5.
مجلد 5. فتح الباري أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ)
= يسأله عن هذا الحديث، فرجع إليه فأخبره
به، فلا مانع أن يكون أبو سلمة. اجتمع بعمرو بعد فسمعه منه. ويقويه توفر دواعيهم
على الاجتماع في المسجد النبوي، وقد ذكرنا أن ابن منده أخرجه من طريق معمر بإثبات
ذكر العمامة فيه، وعلى تقدير تفرد الأوزاعي بذكرها لا يستلزم ذلك تخطئته، لأنها
تكون زيادة من ثقة حافظ غير منافية لرواية رفقته فتقبل، ولا تكون شاذة، ولا معنى
لرد الروايات الصحيحة بهذه التعليلات الواهية. وقد اختلف السلف في معنى المسح على
العمامة فقيل: إنه كمل عليها بعد مسح الناصية، وقد تقدمت رواية مسلم بما يدل على
ذلك، وإلى عدم الاقتصار على المسح عليها ذهب الجمهور. وقال الخطابي: فرض الله مسح
الرأس، والحديث في مسح العمامة محتمل للتأويل، فلا يترك المتيقن للمحتمل. قال:
وقياسه على مسح الخف بعيد، لأنه يشق نزعه بخلافها، وتعقب بأن الذين أجازوا
الاقتصار على مسح العمامة شرطوا فيه المشقة في نزعها كما في الخف، وطريقة أن تكون
محنكة كعمائم العرب. وقالوا عضو يسقط فرضه في التيمم فجاز المسح على حائله
كالقدمين. وقالوا الآية لا تنفي ذلك ولا سيما عند من يحمل المشترك على حقيقته
ومجازه لأن من قال قبلت رأس فلان يصدق ولو كان على حائل، وإلى هذا ذهب الأوزاعي
والثوري في رواية عنه وأحمد وإسحاق وأبو ثور والطبري وابن خزيمة وابن المنذر
وغيرهم. وقال ابن المنذر: ثبت ذلك عن أبي بكر وعمر، وقد صح أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: "إن يطع الناس أبا بكر وعمر يرشدوا". والله أعلم.
(1/309)
49 - باب إِذَا
أَدْخَلَ رِجْلَيْهِ وَهُمَا طَاهِرَتَانِ
206- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ عَنْ عَامِرٍ عَنْ
عُرْوَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ "كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فَأَهْوَيْتُ لِأَنْزِعَ خُفَّيْهِ
فَقَالَ "دَعْهُمَا فَإِنِّي أَدْخَلْتُهُمَا طَاهِرَتَيْنِ" فَمَسَحَ
عَلَيْهِمَا"
قوله: "باب إذا أدخل رجليه وهما طاهرتان" هذا لفظ رواية أبى داود من
طريق يونس بن أبي إسحاق عن الشعبي في هذا الحديث، وسنبين ما بينها وبين لفظ حديث
الباب من التفاوت. قوله: "حدثنا زكريا" هو ابن أبي زائدة. "عن
عامر" هو الشعبي، وزكريا مدلس ولم أره من حديثه إلا بالعنعنة، لكن أخرجه أحمد
عن يحيى القطان عن زكريا، والقطان لا يحمل من حديث شيوخه المدلسين إلا ما كان
مسموعا لهم، صرح بذلك الإسماعيلي. قوله: "فأهويت" أي مددت يدي، قال
الأصمعي: أهويت بالشيء إذا أومأت به. وقال غيره: أهويت قصدت الهواء من القيام إلى
القعود. وقيل الإهواء الإمالة، قال ابن بطال: فيه خدمة العالم، وأن للخادم أن يقصد
إلى ما يعرف من عادة مخدومه قبل أن يأمره. وفيه الفهم عن الإشارة، ورد الجواب عما
يفهم عنها لقوله: "فقال دعهما " قوله: "فإني أدخلتهما" أي
القدمين "طاهرتين" كذا للأكثر، وللكشميهني: "وهما طاهرتان "
ولأبي داود " فإني أدخلت القدمين الخفين وهما طاهرتان " وللحميدي في
مسنده " قلت يا رسول الله أيمسح أحدنا على خفيه؟ قال: نعم إذا أدخلهما وهما
طاهرتان " ولابن خزيمة من حديث صفوان بن عسال " أمرنا رسول الله صلى
الله عليه وسلم أن نمسح على الخفين إذا نحن أدخلناهما على طهر ثلاثا إذا سافرنا،
ويوما وليلة إذا أقمنا " قال ابن خزيمة ذكرته للمزني فقال لي: حدث به
أصحابنا، فإنه أقوى حجة للشافعي. انتهى. وحديث صفوان وإن كان صحيحا لكنه ليس على
شرط البخاري، لكن حديث الباب موافق له في الدلالة على اشتراط الطهارة عند اللبس،
وأشار المزني بما قال إلى الخلاف
(1/309)
في المسألة، ومحصله أن الشافعي والجمهور حملوا الطهارة على الشرعية في الوضوء، وخالفهم داود فقال: "إذا لم يكن على رجليه نجاسة عند اللبس جاز له المسح، ولو تيمم ثم لبسهما لم يبح له عندهم لأن التيمم مبيح لا رافع، وخالفهم أصبغ". ولو غسل رجليه بنية الوضوء ثم لبسهما ثم أكمل باقي الأعضاء لم يبح المسح عند الشافعي ومن وافقه على إيجاب الترتيب، وكذا عند من لا يوجبه بناء على أن الطهارة لا تتبعض، لكن قال صاحب الهداية من الحنفية: شرط إباحة المسح لبسهما على طهارة كاملة، قال: والمراد بالكاملة وقت الحدث لا وقت اللبس، في هذه الصورة إذا كمل الوضوء ثم أحدث جاز له المسح، لأنه وقت الحدث كان على طهارة كاملة انتهى. والحديث حجة عليه لأنه جعل الطهارة قبل لبس الخف شرطا لجواز المسح، والمعلق بشرط لا يصح إلا بوجود ذلك الشرط، وقد سلم أن المراد بالطهارة الكاملة، ولو توضأ مرتبا وبقي غسل إحدى رجليه فلبس ثم غسل الثانية ولبس لم يبح له المسح عند الأكثر، وأجازه الثوري والكوفيون والمزني صاحب الشافعي ومطرف صاحب مالك وابن المنذر وغيرهم لصدق أنه أدخل كلا من رجليه الخفين وهي طاهرة، وتعقب بأن الحكم المرتب على التثنية غير الحكم المرتب على الوحدة، واستضعفه ابن دقيق العيد لأن الاحتمال باق. قال: لكن إن ضم إليه دليل يدل على أن الطهارة لا تتبعض اتجه. "فائدة": المسح على الخفين خاص بالوضوء لا مدخل للغسل فيه بإجماع. "فائدة أخرى": لو نزع خفيه بعد المسح قبل انقضاء المدة عند من قال بالتوقيت أعاد الوضوء عند أحمد وإسحاق وغيرهما وغسل قدميه عند الكوفيين والمزني وأبي ثور، وكذا قال مالك والليث إلا إن تطاول. وقال الحسن وابن أبي ليلي وجماعة: ليس عليه غسل قدميه، وقاسوه على من مسح رأسه ثم حلقه أنه لا يجب عليه إعادة المسح، وفيه نظر. "فائدة أخرى": لم يخرج البخاري ما يدل على توقيت المسح. وقال به الجمهور. وخالف مالك في المشهور عنه فقال: يمسح ما لم يخلع، وروي مثله عن عمر. وأخرج مسلم التوقيت من حديث علي كما تقدم من حديث صفوان بن عسال، وفي الباب عن أبي بكرة وصححه الشافعي وغيره.
(1/310)
50 - باب مَنْ لَمْ
يَتَوَضَّأْ مِنْ لَحْمِ الشَّاةِ وَالسَّوِيقِ
وَأَكَلَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَلَمْ
يَتَوَضَّئُوا
207- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ
زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عَبَّاسٍ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكَلَ
كَتِفَ شَاةٍ ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ".
[الحديث207- طرفاه في:5405,5404]
قوله: "باب من لم يتوضأ من لحم الشاة" نص على لحم الشاة ليندرج ما هو
مثلها وما دونها بالأولى، وأما ما فوقها فلعله يشير إلى استثناء لحوم الإبل لأن من
خصه من عموم الجواز علله بشدة زهومته فلهذا لم يقيده بكونه مطبوخا، وفيه حديثان
عند مسلم وهو قول أحمد واختاره ابن خزيمة وغيره من محدث الشافعية. قوله:
"والسويق"
ـــــــ
(1) وجهه أن الرأس أصل يمسح مع وجود الشعر وعدمه, والمسح على الخف بدل من غسل
القدم فافترقا. وبذلك يترجح القول ببطلان الوضوء إذا خلع الخفين, ولايكفي غسل
القدمين لفوات الموالات. والله أعلم
(1/310)
قال ابن التين:
"ليس في أحاديث الباب ذكر السويق". وأجيب بأنه دخل من باب الأولى لأنه
إذا لم يتوضأ من اللحم مع دسومته فعدمه من السويق أولى، ولعله أشار بذلك إلى حديث
الباب الذي بعده. قوله: "وأكل أبو بكر. الخ" سقط قوله: "لحما
" من رواية أبي ذر إلا عن الكشميهني، وقد وصله الطبراني في مسند الشاميين
بإسناد حسن من طريق سليم بن عامر قال: "رأيت أبا بكر وعمر وعثمان أكلوا مما
مست النار ولم يتوضئوا " ورويناه من طرق كثيرة عن جابر مرفوعا وموقوفا على
الثلاثة مفرقا ومجموعا. قوله: "أكل كتف شاة" أي لحمه. وللمصنف في
الأطعمة " تعرق " أي أكل ما على العرق - بفتح المهملة وسكون الراء - وهو
العظم، ويقال له العراق بالضم أيضا. وأفاد القاضي إسماعيل أن ذلك كان في بيت ضباعة
بنت الزبير بن عبد المطلب وهي بنت عم النبي صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أنه كان في
بيت ميمونة كما سيأتي من حديثها وهي خالة ابن عباس، كما أن ضباعة بنت عمه. وبين
النسائي من حديث أم سلمة أن الذي دعاه إلى الصلاة هو بلال.
208- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ
عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي جَعْفَرُ بْنُ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ أَنَّ
أَبَاهُ أَخْبَرَهُ "أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَحْتَزُّ مِنْ كَتِفِ شَاةٍ فَدُعِيَ إِلَى الصَّلاَةِ فَأَلْقَى
السِّكِّينَ فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ".
[الحديث208- أطرافه في:5462,5422,5408,2923,675]
قوله: "يحتز" بالمهملة والزاي أي يقطع، زاد في الأطعمة من طرق معمر عن
الزهري " يأكل منها " وفي البيهقي من طريق صالح عن الزهري " يأكل
ذراعا يحتز منها". قوله: "فألقى السكين" زاد في الأطعمة عن أبي
اليمان عن شعيب عن الزهري " فألقاها والسكين"، وزاد البيهقي من طريق عبد
الكريم بن الهيثم عن أبي اليمان في آخر الحديث: قال الزهري: فذهبت تلك - أي القصة
- في الناس، ثم أخبر رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ونساء من أزواجه أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: "توضئوا مما مست النار " قال فكان الزهري
يرى أن الأمر بالوضوء مما مست النار ناسخ وغيرهما، لكن قال أبو داود وغيره: إن
المراد بالأمر هنا الشأن والقصة لا مقابل النهي، وأن هذا اللفظ مختصر من حديث جابر
المشهور في قصة المرأة التي صنعت للنبي صلى الله عليه وسلم شاة فأكل منها ثم توضأ
وصلى الظهر ثم أكل منها وصلى العصر ولم يتوضأ، فيحتمل أن تكون هذه القصة وقعت قبل
الأمر بالوضوء مما مست النار، وأن وضوءه لصلاة الظهر كان عن حدث لا بسبب الأكل من
الشاة. وحكى البيهقي عن عثمان الدارمي أنه قال: لما اختلفت أحاديث الباب ولم يتبين
الراجح منها نظرنا إلى ما عمل به الخلفاء الراشدون بعد النبي صلى الله عليه وسلم
فرجحنا به أحد الجانبين، وارتضى النووي هذا في شرح المهذب. وبهذا تظهر حكمة تصدير
البخاري حديث الباب بالأثر المنقول عن الخلفاء الثلاثة، قال النووي: كان الخلاف
فيه معروفا بين الصحابة والتابعين، ثم استقر الإجماع على أنه لا وضوء مما مست
النار إلا ما تقدم استثناؤه من لحوم الإبل. وجمع الخطابي بوجه آخر وهو أن أحاديث
الأمر محمولة على الاستحباب لا على الوجوب، والله أعلم. واستدل البخاري في الصلاة
بهذا الحديث على أن الأمر بتقديم العشاء على الصلاة خاص بغير الإمام الراتب،
(1/311)
وعلى جواز قطع اللحم بالسكين، وفي النهي عنه حديث ضعيف في سنن أبي داود فإن ثبت خص بعدم الحاجة الداعية إلى ذلك لما فيه من التشبه بالأعاجم وأهل الترف، وفيه أن الشهادة على النفي - إذا كان محصورا - تقبل. "فائدة": ليس لعمرو بن أمية رواية في البخاري إلا هذا الحديث والذي مضى في المسح فقط.
(1/312)
51- باب مَنْ
مَضْمَضَ مِنْ السَّوِيقِ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ
209حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ
يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ بُشَيْرِ بْنِ يَسَارٍ مَوْلَى بَنِي حَارِثَةَ أَنَّ
سُوَيْدَ بْنَ النُّعْمَانِ أَخْبَرَهُ "أَنَّهُ خَرَجَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ خَيْبَرَ حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالصَّهْبَاءِ
وَهِيَ أَدْنَى خَيْبَرَ فَصَلَّى الْعَصْرَ ثُمَّ دَعَا بِالأَزْوَادِ فَلَمْ
يُؤْتَ إِلاَّ بِالسَّوِيقِ فَأَمَرَ بِهِ فَثُرِّيَ فَأَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَكَلْنَا ثُمَّ قَامَ إِلَى الْمَغْرِبِ
فَمَضْمَضَ وَمَضْمَضْنَا ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ".
[الحديث 209- أطرافه في:5455,5454,5390,5384,4195,4175,2981,215]
210- حَدَّثَنَا أَصْبَغُ قَالَ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي
عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ عَنْ بُكَيْرٍ عَنْ كُرَيْبٍ عَنْ مَيْمُونَةَ
"أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكَلَ عِنْدَهَا
كَتِفًا ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ".
قوله: "باب من مضمض من السويق" قال الداودي: هو دقيق الشعير أو السلت
المقلي. وقال غيره: ويكون من القمح. وقد وصفه أعرابي فقال: عدة المسافر وطعام
العجلان وبلغة المريض. قوله: "عن يحيى بن سعيد" هو الأنصاري، والإسناد
مدنيون إلا شيخ البخاري. وبشير بالموحدة والمعجمة مصغرا، ويسار بالتحتانية
والمهملة. قوله: "بالصهباء" بفتح المهملة والمد. قوله: "وهي أدنى
خيبر" أي طرفها مما يلي المدينة. وللمصنف في الأطعمة وهي على روحة من خيبر. وقال
أبو عبيد البكري في معجم البلدان: هي على بريد وبين البخاري في موضع آخر من
الأطعمة من حديث ابن عيينة أن هذه الزيادة من قول يحيى بن سعيد أدرجت، وسيأتي
الحديث قريبا بدون الزيادة من طريق سليمان بن بلال عن يحيى. قوله: "ثم دعا
بالأزواد" فيه جمع الرفقاء على الزاد في السفر، وإن كان بعضهم أكثر أكلا.
وفيه حمل الأزواد في الأسفار وأن ذلك لا يقدح في التوكل، واستنبط منه المهلب أن
الإمام يأخذ المحتكرين بإخراج الطعام عند قلته ليبيعوه من أهل الحاجة، وأن الإمام
ينظر لأهل العسكر فيجمع الزاد ليصيب منه من لا زاد معه. قوله: "فثرى"
بضم المثلثة وتشديد الراء ويجوز تخفيفها، أي بل بالماء لما لحقه من اليبس. قوله:
"وأكلنا" زاد في رواية سليمان " وشربنا". وفي الجهاد من رواية
عبد الوهاب " فلكنا وأكلنا وشربنا". قوله: "ثم قام إلى المغرب
فمضمض" أي قبل الدخول في الصلاة، وفائدة المضمضة من السويق وإن كان لا دسم له
أن تحتبس بقاياه بين الأسنان ونواحي الفم فيشغله تتبعه عن أحوال الصلاة. قوله:
"ولم يتوضأ" أي بسبب أكل السويق. وقال الخطابي: فيه دليل على أن الوضوء
مما مست النار منسوخ لأنه متقدم وخيبر كانت سنة سبع. قلت: لا دلالة فيه، لأن أبا
هريرة حضر بعد فتح خيبر وروى الأمر بالوضوء كما في مسلم، وكان يفتى به بعد النبي
صلى الله عليه وسلم، واستدل به البخاري على جواز صلاتين فأكثر بوضوء واحد، وعلى
استحباب المضمضة بعد الطعام. قوله: "أخبرني عمرو" هو ابن الحارث، وبكير
هو ابن عبد الله بن الأشج، ومباحث المتن تقدمت في الباب الذي قبله. ونصف الإسناد
الأول مصريون ونصفه الأعلى مدنيون، ولعمرو بن الحارث فيه
(1/312)
إسناد آخر إلى ميمونة ذكره الإسماعيلي مقرونا بالإسناد الأول، وليس في حديث ميمونة ذكر المضمضمة التي ترجم بها فقيل: أشار بذلك إلى أنها غير واجبة بدليل تركها في هذا الحديث، مع أن المأكول دسم يحتاج إلى المضمضة منه فتركها لبيان الجواز، وأفاد الكرماني أن في نسخة الفربري التي بخطه تقديم حديث ميمونة هذا إلى الباب الذي قبله، فعلى هذا هو من تصرف النساخ.
(1/313)
3 - بَاب هَلْ
يُمَضْمِضُ مِنْ اللَّبَنِ
211- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ وَقُتَيْبَةُ قَالاَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ
عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عُتْبَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَرِبَ لَبَنًا فَمَضْمَضَ وَقَالَ إِنَّ لَهُ دَسَمًا".
تَابَعَهُ يُونُسُ وَصَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ عَنْ الزُّهْرِيِّ
[الحديث211-طرفه في:5609]
حديث قتيبة هذا أحد الأحاديث التي أخرجها الأئمة الخمسة وهم الشيخان وأبو داود
والنسائي والترمذي عن شيخ واحد وهو قتيبة. قوله: "شرب لبنا" زاد مسلم:
"ثم دعا بماء". قوله: "إن له دسما" قال ابن بطال عن المهلب:
فيه بيان علة الأمر بالوضوء مما مست النار، وذلك لأنهم كانوا ألفوا في الجاهلية
قلة التنظيف فأمروا بالوضوء مما مست النار، فلما تقررت النظافة في الإسلام وشاعت
نسخ. كذا قال ولا تعلق لحديث الباب بما ذكر، إنما فيه بيان العلة للمضمضة من اللبن
فيدل على استحبابها من كل شيء دسم، ويستنبط منه استحباب غسل اليدين للتنظيف. قوله:
"تابعه" أي عقيلا "يونس" أي ابن يزيد، وحديثه موصول عند مسلم،
وحديث صالح موصول عند أبي العباس السراج في مسنده. وتابعهم أيضا الأوزاعي أخرجه المصنف
في الأطعمة عن أبي عاصم عنه بلفظ حديث الباب، لكن رواه ابن ماجه من طريق بن الوليد
بن مسلم قال: حدثنا الأوزاعي فذكره بصيغة الأمر " مضمضوا من اللبن "
الحديث، كذا رواه الطبري من طريق أخرى عن الليث بالإسناد المذكور. وأخرج ابن ماجه
من حديث أم سلمة وسهل بن سعد مثله، وإسناد كل منهما حسن والدليل على الأمر فيه
للاستحباب ما رواه الشافعي عن ابن عباس راوي الحديث أنه شرب لبنا فمضمض ثم قال:
"لو لم أتمضمض ما باليت". وروى أبو داود بإسناد حسن عن أنس " أن
النبي صلى الله عليه وسلم شرب لبنا فلم يتمضمض ولم يتوضأ". وأغرب ابن شاهين
فجعل حديث أنس ناسخا لحديث ابن عباس، ولم يذكر من قال فيه بالوجوب حتى يحتاج إلى
دعوى النسخ.
(1/313)
53 - باب
الْوُضُوءِ مِنْ النَّوْمِ وَمَنْ لَمْ يَرَ مِنْ النَّعْسَةِ وَالنَّعْسَتَيْنِ
أَوْ الْخَفْقَةِ وُضُوءًا
212- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ
هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إِذَا نَعَسَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ يُصَلِّي
فَلْيَرْقُدْ حَتَّى يَذْهَبَ عَنْهُ النَّوْمُ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا صَلَّى
وَهُوَ نَاعِسٌ لاَ يَدْرِي لَعَلَّهُ يَسْتَغْفِرُ فَيَسُبُّ نَفْسَهُ"
قوله: "باب الوضوء من النوم" أي هل يجب أو يستحب، وظاهر كلامه أن النعاس
يسمى نوما، والمشهور
(1/313)
54 - باب
الْوُضُوءِ مِنْ غَيْرِ حَدَثٍ
214- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرِو
بْنِ عَامِرٍ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ ح و حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ
قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ سُفْيَانَ قَالَ حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ عَامِرٍ
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ "كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَتَوَضَّأُ عِنْدَ كُلِّ صَلاَةٍ قُلْتُ كَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ
قَالَ يُجْزِئُ أَحَدَنَا الْوُضُوءُ مَا لَمْ يُحْدِثْ".
قوله: "باب الوضوء من غير حدث" أي ما حكمه؛ والمراد تجديد الوضوء. وقد
ذكرنا اختلاف العلماء في أول كتاب الوضوء عند ذكر قوله تعالى :{يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} وأن كثير منهم قالوا: التقدير
إذا قمتم إلى الصلاة محدثين، واستدل الدارمي في مسنده على ذلك بقوله صلى الله عليه
وسلم: "لا وضوء إلا من حديث: "
(1/315)
وحكى الشافعي عمن لقيه
من أهل العلم أن التقدير: إذا قمتم من النوم. وتقدم أن من العلماء من حمله على
ظاهره وقال: كان الوضوء لكل صلاة واجبا، ثم اختلفوا هل نسخ أو استمر حكمه. ويدل
على النسخ ما أخرجه أبو داود وصححه ابن خزيمة من حديث عبد الله بن حنظلة أن النبي
صلى الله عليه وسلم أمر بالوضوء لكل صلاة فلما شق عليه أمر بالسواك. وذهب إلى
استمرار الوجوب قوم كما جزم به الطحاوي ونقله ابن عبد البر عن عكرمة وابن سيرين
وغيرهما، واستبعده النووي وجنح إلى تأويل ذلك إن ثبت عنهم، وجزم بأن الإجماع استقر
على عدم الوجوب. ويمكن حمل الآية على ظاهرها من غير نسخ، ويكون الأمر في حق
المحدثين على الوجوب، وفي حق غيرهم على الندب، وحصل بيان ذلك بالسنة كما في حديث
الباب. قوله: "حدثنا محمد بن يوسف" هو الفريابي، وسفيان هو الثوري.
قوله: "وحدثنا مسدد" هو تحويل إلى إسناد ثان قبل ذكر المتن، وإنما ذكره
وإن كان الأول أعلى لتصريح سفيان الثوري قيه بالتحديث، وعمرو بن عامر كوفي أنصاري
وقيل بجلي، وصحح المزي أن البجلي راو آخر غير هذا الأنصاري، وليس لهذا في البخاري
غير ثلاثة أحاديث كلها عن أنس، وليس للبجلي عنده رواية، وقد يلتبس به عمر بن عامر
بضم العين راو آخر بصري سلمى أخرج له مسلم، وليس له في البخاري شيء. قوله:
"عند كل صلاة" أي مفروضة، زاد الترمذي من طريق حميد عن أنس " طاهرا
أو غير طاهر " وظاهره أن تلك كانت عادته، لكن حديث سويد المذكور في الباب يدل
على أن المراد الغالب، قال الطحاوي يحتمل أن ذلك كان واجبا عليه خاصة ثم نسخ يوم
الفتح لحديث بريدة، يعني الذي أخرجه مسلم أنه صلى الله عليه وسلم صلى الصلوات يوم
الفتح بوضوء واحد، وأن عمر سأله فقال: "عمدا فعلته " وقال: يحتمل أنه
كان يفعله استحبابا ثم خشي أن يظن وجوبه فتركه لبيان الجواز. قلت: وهذا أقرب، وعلى
تقدير الأول فالنسخ كان قبل الفتح بدليل حديث سويد بن النعمان فإنه كان في خيبر
وهي قبل الفتح بزمان. قوله: "كيف كنتم" القائل عمرو بن عامر، والمراد
الصحابة. وللنسائي طريق شعبة عن عمرو أنه سأل أنسا " أكان النبي صلى الله
عليه وسلم يتوضأ. لكل صلاة؟ قال نعم". ولابن ماجه: "وكنا نحن نصلي
الصلوات كلها بوضوء واحد". قوله: "يجزئ" بالضم من أجزأ أي يكفي،
وللإسماعيلي: "يكفي".
215- حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ قَالَ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلاَلٍ
قَالَ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ أَخْبَرَنِي بُشَيْرُ بْنُ يَسَارٍ
قَالَ أَخْبَرَنِي سُوَيْدُ بْنُ النُّعْمَانِ قَالَ "خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ خَيْبَرَ حَتَّى إِذَا كُنَّا
بِالصَّهْبَاءِ صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الْعَصْرَ فَلَمَّا صَلَّى دَعَا بِالأَطْعِمَةِ فَلَمْ يُؤْتَ إِلاَّ
بِالسَّوِيقِ فَأَكَلْنَا وَشَرِبْنَا ثُمَّ قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَغْرِبِ فَمَضْمَضَ ثُمَّ صَلَّى لَنَا الْمَغْرِبَ
وَلَمْ يَتَوَضَّأْ"
قوله: "حدثنا سليمان" هو ابن بلال. ومباحث المتن تقدمت قريبا، وأفادت
هذه الطريق التصريح بالإخبار من يحيى وشيخه، وليس لسويد بن النعمان عند البخاري
إلا هذا الحديث الواحد وقد أخرجه في مواضع كما تقدمت الإشارة إليه، وهو أنصاري
حارثي شهد بيعة الرضوان كما سيأتي في المغازي إن شاء الله تعالى وذكر ابن سعد أنه
شهد قبل ذلك أحدا وما بعدها.
(1/316)
55 - باب مِنْ
الْكَبَائِرِ أَنْ لاَ يَسْتَتِرَ مِنْ بَوْلِهِ
216- حَدَّثَنَا عُثْمَانُ قَالَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ
مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ "مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَائِطٍ مِنْ حِيطَانِ الْمَدِينَةِ أَوْ مَكَّةَ فَسَمِعَ
صَوْتَ إِنْسَانَيْنِ يُعَذَّبَانِ فِي قُبُورِهِمَا فَقال النبي صلى الله عليه
وسلم: "يُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ ثُمَّ قَالَ بَلَى كَانَ
أَحَدُهُمَا لاَ يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ وَكَانَ الْآخَرُ يَمْشِي
بِالنَّمِيمَةِ" ثُمَّ دَعَا بِجَرِيدَةٍ فَكَسَرَهَا كِسْرَتَيْنِ فَوَضَعَ
عَلَى كُلِّ قَبْرٍ مِنْهُمَا كِسْرَةً فَقِيلَ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَ
فَعَلْتَ هَذَا قَالَ "لَعَلَّهُ أَنْ يُخَفَّفَ عَنْهُمَا مَا لَمْ
تَيْبَسَا" أَوْ" إِلَى أَنْ يَيْبَسَا"
[الحديث 216- أطرافه في: 6055,6052,1378,1361,218]
قوله: "باب" بالتنوين "من الكبائر" أي التي وعد من اجتنبها
بالمغفرة. قوله: "حدثنا عثمان" هو ابن أبي شيبة، وجرير هو ابن عبد
الحميد، ومنصور هو ابن المعتمر، ومجاهد هو ابن جبر صاحب ابن عباس وقد سمع الكثير
منه واشتهر بالأخذ عنه، لكن روى هذا الحديث الأعمش عن مجاهد فأدخل بينه وبين ابن
عباس طاوسا كما أخرجه المؤلف بعد قليل، وإخراجه له على الوجهين يقتضي صحتهما عنده،
فيحمل على أن مجاهدا سمعه من طاوس عن ابن عباس ثم سمعه من ابن عباس بلا واسطة أو
العكس، ويؤيده أن في سياقه عن طاوس زيادة على ما في روايته عن ابن عباس، وصرح ابن
حبان بصحة الطريقين معا. وقال الترمذي رواية الأعمش أصح. قوله: "مر النبي صلى
الله عليه وسلم بحائط" أي بستان، وللمصنف في الأدب " خرج النبي صلى الله
عليه وسلم من بعض حيطان المدينة " فيحمل على أن الحائط الذي خرج منه غير
الحائط الذي مر به، وفي الأفراد للدارقطني من حديث جابر أن الحائط كان لأم مبشر
الأنصارية، وهو يقوي رواية الأدب لجزمها بالمدينة من غير شك والشك في قوله:
"أو مكة " من جرير. قوله: "فسمع صوت إنسانين يعذبان في
قبورهما" قال ابن مالك: في قوله: "صوت إنسانين " شاهد على جواز
إفراد المضاف المثنى إذا كان جزء ما أضيف إليه نحو أكلت رأس شاتين، وجمعه أجود نحو
"فقد صغت قلوبكما" وقد اجتمع التثنية والجمع في قوله: ظهراهما مثل ظهور
الترسين فإن لم يكن المضاف جزء ما أضيف إليه، فالأكثر مجيئه بلفظ التثنية، فإن أمن
اللبس جاز جعل المضاف بلفظ الجمع. وقوله: "يعذبان في قبورهما " شاهد
لذلك. قوله: "يعذبان" في رواية الأعمش " مر بقبرين " زاد ابن
ماجه: "جديدين فقال: إنهما ليعذبان " فيحتمل أن يقال: أعاد الضمير على
غير مذكور لأن سياق الكلام يدل عليه، وأن يقال أعاده على القبرين مجازا والمراد من
فيهما. قوله: "وما يعذبان في كببر. ثم قال: بلى" أي إنه لكبير. وصرح
بذلك في الأدب من طريق عبد بن حميد عن منصور فقال: "وما يعذبان في كبير. وإنه
لكبير " وهذا من زيادات رواية منصور على الأعمش ولم يخرجها مسلم، واستدل ابن
بطال برواية الأعمش على أن التعذيب لا يختص بالكبائر بل قد يقع على الصغائر، قال
لأن الاحتراز من البول لم يرد قيه وعيد، يعني قبل هذه القصة. وتعقب بهذه الزيادة،
وقد ورد مثلها من حديث أبي بكرة عند أحمد والطبراني ولفظه: "وما يعذبان في
كبير، بلى " وقال ابن مالك: في قوله: "في كبير " شاهد على ورود
" في " للتعليل، وهو مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "عذبت امرأة في
هرة " قال: وخفي ذلك على أكثر النحوين مع وروده في القرآن
(1/317)
كقول الله تعالى
:{لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ} وفي الحديث كما تقدم، وفي الشعر فذكر
شواهد.انتهى. وقد اختلف في معنى قوله: "وإنه لكبير " فقال أبو عبد الملك
البوني: يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم ظن أن ذلك غير كبير، فأوحى إليه في الحال
بأنه كبير، فاستدرك. وتعقب بأنه يستلزم أن يكون نسخا والنسخ لا يدخل الخبر. وأجيب
بأن الحكم بالخبر(1) يجوز نسخه فقوله: "وما يعذبان في كبير " إخبار بالحكم،
فإذا أوحى إليه أنه كبير فأخبر به كان نسخا لذلك الحكم. وقيل: يحتمل أن الضمير في
قوله: "وأنه " يعود على العذاب، لما ورد في صحيح ابن حبان من حديث أبي
هريرة " يعذبان عذابا شديدا في ذنب هين " وقيل الضمير يعود على أحد
الذنبين وهو النميمة لأنها من الكبائر بخلاف كشف العورة، وهذا مع ضعفه غير مستقيم
لأن الاستتار المنفي ليس المراد به كشف العورة فقط كما سيأتي. وقال الداودي وابن
العربي: "كبير " المنفي بمعنى أكبر، والمثبت واحد الكبائر، أي ليس ذلك
بأكبر الكبائر كالقتل مثلا، وإن كان كبيرا في الجملة. وقيل: المعنى ليس بكبير في
الصورة لأن تعاطي ذلك يدل على الدناءة والحقارة، وهو كبير الذنب. وقيل ليس بكبير
في اعتقادهما أو في اعتقاد المخاطبين وهو عند الله كبير كقوله تعالى
:{وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ}، وقيل ليس بكبير في
مشقة الاحتراز، أي كان لا يشق عليهما الاحتراز من ذلك. وهذا الأخير جزم به البغوي
وغيره ورجحه ابن دقيق العيد وجماعة، وقيل ليس بكبير بمجرده وإنما صار كبيرا
بالمواظبة عليه، ويرشد إلى ذلك السياق فإنه وصف كلا منهما بما يدل على تجدد ذلك
منه واستمراره عليه للإتيان بصيغة المضارعة بعد حرف كان. والله أعلم. قوله:
"لا يستتر" كذا في أكثر الروايات بمثناتين من فوق الأولى مفتوحة
والثانية مكسورة. وفي رواية ابن عساكر: "يستبرئ " بموحدة ساكنة من
الاستبراء. ولمسلم وأبي داود في حديث الأعمش " يستنزه " بنون ساكتة
بعدها زاي ثم هاء، فعلى رواية الأكثر معنى الاستتار أنه لا يجعل بينه وبين بوله
سترة يعني لا يتحفظ منه، فتوافق رواية لا يستنزه لأنها من التنزه وهو الإبعاد، وقد
وقع عند أبي نعيم في المستخرج من طريق وكيع عن الأعمش " كان لا يتوقى "
وهي مفسرة للمراد. وأجراه بعضهم على ظاهره فقال: معناه لا يستر عورته. وضعف بأن
التعذيب لو وقع على كشف العورة لاستقل الكشف بالسببية واطرح اعتبار البول فيترتب
العذاب على الكشف سواء وجد البول أم لا، ولا يخفى ما فيه. وسيأتي كلام ابن دقيق
العيد قريبا. وأما رواية الاستبراء فهي أبلغ في التوقي. وتعقب الإسماعيلي رواية
الاستتار بما يحصل جوابه مما ذكرنا قال ابن دقيق العيد: لو حمل الاستتار على
حقيقته للزم أن مجرد كشف العورة كان سبب العذاب المذكور، وسياق الحديث يدل على أن
للبول بالنسبة إلى عذاب القبر خصوصية، يشير إلى ما صححه ابن خزيمة من حديث أبي
هريرة مرفوعا: "أكثر عذاب القبر من البول " أي بسبب ترك التحرز منه.
قال: ويؤيده أن لفظ: "من " في هذا الحديث لما أضيف إلى البول اقتضى نسبة
الاستتار الذي عدمه سبب العذاب إلى البول، بمعنى أن ابتداء سبب العذاب من البول،
فلو حمل على مجرد كشف العورة زال هذا المعنى، فتعين الحمل على المجاز لتجتمع ألفاظ
الحديث على معنى واحد لأن مخرجه واحد. ويؤيده أن في حديث أبي بكرة عند أحمد وابن
ماجه: "أما أحدهما فيعذب في البول " ومثله للطبراني عن أنس. قوله:
"من بوله" يأتي الكلام عليه في الترجمة التي بعد هذه. قوله:
ـــــــ
(1) لعله الخبر بالحكم
(1/318)
"يمشي بالنميمة" قال ابن دقيق العيد: "هي نقل كلام الناس. والمراد منه هنا ما كان بقصد الإضرار، فأما ما اقتضى فعل مصلحة أو ترك مفسدة فهو مطلوب". انتهى. وهو تفسير للنميمة بالمعنى الأعم، وكلام غيره يخالفه كما سنذكر ذلك مبسوطا في موضعه من كتاب الأدب. قال النووي: وهي نقل كلام الغير بقصد الإضرار، وهي من أقبح القبائح. وتعقبه الكرماني فقال: هذا لا يصح على قاعدة الفقهاء، فإنهم يقولون: الكبيرة هي الموجبة للحد ولا حد على المشي بالنميمة. إلا أن يقال: الاستمرار هو المستفاد منه جعله كبيرة، لأن الإصرار على الصغيرة حكمه حكم الكبيرة. أو أن المراد بالكبيرة معنى غير المعنى الاصطلاحي. انتهى. وما نقله عن الفقهاء ليس هو قول جميعهم، لكن كلام الرافعي يشعر بترجيحه حيث حكى في تعريف الكبيرة وجهين: أحدهما هذا، والثاني ما فيه وعيد شديد. قال: وهم إلى الأول أميل. والثاني أوفق لما ذكروه عند تفصيل الكبائر. انتهى. ولا بد من حمل القول الأول على أن المراد به غير ما نص عليه في الأحاديث الصحيحة؛ وإلا لزم أن لا يعد عقوق الوالدين وشهادة الزور من الكبائر، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم عدهما من أكبر الكبائر. وسيأتي الكلام على هذه المسألة مستوفى في أول كتاب الحدود إن شاء الله تعالى. وعرف بهذا الجواب عن اعتراض الكرماني بأن النميمة قد نص في الصحيح على أنها كبيرة كما تقدم.قوله: "ثم دعا بجريدة"، وللأعمش " فدعا بعسيب رطب " والعسيب بمهملتين بوزن فعيل هي الجريدة التي لم ينبت فها خوص، فإن نبت فهي السعفة. وقيل إنه خص الجريد بذلك لأنه بطيء الجفاف. وروى النسائي من حديث أبي رافع بسند ضعيف أن الذي أتاه بالجريدة بلال، ولفظه: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة إذ سمع شيئا في قبر فقال لبلال: "ائتني بجريدة خضراء " الحديث. قوله: "فكسرها" أي فأتى بها فكسرها، وفي حديث أبي بكرة عند أحمد والطبراني أنه الذي أتى بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأما ما رواه مسلم في حديث جابر الطويل المذكور في أواخر الكتاب أنه الذي قطع الغصنين، فهو في قصة أخرى غير هذه، فالمغايرة بينهما من أوجه: منها أن هذه كانت في المدينة وكان معه صلى الله عليه وسلم جماعة، وقصة جابر كانت في السفر وكان خرج لحاجته فتبعه جابر وحده. ومنها أن في هذه القصة أنه صلى الله عليه وسلم غرس الجريدة بعد أن شقها نصفين كما في الباب الذي بعد هذا من رواية الأعمش، وفي حديث جابر أنه صلى الله عليه وسلم أمر جابرا بقطع غصنين من شجرتين كان النبي صلى الله عليه وسلم استتر بهما عند قضاء حاجته، ثم أمر جابرا فألقى الغصنين عن يمينه وعن يساره حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم جالسا، وأن جابرا سأله عن ذلك فقال: "إني مررت بقبرين يعذبان فأحببت بشفاعتي أن يرفع عنهما ما دام الغصنان رطبين " ولم يذكر في قصة جابر أيضا السبب الذي كانا يعذبان به، ولا الترجي الآتي في قوله: "لعله"، فبان تغاير حديث ابن عباس وحديث جابر وأنهما كانا في قصتين مختلفتين، ولا يبعد تعدد ذلك. وقد روى ابن حبان في صحيحه من حديث أبي هريرة " أنه صلى الله عليه وسلم مر بقبر فوقف عليه فقال: ائتوني بجريدتين، فجعل إحداهما عند رأسه والأخرى عند رجليه " فيحتمل أن تكون هذه قصة ثالثة، ويؤيده أن في حديث أبي رافع كما تقدم " فسمع شيئا في قبر " وفيه: "فكسرها باثنين ترك نصفها عند رأسه ونصفها عند رجليه " وفي قصة الواحد حمل نصفها عند رأسه ونصفها عند رجليه، وفي قصة الاثنين " جعل على كل قبر جريدة". أنها "كسرتين" بكسر الكاف، والكسرة القطعة من الشيء المكسور، وقد تبين من رواية الأعمش أنها كانت نصفا. وفي رواية جرير عنه " باثنتين " قال النووي: الباء زائدة للتوكيد والنصب على الحال. قوله: "فوضع" وفي رواية الأعمش الآتية " فغرز " وهي أخص من الأولى. قوله: "فوضع على كل قبر منهما كسرة"
(1/319)
وقع في مسند عبد بن
حميد من طريق عبد الواحد بن زياد عن الأعمش، ثم غرز عند رأس كل واحد منهما قطعة.
قوله: "فقيل له" للأعمش " قالوا " أي الصحابة، ولم نقف على
تعيين السائل منهم. قوله: "لعله" قال ابن مالك: يجوز أن تكون الهاء ضمير
الشأن، وجاز تفسيره بأن وصلتها لأنها في حكم جملة لاشتمالها على مسند ومسند إليه.
