبعني رجل ملك بضع امرأة ولما يبن بها" الحديث وسيأتي شرحه هناك، وترجم عليه في النكاح "من أحب البناء بعد الغزو" وساق الحديث. والغرض هنا من ذلك أن يتفرغ قلبه للجهاد ويقبل عليه بنشاط، لأن الذي يعقد عقده على امرأة يبقى متعلق الخاطر بها، بخلاف ما إذا دخل بها فإنه يصير الأمر في حقه أخف غالبا، ونظيره الاشتغال بالأكل قبل الصلاة. "تنبيهان" أحدهما: أورد الداودي هذه الترجمة محرفة ثم اعترضها، وذلك أنه وقع عنده "باب من اختار الغزو قبل البناء"، فاعترضه بأن الحديث فيه أنه اختار البناء قبل الغزو. قلت: وعلى تقدير صحة ما وقع عند الداودي فلا يلزمه الاعتراض، لأنه أورد الترجمة مورد الاستفهام فكأنه قال: ما حكم من اختار الغزو قبل البناء هل يمنع كما دل عليه الحديث، أو يسوغ؟ ويحمل الحديث على الأولوية. ثانيهما: قال الكرماني كأنه اكتفى بالإشارة إلى هذا الحديث لأنه لم يكن على شرطه. قلت: ولم يستحضر أنه أورده موصولا في مكان آخر كما سيأتي قريبا. والجواب الصحيح أنه جرى على عادته الغالبة في أنه لا يعيد الحديث الواحد إذا اتحد مخرجه في مكانين بصورته غالبا، بل يتصرف فيه بالاختصار ونحوه في أحد الموضعين.

(6/122)


116 - باب مُبَادَرَةِ الإِمَامِ عِنْدَ الْفَزَعِ
2968- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ شُعْبَةَ حَدَّثَنِي قَتَادَةُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "كَانَ بِالْمَدِينَةِ فَزَعٌ فَرَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَسًا لِأَبِي طَلْحَةَ فَقَالَ مَا رَأَيْنَا مِنْ شَيْءٍ وَإِنْ وَجَدْنَاهُ لَبَحْرًا".
قوله: "باب مبادرة الإمام عند الفزع" ذكر فيه حديث أنس في ركوب النبي صلى الله عليه وسلم فرس أبي طلحة. وقد تقدم

(6/122)


باب السرعة و الركض في الفزع
...
117 - باب السُّرْعَةِ وَالرَّكْضِ فِي الْفَزَعِ
2969- حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ سَهْلٍ حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "فَزِعَ النَّاسُ فَرَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَسًا لِأَبِي طَلْحَةَ بَطِيئًا ثُمَّ خَرَجَ يَرْكُضُ وَحْدَهُ فَرَكِبَ النَّاسُ يَرْكُضُونَ خَلْفَهُ فَقَالَ لَمْ تُرَاعُوا إِنَّهُ لَبَحْرٌ فَمَا سُبِقَ بَعْدَ ذَلِكَ الْيَوْمِ".
قوله: "باب السرعة والركض في الفزع" ذكر فيه حديث أنس المذكور من وجه آخر، وقد تقدم، ومحمد المذكور في إسناده هو ابن سيرين.

(6/123)


باب الخروج في الفزع و حده
...
118 - باب الْخُرُوجِ فِي الْفَزَعِ وَحْدَهُ
قوله: "باب الخروج في الفزع وحده" كذا ثبتت هذه الترجمة بغير حديث، وكأنه أراد أن يكتب فيه حديث أنس المذكور من وجه آخر فاخترم قبل ذلك. قال الكرماني: ويحتمل أن يكون اكتفى بالإشارة إلى الحديث الذي قبله، كذا قال وفيه بعد، وقد ضم أبو علي بن شبويه هذه الترجمة إلى التي بعدها فقال: "باب الخروج في الفزع وحده والجعائل إلخ " وليس في أحاديث باب الجعائل مناسبة لذلك أيضا، إلا أنه يمكن حمله على ما قلت أولا. قال ابن بطال: جملة ما في هذه التراجم أن الإمام ينبغي له أن يشح بنفسه لما في ذلك من النظر للمسلمين، إلا أن يكون من أهل الغناء الشديد والثبات البالغ فيحتمل أن يسوغ له ذلك، وكان في النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك ما ليس في غيره، ولا سيما مع ما علم أن الله يعصمه وينصره.

(6/123)


119 - باب الْجَعَائِلِ وَالْحُمْلاَنِ فِي السَّبِيلِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ الْغَزْوَ قَالَ إِنِّي أُحِبُّ أَنْ أُعِينَكَ بِطَائِفَةٍ مِنْ مَالِي قُلْتُ أَوْسَعَ اللَّهُ عَلَيَّ قَالَ إِنَّ غِنَاكَ لَكَ وَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ يَكُونَ مِنْ مَالِي فِي هَذَا الْوَجْهِ وَقَالَ عُمَرُ إِنَّ نَاسًا يَأْخُذُونَ مِنْ هَذَا الْمَالِ لِيُجَاهِدُوا ثُمَّ لاَ يُجَاهِدُونَ فَمَنْ فَعَلَهُ فَنَحْنُ أَحَقُّ بِمَالِهِ حَتَّى نَأْخُذَ مِنْهُ مَا أَخَذَ وَقَالَ طَاوُسٌ وَمُجَاهِدٌ إِذَا دُفِعَ إِلَيْكَ شَيْءٌ تَخْرُجُ بِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاصْنَعْ بِهِ مَا شِئْتَ وَضَعْهُ عِنْدَ أَهْلِكَ.
2970- حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ سَمِعْتُ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ سَأَلَ زَيْدَ بْنَ أَسْلَمَ فَقَالَ زَيْدٌ سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: "قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: حَمَلْتُ عَلَى فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَرَأَيْتُهُ يُبَاعُ فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آشْتَرِيهِ فَقَالَ لاَ تَشْتَرِهِ وَلاَ تَعُدْ فِي صَدَقَتِكَ".
2971- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ حَمَلَ عَلَى فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَوَجَدَهُ يُبَاعُ فَأَرَادَ أَنْ يَبْتَاعَهُ فَسَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لاَ تَبْتَعْهُ وَلاَ

(6/123)


120 - باب الأَجِيرِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ يُقْسَمُ لِلْأَجِيرِ مِنْ الْمَغْنَمِ
وَأَخَذَ عَطِيَّةُ بْنُ قَيْسٍ فَرَسًا عَلَى النِّصْفِ فَبَلَغَ سَهْمُ الْفَرَسِ أَرْبَعَ مِائَةِ دِينَارٍ فَأَخَذَ مِائَتَيْنِ وَأَعْطَى صَاحِبَهُ مِائَتَيْنِ.
2973- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَعْلَى عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزْوَةَ تَبُوكَ فَحَمَلْتُ عَلَى بَكْرٍ فَهُوَ أَوْثَقُ أَعْمَالِي فِي نَفْسِي فَاسْتَأْجَرْتُ أَجِيرًا فَقَاتَلَ رَجُلًا فَعَضَّ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ فَانْتَزَعَ يَدَهُ مِنْ فِيهِ وَنَزَعَ ثَنِيَّتَهُ فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَهْدَرَهَا فَقَالَ أَيَدْفَعُ يَدَهُ إِلَيْكَ فَتَقْضَمُهَا كَمَا يَقْضَمُ الْفَحْلُ".
قوله: "باب الأجير" للأجير في الغزو حالان: إما أن يكون استؤجر للخدمة أو استؤجر ليقاتل، فالأول قال الأوزاعي وأحمد إسحاق: لا يسهم له. وقال الأكثر: يسهم له لحديث سلمة "كنت أجيرا لطلحة أسوس فرسه" أخرجه مسلم، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أسهم له. وقال الثوري: لا يسهم للأجير إلا أن قاتل، وأما الأجير إذا استؤجر ليقاتل فقال المالكية والحنفية: لا يسهم له. وقال الأكثر: له سهمه. وقال أحمد: واستأجر الإمام قوما على الغزو لم يسهم لهم سوى الأجرة. وقال الشافعي: هذا فيمن لم يجب عليه الجهاد، أما الحر البالغ المسلم إذا حضر الصف فإنه يتعين عليه الجهاد فيسهم له ولا يستحق أجرة. قوله: "وقال الحسن وابن سيرين يقسم للأجير من المغنم" وصله عبد الرزاق عنهما بلفظ: "يسهم للأجير" ووصله ابن أبي شيبة عنهما بلفظ: "العبد والأجير إذا شهدا القتال أعطوا من الغنيمة". قوله: "وأخذ عطية بن قيس فرسا على النصف إلخ" وهذا الصنيع جائز عند من يجيز المخابرة. وقال بصحته هنا الأوزاعي وأحمد خلافا للثلاثة، وقد تقدمت مباحث المخابرة في كتاب المزارعة. حديث صفوان بن يعلى عن أبيه، وهو يعلى بن أمية قال: "غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك" الحديث، وسيأتي شرحه في القصاص؛ والغرض منه قوله: "فاستأجرت أجيرا" قال المهلب: استنبط البخاري من هذا الحديث جواز استئجار الحر في الجهاد، وقد خاطب الله المؤمنين بقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} الآية فدخل الأجير في هذا الخطاب، قلت: وقد أخرج الحديث أبو داود من وجه آخر عن يعلى بن أمية أوضح من الذي هنا ولفظه: "أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغزو وأنا شيخ ليس لي خادم، فالتمست أجيرا يكفيني وأجرى له سهمي، فوجدت رجلا، فلما دنا الرحيل أتاني فقال: ما أدرى ما سهمك وما يبلغ، فسم لي شيئا كان السهم أو لم يكن، فسميت له ثلاثة دنانير" الحديث. وقوله في هذه الرواية: "فهو أوثق أعمالي"؛ في رواية السرخسي أحمالي بالمهملة، وللمستملي بالجيم، والذي قاتل الأجير هو يعلى بن أمية نفسه كما رواه مسلم من حديث عمران بن حصين. "تنبيهان": الأول وقع في رواية المستملي بين أثر عطية بن قيس وحديث يعلى بن أمية "باب

(6/125)


استعارة الفرس في الغزو"، وهو خطأ لأنه يستلزم أن يخلو باب الأجير من حديث مرفوع، ولا مناسبة بينه وبين حديث يعلى بن أمية، وكأنه وجد هذه الترجمة في الطرة خالية عن حديث فظن أن هذا موضعها. وإن كان كذلك فحكمها حكم الترجمة الماضية قريبا وهي "باب الخروج في الفزع وحده" وكأنه أراد أن يورد فيه حديث أنس في قصة فرس أبي طلحة أيضا فلم يتفق ذلك، ويقوى هذا أن ابن شبويه جعل هذه الترجمة مستقلة قبل "باب الأجير" بغير حديث، وأوردها الإسماعيلي عقب باب الأجير وقال: لم يذكر فيها حديثا. ثانيهما: وقع في رواية أبي ذر تقديم "باب الجعائل" وما بعده إلى هنا وأخر ذلك الباقون وقدموا عليه "باب ما قيل في لواء النبي صلى الله عليه وسلم". والخطب فيه قريب.

(6/126)


121 - باب مَا قِيلَ فِي لِوَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
2974- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ قَالَ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ قَالَ أَخْبَرَنِي عُقَيْلٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي ثَعْلَبَةُ بْنُ أَبِي مَالِكٍ الْقُرَظِيُّ "أَنَّ قَيْسَ بْنَ سَعْدٍ الأَنْصَارِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَانَ صَاحِبَ لِوَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادَ الْحَجَّ فَرَجَّلَ".
2975- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كَانَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَخَلَّفَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خَيْبَرَ وَكَانَ بِهِ رَمَدٌ فَقَالَ أَنَا أَتَخَلَّفُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَرَجَ عَلِيٌّ فَلَحِقَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا كَانَ مَسَاءُ اللَّيْلَةِ الَّتِي فَتَحَهَا فِي صَبَاحِهَا. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لاَعْطِيَنَّ الرَّايَةَ أَوْ قَالَ لَيَأْخُذَنَّ غَدًا رَجُلٌ يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَوْ قَالَ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَيْهِ فَإِذَا نَحْنُ بِعَلِيٍّ وَمَا نَرْجُوهُ فَقَالُوا هَذَا عَلِيٌّ فَأَعْطَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ".
[الحديث 2975 – طرفاه في: 3702، 4209]
2976- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ سَمِعْتُ الْعَبَّاسَ يَقُولُ لِلْزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "هَا هُنَا أَمَرَكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَرْكُزَ الرَّايَةَ".
قوله: "باب ما قيل في لواء النبي صلى الله عليه وسلم" اللواء بكسر اللام والمد هي الراية، ويسمى أيضا العلم، وكان الأصل أن يمسكها رئيس الجيش ثم صارت تحمل على رأسه. وقال أبو بكر بن العربي: اللواء غير الراية، فاللواء ما يعقد في طرف الرمح ويلوى عليه، والراية ما يعقد فيه ويترك حتى تصفقه الرياح. وقيل اللواء دون الراية، وقيل اللواء العلم الضخم. والعلم علامة لمحل الأمير يدور معه حيث دار، والراية يتولاها صاحب الحرب. وجنح الترمذي إلى التفرقة فترجم بالألوية وأورد حديث جابر "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة ولواؤه أبيض" ثم ترجم للرايات وأورد حديث البراء "أن راية رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت سوداء مربعة من نمرة" وحديث ابن عباس "كانت رايته سوداء ولواؤه أبيض" أخرجه الترمذي وابن ماجه. وأخرج الحديث أبو داود والنسائي أيضا، ومثله لابن عدي من

(6/126)


حديث أبي هريرة، ولأبي يعلى من حديث بريدة، وروى أبو داود من طريق سماك عن رجل من قومه عن آخر منهم "رأيت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم صفراء" ويجمع بينها باختلاف الأوقات، وروى أبو يعلى عن أنس رفعه: "أن الله أكرم أمتي بالألوية" ، إسناده ضعيف، وروى الشيخ من حديث ابن عباس "كان مكتوبا على رايته: لا إله إلا الله محمد رسول الله" وسنده واه. وقيل: كانت له راية تسمى العقاب سوداء مربعة، وراية تسمى الراية البيضاء، وربما جعل فيها شيء أسود. قوله: "عن ثعلبة بن أبي مالك" تقدم ذكره في "باب حمل النساء القرب في الغزو". قوله: "أن قيس بن سعد" أي ابن عبادة الصحابي ابن الصحابي وهو سيد الخزرج ابن سيدهم، وسيأتي للمصنف من حديث أنس في الأحكام أنه كان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنزلة صاحب الشرطة. قوله: "وكان صاحب لواء النبي صلى الله عليه وسلم" أي الذي يختص بالخزرج من الأنصار، وكان النبي صلى الله عليه وسلم في مغازيه يدفع إلى رأس كل قبيلة لواء يقاتلون تحته. وأخرج أحمد بإسناد قوي من حديث ابن عباس "أن راية النبي صلى الله عليه وسلم كانت تكون مع علي، وراية الأنصار مع سعد ابن عبادة" الحديث. قوله: "أراد الحج فرجل" هو بتشديد الجيم وأخطأ من قالها بالمهملة، واقتصر البخاري على هذا القدر من الحديث لأنه موقوف وليس من غرضه في هذا الباب وإنما أراد منه أن قيس بن سعد كان صاحب اللواء النبوي ولا يتقرر في ذلك إلا بإذن النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا القدر هو المرفوع من الحديث تاما وهو الذي يحتاج إليه هنا، وقد أخرج الإسماعيلي الحديث تاما من طريق الليث التي أخرجها المصنف منها فقال بعد قوله فرجل أحد شقي رأسه "فقام غلام له فقلد هديه، فنظر قيس هديه وقد قلد فأهل بالحج ولم يرجل شق رأسه الآخر" وأخرجه من طريق أخرى عن الزهري بتمامه نحوه، وفي ذلك مصير من قيس بن سعد إلى أن الذي يريد الإحرام إذا قلد هديه يدخل في حكم المحرم. وقرأت في كلام بعض المتأخرين أن بعض الشارحين تحير في شرح القدر الذي وقع في البخاري، وتكلف له وجوها عجيبة، فلينظر المراد بالشارح المذكور فإني لم أقف عليه. ثم رأيت ما نقله المتأخر المذكور في كلام صاحب "المطالع" وأبهم الشارح الذي تحير وقال: أنه حمل الكلام ما لا يحتمله. وذكر الدمياطي في الحاشية أن البخاري ذكر بقية الحديث في آخر الكتاب وليس في الكتاب شيء من ذلك. حديث سلمة بن الأكوع في قصه علي يوم خيبر، وسيأتي شرحه في كتاب المغازي، والغرض منه قوله: "لأعطين الراية غدا رجلا يحبه الله ورسوله" فإنه مشعر بأن الراية لم تكن خاصة بشخص معين بل كان يعطيها في كل غزوة لمن يريد، وقد أخرجه أحمد من حديث بريدة بلفظ: "إني دافع اللواء إلى رجل يحبه الله ورسوله" الحديث، وهذا مشعر بأن الراية واللواء سواء. حديث نافع بن جبير "سمعت العباس - أي ابن عبد المطلب - يقول للزبير أي ابن العوام: هاهنا أمرك النبي صلى الله عليه وسلم أن تركز الراية" وهو طرف من حديث أورده المصنف في غزوة الفتح، وسيأتي شرحه مستوفى هناك، وأبين هناك إن شاء الله تعالى ما في سياقه من صورة الإرسال والجواب عن ذلك، وأبين تعيين المكان المشار إليه وأنه الحجون، وهو بفتح المهملة وضم الجيم الخفيفة، قال الطبري: في حديث على أن الإمام يؤمر على الجيش من يوثق بقوته وبصيرته ومعرفته، وسيأتي بقية شرحه في المغازي إن شاء الله تعالى. وقال المهلب: وفي حديث الزبير أن الراية لا تركز إلا بإذن الإمام، لأنها علامة على مكانه فلا يتصرف فيها إلا بأمره. وفي هذه الأحاديث استحباب اتخاذ الألوية في الحروب. وأن اللواء يكون مع الأمير

(6/127)


أو من يقيمه لذلك عند الحرب، وقد تقدم حديث أنس "أخذ الراية زيد بن حارثة فأصيب، ثم أخذها جعفر فأصيب" الحديث، ويأتي تمام شرحه في المغازي إن شاء الله تعالى أيضا.

(6/128)


122 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ". وَقَوْلِهِ عَزَّ وجلَّ [151 آل عمران]: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ} قَالَهُ جَابِرٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
2977- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "بُعِثْتُ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ فَبَيْنَا أَنَا نَائِمٌ أُتِيتُ بِمَفَاتِيحِ خَزَائِنِ الأَرْضِ فَوُضِعَتْ فِي يَدِي قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَقَدْ ذَهَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنْتُمْ تَنْتَثِلُونَهَا".
[الحديث 2977 – أطرافه في: 6998، 7013، 7273]
2978- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ أَخْبَرَهُ "أَنَّ هِرَقْلَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ وَهُمْ بِإِيلِيَاءَ ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ الْكِتَابِ كَثُرَ عِنْدَهُ الصَّخَبُ فَارْتَفَعَتْ الأَصْوَاتُ وَأُخْرِجْنَا فَقُلْتُ لِأَصْحَابِي حِينَ أُخْرِجْنَا لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ إِنَّهُ يَخَافُهُ مَلِكُ بَنِي الأَصْفَرِ".
قوله: "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم "نصرت بالرعب مسيرة شهر" وقول الله عز وجل: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} قاله جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم" يشير إلى حديثه الذي أوله "أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي" فإن فيه: "ونصرت بالرعب مسيرة شهر" وقد تقدم شرحه في التيمم، ووقع في الطبراني من حديث أبي أمامة "شهرا أو شهرين" وله من حديث السائب بن يزيد "شهرا أمامي وشهرا خلفي" وظهر لي أن الحكمة في الاقتصار على الشهر أنه لم يكن بينه وبين الممالك الكبار التي حوله أكثر من ذلك، كالشام والعراق واليمن ومصر، ليس بين المدينة النبوية للواحدة منها إلا شهر فما دونه، ودل حديث السائب على أن التردد في الشهر والشهرين إما أن يكون الراوي سمعه كما في حديث السائب، وإما أنه لا أثر لتردده، وحديث السائب لا ينافي حديث جابر، وليس المراد بالخصوصية مجرد حصول الرعب بل هو وما ينشأ عنه من الظفر بالعدو. حديث أبي هريرة الذي أوله "بعثت بجوامع الكلم" وفيه: "ونصرت بالرعب، وبينا أنا نائم أوتيت بمفاتيح خزائن الأرض" وسيأتي شرحه مستوفى في كتاب التعبير إن شاء الله تعالى. وجوامع الكلم القرآن فإنه تقع فيه المعاني الكثيرة بالألفاظ القليلة، وكذلك يقع في الأحاديث النبوية الكثير من ذلك. ومفاتيح خزائن الأرض المراد منها ما يفتح لأمته من بعده من الفتوح، وقيل المعادن، وقول أبي هريرة "وأنتم تنتثلونها" بوزن تفتعلونها - من النثل بالنون والمثلثة - أي تستخرجونها، تقول نثلت البئر إذا استخرجت ترابها. حديث أبي سفيان في قصة هرقل ذكر طرفا منها، وقد تقدم بهذا الإسناد بطوله في بدء الوحي، والغرض منه هنا قوله: "أنه يخافه ملك بني الأصفر" لأنه كان بين المدينة وبين المكان الذي كان قيصر ينزل فيه مدة شهر أو نحوه.

(6/128)


123 - باب حَمْلِ الزَّادِ فِي الْغَزْوِ
وَقَوْلِ اللَّهِ عز وجل [197 البقرة]: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى}
2979- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبِي وَحَدَّثَتْنِي أَيْضًا فَاطِمَةُ عَنْ أَسْمَاءَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "صَنَعْتُ سُفْرَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ حِينَ أَرَادَ أَنْ يُهَاجِرَ إِلَى الْمَدِينَةِ قَالَتْ فَلَمْ نَجِدْ لِسُفْرَتِهِ وَلاَ لِسِقَائِهِ مَا نَرْبِطُهُمَا بِهِ فَقُلْتُ لِأَبِي بَكْرٍ وَاللَّهِ مَا أَجِدُ شَيْئًا أَرْبِطُ بِهِ إِلاَّ نِطَاقِي قَالَ فَشُقِّيهِ بِاثْنَيْنِ فَارْبِطِيهِ بِوَاحِدٍ السِّقَاءَ وَبِالْآخَرِ السُّفْرَةَ فَفَعَلْتُ فَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ ذَاتَ النِّطَاقَيْنِ".
[الحديث 2979 – طرفاه في: 3907، 5388]
2980- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو قَالَ أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "كُنَّا نَتَزَوَّدُ لُحُومَ الأَضَاحِيِّ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ".
2981- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ قَالَ سَمِعْتُ يَحْيَى قَالَ أَخْبَرَنِي بُشَيْرُ بْنُ يَسَارٍ أَنَّ سُوَيْدَ بْنَ النُّعْمَانِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَخْبَرَهُ "أَنَّهُ خَرَجَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ خَيْبَرَ حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالصَّهْبَاءِ وَهِيَ مِنْ خَيْبَرَ وَهِيَ أَدْنَى خَيْبَرَ فَصَلَّوْا الْعَصْرَ فَدَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالأَطْعِمَةِ فَلَمْ يُؤْتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلاَّ بِسَوِيقٍ فَلُكْنَا فَأَكَلْنَا وَشَرِبْنَا ثُمَّ قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَضْمَضَ وَمَضْمَضْنَا وَصَلَّيْنَا".
2982- حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مَرْحُومٍ حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ خَفَّتْ أَزْوَادُ النَّاسِ وَأَمْلَقُوا فَأَتَوْا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَحْرِ إِبِلِهِمْ فَأَذِنَ لَهُمْ فَلَقِيَهُمْ عُمَرُ فَأَخْبَرُوهُ فَقَالَ مَا بَقَاؤُكُمْ بَعْدَ إِبِلِكُمْ فَدَخَلَ عُمَرُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا بَقَاؤُهُمْ بَعْدَ إِبِلِهِمْ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نَادِ فِي النَّاسِ يَأْتُونَ بِفَضْلِ أَزْوَادِهِمْ فَدَعَا وَبَرَّكَ عَلَيْهِ ثُمَّ دَعَاهُمْ بِأَوْعِيَتِهِمْ فَاحْتَثَى النَّاسُ حَتَّى فَرَغُوا ثُمَّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ".
قوله: "باب حمل الزاد في الغزو وقول الله عز وجل: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى}" أشار بهذه الترجمة إلى أن حمل الزاد في السفر ليس منافيا للتوكل، وقد تقدم في الحج في تفسير الآية من حديث ابن عباس ما يؤيد ذلك. ثم ذكر فيه أربعة أحاديث: أحدها: حديث أسماء بنت أبي بكر في تسميتها ذات النطاقين، والغرض منه قولها "فلم تجد لسفرته ولا لسقائه ما نربطهما به" فإنه ظاهر في حمل آلة الزاد في السفر، وسيأتي الكلام على شرحه في أبواب الهجرة. والنطاق بكسر النون ما تشد به المرأة وسطها ليرتفع به ثوبها من الأرض عند المهنة. ثانيها: حديث جابر "كنا نتزود لحوم الأضاحي " الحديث، وسيأتي شرحه في كتاب الأضاحي إن شاء الله تعالى. ثالثها: حديث

(6/129)


سويدم بن النعمان وفيه: "فدعا النبي صلى الله عليه وسلم بالأطعمة" وفي رواية مالك "بالأزواد" وقد تقدم في الطهارة مع الكلام عليه، وقوله في هذه الرواية: "فلكنا" بضم اللام أي أدرنا اللقمة في الفم، وقوله: "وشربنا" قال الداودي: لا أراه محفوظا إلا إن كان أراد المضمضمة، كذا قال، ويحتمل أن يكون بعضهم استف السويق وبعضهم جعله في الماء وشربه فلا إشكال. حديث سلمة وهو ابن الأكوع "خفت أزواد الناس وأملقوا، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم في نحو إبلهم" الحديث. وهو ظاهر فيما ترجم به، وقوله: "أملقوا" أي فنى زادهم، ومعنى أملق افتقر، وقد يأتي متعديا بمعنى أفنى. قوله: "فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم في نحر إبلهم" أي بسبب نحر إبلهم، أو فيه حذف تقديره فاستأذنوه في نحر إبلهم. قوله: "ناد في الناس يأتون" أي فهم يأتون، ولذلك رفعه، وزاد في الشركة "فبسط لذلك نطع" وقد تقدم أن فيه أربع لغات فتح النون وكسرها وفتح الطاء وسكونها. قوله: "وبرك" بالتشديد أي دعا بالبركة وقوله: "عليهم" في رواية الكشميهني: "عليه" أي على الطعام، ومثله في الشركة. قوله: " فاحتثى الناس" بمهملة ساكنة ثم مثناة ثم مثلثة أي أخذوا حثية حثية، وقوله: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أشهد" إلى آخر الشهادتين" أشار إلى أن ظهور المعجزة مما يؤيد الرسالة. وفي الحديث حسن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإجابته إلى ما يلتمس منه أصحابه، وإجراؤهم على العادة البشرية في الاحتياج إلى الزاد في السفر، ومنقبة ظاهرة لعمر دالة على قوة يقينه بإجابة دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى حسن نظره للمسلمين. على أنه ليس في إجابة النبي صلى الله عليه وسلم لهم على نحر إبلهم ما يتحتم أنهم يبقون بلا ظهر، لاحتمال أن يبعث الله لهم ما يحملهم من غنيمة ونحوها، لكن أجاب عمر إلى ما أشار به لتعجيل المعجزة بالبركة التي حصلت في الطعام. وقد وقع لعمر شبيه بهذه القصة في الماء، وذلك فيما أخرجه ابن خزيمة وغيره، وستأتي الإشارة إليه في علامات النبوة، وقول عمر "ما بقاؤكم بعد إبلكم" أي لأن توالي المشي ربما أفضى إلى الهلاك، وكأن عمر أخذ ذلك من النهي عن الحمر الأهلية يوم خيبر استبقاء لظهورها، قال ابن بطال: استنبط منه بعض الفقهاء أنه يجوز للإمام في الغلاء إلزام من عنده ما يفضل عن قوته أن يخرجه للبيع لما في ذلك من صلاح الناس، وفي حديث سلمة جواز المشورة على الإمام بالمصلحة وإن لم يتقدم منه الاستشارة.

(6/130)


124 - باب حَمْلِ الزَّادِ عَلَى الرِّقَابِ
2983- حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ خَرَجْنَا وَنَحْنُ ثَلاَثُ مِائَةٍ نَحْمِلُ زَادَنَا عَلَى رِقَابِنَا فَفَنِيَ زَادُنَا حَتَّى كَانَ الرَّجُلُ مِنَّا يَأْكُلُ فِي كُلِّ يَوْمٍ تَمْرَةً قَالَ رَجُلٌ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ وَأَيْنَ كَانَتْ التَّمْرَةُ تَقَعُ مِنْ الرَّجُلِ قَالَ لَقَدْ وَجَدْنَا فَقْدَهَا حِينَ فَقَدْنَاهَا حَتَّى أَتَيْنَا الْبَحْرَ فَإِذَا حُوتٌ قَدْ قَذَفَهُ الْبَحْرُ فَأَكَلْنَا مِنْهُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا مَا أَحْبَبْنَا".
قوله: "باب حمل الزاد على الرقاب" أي عند تعذر حمله على الدواب. ذكر فيه حديث جابر في قصة العنبر مقتصرا على بعضه، والغرض منه قوله: "ونحن ثلاثمائة نحمل زادنا على رقابنا" وسيأتي شرحه مستوفى في أواخر المغازي.

(6/130)


125 - باب إِرْدَافِ الْمَرْأَةِ خَلْفَ أَخِيهَا
2984- حدثنا عمرو بن علي حدثنا أبو عاصم حدثنا عثمان بن الأسود حدثنا بن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها "أنها قالت: يا رسول الله يرجع أصحابك بأجر حج وعمرة ولم أزد على الحج فقال لها اذهبي وليردفك عبد الرحمن فأمر عبد الرحمن أن يعمرها من التنعيم فانتظرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأعلى مكة حتى جاءت".
2985- حدثني عبد الله حدثنا بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عمرو بن أوس عن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما قال: "أمرني النبي صلى الله عليه وسلم أن أردف عائشة وأعمرها من التنعيم".
قوله: "باب إرداف المرأة خلف أخيها" ذكر فيه حديث عائشة في ارتدافها في العمرة خلف أخيها عبد الرحمن وحديث عبد الرحمن بن أبي بكر في ذلك، وقد تقدم الكلام عليهما مستوفى في كتاب الحج، ويشبه أن يكون وجه دخوله هنا حديث عائشة المتقدم "جهادكن الحج".

(6/131)


126 - باب الِارْتِدَافِ فِي الْغَزْوِ وَالْحَجِّ
2986- حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا عبد الوهاب حدثنا أيوب عن أبي قلابة عن أنس رضي الله عنه قال: "كنت رديف أبي طلحة وإنهم ليصرخون بها جميعا الحج والعمرة".
قوله: "باب الارتداف في الغزو والحج" ذكر فيه حديث أنس "كنت رديف أبي طلحة وإنهم ليصرخون بهما" وقد تقدم شرحه في الحج.

(6/131)


127 - باب الرِّدْفِ عَلَى الْحِمَارِ
2987- حدثنا قتيبة حدثنا أبو صفوان عن يونس بن يزيد عن بن شهاب عن عروة عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركب على حمار على إكاف عليه قطيفة وأردف أسامة وراءه".
[الحديث 2987 – أطرافه في: 4566، 5663، 5964، 6207]
2988- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ يُونُسُ أَخْبَرَنِي نَافِعٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْبَلَ يَوْمَ الْفَتْحِ مِنْ أَعْلَى مَكَّةَ عَلَى رَاحِلَتِهِ مُرْدِفًا أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ وَمَعَهُ بِلاَلٌ وَمَعَهُ عُثْمَانُ بْنُ

(6/131)


128 - باب مَنْ أَخَذَ بِالرِّكَابِ وَنَحْوِهِ
2989- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ سُلاَمَى مِنْ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ يَعْدِلُ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ صَدَقَةٌ وَيُعِينُ الرَّجُلَ عَلَى دَابَّتِهِ فَيَحْمِلُ عَلَيْهَا أَوْ يَرْفَعُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ وَكُلُّ خُطْوَةٍ يَخْطُوهَا إِلَى الصَّلاَةِ صَدَقَةٌ وَيُمِيطُ الأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ
قوله: "باب من أخذ بالركاب ونحوه" أي من الإعانة على الركوب وغيره. قوله: "حدثنا إسحاق أخبرنا عبد الرزاق" كذا هو غير منسوب، وقد تقدم في "باب فضل من حمل متاع صاحبه في السفر" عن إسحاق بن نصر عن عبد الرزاق لكن سياقه مغاير لسياقه هنا، وتقدم في الصلح عن إسحاق بن منصور عن عبد الرزاق مقتصرا على بعضه، وهو أشبه بسياقه هنا فليفسر به هذا المهمل هنا. قوله: "كل سلامى" بضم المهملة وتخفيف اللام أي أنملة، وقيل كل عظم مجوف صغير، وقيل هو في الأصل عظم يكون في فرسن البعير واحده وجمعه سواء، وقيل جمعه سلاميات: وقوله: "كل يوم عليه صدقة" بنصب كل على الظرفية وقوله: "عليه" مشكل، قال ابن مالك: المعهود في "كل" إذا أضيفت إلى نكرة من خبر وتمييز وغيرهما أن تجيء على وفق المضاف كقولة تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} وهنا جاء على وفق "كل" في قوله: "كل سلامى عليه صدقة" وكان القياس أن يقول عليها صدقة، لأن السلامى مؤنثة، لكن دل مجيئها في هدا الحديث على الجواز، ويحتمل أن يكون ضمن السلامى معنى العظم أو المفصل فأعاد الضمير عليه كذلك، والمعنى على كل مسلم مكلف بعدد كل مفصل من عظامه صدقة لله تعالى على سبيل الشكر له بأن جعل عظامه مفاصل يتمكن بها من القبض والبسط. وخصت بالذكر لما في التصرف بها من دقائق الصنائع التي اختص بها الآدمي. قوله: "يعدل" فاعله الشخص المسلم المكلف وهو مبتدأ على تقدير العدل نحو "تسمع بالمعيدي خير من أن تراه" وقد قال سبحانه وتعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ}. قوله : "ويعين الرجل على دابته فيحمل عليها" هو موضع الترجمة، فإن قوله: "فيحمل عليها" أعم من أن يريد يحمل عليها المتاع أو الراكب.

(6/132)


وقوله: "أو يرفع عليها متاعه" إما شك من الراوي أو تنويع، وحمل الراكب أعم من أن يحمله كما هو أو بعينه في الركوب فتصح الترجمة. قال ابن المنير: لا تؤخذ الترجمة من مجرد صيغة الفعل فإنه مطلق، بل من جهة عموم المعنى، وقد روى مسلم من حديث العباس في غزوة حنين قال: "وأنا آخذ بركاب رسول الله صلى الله عليه وسلم" الحديث. قوله: "ويميط الأذى عن الطريق" تقدم في "باب إماطة الأذى عن الطريق" من هذا الوجه معلقا، وحكى ابن بطال عن بعض من تقدمه أن هذا من قول أبي هريرة موقوف، وتعقبه بأن الفضائل لا تدرك بالقياس، وإنما تؤخذ توقيفا من النبي صلى الله عليه وسلم.

(6/133)


129 - باب السَّفَرِ بِالْمَصَاحِفِ إِلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ
وَكَذَلِكَ يُرْوَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بِشْرٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَتَابَعَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَقَدْ سَافَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ الْقُرْآنَ
2990- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يُسَافَرَ بِالْقُرْآنِ إِلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ".
قوله: "باب كراهية السفر بالمصاحف إلى أرض العدو" سقط لفظ: "كراهية" إلا للمستملي فأثبتها، وبثبوتها يندفع الإشكال الآتي. قوله: "وكذلك يروى عن محمد بن بشر عن عبيد الله" هو ابن عمر(1) "عن نافع عن ابن عمر" وتابعه ابن إسحاق عن نافع. أما رواية محمد بن بشر فوصلها إسحاق بن راهويه في مسنده عنه ولفظه: "كره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو". وقال الدار قطني. والبرقاني: لم يروه بلفظ الكراهة إلا محمد بن بشر. وأما متابعة ابن إسحاق فهي بالمعنى لأن أحمد أخرجه من طريقه بلفظ: "نهى أن يسافر بالمصحف إلى أرض العدو" والنهي يقتضي الكراهة لأنه لا ينفك عن كراهة التنزيه أو التحريم. قوله: "وقد سافر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في أرض العدو وهم يعلمون القرآن" أشار البخاري بذلك إلى أن المراد بالنهي عن السفر بالقرآن السفر بالمصحف خشية أن يناله العدو لا السفر بالقرآن نفسه، وقد تعقبه الإسماعيلي بأنه لم يقل أحد إن من يحسن القرآن لا يغزو العدو في دارهم، وهو اعتراض من لم يفهم مراد البخاري. وادعى المهلب أن مراد البخاري بذلك تقوية القول بالتفرقة بين العسكر الكثير والطائفة القليلة، فيجوز في تلك دون هذه، والله أعلم. حديث مالك في ذلك وهو بلفظ: "نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو" وأورده ابن ماجه من طريق عبد الرحمن بن مهدي عن مالك وزاد: "مخافة أن يناله العدو" رواه ابن وهب عن مالك فقال: "خشية أن يناله العدو" وأخرجه أبو داود عن القعنبي عن مالك فقال: قال مالك أراه "مخافة" فذكره،
ـــــــ
(1) في هامش طبعة بولاق: هو ابن عمر بواسطة، لا أنه ابن عمر نفسه، كما في القسطلاني.

(6/133)


قال أبو عمر: كذا قال يحيى بن يحيى الأندلسي ويحيى بن بكير، وأكثر الرواة عن مالك جعلوا التعليل من كلامه ولم يرفعوه؛ وأشار إلى أن ابن وهب تفرد برفعها، وليس كذلك لما قدمته من رواية ابن ماجه، وهذه الزيادة رفعها ابن إسحاق أيضا كما تقدم، وكذلك أخرجها مسلم والنسائي وابن ماجه من طريق الليث عن نافع، ومسلم من طريق أيوب بلفظ: "فإني لا آمن أن يناله العدو" فصح أنه مرفوع وليس بمدرج، ولعل مالكا كان يجزم به، ثم صار يشك في رفعه فجعله من تفسير نفسه. قال ابن عبد البر: أجمع الفقهاء أن لا يسافر بالمصحف في السرايا والعسكر الصغير المخوف عليه، واختلفوا في الكبير المأمون عليه: فمنع مالك أيضا مطلقا، وفصل أبو حنيفة، وأدار الشافعية الكراهة مع الخوف وجودا وعدما. وقال بعضهم كالمالكية، واستدل به على منع بيع المصحف من الكافر لوجود المعنى المذكور فيه وهو التمكن من الاستهانة به، ولا خلاف في تحريم ذلك وإنما وقع الاختلاف هل يصح لو وقع ويؤمر بإزالة ملكه عنه أم لا؟ واستدل به على منع تعلم الكافر القرآن: فمنع مالك مطلقا، وأجاز الحنفية مطلقا، وعن الشافعي قولان، وفصل بعض المالكية بين القليل لأجل مصلحة قيام الحجة عليهم فأجازه، وبين الكثير فمنعه. ويؤيده قصة هرقل حيث كتب إليه النبي صلى الله عليه وسلم بعض الآيات، وقد سبق في "باب هل يرشد بشيء من هذا" وقد نقل النووي الاتفاق على جواز الكتابة إليهم بمثل ذلك. "تنبيه": ادعى ابن بطال أن ترتيب هذا الباب وقع فيه غلط من الناسخ، وأن الصواب أن يقدم حديث مالك قبل قوله: "وكذلك يروى عن محمد بن بشر إلخ" قال: وإنما احتاج إلى المتابعة لأن بعض الناس زاد في الحديث: "مخافة أن يناله العدو" ولم تصح هذه الزيادة عند مالك ولا عند البخاري انتهى. وما ادعاه من الغلط مردود، فإنه استند إلى أنه لم يتقدم شيء يشار إليه بقوله كذلك، وليس كما قال لأنه أشار بقوله: "كذلك" إلى لفظ الترجمة كما بينه من رواية المستملي، وأما ما ادعاه من سبب المتابعة فليس كما قال، فإن لفظ الكراهية تفرد به محمد بن بشر، ومتابعة ابن إسحاق له إنما هي في أصل الحديث لكنه أفاد أن المراد بالقرآن المصحف لا حامل القرآن.

(6/134)


130 - باب التَّكْبِيرِ عِنْدَ الْحَرْبِ
2991- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "صَبَّحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ وَقَدْ خَرَجُوا بِالْمَسَاحِي عَلَى أَعْنَاقِهِمْ فَلَمَّا رَأَوْهُ قَالُوا هَذَا مُحَمَّدٌ وَالْخَمِيسُ مُحَمَّدٌ وَالْخَمِيسُ فَلَجَئُوا إِلَى الْحِصْنِ فَرَفَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَيْهِ وَقَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ خَرِبَتْ خَيْبَرُ إِنَّا إِذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ وَأَصَبْنَا حُمُرًا فَطَبَخْنَاهَا فَنَادَى مُنَادِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَنْهَيَانِكُمْ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ فَأُكْفِئَتْ الْقُدُورُ بِمَا فِيهَا تَابَعَهُ عَلِيٌّ عَنْ سُفْيَانَ رَفَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَيْهِ".
قوله: "باب التكبير عند الحرب" أي جوازه أو مشروعيته. وذكر فيه حديث أنس في قصة خيبر وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: "الله أكبر خربت خيبر " وسيأتي شرحه مستوفى في كتاب المغازي، والذي نادى بالنهي عن لحوم الحمر الأهلية هو أبو طلحة كما وقع عند مسلم، وقوله: "تابعه علي عن سفيان " يعني علي بن المديني شيخه، وسيأتي في علامات النبوة.

(6/134)


131 - باب مَا يُكْرَهُ مِنْ رَفْعِ الصَّوْتِ فِي التَّكْبِيرِ
2992- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكُنَّا إِذَا أَشْرَفْنَا عَلَى وَادٍ هَلَّلْنَا وَكَبَّرْنَا ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُنَا. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَإِنَّكُمْ لاَ تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلاَ غَائِبًا إِنَّهُ مَعَكُمْ إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ تَبَارَكَ اسْمُهُ وَتَعَالَى جَدُّهُ".
[الحديث 2992 – أطرافه في: 4205، 6384، 6409، 6610، 7386]
قوله: "باب ما يكره من رفع الصوت في التكبير" أورد فيه حديث أبي موسى "كنا إذا أشرفنا على واد هللنا وكبرنا ارتفعت أصواتنا" الحديث، وسيأتي شرحه في كتاب الدعوات إن شاء الله تعالى. قوله: "اربعوا" بفتح الموحدة أي ارفقوا، قال الطبري: فيه كراهية رفع الصوت بالدعاء والذكر، وبه قال عامة السلف من الصحابة والتابعين. انتهى. وتصرف البخاري يقتضي أن ذلك خاص بالتكبير عند القتال، وأما رفع الصوت في غيره فقد تقدم في كتاب الصلاة حديث ابن عباس أن رفع الصوت بالذكر كان على العهد النبوي إذا انصرفوا من المكتوبة، وتقدم البحث فيه هناك.

(6/135)


132 - باب التَّسْبِيحِ إِذَا هَبَطَ وَادِيًا
2993- حدثنا محمد بن يوسف حدثنا سفيان عن حصين بن عبد الرحمن عن سالم بن أبي الجعد عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: "كنا إذا صعدنا كبرنا وإذا نزلنا سبحنا".
[الحديث 2993 – طرفه في: 2994]
قوله: "باب التسبيح إذا هبط واديا" وأورد فيه حديث جابر "كنا إذا صعدنا كبرنا، وإذا نزلنا سبحنا".

(6/135)


133 - باب التَّكْبِيرِ إِذَا عَلاَ شَرَفًا
2994- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ حُصَيْنٍ عَنْ سَالِمٍ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "كُنَّا إِذَا صَعِدْنَا كَبَّرْنَا وَإِذَا تَصَوَّبْنَا سَبَّحْنَا".
2995- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَفَلَ مِنْ الْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ وَلاَ أَعْلَمُهُ إِلاَّ قَالَ الْغَزْوِ يَقُولُ كُلَّمَا أَوْفَى عَلَى ثَنِيَّةٍ أَوْ فَدْفَدٍ كَبَّرَ ثَلاَثًا ثُمَّ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ سَاجِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ صَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَهَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ قَالَ صَالِحٌ فَقُلْتُ لَهُ أَلَمْ يَقُلْ عَبْدُ اللَّهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ قَالَ لاَ".

(6/135)


134 - باب يُكْتَبُ لِلْمُسَافِرِ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ فِي الإِقَامَةِ
2996- حَدَّثَنَا مَطَرُ بْنُ الْفَضْلِ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ حَدَّثَنَا الْعَوَّامُ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ أَبُو إِسْمَاعِيلَ السَّكْسَكِيُّ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا بُرْدَةَ وَاصْطَحَبَ هُوَ وَيَزِيدُ بْنُ أَبِي كَبْشَةَ فِي سَفَرٍ فَكَانَ يَزِيدُ يَصُومُ فِي السَّفَرِ فَقَالَ لَهُ أَبُو بُرْدَةَ سَمِعْتُ أَبَا مُوسَى مِرَارًا يَقُولُ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ كُتِبَ لَهُ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا صَحِيحًا".
قوله: "باب يكتب للمسافر ما كان يعمل في الإقامة" أي إذا كان سفره في غير معصية. قوله: "أخبرنا العوام" هو ابن حوشب بمهملة ثم معجمة وزن جعفر. قوله: "سمعت أبا بردة" هو ابن أبي موسى الأشعري. قوله: "واصطحب هو ويزيد بن أبي كبشة في سفر" أي مع يزيد، ويزيد بن أبي كبشة هذا شامي، واسم أبيه حيويل بفتح المهملة وسكون التحتانية وكسر الواو بعدها تحتانية أخرى ساكنة ثم لام، وهو ثقة ولي خراج السند لسليمان بن عبد الملك ومات في خلافته، وليس له في البخاري ذكر إلا في هذا الموضع. قوله: "فكان يزيد يصوم في السفر"، في رواية هشيم عن العوام بن حوشب "وكان يزيد بن أبي كبشة يصوم الدهر" أخرجه الإسماعيلي. قوله: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" في رواية هشيم عن العوام عند أبي داود "سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول غير مرة ولا مرتين". قوله: "إذا مرض العبد أو سافر" في رواية هشيم "إذا كان العبد يعمل عملا صالحا فشغله عن ذلك مرض" . قوله: "كتب له مثل ما كان يعمل مقيما صحيحا" هو من اللف والنشر المقلوب، فالإقامة في مقابل السفر والصحة في مقابل المرض، وهو في حق من كان يعمل طاعة فمنع منها وكانت نيته لولا المانع أن يدوم عليها كما ورد ذلك صريحا عند أبي داود من طريق

(6/136)


العوام بن حوشب بهذا الإسناد في رواية هشيم، وعنده في آخره : "كأصلح ما كان يعمل وهو صحيح مقيم" ووقع أيضا في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعا: "إن العبد إذا كان على طريقة حسنة من العبادة ثم مرض قيل للملك الموكل به اكتب له مثل عمله إذا كان طليقا حتى أطلقه أو أكفته إلى" أخرجه عبد الرزاق وأحمد وصححه الحاكم، ولأحمد من حديث أنس رفعه: "إذا ابتلى الله العبد المسلم ببلاء في جسده قال الله: اكتب له صالح عمله الذي كان يعمله، فإن شفاه غسله وطهره، وإن قبضه غفر له ورحمه" ولرواية إبراهيم السكسكي عن أبي بردة متابع أخرجه الطبراني من طريق سعيد بن أبي بردة عن أبيه عن جده بلفظ: "إن الله يكتب للمريض أفضل ما كان يعمل في صحته ما دام في وثاقه" الحديث، وفي حديث عائشة عند النسائي: " ما من امرئ تكون له صلاة من الليل يغلبه عليها نوم أو وجع إلا كتب له أجر صلاته وكان نومه عليه صدقة" قال ابن بطال: وهذا كله في النوافل، وأما صلاة الفرائض فلا تسقط بالسفر والمرض والله أعلم. وتعقبه ابن المنير بأنه تحجر واسعا، ولا مانع من دخول الفرائض في ذلك، بمعنى أنه إذا عجز عن الإتيان بها على الهيئة الكاملة أن يكتب له أجر ما عجز عنه، كصلاة المريض جالسا يكتب له أجر القائم انتهى. وليس اعتراضه بجيد لأنهما لم يتواردا على محل واحد، واستدل به على أن المريض والمسافر إذا تكلف العمل كان أفضل من عمله وهو صحيح مقيم. وفي هذه الأحاديث تعقب على من زعم أن الأعذار المرخصة لترك الجماعة تسقط الكراهة والإثم خاصة من غير أن تكون محصلة للفضيلة، وبذلك جزم النووي في "شرح المهذب" وبالأول جزم الروياني في "التلخيص"، ويشهد لما قال حديث أبي هريرة رفعه: "من توضأ فأحسن وضوءه ثم خرج إلى المسجد فوجد الناس قد صلوا أعطاه الله مثل أجر من صلى وحضر، لا ينقص ذلك من أجره شيئا" أخرجه أبو داود والنسائي والحاكم وإسناده قوي. وقال السبكي الكبير في "الحلبيات": من كانت عادته أن يصلي جماعة فتعذر فانفرد كتب له ثواب الجماعة؛ ومن لم تكن له عادة لكن أراد الجماعة فتعذر فانفرد يكتب له ثواب قصده لا ثواب الجماعة، لأنه وإن كان قصده الجماعة لكنه قصد مجرد، ولو كان يتنزل منزلة من صلى جماعة كان دون من جمع والأولى سبقها فعل، ويدل للأول حديث الباب، وللثاني أن أجر الفعل يضاعف وأجر القصد لا يضاعف بدليل "من هم بحسنة كتبت له حسنة واحدة" كما سيأتي في كتاب الرقاق، قال ويمكن أن يقال: إن الذي صلى منفردا ولو كتب له أجر صلاة الجماعة لكونه اعتادها فيكتب له ثواب صلاة منفرد بالأصالة وثواب مجمع بالفضل. انتهى ملخصا.

(6/137)


135 - باب السَّيْرِ وَحْدَهُ
2997- حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ قَالَ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ: "نَدَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ فَانْتَدَبَ الزُّبَيْرُ ثُمَّ نَدَبَهُمْ فَانْتَدَبَ الزُّبَيْرُ ثُمَّ نَدَبَهُمْ فَانْتَدَبَ الزُّبَيْرُ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيًّا وَحَوَارِيَّ الزُّبَيْرُ" قَالَ سُفْيَانُ: الْحَوَارِيُّ النَّاصِرُ
2998- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ح حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ

(6/137)


صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي الْوَحْدَةِ مَا أَعْلَمُ مَا سَارَ رَاكِبٌ بِلَيْلٍ وَحْدَهُ".
قوله: "باب السير وحده" ذكر فيه حديثين: أحدهما: حديث جابر في انتداب الزبير وحده، وقد تقدم في "باب هل يبعث الطليعة وحده" وتعقبه الإسماعيلي فقال: لا أعلم هذا الحديث كيف يدخل في هذا الباب، وقرره ابن المنير بأنه لا يلزم من كون الزبير انتدب أن لا يكون سار معه غير متابعا له. قلت: لكن قد ورد من وجه آخر ما يدل على أن الزبير توجه وحده، وسيأتي في مناقب الزبير من طريق عبد الله بن الزبير ما يدل على ذلك، وفيه: "قلت يا أبت رأيتك تختلف، فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يأتيني بخبر بني قريظة فانطلقت" الحديث. قوله: "قال سفيان الحواري الناصر" هو موصول عن الحميدي عنه. ثانيهما: حديث ابن عمر. قوله: "لو يعلم الناس ما في الوحدة ما أعلم ما سار راكب بليل وحده" ساقه على لفظ أبي نعيم، وقوله: "ما أعلم" أي الذي أعلمه من الآفات التي تحصل من ذلك.
والوحدة بفتح الواو ويجوز كسرها ومنعه بعضهم. "تنبيهان": أحدهما قال المزي في "الأطراف": قال البخاري حدثنا أبو الوليد عن عاصم بن محمد به. وقال بعده "وأبو نعيم عن عاصم" ولم يقل حدثنا أبو نعيم، ولا في كتاب حماد بن شاكر حدثنا أبو نعيم انتهى. والذي وقع لنا في جميع الروايات عن الفربري عن البخاري "حدثنا أبو نعيم" وكذلك وقع في رواية النسفي عن البخاري فقال: "حدثنا أبو الوليد" فساق الإسناد ثم قال: "وحدثنا أبو الوليد وأبو نعيم قالا حدثنا عاصم" فذكره، وبذلك جزم أبو نعيم الأصبهاني في "المستخرج" فقال بعد أن أخرجه من طريق عمرو بن مرزوق عن عاصم بن محمد "أخرجه البخاري عن أبي نعيم وأبي الوليد" فلعل لفظ حدثنا في رواية أبي نعيم سقط من رواية حماد بن شاكر وحده. ثانيهما ذكر الترمذي أن عاصم بن محمد تفرد برواية هذا الحديث، وفيه نظر لأن عمر بن محمد أخاه قد رواه معه عن أبيه أخرجه النسائي. قال ابن المنير: السير لمصلحة الحرب أخص من السفر، والخبر ورد في السفر فيؤخذ من حديث جابر جواز السفر منفردا للضرورة والمصلحة التي لا تنتظم إلا بالانفراد كإرسال الجاسوس والطليعة، والكراهة لما عدا ذلك. ويحتمل أن تكون حالة الجواز مقيدة بالحاجة عند الأمن وحالة المنع مقيدة بالخوف حيث لا ضرورة، وقد وقع في كتب المغازي بعث كل من حذيفة ونعيم بن مسعود وعبد الله بن أنيس وخوات بن جبير وعمرو بن أمية وسالم بن عمير وبسبسة(1) في عدة مواطن وبعضها في الصحيح، وتقدم في الشروط شيء من ذلك؛ ويأتي في باب الجاسوس بعد قليل.
ـــــــ
(1) هو بسبسة بن عمرو الجهني. ورد في صحيح مسلم من حديث أنس أنه صلى الله عليه وسلم بعثه عينا ينظر ما صنعت عير أبي سفيان

(6/138)


136 - باب السُّرْعَةِ فِي السَّيْرِ
وقَالَ أَبُو حُمَيْدٍ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي مُتَعَجِّلٌ إِلَى الْمَدِينَةِ فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَعَجَّلَ مَعِي فَلْيتعَجَّلْ".
2999- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ هِشَامٍ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبِي قَالَ سُئِلَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانَ يَحْيَى يَقُولُ وَأَنَا أَسْمَعُ فَسَقَطَ عَنِّي عَنْ مَسِيرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ قَالَ فَكَانَ يَسِيرُ

(6/138)


الْعَنَقَ فَإِذَا وَجَدَ فَجْوَةً نَصَّ وَالنَّصُّ فَوْقَ الْعَنَقِ".
3000- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ أَخْبَرَنِي زَيْدٌ هُوَ ابْنُ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: "كُنْتُ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بِطَرِيقِ مَكَّةَ فَبَلَغَهُ عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ أَبِي عُبَيْدٍ شِدَّةُ وَجَعٍ فَأَسْرَعَ السَّيْرَ حَتَّى إِذَا كَانَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّفَقِ ثُمَّ نَزَلَ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعَتَمَةَ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا وَقَالَ إِنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ أَخَّرَ الْمَغْرِبَ وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا".
3001- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ سُمَيٍّ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنْ الْعَذَابِ يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ نَوْمَهُ وَطَعَامَهُ وَشَرَابَهُ فَإِذَا قَضَى أَحَدُكُمْ نَهْمَتَهُ فَلْيُعَجِّلْ إِلَى أَهْلِهِ".
قوله: "باب السرعة في السير" أي في الرجوع إلى الوطن. قوله: "وقال أبو حميد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إني متعجل إلخ " هو طرف من حديث سبق في الزكاة بطوله، وتقدم الكلام عليه هناك. ذكر فيه ثلاثة أحاديث. أحدها: حديث أسامة بن زيد في سير العنق، وقد تقدم شرحه مستوفى في الحج، وقوله: "قال سئل أسامة بن زيد كان يحيى يقول وأنا أسمع فسقط عني" القائل ذلك هو محمد بن المثنى شيخ البخاري، وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق بندار والدورقي وغيرهما عن يحيى بن سعيد وقال فيه: "سئل أسامة وأنا شاهده". ثانيها: حديث ابن عمر في جمعه بين الصلاتين لما بلغه وجع صفية بنت أبي عبيد وهي زوجته، وقد تقدم في أواخر أبواب العمرة بهذا الإسناد مع الكلام عليه. ثالثها: حديث أبي هريرة "السفر قطعة من العذاب" وقد تقدم شرحه في أواخر أبواب العمرة، وقوله: "نهمته" بفتح النون على المشهور أي رغبته، قال المهلب: تعجله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ليريح نفسه ويفرح أهله، وتعجله إلى المزدلفة ليعجل الوقوف بالمشعر الحرام، وتعجل ابن عمر إلى زوجته ليدرك من حياتها ما يمكنه أن تعهد إليه بما لا تعهد إلى غيره.

(6/139)


137 - باب إِذَا حَمَلَ عَلَى فَرَسٍ فَرَآهَا تُبَاعُ
3002- حدثنا عبد الله بن يوسف أخبرنا مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن عمر بن الخطاب حمل على فرس في سبيل الله فوجده يباع فأراد أن يبتاعه فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لا تبتعه ولا تعد في صدقتك".
3003- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ حَمَلْتُ عَلَى فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَابْتَاعَهُ أَوْ فَأَضَاعَهُ الَّذِي كَانَ عِنْدَهُ فَأَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِيَهُ وَظَنَنْتُ أَنَّهُ بَائِعُهُ بِرُخْصٍ فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لاَ تَشْتَرِهِ وَإِنْ بِدِرْهَمٍ فَإِنَّ الْعَائِدَ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ

(6/139)


يَعُودُ فِي قَيْئِهِ".
قوله: "باب إذا حمل على فرس فرآها تباع" ذكر فيه حديث ابن عمر في ذلك، وحديث عمر نفسه، وقد تقدما قريبا وبيان مكان شرحهما. وقوله: "ابتاعه أو أضاعه" شك من الراوي، ولا معنى لقوله: "ابتاعه" لأنه لم يشتره وإنما عرضه للبيع، فيحتمل أن يكون في الأصل باعه فهو بمعنى عرضه للبيع. والله أعلم.

(6/140)


138 - باب الْجِهَادِ بِإِذْنِ الأَبَوَيْنِ
3004- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا الْعَبَّاسِ الشَّاعِرَ وَكَانَ لاَ يُتَّهَمُ فِي حَدِيثِهِ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ: "جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَأْذَنَهُ فِي الْجِهَادِ فَقَالَ أَحَيٌّ وَالِدَاكَ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ".
[الحديث 3004 – طرفه في: 5972]
قوله: "باب الجهاد بإذن الأبوين" كذا أطلق، وهو قول الثوري، وقيده بالإسلام الجمهور، ولم يقع في حديث الباب أنهما منعاه، لكن لعله أشار إلى حديث أبي سعيد الآتي. قوله: "سمعت أبا العباس الشاعر وكان لا يتهم في حديثه" تقدم القول في ذلك في "باب صوم داود" من كتاب الصيام، وقد خالف الأعمش شعبة فرواه ابن ماجه من طريق أبي معاوية عن الأعمش عن حبيب ابن أبي ثابت عن عبد الله بن باباه عن عبد الله بن عمرو، فلعل لحبيب فيه إسنادين، ويؤيده أن بكر بن بكار رواه عن شعبة عن حبيب عن عبد الله بن باباه كذلك. قوله: "جاء رجل" يحتمل أن يكون هو جاهمة بن العباس بن مرداس، فقد روى النسائي وأحمد من طريق معاوية بن جاهمة "أن جاهمة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أردت الغزو وجئت لأستشيرك، فقال هل لك من أم؟ قال نعم. قال: الزمها" الحديث، ورواه البيهقي من طريق ابن جريج عن محمد بن طلحة بن ركانة عن معاوية بن جاهمة السلمي عن أبيه قال: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم أستأذنه في الجهاد" فذكره. وقد اختلف في إسناده على محمد بن طلحة اختلافا كثيرا بينته في ترجمة جاهمة من كتابي في الصحابة. قوله: "فيهما فجاهد" أي خصصهما بجهاد النفس في رضاهما، ويستفاد منه جواز التعبير عن الشيء بضده إذا فهم المعنى، لأن صيغة الأمر في قوله: "فجاهد" ظاهرها إيصال الضرر الذي كان يحصل لغيرهما لهما، وليس ذلك مرادا قطعا، وإنما المراد إيصال القدر المشترك من كلفة الجهاد وهو تعب البدن والمآل، ويؤخذ منه أن كل شيء يتعب النفس يسمى جهادا، وفيه أن بر الوالد قد يكون أفضل من الجهاد، وأن المستشار يشير بالنصيحة المحضة، وأن المكلف يستفضل عن الأفضل في أعمال الطاعة ليعمل به لأنه سمع فضل الجهاد فبادر إليه، ثم لم يقنع حتى استأذن فيه فدل على ما هو أفضل منه في حقه، ولولا السؤال ما حصل له العلم بذلك. ولمسلم وسعيد بن منصور من طريق ناعم مولى أم سلمة عن عبد الله بن عمرو في نحو هذه القصة قال: "ارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما" ولأبي داود وابن حبان من وجه آخر عن عبد الله بن عمرو "ارجع فأضحكهما كما أبكيتهما" وأصرح من ذلك حديث أبي سعيد عند أبي داود بلفظ: "ارجع فاستأذنهما فإن أذنا لك فجاهد، وإلا فبرهما" وصححه ابن حبان. قال جمهور العلماء: يحرم الجهاد إذا منع الأبوان أو أحدهما بشرط أن يكونا مسلمين،

(6/140)


لأن برهما فرض عين عليه والجهاد فرض كفاية، فإذا تعين الجهاد فلا إذن. ويشهد له ما أخرجه ابن حبان من طريق أخرى عن عبد الله بن عمرو "جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن أفضل الأعمال، قال: الصلاة. قال ثم مه؟ قال الجهاد. قال: فإن لي والدين، فقال آمرك بوالديك خيرا. فقال والذي بعثك بالحق نبيا لأجاهدن ولأتركنهما، قال: فأنت أعلم" وهو محمول على جهاد فرض العين توفيقا بين الحديثين، وهل يلحق الجد والجدة بالأبوين في ذلك؟ الأصح عند الشافعية نعم والأصح أيضا أن لا يفرق بين الحر والرقيق في ذلك لشمول طلب البر، فلو كان الولد رقيقا فأذن له سيده لم يعتبر إذن أبويه، ولهما الرجوع في الإذن إلا إن حضر الصف، وكذا لو شرطا أن لا يقاتل فحضر الصف فلا أثر للشرط، واستدل به على تحريم السفر بغير إذن لأن الجهاد إذا منع مع فضيلته فالسفر المباح أولى نعم إن كان سفره لتعلم فرض عين حيث تعيين السفر طريقا إليه فلا منع، وإن كان فرض كفاية ففيه خلاف. وفي الحديث فضل بر الوالدين وتعظيم حقهما وكثرة الثواب على برهما، وسيأتي بسط ذلك في كتاب الأدب إن شاء الله تعالى.

(6/141)


139 - باب مَا قِيلَ فِي الْجَرَسِ وَنَحْوِهِ فِي أَعْنَاقِ الإِبِلِ
3005- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ أَنَّ أَبَا بَشِيرٍ الأَنْصَارِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ حَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ وَالنَّاسُ فِي مَبِيتِهِمْ فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولًا "أَنْ لاَ يَبْقَيَنَّ فِي رَقَبَةِ بَعِيرٍ قِلاَدَةٌ مِنْ وَتَرٍ أَوْ قِلاَدَةٌ إِلاَّ قُطِعَتْ".
قوله: "باب ما قيل في الجرس ونحوه في أعناق الإبل" أي من الكراهة، وقيده بالإبل لورود الخير فيها بخصوصها. قوله: "عن عبد الله بن أبي بكر" أي ابن محمد بن عمرو بن حزم، وعباد بن تميم هو المازني، وهو وشيخه والراوي عنه أنصاريون مدنيون، وعبد الله وعباد تابعيان. قوله: "أن أبا بشير الأنصاري أخبره" ليس لأبي بشير وهو بفتح الموحدة ثم معجمة في البخاري غير هذا الحديث الواحد، وقد ذكره الحاكم أبو أحمد فيمن لا يعرف اسمه، وقيل اسمه قيس بن عبد الحرير بمهملات مصغر ابن عمرو، ذكر ذلك ابن سعد وساق نسبه إلى مازن الأنصاري، وفيه نظر لأنه وقع في رواية عثمان بن عمر عن مالك عند الدار قطني نسبة أبي بشير ساعديا، فإن كان قيس يكنى أبا بشير أيضا فهو غير صاحب هذا الحديث، وأبو بشير المازني هذا عاش إلى بعد الستين وشهد الحرة وجرح بها ومات من ذلك. قوله: "في بعض أسفاره" لم أقف على تعيينها. قوله: "قال عبد الله حسبت أنه قال" عبد الله هو ابن أبي بكر الراوي، وكأنه شك في هذه الجملة، ولم أرها من طريقه إلا هكذا. قوله: "فأرسل" قال ابن عبد البر: في رواية روح بن عبادة عن مالك "أرسل مولاه زيدا" قال ابن عبد البر: وهو زيد بن حارثة فيما يظهر لي. قوله: "في رقبة بعير قلادة من وتر أو قلادة" كذا هنا بلفظ: "أو" وهي للشك أو للتنويع، ووقع في رواية أبي داود عن القعنبي بلفظ: "ولا قلادة" وهو من عطف العام على الخاص، وبهذا جزم المهلب، ويؤيد الأول ما روى عن مالك أنه سئل عن القلادة فقال: ما سمعت بكراهتها إلا في الوتر، وقوله وتر بالمثناة في جميع الروايات، قال ابن الجوزي: ربما صحف من لا علم له بالحديث فقال وبر بالموحدة. قلت: حكى ابن التين أن

(6/141)


الداودي جزم بذلك وقال: هو ما ينتزع عن الجمال يشبه الصوف، قال ابن التين: فصحف. قال ابن الجوزي: وفي المراد بالأوتار ثلاثة أقوال: أحدها أنهم كانوا يقلدون الإبل أوتار القسي لئلا تصيبها العين بزعمهم، فأمروا بقطعها إعلاما بأن الأوتار لا ترد من أمر الله شيئا، وهذا قول مالك. قلت: وقع ذلك متصلا بالحديث من كلامه في الموطأ وعند مسلم وأبي داود وغيرهما، قال مالك: أرى أن ذلك من أجل العين، ويؤيده حديث عقبة بن عامر رفعه: "من علق تميمة فلا أتم الله له" أخرجه أبو داود أيضا، والتميمة ما علق من القلائد خشية العين ونحو ذلك، قال ابن عبد البر: إذا اعتقد الذي قلدها أنها ترد العين فقد ظن أنها ترد القدر وذلك لا يجوز اعتقاده. ثانيها: النهي عن ذلك لئلا تختنق الدابة بها عند شدة الركض، ويحكى ذلك عن محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة، وكلام أبي عبيد يرجحه فإنه قال: نهى عن ذلك لأن الدواب تتأذى بذلك ويضيق عليها نفسها ورعيها، وربما تعلقت بشجرة فاختنقت أو تعوقت عن السير. ثالثها: أنهم كانوا يعلقون فيها الأجراس حكاه الخطابي وعليه يدل تبويب البخاري، وقد روى أبو داود والنسائي من حديث أم حبيبة أم المؤمنين مرفوعا: "لا تصحب الملائكة رفقة فيها جرس" وأخرجه النسائي من حديث أم سلمة أيضا، والذي يظهر أن البخاري أشار إلى ما ورد في بعض طرقه، فقد أخرجه الدار قطني من طريق عثمان بن عمر المذكور بلفظ: "لا تبقين قلادة من وتر ولا جرس في عنق بعير إلا قطع". قلت: ولا فرق بين الإبل وغيرها في ذلك، إلا على القول الثالث فلم تجر العادة بتعليق الأجراس في رقاب الخيل، وقد روى أبو داود والنسائي من حديث أبي وهب الحساني رفعه: "اربطوا الخيل وقلدوها، ولا تقلدوها الأوتار" فدل على أن لا اختصاص للإبل، فلعل التقييد بها في الترجمة للغالب. وقد حمل النضر بن شميل الأوتار في هذا الحديث على معنى الثأر فقال: معناه لا تطلبوا بها ذحول الجاهلية، قال القرطبي: وهو تأويل بعيد. وقال الثوري: ضعيف. وإلى نحو قول النضر جنح وكيع فقال: المعنى لا تركبوا الخيل في الفتن، فإن من ركبها لم يسلم أن يتعلق به وتر يطلب به. والدليل على أن المراد بالأوتار جمع الوتر بالتحريك لا الوتر بالإسكان ما رواه أبو داود أيضا من حديث رويفع بن ثابت رفعه: "من عقد لحيته أو تقلد وترا فإن محمدا بريء منه" فإنه عند الرواة أجمع بفتح المثناة، والجرس بفتح الجيم والراء ثم مهملة معروف، وحكى عياض إسكان الراء، والتحقيق أن الذي بالفتح اسم الآلة وبالإسكان اسم الصوت. وروى مسلم من حديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبي هريرة رفعه: "الجرس مزمار الشيطان" وهو دال على أن الكراهية فيه لصوته لأن فيها شبها بصوت الناقوس وشكله، قال النووي وغيره: الجمهور على أن النهي للكراهة وأنها كراهة تنزيه، وقيل للتحريم، وقيل يمنع منه قبل الحاجة، ويجوز إذا وقعت الحاجة. وعن مالك تختص الكراهة من القلائد بالوتر، ويجوز بغيرها إذا لم يقصد دفع العين. هذا كله في تعليق التمائم وغيرها مما ليس فيه قرآن ونحوه، فأما ما فيه ذكر الله فلا نهي فيه فإنه إنما يجعل للتبرك به والتعوذ بأسمائه وذكره، وكذلك لا نهي عما يعلق لأجل الزينة ما لم يبلغ الخيلاء أو السرف. واختلفوا في تعليق الجرس أيضا. ثالثها يجوز بقدر الحاجة، ومنهم من أجاز الصغير منها دون الكبير. وأغرب ابن حبان فزعم أن الملائكة لا تصحب الرفقة التي يكون فيها الجرس إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها.

(6/142)


140 - باب مَنْ اكْتُتِبَ فِي جَيْشٍ فَخَرَجَتْ امْرَأَتُهُ حَاجَّةً أَوْ كَانَ لَهُ عُذْرٌ هَلْ يُؤْذَنُ لَهُ؟
3006- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا

(6/142)


أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "لاَ يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ وَلاَ تُسَافِرَنَّ امْرَأَةٌ إِلاَّ وَمَعَهَا مَحْرَمٌ فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ اكْتُتِبْتُ فِي غَزْوَةِ كَذَا وَكَذَا وَخَرَجَتْ امْرَأَتِي حَاجَّةً قَالَ اذْهَبْ فَحُجَّ مَعَ امْرَأَتِكَ".
قوله: "باب من اكتتب في جيش فخرجت امرأته حاجة أو كان له عذر هل يؤذن له" ؟ ذكر فيه حديث ابن عباس في ذلك. حديث ابن عباس، وفيه قوله: "اذهب فاحجج مع امرأتك" وقد سبق الكلام عليه في أواخر أبواب المحصر من الحج، ويستفاد منه أن الحج في حق مثله أفضل من الجهاد لأنه اجتمع له مع حج التطوع في حقه تحصيل حج الفرض لامرأته وكان اجتماع ذلك له أفضل من مجرد الجهاد الذي يحصل المقصود منه بغيره، وفيه مشروعية كتابة الجيش ونظر الإمام لرعيته بالمصلحة.

(6/143)


141 - باب الْجَاسُوسِ
وَقَوْلِ اللَّهِ عز وجل [1 الممتحنة]: {لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ}. التَّجَسُّسُ: التَّبَحُّثُ.
3007- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ سَمِعْتُهُ مِنْهُ مَرَّتَيْنِ قَالَ أَخْبَرَنِي حَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي رَافِعٍ قَالَ سَمِعْتُ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا وَالزُّبَيْرَ وَالْمِقْدَادَ بْنَ الأَسْوَدِ قَالَ انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةً وَمَعَهَا كِتَابٌ فَخُذُوهُ مِنْهَا فَانْطَلَقْنَا تَعَادَى بِنَا خَيْلُنَا حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى الرَّوْضَةِ فَإِذَا نَحْنُ بِالظَّعِينَةِ فَقُلْنَا أَخْرِجِي الْكِتَابَ فَقَالَتْ مَا مَعِي مِنْ كِتَابٍ فَقُلْنَا لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ أَوْ لَنُلْقِيَنَّ الثِّيَابَ فَأَخْرَجَتْهُ مِنْ عِقَاصِهَا فَأَتَيْنَا بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا فِيهِ مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى أُنَاسٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ يُخْبِرُهُمْ بِبَعْضِ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَا حَاطِبُ مَا هَذَا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ لاَ تَعْجَلْ عَلَيَّ إِنِّي كُنْتُ امْرَأً مُلْصَقًا فِي قُرَيْشٍ وَلَمْ أَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهَا وَكَانَ مَنْ مَعَكَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ لَهُمْ قَرَابَاتٌ بِمَكَّةَ يَحْمُونَ بِهَا أَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالَهُمْ فَأَحْبَبْتُ إِذْ فَاتَنِي ذَلِكَ مِنْ النَّسَبِ فِيهِمْ أَنْ أَتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَدًا يَحْمُونَ بِهَا قَرَابَتِي وَمَا فَعَلْتُ كُفْرًا وَلاَ ارْتِدَادًا وَلاَ رِضًا بِالْكُفْرِ بَعْدَ الإِسْلاَمِ. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَقَدْ صَدَقَكُمْ قَالَ عُمَرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ قَالَ إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَكُونَ قَدْ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ". قَالَ سُفْيَانُ: وَأَيُّ إِسْنَادٍ هَذَا.
[الحديث 3007 – أطرافه في: 3081، 3983، 4274، 4890، 6259، 6939]
قوله: "باب الجاسوس" بجيم ومهملتين أي حكمه إذا كان من جهة الكفار، ومشرعيته إذا كان من جهة المسلمين. قوله: "والتجسس: التبحث" هو تفسير أبي عبيدة. قوله: "وقول الله عز وجل :{لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} الآية" مناسبة الآية إما لما سيأتي في التفسير أن القصة المذكورة في حديث الباب كانت سبب نزولها، وإما لأن ينتزع

(6/143)


منها حكم جاسوس الكفار، فإذا طلع عليه بعض المسلمين لا يكتم أمره بل يرفعه إلى الإمام ليرى فيه رأيه. وقد اختلف العلماء في جواز قتل جاسوس الكفار، وسيأتي البحث فيه بعد أحد وثلاثين بابا. حديث علي في قصة حاطب ابن أبي بلتعة، وسيأتي الكلام على شرحه في تفسير سورة الممتحنة إن شاء الله تعالى، ونذكر فيه المرأة وتسمية من عرف ممن كاتبه حاطب من أهل مكة: وقوله فيه: "روضة خاخ" بمنقوطتين من فوق، والظعينة بالظاء المعجمة المرأة، وقوله في آخره: "قال سفيان وأي إسناد هذا" أي عجبا لجلالة رجاله وصريح اتصاله.

(6/144)


142 - باب الْكِسْوَةِ لِلْأُسَارَى
3008- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرٍو سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "لَمَّا كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ أُتِيَ بِأُسَارَى وَأُتِيَ بِالْعَبَّاسِ وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ثَوْبٌ فَنَظَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ قَمِيصًا فَوَجَدُوا قَمِيصَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ يَقْدُرُ عَلَيْهِ فَكَسَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهُ فَلِذَلِكَ نَزَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَمِيصَهُ الَّذِي أَلْبَسَهُ".
قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ كَانَتْ لَهُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدٌ فَأَحَبَّ أَنْ يُكَافِئَهُ.
قوله: "باب الكسوة للأسارى" أي بما يواري عوراتهم، إذ لا يجوز النظر إليها. قوله: "عن عمرو" هو ابن دينار. قوله: "لما كان يوم بدر أتي بأسارى" من المشركين. قوله: "وأتي بالعباس" أي ابن عبد المطلب. قوله: "يقدر عليه" بضم الدال، وإنما كان ذلك لأن العباس كان بين الطول، وكذلك كان عبد الله ابن أبي. قوله: "فلذلك نزع النبي صلى الله عليه وسلم قميصه الذي ألبسه" أي لعبد الله بن أبي عند دفنه، وقد تقدم شرح ذلك في أواخر الجنائز وما يحتمل في ذلك من الإدراج، وقوله في آخر هذا الحديث: "قال ابن عيينة كانت له" أي لعبد الله بن أبي. وقوله: "يد" أي نعمة، وهو محصل ما سبق من قوله في الجنائز "كانوا يرون إلخ"

(6/144)


143 - باب فَضْلِ مَنْ أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ رَجُلٌ
3009- حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن عبد القاري عن أبي حازم قال أخبرني سهل رضي الله عنه يعني بن سعد قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم خيبر: "لأعطين الراية غدا رجلا يفتح على يديه يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله فبات الناس ليلتهم أيهم يعطي فغدوا كلهم يرجونه فقال أين علي فقيل يشتكي عينيه فبصق في عينيه ودعا له فبرأ كأن لم يكن به وجع فأعطاه فقال أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا فقال انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم فوالله لأن يهدي الله بك رجلا خير لك من أن يكون لك حمر النعم".
قوله: "باب فضل من أسلم على يديه رجل" ذكر فيه حديث سهل بن سعد في قصة على يوم خيبر، والمراد منه

(6/144)


144- باب الأُسَارَى فِي السَّلاَسِلِ
3010- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "عَجِبَ اللَّهُ مِنْ قَوْمٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ فِي السَّلاَسِلِ".
[الحديث 3010 – طرفه في: 4557]
قوله: "باب الأسارى في السلاسل" ذكر فيه حديث أبي هريرة "عجب الله من قوم يدخلون الجنة في السلاسل". وقد أخرجه أبو داود من طريق حماد بن سلمة عن محمد بن زياد بلفظ: "يقادون إلى الجنة بالسلاسل" وقد تقدم توجيه العجب في حق الله في أوائل الجهاد وأن معناه الرضا ونحو ذلك، قال ابن المنير: إن كان المراد حقيقة وضع السلاسل في الأعناق فالترجمة مطابقة، وإن كان المراد المجاز عن الإكراه فليست مطابقة. قلت: المراد بكون السلاسل في أعناقهم مقيد بحالة الدنيا، فلا مانع من حمله على حقيقته، والتقدير يدخلون الجنة، وكانوا قبل أن يسلموا في السلاسل، وسيأتي في تفسير آل عمران من وجه آخر عن أبي هريرة في قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} قال: "خير الناس للناس يأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في الإسلام" ، قال ابن الجوزي: معناه أنهم أسروا وقيدوا، فلما عرفوا صحة الإسلام دخلوا طوعا فدخلوا الجنة، فكان الإكراه على الأسر والتقييد هو السبب الأول، وكأنه أطلق على الإكراه التسلسل، ولما كان هو السبب في دخول الجنة أقام المسبب مقام السبب. وقال الطيبي: ويحتمل أن يكون المراد بالسلسلة الجذب الذي يجذبه الحق من خلص عباده من الضلالة إلى الهدى ومن الهبوط في مهاوي الطبيعة إلى العروج للدرجات، لكن الحديث في تفسير آل عمران يدل على أنه على الحقيقة. ونحوه ما أخرجه من طريق أبي الطفيل رفعه: "رأيت ناسا من أمتي يساقون إلى الجنة في السلاسل كرها. قلت: يا رسول الله من هم؟ قال قوم من العجم يسبيهم المهاجرون فيدخلونهم في الإسلام مكرهين" وأما إبراهيم الحربي فمنع حمله على حقيقة التقييد وقال: المعنى يقادون إلى الإسلام مكرهين فيكون ذلك سبب دخولهم الجنة، وليس المراد أن ثم سلسلة. وقال غيره: يحتمل أن يكون المراد المسلمين المأسورين عند أهل الكفر يموتون على ذلك أو يقتلون فيحشرون كذلك، وعبر عن الحشر بدخول الجنة لثبوت دخولهم عقبه. والله أعلم.

(6/145)


145 - باب فَضْلِ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ
3011- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ حَدَّثَنَا صَالِحُ بْنُ حَيٍّ أَبُو حَسَنٍ قَالَ سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ يَقُولُ حَدَّثَنِي أَبُو بُرْدَةَ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَاهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "ثَلاَثَةٌ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ الرَّجُلُ تَكُونُ لَهُ الأَمَةُ فَيُعَلِّمُهَا فَيُحْسِنُ تَعْلِيمَهَا وَيُؤَدِّبُهَا فَيُحْسِنُ أَدَبَهَا ثُمَّ يُعْتِقُهَا فَيَتَزَوَّجُهَا فَلَهُ أَجْرَانِ. وَمُؤْمِنُ

(6/145)


باب أهل الدار يبيتون ، فيصاب و الولدان و الذراري
...
146 - باب أَهْلِ الدَّارِ يُبَيَّتُونَ فَيُصَابُ الْوِلْدَانُ وَالذَّرَارِيُّ
{بَيَاتًا} [الأعراف 4 و97 ويونس 50]: لَيْلًا. {لَنُبَيِّتَنَّهُ} [49 النمل]: لَيْلًا.
{بَيَّت} [81 النساء]: لَيْلًا.
3012- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ: "مَرَّ بِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالأَبْوَاءِ أَوْ بِوَدَّانَ وَسُئِلَ عَنْ أَهْلِ الدَّارِ يُبَيَّتُونَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَيُصَابُ مِنْ نِسَائِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ قَالَ هُمْ مِنْهُمْ وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ لاَ حِمَى إِلاَّ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
3013- وَعَنْ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ عُبَيْدَ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ حَدَّثَنَا الصَّعْبُ فِي الذَّرَارِيِّ كَانَ عَمْرٌو يُحَدِّثُنَا عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَمِعْنَاهُ مِنَ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ الصَّعْبِ قَالَ: "هُمْ مِنْهُمْ وَلَمْ يَقُلْ كَمَا قَالَ عَمْرٌو هُمْ مِنْ آبَائِهِمْ".
قوله: "باب أهل الدار يبيتون فيصاب الولدان والذراري" أي هل يجوز ذلك أم لا؟ ويبيتون مبني للمفعول وفهم من تقييده بإصابة من ذكر قصر الخلاف عليه، وجواز البيات إذا عرى عن ذلك. قال أحمد: لا بأس بالبيات ولا أعلم أحدا كرهه. قوله: "بياتا ليلا" كذا في جميع النسخ بالموحدة ثم التحتانية الخفيفة وبعد الألف مثناة، وهذه عادة المصنف إذا وقع في الخبر لفظة توافق ما وقع في القرآن أورد تفسير اللفظ الواقع في القرآن جمعا بين المصلحتين وتبركا بالأمرين. ووقع عند غير أبي ذر من الزيادة هنا "لنبيتنه ليلا، بيت ليلا" وهذا جميع ما وقع في القرآن من هذه المادة، وهذه الأخيرة "بيت" يريد قوله: {بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ} وهي في السبعة. قال أبو عبيدة: كل شيء قدر بليل يبيت، قال الشاعر:

(6/146)


هبت لتعذلني بليل أسمع ... سفها تبيتك الملامة فاهجعي
وأغرب ابن المنير فصحف "بيانا" فجعلها نياما بنون وميم من النوم فصارت هكذا "فيصاب الوالدان والذراري نياما ليلا" ثم تعقبه فقال: العجب من زيادته في الترجمة نياما وما هو في الحديث إلا ضمنا، إلا أن الغالب أنهم إذا وقع بهم ليلا كان أكثرهم نياما، لكن ما الحاجة إلى التقييد بالنوم والحكم سواء نياما كانوا أو أيقاظا؟ إلا أن يقال: أن قتلهم نياما أدخل في الاغتيال من كونهم أيقاظا، فنبه على جواز مثل ذلك انتهى. وقد صحف ثم تكلف. ومعنى البيات المراد في الحديث أن يغار على الكفار بالليل بحيث لا يميز بين أفرادهم. قوله: "عن عبيد الله" هو ابن عبد الله بن عتبة، ووقع في رواية الحميدي في مسنده عن سفيان عن الزهري "أخبرني عبيد الله". قوله: "فسئل" لم أقف على اسم السائل، ثم وجدت في صحيح ابن حبان من طريق محمد بن عمرو عن الزهري بسنده عن الصعب قال : "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين أنقتلهم معهم؟ قال نعم" فظهر أن الراوي هو السائل. قوله: "عن أهل الدار" أي المنزل، هكذا في البخاري وغيره، ووقع في بعض النسخ من مسلم: "سئل عن الذراري " قال عياض: الأول هو الصواب. ووجه النووي الثاني وهو واضح. قوله: "هم منهم " أي في الحكم تلك الحالة، وليس المراد إباحة قتلهم بطريق القصد إليهم، بل المراد إذا لم يمكن الوصول إلى الآباء إلا بوطء الذرية فإذا أصيبوا لاختلاطهم بهم جاز قتلهم. قوله: "وسمعته يقول" كذا للأكثر ولأبي ذر "فسمعته" بالفاء والأول أوضح، وقوله: "لا حمى إلا لله ولرسوله" تقدم الكلام عليه في الشرب، وقوله: "وعن الزهري " هو موصول بالإسناد الأول، وكان ابن عيينة يحدث بهذا الحديث مرتين مرة مجردا هكذا ومرة يذكر فيه سماعه إياه أولا من عمرو بن دينار عن الزهري. عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم يذكر سماعه إياه من الزهري. وننبه على نكتة في المتن، وهي أن في رواية عمرو بن دينار قال: "هم من آبائهم" وفي رواية الزهري قال: "هم منهم" وقد أوضح ذلك الإسماعيلي في روايته عن جعفر الفريابي عن علي بن المديني وهو شيخ البخاري فيه فذكر الحديث وقال: "قال علي: ردده سفيان في هذا المجلس مرتين". وقوله في سياق هذا الباب: "عن الزهري عن النبي صلى الله عليه وسلم" يوهم أن رواية عمرو بن دينار عن الزهري هكذا بطريق الإرسال وبذلك جزم بعض الشراح، وليس كذلك فقد أخرجه الإسماعيلي من طريق العباس بن يزيد حدثنا سفيان قال: "كان عمرو يحدثنا قبل أن يقدم المدينة الزهري عن الزهري عن عبيد الله عن ابن عباس عن الصعب، قال سفيان فقدم علينا الزهري فسمعته يعيده ويبديه" فذكر الحديث، وزاد الإسماعيلي في طريق جعفر الفريابي عن علي عن سفيان "وكان الزهري إذا حدث بهذا الحديث قال: وأخبرني ابن كعب بن مالك عن عمه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث إلى ابن أبي الحقيق نهى عن قتل النساء والصبيان" انتهى، وهذا الحديث أخرجه أبو داود بمعناه من وجه آخر عن الزهري، وكأن الزهري أشار بذلك إلى نسخ حديث الصعب. وقال مالك والأوزاعي: لا يجوز قتل النساء والصبيان بحال حتى لو تترس أهل الحرب بالنساء والصبيان أو تحصنوا بحصن أو سفينة وجعلوا معهم النساء والصبيان لم يجز رميهم ولا تحريقهم. وقد أخرج ابن حبان في حديث الصعب زيادة في آخره: "ثم نهى عنهم يوم حنين" وهي مدرجة في حديث الصعب، وذلك بين في سنن أبي داود فإنه قال في آخره: "قال سفيان قال الزهري: ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك عن قتل النساء والصبيان" ويؤيد كون النهي في غزوة حنين ما سيأتي في حديث رياح بن الربيع الآتي "فقال لأحدهم: الحق خالدا فقل له لا تقتل ذرية ولا عسيفا" والعسيف

(6/147)


بمهملتين وفاء: الأجير وزنا ومعنى، وخالد أول مشاهده مع النبي صلى الله عليه وسلم غزوة الفتح، وفي ذلك العام كانت غزوة حنين. وأخرج الطبراني في "الأوسط" من حديث ابن عمر قال: "لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة أتى بامرأة مقتولة فقال ما كانت هذه تقاتل ونهى" فذكر الحديث. وأخرج أبو داود في "المراسيل" عن عكرمة "أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى امرأة مقتولة بالطائف فقال: ألم أنه عن قتل النساء، من صاحبها؟ فقال رجل: أنا يا رسول الله أردفتها فأرادت أن تصرعني فتقتلني فقتلتها، فأمر بها أن تواري" ويحتمل في هذه التعدد، والذي جنح إليه غيرهم الجمع بين الحديثين كما تقدمت الإشارة إليه، وهو قول الشافعي والكوفيين. وقالوا: إذا قاتلت المرأة جاز قتلها. وقال ابن حبيب من المالكية: لا يجوز القصد إلى قتلها إلا إن باشرت القتل وقصدت إليه. قال: وكذلك الصبي المراهق. ويؤيد قول الجمهور ما أخرجه أبو داود والنسائي وابن حبان من حديث رياح بن الربيع وهو بكسر الراء والتحتانية التميمي قال: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة، فرأى الناس مجتمعين، فرأى امرأة مقتولة فقال: ما كانت هذه لتقاتل" فإن مفهومه أنها لو قاتلت لقتلت، واتفق الجميع كما نقل ابن بطال وغيره على منع القصد إلى قتل النساء والوالدان، أما النساء فلضعفهن، وأما الولدان فلقصورهم عن فعل الكفر، ولما في استبقائهم جميعا من الانتفاع بهم إما بالرق أو بالفداء فيمن يجوز أن يفادى به، وحكى الحازمي قولا بجواز قتل النساء والصبيان على ظاهر حديث الصعب، وزعم أنه ناسخ لأحاديث النهي، وهو غريب، وسيأتي الكلام على قتل المرأة المرتدة في كتاب القصاص. وفي الحديث دليل على جواز العمل بالعام حتى يرد الخاص، لأن الصحابة تمسكوا بالعمومات الدالة على قتل أهل الشرك، ثم نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان فخص ذلك العموم، ويحتمل أن يستدل به على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة. ويستنبط منه الرد على من يتخلى عن النساء وغيرهن من أصناف الأموال زهدا لأنهم وإن كان قد يحصل منهم الضرر في الدين لكن يتوقف تجنبهم على حصول ذلك الضرر، فمتى حصل اجتنبت وإلا فليتناول من ذلك بقدر الحاجة.

(6/148)


147 - باب قَتْلِ الصِّبْيَانِ فِي الْحَرْبِ
3014- حدثنا أحمد بن يونس أخبرنا الليث عن نافع أن عبد الله رضي الله عنه أخبره "أن امرأة وجدت في بعض مغازي النبي صلى الله عليه وسلم مقتولة فأنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل النساء والصبيان".
[الحديث 3014 – طرفه في: 3015]
قوله: "باب قتل الصبيان في الحرب" أورد فيه حديث ابن عمر من طريق ليث وهو ابن سعد بلفظ: "فأنكر"

(6/148)


148 - باب قَتْلِ النِّسَاءِ فِي الْحَرْبِ
3015- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ قُلْتُ لِأَبِي أُسَامَةَ حَدَّثَكُمْ عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "وُجِدَتْ امْرَأَةٌ مَقْتُولَةً فِي بَعْضِ مَغَازِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ".

(6/148)


149 - باب لاَ يُعَذَّبُ بِعَذَابِ اللَّهِ
3016- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ بُكَيْرٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْثٍ فَقَالَ: "إِنْ وَجَدْتُمْ فُلاَنًا وَفُلاَنًا فَأَحْرِقُوهُمَا بِالنَّارِ ثُمَّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حِينَ أَرَدْنَا الْخُرُوجَ إِنِّي أَمَرْتُكُمْ أَنْ تُحْرِقُوا فُلاَنًا وَفُلاَنًا وَإِنَّ النَّارَ لاَ يُعَذِّبُ بِهَا إِلاَّ اللَّهُ فَإِنْ وَجَدْتُمُوهُمَا فَاقْتُلُوهُمَا".
3017- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَرَّقَ قَوْمًا فَبَلَغَ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ لَوْ كُنْتُ أَنَا لَمْ أُحَرِّقْهُمْ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لاَ تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ وَلَقَتَلْتُهُمْ كَمَا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ".
[الحديث 3017 – طرفه في: 6922]
قوله: "باب لا يعذب بعذاب الله" هكذا بت الحكم في هذه المسألة لوضوح دليلها عنده، ومحله إذا لم يتعين التحريق طريقا إلى الغلبة على الكفار حال الحرب. قوله: "عن بكير" بموحدة وكاف مصغر، ولأحمد عن هشام بن القاسم عن الليث "حدثني بكير ابن عبد الله بن الأشج" فأفاد نسبته وتصريحه بالتحديث. قوله: "عن أبي هريرة" كذا في جميع الطرق عن الليث ليس بين سليمان بن يسار وأبي هريرة فيه أحد، وكذلك أخرجه النسائي من طريق عمرو بن الحارث وغيره عن بكير، ومضى قبل أبواب معلقا، وخالفهم محمد بن إسحاق فرواه في السيرة عن يزيد بن أبي حبيب عن بكير فأدخل بين سليمان وأبي هريرة رجلا وهو أبو إسحاق الدوسي، وأخرجه الدارمي وابن السكن وابن حبان في صحيحه من طريق ابن إسحاق، وأشار الترمذي إلى هذه الرواية، ونقل عن البخاري أن رواية الليث أصح، وسليمان قد صح سماعه من أبي هريرة، يعني وهو غير مدلس فتكون رواية ابن إسحاق من المزيد في متصل الأسانيد. قوله: "بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعث فقال إن وجدتم فلانا وفلانا" زاد الترمذي عن قتيبة بهذا الإسناد "رجلين من قريش" وفي رواية ابن إسحاق "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية أنا فيها". قلت: وكان أمير السرية المذكورة حمزة بن عمرو الأسلمي أخرجه أبو داود من طريقه بإسناد صحيح لكن قال في روايته: "إن وجدتم فلانا فأحرقوه بالنار" هكذا بالإفراد، وكذلك رويناه في "فوائد علي بن حرب" عن ابن عيينة عن ابن أبي نجيح مرسلا وسماه هبار بن الأسود، ووقع في رواية ابن إسحاق "إن وجدتم هبار ابن الأسود والرجل الذي سبق منه إلى

(6/149)


زينب ما سبق فحرقوهما بالنار" يعني زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان زوجها أبو العاص بن الربيع لما أسره الصحابة ثم أطلقه النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة شرط عليه أن يجهز له لبنته زينب فجهزها، فتبعها هبار بن الأسود ورفيقه فنخسا بعيرها فأسقطت ومرضت من ذلك، والقصة مشهورة عند ابن إسحاق وغيره. وقال في روايته: "وكانا نخسا بزينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرجت من مكة" وقد أخرجه سعيد بن منصور عن ابن عيينة عن ابن أبي نجيح "أن هبار بن الأسود أصاب زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء وهي في خدرها فأسقطت، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية فقال: إن وجدتموه فاجعلوه بين حزمتي حطب ثم أشعلوا فيه النار" ثم قال: "إني لأستحي من الله، لا ينبغي لأحد أن يعذب بعذاب الله" الحديث، فكأن إفراد هبار بالذكر لكونه كان الأصل في ذلك والآخر كان تبعا له، وسمي ابن السكن في روايته من طريق ابن إسحاق الرجل الآخر نافع بن عبد قيس، وبه جزم ابن هشام في "زوائد السيرة" عليه، وحكى السهيلي عن مسند البزار أنه خالد بن عبد قيس فلعله تصحف عليه، وإنما هو نافع، كذلك هو في النسخ المعتمدة من مسند البزار، وكذلك أورده ابن بشكوال من مسند البزار، وأخرجه محمد بن عثمان بن أبي شيبة في تاريخه من طريق ابن لهيعة كذلك. قلت: وقد أسلم هبار هذا، ففي رواية ابن أبي نجيح المذكورة "فلم تصبه السرية وأصابه الإسلام فهاجر" فذكر قصة إسلامه، وله حديث عند الطبراني وآخر عند ابن منده، وذكر البخاري في تاريخه لسليمان بن يسار عنه رواية في قصة جرت له مع عمر في الحج، وعاش هبار هذا إلى خلافة معاوية، وهو بفتح الهاء وتشديد الموحدة. ولم أقف لرفيقه على ذكر في الصحابة فلعله مات قبل أن يسلم. قوله: "ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حين أردنا الخروج" في رواية ابن إسحاق "حتى إذا كان من الغد" وفي رواية عمرو بن الحارث "فأتيناه نودعه حين أردنا الخروج" وفي رواية ابن لهيعة "فلما ودعنا" وفي رواية حمزة الأسلمي "فوليت فناداني فرجعت". قوله: "وإن النار لا يعذب بها إلا الله" هو خبر بمعنى النهي، ووقع في رواية ابن لهيعة "وأنه لا ينبغي" وفي رواية ابن إسحاق "ثم رأيت أنه لا ينبغي أن يعذب بالنار إلا الله" وروى أبو داود من حديث ابن مسعود رفعه: "أنه لا ينبغي أن يعذب بالنار إلا رب النار" وفي الحديث قصة. واختلف السلف في التحريق: فكره ذلك عمر وابن عباس وغيرهما مطلقا سواء كان ذلك بسبب كفر أو في حال مقاتلة أو كان قصاصا، وأجازه علي وخالد بن الوليد وغيرهما، وسيأتي ما يتعلق بالقصاص قريبا. وقال المهلب: ليس هذا النهي على التحريم بل على سبيل التواضع، ويدل على جواز التحريق فعل الصحابة، وقد سمل النبي صلى الله عليه وسلم أعين العرنيين بالحديد المحمي، وقد حرق أبو بكر البغاة بالنار بحضرة الصحابة، وحرق خالد بن الوليد بالنار ناسا من أهل الردة، وأكثر علماء المدينة يجيزون تحريق الحصون والمراكب على أهلها قاله النووي والأوزاعي. وقال ابن المنير وغيره: لا حجة فيما ذكر للجواز، لأن قصة العرنيين كانت قصاصا أو منسوخة كما تقدم. وتجويز الصحابي معارض بمنع صحابي آخر، وقصة الحصون والمراكب مقيدة بالضرورة إلى ذلك إذا تعين طريقا للظفر بالعدو، ومنهم من قيده بأن لا يكون معهم نساء ولا صبيان كما تقدم، وأما حديث الباب فظاهر النهي فيه التحريم، وهو نسخ لأمره المتقدم سواء كان بوحي إليه أو باجتهاد منه، وهو محمول على من قصد إلى ذلك في شخص بعينه. وقد اختلف في مذهب مالك في أصل المسألة وفي التدخين وفي القصاص بالنار، وفي الحديث جواز الحكم بالشيء اجتهادا ثم الرجوع عنه، واستحباب ذكر الدليل عند الحكم لرفع الإلباس والاستنابة في الحدود ونحوها، وأن طول الزمان لا يرفع العقوبة عمن يستحقها. وفيه كراهة قتل

(6/150)


مثل البرغوث بالنار. وفيه نسخ السنة بالسنة وهو إتفاق. وفيه مشروعية توديع المسافر لأكابر أهل بلده، وتوديع أصحابه له أيضا. وفيه جواز نسخ الحكم قبل العمل به أو قبل التمكن من العمل به، وهو اتفاق إلا عن بعض المعتزلة فيما حكاه أبو بكر بن العربي. وهذه المسألة غير المسألة المشهورة في الأصول في وجوب العمل بالناسخ قبل العلم به، وقد تقدم شيء من ذلك في أوائل الصلاة في الكلام على حديث الإسراء. وقد اتفقوا على أنهم إن تمكنوا من العلم به ثبت حكمه في حقهم اتفاقا، فإن لم يتمكنوا فالجمهور أنه لا يثبت، وقيل يثبت في الذمة كما لو كان نائما ولكنه معذور. قوله: "عن أيوب" صرح الحميدي عن سفيان بتحديث أيوب له به. قوله: "أن عليا حرق قوما" في رواية الحميدي المذكورة "أن عليا أحرق المرتدين" يعني الزنادقة. وفي رواية ابن أبي عمر ومحمد بن عباد عند الإسماعيلي جميعا عن سفيان قال: "رأيت عمرو بن دينار وأيوب وعمارا الدهني اجتمعوا فتذكروا الذين حرقهم علي، فقال أيوب" فذكر الحديث: "فقال عمار لم يحرقهم، ولكن حفر لهم حفائر وخرق بعضها إلى بعض ثم دخن عليهم"، فقال عمرو بن دينار: قال الشاعر:
لترم بي المنايا حيث شاءت ... إذا لم ترم بي في الحفرتين
إذا ما أججوا حطبا ونارا ... هناك الموت نقدا غير دين
انتهى. وكأن عمرو بن دينار أراد بذلك الرد على عمار الدهني في إنكاره أصل التحريق. ثم وجدت في الجزء الثالث من حديث أبي طاهر المخلص "حدثنا لوين حدثنا سفيان بن عيينة" فذكره عن أيوب وحده، ثم أورده عن عمار وحده، قال ابن عيينة: فذكرته لعمرو بن دينار فأنكره وقال: "فأين قوله: "أوقدت ناري ودعوت قنبرا" فظهر بهذا صحة ما كنت ظننته، وسيأتي للمصنف في استتابة المرتدين في آخر الحدود من طريق حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة قال: "أتى علي بزنادقة فأحرقهم" ولأحمد من هذا الوجه "أن عليا أتى بقوم من هؤلاء الزنادقة ومعهم كتب، فأمر بنار فأججت ثم أحرقهم وكتبهم" وروى ابن أبي شيبة من طريق عبد الرحمن بن عبيد عن أبيه قال: "كان ناس يعبدون الأصنام في السر ويأخذون العطاء، فأتى بهم علي فوضعهم في السجن واستشار الناس، فقالوا: اقتلهم، فقال: لا بل أصنع بهم كما صنع بأبينا إبراهيم، فحرقهم بالنار". قوله: "لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تعذبوا بعذاب الله" هذا أصرح في النهي من الذي قبله، وزاد أحمد وأبو داود والنسائي من وجه آخر عن أيوب في آخره: "فبلغ ذلك عليا فقال: ويح ابن عباس" وسيأتي الكلام على قوله: "من بدل دينه فاقتلوه" في استتابة المرتدين إن شاء الله تعالى.

(6/151)


150- باب {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [4 سورة محمد]. فِيهِ حَدِيثُ ثُمَامَةَ.
وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ [67 الأنفال]: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ تَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} يَعْنِي يَغْلِبَ فِي الأَرْضِ {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} الْآيَةَ
قوله: "باب {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً}. فيه حديث ثمامة" كأنه يشير إلى حديث أبي هريرة في قصة إسلام ثمامة بن أثال، وستأتي موصولة مطولة في أواخر كتاب المغازي، والمقصود منها هنا قوله فيه: "إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل منه ما شئت" فإن النبي صلى الله عليه وسلم أقره على ذلك ولم ينكر عليه التقسيم ثم من عليه بعد ذلك، فكان في ذلك تقوية لقول الجمهور: أن الأمر في أسرى الكفرة من الرجال إلى الإمام يفعل

(6/151)


ما هو الأحظ للإسلام والمسلمين. وقال الزهري ومجاهد وطائفة: لا يجوز أخذ الفداء من أسارى الكفار أصلا وعن الحسن وعطاء: لا تقتل الأسارى، بل يتخير بين المن والفداء. وعن مالك: لا يجوز المن بغير فداء. وعن الحنفية: لا يجوز المن أصلا لا بفداء ولا بغيره، فيرد الأسير حربيا. قال الطحاوي: وظاهر الآية حجة للجمهور وكذا حديث أبي هريرة في قصة ثمامة، لكن في قصة ثمامة ذكر القتل. وقال أبو بكر الرازي: احتج أصحابنا لكراهة فداء المشركين بالمال بقوله تعالى: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} الآية، ولا حجة لهم لأن ذلك كان قبل حل الغنيمة، فإن فعله بعد إباحة الغنيمة فلا كراهة انتهى. وهذا هو الصواب، فقد حكى ابن القيم في الهدى اختلافا: أي الأمرين أرجح؟ ما أشار به أبو بكر من أخذ الفداء، أو ما أشار به عمر من القتل؟ فرجحت طائفة رأي عمر لظاهر الآية ولما في القصة من حديث عمر من قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أبكي لما عرض على أصحابك من العذاب لأخذهم الفداء" ورجحت طائفة رأي أبي بكر لأنه الذي استقر عليه الحال حينئذ، ولموافقة رأيه الكتاب الذي سبق، ولموافقة حديث: "سبقت رحمتي غضبي" ولحصول الخير العظيم بعد من دخول كثير منهم في الإسلام والصحبة ومن ولد لهم من كان ومن تجدد، إلى غير ذلك مما يعرف بالتأمل. وحملوا التهديد بالعذاب على من اختار الفداء، فيحصل عرض الدنيا مجردا وعفا الله عنهم ذلك. وحديث عمر المشار إليه في هذه القصة أخرجه أحمد مطولا وأصله في صحيح مسلم بالسند المذكور. قوله: "وقوله عز وجل: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ تَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} يَعْنِي يَغْلِبَ فِي الأَرْضِ {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} الْآيَةَ". كذا وقع في رواية أبي ذر وكريمة، وسقط للباقين، وتفسير يثخن بمعنى يغلب قاله أبو عبيدة وزاد: ويبالغ.
وعن مجاهد: الإثخان القتل، وقيل المبالغة فيه، وقيل معناه حتى يتمكن في الأرض. وأصل الإثخان في اللغة الشدة والقوة. وأشار المصنف بهذه الآية إلى قول مجاهد وغيره ممن منع أخذ الفداء من أسارى الكفار، وحجتهم منها أنه تعالى أنكر إطلاق أسرى كفار بدر على مال فدل على عدم جواز ذلك بعد، واحتجوا بقوله تعالى :{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} قال فلا يستثنى من ذلك إلا من يجوز أخذ الجزية منه. وقال الضحاك: بل قوله تعالى: {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} ناسخ لقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} وقال أبو عبيد: لا نسخ في شيء من هذه الآيات بل هي محكمة، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم عمل بما دلت عليه كلها في جميع أحكامه: فقتل بعض الكفار يوم بدر، وفدى بعضا، ومن على بعض. وكذا قتل بني قريظة، ومن على بني المصطلق، وقتل ابن خطل وغيره بمكة ومن على سائرهم. وسبى هوازن ومن عليهم. ومن على ثمامة بن أثال. فدل كل ذلك على ترجيح قول الجمهور إن ذلك راجع إلى رأي الإمام. ومحصل أحوالهم تخيير الإمام بعد الأسر بين ضرب الجزية لمن شرع أخذها منه أو القتل أو الاسترقاق أو المن بلا عوض أو بعوض، هذا في الرجال، وأما النساء والصبيان فيرقون بنفس الأسر، ويجوز المفاداة بالأسيرة الكافرة بأسير مسلم أو مسلمة عند الكفار، ولو أسلم الأسير زال القتل اتفاقا، وهل يصير رقيقا أو تبقى بقية الخصال؟ قولان للعلماء.

(6/152)


151 - باب هَلْ لِلْأَسِيرِ أَنْ يَقْتُلَ وَيَخْدَعَ الَّذِينَ أَسَرُوهُ حَتَّى يَنْجُوَ مِنْ الْكَفَرَةِ؟
فِيهِ الْمِسْوَرُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

(6/152)


قوله: "باب هل للأسير أن يقتل أو يخدع الذين أسروه حتى ينجو من الكفرة؟ فيه المسور عن النبي صلى الله عليه وسلم" يشير بذلك إلى قصة أبي بصير، وقد تقدم بسطها في أواخر الشروط، وهي ظاهرة فيما ترجم له، وهي من مسائل الخلاف أيضا، ولهذا لم يبت الحكم فيها، قال الجمهور: إن ائتمنوه يف لهم بالعهد، حتى قال مالك: لا يجوز أن يهرب منهم. وخالفه أشهب فقال: لو خرج به الكافر ليفادي به فله أن يقتله. وقال أبو حنيفة والطبري: إعطاؤه العهد على ذلك باطل، ويجوز له أن لا يفي لهم به. وقال الشافعية: يجوز أن يهرب من أيديهم، ولا يجوز أن يأخذ من أموالهم. قالوا: وإن لم يكن بينهم عهد جاز له أن يتخلص منهم بكل طريق ولو بالقتل وأخذ المال وتحريق الدار وغير ذلك، وليس في قصة أبي بصير تصريح بأنه كان بينه وبين من تسلمه ليرده إلى المشركين عهد، ولهذا تعرض للقتل، فقتل أحد الرجلين وانفلت الآخر، ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم مستوفى.