قال: ويحتمل أن تكون " أن " زائدة مع كونها ناصبة كزيادة الباء مع كونها
جارة. انتهى. وقد ثبت في الرواية الآتية بحذف " أن " فقوى الاحتمال
الثاني. وقال الكرماني: "شبه لعل بعسى فأتى بأن في خبره". قوله:
"يخفف" بالضم وفتح الفاء، أي العذاب عن المقبورين. قوله: "ما لم
تيبسا" كذا في أكثر الروايات بالمثناة الفوقانية أي الكسرتان، وللكشميهني:
"إلا أن تيبسا " بحرف الاستثناء، وللمستملي: "إلى أن ييبسا "
بإلى التي للغاية والياء التحتانية أي العودان، قال المازري: يحتمل أن يكون أوحى
إليه أن العذاب يخفف عنهما هذه المدة. انتهى. وعلى هذا فلعل هنا للتعليل، قال: ولا
يظهر له وجه غير هذا. وتعقبه القرطبي بأنه لو حصل الوحي لما أتى بحرف الترجي، كذا
قال. ولا يرد عليه ذلك إذا حملناها على التعليل، قال القرطبي: وقيل إنه شفع لهما
هذه المدة كما صرح به في حديث جابر، لأن الظاهر أن القصة واحدة. وكذا رجح النووي
كون القصة واحدة، وفيه نظر لما أوضحنا من المغايرة بينهما. وقال الخطابي: هو محمول
على أنه دعا لهما بالتخفيف مدة بقاء النداوة، لا أن في الجريدة معنى يخصه، ولا أن
في الرطب معنى ليس في اليابس. قال: وقد قيل: إن المعنى فيه أنه يسبح ما دام رطبا
فيحصل التخفيف ببركة التسبيح، وعلى هذا فيطرد في كل ما فيه رطوبة من الأشجار
وغيرها. وكذلك فيما فيه بركة الذكر وتلاوة القرآن من باب الأولى. وقال الطيبي:
الحكمة في كونهما ما دامتا لرطبتين تمنعان العذاب يحتمل أن تكون غير معلومة لنا
كعدد الزبانية. وقد استنكر الخطابي ومن تبعه وضع الناس الجريد ونحوه في القبر عملا
بهذا الحديث. قال الطرطوشي: لأن ذلك خاص ببركة يده. وقال القاضي عياض: لأنه علل
غرزهما على القبر بأمر مغيب وهو قوله: "ليعذبان". قلت: لا يلزم من كوننا
لا نعلم أيعذب أم لا أن لا نتسبب له في أمر يخفف عنه العذاب أن لو عذب، كما لا
يمنع كوننا لا ندري أرحم أم لا أن لا ندعو له بالرحمة. وليس في السياق ما يقطع على
أنه باشر الوضع بيده الكريمة، بل يحتمل أن يكون أمر به. وقد تأسى بريدة بن الحصيب
الصحابي بذلك فأوصى أن يوضع على قبره جريدتان كما سيأتي في الجنائز من هذا الكتاب،
وهو أولى أن يتبع من غيره(1). "تنبيه": لم يعرف اسم المقبورين ولا
أحدهما، والظاهر أن ذلك كان على عمد من الرواة لقصد الستر عليهما، وهو عمل مستحسن.
وينبغي أن لا يبالغ في الفحص عن تسمية من وقع في حقه ما يذم به. وما حكاه القرطبي
في التذكرة وضعفه عن بعضهم أن أحدهما سعد بن معاذ فهو قول باطل لا ينبغي ذكره إلا
مقرونا ببيانه. ومما يدل على بطلان الحكاية المذكورة أن النبي صلى الله عليه وسلم
حضر دفن سعد بن معاذ كما ثبت في الحديث الصحيح، وأما قصة المقبورين ففي حديث أبي
أمامة عند أحمد أنه صلى الله عليه وسلم قال لهم " من دفنتم اليوم هاهنا؟
" فدل على أنه لم يحضرهما، وإنما ذكرت هذا ذبا عن هذا السيد الذي سماه النبي
صلى الله عليه وسلم: "سيدا " وقال لأصحابه " قوموا إلى سيدكم
" وقال: "إن حكمه قد وافق
ـــــــ
(1) الصواب في هذه المسألة ما قاله الخطابي من استنكار الجريد ونحوه على
القبور,لأن الرسول صلى اله عليه وسلم لم يفعله إلا في قبور مخصوصة اطلع على تعذيب
أهلها, ولو كان مشروعا لفعله في كل القبور. وكبار الصحابة – كالخلفاء- لم يفعلوه,وهم
أعلم بالسنة من بريدة. رضي الله عن الجميع. فتنبه
(1/320)
حكم الله " وقال: "إن عرش الرحمن اهتز لموته " إلى غير ذلك من مناقبه الجليلة، خشية أن يغتر ناقص العلم بما ذكره القرطبي فيعتقد صحة ذلك وهو باطل. وقد اختلف في المقبورين فقيل كانا كافرين، وبه جزم أبو موسى المديني، واحتج بما رواه من حديث جابر بسند فيه ابن لهيعة " أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على قبرين من بني النجار هلكا في الجاهلية، فسمعهما يعذبان في البول والنميمة " قال أبو موسى: هذا وإن كان ليس بقوي لكن معناه صحيح، لأنهما لو كانا مسلمين لما كان لشفاعته إلى أن تيبس الجريدتان معنى، ولكنه لما رآهما يعذبان لم يستجز للطفه وعطفه حرمانهما من إحسانه فشفع لهما إلى المدة المذكورة، وجزم ابن العطار في شرح العمدة بأنهما كانا مسلمين وقال: لا يجوز أن يقال إنهما كانا كافرين لأنهما لو كانا كافرين لم يدع لهما بتخفيف العذاب ولا ترجاه لهما، ولو كان ذلك من خصائصه لبينه، يعني كما في قصة أبي طالب. قلت: وما قاله أخبرا هو الجواب، وما طالب به من البيان قد حصل، ولا يلزم التنصيص على لفظ الخصوصية، لكن الحديث الذي احتج به أبو موسى ضعيف كما اعترف به، وقد رواه أحمد بإسناد صحيح على شرط مسلم وليس فيه سبب التعذيب، فهو من تخليط ابن لهيعة، وهو مطابق لحديث جابر الطويل الذي قدمنا أن مسلما أخرجه، واحتمال كونهما كافرين فيه ظاهر. وأما حديث الباب فالظاهر من مجموع طرقه أنهما كانا مسلمين، ففي رواية ابن ماجه: "مر بقبرين جديدين " فانتفى كونهما في الجاهلية، وفي حديث أبي أمامة عند أحمد " أنه صلى الله عليه وسلم مر بالبقيع فقال: من دفنتم اليوم هاهنا؟ " فهذا يدل على أنهما كانا مسلمين، لأن البقيع مقبرة المسلمين، والخطاب للمسلمين مع جريان العادة بأن كل فريق يتولاه من هو منهم، ويقوى كونهما كانا مسلمين رواية أبي بكرة عند أحمد والطبراني بإسناد صحيح " يعذبان، وما يعذبان في كبير " و " بلى وما يعذبان إلا في الغيبة والبول " فهذا الحصر ينفي كونهما كانا كافرين، لأن الكافر وإن عذب على ترك أحكام الإسلام فإنه يعذب مع ذلك على الكفر بلا خلاف. وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدم إثبات عذاب القبر، وسيأتي الكلام عليه في الجنائز إن شاء الله تعالى. وفيه التحذير من ملابسة البول، ويلتحق به غيره من النجاسات في البدن والثوب، ويستدل به على وجوب إزالة النجاسة، خلافا لمن خص الوجوب بوقت إرادة الصلاة، والله أعلم.
(1/321)
باب من جاء في غسل
البول
...
56 - باب مَا جَاءَ فِي غَسْلِ الْبَوْلِ
وَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لِصَاحِب الْقَبْرِ "كَانَ لاَ
يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ" وَلَمْ يَذْكُرْ سِوَى بَوْلِ النَّاسِ
217- حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ
إِبْرَاهِيمَ قَالَ حَدَّثَنِي رَوْحُ بْنُ الْقَاسِمِ قَالَ حَدَّثَنِي عَطَاءُ
بْنُ أَبِي مَيْمُونَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا تَبَرَّزَ لِحَاجَتِهِ أَتَيْتُهُ
بِمَاءٍ فَيَغْسِلُ بِهِ".
قوله: "باب ما جاء في غسل البول. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لصاحب
القبر" أي عن صاحب القبر. وقاله الكرماني: اللام بمعنى لأجل. قوله: "كان
لا يستتر من بوله" أشير إلى لفظ الحديث الذي قبله. قوله: "ولم يذكر سوى
بول الناس" قال ابن بطال: أراد البخاري أن المراد بقوله في رواية الباب:
"كان لا يستتر من البول " بول الناس لا بول سائر الحيوان، فلا يكون فيه
حجة لمن حمله على العموم في بول جميع الحيوان، وكأنه أراد الرد على الخطابي حيث
قال: فيه دليل على نجاسة الأبوال كلها. ومحصل الرد أن العموم في رواية: "من
البول " أريد به الخصوص
(1/321)
لقوله: "من
بوله " والألف واللام بدل من الضمير، لكن يلتحق ببوله بول من هو في معناه من
الناس لعدم الفارق، قال: وكذا غير المأكول، وأما المأكول فلا حجة في هذا الحديث
لمن قال بنجاسة بوله، ولمن قال بطهارته حجج أخرى. وقال القرطبي: قوله: "من البول
" اسم مفرد لا يقتضي العموم، ولو سلم فهو مخصوص بالأدلة المقتضية لطهارة بول
ما يؤكل. قوله: "حدثنا يعقوب بن إبراهيم" هو الدورقي قال: "أخبرنا
" وللأكثر " حدثنا إسماعيل بن إبراهيم " وهو المعروف بابن علية،
وليس هو أخا يعقوب. وروح بن القاسم بفتح الراء على المشهور، ونقل ابن التين
والقابسي أنه قرئ بضمها وهو معاذ مردود، وقد تقدمت مباحث المتن في باب الاستنجاء
بالماء، والاستدلال به هنا على غسل البول أعم من الاستدلال به على الاستنجاء فلا
تكرار فيه. قوله: "فيغتسل به" كذا لأبي ذر - بوزن يفتعل - ولغيره بفتح
التحتانية وسكون الغين وكسر السين، وحذف مفعوله للعلم به، أو للحياء من ذكره.
218- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
خَازِمٍ قَالَ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ
عَبَّاسٍ قَالَ "مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِقَبْرَيْنِ فَقَالَ "إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي
كَبِيرٍ أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لاَ يَسْتَتِرُ مِنْ الْبَوْلِ وَأَمَّا
الْآخَرُ فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ" ثُمَّ أَخَذَ جَرِيدَةً رَطْبَةً فَشَقَّهَا
نِصْفَيْنِ فَغَرَزَ فِي كُلِّ قَبْرٍ وَاحِدَةً قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَ
فَعَلْتَ هَذَا قَالَ "لَعَلَّهُ يُخَفِّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ
يَيْبَسَا".
َقَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى: وَحَدَّثَنَا وَكِيعٌ قَالَ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ
قَالَ سَمِعْتُ مُجَاهِدًا مِثْلَهُ
قوله "باب" كذا ثبت لأبي ذر,وقد قررنا أنه في موضع الفصل من الباب,
والاستدلال به على غسل البول واضح,لكن ثبتت الرخصة في حق المستجمر فيستدل به على
وجوب غسل ما انتشر على المحل قوله: "محمد بن خازم" بالخاء المعجمة
والزاي هو أبو معاوية الضرير. قوله: "فغرز" وفي رواية وكيع في الأدب
" فغرس " وهما بمعنى، وأفاد سعد الدين الحارثي أن ذلك كان عند رأس
القبر. وقال: إنه ثبت بإسناد صحيح، وكأنه يشير إلى حديث أبي هريرة عند ابن حبان
وقد قدمنا لفظه، ثم وجدته في مسند عبد بن حميد من طريق عبد الواحد بن زياد عن
الأعمش في حديث ابن عباس صريحا. قوله: "لم فعلت" سقط لفظ: "هذا
" من رواية المستملي والسرخسي. قوله: "قال ابن المثنى: وحدثنا
وكيع" هو معطوف على الأول، وثبتت أداة العطف فيه للأصيلي ولهذا ظن بعضهم أنه
معلق، وقد وصله أبو نعيم في المستخرج من طريق محمد بن المثنى هذا عن وكيع وأبي معاوية
جميعا عن الأعمش، والحكمة في إفراد البخاري له أن في رواية وكيع التصريح بسماع
الأعمش دون الآخر. وباقي مباحث المتن تقدمت في الباب الذي قبله.
(1/322)
باب ترك النبي صلى
الله عليه وسلم الأعرابي حتى فرغ من بوله في المسجد
...
57 - باب تَرْكِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّاسِ
الأَعْرَابِيَّ حَتَّى فَرَغَ مِنْ بَوْلِهِ فِي الْمَسْجِدِ
219- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ أَخْبَرَنَا
إِسْحَاقُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى أَعْرَابِيًّا يَبُولُ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ
"دَعُوهُ" حَتَّى إِذَا فَرَغَ دَعَا بِمَاءٍ فَصَبَّهُ عَلَيْهِ".
[الحديث 219- طرفاه في:6025,221]
(1/322)
قوله: "باب ترك النبي صلى الله عليه وسلم والناس الأعرابي" اللام فيه للعهد الذهبي، وقد تقدم أن الأعرابي واحد الأعراب وهم من سكن البادية عربا كانوا أو عجما، وإنما تركوه يبول في المسجد لأنه كان شرع في المفسدة فلو منع لزادت إذ حصل تلويث جزء من المسجد، فلو منع لدار بين أمرين: إما أن يقطعه فيتضرر، وإما أن لا يقطعه فلا يأمن من تنجيس بدنه أو ثوبه أو مواضع أخرى من المسجد. قوله: "همام" هو ابن يحيى، وإسحاق هو ابن عبد الله بن أبي طلحة. قوله: "عن أنس" ولمسلم: "حدثني أنس".قوله: "رأى أعرابيا" حكى أبو بكر التاريخي عن عبد الله بن نافع المزني(1) أنه الأقرع بن حابس التميمي، وقيل غيره كما سيأتي قريبا. قوله: "في المسجد" أي مسجد النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: "فقال "دعوه" كان هذا الأمر بالترك عقب زجر الناس له كما سيأتي. قوله: "حتى" أي فتركوه حتى فرغ من بوله، فلما فرغ دعا النبي صلى الله عليه وسلم بماء أي في دلو كبير "فصبه" أي فأمر بصبه كما سيأتي ذلك كله صريحا. وقد أخرج مسلم هذا الحديث من طريق عكرمة ابن عمار عن إسحاق فساقه مطولا بنحو مما شرحناه، وزاد فيه: ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه فقال له "إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنما هي لذكر الله تعالى والصلاة وقراءة القرآن " وسنذكر فوائده في الباب الآتي بعده إن شاء الله تعالى.
(1/323)
58- باب صب الماء
على البول في المسجد
220- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ
قَالَ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ
مَسْعُودٍ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ قَامَ أَعْرَابِيٌّ فَبَالَ فِي
الْمَسْجِدِ فَتَنَاوَلَهُ النَّاسُ فَقَالَ لَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "دَعُوهُ وَهَرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ سَجْلًا مِنْ مَاءٍ
أَوْ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ فَإِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا
مُعَسِّرِينَ"
[الحديث 220- طرفه في:6128]
قوله: "باب صب الماء أخبرني عبيد الله" كذا رواه أكثر الرواة عن الزهري،
ورواه سفيان ابن عيينة عنه " عن سعيد بن المسيب " بدل عبيد الله، وتابعه
سفيان بن حسين، فالظاهر أن الروايتين صحيحتان. قوله: "قام أعرابي" زاد
ابن عيينة عند الترمذي وغيره في أوله " أنه صلى ثم قال: اللهم ارحمني ومحمدا،
ولا ترحم معنا أحدا. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لقد تحجرت واسعا. فلم يلبث
أن بال في المسجد " وهذه الزيادة ستأتي عند المصنف مفردة في الأدب من طريق
الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة. وقد روى ابن ماجه وابن حبان الحديث تاما من طريق
محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة وكذا رواه ابن ماجه أيضا من حديث واثلة بن
الأسقع، وأخرجه أبو موسى المديني في الصحابة من طريق محمد بن عمرو بن عطاء عن
سليمان بن يسار قال: "اطلع ذو الخويصرة اليماني وكان رجلا جافيا " فذكره
تاما بمعناه وزيادة، وهو مرسل، وفي إسناده أيضا مبهم بين محمد بن إسحاق وبين محمد
بن عمرو بن عطاء، وهو عنده من طريق الأصم عن أبي زرعة الدمشقي أحمد بن خالد الذهبي
عنه، وهو في جمع مسند ابن إسحاق لأبي زرعة الدمشقي من طريق الشاميين عنه بهذا
السند، لكن قال في أوله " اطلع ذو الخويصرة التميمي وكان جافيا "
والتميمي هو حرقوص بن زهير الذي صار بعد ذلك من رءوس الخوارج، وقد فرق بعضهم
ـــــــ
(1) في مخطوطة الرياض: المدني
(1/323)
بينه وبين اليماني،
لكن له أصل أصيل، واستفيد منه تسمية الأعرابي، وقد تقدم قول التاريخي إنه الأقرع،
ونقل عن أبي الحسين بن فارس أنه عيينة بن حصن، والعلم عند الله تعالى. قوله:
"فتناوله الناس" أي بألسنتهم، وللمصنف في الأدب " فثار إليه الناس
" وله في رواية عن أنس " فقاموا إليه " وللإسماعيلي: "فأراد
أصحابه أن يمنعوه". وفي رواية أنس في هذا الباب: "فزجره الناس "
وأخرجه البيهقي من طريق عبدان شيخ المصنف فيه بلفظ: "فصاح الناس به "
وكذا للنسائي من طريق ابن المبارك. فظهر أن تناوله كان بالألسنة لا بالأيدي.
ولمسلم من طريق إسحاق عن أنس " فقال الصحابة مه مه". قوله:
"وهريقوا"، وللمصنف في الأدب " وأهريقوا " وقد تقدم توجيهها
في باب الغسل في المخضب. قوله: "سجلا" بفتح المهملة وسكون الجيم، قال
أبو حاتم السجستاني: هو الدلو ملأي، ولا يقال لها ذلك وهي فارغة. وقال ابن دريد:
السجل دلو واسعة. وفي الصحاح: الدلو الضخمة. قوله: "أو ذنوبا" قال
الخليل: الدلو ملأي ماء. وقال ابن فارس: الدلو العظيمة. وقال ابن السكيت فيها ماء
قريب من الملء، ولا يقال لها وهي فارغة ذنوب. انتهى. فعلى الترادف " أو
" للشك من الراوي، وإلا فهي للتخيير، والأول أظهر فإن رواية أنس لم تختلف في
أنها ذنوب. وقال في الحديث: "من ماء " مع أن الذنوب من شأنها ذلك، لكنه
لفظ مشترك بينه وبين الفرس الطويل وغيرهما. قوله: "فإنما بعثتم" إسناد
البعث إليهم على طريق المجاز لأنه هو المبعوث صلى الله عليه وسلم بما ذكر، لكنهم
لما كانوا في مقام التبليغ عنه في حضوره وغيبته أطلق عليهم ذلك، إذ هم مبعوثون من
قبله بذلك، أي مأمورون. وكان ذلك شأنه صلى الله عليه وسلم في حق كل من بعثه إلى
جهة من الجهات يقول: "يسروا ولا تعسروا".
221- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ أَخْبَرَنَا
يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بَابُ يُهَرِيقُ الْمَاءَ عَلَى الْبَوْلِ
حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ قَالَ وَحَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ عَنْ يَحْيَى
بْنِ سَعِيدٍ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ: "جَاءَ أَعْرَابِيٌّ
فَبَالَ فِي طَائِفَةِ الْمَسْجِدِ فَزَجَرَهُ النَّاسُ فَنَهَاهُمْ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا قَضَى بَوْلَهُ أَمَرَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَنُوبٍ مِنْ مَاءٍ فَأُهْرِيقَ
عَلَيْهِ".
قوله: "أخبرنا عبد الله" هو ابن المبارك، ويحيى بن سعيد هو الأنصاري.
قوله: "وحدثنا خالد" سقطت الواو من رواية كريمة، والعطف فيه على قوله:
"حدثنا عبدان " وسليمان هو ابن بلال، وبان لي المتن على لفظ روايته، لأن
لفظ عبدان فيه مخالفة لسياقة كما أشرنا إليه أنه عند البيهقي. قوله: "في طائفة
المسجد" أي ناحيته، والطائفة القطعة من الشيء. قوله: "فنهاهم" في
رواية عبدان " فقال اتركوه فتركوه". قوله: "فهريق عليه" كذا
لأبي ذر وللباقين " فأهريق عليه"، ويجوز إسكان الهاء وفتحها كما تقدم،
وضبطه ابن الأثير في النهاية بفتح الهاء أيضا. وف هذا الحديث من الفوائد: أن
الاحتراز من النجاسة كان مقررا في نفوس الصحابة، ولهذا بادروا إلى الإنكار بحضرته
صلى الله عليه وسلم قبل استئذانه، ولما تقرر عندهم أيضا من طلب الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر. واستدل به على جواز التمسك بالعموم إلى أن يظهر الخصوص، قال ابن
دقيق العيد: والذي يظهر أن التمسك يتحتم عند احتمال التخصيص عند المجتهد، ولا يجب
التوقف عن العمل بالعموم لذلك، لأن علماء الأمصار ما برحوا يفتون بما بلغهم من غير
توقف على البحث عن التخصيص، ولهذه القصة أيضا إذ لم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم
على الصحابة ولم يقل
(1/324)
لهم لم نهيتم الأعرابي؟ بل أمرهم بالكف عنه للمصلحة الراجحة، وهو دفع أعظم المفسدين باحتمال أيسرهما. وتحصيل أعظم المصلحتين بترك أيسرهما. وفيه المبادرة إلى إزالة المفاسد عند زوال المانع لأمرهم عند فراغه بصب الماء. وفيه تعيين الماء لإزالة النجاسة، لأن الجفاف بالريح أو الشمس لو كان يكفي لما حصل التكليف بطلب الدلو. وفيه أن غسالة النجاسة الواقعة على الأرض طاهرة، ويلتحق به غير الواقعة، لأن البلة الباقية على الأرض غسالة نجاسة فإذا لم يثبت أن التراب نقل وعلمنا أن المقصود التطهير تعين الحكم بطهارة البلة، وإذا كانت طاهرة فالمنفصلة أيضا مثلها لعدم الفارق، ويستدل به أيضا على عدم اشتراط نضوب الماء لأنه لو اشترط لتوقفت طهارة الأرض على الجفاف. وكذا لا يشترط عصر الثوب إذ لا فارق. قال الموفق في المغني بعد أن حكى الخلاف: الأولى الحكم بالطهارة مطلقا، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشترط في الصب على بول الأعرابي شيئا. وفيه الرفق بالجاهل وتعليمه ما يلزمه من غير تعنيف إذا لم يكن ذلك منه عنادا، ولا سيما إن كان ممن يحتاج إلى استئلافه. وفيه رأفة النبي صلى الله عليه وسلم وحسن خلقه، قال ابن ماجه وابن حبان في حديث أبي هريرة " فقال الأعرابي - بعد أن فقه في الإسلام فقام إلى النبي صلى الله عليه وسلم -: بأبي أنت وأمي، فلم يؤنب ولم يسب". وفيه تعظيم المسجد وتنزيهه عن الأقذار، وظاهر الحصر من سياق مسلم في حديث أنس أنه لا يجوز في المسجد شيء غير ما ذكر من الصلاة والقرآن والذكر، لكن الإجماع على أن مفهوم الحصر منه غير معمول به، ولا ريب أن فعل غير المذكورات وما في معناها خلاف الأولى والله أعلم. وفيه أن الأرض تطهر بصب الماء عليها ولا يشترط حفرها، خلافا للحنفية حيث قالوا: لا تطهر إلا بحفرها، كذا أطلق النووي وغيره، والمذكور في كتب الحنفية التفصيل بين إذا كانت رخوة بحيث يتخللها الماء حتى يغمرها فهذه لا تحتاج إلى حفر، وبين ما إذا كانت صلبة فلا بد من حفرها وإلقاء التراب لأن الماء لم يغمر أعلاها وأسفلها، واحتجوا فيه بحديث جاء من ثلاث طرق: أحدها موصول عن ابن مسعود أخرجه الطحاوي لكن إسناده ضعيف قاله أحمد وغيره، والآخران مرسلان أخرج أحدهما أبو داود من طريق عبد الله بن معقل ابن مقرن والآخر من طريق سعيد بن منصور من طريق طاوس ورواتهما ثقات، وهو يلزم من يحتج بالمرسل مطلقا، وكذا من يحتج به إذا اعتضد مطلقا، والشافعي إنما يعتضد عنده إذا كان من رواية كبار التابعين وكان من أرسل إذا سمي لا يسمى إلا ثقة، وذلك مفقود في المرسلين المذكورين على ما هو ظاهر من سنديهما والله أعلم. وسيأتي باقي فوائده في كتاب الأدب إن شاء الله تعالى.
(1/325)
59 - باب بَوْلِ
الصِّبْيَانِ
222- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ
هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا
قَالَتْ "أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِصَبِيٍّ فَبَالَ عَلَى ثَوْبِهِ فَدَعَا بِمَاءٍ فَأَتْبَعَهُ إِيَّاهُ"
[الحديث222- أطرافه في:6355,6002]
قوله: "باب بول الصبيان" بكسر الصاد ويجوز ضمها جمح صبي، أي ما حكمه وهل
يلتحق به بول الصبايا - جمع صبية - أم لا، وفي الفرق أحاديث ليست على شرط المصنف:
منها حديث علي مرفوعا في بول الرضيع، ينضح بول الغلام ويغسل بول الجارية، أخرجه
أحمد وأصحاب السنن إلا النسائي من طريق هشام عن قتادة عن أبي حرب بن
(1/325)
أبي الأسود عن أبيه
عنه، قال قتادة: "هذا ما لم يطعما الطعام، وإسناده صحيح". ورواه سعيد عن
قتادة فوقفه، وليس ذلك بعلة قادحة. ومنها حديث لبابة بنت الحارث مرفوعا:
"إنما يغسل من بول الأنثى وينضح من بول الذكر " أخرجه أحمد وابن ماجه وصححه
ابن خزيمة وغيره. ومنها حديث أبي السمح نحوه بلفظ: "يرش " رواه أبو داود
والنسائي وصححه ابن خزيمة أيضا. قوله: "بصبي" يظهر لي أن المراد به ابن
أم قيس المذكور بعده، ويحتمل أن يكون الحسن بن علي أو الحسين، فقد روى الطبراني في
الأوسط من حديث أم سلمة بإسناد حسن قالت: "بال الحسن - أو الحسين - على بطن
رسول الله صلى الله عليه وسلم فتركه حتى قضى بوله ثم دعا بماء فصبه عليه".
ولأحمد عن أبي ليلى نحوه. ورواه الطحاوي من طريقه قال: "فجيء بالحسن "
ولم يتردد، وكذا للطبراني عن أبي أمامة. وإنما رجحت أنه غيره لأن عند المصنف في
العقيقة من طريق يحيى القطان عن هشام بن عروة " أتى النبي صلى الله عليه وسلم
بصبي يحنكه"، وفي قصته أنه بال على ثوبه، وأما قصة الحسن ففي حديث أبي ليلى
وأم سلمة أنه بال على بطنه صلى الله عليه وسلم، وفي حديث زينب بنت جحش عند
الطبراني " أنه جاء وهو يحبو والنبي صلى الله عليه وسلم نائم فصعد على بطنه
ووضع ذكره في سرته فبال " فذكر الحديث بتمامه، فظهرت التفرقة بينهما. قوله:
"فأتبعه" بإسكان المثناة أي أتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم البول
الذي على الثوب الماء يصبه عليه، زاد مسلم من طريق عبد الله بن نمير عن هشام
" فأتبعه ولم يغسله". ولابن المنذر من طريق الثوري عن هشام " فصب
عليه الماء " وللطحاوي من طريق زائدة الثقفي عن هشام " فنصحه
عليه".
223- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ
ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ
أُمِّ قَيْسٍ بِنْتِ مِحْصَنٍ أَنَّهَا أَتَتْ بِابْنٍ لَهَا صَغِيرٍ لَمْ
يَأْكُلْ الطَّعَامَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَأَجْلَسَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجْرِهِ
فَبَالَ عَلَى ثَوْبِهِ فَدَعَا بِمَاءٍ فَنَضَحَهُ وَلَمْ يَغْسِلْهُ
[الحديث 223- طرفه في 5693]
قوله: "عن أم قيس" قال ابن عبد البر: اسمها جذامة يعني بالجيم والمعجمة.
وقال السهيلي اسمها آمنة وهي أخت عكاشة بن محصن الأسدي، وكانت من المهاجرات الأول،
كما عند مسلم من طريق يونس عن ابن شهاب في هذا الحديث، وليس لها في الصحيحين غيره
وغير حديث آخر في الطب، وفي كل منهما قصة لابنها، ومات ابنها في عهد النبي صلى
الله عليه وسلم وهو صغير كما رواه النسائي، ولم أقف على تسميته. قوله: "لم
يأكل الطعام" لمراد بالطعام ما عدا اللبن الذي يرتضعه والتمر الذي يحنك به
والعطل الذي يلعقه للمداواة وغيرها، فكان المراد أنه لم يحصل له الاغتذاء بغير
اللبن على الاستقلال، هذا مقتضى كلام النووي في شرح مسلم وشرح المهذب، وأطلق في
الروضة - تبعا لأصلها - أنه لم يطعم ولم يشرب غير اللبن. وقال في نكت التنبيه:
المراد أنه لم يأكل غير اللبن وغير ما يحنك به وما أشبهه. وحمل الموفق الحموي في
شرح التنبيه قوله: "لم يأكل " على ظاهره فقال: معناه لم يستقل بجعل
الطعام في فيه. والأول أظهر، وبه جزم الموفق بن قدامه وغيره. وقال ابن التين:
يحتمل أنها أرادت أنه لم يتقوت بالطعام ولم يستغن به عن الرضاع. ويحتمل أنها إنما
جاءت به عند ولادته ليحنكه صلى الله عليه وسلم فيحمل النفي على عمومه، ويؤيد ما
تقدم أنه للمصنف في العقيقة. قوله: "فأجلسه" أي وضعه إن قلنا إنه كان
لما ولد. ويحتمل أن يكون الجلوس حصل منه على العادة إن قلنا كان في سن من يحبو كما
في قصة الحسن. قوله: "على ثوبه" أي ثوب النبي صلى الله عليه وسلم،
(1/326)
وأغرب ابن شعبان من
المالكية فقال: المراد به ثوب الصبي، والصواب الأول. قوله: "فنضحه"،
ولمسلم من طريق الليث عن ابن شهاب " فلم يزد على أن نضح بالماء " وله من
طريق ابن عيينة عن ابن شهاب " فرشه " زاد أبو عوانة في صحيحه "
عليه". ولا تخالف بين الروايتين - أي بين نضح ورش - لأن المراد به أن
الابتداء كان بالرش وهو تنقيط الماء، وانتهى إلى النضح وهو صب الماء. ويؤيده رواية
مسلم في حديث عائشة من طريق جرير عن هشام " فدعا بماء فصبه عليه " ولأبي
عوانة " فصبه على البول يتبعه إياه". قوله: "ولم يغسله" ادعى
الأصيلي أن هذه الجملة من كلام ابن شهاب راوي الحديث وأن المرفوع انتهى عند قوله:
"فنضحه " قال: وكذلك روى معمر عن ابن شهاب، وكذا أخرجه ابن أبي شيبة
قال: "فرشه " لم يزد على ذلك انتهى. وليس في سياق معمر ما يدل على ما
ادعاه من الإدراج، وقد أخرجه عبد الرزاق عنه بنحو سياق مالك لكنه لم يقل "
ولم يغسله " وقد قالها مع مالك الليث وعمرو بن الحارث ويونس بن يزيد كلهم عن
ابن شهاب أخرجه ابن خزيمة والإسماعيلي وغيرهما من طريق ابن وهب عنهم، وهو لمسلم عن
يونس وحده. نعم زاد معمر في روايته قال: "قال ابن شهاب: فمضت السنة أن يرش
بول الصبي ويغسل بول الجارية " فلو كانت هذه الزيادة هي التي زادها مالك ومن
تبعه لأمكن دعوى الإدراج، لكنها غيرها فلا إدراج. وأما ما ذكره عن ابن أبي شيبة
فلا اختصاص له بذلك، فإن ذلك لفظ رواية ابن عيينة عن ابن شهاب، وقد ذكرناها عن
مسلم وغيره وبينا أنها غير مخالفة لرواية مالك والله أعلم. وفي هذا الحديث من
الفوائد: الندب إلى حسن المعاشرة والتواضع، والرفق بالصغار، وتحنيك المولود،
والتبرك بأهل الفضل، وحمل الأطفال إليهم حال الولادة وبعدها، وحكم بول الغلام
والجارية قبل أن يطعما وهو مقصود الباب، واختلف العلماء في ذلك على ثلاثة مذاهب هي
أوجه للشافعية: أصحها الاكتفاء بالنضح في بول الصبي لا الجارية، وهو قول علي وعطاء
والحسن والزهري وأحمد وإسحاق وابن وهب وغيرهم ورواه الوليد بن مسلم عن مالك. وقال
أصحابه هي رواية شاذة. والثاني يكفي النضح فيهما، وهو مذهب الأوزاعي وحكى عن مالك
والشافعي، وخصص ابن العربي النقل في هذا بما إذا كانا لم يدخل أجوافهما شيء أصلا.
والثالث هما سواء في وجوب الغسل وبه قال الحنفية والمالكية، قال ابن دقيق العيد:
اتبعوا في ذلك القياس وقالوا المراد بقولها " ولم يغسله " أي غسلا
مبالغا فيه، وهو خلاف الظاهر، ويبعده ما ورد في الأحاديث الأخر - يعني التي
قدمناها - من التفرقة بين بول الصبي والصبية فإنهم لا يفرقون بينهما، قال: وقد ذكر
في التفرقة بينهما أوجه: منها ما هو ركيك، وأقوى ذلك ما قيل إن النفوس أعلق بالذكور
منها بالإناث، يعني فحصلت الرخصة في الذكور لكثرة المشقة. واستدل به بعض المالكية
على أن الغسل لا بد فيه من أمر زائد على مجرد إيصال الماء إلى المحل. قلت: وهو
مشكل عليهم، لأنهم يدعون أن المراد بالنضح هنا الغسل. "تنبيه": قال
الخطابي: ليس تجويز من جوز النضح من أجل أن بول الصبي غير نجس، ولكنه لتخفيف
نجاسته. انتهى. وأثبت الطحاوي الخلاف فقال: قال قوم بطهارة بول الصبي قبل الطعام،
وكذا جزم به ابن عبد البر وابن بطال ومن تبعهما عن الشافعي وأحمد وغيرهما، ولم
يعرف ذلك الشافعية ولا
ـــــــ
(1) هذا فيه نظر. والصواب أن ذلك خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم ولايقاس عليه غيره
لما جعل الله فيه من البركة وخصه به دون غيره؛ ولأن الصحابة رضي الله عنهم لم
يفعلو ذلك مع غيره صلى الله عليه وسلم وهم أعلم الناس بالشرع, فوجب التأسي بهم.
ولأن جواز مثل هذا لغيره صلى الله عليه وسلم قد يفضي الى الشرك,فتنبه
(1/327)
الحنابلة. وقال النووي: هذه حكاية باطلة انتهى. وكأنهم أخذوا ذلك من طريق اللازم، وأصحاب صاحب المذهب أعلم بمراده من غيرهم. والله أعلم.
(1/328)
60 - باب الْبَوْلِ
قَائِمًا وَقَاعِدًا
224- حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي
وَائِلٍ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ "أَتَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ سُبَاطَةَ قَوْمٍ فَبَالَ قَائِمًا ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ فَجِئْتُهُ
بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ".
[الحديث224- أطرافه في: 2471,226,225]
قوله: "باب البول قائما وقاعدا" قال ابن بطال: دلالة الحديث على القعود
بطريق الأولى، لأنه إذا جاز قائما فقاعدا أجوز. قلت: ويحتمل أن يكون أشار بذلك إلى
حديث عبد الرحمن بن حسنة الذي أخرجه النسائي وابن ماجه وغيرهما فإن فيه: "بال
رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا، فقلنا انظروا إليه يبول كما تبول المرأة
" وحكى ابن ماجه عن بعض مشايخه أنه قال: كان من شأن العرب البول قائما، ألا
تراه يقول في حديث عبد الرحمن بن حسنة " قعد يبول كما تبول المرأة "
وقال في حديث حذيفة " فقام كما يقوم أحدكم"، ودل حديث عبد الرحمن
المذكور على أنه صلى الله عليه وسلم كان يخالفهم في ذلك فيقعد لكونه أستر وأبعد من
مماسة البول، وهو حديث صحيح صححه الدارقطني وغيره، ويدل عليه حديث عائشة قالت:
"ما بال رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما منذ أنزل عليه القرآن "
رواه أبو عوانه في صحيحه والحاكم. قوله: "عن أبي وائل"، ولأبي داود
الطيالسي في مسنده عن شعبة عن الأعمش أنه سمع أبا وائل ولأحمد عن يحيى القطان عن
الأعمش حدثني أبو وائل. قوله: "سباطة قوم" بضم المهملة بعدها موحدة هي
المزبلة والكناسة تكون بفناء الدور مرفقا لأهلها وتكون في الغالب سهلة لا يرتد
فيها البول على البائل، وإضافتها إلى القوم إضافة اختصاص لا ملك لأنها لا تخلو عن
النجاسة، وبهذا يندفع إيراد من استشكله لكون البول يوهي الجدار ففيه إضرار، أو
نقول: إنما بال فوق السباطة لا في أصل الجدار وهو صريح رواية أبي عوانة في صحيحه،
وقيل: يحتمل أن يكون علم إذنهم في ذلك بالتصريح أو غيره، أو لكونه مما يتسامح
الناس به، أو لعلمه بإيثارهم إياه بذلك، أو لكونه يجوز له التصرف في مال أمته دون
غيره لأنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأموالهم، وهذا وإن كان صحيح المعنى لكن لم
يعهد ذلك من سيرته ومكارم أخلاقه صلى الله عليه وسلم. قوله: "ثم دعا
بماء" زاد مسلم وغيره من طرق عن الأعمش " فتنحيت فقال: ادن، فدنوت حتى
قمت عند عقبيه " وفي رواية أحمد عن يحيى القطان " أتى سباطة قوم فتباعدت
منه، فأدناني حتى صرت قريبا من عقبيه فبال قائما، ودعا بماء فتوضأ ومسح على خفيه:
"وكذا زاد مسلم وغيره فيه ذكر المسح على الخفين، وهو ثابت أيضا عند الإسماعيلي
وغيره من طرق عن شعبة عن الأعمش، وزاد عيسى بن يونس فيه عن الأعمش، أن ذلك كان
بالمدينة أخرجه ابن عبد البر في التمهيد بإسناد صحيح، وزعم في الاستذكار أن عيسى
تفرد به، وليس كذلك، فقد رواه البيهقي من طريق محمد بن طلحة بن مصرف عن الأعمش
كذلك، وله شاهد من حديث عصمة بن مالك سنذكره بعد. واستدل به على جواز المسح في
الحضر وهو ظاهر، ولعل البخاري اختصره لتفرد الأعمش به فقد روى ابن ماجه من طريق
شعبة أن عاصما رواه له عن أبي وائل عن المغيرة " أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم أتى سباطة قوم فبال قائما " قال عاصم: وهذا الأعمش يرويه عن أبي وائل عن
حذيفة وما حفظه، يعني أن روايته هي الصواب. قال شعبة: فسألت عنه منصورا فحدثنيه عن
أبي وائل عن
(1/328)
حذيفة يعني كما قال الأعمش، لكن لم يذكر فيه المسح، فقد وافق منصور الأعمش على قوله عن حذيفة دون الزيادة ولم يلتفت مسلم إلى هذه العلة بل ذكرها في حديث الأعمش لأنها زيادة من حافظ وقال الترمذي: حديث أبي وائل عن حذيفة أصح، يعني حديثه عن المغيرة، وهو كما قال، وإن جنح ابن خزيمة إلى تصحيح الروايتين لكون حماد بن أبي سليمان وافق عاصما على قوله عن المغيرة، فجاز أن يكون أبو وائل سمعه منهما فيصح القولان معا، لكن من حيث الترجيح رواية الأعمش ومنصور لاتفاقهما أصح من رواية عاصم وحماد لكونهما في حفظهما مقال.
(1/329)
61 - باب الْبَوْلِ
عِنْدَ صَاحِبِهِ وَالتَّسَتُّرِ بِالْحَائِطِ
225- حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ
مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: "رَأَيْتُنِي أَنَا
وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَتَمَاشَى فَأَتَى سُبَاطَةَ
قَوْمٍ خَلْفَ حَائِطٍ فَقَامَ كَمَا يَقُومُ أَحَدُكُمْ فَبَالَ فَانْتَبَذْتُ
مِنْهُ فَأَشَارَ إِلَيَّ فَجِئْتُهُ فَقُمْتُ عِنْدَ عَقِبِهِ حَتَّى
فَرَغَ".
قوله: "باب البول عند صاحبه" أي صاحب البائل.قوله: "جرير" هو
ابن عبد الحميد، ومنصور وهو ابن المعتمر. قوله: "رأيتني" بضم المثناة من
فوق. قوله: "فانتبذت" بالنون والذال المعجمة أي تنحيت، يقال جلس فلان
نبذة بفتح النون وضمها أي ناحية. قوله: "فأشار إلى" يدل على أنه لم يبعد
منه بحيث لا يراه. وإنما صنع ذلك ليجمع بين المصلحتين: عدم مشاهدته في تلك الحالة
وسماع ندائه لو كانت له حاجة، أو رؤية إشارته إذا أشار له وهو مستدبره. وليست فيه
دلالة على جواز الكلام في حال البول لأن هذه الرواية بينت أن قوله في رواية مسلم:
"إدنه " كان بالإشارة لا باللفظ، وأما مخالفته صلى الله عليه وسلم لما
عرف من عادته من الإبعاد - عند قضاء الحاجة - عن الطرق المسلوكة وعن أعين النظارة،
فقد قيل فيه إنه صلى الله عليه وسلم كان مشغولا بمصالح المسلمين، فلعله طال عليه
المجلس أحتاج إلى البول، فلو أبعد لتضرر، واستدنى حذيفة ليستره من خلفه من رؤية من
لعله يمر به وكان قدامه مستورا بالحائط، أو لعله فعله لبيان الجواز. ثم هو في
البول وهو أخف من الغائط لاحتياجه إلى زيادة تكشف، ولما يقترن به من الرائحة.
والغرض من الإبعاد التستر وهو يحصل بإرخاء الذيل والدنو من الساتر. وروى الطبراني
من حديث عصمة بن مالك قال: "خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض
سكك المدينة فانتهى إلى سباطة قوم فقال "يا حذيفة استرني " فذكر الحديث.
وظهر منه الحكمة في إدنائه حذيفة في تلك الحالة وكان حذيفة لما وقف خلفه عقبه
استدبره، وطهر أيضا أن ذلك كان في الحضر لا في السفر، ويستفاد من هذا الحديث دفع
أشد المفسدتين بأخفهما والإتيان بأعظم المصلحتين إذا لم يمكنا معا، وبيانه أنه صلى
الله عليه وسلم كان يطيل الجلوس لمصالح الأمة ويكثر من زيارة أصحابه وعيادتهم،
فلما حضره البول وهو في بعض تلك الحالات لم يؤخره حتى يبعد كعادته لما يترتب على
تأخيره من الضرر، فراعى أهم الأمرين، وقدم المصلحة في تقريب حذيفة منه ليستره من
المارة على مصلحة تأخيره عنه إذ لم يمكن جمعهما.
(1/329)
62 - باب الْبَوْلِ
عِنْدَ سُبَاطَةِ قَوْمٍ
226- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَرْعَرَةَ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ
مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: "كَانَ أَبُو مُوسَى الأَشْعَرِيُّ
(1/329)
63 - باب غَسْلِ
الدَّمِ
227- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ
هِشَامٍ قَالَ حَدَّثَتْنِي فَاطِمَةُ عَنْ أَسْمَاءَ قَالَتْ "جَاءَتْ
(1/330)
امْرَأَةٌ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: أَرَأَيْتَ إِحْدَانَا
تَحِيضُ فِي الثَّوْبِ كَيْفَ تَصْنَعُ قَالَ "تَحُتُّهُ ثُمَّ تَقْرُصُهُ
بِالْمَاءِ وَتَنْضَحُهُ وَتُصَلِّي فِيهِ"
[الحديث227- طرفه في:307]
قوله: "باب غسل الدم" بفتح الغين.يحيى هو ابن سعيد القطان، وهشام هو ابن
عروة، وفاطمة هي زوجته بنت عمه المنذر، وأسماء هي جدتهما لأبويهما بنت أبي بكر
الصديق. قوله: "جاءت امرأة" وقع في رواية الشافعي عن سفيان بن عيينة عن
هشام في هذا الحديث أن أسماء هي السائلة، وأغرب النووي فضعف هذه الرواية بلا دليل،
وهي صحيحة الإسناد لا علة لها، ولا بعد في أن يبهم الراوي اسم نفسه كما سيأتي في
حديث أبي سعيد في قصة الرقية بفاتحة الكتاب. قوله: "تحيض في الثوب" أي
يصل دم الحيض إلى الثوب، وللمصنف من طريق مالك عن هشام " إذا أصاب ثوبها الدم
من الحيضة". قوله: "تحته" بالفتح وضم المهملة وتشديد المثناة
الفوقانية أي تحكه، وكذا رواه ابن خزيمة، والمراد بذلك إزالة عينه. قوله: "ثم
تقرصه" بالفتح وإسكان القاف وضم الراء والصاد المهملتين، كذا في روايتنا.
وحكى القاضي عياض وغيره فيه الضم وفتح القاف وتشديد الراء المكسورة، أي تدلك موضع
الدم بأطراف أصابعها ليتحلل بذلك ويخرج ما تشربه الثوب منه. قوله:
"وتنضحه" بفتح الضاد المعجمة وضم الحاء أي تغسله، قاله الخطابي. وقال
القرطبي: المراد به الرش لأن غسل الدم استفيد من قوله تقرصه بالماء، وأما النضح
فهو لما شكت فيه من الثوب. قلت: فعلى هذا فالضمير في قوله تنضحه يعود على الثوب،
بخلاف " تحته " فإنه يعود على الدم، فيلزم منه اختلاف الضمائر وهو على
خلاف الأصل. ثم إن الرش على المشكوك فيه لا يفيد شيئا لأنه إن كان طاهرا فلا حاجة
إليه، وإن كان متنجسا لم يطهر بذلك، فالأحسن ما قاله الخطابي، قال الخطابي: في هذا
الحديث دليل على أن النجاسات إنما تزال بالماء دون غيره من المائعات، لأن جميع
النجاسات بمثابة الدم لا فرق بينه وبينها إجماعا، وهو قول الجمهور، أي يتعين الماء
لإزالة النجاسة. وعن أبي حنيفة وأبي يوسف يجوز تطهير النجاسة بكل مائع طاهر، ومن
حجتهم حديث عائشة " ما كان لإحدانا إلا ثوب واحد تحيض فيه، فإذا أصابه شيء من
دم الحيض قالت بريقها فمصته بظفرها " ولأبي داود " بلته بريقها"،
وجه الحجة منه أنه لو كان الريق لا يطهر لزاد النجاسة. وأجيب باحتمال أن تكون قصدت
بذلك تحليل أثره ثم غسلته بعد ذلك كما سيأتي تقريره في كتاب الحيض في باب هل تصلي
المرأة في ثوب حاضت فيه. "فائدة": تعقب استدلال من استدل على تعيين
إزالة النجاسة بالماء من هذا الحديث بأنه مفهوم لقب وليس بحجة عند الأكثر، ولأنه
خرج مخرج الغالب في الاستعمال لا الشرط. وأجيب بأن الخبر نص على الماء، فإلحاق
غيره به بالقياس، وشرطه أن لا ينقص الفرع عن الأصل في العلة، وليس في غير الماء ما
في الماء من رقته وسرعة نفوذه فلا يلحق به، وسيأتي باقي فوائده في باب غسل دم
الحيض إن شاء الله تعالى.
228- حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ حَدَّثَنَا هِشَامُ
بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: جَاءَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ
أَبِي حُبَيْشٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ يَا
رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي امْرَأَةٌ أُسْتَحَاضُ فَلاَ أَطْهُرُ أَفَأَدَعُ
الصَّلاَةَ فَقال
(1/331)
رسول الله صلى الله
عليه وسلم: "لاَ إِنَّمَا ذَلِكِ عِرْقٌ وَلَيْسَ بِحَيْضٍ فَإِذَا
أَقْبَلَتْ حَيْضَتُكِ فَدَعِي الصَّلاَةَ وَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْسِلِي عَنْكِ
الدَّمَ ثُمَّ صَلِّي قَالَ وَقَالَ أَبِي "ثُمَّ تَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلاَةٍ
حَتَّى يَجِيءَ ذَلِكَ الْوَقْتُ".
[الحديث228- أطرافه في:331,325,320,306,]
قوله: "حدثنا محمد" كذا للأكثر غير منسوب، وللأصيلي: ابن سلام، ولأبي
ذر: هو ابن سلام، وأبو معاوية هو الضرير. قوله: "حدثنا هشام" زاد الأصيلي
ابن عروة. قوله: "فاطمة بنت أبي حبيش" بالحاء المهملة والموحدة والشين
المعجمة بصيغة التصغير، اسمه قيس ابن المطلب بن أسد، وهي غير فاطمة بنت قيس التي
طلقت ثلاثا. قوله: "أستحاض" بضم الهمزة وفتح المثناة يقال استحيضت
المرأة إذا استمر بها الدم بعد أيامها المعتادة فهي مستحاضة، والاستحاضة جريان
الدم من فرج المرأة في غير أوانه. قوله: "لا" أي لا تدعي الصلاة. قوله:
"عرق" بكسر العين هو المسمى بالعاذل بالذال المعجمة. قوله:
"حيضتك" بفتح الحاء ويجوز كسرها. والمراد بالإقبال والإدبار هنا ابتداء
دم الحيض وانقطاعه. قوله: "فدعى الصلاة" يتضمن نهي الحائض عن الصلاة،
وهو للتحريم ويقتضي فساد الصلاة بالإجماع. قوله: "فاغتسلي عنك الدم" أي
واغتسلي، والأمر بالاغتسال مستفاد من أدلة أخرى كما سيأتي بسطها في كتاب الحيض إن
شاء الله تعالى. قوله: "قال" أي هشام بن عروة "وقال أبي" بفتح
الهمزة وتخفيف الموحدة أي عروة بن الزبير، وادعى بعضهم أن هذا معلق، وليس بصواب،
بل هو بالإسناد المذكور عن محمد عن أبي معاوية عن هشام، وقد بين ذلك الترمذي في
روايته. وادعى آخر أن قوله: "ثم توضئ " من كلام عروة موقوفا عليه، وفيه
نظر لأنه لو كان كلامه لقال ثم تتوضأ بصيغة الإخبار، فلما أتى به بصيغة الأمر
شاكله الأمر الذي في المرفوع وهو قوله: "فاغسلي". وسنذكر حكم هذه
المسألة في كتاب الحيض إن شاء الله تعالى.
(1/332)
باب غسل المني
وفركه ، وغسل مايصيب من المرأة
...
64 - باب غَسْلِ الْمَنِيِّ وَفَرْكِهِ وَغَسْلِ مَا يُصِيبُ مِنْ الْمَرْأَةِ
229- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ
قَالَ أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ الْجَزَرِيُّ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ
يَسَارٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ "كُنْتُ أَغْسِلُ الْجَنَابَةَ مِنْ ثَوْبِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَخْرُجُ إِلَى الصَّلاَةِ
وَإِنَّ بُقَعَ الْمَاءِ فِي ثَوْبِهِ".
[الحديث229- أطرافه في:232,231,230]
230- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ قَالَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ حَدَّثَنَا عَمْرٌو
يَعْنِي ابْنَ مَيْمُونٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ قَالَ سَمِعْتُ عَائِشَةَ
و حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ قَالَ حَدَّثَنَا
عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ قَالَ سَأَلْتُ عَائِشَةَ
عَنْ الْمَنِيِّ يُصِيبُ الثَّوْبَ فَقَالَتْ "كُنْتُ أَغْسِلُهُ مِنْ ثَوْبِ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَخْرُجُ إِلَى الصَّلاَةِ
وَأَثَرُ الْغَسْلِ فِي ثَوْبِهِ بُقَعُ الْمَاءِ".
قوله: "باب غسل المني وفركه" لم يخرج البخاري حديث الفرك، بل اكتفى
بالإشارة إليه في الترجمة على عادته، لأنه ورد من حديث عائشة أيضا كما سنذكره.
وليس بين حديث الغسل وحديث الفرك تعارض لأن الجمع بينهما واضح على القول بطهارة
المني بأن يحمل الغسل على الاستحباب للتنظيف لا على الوجوب، وهذه طريقة الشافعي
(1/332)
وأحمد وأصحاب الحديث، وكذا الجمع ممكن على القول بنجاسته بأن يحمل الغسل على ما كان رطبا والفرك على ما كان يابسا، وهذه طريقة الحنفية، والطريقة الأولى أرجح لأن فيها العمل بالخبر والقياس معا، لأنه لو كان نجسا لكان القياس وجوب غسله دون الاكتفاء بفركه كالدم وغيره، وهم لا يكتفون فيما لا يعفى عنه من الدم بالفرك، ويرد الطريقة الثانية أيضا ما في رواية ابن خزيمة من طريق أخرى عن عائشة " كانت تسلت المني من ثوبه بعرق الإذخر ثم يصلي فيه، وتحكه من ثوبه يابسا ثم يصلي فيه: "فإنه يتضمن ترك الغسل في الحالتين، وأما مالك فلم يعرف الفرك وقال: إن العمل عندهم على وجوب الغسل كسائر النجاسات، وحديث الفرك حجة عليهم، وحمل بعض أصحابه الفرك على الدلك بالماء، وهو مردود بما في إحدى روايات مسلم عن عائشة " لقد رأيتني وإني لأحكه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم يابسا بظفري " وبما صححه الترمذي من حديث همام بن الحارث أن عائشة أنكرت على ضيفها غسله الثوب فقالت: "لم أفسد علينا ثوبنا؟ إنما كان يكفيه أن يفركه بأصابعه، فربما فركته من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصابعي". وقال بعضهم: الثوب الذي اكتفت فيه بالفرك ثوب النوم، والثوب الذي غسلته ثوب الصلاة. وهو مردود أيضا بما في إحدى روايات مسلم من حديثها أيضا: "لقد رأيتني أفركه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فركا فيصلي فيه: "وهذا التعقيب بالفاء بنفي احتمال تخلل الغسل بين الفرك والصلاة. وأصرح منه رواية ابن خزيمة: "أنها كانت تحكه من ثوبه صلى الله عليه وسلم وهو يصلي " وعلى تقدير عدم ورود شيء من ذلك فليس في حديث الباب ما يدل على نجاسة المني لأن غسلها فعل وهو لا يدل على الوجوب بمجرده، والله أعلم. وطعن بعضهم في الاستدلال بحديث الفرك على طهارة المني بأن مني النبي صلى الله عليه وسلم طاهر دون غيره كسائر فضلاته. والجواب على تقدير صحة كونه من الخصائص أن منيه كان عن جماع فيخالط مني المرأة، فلو كان منيها نجسا لم يكتف فيه بالفرك، وبهذا احتج الشيخ الموفق وغيره على طهارة رطوبة فرجها قال: ومن قال إن المني لا يسلم من المذي فيتنجس به لم يصب لأن الشهوة إذا اشتدت خرج المني دون المذي والبول كحالة الاحتلام، والله أعلم. قوله: "وغسل ما يصيب" أي الثوب وغيره من المرأة، وفي هذه المسألة حديث صريح ذكره المصنف بعد في آخر كتاب الغسل من حديث عثمان، ولم يذكره هنا، وكأنه استنبطه مما أشرنا إليه من أن المني الحاصل في الثوب لا يخلو غالبا من مخالطة ماء المرأة ورطوبتها. قوله: "عمرو بن ميمون الجزري" كذا للجمهور، وهو الصواب، وهو بفتح الجيم والزاي بعدها راء، منسوب إلى الجزيرة، وكان ميمون بن مهران والد عمرو نزلها فنسب إليها ولده. ووقع في رواية الكشميهني وحده الجوزي بواو ساكنة بعدها زاي وهو غلط منه. قوله: "أغسل الجنابة" أي أثر الجنابة فيكون على حذف مضاف، أو أطلق اسم الجنابة على المني مجازا. قوله: "بقع" بضم الموحدة وفتح القاف جمع بقعة، قال أهل اللغة: البقع اختلاف اللونين. قوله في الإسناد "حدثنا يزيد" قال أبو مسعود الدمشقي: كذا هو غير منسوب في رواية الفربري وحماد بن شاكر، ويقال إنه ابن هارون وليس بابن زريع وجميعا قد رويا - يعني عن عمرو بن ميمون - ووقع في رواية ابن السكن أحد الرواة عن الفربري " حدثنا يزيد، يعني ابن زريع " وكذا أشار إليه الكلاباذي ورجح القطب الحليمي في شرحه أنه ابن هارون قال: لأنه وجد من روايته ولم يوجد من رواية ابن زريع. قلت: ولا يلزم من عدم الوجدان عدم الوقوع، كيف وقد جزم أبو مسعود بأنه رواه فدل على وجدانه، والمثبت مقدم على النافي. وقد خرجه الإسماعيلي وغيره من حديث يزيد بن هارون بلفظ مخالف للسياق الذي أورده البخاري، وهذا
(1/333)
من مرجحات كونه ابن زريع، وأيضا فقتيبة معروف بالرواية عن يزيد بن زريع دون ابن هارون قاله المزي، والقاعدة في من أهمل أن يحمل على من للراوي به خصوصية كالإكثار وغيره، فترجح أنه ابن زريع. والله أعلم. قوله: "حدثنا عمرو" كذا للأكثر، ولأبي ذر يعني ابن ميمون وهو ابن مهران، كما سيأتي في آخر الباب الذي يليه. قوله: "سمعت عائشة" وفي الإسناد الذي يليه " سألت عائشة " فيه رد على البراز حيث زعم أن سليمان ابن يسار لم يسمع من عائشة، على أن البزار مسبوق بهذه الدعوى، فقد حكاه الشافعي في الأم عن غيره، وزاد أن الحفاظ قالوا: إن عمرو بن ميمون غلط في رفعه، وإنما هو في فتوى سليمان. انتهى. وقد تبين من تصحيح البخاري له وموافقة مسلم له على تصحيحه صحة سماع سليمان منها وأن رفعه صحيح، وليس بين فتواه وروايته تناف، وكذا لا تأثير للاختلاف في الروايتين حيث وقع في إحداهما أن عمرو بن ميمون سأل سليمان، وفي الأخرى أن سليمان سأل عائشة، لأن كلا منهما سأل شيخه فحفظ بعض الرواة ما لم يحفظ بعض وكلهم ثقات. قوله: "عبد الواحد" هو ابن زياد البصري، وفي طبقته عبد الواحد بن زيد البصري ولم يخرج له البخاري شيئا. قوله: "عن المني" أي عن حكم المني هل يشرع غسله أم لا؟ فحصل الجواب بأنها كانت تغسله، وليس في ذلك ما يقتضي إيجابه كما قدمناه. قوله: "فيخرج" أي من الحجرة إلى المسجد. قوله: "بقع الماء" بضم العين على أنه بدل من قوله: "أثر الغسل"، ويجوز النصب على الاختصاص، وفي هذه الرواية جواز سؤال النساء عما يستحيي منه لمصلحة تعلم الأحكام، وفيه خدمة الزوجات للأزواج، واستدل به المصنف على أن بقاء الأثر بعد زوال العين في إزالة النجاسة وغيرها لا يضر فلهذا ترجم " باب إذا غسل الجنابة أو غيرها فلم يذهب أثره " وأعاد الضمير مذكرا على المعنى أي فلم يذهب أثر الشيء المغسول، ومراده أن ذلك لا يضر. وذكر في الباب حديث الجنابة وألحق غيرها بها قياسا، أو أشار بذلك إلى ما رواه أبو داود وغيره من حديث أبي هريرة أن خولة بنت يسار قالت: يا رسول الله ليس لي إلا ثوب واحد، وأنا أحيض، فكيف أصنع؟ قال: "إذا طهرت فاغسليه ثم صلي فيه: "قالت فإن لم يخرج الدم؟ قال: "يكفيك الماء ولا يضرك أثره " وفي إسناده ضعف، وله شاهد مرسل ذكره البيهقي، والمراد بالأثر ما تعسر إزالته جمعا بين هذا وبين حديث أم قيس " حكيه بضلع واغسليه بماء وسدر " أخرجه أبو داود أيضا وإسناده حسن. ولما لم يكن هذا الحديث على شرط المصنف استنبط من الحديث الذي على شرطه ما يدل على ذلك المعنى كعادته.
(1/334)
باب إذا غسل
الجنابة أوغيرها فلم يذهب أثره
...
65- باب إذا غسل الجنابة أو غيرها فلم يذهب أثره
231- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْمِنْقَرِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ
الْوَاحِدِ قَالَ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ قَالَ سَأَلْتُ سُلَيْمَانَ
بْنَ يَسَارٍ فِي الثَّوْبِ تُصِيبُهُ الْجَنَابَةُ قَالَ قَالَتْ عَائِشَةُ
"كُنْتُ أَغْسِلُهُ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ثُمَّ يَخْرُجُ إِلَى الصَّلاَةِ وَأَثَرُ الْغَسْلِ فِيهِ بُقَعُ
الْمَاءِ"
قوله: "المنقري" بكسر الميم وإسكان النون وفتح القاف نسبة إلى بني منقر
- بطن من تميم - وهو أبو سلمة التبوذكي، وعبد الواحد هو ابن زياد أيضا. قوله:
"سمعت سليمان بن يسار في الثوب" أي يقول في مسألة الثوب، وللكشميهني:
"سألت سليمان ابن يسار في الثوب " أي قلت له ما تقول في الثوب أو في
بمعنى عن. قوله: "أغسله"
(1/334)
أي أثر الجنابة أو
المني. قوله: "وأثر الغسل فيه" يحتمل أن يكون الضمير راجعا إلى أثر
الماء أو إلى الثوب ويكون قوله: "بقع الماء " بدلا من قوله: "أثر
الغسل " كما تقدم، أو المعنى أثر الجنابة المغسولة بالماء فيه من بقع الماء
المذكور. وقوله في الرواية الأخرى " ثم أراه فيه: "بعد قوله: "كانت
تغسل المني " يرجح هذا الاحتمال الأخير لأن الضمير يرجع إلى أقرب مذكور وهو
المني.
232- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ قَالَ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ قَالَ حَدَّثَنَا
عَمْرُو بْنُ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ
عَائِشَةَ "أَنَّهَا كَانَتْ تَغْسِلُ الْمَنِيَّ مِنْ ثَوْبِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ أَرَاهُ فِيهِ بُقْعَةً أَوْ
بُقَعًا".
قوله: "زهير" هو ابن معاوية الجعفي. قوله: "أنها كانت" محتمل
أن يكون مذكورا بالمعنى من لفظها، أي قالت كنت أغسل، ليشاكل قولها " ثم أراه
" أو حذف لفظ قالت قبل قولها ثم أراه. قوله: "بقعة أو بقعا" يحتمل
أن يكون من كلامها وينزل على حالتين، أو شكا من أحد رواته. والله أعلم.
(1/335)
66 - باب أَبْوَالِ
الإِبِلِ وَالدَّوَابِّ وَالْغَنَمِ وَمَرَابِضِهَا
وَصَلَّى أَبُو مُوسَى فِي دَارِ الْبَرِيدِ وَالسِّرْقِينِ وَالْبَرِّيَّةُ إِلَى
جَنْبِهِ فَقَالَ هَا هُنَا وَثَمَّ سَوَاءٌ
233- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ
عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: "قَدِمَ
أُنَاسٌ مِنْ عُكْلٍ أَوْ عُرَيْنَةَ فَاجْتَوَوْا الْمَدِينَةَ فَأَمَرَهُمْ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلِقَاحٍ وَأَنْ يَشْرَبُوا مِنْ
أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا فَانْطَلَقُوا فَلَمَّا صَحُّوا قَتَلُوا رَاعِيَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَاقُوا النَّعَمَ فَجَاءَ
الْخَبَرُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ فَبَعَثَ فِي آثَارِهِمْ فَلَمَّا ارْتَفَعَ
النَّهَارُ جِيءَ بِهِمْ فَأَمَرَ فَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ
وَسُمِرَتْ أَعْيُنُهُمْ وَأُلْقُوا فِي الْحَرَّةِ يَسْتَسْقُونَ فَلاَ
يُسْقَوْنَ".
قَالَ أَبُو قِلاَبَةَ: فَهَؤُلاَءِ سَرَقُوا وَقَتَلُوا وَكَفَرُوا بَعْدَ
إِيمَانِهِمْ, وَحَارَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ
[الحديث233- أطرافه في:
6899,6805,6804,6803,6802,5727,5686,5685,4610,4193,4192,3018,1501]
قوله: "باب أبوال الإبل والدواب والغنم" والمراد بالدواب معناه العرفي
وهو ذوات الحافر من الخيل والبغال والحمير، ويحتمل أن يكون من عطف العام على الخاص
ثم عطف الخاص على العام، والأول أوجه، ولهذا ساق أثر أبي موسى في صلاته في دار
البريد لأنها مأوى الدواب التي تركب، وحديث العرنيين ليستدل به على طهارة أبوال
الإبل، وحديث مرابض الغنم ليستدل به على ذلك أيضا منها. قوله:
"ومرابضها" جمع مربض بكسر أوله وفتح الموحدة بعدها معجمة، وهي للغنم
كالمعاطن للإبل، والضمير يعود على أقرب مذكور وهو الغنم. ولم يفصح المصنف بالحكم
كعادته في المختلف فيه، لكن ظاهر إيراده حديث العرنيين يشعر باختياره الطهارة،
ويدل على ذلك قوله في حديث صاحب القبر ولم يذكر سوى بول الناس، وإلى ذلك ذهب
الشعبي وابن علية وداود وغيرهم، وهو يرد على من نقل الإجماع على نجاسة بول غير
المأكول مطلقا، وقد قدمنا ما فيه. قوله: "وصلى أبو موسى" هو
(1/335)
الأشعري، وهذا
الأثر وصله أبو نعيم شيخ البخاري في كتاب الصلاة له قال: حدثنا الأعمش عن مالك بن
الحارث - هو السلمي الكوفي - عن أبيه قال: "صلى بنا أبو موسى في دار البريد،
وهناك سرقين الدواب، والبرية على الباب، فقالوا: لو صليت على الباب: "فذكره.
والسرقين بكسر المهملة وإسكان الراء هو الزبل، وحكى فيه ابن سيده فتح أوله وهو
فارسي معرب، ويقال له السرجين بالجيم، وهو في الأصل حرف بين القاف والجيم يقرب من
الكاف، والبرية الصحراء منسوبة إلى البر، ودار البريد المذكورة موضع بالكوفة كانت
الرسل تنزل فيه إذا حضرت من الخلفاء إلى الأمراء، وكان أبو موسى أميرا على الكوفة
في زمن عمر وفي زمن عثمان، وكانت الدار في طرف البلد ولهذا كانت البرية إلى جنبها.
وقال المطرزي: البريد في الأصل الدابة المرتبة في الرباط، ثم سمي به الرسول
المحمول عليها: ثم سميت به المسافة المشهورة. "فائدة": ذكر البخاري في
تاريخه: همدان بريد عمر، وهو يروي عن عمر، وله أثر ذكره المصنف تعليقا عن عمير كما
سيأتي تخريجه من طريقه. قوله: "سواء" يريد أنهما متساويان في صحة
الصلاة، وتعقب بأنه ليس فيه دليل على طهارة أرواث الدواب عند أبي موسى، لأنه يمكن
أن يصلي فيها على ثوب يبسطه. وأجيب بأن الأصل عدمه، وقد رواه سفيان الثوري في
جامعه عن الأعمش بسنده ولفظه: "صلى بنا أبو موسى على مكان فيه سرقين "
وهذا ظاهر في أنه بغير حائل، وقد روى سعيد بن منصور عن سعيد بن المسيب وغيره أن
الصلاة على الطنفسة محدث، وإسناده صحيح.والأولى أن يقال إن هذا من فعل أبي موسى،
وقد خالفه غيره من الصحابة كابن عمر وغيره، فلا يكون حجة. أو لعل أبا موسى كان لا
يرى الطهارة شرطا في صحة الصلاة بل يراها واجبة برأسها، وهو مذهب مشهور. وقد تقدم
مثله في قصة الصحابي الذي صلى بعد أن جرح وظهر عليه الدم الكثير، فلا يكون فيه حجة
على أن الروث طاهر، كما أنه لا حجة في ذاك على أن الدم طاهر، وقياس غير المأكول
على المأكول غير واضح، لأن الفرق بينهما متجه لو ثبت أن روث المأكول طاهر، وسنذكر
ما فيه قريبا. والتمسك بعموم حديث أبي هريرة الذي صححه ابن خزيمة وغيره مرفوعا
بلفظ: "استنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه " أولى لأنه ظاهر في
تناول جميع الأبوال(1) فيجب اجتنابها لهذا الوعيد. والله أعلم. قوله: "عن
أيوب عن أبي قلابة" كذا رواه البخاري، وتابعه أبو داود عن سليمان بن حرب،
وكذا أخرجه أبو عوانة في صحيحه عن أبي داود السجستاني وأبي داود الحراني، وأبو
نعيم في المستخرج من طريق يوسف القاضي كلهم عن سليمان، وخالفهم مسلم فأخرجه عن
هارون بن عبد الله عن سليمان بن حرب، وزاد بين أيوب وأبي قلابة أبا رجاء مولى أبي
قلابة، وكذا أخرجه أبو عوانة عن أبي أمية الطرسوسي عن سليمان. وقال الدارقطني
وغيره: ثبوت أبي رجاء وحذفه - في حديث حماد بن زيد عن أيوب - صواب، لأن أيوب حديث
به عن أبي قلابة بقصة العرنيين خاصة، وكذا رواه أكثر أصحاب حماد بن زيد عنه
مقتصرين عليها، وحدث به أيوب أيضا عن أبي رجاء مولى أبي قلابة عن أبي قلابة، وزاد
فيه قصة طويلة لأبي قلابة مع عمر عبد العزيز كما سيأتي ذلك في كتاب الديات، ووافقه
على ذلك حجاج الصواف عن أبي رجاء، فالطريقان جميعا صحيحان، والله أعلم.
ـــــــ
(1) هذا ليس بجيد, والصواب طهارة أبوال الإبل ونحوها مما يؤكل لحمه كما يأتي دليله
في حديث العرنيين,و"ال"في قوله عليه السلام"استنزهو من البول"
للعهد, والمعهود بينهم بول الناس كما قاله البخاري,وكما يدل عليه حديث القبرين
وأثر أبي موسى المذكور. والله أعلم
(1/336)
قوله: "عن أنس" زاد الأصيلي: "ابن مالك". قوله: "قدم أناس" وللأصيلي والكشميهني والسرخسي " ناس " أي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصرح به المصنف في الديات من طريق أبي رجاء عن أبي قلابة. قوله: "من عكل أو عرينة" الشك فيه من حماد، وللمصنف في المحاربين عن قتيبة عن حماد " أن رهطا من عكل أو قال من عرينة ولا أعلمه إلا قال من عكل"، وله في الجهاد عن وهيب عن أيوب " أن رهطا من عكل " ولم يشك، وكذا في المحاربين عن يحيى بن أبي كثير، وفي الديات عن أبي رجاء كلاهما عن أبي قلابة، وله في الزكاة عن شعبة عن قتادة عن أنس " أن ناسا من عرينة " ولم يشك أيضا، وكذا لمسلم من رواية معاوية بن قرة عن أنس، وفي المغازي عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة " أن ناسا من عكل وعرينة " بالواو العاطفة وهو الصواب، ويؤيده ما رواه أبو عوانة والطبري من طريق سعيد بن بشير عن قتادة عن أنس قال: كانوا أربعة من عرينة وثلاثة من عكل، ولا يخالف هذا ما عند المصنف في الجهاد من طريق وهيب عن أيوب، وفي الديات من طريق حجاج الصواف عن أبي رجاء كلاهما عن أبي قلابة عن أنس " أن رهطا من عكل ثمانية " لاحتمال أن يكون الثامن غير القبيلتين وكان من أتباعهم فلم ينسب، وغفل من نسب عدتهم ثمانية لرواية أبي يعلى وهي عند البخاري وكذا عند مسلم، وزعم ابن التين تبعا للداودي أن عرينة هم عكل، وهو غلط، بل هما قبيلتان متغايرتان: عكل من عدنان، وعرينة من قحطان. وعكل بضم المهملة وإسكان الكاف قبيلة من تيم الرباب، وعرينة بالعين والراء المهملتين والنون مصغرا حي من قضاعة وحي من بجيلة، والمراد هنا الثاني، كذا ذكره موسى بن عقبة في المغازي، وكذا رواه الطبري من وجه آخر عن أنس، ووقع عند عبد الرزاق من حديث أبي هريرة بإسناد ساقط أنهم من بني فزارة. وهو غلط لأن بني فزارة من مضر لا يجتمعون مع عكل ولا مع عرينة أصلا. وذكر ابن إسحاق في المغازي أن قدومهم كان بعد غزوة ذي قرد وكانت في جمادى الآخرة سنة ست. وذكرها المصنف بعد الحديبية وكانت في ذي القعدة منها، وذكر الواقدي أنها كانت في شوال منها، وتبعه ابن سعد وابن حبان وغيرهما، والله أعلم. وللمصنف في المحاربين من طريق وهيب عن أيوب أنهم كانوا في الصفة قبل أن يطلبوا الخروج إلى الإبل. قوله: "فاجتووا المدينة" زاد في رواية يحيى بن أبي كثير قبل هذا " فأسلموا " وفي رواية أبي رجاء قبل هذا " فبايعوه على الإسلام " قال ابن فارس: اجتويت البلد إذا كرهت المقام فيه وإن كنت في نعمة. وقيده الخطابي بما إذا تضرر بالإقامة، وهو المناسب لهذه القصة. وقال القزاز: اجتووا أي لم يوافقهم طعامها. وقال ابن العربي: الجوى داء يأخذ من الوباء. وفي رواية أخرى يعني رواية أبي رجاء المذكورة " استوخموا " قال وهو بمعناه. وقال غيره: الجوى داء يصيب الجوف. وللمصنف من رواية سعيد عن قتادة في هذه القصة " فقالوا: يا نبي الله إنا كنا أهل ضرع، ولم نكن أهل ريف". وله في الطب من رواية ثابت عن أنس " إن ناسا كان بهم سقم قالوا: يا رسول الله آونا وأطعمنا، فلما صحوا قالوا: إن المدينة وخمة". والظاهر أنهم قدموا سقاما فلما صحوا من السقم كرهوا الإقامة بالمدينة لوخمها، فأما السقم الذي كان بهم فهو الهزال الشديد والجهد من الجوع، فعند أبي عوانة من رواية غيلان عن أنس " كان بهم هزال شديد " وعنده من رواية أبي سعد عنه " مصفرة ألوانهم". وأما الوخم الذي شكوا منه بعد أن صحت أجسامهم فهو من حمى المدينة كما عند أحمد من رواية حميد عن أنس، وسيأتي ذكر حمى المدينة من حديث عائشة في الطب وأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا الله أن ينقلها إلى الجحفة. ووقع عند مسلم من رواية معاوية بن قرة عن أنس " وقع بالمدينة الموم " أي بضم
(1/337)
الميم وسكون الواو قال: وهو البرسام، أي بكسر الموحدة سرياني معرب أطلق على اختلال العقل وعلى ورم الرأس وعلى ورم الصدر، والمراد هنا الأخير. فعند أبي عوانة من رواية همام عن قتادة عن أنس في هذه القصة " فعظمت بطونهم". قوله: "فأمرهم بلقاح" أي فأمرهم أن يلحقوا بها، وللمصنف في رواية همام عن قتادة " فأمرهم أن يلحقوا براعيه " وله عن قتيبة عن حماد " فأمر لهم بلقاح"؛ بزيادة اللام فيحتمل أن تكون زائدة أو للتعليل أو لشبه الملك أو للاختصاص وليست للتمليك، وعند أبي عوانة من رواية معاوية بن قرة التي أخرج مسلم إسنادها " أنهم بدءوا بطلب الخروج إلى اللقاح فقالوا: يا رسول الله قد وقع هذا الوجع، فلو أذنت لنا فخرجنا إلى الإبل " وللمصنف من رواية وهيب عن أيوب أنهم قالوا " يا رسول الله أبغنا رسلا " أي اطلب لنا لبنا " قال ما أجد لكم إلا أن تلحقوا بالذود " وفي رواية أبي رجاء " هذه نعم لنا تخرج فأخرجوا فيها". واللقاح باللام المكسورة والقاف وآخره مهملة: النوق ذوات الألبان، وأحدها لقحة بكسر اللام وإسكان القاف. وقال أبو عمرو: يقال لها ذلك إلى ثلاثة أشهر ثم هي لبون، وظاهر ما مضى أن اللقاح كانت للنبي صلى الله عليه وسلم وصرح بذلك في المحاربين عن موسى عن وهيب بسنده فقال: "إلا أن تلحقوا بإبل رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وله فيه من رواية الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير بسنده " فأمرهم أن يأتوا إبل الصدقة " وكذا في الزكاة من طريق شعبة عن قتادة، والجمع بينهما أن إبل الصدقة كانت ترعى خارج المدينة، وصادف بعث النبي صلى الله عليه وسلم بلقاحه إلى المرعى ما طلب هؤلاء النفر الخروج إلى الصحراء لشرب ألبان الإبل فأمرهم أن يخرجوا مع راعيه فخرجوا معه إلى الإبل ففعلوا ما فعلوا، وظهر بذلك مصداق قوله صلى الله عليه وسلم: "إن المدينة تنفي خبثها " وسيأتي في موضعه. وذكر ابن سعد أن عدد لقاحه صلى الله عليه وسلم كانت خمس عشرة، وأنهم نحروا منها واحدة يقال لها الحناء، وهو في ذلك متابع للواقدي، وقد ذكره الواقدي في المغازي بإسناد ضعيف مرسل. قوله: "وأن يشربوا" أي وأمرهم أن يشربوا، وله في رواية أبي رجاء " فأخرجوا فاشربوا من ألبانها وأبوالها " بصيغة الأمر. وفي رواية شعبة عن قتادة " فرخص لهم أن يأتوا الصدقة فيشربوا " فأما شربهم ألبان الصدقة فلأنهم من أبناء السبيل، وأما شربهم لبن لقاح النبي صلى الله عليه وسلم فبإذنه المذكور، وأما شربهم البول فاحتج به من قال بطهارته، أما من الإبل فبهذا الحديث، وأما من مأكول اللحم فبالقياس عليه، وهذا قول مالك وأحمد وطائفة من السلف، ووافقهم من الشافعية ابن خزيمة وابن المنذر وابن حبان والإصطخري والروياني، وذهب الشافعي والجمهور إلى القول بنجاسة الأبوال والأرواث كلها من مأكول اللحم وغيره، واحتج ابن المنذر لقوله بأن الأشياء على الطهارة حتى تثبت النجاسة، قال: ومن زعم أن هذا خاص بأولئك الأقوام فلم يصب، إذ الخصائص لا تثبت إلا بدليل، قال: وفي ترك أهل العلم بيع الناس أبعار الغنم في أسواقهم واستعمال أبوال الإبل في أدويتهم قديما وحديثا من غير نكير دليل على طهارتها. قلت: وهو استدلال ضعيف، لأن المختلف فيه لا يجب إنكاره، فلا يدل ترك إنكاره على جوازه فضلا عن طهارته، وقد دل على نجاسة الأبوال كلها حديث أبي هريرة الذي قدمناه قريبا. وقال ابن العربي: تعلق بهذا الحديث من قال بطهارة أبوال الإبل، وعورضوا بأنه أذن لهم في شربها للتداوي، وتعقب بأن التداوي ليس حال ضرورة، بدليل أنه لا يجب فكيف يباح الحرام لما لا يجب؟ وأجيب بمنع أنه ليس حراما ضرورة، بل هو حال ضرورة إذا أخبره بذلك من يعتمد على خبره، وما أبيح للضرورة لا يسمى حراما وقت تناوله لقوله تعالى :{وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} فما اضطر إليه المرء فهو غير محرم
(1/338)
عليه كالميتة
للمضطر، والله أعلم. وما تضمنه كلامه من أن الحرام لا يباح إلا لأمر واجب غير
مسلم، فإن الفطر في رمضان حرام ومع ذلك فيباح الأمر جائز كالسفر مثلا. وأما قول
غيره لو كان نجسا ما جاز التداوي به لقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لم
يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها " رواه أبو داود من حديث أم سلمة وستأتي له
طريق أخرى في الأشربة من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى، والنجس حرام فلا يتداوى به
لأنه غير شفاء، فجوابه أن الحديث محمول على حالة الاختيار، وأما في حال الضرورة
فلا يكون حراما كالميتة للمضطر، ولا يرد قوله صلى الله عليه وسلم في الخمر "
إنها ليست بدواء، إنها داء " في جواب من سأله عن التداوي بها فيما رواه مسلم،
فإن ذلك خاص بالخمر، ويلتحق به غيرها من المسكر، والفرق بين المسكر وبين غيره من
النجاسات أن الحد يثبت باستعماله في حالة الاختيار دون غيره. ولأن شربه يجر إلى
مفاسد كثيرة، ولأنهم كانوا في الجاهلية يعتقدون أن في الخمر شفاء فجاء الشرع بخلاف
معتقدهم. قاله الطحاوي بمعناه. وأما أبوال الإبل فقد روى ابن المنذر عن ابن عباس
مرفوعا: "أن في أبوال الإبل شفاء لذربة بطونهم " والذرب فساد المعدة،
فلا يقاس ما ثبت أن فيه دواء على ما ثبت نفي الدواء عنه، والله أعلم. وبهذه الطريق
يحصل الجمع بين الأدلة والعمل بمقتضاها كلها. قوله: "فلما صحوا" في
السياق حذف تقديره " فشربوا من أبوالها وألبانها فلما صحوا". وقد ثبت
ذلك في رواية أبي رجاء، وزاد في رواية وهيب " وسمنوا " وللإسماعيلي من
رواية ثابت " ورجعت إليهم ألوانهم". قوله: "واستاقوا النعم"
من السوق وهو السير العنيف. قوله: "فجاء الخبر" في رواية وهيب عن أيوب
" الصريخ " بالخاء المعجمة وهو فعيل بمعنى فاعل أي صرخ بالإعلام بما وقع
منهم؛ وهذا الصارخ أحد الراعيين كما ثبت في صحيح أبي عوانة من رواية معاوية ابن
قرة عن أنس، وقد أخرج مسلم إسناده ولفظه: "فقتلوا أحد الراعيين وجاء الآخر قد
جزع فقال: قد قتلوا صاحبي وذهبوا بالإبل " واسم راعي النبي صلى الله عليه
وسلم المقتول يسار بياء تحتانية ثم مهملة خفيفة، كذا ذكره ابن إسحاق في المغازي،
ورواه الطبراني موصولا من حديث سلمة بن الأكوع بإسناد صالح قال: "كان للنبي
صلى الله عليه وسلم غلام يقال له يسار " زاد ابن إسحاق " أصابه في غزوة
بني ثعلبة " قال سلمة " فرآه يحسن الصلاة فأعتقه وبعثه في لقاح له
بالحرة فكان بها " فذكر قصة العرنيين وأنهم قتلوه، ولم أقف على تسمية الراعي
الآتي بالخبر، والظاهر أنه راعي إبل الصدقة، ولم تختلف روايات البخاري في أن
المقتول راعي النبي صلى الله عليه وسلم وفي ذكره بالإفراد، وكذا لمسلم لكن عنده من
رواية عبد العزيز بن صهيب عن أنس " ثم مالوا على الرعاة فقتلوهم " بصيغة
الجمع، ونحوه لابن حبان من رواية يحيى بن سعيد عن أنس، فيحتمل أن إبل الصدقة كان
لها رعاة فقتل بعضهم من راعي اللقاح، فاقتصر بعض الرواة على راعي النبي صلى الله
عليه وسلم وذكر بعضهم معه غيره، ويحتمل أن يكون بعض الرواة ذكره بالمعنى فتجوز في
الإتيان بصيغة الجمع، وهذا أرجح لأن أصحاب المغازي لم يذكر أحد منهم أنهم قتلوا
غير يسار، والله أعلم. قوله: "فبعث في آثارهم" زاد في رواية الأوزاعي
" الطلب " وفي حديث سلمة بن الأكوع " خيلا من المسلمين أميرهم كرز
بن جابر الفهري " وكذا ذكره ابن إسحاق والأكثرون، وهو بضم الكاف وسكون الراء
بعدها زاي، وللنسائي من رواية الأوزاعي " فبعث في
ـــــــ
(1) ليس بين الأدلة في هذا الباب بحمد الله اختلاف. والصواب طهارة أبوال مأكول
اللحم من الإبل وغيرها كما تفدم في ص336 وتقدم الجواب عما ذكره الشارح. ولو كانت
الأبوال من الإبل ونحوها نجسة لأمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم يغسل أفواههم
عنها,وأوضح لهم حكمها,وتأخير البيان عن وقت الحاجة غير جائز كما علم في الأصول.