(6/153)


152 - باب إِذَا حَرَّقَ الْمُشْرِكُ الْمُسْلِمَ هَلْ يُحَرَّقُ
3018- حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ رَهْطًا مِنْ عُكْلٍ ثَمَانِيَةً قَدِمُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاجْتَوَوْا الْمَدِينَةَ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ ابْغِنَا رِسْلًا قَالَ مَا أَجِدُ لَكُمْ إِلاَّ أَنْ تَلْحَقُوا بِالذَّوْدِ فَانْطَلَقُوا فَشَرِبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا حَتَّى صَحُّوا وَسَمِنُوا وَقَتَلُوا الرَّاعِيَ وَاسْتَاقُوا الذَّوْدَ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ فَأَتَى الصَّرِيخُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَعَثَ الطَّلَبَ فَمَا تَرَجَّلَ النَّهَارُ حَتَّى أُتِيَ بِهِمْ فَقَطَّعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ ثُمَّ أَمَرَ بِمَسَامِيرَ فَأُحْمِيَتْ فَكَحَلَهُمْ بِهَا وَطَرَحَهُمْ بِالْحَرَّةِ يَسْتَسْقُونَ فَمَا يُسْقَوْنَ حَتَّى مَاتُوا".
قَالَ أَبُو قِلاَبَةَ: قَتَلُوا وَسَرَقُوا وَحَارَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَعَوْا فِي الأَرْضِ فَسَادًا.
قوله: "باب إذا حرق المشرك المسلم هل يحرق" ؟ أي جزاء بفعله. هذه الترجمة تليق أن تذكر قبل بابين، فلعل تأخيرها من تصرف النقلة ويؤيد ذلك أنهما سقطا جميعا للنسفي، وثبت عنده ترجمة "إذا حرق المشرك" تلو ترجمة "ولا يعذب بعذاب الله" وكأنه أشار بذلك إلى تخصيص النهي في قوله: "لا يعذب بعذاب الله" بما إذا لم يكن ذلك على سبيل القصاص، وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك. وقد أورد المصنف في الباب حديث أنس في قصة العرنيين، وليس فيه التصريح بأنهم فعلوا ذلك بالرعاء لكنه أشار إلى ما ورد في بعض طرقه، وذلك فيما أخرجه مسلم من وجه آخر عن أنس قال: "إنما سمل النبي صلى الله عليه وسلم أعين العرنيين لأنهم سملوا أعين الرعاء" قال ابن بطال: ولو لم يرد ذلك لكان أخذ ذلك من قصة العرنيين بطريق الأولى، لأنه جاز سمل أعينهم وهو تعذيب بالنار ولو لم يفعلوا ذلك بالمسلمين فجوازه إن فعلوه أولى. وقد تقدم الكلام عليه مستوفى في كتاب الطهارة في "باب أبوال الإبل" وهو في أواخر أبواب الوضوء قبيل كتاب الغسل. وقوله: "حدثنا معلى" بضم الميم وهو ابن أسد، وثبت كذلك في رواية الأصيلي وآخرين. وقوله فيه: "أبغنا رسلا" أي أعنا على طلبه، والرسل بكسر الراء الدر من اللبن. والذود بفتح المعجمة وسكون الواو بعدها مهملة: الثلاث من الإبل إلى العشرة، والصريخ: صوت المستغيث: وترجل بالجيم: أي ارتفع.

(6/153)


153- باب
3019- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَأَبِي سَلَمَةَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "قَرَصَتْ نَمْلَةٌ نَبِيًّا مِنْ الأَنْبِيَاءِ فَأَمَرَ بِقَرْيَةِ النَّمْلِ فَأُحْرِقَتْ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنْ قَرَصَتْكَ نَمْلَةٌ أَحْرَقْتَ أُمَّةً مِنْ الأُمَمِ تُسَبِّحُ".
قوله: "باب" كذا لهم بغير ترجمة، وهو كالفصل من الباب قبله، والمناسبة بينهما أن لا يتجاوز بالتحريق حيث يجوز إلى من لم يستوجب ذلك، فإنه أورد فيه حديث أبي هريرة في تحريق قرية النمل، حديث أبي هريرة في تحريق قرية النمل، وأشار بذلك إلى ما وقع في بعض طرقه "أن الله أوحى إليه فهلا نملة واحدة" فإن فيه إشارة إلى أنه لو حرق التي قرصته وحدها لما عوتب، ولا يخفى أن صحة الاستدلال بذلك متوقفة على أن شرع من قبلنا هل هو شرع لنا؟ وسيأتي الكلام على شرحه مستوفى في بدء الخلق إن شاء الله تعالى.

(6/154)


154 - باب حَرْقِ الدُّورِ وَالنَّخِيلِ
3020- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ إِسْمَاعِيلَ قَالَ حَدَّثَنِي قَيْسُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ قَالَ قَالَ لِي جَرِيرٌ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أَلاَ تُرِيحُنِي مِنْ ذِي الْخَلَصَةِ وَكَانَ بَيْتًا فِي خَثْعَمَ يُسَمَّى كَعْبَةَ الْيَمَانِيَةِ قَالَ فَانْطَلَقْتُ فِي خَمْسِينَ وَمِائَةِ فَارِسٍ مِنْ أَحْمَسَ وَكَانُوا أَصْحَابَ خَيْلٍ قَالَ وَكُنْتُ لاَ أَثْبُتُ عَلَى الْخَيْلِ فَضَرَبَ فِي صَدْرِي حَتَّى رَأَيْتُ أَثَرَ أَصَابِعِهِ فِي صَدْرِي وَقَالَ اللَّهُمَّ ثَبِّتْهُ وَاجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا فَانْطَلَقَ إِلَيْهَا فَكَسَرَهَا وَحَرَّقَهَا ثُمَّ بَعَثَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخْبِرُهُ فَقَالَ رَسُولُ جَرِيرٍ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا جِئْتُكَ حَتَّى تَرَكْتُهَا كَأَنَّهَا جَمَلٌ أَجْوَفُ أَوْ أَجْرَبُ قَالَ فَبَارَكَ فِي خَيْلِ أَحْمَسَ وَرِجَالِهَا خَمْسَ مَرَّاتٍ".
[الحديث 3020 – أطرافه في: 3036، 3076، 3823، 4355، 4356، 4357، 6089، 6333]
3021- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "حَرَّقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ".
قوله: "باب حرق الدور والنخيل" أي التي للمشركين. كذا وقع في جميع النسخ "حرق" وضبطوه بفتح أوله وإسكان الراء، وفيه نظر لأنه لا يقال في المصدر حرق؛ وإنما يقال تحريق وإحراق لأنه رباعي، فلعله كان حرق بتشديد الراء بلفظ الفعل الماضي وهو المطابق للفظ الحديث والفاعل محذوف تقديره النبي صلى الله عليه وسلم بفعله أو بإذنه. وقد ترجم في التي قبلها "باب إذا حرق" وعلى هذا فقوله الدور منصوب بالمفعولية والنخيل كذلك نسقا عليه. ثم ذكر فيه حديثين ظاهرين فيما ترجم له. أحدهما: حديث جرير في قصة ذي الخلصة بفتح المعجمة واللام والمهملة وحكي تسكين اللام، وسيأتي شرحه في أواخر المغازي. وقوله فيه: "كعبة اليمانية" أي كعبة الجهة اليمانية على رأي البصريين. ثانيهما: حديث ابن عمر "حرق رسول الله صلى الله عليه وسلم نخل بني النضير" أورده مختصرا هكذا، وسيأتي بتمامه

(6/154)


في المغازي مع شرحه إن شاء الله تعالى. وقد ذهب الجمهور إلى جواز التحريق والتخريب في بلاد العدو، وكرهه الأوزاعي والليث وأبو ثور، واحتجوا بوصية أبي بكر لجيوشه أن لا يفعلوا شيئا من ذلك، وأجاب الطبري بأن النهي محمول على القصد لذلك بخلاف ما إذا أصابوا ذلك في خلال القتال كما وقع في نصب المنجنيق على الطائف، وهو نحو ما أجاب به في النهي عن قتل النساء والصبيان، وبهذا قال أكثر أهل العلم، ونحو ذلك القتل بالتغريق. وقال غيره: إنما نهى أبو بكر جيوشه عن ذلك لأنه علم أن تلك البلاد ستفتح فأراد إبقاءها على المسلمين. والله أعلم.

(6/155)


155 - باب قَتْلِ النَّائِمِ الْمُشْرِكِ
3022- حدثنا علي بن مسلم حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة قال حدثني أبي عن أبي إسحاق عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رهطا من الأنصار إلى أبي رافع ليقتلوه فانطلق رجل منهم فدخل حصنهم قال فدخلت في مربط دواب لهم قال وأغلقوا باب الحصن ثم إنهم فقدوا حمارا لهم فخرجوا يطلبونه فخرجت فيمن خرج أريهم أنني أطلبه معهم فوجدوا الحمار فدخلوا ودخلت وأغلقوا باب الحصن ليلا فوضعوا المفاتيح في كوة حيث أراها فلما ناموا أخذت المفاتيح ففتحت باب الحصن ثم دخلت عليه فقلت يا أبا رافع فأجابني فتعمدت الصوت فضربته فصاح فخرجت ثم جئت ثم رجعت كأني مغيث فقلت يا أبا رافع وغيرت صوتي فقال ما لك لأمك الويل قلت ما شأنك قال لا أدري من دخل علي فضربني قال فوضعت سيفي في بطنه ثم تحاملت عليه حتى قرع العظم ثم خرجت وأنا دهش فأتيت سلما لهم لأنزل منه فوقعت فوثئت رجلي فخرجت إلى أصحابي فقلت ما أنا ببارح حتى أسمع الناعية فما برحت حتى سمعت نعايا أبي رافع تاجر أهل الحجاز قال فقمت وما بي قلبة حتى أتينا النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرناه".
[الحديث 3022 – أطرافه في: 3023، 4038، 4039، 4040]
3023- حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا يحيى بن آدم حدثنا يحيى بن أبي زائدة عن أبيه عن أبي إسحاق عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رهطا من الأنصار إلى أبي رافع فدخل عليه عبد الله بن عتيك بيته ليلا فقتله وهو نائم".
قوله: "باب قتل المشرك النائم" ذكر فيه قصة قتل أبي رافع اليهودي من حديث البراء بن عازب، أورده من وجهين مطولا ومختصرا، وسيأتي شرحها في كتاب المغازي إن شاء الله تعالى، وهي ظاهرة فيما ترجم له، لأن الصحابي طلب قتل أبي رافع وهو نائم، وإنما ناداه ليتحقق أنه هو لئلا يقتل غيره ممن لا غرض له إذ ذاك في قتله

(6/155)


وبعد أن أجابه كان في حكم النائم لأنه حينئذ استمر على خيال نومه، بدليل أنه بعد أن ضربه لم يفر من مكانه ولا تحول من مضجعه حتى عاد إليه فقتله، وفية جواز التجسس على المشركين وطلب غربهم، وجواز اغتيال ذوي الأذية البالغة منهم، وكأن أبو رافع يعادي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويؤلب عليه الناس. ويؤخذ منه جواز قتل المشرك بغير دعوة إن كان قد بلغته الدعوة قبل ذلك، وأما قتله إذا كان نائما فمحله أن يعلم أنه مستمر على كفره وأنه قد يئس من فلاحه، وطريق العلم بذلك إما بالوحي وإما بالقرائن الدالة على ذلك.

(6/156)


156 - باب لاَ تَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ
3024- حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ يُوسُفَ الْيَرْبُوعِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْفَزَارِيُّ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ قَالَ حَدَّثَنِي سَالِمٌ أَبُو النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ كُنْتُ كَاتِبًا لَهُ قَالَ كَتَبَ إِلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى حِينَ خَرَجَ إِلَى الْحَرُورِيَّةِ فَقَرَأْتُهُ فَإِذَا فِيهِ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ أَيَّامِهِ الَّتِي لَقِيَ فِيهَا الْعَدُوَّ انْتَظَرَ حَتَّى مَالَتْ الشَّمْسُ".
3025- ثُمَّ قَامَ فِي النَّاسِ فَقَالَ: "أَيُّهَا النَّاسُ لاَ تَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ وَسَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلاَلِ السُّيُوفِ ثُمَّ قَالَ اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ وَمُجْرِيَ السَّحَابِ وَهَازِمَ الأَحْزَابِ اهْزِمْهُمْ وَانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ". وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: "حَدَّثَنِي سَالِمٌ أَبُو النَّضْرِ كُنْتُ كَاتِبًا لِعُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ فَأَتَاهُ كِتَابُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لاَ تَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ".
3026- وَقَالَ أَبُو عَامِرٍ حَدَّثَنَا مُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لاَ تَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا".
قوله: "باب لا تمنوا لقاء العدو" ذكر فيه حديث عبد الله بن أبي أوفى في ذلك، وقد تقدم مقطعا في أبواب منها "الجنة تحت البارقة" اقتصر على قوله: "واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف " ومنها "الصبر عند القتال" واقتصر على قوله: "وإذا لقيتموهم فاصبروا" ومنها "الدعاء على المشركين بالهزيمة" واقتصر على الفصل المتعلق بالحديث منه، وقد تقدم الكلام فيه على شيء في إسناده في أول ترجمة، وأورده بتمامه في "القتال بعد الزوال" وتقدم الكلام فيما يتعلق بذلك فيه. قوله: "لا تمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاصبروا" قال ابن بطال: حكمة النهي أن المرء لا يعلم ما يؤول إليه الأمر، وهو نظير سؤال العافية من الفتن، وقد قال الصديق "لأن أعافى فأشكر أحب إلي من أن أبتلى فأصبر" وقال غيره: إنما نهى عن تمني لقاء العدو لما فيه من صورة الإعجاب والإنكال على النفوس والوثوق بالقوة وقلة الاهتمام بالعدو، وكل ذلك يباين الاحتياط والأخذ بالحزم. وقيل: يحمل النهي على ما إذا وقع الشك في المصلحة أو حصول الضرر، وإلا فالقتال فضيلة وطاعة. ويؤيد الأول تعقيب النهي بقوله: "وسلوا الله العافية" وأخرج سعيد بن منصور من طريق يحيى بن أبي كثير مرسلا "لا تمنوا

(6/156)


لقاء العدو فإنكم لا تدرون عسى أن تبتلوا بهم" وقال ابن دقيق العيد: لما كان لقاء الموت من أشق الأشياء على النفس وكانت الأمور الغائبة ليست كالأمور المحققة لم يؤمن أن يكون عند الوقوع كما ينبغي فيكره التمني لذلك ولما فيه لو وقع من احتمال أن يخالف الإنسان ما وعد من نفسه، ثم أمر بالصبر عند وقوع الحقيقة انتهى. واستدل بهذا الحديث على منع طلب المبارزة، وهو رأي الحسن البصري، وكان علي يقول: لا تدع إلى المبارزة، فإذا دعيت فأجب تنصر، لأن الداعي باغ. وقد تقدم قول علي في ذلك. قوله: "ثم قال اللهم منزل الكتاب إلخ" أشار بهذا الدعاء إلى وجوه النصر عليهم، فبالكتاب إلى قوله تعالى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} وبمجرى السحاب إلى القدرة الظاهرة في تسخير السحاب حيث يحرك الريح بمشيئة الله تعالى، وحيث يستمر في مكانه مع هبوب الريح، وحيث تمطر تارة وأخرى لا تمطر، فأشار بحركته إلى إعانة المجاهدين في حركتهم في القتال، وبوقوفه إلى إمساك أيدي الكفار عنهم، وبإنزال المطر إلى غنيمة ما معهم حيث يتفق قتلهم، وبعدمه إلى هزيمتهم حيث لا يحصل الظفر بشيء منهم، وكلها أحوال صالحة للمسلمين. وأشار بهازم الأحزاب إلى التوسل بالنعمة السابقة، وإلى تجريد التوكل، واعتقاد أن الله هو المنفرد بالفعلي. وفيه التنبيه على عظم هذه النعم الثلاث، فإن بإنزال الكتاب حصلت النعمة الأخروية وهي الإسلام، وبإجراء السحاب حصلت النعمة الدنيوية وهي الرزق، وبهزيمة الأحزاب حصل حفظ النعمتين، وكأن قال: اللهم كما أنعمت بعظيم النعمتين الأخروية والدنيوية وحفظتهما فأبقهما. وروى الإسماعيلي في هذا الحديث من وجه آخر أنه صلى الله عليه وسلم دعا أيضا فقال: "اللهم أنت ربنا وربهم، ونحن عبيدك وهم عبيدك نواصينا ونواصيهم بيدك، فاهزمهم وانصرنا عليهم" ولسعيد بن منصور من طريق أبي عبد الرحمن الحبلي عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا نحوه لكن بصيغة الأمر عطفا على قوله: "وسلوا الله العافية: فإن بليتم بهم فقولوا اللهم" فذكره وزاد "وغضوا أبصاركم واحملوا عليهم على بركة الله". قوله: "وقال موسى بن عقبة إلخ" هو معطوف على الإسناد الماضي، وكأنه يشير إلى أنه عنده بالإسناد الواحد على وجهين مطولا ومختصرا، وهذا ما في رواية أبي ذر، واقتصر غيره لهذا المتن المختصر على الإسناد المذكور ولم يسوقوه مطولا والله أعلم. قوله: "وقال أبو عامر" هو العقدي. وقال الكرماني: لعله عبد الله بن براد الأشعري، كذا قال ولم يصب، فإنه ما لابن براده رواية عن المغيرة. وقد وصله مسلم والنسائي والإسماعيلي وغيرهم من طرق عن أبي عامر العقدي عن مغيرة به، وفي الحديث استحباب الدعاء عند اللقاء والاستنصار، ووصية المقاتلين بما فيه صلاح أمرهم، وتعليمهم بما يحتاجون إليه، وسؤال الله تعالى بصفاته الحسنى وبنعمه السالفة، ومراعاة نشاط النفوس لفعل الطاعة، والحث على سلوك الأدب وغير ذلك.

(6/157)


157 - باب الْحَرْبُ خَدْعَةٌ
3027- حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن همام عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "هلك كسرى ثم لا يكون كسرى بعده وقيصر ليهلكن ثم لا يكون قيصر بعده ولتقسمن كنوزهما في سبيل الله".
[الحديث 3027 – أطرافه في: 3120، 3618، 6630]
3028- "وسمى الحرب خدعة".

(6/157)


[الحديث 3028 – طرفه في: 3029]
3029- حدثنا أبو بكر بن أصرم أخبرنا عبد الله أخبرنا معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "سمى النبي صلى الله عليه وسلم الحرب خدعة".
3030- حدثنا صدقة بن الفضل أخبرنا بن عيينة عن عمرو سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم : "الحرب خدعة".
قوله: "باب الحرب خدعة" أورد من طريق همام بن منبه عن أبي هريرة مطولا ومختصرا ومن حديث جابر مختصرا وفي أول المطول ذكر كسرى وقيصر، وسيأتي الكلام على هذا في علامات النبوة. وقوله: "خدعة" بفتح المعجمة وبضمها مع سكون المهملة فيهما وبضم أوله وفتح ثانيه. قال النووي: اتفقوا على أن الأولى الأفصح، حتى قال ثعلب: بلغنا أنها لغة النبي صلى الله عليه وسلم، وبذلك جزم أبو ذر الهروي والقزاز. والثانية ضبطت كذلك في رواية الأصيلي. قال أبو بكر بن طلحة: أراد ثعلب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستعمل هذه البنية كثيرا لوجازة لفظها ولكونها تعطي معنى البنيتين الأخيرتين، قال: ويعطي معناها أيضا الأمر باستعمال الحيلة مهما أمكن ولو مرة وإلا فقاتل؛ قال فكانت مع اختصارها كثيرة المعنى. ومعنى خدعة بالإسكان أنها تخدع أهلها، من وصف الفاعل باسم المصدر، أو أنها وصف المفعول كما يقال هذا الدرهم ضرب الأمير أي مضروبه. وقال الخطابي: معناه أنها مرة واحدة، أي إذا خدع مرة واحدة لم تقل عثرته. وقيل: الحكمة في الإتيان بالتاء للدلالة على الوحدة فإن الخداع إن كان من المسلمين فكأنه حضهم على ذلك ولو مرة واحدة، وإن كان من الكفار فكأنه حذرهم من مكرهم ولو وقع مرة واحدة، فلا ينبغي التهاون بهم لما ينشأ عنهم من المفسدة ولو قل، وفي اللغة الثالثة صيغة المبالغة كهمزة ولمزة، وحكى المنذري لغة رابعة بالفتح فيهما، قال: وهو جمع خادع أي أن أهلها بهذه الصفة، وكأنه قال أهل الحرب خدعة. قلت: وحكى مكي ومحمد بن عبد الواحد لغة خامسة كسر أوله مع الإسكان، قرأت ذلك بخط مغلطاي. وأصل الخدع إظهار أمر وإضمار خلافه. وفيه التحريض على أخذ الحذر في الحرب، والندب إلى خداع الكفار، وإن من لم يتيقظ لذلك لم يأمن أن ينعكس الأمر عليه، قال النووي: واتفقوا على جواز خداع الكفار في الحرب كيفما أمكن، إلا أن يكون فيه نقض عهد أو أمان فلا يجوز، قال ابن العربي: الخداع في الحرب يقع بالتعريض وبالسكين ونحو ذلك. وفي الحديث الإشارة إلى استعمال الرأي في الحرب: بل الاحتياج إليه آكد من الشجاعة، وكذا وقع الاقتصار على ما يشير إليه بهذا الحديث، وهو كقوله: "الحج عرفة"، قال ابن المنير: معنى الحرب خدعة أي الحرب الجيدة لصاحبها الكاملة في مقصودها إنما هي المخادعة لا المواجهة، وذلك لخطر المواجهة وحصول الظفر مع المخادعة بغير خطر. "تكميل": ذكر الواقدي أن أول ما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الحرب خدعة" في غزوة الخندق.

(6/158)


158 - باب الْكَذِبِ فِي الْحَرْبِ
3031- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ

(6/158)


عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ لِكَعْبِ بْنِ الأَشْرَفِ فَإِنَّهُ قَدْ آذَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ أَتُحِبُّ أَنْ أَقْتُلَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَأَتَاهُ فَقَالَ إِنَّ هَذَا يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ عَنَّانَا وَسَأَلَنَا الصَّدَقَةَ قَالَ وَأَيْضًا وَاللَّهِ لَتَمَلُّنَّهُ قَالَ فَإِنَّا قَدْ اتَّبَعْنَاهُ فَنَكْرَهُ أَنْ نَدَعَهُ حَتَّى نَنْظُرَ إِلَى مَا يَصِيرُ أَمْرُهُ قَالَ فَلَمْ يَزَلْ يُكَلِّمُهُ حَتَّى اسْتَمْكَنَ مِنْهُ فَقَتَلَهُ".
قوله: "باب الكذب في الحرب" ذكر فيه حديث جابر في قصة قتل كعب بن الأشرف. حديث جابر في قصة قتل كعب بن الأشرف وسيأتي مطولا مع شرحه في كتاب المغازي. قال ابن المنير: الترجمة غير مطابقة، لأن الذي وقع منهم في قتل كعب ابن الأشرف يمكن أن يكون تعريضا، لأن قولهم "عنانا" أي كلفنا بالأوامر والنواهي، وقولهم "سألنا الصدقة" أي طلبها منا ليضعها مواضعها، وقولهم "فنكره أن ندعه إلخ" معناه نكره فراقه، ولا شك أنهم كانوا يحبون الكون معه أبدا انتهى. والذي يظهر أنه لم يقع منهم فيما قالوه بشيء من الكذب أصلا، وجميع ما صدر منهم تلويح كما سبق، لكن ترجم بذلك لقول محمد بن مسلمة للنبي صلى الله عليه وسلم أولا "ائذن لي أن أقول، قال قل" فإنه يدخل فيه الإذن في الكذب تصريحا وتلويحا وهذه الزيادة وإن لم تذكر في سياق حديث الباب فهي ثابتة فيه كما في الباب الذي بعده، على أنه لو لم يرد ذلك لما كانت الترجمة منافرة للحديث، لأن معناها حينئذ باب الكذب في الحرب هل يسوغ مطلقا أو يجوز منه الإيماء دون التصريح، وقد جاء من ذلك صريحا ما أخرجه الترمذي من حديث أسماء بنت يزيد مرفوعا: "لا يحل الكذب إلا في ثلاث: تحدث الرجل امرأته ليرضيها، والكذب في الحرب، وفي الإصلاح بين الناس" وقد تقدم في كتاب الصلح ما في حديث أم كلثوم بنت عقبة لهذا المعنى من ذلك، ونقل الخلاف في جواز الكذب مطلقا أو تقييده بالتلويح، قال النووي: الظاهر إباحة حقيقة الكذب في الأمور الثلاثة، لكن التعريض أولى. وقال ابن العربي: الكذب في الحرب من المستثنى الجائز بالنص وفقا بالمسلمين لحاجتهم إليه وليس للعقل فيه مجال، ولو كان تحريم الكذب بالعقل ما انقلب حلالا انتهى. ويقويه ما أخرجه أحمد وابن حبان من حديث أنس في قصة الحجاج ابن علاط الذي أخرجه النسائي وصححه الحاكم في استئذانه النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول عنه ما شاء لمصلحته في استخلاص ماله من أهل مكة وأذن له النبي صلى الله عليه وسلم، وإخباره لأهل مكة أن أهل خبير هزموا المسلمين وغير ذلك مما هو مشهور فيه، ولا يعارض ذلك ما أخرجه النسائي من طريق مصعب بن سعد عن أبيه في قصة عبد الله بن أبي سرح، وقول الأنصاري للنبي صلى الله عليه وسلم لما كف عن بيعته "هلا أومأت إلينا بعينك، قال: ما ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين" لأن طريق الجمع بينهما أن المأذون فيه بالخداع والكذب في الحرب حالة الحرب خاصة، وأما حال المبايعة فليست بحال حرب، كذا قال، وفيه نظر لأن قصة الحجاج بن علاط أيضا لم تكن في حال حرب. والجواب المستقيم أن تقول: المنع مطلقا من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم فلا يتعاطى شيئا من ذلك وإن كان مباحا لغيره، ولا يعارض ذلك ما تقدم من أنه كان إذا أراد غزوة ورى بغيرها، فإن المراد أنه كان يريد أمرا فلا يظهره كأن يريد أن يغزو وجهة الشرق فيسأل عن أمر في جهة الغرب، ويتجهز للسفر فيظن من يراه ويسمعه أنه يريد جهة الغرب، وأما أن يصرح بإرادته الغرب وإنما مراده الشرق فلا، والله أعلم. وقال ابن بطال: سألت بعض شيوخي عن معنى هذا الحديث فقال:

(6/159)


الكذب المباح في الحرب ما يكون من المعاريض لا التصريح بالتأمين مثلا، قال وقال المهلب: موضع الشاهد للترجمة من حديث الباب قول محمد بن مسلمة "قد عنانا، فإنه سألنا الصدقة" لأن هذا الكلام يحتمل أن يفهم أن اتباعهم له إنما هو للدنيا فيكون كذبا محضا، ويحتمل أن يريد أنه أتعبنا بما يقع لنا من محاربة العرب. فهو من معاريض الكلام، وليس فيه شيء من الكذب الحقيقي الذي هو الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو عليه. ثم قال: ولا يجوز الكذب الحقيقي في شيء من الدين أصلا. قال: ومحال أن يأمر بالكذب من يقول: "من كذب على متعمدا فليتبوأ مقعده من النار" انتهى، وقد تقدم جواب ذلك بما يغني عن إعادته.

(6/160)


159 - باب الْفَتْكِ بِأَهْلِ الْحَرْبِ
3032- حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ لِكَعْبِ بْنِ الأَشْرَفِ فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ أَتُحِبُّ أَنْ أَقْتُلَهُ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَأْذَنْ لِي فَأَقُولَ قَالَ قَدْ فَعَلْتُ".
قوله: "باب الفتك بأهل الحرب" أي جواز قتل الحربي سرا، وبين هذه الترجمة وبين الترجمة الماضية وهي قتل المشرك النائم عموم وخصوص وجهي. الحديث طرف من حديث جابر في قصة قتل كعب ابن الأشرف، وقد تقدم التنبيه عليه في الباب الذي قبله، وإنما فتكوا به لأنه نقض العهد، وأعان على حرب النبي صلى الله عليه وسلم، وهجاه، ولم يقع لأحد ممن توجه إليه تأمين له بالتصريح، وإنما أوهموه ذلك وآنسوه حتى تمكنوا من قتله.

(6/160)


160 - باب مَا يَجُوزُ مِنْ الِاحْتِيَالِ وَالْحَذَرِ مَعَ مَنْ يَخْشَى مَعَرَّتَهُ
3033- قَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ انْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ قِبَلَ ابْنِ صَيَّادٍ فَحُدِّثَ بِهِ فِي نَخْلٍ فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّخْلَ طَفِقَ يَتَّقِي بِجُذُوعِ النَّخْلِ وَابْنُ صَيَّادٍ فِي قَطِيفَةٍ لَهُ فِيهَا رَمْرَمَةٌ فَرَأَتْ أُمُّ ابْنِ صَيَّادٍ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ يَا صَافِ هَذَا مُحَمَّدٌ فَوَثَبَ ابْنُ صَيَّادٍ. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَوْ تَرَكَتْهُ بَيَّنَ".
قوله: "باب ما يجوز من الاحتيال والحذر مع من يخشى معرته" بفتح الميم والمهملة وتشديد الراء أي شره وفساده. قوله: "وقال الليث إلى آخره" وصله الإسماعيلي من طريق يحيى بن بكير وأبي صالح كلاهما عن الليث وقد علق المصنف طرفا منه في أواخر الجنائز كما مضى، وسيأتي شرحه قريبا بعد ستة عشر بابا.

(6/160)


161 - باب الرَّجَزِ فِي الْحَرْبِ وَرَفْعِ الصَّوْتِ فِي حَفْرِ الْخَنْدَقِ
فِيهِ سَهْلٌ وَأَنَسٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِيهِ يَزِيدُ عَنْ سَلَمَةَ
3034- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ الْبَرَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَهُوَ يَنْقُلُ التُّرَابَ حَتَّى وَارَى التُّرَابُ شَعَرَ صَدْرِهِ ـ وَكَانَ رَجُلًا كَثِيرَ الشَّعَرِ ـ

(6/160)


162 - باب مَنْ لاَ يَثْبُتُ عَلَى الْخَيْلِ
3035- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ عَنْ قَيْسٍ عَنْ جَرِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ مَا حَجَبَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْذُ أَسْلَمْتُ وَلاَ رَآنِي إِلاَّ تَبَسَّمَ فِي وَجْهِي".
[الحديث 3035 – طرفاه في: 3822، 6090]
3036- "وَلَقَدْ شَكَوْتُ إِلَيْهِ إِنِّي لاَ أَثْبُتُ عَلَى الْخَيْلِ فَضَرَبَ بِيَدِهِ فِي صَدْرِي وَقَالَ اللَّهُمَّ ثَبِّتْهُ وَاجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا".
قوله: "باب من لا يثبت على الخيل" أي ينبغي لأهل الخير أن يدعوا له بالثبات، وفيه إشارة إلى فضيلة ركوب الخيل والثبات عليها. حديث جرير "ما حجبني رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت" وسيأتي الكلام عليه في المناقب، وقوله: "إلا تبسم في وجهه" فيه التفات من التكلم إلى الغيبة، ووقع في رواية السرخسي والكشميهني على الأصل بلفظ: "في وجهي" وقوله: "ولقد شكوت إليه أني لا أثبت على الخيل" هو موضع الترجمة وقد تقدم في "باب حرق الدور والنخيل" ويأتي شرحه في المغازي إن شاء الله تعالى. وقوله: "هاديا مهديا" زعم ابن بطال

(6/161)


أن فيه تقديما وتأخيرا قال: لأنه لا يكون هاديا لغيره إلا بعد أن يهتدي هو فيكون مهديا انتهى، وليست هنا صيغة ترتيب.

(6/162)


163 - باب دَوَاءِ الْجُرْحِ بِإِحْرَاقِ الْحَصِيرِ
وَغَسْلِ الْمَرْأَةِ عَنْ أَبِيهَا الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ، وَحَمْلِ الْمَاءِ فِي التُّرْسِ
3037- حدثنا علي بن عبد الله حدثنا سفيان حدثنا أبو حازم قال: "سألوا سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه بأي شيء دووي جرح النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: ما بقي من الناس أحد أعلم به مني، كان علي يجيء بالماء في ترسه وكانت يعني فاطمة تغسل الدم عن وجهه، وأخذ حصير فأحرق ثم حشي به جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم".
قوله: "باب دواء الجرح بإحراق الحصير، وغسل المرأة عن أبيها الدم عن وجهه، وحمل الماء في الترس" اشتمل هذا الباب على ثلاثة أحكام، وحديث الباب ظاهر فيها، وقد أفرد الثاني منها في كتاب الطهارة وأورد فيه هذا الحديث بعينه، وسيأتي شرحه مستوفى في المغازي إن شاء الله تعالى.

(6/162)


164 - باب مَا يُكْرَهُ مِنْ التَّنَازُعِ وَالِاخْتِلاَفِ فِي الْحَرْبِ وَعُقُوبَةِ مَنْ عَصَى إِمَامَهُ
وَقَول اللَّه عزَّ وجلَّ [46 الأنفال]: {وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}
يعني الحرب. قَالَ قَتَادَةُ: الرِّيحُ الْحَرْبُ
3038- حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ مُعَاذًا وَأَبَا مُوسَى إِلَى الْيَمَنِ قَالَ يَسِّرَا وَلاَ تُعَسِّرَا وَبَشِّرَا وَلاَ تُنَفِّرَا وَتَطَاوَعَا وَلاَ تَخْتَلِفَا".
3039- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ قَالَ سَمِعْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يُحَدِّثُ قَالَ جَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الرَّجَّالَةِ يَوْمَ أُحُدٍ وَكَانُوا خَمْسِينَ رَجُلًا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جُبَيْرٍ فَقَالَ إِنْ رَأَيْتُمُونَا تَخْطَفُنَا الطَّيْرُ فَلاَ تَبْرَحُوا مَكَانَكُمْ هَذَا حَتَّى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ وَإِنْ رَأَيْتُمُونَا هَزَمْنَا الْقَوْمَ وَأَوْطَأْنَاهُمْ فَلاَ تَبْرَحُوا حَتَّى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ فَهَزَمُوهُمْ قَالَ فَأَنَا وَاللَّهِ رَأَيْتُ النِّسَاءَ يَشْتَدِدْنَ قَدْ بَدَتْ خَلاَخِلُهُنَّ وَأَسْوُقُهُنَّ رَافِعَاتٍ ثِيَابَهُنَّ فَقَالَ أَصْحَابُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُبَيْرٍ الْغَنِيمَةَ أَيْ قَوْمِ الْغَنِيمَةَ ظَهَرَ أَصْحَابُكُمْ فَمَا تَنْتَظِرُونَ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جُبَيْرٍ أَنَسِيتُمْ مَا قَالَ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا وَاللَّهِ لَنَأْتِيَنَّ النَّاسَ فَلَنُصِيبَنَّ مِنْ الْغَنِيمَةِ فَلَمَّا أَتَوْهُمْ صُرِفَتْ وُجُوهُهُمْ فَأَقْبَلُوا مُنْهَزِمِينَ فَذَاكَ إِذْ يَدْعُوهُمْ الرَّسُولُ فِي أُخْرَاهُمْ فَلَمْ يَبْقَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

(6/162)


165 - باب إِذَا فَزِعُوا بِاللَّيْلِ
3040- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْسَنَ النَّاسِ وَأَجْوَدَ النَّاسِ وَأَشْجَعَ النَّاسِ قَالَ وَقَدْ فَزِعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ لَيْلَةً سَمِعُوا صَوْتًا قَالَ فَتَلَقَّاهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى فَرَسٍ لِأَبِي طَلْحَةَ عُرْيٍ وَهُوَ مُتَقَلِّدٌ سَيْفَهُ فَقَالَ لَمْ تُرَاعُوا لَمْ تُرَاعُوا ثُمَّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وَجَدْتُهُ بَحْرًا يَعْنِي الْفَرَسَ".
قوله: "باب إذا فزعوا بالليل" أي ينبغي لأمير العسكر أن يكشف الخبر بنفسه أو بمن يندبه لذلك. ذكر فيه حديث أنس في فرس أبي طلحة، وقد تقدم شرحه في أواخر الهبة، وتقدم في كتاب الجهاد مرارا.

(6/163)


166 - باب مَنْ رَأَى الْعَدُوَّ فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ يَا صَبَاحَاهْ حَتَّى يُسْمِعَ النَّاسَ
3041- حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ قَالَ خَرَجْتُ مِنْ الْمَدِينَةِ ذَاهِبًا نَحْوَ الْغَابَةِ حَتَّى إِذَا كُنْتُ بِثَنِيَّةِ الْغَابَةِ لَقِيَنِي غُلاَمٌ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قُلْتُ وَيْحَكَ مَا بِكَ قَالَ أُخِذَتْ لِقَاحُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْتُ مَنْ أَخَذَهَا قَالَ غَطَفَانُ وَفَزَارَةُ فَصَرَخْتُ ثَلاَثَ صَرَخَاتٍ أَسْمَعْتُ مَا بَيْنَ لاَبَتَيْهَا يَا صَبَاحَاهْ يَا صَبَاحَاهْ ثُمَّ انْدَفَعْتُ حَتَّى أَلْقَاهُمْ وَقَدْ أَخَذُوهَا فَجَعَلْتُ أَرْمِيهِمْ وَأَقُولُ أَنَا ابْنُ الأَكْوَعِ وَالْيَوْمُ يَوْمُ الرُّضَّعْ فَاسْتَنْقَذْتُهَا مِنْهُمْ قَبْلَ أَنْ يَشْرَبُوا فَأَقْبَلْتُ بِهَا أَسُوقُهَا فَلَقِيَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ الْقَوْمَ عِطَاشٌ وَإِنِّي أَعْجَلْتُهُمْ أَنْ يَشْرَبُوا سِقْيَهُمْ فَابْعَثْ فِي إِثْرِهِمْ فَقَالَ يَا ابْنَ الأَكْوَعِ مَلَكْتَ فَأَسْجِحْ إِنَّ الْقَوْمَ يُقْرَوْنَ فِي قَوْمِهِمْ".
[الحديث 3041 – طرفه في: 4194]
قوله: "باب من رأى العدو فنادى بأعلى صوته يا صباحاه حتى يسمع الناس" ذكر فيه حديث سلمة ابن الأكوع في قصة غطفان وفزارة. وسيأتي شرحه في غزوة ذي قرد من كتاب المغازي. وقوله: "يا صباحاه" هو منادي مستغاث، والألف للاستغاثة والهاء للسكت، وكأنه نادى الناس استغاثة بهم في وقت الصباح. وقال ابن المنير: الهاء للندبة وربما سقطت في الوصل، وقد ثبتت في الرواية فيوقف عليها بالسكون. وكانت عادتهم يغيرون في وقت الصباح، فكأنه قال: تأهبوا لما دهمكم صباحا. وقوله: "الرضع" بتشديد المعجمة بصيغة الجمع، والمراد بهم اللئام أي اليوم يوم هلاك اللئام. وقوله: "فأسجع" بهمزة قطع أي أحسن أو أرفق. وقوله: "يقرون" بضم أوله والتخفيف من القرى، والراء مفتوحة ومضمومة، وقيل: معنى الضم يجمعون الماء واللبن، وقيل: يغزون بغين معجمة وزاي وهو تصحيف. قال ابن المنير: موضع هذه الترجمة أن هذه الدعوة ليست من دعوى الجاهلية المنهي عنها لأنها استغاثة على الكفار.

(6/164)


167 - باب مَنْ قَالَ خُذْهَا وَأَنَا ابْنُ فُلاَنٍ . وَقَالَ سَلَمَةُ خُذْهَا وَأَنَا ابْنُ الأَكْوَعِ
3042- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: "سَأَلَ رَجُلٌ الْبَرَاءَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ يَا أَبَا عُمَارَةَ أَوَلَّيْتُمْ يَوْمَ حُنَيْنٍ قَالَ الْبَرَاءُ وَأَنَا أَسْمَعُ أَمَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُوَلِّ يَوْمَئِذٍ كَانَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ آخِذًا بِعِنَانِ بَغْلَتِهِ فَلَمَّا غَشِيَهُ الْمُشْرِكُونَ نَزَلَ فَجَعَلَ يَقُولُ أَنَا النَّبِيُّ لاَ كَذِبْ أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ قَالَ فَمَا رُئِيَ مِنْ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ أَشَدُّ مِنْهُ".
قوله: "باب من قال خذها وأنا ابن فلان" هي كلمة تقال عند التمدح. قال ابن المنير: موقعها من الأحكام أنها خارجة عن الافتخار المنهي عنه لاقتضاء الحال ذلك. قلت: وهو قريب من جواز الاختيال - بالخاء المعجمة – في

(6/164)


الحرب دون غيرها. قوله: "وقال سلمة خذها وأنا ابن الأكوع" هذا طرف من حديثه المذكور في الباب الذي قبله لكنه بمعناه، وقد أخرجه مسلم بلفظه من طريق أخرى عن سلمة بن الأكوع وقال فيه. "فخرجت في آثار القوم وألحق رجلا منهم فأصكه سهما في رجله حتى خلص نصل السهم من كتفه، قال قلت: خذها وأنا ابن الأكوع، واليوم يوم الرضع" الحديث. ثم ذكر المصنف حديث البراء بن عازب في ثبات النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين. وقوله: "أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب"، وسيأتي شرحه في غزوة حنين إن شاء الله تعالى.

(6/165)


168 - باب إِذَا نَزَلَ الْعَدُوُّ عَلَى حُكْمِ رَجُلٍ
3043- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ هُوَ ابْنُ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "لَمَّا نَزَلَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ عَلَى حُكْمِ سَعْدٍ هُوَ ابْنُ مُعَاذٍ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ قَرِيبًا مِنْهُ فَجَاءَ عَلَى حِمَارٍ فَلَمَّا دَنَا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ فَجَاءَ فَجَلَسَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ إِنَّ هَؤُلاَءِ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِكَ قَالَ فَإِنِّي أَحْكُمُ أَنْ تُقْتَلَ الْمُقَاتِلَةُ وَأَنْ تُسْبَى الذُّرِّيَّةُ قَالَ لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ الْمَلِكِ".
[الحديث 3043 – أطرافه في: 3804، 4121، 6262]
قوله: "باب إذا نزل العدو على حكم رجل" أي فأجازه الإمام نفذ. ذكر فيه حديث أبي سعيد في نزول بني قريظة على حكم سعد بن معاذ، وسيأتي شرحه في غزوة بني قريظة إن شاء الله تعالى. قال ابن المنير: يستفاد من الحديث لزوم حكم المحكم برضا الخصمين.

(6/165)


169 - باب قَتْلِ الأَسِيرِ وَقَتْلِ الصَّبْرِ
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَامَ الْفَتْحِ وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ فَلَمَّا نَزَعَهُ جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ إِنَّ ابْنَ خَطَلٍ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ فَقَالَ: اقْتُلُوهُ".
قوله: "باب قتل الأسير وقتل الصبر" في رواية الكشميهني: "قتل الأسير صبرا" وهي أخصر. أورد فيه حديث أنس في قتل ابن خطل. وقد تقدم شرحه في أواخر الحج، وقد تقدم أن الإمام يتخير - متبعا ما هو الأحظ للإسلام والمسلمين - بين قتل الأسير، أو المن عليه بفداء، أو بغير فداء، أو استرقاقه.

(6/165)


170 - باب هَلْ يَسْتَأْسِرُ الرَّجُلُ وَمَنْ لَمْ يَسْتَأْسِرْ وَمَنْ رَكَعَ رَكْعَتَيْنِ عِنْدَ الْقَتْلِ
3045- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ أَسِيدِ بْنِ جَارِيَةَ الثَّقَفِيُّ وَهُوَ حَلِيفٌ لِبَنِي زُهْرَةَ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:

(6/165)


171 - باب فَكَاكِ الأَسِيرِ. فِيهِ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
3046- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فُكُّوا الْعَانِيَ يَعْنِي الأَسِيرَ وَأَطْعِمُوا الْجَائِعَ وَعُودُوا الْمَرِيضَ".
[الحديث 3046 – أطرافه في: 5174، 5373، 5649، 7173]
3047- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا مُطَرِّفٌ أَنَّ عَامِرًا حَدَّثَهُمْ عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "قُلْتُ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ مِنْ الْوَحْيِ إِلاَّ مَا فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ قَالَ: لاَ وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ مَا أَعْلَمُهُ إِلاَّ فَهْمًا يُعْطِيهِ اللَّهُ رَجُلًا فِي الْقُرْآنِ وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ قُلْتُ وَمَا فِي الصَّحِيفَةِ قَالَ الْعَقْلُ وَفَكَاكُ الأَسِيرِ وَأَنْ لاَ يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ".
قوله: "باب فكاك الأسير" أي من أيدي العدو بمال أو بغيره، والفكاك بفتح الفاء ويجوز كسرها التخليص. وأورد فيه حديثين. أحدهما: حديث أبي موسى: "فكوا العاني" أي الأسير، كذا وقع في تفسير العاني في الحديث، وهو بالمهملة والنون وزن القاضي، والتفسير من قبل جرير أو قتيبة، وإلا فقد أخرج المصنف في الطب من طريق أبي عوانة عن منصور فلم يذكره، وأخرجه في الأطعمة من طريق الثوري عن منصور وقال في آخره: "قال سفيان: العاني الأسير" قال ابن بطال: فكاك الأسير واجب على الكفاية، وبه قال الجمهور. وقال إسحاق بن راهويه: من بيت المال. وروي عن مالك أيضا وقال أحمد يفادي بالرءوس، وأما بالمال فلا أعرفه. ولو كان عند المسلمين أسارى وعند المشركين أسارى واتفقوا على المفاداة تعينت، ولم تجز مفاداة أسارى المشركين بالمال. ثانيهما: حديث أبي جحيفة "قلت لعلي: هل عندكم شيء من الوحي" الحديث، وقد مضى شرحه في كتاب العلم، وسيأتي الكلام على بقية ما فيه في الديات إن شاء الله تعالى.

(6/167)


172 - باب فِدَاءِ الْمُشْرِكِينَ
3048- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُقْبَةَ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ رِجَالًا مِنْ الأَنْصَارِ اسْتَأْذَنُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ فَلْنَتْرُكْ لِابْنِ أُخْتِنَا عَبَّاسٍ فِدَاءَهُ فَقَالَ لاَ تَدَعُونَ مِنْهَا دِرْهَمًا".
3049- وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَالٍ مِنْ

(6/167)


173 - باب الْحَرْبِيِّ إِذَا دَخَلَ دَارَ الإِسْلاَمِ بِغَيْرِ أَمَانٍ
3051- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا أَبُو الْعُمَيْسِ عَنْ إِيَاسِ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَيْنٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَهُوَ فِي سَفَرٍ فَجَلَسَ عِنْدَ أَصْحَابِهِ يَتَحَدَّثُ ثُمَّ انْفَتَلَ. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اطْلُبُوهُ وَاقْتُلُوهُ فَقَتَلَهُ فَنَفَّلَهُ سَلَبَهُ".
قوله: "باب الحربي إذا دخل دار الإسلام بغير أمان" هل يجوز قتله؟ وهي من مسائل الخلاف. قال مالك يتخير فيه الإمام، وحكمه حكم أهل الحرب. وقال الأوزاعي والشافعي: إن ادعى أنه رسول قبل منه. وقال أبو حنيفة وأحمد لا يقبل ذلك منه، وهو فيء للمسلمين. قوله: "أبو العميس" بالمهملتين مصغر. قوله: "عن إياس" بكسر الهمزة وتخفيف التحتانية. وفي رواية الطحاوي من طريق أخرى عن أبي نعيم عن أبي العميس "حدثنا إياس". قوله: "أتى النبي صلى الله عليه وسلم عين من المشركين" لم أقف على اسمه. ووقع في رواية عكرمة ابن عمار عن إياس عند مسلم أن ذلك كان في غزوة هوازن، وسمي الجاسوس عينا لأن جل عمله بعينه، أو لشدة اهتمامه بالرؤية واستغراقه فيها كأن جميع بدنه صار عينا. قوله: "فجلس عند أصحابه يتحدث ثم انفتل" في رواية النسائي من طريق جعفر بن عون عن أبي العميس "فلما طعم انسل" وفي رواية عكرمة عند مسلم: "فقيد الجمل ثم تقدم يتغدى مع

(6/168)


القوم وجعل ينظر، وفينا ضعفة ورقة في الظهر، إذ خرج يشتد". قوله: "اطلبوه واقتلوه" زاد أبو نعيم في "المستخرج" من طريق يحيى الحماني عن أبي العميس "أدركوه فإنه عين" زاد أبو داود عن الحسن بن علي عن أبي نعيم فيه: "فسبقتهم إليه فقتلته". قوله: "فقتلته فنفله سلبه" كذا فيه، وفيه التفات من ضمير المتكلم إلى الغيبة، وكان السياق يقتضي أن يقول فنفلني وهي رواية أبي داود وزاد هو ومسلم من طريق عكرمة بن عمار المذكور "فاتبعه رجل من أسلم على ناقة ورقاء، فخرجت أعدو حتى أخذت بخطام الجمل فأنخته، فلما وضع ركبته بالأرض اخترطت سيفي فأضرب رأسه فبدر، فجئت براحلته وما عليها أقودها، فاستقبلني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من قتل الرج ل؟ قالوا: ابن الأكوع، قال: له سلبه أجمع" وترجم عليه النسائي: "قتل عيون المشركين" وقد ظهر من رواية عكرمة الباعث على قتله وأنه اطلع على عورة المسلمين وبادر ليعلم أصحابه فيغتنمون غرتهم، وكان في قتله مصلحة للمسلمين قال النووي فيه قتل الجاسوس الحربي الكافر وهو باتفاق، وأما المعاهد والذمي فقال مالك والأوزاعي: ينتقض عهده بذلك. وعند الشافعية خلاف. أما لو شرط عليه ذلك في عهده فينتقض اتفاقا. وفيه حجة لمن قال إن السلب كله للقاتل، وأجاب من قال لا يستحق ذلك إلا بقول الإمام أنه ليس في الحديث ما يدل على أحد الأمرين بل هو محتمل لهما، لكن أخرجه الإسماعيلي من طريق محمد بن ربيعة عن أبي العميس بلفظ: "قام رجل فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه عين للمشركين فقال: من قتله فله سلبه، قال فأدركته فقتلته، فنفلني سلبه" فهذا يؤيد الاحتمال الثاني، بل قال القرطبي: لو قال القاتل يستحق السلب بمجرد القتل لم يكن لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "له سلبه أجمع" مزيد فائدة، وتعقب باحتمال أن يكون هذا الحكم إنما ثبت من حينئذ، وقد استدل به على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب لأن قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} عام في كل غنيمة، فبين صلى الله عليه وسلم بعد ذلك بزمن طويل أن السلب للقاتل سواء قيدنا ذلك بقول الإمام أم لا، وأما قول مالك "لم يبلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك إلا يوم حنين" فإن أراد أن ابتداء هذا الحكم كان يوم حنين فهو مردود لكن على غير مالك ممن منعه، فإن مالكا إنما نفي البلاغ، وقد ثبت في سنن أبي داود عن عوف بن مالك أنه قال لخالد بن الوليد في غزوة مؤتة "أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالسلب للقاتل" وكانت مؤتة قبل حنين بالاتفاق. وقال القرطبي: فيه أن للإمام أن ينفل جميع ما أخذته السرية من الغنيمة لمن يراه منهم، وهذا يتوقف على أنه لم يكن غنيمة إلا ذلك السلب. قلت: وما أبداه احتمالا هو الواقع، فقد وقع في رواية عكرمة بن عمار أن ذلك كان في غزوة هوازن وقد اشتهر ما وقع فيها بعد ذلك من الغنائم. قال ابن المنير: ترجم بالحربي إذا دخل بغير أمان وأورد الحديث المتعلق يعين المشركين وهو جاسوسهم، وحكم الجاسوس مخالف لحكم الحربي المطلق الداخل بغير أمان، فالدعوى أعم من الدليل. وأجيب بأن الجاسوس المذكور أوهم أنه ممن لله أمان، فلما قضى حاجته من التجسيس انطلق مسرعا ففطن له فظهر أنه حربي دخل بغير أمان، وقد تقدم بيان الاختلاف فيه.

(6/169)


174 - باب يُقَاتَلُ عَنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَلاَ يُسْتَرَقُّونَ
3052- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ حُصَيْنٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "وَأُوصِيهِ بِذِمَّةِ اللَّهِ وَذِمَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُوفَى لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ وَأَنْ يُقَاتَلَ مِنْ وَرَائِهِمْ وَلاَ يُكَلَّفُوا إِلاَّ طَاقَتَهُمْ".

(6/169)


قوله: "باب يقاتل عن أهل الذمة ولا يسترقون" أي ولو نقضوا العهد، أورد فيه طرفا من قصة قتل عمر بن الخطاب. وهو قوله: "وأوصيه بذمة الله وذمة رسوله" الحديث وسيأتي مبسوطا في المناقب، وقد تعقبه ابن التين بأنه ليس في الحديث ما يدل على ما ترجم به من عدم الاسترتاق، وأجاب ابن المنير بأنه أخذ من قوله: "وأوصيه بذمة الله" فإن مقتضى الوصية بالإشفاق أن لا يدخلوا في الاسترقاق، والذي قال أنهم يسترقون إذا نقضوا العهد ابن القاسم وخالفه أشهب والجمهور، ومحل ذلك إذا سبى الحربي الذمي ثم أسر المسلمون الذمي. وأغرب ابن قدامة فحكى الإجماع، وكأنه لم يطلع على خلاف ابن القاسم، وكأن البخاري اطلع عليه فلذلك ترجم به.