والله أعلم
(1/339)
طلبهم قافة "
أي جمع قائف، ولمسلم من رواية معاوية بن قرة عن أنس أنهم شباب من الأنصار قريب من
عشرين رجلا وبعث معهم قائفا يقتص آثارهم، ولم أقف على اسم هذا القائف ولا على اسم
واحد من العشرين، لكن في مغازي الواقدي أن السرية كانت عشرين رجلا، ولم يقل من
الأنصار، بل سمي منهم جماعة من المهاجرين منهم بريدة بن الحصيب وسلمة ابن الأكوع
الأسلميان وجندب ورافع ابنا مكيث الجهنيان وأبو ذر وأبو رهم الغفاريان وبلال بن
الحارث وعبد الله بن عمرو بن عوف المزنيان وغيرهم، والواقدي لا يحتج به إذا انفرد
فكيف إذا خالف، لكن يحتمل أن يكون من لم يسمه الواقدي من الأنصار فأطلق الأنصار
تغليبا، أو قيل للجميع أنصار بالمعنى الأعم. وفي مغازي موسى بن عقبة أن أمير هذه
السرية سعيد بن زيد، كذا عنده بزيادة ياء والذي ذكره غيره أنه سعد بسكون العين ابن
زيد الأشهلي، وهذا أيضا أنصاري فيحتمل أنه كان رأس الأنصار، وكان كرز أمير
الجماعة. وروى الطبري وغيره من حديث جرير بن عبد الله البجلي أن النبي صلى الله
عليه وسلم بعثه في آثارهم، لكن إسناده ضعيف، والمعروف أن جريرا تأخر إسلامه عن هذا
الوقت بمدة. والله أعلم. قوله: "فلما ارتفع" فيه حذف تقديره فأدركوا في
ذلك اليوم فأخذوا، فلما ارتفع النهار جيء بهم أي إلى النبي صلى الله عليه وسلم
أسارى. قوله: "فأمر بقطع" كذا للأصيلي والمستملي والسرخسي، وللباقين
فقطع أيديهم وأرجلهم، قال الداودي: يعني قطع يدي كل واحد ورجليه. قلت: ترده رواية
الترمذي " من خلاف " وكذا ذكره الإسماعيلي عن الفريابي عن الأوزاعي
بسنده، وللمصنف من رواية الأوزاعي أيضا: "ولم يحسمهم " أي لم يكو ما قطع
منهم بالنار لينقطع الدم بل تركه ينزف. قوله: "وسمرت أعينهم" تشديد
الميم. وفي رواية أبي رجاء " وسمر " بتخفيف الميم ولم تختلف روايات البخاري
في أنه بالراء، ووقع لمسلم من رواية عبد العزيز " وسمل " بالتخفيف
واللام، قال الخطابي، السمل: فقء العين بأي شيء كان، قال أبو ذؤيب الهذلي:
والعين بعدهم كأن حداقها ... سملت بشوك فهي عور تدمع
قال: والسمر لغة في السمل ومخرجهما متقارب. قال: وقد يكون من المسمار يريد أنهم
كحلوا بأميال قد أحميت. قلت: قد وقع التصريح بالمراد عند المصنف من رواية وهيب عن
أيوب ومن رواية الأوزاعي عن يحيى كلاهما عن أبي قلابة ولفظه: "ثم أمر بمسامير
فأحميت فكحلهم بها " فهذا يوضح ما تقدم، ولا يخالف ذلك رواية السمل لأنه فقء
العين بأي شيء كان كما مضى. قوله: "وألقوا في الحرة" هي أرض ذات حجارة
سود معروفة بالمدينة، وإنما ألقوا فيها لأنها قرب المكان الذي فعلوا فيه ما فعلوا.
قوله: "يستسقون فلا يسقون" زاد وهيب والأوزاعي " حتى ماتوا "
وفي رواية أبي رجاء " ثم نبذهم في الشمس حتى ماتوا " وفي رواية شعبة عن
قتادة " يعضون الحجارة " وفي الطب من رواية ثابت قال أنس " فرأيت
الرجل منهم يكدم الأرض بلسانه حتى يموت " ولأبي عوانة من هذا الوجه "
يعض الأرض ليجد بردها مما يجد من الحر والشدة". وزعم الواقدي أنهم صلبوا،
والروايات الصحيحة ترده. لكن عند أبي عوانة من رواية أبي عقيل عن أنس " فصلب
اثنين وقطع اثنين وسمل اثنين " كذا ذكر ستة فقط، فإن كان محفوظا فعقوبتهم
كانت موزعة. ومال جماعة منهم ابن الجوزي إلى أن ذلك وقع عليهم على سبيل القصاص،
لما عند مسلم من حديث سليمان التيمي عن أنس " إنما سمل النبي صلى الله عليه
وسلم أعينهم لأنهم سملوا أعين الرعاة " وقصر من اقتصر في غزوه للترمذي
والنسائي، وتعقبه ابن دقيق العيد بأن المثلة في حقهم وقعت من جهات،
(1/340)
وليس في الحديث إلا
السمل فيحتاج إلى ثبوت البقية. قلت: كأنهم تمسكوا بما نقله أهل المغازي أنهم مثلوا
بالراعي، وذهب آخرون إلى أن ذلك منسوخ، قال ابن شاهين عقب حديث عمران بن حصين في
النهي عن المثلة: هذا الحديث ينسخ كل مثله. وتعقبه ابن الجوزي بأن ادعاء النسخ
يحتاج إلى تاريخ. قلت: يدل عليه ما رواه البخاري في الجهاد من حديث أبي هريرة في
النهي عن التعذيب بالنار بعد الإذن فيه، وقصة العرنيين قبل إسلام أبي هريرة، وقد
حضر الإذن ثم النهي، وروى قتادة عن ابن سيرين أن قصتهم كانت قبل أن تنزل الحدود،
ولموسى بن عقبة في المغازي: وذكروا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى بعد ذلك عن
المثلة بالآية التي في سورة المائدة، وإلى هذا مال البخاري، وحكاه إمام الحرمين في
النهاية عن الشافعي، واستشكل القاضي عياض عدم سقيهم الماء للإجماع على أن من وجب
عليه القتل فاستسقى لا يمنع، وأجاب بأن ذلك لم يقع عن أمر النبي صلى الله عليه
وسلم ولا وقع منه نهي عن سقيهم. انتهى. وهو ضعيف جدا لأن النبي صلى الله عليه وسلم
اطلع على ذلك وسكوته كاف في ثبوت الحكم. وأجاب النووي بأن المحارب المرتد لا حرمة
له في سقي الماء ولا غيره، ويدل عليه أن من ليس معه ماء إلا لطهارته ليس له أن
يسقيه للمرتد ويتيمم، بل يستعمله ولو مات المرتد عطشا. وقال الخطابي: إنما فعل
النبي صلى الله عليه وسلم بهم ذلك لأنه أراد بهم الموت بذلك، وقيل: إن الحكمة في
تعطيشهم لكونهم كفروا نعمة سقي ألبان الإبل التي حصل لهم بها الشفاء من الجوع
والوخم، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا بالعطش على من عطش آل بيته في قصة
رواها النسائي فيحتمل أن يكونوا في تلك الليلة منعوا إرسال ما جرت به العادة من
اللبن الذي كان يراح به إلى النبي صلى الله عليه وسلم من لقاحه في كل ليلة كما ذكر
ذلك ابن سعد، والله أعلم قوله: "قال أبو قلابة فهؤلاء سرقوا" أي لأنهم
أخذوا اللقاح من حرز مثلها، وهذا قاله أبو قلابة استنباطا. قوله:
"وقتلوا" أي الراعي كما تقدم. قوله: "وكفروا" هو في رواية
سعيد عن قتادة عن أنس في المغازي، وكذا في رواية وهيب عن أيوب في الجهاد في أصل
الحديث، وليس موقوفا على أبي قلابة كما توهمه بعضهم، وكذا قوله: "وحاربوا
" ثبت عند أحمد من رواية حميد عن أنس في أصل الحديث: "وهربوا محاربين
" وستأتي قصة أبي قلابة في هذا الحديث مع عمر بن عبد العزيز في مسألة القسامة
من كتاب الديات إن شاء الله تعالى. وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدم: قدوم
الوفود على الإمام، ونظره في مصالحهم، وفيه مشروعية الطب والتداوي بألبان الإبل
وأبوالها، وفيه أن كل جسد يطب بما اعتاده، وفيه قتل الجماعة بالواحد سواء قتلوه
غيلة أو حرابة إن قلنا إن قتلهم كان قصاصا، وفيه المماثلة في القصاص وليس ذلك من
المثلة المنهي عنها، وثبوت حكم المحاربة في الصحراء، وأما في القرى ففيه خلاف،
وفيه جواز استعمال أبناء السبيل إبل الصدقة في الشرب وفي غيره قياسا عليه بإذن
الإمام، وفيه العمل بقول القائف، وللعرب في ذلك المعرفة التامة.
234- حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو
التَّيَّاحِ يَزِيدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ "كَانَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي قَبْلَ أَنْ يُبْنَى الْمَسْجِدُ فِي
مَرَابِضِ الْغَنَمِ".
[الحديث234- أطرافه في:3932,2779,2774,2771,2106,1868,429,428]
قوله: "أبو التياح" تقدم أنه بالمثناة الفوقانية ثم التحتانية المشددة
وآخره مهملة، وهذا الحديث في الصلاة في مرابض الغنم تمسك به من قال بطهارة أبوالها
وأبعارها، قالوا: لأنها لا تحلو من ذلك، فدل على أنهم كانوا
(1/341)
يباشرونها في صلاتهم فلا تكون نجسة، ونوزع من استدل بذلك لاحتمال الحائل، وأجيب بأنهم لم يكونوا يصلون على حائل دون الأرض، وفيه نظر لأنها شهادة نفي، لكن قد يقال إنها مستندة إلى أصل، والجواب أن في الصحيحين عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على حصير في دارهم، وصح عن عائشة أنه كان يصلي على الخمرة. وقال ابن حزم: هذا الحديث منسوخ لأن فيه أن ذلك كان قبل أن يبنى المسجد، فاقتضى أنه في أول الهجرة، وقد صح عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم ببناء المساجد في الدور، وأن تطيب وتنظف، رواه أحمد وأبو داود وغيرهما، وصححه ابن خزيمة وغيره، ولأبي داود نحوه من حديث سمرة وزاد: "وأن نطهرها " قال: وهذا بعد بناء المسجد. وما ادعاه من النسخ يقتضي الجواز ثم المنع، وفيه نظر لأن إذنه صلى الله عليه وسلم في الصلاة في مرابض الغنم ثابت عند مسلم من حديث جابر بن سمرة. نعم ليس فيه دلالة على طهارة المرابض، لكن فيه أيضا النهي عن الصلاة في معاطن الإبل، فلو اقتضى الإذن الطهارة لاقتضى النهي التنجيس، ولم يقل أحد بالفرق، لكن المعنى في الإذن والنهي بشيء لا يتعلق بالطهارة ولا النجاسة وهو أن الغنم من دواب الجنة والإبل خلقت من الشياطين. والله أعلم.
(1/342)
67 - باب مَا
يَقَعُ مِنْ النَّجَاسَاتِ فِي السَّمْنِ وَالْمَاءِ
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: "لاَ بَأْسَ بِالْمَاءِ مَا لَمْ يُغَيِّرْهُ طَعْمٌ
أَوْ رِيحٌ أَوْ لَوْنٌ" وَقَالَ حَمَّادٌ: "لاَ بَأْسَ بِرِيشِ
الْمَيْتَةِ" وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: "فِي عِظَامِ الْمَوْتَى نَحْوَ
الْفِيلِ وَغَيْرِهِ أَدْرَكْتُ نَاسًا مِنْ سَلَفِ الْعُلَمَاءِ يَمْتَشِطُونَ
بِهَا وَيَدَّهِنُونَ فِيهَا لاَ يَرَوْنَ بِهِ بَأْسًا" وَقَالَ ابْنُ
سِيرِينَ وَإِبْرَاهِيمُ: "وَلاَ بَأْسَ بِتِجَارَةِ الْعَاجِ"
قوله: "باب ما يقع من النجاسات في السمن والماء" أي هل ينجسهما أم لا،
أو لا ينجس الماء إلا إذا تغير دون غيره؟ وهذا الذي يظهر من مجموع ما أورده المصنف
في الباب من أثر وحديث. قوله: "وقال الزهري" صله ابن وهب في جامعه عن
يونس عنه، وروى البيهقي معناه من طريق أبي عمرو وهو الأوزاعي عن الزهري. قوله:
"لا بأس بالماء" أي لا حرج في استعماله في كل حالة، فهو محكوم بطهارته
ما لم يغيره طعم أي من شيء نجس أو ريح منه أو لون، ولفظ يونس عنه كل ما فيه قوة
عما يصيبه من الأذى حتى لا يغير ذلك طعمه ولا ريحه ولا لونه فهو طاهر، ومقتضى هذا
أنه لا يفرق بين القليل والكثير إلا بالقوة المانعة للملاقي أن يغير أحد أوصافه،
فالعبرة عنده بالتغير وعدمه، ومذهب الزهري هذا صار إليه طوائف من العلماء، وقد
تعقبه أبو عبيد في كتاب الطهور بأنه يلزم منه أن من بال في إبريق ولم يغير للماء
وصفا أنه يجوز له التطهر به، وهو مستبشع، ولهذا نصر قول التفريق بالقلتين، وإنما
لم يخرجه البخاري لاختلاف وقع في إسناده، لكن رواته ثقات. وصححه جماعة من الأئمة،
إلا أن مقدار القلتين لم يتفق عليه، واعتبره الشافعي بخمس قرب من قرب الحجاز احتياطا،
وخصص به حديث ابن عباس مرفوعا: "الماء لا ينجسه شيء " وهو حديث صحيح
رواه الأربعة وابن خزيمة وغيرهم، وسيأتي مزيد للقول في هذا في الباب الذي بعده.
وقول الزهري هذا ورد فيه حديث مرفوع قال الشافعي لا يثبت أهل الحديث مثله، لكن لا
أعلم في المسألة خلافا، يعني في تنجيس الماء إذا تغير أحد أوصافه بالنجاسة،
والحديث المشار إليه أخرجه ابن ماجه من حديث أبي أمامة وإسناده ضعيف وفيه اضطراب
أيضا. قوله: "وقال حماد" هو
(1/342)
ابن أبي سليمان
الفقيه الكوفي. قوله: "لا بأس بريش الميتة" أي ليس نجسا ولا ينجس الماء
بملاقاته، سواء كان ريش مأكول أو غيره، وأثره هذا وصله عبد الرزاق عن معمر عنه.
قوله: "وقال الزهري في عظام الموتى نحو الفيل وغيره" أي مما لا يؤكل
"أدركت ناسا" أي كثيرا والتنوين للتكثير.قوله: "ويدهنون"
بتشديد الدال من باب الافتعال، ويجوز ضم أوله وإسكان الدال، وهذا يدل على أنهم
كانوا يقولون بطهارته، وسنذكر الخلاف فيه قريبا. قوله: "وقال ابن سيرين
وإبراهيم" لم يذكر السرخسي إبراهيم في روايته ولا أكثر الرواة عن الفربري،
وأثر ابن سيرين وصله عبد الرزاق بلفظ: "أنه كان لا يرى بالتجارة في العاج
بأسا " وهذا يدل على أنه كان يراه طاهرا لأنه لا يجيز بيع النجس ولا المتنجس
الذي لا يمكن تطهيره بدليل قصته المشهورة في الزيت. والعاج هو ناب الفيل، قال ابن
سيده: لا يسمى غيره عاجا. وقال القزاز: أنكر الخليل أن يسمى غير ناب الفيل عاجا.
وقال ابن فارس والجوهري: "العاج عظم الفيل، فلم يخصصاه بالناب". وقال
الخطابي تبعا لابن قتيبة: "العاج الذبل وهو ظهر السلحفاء البحرية"، وفيه
نظر ففي الصحاح: المسك السوار من عاج أو ذبل، فغاير بينهما. لكن قال القالي: العرب
تسمى كل عظم عاجا، فإن ثبت هذا فلا حجة في الأثر المذكور على طهارة عظم الفيل، لكن
إيراد البخاري له عقب أثر الزهري في عظم الفيل يدل على اعتبار ما قال الخليل. وقد
اختلفوا في عظم الفيل بناء على أن العظم هل تحله الحياة أم لا، فذهب إلى الأول
الشافعي، واستدل له بقوله تعالى :{قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ
قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} فهذا ظاهر في أن العظم تحله
الحياة، وذهب إلى الثاني أبو حنيفة وقال بطهارة العظام مطلقا. وقال مالك: هو طاهر
إن ذكى بناء على قوله إن غير المأكول يطهر بالتذكية وهو قول أبي حنيفة.
235- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ
الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ
مَيْمُونَةَ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
سُئِلَ عَنْ فَأْرَةٍ سَقَطَتْ فِي سَمْنٍ فَقَالَ "أَلْقُوهَا وَمَا
حَوْلَهَا فَاطْرَحُوهُ وَكُلُوا سَمْنَكُمْ" .
[الحديث235- أطرافه في: 5540,5539,5538,136]
قوله: "حدثنا إسماعيل" هو ابن أبي أويس. قوله: "عن ميمونة" هي
بنت الحارث خالة ابن عباس. قوله: "سئل عن فأرة" بهمزة ساكنة والسائل عن
ذلك هي ميمونة. ووقع في رواية يحيى القطان وجويرية عن مالك في هذا الحديث:
"أن ميمونة استفتت " رواه الدارقطني وغيره. قوله: "سقطت في
سمن" زاد النسائي من رواية عبد الرحمن بن مهدي عن مالك " في سمن
جامد"، وزاد المصنف في الذبائح من رواية ابن عيينة عن ابن شهاب "
فماتت". قوله: "وما حولها" أي من السمن.
236- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنَا مَعْنٌ قَالَ
حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ مَيْمُونَةَ "أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ فَأْرَةٍ سَقَطَتْ فِي
سَمْنٍ فَقَالَ "خُذُوهَا وَمَا حَوْلَهَا فَاطْرَحُوهُ" . قَالَ مَعْنٌ
حَدَّثَنَا مَالِكٌ مَا لاَ أُحْصِيهِ يَقُولُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ
مَيْمُونَةَ
قوله: "حدثنا معن" هو ابن عيسى القزاز. قوله: "خذوها وما حولها
فاطرحوه" أي الجميع وكلوا الباقي كما
(1/343)
دلت عليه الرواية
الأولى. قوله: "قال معن" هو قول علي بن عبد الله فهو متصل، وأبعد من قال
إنه معلق، وإنما أورد البخاري كلام معن وساق حديثه بنزول - بالنسبة للإسناد الذي
قبله - مع موافقته له في السياق للإشارة إلى الاختلاف على مالك في إسناده، فرواه
أصحاب الموطأ عنه واختلفوا، فمنهم من ذكره عنه هكذا كيحيى بن يحيى وغيره، ومنهم من
لم يذكر فيه ميمونة كالقعنبي وغيره، ومنهم من لم يذكر فيه ابن عباس كأشهب وغيره،
ومنهم من لم يذكر فيه ابن عباس ولا ميمونة كيحيى بن بكير وأبي مصعب، ولم يذكر أحد
منهم لفظة " جامد " إلا عبد الرحمن بن مهدي، وكذا ذكرها أبو داود
الطيالسي في مسنده عن سفيان بن عيينة عن ابن شهاب، ورواه الحميدي والحفاظ من أصحاب
ابن عيينة بدونها وجودوا إسناده فذكروا فيه ابن عباس وميمونة وهو الصحيح، وراوه
عبد الرزاق عن معمر عن ابن شهاب مجودا، وله فيه عن ابن شهاب إسناد آخر عن سعيد بن
المسيب عن أبي هريرة ولفظه: "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الفأرة تقع
في السمن، قال: "إذا كان جامدا فألقوها وما حولها، وإن كان مائعا فلا تقربوه
" وحكى الترمذي عن البخاري أنه قال في رواية معمر هل هذه: هي خطأ. وقال ابن
أبي حاتم عن أبيه: إنها وهم. وأشار الترمذي إلى أنها شاذة. وقال الذهلي في
الزهريات: الطريقان عندنا محفوظان، لكن طريق ابن عباس عن ميمونة أشهر. والله أعلم.
وقد استشكل ابن التين إيراد البخاري كلام معن هذا مع كونه غير مخالف لرواية
إسماعيل، وأجيب بأن مراده أن إسماعيل لم ينفرد بتجويد إسناده. وظهر لي وجه آخر وهو
أن رواية معن المذكورة وقعت خارج الموطأ هكذا، وقد رواها في الموطأ فلم يذكر ابن
عباس ولا ميمونة، كذا أخرجه الإسماعيلي وغيره من طريقه، فأشار المصنف إلى أن هذا
الاختلاف لا يضر، لأن مالك كان يصله تارة ويرسله تارة، ورواية الوصل عنه مقدمة قد
سمعه منه معن بن عيسى مرارا وتابعه غيره من الحفاظ. والله أعلم.
"فائدة": أخذ الجمهور بحديث معمر الدال على التفرقة بين الجامد والذائب،
ونقل ابن عبد البر الاتفاق على أن الجامد إذا وقعت فيه ميتة طرحت وما حولها منه
إذا تحقق أن شيئا من أجزائها لم يصل إلى غير ذلك منه، وأما المائع فاختلفوا فيه،
فذهب الجمهور إلى أنه ينجس كله بملاقاة النجاسة، وخالف فريق: منهم الزهري
والأوزاعي، وسيأتي إيضاح ذلك في كتاب الذبائح، وكذلك مسألة الانتفاع بالدهن النجس
أو المتنجس إن شاء الله تعالى. قال ابن المنير: مناسبة حديث السمن للآثار التي
قبله اختيار المصنف أن المعتبر في التنجيس تغير الصفات، فلما كان ريش الميتة لا
يتغير بتغيرها بالموت وكذا عظمها فكذلك السمن البعيد عن موقع الميتة إذا لم يتغير،
واقتضى ذلك أن الماء إذا لاقته النجاسة ولم يتغير أنه لا يتنجس.
237- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ
أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "كُلُّ كَلْمٍ
يُكْلَمُهُ الْمُسْلِمُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
كَهَيْئَتِهَا إِذْ طُعِنَتْ تَفَجَّرُ دَمًا اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ
وَالْعَرْفُ عَرْفُ الْمِسْكِ".
[الحديث 237- طرفاه في5533,2803]
قوله: "حدثنا أحمد بن محمد" أي ابن أبي موسى المروزي المعروف بمردويه،
وعبد الله هو ابن المبارك قوله: "كل كلم" بفتح الكاف وإسكان اللام
"يكلمه" بضم أوله وإسكان الكاف وفتح اللام، أي كل جرح يجرحه.
(1/344)
قوله: "في سبيل الله" قيد يخرج ما يصيب المسلم من الجراحات في غير سبيل الله، وزاد في الجهاد من طريق الأعرج عن أبي هريرة " والله أعلم بمن يكلم في سبيله " وفيه إشارة إلى أن ذلك إنما يحصل لمن خلصت نيته. قوله: "تكون كهيئتها" أعاد الضمير مؤنثا لإرادة الجراحة، ويوضحه رواية القابسي عن أبي زيد المروزي عن الفربري " كل كلمة يكلمها " وكذا هو في رواية ابن عساكر. قوله: "تفجر" بفتح الجيم المشددة وحذف التاء الأولى إذ أصله تتفجر. قوله: "والعرف" بفتح المهملة وسكون الراء الريح، والحكمة في كون الدم يأتي يوم القيامة على هيئته أنه يشهد لصاحبه بفضله وعلى ظالمه بفعله، وفائدة رائحته الطيبة أن تنتشر في أهل الموقف إظهارا لفضيلته أيضا، ومن ثم لم يشرع غسل الشهيد في المعركة. وقد استشكل إيراد المصنف لهذا الحديث في هذا الباب، فقال الإسماعيلي: هذا الحديث لا يدخل في طهارة الدم ولا نجاسته، وإنما ورد في فضل المطعون في سبيل الله. وأجيب بأن مقصود المصنف بإيراده تأكيد مذهبه في أن الماء لا يتنجس بمجرد الملاقاة ما لم يتغير، فاستدل بهذا الحديث على أن تبدل الصفة يؤثر في الموصوف، فكما أن تغير صفة الدم بالرائحة الطيبة أخرجه من الذم إلى المدح فكذلك تغير صفة الماء إذا تغير بالنجاسة يخرجه عن صفة الطهارة إلى النجاسة. وتعقب بأن الغرض إثبات انحصار التنجيس بالتغير وما ذكر يدل على أن التنجيس يحصل بالتغير وهو وفاق، لا أنه لا يحصل إلا به وهو موضع النزاع. وقال بعضهم: مقصود البخاري أن يبين طهارة المسك ردا على من يقول بنجاسته لكونه دما انعقد، فلما تغير عن الحالة المكروهة من الدم وهي الزهم وقبح الرائحة إلى الحالة الممدوحة وهي طيب رائحة المسك دخل عليه الحل وانتقل من حالة النجاسة إلى حالة الطهارة، كالخمرة إذا تخللت. وقال ابن رشيد: مراده أن انتقال الدم إلى الرائحة الطيبة هو الذي نقله من حالة الذم إلى حالة المدح، فحصل من هذا تغليب وصف واحد وهو الرائحة على وصفين وهما الطعم واللون، فيستنبط منه أنه متى تغير أحد الأوصاف الثلاثة بصلاح أو فساد تبعه الوصفان الباقيان، وكأنه أشار بذلك إلى رد ما نقل عن ربيعة وغيره أن تغير الوصف الواحد لا يؤثر حتى يجتمع وصفان، قال: ويمكن أن يستدل به على أن الماء إذا تغير ريحه بشيء طيب لا يسلبه اسم الماء، كما أن الدم لم ينتقل عن اسم الدم مع تغير رائحته إلى رائحة المسك لأنه قد سماه دما مع تغير الريح، فما دام الاسم واقعا على المسمى فالحكم تابع له. ا هـ كلامه. ويرد على الأول أنه يلزم منه أن الماء إذا كانت أوصافه الثلاثة فاسدة ثم تغيرت صفة واحدة منها إلى صلاح أنه يحكم بصلاحه كله، وهو ظاهر الفساد. وعلى الثاني أنه لا يلزم من كونه لم يسلب اسم الماء أن لا يكون موصوفا بصفة تمنع من استعماله مع بقاء اسم الماء عليه والله أعلم. وقال ابن دقيق العيد لما نقل قول من قال إن الدم لما انتقل بطيب رائحته من حكم النجاسة إلى الطهارة ومن حكم القذارة إلى الطيب لتغير رائحته حتى حكم له بحكم المسك وبالطيب للشهيد، فكذلك الماء ينتقل بتغير رائحته من الطهارة إلى النجاسة، قال: هذا ضعيف مع تكلفه.
(1/345)
68 - باب الْبَوْلِ
فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ
238- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ قَالَ أَخْبَرَنَا
أَبُو الزِّنَادِ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ هُرْمُزَ الأَعْرَجَ حَدَّثَهُ
أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ"
[الحديث238- أطرافه في: 7495,7036,68876624,3486,2956,896,876]
(1/345)
239-
وَبِإِسْنَادِهِ قَالَ "لاَ يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ
الَّذِي لاَ يَجْرِي ثُمَّ يَغْتَسِلُ فِيهِ"
قوله: "باب البول في الماء الدائم" أي الساكن، يقال دوم الطائر تدويما
إذا صف جناحيه في الهواء فلم يحركهما. وفي رواية الأصيلي: "باب لا تبولوا في
الماء الدائم " وهي بالمعنى. قوله: "الأعرج" كذا رواه شعيب ووافقه
ابن عيينة فيما رواه الشافعي عنه عن أبي الزناد، وكذا أخرجه الإسماعيلي، ورواه
أكثر أصحاب ابن عيينة عنه عن أبي الزناد عن موسى بن أبي عثمان عن أبيه عن أبي
هريرة، ومن هذا الوجه أخرجه النسائي، وكذا أخرجه أحمد من طريق الثوري عن أبي
الزناد، والطحاوي من طريق عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه، والطريقان معا
صحيحان، ولأبي الزناد فيه شيخان، ولفظهما في سياق المتن مختلف كما سنشير إليه.
قوله: "نحن الآخرون السابقون" اختلف في الحكمة في تقديم هذه الجملة على
الحديث المقصود، فقال ابن بطال: يحتمل أن يكون أبو هريرة سمع ذلك من النبي صلى
الله عليه وسلم مع ما بعده في نسق واحد فحدث بهما جميعا، ويحتمل أن يكون همام فعل
ذلك لأنه سمعهما من أبي هريرة وإلا فليس في الحديث مناسبة للترجمة. قلت: جزم ابن
التين بالأول، وهو متعقب، فإنه لو كان حديثا واحدا ما فصله المصنف بقوله وبإسناده،
وأيضا فقوله: "نحن الآخرون السابقون " طرف من حديث مشهور في ذكر يوم
الجمعة سيأتي الكلام عليه هناك إن شاء الله تعالى، فلو راعى البخاري ما ادعاه لساق
المتن بتمامه. وأيضا فحديث الباب مروي بطرق متعددة عن أبي هريرة في دواوين الأئمة،
وليس في طريق منها في أوله " نحن الآخرون السابقون"، وقد أخرجه أبو نعيم
في المستخرج من طريق أبي اليمان شيخ البخاري بدون هذه الجملة. وقول ابن بطال:
ويحتمل أن يكون همام وهم، تبعه عليه جماعة. وليس لهمام ذكر في هذا الإسناد. وقوله
إنه ليس في الحديث مناسبة للترجمة صحيح، وإن كان غيره تكلف فأبدى بينهما مناسبة
كما سنذكره، والصواب أن البخاري في الغالب يذكر الشيء كما سمعه جملة لتضمنه موضع
الدلالة المطلوبة منه وإن لم يكن باقيه مقصودا، كما صنع في حديث عروة البارقي في
شراء الشاة كما سيأتي بيانه في الجهاد، وأمثلة ذلك في كتابه كثيرة. وقد وقع لمالك
نحو هذا في الموطأ إذ أخرج في باب صلاة الصبح والعتمة متونا بسند واحد أولها
" مر رجل بغصن شوك " وآخرها " لو يعلمون ما في الصبح والعتمة
لأتوهما ولو حبوا " وليس غرضه منها إلا الحديث الأخير لكنه أداها على الوجه
الذي سمعه. قال ابن العربي في القبس: نرى الجهال يتعبون في تأويلها، ولا تعلق
للأول منها بالباب أصلا. وقال غيره: وجه المناسبة بينهما أن هذه الأمة آخر من يدفن
من الأمم في الأرض وأول من يخرج منها، لأن الوعاء آخر ما يوضع فيه أول ما يخرج
منه، فكذلك الماء الراكد آخر ما يقع فيه من البول أول ما يصادف أعضاء المتطهر،
فينبغي أن يجتنب ذلك. ولا يخفى ما فيه. وقيل: وجه المناسبة أن بني إسرائيل وإن
سبقوا في الزمان، لكن هذه الأمة سبقتهم باجتناب الماء الراكد إذا وقع البول فيه،
فلعلهم كانوا لا يجتنبونه. وتعقب بأن بني إسرائيل كانوا أشد مبالغة في اجتناب
النجاسة بحيث كانت النجاسة إذا أصابت جلد أحدهم قرضه، فكيف يظن بهم التساهل في
هذا؟ وهو استبعاد لا يستلزم رفع الاحتمال المذكور. وما قررناه أولى. وقد وقع
البخاري في كتاب التعبير - في حديث أورده من طريق همام عن أبي هريرة مثل هذا -
صدره أيضا بقوله: "نحن الآخرون السابقون " قال: وبإسناده. ولا يتأتى فيه
المناسبة المذكورة مع ما فيها من التكلف. والظاهر أن نسخة أبي الزناد عن الأعرج عن
أبي هريرة كنسخة معمر عن همام عنه، ولهذا قل حديث يوجد في هذه إلا وهو في الأخرى،
(1/346)
وقد اشتملتا على
أحاديث كثيرة أخرج الشيخان غالبا وابتداء كل نسخة منهما حديث: "نحن الآخرون
السابقون"، فلهذا صدر به البخاري فيما أخرجه من كل منهما، وسلك مسلم في نسخة
همام طريقا أخرى فيقول في كل حديث أخرجه منها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فذكر أحاديث منها وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيذكر الحديث الذي يريده
يشير بذلك إلى أنه من أثناء النسخة لا أولها والله أعلم. قوله: "الذي لا
يجري" قيل هو تفسير للدائم وإيضاح لمعناه، وقيل احترز به عن راكد يجري بعضه
كالبرك، وقيل احترز به عن الماء الدائم لأنه جار من حيث الصورة ساكن من حيث
المعنى، ولهذا لم يذكر هذا القيد في رواية أبي عثمان عن أبي هريرة التي تقدمت
الإشارة إليها حيث جاء فيها بلفظ: "الراكد " بدل الدائم، وكذا أخرجه
مسلم من حديث جابر. وقال ابن الإنباري: الدائم من حروف الأضداد يقال للساكن
والدائر، ومنه أصاب الرأس دوام أي دوار، وعلى هذا فقوله: "الذي لا يجري
" صفة مخصصة لأحد معنى المشترك، وقيل الدائم والراكد مقابلان للجاري، لكن
الذي له نبع والراكد الذي لا نبع له. قوله: "ثم يغتسل" بضم اللام على
المشهور. وقال ابن مالك: يجوز الجزم عطفا على يبولن لأنه مجزوم الموضع بلا الناهية،
ولكنه بني على الفتح لتوكيده بالنون. ومنع ذلك القرطبي فقال: لو أراد النهي لقال
ثم لا يغتسلن، فحينئذ يتساوى الأمران في النهي عنهما لأن المحل الذي تواردا عليه
شيء واحد وهو الماء. قال: فعدو له عن ذلك يدل على أنه لم يرد العطف، بل نبه على
مآل الحال، والمعنى أنه إذا بال فيه قد يحتاج إليه فيمتنع عليه استعماله. ومثله
بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يضربن أحدكم امرأته ضرب الأمة ثم يضاجعها
" فإنه لم يروه أحد بالجزم، لأن المراد النهي عن الضرب لأنه يحتاج في مآل
حاله إلى مضاجعتها فتمتنع لإساءته إليها فلا يحصل له مقصوده. وتقدير اللفظ ثم هو
يضاجعها. وفي حديث الباب: "ثم هو يغتسل منه " وتعقب بأنه لا يلزم من
تأكيد النهي أن لا يعطف عليه نهي آخر غير مؤكد، لاحتمال أن يكون للتأكيد في أحدهما
معنى ليس للآخر. قال القرطبي: ولا يجوز النصب، إذ لا تضمر أن بعد ثم، وأجازه ابن
مالك بإعطاء ثم حكم الواو، وتعقبه النووي بأن ذلك يقتضي أن يكون المنهي عنه الجمع
بين الأمرين دون إفراد أحدهما، وضعفه ابن دقيق العيد بأنه لا يلزم أن يدل على
الأحكام المتعددة لفظ واحد، فيؤخذ النهي عن الجمع بينهما من هذا الحديث إن ثبتت
رواية النصب، ويؤخذ النهي عن الإفراد من حديث آخر. قلت: وهو ما رواه مسلم من حديث
جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه " نهى عن البول في الماء الراكد"،
وعنده من طريق أبي السائب عن أبي هريرة بلفظ: "لا يغتسل أحدكم في الماء
الدائم وهو جنب " وروى أبو داود(1) النهي عنهما في حديث واحد ولفظه: "لا
يبولن أحدكم في الماء الدائم ولا يغتسل فيه من الجنابة " واستدل به بعض
الحنفية على تنجيس الماء المستعمل، لأن البول ينجس الماء فكذلك الاغتسال، وقد نهى
عنهما معا وهو للتحريم فيدل على النجاسة فيهما. ورد بأنها دلالة اقتران وهي ضعيفة،
وعلى تقدير تسليمها فلا يلزم التسوية، فيكون النهي عن البول لئلا ينجسه، وعن
الاغتسال فيه لئلا يسلبه الطهورية. ويزيد ذلك وضوحا قوله في رواية مسلم: "كيف
يفعل يا أبا هريرة؟ قال: يتناوله تناولا " فدل على أن المنع من الانغماس فيه
لئلا يصير مستعملا فيمتنع على الغير الانتفاع به، والصحابي أعلم بموارد الخطاب من
غيره. وهذا من أقوى الأدلة على أن المستعمل غير طهور، وقد تقدمت الأدلة
ـــــــ
(1) في مخطوطة الرياض: وابن حبان
(1/347)
على طهارته، ولا فرق في الماء الذي لا يجري في الحكم المذكور بين بول الآدمي وغيره خلافا لبعض الحنابلة، ولا بين أن يبول في الماء أو يبول في إناء ثم يصبه فيه خلافا للظاهرية، وهذا كله محمول على الماء القليل عند أهل العلم على اختلافهم في حد القليل، وقد تقدم قول من لا يعتبر إلا التغير وعدمه، وهو قوي، لكن الفصل بالقلتين أقوى لصحة الحديث فيه، وقد اعترف الطحاوي من الحنفية بذلك لكنه اعتذر عن القول به بأن القلة في العرف تطلق على الكبيرة والصغيرة كالجرة، ولم يثبت من الحديث تقديرهما فيكون مجملا فلا يعمل به، وقواه ابن دقيق العيد، لكن استدل له غيرهما فقال أبو عبيد القاسم بن سلام: المراد القلة الكبيرة، إذ لو أراد الصغيرة لم يحتج لذكر العدد. فإن الصغيرتين قدر واحدة كبيرة، ويرجع في الكبيرة إلى العرف عند أهل الحجاز. والظاهر أن الشارع عليه السلام ترك تحديدهما على سبيل التوسعة، والعلم محيط بأنه ما خاطب الصحابة إلا بما يفهمون، فانتفى الإجمال، لكن لعدم التحديد وقع الخلف بين السلف في مقدارهما على تسعة أقوال حكاها ابن المنذر، ثم حدث بعد ذلك تحديدهما بالأرطال، واختلف فيه أيضا.ونقل عن مالك أنه حمل النهي على التنزيه فيما لا يتغير وهو قول الباقين في الكثير. وقال القرطبي: يمكن حمله على التحريم مطلقا على قاعدة سد الذريعة لأنه يفضي إلى تنجيس الماء. قوله: "ثم يغتسل فيه" كذا هنا. وفي رواية ابن عيينة عن أبي الزناد " ثم يغتسل منه"، وكذا لمسلم من طريق ابن سيرين، وكل من اللفظين يفيد حكما بالنص وحكما بالاستنباط قاله ابن دقيق العيد، ووجهه أن الرواية بلفظ: "فيه: "تدل على منع الانغماس بالنص وعلى منع التناول بالاستنباط، والرواية بلفظ: "منه " بعكس ذلك، وكله مبني على أن الماء ينجس بملاقاة النجاسة. والله أعلم.
(1/348)
باب إذا ألقي على
ظهر المصلي قذر أو جيفة لم تفسد صلاته
...
69 - باب إِذَا أُلْقِيَ عَلَى ظَهْرِ الْمُصَلِّي قَذَرٌ أَوْ جِيفَةٌ لَمْ
تَفْسُدْ عَلَيْهِ صَلاَتُهُ
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا رَأَى فِي ثَوْبِهِ دَمًا وَهُوَ يُصَلِّي وَضَعَهُ
وَمَضَى فِي صَلاَتِهِ وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ وَالشَّعْبِيُّ: "إِذَا
صَلَّى وَفِي ثَوْبِهِ دَمٌ أَوْ جَنَابَةٌ أَوْ لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ أَوْ
تَيَمَّمَ صَلَّى ثُمَّ أَدْرَكَ الْمَاءَ فِي وَقْتِهِ لاَ يُعِيدُ".
قوله: "باب إذا ألقي على ظهر المصلي قذر" بفتح الذال المعجمة، أي شيء
نجس "أو جيفة" أي ميتة لها رائحة. قوله: "لم تفسد" محله ما
إذا لم يعلم بذلك وتمادى، ويحتمل الصحة مطلقا على قول من ذهب إلى أن اجتناب
النجاسة في الصلاة ليس بفرض، وعلى قول من ذهب إلى منع ذلك في الابتداء دون ما
يطرأ، وإليه ميل المصنف، وعليه يتخرج صنيع الصحابي الذي استمر في الصلاة بعد أن
سالت منه الدماء برمي من رماه، وقد تقدم الحديث عن جابر بذلك في باب من لم ير
الوضوء إلا من المخرجين. قوله: "وكان ابن عمر" هذا الأثر وصله ابن أبي
شيبة من طريق برد بن سنان عن نافع أنه " كان إذا كان في الصلاة فرأى في ثوبه
دما فاستطاع أن يضعه وضعه، وإن لم يستطع خرج فغسله ثم جاء، فيبني على ما كان
صلى". وإسناده صحيح، وهو يقتضي أنه كان يرى التفرقة بين الابتداء والدوام،
وهو قول جماعة من الصحابة والتابعين والأوزاعي وإسحاق وأبي ثور. وقال الشافعي
وأحمد: يعيد الصلاة، وقيدها مالك بالوقت فإن خرج فلا قضاء، وفيه بحث يطول، واستدل
للأولين بحديث أبي سعيد أنه صلى الله عليه وسلم خلع نعليه في الصلاة ثم قال:
"إن جبريل أخبرني أن فيهما قذرا " أخرجه أحمد وأبو داود وصححه ابن
خزيمة. وله شاهد من حديث ابن مسعود أخرجه الحاكم ولم يذكر في الحديث إعادة. وهو
اختيار جماعة من الشافعية.
(1/348)
وأما مسألة البناء
على ما مضى فتأتي في كتاب الصلاة إن شاء الله تعالى. قوله: "وقال ابن المسيب
والشعبي" كذا للأكثر وهو الصواب، وللمستملي والسرخسي " وكان " فإن
كانت محفوظة فإفراد قوله: "إذا صلى " على إرادة كل منهما، والمراد
بمسألة الدم ما إذا كان بغير علم المصلي، وكذا الجنابة عند من يقول بنجاسة المني،
وبمسألة القبلة ما إذا كان عن اجتهاد ثم تبين الخطأ، وبمسألة التيمم ما إذا كان
غير واجد للماء، وكل ذلك ظاهر من سياق الآثار الأربعة المذكورة عن التابعيين
المذكورين. وقد وصلها عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة بأسانيد صحيحة
مفرقة أوضحتها في تعليق التعليق، وقد تقدمت الإشارة إلى مسألة الدم، وأما مسألة
التيمم فعدم وجوب الإعادة قول الأئمة الأربعة وأكثر السلف، وذهب جمع من التابعين -
منهم عطاء وابن سيرين ومكحول - إلى وجوب الإعادة مطلقا وأما مسألة بيان الخطأ في
القبلة فقال الثلاثة والشافعي في القديم: لا يعيد، وهو قول الأكثر أيضا. وقال في
الجديد: تجب الإعادة، واستدل للأولين بحديث أخرجه الترمذي من طريق عبد الله بن
عامر بن ربيعة عن أبيه. وقال حسن: لكن ضعفه غيره. وقال العقيلي: لا يروي من وجه
يثبت. وقال ابن العربي: مستند الجديد أن خطأ المجتهد يبطل إذا وجد النص بخلافه.
قال: وهذا لا يتم في هذه المسألة إلا بمكة، وأما في غيرها فلا ينقض الاجتهاد
بالاجتهاد. وأجيب بأن هذه المسألة مصورة فيما إذا تيقن الخطأ فهو انتقال من يقين
الخطأ إلى الظن القوي فليس فيه نقض اجتهاد باجتهاد، والله أعلم.
240- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ شُعْبَةَ عَنْ أَبِي
إِسْحَاقَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ بَيْنَا رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاجِدٌ قَالَ ح و حَدَّثَنِي أَحْمَدُ
بْنُ عُثْمَانَ قَالَ حَدَّثَنَا شُرَيْحُ بْنُ مَسْلَمَةَ قَالَ حَدَّثَنَا
إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ حَدَّثَنِي
عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ حَدَّثَهُ
"أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي عِنْدَ
الْبَيْتِ وَأَبُو جَهْلٍ وَأَصْحَابٌ لَهُ جُلُوسٌ إِذْ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْض
أَيُّكُمْ يَجِيءُ بِسَلَى جَزُورِ بَنِي فُلاَنٍ فَيَضَعُهُ عَلَى ظَهْرِ
مُحَمَّدٍ إِذَا سَجَدَ فَانْبَعَثَ أَشْقَى الْقَوْمِ فَجَاءَ بِهِ فَنَظَرَ
حَتَّى سَجَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَضَعَهُ عَلَى
ظَهْرِهِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ وَأَنَا أَنْظُرُ لاَ أُغْنِي شَيْئًا لَوْ كَانَ لِي
مَنَعَةٌ قَالَ فَجَعَلُوا يَضْحَكُونَ وَيُحِيلُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ
وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاجِدٌ لاَ يَرْفَعُ
رَأْسَهُ حَتَّى جَاءَتْهُ فَاطِمَةُ فَطَرَحَتْ عَنْ ظَهْرِهِ فَرَفَعَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأْسَهُ ثُمَّ قَالَ "اللَّهُمَّ
عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ" ثَلاَثَ مَرَّاتٍ فَشَقَّ عَلَيْهِمْ إِذْ دَعَا
عَلَيْهِمْ قَالَ وَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ الدَّعْوَةَ فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ
مُسْتَجَابَةٌ ثُمَّ سَمَّى "اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِأَبِي جَهْلٍ وَعَلَيْكَ
بِعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَالْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ
وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ وَعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ" وَعَدَّ السَّابِعَ
فَلَمْ يَحْفَظْ قَالَ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ رَأَيْتُ الَّذِينَ عَدَّ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَرْعَى فِي الْقَلِيبِ
قَلِيبِ بَدْرٍ
[الحديث 240- أطرافه في: 3960,3854,3185,2934,520]
قوله: "حدثنا عبدان" أعاده المصنف في أواخر الجزية عنه فقال: حدثنا
عبدان هو عبد الله بن عثمان، وعرفنا من سياقه هناك أن اللفظ هنا لرواية أحمد بن
عثمان، وإنما قرنها برواية عبدان تقوية لها لأن في إبراهيم
(1/349)
ابن يوسف مقالا، وأحمد المذكور هو ابن عثمان من حكيم الأودي الكوفي وهو من صغار شيوخ البخاري، وله في هذا الحديث إسناد آخر أخرجه النسائي عنه عن خالد بن مخلد عن علي بن صالح عن أبي إسحاق، ورجال إسناده جميعا كوفيون، وأبو إسحاق هو السبيعي، ويوسف الراوي عنه هو ابن ابنه إسحاق، وأفادت روايته التصريح بالتحديث لأبي إسحاق عن عمرو بن ميمون، ولعمرو عن عبد الله، وعينت أيضا عبد الله بأنه ابن مسعود، وعمرو بن ميمون هو الأودي تابعي كبير مخضرم، أسلم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يره، ثم نزل الكوفة، وهو غير عمرو بن ميمون الجزري الذي تقدم قريبا. وهذا الحديث لا يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا بإسناد أبي إسحاق هذا، وقد رواه الشيخان من طريق الثوري، والبخاري أيضا من طريق إسرائيل وزهير، ومسلم من رواية زكريا بن أبي زائدة، وكلهم عن أبي إسحاق. وسنذكر ما في اختلاف رواياتهم من الفوائد مبينا إن شاء الله تعالى. قوله: "بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ساجد" بقيته من رواية عبدان المذكور " وحوله ناس من قريش من المشركين " ثم ساق الحديث مختصرا. قوله: "أن عبد الله" في رواية الكشميهني عن عبد الله. قوله: "وأبو جهل وأصحاب له" هم السبعة المدعو عليهم بعد، بينه البزار من طريق الأجلح عن أبي إسحاق. قوله: "إذ قال بعضهم" هو أبو جهل، سماه مسلم من رواية زكريا المذكورة وزاد فيه: "وقد نحرت جزور بالأمس"، والجزور من الإبل ما يجزر أي يقطع، وهو بفتح الجيم، والسلى مقصور بفتح المهملة هي الجلدة التي يكون فيها الولد يقال لها ذلك من البهائم، وأما من الآدميات فالمشيمة، وحكى صاحب المحكم أنه يقال فيهن أيضا سلى. قوله: "فيضعه" زاد في رواية إسرائيل " فيعمد إلى فرثها ودمها وسلاها ثم يمهله حتى يسجد". قوله: "فانبعث أشقى القوم" للكشميهني والسرخسي " أشقى قوم " بالتنكير ففيه مبالغة، لكن المقام يقتضي الأول، لأن الشقاء هنا بالنسبة إلى أولئك الأقوام فقط كما سنقرره بعد، وهو عقبة بن أبي معيط بمهملتين مصغرا سماه شعبة، وفي سياقه عند المصنف اختصار يوهم أنه فعل ذلك ابتداء. وقد ساقه أبو داود الطيالسي في مسنده عن شعبة نحو رواية يوسف هذه وقال فيه: فجاء عقبة بن أبي معيط فقذفه على ظهره. قوله: "لا أغنى" كذا للأكثر، وللكشميهني والمستملي: "لا أغير"، ومعناهما صحيح، أي لا أغنى في كف شرهم، أو لا أغير شيئا من فعلهم. قوله: "لو كانت لي منعة" قاله النووي: المنعة بفتح النون القوة، قال وحكى الإسكان وهو ضعيف. وجزم القرطبي بسكون النون قال: ويجوز الفتح على أنه جمع مانع ككاتب وكتبة، وقد رجح القزاز والهروي الإسكان في المفرد، وعكس ذلك صاحب إصلاح المنطق وهو معتمد النووي قال: وإنما قال ذلك لأنه لم يكن له بمكة عشيرة، لكونه هذليا حليفا وكان حلفاؤه إذ ذاك كفارا. وفي الكلام حذف تقديره: لطرحته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصرح به مسلم في رواية زكريا، وللبزار " فأنا أرهب - أي أخاف - منهم". قوله: "ويحيل بعضهم" كذا هنا بالمهملة من الإحالة، والمراد أن بعضهم ينسب فعل ذلك إلى بعض بالإشارة تهكما، ويحتمل أن يكون من حال يحيل بالفتح إذا وثب على ظهر دابته، أي يثب بعضهم على بعض من المرح والبطر، ولمسلم من رواية زكريا " ويميل " بالميم، أي من كثرة الضحك، وكذا للمصنف من رواية إسرائيل. قوله: "فاطمة" هي بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، زاد إسرائيل " وهي جويرية، فأقبلت تسعى، وثبت النبي صلى الله عليه وسلم ساجدا". قوله: "فطرحته" كذا للأكثر، وللكشميهني بحذف المفعول، زاد إسرائيل " وأقبلت عليهم تشتمهم " زاد البزار " فلم يردوا عليها شيئا". قوله: "فرفع رأسه" زاد البزار من رواية زيد بن أبي أنيسة عن أبي إسحاق " فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
(1/350)
أما بعد اللهم " قال البزار: تفرد بقوله: "أما بعد " زيد. قوله: "ثم قال" شعر بمهلة بين الرفع والدعاء، وهو كذلك، ففي رواية الأجلح عند البزار " فرفع رأسه كما كان يرفعه عند تمام سجوده، فلما قضى صلاته قال: "اللهم " ولمسلم والنسائي نحوه، والظاهر منه أن الدعاء المذكور وقع خارج الصلاة، لكن وقع وهو مستقبل الكعبة كما ثبت من رواية زهير عن أبي إسحاق عند الشيخين. قوله: "عليك بقريش" أي بإهلاك قريش، والمراد الكفار منهم أو من سمى منهم، فهو عام أريد به الخصوص. قوله: "ثلاث مرات" كرره إسرائيل في روايته لفظا لا عددا، وزاد مسلم في رواية زكريا " وكان إذا دعا دعا ثلاثا، وإذا سأل سأل ثلاثا". قوله: "فشق عليهم" ولمسلم من رواية زكريا " فلما سمعوا صوته ذهب عنهم الضحك وخافوا دعوته". قوله: "وكانوا يرون" بفتح أوله في روايتنا من الرأي أي يعتقدون، وفي غيرها بالضم أي يظنون، والمراد بالبلد مكة. ووقع في مستخرج أبي نعيم من الوجه الذي أخرجه منه البخاري " في الثالثة " بدل قوله في ذلك البلد، ويناسبه قوله: "ثلاث مرات " ويمكن أن يكون ذلك مما بقي عندهم من شريعة إبراهيم عليه السلام. قوله: "ثم سمى" أي فصل من أجمل. قوله: "بأبي جهل" في رواية إسرائيل بعمرو بن هشام وهو اسم أبي جهل، فلعله سماه وكناه معا. قوله: "والوليد بن عتبة" هو ولد المذكور بعد أبي جهل، ولم تختلف الروايات في أنه بعين مهملة بعدها مثناة ساكنة ثم موحدة، لكن عند مسلم من رواية زكريا بالقاف بدل المثناة، وهو وهم قديم نبه عليه ابن سفيان الراوي عن مسلم، وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق شيخ مسلم على الصواب. قوله: "وأمية بن خلف" في رواية شعبة " أو أبي بن خلف " شك شعبة، وقد ذكر المصنف الاختلاف فيه عقيب رواية الثوري في الجهاد وقال: الصحيح أمية، لكن وقع عنده هناك " أبي بن خلف " وهو وهم معه أو من شيخه أبي بكر عبد الله بن أبي شيبة إذ حدثه فقد رواه شيخه أبو بكر في مسنده فقال: "أمية " وكذا رواه مسلم عن أبي بكر والإسماعيلي وأبو نعيم من طريق أبي بكر كذلك وهو الصواب، وأطبق أصحاب المغازي على أن المقتول ببدر أمية، وعلى أن أخاه أبيا قتل بأحد، وسيأتي في المغازي قتل أمية ببدر إن شاء الله تعالى. قوله: "وعد السابع فلم نحفظه" وقع في روايتنا بالنون وهي للجمع، وفي غيرها بالياء التحتانية. قال الكرماني فاعل عد رسول الله صلى الله عليه وسلم أو ابن مسعود وفاعل " فلم نحفظه " ابن مسعود أو عمرو ابن ميمون قلت: ولا أدري من أين تهيأ له الجزم بذلك مع أن في رواية الثوري عند مسلم ما يدل على أن فاعل " فلم نحفظه " أبو إسحاق ولفظه: "قال أبو إسحاق ونسيت السابع"، وعلى هذا ففاعل عد عمرو بن ميمون، على أن أبا إسحاق قد تذكره مرة أخرى فسماه عمارة بن الوليد، كذا أخرجه المصنف في الصلاة من رواية إسرائيل عن ابن إسحاق، وسماع إسرائيل من أبي إسحاق في غاية الإتقان للزومه إياه لأنه جده، وكان خصيصا به، قال عبد الرحمن بن مهدي: ما فاتني الذي فاتني من حديث الثوري عن أبي إسحاق إلا اتكالا على إسرائيل، لأنه كان يأتي به أتم. وعن إسرائيل قال: كنت أحفظ حديث أبي إسحاق كما احفظ سورة الحمد، واستشكل بعضهم عد عمارة بن الوليد في المذكورين لأنه لم يقتل ببدر بل ذكر أصحاب المغازي أنه مات بأرض الحبشة، وله قصة من النجاشي إذ تعرض لامرأته فأمر النجاشي ساحرا فنفخ في إحليل عمارة من سحره عقوبة له فتوحش وصار مع البهائم إلى أن مات في خلافة عمر وقصته مشهورة. والجواب أن كلام ابن مسعود في أنه رآهم صرعى في القليب محمول على الأكثر، ويدل عليه أن عقبة بن أبي معيط لم يطرح في القليب وإنما قتل صبرا بعد أن رحلوا عن بدر مرحلة، وأمية بن خلف لم يطرح في القليب كما هو بل
(1/351)
مقطعا كما سيأتي، وسيأتي في المغازي كيفية مقتل المذكورين ببدر وزيادة بيان في أحوالهم إن شاء الله تعالى. قوله: "قال" أي ابن مسعود، والمراد باليد هنا القدرة. وفي رواية مسلم: "والذي بعث محمدا بالحق " وللنسائي: "والذي أنزل عليه الكتاب " وكأن عبد الله قال ذلك تأكيدا. قوله: "صرعى في القليب" في رواية إسرائيل " لقد رأيتهم صرعى يوم بدر ثم سحبوا إلى القليب قليب بدر " ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وأتبع أصحاب القليب لعنة " وهذا يحتمل أن يكون من تمام الدعاء الماضي، فيكون فيه علم عظيم من أعلام النبوة، ويحتمل أن يكون قاله النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن ألقوا في القليب، وزاد شعبة في روايته: "إلا أمية فإنه تقطعت أوصاله " زاد: "لأنه كان بادنا"، قال العلماء: وإنما أمر بإلقائهم فيه لئلا يتأذى الناس بريحهم، وإلا فالحربي لا يجب دفنه، والظاهر أن البئر لم يكن فيها ماء معين. قوله: "قليب بدر" بالجر على البدلية، والقليب بفتح القاف وآخره موحدة هو البئر التي لم تطو وقيل العادية القديمة التي لا يعرف صاحبها. "فائدة": روى هذا الحديث ابن إسحاق في المغازي قال: حدثني الأجلح عن أبي إسحاق فذكر هذا الحديث، وزاد في آخره قصة أبي البختري مع النبي صلى الله عليه وسلم في سؤاله إياه عن القصة، وضرب أبي البختري أبا جهل وشجه إياه، والقصة مشهورة في السيرة، وأخرجها البزار من طريق أبي إسحاق وأشار إلى تفرد الأجلح بها عن أبي إسحاق، وفي الحديث تعظيم الدعاء بمكة عند الكفار، وما ازدادت عند المسلمين إلا تعظيما. وفيه معرفة الكفار بصدقه صلى الله عليه وسلم لخوفهم من دعائه، ولكن حملهم الحسد على ترك الانقياد له، وفيه حلمه صلى الله عليه وسلم عمن آذاه، ففي رواية الطيالسي عن شعبة في هذا الحديث أن ابن مسعود قال: لم أره دعا عليهم إلا يومئذ. وإنما استحقوا الدعاء حينئذ لما أقدموا عليه من الاستخفاف به صلى الله عليه وسلم حال عبادة ربه. وفيه استحباب الدعاء ثلاثا، وقد تقدم في العلم استحباب السلام ثلاثا وغير ذلك. وفيه جواز الدعاء على الظالم، لكن قال بعضهم: محله ما إذا كان كافرا، فأما المسلم فيستحب الاستغفار له والدعاء بالتوبة، ولو قيل: لا دلالة فيه على الدعاء على الكافر لما كان بعيدا لاحتمال أن يكون اطلع صلى الله عليه وسلم على أن المذكورين لا يؤمنون، والأولى أن يدعي لكل حي بالهداية. وفيه قوة نفس فاطمة الزهراء من صغرها، لشرفها في قومها ونفسها، لكونها صرخت بشتمهم وهم رءوس قريش، فلم يردوا عليها. وفيه أن المباشرة آكد من السبب والإعانة لقوله في عقبة " أشقى القوم " مع أنه كان فيهم أبو جهل وهو أشد منه كفرا وأذى للنبي صلى الله عليه وسلم لكن الشقاء هنا بالنسبة إلى هذه القصة لأنهم اشتركوا في الأمر والرضا وانفرد عقبة بالمباشرة فكان أشقاهم، ولهذا قتلوا في الحرب وقتل هو صبرا. واستدل به على أن من حدث له في صلاته ما يمنع انعقادها ابتداء لا تبطل صلاته ولو تمادى، وعلى هذا ينزل كلام المصنف، فلو كانت نجاسة فأزالها في الحال ولا أثر لها صحت اتفاقا، واستدل به على طهارة فرث ما يؤكل لحمه، وعلى أن إزالة النجاسة ليست بفرض وهو ضعيف، وحمله على ما سبق أولى. وتعقب الأول بأن الفرث لم يفرد بل كان مع الدم كما في رواية إسرائيل، والدم نجس اتفاقا. وأجيب بأن الفرث والدم كانا داخل السلى وجلدة السلى الظاهرة طاهرة فكان كحمل القارورة المرصصة. وتعقب بأنها ذبيحة وثنى، فجميع أجزائها نجسة لأنها ميتة، وأجيب بأن ذلك كان قبل التعبد بتحريم ذبائحهم، وتعقب بأنه يحتاج إلى تاريخ ولا يكفي فيه الاحتمال. وقال النووي: الجواب المرضي أنه صلى الله عليه وسلم لم يعلم ما وضع على ظهره، فاستمر في سجوده استصحابا لأصل الطهارة. وتعقب بأنه يشكل على قولنا بوجوب الإعادة في مثل هذه الصورة.وأجاب بأن الإعادة إنما تجب في الفريضة. فإن ثبت أنها فريضة فالوقت موسع فلعله أعاد. وتعقب بأنه لو أعاد لنقل ولم
(1/352)
ينقل، وبأن الله تعالى لا يقره على التمادي في صلاة فاسدة. وقد تقدم أنه خلع نعليه وهو في الصلاة لأن جبريل أخبره أن فيهما قذرا، ويدل على أنه علم بما ألقى على ظهره أن فاطمة ذهبت به قبل أن يرفع رأسه، وعقب هو صلاته بالدعاء عليهم، والله أعلم.
(1/353)
3 - باب الْبُزَاقِ
وَالْمُخَاطِ وَنَحْوِهِ فِي الثَّوْبِ
قَالَ عُرْوَةُ عَنْ الْمِسْوَرِ وَمَرْوَانَ خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَمَنَ حُدَيْبِيَةَ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ
وَمَا تَنَخَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُخَامَةً إِلاَّ
وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ
241- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ حُمَيْدٍ
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ بَزَقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي ثَوْبِهِ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ طَوَّلَهُ ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ
قَالَ أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ حَدَّثَنِي حُمَيْدٌ قَالَ سَمِعْتُ
أَنَسًا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[الحديث241-أطرافه 1214,822,532,531,417,413,412,405]
قوله: "باب البصاق" كذا في روايتنا، وللأكثر بالزاي وهي لغة فيه، وكذا
السين وضعفت. قوله: "في الثوب" أي والبدن ونحوه، ودخول هذا في أبواب
الطهارة من جهة أنه لا يفسد الماء لو خالطه. قوله: "وقال عروة" هو ابن
الزبير، ومروان هو ابن الحكم، وأشار بهذا التعليق إلى الحديث الطويل في قصة الحديبية،
وسيأتي بتمامه في الشروط من طريق الزهري عن عروة، وقد علق منه موضعا آخر كما مضى
في باب استعمال فضل وضوء الناس. قوله: "فذكر الحديث" يعني وفيه:
"وما تنخم"، وغفل الكرماني فظن أن قوله: "وما تنخم. إلخ "
حديث آخر فجوز أن يكون الراوي ساق الحديثين سوقا واحدا، أو يكون أمر التنخم وقع
بالحديبية. انتهى. ولو راجع الموضع الذي ساق المصنف فيه الحديث تاما لظهر له
الصواب. والنخامة بالضم هي النخاعة كذا في المجمل والصحاح، وقيل بالميم ما يخرج من
الفم، وبالعين ما يخرج من الحلق. والغرض من هذا الاستدلال على طهارة الريق ونحوه.
وقد نقل بعضهم فيه الإجماع، لكن روى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن إبراهيم النخعي
أنه ليس بطاهر. وقال ابن حزم: صح عن سليمان الفارسي وإبراهيم النخعي أن اللعاب نجس
إذا فارق الفم. قوله: "حدثنا محمد بن يوسف" هو الفريابي، وسفيان هو
الثوري. وقد روى أبو نعيم في مستخرجه هذا الحديث من طريق الفريابي وزاد في آخره:
"وهو في الصلاة". قوله: "طوله ابن أبي مريم" هو سعيد بن الحكم
المصري أحد شيوخ البخاري، نسب إلى جده. وأفادت روايته تصريح حميد بالسماع له من
أنس، خلافا لما روى يحيى القطان عن حماد بن سلمة أنه قال: حديث حميد عن أنس في
البزاق إنما سمعه من ثابت عن أبي نضرة، فظهر أن حميدا لم يدلس فيه. ومفعول سمعت
الثاني محذوف للعلم به، والمراد أنه كالمتن الذي قبله مع زيادات فيه. وقد وقع
مطولا أيضا عند المصنف في الصلاة كما سيأتي في باب حك البزاق باليد في المسجد.
(1/353)
- باب لاَ يَجُوزُ
الْوُضُوءُ بِالنَّبِيذِ وَلاَ الْمُسْكِرِ.وَكَرِهَهُ الْحَسَنُ وَأَبُو
الْعَالِيَةِ
وَقَالَ: عَطَاءٌ التَّيَمُّمُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ الْوُضُوءِ بِالنَّبِيذِ
وَاللَّبَنِ
(1/353)
72 - باب غَسْلِ
الْمَرْأَةِ أَبَاهَا الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: "امْسَحُوا عَلَى رِجْلِي فَإِنَّهَا
مَرِيضَةٌ"
243- حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ
أَبِي حَازِمٍ سَمِعَ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ السَّاعِدِيَّ وَسَأَلَهُ النَّاسُ وَمَا
بَيْنِي وَبَيْنَهُ أَحَدٌ بِأَيِّ شَيْءٍ دُووِيَ جُرْحُ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مَا بَقِيَ أَحَدٌ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي كَانَ
عَلِيٌّ يَجِيءُ
(1/354)
بِتُرْسِهِ فِيهِ
مَاءٌ وَفَاطِمَةُ تَغْسِلُ عَنْ وَجْهِهِ الدَّمَ فَأُخِذَ حَصِيرٌ فَأُحْرِقَ
فَحُشِيَ بِهِ جُرْحُهُ".
[الحديث243- أطرافه في:5722,5248,4075,3037,2911,2903]
قوله: "باب غسل المرأة أباها" نصوب على المفعولية، والدم منصوب على
الاختصاص، أو على البدل، وهو إما اشتمال أو بعض من كل. ووقع في رواية ابن عساكر:
"غسل المرأة الدم عن وجه أبيها " وهو بالمعنى. قوله: "عن
وجهه" في رواية الكشميهني: "من وجهه " و " عن " في رواية
غيره إما بمعنى من أو ضمن الغسل معنى الإزالة، وهذه الترجمة معقودة لبيان أن إزالة
النجاسة ونحوها يجوز الاستعانة فيها كما تقدم في الوضوء، وبهذا يظهر مناسبة أثر
أبي العالية لحديث سهل. قوله: "وقال أبو العالية" هو الرياحي بكسر الراء
وياء تحتانية، وأثره هذا وصله عبد الرزاق عن معمر عن عاصم بن سليمان قال: دخلنا
على أبي العالية وهو وجع فوضوؤه، فلما بقيت إحدى رجليه قال: امسحوا على هذه فإنها
مريضة، وكان بها حمرة. وزاد ابن أبي شيبة: "إنها كانت معصوبة". قوله:
"حدثنا محمد" قال أبو علي الجياني: لم ينسبه أحد من الرواة، وهو عندي
ابن سلام. قلت: وبذلك جزم أبو نعيم في المستخرج. وقد وقع في رواية ابن عساكر:
"حدثنا محمد يعني ابن سلام ": قوله: "وسأله الناس" جملة
حالية، وأراد بقوله: "وما بيني وبينه أحد " أي عند السؤال، ليكون دل على
صحة سماعه لقربه منه. قوله: "دوى" بضم الدال على البناء للمجهول، وحذفت
إحدى الواوين في الكتابة كداود. قوله: "ما بقي أحد" إنما قال ذلك لأنه
كان آخر من بقي من الصحابة بالمدينة كما صرح به المصنف في النكاح في روايته عن
قتيبة عن سفيان، ووقع في رواية الحميدي عن سفيان " اختلف الناس بأي شيء دوى
جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيأتي ذكر سبب هذا الجرح وتسمية فاعله في
المغازي في وقعة أحد إن شاء الله تعالى. وكان بينها وبين تحديث سهل بذلك أكثر من
ثمانين سنة. قوله: "فأخذ" بضم الهمزة على البناء للمجهول، وله في الطب
" فلما رأت فاطمة الدم يزيد على الماء كثرة عمدت إلى حصير فأحرقتها وألصقتها
على الجرح فرقأ الدم " وفي هذا الحديث مشروعية التداوي، ومعالجة الجراح،
واتخاذ الترس في الحرب، وأن جميع ذلك لا يقدح في التوكل لصدوره من سيد المتوكلين.
وفيه مباشرة المرأة لأبيها، وكذلك لغيره من ذوي محارمها، ومداواتها لأمراضهم، وغير
ذلك مما يأتي الكلام عليه في المغازي إن شاء الله تعالى.
(1/355)
73 - باب
السِّوَاكِ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِتُّ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَاسْتَنَّ
244- حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ
غَيْلاَنَ بْنِ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: "أَتَيْتُ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَجَدْتُهُ يَسْتَنُّ بِسِوَاكٍ
بِيَدِهِ يَقُولُ أُعْ أُعْ وَالسِّوَاكُ فِي فِيهِ كَأَنَّه يَتَهَوَّعُ
قوله: "باب السواك" هو بكسر السين على الأفصح، ويطلق على الآلة وعلى
الفعل وهو المراد هنا. قوله: "وقال ابن عباس" هذا التعليق سقط من رواية
المستملي، وهو طرف من حديث طويل في قصة مبيت ابن عباس عند خالته ميمونة ليشاهد
صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالليل، وقد وصله المؤلف من طرق: منها بلفظه هذا في
تفسير آل عمران واقتضى كلام عبد الحق أنه بهذا اللفظ من أفراد مسلم وليس بجيد
قوله: "عن أبي بردة" هو ابن أبي موسى الأشعري. قوله: "يستن"
بفتح أوله وسكون المهملة وفتح المثناة وتشديد النون من السن بالكسر أو الفتح إما
(1/355)
لأن السواك يمر على
الأسنان، أو لأنه يسنها أي يحددها. قوله: "يقول" أي النبي صلى الله عليه
وسلم، أو السواك مجازا. قوله: "أع أع" بضم الهمزة وسكون المهملة، كذا في
رواية أبي ذر، وأشار ابن التين إلى أن غيره رواه بفتح الهمزة، ورواه النسائي وابن
خزيمة عن أحمد بن عبدة عن حماد بتقديم العين على الهمزة، وكذا أخرجه البيهقي من
طريق إسماعيل القاضي عن عارم - وهو أبو النعمان - شيخ البخاري فيه، ولأبي داود
بهمزة مكسورة ثم هاء، وللجوزقي بخاء معجمة بدل الهاء، والرواية الأولى أشهر، وإنما
اختلف الرواة لتقارب مخارج هذه الأحرف، كلها ترجع إلى حكاية صوته إذ جعل السواك
على طرف لسانه كما عند مسلم، والمراد طرفه الداخل كما عند أحمد " يستن إلى
فوق " ولهذا قال هنا " كأنه يتهوع " والتهوع التقيؤ، أي له صوت
كصوت المتقيئ على سبيل المبالغة. ويستفاد منه مشروعية السواك على اللسان طولا، أما
الأسنان فالأحب فيها أن تكون عرضا، وفيه حديث مرسل عند أبي داود، وله شاهد موصول
عند العقيلي في الضعفاء وفيه تأكيد السواك وأنه لا يختص بالأسنان، وأنه من باب
التنظيف والتطيب لا من باب إزالة القاذورات، لكونه صلى الله عليه وسلم لم يختف به،
وبوبوا عليه " استياك الإمام بحضرة رعيته".
245- حَدَّثَنَا عُثْمَانُ قَالَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي
وَائِلٍ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ "كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ يَشُوصُ فَاهُ بِالسِّوَاكِ"
[الحديث245- طرفاهفي:1136,889]
قوله: "عن حذيفة" هو ابن اليمان، والإسناد كله كوفيون. قوله:
"يشوص" بضم المعجمة وسكون الواو بعدها مهملة، والشوص بالفتح الغسل
والتنظيف، كذا في الصحاح. وفي المحكم الغسل عن كراع والتنقية عن أبي عبيد والدلك
عن ابن الإنباري، وقيل الإمرار على الأسنان من أسفل إلى فوق، واستدل قائله بأنه
مأخوذ من الشوصة وهي ريح ترفع القلب عن موضعه، عكسه الخطابي فقال: هو دلك الأسنان
بالسواك أو الأصابع عرضا، قال ابن دقيق العيد: فيه استحباب السواك عند القيام من
النوم لأن النوم مقتض لتغير الفم لما يتصاعد إليه من أبخرة المعدة، والسواك آلة
تنظيفه فيستحب عند مقتضاه، قال: وظاهر قوله: "من الليل " عام في كل
حالة، ويحتمل أن يخص بما إذا قام إلى الصلاة. قلت: ويدل عليه رواية المصنف في
الصلاة بلفظ: "إذا قام للتهجد " ولمسلم نحوه، وحديث ابن عباس يشهد له،
وكأن ذلك هو السر في ذكره في الترجمة. وقد ذكر المصنف كثيرا من أحكام السواك في
الصلاة وفي الصيام كما ستأتي في أماكنها إن شاء الله تعالى.
.
(1/356)
3 - باب دَفْعِ
السِّوَاكِ إِلَى الأَكْبَرِ
246- وَقَالَ عَفَّانُ حَدَّثَنَا صَخْرُ بْنُ جُوَيْرِيَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ
ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ
"أَرَانِي أَتَسَوَّكُ بِسِوَاكٍ فَجَاءَنِي رَجُلاَنِ أَحَدُهُمَا أَكْبَرُ
مِنْ الْآخَرِ فَنَاوَلْتُ السِّوَاكَ الأَصْغَرَ مِنْهُمَا فَقِيلَ لِي كَبِّرْ
فَدَفَعْتُهُ إِلَى الأَكْبَرِ مِنْهُمَا" قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ اخْتَصَرَهُ
نُعَيْمٌ عَنْ ابْن الْمُبَارَكِ عَنْ أُسَامَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ
قوله: "باب دفع السواك إلى الأكبر" وقال عفان قال الإسماعيلي: أخرجه
البخاري بلا رواية. قلت: وقد وصله أبو عوانة في صحيحه عن محمد بن إسحاق الصغاني
وغيره عن عفان، وكذا أخرجه أبو نعيم والبيهقي من طريقه.
(1/356)
قوله: "أراني" بفتح الهمزة من الرؤية، ووهم من ضمها. وفي رواية المستملي: "رآني " بتقديم الراء والأول أشهر، ولمسلم من طريق علي بن نصر الجهضمي عن صخر " أراني في المنام " وللإسماعيلي: "رأيت في المنام " فعلى هذا فهو من الرؤيا. قوله: "فقيل لي" قائل ذلك له جبريل عليه السلام كما سيذكر من رواية ابن المبارك. قوله: "كبر" أي قدم الأكبر في السن. قوله: "قال أبو عبد الله" أي البخاري "اختصره" أي المتن "نعيم" هو ابن حماد، وأسامة هو ابن زيد الليثي المدني، ورواية نعيم هذه وصلها الطبراني في الأوسط عن بكر بن سهل عنه بلفظ: "أمرني جبريل أن أكبر " ورويناها في الغيلانيات من رواية أبي بكر الشافعي عن عمر بن موسى عن نعيم بلفظ: "أن أقدم الأكابر " وقد رواه جماعة من أصحاب ابن المبارك عنه بغير اختصار أخرجه أحمد والإسماعيلي والبيهقي عنهم بلفظ: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستن، فأعطاه أكبر القوم، ثم قال: إن جبريل أمرني أن أكبر"، وهذا يقتضي أن تكون القضية وقعت في اليقظة. ويجمع بينه وبين رواية صخر أن ذلك لما وقع في اليقظة أخبرهم صلى الله عليه وسلم بما رآه في النوم تنبيها على أن أمره بذلك بوحي متقدم، فحفظ بعض الرواة ما لم يحفظ بعض. ويشهد لرواية ابن المبارك ما رواه أبو داود بإسناد حسن عن عائشة قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستن وعنده رجلان، فأوحى إليه أن أعط السواك الأكبر " قال ابن بطال: فيه تقديم ذي السن في السواك، ويلتحق به الطعام والشراب والمشي والكلام. وقال المهلب: هذا ما لم يترتب القوم في الجلوس، فإذا ترتبوا فالسنة حينئذ تقدم الأيمن، وهو صحيح، وسيأتي الحديث فيه في الأشربة، وفيه أن استعمال سواك الغير ليس بمكروه، إلا أن المستحب أن يغسله ثم يستعمله، وفيه حديث عن عائشة في سنن أبي داود قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيني السواك لأغسله فأبدأ به فأستاك ثم أغسله ثم أدفعه إليه " وهذا دال على عظيم أدبها وكبير فطنتها، لأنها لم تغسله ابتداء حتى لا يفوتها الاستشفاء بريقه صلى الله عليه وسلم، ثم غسلته تأدبا وامتثالا. ويحتمل أن يكون المراد بأمرها بغسله تطييبه وتليينه بالماء قبل أن يستعمله، والله أعلم.
(1/357)
- باب فَضْلِ مَنْ
بَاتَ عَلَى الْوُضُوءِ
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ
أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ عَنْ
الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِذَا
أَتَيْتَ مَضْجَعَكَ فَتَوَضَّأْ وُضُوءَكَ لِلصَّلاَةِ ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى
شِقِّكَ الأَيْمَنِ ثُمَّ قُلْ اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ
وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ رَغْبَةً وَرَهْبَةً
إِلَيْكَ لاَ مَلْجَأَ وَلاَ مَنْجَا مِنْكَ إِلاَّ إِلَيْكَ اللَّهُمَّ آمَنْتُ
بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ فَإِنْ مُتَّ
مِنْ لَيْلَتِكَ فَأَنْتَ عَلَى الْفِطْرَةِ وَاجْعَلْهُنَّ آخِرَ مَا تَتَكَلَّمُ
بِهِ قَالَ فَرَدَّدْتُهَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَلَمَّا بَلَغْتُ اللَّهُمَّ آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ قُلْتُ
وَرَسُولِكَ قَالَ "لاَ وَنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ"
[الحديث247- أطرافه في:7488,6315,6313,6311]
قوله: "باب فضل من بات على الوضوء" ولغير أبي ذر على وضوء(1). قوله:
"أخبرنا عبد الله" هو ابن
ـــــــ
(1)في شرح القسطلاني"باب من بات على الوضوء" بالألف واللام ولأبي ذر
وأبي الوقت والأصيلي "وضوء" بالتنكير
(1/357)
المبارك، وسفيان هو
الثوري، ومنصور هو ابن المعتمر. أن يكون مخصوصا بمن كان محدثا. ووجه مناسبته
للترجمة من قوله: "فإن مت من ليلتك فأنت على الفطرة " والمراد بالفطرة
السنة. وقد روى هذا الحديث الشيخان وغيرهما من طرق عن البراء، وليس فيها ذكر
الوضوء إلا في هذه الرواية، وكذا قال الترمذي. وقد ورد في الباب حديث عن معاذ بن
جبل أخرجه أبو داود، وحديث عن على أخرجه البزار، وليس واحد منهما على شرط البخاري،
وسيأتي الكلام على فوائد هذا المتن في كتاب الدعوات إن شاء الله تعالى. قوله:
"واجعلهن آخر ما تقول" في رواية الكشميهني: "من آخر " وهي
تبين أنه لا يمتنع أن يقول بعدهن شيئا مما شرع من الذكر عند النوم. قوله:
"قال لا ونبيك الذي أرسلت" قال الخطابي: فيه حجة لمن منع رواية الحديث
على المعنى، قال: ويحتمل أن يكون أشار بقوله: "ونبيك " إلى أنه كان نبيا
قبل أن يكون رسولا، أو لأنه ليس في قوله: "ورسولك الذي أرسلت " وصف زائد
بخلاف قوله: "ونبيك الذي أرسلت " وقال غيره ليس فيه حجة على منع ذلك،
لأن لفظ الرسول ليس بمعنى لفظ النبي، ولا خلاف في المنع إذا اختلف المعنى، فكأنه
أراد أن يجمع الوصفين صريحا وإن كان وصف الرسالة يستلزم وصف النبوة، أو لأن ألفاظ
الأذكار توقيفية في تعيين اللفظ وتقدير الثواب، فربما كان في اللفظ سر ليس في
الآخر ولو كان يرادفه في الظاهر، أو لعله أوحى إليه بهذا اللفظ فرأى أن يقف عنده،
أو ذكره احترازا ممن أرسل من غير نبوه كجبريل وغيره من الملائكة لأنهم رسل لا
أنبياء، فلعله أراد تخليص الكلام من اللبس، أو لأن لفظ النبي أمدح من لفظ الرسول لأنه
مشترك في الإطلاق على كل من أرسل بخلاف لفظ النبي فإنه لا اشتراك فيه عرفا، وعلى
هذا فقول من قال كل رسول نبي من غير عكس لا يصح إطلاقه. وأما من استدل به على أنه
لا يجوز إبدال لفظ قال نبي الله مثلا في الرواية بلفظ قال رسول الله وكذا عكسه ولو
أجزنا الرواية بالمعنى فلا حجة فيه، وكذا لا حجة فيه لمن أجاز الأول دون الثاني
لكون الأول أخص من الثاني، لأنا نقول: الذات المخبر عنها في الرواية واحدة فبأي
وصف وصفت به تلك الذات من أوصافها اللائقة بها علم القصد بالمخبر عنه ولو تباينت
معاني الصفات، كما لو أبدل اسما بكنية أو كنية باسم، فلا فرق بين أن يقول الراوي
مثلا عن أبي عبد الله البخاري أو عن محمد بن إسماعيل البخاري، وهذا بخلاف ما في
حديث الباب فإنه يحتمل ما تقدم من الأوجه التي بيناها من إرادة التوقيف وغيره
والله أعلم. "تنبيه": النكتة في ختم البخاري كتاب الوضوء بهذا الحديث من
جهة أنه آخر وضوء أمر به المكلف في اليقظة، ولقوله في نفس الحديث: "واجعلهن
آخر ما تقول " فأشعر ذلك بختم الكتاب والله الهادي للصواب.
"خاتمة": اشتمل كتاب الوضوء وما معه من أحكام المياه والاستطابة من
الأحاديث المرفوعة على مائة وأربعة وخمسين حديثا، الموصول منها مائة وستة عشر
حديثا، والمذكور منها بلفظ المتابعة وصيغة التعليق ثمانية وثلاثون حديثا، فالمكرر
منها فيه وفيما مضى ثلاثة وسبعون حديثا، والخالص منها أحد وثمانون حديثا، ثلاثة
منها معلقة والبقية موصولة وافقه مسلم على تخريجها سوى تسعة عشر حديثا وهي الثلاثة
المعلقة وحديث ابن عباس في صفة الوضوء وحديثه توضأ مرة مرة وحديث أبي هريرة ابغني
أحجارا وحديث ابن مسعود في الحجرين والروثة
ـــــــ
(1) الرواية التى شرح عليها القسطلاني "واجعلهن آخر ما تتكلم به"
(1/358)
وحديث عبد الله بن زيد في الوضوء مرتين مرتين وحديث أنس في ادخار شعر النبي صلى الله عليه وسلم وحديث أبي هريرة في الرجل الذي سقى الكلب وحديث السائب بن يزيد في خاتم النبوة وحديث سعد وعمر في المسح على الخفين وحديث عمرو بن أمية فيه وحديث سويد بن النعمان في المضمضة من السويق وحديث أنس إذا نعس في الصلاة فليتم وحديث أبي هريرة في قصة الذي بال في المسجد وحديث ميمونة في فأرة سقطت في سمن وحديث أنس في البزاق في الثوب وفيه من الآثار الموقوفة على الصحابة والتابعين ثمانية وأربعون أثرا الموصول منها ثلاثة والبقية معلقة. والله أعلم.
(1/359)
كتاب الغسل
مدخل
...
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ
كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ
أَوْ لاَمَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا
طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ
لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ
نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة6] وَقَوْلِهِ جَلَّ
ذِكْرُهُ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى
حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى
تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ
مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً
فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ
اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا} [النساء43]
قوله: "بسم الله الرحمن الرحيم - كتاب الغسل" كذا في روايتنا بتقديم
البسملة. وللأكثر بالعكس، وقد تقدم توجيهه ذلك، وحذفت البسملة من رواية الأصيلي
وعنده " باب الغسل " وهو يضم الغين اسم للاغتسال، وقيل إذا أريد به
الماء فهو مضموم، وأما المصدر فيجوز فيه الضم والفتح حكاه ابن سيده وغيره، وقيل
المصدر بالفتح والاغتسال بالضم، وقيل الغسل بالفتح فعل المغتسل وبالضم الماء الذي
يغتسل به وبالكسر ما يجعل مع الماء كالأشنان. وحقيقة الغسل جريان الماء على
الأعضاء. واختلف في وجوب الدلك فلم يوجبه الأكثر، ونقل عن مالك والمزني وجوبه،
واحتج ابن بطال بالإجماع على وجوب إمرار اليد على أعضاء الوضوء عند غسلها قال:
فيجب ذلك في الغسل قياسا لعدم الفرق بينهما. وتعقب بأن جميع من لم يوجب الدلك أجازوا
غمس اليد في الماء للمتوضئ من غير إمرار فبطل الإجماع وانتفت الملازمة. قوله:
"وقول الله تعالى :{وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} قال الكرماني:
غرضه بيان أن وجوب الغسل على الجنب مستفاد من القرآن. قلت: وقدم الآية التي من
سورة المائدة على الآية التي من سورة النساء لدقيقة، وهي أن لفظ التي في المائدة
{فَاطَّهَّرُوا} ففيها إجمال، ولفظ التي في النساء {حَتَّى تَغْتَسِلُوا} ففيها
تصريح بالاغتسال وبيان للتطهير المذكور، ودل على أن المراد بقوله تعالى
{فَاطَّهَّرُوا} فاغتسلوا قوله تعالى في الحائض {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى
يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} أي اغتسلن اتفاقا،
(1/359)
ودلت آية النساء على أن استباحة الجنب الصلاة - وكذا اللبث في المسجد - يتوقف على الاغتسال، وحقيقة الاغتسال غسل جميع الأعضاء مع تمييز ما للعبادة عما للعادة بالنية.