(6/170)


باب جوائز الوفد و باب هل يستشفع إلى أهل الذمة؟ ومعاملتهم
...
175 - بَاب جَوَائِزِ الْوَفْدِ
176 - باب هَلْ يُسْتَشْفَعُ إِلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ؟ وَمُعَامَلَتِهِمْ
3053- حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ الأَحْوَلِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ يَوْمُ الْخَمِيسِ وَمَا يَوْمُ الْخَمِيسِ ثُمَّ بَكَى حَتَّى خَضَبَ دَمْعُهُ الْحَصْبَاءَ فَقَالَ: اشْتَدَّ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعُهُ يَوْمَ الْخَمِيسِ فَقَالَ ائْتُونِي بِكِتَابٍ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ أَبَدًا فَتَنَازَعُوا وَلاَ يَنْبَغِي عِنْدَ نَبِيٍّ تَنَازُعٌ فَقَالُوا هَجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ دَعُونِي فَالَّذِي أَنَا فِيهِ خَيْرٌ مِمَّا تَدْعُونِي إِلَيْهِ وَأَوْصَى عِنْدَ مَوْتِهِ بِثَلاَثٍ أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَأَجِيزُوا الْوَفْدَ بِنَحْوِ مَا كُنْتُ أُجِيزُهُمْ وَنَسِيتُ الثَّالِثَةَ". وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمَّدٍ سَأَلْتُ الْمُغِيرَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ فَقَالَ مَكَّةُ وَالْمَدِينَةُ وَالْيَمَامَةُ وَالْيَمَنُ وَقَالَ يَعْقُوبُ وَالْعَرْجُ أَوَّلُ تِهَامَةَ
قوله: "باب جوائز الوفد"، "باب هل يستشفع إلى أهل الذمة؟ ومعاملتهم" كذا في جميع النسخ من طريق الفربري، إلا أن في رواية أبي علي بن شبوية عن الفربري تأخير ترجمة "جوائز الوفد" عن الترجمة "هل يستشفع" وكذا هو عند الإسماعيلي وبه يرتفع الإشكال، فإن حديث ابن عباس مطابق لترجمة جوائز الوفد لقوله فيه: "وأجيزوا الوفد" بخلاف الترجمة الأخرى، وكأنه ترجم بها وأخلى بياضا ليورد فيها حديثا يناسبها فلم يتفق ذلك. ووقع للنسفي حذف ترجمة جوائز الوفد أصلا، واقتصر على ترجمة هل يستشفع، وأورد فيها حديث ابن عباس المذكور، وعكسه رواية محمد بن حمزة عن الفربري، وفي مناسبته لها غموض، ولعله من جهة أن الإخراج أن الإخراج يقتضي رفع الاستشفاع، والحض على إجازة الوفد يقتضي حسن المعاملة، أو لعل "إلى" في الترجمة بمعنى اللام، أي هل يستشفع لهم عند الإمام وهل يعاملون؟ ودلالة "أخرجوهم من جزيرة العرب" و"أجيزوا الوفد" لذلك ظاهرة والله أعلم. وسيأتي شرح حديث ابن عباس المذكور في الوفاة من آخر المغازي. وقوله: "حدثنا قبيصة" كذا لأكثر الرواة عن الفربري وكذا في رواية النسفي، ولم يقع في الكتاب لقبيصة رواية عن سفيان بن عيينة إلا هذه وروايته فيه عن سفيان الثوري كثيرة جدا، وحكى الجياني عن رواية ابن السكن عن الفربري في هذا "قتيبة" بدل قبيصة، وروايته عن قتيبة لهذا الحديث بعينه ستأتي في أواخر المغازي، وقتيبة مشهور بالرواية عن ابن

(6/170)


عيينة دون قبيصة والحديث حديث ابن عيينة لا الثوري. قوله: "وقال يعقوب بن محمد" أي ابن عيسى الزهري، وأثره هذا وصله إسماعيل القاضي في كتاب أحكام القرآن عن أحمد بن المعدل عن يعقوب، وأخرجه يعقوب بن شبة عن أحمد بن المعدل عن يعقوب ابن محمد عن مالك بن أنس مثله. وقال الزبير بن بكار في "أخبار المدينة" أخبرت عن مالك عن ابن شهاب قال: جزيرة العرب المدينة. قال الزبير: قال غيره جزيرة العرب ما بين العذيب إلى حضر موت، قال الزبير: وهذا أشبه، وحضر موت آخر اليمن. وقال الخليل بن أحمد: سميت جزيرة العرب لأن بحر فارس وبحر الحبشة والفرات ودجلة أحاطت بها، وهي أرض العرب ومعدنها. وقال الأصمعي: هي ما لم يبلغه ملك فارس من أقصى عدن إلى أطراف الشام. وقال أبو عبيد: من أقصى عدن إلى ريف العراق طولا ومن جدة وما والاها من الساحل إلى أطراف الشام عرضا قوله: "قال يعقوب والعرج أول تهامة" العرج بفتح المهلة وسكون الراء بعدها جيم موضع بين مكة والمدينة، وهو غير العرج بفتح الراء الذي من الطائف. وقال الأصمعي جزيرة العرب ما بين أقصى عدن أبين إلى ريف العراق طولا ومن جدة وما والاها إلى أطراف الشام عرضا، وسميت جزيرة العرب لإحاطة البحار بها، يعني بحر الهند وبحر القلزم وبحر فارس وبحر الحبشة، وأضيفت إلى العرب لأنها كانت بأيديهم قبل الإسلام وبها أوطانهم ومنازلهم، لكن الذي يمنع المشركون من سكناه منها الحجاز خاصة وهو مكة والمدينة اليمامة ما والاها، لا فيما سوى ذلك مما يطلق عليه اسم جزيرة العرب، لاتفاق الجميع على أن اليمن لا يمنعون منها مع أنها من جملة جزيرة العرب، هذا مذهب الجمهور. وعن الحنفية يجوز مطلقا إلا المسجد، وعن مالك يجوز دخولهم الحرم للتجارة. وقال الشافعي لا يدخلون الحرم أصلا إلا بإذن الإمام لمصلحة المسلمين خاصة.

(6/171)


177 - باب التَّجَمُّلِ لِلْوُفُودِ
3054- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ وَجَدَ عُمَرُ حُلَّةَ إِسْتَبْرَقٍ تُبَاعُ فِي السُّوقِ فَأَتَى بِهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ابْتَعْ هَذِهِ الْحُلَّةَ فَتَجَمَّلْ بِهَا لِلْعِيدِ وَلِلْوُفُودِ. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا هَذِهِ لِبَاسُ مَنْ لاَ خَلاَقَ لَهُ أَوْ إِنَّمَا يَلْبَسُ هَذِهِ مَنْ لاَ خَلاَقَ لَهُ فَلَبِثَ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِجُبَّةِ دِيبَاجٍ فَأَقْبَلَ بِهَا عُمَرُ حَتَّى أَتَى بِهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قُلْتَ إِنَّمَا هَذِهِ لِبَاسُ مَنْ لاَ خَلاَقَ لَهُ أَوْ إِنَّمَا يَلْبَسُ هَذِهِ مَنْ لاَ خَلاَقَ لَهُ ثُمَّ أَرْسَلْتَ إِلَيَّ بِهَذِهِ فَقَالَ تَبِيعُهَا أَوْ تُصِيبُ بِهَا بَعْضَ حَاجَتِكَ".
قوله: "باب التجمل للوفد" ذكر فيه حديث ابن عمر في حلة عطارد. وسيأتي شرحه في اللباس. قال ابن المنير: موضع الترجمة أنه ما أنكر عليه طلبه للتجمل للوفود ولما ذكر، وإنما أنكر التجمل بهذا الصنف المنهي عنه.

(6/171)


178 - باب كَيْفَ يُعْرَضُ الإِسْلاَمُ عَلَى الصَّبِيِّ؟
3055- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا هِشَامٌ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ

(6/171)


179 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْيَهُودِ أَسْلِمُوا تَسْلَمُوا. قَالَهُ الْمَقْبُرِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
قوله: "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لليهود أسلموا تسلموا قاله المقبري عن أبي هريرة" هو طرف من حديث سيأتي موصولا مع الكلام عليه في الجزية.

(6/175)


180 - باب إِذَا أَسْلَمَ قَوْمٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَهُمْ مَالٌ وَأَرَضُونَ فَهِيَ لَهُمْ
3058- حَدَّثَنَا مَحْمُودٌ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: "قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيْنَ تَنْزِلُ غَدًا فِي حَجَّتِهِ. قَالَ: وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مَنْزِلًا؟ ثُمَّ قَالَ نَحْنُ نَازِلُونَ غَدًا بِخَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ الْمُحَصَّبِ حَيْثُ قَاسَمَتْ قُرَيْشٌ عَلَى الْكُفْرِ وَذَلِكَ أَنَّ بَنِي كِنَانَةَ حَالَفَتْ قُرَيْشًا عَلَى بَنِي هَاشِمٍ أَنْ لاَ يُبَايِعُوهُمْ وَلاَ يُؤْوُوهُمْ". قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَالْخَيْفُ: الْوَادِي.
3059- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ "أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اسْتَعْمَلَ مَوْلًى لَهُ يُدْعَى هُنَيًّا عَلَى الْحِمَى فَقَالَ يَا هُنَيُّ اضْمُمْ جَنَاحَكَ عَنْ الْمُسْلِمِينَ وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ مُسْتَجَابَةٌ وَأَدْخِلْ رَبَّ الصُّرَيْمَةِ وَرَبَّ الْغُنَيْمَةِ وَإِيَّايَ وَنَعَمَ ابْنِ عَوْفٍ وَنَعَمَ ابْنِ عَفَّانَ فَإِنَّهُمَا إِنْ تَهْلِكْ مَاشِيَتُهُمَا يَرْجِعَا إِلَى نَخْلٍ وَزَرْعٍ وَإِنَّ رَبَّ الصُّرَيْمَةِ وَرَبَّ الْغُنَيْمَةِ إِنْ تَهْلِكْ مَاشِيَتُهُمَا يَأْتِنِي بِبَنِيهِ فَيَقُولُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَفَتَارِكُهُمْ أَنَا لاَ أَبَا لَكَ فَالْمَاءُ وَالْكَلاَ أَيْسَرُ عَلَيَّ مِنْ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ وَايْمُ اللَّهِ إِنَّهُمْ لَيَرَوْنَ أَنِّي قَدْ ظَلَمْتُهُمْ إِنَّهَا لَبِلاَدُهُمْ فَقَاتَلُوا عَلَيْهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَأَسْلَمُوا عَلَيْهَا فِي الإِسْلاَمِ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلاَ الْمَالُ الَّذِي أَحْمِلُ عَلَيْهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا حَمَيْتُ عَلَيْهِمْ مِنْ بِلاَدِهِمْ شِبْرًا".
قوله: "باب إذا أسلم قوم في دار الحرب ولهم مال وأرضون فهي لهم" أشار بذلك إلى الرد على من قال من الحنفية إن الحربي إذا أسلم في دار الحرب وأقام بها حتى غلب المسلمون عليها فهو أحق بجميع ماله إلا أرضه وعقاره فإنها تكون فيئا للمسلمين، وقد خالفهم أبو يوسف في ذلك فوافق الجمهور، ويوافق الترجمة حديث أخرجه أحمد عن صخر بن العيلة البجلي قال: "فر قوم من بني سلم عن أرضهم فأخذتها، فأسلموا وخاصموني إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فردها عليهم قال: إذا أسلم الرجل فهو أحق بأرضه وماله". قوله: "حدثنا محمود" هو ابن غيلان، وقوله: "حدثنا عبد

(6/175)


181 - باب كِتَابَةِ الإِمَامِ النَّاسَ
3060- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:

(6/177)


قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اكْتُبُوا لِي مَنْ تَلَفَّظَ بِالإِسْلاَمِ مِنْ النَّاسِ فَكَتَبْنَا لَهُ أَلْفًا وَخَمْسَ مِائَةِ رَجُلٍ فَقُلْنَا نَخَافُ وَنَحْنُ أَلْفٌ وَخَمْسُ مِائَةٍ فَلَقَدْ رَأَيْتُنَا ابْتُلِينَا حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيُصَلِّي وَحْدَهُ وَهُوَ خَائِفٌ". حَدَّثَنَا عَبْدَانُ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ الأَعْمَشِ فَوَجَدْنَاهُمْ خَمْسَ مِائَةٍ. قَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ: "مَا بَيْنَ سِتِّمِائَةٍ إِلَى سَبْعِمِائَةٍ".
3061- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي كُتِبْتُ فِي غَزْوَةِ كَذَا وَكَذَا وَامْرَأَتِي حَاجَّةٌ قَالَ ارْجِعْ فَحُجَّ مَعَ امْرَأَتِكَ".
قوله: "باب كتابة الإمام الناس" أي من المقاتلة أو غيرهم، والمراد ما هو أعم من كتابته بنفسه أو بأمره. قوله: "حدثنا محمد بن يوسف" هو الفريابي، وسفيان هو الثوري. قوله: "اكتبوا لي من تلفظ بالإسلام" في رواية أبا معاوية عن الأعمش عند مسلم: "احصوا" بدل اكتبوا، وهي أعم من اكتبوا، وقد يفسر احصوا باكتبوا. قوله: "فقلنا نخاف" هو استفهام تعجب وحذفت منه أداة الاستفهام وهي مقدرة، وزاد أبو معاوية في روايته: "فقال إنكم لا تدرون لعلكم أن تبتلوا" وكأن ذلك وقع عند ترقب ما يخاف منه، ولعله كان عند خروجهم إلى أحد أو غيرها. ثم رأيت في شرح ابن التين الجزم بأن ذلك كان عند حفر الخندق. وحكى الداودي احتمال أن ذلك وقع لما كانوا بالحديبية لأنه قد اختلف في عددهم هل كانوا ألفا وخمسمائة أو ألفا وأربعمائة أو غير ذلك مما سيأتي في مكانه وأما قول حذيفة "فلقد رأيتنا ابتلينا إلخ" فيشبه أن يكون أشار بذلك إلى ما وقع في أواخر خلافة عثمان من ولاية بعض أمراء الكوفة كالوليد بن عقبة حيث كان يؤخر الصلاة أو لا يقيمها على وجهها، وكان بعض الورعين يصلي وحده سرا ثم يصلي معه خشية من وقوع الفتنة، وقيل كان ذلك حين أتم عثمان الصلاة في السفر وكان بعضهم يقصر سرا وحده خشية الإنكار عليه، ووهم من قال إن ذلك كان أيام قتل عثمان لأن حذيفة لم يحضر ذلك، وفي ذلك علم من أعلام النبوة من الإخبار بالشيء قبل وقوعه، وقد وقع أشد من ذلك بعد حذيفة في زمن الحجاج وغيره. قوله: "حدثنا عبدان عن أبي حمزة عن الأعمش فوجدناهم خمسمائة" يعني أن أبا حمزة خالف الثوري عن الأعمش في هذا الحديث بهذا السند فقال خمسمائة ولم يذكر الألف. قوله: "قال أبو معاوية ما بين ستمائة إلى سبعمائة" أي أن أبا معاوية خالف الثوري أيضا عن الأعمش بهذا الإسناد في العدة، وطريق أبي معاوية هذه وصلها مسلم وأحمد والنسائي وابن ماجه، وكأن رواية الثوري رجحت عند البخاري فلذلك اعتمدها لكونه أحفظهم مطلقا وزاد عليهم، وزيادة الثقة الحافظ مقدمة، وأبو معاوية وإن كان أحفظ أصحاب الأعمش بخصوصه ولذلك اقتصر مسلم على روايته لكنه لم يجزم بالعدد فقدم البخاري رواية الثوري لزيادتها بالنسبة لرواية الاثنين ولجزمها بالنسبة لرواية أبي معاوية، وأما ما ذكره الإسماعيلي أن يحيى بن سعيد الأموي وأبا بكر بن عياش وافقا أبا حمزة في قوله خمسمائة فتتعارض الأكثرية والأحفظية فلا يخفى بعد ذلك الترجيح بالزيادة، وبهذا يظهر رجحان نظر البخاري على غيره. وسلك الداودي الشارح طريق الجمع فقال: لعلهم كتبوا مرات في مواطن. وجميع بعضهم بأن المراد بالألف وخمسمائة جميع من أسلم من رجل وامرأة وعبد وصبي، وبما بين الستمائة إلى السبعمائة الرجال خاصة وبالخمسمائة المقاتلة خاصة. وهو

(6/178)


أحسن من الجمع الأول وإن كان بعضهم أبطله بقوله في الرواية الأولى ألف وخمسمائة رجل لإمكان أن يكون الراوي أراد بقوله رجل نفس، وجمع بعضهم بأن المراد بالخمسمائة المقاتلة من أهل المدينة خاصة، وبما بين الستمائة إلى السبعمائة هم ومن ليس بمقاتل، وبالألف وخمسمائة هم ومن حولهم من أهل القرى والبوادي. قلت: ويخدش في وجوه هذه الاحتمالات كلها اتحاد مخرج الحديث ومداره على الأعمش بسنده واختلاف أصحابه عليه في العدد المذكور. والله أعلم. وفي الحديث مشروعية كتابة دواوين الجيوش، وقد يتعين ذلك عند الاحتياج إلى تمييز من يصلح للمقاتلة. بمن لا يصلح، وفيه وقوع العقوبة على الإعجاب بالكثرة وهو نحو قوله تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} الآية. وقال ابن المنير: موضع الترجمة من الفقه أن لا يتخيل أن كتابة الجيش وإحصاء عدده يكون ذريعة لارتفاع البركة، بل الكتابة المأمور بها لمصلحة دينية، والمؤاخذة التي وقعت في حنين كانت من جهة الإعجاب. حديث ابن عباس "قال رجل يا رسول الله إني اكتتبت في غزوة كذا" وهو يرجح الرواية الأولى بلفظ: "اكتبوا" لأنها مشعرة بأنه كان من عادتهم كتابة من يتعين للخروج في المغازي، وقد تقدم شرح الحديث في الحج مستوفى.

(6/179)


182 - باب إِنَّ اللَّهَ يُؤَيِّدُ الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ
3062- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ ح و حَدَّثَنِي مَحْمُودُ بْنُ غَيْلاَنَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ ابْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ شَهِدْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِرَجُلٍ مِمَّنْ يَدَّعِي الإِسْلاَمَ هَذَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَلَمَّا حَضَرَ الْقِتَالُ قَاتَلَ الرَّجُلُ قِتَالًا شَدِيدًا فَأَصَابَتْهُ جِرَاحَةٌ فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ الَّذِي قُلْتَ لَهُ إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَإِنَّهُ قَدْ قَاتَلَ الْيَوْمَ قِتَالًا شَدِيدًا وَقَدْ مَاتَ. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِلَى النَّارِ" قَالَ: فَكَادَ بَعْضُ النَّاسِ أَنْ يَرْتَابَ فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ إِذْ قِيلَ إِنَّهُ لَمْ يَمُتْ وَلَكِنَّ بِهِ جِرَاحًا شَدِيدًا فَلَمَّا كَانَ مِنْ اللَّيْلِ لَمْ يَصْبِرْ عَلَى الْجِرَاحِ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَأُخْبِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ فَقَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ أَشْهَدُ أَنِّي عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ ثُمَّ أَمَرَ بِلاَلًا فَنَادَى بِالنَّاسِ إِنَّهُ لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلاَّ نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ وَإِنَّ اللَّهَ لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ".
[الحديث 3062 – أطرافه في: 4203، 4204، 6606]
قوله: "باب إن الله ليؤيد الدين بالرجل الفاجر" ذكر فيه حديث أبي هريرة في قصة الرجل الذي قاتل وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنه من أهل النار" وظهر بعد ذلك أنه قتل نفسه. وسيأتي شرحه مستوفى في المغازي، وهو ظاهر فيما ترجم به، وساقه هنا على لفظ معمر وهذا هو السبب في عطفه لطريقه على طريق شعيب. وقال المهلب وغيره: لا يعارض هذا قوله صلى الله عليه وسلم: "لا نستعين بمشرك" لأنه إما خاص بذلك الوقت، وإما أن يكون المراد به الفاجر غير المشرك. قلت: الحديث أخرجه مسلم، وأجاب عنه الشافعي بالأول، وحجة النسخ شهود صفوان بن أمية حنينا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو مشرك وقصته مشهورة في المغازي، وأجاب غيره في الجمع بينهما بأوجه غير هذه: منها أنه

(6/179)


صلى الله عليه وسلم تفرس في الذي قال له "لا أستعين بمشرك" الرغبة في الإسلام فرده رجاء أن يسلم فصدق ظنه؛ ومنها أن الأمر فيه إلى رأي الإمام، وفي كل منهما نظر من جهة أنها نكرة في سياق النفي فيحتاج مدعي التخصيص إلى دليل. وقال الطحاوي: قصة صفوان لا تعارض قوله: "لا أستعين بمشرك" لأن صفوان خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم باختياره لا بأمر النبي صلى الله عليه وسلم له بذلك، قلت: وهي تفرقة لا دليل عليها ولا أثر لها؛ وبيان ذلك أن المخالف لا يقول به مع الإكراه، وأما الأمر فالتقرير يقوم مقامه. قال ابن المنير: موضع الترجمة من الفقه أن لا يتخيل في الإمام إذا حمى حوزة الإسلام وكان غير عادل أنه يطرح النفع في الدين لفجوره فيجوز الخروج عليه، فأراد أن هذا التخيل مندفع بهذا النص، وأن الله قد يؤيد دينه بالفاجر، وفجوره على نفسه.

(6/180)


183 - باب مَنْ تَأَمَّرَ فِي الْحَرْبِ مِنْ غَيْرِ إِمْرَةٍ إِذَا خَافَ الْعَدُوَّ
3063- حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلاَلٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ ثُمَّ أَخَذَهَا جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ ثُمَّ أَخَذَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ ثُمَّ أَخَذَهَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ غَيْرِ إِمْرَةٍ فَفُتِحَ عَلَيْهِ وَمَا يَسُرُّنِي أَوْ قَالَ مَا يَسُرُّهُمْ أَنَّهُمْ عِنْدَنَا وَقَالَ: وَإِنَّ عَيْنَيْهِ لَتَذْرِفَانِ".
قوله: "باب من تأمر في الحرب من غير إمرة إذا خاف العدو" أي جاز ذلك. حديث أنس في قصة أخذ خالد الراية في يوم مؤتة، وسيأتي شرحه في كتاب المغازي إن شاء الله تعالى، وهو ظاهر فما ترجم له به أيضا. قال ابن المنير: يؤخذ من حديث الباب أن من يعين لولاية وتعذرت مراجعة الإمام أن الولاية تثبت لذلك المعين شرعا وتجب طاعته حكما. كذا قال، ولا يخفى أن محله ما إذا اتفق الحاضرون عليه. قال: ويستفاد منه صحة مذهب مالك في أن المرأة إذا لم يكن لها ولي إلا السلطان فتعذر إذن السلطان أن يزوجها الآحاد، وكذا إذا غاب إمام الجمعة قدم الناس لأنفسهم.

(6/180)


184 - باب الْعَوْنِ بِالْمَدَدِ
3064- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ وَسَهْلُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَاهُ رِعْلٌ وَذَكْوَانُ وَعُصَيَّةُ وَبَنُو لَحْيَانَ فَزَعَمُوا أَنَّهُمْ قَدْ أَسْلَمُوا وَاسْتَمَدُّوهُ عَلَى قَوْمِهِمْ فَأَمَدَّهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبْعِينَ مِنْ الأَنْصَارِ قَالَ أَنَسٌ كُنَّا نُسَمِّيهِمْ الْقُرَّاءَ يَحْطِبُونَ بِالنَّهَارِ وَيُصَلُّونَ بِاللَّيْلِ فَانْطَلَقُوا بِهِمْ حَتَّى بَلَغُوا بِئْرَ مَعُونَةَ غَدَرُوا بِهِمْ وَقَتَلُوهُمْ فَقَنَتَ شَهْرًا يَدْعُو عَلَى رِعْلٍ وَذَكْوَانَ وَبَنِي لَحْيَانَ قَالَ قَتَادَةُ وَحَدَّثَنَا أَنَسٌ أَنَّهُمْ قَرَءُوا بِهِمْ قُرْآنًا أَلاَ بَلِّغُوا عَنَّا قَوْمَنَا بِأَنَّا قَدْ لَقِيَنَا رَبَّنَا فَرَضِيَ عَنَّا وَأَرْضَانَا ثُمَّ رُفِعَ ذَلِكَ بَعْدُ".
قوله: "باب العون بالمدد" بفتح الميم: ما يمد به الأمير بعض العسكر من الرجال. ذكر فيه حديث أنس في قصة

(6/180)


185 - باب مَنْ غَلَبَ الْعَدُوَّ فَأَقَامَ عَلَى عَرْصَتِهِمْ ثَلاَثًا
3065- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ ذَكَرَ لَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ أَبِي طَلْحَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا ظَهَرَ عَلَى قَوْمٍ أَقَامَ بِالْعَرْصَةِ ثَلاَثَ لَيَالٍ". تَابَعَهُ مُعَاذٌ وَعَبْدُ الأَعْلَى "حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ عَنْ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
[الحديث 3065 – طرفه في: 3976]
قوله: "باب من غلب العدو فأقام على عرصتهم ثلاثا" العرصة بفتح المهلتين وسكون الراء بينهما: هي البقعة الواسعة بغير بناء من دار وغيرها. قوله: "ذكر لنا أنس بن مالك عن أبي طلحة" كذا رواه قتادة، ورواه ثابت عن أنس بغير ذكر أبي طلحة، وهذه الطريق عن روح بن عبادة عن سعيد وهو ابن أبي عروبة مختصرة. وقد أوردها المصنف في المغازي في غزوة بدر عن شيخ آخر عن روح بأتم من هذا السياق، ويأتي شرحه هناك إن شاء الله تعالى. قوله: "تابعه معاذ وعبد الأعلى عن قتادة إلخ" أما متابعة معاذ وهو ابن معاذ العنبري فوصلها أصحاب السنن الثلاثة من طريقه ولفظه: "أحب أن يقيم بالعرصة ثلاثا" وأما متابعة عبد الأعلى وهو ابن عبد الأعلى السامي بالمهملة فوصلها أبو بكر بن أبي شيبة عنه ومن طريق الإسماعيلي. وأخرجها مسلم عن يوسف بن حماد عنه، قال المهلب: حكمة الإقامة لإراحة الظهر والأنفس، ولا يخفى أن محله إذا كان في أمن من عدو وطارق، والاقتصار على ثلاث يؤخذ منه أن الأربعة إقامة. وقال ابن الجوزي: إنما كان يقيم ليظهر تأثير الغلبة وتنفيذ الأحكام وقلة الاحتفال، فكأنه يقول: من كانت فيه قوة منكم فليرجع إلينا. وقال ابن المنير: يحتمل أن يكون المراد أن تقع ضيافة الأرض التي وقعت فيها المعاصي بإيقاع الطاعة فيها بذكر الله وإظهار شعار المسلمين. وإذا كان ذلك في حكم الضيافة ناسب أن يقيم عليها ثلاثا لأن الضيافة ثلاثة.

(6/181)


186 - باب مَنْ قَسَمَ الْغَنِيمَةَ فِي غَزْوِهِ وَسَفَرِهِ
وَقَالَ رَافِعٌ كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ فَأَصَبْنَا غَنَمًا وَإِبِلًا فَعَدَلَ عَشَرَةً مِنْ الْغَنَمِ بِبَعِيرٍ
3066- حَدَّثَنَا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ أَنَسًا أَخْبَرَهُ قَالَ: "اعْتَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْجِعْرَانَةِ حَيْثُ قَسَمَ غَنَائِمَ حُنَيْنٍ".
قوله: "باب من قسم الغنيمة في غزوه وسفره" أشار بذلك إلى الرد على قول الكوفيين إن الغنائم لا تقسم في دار الحرب، واعتلوا بأن الملك لا يتم عليها إلا بالاستيلاء، ولا يتم الاستيلاء إلا بإحرازها في دار الإسلام. وقال

(6/181)


187 - باب إِذَا غَنِمَ الْمُشْرِكُونَ مَالَ الْمُسْلِمِ ثُمَّ وَجَدَهُ الْمُسْلِمُ
3067- وقَالَ ابْنُ نُمَيْرٍ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "ذَهَبَ فَرَسٌ لَهُ فَأَخَذَهُ الْعَدُوُّ فَظَهَرَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ فَرُدَّ عَلَيْهِ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَقَ عَبْدٌ لَهُ فَلَحِقَ بِالرُّومِ فَظَهَرَ عَلَيْهِمْ الْمُسْلِمُونَ فَرَدَّهُ عَلَيْهِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
[الحديث 3067 – طرفاه في: 3068، 3069]
3068- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ أَخْبَرَنِي نَافِعٌ "أَنَّ عَبْدًا لِابْنِ عُمَرَ أَبَقَ فَلَحِقَ بِالرُّومِ فَظَهَرَ عَلَيْهِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فَرَدَّهُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ وَأَنَّ فَرَسًا لِابْنِ عُمَرَ عَارَ فَلَحِقَ بِالرُّومِ فَظَهَرَ عَلَيْهِ فَرَدُّوهُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ".
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: عَارَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْعَيْرِ وَهُوَ حِمَارُ وَحْشٍ أَيْ هَرَبَ
3069- حدثنا أحمد بن يونس حدثنا زهير عن موسى بن عقبة عن نافع عن بن عمر رضي الله عنهما أنه "كان على فرس يوم لقي المسلمون وأمير المسلمين يومئذ خالد بن الوليد بعثه أبو بكر فأخذه العدو فلما هزم العدو رد خالد فرسه".
قوله: "باب إذا غنم المشركون مال المسلم ثم وجده المسلم" أي هل يكون أحق به، أو يدخل الغنيمة؟ وهذا مما اختلف فيه، فقال الشافعي وجماعة: لا يملك أهل الحرب بالغلبة شيئا من مال المسلم، ولصاحبه أخذه قبل القسمة وبعدها. وعن علي والزهري وعمرو بن دينار والحسن: لا يرد أصلا، ويختص به أهل المغانم. وقال عمر وسليمان بن ربيعة وعطاء والليث ومالك وأحمد وآخرون، وهي رواية عن الحسن أيضا ونقلها ابن أبي الزناد عن أبيه عن الفقهاء السبعة: إن وجده صاحبه قبل القسمة فهو أحق به، وإن وجده بعد القسمة فلا يأخذه إلا بالقسمة، واحتجوا بحديث عن ابن عباس مرفوعا بهذا التفصيل أخرجه الدار قطني وإسناده ضعيف جدا، وعن أبي حنيفة كقول مالك إلا في الآبق فقال هو والثوري: صاحبه أحق به مطلقا. قوله: "وقال ابن نمير" يعني عبد الله، وطريقه هذه وصلها أبو داود وابن ماجه. قوله: "ذهب وقوله فأخذه" في رواية الكشميهني: "ذهبت" وقال: "فأخذها" والفرس اسم جنس يذكر ويؤنث. قوله: "في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم" كذا وقع في رواية ابن نمير أن قصة الفرس

(6/182)


في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وقصة العبد بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وخالفه يحيى وهو القطان عن عبيد الله وهو العمري كما هي الرواية الثانية في الباب فجعلهما معا بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وكذا وقع في رواية موسى ابن عقبة عن نافع وهي الرواية الثالثة في الباب فصرح بأن قصة الفرس كانت في زمن أبي بكر، وقد وافق ابن نمير إسماعيل بن زكريا أخرجه الإسماعيلي من طريقه، وأخرجه من طريق ابن المبارك عن عبيد الله فلم يعين الزمان، لكن قال في روايته: "إنه افتدى الغلام بروميين" وكأن هذا الاختلاف هو السبب في ترك المصنف الجزم في الترجمة بالحكم لتردد الرواة في رفعه ووقفه، لكن للقائل به أن يحتج بوقوع ذلك في زمن أبي بكر الصديق والصحابة متوافرون من غير نكير منهم. وقوله في رواية موسى بن عقبة "يوم لقي المسلمون" كذا هنا بحذف المفعول، وبينه الإسماعيلي في روايته عن محمد بن عثمان بن أبي شيبة وأبو نعيم من طريق أحمد ابن يحيى الحلواني كلاهما عن أحمد بن يونس شيخ البخاري فيه فقال فيه: "يوم لقي المسلمون طيئا وأسدا" وزاد فيه سبب أخذ العدو لفرس ابن عمر ففيه: "فاقتحم الفرس بعبد الله بن عمر جرفا فصرعه وسقط ابن عمر فعار الفرس" والباقي مثله، وروى عبد الرزاق أن العبد الذي أبق لابن عمر كان يوم اليرموك، أخرجه عن معمر عن أيوب عن نافع عنه. قوله: "قال أبو عبد الله عار" بمهملة وراء مشتق من العير "وهو حمار وحش، أي هرب" قال ابن التين: أراد أنه فعل فعله في النفار. وقال الخليل: يقال عار الفرس والكلب عيارا أي أفلت وذهب. وقال الطبري: يقال ذلك للفرس إذا فعله مرة بعد مرة، ومنه قيل للبطال من الرجال الذي لا يثبت على طريقه: عيار، ومنه سهم عاير إذا كان لا يدري من أين أتى.

(6/183)


188 - باب مَنْ تَكَلَّمَ بِالْفَارِسِيَّةِ وَالرَّطَانَةِ
وَقَوْلِ الله عزَّ وجلَّ [22 الروم]: {وَاخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ}
وقال [4 إبراهيم]: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ}
3070- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ أَخْبَرَنَا حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مِينَاءَ قَالَ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَبَحْنَا بُهَيْمَةً لَنَا وَطَحَنْتُ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ فَتَعَالَ أَنْتَ وَنَفَرٌ فَصَاحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا أَهْلَ الْخَنْدَقِ إِنَّ جَابِرًا قَدْ صَنَعَ سُؤْرًا فَحَيَّ هَلًا بِكُمْ".
[الحديث 3070 – طرفاه في: 4101، 4102]
3071- حَدَّثَنَا حِبَّانُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ عَنْ خَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أُمِّ خَالِدٍ بِنْتِ خَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ قَالَتْ: "أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَبِي وَعَلَيَّ قَمِيصٌ أَصْفَرُ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سَنَهْ سَنَهْ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ وَهِيَ بِالْحَبَشِيَّةِ حَسَنَةٌ قَالَتْ فَذَهَبْتُ أَلْعَبُ بِخَاتَمِ النُّبُوَّةِ فَزَبَرَنِي أَبِي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دَعْهَا ثُمَّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَبْلِي وَأَخْلِفِي ثُمَّ أَبْلِي وَأَخْلِفِي ثُمَّ أَبْلِي وَأَخْلِفِي قَالَ عَبْدُ اللَّهِ فَبَقِيَتْ حَتَّى ذَكَرَ".
[الحديث 3071 – أطرافه في: 3874، 5823، 5845، 5993]
3072- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ

(6/183)


عَنْهُ "أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ أَخَذَ تَمْرَةً مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ فَجَعَلَهَا فِي فِيهِ. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: بِالْفَارِسِيَّةِ "كِخْ كِخْ أَمَا تَعْرِفُ أَنَّا لاَ نَأْكُلُ الصَّدَقَةَ".
قوله: "باب من تكلم بالفارسية" أي بلسان الفرس، قيل إنهم ينتسبون إلى فارس بن كومرث، واختلف في كومرث قيل إنه من ذرية سام بن نوح وقيل من ذرية يافث بن نوح وقيل إنه ولد آدم لصلبه وقيل إنه آدم نفسه وقيل لهم الفرس لأن جدهم الأعلى ولد له سبعة عشر ولدا كان كل منهم شجاعا فارسا فسموا الفرس، وفيه نظر لأن الاشتقاق يختص باللسان العربي والمشهور أن إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام أول من ذللت له الخيل، والفروسية ترجع إلى الفرس من الخيل وأمة الفرس كانت موجودة. قوله: "والرطانة" بكسر الراء ويجوز فتحها، هو كلام غير العربي، قالوا: فقه هذا الباب يظهر في تأمين المسلمين لأهل الحرب بألسنتهم، وسيأتي مزيد لذلك في أواخر الجزية في "باب إذا قالوا صبأنا ولم يقولوا أسلمنا" وقال الكرماني: الحديث الأول كان في غزوة الخندق والآخران بالتبعية، كذا قال، ولا يخفى بعده، والذي أشرت إليه أقرب. قوله: "وقول الله عز وجل: {وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ}" كأنه أشار إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرف الألسنة لأنه أرسل إلى الأمم كلها على اختلاف ألسنتهم فجميع الأمم قومه بالنسبة إلى عموم رسالته فاقتضى أن يعرف ألسنتهم ليفهم عنهم ويفهموا عنه، ويحتمل أن يقال: لا يستلزم ذلك نطقه بجميع الألسنة لإمكان الترجمان الموثوق به عندهم. حديث جابر في قصة بركة الطعام الذي صنعه بالخندق، وسيأتي بتمامه بهذا الإسناد مع شرحه في المغازي إن شاء الله تعالى، والغرض منه قوله: "أن جابرا قد صنع سورا" وهو بضم المهملة وسكون الواو قال الطبري: السور بغير همز الصنيع من الطعام الذي يدعى إليه وقيل الطعام مطلقا، وهو بالفارسية وقيل بالحبشية، وبالهمز بقية الشيء والأول هو المراد هنا. قال الإسماعيلي: السور كلمة بالفارسية. قيل له أليس هو الفضلة؟ قال لم يكن هناك شيء فضل ذلك منه، إنما هو بالفارسية من أتى دعوة. وأشار المصنف إلى ضعف ما ورد من الأحاديث الواردة في كراهة الكلام بالفارسية كحديث: "كلام أهل النار بالفارسية" وكحديث: "من تكلم بالفارسية زادت في خبثه ونقصت من مروءته" أخرجه الحاكم في مستدركه وسنده واه. وأخرج فيه أيضا عن عمر رفعه: "من أحسن العربية فلا يتكلمن: بالفارسية فإنه يورث النفاق" الحديث وسنده واه أيضا. حديث أم خالد بنت خالد، وسيأتي بهذا الإسناد في كتاب الأدب، ويأتي شرحه في اللباس، والغرض منه قوله: "سنه سنه " وهو بفتح النون وسكون الهاء. وفي رواية الكشميهني: "سناه" بزيادة ألف والهاء فيهما للسكت وقد تحذف، قال ابن قرقول: هو بفتح النون الخفيفة عند أبي ذر وشددها الباقون وهي بفتح أوله للجميع إلا القابسي فكسره. قوله في آخره "قال عبد الله فبقيت حتى ذكر" أي ذكر الراوي من بقائها أمدا طويلا، وفي نسخة الصغاني وغيرها "حتى ذكرت" ولبعضهم "حتى دكن" بمهملة وآخره نون أي اتسخ، وسيأتي في كتاب الأدب. ووقع في نسخة الصغاني هنا من الزيادة في آخر الباب: "قال أبو عبد الله هو المصنف: "لم تعش امرأة مثل ما عاشت هذه يعني أم خالد". قلت: وإدراك موسى بن عقبة دال على طول عمرها لأنه لم يلق من الصحابة غيرها. "تنبيه": خالد بن سعيد المذكور في السند شيخ عبد الله وهو ابن المبارك هو خالد

(6/184)


ابن سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص أخو إسحاق بن سعيد وليس له في البخاري سوى هذا الحديث الواحد، وقد كرره عنه كما نبهت عليه. وفي طبقته خالد بن سعيد بن أبي مريم المدني لكن لم يخرج له البخاري ولا لابن المبارك عنه رواية، وأوهم الكرماني أن شيخ ابن المبارك هنا هو خالد بن الزبير بن العوام. ولا أدري من أين له ذلك؟ بل لم أر لخالد بن الزبير رواية في شيء من الكتب الستة. ثم راجعت كلامه فعلمت مراده فإنه قال: لفظ خالد المذكور هنا ثلاث مرار، والثاني غير الأول، وهو خالد بن الزبير بن العوام، والثالث غير الثاني وهو خالد بن سعيد بن العاص، فقوله: "والثاني" يوهم أن المراد خالد بن سعيد وإنما مراده خالد المذكور في كنية أم خالد، وكان يغني عن هذا التطويل أن يقول: إن أم خالد سمت ولدها باسم والدها، وكان الزبير بن العوام تزوجها فولدت له خالد بن الزبير، فهذا يوضح المراد مع مزيد الفائدة. والذي نبه عليه ليس تحته كبير أمر، فإن خالد بن سعيد الراوي عن أم خالد لا يظن أحد أنه أبوها إلا من يقف مع مجرد التجويز العقلي، فإن من المقطوع به عند المحدثين أن عبد الله بن المبارك ما أدركها فضلا عن أن يروي عن أبيها، وأبوها استشهد في خلافة أبي بكر أو عمر فانحصرت الفائدة في التنبيه على سبب كنية أم خالد. حديث أبي هريرة "أن الحسن بن علي أخذ تمرة من تمر الصدقة" الحديث والغرض منه قوله: "كخ كخ" وهي كلمة زجر للصبي عما يريد فعله، وقد تقدم شرحه في أواخر كتاب الزكاة وقد نازع الكرماني في كون الألفاظ الثلاثة عجمية، لأن الأول يجوز أن يكون من توافق اللغتين، والثاني يجوز أن يكون أصله "حسنه" فحذف أوله إيجازا، والثالث من أسماء الأصوات وقد أجاب عن الأخير ابن المنير فقال: وجه مناسبته أنه صلى الله عليه وسلم خاطبه بما يفهمه مما لا يتكلم به الرجل مع الرجل، فهو كمخاطبة العجمي بما يفهمه من لغته. قلت: وبهذا يجاب عن الباقي، ويزاد بأن تجويزه حذف أول حرف من الكلمة لا يعرف، وتشبيهه بقوله: "كفى بالسيف شا" لا يتجه، لأن حذف الأخير معهود في الترخيم، والله أعلم.

(6/185)


189 - بَاب الْغُلُولِ. وَقَوْلِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ [161 آل عمران]: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ}
3073- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ أَبِي حَيَّانَ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو زُرْعَةَ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "قَامَ فِينَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ الْغُلُولَ فَعَظَّمَهُ وَعَظَّمَ أَمْرَهُ قَالَ لاَ أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ شَاةٌ لَهَا ثُغَاءٌ عَلَى رَقَبَتِهِ فَرَسٌ لَهُ حَمْحَمَةٌ يَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي فَأَقُولُ لاَ أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ وَعَلَى رَقَبَتِهِ بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ يَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي فَأَقُولُ لاَ أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ وَعَلَى رَقَبَتِهِ صَامِتٌ فَيَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي فَأَقُولُ لاَ أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ أَوْ عَلَى رَقَبَتِهِ رِقَاعٌ تَخْفِقُ فَيَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي فَأَقُولُ لاَ أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ" . وَقَالَ أَيُّوبُ عَنْ أَبِي حَيَّانَ: "فَرَسٌ لَهُ حَمْحَمَةٌ".
قوله: "باب الغلول" بضم المعجمة واللام، أي الخيانة في المغنم. قال ابن قتيبة: سمي بذلك لأن آخذه يغله في متاعه، أي يخفيه فيه. ونقل النووي الإجماع على أنه من الكبائر. قوله: وقول الله عز وجل: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ القِيَامَةِ}. أورد فيه حديث أبي هريرة "قام فينا النبي صلى الله عليه وسلم فذكر الغلول فعظمه" الحديث. ويحيى هو

(6/185)


القطان، وأبو حيان هو يحيى بن سعيد التيمي. قوله: "لا ألفين" بضم أوله وبالفاء أي لا أجد، هكذا الرواية للأكثر بلفظ النفي المؤكد والمراد به النهي وبالفاء وكذا عند الحموي والمستملي، لكن روى بفتح الهمزة وبالقاف من اللقاء وكذا لبعض رواة مسلم والمعنى قريب. ومنهم من حذف الألف على أن اللام للقسم وفي توجيهه تكلف، والمعروف أنه بلفظ النفي المراد به النهي، وهو وإن كان من نهي المرء نفسه فليس المراد ظاهره، وإنما المراد نهي من يخاطبه عن ذلك وهو أبلغ. قوله: "أحدكم يوم القيامة على رقبته" في رواية مسلم "يجئ يوم القيامة وعلى رقبته" وهو حال من الضمير في يجئ، و"شاة" فاعل الظرف لاعتماده أي هي حالة شنيعة ولا ينبغي لكم أن أراكم عليها يوم القيامة. وفي حديث عبادة بن الصامت في السنن "إياكم والغلول، فإنه عار على أهله يوم القيامة". قوله: "شاة لها ثغاء" بضم المثلثة وتخفيف المعجمة وبالمد صوت الشاة يقال ثغت تثغو، وقوله فرس له حمحمة يأتي في آخر الحديث. قوله: "لا أملك لك شيئا" أي من المغفرة، لأن الشفاعة أمرها إلى الله، وقوله: "قد بلغتك" أي فليس لك عذر بعد الإبلاغ، وكأنه صلى الله عليه وسلم أبرز هذا الوعيد في مقام الزجر والتغليظ وإلا فهو في القيامة صاحب الشفاعة في مذنبي الأمة. قوله: "بعير له رغاء" بضم الراء وتخفيف المعجمة وبالمد صوت البعير. قوله: "صامت" أي الذهب والفضة، وقيل ما لا روح فيه من أصناف المال. وقوله: "رقاع تخفق " أي تتقعقع وتضطرب إذا حركتها الرياح، وقيل معناه تلمع والمراد بها الثياب قاله ابن الجوزي. وقال الحميدي: المراد بها ما عليه من الحقوق المكتوبة في الرقاع، واستبعده ابن الجوزي لأن الحديث سيق لذكر الغلول الحسي فحمله على الثياب أنسب، وزاد في رواية مسلم: "نفس لها صياح" وكأنه أراد بالنفس ما يغله من الرقيق من امرأة أو صبي قال المهلب: هذا الحديث وعيد لمن أنفذه الله عليه من أهل المعاصي، ويحتمل أن يكون الحمل المذكور لا بد منه عقوبة له بذلك ليفتضح على رءوس الأشهاد، وأما بعد ذلك فإلي الله الأمر في تعذيبه أو العفو عنه. وقال غيره: هذا الحديث يفسر قوله عز وجل: { َيأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي يأت به حاملا له على رقبته، ولا يقال إن بعض ما يسرق من النقد أخف من البعير مثلا والبعير أرخص ثمنا فكيف يعاقب الأخف جناية بالأثقل وعكسه؟ لأن الجواب أن المراد بالعقوبة بذلك فضيحة الحامل على رءوس الأشهاد في ذلك الموقف العظيم لا بالثقل والخفة، قال بن المنير: أظن الأمراء فهموا تجريس السارق ونحوه من هذا الحديث، وقد تقدم شرح بعض هذا الحديث في أوائل الزكاة. "تكميل" قال ابن المنذر: أجمعوا على أن على الغال أن يعيد ما غل قبل القسمة، وأما بعدها فقال الثوري والأوزاعي والليث ومالك: يدفع إلى الإمام خمسه ويتصدق بالباقي، وكان الشافعي لا يرى بذلك ويقول إن كان ملكه فليس عليه أن يتصدق به، وإن كان لم يملكه فليس له الصدقة بمال غيره، قال: والواجب أن يدفعه إلى الإمام كالأموال الضائعة. قوله: "وقال أيوب عن أبي حيان فرس له حمحمة" كذا للأكثر في الموضعين "فرس له حمحمة" بمهملتين مفتوحتين بينهما ميم ساكنة ثم ميم قبل الهاء، وهو صوت الفرس عند العلف، وهو دون الصهيل. ووقع في رواية الكشميهني في الرواية الأولى "على رقبته له حمحمة" بحذف لفظ فرس، وكذا هو في رواية النسفي وأبي علي بن شبويه فعلى هذا تكون فائدة ذكر طريق أيوب التنصيص على ذكر الفرس. ولمسلم من أيوب وصلها مسلم من طريق حماد ومن طريق عبد الوارث جميعا عن أيوب عن أبي حيان عن أبي زرعة عن

(6/186)


أبي هريرة ولم يسق لفظها، وقد رويناها في كتاب الزكاة ليوسف القاضي بالحديث بتمامه وفيه: "ويجئ رجل على عنقه فرس له حمحمة" ورأيت في بعض النسخ في الرواية الأولى "فرس له حمحة" بميم واحدة ولا معنى له، فإن كان مضبوطا فكأنه نبه بهذه الرواية المعلقة على وجه الصواب.

(6/187)


190 - باب الْقَلِيلِ مِنْ الْغُلُولِ
وَلَمْ يَذْكُرْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ حَرَّقَ مَتَاعَهُ، وَهَذَا أَصَحُّ.
3074- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ كَانَ عَلَى ثَقَلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ كِرْكِرَةُ فَمَاتَ. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هُوَ فِي النَّارِ فَذَهَبُوا يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ فَوَجَدُوا عَبَاءَةً قَدْ غَلَّهَا".
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: قَالَ ابْنُ سَلاَمٍ: كَرْكَرَةُ يَعْنِي بِفَتْحِ الْكَافِ وَهُوَ مَضْبُوطٌ كَذَا
قوله: "باب القليل من الغلول" أي هل يلتحق بالكثير في الحكم أم لا؟ قوله: "ولم يذكر عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حرق متاعه" يعني في حديثه الذي ساقه في الباب في قصة الذي غل العباءة. وقوله: "وهذا أصح" أشار إلى تضعيف ما روي عن عبد الله بن عمرو في الأمر بحرق رحل الغال، والإشارة بقوله هذا إلى الحديث الذي ساقه، والأمر بحرق رحل الغال أخرجه أبو داود من طريق صالح بن محمد بن زائدة الليثي المدني أحد الضعفاء قال: "دخلت مع مسلمة ابن عبد الملك أرض الروم فأتى برجل قد غل، فسأل سالما - أي ابن عبد الله بن عمر - عنه فقال: سمعت أبي يحدث عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا وجدتم الرجل قد غل فأحرقوا متاعه" ثم ساقه من وجه أخر عن سالم موقوفا، قال أبو داود: هذا أصح. وقال البخاري في التاريخ: يحتجون بهذا الحديث في إحراق رحل الغال، وهو باطل ليس له أصل وراويه لا يعتمد عليه، وروى الترمذي عنه أيضا أنه قال: صالح منكر الحديث. وقد جاء في غير حديث ذكر الغال وليس فيه الأمر بحرق متاعه. قلت: وجاء من غير طريق صالح بن محمد أخرجه أبو داود أيضا من طريق زهير بن محمد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، ثم أخرجه من وجه آخر عن زهير عن عمرو بن شعيب موقوفا عليه وهو الراجح، وقد أخذ بظاهر هذا الحديث أحمد في رواية، وهو قول مكحول والأوزاعي، وعن الحسن: يحرق متاعه كله إلا الحيوان والمصحف. وقال الطحاوي: لو صح الحديث لاحتمل أن يكون حين كانت العقوبة بالمال. "تنبيه": حكى بعض الشراح عن رواية الأصيلي أنه وقع فيها هنا "ويذكر عن عبد الله بن عمرو الخ" بدل قوله: "ولم يذكر عبد الله بن عمرو" فإن كان كما ذكر فقد عرف المراد بذلك ويكون قوله هذا أصح إشارة إلى أن حديث الباب الذي لم يذكر فيه التحريق أصح من الرواية التي ذكرها بصيغة التمريض وهي التي أشرت إليها من نسخة عمرو بن شعيب. قوله: "عن عمرو" هو ابن دينار، وكذا هو عند ابن ماجه عن هشام بن عمار عن سفيان. قوله: "على ثقل" بمثلثة وقاف مفتوحتين: العيال وما يثقل حمله من الأمتعة. قوله: "كركرة" ذكر الواقدي أنه كان أسود يمسك دابة صلى الله عليه وسلم في القتال، وروى أبو سعيد النيسابوري في "شرف المصطفى" أنه كان نوبيا أهداه له هوذة بن علي الحنفي صاحب اليمامة فأعتقه، وذكر

(6/187)


البلاذري أنه مات في الرق أو اختلف في ضبطه فذكر عياض أنه يقال بفتح الكافين وبكسرهما. وقال النووي إنما اختلف في كافه الأولى وأما الثانية فمكسورة اتفاقا، وقد أشار البخاري إلى الخلاف في ذلك بقوله في آخر الحديث: "قال ابن سلام كركرة" وأراد بذلك أن شيخه محمد بن سلام رواه عن ابن عيينة بهذا الإسناد بفتح الكاف، وصرح بذلك الأصيلي في روايته فقال: يعني بفتح الكاف والله أعلم. قال عياض: هو للأكثر بالفتح في رواية علي وبالكسر في رواية ابن سلام وعند الأصيلي بالكسر في الأول. وقال القابسي: لم يكن عند المروزي فيه ضبط إلا أني أعلم أن الأول خلاف الثاني. وفي الحديث تحريم قليل الغلول وكثيره، و قوله: "هو في النار" أي يعذب على معصيته، أو المراد هو في النار إن لم يعف الله عنه.

(6/188)


191 - باب مَا يُكْرَهُ مِنْ ذَبْحِ الإِبِلِ وَالْغَنَمِ فِي الْمَغَانِمِ
3075- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبَايَةَ بْنِ رِفَاعَةَ عَنْ جَدِّهِ رَافِعٍ قَالَ: "كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ فَأَصَابَ النَّاسَ جُوعٌ وَأَصَبْنَا إِبِلًا وَغَنَمًا وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أُخْرَيَاتِ النَّاسِ فَعَجِلُوا فَنَصَبُوا الْقُدُورَ فَأَمَرَ بِالْقُدُورِ فَأُكْفِئَتْ ثُمَّ قَسَمَ فَعَدَلَ عَشَرَةً مِنْ الْغَنَمِ بِبَعِيرٍ فَنَدَّ مِنْهَا بَعِيرٌ وَفِي الْقَوْمِ خَيْلٌ يَسِيرَةٌ فَطَلَبُوهُ فَأَعْيَاهُمْ فَأَهْوَى إِلَيْهِ رَجُلٌ بِسَهْمٍ فَحَبَسَهُ اللَّهُ فَقَالَ هَذِهِ الْبَهَائِمُ لَهَا أَوَابِدُ كَأَوَابِدِ الْوَحْشِ فَمَا نَدَّ عَلَيْكُمْ فَاصْنَعُوا بِهِ هَكَذَا فَقَالَ جَدِّي إِنَّا نَرْجُو أَوْ نَخَافُ أَنْ نَلْقَى الْعَدُوَّ غَدًا وَلَيْسَ مَعَنَا مُدًى أَفَنَذْبَحُ بِالْقَصَبِ فَقَالَ مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلْ لَيْسَ السِّنَّ وَالظُّفُرَ وَسَأُحَدِّثُكُمْ عَنْ ذَلِكَ أَمَّا السِّنُّ فَعَظْمٌ وَأَمَّا الظُّفُرُ فَمُدَى الْحَبَشَةِ".
قوله: "باب ما يكره من ذبح الإبل والغنم في المغانم" ذكر فيه حديث رافع بن خديج في ذبحهم الإبل التي أصابوها لأجل الجوع ونصبهم، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بإكفاء القدور. وفيه قصة البعير الذي ند، وفيه السؤال عن الذبح بالقصب وسيأتي الكلام على شرحه مستوفى في كتاب الذبائح، وقد مضى في الشركة وغيرها، وموضع الترجمة منه أمره صلى الله عليه وسلم بإكفاء القدور فإنه مشعر بكراهة ما صنعوا من الذبح بغير إذن. وقال المهلب: إنما أكفأ القدور ليعلم أن الغنيمة إنما يستحقونها بعد قسمته لها، وذلك أن القصة وقعت في دار الإسلام لقوله فيها "بذي الحليفة" وأجاب ابن المنير بأنه قد قيل إن الذبح إذا كان على طريق التعدي كان المذبوح ميتة، وكأن البخاري انتصر لهذا المذهب أو حمل الإكفاء على العقوبة بالمال وإن كان ذلك المال لا يختص بأولئك الذين ذبحوا، لكن لما تعلق به طمعهم. كانت النكاية حاصلة لهم، قال: وإذا جوزنا هذا النوع من العقوبة فعقوبة صاحب المال في ماله أولى، ومن ثم قال مالك: يراق اللبن المغشوش ولا يترك لصاحبه وإن زعم أنه ينتفع به بغير البيع أدبا له، انتهى. وقال القرطبي: المأمور بإكفائه إنما هو المرق عقوبة للذين تعجلوا، وأما نفس اللحم فلم يتلف، بل يحمل على أنه جمع ورد إلى المغانم لأن النهي عن إضاعة المال تقدم، والجناية بطبخه لم تقع من الجميع إذ من جملتهم أصحاب الخمس ومن الغانمين من لم يباشر ذلك، وإذا لم ينقل أنهم أحرقوه وأتلفوه تعين تأويله على وفق القواعد الشرعية، ولهذا

(6/188)


قال في الحمر الأهلية لما أمر بإراقتها "إنها رجس" ولم يقل ذلك في هذه القصة، فدل على أن لحومها لم تترك بخلاف تلك والله أعلم. وسيأتي بيان ما أبيح للغازي من الأكل من المغانم ما داموا في بلاد العدو في "باب ما يصيب من الطعام في أرض الحرب في أواخر فرض الخمس".