(1/360)
1 - باب الْوُضُوءِ
قَبْلَ الْغُسْلِ
248- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ
هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا اغْتَسَلَ مِنْ الْجَنَابَةِ بَدَأَ فَغَسَلَ يَدَيْهِ
ثُمَّ يَتَوَضَّأُ كَمَا يَتَوَضَّأُ لِلصَّلاَةِ ثُمَّ يُدْخِلُ أَصَابِعَهُ فِي
الْمَاءِ فَيُخَلِّلُ بِهَا أُصُولَ شَعَرِهِ ثُمَّ يَصُبُّ عَلَى رَأْسِهِ
ثَلاَثَ غُرَفٍ بِيَدَيْهِ ثُمَّ يُفِيضُ الْمَاءَ عَلَى جِلْدِهِ كُلِّهِ".
[الحديث248- طرفاهفي: 272,262]
قوله: "باب الوضوء قبل الغسل" أي استحبابه. قال الشافعي رحمه الله في
الأم: فرض الله تعالى الغسل مطلقا لم يذكر فيه شيئا يبدأ به قبل شيء، فكيفما جاء
به المغتسل أجزأه إذا أتى بغسل جميع بدنه. والاختيار في الغسل ما روت عائشة. ثم
روى حديث الباب عن مالك بسنده، وهو في الموطأ كذلك، قال ابن عبد البر هو من أحسن
حديث روى في ذلك. قلت: وقد رواه عن هشام وهو ابن عروة جماعة من الحفاظ غير مالك
كما سنشير إليه. قوله: "كان إذا اغتسل" أي شرع في الفعل، و " من
" في قوله: "من الجنابة " سببية. قوله: "بدأ فغسل يديه"
يحتمل أن يكون غسلهما للتنظيف مما بهما من مستقذر، وسيأتي في حديث ميمونة تقوية
ذلك. ويحتمل أن يكون هو الغسل المشروع عند القيام من النوم، ويدل عليه زيادة ابن
عيينة في هذا الحديث عن هشام " قبل أن يدخلهما في الإناء " رواه الشافعي
والترمذي، وزاد أيضا: "ثم يغسل فرجه"، وكذا لمسلم من رواية أبي معاوية،
ولأبي داود من رواية حماد بن زيد كلاهما عن هشام، وهي زيادة جليلة، لأن بتقديم
غسله يحصل الأمن من مسه في أثناء الغسل. قوله: "كما يتوضأ صلاة" فيه
احتراز عن الوضوء اللغوي، ويحتمل أن يكون الابتداء بالوضوء قبل الغسل سنة مستقلة
بحيث يجب غسل أعضاء الوضوء مع بقية الجسد في الغسل، ويحتمل أن يكتفي بغسلها في
الوضوء عن إعادته، وعلى هذا فيحتاج إلى نية غسل الجنابة في أول عضو، وإنما قدم غسل
أعضاء الوضوء تشريفا لها ولتحصل له صورة الطهارتين الصغرى والكبرى، وإلى هذا جنح
الداودي شارح المختصر من الشافعية فقال: يقدم غسل أعضاء وضوئه على ترتيب الوضوء،
لكن بنية غسل الجنابة. ونقل ابن بطال الإجماع على أن الوضوء لا يجب مع الغسل، وهو
مردود، فقد ذهب جماعة منهم أبو ثور وداود وغيرهما إلى أن الغسل لا ينوب عن الوضوء
للمحدث. قوله: "فيخلل بها" أي بأصابعه التي أدخلها في الماء. ولمسلم:
"ثم يأخذ الماء فيدخل أصابعه في أصول الشعر " وللترمذي والنسائي من طريق
أبي عيينة " ثم يشرب شعره الماء". قوله: "أصول الشعر"
وللكشميهني: "أصول شعره " أي شعر رأسه، ويدل عليه رواية حماد بن سلمة عن
هشام عند البيهقي " يخلل بها شق رأسه الأيمن فيتبع بها أصول الشعر، ثم يفعل
بشق رأسه الأيسر كذلك " وقال القاضي عياض: احتج به بعضهم على تخليل شعر الجسد
في الغسل إما لعموم قوله: "أصول الشعر " وإما بالقياس على شعر الرأس.
وفائدة التخليل إيصال الماء إلى الشعر والبشرة، ومباشرة الشعر باليد ليحصل تعميمه
بالماء، وتأنيس البشرة لئلا يصيبها بالصب ما تتأذى به. ثم هذا التخليل غير واجب
اتفاقا إلا إن كان الشعر ملبدا بشيء يحول بين الماء وبين الوصول إلى أصوله. والله
أعلم. قوله:
(1/360)
"ثم
يدخل" إنما ذكره بلفظ المضارع، وما قبله مذكور بلفظ الماضي - وهو الأصل -
لإرادة استحضار صورة الحال للسامعين. قوله: "ثلاث غرف" بضم المعجمة وفتح
الراء جمع غرفة وهي قدر ما يغرف من الماء بالكف، وللكشميهني: "ثلاث غرفات
" وهو المشهور في جمع القلة. وفيه استحباب التثليث في الغسل، قال النووي: ولا
نعلم فيه خلافا إلا ما تفرد به الماوردي فإنه قال: لا يستحب التكرار في الغسل.
قلت: وكذا قال الشيخ أبو علي السنجي في شرح الفروع وكذا قال القرطبي، وحمل التثليث
في هذه الرواية على رواية القاسم عن عائشة الآتية قريبا فإن مقتضاها أن كل غرفة
كانت في جهة من جهات الرأس، وسيأتي في آخر الكلام على حديث ميمونة زيادة في هذه
المسألة. قوله: "ثم يفيض" أي يسيل، والإفاضة الإسالة. واستدل به من لم
يشترط الدلك وهو ظاهر. وقال المازري: لا حجة فيه لأن أفاض بمعنى غسل، والخلاف في
الغسل قائم. قلت: ولا يخفى ما فيه والله أعلم. وقال القاضي عياض: لم يأت في شيء من
الروايات في وضوء الغسل ذكر التكرار. قلت: بل ورد ذلك من طريق صحيحة أخرجها
النسائي والبيهقي من رواية أبي سلمة عن عائشة أنها وصفت غسل رسول الله صلى الله
عليه وسلم من الجنابة. الحديث وفيه: "ثم يتمضمض ثلاثا ويستنشق ثلاثا ويغسل وجهه
ثلاثا ويديه ثلاثا ثم يفيض على رأسه ثلاثا". قوله: "على جلده كله"
هذا التأكيد يدل على أنه عمم جميع جسده بالغسل بعدما تقدم، وهو يؤيد الاحتمال
الأول أن الوضوء سنة مستقلة قبل الغسل، وعلى هذا فينوي المغتسل الوضوء إن كان
محدثا وإلا فسنة الغسل، واستدل بهذا الحديث على استحباب إكمال الوضوء قبل الغسل،
ولا يؤخر غسل الرجلين إلى فراغه وهو ظاهر من قولها " كما يتوضأ للصلاة "
وهذا هو المحفوظ في حديث عائشة من هذا الوجه، لكن رواه مسلم من رواية أبي معاوية
عن هشام فقال في آخره: "ثم أفاض على سائر جسده، ثم غسل رجليه " وهذه
الزيادة تفرد بها أبو معاوية دون أصحاب هشام، قال البيهقي هي غربية صحيحة. قلت:
لكن في رواية أبي معاوية عن هشام مقال، نعم له شاهد من رواية أبي سلمة عن عائشة
أخرجه أبو داود الطيالسي فذكر حديث الغسل كما تقدم عند النسائي وزاد في آخره:
"فإذا فرغ غسل رجليه " فأما أن تحمل الروايات عن عائشة على أن المراد
بقولها " وضوءه للصلاة " أي أكثره وهو ما سوى الرجلين، أو يحمل على
ظاهره، ويستدل برواية أبي معاوية على جواز تفريق الوضوء، ويحتمل أن يكون قوله في
رواية أبي معاوية " ثم غسل رجليه " أي أعاد غسلهما لاستيعاب الغسل بعد
أن كان غسلهما في الوضوء فيوافق قوله في حديث الباب: "ثم يفيض على جلده
كله".
249- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ
الأَعْمَشِ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ كُرَيْبٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ
عَنْ مَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ:
"تَوَضَّأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وُضُوءَهُ
لِلصَّلاَةِ غَيْرَ رِجْلَيْهِ وَغَسَلَ فَرْجَهُ وَمَا أَصَابَهُ مِنْ الأَذَى
ثُمَّ أَفَاضَ عَلَيْهِ الْمَاءَ ثُمَّ نَحَّى رِجْلَيْهِ فَغَسَلَهُمَا هَذِهِ
غُسْلُهُ مِنْ الْجَنَابَةِ".
[الحديث249- أطرافه 281,276,274,266,265,260,259,257]
قوله: "حدثنا محمد بن يوسف" هو الفريابي، وسفيان هو الثوري، وجزم
الكرماني بأن محمد ابن يوسف هو البيكندي وسفيان هو ابن عيينة، ولا أدري من أين له
ذلك. قوله: "وضوءه للصلاة غير رجليه" يه التصريح بتأخير الرجلين في وضوء
الغسل الخ وهو مخالف لظاهر رواية عائشة. ويمكن الجمع بينهما إما بحمل رواية عائشة
(1/361)
على المجاز كما
تقدم وإما بحمله على حالة أخرى، وبحسب اختلاف هاتين الحالتين اختلف نظر العلماء
فذهب الجمهور إلى استحباب تأخير غسل الرجلين في الغسل، وعن مالك إن كان المكان غير
نظيف فالمستحب تأخيرهما وإلا فالتقديم، وعند الشافعية في الأفضل قولان، قال النووي
أصحهما وأشهرهما ومختارهما أنه يكمل وضوءه، قال: لأن أكثر الروايات عن عائشة
وميمونة كذلك. انتهى. كذا قال، وليس في شيء من الروايات عنهما التصريح بذلك، بل هي
إما محتملة كرواية: "توضأ وضوءه للصلاة " أو ظاهرة تأخيرهما كرواية أبي
معاوية المتقدمة، وشاهدها من طريق أبي سلمة، ويوافقها أكثر الروايات عن ميمونة، أو
صريحة في تأخيرهما كحديث الباب، وراويها مقدم في الحفظ والفقه على جميع من رواه عن
الأعمش، وقول من قال: "إنما فعل ذلك مرة لبيان الجواز " متعقب، فإن في
رواية أحمد عن أبي معاوية عن الأعمش ما يدل على المواظبة، ولفظه: "كان إذا
اغتسل من الجنابة يبدأ فيغسل يديه ثم يفرغ بيمينه على شماله فيغسل فرجه "
فذكر الحديث وفي آخره: "ثم يتنحى فيغسل رجليه " قال القرطبي: الحكمة في
تأخير غسل الرجلين ليحصل الافتتاح والاختتام بأعضاء الوضوء. قوله: "وغسل
فرجه" يه تقديم وتأخير، لأن غسل الفرج كان قبل الوضوء إذ الواو لا تقتضي
الترتيب، وقد بين ذلك ابن المبارك عن الثوري عند المصنف في باب الستر في الغسل،
فذكر أولا غسل اليدين ثم غسل الفرج ثم مسح يده بالحائط ثم الوضوء غير رجليه، وأتى
بثم الدالة على الترتيب في جميع ذلك. قوله: "هذه غسلة" الإشارة إلى
الأفعال المذكورة، أو التقدير هذه صفة غسله، وللكشميهني: "هذا غسله "
وهو ظاهر، وأشار الإسماعيلي إلى أن هذه الجملة الأخيرة مدرجة من قول سالم بن أبي
الجعد، وأن زائدة بن قدامة بين ذلك في روايته عن الأعمش، واستدل البخاري بحديث
ميمونة هذا على جواز تفريق الوضوء وعلى استحباب الإفراغ باليمين على الشمال
للمغترف من الماء لقوله في رواية أبي عوانة وحفص وغيرهما: "ثم أفرغ بيمينه
على شماله " وعلى مشروعية المضمضة والاستنشاق في غسل الجنابة لقوله فيها
" ثم تمضمض واستنشق " وتمسك به الحنفية للقول بوجوبهما، وتعقب بأن الفعل
المجرد لا يدل على الوجوب إلا إذا كان بيانا لمجمل تعلق به الوجوب، وليس الأمر هنا
كذلك قاله ابن دقيق العيد: وعلى استحباب مسح اليد بالتراب من الحائط أو الأرض
لقوله في الروايات المذكورة " ثم دلك يده بالأرض أو بالحائط " قال ابن
دقيق العيد: وقد يؤخذ منه الاكتفاء بغسلة واحدة لإزالة النجاسة والغسل من الجنابة
لأن الأصل عدم التكرار، وفيه خلاف. انتهى. وصحح النووي وغيره أنه يجزئ، لكن لم
يتعين في هذا الحديث أن ذلك كان لإزالة النجاسة، بل يحتمل أن يكون للتنظيف فلا يدل
على الاكتفاء، وأما دلك اليد بالأرض فللمبالغة فيه ليكون أنقى كما قال البخاري.
وأبعد من استدل به على نجاسة المني أو على نجاسة رطوبة الفرج لأن الغسل ليس مقصورا
على إزالة النجاسة. وقوله في حديث الباب: "وما أصابه من أذى " ليس بظاهر
في النجاسة أيضا، واستدل به البخاري أيضا على أن الواجب في غسل الجنابة مرة واحدة،
وعلى أن من توضأ بنية الغسل أكمل باقي أعضاء بدنه لا يشرع له تجديد الوضوء من غير
حدث، وعلى جواز نفض اليدين من ماء الغسل وكذا الوضوء، وفيه حديث ضعيف أورده
الرافعي وغيره ولفظه: "لا تنفضوا أيديكم في الوضوء فإنها مرواح الشيطان
" قال ابن
ـــــــ
(1) فيه نظر والصواب وجوبهما,ودخول هذه المسألة تحت القاعدة المذكورة,لأن غسله صلى
الله عليه وسلم بيان لمجمل المأمور به في قوله تعالي {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُو}
(1/362)
الصلاح: لم أجده. وتبعه النووي. وقد أخرجه ابن حبان في الضعفاء وابن حاتم في العلل من حديث أبي هريرة، ولو لم يعارضه هذا الحديث الصحيح لم يكن صالحا أن يحتج به. وعلى استحباب التستر في الغسل ولو كان في البيت، وقد عقد المصنف لكل مسألة بابا وأخرج هذا الحديث فيه بمغايرة الطرق ومدارها على الأعمش، وعند بعض الرواة عنه ما ليس عند الآخر، وقد جمعت فوائدها في هذا الباب. وصرح في رواية حفص بن غياث عن الأعمش بسماع الأعمش من سالم فأمن تدليسه. وفي الإسناد ثلاثة من التابعين على الولاء: الأعمش وسالم وكريب، وصحابيان: ابن عباس وخالته ميمونة بنت الحارث. وفي الحديث من الفوائد أيضا جواز الاستعانة بإحضار ماء الغسل والوضوء لقولها في رواية حفص وغيره: "وضعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم غسلا " وفي رواية عبد الواحد " ما يغتسل به " وفيه خدمة الزوجات لأزواجهن، وفيه الصب باليمين على الشمال لغسل الفرج بها، وفيه تقديم غسل الكفين على غسل الفرج لمن يريد الاغتراف لئلا يدخلهما في الماء وفيهما ما لعله يستقذر، فأما إذا كان الماء في إبريق مثلا فالأولى تقديم غسل الفرج لتوالي أعضاء الوضوء، ولم يقع في شيء من طرق هذا الحديث التنصيص على مسح الرأس في هذا الوضوء، وتمسك به المالكية لقولهم إن وضوء الغسل لا يمسح فيه الرأس بل يكتفي عنه بغسله، واستدل بعضهم بقولها في رواية أبي حمزة وغيره: "فناولته ثوبا فلم يأخذه " على كراهة التنشيف بعد الغسل، ولا حجة فيه لأنها واقعة حال يتطرق إليها الاحتمال، فيجوز أن يكون عدم الأخذ لأمر آخر لا يتعلق بكراهة التنشيف بل لأمر يتعلق بالخرقة، أو لكونه كان مستعجلا، أو غير ذلك. قال المهلب: يحتمل تركه الثوب لإبقاء بركة الماء أو للتواضع أو لشيء رآه في الثوب من حرير أو وسخ، وقد وقع عند أحمد والإسماعيلي من رواية أبي عوانة في هذا الحديث عن الأعمش قال: فذكرت ذلك لإبراهيم النخعي فقال: لا بأس بالمنديل، وإنما رده مخافة أن يصير عادة. وقال التيمي في شرحه: في هذا الحديث دليل على أنه كان يتنشف، ولولا ذلك لم تأته بالمنديل. وقال ابن دقيق العيد: نفضه الماء بيده يدل على أن لا كراهة في التنشيف، لأن كلا منهما إزالة. وقال النووي: اختلف أصحابنا فيه على خمسة أوجه أشهرها أن المستحب تركه، وقيل مكروه، وقيل مباح، وقيل مستحب، وقيل مكروه في الصيف مباح في الشتاء. واستدل به على طهارة الماء المتقاطر من أعضاء المتطهر خلافا لمن غلا من الحنفية فقال بنجاسته.
(1/363)
3 - باب غُسْلِ
الرَّجُلِ مَعَ امْرَأَتِهِ
250- حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ
عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: "كُنْتُ أَغْتَسِلُ
أَنَا وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ مِنْ
قَدَحٍ يُقَالُ لَهُ الْفَرَقُ".
[الحديث250- أطرافه في:7239,5956,299,273263,261]
قوله: "باب غسل الرجل مع امرأته. عن عروة" أي ابن الزبير كذا رواه أكثر
أصحاب الزهري، وخالفهم إبراهيم بن سعد فرواه عنه عن القاسم بن محمد أخرجه النسائي،
ورجح أبو زرعة الأول. ويحتمل أن يكون للزهري شيخان فإن الحديث محفوظ عن عروة
والقاسم من طرق أخرى. قوله: "أنا والنبي" يحتمل أن يكون مفعولا معه
ويحتمل أن يكون عطفا على الضمير وهو من باب تغليب المتكلم على الغائب لكونها هي
السبب في
(1/363)
الاغتسال، فكأنها أصل في الباب. قوله: "من إناء واحد من قدح" من الأولى: ابتدائية والثانية: بيانية، ويحتمل أن يكون قدح بدلا من إناء بتكرار حرف الجر. وقال ابن التين: كان هذا الإناء من شبه، وهو بفتح المعجمة والموحدة كما تقدم توضيحه في صفة الوضوء من حديث عبد الله بن زيد، وكأن مستنده ما رواه الحاكم من طريق حماد بن سلمة عن هشام بن عروة عن أبيه ولفظه: "تور من شبه". قوله: "يقال له الفرق"، ولمالك عن الزهري: هو الفرق، وزاد في روايته: "من الجنابة " أي بسبب الجنابة، ولأبي داود الطيالسي عن ابن أبي ذئب " وذلك القدح يومئذ يدعي الفرق " قال ابن التين: الفرق بتسكين الراء ورويناه بفتحها وجوز بعضهم الأمرين. وقال القتيبي وغيره هو بالفتح. وقال النووي الفتح أفصح وأشهر، وزعم أبو الوليد الباجي أنه الصواب قال: وليس كما قال، بل هما لغتان. قلت: لعل مستند الباجي ما حكاه الأزهري عن ثعلب وغيره: الفرق بالفتح والمحدثون يسكنونه، وكلام العرب بالفتح. انتهى. وقد حكى الإسكان أبو زيد وابن دريد وغيرهما من أهل اللغة، والذي في روايتنا هو الفتح والله أعلم. وحكى ابن الأثير أن الفرق بالفتح ستة عشر رطلا وبالإسكان مائة وعشرون رطلا، وهو غريب. وأما مقداره فعند مسلم في آخر رواية ابن عيينة عن الزهري في هذا الحديث قال سفيان يعني ابن عيينة: الفرق ثلاثة آصع، قال النووي: وكذا قال الجماهير، وقيل الفرق صاعان، لكن نقل أبو عبيد الاتفاق على أن الفرق ثلاثة آصع، وعلى أن الفرق ستة عشر رطلا ولعله يريد اتفاق أهل اللغة وإلا فقد قال بعض الفقهاء من الحنفية وغيرهم: إن الصاع ثمانية أرطال، وتمسكوا بما روى عن مجاهد في الحديث الآتي عن عائشة أنه حزر الإناء ثمانية أرطال، والصحيح الأول، فإن الحزر لا يعارض به التحديد. وأيضا فلم صرح مجاهد بأن الإناء المذكور صاع فيحمل على اختلاف الأواني مع تقاربها، ويؤيد كون الفرق ثلاثة آصع ما رواه ابن حبان من طريق عطاء عن عائشة بلفظ: "قدر ستة أقساط " والقسط بكسر القاف وهو باتفاق أهل اللغة نصف صاع والاختلاف بينهم أن الفرق ستة عشر رطلا فصح أن الصاع خمسة أرطال وثلث، وتوسط بعض الشافعية فقال الصاع الذي لماء الغسل ثمانية أرطال، والذي لزكاة الفطر وغيرها خمسة أرطال وثلث، وهو ضعيف. ومباحث المتن تقدمت في باب وضوء الرجل مع امرأته، واستدل به الداودي على جواز نظر الرجل إلى عورة امرأته وعكسه، ويؤيده ما رواه ابن حبان من طريق سليمان بن موسى أنه سئل عن الرجل ينظر إلى فرج امرأته فقال سالت عطاء فقال سألت عائشة فذكرت هذا الحديث بمعناه، وهو نص في المسألة والله أعلم.
(1/364)
3 - باب الْغُسْلِ
بِالصَّاعِ وَنَحْوِهِ
251- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ الصَّمَدِ
قَالَ حَدَّثَنِي شُعْبَةُ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ حَفْصٍ قَالَ
سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ يَقُولُ: "دَخَلْتُ أَنَا وَأَخُو عَائِشَةَ عَلَى
عَائِشَةَ فَسَأَلَهَا أَخُوهَا عَنْ غُسْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَدَعَتْ بِإِنَاءٍ نَحْوًا مِنْ صَاعٍ فَاغْتَسَلَتْ وَأَفَاضَتْ عَلَى
رَأْسِهَا وَبَيْنَنَا وَبَيْنَهَا حِجَابٌ" قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ:
قَالَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ وَبَهْزٌ وَالْجُدِّيُّ عَنْ شُعْبَةَ: قَدْرِ صَاعٍ
قوله: "باب الغسل بالصاع" أي بملء الصاع "ونحوه" أي ما
يقاربه، والصاع تقدم أنه خمسة أرطال وثلث
(1/364)
برطل بغداد، وهو
على ما قال الرافعي وغيره مائة وثلاثون درهما، ورجح النووي أنه مائة وثمانية
وعشرون درهما وأربعة أسباع درهم. وقد بين الشيخ الموفق سبب الخلاف في ذلك فقال:
إنه في الأصل مائه وثمانية وعشرين وأربعة أسباع، ثم زادوا فيه مثقالا لإرادة جبر
الكسر فصار مائة وثلاثين، قال: والعمل على الأول لأنه هو الذي كان موجودا وقت
تقدير العلماء به. قوله: "حدثنا عبد الله بن محمد" هو الجعفي، وعبد
الصمد هو ابن عبد الوارث، وأبو بكر بن حفص أي ابن عمر بن سعد بن أبي وقاص، شارك
شيخه أبا سلمة - وهو ابن عبد الرحمن بن عوف - في كونه زهريا مدنيا مشهورا بالكنية،
وقد قيل إن اسم كل منهما عبد الله. قوله: "وأخو عائشة" زعم الداودي أنه
عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق. وقال غيره هو أخوها لأمها وهو الطفيل بن عبد الله
ولا يصح واحد منهما، لما روى مسلم من طريق معاذ، والنسائي من طريق خالد بن الحارث،
وأبو عوانة من طريق يزيد بن هارون كلهم عن شعبة في هذا الحديث أنه أخوها من
الرضاعة. وقال النووي وجماعة إنه عبد الله بن يزيد، معتمدين على ما وقع في صحيح
مسلم في الجنائز عن أبي قلابة عن عبد الله بن يزيد رضيع عائشة عنها فذكر حديثا غير
هذا، ولم يتعين عندي أنه المراد هنا لأن لها أخا آخر من الرضاعة وهو كثير بن عبيد
رضيع عائشة روى عنها أيضا وحديثه في الأدب المفرد للبخاري وسنن أبي داود من طريق
ابنه سعيد بن كثير عنه. وعبد الله بن يزيد بصري، كثير بن عبيد كوفي، فيحتمل أن
يكون المبهم هنا أحدهما ويحتمل أن يكون غيرهما والله أعلم. قوله: "فدعت بإناء
نحو" بالجر والتنوين صفة لإناء. وفي رواية كريمة: "نحوا " بالنصب
على أنه نعت للمجرور باعتبار المحل أو بإضمار أعني. قوله: "وبيننا وبينها
حجاب" قال القاضي عياض: ظاهره أنهما رأيا عملها في رأسها وأعالي جسدها مما يحل
نظره للمحرم لأنها خالة أبي سلمة من الرضاع أرضعته أختها أم كلثوم، وإنما سترت
أسافل بدنها مما لا يحل للمحرم النظر إليه قال: وإلا لم يكن لاغتسالها بحضرتهما
معنى. وفي فعل عائشة دلالة على استحباب التعليم بالفعل لأنه أوقع في النفس، ولما
كان السؤال محتملا للكيفية والكمية ثبت لهما ما يدل على الأمرين معا: أما الكيفية
فبالاقتصار على إفاضة الماء وأما الكمية فبالاكتفاء بالصاع. قوله: "قال أبو
عبد الله" أي البخاري المصنف "قال يزيد بن هارون" هذا التعليق وصله
أبو عوانة وأبو نعيم في مستخرجيهما. قوله: "وبهز" بالزاي المعجمة هو ابن
أسد وحديثه موصول عند الإسماعيلي، وزاد في روايتهما: "من الجنابة"،
وعندهما أيضا: "على رأسها ثلاثا " وكذا عند مسلم والنسائي. قوله:
"والجدي" بضم الجيم وتشديد الدال نسبة إلى جدة ساحل مكة، وكان أصله منها
لكنه سكن البصرة. قوله: "قدر صاع" بالكسر على الحكاية، ويجوز النصب كما
تقدم. والمراد من الروايتين أن الاغتسال وقع بملء الصاع من الماء تقريبا لا
تحديدا.
252- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ
آدَمَ قَالَ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو
جَعْفَرٍ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ هُوَ وَأَبُوهُ
وَعِنْدَهُ قَوْمٌ فَسَأَلُوهُ عَنْ الْغُسْلِ فَقَالَ يَكْفِيكَ صَاعٌ فَقَالَ
رَجُلٌ مَا يَكْفِينِي فَقَالَ جَابِرٌ كَانَ يَكْفِي مَنْ هُوَ أَوْفَى مِنْكَ
شَعَرًا وَخَيْرٌ مِنْكَ ثُمَّ أَمَّنَا فِي ثَوْبٍ
[الحديث252- طرفاه في:256,255]
قوله: "حدثنا عبد الله بن محمد" هو الجعفي. قوله: "حدثنا يحيى بن
آدم" قال أبو علي الحياني: ثبت لجميع الرواة
(1/365)
- إلا لأبي ذر عن
الحموي فسقط من روايته يحيى بن آدم، وهو وهم - فلا يتصل السند إلا به. قوله:
"زهير" هو ابن معاوية، وأبو إسحاق هو السبيعي، وأبو جعفر هو محمد بن علي
بن الحسين ابن علي بن أبي طالب المعروف بالباقر. قوله: "هو وأبوه" أي
على بن الحسين "وعنده" أي عند جابر. قوله: "قوم" كذا في النسخ
التي وقفت عليها من البخاري، ووقع في العمدة " وعنده قومه " بزيادة
الهاء وجعلها شراحها ضميرا يعود على جابر وفيه ما فيه، وليست هذه الرواية في مسلم
أصلا، وذلك وارد أيضا على قوله إنه يخرج المتفق عليه. قوله: "فسألوه عن
الغسل" أفاد إسحاق بن راهويه في مسنده أن متولي السؤال هو أبو جعفر الراوي،
فأخرج من طريق جعفر بن محمد عن أبيه قال: "سألت جابرا عن غسل الجنابة"،
وبين النسائي في روايته سبب السؤال فأخرج من طريق أبي الأحوص عن أبي إسحاق عن أبي
جعفر قال: "تمارينا في الغسل عند جابر، فكان أبو جعفر تولى السؤال "
ونسب السؤال في هذه الرواية إلى الجميع مجازا لقصدهم ذلك، ولهذا أفرد جابر الجواب
فقال: "يكفيك " وهو بفتح أوله، وسيأتي مزيد لهذا الموضع في الباب الذي
يليه. قوله: "فقال رجل" زاد الإسماعيلي: "منهم " أي من القوم،
وهذا يؤيد ما ثبت في روايتنا لأن هذا القائل هو الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب
الذي يعرف أبوه بابن الحنفية كما جزم به صاحب العمدة، وليس هو من قوم جابر لأنه
هاشمي وجابر أنصاري. قوله: "أوفي" يحتمل الصفة والمقدار أي أطول وأكثر.
قوله: "وخير منك" بالرفع عطفا على أوفى المخبر به عن هو. وفي رواية
الأصيلي: "أو خيرا " بالنصب عطفا على الموصول. قوله: "ثم
أمنا" فاعل أمنا هو جابر كما سيأتي ذلك واضحا من فعله في كتاب الصلاة، ولا
التفات إلى من جعله من مقوله والفاعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي هذا
الحديث بيان ما كان عليه السلف من الاحتجاج بأفعال النبي صلى الله عليه وسلم
والانقياد إلى ذلك، وفيه جواز الرد بعنف على من يماري بغير علم إذا قصد الراد
إيضاح الحق وتحذير السامعين من مثل ذلك، وفيه كراهية التنطع والإسراف في الماء.
235- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرٍو
عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَيْمُونَةَ كَانَا يَغْتَسِلاَنِ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ.
وقال يزيد بن هارون وبهز والجدى عن شعبة : قدر صاع.
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ كَانَ ابْنُ عُيَيْنَةَ يَقُولُ أَخِيرًا عَنْ ابْنِ
عَبَّاسٍ عَنْ مَيْمُونَةَ وَالصَّحِيحُ مَا رَوَى أَبُو نُعَيْمٍ
قوله: "عن عمرو" هو ابن دينار، وفي مسند الحميدي " حدثنا سفيان
أخبرنا عمرو أخبرنا أبو الشعثاء " وهو جابر بن زيد المذكور. قوله: "قال
أبو عبد الله" هو المصنف. قوله: "كان ابن عيينة" كذا رواه عنه أكثر
الرواة وإنما رواه عنه كما قال أبو نعيم من سمع منه قديما، وإنما رجح البخاري
رواية أبي نعيم جريا على قاعدة المحدثين، لأن من جملة المرجحات عندهم قدم السماع
لأنه مظنة قوة حفظ الشيخ، ولرواية الآخرين جهة أخرى من وجوه الترجيح وهي كونهم
أكثر عددا وملازمة لسفيان، ورجحها الإسماعيلي من جهة أخرى من حيث المعنى وهو كون
ابن عباس لا يطلع على النبي صلى الله عليه وسلم في حالة اغتساله مع ميمونة فيدل
على أنه أخذه عنها. وقد أخرج الرواية المذكورة الشافعي والحميدي وابن أبي عمر وابن
أبي شيبة وغيرهم في مسانيدهم عن سفيان، ومسلم والنسائي وغيرهما من طريقه، ويستفاد
من هذا البحث أن البخاري لا يري التسوية بين " عن فلان " وبين " إن
فلانا " في ذلك بحث يطول ذكره " وقد حققته فيما كتبته على كتاب ابن
الصلاح. وادعى بعض الشارحين أن
(1/366)
حديث ميمونة هذا لا مناسبة له بالترجمة لأنه لم يذكر فيه قدر الإناء، والجواب أن ذلك يستفاد من مقدمة أخرى، وهي أن أوانيهم كانت صغارا كما صرح به الشافعي في عدة مواضع، فيدخل هذا الحديث تحت قوله: "ونحوه " أي نحو الصاع، أو يحمل المطلق فيه على المقيد في حديث عائشة وهو الفرق، لكون كل منهما زوجة له واغتسلت معه، فتكون حصة كل منهما أزيد من صاع، فيدخل تحت الترجمة بالتقريب، والله أعلم.
(1/367)
4 - باب مَنْ
أَفَاضَ عَلَى رَأْسِهِ ثَلاَثًا
254- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ
قَالَ حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ صُرَدٍ قَالَ حَدَّثَنِي جُبَيْرُ بْنُ
مُطْعِمٍ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَمَّا أَنَا فَأُفِيضُ
عَلَى رَأْسِي ثَلاَثًا وَأَشَارَ بِيَدَيْهِ كِلْتَيْهِمَا"
قوله: "باب من أفاض على رأسه ثلاثا" تقدم حديث ميمونة وعائشة في ذلك.
قوله: "حدثنا زهير" هو ابن معاوية الجعفي وقد علا عنه في هذا الإسناد،
ونزل في الباب الذي قبله، وأبو إسحاق هو السبيعي أيضا، وسليمان بن صرد خراعي وهو
من أفاضل الصحابة، وأبوه بضم المهملة وفتح الراء وشيخه من مشاهير الصحابة، ففيه
رواية الأقران. قوله: "أما أنا فأفيض" بضم الهمزة، وقسيم " أما
" محذوف، وقد ذكر أبو نعيم في المستخرج سببه من هذا الوجه وأوله عنده "
ذكروا عند النبي صلى الله عليه وسلم الغسل من الجنابة " فذكره، ولمسلم من
طريق أبي الأحوص عن أبي إسحاق " تماروا في الغسل عند النبي صلى الله عليه
وسلم فقال بعض القوم: أما أنا فاغسل رأسي بكذا وكذا " فذكر الحديث، وهذا هو
القسيم المحذوف، ودل قوله: "ثلاثا " على أن المراد بكذا وكذا أكثر من
ذلك، ولمسلم من وجه آخر أن الذين سألوا عن ذلك هم وفد ثقيف، والسياق مشعر بأنه صلى
الله عليه وسلم كان لا يفيض إلا ثلاثا، وهي محتملة لأن تكون للتكرار، ومحتملة لأن
تكون للتوزيع على جميع البدن، لكن حديث جابر في آخر الباب يقوي الاحتمال الأول
وسنذكر ما فيه. قوله: "كلتيهما" كذا للأكثر، وللكشميهني: "كلاهما
" وحكى ابن التين أن في بعض الروايات " كلتاهما " وهي مخرجة على من
يراها تثنية ويرى أن التثنية لا تتغير كقوله: قد بلغا في المجد غايتاها. وهكذا
القول في رواية الكشميهني، وهو مذهب الفراء في " كلا " خلافا للبصريين،
ويمكن أن يخرج الرفع فيهما على القطع.
55- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ قَالَ
حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مِخْوَلِ بْنِ رَاشِدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ
جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ "كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُفْرِغُ عَلَى رَأْسِهِ ثَلاَثًا"
قوله: "حدثني" وللأصيلي حدثنا "محمد بن بشار" هو بندار كما
صرح به الإسماعيلي في روايته حيث أخرجه عن الحسن بن سفيان وغيره عنه، وأبوه
بالموحدة وتثقيل المعجمة بلا خلاف. وليس في الصحيحين بهذه الصورة غيره قاله أبو
على الجياني وجماعة بعده، وغفل بعض المتأخرين فضبطه بمثناة وسين مهملة، وإنما نبهت
عليه لئلا يغتر به فإنه لا يخفي على من له أدنى ممارسة في هذا الشأن. قوله:
"مخول" بكسر أوله وإسكان المعجمة وبوزن محمد أيضا، وهذان الوجهان في
رواية أبي ذر، والأول للأكثر، والثاني لابن عساكر، وليس له في البخاري سوى هذا
الحديث، ومحمد بن علي شيخه هو أبو جعفر المعروف بالباقر. قوله: "يفرغ"
بضم أوله. قوله: "ثلاثا" أي
(1/367)
غرفات. زاد
الإسماعيلي: "قال شعبة: أظنه من غسل الجنابة " وفيه: "وقال رجل من
بني هاشم: إن شعري كثير، فقال جابر: "شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم كان
أكثر من شعرك وأطيب".
256- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ حَدَّثَنَا مَعْمَرُ بْنُ يَحْيَى بْنِ
سَامٍ حَدَّثَنِي أَبُو جَعْفَرٍ قَالَ قَالَ لِي جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
وَأَتَانِي ابْنُ عَمِّكَ يُعَرِّضُ بِالْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ
قَالَ "كَيْفَ الْغُسْلُ مِنْ الْجَنَابَةِ فَقُلْتُ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْخُذُ ثَلاَثَةَ أَكُفٍّ وَيُفِيضُهَا عَلَى
رَأْسِهِ ثُمَّ يُفِيضُ عَلَى سَائِرِ جَسَدِهِ فَقَالَ لِي الْحَسَنُ إِنِّي
رَجُلٌ كَثِيرُ الشَّعَرِ فَقُلْتُ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَكْثَرَ مِنْكَ شَعَرًا"
قوله: "حدثنا معمر" بإسكان العين في أكثر الروايات وبه جزم المزي. وفي
رواية القابسي بوزن محمد وبه جزم الحاكم، وليس له أيضا في البخاري غير هذا الحديث،
وقد ينسب إلى جده سام فيقال معمر ابن سام وهو بالمهملة وتخفيف الميم. قوله:
"ابن عمك" فيه تجوز، فإنه ابن عم والده علي بن الحسين بن علي بن أبي
طالب، والحنفية كانت زوج علي بن أبي طالب تزوجها بعد فاطمة رضي الله عنها فولدت له
محمدا فاشتهر بالنسبة إليها. وقول جابر " أتاني " يشعر بأن سؤال الحسن
بن محمد كان في غيبة أبي جعفر فهو غير سؤال أبي جعفر الذي تقدم في الباب قبله، لأن
ذلك كان عن الكمية كما أشعر بذلك قوله في الجواب " يكفيك صاع " وهذا عن
الكيفية وهو ظاهر من قوله: "كيف الغسل"، ولكن الحسن بن محمد في
المسألتين جميعا هو المنازع لجابر في ذلك فقال في جواب الكمية " ما يكفيني
" أي الصاع ولم يعلل. وقال في جواب الكيفية " إني كثير الشعر " أي
فأحتاج إلى أكثر من ثلاث غرفات، فقال له جابر في جواب الكيفية " كان رسول
الله صلى الله عليه وسلم أكثر شعرا منك وأطيب " أي واكتفى بالثلاث فاقتضى أن
الإنقاء يحصل بها. وقال في جواب الكمية ما تقدم، وناسب ذكر الخيرية لأن طلب
الازدياد من الماء يلحظ فيه التحري في إيصال الماء إلى جميع الجسد، وكان صلى الله
عليه وسلم سيد الورعين وأتقى الناس لله وأعلمهم به. وقد اكتفى بالصاع، فأشار جابر
إلى أن الزيادة على ما اكتفى به تنطع قد يكون مثاره الوسوسة فلا يلتفت إليه. قوله:
"ثلاث أكف" وفي رواية كريمة: "ثلاثة أكف " وهي جمع كف والكف
تذكر وتؤنث، والمراد أنه يأخذ في كل مرة كفين، ويدل على ذلك رواية إسحاق بن راهويه
من طريق الحسن بن صالح عن جعفر بن محمد عن أبيه قال في آخر الحديث: "وبسط يديه"،
ويؤيده حديث جبير بن مطعم الذي في أول الباب، والكف اسم جنس فيحمل على الاثنين،
ويحتمل أن تكون هذه الغرفات الثلاث للتكرار، ويحتمل أن يكون لكل جهة من الرأس غرفة
كما سيأتي في حديث القاسم بن محمد عن عائشة قريبا.
(1/368)
5 - باب الْغُسْلِ
مَرَّةً وَاحِدَةً
257- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ
عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ كُرَيْبٍ عَنْ ابْنِ
عَبَّاسٍ قَالَ قَالَتْ مَيْمُونَةُ وَضَعْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مَاءً لِلْغُسْلِ فَغَسَلَ يَدَيْهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا ثُمَّ
أَفْرَغَ عَلَى شِمَالِهِ فَغَسَلَ مَذَاكِيرَهُ ثُمَّ مَسَحَ يَدَهُ بِالأَرْضِ
ثُمَّ مَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ ثُمَّ أَفَاضَ عَلَى
جَسَدِهِ ثُمَّ تَحَوَّلَ مِنْ مَكَانِهِ فَغَسَلَ قَدَمَيْهِ
(1/368)
قوله: "باب الغسل مرة واحدة" قال ابن بطال يستفاد ذلك من قوله: "ثم أفاض على جسده " لأنه لم يقيد بعدد فيحمل على أقل ما يسمى وهو المرة الواحدة، لأن الأصل عدم الزيادة عليها. قوله: "حدثنا عبد الواحد" هو ابن زياد، وباقي الإسناد والمتن تقدم في باب الوضوء قبل الغسل. قوله في هذه الرواية "فغسل يده"، وللكشميهني: "يديه " "مرتين أو ثلاثا" الشك من الأعمش كما سيأتي من رواية أبي عوانة عنه، وغفل الكرماني فقال: الشك من ميمونة. قوله: "مذاكيره" هو جمع ذكر على غير قياس، وقيل واحده مذكار، وكأنهم فرقوا بين العضو وبين خلاف الأنثى، قال الأخفش: هو من الجمع الذي لا واحد له، وقيل واحده مذكار. وقال ابن خروف: إنما جمعه مع أنه ليس في الجسد إلا واحد بالنظر إلى ما يتصل به، وأطلق على الكل اسمه فكأنه جعل كل جزء من المجموع كالذكر في حكم الغسل.
(1/369)
باب بدأ بالحلاب أو
الطيب عند الغسل
...
6 - باب مَنْ بَدَأَ بِالْحِلاَبِ أَوْ الطِّيبِ عِنْدَ الْغُسْلِ
258- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ
حَنْظَلَةَ عَنْ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: "كَانَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا اغْتَسَلَ مِنْ الْجَنَابَةِ دَعَا
بِشَيْءٍ نَحْوَ الْحِلاَبِ فَأَخَذَ بِكَفِّهِ فَبَدَأَ بِشِقِّ رَأْسِهِ
الأَيْمَنِ ثُمَّ الأَيْسَرِ فَقَالَ بِهِمَا عَلَى وَسَطِ رَأْسِهِ".
قوله: "باب من بدأ بالحلاب أو الطيب عند الغسل" مطابقة هذه الترجمة
لحديث الباب أشكل أمرها قديما وحديثا على جماعة من الأئمة، فمنهم من نسب البخاري
فيها إلى الوهم، ومنهم من ضبط لفظ الحلاب على غير المعروف في الرواية لتتجه
المطابقة، ومنهم من تكلف لها توجيها من غير تغيير، فأما الطائفة الأولى فأولهم
الإسماعيلي فإنه قال في مستخرجه: رحم الله أبا عبد الله - يعني البخاري - من ذا
الذي يسلم من الغلط، سبق إلى قلبه أن الحلاب طيب وأي معنى للطيب عند الاغتسال قبل
الغسل، وإنما الحلاب إناء وهو ما يحلب فيه يسمى حلابا ومحلبا. قال: وفي تأمل طرق
هذا الحديث بيان ذلك حيث جاء فيه: "كان يغتسل من حلاب". انتهى. وهي
رواية ابن خزيمة وابن حبان أيضا. وقال الخطابي في شرح أبي داود: الحلاب إناء يسع
قدر حلب ناقة، قال: وقد ذكره البخاري وتأوله على استعمال الطيب في الطهور، وأحسبه
توهم أنه أريد به المحلب الذي يستعمل في غسل الأيدي، وليس الحلاب من الطيب في شيء،
وإنما هو ما فسرت لك. قال وقال الشاعر:
صاح هل رأيت أو سمعت براع ... رد في الضرع ما فرى في الحلاب
وتبع الخطابي ابن قرقول في المطالع وابن الجوزي وجماعة. وأما الطائفة الثانية
فأولهم الأزهري، قال في التهذيب: الحلاب في هذا الحديث ضبطه جماعة بالمهملة واللام
الخفيفة أي ما يحلب فيه كالمحلب فصحفوه، وإنما هو الجلاب بضم الجيم وتشديد اللام
وهو ماء الورد فارسي معرب. وقد أنكر جماعة على الأزهري هذا من جهة أن المعروف في
الرواية بالمهملة والتخفيف ومن جهة المعنى أيضا، قال ابن الأثير لأن الطيب يستعمل
بعد الغسل أليق منه قبله وأولى، لأنه إذا بدأ به ثم اغتسل أذهبه الماء. وقال
الحميدي في الكلام على غريب الصحيحين: ضم مسلم هذا الحديث مع حديث الفرق وحديث قدر
الصاع في موضع واحد فكأنه تأولها على الإناء، وأما البخاري فربما
(1/369)
ظن ظان أنه تأوله على أنه نوع من الطيب يكون قبل الغسل لأنه لم يذكر في الترجمة غير هذا الحديث. انتهى. فجعل الحميدي كون البخاري أراد ذلك احتمالا، أي ويحتمل أنه أراد غير ذلك لكن لم يفصح به، وقول القاضي عياض: الحلاب والمحلب بكسر الميم إناء يملؤه قدر حلب الناقة، وقيل المراد أي في هذا الحديث محلب الطيب وهو بفتح الميم قال: وترجمة البخاري تدل على أنه التفت إلى التأويلين، قال: وقد رواه بعضهم في غير الصحيحين الجلاب بضم الجيم وتشديد اللام. يشير إلى ما قاله الأزهري. وقال النووي: قد أنكر أبو عبيد الهروي على الأزهري ما قاله. وقال القرطبي: الحلاب بكسر المهملة لا يصح غيرها، وقد وهم من ظنه من الطيب وكذا من قاله بضم الجيم. انتهى. وأما الطائفة الثالثة فقال المحب الطبري: لم يرد البخاري بقوله الطيب ما له عرف طيب، وإنما يبدأ تطييب البدن بإزالة ما فيه من وسخ ودرن ونجاسة إن كانت، وإنما أراد بالحلاب الإناء الذي يغتسل منه يبدأ به فيوضع فيه ماء الغسل قال: و " أو " في قوله: "أو الطيب " بمعنى الواو، وكذا ثبت في بعض الروايات كما ذكره الحميدي، ومحصل ما ذكره أنه يحمله على إعداد ماء الغسل ثم الشروع في التنظيف قبل الشروع في الغسل. وفي الحديث البداءة بشق الرأس لكونه أكثر شعثا من بقية البدن من أجل الشعر، وقيل يحتمل أن يكون البخاري أراد الإشارة إلى ما روي عن ابن مسعود أنه كان يغسل رأسه بخطمي ويكتفي بذلك في غسل الجنابة كما أخرجه ابن أبي شيبة وغيره عنه، ورواه أبو داود مرفوعا عن عائشة بإسناد ضعيف، فكأنه يقول: دل هذا الحديث على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستعمل الماء في غسل الجنابة، ولم يثبت أنه كان يقدم على ذلك شيئا مما ينقي البدن كالسدر وغيره. ويقوي ذلك ما في معظم الروايات " بالحلاب أو الطيب"، فقوله أو يدل على أن الطيب قسيم الحلاب فيحمل على أنه من غير جنسه، وجميع من اعترض عليه حمله على أنه من جنسه فلذلك أشكل عليهم، والمراد بالحلاب على هذا الماء الذي في الحلاب فأطلق على الحال اسم المحل مجازا. وقال الكرماني: يحتمل أن يكون أراد بالحلاب الإناء الذي فيه الطيب فالمعنى بدأ تارة بطلب ظرف الطيب وتارة بطلب نفس الطيب فدل حديث الباب على الأول دون الثاني. انتهى. وهو مستمد من كلام ابن بطال، فإنه قال بعد حكايته لكلام الخطابي: وأظن البخاري جعل الحلاب في هذه الترجمة ضربا من الطيب قال: فإن كان ظن ذلك فقد وهم، وإنما الحلاب الإناء الذي كان فيه طيب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يستعمله عند الغسل. قال: وفي الحديث الحض على استعمال الطيب عند الغسل تأسيا بالنبي صلى الله عليه وسلم. انتهى كلامه. فكأنه جعل قوله في الحديث: "فأخذ بكفه " أي من الطيب الذي في الإناء " فبدأ بشق رأسه الأيمن " أي فطيبه إلخ. ومحصله أن الصفة المذكورة في الحديث صفة التطييب لا الاغتسال، وهو توجيه حسن بالنسبة لظاهر لفظ الرواية التي ساقها البخاري، لكن من تأمل طرق الحديث كما قال الإسماعيلي عرف أن الصفة المذكورة للغسل لا للتطيب، فروى الإسماعيلي من طريق مكي بن إبراهيم عن حنظلة في هذا الحديث: "كان يغتسل بقدح " بدل قوله بحلاب وزاد فيه: "كان يغسل يديه ثم يغسل وجهه ثم يقول بيده ثلاث غرف " الحديث. وللجوزقي من طريق حمدان السلمي عن أبي عاصم " اغتسل فأتى بحلاب فغسل شق رأسه الأيمن " الحديث، فقوله اغتسل ويغسل يدل على أنه إناء الماء لا إناء الطيب، وأما رواية الإسماعيلي من طريق بندار عن أبي عاصم بلفظ: "كان إذا أراد أن يغتسل من الجنابة دعا بشيء دون الحلاب فأخذ بكفه فبدأ بالشق الأيمن ثم الأيسر ثم أخذ بكفيه ماء فأفرغ على رأسه " فلولا قوله ماء لأمكن حمله على التطيب قبل الغسل، لكن رواه أبو عوانة في صحيحه عن يزيد بن سنان عن أبي عاصم بلفظ:
(1/370)
"كان يغتسل من حلاب فيأخذ غرفة بكفيه فيجعلها على شقه الأيمن ثم الأيسر كذلك " فقوله يغتسل وقوله غرفة أيضا مما يدل على أنه إناء الماء. وفي رواية لابن حبان والبيهقي " ثم يصب على شق رأسه الأيمن " والتطيب لا يعبر عنه بالصب، فهذا كله يبعد تأويل من حمله على التطيب. ورأيت عن بعضهم - ولا أحفظه الآن - أن المراد بالطيب في الترجمة الإشارة إلى حديث عائشة أنها كانت تطيب النبي صلى الله عليه وسلم عند الإحرام، قال: "والغسل من سنن الإحرام " وكأن الطيب حصل عند الغسل، فأشار البخاري هنا إلى أن ذلك لم يكن مستمرا من عادته. انتهى. ويقويه تبويب البخاري بعد ذلك بسبعة أبواب " باب من تطيب ثم اغتسل وبقي أثر الطيب " ثم ساق حديث عائشة " أنا طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم طاف في نسائه ثم أصبح محرما " وفي رواية بعدها " كأني أنظر إلى وبيص الطيب - أي لمعانه - في مفرقه صلى الله عليه وسلم وهو محرم " وفي رواية أخرى عنده قبيل هذا الباب: "ثم يصبح محرما ينضخ طيبا " فاستنبط الاغتسال بعد التطيب من قولها " ثم طاف على نسائه " لأنه كناية عن الجماع ومن لازمه الاغتسال، فعرف أنه أغتسل بعد أن تطيب وبقي أثر الطيب بعد الغسل لكثرته، لأنه كان صلى الله عليه وسلم يحب الطيب ويكثر منه، فعلى هذا فقوله هنا: "من بدأ بالحلاب " أي بإناء الماء الذي للغسل فاستدعى به لأجل الغسل، أو " من بدأ بالطيب " عند إرادة الغسل، فالترجمة مترددة بين الأمرين فدل حديث الباب على مداومته على البداءة بالغسل، وأما التطيب بعده فمعروف من شأنه، وأما البداءة بالطيب قبل الغسل فبالإشارة إلى الحديث الذي ذكرناه. وهذا أحسن الأجوبة عندي وأليقها بتصرفات البخاري والله أعلم. وعرف من هذا أن قول الإسماعيلي: "وأي معنى للطيب عند الغسل " معترض، وكذا قول ابن الأثير الذي تقدم، وفي كلام غيرهما مما تقدم مؤاخذات لم نتعرض لها لظهورها. والله الهادي للصواب. أبو عاصم المذكور في الإسناد هو النبيل وهو من كبار شيوخ البخاري وقد أكثر عنه في هذا الكتاب لكنه نزل في هذا الإسناد فأدخل بينه وبينه واسطة. وحنظلة هو ابن أبي سفيان الجمحي. والقاسم هو ابن محمد بن أبي بكر. وقوله: "كان إذا اغتسل " أي إذا أراد أن يغتسل كما تبين من رواية الإسماعيلي. وقوله: "دعا " أي طلب. وقوله: "نحو الحلاب " أي إناء قريب من الإناء الذي يسمى الحلاب، وقد وصفه أبو عاصم بأنه أقل من شبر في شبر أخرجه أبو عوانة في صحيحه عنه. وفي رواية لابن حبان: "وأشار أبو عاصم بكفيه: "فكأنه حلق بشبريه يصف به دوره الأعلى. وفي رواية للبيهقي " كقدر كوز يسع ثمانية أرطال"، وزاد مسلم في روايته لهذا الحديث عن محمد بن المثنى أيضا بهذا الإسناد بعد قوله الأيسر " ثم بكفيه فقال بهما على رأسه " فأشار بقوله أخذ بكفيه إلى الغرفة الثالثة كما صرحت به رواية أبي عوانة، وقوله: "بكفه " وقع في رواية الكشميهني: "بكفيه: "بالتثنية وقوله: "على وسط رأسه " هو بفتح السين قال الجوهري كل موضع صلح فيه: "بين " فهو وسط بالسكون وإن لم يصلح فهو بالتحريك. وفي الحديث استحباب البداءة بالميامن في التطهر، وبذلك ترجم عليه ابن خزيمة والبيهقي. وفيه الاجتزاء بالغسل بثلاث غرفات، وترجم على ذلك ابن حبان. وسنذكر الكلام على قوله: "فقال بهما " في الباب الذي بعده إن شاء الله تعالى.
(1/371)
7 - باب
الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ فِي الْجَنَابَةِ
259- حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبِي
حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ حَدَّثَنِي سَالِمٌ عَنْ
(1/371)
كُرَيْبٍ عَنْ
ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ حَدَّثَتْنَا مَيْمُونَةُ قَالَتْ: "صَبَبْتُ
لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غُسْلًا فَأَفْرَغَ بِيَمِينِهِ
عَلَى يَسَارِهِ فَغَسَلَهُمَا ثُمَّ غَسَلَ فَرْجَهُ ثُمَّ قَالَ بِيَدِهِ
الأَرْضَ فَمَسَحَهَا بِالتُّرَابِ ثُمَّ غَسَلَهَا ثُمَّ تَمَضْمَضَ
وَاسْتَنْشَقَ ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ وَأَفَاضَ عَلَى رَأْسِهِ ثُمَّ تَنَحَّى
فَغَسَلَ قَدَمَيْهِ ثُمَّ أُتِيَ بِمِنْدِيلٍ فَلَمْ يَنْفُضْ بِهَا".
قوله: "باب المضمضة والاستنشاق في الجنابة" أي في غسل الجنابة، والمراد
هل هما واجبان فيه أم لا؟ وأشار ابن بطال وغيره إلى أن البخاري استنبط عدم وجوبهما
من هذا الحديث، لأن في رواية الباب الذي بعده في هذا الحديث: "ثم توضأ وضوءه
للصلاة " فدل على أنهما للوضوء، وقام الإجماع على أن الوضوء في غسل الجنابة
غير واجب، والمضمضمة والاستنشاق من توابع الوضوء فإذا سقط الوضوء سقطت توابعه،
ويحمل ما روى من صفة غسله صلى الله عليه وسلم على الكمال والفضل. قوله:
"حدثنا عمر بن حفص" أي ابن غياث كما ثبت في رواية الأصيلي. قوله:
"غسلا" بضم أوله أي ماء الاغتسال كما سبق في باب الغسل مرة. قوله:
"ثم قال بيده الأرض" كذا في روايتنا، وللأكثر " بيده على الأرض
" وهو من إطلاق القول على الفعل، وقد وقع إطلاق الفعل على القول في حديث:
"لا حسد إلا في اثنتين " قال فيه في الذي يتلو القرآن " لو أوتيت
مثل ما أوتي هذا لفعلت مثل ما يفعل " وسيأتي في باب نفض اليدين قريبا من
رواية أبي حمزة عن الأعمش في هذا الموضع " فضرب بيده الأرض " فيفسر
" قال: "هنا بضرب. قوله: "ثم تنحى" أي تحول إلى ناحية. قوله:
"ثم ينفض بها" زاد في رواية كريمة: "قال أبو عبد الله يعني لم
يتمسح " وأنث الضمير على إرادة الخرقة لأن المنديل خرقة مخصوصة، وسيأتي في
باب من أفرغ على يمينه " قالت ميمونة فناولته خرقة"، وبقية مباحث الحديث
تقدمت في باب الوضوء قبل الغسل.
(1/372)
8 - باب مَسْحِ
الْيَدِ بِالتُّرَابِ لِتَكُونَ أَنْقَى
260- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ الْحُمَيْدِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا
سُفْيَانُ قَالَ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ
كُرَيْبٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ مَيْمُونَةَ : "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اغْتَسَلَ مِنْ الْجَنَابَةِ فَغَسَلَ فَرْجَهُ
بِيَدِهِ ثُمَّ دَلَكَ بِهَا الْحَائِطَ ثُمَّ غَسَلَهَا ثُمَّ تَوَضَّأَ
وُضُوءَهُ لِلصَّلاَةِ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ غُسْلِهِ غَسَلَ رِجْلَيْهِ".
قوله: "باب مسح اليد بالتراب لتكون أنقى" أي لتصير اليد أنقى منها قبل
المسح.قوله: "حدثنا عبد الله بن الزبير الحميدي" كذا في روايتنا، واقتصر
الأكثر على " حدثنا الحميدي". وسفيان هو ابن عيينة. قوله: "فغسل
فرجه" هذه الفاء تفسيرية وليست تعقبية لأن غسل الفرج لم يكن بعد الفراغ من
الاغتسال، وقد تقدمت مباحث هذا الحديث أيضا. ومن فوائد هذا السياق الإتيان فيه بثم
الدالة على ترتيب ما ذكر فيه من صفة الغسل
(1/372)
9 - باب هَلْ
يُدْخِلُ الْجُنُبُ يَدَهُ فِي الإِنَاءِ قَبْلَ أَنْ يَغْسِلَهَا إِذَا لَمْ
يَكُنْ عَلَى يَدِهِ قَذَرٌ غَيْرُ الْجَنَابَةِ
وَأَدْخَلَ ابْنُ عُمَرَ وَالْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ يَدَهُ فِي الطَّهُورِ وَلَمْ
يَغْسِلْهَا ثُمَّ تَوَضَّأَ وَلَمْ يَرَ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ بَأْسًا
بِمَا يَنْتَضِحُ مِنْ غُسْلِ الْجَنَابَةِ
(1/372)
10 - باب تَفْرِيقِ
الْغُسْلِ وَالْوُضُوءِ وَيُذْكَرُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ غَسَلَ قَدَمَيْهِ
بَعْدَ مَا جَفَّ وَضُوءُهُ
265- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَحْبُوبٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ
قَالَ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ كُرَيْبٍ
مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَتْ مَيْمُونَةُ:
"وَضَعْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاءً
يَغْتَسِلُ بِهِ فَأَفْرَغَ عَلَى يَدَيْهِ فَغَسَلَهُمَا مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ
أَوْ ثَلاَثًا ثُمَّ أَفْرَغَ بِيَمِينِهِ عَلَى شِمَالِهِ فَغَسَلَ مَذَاكِيرَهُ
ثُمَّ دَلَكَ يَدَهُ بِالأَرْضِ ثُمَّ مَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ ثُمَّ غَسَلَ
وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ وَغَسَلَ رَأْسَهُ ثَلاَثًا ثُمَّ أَفْرَغَ عَلَى جَسَدِهِ
ثُمَّ تَنَحَّى مِنْ مَقَامِهِ فَغَسَلَ قَدَمَيْهِ"
قوله: "باب تفريق الغسل والوضوء" أي جوازه، وهو قول الشافعي في الجديد،
واحتج له بأن الله تعالى أوجب غسل أعضائه، فمن غسلها فقد أتى بما وجب عليه فرقها
أو نسقها. ثم أيد ذلك بفعل ابن عمر، وبذلك قال ابن المسيب وعطاء وجماعة. وقال
ربيعة ومالك: من تعمد ذلك فعليه الإعادة، ومن نسى فلا. وعن مالك إن قرب التفريق
بني وإن طال أعاد. وقال قتادة والأوزاعي: لا يعيد إلا إن جف. وأجازه النخعي مطلقا
في الغسل دون الوضوء، ذكر جميع ذلك ابن المنذر وقال: ليس مع من جعل الجفاف حدا
لذلك حجة. وقال الطحاوي: الجفاف ليس بحدث فينقض كما لو جف جميع أعضاء الوضوء لم
تبطل الطهارة قوله: "ويذكر عن ابن عمر" هذا الأثر رويناه في الأم عن
مالك عن نافع عنه، لكن فيه أنه توضأ في السوق دون رجليه، ثم رجع إلى المسجد فمسح
على خفيه ثم صلى. والإسناد صحيح، فيحتمل أنه إنما لم يجزم به لكونه بالمعنى. قال
الشافعي: لعله قد جف وضوءه لأن الجفاف قد يحصل بأقل مما بين السوق والمسجد. قوله:
"حدثنا محمد بن محبوب" هو البصري، وعبد الواحد هو ابن زياد البصري، وقد
تقدم هذا المتن من رواية موسى بن إسماعيل عنه في باب الغسل مرة وسياقهما واحد
غالبا، إلا أن في ذلك " ثم تحول من مكانه " وفي هذا " تنحى من
مقامه " وهما بمعنى، وأبدى الكرماني من هذا احتمال أن يكون اغتسل قائما.
(1/375)
11 - باب مَنْ أَفْرَغَ
بِيَمِينِهِ عَلَى شِمَالِهِ فِي الْغُسْلِ
266- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ
حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى
ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ قَالَتْ:
"وَضَعْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غُسْلًا
وَسَتَرْتُهُ فَصَبَّ عَلَى يَدِهِ فَغَسَلَهَا مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ قَالَ
سُلَيْمَانُ لاَ أَدْرِي أَذَكَرَ الثَّالِثَةَ أَمْ لاَ ثُمَّ أَفْرَغَ بِيَمِينِهِ
عَلَى شِمَالِهِ فَغَسَلَ فَرْجَهُ ثُمَّ دَلَكَ يَدَهُ بِالأَرْضِ أَوْ
بِالْحَائِطِ ثُمَّ تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ
وَغَسَلَ رَأْسَهُ ثُمَّ صَبَّ عَلَى جَسَدِهِ ثُمَّ تَنَحَّى فَغَسَلَ قَدَمَيْهِ
فَنَاوَلْتُهُ خِرْقَةً فَقَالَ بِيَدِهِ هَكَذَا وَلَمْ يُرِدْهَا"
قوله: "باب من أفرغ" هذا الباب مقدم عند الأصيلي وابن عساكر على الذي
قبله. واعترض على المصنف
(1/375)
3 - باب إِذَا
جَامَعَ ثُمَّ عَادَ وَمَنْ دَارَ عَلَى نِسَائِهِ فِي غُسْلٍ وَاحِدٍ
267- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ
وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
الْمُنْتَشِرِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ ذَكَرْتُهُ لِعَائِشَةَ فَقَالَتْ:
"يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ كُنْتُ أُطَيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ ثُمَّ يُصْبِحُ
مُحْرِمًا يَنْضَخُ طِيبًا"
[267- طرفه في:270]
قوله: "باب إذا جامع ثم عاد" أي ما حكمه. وللكشميهني: "عاود "
أي الجماع، وهو أعم من أن يكون لتلك المجامعة أو غيرها، وقد أجمعوا على أن الغسل
بينهما لا يجب ويدل على استحبابه حديث أخرجه أبو داود والنسائي عن أبي رافع "
أنه صلى الله عليه وسلم طاف ذات يوم على نسائه يغتسل عند هذه وعند هذه، قال فقلت:
يا رسول الله ألا تجعله غسلا واحدا؟ قال: "هذا أزكى وأطيب وأطهر "
واختلفوا في الوضوء بينهما فقال أبو يوسف: لا يستحب. وقال الجمهور: يستحب. وقال
ابن حبيب المالكي وأهل الظاهر: يجب. واحتجوا بحديث أبي سعيد قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "إذا أتى أحدكم أهله ثم أراد أن يعود فليتوضأ بينهما
وضوءا " أخرجه مسلم من طريق أبي حفص عن عاصم عن أبي المتوكل عنه. وأشار ابن
خزيمة إلى أن بعض أهل العلم حمله على الوضوء اللغوي
(1/376)
فقال: المراد به
غسل الفرج، ثم رده ابن خزيمة بما رواه من طريق ابن عيينة عن عاصم في هذا الحديث
فقال: "فليتوضأ وضوءه للصلاة " وأظن المشار إليه هو إسحاق بن راهويه،
فقد نقل ابن المنذر عنه أنه قال: لا بد من غسل الفرج إذا أراد العود. ثم استدل ابن
خزيمة على أن الأمر بالوضوء للندب لا للوجوب بما رواه من طريق شعبة عن عاصم في
حديث أبي سعيد المذكور كرواية ابن عيينة وزاد: "فإنه أنشط للعود " فدل
على أن الأمر للإرشاد أو للندب. ويدل أيضا على أنه لغير الوجوب ما رواه الطحاوي من
طريق موسى بن عقبة عن أبي إسحاق عن الأسود عن عائشة قالت: "كان النبي صلى
الله عليه وسلم يجامع ثم يعود ولا يتوضأ". قوله: "ويحيى بن سعيد"
هو القطان، وينبغي أن يثبت في القراءة قبل قوله: "عن شعبة " لفظ:
"كلاهما " لأن كلا من ابن أبي عدي ويحيى رواه لمحمد بن بشار عن شعبة
وحذف كلاهما من الخط اصطلاح. قوله: "ذكرته" أي قول ابن عمر المذكور بعد
باب وهو قوله: "ما أحب أن أصبح محرما أنضخ طيبا " وقد بينه مسلم في
روايته عن محمد بن المنتشر قال: "سألت عبد الله بن عمر عن الرجل يتطيب ثم يصبح
محرما " فذكره وزاد: "قال ابن عمر: لأن أطلي بقطران أحب إلي من أن أفعل
ذلك " وكذا ساقه الإسماعيلي بتمامه عن الحسن بن سفيان عن محمد بن بشار، فكأن
المصنف اختصره لكون المحذوف معلوما عند أهل الحديث في هذه القصة، أو حدثه به محمد
بن بشار مختصرا. قوله: "أبا عبد الرحمن" يعني ابن عمر، استرحمت له عائشة
إشعارا بأنه قد سها فيما قاله، إذ لو استحضر فعل النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل
ذلك. قوله: "فيطوف" كناية عن الجماع، وبذلك تظهر مناسبة الحديث للترجمة.
وقال الإسماعيلي. يحتمل أن يراد به الجماع، وأن يراد به تجديد العهد بهن. قلت:
والاحتمال الأول يرجحه الحديث الثاني لقوله فيه: "أعطى قوة ثلاثين " و
" يطوف " في الأول مثل " يدور " في الثاني. قوله:
"ينضخ" فتح أوله وبفتح الضاد المعجمة وبالخاء المعجمة، قال الأصمعي:
النضخ بالمعجمة أكثر من النضح بالمهملة. وسوى بينهما أبو زيد. وقال ابن كيسان: إنه
بالمعجمة لما ثخن، وبالمهملة لما رق. وظاهره أن عين الطيب بقيت بعد الإحرام، قال
الإسماعيلي: بحيث أنه صار كأنه يتساقط منه الشيء بعد الشيء. وسنذكر حكم هذه
المسألة في كتاب الحج إن شاء الله تعالى.
268- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ قَالَ
حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ قَتَادَةَ قَالَ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ
"كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدُورُ عَلَى
نِسَائِهِ فِي السَّاعَةِ الْوَاحِدَةِ مِنْ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُنَّ
إِحْدَى عَشْرَةَ" قَالَ قُلْتُ لِأَنَسٍ أَوَكَانَ يُطِيقُهُ قَالَ كُنَّا
نَتَحَدَّثُ أَنَّهُ أُعْطِيَ قُوَّةَ ثَلاَثِينَ وَقَالَ سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ
إِنَّ أَنَسًا حَدَّثَهُمْ: تِسْعُ نِسْوَةٍ
[الحديث268- أطرافه في:5215,5068,284]
قوله: "معاذ بن هشام" هو الدستوائي، والإسناد كله بصريون. قوله:
"في الساعة الواحدة" المراد بها قدر من الزمان، لا ما اصطلح عليه أصحاب
الهيئة. قوله: "من الليل والنهار" الواو بمعنى " أو " جزم به
الكرماني. ويحتمل أن تكون على بابها بأن تكون تلك الساعة جزءا من آخر أحدهما،
وجزءا من أول الآخر. قوله: "وهن إحدى عشرة" قال ابن خزيمة: تفرد بذلك
معاذ بن هشام عن أبيه، ورواه سعيد بن أبي عروبة وغيره عن قتادة فقالوا " تسع
نسوة". انتهى. وقد أشار البخاري إلى رواية سعيد بن أبي عروبة فعلقها هنا،
ووصلها
(1/377)
بعد اثني عشر بابا بلفظ: "كان يطوف على نسائه في الليلة الواحدة، وله يومئذ تسع نسوة " وقد جمع ابن حبان في صحيحه بين الروايتين بأن حمل ذلك على حالتين، لكنه وهم في قوله: "أن الأولى كانت في أول قدومه المدينة حيث كان تحته تسع نسوة، والحالة الثانية في آخر الأمر حيث اجتمع عنده إحدى عشرة امرأة " وموضع الوهم منه أنه صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة لم يكن تحته امرأة سوى سودة، ثم دخل على عائشة بالمدينة، ثم تزوج أم سلمة، وحفصة، وزينب بنت خزيمة في السنة الثالثة والرابعة، ثم تزوج زينب بنت جحش في الخامسة، ثم جويرية في السادسة، ثم صفية وأم حبيبة وميمونة في السابعة، وهؤلاء جميع من دخل بهن من الزوجات بعد الهجرة على المشهور واختلف في ريحانة وكانت من سبي بني قريظة فجزم ابن إسحاق بأنه عرض عليها أن يتزوجها ويضرب عليها الحجاب فاختارت البقاء في ملكه، والأكثر على أنها ماتت قبله في سنة عشر، وكذا ماتت زينب بنت خزيمة بعد دخولها عليه بقليل، قال ابن عبد البر: مكثت عنده شهرين أو ثلاثة. فعلى هذا لم يجتمع عنده من الزوجات أكثر من تسع، مع أن سودة كانت وهبت يومها لعائشة كما سيأتي في مكانه، فرجحت رواية سعيد. لكن تحمل رواية هشام على أنه ضم مارية وريحانة إليهن وأطلق عليهن لفظ: "نسائه " تغليبا. وقد سرد الدمياطي - في السيرة التي جمعها - من اطلع عليه من أزواجه ممن دخل بها أو عقد عليها فقط أو طلقها قبل الدخول أو خطبها ولم يعقد عليها فبلغت ثلاثين، وفي المختارة من وجه آخر عن أنس " تزوج خمس عشرة: دخل منهن بإحدى عشرة ومات عن تسع". وسرد أسماءهن أيضا أبو الفتح اليعمري ثم مغلطاي فزدن على العدد الذي ذكره الدمياطي، وأنكر ابن القيم ذلك. والحق أن الكثرة المذكورة محمولة على اختلاف في بعض الأسماء، وبمقتضى ذلك تنقص، العدة. والله أعلم. قوله: "أو كان" بفتح الواو هو مقول قتادة والهمزة للاستفهام ومميز ثلاثين محذوف أي ثلاثين رجلا، ووقع في رواية الإسماعيلي من طريق أبي موسى من معاذ بن هشام " أربعين " بدل ثلاثين، وهي شاذة من هذا الوجه، لكن في مراسيل طاوس مثل ذلك، وزاد: "في الجماع"، وفي صفة الجنة لأبي نعيم من طريق مجاهد مثله وزاد: "من رجال أهل الجنة"، ومن حديث عبد الله بن عمر ورفعه: "أعطيت قوة أربعين في البطش والجماع " وعند أحمد والنسائي وصححه الحاكم من حديث زيد بن أرقم رفعه: "إن الرجل من أهل الجنة ليعطى قوة مائة في الأكل والشرب والجماع والشهوة " فعلى هذا يكون حساب قوة نبينا أربعة آلاف. قوله: "وقال سعيد" هو ابن أبي عروبة، كذا للجميع، إلا أن الأصيلي قال: إنه وقع في نسخة " شعبة " بدل سعيد قال: "وفي عرضنا على أبي زيد بمكة: سعيد " قال أبو علي الجياني وهو الصواب. قلت: وقد ذكرنا قبل أن المصنف وصل رواية سعيد، وأما رواية شعبة لهذا الحديث عن قتادة فقد وصلها الإمام أحمد. قال ابن المنير: ليس في حديث دورانه على نسائه دليل على الترجمة، فيحتمل أنه طاف عليهن واغتسل في خلال ذلك عن كل فعلة غسلا. قال والاحتمال في رواية الليلة أظهر منه في الساعة. قلت: التقييد بالليلة ليس صريحا في حديث عائشة، وأما حديث أنس فحيث جاء فيه التصريح بالليلة قيد الاغتسال بالمرة الواحدة. كذا وقع في روايات للنسائي وابن خزيمة وابن حبان، ووقع التقييد بالغسل الواحد من غير ذكر الليلة في روايات أخرى لهم ولمسلم، وحيث جاء في حديث أنس التقييد بالساعة لم يحتج إلى تقييد الغسل بالمرة لأنه يتعذر أو يتعسر، وحيث جاء فيها تكرار المباشرة والغسل معا، وعرف من هذا أن قوله في الترجمة " في غسل واحد " أشار به إلى ما ورد في بعض طرق الحديث وإن لم يكن منصوصا فيما أخرجه كما جرت به
(1/378)
عادته، ويحمل المطلق في حديث عائشة على المقيد في حديث أنس ليتوافقا، ومن لازم جماعهن في الساعة أو الليلة الواحدة عود الجماع كما ترجم به، والله أعلم. واستدل به المصنف في كتاب النكاح على استحباب الاستكثار من النساء، وأشار فيه إلى أن القسم لم يكن واجبا عليه، وهو قول طوائف من أهل العلم، وبه جزم الإصطخري من الشافعية، والمشهور عندهم وعند الأكثرين الوجوب، ويحتاج من قال به إلى الجواب عن هذا الحديث فقيل: كان ذلك برضا صاحبة النوبة كما استأذنهن أن يمرض في بيت عائشة، ويحتمل أن يكون ذلك كان يحصل عند استيفاء القسمة ثم يستأنف القسمة، وقيل كان ذلك عند إقباله من سفر، لأنه كان إذا سافر أقرع بينهن فيسافر بمن يخرج سهمها فإذا انصرف استأنف، وهو أخص من الاحتمال الثاني، والأول أليق بحديث عائشة وكذا الثاني، ويحتمل أن يكون ذلك كان يقع قبل وجوب القسمة ثم ترك بعدها، وأغرب ابن العربي فقال: إن الله خص نبيه بأشياء منها أنه أعطاه ساعة في كل يوم لا يكون لأزواجه فيها حق، يدخل فيها على جميعهن فيفعل ما يريد ثم يستقر عند من لها النوبة، وكانت تلك الساعة بعد العصر، فإن اشتغل عنها كانت بعد المغرب. ويحتاج إلى ثبوت ما ذكره مفصلا. وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدم ما أعطي النبي صلى الله عليه وسلم من القوة على الجماع، وهو دليل على كمال البنية وصحة الذكورية، والحكمة في كثرة أزواجه أن الأحكام التي ليست ظاهرة يطلعن عليا فينقلنها، وقد جاء عن عائشة من ذلك الكثير الطيب، ومن ثم فضلها بعضهم على الباقيات. واستدل به ابن التين لقول مالك بلزوم الظهار من الإماء بناء على أن المراد بالزائدتين على التسع مارية وريحانة، وقد أطلق على الجميع لفظ نسائه، تعقب بأن الإطلاق المذكور للتغليب كما تقدم فليس فيه حجة لما ادعى، واستدل به ابن المنير على جواز وطء الحرة بعد الأمة من غير غسل بينهما ولا غيره، والمنقول عن مالك أنه لا يتأكد الاستحباب في هذه الصورة، ويمكن أن يكون ذلك وقع لبيان الجواز فلا يدل على عدم الاستحباب.
(1/379)
13 - باب غَسْلِ
الْمَذْيِ وَالْوُضُوءِ مِنْهُ
269- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ قَالَ حَدَّثَنَا زَائِدَةُ عَنْ أَبِي حَصِينٍ
عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: "كُنْتُ رَجُلًا مَذَّاءً
فَأَمَرْتُ رَجُلًا أَنْ يَسْأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِمَكَانِ ابْنَتِهِ فَسَأَلَ فَقَالَ "تَوَضَّأْ وَاغْسِلْ ذَكَرَكَ"
قوله: "باب غسل المذي والوضوء منه" أي بسببه، وفي المذي لغات أفصحها
بفتح الميم وسكون الذال المعجمة وتخفيف الياء، ثم بكسر الذال وتشديد الياء، وهو
ماء أبيض رقيق لزج يخرج عند الملاعبة أو تذكر الجماع أو إرادته، وقد لا يحس
بخروجه.قوله: "حدثنا أبو الوليد" هو الطيالسي.قوله: "عن أبي عبد
الرحمن" هو السلمي.قوله: "مذاء" صيغة مبالغة من المذي، يقال مذي
بمذي مثل مضى يمضي ثلاثيا، ويقال أيضا أمذى يمذي بوزن أعطى يعطي رباعيا. قوله:
"فأمرت رجلا" هو المقداد بن الأسود كما تقدم في باب الوضوء من المخرجين
من وجه آخر، وزاد فيه: "فاستحييت أن أسأل". قوله: "لمكان
ابنته" في رواية مسلم من طريق ابن الحنفية عن علي " من أجل فاطمة "
رضي الله عنهما. قوله: "توضأ" هذا الأمر بلفظ الإفراد يشعر بأن المقداد
سأل لنفسه، ويحتمل أن يكون سأل لمبهم أو لعلي فوجه النبي صلى الله عليه وسلم
الخطاب إليه، والظاهر أن عليا كان حاضر السؤال، فقد أطبق أصحاب المسانيد والأطراف
على إيراد هذا الحديث في مسند علي، ولو حملوه على أنه لم يحضر لأوردوه في مسند
المقداد. ويؤيده ما
(1/379)
في رواية النسائي
من طريق أبي بكر بن عياش عن أبي حصين في هذا الحديث عن علي قال: "فقلت لرجل
جالس إلى جنبي سله فسأله " ووقع في رواية مسلم: "فقال: "يغسل ذكره
ويتوضأ " بلفظ الغائب، فيحتمل أن يكون سؤال المقداد ووقع على الإبهام وهو
الأظهر، ففي مسلم أيضا: "فسأله عن المذي يخرج من الإنسان " وفي الموطأ
نحوه، ووقع في رواية لأبي داود والنسائي وابن خزيمة ذكر سبب ذلك من طريق حصين بن
قبيصة عن علي قال: "كنت رجلا مذاء فجعلت اغتسل منه في الشتاء حتى تشقق ظهري،
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تفعل " ولأبي داود وابن خزيمة من حديث سهل
بن حنيف أنه وقع له نحو ذلك وأنه سأل عن ذلك بنفسه، ووقع في رواية للنسائي أن عليا
قال: "أمرت عمارا أن يسأل " وفي رواية لابن حبان والإسماعيلي أن عليا
قال: "سألت". وجمع ابن حبان بين هذا الاختلاف بأن عليا أمر عمارا أن
يسأل، ثم أمر المقداد بذلك، ثم سأل بنفسه. وهو جمع جيد إلا بالنسبة إلى آخره لكونه
مغايرا لقوله إنه استحيي عن السؤال بنفسه لأجل فاطمة فيتعين حمله على المجاز بأن
بعض الرواة أطلق أنه سأل لكونه الآمر بذلك، وبهذا جزم الإسماعيلي ثم النووي، ويؤيد
أنه أمر كلا من المقداد وعمارا بالسؤال عن ذلك ما رواه عبد الرزاق من طريق عائش بن
أنس قال: "تذاكر علي والمقداد وعمار المذي فقال علي: إنني رجل مذاء فاسألا عن
ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فسأله أحد الرجلين " وصحح ابن بشكوال أن الذي
تولى السؤال عن ذلك هو المقداد، وعلى هذا فنسبة عمار إلى أنه سأل عن ذلك محمولة
على المجاز أيضا لكونه قصده، لكن تولى المقداد الخطاب دونه والله أعلم. واستدل
بقوله صلى الله عليه وسلم: "توضأ " على أن الغسل لا يجب بخروج المذي،
وصرح بذلك في رواية لأبي داود وغيره وهو إجماع، وعلى أن الأمر بالوضوء منه كالأمر
بالوضوء من البول كما تقدم استدلال المصنف به في باب: من لم ير الوضوء إلا من
المخرجين، وحكى الطحاوي عن قوم أنهم قالوا بوجوب الوضوء بمجرد خروجه، ثم رد عليهم
بما رواه من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى عن علي قال: سئل النبي صلى الله عليه
وسلم عن المذي فقال: "فيه الوضوء وفي المني الغسل " فعرف بهذا أن حكم
المذي حكم البول وغيره من نواقض الوضوء لا أنه يوجب الوضوء بمجرده. قوله:
"وأغسل ذكرك" هكذا وقع في البخاري تقديم الأمر بالوضوء على غسله، ووقع
في العمدة نسبة إلى البخاري بالعكس، لكن الواو لا ترتب فالمعنى واحد، وهي رواية
الإسماعيلي، فيجوز تقديم غسله على الوضوء وهو أولى، ويجوز تقديم الوضوء على غسله
لكن من يقول بنقض الوضوء بمسه يشترط أن يكون ذلك بحائل، واستدل به ابن دقيق العيد
على تعين الماء فيه دون الأحجار ونحوها لأن ظاهره يعين الغسل والمعين لا يقع
الامتثال إلا به، وهذا ما صححه النووي في شرح مسلم، وصحح في باقي كتبه جواز
الاقتصار إلحاقا بالبول وحملا للأمر بغسله على الاستحباب أو على أنه خرج مخرج
الغالب وهذا المعروف في المذهب، واستدل به بعض المالكية والحنابلة على إيجاب
استيعابه بالغسل عملا بالحقيقة، لكن الجمهور نظروا إلى المعنى، فإن الموجوب لغسله
إنما هو خروج الخارج فلا تجب المجاوزة إلى غير محله، ويؤيده ما عند الإسماعيلي في
رواية: "فقال توضأ واغسله " فأعاد الضمير على المذي، ونظير هذا قوله:
"من مس ذكره فليتوضأ " فإن النقض لا يتوقف على مس جميعه، واختلف
القائلون بوجوب غسل جميعه هل هو معقول المعنى أو للتعبد؟ فعلى الثاني تجب
ـــــــ
(1) الصواب ماقاله ابن دقيق العيد من تعيين الماء في غسل المذي عملا بظاهر الحديث.