(6/189)


192 - باب الْبِشَارَةِ فِي الْفُتُوحِ
3076- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي قَيْسٌ قَالَ قَالَ لِي جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلاَ تُرِيحُنِي مِنْ ذِي الْخَلَصَةِ وَكَانَ بَيْتًا فِيهِ خَثْعَمُ يُسَمَّى كَعْبَةَ الْيَمَانِيَةِ فَانْطَلَقْتُ فِي خَمْسِينَ وَمِائَةٍ مِنْ أَحْمَسَ وَكَانُوا أَصْحَابَ خَيْلٍ فَأَخْبَرْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنِّي لاَ أَثْبُتُ عَلَى الْخَيْلِ فَضَرَبَ فِي صَدْرِي حَتَّى رَأَيْتُ أَثَرَ أَصَابِعِهِ فِي صَدْرِي فَقَالَ اللَّهُمَّ ثَبِّتْهُ وَاجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا فَانْطَلَقَ إِلَيْهَا فَكَسَرَهَا وَحَرَّقَهَا فَأَرْسَلَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبَشِّرُهُ فَقَالَ رَسُولُ جَرِيرٍ لِرَسُولِ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا جِئْتُكَ حَتَّى تَرَكْتُهَا كَأَنَّهَا جَمَلٌ أَجْرَبُ فَبَارَكَ عَلَى خَيْلِ أَحْمَسَ وَرِجَالِهَا خَمْسَ مَرَّاتٍ". قَالَ مُسَدَّدٌ: "بَيْتٌ فِي خَثْعَمَ".
قوله: "باب البشارة في الفتوح" ذكر فيه حديث جرير في قصة ذي الخلصة. وسيأتي شرحه في أواخر المغازي والمراد منه قوله في آخره: "فأرسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يبشره" وقوله في آخره: "قال مسدد بيت في خثعم" يريد أن مسددا رواه عن يحيى القطان بالإسناد الذي ساقه المصنف عن محمد بن المثنى عن يحيى فقال: بدل قوله: "وكان بيتا في خثعم"(1) وهذه الرواية هي الصواب. وقد رواه أحمد في مسنده عن يحيى فقال: "بيتا لخثعم" وهي موافقة لرواية مسدد.
ـــــــ
(1) عبارة القسطلاني: بدل قوله: "وكان بيتا فيه خثعم: بيت في خثعم" وهو الصواب. ونبه عليه مصحح طبعة بولاق

(6/189)


193 - باب مَا يُعْطَى الْبَشِيرُ. وَأَعْطَى كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ ثَوْبَيْنِ حِينَ بُشِّرَ بِالتَّوْبَةِ
قوله: "باب ما يعطى للبشير وأعطى كعب بن مالك ثوبين حين بشر بالتوبة" يشير إلى حديثه الطويل في قصة تخلفه في غزوة تبوك، وسيأتي في المغازي، وهو ظاهر فيما ترجم له، وسيأتي أن البشير هو سلمة ابن الأكوع.

(6/189)


194 - باب لاَ هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ
3077- حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ لاَ هِجْرَةَ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا".
3078، 3079- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ عَنْ خَالِدٍ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ

(6/189)


195 - باب إِذَا اضْطَرَّ الرَّجُلُ إِلَى النَّظَرِ فِي شُعُورِ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَالْمُؤْمِنَاتِ إِذَا عَصَيْنَ اللَّهَ وَتَجْرِيدِهِنَّ
3081- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَوْشَبٍ الطَّائِفِيُّ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ أَخْبَرَنَا حُصَيْنٌ عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَكَانَ عُثْمَانِيًّا فَقَالَ لِابْنِ عَطِيَّةَ وَكَانَ عَلَوِيًّا: "إِنِّي لاَعْلَمُ مَا الَّذِي جَرَّأَ صَاحِبَكَ عَلَى الدِّمَاءِ سَمِعْتُهُ يَقُولُ بَعَثَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالزُّبَيْرَ فَقَالَ ائْتُوا رَوْضَةَ كَذَا وَتَجِدُونَ بِهَا امْرَأَةً أَعْطَاهَا حَاطِبٌ كِتَابًا فَأَتَيْنَا الرَّوْضَةَ فَقُلْنَا الْكِتَابَ قَالَتْ لَمْ يُعْطِنِي فَقُلْنَا لَتُخْرِجِنَّ أَوْ لاَجَرِّدَنَّكِ فَأَخْرَجَتْ مِنْ حُجْزَتِهَا فَأَرْسَلَ إِلَى حَاطِبٍ فَقَالَ لاَ تَعْجَلْ وَاللَّهِ مَا كَفَرْتُ وَلاَ ازْدَدْتُ لِلْإِسْلاَمِ إِلاَّ حُبًّا وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِكَ إِلاَّ وَلَهُ بِمَكَّةَ مَنْ يَدْفَعُ اللَّهُ بِهِ عَنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَلَمْ يَكُنْ لِي أَحَدٌ فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَدًا فَصَدَّقَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ عُمَرُ دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَهُ فَإِنَّهُ قَدْ نَافَقَ فَقَالَ مَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَهَذَا الَّذِي جَرَّأَهُ".

(6/190)


قوله: "باب إذا اضطر الرجل إلى النظر في شعور أهل الذمة والمؤمنات إذا عصين الله وتجريدهن" ورد فيه حديث علي في قصة المرأة التي كتب معها حاطب إلى أهل مكة، ومناسبته للترجمة ظاهرة في رؤية الشعر من قوله في الروايات الأخرى "فأخرجته من عقاصها" وهي ذوائبها المضفورة، وفي التجريد من قول علي "لأجردنك". وقد تقدم في "باب الجاسوس" من وجه آخر عن علي، ويأتي شرحه في تفسير سورة الممتحنة. وقوله في الإسناد "عن أبي عبد الرحمن" هو السلمي. وقوله: "وكان عثمانيا" أي يقدم عثمان على علي في الفضل. وقوله: "فقال لابن عطية" هو حبان بكسر المهملة وبالموحدة على الصحيح كما سيأتي في استتابة المرتدين. وقوله: "وكان علويا" أي يقدم عليا في الفضل على عثمان وهو مذهب مشهور لجماعة من أهل السنة بالكوفة. قال ابن المنير: ليس في الحديث بيان هل كانت المرأة مسلمة أو ذمية، لكن لما استوى حكمها في تحريم النظر لغير حاجة شملهما الدليل. وقال ابن التين: إن كانت مشركة لم توافق الترجمة، وأجيب بأنها كانت ذات عهد فحكمها حكم أهل الذمة. وقوله: "فأخرجت من حجزتها" كذا هنا بحذف المفعول، وفي الأخرى "فأخرجته" والحجزة بضم المهملة وسكون الجيم بعدها زاي: معقد الإزار والسراويل، ووقع في رواية القابسي "من حزتها" بحذف الجيم، قيل هي لغة عامية، وتقدم في "باب الجاسوس" أنها أخرجته من عقاصها، وجمع بينهما بأنها أخرجته من حجرتها فأخفته في عقاصها ثم اضطرت إلى إخراجه أو بالعكس، أو بأن تكون عقيصتها طويلة بحيث تصل إلى حجزتها فربطته في عقيصتها وغرزته بحجزتها وهذا الاحتمال أرجح. وأجاب بعضهم باحتمال أن يكون معها كتابان إلى طائفتين، أو المراد بالحجزة العقدة مطلقا وتكون رواية العقيصة أوضح من رواية الحجزة، أو المراد بالحجزة الحبل لأن الحجز هو شد وسط يدي البعير بحبل ثم يخالف فتعقد رجلاه ثم يشد طرفاه إلى حقويه. ويسمى أيضا الحجاز.

(6/191)


196 - باب اسْتِقْبَالِ الْغُزَاةِ
3082- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الأَسْوَدِ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ وَحُمَيْدُ بْنُ الأَسْوَدِ عَنْ حَبِيبِ بْنِ الشَّهِيدِ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ "قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ لِابْنِ جَعْفَرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَتَذْكُرُ إِذْ تَلَقَّيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا وَأَنْتَ وَابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ نَعَمْ فَحَمَلَنَا وَتَرَكَكَ".
3083- حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: "قَالَ السَّائِبُ بْنُ يَزِيدَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ذَهَبْنَا نَتَلَقَّى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ الصِّبْيَانِ إِلَى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ".
[الحديث 3083 – طرفاه في: 4426، 4427]
قوله: "باب استقبال الغزاة" أي عند رجوعهم. قوله: "حدثنا عبد الله بن الأسود" في رواية الكشميهني بن أبي الأسود، وهو عبد الله بن محمد بن حميد الأسود وحميد جده يكنى أبا الأسود وهو الذي قرنه بيزيد بن زريع فنسب تارة إلى جده وأخرى إلى جد أبيه، وما لحميد بن الأسود في البخاري سوى هذا الحديث وآخر في تفسير سورة البقرة. وقرنه فيه أيضا بيزيد بن زريع. وعبد الله شيخ البخاري يكنى أبا بكر وهو بها أشهر، وكان من الحفاظ، وهو ابن أخت عبد الرحمن بن مهدي. قوله: "قال ابن الزبير لابن جعفر" كل منهما يسمى عبد الله.

(6/191)


قوله: "قال نعم فحملنا وتركك" ظاهره أن القائل "فحملنا" هو عبد الله بن جعفر وأن المتروك هو ابن الزبير، وأخرجه مسلم من طريق أبي أسامة وابن علية كلاهما عن حبيب بن الشهيد بهذا الإسناد مقلوبا ولفظه "قال عبد الله بن جعفر لابن الزبير" جعل المستفهم عبد الله بن جعفر والقائل "فحملنا" عبد الله بن الزبير والذي في البخاري أصح، ويؤيده ما تقدم في الحج عن ابن عباس قال: "لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة استقبلته أغيلمة من بني عبد المطلب فحمل واحدا بين يديه وآخر خلفه" فإن ابن جعفر من بني عبد المطلب بخلاف ابن الزبير وإن كان عبد المطلب جد أبيه لكنه جده لأمه. وأخرج أحمد والنسائي من طريق خالد بن سارة عن عبد الله بن جعفر أن النبي صلى الله عليه وسلم حمله خلفه وحمل قثم بن عباس بين يديه، وقد حكى ابن التين عن الداودي أنه قال: في هذا الحديث من الفوائد حفظ اليتيم، يشير إلى أن جعفر بن أبي طالب كأن مات فعطف النبي صلى الله عليه وسلم على ولده عبد الله فحمله بين يديه، وهو كما قال. وأغرب ابن التين فقال: إن في الحديث النص بأنه صلى الله عليه وسلم حمل ابن عباس وابن الزبير ولم يحمل ابن جعفر، قال: ولعل الداودي ظن أن قوله: "فحملنا وتركك" من كلام ابن جعفر وليس كذلك، كذا قال، والذي قاله الداودي هو الظاهر من سياق البخاري، فما أدري كيف قال ابن التين إنه نص في خلافه، وقد نبه عياض على أن الذي وقع في البخاري هو الصواب، قال: وتأويل رواية مسلم أن يجعل الضمير في "حملنا" لابن جعفر فيكون المتروك ابن الزبير، قال ووقع على الصواب أيضا عند ابن أبي شيبة وابن أبي خيثمة وغيرهما. قلت: وقد روي أحمد الحديث عن ابن علية فبين سبب الوهم ولفظه مثل مسلم، لكن زاد بعد قوله: "قال نعم: قال فحملنا" قال أحمد "وحدثنا به مرة أخرى فقال فيه: قال نعم فحملنا" يعنى وأسقط "قال" التي بعد نعم. قلت: وبإثباتها توافق رواية البخاري وبحذفها تخالفها والله أعلم. وفي حديث ابن جعفر أيضا جواز الفخر بما يقع من إكرام النبي صلى الله عليه وسلم، وثبوت الصحبة له ولابن الزبير - وهما متقاربان في السن - وقد حفظا غير هذا. ثم ذكر المصنف حديث السائب بن يزيد في الملاقاة، وسيأتي في أواخر المغازي. ووقع لابن التين هنا في المراد بثنية الوداع شيء رده عليه شيخنا ابن الملقن، والصواب مع ابن التين.

(6/192)


197 - باب مَا يَقُولُ إِذَا رَجَعَ مِنْ الْغَزْوِ
3084- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا قَفَلَ كَبَّرَ ثَلاَثًا قَالَ آيِبُونَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَائِبُونَ عَابِدُونَ حَامِدُونَ لِرَبِّنَا سَاجِدُونَ صَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَهَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ"
3085- حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ قَالَ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقْفَلَهُ مِنْ عُسْفَانَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَاحِلَتِهِ وَقَدْ أَرْدَفَ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ فَعَثَرَتْ نَاقَتُهُ فَصُرِعَا جَمِيعًا فَاقْتَحَمَ أَبُو طَلْحَةَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ قَالَ عَلَيْكَ الْمَرْأَةَ فَقَلَبَ ثَوْبًا عَلَى وَجْهِهِ وَأَتَاهَا فَأَلْقَاهُ عَلَيْهَا وَأَصْلَحَ لَهُمَا مَرْكَبَهُمَا فَرَكِبَا وَاكْتَنَفْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

(6/192)


فَلَمَّا أَشْرَفْنَا عَلَى الْمَدِينَةِ قَالَ آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ فَلَمْ يَزَلْ يَقُولُ ذَلِكَ حَتَّى دَخَلَ الْمَدِينَةَ".
3086- حَدَّثَنَا عَلِيٌّ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ "عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أَقْبَلَ هُوَ وَأَبُو طَلْحَةَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَفِيَّةُ مُرْدِفَهَا عَلَى رَاحِلَتِهِ فَلَمَّا كَانُوا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ عَثَرَتْ النَّاقَةُ فَصُرِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمَرْأَةُ وَإِنَّ أَبَا طَلْحَةَ قَالَ أَحْسِبُ قَالَ اقْتَحَمَ عَنْ بَعِيرِهِ فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ هَلْ أَصَابَكَ مِنْ شَيْءٍ قَالَ لاَ وَلَكِنْ عَلَيْكَ بِالْمَرْأَةِ فَأَلْقَى أَبُو طَلْحَةَ ثَوْبَهُ عَلَى وَجْهِهِ فَقَصَدَ قَصْدَهَا فَأَلْقَى ثَوْبَهُ عَلَيْهَا فَقَامَتْ الْمَرْأَةُ فَشَدَّ لَهُمَا عَلَى رَاحِلَتِهِمَا فَرَكِبَا فَسَارُوا حَتَّى إِذَا كَانُوا بِظَهْرِ الْمَدِينَةِ أَوْ قَالَ أَشْرَفُوا عَلَى الْمَدِينَةِ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ فَلَمْ يَزَلْ يَقُولُهَا حَتَّى دَخَلَ الْمَدِينَةَ".
قوله: "باب ما يقول إذا رجع من الغزو" ذكر فيه حديثين. أحدهما: حديث ابن عمر في قوله: "آيبون تائبون" الحديث، وقد تقدم شرحه في أواخر الحج. ثانيهما: حديث أنس في قصة وقوع صفية عن الناقة أخرجه من وجهين الثاني منهما في رواية الكشميهني وحده، وسيأتي شرحه في غزوة خيبر إن شاء الله تعالى. وقوله فيه: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم مقفله من عسفان" قال الدمياطي هذا وهم لأن غزوة عسفان إلى بني لحيان كانت سنة ست، وإرداف صفية كان في غزوة خيبر سنة سبع، وجوز بعضهم أن يكون في طريق خيبر مكان يقال له عسفان وهو مردود، والذي يظهر أن الراوي أضاف المقفل إلى عسفان لأن غزوة خيبر كانت عقبها وكأنه لم يعتد بالإقامة المتخللة بين الغزوتين لتقاربهما، وهذا كما قيل في حديث سلمة بن الأكوع الآتي في تحريم المتعة في غزوة أوطاس، وإنما كان تحريم المتعة بمكة فأضافها إلى أوطاس لتقاربهما، والعلم عند الله تعالى.

(6/193)


198 - باب الصَّلاَةِ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ
3087- حدثنا سليمان بن حرب حدثنا شعبة عن محارب بن دثار قال سمعت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: "كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فلما قدمنا المدينة قال لي ادخل المسجد فصل ركعتين".
3088- حدثنا أبو عاصم عن بن جريج عن بن شهاب عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب عن أبيه وعمه عبيد الله بن كعب عن كعب رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قدم من سفر ضحى دخل المسجد فصلى ركعتين قبل أن يجلس".
قوله: "باب الصلاة إذا قدم من سفر" ذكر فيه حديث جابر في ذلك، وقد تقدم في أبواب الصلاة، وهو ظاهر فيما ترجم له، وكذا الذي بعده، وحديث كعب بن مالك تقدم في الصلاة أيضا، وهو طرف من حديثه الطويل.

(6/193)


199 - باب الطَّعَامِ عِنْدَ الْقُدُومِ. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُفْطِرُ لِمَنْ يَغْشَاهُ
3089- حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ نَحَرَ جَزُورًا أَوْ بَقَرَةً زَادَ مُعَاذٌ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ مُحَارِبٍ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ اشْتَرَى مِنِّي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعِيرًا بِوَقِيَّتَيْنِ وَدِرْهَمٍ أَوْ دِرْهَمَيْنِ فَلَمَّا قَدِمَ صِرَارًا أَمَرَ بِبَقَرَةٍ فَذُبِحَتْ فَأَكَلُوا مِنْهَا فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ أَمَرَنِي أَنْ آتِيَ الْمَسْجِدَ فَأُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ وَوَزَنَ لِي ثَمَنَ الْبَعِيرِ".
3090- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ قَدِمْتُ مِنْ سَفَرٍ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "صَلِّ رَكْعَتَيْنِ". صِرَارٌ مَوْضِعٌ نَاحِيَةً بِالْمَدِينَةِ
قوله: "باب الطعام عند القدوم" أي من السفر، وهذا الطعام يقال له النقيعة بالنون والقاف، قيل اشتق من النقع وهو الغبار لأن المسافر يأتي وعليه غبار السفر، وقيل النقيعة من اللبن إذا برد، وقيل غير ذلك. قوله: "وكان ابن عمر يفطر لمن يغشاه" أي لأجل من يغشاه، والأصل فيه أن ابن عمر كان لا يصوم في السفر لا فرضا ولا تطوعا وكان يكثر من صوم التطوع في الحضر، وكان إذا سافر أفطر وإذا قدم صام إما قضاء إن كان سافر في رمضان وإما تطوعا إن كان في غيره، لكنه يفطر أول قدومه لأجل الذين يغشونه للسلام عليه والتهنئة بالقدوم ثم يصوم. ووقع في رواية الكشميهني: "يصنع" بدل يفطر والمعنى صحيح، لكن الأول أصوب، فقد وصله إسماعيل القاضي في "كتاب أحكام القرآن" من طريق أيوب عن نافع قال: "كان ابن عمر إذا كان مقيما لم يفطر، وإذا كان مسافر لم يصم، فإذا قدم أفطر أياما لغاشيته ثم يصوم" قال ابن بطال: فيه إطعام الإمام والرئيس أصحابه عند القدوم من السفر، وهو مستحب عند السلف، ويسمى النقيعة بنون وقاف وزن عظيمة. ونقل عن المهلب أن ابن عمر كان إذا قدم من سفر أطعم من يأتيه ويفطر معهم ويترك قضاء رمضان لأنه كان لا يصوم في السفر فإذا انتهى الطعام ابتدأ قضاء رمضان. قال وقد جاء هذا مفسرا في "كتاب الأحكام" لإسماعيل القاضي، وتعقبه ابن بطال بأن الأثر الذي أخرجه إسماعيل ليس فيه ما ادعاه المهلب، يعني من التقييد برمضان، وإن كان يتناوله بعمومه، وإنما حمل المهلب على ذلك ما جاء عن ابن عمر أنه كان يقول فيمن نوى الصوم ثم أفطر: أنه متلاعب وأنه دعي إلى وليمة فحضر ولم يأكل واعتذر بأنه نوى الصوم، فاحتاج أن يقيده بقضاء رمضان، والحق أنه لا يحتاج إلى ذلك إذا حمل على الصورة التي ابتدأت بها وهو أنه لا ينوي الصوم حينئذ بل يقصد الفطر لأجل ما ذكر، ثم يستأنف الصوم تطوعا كان أو قضاء، والله أعلم. حديث جابر في قصة بيع جمله من طريق محارب عنه باختصار، والغرض منه قوله: "فلما قدم صرارا أمر ببقرة فذبحت فأكلوا منها" الحديث، وصرار بكسر المهملة والتخفيف، ووهم من ذكره بمعجمة أوله، وهو موضع بظاهر المدينة على ثلاثة أميال منها من جهة المشرق، قوله في أوله السند "حدثنا محمد" هو ابن سلام، وقد حدث به عن وكيع، وممن يسمى محمد من شيوخ البخاري محمد بن المثنى ومحمد بن العلاء وغيرهما، ولكن تقرر أن البخاري حيث يطلق محمد لا يريد إلا

(6/194)


الذهلي أو ابن سلام، ويعرف تعيين أحدهما من معرفة من يروي عنه والله أعلم. وقوله: "زاد معاذ" أي ابن معاذ العنبري وهو موصول عند مسلم، وأراد البخاري بإيراد طريق أبي الوليد الإشارة إلى أن القدر الذي ذكره طرف من الحديث، وبهذا يندفع اعتراض من قال إن حديث أبي الوليد لا يطابق الترجمة، وأن اللائق به الباب الذي قبله. والحاصل أن الحديث عند شعبة عن محارب، فروى وكيع طرفا منه وهو ذبح البقرة عند قدوم المدينة، وروى أبو الوليد وسليمان بن حرب عنه طرفا منه وهو أمره جابرا بصلاة ركعتين عند القدوم، وروى عنه معاذ جميعه وفيه قصة البعير وذكر ثمنه لكن باختصار، وقد تابع كلا من هؤلاء عن شعبة في سياقه جماعة.
"خاتمة" اشتمل كتاب الجهاد من أوله إلى هنا من الأحاديث المرفوعة على ثلاثمائة وستة وسبعين حديثا، المعلق منها أربعون طريقا والبقية موصولة، المكرر منها فيه وفيما مضى مائتان وستة وستون والخالص مائة وعشرة أحاديث وافقه مسلم على تخريجها سوى حديث أبي هريرة "الجنة مائة درجة" وحديثه "لولا أن رجالا" ، وحديث جابر "اصطبح ناس الخمر" وحديث المغيرة "بلغنا نبينا" وحديث سهل بن حنيف في قول عمر، وحديث السائب بن يزيد عن طلحة، وحديث أنس عن أبي طلحة، وحديثه في قصة ثابت بن قيس، وحديث سهل في أسماء الخيل وحديث أنس في العضباء لا تسبق، وحديث سعد "إنما تنصرون بضعفائكم" وحديث سلمة "ارموا وأنا مع ابن الأدرع" ، وحديث أبي أسيد، "إذا أكثبوكم" وحديث أبي أمامة في حلية السيوف، وحديث ابن عمر "بعثت بين يدي الساعة" وحديث ابن عباس في الدعاء ببدر، لكن أخرجه من طريق أخرى عن ابن عباس عن عمر، وحديث عمرو بن تغلب في قتال الترك؛ وحديث أبي هريرة في التحريق، وحديث ابن مسعود فيما غبر من الدنيا، وحديث قيس بن سعد في الترجيل، وحديث العباس في الراية، وحديث جابر في التسبيح، وحديث أبي موسى "إذا مرض العبد" وحديث ابن عمر في السير وحده، وحديث أبي هريرة في الأسارى، وحديث ابن عباس مع علي، وحديث أبي هريرة في قصة قتل خبيب، وفيه حديث بنت عياض وحديث سلمة في عين المشركين، وحديث عمر في هني، وحديث عبد الله بن عمرو في قصة الغال، وحديث السائب بن يزيد في الملاقاة. وفيه من الآثار عن الصحابة فمن بعدهم سبعة وعشرون أثرا. والله أعلم.

(6/195)


كتاب فرض الخمس
باب فرض الخمس
...
1 – باب فَرضِ الخُمسِ
3091- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ أَنَّ حُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ عَلَيْهِمَا السَّلاَم أَخْبَرَهُ أَنَّ عَلِيًّا قَالَ: "كَانَتْ لِي شَارِفٌ مِنْ نَصِيبِي مِنْ الْمَغْنَمِ يَوْمَ بَدْرٍ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَانِي شَارِفًا مِنْ الْخُمُسِ فَلَمَّا أَرَدْتُ أَنْ أَبْتَنِيَ بِفَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاعَدْتُ رَجُلًا صَوَّاغًا مِنْ بَنِي قَيْنُقَاعَ أَنْ يَرْتَحِلَ مَعِيَ فَنَأْتِيَ بِإِذْخِرٍ أَرَدْتُ أَنْ أَبِيعَهُ الصَّوَّاغِينَ وَأَسْتَعِينَ بِهِ فِي وَلِيمَةِ عُرْسِي فَبَيْنَا أَنَا أَجْمَعُ لِشَارِفَيَّ مَتَاعًا مِنْ الأَقْتَابِ وَالْغَرَائِرِ وَالْحِبَالِ وَشَارِفَايَ مُنَاخَتَانِ إِلَى جَنْبِ حُجْرَةِ رَجُلٍ مِنْ الأَنْصَارِ رَجَعْتُ حِينَ جَمَعْتُ مَا جَمَعْتُ فَإِذَا شَارِفَايَ قَدْ اجْتُبَّ أَسْنِمَتُهُمَا وَبُقِرَتْ خَوَاصِرُهُمَا وَأُخِذَ مِنْ أَكْبَادِهِمَا فَلَمْ أَمْلِكْ عَيْنَيَّ حِينَ رَأَيْتُ ذَلِكَ الْمَنْظَرَ مِنْهُمَا فَقُلْتُ مَنْ فَعَلَ هَذَا فَقَالُوا فَعَلَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَهُوَ فِي هَذَا الْبَيْتِ فِي شَرْبٍ مِنْ الأَنْصَارِ فَانْطَلَقْتُ حَتَّى أَدْخُلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ فَعَرَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَجْهِي الَّذِي لَقِيتُ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَا لَكَ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ قَطُّ عَدَا حَمْزَةُ عَلَى نَاقَتَيَّ فَأَجَبَّ أَسْنِمَتَهُمَا وَبَقَرَ خَوَاصِرَهُمَا وَهَا هُوَ ذَا فِي بَيْتٍ مَعَهُ شَرْبٌ فَدَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرِدَائِهِ فَارْتَدَى ثُمَّ انْطَلَقَ يَمْشِي وَاتَّبَعْتُهُ أَنَا وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ حَتَّى جَاءَ الْبَيْتَ الَّذِي فِيهِ حَمْزَةُ فَاسْتَأْذَنَ فَأَذِنُوا لَهُمْ فَإِذَا هُمْ شَرْبٌ فَطَفِقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلُومُ حَمْزَةَ فِيمَا فَعَلَ فَإِذَا حَمْزَةُ قَدْ ثَمِلَ مُحْمَرَّةً عَيْنَاهُ فَنَظَرَ حَمْزَةُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ صَعَّدَ النَّظَرَ فَنَظَرَ إِلَى رُكْبَتِهِ ثُمَّ صَعَّدَ النَّظَرَ فَنَظَرَ إِلَى سُرَّتِهِ ثُمَّ صَعَّدَ النَّظَرَ فَنَظَرَ إِلَى وَجْهِهِ ثُمَّ قَالَ حَمْزَةُ هَلْ أَنْتُمْ إِلاَّ عَبِيدٌ لِأَبِي فَعَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَدْ ثَمِلَ فَنَكَصَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عَقِبَيْهِ الْقَهْقَرَى وَخَرَجْنَا مَعَهُ".
3092- حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ "أَنَّ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَخْبَرَتْهُ أَنَّ فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلاَم ابْنَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَتْ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقْسِمَ لَهَا مِيرَاثَهَا مِمَّا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا أَفَاءَ

(6/196)


اللَّهُ عَلَيْهِ".
[الحديث 3092 – أطرافه في: 3711، 4035، 4240، 6725]
3093- "فَقَالَ لَهَا أَبُو بَكْرٍ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لاَ نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ فَغَضِبَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهَجَرَتْ أَبَا بَكْرٍ فَلَمْ تَزَلْ مُهَاجِرَتَهُ حَتَّى تُوُفِّيَتْ وَعَاشَتْ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ قَالَتْ وَكَانَتْ فَاطِمَةُ تَسْأَلُ أَبَا بَكْرٍ نَصِيبَهَا مِمَّا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ خَيْبَرَ وَفَدَكٍ وَصَدَقَتَهُ بِالْمَدِينَةِ فَأَبَى أَبُو بَكْرٍ عَلَيْهَا ذَلِكَ وَقَالَ لَسْتُ تَارِكًا شَيْئًا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْمَلُ بِهِ إِلاَّ عَمِلْتُ بِهِ فَإِنِّي أَخْشَى إِنْ تَرَكْتُ شَيْئًا مِنْ أَمْرِهِ أَنْ أَزِيغَ فَأَمَّا صَدَقَتُهُ بِالْمَدِينَةِ فَدَفَعَهَا عُمَرُ إِلَى عَلِيٍّ وَعَبَّاسٍ وَأَمَّا خَيْبَرُ وَفَدَكٌ فَأَمْسَكَهَا عُمَرُ وَقَالَ هُمَا صَدَقَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتَا لِحُقُوقِهِ الَّتِي تَعْرُوهُ وَنَوَائِبِهِ وَأَمْرُهُمَا إِلَى مَنْ وَلِيَ الأَمْرَ قَالَ فَهُمَا عَلَى ذَلِكَ إِلَى الْيَوْمِ".
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: اعْتَرَاكَ: افْتَعَلْتَ مِنْ عَرَوْتُهُ فَأَصَبْتُهُ، وَمِنْهُ يَعْرُوهُ وَاعْتَرَانِي.
[الحديث 3093 – أطرافه في: 3712، 4036، 4241، 6726]
3094- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَرْوِيُّ حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ جُبَيْرٍ ذَكَرَ لِي ذِكْرًا مِنْ حَدِيثِهِ ذَلِكَ فَانْطَلَقْتُ حَتَّى أَدْخُلَ عَلَى مَالِكِ بْنِ أَوْسٍ فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ الْحَدِيثِ فَقَالَ مَالِكٌ بَيْنَا أَنَا جَالِسٌ فِي أَهْلِي حِينَ مَتَعَ النَّهَارُ إِذَا رَسُولُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ يَأْتِينِي فَقَالَ أَجِبْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ حَتَّى أَدْخُلَ عَلَى عُمَرَ فَإِذَا هُوَ جَالِسٌ عَلَى رِمَالِ سَرِيرٍ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ فِرَاشٌ مُتَّكِئٌ عَلَى وِسَادَةٍ مِنْ أَدَمٍ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ ثُمَّ جَلَسْتُ فَقَالَ يَا مَالِ إِنَّهُ قَدِمَ عَلَيْنَا مِنْ قَوْمِكَ أَهْلُ أَبْيَاتٍ وَقَدْ أَمَرْتُ فِيهِمْ بِرَضْخٍ فَاقْبِضْهُ فَاقْسِمْهُ بَيْنَهُمْ فَقُلْتُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَوْ أَمَرْتَ بِهِ غَيْرِي قَالَ اقْبِضْهُ أَيُّهَا الْمَرْءُ فَبَيْنَا أَنَا جَالِسٌ عِنْدَهُ أَتَاهُ حَاجِبُهُ يَرْفَا فَقَالَ هَلْ لَكَ فِي عُثْمَانَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَالزُّبَيْرِ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ يَسْتَأْذِنُونَ قَالَ نَعَمْ فَأَذِنَ لَهُمْ فَدَخَلُوا فَسَلَّمُوا وَجَلَسُوا ثُمَّ جَلَسَ يَرْفَا يَسِيرًا ثُمَّ قَالَ هَلْ لَكَ فِي عَلِيٍّ وَعَبَّاسٍ قَالَ نَعَمْ فَأَذِنَ لَهُمَا فَدَخَلاَ فَسَلَّمَا فَجَلَسَا فَقَالَ عَبَّاسٌ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ اقْضِ بَيْنِي وَبَيْنَ هَذَا وَهُمَا يَخْتَصِمَانِ فِيمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَالِ بَنِي النَّضِيرِ فَقَالَ الرَّهْطُ عُثْمَانُ وَأَصْحَابُهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ اقْضِ بَيْنَهُمَا وَأَرِحْ أَحَدَهُمَا مِنْ الْآخَرِ قَالَ عُمَرُ تَيْدَكُمْ أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ الَّذِي بِإِذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لاَ نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ" يُرِيدُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفْسَهُ قَالَ الرَّهْطُ قَدْ قَالَ ذَلِكَ فَأَقْبَلَ عُمَرُ عَلَى عَلِيٍّ وَعَبَّاسٍ فَقَالَ: أَنْشُدُكُمَا اللَّهَ

(6/197)


أَتَعْلَمَانِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قَالَ ذَلِكَ قَالاَ قَدْ قَالَ ذَلِكَ قَالَ عُمَرُ فَإِنِّي أُحَدِّثُكُمْ عَنْ هَذَا الأَمْرِ إِنَّ اللَّهَ قَدْ خَصَّ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْفَيْءِ بِشَيْءٍ لَمْ يُعْطِهِ أَحَدًا غَيْرَهُ ثُمَّ قَرَأَ وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ إِلَى قَوْلِهِ قَدِيرٌ فَكَانَتْ هَذِهِ خَالِصَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاللَّهِ مَا احْتَازَهَا دُونَكُمْ وَلاَ اسْتَأْثَرَ بِهَا عَلَيْكُمْ قَدْ أَعْطَاكُمُوهَا وَبَثَّهَا فِيكُمْ حَتَّى بَقِيَ مِنْهَا هَذَا الْمَالُ فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَتِهِمْ مِنْ هَذَا الْمَالِ ثُمَّ يَأْخُذُ مَا بَقِيَ فَيَجْعَلُهُ مَجْعَلَ مَالِ اللَّهِ فَعَمِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ حَيَاتَهُ أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ هَلْ تَعْلَمُونَ ذَلِكَ قَالُوا نَعَمْ ثُمَّ قَالَ لِعَلِيٍّ وَعَبَّاسٍ أَنْشُدُكُمَا بِاللَّهِ هَلْ تَعْلَمَانِ ذَلِكَ قَالَ عُمَرُ ثُمَّ تَوَفَّى اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ أَنَا وَلِيُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَبَضَهَا أَبُو بَكْرٍ فَعَمِلَ فِيهَا بِمَا عَمِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُ فِيهَا لَصَادِقٌ بَارٌّ رَاشِدٌ تَابِعٌ لِلْحَقِّ ثُمَّ تَوَفَّى اللَّهُ أَبَا بَكْرٍ فَكُنْتُ أَنَا وَلِيَّ أَبِي بَكْرٍ فَقَبَضْتُهَا سَنَتَيْنِ مِنْ إِمَارَتِي أَعْمَلُ فِيهَا بِمَا عَمِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا عَمِلَ فِيهَا أَبُو بَكْرٍ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنِّي فِيهَا لَصَادِقٌ بَارٌّ رَاشِدٌ تَابِعٌ لِلْحَقِّ ثُمَّ جِئْتُمَانِي تُكَلِّمَانِي وَكَلِمَتُكُمَا وَاحِدَةٌ وَأَمْرُكُمَا وَاحِدٌ جِئْتَنِي يَا عَبَّاسُ تَسْأَلُنِي نَصِيبَكَ مِنْ ابْنِ أَخِيكَ وَجَاءَنِي هَذَا يُرِيدُ عَلِيًّا يُرِيدُ نَصِيبَ امْرَأَتِهِ مِنْ أَبِيهَا فَقُلْتُ لَكُمَا إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ لاَ نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ فَلَمَّا بَدَا لِي أَنْ أَدْفَعَهُ إِلَيْكُمَا قُلْتُ إِنْ شِئْتُمَا دَفَعْتُهَا إِلَيْكُمَا عَلَى أَنَّ عَلَيْكُمَا عَهْدَ اللَّهِ وَمِيثَاقَهُ لَتَعْمَلاَنِ فِيهَا بِمَا عَمِلَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِمَا عَمِلَ فِيهَا أَبُو بَكْرٍ وَبِمَا عَمِلْتُ فِيهَا مُنْذُ وَلِيتُهَا فَقُلْتُمَا ادْفَعْهَا إِلَيْنَا فَبِذَلِكَ دَفَعْتُهَا إِلَيْكُمَا فَأَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ هَلْ دَفَعْتُهَا إِلَيْهِمَا بِذَلِكَ قَالَ الرَّهْطُ نَعَمْ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى عَلِيٍّ وَعَبَّاسٍ فَقَالَ أَنْشُدُكُمَا بِاللَّهِ هَلْ دَفَعْتُهَا إِلَيْكُمَا بِذَلِكَ قَالاَ نَعَمْ قَالَ فَتَلْتَمِسَانِ مِنِّي قَضَاءً غَيْرَ ذَلِكَ فَوَاللَّهِ الَّذِي بِإِذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ لاَ أَقْضِي فِيهَا قَضَاءً غَيْرَ ذَلِكَ فَإِنْ عَجَزْتُمَا عَنْهَا فَادْفَعَاهَا إِلَيَّ فَإِنِّي أَكْفِيكُمَاهَا".
قوله: "بسم الله الرحمن الرحيم كتاب فرض الخمس" كذا وقع عند الإسماعيلي، وللأكثر "باب"، وحذفه بعضهم، وثبتت البسملة للأكثر و"الخمس" بضم المعجمة والميم ما يؤخذ من الغنيمة، والمراد بقوله: "فرض الخمس" أي وقت فرضه أو كيفية فرضه أو ثبوت فرضه، والجمهور على أن ابتداء فرض الخمس كان بقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} الآية، وكانت الغنائم تقسم على خمسة أقسام: فيعزل خمس منها يصرف فيمن ذكر في الآية، وسيأتي البحث في مستحقيه بعد أبواب، وكان خمس هذا الخمس لرسول الله صلى الله عليه وسلم، واختلف فيمن يستحقه بعده: فمذهب الشافعي أنه يصرف في المصالح، وعنه يرد على الأصناف الثمانية المذكورين في الآية، وهو قول الحنفية مع اختلافهم فيهم كما سيأتي، وقيل يختص به الخليفة، ويقسم أربعة أخماس الغنيمة على الغانمين

(6/198)


إلا السلب فإنه للقاتل على الراجح كما سيأتي. وذكر المصنف في الباب ثلاثة أحاديث. أحدها: حديث علي بن أبي طالب في قصة الشارفين قوله: "كانت لي شارف من نصيبي من المغنم يوم بدر" الشارف المسن من النوق، ولا يقال للذكر عند الأكثر، وحكى إبراهيم الحربي عن الأصمعي جوازه، قال عياض: جمع فاعل على فعل بضمتين قليل قوله: "وكان النبي صلى الله عليه وسلم أعطاني شارفا من الخمس" قال ابن بطال: ظاهره أن الخمس شرع يوم بدر، ولم يختلف أهل السير أن الخمس لم يكن يوم بدر، وقد ذكر إسماعيل القاضي في غزوة بني قريظة قال: قيل إنه أول يوم فرض فيه الخمس، قال: وقيل نزل بعد ذلك، قال: لم يأت ما فيه بيان شاف، وإنما جاء صريحا في غنائم حنين قال ابن بطال: وإذا كان كذلك فيحتاج قول علي إلى تأويل، قال: ويمكن أن يكون ما ذكر ابن إسحاق في سرية عبد الله بن جحش التي كانت في رجب قبل بدر بشهرين، وأن ابن إسحاق قال: ذكر لي بعض آل جحش أن عبد الله قال لأصحابه إن لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما غنمنا الخمس، وذلك قبل أن يفرض الله الخمس، فعزل له الخمس وقسم سائر الغنيمة بين أصحابه، قال فوقع رضا الله بذلك، قال فيحمل قول علي "وكان قد أعطاني شارفا من الخمس" أي من الذي حصل من سرية عبد الله بن جحش قلت: ويعكر عليه أن في الرواية الآتية في المغازي "وكان النبي صلى الله عليه وسلم أعطاني مما أفاء الله عليه من الخمس يومئذ" والعجب أن ابن بطال عزا هذه الرواية لأبي داود وجعلها شاهدة لما تأوله، وغفل عن كونها في البخاري الذي شرحه وعن كون ظاهرها شاهدا عليه لا له، ولم أقف على ما نقله أهل السير صريحا في أنه لم يكن في غنائم بدر خمس، والعجب أنه يثبت في غنيمة السرية التي قبل بدر الخمس ويقول إن الله رضي بذلك وينفيه في يوم بدر مع أن الأنفال التي فيها التصريح بفرض الخمس نزل غالبها في قصة بدر، وقد جزم الداودي الشارح بأن آية الخمس نزلت يوم بدر. وقال السبكي: نزلت الأنفال في بدر وغنائمها والذي يظهر أن آية قسمة الغنيمة نزلت بعد تفرقة الغنائم، لأن أهل السير نقلوا أنه صلى الله عليه وسلم قسمها على السواء وأعطاها لمن شهد الوقعة أو غاب لعذر تكرما منه، لأن الغنيمة كانت أولا بنص أول سورة الأنفال للنبي صلى الله عليه وسلم، قال: ولكن يعكر على ما قال أهل السير حديث علي، يعني حديث الباب حيث قال: "وأعطاني شارفا من الخمس يومئذ فإنه ظاهر في أنه كان فيها خمس قلت: ويحتمل أن تكون قسمة غنائم بدر وقعت على السواء بعد أن أخرج الخمس للنبي صلى الله عليه وسلم على ما تقدم من قصة سرية عبد الله بن جحش، وأفادت آية الأنفال - وهي قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ} إلى آخرها - بيان مصرف الخمس لا مشروعية أصل الخمس والله أعلم وأما ما نقله عن أهل السير فأخرجه ابن إسحاق بإسناد حسن يحتج بمثله عن عبادة بن الصامت قال: "فلما اختلفنا في الغنيمة وساءت أخلاقنا انتزعها الله منا فجعلها لرسوله، فقسمها على الناس عن سواء" أي على سواء، ساقه مطولا، وأخرجه أحمد والحاكم من طريقه، وصححه ابن حيان من وجه آخر ليس فيه ابن إسحاق قوله: "أبتني بفاطمة" أي أدخل بها، والبناء الدخول بالزوجة، وأصله أنهم كانوا من أراد ذلك بنيت له قبة فخلا فيها بأهله واختلف في وقت دخول علي بفاطمة، وهذا الحديث يشعر بأنه كان عقب وقعة بدر، ولعله كان في شوال سنة اثنتين، فإن وقعة بدر كانت في رمضان منها، وقيل تزوجها في السنة الأولى، ولعل قائل ذلك أراد العقد، ونقل ابن الجوزي أنه كان في صفر سنه اثنتين، وقيل في رجب، وقيل في ذي الحجة، قلت: وهذا الأخير يشبه أن يحمل على شهر الدخول بها، وقيل تأخر دخوله بها إلى سنة ثلاث، فدخل بها بعد وقعة أحد، حكاه ابن عبد البر، وفيه بعد قوله: "واعدت رجلا صواغا" بفتح الصاد المهملة والتشديد، ولم أقف

(6/199)


على اسمه ووقع في رواية ابن جريج في الشرب طابع بمهملتين وموحدة وطالع بلام بدل الموحدة أي من يدله ويساعده، وقد يقال إنه اسم الصائغ المذكور، كذا قال بعضهم وفيه بعد قوله: "مناختان" كذا للأكثر، وهو باعتبار المعنى لأنهما ناقتان وفي رواية كريمة: "مناخان" باعتبار لفظ الشارف قوله: "إلى جنب حجرة رجل من الأنصار" لم أقف على اسمه قوله: "فرجعت حين جمعت ما جمعت" زاد في رواية ابن جريج عن ابن شهاب في الشرب "وحمزة ابن عبد المطلب يشرب في ذلك البيت" أي الذي أناخ الشارفين بجانبه "ومعه قينة" بفتح القاف وسكون التحتانية بعدها نون هي الجارية المغنية "فقالت: ألا يا حمز للشرف النواء" والشرف جمع شارف كما تقدم، والنواء - بكسر النون والمد مخففا - جمع ناوية وهي الناقة السمينة، وحكى الخطابي أن ابن جرير الطبري رواه "ذا الشرف" بفتح الشين وفسره بالرفعة وجعله صفة لحمزة، وفتح نون النواء وفسره بالبعد أي الشرف البعيد أي مناله بعيد، قال الخطابي: وهو خطأ وتصحيف وحكى الإسماعيلي أن أبا يعلى حدثه به من طريق ابن جريج فقال: "الثواء" بالثاء المثلثة، قال فلم نضبطه ووقع في رواية القابسي والأصيلي النوى بالقصر وهو خطأ أيضا. وقال الداودي: النواء الخباء، وهذا أفحش في الغلط وحكى المرزباني في معجم الشعراء أن هذا الشعر لعبد الله بن السائب بن أبي السائب المخزومي جد أبي السائب المخزومي المدني، وبقيته "وهن معقلات بالفناء"
ضع السكين في اللبات منها ... وضرجهن حمزة بالدماء
وعجل من أطايبها لشرب ... قديدا من طبيخ أو شواء
والشرب بفتح المعجمة وسكون الراء بعدها موحدة جمع شارب، كتاجر وتجر، والفناء بكسر الفاء والمد: الجانب، أي جانب الدار التي كانوا فيها والقديد اللحم المطبوخ والتضريج بمعجمة وجيم: التلطيخ، فإن كان ثابتا فقد عرف بعض المبهم في قوله: "في شرب من الأنصار" لكن المخزومي ليس من الأنصار، وكأن قائل ذلك أطلقه عليهم بالمعنى الأعم وأراد الذي نظم هذا الشعر وأمر القينة أن تغني به أن يبعث همة حمزة لما عرف من كرمه على نحر الناقتين ليأكلوا من لحمهما، وكأنه قال: انهض إلى الشرف فانحرها، وقد تبين ذلك من بقية الشعر وفي قولها "للشرف" بصيغة الجمع مع أنه لم يكن هناك الاثنتان دلالة على جواز إطلاق صيغة الجمع على الاثنين. وقوله: "يا حمزة" ترخيم وهو بفتح الزاي ويجوز ضمها. قوله: "قد أجبت" وقع مثله في رواية عنبسة في المغازي، وهو بضم أوله. وفي رواية الكشميهني هنا "قد جبت" بضم الجيم بغير ألف أي قطعت وهو الصواب، وعند مسلم من طريق ابن وهب عن يونس "قد اجتبت" وهو صواب أيضا، والجب الاستئصال في القطع قوله: "وأخذ من أكبادهما" زاد ابن جريج "قلت لابن شهاب: ومن السنام، قال: قد جب أسنمتهما" والسنام ما على ظهر البعير وقوله: "بقر" بفتح الموحدة والقاف أي شق قوله: "فلم أملك عيني حين رأيت" في رواية الكشميهني: "حيث رأيت" والمراد أنه بكى من شدة القهر الذي حصل له وفي رواية ابن جريج "رأيت منظرا أفظعني" بفاء وظاء مشالة معجمة، أي نزل بي أمر مفظع أي مخيف مهول، وذلك لتصوره تأخر الابتناء بزوجته بسبب فوات ما يستعان به عليه، أو لخشية أن ينسب في حقها إلى تقصير لا لمجرد فوات الناقتين قوله: "حتى أدخل" كذا فيه بصيغة المضارع مبالغة في استحضار صورة الحال قوله: "فطفق يلوم حمزة" في رواية ابن جريج "فدخل على حمزة فتغيظ عليه"

(6/200)


قوله: "هل أنتم إلا عبيد لأبي" في رواية ابن جريج "لآبائي" قيل أراد أن أباه عبد المطلب جد للنبي صلى الله عليه وسلم ولعلي أيضا، والجد يدعى سيدا، وحاصله أن حمزة أراد الافتخار عليهم بأنه أقرب إلى عبد المطلب منهم. قوله: "القهقرى" هو المشي إلى خلف، وكأنه فعل ذلك خشية أن يزداد عبث حمزة في حال سكره فينتقل من القول إلى الفعل فأراد أن يكون ما يقع من حمزة بمرأى منه ليدفعه إن وقع منه شيء قوله: "وخرجنا معه" زاد ابن جريج "وذلك قبل تحريم الخمر" أي ولذلك لم يؤاخذ النبي صلى الله عليه وسلم حمزة بقوله. وفي هذه الزيادة رد على من احتج بهذه القصة على أن طلاق السكران لا يقع، فإنه إذا عرف أن ذلك كان قبل تحريم الخمر كان ترك المؤاخذة لكونه لم يدخل على نفسه الضرر، والذي يقول يقع طلاق السكران يحتج بأنه أدخل على نفسه السكر وهو محرم عليه فعوقب بإمضاء الطلاق عليه، فليس في هذا الحديث حجة لإثبات ذلك ولا نفيه. قال أبو داود: سمعت أحمد بن صالح يقول: في هذا الحديث أربع وعشرون سنة. قلت: وفيه أن الغانم يعطى من الغنيمة من جهتين: من الأربعة أخماس بحق الغنيمة، ومن الخمس إذا كان ممن له فيه حق. وأن لمالك الناقة الانتفاع بها في الحمل عليها. وفيه الإناخة على باب الغير إذا عرف رضاه بذلك وعدم تضرره به. وأن البكاء الذي يجلبه الحزن غير مذموم. وأن المرء قد لا يملك دمعه إذا غلب عليه الغيظ. وفيه ما ركب في الإنسان من الأسف على فوت ما فيه نفعه وما يحتاج إليه. وأن استعداء المظلوم على من ظلمه وإخباره بما ظلم به خارج عن الغيبة والنميمة. وفيه قبول خبر الواحد. وجواز الاجتماع في الشرب المباح. وجواز تناول ما يوضع بين أيدي القوم. وجواز الغناء بالمباح من القول. وإنشاد الشعر والاستماع من الأمة. والتخير فيما يأكله. وأكل الكبد وإن كانت دما. وفيه أن السكر كان مباحا في صدر الإسلام، وهو رد على من زعم أن السكر لم يبح قط. ويمكن حمل ذلك على السكر الذي معه التمييز من أصله. وفيه مشروعية وليمة العرس. وسيأتي شرحها في النكاح. ومشروعية الصياغة والتكسب بها. وقد تقدم في أوائل البيوع. وجواز جمع الإذخر وغيره من المباحات والتكسب بذلك. وقد تقدم في أواخر الشرب. وفيه الاستعانة في كل صناعة بالعارف بها. قال المهلب: وفيه أن العادة جرت بأن جناية ذوي الرحم مغتفرة. قلت: وفيه نظر لأن ابن أبي شيبة روى عن أبي بكر بن عياش أن النبي صلى الله عليه وسلم أغرم حمزة ثمن الناقتين. وفيه علة تحريم الخمر. وفيه أن للإمام أن يمضي إلى بيت من بلغه أنهم على منكر ليغيره. وقال غيره: فيه حل تذكية الغاصب، لأن الظاهر أنه ما بقر خواصرهما وجب أسنمتهما إلا بعد التذكية المعتبرة. وفيه سنة الاستئذان في الدخول، وأن الإذن للرئيس يشمل أتباعه، لأن زيد بن حارثة وعليا دخلا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي كان استأذن فأذنوا له. وأن السكران يلام إذا كان يعقل اللوم. وأن للكبير في بيته أن يلقي رداءه تخفيفا. وأنه إذا أراد لقاء أتباعه يكون على أكمل هيئة لأنه صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يخرج إلى حمزة أخذ رداءه. وأن الصاحي لا ينبغي له أن يخاطب السكران. وأن الذاهب من بين يدي زائل العقل لا يوليه ظهره كما تقدم. وفيه إشارة إلى عظم قدر عبد المطلب. وجواز المبالغة في المدح لقول حمزة هل أنتم إلا عبيد لأبي؟ ومراده كالعبيد، ونكتة التشبيه أنهم كانوا عنده في الخضوع له وجواز تصرفه في مالهم في حكم العبيد. وفيه أن الكلام يختلف باختلاف القائلين. قلت: وفي كثير من هذه الانتزاعات نظر. والله أعلم. حديث عائشة في قصة فاطمة، قوله: "عن صالح" هو ابن كيسان قوله: "أن فاطمة سألت أبا بكر" زاد معمر عن الزهري "والعباس أتيا أبا بكر" وسيأتي في الفرائض قوله: "ما ترك" هو بدل من قوله: "ميراثها"

(6/201)


وفي رواية الكشميهني: "مما ترك" وفي هذه القصة رد على من قرأ قوله: "لا يورث" بالتحتانية أوله و "صدقة " بالنصب على الحال، وهي دعوى من بعض الرافضة فادعى أن الصواب في قراءة هذا الحديث هكذا، والذي توارد عليه أهل الحديث في القديم والحديث: "لا نورث" بالنون و" صدقة" بالرفع، وأن للكلام جملتان و "ما تركنا" في موضع الرفع بالابتداء و "صدقة" خبره ويؤيده وروده في بعض طرق الصحيح "ما تركنا فهو صدقة" وقد احتج بعض المحدثين على بعض الإمامية بأن أبا بكر احتج بهذا الكلام على فاطمة رضي الله عنها فيما التمست منه من الذي خلقه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأراضي وهما من أفصح الفصحاء وأعلمهم بمدلولات الألفاظ، ولو كان الأمر كما يقرؤه الرافضي لم يكن فيما احتج به أبو بكر حجة ولا كان جوابه مطابقا لسؤالها، وهذا واضح لمن أنصف قوله: "مما أفاء الله عليه" سيأتي بيانه قريبا قوله: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم" في رواية معمر " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم"وهو يرد تأويل الداودي الشارح في قوله إن فاطمة حملت كلام أبي بكر على أنه لم يسمع ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما سمعه من غيره، ولذلك غضبت، وما قدمته من التأويل أولى قوله: "فغضبت فاطمة فهجرت أبا بكر فلم تزل مهاجرته" في رواية معمر "فهجرته فاطمة فلم تكلمه حتى مات"، ووقع عند عمر بن شبة من وجه آخر عن معمر "فلم تكلمه في ذلك المال"، وكذا نقل الترمذي عن بعض مشايخه أن معنى قول فاطمة لأبي بكر وعمر لا أكلمكما أي في هذا الميراث، وتعقبه الشاشي بأن قرينة قوله: "غضبت" تدل على أنها امتنعت من الكلام جملة وهذا صريح الهجر، وأما ما أخرجه أحمد وأبو داود من طريق أبي الطفيل قال: "أرسلت فاطمة إلى أبي بكر: أنت ورثت رسول الله صلى الله عليه وسلم أم أهله؟ قال: لا بل أهله، قالت: فأين سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله إذا أطعم نبيا طعمة ثم قبضه جعلها للذي يقوم من بعده ، فرأيت أن أرده على المسلمين قالت: فأنت وما سمعته" فلا يعارض ما في الصحيح من صريح الهجران، ولا يدل على الرضا بذلك ثم مع ذلل ففيه لفظة منكرة وهي قول أبي بكر "بل أهله" فإنه معارض للحديث الصحيح "أن النبي لا يورث" نعم روى البيهقي من طريق الشعبي "أن أبا بكر عاد فاطمة، فقال لها علي: هذا أبو بكر يستأذن عليك قالت: أتحب أن آذن له؟ قال: نعم، فأذنت له، فدخل عليها فترضاها حتى رضيت" وهو وإن كان مرسلا فإسناده إلى الشعبي صحيح، وبه يزول الإشكال في جواز تمادي فاطمة عليها السلام على هجر أبي بكر وقد قال بعض الأئمة: إنما كانت هجرتها انقباضا عن لقائه والاجتماع به، وليس ذلك من الهجران المحرم، لأن شرطه أن يلتقيا فيعرض هذا وهذا، وكأن فاطمة عليها السلام لما خرجت غضبى من عند أبي بكر تمادت في اشتغالها بحزنها ثم بمرضها وأما سبب غضبها مع احتجاج أبي بكر بالحديث المذكور فلاعتقادها تأويل الحديث على خلاف ما تمسك به أبو بكر، وكأنها اعتقدت تخصيص العموم في قوله: "لا نورث" ورأت أن منافع ما خلفه من أرض وعقار لا يمتنع أن تورث عنه، وتمسك أبو بكر بالعموم، واختلفا في أمر محتمل للتأويل، فلما صمم على ذلك انقطعت عن الاجتماع به لذلك، فإن ثبت حديث الشعبي أزال الإشكال، وأخلق بالأمر أن يكون كذلك لما علم من وفور عقلها ودينها عليها السلام، وسيأتي في الفرائض زيادة في هذه القصة، ويأتي الكلام فيها إن شاء الله تعالى وقد وقع في حديث أبي سلمة عن أبي هريرة عند الترمذي "جاءت فاطمة إلى أبي بكر فقالت: من يرثك؟ قال: أهلي وولدي، قالت فما لي لا أرث أبي؟ قال أبو بكر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا نورث ، ولكني أعول من كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوله" قوله: "وكانت فاطمة تسأل أبا

(6/202)


بكر نصيبها مما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر وفدك وصدقته بالمدينة" هذا يؤيد ما تقدم من أنها لم تطلب من جميع ما خلف، وإنما طلبت شيئا مخصوصا، فأما خيبر ففي رواية معمر المذكورة "وسهمه من خيبر"، وقد روى أبو داود بإسناد صحيح إلى سهل ابن أبي خيثمة قال: "قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر نصفين نصفها لنوائبه وحاجته، ونصفها بين المسلمين: قسمها بينهم على ثمانية عشر سهما" ورواه بمعناه من طرق أخرى عن بشير بن يسار مرسلا ليس فيه سهل وأما فدك وهي بفتح الفاء والمهملة بعدها كاف: بلد بينها وبين المدينة ثلاث مراحل، وكان من شأنها ما ذكر أصحاب المغازي قاطبة أن أهل فدك كانوا من يهود، فلما فتحت خيبر أرسل أهل فدك يطلبون من النبي صلى الله عليه وسلم الأمان على أن يتركوا البلد ويرحلوا. وروى أبو داود من طريق ابن إسحاق عن الزهري وغيره قالوا "بقيت بقية من خيبر تحصنوا، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يحقن دماءهم ويسيرهم ففعل، فسمع بذلك أهل فدك فنزلوا على مثل ذلك، وكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة"، ولأبي داود أيضا من طريق معمر عن ابن شهاب "صالح النبي صلى الله عليه وسلم أهل فدك وقرى سماها وهو يحاصر قوما آخرين" يعني بقية أهل خيبر وأما صدقته بالمدينة فروى أبو داود من طريق معمر عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فذكر قصة بني النضير فقال في آخره: "وكانت نخل بني النضير لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة أعطاها إياه فقال: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ} الآية قال فأعطى أكثرها للمهاجرين، وبقي منها صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي في أيدي بني فاطمة"، وروى عمر بن شبة من طريق أبي عون عن الزهري قال: "كانت صدقة النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة أموالا لمخيريق بالمعجمة والقاف مصغر وكان يهوديا من بقايا بني قينقاع نازلا ببني النضير، فشهد أحدا فقتل به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: مخيريق سابق يهود، وأوصى مخيريق بأمواله للنبي صلى الله عليه وسلم" ومن طريق الواقدي بسنده عن عبد الله بن كعب قال: "قال مخيريق إن أصبت فأموالي لمحمد يضعها حيث أراه الله" فهي عامة صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: وكانت أموال مخيريق في بني النضير، وعلى هذه فقوله في الحديث الآتي "وهما يختصمان فيما أفاء الله على رسوله من بني النضير" شمل جميع ذلك قوله: "لست تاركا شيئا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل به إلا عملت به" في رواية شعيب عن الزهري الآتية في المناقب "وإني والله لا أغير شيئا من صدقات رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حالها التي كانت عليه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم" وهذا تمسك به من قال: إن سهم النبي يصرفه الخليفة بعده لمن كان النبي صلى الله عليه وسلم يصرفه له، وما بقي منه يصرف في المصالح، وعن الشافعي يصرف في المصالح وهو لا ينافي الذي قبله وفي وجه: هو للإمام وقال مالك والثوري: يجتهد فيه الإمام وقال أحمد يصرف في الخيل والسلاح وقال ابن جرير يرد إلى الأربعة قال ابن المنذر: كان أحق الناس بهذا القول من يوجب قسم الزكاة بين جميع الأصناف، فإن فقد صنف رد على الباقين يعني الشافعي وقال أبو حنيفة يرد مع سهم ذوي القربى إلى الثلاثة، وقيل: يرد خمس الخمس من الغنيمة إلى الغانمين ومن الفيء إلى المصالح. قوله: "فأما صدقته" أي صدقة النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "فدفعها عمر إلى علي وعباس" سيأتي بيان ذلك في الحديث الذي يليه قوله: "وأما خيبر" أي الذي كان يخص النبي صلى الله عليه وسلم منها "وفدك فأمسكها عمر" أي لم يدفعها لغيره، وبين سبب ذلك وقد ظهر بهذا أن صدقة النبي صلى الله عليه وسلم تختص بما كان من بني النضير، وأما سهمه من خيبر وفدك فكان حكمه إلى من يقوم بالأمر بعده وكان أبو بكر يقدم نفقة نساء النبي صلى الله عليه وسلم وغيرها مما كان يصرفه فيصرفه من خيبر وفدك، وما فضل من ذلك لمقله في المصالح وعمل عمر بعده بذلك فلما كان عثمان تصرف في فدك بحسب

(6/203)


ما رآه، فروى أبو داود من طريق مغيرة بن مقسم قال: "جمع عمر بن عبد العزيز بني مروان فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينفق من فدك على بني هاشم ويزوج أيمهم، وأن فاطمة سألته أن يجعلها لها فأبى، وكانت كذلك في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، ثم أقطعها مروان يعني في أيام عثمان" قال الخطابي، إنما أقطع عثمان فدك لمروان لأنه تأول أن الذي يختص بالنبي صلى الله عليه وسلم يكون للخليفة بعده، فاستغنى عثمان عنها بأمواله فوصل بها بعض قرابته ويشهد لصنيع أبي بكر حديث أبي هريرة المرفوع الآتي بعد باب بلفظ: "ما تركت بعد نفقة نسائي ومئونة عاملي فهو صدقة" فقد عمل أبو بكر وعمر بتفصيل ذلك بالدليل الذي قام لهما، وسيأتي تمام البحث في قوله: "لا نورث" في كتاب الفرائض إن شاء الله تعالى قوله: "فهما على ذلك إلى اليوم" هو كلام الزهري أي حين حدث بذلك قوله: "قال أبو عبد الله" أي المصنف "اعتراك: افتعلت" كذا فيه، ولعله كان "افتعلك" وكذا وقع في "المجاز" لأبي عبيدة وقوله: "من عروته فأصبته ومنه يعروه واعتراني" أراد بذلك شرح قوله: "يعروه" وبين تصاريفه وأن معناه الإصابة كيفما تصرف، وأشار إلى قوله تعالى: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} وهذه عادة البخاري يفسر اللفظة الغريبة من الحديث بتفسير اللفظة الغريبة من القرآن. حديث عمر مع العباس وعلي، وقع قبله في رواية أبي ذر وحده قصة فدك، وكأنها ترجمة لحديث من أحاديث الباب، وقد بينت أمر فدك في الذي قبله قوله: "حدثنا إسحاق بن محمد الفروي" هو شيخ البخاري الذي تقدم قريبا في "باب قتال اليهود" وقد حدث عنه بواسطة كما تقدم في الصلح. وفي رواية ابن شبويه عن الفربري "حدثنا محمد بن إسحاق الفروي" وهو مقلوب، وحكى عياض عن رواية القابسي مثله قال: وهو وهم قلت: وهذا الحديث مما رواه مالك خارج الموطأ وفي هذا الإسناد لطيفة من علوم الحديث مما لم يذكره ابن الصلاح وهي تشابه الطرفين، مثاله ما وقع هنا: ابن شهاب عن مالك وعنه مالك، الأعلى ابن أوس والأدنى ابن أنس قوله: "وكان محمد بن جبير" أي ابن مطعم "قد ذكر لي ذكرا من حديثه ذلك" أي الآتي ذكره. قوله: "فانطلقت حتى أدخل" كذا فيه بصيغة المضارعة في موضع الماضي في الموضعين، وهي مبالغة لإرادة استحضار صورة الحال، ويجوز ضم "أدخل" على أن حتى عاطفة، أي انطلقت فدخلت والفتح على أن حتى بمعنى إلى أن قوله: "مالك بن أوس" ابن الحدثان بفتح المهملتين والمثلثة، وهو نصري بالنون المفتوحة والصاد المهملة الساكنة، وأبوه صحابي، وأما هو فقد ذكر في الصحابة. وقال ابن أبي حاتم وغيره لا تصح له صحبة، وحكى ابن أبي خيثمة عن مصعب أو غيره أنه ركب الخيل في الجاهلية قلت: فعلى هذا لعله لم يدخل المدينة إلا بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم كما وقع لقيس بن أبي حازم: دخل أبوه وصحب وتأخر هو مع إمكان ذلك، وقد تشارك أيضا في أنه قيل في كل منهما إنه أخذ عن العشرة وليس لمالك بن أوس هذا في البخاري سوى هذا الحديث وآخر في البيوع، وفي صنيع ابن شهاب ذلك أصل في طلب علو الإسناد، لأنه لم يقتنع بالحديث عنه حتى دخل عليه ليشافهه به، وفيه حرص ابن شهاب على طلب الحديث وتحصيله. "تنبيه": ظن قوم أن الزهري تفرد برواية هذا الحديث، فقال أبو علي الكرابيسي: أنكره قوم وقالوا هذا من مستنكر ما رواه ابن شهاب، قال: فإن كانوا علموا أنه ليس بفرد فهيهات، وإن لم يعلموا فهو جهل، فقد رواه عن مالك بن أوس عكرمة بن خالد وأيوب بن خالد ومحمد بن عمرو بن عطاء وغيرهم. قوله: "حين متع النهار" بفتح الميم والمثناة الخفيفة بعدها مهملة أي علا وامتد، وقيل هو ما قبل الزوال ووقع في رواية مسلم من طريق جويرية عن مالك

(6/204)


"حين تعالى النهار" وفي رواية يونس عن ابن شهاب عند عمر بن شبة "بعدما ارتفع النهار". قوله: "إذا رسول عمر" لم أقف على اسمه، ويحتمل أن يكون هو يرفأ الحاجب الآتي ذكره قوله: "على رمال سرير" بكسر الراء وقد تضم، وهو ما ينسخ من سعف النخل وأغرب الداودي فقال: هو السرير الذي يعمل من الجريد. وفي رواية جويرية "فوجدته في بيته جالسا على سرير مفضيا إلى رماله"، أي ليس تحته فراش، والإفضاء إلى الشيء لا يكون بحائل، وفيه إشارة إلى أن العادة أن يكون على السرير فراش قوله: "فقال يا مال" كذا هو بالترخيم أي مالك، ويجوز في اللام الكسر على الأصل، والضم على أنه صار اسما مستقلا فيعرب إعراب المنادى المفرد قوله: "إنه قدم علينا من قومك" أي من بني نصر بن معاوية بن بكر بن هوازن وفي رواية جويرية عند مسلم: "دف أهل أبيات" أي ورد جماعة بأهليهم شيئا بعد شيء يسيرون قليلا قليلا، والدفيف السير اللين، وكأنهم كانوا قد أصابهم جدب في بلادهم فانتجعوا المدينة قوله: "برضخ" بفتح الراء وسكون المعجمة بعدها خاء معجمة أي عطية غير كثيرة ولا مقدرة وقوله: "لو أمرت به غيري" قاله تحرجا من قبول الأمانة، ولم يبين ما جرى له فيه اكتفاء بقرينة الحال، والظاهر أنه قبضه لعزم عمر عليه ثاني مرة قوله: "أتاه حاجبه يرفا" بفتح التحتانية وسكون الراء بعدها فاء مشبعة بغير همز وقد تهمز وهي روايتنا من طريق أبي ذر، ويرفا هذا كان من موالي عمر أدرك الجاهلية ولا تعرف له صحبة، وقد حج مع عمر في خلافة أبي بكر، وله ذكر في حديث ابن عمر، قال: "قال عمر لمولى له يقال له يرفا إذا جاء طعام يزيد بن أبي سفيان فأعلمني" فذكر قصة وروى سعيد بن منصور عن أبي الأحوص عن أبي إسحاق عن يرفا قال: "قال لي عمر: إني أنزلت نفسي من مال المسلمين منزلة مال اليتيم" وهذا يشعر بأنه عاش إلى خلافة معاوية قوله: "هل لك في عثمان" أي ابن عفان "وعبد الرحمن"، ولم أر في شيء من طرفه زيادة على الأربعة المذكورين إلا في رواية للنسائي وعمر بن شبة من طريق عمرو بن دينار عن ابن شهاب وزاد فيها "وطلحة بن عبيد الله" وكذا في رواية الإمامي عن ابن شهاب عند عمر بن شبة أيضا، وكذا أخرجه أبو داود من طريق أبي البختري عن رجل لم يسمه قال: "دخل العباس وعلي" فذكر القصة بطولها وفيها ذكر طلحة، لكن لم يذكر عثمان قوله: "فأذن لهم فدخلوا" في رواية شعيب في المغازي "فأدخلهم" قوله: "ثم قال: هل لك في علي وعباس" زاد شعيب يستأذنان قوله: "فقال عباس يا أمير المؤمنين اقض بيني وبين هذا" زاد شعيب ويونس "فاستب علي وعباس" وفي رواية عقيل عن ابن شهاب في الفرائض "اقض بيني وبين هذا الظالم؛ استبا" وفي رواية جويرية "وبين هذا الكاذب الآثم الغادر الخائن" ولم أر في شيء من الطرق أنه صدر من علي في حق العباس شيء بخلاف ما يفهم قوله في رواية عقيل "استبا" واستصوب المازري صنيع من حذف هذه الألفاظ من هذا الحديث وقال: لعل بعض الرواة وهم فيها، وإن كانت محفوظة، فأجود ما تحمل عليه أن العباس قالها دلالا على علي لأنه كان عنده بمنزلة الولد، فأراد ردعه عما يعتقد أنه مخطئ فيه، وأن هذه الأوصاف يتصف بها لو كان يفعل ما يفعله عن عمد، قال: ولا بد من هذا التأويل لوقوع ذلك بمحضر الخليفة ومن ذكر معه ولم يصدر منهم إنكار لذلك مع ما علم من تشددهم في إنكار المنكر قوله: "وهما يختصمان فيما أفاء الله على رسوله من مال بني النضير" يأتي القول فيه قريبا قوله: "فقال الرهط" في رواية مسلم: "فقال القوم" وزاد: "فقال مالك بن أوس: يخيل إلي أنهم قد كانوا قدموهم لذلك" قلت: ورأيت في رواية معمر عن الزهري في مسند ابن أبي عمر "فقال الزبير بن العوام: اقض بينهما" فأفادت تعيين من باشر سؤال عمر في

(6/205)


ذلك قوله: "تئيدكم" كذا في رواية أبي ذر بفتح المثناة وكسر التحتانية مهموز وفتح الدال، قال ابن التين أصلها تيدكم، والتؤدة: الرفق ووقع في رواية الأصيلي بكسر أوله وضم الدال وهو اسم فعل كرويدا أي اصبروا وأمهلوا وعلى رسلكم وقيل إنه مصدر تاد يتيد، كما يقال سيروا سيركم، ورد بأنه لم يسمع في اللغة ويؤيد الأول ما وقع في رواية عقيل وشعيب "أتيدوا" أي تمهلوا؛ وكذا عند مسلم وأبي داود وللإسماعيلي من طريق بشر بن عمر عن مالك "فقال عمر أيتد" بلفظ الأمر للمفرد قوله: "أنشدكما أتعلمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال ذلك" كذا فيه. وفي رواية مسلم: "قالا: نعم" ومعنى أنشدكما أسألكما رافعا نشدي أي صوتي قوله: "إن الله قد خص رسوله صلى الله عليه وسلم في هذا الفيء بشيء" في رواية مسلم: "بخاصة لم يخصص بها غيره" وفي رواية عمرو بن دينار عن ابن شهاب في التفسير "كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله، فكانت له خاصة، وكان ينفق على أهله منها نفقة سنة، ثم يجعل ما بقي في السلاح والكراع عدة في سبيل الله" وفي رواية سفيان عن معمر عن الزهري الآتية في النفقات "كان النبي صلى الله عليه وسلم يبيع نخل بني النضير ويحبس لأهله فوت سنتهم" أي ثمر النخل وفي رواية أبي داود من طريق أسامة بن زيد عن ابن شهاب "كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث صفايا: بنو النضير، وخيبر، وفدك فأما بنو النضير فكانت حبسا لنوائبه، وأما فدك فكانت حبسا لأبناء السبيل، وأما خيبر فجزأها بين المسلمين ثم قسم جزءا لنفقة أهله، وما فضل منه جعله في فقراء المهاجرين" ولا تعارض بينهما لاحتمال أن يقسم في فقراء المهاجرين وفي مشتري السلاح والكراع، وذكر مفسر لرواية معمر عند مسلم، ويجعل ما بقي منه مجعل مال الله وزاد أبو داود في رواية أبي البختري المذكورة "وكان ينفق على أهله ويتصدق بفضله" وهذا لا يعارض حديث عائشة "أنه صلى الله عليه وسلم توفي ودرعه مرهونة على شعير" لأنه يجمع بينهما بأنه كان يدخر لأهله قوت سنتهم ثم في طول السنة يحتاج لمن يطرقه إلى إخراج شيء منه فيخرجه، فيحتاج إلى أن يعوض من يأخذ منها عوضه، فلذلك استدان قوله: "ما اجتازها" كذا للأكثر بحاء مهملة وزاي معجمة. وفي رواية الكشميهني بخاء معجمة وراء مهملة، هذا ظاهر في أن ذلك كان مختصا بالنبي صلى الله عليه وسلم، إلا أنه واسى به أقرباءه وغيرهم بحسب حاجتهم ووقع في رواية عكرمة ابن خالد عن مالك بن أوس عند النسائي ما يؤيد ذلك قوله: "ثم قال لعلي وعباس: أنشدكما الله هل تعلمان ذلك؟" زاد في رواية عقيل "قالا: نعم". قوله: "ثم توفى الله نبيه صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر: أنا ولي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقبضها أبو بكر، فعمل فيها بما عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم" زاد في رواية عقيل "وأنتما حينئذ - وأقبل على علي وعباس - تزعمان أن أبا بكر كذا وكذا" وفي رواية شعيب "كما تقولان" وفي رواية مسلم من الزيادة "فجئتما، تطلب ميراثك من ابن أخيك، ويطلب هذا ميراث امرأته من أبيها، فقال أبو بكر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا نورث ما تركنا صدقة، فرأيتما كاذبا آثما غادرا خائنا" وكأن الزهري كان يحدث به تارة فيصرح، وتارة فيكنى وكذلك مالك وقد حذف ذلك في رواية بشر بن عمر عنه عند الإسماعيلي وغيره وهو نظير ما سبق من قول العباس لعلي وهذه الزيادة من رواية عمر عن أبي بكر حذفت من رواية إسحاق الفروي شيخ البخاري وقد ثبت أيضا في رواية بشر بن عمر عنه عند أصحاب السنن والإسماعيلي وعمرو بن مرزوق وسعيد بن داود كلاهما عند الدار قطني عن مالك على ما قال جويرية عن مالك، واجتماع هؤلاء عن مالك يدل على أنهم حفظوه وهذا القدر المحذوف من رواية إسحاق ثبت من روايته في موضح آخر من الحديث، لكن جعل القصة فيه لعمر حيث قال: "جئتني يا عباس تسألني

(6/206)


نصيبك من ابن أخيك؟" وفيه: "فقلت لكما: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا نورث " فاشتمل هذا الفصل على مخالفة إسحاق لبقية الرواة عن مالك في كونهم جعلوا القصة عند أبي بكر وجعلوا الحديث المرفوع من حديث أبي بكر من رواية عمر عنه وإسحاق الفروي حمل القصة عند عمر وجعل الحديث المرفوع من روايته عن النبي صلى الله عليه وسلم بغير واسطة أبي بكر وقد وقع في رواية شعيب عن ابن شهاب نظير ما وقع في رواية إسحاق الفروي سواء، وكذلك وقع في رواية يونس عن ابن شهاب عند عمر بن شبة، وأما رواية عقيل الآتية في الفرائض فاقتصر فيها على أن القصة وقعت عند عمر بغير ذكر الحديث المرفوع أصلا، وهذا يشعر بأن لسياق إسحاق الفروي أصلا، فلعل القصتين محفوظتان، واقتصر بعض الرواة على ما لم يذكره الآخر، ولم يتعرض أحد من الشراح لبيان ذلك وفي ذلك إشكال شديد وهو أن أصل القصة صريح في أن العباس وعليا قد علما بأنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا نورث" فإن كانا سمعاه من النبي صلى الله عليه وسلم فكيف يطلبانه من أبي بكر؟ وإن كانا إنما سمعاه من أبي بكر أو في زمنه بحيث أفاد عندهما العلم بذلك فكيف يطلبانه بعد ذلك من عمر؟ والذي يظهر - والله أعلم - حمل الأمر في ذلك على ما تقدم في الحديث الذي قبله في حق فاطمة، وأن كلا من علي وفاطمة والعباس اعتقد أن عموم قوله: "لا نورث" مخصوص ببعض ما يخلفه دون بعض، ولذلك نسب عمر إلى علي وعباس أنهما كانا يعتقدان ظلم من خالفهما في ذلك وأما مخاصمة علي وعباس بعد ذلك ثانيا عند عمر فقال إسماعيل القاضي فيما رواه الدار قطني من طريقه: لم يكن في الميراث، إنما تنازعا في ولاية الصدقة وفي صرفها كيف تصرف، كذا قال، لكن في رواية النسائي وعمر بن شبة من طريق أبي البختري ما يدل على أنهما أراد أن يقسم بينهما على سبيل الميراث، ولفظه في آخره: "ثم جئتماني الآن تختصمان: يقول هذا أريد نصيبي من ابن أخي، ويقول هذا أريد نصيبي من امرأتي، والله لا أفضي بينكما إلا بذلك" أي إلا بما تقدم من تسليمها لهما على سبيل الولاية وكذا وقع عند النسائي من طريق عكرمة بن خالد عن مالك بن أوس نحوه وفي السنن لأبي داود وغيره: "أرادا أن عمر يقسمها لينفرد كل منهما بنظر ما يتولاه، فامتنع عمر من ذلك وأراد أن لا يقع عليها اسم قسم ولذلك أقسم على ذلك" وعلى هذا اقتصر أكثر الشراح واستحسنوه، وفيه من النظر ما تقدم وأعجب من ذلك جزم ابن الجوزي ثم الشيخ محيي الدين بأن عليا وعباسا لم يطلبا من عمر إلا ذلك، مع أن السياق صريح في أنهما جاءاه مرتين في طلب شيء واحد، لكن العذر لابن الجوزي والنووي أنهما شرحا اللفظ الوارد في مسلم دون اللفظ الوارد في البخاري والله أعلم وأما قول عمر: "جئتني يا عباس تسألني نصيبك من ابن أخيك" فإنما عبر بذلك لبيان قسمة الميراث كيف يقسم أن لو كان هناك ميراث، لا أنه أراد الغض منهما بهذا الكلام وزاد الإمامي عن ابن شهاب عند عمر بن شبة في آخره: "فأصلحا أمركما وإلا لم يرجع والله إليكما فقاما وتركا الخصومة وأمضيت صدقة" وزاد شعيب في آخره: "قال ابن شهاب فحدثت به عروة فقال: صدق مالك بن أوس، أنا سمعت عائشة تقول" فذكر حديثا، قال: "وكانت هذه الصدقة بيد علي منعها عباسا فغلبه عليها،ثم كانت بيد الحسن ثم بيد الحسين ثم بيد علي ابن الحسين والحسن بن الحسن ثم بيد زيد بن الحسن وهي صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم حقا" وروى عبد الرزاق عن معمر عن الزهري مثله وزاد في آخره: قال معمر ثم كانت بيد عبد الله بن حسن حتى ولى هؤلاء - يعني بني العباس - فقبضوها وزاد إسماعيل القاضي أن إعراض العباس عنها كان في خلافة عثمان، قال عمر بن شبة: سمعت أبا غسان هو محمد بن يحيى المدني يقول: أن الصدقة المذكورة اليوم بيد الخليفة يكتب في عهده يولي عليها من قبله من

(6/207)


يقبضها ويفرقها في أهل الحاجة من أهل المدينة قلت: كان ذلك على رأس المائتين، ثم تغيرت الأمور والله المستعان واختلف العلماء في مصرف الفيء فقال مالك: الفيء والخمس سواء، يجعلان في بيت المال ويعطى الإمام أقارب النبي صلى الله عليه وسلم بحسب اجتهاده، وفرق الجمهور بين خمس الغنيمة وبين الفيء فقال: الخمس موضوع فيما عينه الله فيه من الأصناف المسمين في آية الخمس من سورة الأنفال لا يتعدى به إلى غيرهم، وأما الفيء فهو الذي يرجع النظر في مصرفه إلى رأي الإمام بحسب المصلحة وانفرد الشافعي كما قال ابن المنذر وغيره بأن الفيء يخمس، وأن أربعة أخماسه للنبي صلى الله عليه وسلم، وله خمس الخمس كما في الغنيمة، وأربعة أخماس الخمس لمستحق نظيرها من الغنيمة وقال الجمهور: مصرف الفيء كله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، واحتجوا بقول عمر "فكانت هذه لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة" وتأول الشافعي قول عمر المذكور بأنه يريد الأخماس الأربعة قال ابن بطال: مناسبة ذكر حديث عائشة في قصة فاطمة في "باب فرض الخمس" أن الذي سألت فاطمة أن تأخذه من جملته خيبر، والمراد به سهمه صلى الله عليه وسلم منها وهو الخمس، وسيأتي في المغازي بلفظ: "مما أفاء الله عليه بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر"، وفي حديث عمر أنه يجب أن يتولى أمر كل قبيلة كبيرهم لأنه أعرف باستحقاق كل رجل منهم، وأن للإمام أن ينادي الرجل الشريف الكبير باسمه وبالترخيم حيث لم يرد بذلك تنقيصه وفيه استعفاء المرء من الولاية، وسؤاله الإمام ذلك بالرفق، وفيه اتخاذ الحاجب، والجلوس بين يدي الإمام، والشفاعة عنده في إنفاذ حكم وتبيين الحاكم وجه حكمه وفيه إقامة الإمام من ينظر على الوقف نيابة عنه، والتشريك بين الاثنين في ذلك ومنه يؤخذ جواز أكثر منهما بحسب المصلحة وفيه جواز الادخار خلافا لقول من أنكره من مشددي المتزهدين، وأن ذلك لا ينافي التوكل وفيه جواز اتخاذ العقار واستغلال منفعته، ويؤخذ منه جواز اتخاذ غير ذلك من الأموال التي يحصل بها النماء والمنفعة من زراعة وتجارة وغير ذلك وفيه أن الإمام إذا قام عنده الدليل صار إليه وقضى بمقتضاه ولم يحتج إلى أخذه من غيره ويؤخذ منه جواز حكم الحاكم بعلمه، وأن الأتباع إذا رأوا من الكبير انقباضا لم يفاتحوه حتى يفاتحهم بالكلام واستدل به على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يملك شيئا من الفيء ولا خمس الغنيمة إلا قدر حاجته وحاجة من يمونه، وما زاد على ذلك كان له فيه التصرف بالقسم والعطية وقال آخرون لم يجعل الله لنبيه ملك رقبة ما غنمه، وإنما ملكه منافعه وجعل له منه قدر حاجته، وكذلك القائم بالأمر بعده وقال ابن الباقلاني في الرد على من زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم يورث: احتجوا بعموم قوله تعالى :{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} قال: أما من أنكر العموم فلا استغراق عنده لكل من مات أنه يورث، وأما من أثبته فلا يسلم دخول النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، ولو سلم دخوله لوجب تخصيصه لصحة الخبر، وخبر الآحاد يخصص وإن كان لا ينسخ، فكيف بالخبر إذا جاء مثل مجيء هذا الخبر وهو "لا نورث" .

(6/208)


2 - باب أَدَاءُ الْخُمُسِ مِنْ الدِّينِ
3095- حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ أَبِي جَمْرَةَ الضُّبَعِيِّ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ: "قَدِمَ وَفْدُ عَبْدِ الْقَيْسِ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا هَذَا الْحَيَّ مِنْ رَبِيعَةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ كُفَّارُ مُضَرَ فَلَسْنَا نَصِلُ إِلَيْكَ إِلاَّ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ فَمُرْنَا بِأَمْرٍ نَأْخُذُ بِهِ وَنَدْعُو إِلَيْهِ مَنْ وَرَاءَنَا قَالَ آمُرُكُمْ بِأَرْبَعٍ، وَأَنْهَاكُمْ

(6/208)


عَنْ أَرْبَعٍ: الإِيمَانِ بِاللَّهِ شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَعَقَدَ بِيَدِهِ، وَإِقَامِ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصِيَامِ رَمَضَانَ، وَأَنْ تُؤَدُّوا لِلَّهِ خُمُسَ مَا غَنِمْتُمْ. وَأَنْهَاكُمْ عَنْ الدُّبَّاءِ، وَالنَّقِيرِ، وَالْحَنْتَمِ، وَالْمُزَفَّتِ".
قوله: "باب أداء الخمس من الدين" أورد فيه حديث ابن عباس في قصة وفد عبد القيس. وقد تقدم شرحه في كتاب الإيمان، وترجم عليه هناك "أداء الخمس من الإيمان" وهو على قاعدته في ترادف الإيمان والإسلام والدين وقد تقدم في كتاب الإيمان من شرح ذلك ما فيه كفاية، وتقدم في أول الخمس بيان ما يتعلق به.

(6/209)


باب نفقة نساء النبي صلى الله عليه و سلم بعد وفاته
...
3 - باب نَفَقَةِ نِسَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ وَفَاتِهِ
3096- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لاَ يَقْتَسِمُ وَرَثَتِي دِينَارًا مَا تَرَكْتُ بَعْدَ نَفَقَةِ نِسَائِي وَمَئُونَةِ عَامِلِي فَهُوَ صَدَقَةٌ".
3097- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: "تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا فِي بَيْتِي مِنْ شَيْءٍ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ إِلاَّ شَطْرُ شَعِيرٍ فِي رَفٍّ لِي فَأَكَلْتُ مِنْهُ حَتَّى طَالَ عَلَيَّ فَكِلْتُهُ فَفَنِيَ".
[الحديث 3097 – طرفه في: 6451]
3098- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ سُفْيَانَ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو إِسْحَاقَ قَالَ سَمِعْتُ عَمْرَو بْنَ الْحَارِثِ قَالَ: "مَا تَرَكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلاَّ سِلاَحَهُ وَبَغْلَتَهُ الْبَيْضَاءَ وَأَرْضًا تَرَكَهَا صَدَقَةً".
قوله: "باب نفقة نساء النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته" ذكر فيه ثلاثة أحاديث: أحدها: حديث أبي هريرة "لا تقتسم ورثتي دينارا" وقد تقدم بهذا الإسناد في أواخر الوقف، وقد تقدم ما يتعلق بشرحه قبل بباب، وسيأتي بقية ما يتعلق منه بالميراث في الفرائض واختلف في المراد بقوله: "عاملي" فقيل الخليفة بعده، وهذا هو المعتمد وهو الذي يوافق ما تقدم في حديث عمر وقيل: يريد بذلك العامل على النخل، وبه جرم الطبري وابن بطال وأبعد من قال: المراد بعامله حافر قبره عليه الصلاة والسلام وقال ابن دحية في الخصائص: المراد بعامله خادمه وقيل العامل على الصدقة وقيل العامل فيها كالأجير وقوله في هذه الرواية "دينار" كذا وقع في رواية مالك عن أبي الزناد في الصحيحين، فقيل هو تنبيه بالأدنى على الأعلى وأخرجه مسلم من رواية سفيان بن عيينة عن أبي الزناد بلفظ: "دينارا ولا درهما" وهي زيادة حسنة، وتابعه عليها سفيان الثوري عن أبي الزناد عند الترمذي في الشمائل واستدل به على أجرة القسام. ثانيها: حديث عائشة في قصة الشعير الذي كان في رفها فكالته ففني، وسيأتي بسنده ومتنه وشرحه في الرقاق، وتقدم الإلمام بشيء من ذلك في "باب ما يستحب من الكيل" أوائل البيوع قال ابن المنير: وجه دخول حديث عائشة في الترجمة أنها لو لم تستحق النفقة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم لأخذ الشعير منها. ثالثها:

(6/209)


حديث أبي إسحاق وهو السبيعي عن عمرو بن الحارث "ما ترك النبي صلى الله عليه وسلم إلا سلاحه" الحديث وقد تقدم في الوصايا وأن شرحه يأتي مستوفى في أواخر المغازي، ووقع عند القابسي في أوله "حدثنا يحيى عن سفيان" فسقط عليه شيخ البخاري مسدد ولا بد منه، نبه عليه الجياني، ولو كان على ظاهر ما عنده لأمكن أن يكون يحيى هو ابن موسى أو ابن جعفر وسفيان هو ابن عيينة.

(6/210)


باب ما جاء في بيوت أزواج النبي صلى الله عليه و سلم ، و ما نسب من البيوت إليهن
...
4 - باب مَا جَاءَ فِي بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا نُسِبَ مِنْ الْبُيُوتِ إِلَيْهِنَّ،
وَقَوْلِ اللَّهِ عزَّ وَجَلَّ [33 الأحزاب]: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ}،
وَ[53 الأحزاب]: {لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ}
3099- حَدَّثَنَا حِبَّانُ بْنُ مُوسَى وَمُحَمَّدٌ قَالاَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ وَيُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: "لَمَّا ثَقُلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَأْذَنَ أَزْوَاجَهُ أَنْ يُمَرَّضَ فِي بَيْتِي فَأَذِنَّ لَهُ".
3100- حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنَا نَافِعٌ سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: "تُوُفِّيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِي وَفِي نَوْبَتِي وَبَيْن سَحْرِي وَنَحْرِي وَجَمَعَ اللَّهُ بَيْنَ رِيقِي وَرِيقِهِ قَالَتْ دَخَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بِسِوَاكٍ فَضَعُفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ فَأَخَذْتُهُ فَمَضَغْتُهُ ثُمَّ سَنَنْتُهُ بِهِ".
3101- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ "أَنَّ صَفِيَّةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا جَاءَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزُورُهُ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ فِي الْمَسْجِدِ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ ثُمَّ قَامَتْ تَنْقَلِبُ فَقَامَ مَعَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إِذَا بَلَغَ قَرِيبًا مِنْ بَابِ الْمَسْجِدِ عِنْدَ بَابِ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِهِمَا رَجُلاَنِ مِنْ الأَنْصَارِ فَسَلَّمَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ نَفَذَا فَقَالَ لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رِسْلِكُمَا قَالاَ سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَبُرَ عَلَيْهِمَا ذَلِكَ. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الشَّيْطَانَ يَبْلُغُ مِنْ الإِنْسَانِ مَبْلَغَ الدَّمِ وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا شَيْئًا".
3102- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ عَنْ وَاسِعِ بْنِ حَبَّانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "ارْتَقَيْتُ فَوْقَ بَيْتِ حَفْصَةَ فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْضِي حَاجَتَهُ مُسْتَدْبِرَ الْقِبْلَةِ مُسْتَقْبِلَ الشَّأْمِ".
3103- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الْعَصْرَ وَالشَّمْسُ لَمْ تَخْرُجْ مِنْ حُجْرَتِهَا".
3104- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "قَامَ

(6/210)


النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطِيبًا فَأَشَارَ نَحْوَ مَسْكَنِ عَائِشَةَ فَقَالَ هُنَا الْفِتْنَةُ ثَلاَثًا مِنْ حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَانِ".
[الحديث 3104 – أطرافه في: 3279، 3511، 5296، 7092، 7093]
3105- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَمْرَةَ ابْنَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَتْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عِنْدَهَا وَأَنَّهَا سَمِعَتْ صَوْتَ إِنْسَانٍ يَسْتَأْذِنُ فِي بَيْتِ حَفْصَةَ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا رَجُلٌ يَسْتَأْذِنُ فِي بَيْتِكَ. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أُرَاهُ فُلاَنًا لِعَمِّ حَفْصَةَ مِنْ الرَّضَاعَةِ الرَّضَاعَةُ تُحَرِّمُ مَا تُحَرِّمُ الْوِلاَدَةُ".
قوله: "باب ما جاء في بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وما نسب من البيوت إليهن، وقول الله عز وجل: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} و {لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ}". قال ابن المنير غرضه بهذه الترجمة أن يبين أن هذه النسبة تحقق دوام استحقاقهن للبيوت ما بقين، لأن نفقتهن وسكناهن من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم، والسر فيه حبسهن عليه ثم ذكر فيه سبعة أحاديث: أحدها: حديث عائشة "استأذن أزواجه أن يمرض في بيتي" ذكره مختصرا. ثانيها: حديثها "توفي في بيتي وفي نوبتي" وفيه ذكر السواك مع عبد الرحمن، وسيأتي الكلام عليهما مستوفى في أواخر المغازي إن شاء الله تعالى. ثالثها: حديث صفية بنت حيي أنها جاءت تزوره وهو معتكف، والغرض منه قولها فيه: "عند باب أم سلمة" وقد تقدم شرحه في الاعتكاف. رابعها: حديث ابن عمر "ارتقيت فوق بيت حفصة" وقد تقدم شرحه في الطهارة. خامسها: حديث عائشة "كان يصلي العصر والشمس لم تخرج من حجرتها" وقد تقدم شرحه في المواقيت. سادسها: حديث عبد الله وهو ابن عمر "الفتنة هاهنا" وسيأتي شرحه في الفتن، والغرض منه. قوله: "وأشار نحو مسكن عائشة" واعترض الإسماعيلي بأن ذكر المسكن لا يناسب ما قصد، لأنه يستوي فيه المالك والمستعير وغيرهما. سابعها: حديث عائشة "أنها سمعت صوت إنسان يستأذن في بيت حفصة" وقد تقدم بهذا الإسناد في الشهادات، ويأتي شرحه في الرضاع. "تنبيه": وقع في سياقه في الشهادات زيادة على سبيل الوهم في رواية أبي ذر، وكذا في رواية الأصيلي عن شيخه، وقد ضرب عليها في بعض نسخ أبي ذر والصواب حذفها، ولفظ الزيادة "فقلت يا رسول الله أراه فلانا لعم حفصة من الرضاعة فقالت عائشة" فهذا القدر زائد والصواب حذفه كما نبه عليه صاحب المشارق، قال الطبري: قيل كان النبي صلى الله عليه وسلم ملك كلا من أزواجه البيت الذي هي فيه فسكن بعده فيهن بذلك التمليك، وقيل إنما لم ينازعهن في مساكنهن لأن ذلك من جملة مئونتهن التي كان النبي صلى الله عليه وسلم استثناها لهن مما كان بيده أيام حياته حيث قال: "ما تركت بعد نفقة نسائي" قال: وهذا أرجح، ويؤيده أن ورثتهن لم يرثن عنهن منازلهن، ولو كانت البيوت ملكا لهن لانتقلت إلى ورثتهن، وفي ترك ورثتهن حقوقهم منها دلالة على ذلك، ولهذا زيدت بيوتهن في المسجد النبوي بعد موتهن لعموم نفعه للمسلمين كما فعل فيما كان يصرف لهن من النفقات والله أعلم وادعى المهلب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان حبس عليهن بيوتهن، ثم استدل به على أن من حبس دارا جاز له أن يسكن منها في موضع وتعقبه ابن المنير بمنع أصل الدعوى، ثم على التنزل لا يوافق ذلك مذهبه إلا إن صرح بالاستثناء، ومن أين له ذلك؟

(6/211)


باب ما ذكر من درع النبي صلى اله عليه و سلم و عصاه و سيفه و قدحه و خاتمه و ما استعمل الخلفاء بعده من ذلك مما لم يذكر قسمته و من شعره و نعله و آنيته مما تبرك أصحابه و غيرهم بعد وفاته
...
5 - باب مَا ذُكِرَ مِنْ دِرْعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَصَاهُ وَسَيْفِهِ وَقَدَحِهِ وَخَاتَمِهِ
وَمَا اسْتَعْمَلَ الْخُلَفَاءُ بَعْدَهُ مِنْ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ قِسْمَتُهُ
وَمِنْ شَعَرِهِ وَنَعْلِهِ وَآنِيَتِهِ مِمَّا يَتَبَرَّكُ أَصْحَابُهُ وَغَيْرُهُمْ بَعْدَ وَفَاتِهِ
3106- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ ثُمَامَةَ عَنْ أَنَسٍ "أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا اسْتُخْلِفَ بَعَثَهُ إِلَى الْبَحْرَيْنِ وَكَتَبَ لَهُ هَذَا الْكِتَابَ وَخَتَمَهُ بِخَاتَمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ نَقْشُ الْخَاتَمِ ثَلاَثَةَ أَسْطُرٍ مُحَمَّدٌ سَطْرٌ وَرَسُولُ سَطْرٌ وَاللَّهِ سَطْرٌ".
3107- حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَسَدِيُّ حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ طَهْمَانَ قَالَ: "أَخْرَجَ إِلَيْنَا أَنَسٌ نَعْلَيْنِ جَرْدَاوَيْنِ لَهُمَا قِبَالاَنِ فَحَدَّثَنِي ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ بَعْدُ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُمَا نَعْلاَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
[الحديث 3107 – طرفاه 5857، 5858]
3108- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلاَلٍ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ قَالَ: "أَخْرَجَتْ إِلَيْنَا عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كِسَاءً مُلَبَّدًا وَقَالَتْ فِي هَذَا نُزِعَ رُوحُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ". وَزَادَ سُلَيْمَانُ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ قَالَ: "أَخْرَجَتْ إِلَيْنَا عَائِشَةُ إِزَارًا غَلِيظًا مِمَّا يُصْنَعُ بِالْيَمَنِ وَكِسَاءً مِنْ هَذِهِ الَّتِي يَدْعُونَهَا الْمُلَبَّدَةَ".
[الحديث 3108 – طرفه في: 5818]
3109- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ قَدَحَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْكَسَرَ فَاتَّخَذَ مَكَانَ الشَّعْبِ سِلْسِلَةً مِنْ فِضَّةٍ". قَالَ عَاصِمٌ: "رَأَيْتُ الْقَدَحَ وَشَرِبْتُ فِيهِ".
[الحديث 3109 – طرفه في: 5638]
3110- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجَرْمِيُّ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا أَبِي أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ كَثِيرٍ حَدَّثَهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَلْحَلَةَ الدُّؤَلِيِّ حَدَّثَهُ أَنَّ ابْنَ شِهَابٍ حَدَّثَهُ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ حُسَيْنٍ حَدَّثَهُ "أَنَّهُمْ حِينَ قَدِمُوا الْمَدِينَةَ مِنْ عِنْدِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ مَقْتَلَ حُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ لَقِيَهُ الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ فَقَالَ لَهُ: هَلْ لَكَ إِلَيَّ مِنْ حَاجَةٍ تَأْمُرُنِي بِهَا؟ فَقُلْتُ لَهُ: لاَ. فَقَالَ لَهُ: فَهَلْ أَنْتَ مُعْطِيَّ سَيْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَغْلِبَكَ الْقَوْمُ عَلَيْهِ وَايْمُ اللَّهِ لَئِنْ أَعْطَيْتَنِيهِ لاَ يُخْلَصُ إِلَيْهِمْ أَبَدًا حَتَّى تُبْلَغَ نَفْسِي إِنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ خَطَبَ ابْنَةَ أَبِي جَهْلٍ عَلَى فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلاَم فَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ النَّاسَ فِي ذَلِكَ عَلَى مِنْبَرِهِ هَذَا

(6/212)


- وَأَنَا يَوْمَئِذٍ مُحْتَلِمٌ - فَقَالَ: "إِنَّ فَاطِمَةَ مِنِّي وَأَنَا أَتَخَوَّفُ أَنْ تُفْتَنَ فِي دِينِهَا ثُمَّ ذَكَرَ صِهْرًا لَهُ مِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ فَأَثْنَى عَلَيْهِ فِي مُصَاهَرَتِهِ إِيَّاهُ". قَالَ: "حَدَّثَنِي فَصَدَقَنِي وَوَعَدَنِي فَوَفَى لِي وَإِنِّي لَسْتُ أُحَرِّمُ حَلاَلًا وَلاَ أُحِلُّ حَرَامًا وَلَكِنْ وَاللَّهِ لاَ تَجْتَمِعُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِنْتُ عَدُوِّ اللَّهِ أَبَدًا".
3111- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سُوقَةَ عَنْ مُنْذِرٍ عَنْ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ قَالَ: لَوْ كَانَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ذَاكِرًا عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ذَكَرَهُ يَوْمَ جَاءَهُ نَاسٌ فَشَكَوْا سُعَاةَ عُثْمَانَ فَقَالَ لِي عَلِيٌّ اذْهَبْ إِلَى عُثْمَانَ فَأَخْبِرْهُ أَنَّهَا صَدَقَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمُرْ سُعَاتَكَ يَعْمَلُونَ فِيهَا فَأَتَيْتُهُ بِهَا فَقَالَ أَغْنِهَا عَنَّا فَأَتَيْتُ بِهَا عَلِيًّا فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ ضَعْهَا حَيْثُ أَخَذْتَهَا".
[الحديث 3111 – طرفه في: 3112]
3112- قَالَ الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سُوقَةَ قَالَ سَمِعْتُ مُنْذِرًا الثَّوْرِيَّ عَنْ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ قَالَ: "أَرْسَلَنِي أَبِي خُذْ هَذَا الْكِتَابَ فَاذْهَبْ بِهِ إِلَى عُثْمَانَ فَإِنَّ فِيهِ أَمْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّدَقَةِ".
قوله: "باب ما ذكر من درع النبي صلى الله عليه وسلم وعصاه وسيفه وقدحه وخاتمه، وما استعمل الخلفاء بعده من ذلك" الغرض من هذه الترجمة تثبيت أنه صلى الله عليه وسلم لم يورث ولا بيع موجودة، بل ترك بيد من صار إليه للتبرك به، ولو كانت ميراثا لبيعت وقسمت، ولهذا قال بعد ذلك "مما لم تذكر قسمته" وقوله: "مما تبرك أصحابه" أي به، وحذفه للعلم به، كذا للأصيلي، ولأبي ذر عن شيخيه "شرك" بالشين من الشركة وهو ظاهر. وفي رواية الكشميهني: "مما يتبرك به أصحابه" وهو يقوي رواية الأصيلي وأما قول المهلب: أنه إذا ترجم بذلك ليتأسى به ولاة الأمور في اتخاذ هذه الآلات، ففيه نظر، وما تقدم أولى وهو الأليق لدخوله في أبواب الخمس ثم ذكر فيه أحاديث ليس فيها مما ترجم به إلا الخاتم والنعل والسيف، وذكر فيه الكساء والإزار ولم يصرح بهما في الترجمة، فما ذكره في الترجمة ولم يخرج حديثه في الباب الدرع، ولعله أراد أن يكتب فيها حديث عائشة "أنه صلى الله عليه وسلم توفي ودرعه مرهونة" فلم يتفق ذلك، وقد سبق في البيوع والرهن ومن ذلك العصا ولم يقع لها ذكر في الأحاديث التي أوردها، ولعله أراد أن يكتب حديث ابن عباس "أنه صلى الله عليه وسلم كان يستلم الركن بمحجن" وقد مضى في الحج وسيأتي في حديث علي في تفسير سورة "والليل إذا يغشى" ذكر المخصرة وأنه صلى الله عليه وسلم جعل ينكت بها في الأرض، وهي عصا يمسكها الكبير يتكئ عليها، وكان قضيبه صلى الله عليه وسلم من شوحط، وكانت عند الخلفاء بعده حتى كسرها جهجاه الغفاري في زمن عثمان ومن ذلك الشعر، ولعله أراد أن يكتب فيه حديث أنس الماضي في الطهارة في قول ابن سيرين "عندنا شعر من شعر النبي صلى الله عليه وسلم صار إلينا من قبل أنس". وأما قوله: "وآنيته" بعد ذكر القدح فمن عطف العام على الخاص، ولم يذكر في الباب من الآنية سوى القدح، وفيه كفاية لأنه يدل على ما عداه. حديث أنس في الخاتم، والغرض منه قوله فيه: "أن أبا بكر ختم الكتاب بخاتم النبي صلى الله عليه وسلم" فإنه مطابق لقوله في الترجمة "وما استعمل الخلفاء من ذلك"، وسيأتي في اللباس فيه من

(6/213)


الزيادة أنه كان في يد أبي بكر وفي يد عمر بعده وأنه سقط من يد عثمان، ويأتي شرحه مستوفى هناك إن شاء الله تعالى. حديث أنس "أنه أخرج نعلين جرداوين" بالجيم أي لا شعر عليهما، وقيل: خلقتين. قوله: "لهما" في رواية الكشميهني: "لها قبالان" بكسر القاف وتخفيف الموحدة. قوله: "فحدثني ثابت" القائل هو عيسى بن طهمان راوي الحديث عن أنس، وكأنه رأى النعلين مع أنس ولم يسمع منه نسبتهما، فحدثه بذلك ثابت عن أنس، وسيأتي شرحه في اللباس أيضا إن شاء الله تعالى. قوله: "عن أبي بردة" هو ابن أبي موسى قوله: "كساء ملبدا" أي ثخن وسطه وصفق حتى صار يشبه اللبد، ويقال المراد هنا المرقع قوله: "وزاد سليمان" هو ابن المغيرة "عن حميد" هو ابن هلال، وصله مسلم عن شيبان بن فروخ عن سليمان بن المغيرة به، وسيأتي بقية شرحه في كتاب اللباس أيضا. قوله: "عن أبي حمزة" هو السكري قوله: "عن عاصم عن ابن سيرين" كذا للأكثر، ووقع في رواية أبي زيد المروزي بإسقاط ابن سيرين وهو خطأ، وقد أخرجه البزار في مسنده عن البخاري بهذا الإسناد وقال لا نعلم من رواه عن عاصم هكذا إلا أبا حمزة. وقال الدار قطني: خالفه شريك عن عاصم عن أنس لم يذكر ابن سيرين، والصحيح قول أبي حمزة، قلت: قد رواه أبو عوانة عن عاصم ففصل بعضه عن أنس وبعضه عن ابن سيرين عن أنس، وسيأتي بيانه في الأشربة، ونبه على ذلك أبو علي الجياني وسيأتي بيانه هناك إن شاء الله تعالى قوله: "إن قدح النبي صلى الله عليه وسلم انكسر فاتخذ" في رواية أبي ذر بضم المثناة على البناء للمفعول. وفي رواية غيره بفتحها على البناء للفاعل والضمير للنبي صلى الله عليه وسلم أو لأنس، وجزم بعض الشراح بالثاني واحتج برواية بلفظ: "فجعلت مكان الشعب سلسلة" ولا حجة فيه لاحتمال أن يكون فجعلت بضم الجيم على البناء للمجهول فرجع إلى الاحتمال لإبهام الجاعل قوله: "قال عاصم" هو الأحول الراوي "رأيت القدح وشربت فيه". حديث المسور بن مخرمة في خطبة علي بنت أبي جهل، وسيأتي الكلام عليه مستوفى في النكاح، والغرض منه ما دار بين المسور ابن مخرمة وعلي بن الحسين في أمر سيف النبي صلى الله عليه وسلم، وأراد المسور بذلك صيانة سيف النبي صلى الله عليه وسلم لئلا يأخذه من لا يعرف قدره والذي يظهر أن المراد بالسيف المذكور ذو الفقار الذي تنفله يوم بدر ورأى فيه الرؤيا يوم أحد وقال الكرماني: مناسبة ذكر المسور لقصة خطبة بنت أبي جهل عند طلبه للسيف من جهة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحترز عما يوجب وقوع التكدير بين الأقرباء، أي فكذلك ينبغي أن تعطيني السيف حتى لا يحصل بينك وبين أقربائك كدورة بسببه، أو كما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يراعي جانب بني عمه العبشميين فأنت أيضا راع جانب بني عمك النوفليين لأن المسور نوفلي، كذا قال، والمسور زهري لا نوفلي، قال: أو كما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحب رفاهية خاطر فاطمة عليها السلام فأنا أيضا أحب رفاهية خاطرك لكونك ابن ابنها فأعطني السيف حتى أحفظه لك قلت: وهذا الأخير هو المعتمد وما قبله ظاهر التكلف، وسأذكر إشكالا يتعلق بذلك في كتاب المناقب إن شاء الله تعالى. قوله: "عن محمد بن سوقة" بضم المهملة وسكون الواو ثقة عابد مشهور، وهو وشيخه منذر بن يعلى أبو يعلى الثوري كوفيان قرينان من صغار التابعين قوله: "لو كان علي ذاكرا عثمان" زاد الإسماعيلي عن الحسن بن سفيان عن قتيبة "ذاكرا عثمان بسوء" وروى ابن أبي شيبة من وجه آخر عن محمد بن سوقة "حدثني منذر قال: كنا عند ابن الحنفية فنال بعض القوم من عثمان فقال: مه، فقلنا له أكان أبوك يسب عثمان؟ فقال ما سبه، ولو سبه يوما لسبه يوم جئته" فذكره قوله: "جاءه ناس فشكوا

(6/214)


سعاة عثمان" لم أقف على تعيين الشاكي ولا المشكو والسعاة جمع ساع وهو العامل الذي يسعى في استخراج الصدقة ممن تجب عليه ويحملها إلى الإمام. قوله: "فقال لي علي: اذهب إلى عثمان فأخبره أنها صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي أن الصحيفة التي أرسل بها إلى عثمان مكتوب فيها بيان مصارف الصدقات، وقد بين في الرواية الثانية أنه قال له "خذ هذا الكتاب فإن فيه أمر النبي صلى الله عليه وسلم في الصدقة" وفي رواية ابن أبي شيبة: "خذ كتاب السعاة فاذهب به إلى عثمان". قوله: "أغنها" بهمزة مفتوحة ومعجمة ساكنة وكسر النون أي اصرفها، تقول: أغن وجهك عني أي اصرفه، ومثله قوله: "لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه" أي يصده ويصرفه عن غيره، ويقال قوله: "اغنها عنا" بألف وصل من الثلاثي وهي كلمة معناها الترك والإعراض، ومنه "واستغنى الله" أي تركهم الله لأن كل من استغنى عن شيء تركه تقول غني فلان عن كذا فهو غان بوزن علم فهو عالم. وفي رواية ابن أبي شيبة: "لا حاجة لنا فيه". وقيل: كان علم ذلك عند عثمان فاستغنى عن النظر في الصحيفة. وقال الحميدي في "الجمع": قال بعض الرواة عن ابن عيينة: لم يجد علي بدا حين كان عنده علم منه أن ينهيه إليه، ونرى أن عثمان إنما رده لأن عنده علما من ذلك فاستغنى عنه. ويستفاد من الحديث بذل النصيحة للأمراء وكشف أحوال من يقع منه الفساد من أتباعهم، وللإمام التنقيب عن ذلك. ويحتمل أن يكون عثمان لم يثبت عنده ما طعن به على سعاته، أو ثبت عنده وكان التدبير يقتضي تأخير الإنكار، أو كان الذي أنكره من المستحبات لا من الواجبات، ولذلك عذره علي ولم يذكره بسوء. قوله: "فأخبرته فقال: ضعها حيث أخذتها" في رواية ابن أبي شيبة: "ضعه موضعه" قوله: "وقال الحميدي إلخ" هو في "كتاب النوادر" له بهذا الإسناد، والحميدي من شيوخ البخاري في الفقه والحديث كما تقدم في أول هذا الكتاب وأراد بروايته هذه بيان تصريح سفيان بالتحديث، وكذا التصريح بسماع محمد بن سوقة من منذر، ولم أقف في شيء من طرقه على تعيين ما كان في الصحيفة، لكن أخرج الخطابي في "غريب الحديث" من طريق عطية عن ابن عمر قال: "بعث علي إلى عثمان بصحيفة فيها: لا تأخذوا الصدقة من الرخة ولا من النخة" قال الخطابي: النخة بنون ومعجمة أولا الغنم، والرخة براء ومعجمة أيضا أولاد الإبل. انتهى وسنده ضعيف لكنه مما يحتمل.

(6/215)


باب الدليل على أن الخمس لنوائب رسول الله صلى الله عليه و سلم و المساكين وإيثار النبي صلى اللله عليه و سلم أهل الصفة و الارامل حين سألته فاطمة و شكت إليه الطحن و الرحى أن يخدمها من السبي ، فوكلها إلى ا
...
6 - باب الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ الْخُمُسَ لِنَوَائِبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمَسَاكِينِ
وَإِيثَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ الصُّفَّةِ وَالأَرَامِلَ
حِينَ سَأَلَتْهُ فَاطِمَةُ وَشَكَتْ إِلَيْهِ الطَّحْنَ وَالرَّحَى أَنْ يُخْدِمَهَا مِنْ السَّبْيِ فَوَكَلَهَا إِلَى اللَّهِ
3113- حَدَّثَنَا بَدَلُ بْنُ الْمُحَبَّرِ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ قَالَ: أَخْبَرَنِي الْحَكَمُ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي لَيْلَى حَدَّثَنَا عَلِيٌّ "أَنَّ فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلاَم اشْتَكَتْ مَا تَلْقَى مِنْ الرَّحَى مِمَّا تَطْحَنُ فَبَلَغَهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِسَبْيٍ فَأَتَتْهُ تَسْأَلُهُ خَادِمًا فَلَمْ تُوَافِقْهُ فَذَكَرَتْ لِعَائِشَةَ فَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ عَائِشَةُ لَهُ فَأَتَانَا وَقَدْ دَخَلْنَا مَضَاجِعَنَا فَذَهَبْنَا لِنَقُومَ فَقَالَ عَلَى مَكَانِكُمَا حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ قَدَمَيْهِ عَلَى صَدْرِي فَقَالَ أَلاَ أَدُلُّكُمَا عَلَى خَيْرٍ مِمَّا سَأَلْتُمَاهُ إِذَا أَخَذْتُمَا مَضَاجِعَكُمَا فَكَبِّرَا اللَّهَ أَرْبَعًا وَثَلاَثِينَ وَاحْمَدَا ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ وَسَبِّحَا ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ فَإِنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ

(6/215)


لَكُمَا مِمَّا سَأَلْتُمَاهُ".
[الحديث 3113 – أطرافه في: 3705، 5361، 5362، 6318]
قوله: "باب الدليل على أن الخمس" أي خمس الغنيمة "لنوائب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمساكين" النوائب جمع نائبة وهو ما ينوب الإنسان من الأمر الحادث "وإيثار النبي صلى الله عليه وسلم أهل الصفة والأرامل حين سألته فاطمة وشكت إليه الطحن" في رواية الكشميهني: "والطحين" "والرحى" "أن يخدمها من السبي، فوكلها إلى الله تعالى". حديث علي "أن فاطمة اشتكت ما تلقى من الرحى مما تطحن، فبلغها أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بسبي، فأتته تسأله خادما" فذكر الحديث وفيه: "ألا أدلكما على خير مما سألتما" فذكر الذكر عند النوم، وسيأتي شرحه في كتاب الدعوات إن شاء الله تعالى، وليس فيه ذكر أهل الصفة ولا الأرامل، وكأنه أشار بذلك إلى ما ورد في بعض طرق الحديث كعادته، وهو ما أخرجه أحمد من وجه آخر عن علي في هذه القصة مطولا وفيه: "والله لا أعطيكم وأدع أهل الصفة تطوى بطونهم من الجوع لا أجد ما أنفق عليهم، ولكن أبيعهم وأنفق عليهم أثمانهم" وفي حديث الفضل بن الحسن الضمري عن ضباعة أو أم الحكم بنت الزبير قالت: "أصاب النبي صلى الله عليه وسلم سبيا، فذهبت أنا وأختي فاطمة نسأله، فقال سبقكما يتامى بدر" الحديث أخرجه أبو داود، وتقدم من حديث ابن عمر في الهبة "أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر فاطمة أن ترسل الستر إلى أهل بيت بهم حاجة" قال إسماعيل القاضي: هذا الحديث يدل على أن للإمام أن يقسم الخمس حيث يرى، لأن الأربعة الأخماس استحقاق للغانمين، والذي يختص بالإمام هو الخمس، وقد منع النبي صلى الله عليه وسلم ابنته وأعز الناس عليه من أقربيه وصرفه إلى غيرهم. وقال نحوه الطبري: لو كان سهم ذوي القربى قسما مفروضا لأخدم ابنته ولم يكن ليدع شيئا اختاره الله لها وامتن به على ذوي القربى، وكذا قال الطحاوي وزاد: وأن أبا بكر وعمر أخذا بذلك وقسما جميع الخمس ولم يجعلا لذوي القربى منه حقا مخصوصا به بل بحسب ما يرى الإمام، وكذلك فعل علي قلت: في الاستدلال بحديث علي هذا نظر، لأنه يحتمل أن يكون ذلك من الفيء، وأما خمس الخمس من الغنيمة فقد روى أبو داود من طريق عبد الرحمن ابن أبي ليلى عن علي قال: "قلت يا رسول الله، إن رأيت أن توليني حقنا من هذا الخمس" الحديث، وله من وجه آخر عنه "ولأني رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس الخمس فوضعته مواضعه حياته" الحديث، فيحتمل أن تكون قصة فاطمة وقعت قبل فرض الخمس والله أعلم وهو بعيد، لأن قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} الآية نزلت في غزوة بدر، وقد مضي قريبا أن الصحابة أخرجوا الخمس من أول غنيمة غنموها من المشركين فيحتمل أن حصة خمس الخمس - وهو حق ذوي القربى من الفيء المذكور - لم يبلغ قدر الرأس الذي طلبته فاطمة فكان حقها من ذلك يسيرا جدا، يلزم منه أن لو أعطاها الرأس أثر في حق بقية المستحقين ممن ذكر وقال المهلب: في هذا الحديث أن للإمام أن يؤثر بعض مستحقي الخمس على بعض، ويعطي الأوكد فالأوكد ويستفاد من الحديث حمل الإنسان أهله على ما يحمل عليه نفسه من التقلل والزهد في الدنيا والقنوع بما أعد الله لأوليائه الصابرين في الآخرة قلت: وهذا كله بناء على ما يقتضيه ظاهر الترجمة، وأما مع الاحتمال الذي ذكرته أخيرا فلا يمكن أن يؤخذ من ذكر الإيثار عدم وقوع الاشتراك في الشيء، ففي ترك القسمة وإعطاء أحد المستحقين دون الآخر إيثار الآخذ على الممنوع، فلا يلزم منه نفي الاستحقاق وسيأتي مزيد في هذه المسألة بعد ثمانية أبواب.

(6/216)


باب قول الله تعالى { فأن لله خمسه و للرسول } يعني للرسول قسم ذلك و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم (( إنما أنا قاسم و خازن ، و الله يعطي ))
...
7 - باب قَوْلِ اللَّه تَعَالَى [41 الأنفال]: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} يَعْنِي لِلرَّسُولِ قَسْمَ ذَلِكَ.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ وَخَازِنٌ وَاللَّهُ يُعْطِي".
3114- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سُلَيْمَانَ وَمَنْصُورٍ وَقَتَادَةَ سَمِعُوا سَالِمَ بْنَ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "وُلِدَ لِرَجُلٍ مِنَّا مِنْ الأَنْصَارِ غُلاَمٌ فَأَرَادَ أَنْ يُسَمِّيَهُ مُحَمَّدًا". قَالَ شُعْبَةُ فِي حَدِيثِ مَنْصُورٍ: إِنَّ الأَنْصَارِيَّ قَالَ: "حَمَلْتُهُ عَلَى عُنُقِي فَأَتَيْتُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" وَفِي حَدِيثِ سُلَيْمَانَ: "وُلِدَ لَهُ غُلاَمٌ فَأَرَادَ أَنْ يُسَمِّيَهُ مُحَمَّدًا" قَالَ: "سَمُّوا بِاسْمِي وَلاَ تَكَنَّوْا بِكُنْيَتِي فَإِنِّي إِنَّمَا جُعِلْتُ قَاسِمًا أَقْسِمُ بَيْنَكُمْ". وَقَالَ حُصَيْنٌ: "بُعِثْتُ قَاسِمًا أَقْسِمُ بَيْنَكُمْ". قَالَ عَمْرٌو: أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: سَمِعْتُ سَالِمًا عَنْ جَابِرٍ: أَرَادَ أَنْ يُسَمِّيَهُ الْقَاسِمَ، فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "سَمُّوا بِاسْمِي وَلاَ تَكْتَنُوا بِكُنْيَتِي".
[الحديث 3114 – أطرافه في: 3115، 3538، 6186، 6187، 6189، 6196]
3115- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيِّ قَالَ: "وُلِدَ لِرَجُلٍ مِنَّا غُلاَمٌ فَسَمَّاهُ الْقَاسِمَ فَقَالَتْ الأَنْصَارُ لاَ نَكْنِيكَ أَبَا الْقَاسِمِ وَلاَ نُنْعِمُكَ عَيْنًا فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وُلِدَ لِي غُلاَمٌ فَسَمَّيْتُهُ الْقَاسِمَ فَقَالَتْ الأَنْصَارُ لاَ نَكْنِيكَ أَبَا الْقَاسِمِ وَلاَ نُنْعِمُكَ عَيْنًا. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَحْسَنَتْ الأَنْصَارُ سَمُّوا بِاسْمِي وَلاَ تَكَنَّوْا بِكُنْيَتِي فَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ".
3116- حَدَّثَنَا حِبَّانُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ عَنْ يُونُسَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ سَمِعَ مُعَاوِيَةَ يَقُولُ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَاللَّهُ الْمُعْطِي وَأَنَا الْقَاسِمُ وَلاَ تَزَالُ هَذِهِ الأُمَّةُ ظَاهِرِينَ عَلَى مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ".
3117- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ حَدَّثَنَا هِلاَلٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "مَا أُعْطِيكُمْ وَلاَ أَمْنَعُكُمْ إِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ أَضَعُ حَيْثُ أُمِرْتُ".
3118- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي أَيُّوبَ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو الأَسْوَدِ عَنْ ابْنِ أَبِي عَيَّاشٍ وَاسْمُهُ نُعْمَانُ عَنْ خَوْلَةَ الأَنْصَارِيَّةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّ رِجَالًا يَتَخَوَّضُونَ فِي مَالِ اللَّهِ بِغَيْرِ حَقٍّ فَلَهُمْ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ".
قوله: "باب قوله تعالى: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} يعني وللرسول قسم ذلك" هذا اختيار منه لأحد الأقوال في تفسير هذه الآية، والأكثر على أن اللام في قوله: "الرسول" للملك، وأن للرسول خمس الخمس من الغنيمة

(6/217)


سواء حضر القتال أو لم يحضر، وهل كان يملكه أو لا؟ وجهان للشافعية. ومال البخاري إلى الثاني واستدل له. قال إسماعيل القاضي: لا حجة لمن ادعى أن الخمس يملكه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} لأنه تعالى قال: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} واتفقوا على أنه قبل فرض الخمس كان يعطي الغنيمة للغانمين بحسب ما يؤدي إليه اجتهاده، فلما فرض الخمس تبين للغانمين أربعة أخماس الغنيمة لا يشاركهم فيها أحد، وإنما خص النبي صلى الله عليه وسلم بنسبة الخمس إليه إشارة إلى أنه ليس للغانمين فيه حق بل هو مفوض إلى رأيه، وكذلك إلى الإمام بعده، وقد تقدم نقل الخلاف فيه في الباب الأول وأجمعوا على أن اللام في قوله تعالى: {لله} للتبرك إلا ما جاء عن أبي العالية فإنه قال: تقسم الغنيمة خمسة أسهم ثم السهم الأول يقسم قسمين قسم لله وهو للفقراء وقسم الرسول له، وأما من بعده فيضعه الإمام حيث يراه قوله: "وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما أنا قاسم وخازن، والله يعطي" لم يقع هذا اللفظ في سياق واحد، وإنما هو مأخوذ من حديثين: أما حديث: "إنما أنا قاسم" فهو طرف من حديث أبي هريرة المذكور في الباب، وتقدم في العلم من حديث معاوية بلفظ: "وإنما أنا قاسم والله يعطي" في أثناء حديث. وأما حديث: "إنما أنا خازن والله يعطي" فهو طرف من حديث معاوية المذكور، ويأتي موصولا في الاعتصام بهذا اللفظ ثم ذكر المصنف في الباب أربعة أحاديث. قوله: "عن سليمان" هو الأعمش، وبين البخاري الاختلاف على شعبة: هل أراد الأنصاري أن يسمي ابنه محمدا أو القاسم، وأشار إلى ترجح أنه أراد أن يسميه القاسم برواية سفيان - وهو الثوري - له عن الأعمش فسماه القاسم، ويترجح أنه أيضا من حيث المعنى لأنه لم يقع الإنكار من الأنصار عليه إلا حيث لزم من تسمية ولده القاسم أن يصير يكنى أبا القاسم، وسيأتي البحث في هذه المسألة في كتاب الأدب إن شاء الله تعالى قوله: "قال شعبة في حديث منصور إن الأنصاري قال: حملته على عنقي" هذا يقتضي أن يكون الحديث من رواية جابر عن الأنصاري، بخلاف رواية غيره فإنها من مسند جابر قوله: "وقال حصين بعثت قاسما أقسم بينكم" هو من رواية شعبة عن حصين أيضا كما سيأتي في الأدب قوله: "وقال عمرو" هو ابن مرزوق وهو من شيوخ البخاري، وطريقه هذه وصلها أبو نعيم في "المستخرج" وكأن شعبة كان تارة يحدث به عن بعض مشايخه دون بعض وتارة يجمعهم ويفصل ألفاظهم، وقوله: "لا تكنوا" وقع في رواية الكشميهني: "ولا تكنوا" بفتح الكاف وتشديد النون. قوله في رواية سفيان عن الأعمش "لا نكنيك ولا ننعمك عينا" وقع في رواية الكشميهني بالجزم فيهما في الموضعين، ومعنى قوله: "لا ننعمك عينا" لا نكرمك ولا تقر عينك بذلك، وسيأتي في الأدب من الزيادة من وجه آخر عن جابر "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأنصاري: سم ابنك عبد الرحمن". حديث معاوية، وهو يشتمل على ثلاثة أحكام "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين" وقد تقدم شرح صدره في كتاب العلم، ويأتي شرح الأخير منه في الاعتصام، والغرض منه قوله: "والله المعطي وأنا القاسم" وهذا مطابق لأحاديث الباب. قوله: "ما أعطيكم ولا أمنعكم" في رواية أحمد عن شريح بن النعمان عن فليح في أوله "والله المعطي" والمعنى لا أتصرف فيكم بعطية ولا منع برأيي، وقوله: "إنما أنا القاسم أضع حيث أمرت" أي لا أعطي أحدا ولا أمنع أحدا إلا بأمر الله، وقد أخرجه أبو داود من طريق همام عن أبي هريرة بلفظ: "إن أنا إلا خازن". قوله: "حدثنا عبد الله بن يزيد" هو أبو عبد الرحمن المقري قوله: "حدثنا سعيد" زاد المستملي: "ابن أبي أيوب"

(6/218)


وأبو الأسود هو النوفلي الذي يقال له يتيم عروة، والنعمان بن أبي عياش بالتحتانية والمعجمة أنصاري، وهو زرقي، وبذلك وصفه الدورقي، واسم أبي عياش عبيد، وقيل زيد بن معاوية بن الصامت قوله: "عن خولة الأنصارية" في رواية الإسماعيلي بنت ثامر الأنصارية، وزاد في أوله "الدنيا خضرة حلوة، وإن رجالا" وأخرجه الترمذي من طريق سعيد المقبري عن أبي الوليد سمعت خولة بنت قيس وكانت تحت حمزة بن عبد المطلب سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن هذا المال خضرة حلوة، من أصابه بحقه بورك له فيه، ورب متخوض فيما شاءت نفسه من مال الله ورسوله ليس له يوم القيامة إلا النار" قال الترمذي: حسن صحيح، وأبو الوليد اسمه عبيد قلت: فرق غير واحد بين خولة بنت ثامر وبين خولة بنت قيس، وقيل إن قيس بن قهد بالقاف لقبه ثامر وبذلك جزم علي بن المديني، فعلى هذا فهي واحدة، وقوله: "خضرة" أنت على تأويل الغنيمة بدليل قوله: "من مال الله" ويحتمل ما هو أعم من ذلك وقوله: "خضرة" أي مشتهاة، والنفوس تميل إلى ذلك وقوله: "من مال الله" مظهر أقيم مقام المضمر إشعارا بأنه لا ينبغي التخوض في مال الله ورسوله والتصرف فيه بمجرد التشهي، وقوله: "ليس له يوم القيامة إلا النار" حكم مرتب على الوصف المناسب وهو الخوض في مال الله، ففيه إشعار بالغلبة. قوله: "يتخوضون" بالمعجمتين "في مال الله بغير حق" أي يتصرفون في مال المسلمين بالباطل، وهو أعم من أن يكون بالقسمة وبغيرها، وبذلك تناسب الترجمة "تنبيه": قال الكرماني: مناسبة حديث خولة للترجمة خفية، ويمكن أن تؤخذ من قوله: "يتخوضون في مال الله بغير حق" أي بغير قسمة حق، واللفظ وإن كان عاما لكن خصصناه بالقسمة لتفهم منه الترجمة قلت: ولا تحتاج إلى قيد الاعتذار لأن قوله: "بغير" يدخل في عمومه الصورة المذكورة فيصح الاحتجاج به على شرطية القسمة في أموال الفيء والغنيمة بحكم العدل واتباع ما ورد في الكتاب والسنة، وكأن المصنف أراد بإيراده تخويف من يخالف ذلك ويستفاد من هذه الأحاديث أن بين الاسم والمسمى به مناسبة، لكن لا يلزم إطراد ذلك، وأن من أخذ من الغنائم شيئا بغير قسم الإمام كان عاصيا وفيه ردع الولاة أن يأخذوا من المال شيئا بغير حقه أو يمنعوه من أهله.

(6/219)


باب قول النبي صلى الله عليه و سلم (( أحلت لكم الغنائم )) . و قال الله عز وجل { وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها } الآية . و هي للعامة حتى يبينه الرسول صلى الله عليه و سلم
...
8 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أُحِلَّتْ لَكُمْ الْغَنَائِمُ . وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى [20 الفتح]: {وَعَدَكُمْ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ} ا لآية. وَهِيَ لِلْعَامَّةِ حَتَّى يُبَيِّنَهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
3119- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا خَالِدٌ حَدَّثَنَا حُصَيْنٌ عَنْ عَامِرٍ عَنْ عُرْوَةَ الْبَارِقِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ الأَجْرُ وَالْمَغْنَمُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ".
3120- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إِذَا هَلَكَ كِسْرَى فَلاَ كِسْرَى بَعْدَهُ وَإِذَا هَلَكَ قَيْصَرُ فَلاَ قَيْصَرَ بَعْدَهُ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُنْفَقَنَّ كُنُوزُهُمَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ".
3121- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ سَمِعَ جَرِيرًا عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قال رسول

(6/219)


الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا هَلَكَ كِسْرَى فَلاَ كِسْرَى بَعْدَهُ وَإِذَا هَلَكَ قَيْصَرُ فَلاَ قَيْصَرَ بَعْدَهُ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُنْفَقَنَّ كُنُوزُهُمَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ".
[الحديث 3121 – طرفاه في: 3619، 6629]
3122- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ أَخْبَرَنَا سَيَّارٌ حَدَّثَنَا يَزِيدُ الْفَقِيرُ حَدَّثَنَا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أُحِلَّتْ لِي الْغَنَائِمُ".
3123- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "تَكَفَّلَ اللَّهُ لِمَنْ جَاهَدَ فِي سَبِيلِهِ لاَ يُخْرِجُهُ إِلاَّ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ وَتَصْدِيقُ كَلِمَاتِهِ بِأَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ أَوْ يَرْجِعَهُ إِلَى مَسْكَنِهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ مَعَ مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ".
3124- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "غَزَا نَبِيٌّ مِنْ الأَنْبِيَاءِ فَقَالَ لِقَوْمِهِ لاَ يَتْبَعْنِي رَجُلٌ مَلَكَ بُضْعَ امْرَأَةٍ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَبْنِيَ بِهَا وَلَمَّا يَبْنِ بِهَا وَلاَ أَحَدٌ بَنَى بُيُوتًا وَلَمْ يَرْفَعْ سُقُوفَهَا وَلاَ أَحَدٌ اشْتَرَى غَنَمًا أَوْ خَلِفَاتٍ وَهُوَ يَنْتَظِرُ وِلاَدَهَا فَغَزَا فَدَنَا مِنْ الْقَرْيَةِ صَلاَةَ الْعَصْرِ أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ لِلشَّمْسِ إِنَّكِ مَأْمُورَةٌ وَأَنَا مَأْمُورٌ اللَّهُمَّ احْبِسْهَا عَلَيْنَا فَحُبِسَتْ حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَجَمَعَ الْغَنَائِمَ فَجَاءَتْ يَعْنِي النَّارَ لِتَأْكُلَهَا فَلَمْ تَطْعَمْهَا فَقَالَ إِنَّ فِيكُمْ غُلُولًا فَلْيُبَايِعْنِي مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ رَجُلٌ فَلَزِقَتْ يَدُ رَجُلٍ بِيَدِهِ فَقَالَ فِيكُمْ الْغُلُولُ فَلْيُبَايِعْنِي قَبِيلَتُكَ فَلَزِقَتْ يَدُ رَجُلَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةٍ بِيَدِهِ فَقَالَ فِيكُمْ الْغُلُولُ فَجَاءُوا بِرَأْسٍ مِثْلِ رَأْسِ بَقَرَةٍ مِنْ الذَّهَبِ فَوَضَعُوهَا فَجَاءَتْ النَّارُ فَأَكَلَتْهَا ثُمَّ أَحَلَّ اللَّهُ لَنَا الْغَنَائِمَ رَأَى ضَعْفَنَا وَعَجْزَنَا فَأَحَلَّهَا لَنَا".
[الحديث 3124 – طرفه في: 5157]
قوله: "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم أحلت لكم الغنائم " كذا للجميع، ووقع عند ابن التين "أحلت لي" وهو أشبه، لأنه ذكر بهذا اللفظ في هذا الباب، وهذا الثاني طرف من حديث جابر الماضي في التيمم، وقد تقدم بيان ما كان من قبلنا يصنع في الغنيمة قوله: "وقال الله عز وجل: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا} الآية" هذه الآية نزلت في أهل الحديبية بالاتفاق، ولما انصرفوا من الحديبية فتحوا خيبر كما سيأتي في مكانه قوله: "فهي للعامة" أي الغنيمة لعموم المسلمين ممن قاتل قوله: "حتى يبينه الرسول" أي حتى يبين الرسول من يستحق ذلك ممن لا يستحقه، وقد وقع بيان ذلك بقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} الآية، ثم ذكر فيه ستة أحاديث: أحدها: حديث عروة البارقي في الخيل، وقد تقدم الكلام عليه في الجهاد، والغرض منه قوله في آخره: "الأجر والمغنم". ثانيها: حديث أبي هريرة "إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده" وسيأتي الكلام عليه في علامات

(6/220)


النبوة. والغرض منه قوله: "لتنفقن كنوزهما في سبيل الله" وقد أنفقت كنوزهما في المغانم. ثالثها: حديث جابر بن سمرة مثله، وإسحاق هو ابن راهويه وجرير هو ابن عبد الحميد وعبد الملك هو ابن عمير وذكر أبو علي الجياني أنه لم ير إسحاق هذا منسوبا لأحد من الرواة، لكن وجدناه بعده في مسند إسحاق بهذا السياق، فغلب على الظن أنه المراد. رابعها: حديث جابر بن عبد الله ذكره مختصرا بلفظ: "أحلت لي الغنائم" وقد تقدم شرحه مستوفى في التيمم. خامسها: حديث أبي هريرة "تكفل الله لمن جاهد في سبيله" وقد تقدم شرحه في أوائل الجهاد، والغرض منه قوله في آخره: "من أجر أو غنيمة". سادسها: حديثه في قصة النبي الذي غزا القرية قوله: "عن ابن المبارك" كذا في جميع الروايات، لكن قال أبو نعيم في "المستخرج" أخرجه البخاري عن محمد بن العلاء عن ابن المبارك أو غيره: "وهذا الشك إنما هو من أبي نعيم، فقد أخرجه الإسماعيلي عن أبي يعلى عن محمد بن العلاء عن ابن المبارك وحده به قوله: "غزا نبي من الأنبياء" أي أراد أن يغزو، وهذا النبي هو يوشع بن نون كما رواه الحاكم من طريق كعب الأحبار وبين تسمية القرية كما سيأتي، وقد ورد أصله من طريق مرفوعة صحيحة أخرجها أحمد من طريق هشام عن محمد بن سيربن عن أبي هريرة قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أن الشمس لم تحبس لبشر إلا ليوشع بن نون ليالي سار إلى بيت المقدس" وأغرب ابن بطال فقال في "باب استئذان الرجل الإمام" في هذا المعنى حديث لداود عليه الصلاة والسلام أنه قال في غزوة خرج إليها "لا يتبعني من ملك بضع امرأة ولم يبن بها، أو بنى دارا ولم يسكنها" ولم أقف على ما ذكره مسندا، لكن أخرج الخطيب في "ذم النجوم" له من طريق أبي حذيفة والبخاري في "المبتدأ" له بإسناد له عن علي قال: "سأل قوم يوشع منه أن يطلعهم على بدء الخلق وآجالهم، فأراهم ذلك في ماء من غمامة أمطرها الله عليهم، فكان أحدهم يعلم متى يموت، فبقوا على ذلك إلى أن قاتلهم داود على الكفر، فأخرجوا إلى داود من لم يحضر أجله فكان يقتل من أصحاب داود ولا يقتل منهم، فشكى إلى الله ودعاه فحبست عليهم الشمس فزيد في النهار فاختلطت الزيادة بالليل والنهار، فاختلط عليهم حسابهم" قلت: وإسناده ضعيف جدا، وحديث أبي هريرة المشار إليه عند أحمد أولى، فإن رجال إسناده محتج بهم في الصحيح، فالمعتمد أنها لم تحبس إلا ليوشع، ولا يعارضه ما ذكره ابن إسحاق في "المبتدأ" من طريق يحيى بن عروة بن الزبير عن أبيه "أن الله لما أمر موسى بالمسير ببني إسرائيل أمره أن يحمل تابوت يوسف فلم يدل عليه حتى كاد الفجر أن يطلع، وكان وعد بني إسرائيل أن يسير بهم إذا طلع الفجر، فدعا ربه أن يؤخر الطلوع حتى فرغ من أمر يوسف ففعل" ، لأن الحصر إنما وقع في حق يوشع بطلوع الشمس فلا ينفي أن يحبس طلوع الفجر لغيره، وقد اشتهر حبس الشمس ليوشع حتى قال أبو تمام في قصيدة:
فوالله لا أدري أأحلام نائم ... ألمت بنا أم كان في الركب يوشع
ولا يعارضه أيضا ما ذكره يونس بن بكير في زياداته في مغازي ابن إسحاق "أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أخبر قريشا صبيحة الإسراء أنه رأى العير التي لهم وأنها تقدم مع شروق الشمس، فدعا الله فحبست الشمس حتى دخلت العير" وهذا منقطع، لكن وقع في "الأوسط للطبراني" من حديث جابر "أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الشمس فتأخرت ساعة من نهار" وإسناده حسن، ووجه الجمع أن الحصر محمول على ما مضى للأنبياء قبل نبينا صلى الله عليه وسلم فلم تحبس الشمس إلا ليوشع وليس فيه نفي أنها تحبس بعد ذلك لنبينا صلى الله عليه وسلم وروى الطحاوي والطبراني في "الكبير" والحاكم والبيهقي في "الدلائل"

(6/221)


عن أسماء بنت عميس أنه صلى الله عليه وسلم دعا لما نام على ركبة علي ففاتته صلاة العصر فردت الشمس حتى صلى علي ثم غربت، وهذا أبلغ في المعجزة وقد أخطأ ابن الجوزي بإيراده له في "الموضوعات" وكذا ابن تيمية في "كتاب الرد على الروافض" في زعم وضعه والله أعلم. وأما ما حكى عياض أن الشمس ردت للنبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق لما شغلوا عن صلاة العصر حتى غربت الشمس فردها الله عليه حتى صلى العصر - كذا قال وعزاه للطحاوي، والذي رأيته في "مشكل الآثار للطحاوي" ما قدمت ذكره من حديث أسماء فإن ثبت ما قال فهذه قصة ثالثة والله أعلم وجاء أيضا أنها حبست لموسى لما حمل تابوت يوسف كما تقدم قريبا. وجاء أيضا أنها حبست لسليمان بن داود عليهما السلام وهو فيما ذكره الثعلبي ثم البغوي عن ابن عباس قال: "قال لي علي: ما بلغك في قول الله تعالى حكاية عن سليمان عليه الصلاة والسلام {رُدُّوهَا عَلَيَّ} ؟ فقلت: قال لي كعب: كانت أربعة عشر فرسا عرضها، فغابت الشمس قبل أن يصلي العصر، فأمر بردها فضرب سوقها وأعناقها بالسيف فقتلها، فسلبه الله ملكه أربعة عشر يوما لأنه ظلم الخيل بقتلها، فقال علي: كذب كعب، وإنما أراد سليمان جهاد عدوه فتشاغل بعرض الخيل حتى غابت الشمس فقال للملائكة الموكلين بالشمس بإذن الله لهم: ردوها علي، فردوها عليه حتى صلى العصر في وقتها، وأن أنبياء الله لا يظلمون ولا يأمرون بالظلم". قلت: أورد هذا الأثر جماعة ساكتين عليه جازمين بقولهم "قال ابن عباس قلت لعلي" وهذا لا يثبت عن ابن عباس ولا عن غيره، والثابت عن جمهور أهل العلم بالتفسير من الصحابة ومن بعدهم أن الضمير المؤنث في قوله: "ردوها" للخيل والله أعلم. قوله: "بضع امرأة" بضم الموحدة وسكون المعجمة البضع يطلق على الفرج والتزويج والجماع، والمعاني الثلاثة لائقة هنا، ويطلق أيضا على المهر وعلى الطلاق. وقال الجوهري: قال ابن السكيت البضع النكاح يقال ملك فلان بضع فلانة. قوله: "ولما يبن بها" أي ولم يدخل عليها لكن التعبير بلما يشعر بتوقع ذلك قاله الزمخشري في قوله تعالى: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} ووقع في رواية سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عند النسائي وأبي عوانة وابن حبان: "لا ينبغي لرجل بنى دارا ولم يسكنها أو تزوج امرأة ولم يدخل بها" وفي التقييد بعدم الدخول ما يفهم أن الأمر بعد الدخول بخلاف ذلك فلا يخفى فرق بين الأمرين، وإن كان بعد الدخول ربما استمر تعلق القلب، لكن ليس هو كما قبل الدخول غالبا قوله: "ولم يرفع سقوفها" في صحيح مسلم ومسند أحمد "ولما يرفع سقفها" وهو بضم القاف والفاء لتوافق هذه الرواية، ووهم من ضبط بالإسكان وتكلف في توجيه الضمير المؤنث للسقف قوله: "أو خلفات" بفتح المعجمة وكسر اللام بعدها فاء خفيفة جمع خلفة وهي الحامل من النوق، وقد يطلق على غير النوق، و "أو" في قوله غنما أو خلفات للتنويع ويكون قد حذف وصف الغنم بالحمل لدلالة الثاني عليه، أو هو على إطلاقه لأن الغنم يقل صبرها فيخشى عليها الضياع بخلاف النوق فلا يخشى عليها إلا مع الحمل، ويحتمل أن يكون قوله: "أو" للشك أي هل قال غنما بغير صفة أو خلفات أي بصفة أنها حوامل، كذا قال بعض الشراح، والمعتمد أنها للتنويع، فقد وقع في رواية أبي يعلى عن محمد بن العلاء "ولا رجل له غنم أو بقر أو خلفات" قوله: "وهو ينتظر ولادها" بكسر الواو وهو مصدر ولد ولادا وولادة قوله: "فغزا" أي بمن تبعه ممن لم يتصف بتلك الصفة قوله: "فدنا من القرية" هي أريحا بفتح الهمزة وكسر الراء بعدها تحتانية ساكنة ومهملة مع القصر، سماها الحاكم في روايته عن كعب. وفي رواية مسلم: "فأدنى للقرية" أي قرب جيوشه لها قوله: "فقال للشمس إنك مأمورة" في رواية سعيد بن المسيب "فلقي العدو عند غيبوبة الشمس" وبين الحاكم في روايته عن

(6/222)


كعب سبب ذلك فإنه قال: "أنه وصل إلى القرية وقت عصر يوم الجمعة، فكادت الشمس أن تغرب ويدخل الليل" وبهذا يتبين معنى قوله: "وأنا مأمور" والفرق بين المأمورين أن أمر الجمادات أمر تسخير وأمر العقلاء أمر تكليف، وخطابه للشمس يحتمل أن يكون على حقيقته وأن الله تعالى خلق فيها تمييزا وإدراكا كما سيأتي البحث فيه في الفتن في سجودها تحت العرش واستئذانها من أن تطلع، ويحتمل أن يكون ذلك على سبيل استحضاره في النفس لما تقرر أنه لا يمكن تحولها عن عادتها إلا بخرق العادة، وهو نحو قول الشاعر شكى إلي جملي طول السرى ومن ثم قال: "اللهم احبسها" ويؤيد الاحتمال الثاني أن في رواية سعيد بن المسيب فقال: "اللهم إنها مأمورة وإني مأمور فاحبسها علي حتى تقضي بيني وبينهم، فحبسها الله عليه". قوله: "اللهم احبسها علينا" في رواية أحمد "اللهم احبسها علي شيئا" وهو منصوب نصب المصدر، أي قدر ما تنقضي حاجتنا من فتح البلد، قال عياض: اختلف في حبس الشمس هنا، فقيل ردت على أدراجها، وقيل وقفت، وقيل بطئت حركتها، وكل ذلك محتمل والثالث أرجح عند ابن بطال وغيره ووقع في ترجمة هارون بن يوسف الرمادي أن ذلك كان في رابع عشر حزيران وحينئذ يكون النهار في غاية الطول قوله: "فحبست حتى فتح الله عليه" في رواية أبي يعلى "فواقع القوم فظفر" قوله: "فجمع الغنائم فجاءت يعني النار" في رواية عبد الرزاق عند أحمد ومسلم: "فجمعوا ما غنموا فأقبلت النار" زاد في رواية سعيد بن المسيب "وكانوا إذا غنموا غنيمة بعث الله عليها النار فتأكلها" قوله: "فلم تطعمها" أي لم تذق لها طعما، وهو بطريق المبالغة قوله: "فقال إن فيكم غلولا" هو السرقة من الغنيمة كما تقدم قوله: "فليبايعني من كل قبيلة رجل فلزقت" فيه حذف يظهر من سياق الكلام أي فبايعوه فلزقت قوله: "فلزقت يد رجلين أو ثلاثة" في رواية أبي يعلى "فلزقت يد رجل أو رجلين" وفي رواية سعيد ابن المسيب "رجلان" بالجزم، قال ابن المنير جعل الله علامة الغلول إلزاق يد الغال، وفيه تنبيه على أنها يد عليها حق يطلب أن يتخلص منه، أو أنها يد ينبغي أن يضرب عليها ويحبس صاحبها حتى يؤدي الحق إلى الإمام، وهو من جنس شهادة اليد على صاحبها يوم القيامة قوله: "فيكم الغلول" زاد في رواية سعيد بن المسيب "فقالا أجل غللنا" قوله: "فجاءوا برأس مثل رأس بقرة من الذهب فوضعوها، فجاءت النار فأكلتها ثم أحل الله لنا الغنائم" في رواية النسائي: "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: "أن الله أطعمنا الغنائم رحمة رحمناها وتخفيفا خففه عنا" قوله: "رأى ضعفنا وعجزنا فأحلها لنا" في رواية سعيد بن المسيب "لما رأى من ضعفنا" وفيه إشعار بأن إظهار العجز بين يدي الله تعالى يستوجب ثبوت الفضل، وفيه اختصاص هذه الأمة بحل الغنيمة وكان ابتداء ذلك من غزوة بدر وفيها نزل قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً} فأحل الله لهم الغنيمة، وقد ثبت ذلك في الصحيح من حديث ابن عباس، وقد قدمت في أوائل فرض الخمس أن أول غنيمة خمست غنيمة السرية التي خرج فيها عبد الله بن جحش، وذلك قبل بدر بشهرين، ويمكن الجمح بما ذكر ابن سعد أنه صلى الله عليه وسلم أخر غنيمة تلك السرية حتى رجع من بدر فقسمها مع غنائم بدر قال المهلب: في هذا الحديث أن فتن الدنيا تدعو النفس إلى الهلع ومحبة البقاء، لأن من ملك بضع امرأة ولم يدخل بها أو دخل بها وكان على قرب من ذلك فإن قلبه متعلق بالرجوع إليها ويجد الشيطان السبيل إلى شغل قلبه عما هو عليه من الطاعة، وكذلك غير المرأة من أحوال الدنيا، وهو كما قال، لكن تقدم ما يعكر على إلحاقه بما بعد الدخول وإن لم يطل بما قبله، ويدل على التعميم في الأمور الدنيوية ما وقع في رواية سعيد بن المسيب من الزيادة "أو له حاجة في الرجوع" وفيه أن الأمور المهمة لا ينبغي أن تفوض

(6/223)


إلا لحازم فارغ البال لها، لأن من له تعلق ربما ضعفت عزيمته وقلت رغبته في الطاعة، والقلب إذا تفرق ضعف فعل الجوارح وإذا اجتمع قوي. وفيه أن من مضى كانوا يغزون ويأخذون أموال أعدائهم وأسلابهم، لكن لا يتصرفون فيها بل يجمعونها، وعلامة قبول غزوهم ذلك أن تنزل النار من السماء فتأكلها، وعلامة عدم قبوله أن لا تنزل ومن أسباب عدم القبول أن يقع فيهم الغلول، وقد من الله على هذه الأمة ورحمها لشرف نبيها عنده فأحل لهم الغنيمة، وستر عليهم الغلول، فطوى عنهم فضيحة أمر عدم القبول، فلله الحمد على نعمه تترى ودخل في عموم أكل النار الغنيمة والسبي. وفيه بعد لأن مقتضاه إهلاك الذرية ومن لم يقاتل من النساء، ويمكن أن يستثنوا من ذلك، ويلزم استثناؤهم من تحريم الغنائم عليهم، ويؤيده أنهم كانت لهم عبيد وإماء فلو لم يجز لهم السبي لما كان لهم أرقاء ويشكل على الحصر أنه كان السارق يسترق كما في قصة يوسف، ولم أر من صرح بذلك وفيه معاقبة الجماعة بفعل سفهائها وفيه أن أحكام الأنبياء قد تكون بحسب الأمر الباطن كما في هذه القصة، وقد تكون بحسب الأمر الظاهر كما في حديث: "إنكم تختصمون إلي" الحديث، واستدل به ابن بطال على جواز إحراق أموال المشركين، وتعقب بأن ذلك كان في تلك الشريعة وقد نسخ بحل الغنائم لهذه الأمة، وأجيب عنه بأنه لا يخفى عليه ذلك ولكنه استنبط من إحراق الغنيمة بأكل النار جواز إحراق أمواش الكفار إذا لم يوجد السبيل إلى أخذها غنيمة، وهو ظاهر لأن هذا القدر لم يرد التصريح بنسخة فهو محتمل على أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد ناسخه واستدل به أيضا على أن قتال آخر النهار أفضل من أوله، وفيه نظر لأن ذلك في هذه القصة إنما وقع اتفاقا كما تقدم، نعم في قصة النعمان بن مقرن مع المغيرة بن شعبة في قتال الفرس التصريح باستحباب القتال حين تزول الشمس وتهب الرياح، فالاستدلال به يغني عن هذا

(6/224)


9 - باب الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ
3125- حَدَّثَنَا صَدَقَةُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَنْ مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه:ُ" لَوْلاَ آخِرُ الْمُسْلِمِينَ مَا فَتَحْتُ قَرْيَةً إِلاَّ قَسَمْتُهَا بَيْنَ أَهْلِهَا كَمَا قَسَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ".
قوله: "باب" بالتنوين "الغنيمة لمن شهد الوقعة" هذا لفظ أثر أخرجه عبد الرزاق بإسناد صحيح عن طارق بن شهاب "أن عمر كتب إلى عمار أن الغنيمة لمن شهد الوقعة" ذكره في قصة. قوله: "حدثنا صدقة" هو ابن الفضل وقد تقدم هذا الحديث سندا ومتنا في المزارعة، ووجه أخذه من الترجمة أن عمر في هذا الحديث أيضا قد صرح بما دل عليه هذا الأثر إلا أنه عارض عنده حسن النظر لآخر المسلمين فيما يتعلق بالأرض خاصة فوقفها على المسلمين وضرب عليها الخراج الذي يجمع مصلحتهم، وتأول قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} الآية، وروى أبو عبيد في "كتاب الأموال" من طريق ابن إسحاق عن حارثة بن مضرب عن عمر "أنه أراد أن يقسم السواد، فشاور في ذلك، فقال له علي: دعهم يكونوا مادة للمسلمين، فتركهم" ومن طريق عبد الله بن أبي قيس "أن عمر أراد قسمة الأرض، فقال له معاذ: إن قسمتها صار الريع العظيم في أيدي القوم يبتدرون فيصير إلى الرجل الواحد أو المرأة، ويأتي القوم يسدون من الإسلام مسدا فلا يجدون شيئا فانظر أمرا يسع أولهم وآخرهم، فاقتضى رأي عمر تأخير قسم الأرض، وضرب الخراج عليها للغانمين ولمن يجيء بعدهم" فبقي ما عدا ذلك على اختصاص الغانمين

(6/224)


به، وبه قال الجمهور. وذهب أبو حنيفة إلى أن الجيش إذا فصلوا من دار الإسلام مددا لجيش آخر فوافوهم بعد الفتح أنهم يشتركون معهم في الغنيمة، واحتج بما قسم صلى الله عليه وسلم للأشعريين لما قدموا مع جعفر من خيبر، وبما قسم النبي صلى الله عليه وسلم لمن لم يحضر الوقعة كعثمان في بدر ونحو ذلك، فأما قصة الأشعريين فسيأتي سياقها في غزوة خيبر، والجواب عنها سيأتي بعد أبواب، وأما الجواب عن مثل قصة عثمان فأجاب الجمهور عنها بأجوبة: أحدها أن ذلك خاص به لا بمن كان مثله، ثانيها أن ذلك حيث كانت الغنيمة كلها للنبي صلى الله عليه وسلم عند نزول {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} ثم نزلت بعد ذلك {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} " فصارت أربعة أخماس الغنيمة للغانمين ثالثها على تقدير أن يكون ذلك بعد فرض الخمس فهو محمول على أنه إعطاء من الخمس، وإلى ذلك جنح المصنف كما سيأتي رابعها التفرقة بين من كان في حاجة تتعلق بمنفعة الجيش أو بإذن الإمام فيسهم له بخلاف غيره، وهذا مشهور مذهب مالك وقال ابن بطال: لم يقسم النبي صلى الله عليه وسلم في غير من شهد الوقعة إلا في خيبر، فهي مستثناة من ذلك فلا يجعل أصلا يقاس عليه فإنه قسم لأصحاب السفينة لشدة حاجتهم، ولذلك أعطى الأنصار عوض ما كانوا أعطوا المهاجرين أول ما قدموا عليهم قال الطحاوي: ويحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم استطاب أنفس أهل الغنيمة بما أعطى الأشعريين وغيرهم، وهذا كله في الغنيمة المنقولة، وقد تقدم في المزارعة بيان الاختلاف في الأرض التي يملكها المسلمون عنوة، قال ابن المنذر: ذهب الشافعي إلى أن عمر استطاب أنفس الغانمين الذين افتتحوا أرض السواد، وأن الحكم في أرض العنوة أن تقسم كما قسم النبي صلى الله عليه وسلم خيبر، وتعقب بأنه مخالف لتعليل عمر بقوله: "لولا آخر المسلمين"، لكن يمكن أن يقال: معناه لولا آخر المسلمين ما استطبت أنفس الغانمين، وأما قول عمر " كما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر " فإنه يريد بعض خيبر لا جميعها، قاله الطحاوي، وأشار إلى ما روي عن يحيى بن سعيد عن بشير بن يسار " أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قسم خيبر عزل نصفها لنوائبه وما ينزل به، وقسم النصف الباقي بين المسلمين، فلم يكن لهم عمال فدفعوها إلى اليهود ليعملوها على نصف ما يخرج منها " الحديث، والمراد بالذي عزله ما افتتح صلحا، وبالذي قسمه ما افتتح عنوة، وسيأتي بيان ذلك بأدلته في المغازي إن شاء الله تعالى. قال ابن المنير: ترجم البخاري بأن الغنيمة لمن شهد الوقعة. وأخرج قول عمر المقتضي لوقف الأرض المغنومة وهذا ضد ما ترجم به، ثم أجاب بأن المطابق لترجمته قول عمر "كما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر" فأومأ البخاري إلى ترجيح القسمة الناجزة، والحجة فيه أن الآتي الذي لم يوجد بعد لا يستحق شيئا من الغنيمة الحاضرة، بدليل أن الذي يغيب عن الوقعة لا يستحق شيئا بطريق الأولى، قلت: ويحتمل أن يكون البخاري أراد التوفيق بين ما جاء عن عمر أن الغنيمة لمن شهد الوقعة، وبين ما جاء عنه أنه يرى أن توقف الأرض، بحمل الأول على أن عمومه مخصوص بغير الأرض، قال ابن المنير: وجه احتجاج عمر بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} أن الواو عاطفة فيحصل اشتراك من ذكر في الاستحقاق والجملة في قوله تعالى: {يَقُولُونَ} في موضع الحال فهي كالشرط للاستحقاق، والمعنى أنهم يستحقون في حال الاستغفار، ولو أعربناها استئنافية للزم أن كل من جاء بعدهم يكون مستغفرا لهم والواقع بخلافه فتعين الأول، واختلف في الأرض التي أبقاها عمر بغير قسمة، فذهب الجمهور إلى أنه وقفها لنوائب المسلمين وأجرى فيها الخراج ومنع بيعها وقال بعض الكوفيين: أبقاها ملكا لمن كان بها من الكفرة وضرب عليهم الخراج، وقد اشتد نكير كثير من فقهاء أهل الحديث على هذه المقالة، ولبسطها موضع غير هذا. والله أعلم.

(6/225)


10 - باب مَنْ قَاتَلَ لِلْمَغْنَمِ هَلْ يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِهِ؟
3126- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَمْرٍو قَالَ سَمِعْتُ أَبَا وَائِلٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو مُوسَى الأَشْعَرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "قَالَ أَعْرَابِيٌّ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلْمَغْنَمِ وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِيُذْكَرَ وَيُقَاتِلُ لِيُرَى مَكَانُهُ مَنْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟" فَقَالَ: "مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ".
قوله: "باب من قاتل للمغنم هل ينقص من أجره؟" ذكر فيه حديث أبي موسى "قال أعرابي للنبي صلى الله عليه وسلم: الرجل يقاتل للمغنم" الحديث. وقد تقدم شرحه في أثناء الجهاد. قال ابن المنير: أراد البخاري أن قصد الغنيمة لا يكون منافيا للأجر ولا منقصا إذا قصد معه إعلاء كلمة الله، لأن السبب لا يستلزم الحصر، ولهذا يثبت الحكم الواحد بأسباب متعددة، ولو كان قصد الغنيمة ينافي قصد الإعلاء لما جاء الجواب عاما ولقال مثلا: من قاتل للمغنم فليس هو في سبيل الله. قلت: وما ادعى أن مراد البخاري فيه بعد، والذي يظهر أن النقص من الأجر أمر نسبي كما تقدم تحرير ذلك في أوائل الجهاد، فليس من قصد إعلاء كلمة الله محضا في الأجر مثل من ضم إلى هذا القصد قصدا آخر من غنيمة أو غيرها. وقال ابن المنير في موضع آخر: ظاهر الحديث أن من قاتل للمغنم - يعني خاصة - فليس في سبيل الله وهذا لا أجر له البتة، فكيف يترجم له بنقص الأجر؟ وجوابه ما قدمته.

(6/226)


باب قسمة الإمام ما يقدم عليه ، و يخبأ لمن لم يحضره أو غاب عنه
...
11 - باب قِسْمَةِ الإِمَامِ مَا يَقْدَمُ عَلَيْهِ وَيَخْبَأُ لِمَنْ لَمْ يَحْضُرْهُ أَوْ غَابَ عَنْهُ
3127- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُهْدِيَتْ لَهُ أَقْبِيَةٌ مِنْ دِيبَاجٍ مُزَرَّرَةٌ بِالذَّهَبِ فَقَسَمَهَا فِي نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ وَعَزَلَ مِنْهَا وَاحِدًا لِمَخْرَمَةَ بْنِ نَوْفَلٍ فَجَاءَ وَمَعَهُ ابْنُهُ الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ فَقَامَ عَلَى الْبَاب فَقَالَ ادْعُهُ لِي فَسَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَوْتَهُ فَأَخَذَ قَبَاءً فَتَلَقَّاهُ بِهِ وَاسْتَقْبَلَهُ بِأَزْرَارِهِ فَقَالَ يَا أَبَا الْمِسْوَرِ خَبَأْتُ هَذَا لَكَ يَا أَبَا الْمِسْوَرِ خَبَأْتُ هَذَا لَكَ وَكَانَ فِي خُلُقِهِ شِدَّةٌ". وَرَوَاهُ ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ أَيُّوبَ وَقَالَ حَاتِمُ بْنُ وَرْدَانَ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ "قَدِمَتْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْبِيَةٌ". تَابَعَهُ اللَّيْثُ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ.
قوله: "باب قسمة الإمام ما يقدم عليه" أي من جهة أهل الحرب. قوله: "ويخبأ لمن لم يحضره" أي في مجلس القسمة، أو غاب عنه أي في غير بلد القسمة. قال ابن المنير: فيه رد لما اشتهر بين الناس أن الهدية لمن حضر. قلت: قد سبق الكلام في الهبة على شيء من ذلك. قوله: "عن عبد الله بن أبي مليكة أن النبي صلى الله عليه وسلم" هذا هو المعتمد أنه من هذا الوجه مرسل، ووقع في رواية الأصيلي عن ابن أبي مليكة عن المسور، وهو وهم، ويدل عليه أن المصنف قال في آخره: "رواه ابن علية عن أيوب" أي مثل الرواية الأولى، قال وقال حاتم بن وردان عن أيوب عن ابن أبي مليكة عن المسور. "وتابعه الليث عن ابن أبي مليكة" فاتفق اثنان عن أيوب على إرساله ووصله ثالث عن أيوب، ووافقه الآخر عن شيخهم، واعتمد البخاري الموصول لحفظ من وصله، ورواية إسماعيل بن علية تأتي

(6/226)


موصولة في الأدب، ورواية حاتم بن وردان تقدمت موصولة في الشهادات، ورواية الليث تقدمت موصولة في الهبة وسيأتي شرح الحديث في كتاب اللباس إن شاء الله تعالى، والغرض منه قوله: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أهديت له أقبية" وقوله فيه: "خبأت لك هذا" وهو مطابق لما ترجم له، قال ابن بطال: ما أهدي إلى النبي صلى الله عليه وسلم من المشركين فحلال له أخذه لأنه فيء، وله أن يهب منه ما شاء ويؤثر به من شاء كالفيء، وأما من بعده فلا يجوز له أن يختص به لأنه إنما أهدي إليه لكونه أميرهم، وقد مضى ما يتعلق بذلك في كتاب الهبة.

(6/227)


بابت كيف قسم النبي صلى الله عليه و سلم قريطة و النضير ن و ما أعطى من ذلك من نوائبه
...
12 - باب كَيْفَ قَسَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرَ وَمَا أَعْطَى مِنْ ذَلِكَ فِي نَوَائِبِهِ
3128- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الأَسْوَدِ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: "كَانَ الرَّجُلُ يَجْعَلُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّخَلاَتِ حَتَّى افْتَتَحَ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرَ فَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ".
قوله: "باب كيف قسم النبي صلى الله عليه وسلم قريظة والنضير وما أعطى من ذلك من نوائبه" ذكر فيه حديث أنس " كان الرجل يجعل للنبي صلى الله عليه وسلم النخلات حتى افتتح قريظة والنضير" وهو مختصر من حديث سيأتي بتمامه مع بيان الكيفية المترجم بها في المغازي، وتقدم التنبيه عليه في أواخر الهبة.
ومحصل القصة أن أرض بني النضير كانت مما أفاء الله على رسوله وكانت له خالصة، لكنه آثر بها المهاجرين وأمرهم أن يعيدوا إلى الأنصار ما كانوا واسوهم به لما قدموا عليهم المدينة ولا شيء لهم، فاستغنى الفريقان جميعا بذلك، ثم فتحت قريظة لما نقضوا العهد فحوصروا فنزلوا على حكم سعد بن معاذ وقسمها النبي صلى الله عليه وسلم في أصحابه وأعطى من نصيبه في نوائبه - أي في نفقات أهله ومن يطرأ عليه - ويجعل الباقي في السلاح والكراع عدة في سبيل الله كما ثبت في الصحيحين من حديث مالك بن أوس عن عمر في بعض طرقه مختصرا.

(6/227)


باب بركة الغازي في ماله حيا و ميتا ، مع النبي صلى الله عليه و سلم و ولاة الأمر
...
13 - باب بَرَكَةِ الْغَازِي فِي مَالِهِ حَيًّا وَمَيِّتًا، مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوُلاَةِ الأَمْرِ
3129- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ قُلْتُ لِأَبِي أُسَامَةَ أَحَدَّثَكُمْ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ لَمَّا وَقَفَ الزُّبَيْرُ يَوْمَ الْجَمَلِ دَعَانِي فَقُمْتُ إِلَى جَنْبِهِ فَقَالَ يَا بُنَيِّ إِنَّهُ لاَ يُقْتَلُ الْيَوْمَ إِلاَّ ظَالِمٌ أَوْ مَظْلُومٌ وَإِنِّي لاَ أُرَانِي إِلاَّ سَأُقْتَلُ الْيَوْمَ مَظْلُومًا وَإِنَّ مِنْ أَكْبَرِ هَمِّي لَدَيْنِي أَفَتُرَى يُبْقِي دَيْنُنَا مِنْ مَالِنَا شَيْئًا فَقَالَ يَا بُنَيِّ بِعْ مَالَنَا فَاقْضِ دَيْنِي وَأَوْصَى بِالثُّلُثِ وَثُلُثِهِ لِبَنِيهِ يَعْنِي بَنِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ يَقُولُ ثُلُثُ الثُّلُثِ فَإِنْ فَضَلَ مِنْ مَالِنَا فَضْلٌ بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ شَيْءٌ فَثُلُثُهُ لِوَلَدِكَ قَالَ هِشَامٌ وَكَانَ بَعْضُ وَلَدِ عَبْدِ اللَّهِ قَدْ وَازَى بَعْضَ بَنِي الزُّبَيْرِ خُبَيْبٌ وَعَبَّادٌ وَلَهُ يَوْمَئِذٍ تِسْعَةُ بَنِينَ وَتِسْعُ بَنَاتٍ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ فَجَعَلَ يُوصِينِي بِدَيْنِهِ وَيَقُولُ يَا بُنَيِّ إِنْ عَجَزْتَ عَنْهُ فِي شَيْءٍ فَاسْتَعِنْ عَلَيْهِ مَوْلاَيَ قَالَ فَوَاللَّهِ مَا دَرَيْتُ مَا أَرَادَ حَتَّى قُلْتُ يَا أَبَةِ مَنْ مَوْلاَكَ؟ قَالَ: اللَّهُ قَالَ فَوَاللَّهِ مَا وَقَعْتُ فِي كُرْبَةٍ مِنْ دَيْنِهِ إِلاَّ قُلْتُ يَا مَوْلَى الزُّبَيْرِ اقْضِ

(6/227)


14 - باب إِذَا بَعَثَ الإِمَامُ رَسُولًا فِي حَاجَةٍ أَوْ أَمَرَهُ بِالْمُقَامِ هَلْ يُسْهَمُ لَهُ
3130- حَدَّثَنَا مُوسَى حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ مَوْهَبٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "إِنَّمَا تَغَيَّبَ عُثْمَانُ عَنْ بَدْرٍ فَإِنَّهُ كَانَتْ تَحْتَهُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَتْ مَرِيضَةً فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ لَكَ أَجْرَ رَجُلٍ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا وَسَهْمَهُ".
[الحديث 3130 – أطرافه في: 3698، 3704، 4066، 4513، 4514، 4650، 4651، 7095]
قوله: "باب إذا بعث الإمام رسولا في حاجة أو أمره بالمقام" أي ببلده "هل يسهم له؟" أي مع الغانمين أم لا؟ قوله: "حدثنا موسى" هو ابن إسماعيل، وقوله عثمان بن موهب بوزن جعفر، قال أبو علي الجياني: وقع في نسخة أبي محمد عن أبي أحمد - يعني الأصيلي - عن الجرجاني عمرو بن عبد الله وهو غلط وذكر الحديث عن ابن عمر مختصرا في قصة تخلف عثمان عن بدر، وسيأتي مطولا بهذا الإسناد على الصواب في مناقب عثمان، وقد تقدم بيان

(6/235)


الاختلاف في هذه المسألة في "باب الغنيمة لمن شهد الوقعة".

(6/236)


باب و من الدليل على أن الخمس لنوائب المسلمين ما سأل هوازن النبي صلى الله عليه و سلم ـ برضاعه فيهم ـ فتحلل من المسلمين ، و ما كان النبي صلى الله عليه و سلم يعد الناس أن يعطيهم من الفيء و الأنفال من الخ
...
15 – باب: وَمِنْ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ الْخُمُسَ لِنَوَائِبِ الْمُسْلِمِينَ مَا سَأَلَ هَوَازِنُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَضَاعِهِ فِيهِمْ فَتَحَلَّلَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعِدُ النَّاسَ أَنْ يُعْطِيَهُمْ مِنْ الْفَيْءِ وَالأَنْفَالِ مِنْ الْخُمُسِ، وَمَا أَعْطَى الأَنْصَارَ، وَمَا أَعْطَى جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ تَمْرَ خَيْبَرَ.
3131، 3132- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ قَالَ حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ وَزَعَمَ عُرْوَةُ أَنَّ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ وَمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ أَخْبَرَاهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "حِينَ جَاءَهُ وَفْدُ هَوَازِنَ مُسْلِمِينَ فَسَأَلُوهُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَسَبْيَهُمْ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَبُّ الْحَدِيثِ إِلَيَّ أَصْدَقُهُ فَاخْتَارُوا إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ إِمَّا السَّبْيَ وَإِمَّا الْمَالَ وَقَدْ كُنْتُ اسْتَأْنَيْتُ بِهِمْ وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْتَظَرَ آخِرَهُمْ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً حِينَ قَفَلَ مِنْ الطَّائِفِ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرُ رَادٍّ إِلَيْهِمْ إِلاَّ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ قَالُوا فَإِنَّا نَخْتَارُ سَبْيَنَا فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمُسْلِمِينَ فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قَالَ أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ إِخْوَانَكُمْ هَؤُلاَءِ قَدْ جَاءُونَا تَائِبِينَ وَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُ أَنْ أَرُدَّ إِلَيْهِمْ سَبْيَهُمْ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُطَيِّبَ فَلْيَفْعَلْ وَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَظِّهِ حَتَّى نُعْطِيَهُ إِيَّاهُ مِنْ أَوَّلِ مَا يُفِيءُ اللَّهُ عَلَيْنَا فَلْيَفْعَلْ فَقَالَ النَّاسُ قَدْ طَيَّبْنَا ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّا لاَ نَدْرِي مَنْ أَذِنَ مِنْكُمْ فِي ذَلِكَ مِمَّنْ لَمْ يَأْذَنْ فَارْجِعُوا حَتَّى يَرْفَعَ إِلَيْنَا عُرَفَاؤُكُمْ أَمْرَكُمْ فَرَجَعَ النَّاسُ فَكَلَّمَهُمْ عُرَفَاؤُهُمْ ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُمْ قَدْ طَيَّبُوا وَأَذِنُوا فَهَذَا الَّذِي بَلَغَنَا عَنْ سَبْيِ هَوَازِنَ".
3133- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ قَالَ وَحَدَّثَنِي الْقَاسِمُ بْنُ عَاصِمٍ الْكُلَيْبِيُّ وَأَنَا لِحَدِيثِ الْقَاسِمِ أَحْفَظُ عَنْ زَهْدَمٍ قَالَ كُنَّا عِنْدَ أَبِي مُوسَى فَأُتِيَ ذَكَرَ دَجَاجَةً وَعِنْدَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَيْمِ اللَّهِ أَحْمَرُ كَأَنَّهُ مِنْ الْمَوَالِي فَدَعَاهُ لِلطَّعَامِ فَقَالَ إِنِّي رَأَيْتُهُ يَأْكُلُ شَيْئًا فَقَذِرْتُهُ فَحَلَفْتُ لاَ آكُلُ فَقَالَ هَلُمَّ فَلْأُحَدِّثْكُمْ عَنْ ذَاكَ إِنِّي أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَفَرٍ مِنْ الأَشْعَرِيِّينَ نَسْتَحْمِلُهُ فَقَالَ وَاللَّهِ لاَ أَحْمِلُكُمْ وَمَا عِنْدِي مَا أَحْمِلُكُمْ وَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَهْبِ إِبِلٍ فَسَأَلَ عَنَّا فَقَالَ أَيْنَ النَّفَرُ الأَشْعَرِيُّونَ فَأَمَرَ لَنَا بِخَمْسِ ذَوْدٍ غُرِّ الذُّرَى فَلَمَّا انْطَلَقْنَا قُلْنَا مَا صَنَعْنَا لاَ يُبَارَكُ لَنَا فَرَجَعْنَا إِلَيْهِ فَقُلْنَا إِنَّا سَأَلْنَاكَ أَنْ تَحْمِلَنَا فَحَلَفْتَ أَنْ لاَ تَحْمِلَنَا أَفَنَسِيتَ قَالَ لَسْتُ أَنَا حَمَلْتُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَمَلَكُمْ وَإِنِّي

(6/236)


وَاللَّهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لاَ أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلاَّ أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَتَحَلَّلْتُهَا".
[الحديث 3133 – أطرافه في: 4385، 4415، 5517، 5518، 6623، 6649، 6678، 6680، 6718، 6719، 6721، 7555]
3134- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ سَرِيَّةً فِيهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ قِبَلَ نَجْدٍ فَغَنِمُوا إِبِلًا كَثِيرَةً فَكَانَتْ سِهَامُهُمْ اثْنَيْ عَشَرَ بَعِيرًا أَوْ أَحَدَ عَشَرَ بَعِيرًا وَنُفِّلُوا بَعِيرًا بَعِيرًا".
[الحديث 3134 – طرفه في: 4338]
3135- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُنَفِّلُ بَعْضَ مَنْ يَبْعَثُ مِنْ السَّرَايَا لِأَنْفُسِهِمْ خَاصَّةً سِوَى قِسْمِ عَامَّةِ الْجَيْشِ".
3136- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ حَدَّثَنَا بُرَيْدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "بَلَغَنَا مَخْرَجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ بِالْيَمَنِ فَخَرَجْنَا مُهَاجِرِينَ إِلَيْهِ أَنَا وَأَخَوَانِ لِي أَنَا أَصْغَرُهُمْ أَحَدُهُمَا أَبُو بُرْدَةَ وَالْآخَرُ أَبُو رُهْمٍ إِمَّا قَالَ فِي بِضْعٍ وَإِمَّا قَالَ فِي ثَلاَثَةٍ وَخَمْسِينَ أَوْ اثْنَيْنِ وَخَمْسِينَ رَجُلًا مِنْ قَوْمِي فَرَكِبْنَا سَفِينَةً فَأَلْقَتْنَا سَفِينَتُنَا إِلَى النَّجَاشِيِّ بِالْحَبَشَةِ وَوَافَقْنَا جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَأَصْحَابَهُ عِنْدَهُ فَقَالَ جَعْفَرٌ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَنَا هَاهُنَا وَأَمَرَنَا بِالإِقَامَةِ فَأَقِيمُوا مَعَنَا فَأَقَمْنَا مَعَهُ حَتَّى قَدِمْنَا جَمِيعًا فَوَافَقْنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ افْتَتَحَ خَيْبَرَ فَأَسْهَمَ لَنَا أَوْ قَالَ فَأَعْطَانَا مِنْهَا وَمَا قَسَمَ لِأَحَدٍ غَابَ عَنْ فَتْحِ خَيْبَرَ مِنْهَا شَيْئًا إِلاَّ لِمَنْ شَهِدَ مَعَهُ إِلاَّ أَصْحَابَ سَفِينَتِنَا مَعَ جَعْفَرٍ وَأَصْحَابِهِ قَسَمَ لَهُمْ مَعَهُمْ".
[الحديث 3136 – أطرافه في: 3876، 4230، 4223]
3137- حَدَّثَنَا عَلِيٌّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ سَمِعَ جَابِرًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَوْ قَدْ جَاءَنِي مَالُ الْبَحْرَيْنِ لَقَدْ أَعْطَيْتُكَ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا فَلَمْ يَجِئْ حَتَّى قُبِضَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا جَاءَ مَالُ الْبَحْرَيْنِ أَمَرَ أَبُو بَكْرٍ مُنَادِيًا فَنَادَى مَنْ كَانَ لَهُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَيْنٌ أَوْ عِدَةٌ فَلْيَأْتِنَا فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لِي كَذَا وَكَذَا فَحَثَا لِي ثَلاَثًا وَجَعَلَ سُفْيَانُ يَحْثُو بِكَفَّيْهِ جَمِيعًا ثُمَّ قَالَ لَنَا هَكَذَا قَالَ لَنَا ابْنُ الْمُنْكَدِرِ وَقَالَ مَرَّةً فَأَتَيْتُ أَبَا بَكْرٍ فَسَأَلْتُ فَلَمْ يُعْطِنِي ثُمَّ أَتَيْتُهُ فَلَمْ يُعْطِنِي ثُمَّ أَتَيْتُهُ الثَّالِثَةَ فَقُلْتُ سَأَلْتُكَ فَلَمْ تُعْطِنِي ثُمَّ سَأَلْتُكَ فَلَمْ تُعْطِنِي ثُمَّ سَأَلْتُكَ فَلَمْ تُعْطِنِي فَإِمَّا أَنْ تُعْطِيَنِي وَإِمَّا أَنْ تَبْخَلَ عَنِّي قَالَ قُلْتَ

(6/237)


تَبْخَلُ عَنِّي مَا مَنَعْتُكَ مِنْ مَرَّةٍ إِلاَّ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُعْطِيَكَ" قَالَ سُفْيَانُ وَحَدَّثَنَا عَمْرٌو عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ جَابِرٍ فَحَثَا لِي حَثْيَةً وَقَالَ عُدَّهَا فَوَجَدْتُهَا خَمْسَ مِائَةٍ قَالَ فَخُذْ مِثْلَهَا مَرَّتَيْنِ". وَقَالَ يَعْنِي ابْنَ الْمُنْكَدِرِ وَأَيُّ دَاءٍ أَدْوَأُ مِنْ الْبُخْلِ.
3138- حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا قُرَّةُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْسِمُ غَنِيمَةً بِالْجِعْرَانَةِ إِذْ قَالَ لَهُ رَجُلٌ اعْدِلْ فَقَالَ لَهُ لَقَدْ شَقِيتُ إِنْ لَمْ أَعْدِلْ".
قوله: "باب" بالتنوين "ومن الدليل" هو عطف على الترجمة التي قبل ثمانية أبواب حيث قال: "الدليل على أن الخمس لنوائب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال هنا "لنوائب المسلمين". وقال بعد باب "ومن الدليل على أن الخمس للإمام" والجمع بين هذه التراجم أن الخمس لنوائب المسلمين وإلى النبي صلى الله عليه وسلم مع تولي قسمته أن يأخذ منه ما يحتاج إليه بقدر كفايته، والحكم بعده كذلك يتولى الإمام ما كان يتولاه، هذا محصل ما ترجم به المصنف، وقد تقدم توجيهه وتبيين الاختلاف فيه، وجوز الكرماني أن تكون كل ترجمة على وفق مذهب من المذاهب، وفيه بعد، لأن أحدا لم يقل أن الخمس للمسلمين دون النبي صلى الله عليه وسلم ودون الإمام ولا للنبي صلى الله عليه وسلم دون المسلمين وكذا للإمام، فالتوجيه الأول هو اللائق، وقد أشار الكرماني أيضا إلى طريق الجمع بينها فقال: لا تفاوت من حيث المعنى إذ نوائب رسول الله صلى الله عليه وسلم نوائب المسلمين والتصرف فيه له وللإمام بعده. قلت: والأولى أن يقال: ظاهر لفظ التراجم التخالف، ويرتفع بالنظر في المعنى إلى التوافق، وحاصل مذاهب العلماء أكثر من ثلاثة: أحدها قول أئمة المخالفة الخمس يؤخذ من سهم الله ثم يقسم الباقي خمسة كما في الآية. الثاني: عن ابن عباس خمس الخمس لله ولرسول الله صلى الله عليه وسلم وأربعة للمذكورين، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرد سهم الله ورسوله لذوي القربى ولا يأخذ لنفسه شيئا. الثالث قول زين العابدين: الخمس كله لذوي القربى، والمراد باليتامى يتامى ذوي القربى وكذلك المساكين وابن السبيل، أخرجه ابن جرير عنه، لكن السند إليه واه. الرابع هو للنبي صلى الله عليه وسلم فخمسه لخاصته وباقيه لتصرفه. الخامس هو للإمام ويتصرف فيه بالمصلحة كما يتصرف في الفيء. السادس يرصد لمصالح المسلمين. السابع يكون بعد النبي صلى الله عليه وسلم لذوي القربى ومن ذكر بعدهم في الآية. قوله: "ما سأل هوازن النبي صلى الله عليه وسلم برضاعه فيهم فتحلل من المسلمين" هوازن فاعل والمراد القبيلة وأطلقها على بعضهم مجازا، والنبي بالنصب على المفعولية، وقوله: "برضاعه" أي بسبب رضاعه، لأن حليمة السعدية مرضعته كانت منهم، وقد ذكر قصة سؤال هوازن من طريق المسور بن مخرمة ومروان موصولة، ولكن ليس فيها تعرض لذكر الرضاع، وإنما وقع ذلك فيما أخرجه ابن إسحاق في المغازي من طريق عمرو في شعيب عن أبيه عن جده فذكر القصة مطولة وفيها شعر زهير بن صرد حيث قال فيه:
امنن على نسوة قد كنت ترضعها ... إذ فوك يملؤه من محضها الدرر
وسيأتي بيان ما في سياقه من فائدة زائدة عند الكلام على حديث المسور في المغازي إن شاء الله تعالى. وتقدم شرح بعض ألفاظه في أواخر العتق. قوله: "وما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعد الناس أن يعطيهم من الفيء والأنفال من الخمس

(6/238)


وما أعطى الأنصار وما أعطى جابر بن عبد الله من تمر خيبر" أما حديث الوعد من الفيء فيظهر من سياق حديث جابر، وأما حديث الأنفال من الخمس فمذكور في الباب من حديث ابن عمر، وأما حديث إعطاء الأنصار فتقدم من حديث أنس قريبا، وأما حديث إعطاء جابر من تمر خيبر فهو في حديث أخرجه أبو داود، وظهر من سياقه أن حديث جابر الذي ترجم به المصنف للباب طرف منه. حديث المسور وقد نبهت عليه وتقدم بعضه بهذا الإسناد بعينه في الوكالة. حديث أبي موسى الأشعري. قوله: "قال وحدثني القاسم في عاصم الكليبي" بموحدة مصغر، والقائل ذلك هو أيوب، بين ذلك عبد الوهاب الثقفي عن أيوب كما سيأتي في الأيمان والنذور. قوله: "فأتي ذكر دجاجة" كذا لأبي ذر "فأتي" بصيغة الفعل الماضي من الإتيان و"ذكر" بكسر الذال وسكون الكاف و"دجاجة" بالجر والتنوين على الإضافة وكذا للنسفي. وفي رواية الأصيلي: "فأتي" بضم الهمزة على البناء لما لم يسم فاعله و"ذكر" بفتحتين و"دجاجة" بالنصب والتنوين على المفعولية، كأن الراوي لم يستحضر اللفظ كله وحفظ منه لفظ دجاجة، قال عياض: وهذا أشبه لقوله في الطريق الأخرى "فأتي بلحم دجاج" ولقوله في حديث الباب: "فدعاه للطعام" أي الذي في الدجاجة، وسيأتي في النذور بلفظ: "فأتي بطعام فيه دجاج" وهو المراد. قوله: "وعنده رجل من بني تيم الله" هو نسبة إلى بطن من بني بكر بن عبد مناة وسيأتي الكلام على شرحه مستوفى في الأيمان والنذور، وأبين هناك ما قيل في اسمه ومناسبته للترجمة من جهة أنهم سألوه فلم يجد ما يحملهم عليه، ثم حضر شيء من الغنائم فحملهم منها، وهو محمول على أنه حملهم على ما يختص بالخمس، وإذا كان له التصرف بالتنجيز من غير تعليق فكذا له التصرف بتنجير ما علق. قوله: "بعث سرية" ذكرها المصنف في المغازي بعد غزوة الطائف، وسيأتي بيان ذلك في مكانه. قوله: "قبل نجد" بكسر القاف وفتح الموحدة أي جهتها. قوله: "فغنموا إبلا كثيرة" في رواية عند مسلم: "فأصبنا إبلا وغنما". قوله: "فكانت سهامهم" أي أنصباؤهم، والمراد أنه بلغ نصيب كل واحد منهم هذا القدر، وتوهم بعضهم أن ذلك جميع الأنصباء قال النووي وهو غلط. قوله: "اثني عشر بعيرا أو أحد عشر بعيرا" وهكذا رواه مالك بالشك والاختصار وإيهام الذي نفلهم، وقد وقع بيان ذلك في رواية ابن إسحاق من نافع عند أبي داود ولفظه: "فخرجت فيها فأصبنا نعما كثيرا وأعطانا أميرنا بعيرا بعيرا لكل إنسان، ثم قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم فقسم بيننا غنيمتنا فأصاب كل رجل منا اثنا عشر بعيرا بعد الخمس. وأخرجه أبو داود أيضا من طريق شعيب بن أبي حمزة عن نافع ولفظه: "بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في جيش قبل نجد وأتبعت سرية من الجيش، وكان سهمان الجيش اثني عشر بعيرا اثني عشر بعيرا، ونفل أهل السرية بعيرا بعيرا، فكانت سهمانهم ثلاثة عشر بعيرا ثلاثة عشر بعيرا". وأخرجه ابن عبد البر من هذا الوجه وقال في روايته: "إن ذلك الجيش كان أربعة آلاف" قال ابن عبد البر: اتفق جماعة رواة الموطأ على روايته بالشك، إلا الوليد بن مسلم فإنه رواه عن شعيب ومالك جميعا فلم يشك، وكأنه حمل رواية مالك على رواية شعيب. قلت: وكذا أخرجه أبو داود عن القعنبي عن مالك والليث بغير شك، فكأنه أيضا حمل رواية مالك على رواية الليث. قال ابن عبد البر: وقال سائر أصحاب نافع "اثني عشر بعيرا" بغير شك لم يقع الشك فيه إلا من مالك. قوله: "ونفلوا بعيرا بعيرا" بلفظ الفعل الماضي من غير مسمى، والنفل زيادة يزادها الغازي على نصيبه من الغنيمة، ومنه نفل الصلاة وهو ما عدا الفرض. واختلف الرواة في القسم والتنفيل هل

(6/239)


كانا جميعا من أمير ذلك الجيش أو من النبي صلى الله عليه وسلم أو أحدهما من أحدهما، فرواية ابن إسحاق صريحة أن التنفيل كان من الأمير والقسم من النبي صلى الله عليه وسلم، وظاهر رواية الليث عن نافع عند مسلم أن ذلك صدر من أمير الجيش، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان مقررا لذلك. مجيزا له لأنه قال فيه: "ولم يغيره النبي صلى الله عليه وسلم" وفي رواية عبد الله بن عمر عنده أيضا: "ونفلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعيرا بعيرا"؛ وهذا يمكن أن يحمل على التقرير فتجتمع الروايتان، قال النووي: معناه أن أمير السرية نفلهم فأجازه النبي صلى الله عليه وسلم فجازت نسبته لكل منهما. وفي الحديث أن الجيش إذا انفرد منه قطعة فغنموا شيئا كانت الغنيمة للجميع، قال ابن عبد البر: لا يختلف الفقهاء في ذلك، أي إذا خرج الجيش جميعه ثم انفردت منه قطعة انتهى. وليس المراد الجيش القاعد في بلاد الإسلام فإنه لا يشارك الجيش الخارج إلى بلاد العدو، بل قال ابن دقيق العيد: إن الحديث يستدل به على أن المنقطع من الجيش عن الجيش الذي فيه الإمام ينفرد بما يغنمه، قال: وإنما قالوا بمشاركة الجيش لهم إذا كانوا قريبا منهم يلحقهم عونه وغوثه لو احتاجوا انتهى. وهذا القيد في مذهب مالك. وقال إبراهيم النخعي: للإمام أن ينفل السرية جميع ما غنمته دون بقية الجيش مطلقا، وقيل أنه انفرد بذلك. وفيه مشروعية التنفيل، ومعناه تخصيص من له أثر في الحرب بشيء من المال، لكنه خصه عمرو ابن شعيب بالنبي صلى الله عليه وسلم دون من بعده، نعم وكره مالك أن يكون بشرط من أمير الجيش كأن يحرض على القتال وبعد بأن ينفل الربع إلى الثلث قبل القسم، واعتل بأن القتال حينئذ يكون للدنيا، قال فلا يجوز مثل هذا انتهى. وفي هذا رد على من حكى الإجماع على مشروعيته. وقد اختلف العلماء هل هو من أصل الغنيمة أو من الخمس أو من خمس الخمس أو مما عدا الخمس على أقوال؟ والثلاثة الأول مذهب والشافعي والأصح عندهم أنها من خمس الخمس، ونقله منذر بن سعيد عن مالك وهو شاذ عندهم. قال ابن بطال: وحديث الباب يرد على هذا لأنهم نفلوا نصف السدس وهو أكثر من خمس الخمس وهذا واضح، وقد زاده ابن المنير إيضاحا فقال: لو فرضنا أنهم كانوا مائة لكان قد حصل لهم ألف ومائتا بعير ويكون الخمس من الأصل ثلاثمائة بعير وخمسها ستون، وقد نطق الحديث بأنهم نفلوا بعيرا بعيرا فتكون جملة ما نفلوا مائة بعير، وإذا كان خمس الخمس ستين لم يف كله ببعير بعير لكل من المائة، وهكذا كيفما فرضت العدد. قال: وقد ألجأ هذا الإلزام بعضهم فادعى أن جميع ما حصل للغانمين كان اثني عشر بعيرا فقيل له فيكون خمسها ثلاثة أبعرة فيلزم أن تكون السرية كلها ثلاثة رجال كذا قيل، قال ابن المنير: وهو سهو على التفريغ المذكور، بل يلزم يكون أقل من رجل بناء على أن النفل من خمس الخمس. وقال ابن التين: قد انفصل من قال من الشافعية بأن النفل من خمس الخمس بأوجه: منها أن الغنيمة لم تكن كلها أبعرة بل كان فيها أصناف أخرى، فيكون التنفيل وقع من بعض الأصناف دون بعض، ثانيها أن يكون نفلهم من سهمه من هذه الغزاة وغيرها فضم هذا إلى هذا فلذلك زادت العدة، ثالثها أن يكون نفل بعض الجيش دون بعض. قال: وظاهر السياق يرد هذه الاحتمالات. قال وقد جاء أنهم كانوا عشرة، وأنهم غنموا مائة وخمسين بعيرا فخرج منها الخمس وهو ثلاثون وقسم عليهم البقية فحصل لكل واحد اثنا عشر بعيرا ثم نفلوا بعيرا بعيرا فعلى هذا فقد نفلوا ثلث الخمس. قلت: إن ثبت هذا لم يكن فيه رد للاحتمال الأخير لأنه يحتمل أن يكون الذين نفلوا ستة من العشرة والله أعلم. قال الأوزاعي وأحمد وأبو ثور وغيرهم: النفل من أصل الغنيمة. وقال مالك وطائفة لا نفل إلا من الخمس. وقال الخطابي: أكثر ما روي من الأخبار بدل على أن النفل من أصل الغنيمة. والذي

(6/240)


يقرب من حديث الباب أنه كان من الخمس لأنه أضاف الاثني عشر إلى سهمانهم، فكأنه أشار إلى أن ذلك قد تقرر لهم استحقاقه من الأخماس الأربعة الموزعة عليهم فيبقى للنفل من الخمس. قلت: ويؤيده ما رواه مسلم في حديث الباب من طريق الزهري قال: "بلغني عن ابن عمر قال: نفل رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية بعثها قبل نجد من إبل جاءوا بها نفلا سوى نصيبهم من المغنم" لم يسق مسلم لفظه وساقه الطحاوي ويؤيده أيضا ما رواه مالك عن عبد ربه بن سعيد عن عمرو بن شعيب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس، وهو مردود عليكم" وصله النسائي من وجه آخر حسن عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وأخرجه أيضا بإسناد حسن من حديث عبادة ابن الصامت فإنه يدل على أن ما سوى الخمس للمقاتلة. وروى مالك أيضا عن أبي الزناد أنه سمع سعيد بن المسيب قال: "كان الناس يعطفون النفل من الخمس. قلت: وظاهره اتفاق الصحابة على ذلك. وقال ابن عبد البر: إن أراد الإمام تفضيل بعض الجيش لمعنى فيه فذلك من الخمس لا من رأس الغنيمة، وإن انفردت قطعة فأراد أن ينفلها مما غنمت دون سائر الجيش فذلك من غير الخمس بشرط أن لا يزيد على الثلث انتهى. وهذا الشرط قال به الجمهور. وقال الشافعي لا يتحدد، بل هو راجع إلى ما يراه الإمام من المصلحة، ويدل له قوله تعالى: {قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} ففوض إليه أمرها، والله أعلم. وقال الأوزاعي: لا ينفل من أول الغنيمة، ولا ينفل ذهبا ولا فضة. وخالفه الجمهور. وحديث الباب من رواية ابن إسحاق بدل لما قالوا واستدل به على تعين قسمة أعيان الغنيمة لا أثمانها، وفيه نظر لاحتمال أن يكون وقع ذلك اتفاقا أو بيانا للجواز. وعند المالكية فيه أقوال ثالثها التخيير، وفيه أن أمير الجيش إذا فعل مصلحة لم ينقضها الإمام. حديث ابن عمر "كان ينفل بعض من يبعث من السرايا لأنفسهم خاصة سوى قسم عامة الجيش". وأخرجه مسلم وزاد في آخره: والخمس واجب في ذلك كله، وليس فيه حجة لأن النفل من الخمس لا من غيره، بل هو محتمل لكل من الأقوال. نعم فيه دليل على أنه يجوز تخصيص بعض السرية بالتنفيل دون بعض، قال ابن دقيق العيد: للحديث تعلق بمسائل الإخلاص في الأعمال، وهو موضع دقيق المأخذ، ووجه تعلقه به أن التنفيل يقع للترغيب في زيادة العمل والمخاطرة في الجهاد، ولكن لم يضرهم ذلك قطعا لكونه صدر لهم من النبي صلى الله عليه وسلم فيدل على أن بعض المقاصد الخارجة عن محض التعبد لا تقدح في الإخلاص، لكن ضبط قانونها وتمييزها مما تضر مداخلته مشكل جدا. حديث أبي موسى في مجيئهم من الحبشة وفي آخره: "وما قسم لأحد غاب عن فتح خيبر منها شيئا إلا لمن شهد معه، إلا أصحاب سفينتنا مع جعفر وأصحابه قسم لهم معهم"، وسيأتي شرحه مستوفى في غزوة خيبر من كتاب المغازي، والغرض منه هذا الكلام الأخير. قال ابن المنير: أحاديث الباب مطابقة لما ترجم به، إلا هذا الأخير فإن ظاهره أنه عليه الصلاة والسلام قسم لهم من أصل الغنيمة لا من الخمس، إذ لو كان من الخمس لم يكن لهم بذلك خصوصية، والحديث ناطق بها، قال: لكن وجه المطابقة أنه إذا جاز للإمام أن يجتهد وينفذ اجتهاده في الأخماس الأربعة المختصة بالغانمين فيقسم منها لمن لم يشهد الوقعة، فلأن ينفذ اجتهاده في الخمس الذي لا يستحقه معين وإن استحقه صنف مخصوص أولى. وقال ابن التين: يحتمل أن يكون أعطاهم برضا بقية الجيش انتهى. وهذا جزم به موسى ابن عقبة في مغازيه. ويحتمل أن يكون إنما أعطاهم من الخمس، وبهذا جزم أبو عبيد في "كتاب الأموال" وهو الموافق لترجمة البخاري، وأما قول ابن المنير لو كان من الخمس لم يكن هناك تخصيص فظاهر، لكن يحتمل أن يكون من الخمس وخصهم بذلك دون غيرهم ممن كان

(6/241)


من شأنه أن يعطي من الخمس، ويحتمل أن يكون أعطاهم من جميع الغنيمة لكونهم وصلوا قبل قسمة الغنيمة وبعد حوزها، وهو أحد القولين للشافعي. وهذا الاحتمال يترجح بقوله: "أسهم لهم" لأن الذي يعطي من الخمس لا يقال في حقه أسهم له إلا تجوزا، ولأن سياق الكلام يقتضي الافتخار ويستدعي الاختصاص بما لم يقع لغيرهم كما تقدم والله أعلم. قوله: "حدثنا علي" هر ابن عبد الله المديني، وسفيان هو ابن عيينة. قوله: "لو قد جاءنا مال البحرين" سيأتي ذلك في أول "باب الجزية" من حديث عمرو بن عوف وأنه من الجزية، لكن فيه: "فقدم أبو عبيدة بمال من البحرين" فيحمل على أن الذي وعد به النبي صلى الله عليه وسلم جابرا كان بعد السنة التي قدم فيها أبو عبيدة بالمال، وظهر بذلك جهة المال المذكور وأنه من الجزية، فأغنى ذلك عن قول ابن بطال: يحتمل أن يكون من الخمس أو من الفيء. قوله: "أمر أبو بكر مناديا فنادى" لم أقف على اسمه، ويحتمل أن يكون بلالا. قوله: "فحثى لي" بالمهملة والمثلثة. قوله: "وقال مرة" القائل هو سفيان بهذا السند، وقد تقدم الحديث في الهبة بالسند الأول بدون هذه الزيادة إلى آخرها، وتقدمت الزيادة بهذا الإسناد في الكفالة والحوالة إلى قوله: "خذ مثليها". قوله: "قال سفيان" هو متصل بالسند المذكور، وعمرو هو ابن دينار، ومحمد بن علي أي ابن الحسين ابن علي. وظهر من هذه الرواية المراد من قوله في رواية ابن المنكدر "فحثى لي ثلاثا" لكن قوله: "فحثى لي حثية" مع قوله في الرواية التي قبلها "وجعل سفيان يحثو بكفيه" يقتضي أن الحثية ما يؤخذ باليدين جميعا، والذي قاله أهل اللغة أن الحثية ما يملأ الكف، والحفنة ما يملأ الكفين. نعم ذكر أبو عبيد الهروي أن الحثية والحفنة بمعنى. وهذا الحديث شاهد لذلك. وقوله: "حثية" من حثى يحثي، ويجوز حثوة من حثا يحثو وهما لغتان، وقوله: "تبخل عني" أي من جهتي. قوله: "وقال يعني ابن المنكدر" الذي قال: "وقال" هو سفيان. الذي قال: "يعني" هو علي ابن المديني قوله: "وأي داء أدوى من البخل" قال عياض: كذا وقع "أدوى" غير مهموز، من دوى إذا كان به مرض في جوفه، والصواب أدوأ بالهمز لأنه من الداء، فيحمل على أنهم سهلوا الهمزة، ووقع في رواية الحميدي في مسنده عن سفيان في هذا الحديث: "وقال ابن المنكدر في حديثه" فظهر بذلك اتصاله إلى أبي بكر بخلاف رواية الأصيلي فإنها تشعر بأن ذلك من كلام ابن المنكدر وقد روى حديث: "أي داء أدوأ من البخل" ، وقد تقدم في الكفالة توجيه وفاء أبي بكر لعدات النبي صلى الله عليه وسلم، وكذا في كتاب الهبة، وأن وعده صلى الله عليه وسلم لا يجوز إخلافه فنزل منزلة الضمان في الصحة، وقيل: إنما فعله أبو بكر على سبيل التطوع، ولم يكن يلزمه قضاء ذلك، وما تقدم في "باب من أمر بإنجاز الوعد" من كتاب الشهادات أولى، وأن جابرا لم يدع أن له دينا في ذمة النبي صلى الله عليه وسلم فلم يطالبه أبو بكر ببينة ووفى ذلك له من بيت المال الموكول الأمر فيه إلى اجتهاد الإمام، وعلى ذلك يحوم المصنف وبه ترجم، وإنما أخر أبو بكر إعطاء جابر حتى قال له ما قال إما لأمر أهم من ذلك، أو خشية أن يحمله ذلك على الحرص على الطلب، أو لئلا يكثر الطالبون لمثل ذلك، ولم يرد به المنع على الإطلاق، ولهذا قال: "ما من مرة إلا وأنا أريد أن أعطيك" وسيأتي في أوائل الجزية بيان الخلاف في مصرفها، وظاهر إيراد البخاري هذا الحديث هنا أن مصرفها عنده مصرف الخمس، والله أعلم. قوله: "حدثنا قرة" بضم القاف وتشديد الراء ثم هاء، وفي الإسناد بصريان هو والراوي عنه، وحجازيان شيخه والضحاك، وقد خالف زيد بن الحباب مسلم بن إبراهيم فيه فقال: "عن قرة عن أبي الزبير" بدل عمرو بن دينار أخرجه مسلم، وسياقه أتم؛ ورواية البخاري

(6/242)


أرجح فقد وافق شيخه على ذلك عن قرة عثمان بن عمرو عند الإسماعيلي والنضر بن شميل عند أبي نعيم، فاتفاق هؤلاء الحفاظ الثلاثة أرجح من انفراد زيد بن الحباب عنهم، ويحتمل أن يكون الحديث عند قرة عن شيخين بدليل أن في رواية أبي الزبير زيادة على ما في رواية هؤلاء كلهم عن قرة عن عمرو، وسيأتي شرحه مستوفى في استنابة المرتدين عند الكلام على حديث أبي سعيد في المعنى، وفي حديث أبي سعيد بيان تسميته القائل المذكور، وقوله في هذه الرواية: "لقد شقيت" بضم المثناة للأكثر ومعناه ظاهر ولا محذور فيه، والشرط لا يستلزم الوقوع لأنه ليس ممن لا يعدل حتى يحصل له الشقاء، بل هو عادل فلا يشقى. وحكى عياض فتحها ورجحه النووي وحكاه الإسماعيلي عن رواية شيخه المنيعي من طريق عثمان بن عمر عن قرة، والمعنى لقد شقيت أي ضللت أنت أيها التابع حيث تقتدي بمن لا يعدل، أو حيث تعتقد في نبيك هذا القول الذي لا يصدر عن مؤمن.

(6/243)


باب مامن النبي صلى الله عليه و سلم على الأسارى من غير ان يخمس
...
16 - باب مَا مَنَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الأُسَارَى مِنْ غَيْرِ أَنْ يُخَمِّسَ
3139- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي أُسَارَى بَدْرٍ لَوْ كَانَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ حَيًّا ثُمَّ كَلَّمَنِي فِي هَؤُلاَءِ النَّتْنَى لَتَرَكْتُهُمْ لَهُ".
[الحديث 3139 – طرفه في: 4024]
قوله: "باب ما من النبي صلى الله عليه وسلم على الأسارى من غير أن يخمس" أراد بهذه الترجمة أنه كان له صلى الله عليه وسلم أن يتصرف في الغنيمة بما يراه مصلحة فينفل من رأس الغنيمة وتارة من الخمس، واستدل على الأول بأنه كان يمن على الأسارى من رأس الغنيمة وتارة من الخمس، فدل على أنه كان له أن ينفل من رأس الغنيمة، وقد تقدم بيان الاختلاف في ذلك. حديث جبير بن مطعم "لو كان المطعم حيا وكلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له"، قال ابن بطال: وجه الاحتجاج به أنه صلى الله عليه وسلم لا يجوز في حقه أن يخبر عن شيء لو وقع لفعله وهو غير جائز، فدل على أن للإمام أن يمن على الأسارى بغير فداء خلافا لمن منع ذلك كما تقدم، واستدل به على أن الغنائم لا يستقر ملك الغانمين عليها إلا بعد القسمة وبه قال المالكية والحنفية. وقال الشافعي: يملكون بنفس الغنيمة، والجواب عن حديث الباب أنه محمول على أنه كان يستطيب أنفس الغانمين، وليس في الحديث ما يمنع ذلك فلا يصلح للاحتجاج به. وللفريقين احتجاجات أخرى وأجوبة تتعلق بهذه المسألة لم أطل بها هنا لأنها لا تؤخذ من حديث الباب لا نفيا ولا إثباتا، واستبعد ابن المنير الحمل المذكور فقال: إن طيب قلوب الغانمين بذلك من العقود الاختيارية فيحتمل أن لا يذعن بعضهم، فكيف بت القول بأنه يعطيه إياهم مع أن الأمر موقوف على اختيار من يحتمل أن لا يسمح؟ قلت: والذي يظهر أن هذا كان باعتبار ما تقدم في أول الأمر أن الغنيمة كانت للنبي صلى الله عليه وسلم يتصرف فيها حيث شاء، وفرض الخمس إنما نزل بعد قسمة غنائم بدر كما تقرر فلا حجة إذا في هذا الحديث لما ذكرنا. وقد أنكر الداودي دخول التخميس في أسارى بدر فقال: لم يقع فيهم غير أمرين إما المن بغير فداء وإما الفداء بمال، ومن لم يكن له مال علم أولاد الأنصار الكتابة، وأطال في ذلك، ولم يأت بطائل. ولا يلزم من وقوع شيء أو شيئين مما خير فيه منع التخيير، وقد قتل النبي صلى الله عليه وسلم منهم عقبة بن أبي معيط وغيره، وادعاؤه أن قريشا لا يدخلون تحت الرق يحتاج إلى

(6/243)


دليل خاص، وإلا فأصل الخلاف هل يسترق العربي أو لا ثابت مشهور والله أعلم، وسيأتي بقية شرحه في غزوة بدر إن شاء الله تعالى. وقوله: "النتنى" بنونين مفتوحتين بينهما ساكنة مقصور جمع نتن أو نتين كزمن وزمني أو جريح وجرحي، وروي بمهملة فموحدة ساكنة وهو تصحيف، وأبعد من جعله هو الصواب.

(6/244)


باب . و من الدليل على أن الخمس للامام ، و أنه يعطي بعض قرابته دون بعض ما قسم النبي صلى الله عليه و سلم لبني المطلب و بني هاشم من خمس خيبر . قال عمر بن عبدالعزيز ، لم يسهم بذلك و لم يخص قريبا دون من أخ
...
17 – باب: وَمِنْ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ الْخُمُسَ لِلْإِمَامِ وَأَنَّهُ يُعْطِي بَعْضَ قَرَابَتِهِ دُونَ بَعْضٍ مَا قَسَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبَنِي الْمُطَّلِبِ وَبَنِي هَاشِمٍ مِنْ خُمُسِ خَيْبَرَ. قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَمْ يَعُمَّهُمْ بِذَلِكَ وَلَمْ يَخُصَّ قَرِيبًا دُونَ مَنْ هُوَ أَحْوَجُ إِلَيْهِ وَإِنْ كَانَ الَّذِي أَعْطَى لِمَا يَشْكُو إِلَيْهِ مِنْ الْحَاجَةِ وَلِمَا مَسَّتْهُمْ فِي جَنْبِهِ مِنْ قَوْمِهِمْ وَحُلَفَائِهِمْ
3140- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ ابْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ مَشَيْتُ أَنَا وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْطَيْتَ بَنِي الْمُطَّلِبِ وَتَرَكْتَنَا وَنَحْنُ وَهُمْ مِنْكَ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا بَنُو الْمُطَّلِبِ وَبَنُو هَاشِمٍ شَيْءٌ وَاحِدٌ". قَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي يُونُسُ وَزَادَ قَالَ جُبَيْرٌ: "وَلَمْ يَقْسِمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبَنِي عَبْدِ شَمْسٍ وَلاَ لِبَنِي نَوْفَلٍ". وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ عَبْدُ شَمْسٍ وَهَاشِمٌ وَالْمُطَّلِبُ إِخْوَةٌ لِأُمٍّ وَأُمُّهُمْ عَاتِكَةُ بِنْتُ مُرَّةَ وَكَانَ نَوْفَلٌ أَخَاهُمْ لِأَبِيهِمْ.
[الحديث 3140 – طرفاه في: 3502، 4229]
قوله: "باب ومن الدليل على أن الخمس للإمام" تقدم توجيه ذلك قبل بباب. قوله: "وقال عمر بن عبد العزيز لم يعمهم" أي لم يعم قريشا. وقوله: "ولم يخص قريبا دون من أحوج إليه" أي دون من هو أحوج إليه، قال ابن مالك: فيه حذف العائد على الموصول وهو قليل، ومنه قراءة يحيى بن يعمر {تَمَاماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنُ} بضم النون أي الذي هو أحسن، قال: وإذا طال الكلام فلا ضعف ومنه "وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله" أي وفي الأرض هو إله. قوله: "وإن كان الذي أعطى" أي أبعد قرابة ممن لم يعط، ووقع في هذا اختصار اقتضى توقفنا في فهمه، وقد من الله وله الحمد بتوجيهه، وسياقه عند عمر بن شبة في "أخبار المدينة" موصولا مطولا فقال فيه: "وقسم لهم قسما لم يعم عامتهم ولم يخص به قريبا دون من أحوج منه، ولقد كان يومئذ فيمن أعطى من هو أبعد قرابة" أي ممن لم يعط. وقوله: "لما يشكو" تعليل لعطية الأبعد قرابة، وقوله: "في جنبه" أي جانبه، وقوله: "من قومهم وحلفائهم" أي وحلفاء قومهم بسبب الإسلام، وأشار بذلك إلى ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بمكة من قريش بسبب الإسلام، وسيأتي بسطه في موضعه إن شاء الله تعالى. قوله: "عن ابن المسيب" في رواية يونس عن ابن شهاب عند أبي داود "وأخبرني سعيد بن المسيب". قوله: "عن جبير بن مطعم" في المغازي من رواية يونس عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب "أن جبير بن مطعم أخبره. قوله: "مشيت أنا وعثمان بن عفان" زاد أبو داود والنسائي من طريق يونس عن ابن شهاب "فيما فيما من الخمس بين بني هاشم وبني المطلب" ولهما من رواية ابن إسحاق عن ابن شهاب "وضع سهم ذوي القربى من بني هاشم وبني المطلب وترك بني نوفل وبني عبد شمس

(6/244)


وإنما اختص جبير وعثمان بذلك لأن عثمان من بني عبد شمس وجبير بن مطعم من بني نوفل، وعبد شمس ونوفل وهاشم والمطلب سواء الجميع بنو عبد مناف. فهذا معنى قولهما "ونحن وهم منك بمنزلة واحدة" أي في الانتساب إلى عبد مناف. ووقع في عبد مناف. ووقع في رواية أبي داود المذكورة "وقرابتنا وقرابتهم منك واحدة"، وله في رواية ابن إسحاق "فقلنا يا رسول الله هؤلاء بنو هاشم لا ننكر فضلهم للموضع الذي وضعك الله منهم، فما بال إخواننا بني المطلب أعطيتهم وتركتنا". قوله: "شيء واحد" للأكثر بالشين المعجمة المفتوحة والهمزة. وقال عياض، رويناه هكذا في البخاري بغير خلاف انتهى. وقد وجدته في أصلي هنا من رواية الكشميهني وفي المغازي من رواية المستملي وفي مناقب قريش من روايته وفي رواية الحموي بكسر المهملة وتشديد التحتانية، وكذلك كان يرويه يحيى بن معين وحده، قال الخطابي: هو أجود في المعنى، وحكاها عياض رواية خارج الصحيح وقال: الصواب رواية الكافة لقوله فيه: "وشبك بين أصابعه" وهذا دليل على الاختلاط والامتزاج كالشيء الواحد لا على التمثيل والتنظير. وهذه الزيادة التي أشار إليها وقعت في رواية ابن إسحاق المذكورة ولفظه: "فقال: إنا وبنو المطلب لم نفترق في جاهلية ولا إسلام، وإنما نحن وهم شيء واحد، وشبك بين أصابعه" ووقع في رواية أبي زيد المروزي "شيء أحد" بغير واو بهمز الألف، فقيل هما بمعنى، وقيل لأحد الذي ينفرد بشيء لا يشاركه فيه غيره والواحد أول العدد، وقيل الأحد المنفرد بالمعنى والواحد المنفرد بالذات، وقيل الأحد لنفي ما يذكر معه من العدد والواحد اسم لمفتاح العدد من جنسه، وقيل لا يقال أحد إلا الله تعالى، حكاه جميعه عياض. قوله: "وقال الليث حدثني يونس" أي بهذا الإسناد وزاد "قال جبير: ولم يقسم النبي صلى الله عليه وسلم لبني عبد شمس ولا لبني نوفل" هو عندي من رواية عبد الله بن يوسف أيضا عن الليث فهو متصل، ويحتمل أن يكون معلقا، وقد وصله المصنف في المغازي عن يحيى بن بكير عن الليث عن يونس بتمامه، وزاد أبو داود في رواية يونس بهذا الإسناد "وكان أبو بكر يقسم الخمس نحو قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، غير أنه لم يكن يعطي قربى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان عمر يعطيهم منه وعثمان بعده" وهذه الزيادة بين الذهلي في "جمع حديث الزهري" أنها مدرجة من كلام الزهري. وأخرج ذلك مفصلا من رواية الليث عن يونس، وكأن هذا هو السر في حذف البخاري هذه الزيادة مع ذكره لرواية يونس. وروى مسلم وأبو داود والنسائي وغيرهم من طريق ابن شهاب عن يزيد عن هرمز عن ابن عباس في سهم ذوي القربى قال: "هو لقربى رسول الله صلى الله عليه وسلم قسمه لهم النبي صلى الله عليه وسلم وقد كان عمر عرض علينا من ذلك شيئا رأيناه دون حقنا، فرددناه" وللنسائي من وجه آخر "وقد كان عمر دعانا أن ينكح أيمنا ويخدم عائلنا ويقضي عن غارمنا فأبينا إلا أن يسلمه لنا، قال فتركناه". قوله: "وقال ابن إسحاق إلخ" وصله المصنف في التاريخ، وقوله: "عاتكة بنت مرة" أي ابن هلال من بني سليم. وقوله: "وكان نوفل أخاهم لأبيهم" لم يسم أمه وهي واقدة بالقاف بنت أبي عدي واسمه نوفل ابن عبادة، من بني مازن بن صعصعة. وذكر الزبير بن بكار في النسب أنه كان يقال لهاشم والمطلب البدران، ولعبد شمس ونوفل الأبهران، وهذا يدل على أن بين هاشم والمطلب ائتلافا سرى في أولادهما من بعدهما، ولهذا لما كتبت قريش الصحيفة بينهم وبين بني هاشم وحصروهم في الشعب دخل بنو المطلب مع بني هاشم ولم تدخل بنو نوفل وبنو عبد شمس، وستأتي الإشارة إلى ذلك في أول المبعث إن شاء الله تعالى. وفي الحديث حجة للشافعي ومن وافقه أن سهم ذوي القربى لبني هاشم والمطلب خاصة دون بقية قرابة النبي صلى الله عليه وسلم من قريش، وعن عمر بن عبد العزيز هم بنو هاشم خاصة، وبه قال زيد بن أرقم وطائفة

(6/245)


=

=

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أشعار النساء - ط عالم الكتب المؤلف المرزباني

  أشعار النساء للمرزباني ثالث ما ألف من الكتب في أشعار النساء، بعد (أشعار الجواري) للمفجع البصري المتوفى سنة 327هـ و(الإماء الشواعر)...