ويؤيده ماثبت في مسند أحمد وسنن أبي داود عن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره
أن يغسل ذكره وأنثييه.وهذاحكم يخص المذي دون البول. والله أعلم
(1/380)
النية فيه، قال الطحاوي: "لم يكن الأمر بغسله لوجوب غسله كله بل ليتقلص فيبطل خروجه كما في الضرع إذا غسل بالماء البارد يتفرق لبنه إلى داخل الضرع فينقطع بخروجه"، واستدل به أيضا على نجاسة المذي وهو ظاهر، وخرج ابن عقيل الحنبلي من قول بعضهم: إن المذي من أجزاء المني رواية بطهارته، وتعقب بأنه لو كان منيا لوجب الغسل منه، واستدل به على وجوب الوضوء على من به سلس المذي للأمر بالوضوء مع الوصف بصيغة المبالغة الدالة على الكثرة، وتعقبه ابن دقيق العيد بأن الكثرة هنا ناشئة عن غلبة الشهوة مع صحة الجسد، بخلاف صاحب السلس فإنه ينشأ عن علة في الجسد، ويمكن أن يقال: أمر الشارع بالوضوء منه ولم يستفصل فدل على عموم الحكم، واستدل به على قبول خبر الواحد، وعلى جواز الاعتماد على الخبر المظنون مع القدرة على المقطوع وفيهما نظر لما قدمناه من أن السؤال كان بحضرة علي، ثم لو صح أن السؤال كان في غيبته لم يكن دليلا على المدعي لاحتمال وجود القرائن التي تحف الخبر فترقيه عن الظن إلى القطع قاله القاضي عياض. وقال ابن دقيق العيد: "المراد بالاستدلال به على قبول خبر الواحد مع كونه خبر واحد أنه صورة من الصور التي تدل وهي كثيرة تقوم الحجة بجملتها لا بفرد معين منها". وفيه جواز الاستنابة في الاستفتاء، وقد يؤخذ منه جواز دعوى الوكيل بحضرة موكله، وفيه ما كان الصحابة عليه من حرمة النبي صلى الله عليه وسلم وتوقيره، وفيه استعمال الأدب في ترك المواجهة بما يستحيي منه عرفا، وحسن المعاشرة مع الأصهار وترك ذكر ما يتعلق بجماع المرأة ونحوه بحضرة أقاربها، وقد تقدم استدلال المصنف به في العلم لمن استحيي فأمر غيره بالسؤال، لأن فيه جميعا بين المصلحتين: استعمال الحياء، وعدم التفريط في معرفة الحكم.
(1/381)
14 - بَاب مَنْ
تَطَيَّبَ ثُمَّ اغْتَسَلَ وَبَقِيَ أَثَرُ الطِّيبِ
270- حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ
إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْتَشِرِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ:
"سَأَلْتُ عَائِشَةَ فَذَكَرْتُ لَهَا قَوْلَ ابْنِ عُمَرَ "مَا أُحِبُّ
أَنْ أُصْبِحَ مُحْرِمًا أَنْضَخُ طِيبًا" فَقَالَتْ عَائِشَةُ: أَنَا
طَيَّبْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ طَافَ فِي
نِسَائِهِ ثُمَّ أَصْبَحَ مُحْرِمًا".
271- حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ
حَدَّثَنَا الْحَكَمُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ
"كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ الطِّيبِ فِي مَفْرِقِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ".
[الحديث271- أطرافه في5923,5918,1538]
تقدم الكلام على الحديث قبل باب، وموضع الاستدلال به أن قولها " طاف في نسائه
" كناية عن الجماع، ومن لازمه الاغتسال.وقد ذكرت أنها طيبته قبل ذلك، وأنه
أصبح محرما. ومن فوائده أيضا وقوع رد بعض الصحابة على بعض بالدليل، واطلاع أزواج
النبي صلى الله عليه وسلم على ما لا يطلع عليه غيرهن من أفاضل الصحابة، وخدمه
الزوجات لأزواجهن، والتطيب عند الإحرام وسيأتي في الحج. وقال ابن بطال: فيه أن
السنة اتخاذ الطيب للرجال والنساء عند الجماع. قوله: "حدثنا الحكم" هو
ابن عتيبة، هو وشيخه إبراهيم النخعي وشيخه الأسود بن يزيد فقهاء كوفيون تابعيون.
قوله: "وبيص" بفتح الواو وكسر الموحدة بعدها
(1/381)
ياء تحتانية ثم صاد مهملة هو البريق. وقال الإسماعيلي وبيص، الطيب تلألؤه وذلك لعين قائمة لا للريح فقط. قوله: "مفرق" بفتح الميم وكسر الراء ويجوز فتحها. ودلالة هذا المتن على الترجمة إما لكونها قصة واحدة، وإما لأن من سنن الإحرام الغسل عنده، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يدعه. وفيه أن بقاء الطيب على بدن المحرم لا يضر بخلاف ابتدائه بعد الإحرام.
(1/382)
15 - باب تَخْلِيلِ
الشَّعَرِ حَتَّى إِذَا ظَنَّ أَنَّهُ قَدْ أَرْوَى بَشَرَتَهُ أَفَاضَ عَلَيْهِ
272- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ أَخْبَرَنَا
هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ "كَانَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا اغْتَسَلَ مِنْ الْجَنَابَةِ
غَسَلَ يَدَيْهِ وَتَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلاَةِ ثُمَّ اغْتَسَلَ ثُمَّ
يُخَلِّلُ بِيَدِهِ شَعَرَهُ حَتَّى إِذَا ظَنَّ أَنَّهُ قَدْ أَرْوَى بَشَرَتَهُ
أَفَاضَ عَلَيْهِ الْمَاءَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ غَسَلَ سَائِرَ جَسَدِهِ"
قوله: "باب تخليل الشعر" أي في غسل الجنابة قوله: "عبد الله"
هو ابن المبارك. قوله: "إذا اغتسل" أي أراد أن يغتسل. قوله: "إذا
ظن" يحتمل أن يكون على بابه ويكتفي فيه بالغلبة، ويحتمل أن يكون بمعنى علم.
قوله: "أروى" هو فعل ماض من الإرواء، يقال أرواه إذا جعله ريانا،
والمراد بالبشرة هنا ما تحت الشعر. قوله: "أفاض عليه" أي على شعره.
قوله: "ثم غسل سائر جسده" أي بقية جسده، وقد تقدم من رواية مالك عن هشام
في أول كتاب الغسل هنا " على جلده كله " فيحتمل أن يقال إن سائر هنا
بمعنى الجميع جمعا بين الروايتين. وبقية مباحث الحديث تقدمت هناك.
273- وَقَالَتْ كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ نَغْرِفُ مِنْهُ جَمِيعًا
قوله: "وقالت" أي عائشة " وهو معطوف على الأول فهو متصل بالإسناد
المذكور. قوله: "نغرف" إسكان المعجمة بعدها راء مكسورة، وله في الاعتصام
" نشرع فيه جميعا " وقد تقدمت مباحثه في باب: هل يدخل الجنب يده في
الطهور.
(1/382)
16 - باب مَنْ
تَوَضَّأَ فِي الْجَنَابَةِ ثُمَّ غَسَلَ سَائِرَ جَسَدِهِ وَلَمْ يُعِدْ غَسْلَ
مَوَاضِعِ الْوُضُوءِ مَرَّةً أُخْرَى
274- حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ عِيسَى قَالَ أَخْبَرَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى
قَالَ أَخْبَرَنَا الأَعْمَشُ عَنْ سَالِمٍ عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ مَيْمُونَةَ قَالَتْ "وَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَضُوءًا لِجَنَابَةٍ فَأَكْفَأَ بِيَمِينِهِ
عَلَى شِمَالِهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا ثُمَّ غَسَلَ فَرْجَهُ ثُمَّ ضَرَبَ
يَدَهُ بِالأَرْضِ أَوْ الْحَائِطِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا ثُمَّ مَضْمَضَ
وَاسْتَنْشَقَ وَغَسَلَ وَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ ثُمَّ أَفَاضَ عَلَى رَأْسِهِ
الْمَاءَ ثُمَّ غَسَلَ جَسَدَهُ ثُمَّ تَنَحَّى فَغَسَلَ رِجْلَيْهِ قَالَتْ
فَأَتَيْتُهُ بِخِرْقَةٍ فَلَمْ يُرِدْهَا فَجَعَلَ يَنْفُضُ بِيَدِهِ"
قوله: "باب من توضأ في الجنابة" سقط من أواخر الترجمة لفظ: "منه
" من رواية غير أبي ذر.قوله: "أخبرنا" ولأبي ذر "حدثنا
الفضل". قوله: "وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم وضوء الجنابة"
كذا للأكثر بالإضافة، ولكريمة:
(1/382)
باب إذا ذكر في
المسجد أنه جنب خرج كما هو ولا يتيمم
...
17 - باب إِذَا ذَكَرَ فِي الْمَسْجِدِ أَنَّهُ جُنُبٌ يَخْرُجُ كَمَا هُوَ وَلاَ
يَتَيَمَّمُ
275- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ
عُمَرَ قَالَ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ "أُقِيمَتْ الصَّلاَةُ وَعُدِّلَتْ الصُّفُوفُ
قِيَامًا فَخَرَجَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَلَمَّا قَامَ فِي مُصَلاَهُ ذَكَرَ أَنَّهُ جُنُبٌ فَقَالَ لَنَا
"مَكَانَكُمْ" ثُمَّ رَجَعَ فَاغْتَسَلَ ثُمَّ خَرَجَ إِلَيْنَا
وَرَأْسُهُ يَقْطُرُ فَكَبَّرَ فَصَلَّيْنَا مَعَهُ"
تَابَعَهُ عَبْدُ الأَعْلَى عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ وَرَوَاهُ
الأَوْزَاعِيُّ عَنْ الزُّهْرِيِّ
[الحديث275-طرفاه في: 640,639]
قوله: "باب إذا ذكر" أي تذكر الرجل، وهو "في المسجد أنه جنب
خرج". ولأبي ذر وكريمة: "يخرج " "كما هو" أي على حاله.
قوله: "ولا يتيمم" إشارة إلى رد من يوجبه في هذه الصورة، وهو منقول عن
الثوري وإسحاق،
(1/383)
وكذا قال بعض المالكية فيمن نام في المسجد فاحتلم يتيمم قبل أن يخرج. وورد " ذكر " بمعنى تذكر من الذكر بضم الذال كثيرا، وإن كان المتبادر أنه من الذكر بكسرها. وقوله: "خرج كما هو " قال الكرماني: هذه الكاف كاف المقارنة لا كاف التشبيه، كذا قال، وعلى التنزل فالتشبيه هنا ليس ممتنعا لأن يتعلق بحالته، أي خرج في حالة شبيهة بحالته التي قبل خروجه فيما يتعلق بالمحدث لم يفعل ما يرفعه من غسل أو ما ينوب عنه من التيمم. قوله: "حدثنا عبد الله بن محمد" هو الجعفي، ويونس هو ابن يزيد. قوله: "وعدلت" أي سويت، وكان من شأن النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يكبر حتى تستوي الصفوف. قوله: "فلما قام في مصلاه ذكر" أي تذكر، لا أنه قال ذلك لفظا، وعلم الراوي بذلك من قرائن الحال أو بإعلامه له بعد ذلك. وبين المصنف في الصلاة من رواية صالح بن كيسان عن الزهري أن ذلك كان قبل أن يكبر النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة. قوله: "فقال لنا: مكانكم" بالنصب أي: ألزموا مكانكم. وفيه إطلاق القول على الفعل، فإن في رواية الإسماعيلي: "فأشار بيده أن مكانكم " ويحتمل أن يكون جمع بين الكلام والإشارة. قوله: "ورأسه يقطر" أي من ماء الغسل، وظاهر قوله: "فكبر " الاكتفاء بالإقامة السابقة، فيؤخذ منه جواز التخلل الكثير بين الإقامة والدخول في الصلاة، وسيأتي مع بقية مباحث هذا الحديث في كتاب الصلاة قبيل أبواب صلاة الجماعة بعد أبواب الأذان إن شاء الله تعالى. قوله: "تابعه عبد الأعلى" هو ابن عبد الأعلى البصري، وروايته موصولة عند الإمام أحمد عنه، وقد تابع عثمان بن عمر راويه عن يونس عن عبد الله بن وهب عند مسلم، وهذه متابعة تامة. قوله: "ورواه الأوزاعي" روايته موصولة عند المؤلف في أوائل أبواب الإمامة كما سيأتي، وظن بعضهم أن السبب في التفرقة بين قوله تابعه وبين قوله رواه كون المتابعة وقعت بلفظه والرواية بمعناه، وليس كما ظن بل هو من التفنن في العبارة.
(1/384)
18 - باب نَفْضِ
الْيَدَيْنِ مِنْ الْغُسْلِ عَنْ الْجَنَابَةِ
276- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو حَمْزَةَ قَالَ سَمِعْتُ
الأَعْمَشَ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ كُرَيْبٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ
قَالَ: قَالَتْ مَيْمُونَةُ: وَضَعْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ غُسْلًا فَسَتَرْتُهُ بِثَوْبٍ وَصَبَّ عَلَى يَدَيْهِ فَغَسَلَهُمَا
ثُمَّ صَبَّ بِيَمِينِهِ عَلَى شِمَالِهِ فَغَسَلَ فَرْجَهُ فَضَرَبَ بِيَدِهِ
الأَرْضَ فَمَسَحَهَا ثُمَّ غَسَلَهَا فَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَغَسَلَ وَجْهَهُ
وَذِرَاعَيْهِ ثُمَّ صَبَّ عَلَى رَأْسِهِ وَأَفَاضَ عَلَى جَسَدِهِ ثُمَّ
تَنَحَّى فَغَسَلَ قَدَمَيْهِ فَنَاوَلْتُهُ ثَوْبًا فَلَمْ يَأْخُذْهُ
فَانْطَلَقَ وَهُوَ يَنْفُضُ يَدَيْهِ"
قوله: "باب نفض اليدين من الغسل عن الجنابة" كذا لأبي ذر وكريمة.
وللباقين " من غسل الجنابة". قوله: "أخبرنا أبو حمزة" هو
السكري. قوله: "فانطلق وهو ينفض يديه" استدل به على جواز نفض ماء الغسيل
والوضوء وقد تقدم ذلك في أوائل الغسل، وهو ظاهر. وفي هذا الإسناد مروزيان: عبدان
وشيخه، وكوفيان الأعمش وشيخه، ومدنيان كريب وشيخه، وفيما قبله بباب كذلك لأن يوسف
بن عيسى وشيخه مروزيان، وفيما قبل ذلك بصريان: موسى وأبو عوانة، وكذا موسى وعبد
الواحد، وكذا محمد بن محبوب وعبد الواحد، وفيما قبل أيضا مكيان: الحميدي وسفيان،
وكلهم رووه عن الأعمش بالإسناد المذكور.
(1/384)
19 - باب مَنْ
بَدَأَ بِشِقِّ رَأْسِهِ الأَيْمَنِ فِي الْغُسْلِ
277- حَدَّثَنَا خَلاَدُ بْنُ يَحْيَى قَالَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ نَافِعٍ
عَنْ الْحَسَنِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ عَنْ
(1/284)
باب من أغتسل
عريانا وحده في الخلوة ، ومن تستر فالستر أفضل
...
20 - بَاب مَنْ اغْتَسَلَ عُرْيَانًا وَحْدَهُ فِي الْخَلْوَةِ وَمَنْ تَسَتَّرَ
فَالتَّسَتُّرُ أَفْضَلُ
وَقَالَ بَهْزُ بْنُ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُ مِنْ
النَّاسِ"
278- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ
مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ
يَغْتَسِلُونَ عُرَاةً يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ وَكَانَ مُوسَى صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْتَسِلُ وَحْدَهُ فَقَالُوا وَاللَّهِ مَا يَمْنَعُ
مُوسَى أَنْ يَغْتَسِلَ مَعَنَا إِلاَّ أَنَّهُ آدَرُ فَذَهَبَ مَرَّةً يَغْتَسِلُ
فَوَضَعَ ثَوْبَهُ عَلَى حَجَرٍ فَفَرَّ الْحَجَرُ بِثَوْبِهِ فَخَرَجَ مُوسَى فِي
إِثْرِهِ يَقُولُ ثَوْبِي يَا حَجَرُ حَتَّى نَظَرَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِلَى
مُوسَى فَقَالُوا وَاللَّهِ مَا بِمُوسَى مِنْ بَأْسٍ وَأَخَذَ ثَوْبَهُ فَطَفِقَ
بِالْحَجَرِ ضَرْبًا فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَاللَّهِ إِنَّهُ لَنَدَبٌ
بِالْحَجَرِ سِتَّةٌ أَوْ سَبْعَةٌ ضَرْبًا بِالْحَجَرِ" .
[الحديث278- طرفاه في:4799,3404]
قوله: "باب من اغتسل عريانا وحده في خلوة" أي من الناس، وهو تأكيد
لقوله: "وحده"، ودل قوله: "أفضل " على الجواز وعليه أكثر
العلماء، وخالف فيه ابن أبي ليلى وكأنه تمسك بحديث يعلى بن أمية مرفوعا: "إذا
اغتسل أحدكم فليستتر " قاله لرجل رآه يغتسل عريانا وحده رواه أبو داود،
وللبزار نحوه من حديث ابن عباس مطولا. قوله: "وقال بهز" زاد الأصيلي:
"ابن حكيم". قوله: "عن جده" هو معاوية بن حيدة بحاء مهملة
(1/385)
وياء تحتانية ساكنة صحابي معروف. قوله: "أن يستحيي منه من الناس" كذا لأكثر الرواة، وللسرخسي " أحق أن يستنزه منه " وهذا بالمعنى وقد أخرجه أصحاب السنن وغيرهم من طرق عن بهز وحسنه الترمذي وصححه الحاكم. وقال ابن أبي شيبة: "حدثنا يزيد بن هارون حدثنا بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: قلت يا نبي الله عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال: "احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك". قلت: يا رسول الله أحدنا إذا كان خاليا؟ قال: "الله أحق أن يستحيي منه من الناس" فالإسناد إلى بهز صحيح، ولهذا جزم به البخاري، وأما بهز وأبوه فليسا من شرطه، ولهذا لما علق في النكاح شيئا من حديث جد بهز لم يجزم به بل قال: "ويذكر عن معاوية بن حيدة " فعرف من هذا أن مجرد جزمه بالتعليق لا يدل على صحة الإسناد إلا إلى من علق عنه، وأما ما فوقه فلا يدل، وقد حققت ذلك فيما كتبته على ابن الصلاح، وذكرت له أمثلة وشواهد ليس هذا موضع بسطها. وعرف من سياق الحديث أنه وارد في كشف العورة، بخلاف ما قال أبو عبد الملك البوني إن المراد بقوله: "أحق أن يستحيي منه " أي فلا يعصى. ومفهوم قوله: "إلا من زوجتك " يدل على أنه يجوز لها النظر إلى ذلك منه، وقياسه أنه يجوز له النظر، ويدل أيضا على أنه لا يجوز النظر لغير من استثنى ومنه الرجل للرجل والمرأة للمرأة، وفيه حديث في صحيح مسلم. ثم إن ظاهر حديث بهز يدل على أن التعري في الخلوة غير جائز مطلقا، لكن استدل المصنف على جوازه في الغسل بقصة موسى وأيوب عليهما السلام، ووجه الدلالة منه - على ما قال ابن بطال - أنهما ممن أمرنا بالاقتداء به، وهذا إنما يأتي على رأي من يقول: شرع من قبلنا شرع لنا. والذي يظهر أن وجه الدلالة منه أن النبي صلى الله عليه وسلم قص القصتين ولم يتعقب شيئا منهما فدل على موافقتهما لشرعنا، وإلا فلو كان فيهما شيء غير موافق لبينه، فعلى هذا فيجمع بين الحديثين بحمل حديث نهز بن حكيم على الأفضل وإليه أشار في الترجمة، ورجح بعض الشافعية تحريمه، والمشهور عند متقدميهم كغيرهم الكراهة فقط. قوله: "كانت بنو إسرائيل" أي جماعتهم وهو كقوله تعالى :{قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا} . قوله: "يغتسلون عراة" ظاهره أن ذلك كان جائزا في شرعهم وإلا لما أقرهم موسى على ذلك، وكان هو عليه السلام يغتسل وحده أخذا بالأفضل. وأغرب ابن بطال فقال: هذا يدل على أنهم كانوا عصاة له، وتبعه على ذلك القرطبي فأطال في ذلك. قوله: "آدر" بالمد وفتح الدال المهملة وتخفيف الراء قال الجوهري: الأدرة نفخة في الخصية، وهي بفتحات وحكى بضم أوله وإسكان الدال. قوله: "فجمح موسى" أي جرى مسرعا. وفي رواية: "فخرج". قوله: "ثوبي يا حجر" أي أعطني، وإنما خاطبه لأنه أجراه مجرى من يعقل لكونه فر بثوبه فانتقل عنده من حكم الجماد إلى حكم الحيوان فناداه، فلما لم يعطه ضربه. وقيل يحتمل أن يكون موسى أراد بضربه إظهار المعجزة بتأثير ضربه فيه، ويحتمل أن يكون عن وحي. قوله: "حتى نظرت" ظاهره أنهم رأوا جسده، وبه يتم الاستدلال على جواز النظر عند الضرورة لمداواة وشبهها، وأبدى ابن الجوزي احتمال أن يكون كان عليه مئزر لأنه يظهر ما تحته بعد البلل، واستحسن ذلك ناقلا له عن بعض مشايخه، وفيه نظر. قوله: "فطفق بالحجر ضربا" كذا لأكثر الرواة، وللكشميهني والحموي " فطفق الحجر ضربا " والحجر على هذا منصوب بفعل مقدر أي طفق يضرب الحجر ضربا. قوله: "قال أبو هريرة" هو من تتمة مقول همام، وليس بمعلق. قوله: "لندب" بالنون والدال المهملة المفتوحتين وهو الأثر، وسيأتي بقية الكلام على هذا الحديث في أحاديث الأنبياء إن شاء الله تعالى.
(1/386)
279- وَعَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"بَيْنَا أَيُّوبُ يَغْتَسِلُ عُرْيَانًا فَخَرَّ عَلَيْهِ جَرَادٌ مِنْ
ذَهَبٍ فَجَعَلَ أَيُّوبُ يَحْتَثِي فِي ثَوْبِهِ فَنَادَاهُ رَبُّهُ يَا أَيُّوبُ
أَلَمْ أَكُنْ أَغْنَيْتُكَ عَمَّا تَرَى قَالَ بَلَى وَعِزَّتِكَ وَلَكِنْ لاَ
غِنَى بِي عَنْ بَرَكَتِكَ" وَرَوَاهُ إِبْرَاهِيمُ عَنْ مُوسَى بْنِ
عُقْبَةَ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"بَيْنَا أَيُّوبُ يَغْتَسِلُ عُرْيَانًا..."
[الحديث280- طرفاه في: 7493,3391]
قوله: "وعن أبي هريرة" هو معطوف على الإسناد الأول، وجزم الكرماني بأنه
تعليق بصيغة التمريض فأخطأ، فإن الحديثين ثابتان في نسخة همام بالإسناد المذكور.
وقد أخرج البخاري هذا الثاني من رواية عبد الرزاق بهذا الإسناد في أحاديث
الأنبياء. قوله: "يحتثي" بإسكان المهملة وفتح المثناة بعدها مثلثة،
والحثية هي الأخذ باليد. ووقع في رواية القابسي عن أبي زيد " يحتثن "
بنون في آخره بدل الياء. قوله: "لا غنى" القصر بلا تنوين ورويناه
بالتنوين أيضا على أن " لا " بمعنى ليس. قوله: "ورواه
إبراهيم" هو ابن طهمان، وروايته موصولة بهذا الإسناد عند النسائي
والإسماعيلي، قال ابن بطال: وجه الدلالة من حديث أيوب أن الله تعالى عاتبه على جمع
الجراد، ولم يعاتبه على الاغتسال عريانا فدل على جوازه. وسيأتي بقية الكلام عليه
في أحاديث الأنبياء أيضا.
(1/387)
21 - باب
التَّسَتُّرِ فِي الْغُسْلِ عِنْدَ النَّاسِ
280- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ عَنْ مَالِكٍ عَنْ
أَبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ أَنَّ أَبَا مُرَّةَ
مَوْلَى أُمِّ هَانِئٍ بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أُمَّ
هَانِئٍ بِنْتَ أَبِي طَالِبٍ تَقُولُ: "ذَهَبْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْفَتْحِ فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ
وَفَاطِمَةُ تَسْتُرُهُ فَقَالَ: "مَنْ هَذِهِ"؟ فَقُلْتُ أَنَا أُمُّ
هَانِئٍ".
[الحديث 280- أطرافه في6158,3171,357]
قوله: "باب التستر" لما فرغ من الاستدلال لأحد الشقين وهو التعري في
الخلوة أورد الشق الآخر.قوله: "مولى عمر بن عبيد الله" بالتصغير وهو
التيمي، وأم هانئ بهمزة منونة. قوله: "فقال من هذه؟" يدل على أن الستر
كان كثيفا، وعرف أنها امرأة لكون ذلك الموضع لا يدخل عليه فيه الرجال، وسيأتي
الكلام عليه في أواخر الجهاد حيث أورده المصنف تاما.
281- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ أَخْبَرَنَا
سُفْيَانُ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ كُرَيْبٍ عَنْ
ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ مَيْمُونَةَ قَالَتْ: "سَتَرْتُ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَغْتَسِلُ مِنْ الْجَنَابَةِ فَغَسَلَ يَدَيْهِ
ثُمَّ صَبَّ بِيَمِينِهِ عَلَى شِمَالِهِ فَغَسَلَ فَرْجَهُ وَمَا أَصَابَهُ ثُمَّ
مَسَحَ بِيَدِهِ عَلَى الْحَائِطِ أَوْ الأَرْضِ ثُمَّ تَوَضَّأَ وُضُوءَهُ
لِلصَّلاَةِ غَيْرَ رِجْلَيْهِ ثُمَّ أَفَاضَ عَلَى جَسَدِهِ الْمَاءَ ثُمَّ
تَنَحَّى فَغَسَلَ قَدَمَيْهِ". تَابَعَهُ أَبُو عَوَانَةَ وَابْنُ فُضَيْلٍ
فِي السَّتْرِ
قوله: "أخبرنا عبد الله" هو ابن المبارك وسفيان هو الثوري، وقد تقدم
الحديث في أول الغسل للمصنف
(1/387)
عاليا إلى الثوري، ونزل فيه هنا درجة. وكذلك نزل فيه شيخه عبدان درجة لأنه سبق من روايته عن أبي حمزة عن الأعمش. والسبب في ذلك اعتناؤه بمغايرة الطرق عند تغاير الأحكام. قوله: "تابعه أبو عوانة" أي عن الأعمش بإسناده هذا، وقد تقدمت هذه المتابعة موصولة عنده في باب: من أفرغ بيمينه. قوله: "وابن فضيل" أي الأعمش أيضا بهذا الإسناد، وروايته موصولة في صحيح أبي عوانة الإسفرايني نحو ورواية أبي عوانة البصري، وقد وقع ذكر الستر أيضا في هذا الحديث من رواية أبي حمزة عند المصنف، ومن رواية زائدة عند الإسماعيلي، وسبقت مباحث الحديث في أول الغسل. والله المستعان.
(1/388)
22 - باب إِذَا
احْتَلَمَتْ الْمَرْأَةُ
282- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ
هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ
أُمِّ سَلَمَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ: "جَاءَتْ أُمُّ
سُلَيْمٍ امْرَأَةُ أَبِي طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي مِنْ
الْحَقِّ هَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ غُسْلٍ إِذَا هِيَ احْتَلَمَتْ فَقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "نَعَمْ إِذَا رَأَتْ الْمَاءَ".
قوله: "باب إذا احتلمت المرأة" إنما قيده بالمرأة مع أن حكم الرجل كذلك
لموافقة صورة السؤال، وللإشارة إلى الرد على من منع منه في حق المرأة دون الرجل
كما حكاه ابن المنذر وغيره عن إبراهيم النخعي، واستبعد النووي في شرح المهذب صحته
عنه، لكن رواه ابن أبي شيبة عنه بإسناد جيد. قوله: "عن زينب بنت أبي
سلمة" تقدم هذا الحديث في باب الحياء في العلم من وجه آخر، وفيه زينب بنت أم
سلمة فنسبت هناك إلى أمها وهنا إلى أبيها، وقد اتفق الشيخان على إخراج هذا الحديث
من طرق عن هشام بن عروة عن أبيه عنها، ورواه مسلم أيضا من رواية الزهري عن عروة
لكن قال: "عن عائشة"، وفيه أن المراجعة وقعت بين أم سليم وعائشة، ونقل
القاضي عياض عن أهل الحديث أن الصحيح أن القصة وقعت لأم سلمة لا لعائشة، وهذا
يقتضي ترجيح رواية هشام، وهو ظاهر صنيع البخاري، لكن نقل ابن عبد البر عن الذهلي
أنه صحح الروايتين، وأشار أبو داود إلى تقوية رواية الزهري لأن نافع بن عبد الله
تابعه عن عروة عن عائشة. وأخرج مسلم أيضا رواية نافع. وأخرج أيضا من حديث أنس قال:
"جاءت أم سليم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت له، وعائشة عنده
" فذكر نحوه. وروى أحمد من طريق إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن جدته أم
سليم وكانت مجاورة لأم سلمة " فقالت أم سليم: يا رسول الله"؛ فذكر
الحديث وفيه أن أم سلمة هي التي راجعتها، وهذا يقوى رواية هشام، قال النووي في شرح
مسلم: يحتمل أن تكون عائشة وأم سلمة جميعا أنكرتا على أم سليم، وهو جمع حسن لأنه
لا يمتنع حضور أم سلمة وعائشة عند النبي صلى الله عليه وسلم في مجلس واحد. وقال في
شرح المهذب: يجمع بين الروايات بأن أنسا وعائشة وأم سلمة حضروا القصة. انتهى.
والذي يظهر أن أنسا لم يحضر القصة وإنما تلقى ذلك من أمه أم سليم، وفي صحيح مسلم
من حديث أنس ما يشير إلى ذلك، وروى أحمد من حديث ابن عمر نحو هذه القصة، وإنما
تلقى ذلك ابن عمر من أم سليم أو غيرها. وقد سألت عن هذه المسالة أيضا خولة بنت
حكيم عند أحمد والنسائي وابن ماجه، وفي آخره: "كما ليس على الرجل غسل إذا رأى
ذلك فلم ينزل " وسهلة بنت سهيل عند الطبراني، وبسرة بنت صفوان عند ابن أبي شيبة.
قوله: "إن الله لا يستحيي من الحق" قدمت هذا القول تمهيدا لعذرها في ذكر
ما يستحيي منه، والمراد بالحياء هنا معناه اللغوي،
(1/388)
إذ الحياء الشرعي
خير كله. وقد تقدم في كتاب الإيمان أن الحياء لغة: تغير وانكسار، وهو مستحيل في حق
الله تعالى، فيحمل هنا على أن المراد أن الله لا يأمر بالحياء في الحق، أو لا يمنع
من ذكر الحق. وقد يقال إنما يحتاج إلى التأويل في الإثبات ولا يشترط في النفي أن
يكون ممكنا، لكن لما كان المفهوم يقتضي أنه يستحيي من غير الحق عاد إلى جانب
الإثبات فاحتيج إلى تأويله، قاله ابن دقيق العيد. قوله: "هل على المرأة من
غسل" " من " زائدة، وقد سقطت في رواية المصنف في الأدب. قوله:
"احتلمت" الاحتلام افتعال من الحلم بضيم المهملة وسكون اللام، وهو ما
يراه النائم في نومه، يقال منه حلم بالفتح واحتلم، والمراد به هنا أمر خاص منه وهو
الجماع. وفي رواية أحمد من حديث أم سليم أنها قالت: يا رسول الله إذا رأت المرأة
أن زوجها يجامعها في المنام أتغتسل؟. قوله: "إذا رأت الماء" أي المني
بعد الاستيقاظ. وفي رواية الحميدي عن سفيان عن هشام " إذا رأت إحداكن الماء
فلتغتسل " وزاد: "فقالت أم سلمة: وهل تحتلم المرأة؟ " وكذلك روى
هذه الزيادة أصحاب هشام عنه غير مالك فلم يذكرها، وقد تقدمت من رواية أبي معاوية
عن هشام في باب الحياء في العلم وفيه: "أو تحتلم المرأة؟ " وهو معطوف
على مقدر يظهر من السياق أي أترى المرأة الماء وتحتلم؟ وفيه: "فغطت أم سلمة
وجهها " ويأتي في الأدب من رواية يحيى القطان عن هشام " فضحكت أم
سلمة"، ويجمع بينهما بأنها تبسمت تعجبا وغطت وجهها حياء، ولمسلم من رواية
وكيع عن هشام " فقالت لها: يا أم سليم فضحت النساء " وكذا لأحمد من حديث
أم سليم، وهذا يدل على أن كتمان مثل ذلك من عادتهن لأنه يدل على شدة شهوتهن
للرجال. وقال ابن بطال: فيه دليل على أن كل النساء يحتلمن، وعكسه غيره، فقال: فيه
دليل على أن بعض النساء لا يحتلمن، والظاهر أن مراد ابن بطال الجواز لا الوقوع، أي
فيهن قابلية ذلك. وفيه دليل على وجوب الغسل على المرأة بالإنزال، ونفى ابن بطال
الخلاف فيه، وقد قدمناه عن النخعي. وكأن أم سليم لم تسمع حديث: "الماء من
الماء"، أو سمعته وقام عندها ما يوهم خروج المرأة عن ذلك وهو ندور بروز الماء
منها. وقد روى أحمد من حديث أم سليم في هذه القصة أن أم سلمة قالت: "يا رسول
الله وهل للمرأة ماء؟ فقال: "هن شقائق الرجال " وروى عبد الرزاق في هذه
القصة " إذا رأت إحداكن الماء كما يراه الرجل"، وروى أحمد من حديث خولة
بنت حكيم في نحو هذه القصة " ليس عليها غسل حتى تنزل كما ينزل الرجل "
وفيه رد على من زعم أن ماء المرأة لا يبرز، وإنما يعرف إنزالها بشهوتها، وحمل
قوله: "إذا رأت الماء " أي علمت به، لأن وجود العلم هنا متعذر لأنه إذا
أراد به علمها بذلك وهي نائمة فلا يثبت به حكم لأن الرجل لو رأى أنه جامع وعلم أنه
أنزل في النوم ثم استيقظ فلم ير بللا لم يجب عليه الغسل اتفاقا، فكذلك المرأة وإن
أراد به علمها بذلك بعد أن استيقظت فلا يصح لأنه لا يستمر في اليقظة ما كان في
النوم إن كان مشاهدا، فحمل الرؤية على ظاهرها هو الصواب وفيه استفتاء المرأة
بنفسها، وسياق صور الأحوال في الوقائع الشرعية لما يستفاد من ذلك. وفيه جواز
التبسم في التعجب، وسيأتي الكلام على قوله: "فيم يشبهها ولدها " في بدء
الخلق إن شاء الله تعالى.
ـــــــ
(1)الصواب أنه لحاجة إلى التأويل مطلقا, فإن الله يوصف بالحياء الذي يليق به
ولايشابه فيه خلقه كسائر صفاته. وقد ورد وصفه بذلك في نصوص كثيرة فوجب إثباته له
على الوجه الذي يليق به.وهذا قول أهل السنة في جميع الصفات الواردة في الكتاب
والسنة الصحيحة, وهو طريق النجاة,فتنبه واحذر, والله أعلم.
(1/389)
23- باب عَرَقِ
الْجُنُبِ وَأَنَّ الْمُسْلِمَ لاَ يَنْجُسُ
283- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى قَالَ
حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ قَالَ حَدَّثَنَا بَكْرٌ عَنْ أَبِي رَافِعٍ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقِيَهُ فِي
بَعْضِ طَرِيقِ الْمَدِينَةِ وَهُوَ جُنُبٌ فَانْخَنَسْتُ مِنْهُ فَذَهَبَ
فَاغْتَسَلَ ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ أَيْنَ كُنْتَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ كُنْتُ
جُنُبًا فَكَرِهْتُ أَنْ أُجَالِسَكَ وَأَنَا عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ فَقَالَ
"سُبْحَانَ اللَّهِ إِنَّ الْمُسْلِمَ لاَ يَنْجُسُ"
[الحديث283- طرفه في: 285]
قوله: "باب عرق الجنب، وأن المسلم لا ينجس" كأن المصنف يشير بذلك إلى
الخلاف في عرق الكافر. وقال قوم إنه نجس بناء على القول بنجاسة عينه كما سيأتي،
فتقدير الكلام بيان حكم عرق الجنب، وبيان أن المسلم لا ينحس، وإذا كان لا ينجس
فعرقه ليس بنجس، ومفهومه أن الكافر ينجس فيكون عرقه نجسا. قوله: "حدثنا
يحيى" هو ابن سعيد القطان، وحميد هو الطويل، وبكر هو ابن عبد الله المزني،
وأبو رافع الصائغ وهو مدني سكن البصرة، ومن دونه في الإسناد بصريون أيضا، وحميد
وبكر وأبو رافع ثلاثة من التابعين في نسق. قوله: "في بعض طرق" كذا
للأكثر. وفي رواية كريمة والأصيلي: "طرق " ولأبي داود والنسائي:
"لقيته في طريق من طرق المدينة " وهي توافق رواية الأصيلي. قوله:
"وهو جنب" يعني نفسه. وفي رواية أبي داود " وأنا جنب". قوله:
"فانخنست" كذا للكشميهني والحموي وكريمة بنون ثم خاء معجمة ثم نون ثم
سين مهملة. وقال القزاز: وقع في رواية: "فانبخست " يعني بنون ثم موحدة
ثم خاء معجمة ثم سين مهملة قال: ولا وجه له، والصواب أن يقال: "فانخنست
" يعني كما تقدم، قال: والمعنى مضيت عنه مستخفيا، ولذلك وصف الشيطان بالخناس،
ويقويه الرواية الأخرى " فانسللت". انتهى. وقال ابن بطال: وقعت هذه
اللفظة " فانبخست " يعني كما تقدم قال: ولابن السكن بالجيم، قال: ويحتمل
أن يكون من قوله تعالى :{فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً} أي جرت
واندفعت، وهذه أيضا رواية الأصيلي وأبي الوقت وابن عساكر، ووقع في رواية المستملي:
"فانتجست " بنون ثم مثناة فوقانية ثم جيم أي اعتقدت نفسي نجسا. ووجهت
الرواية التي أنكرها القزاز بأنها مأخوذة من البخس وهو النقص، أي اعتقد نقصان نفسه
بجنابته عن مجالسة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثبت في رواية الترمذي مثل رواية
ابن السكن وقال: معنى انبخست منه تنحيت عنه، ولم يثبت لي من طريق الرواية غير ما
تقدم، وأشبهها بالصواب الأولى ثم هذه. وقد نقل الشراح فيها ألفاظا مختلفة مما صحفه
بعض الرواة لا معنى للتشاغل بذكره، كانتجشت بشين معجمة من النجش، وبنون وحاء مهملة
ثم موحدة ثم سين مهملة من الانحباس. قوله: "إن المؤمن لا ينجس" تمسك
بمفهومه بعض أهل الظاهر فقال: إن الكافر نجس العين، وقواه بقوله تعالى :{إِنَّمَا
الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} وأجاب الجمهور عن الحديث بأن المراد أن المؤمن طاهر الأعضاء
لاعتياده مجانبة النجاسة، بخلاف المشرك لعدم تحفظه عن النجاسة، وعن الآية بأن
المراد أنهم نجس في الاعتقاد والاستقذار، وحجتهم أن الله تعالى أباح نكاح نساء أهل
الكتاب، ومعلوم أن عرقهن لا يسلم منه من يضاجعهن، ومع ذلك فلم يجب عليه من غسل
الكتابية إلا مثل ما يجب عليه من غسل المسلمة، فدل على أن الآدمي الحي ليس بنجس
العين إذ لا فرق بين النساء والرجال. وأغرب القرطبي في
(1/390)
الجنائز من، شرح مسلم فنسب القول بنجاسة الكافر إلى الشافعي، وسيأتي الكلام على مسألة الميت في كتاب الجنائز إن شاء الله تعالى. وفي هذا الحديث استحباب الطهارة عند ملابسة الأمور المعظمة، واستحباب احترام أهل الفضل وتوقيرهم ومصاحبهم على أكمل الهيئات. وكان سبب ذهاب أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا لقي أحدا من أصحابه ماسحه ودعا له، هكذا رواه النسائي وابن حبان من حديث حذيفة، فلما ظن أبو هريرة أن الجنب ينجس بالحدث خشي أن يماسحه صلى الله عليه وسلم كعادته، فبادر إلى الاغتسال، وإنما أنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "وأنا على غير طهارة"، وقوله: "سبحان الله " تعجب فن اعتقاد أبي هريرة التنجس بالجنابة، أي كيف يخفى عليه هذا الظاهر؟ وفيه استحباب استئذان التابع للمتبوع إذا أراد أن يفارقه لقوله: "أين كنت؟ " فأشار إلى أنه كان ينبغي له أن لا يفارقه حتى يعلمه. وفيه استحباب تنبيه المتبوع لتابعه على الصواب وإن لم يسأله. وفيه جواز تأخير الاغتسال عن أول وقت وجوبه، وبوب عليه ابن حبان الرد على من زعم أن الجنب إذا وقع في البئر فنوى الاغتسال أن ماء البئر ينجس، واستدل به البخاري على طهارة عرق الجنب لأن بدنه لا ينجس بالجنابة، فكذلك ما تحلب منه. وعلى جواز تصرف الجنب في حوائجه قبل أن يغتسل فقال:
(1/391)
24 - باب الْجُنُبُ
يَخْرُجُ وَيَمْشِي فِي السُّوقِ وَغَيْرِهِ
وَقَالَ عَطَاءٌ: "يَحْتَجِمُ الْجُنُبُ وَيُقَلِّمُ أَظْفَارَهُ وَيَحْلِقُ
رَأْسَهُ وَإِنْ لَمْ يَتَوَضَّأْ"
284- حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى بْنُ حَمَّادٍ قَالَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ
زُرَيْعٍ قَالَ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ حَدَّثَهُمْ
"أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَطُوفُ
عَلَى نِسَائِهِ فِي اللَّيْلَةِ الْوَاحِدَةِ وَلَهُ يَوْمَئِذٍ تِسْعُ
نِسْوَةٍ"
"باب الجنب يخرج ويمشي في السوق" قوله: "وغيره" بالجر أي وغير
السوق، ويحتمل الرفع عطفا على يخرج من جهة المعنى. قوله: "وقال عطاء"
كذا التعليق وصله عبد الرزاق عن ابن جريج عنه وزاد: "ويطلي بالنورة "
ولعل هذه الأفعال هي المرادة بقوله: "وغيره: "بالرفع في الترجمة. قوله:
"حدثنا سعيد" هو ابن أبي عروبة، كذا لهم إلا الأصيلي فقال شعبة. قوله:
"أن النبي" وفي رواية الأصيلي وكريمة: "أن نبي الله صلى الله عليه
وسلم: "وقد تقدم الكلام على هذا الحديث برقم 268 في باب إذا جامع ثم عاد
وإيراده له في هذا الباب يقوي رواية: "وغيره: "بالجر لأن حجر أزواج
النبي صلى الله عليه وسلم كانت متقاربة فهو محتاج في الدخول في هذه إلى هذه إلى المشي،
وعلى هذا فناسبة إيراد أثر عطاء من جهة الاشتراك في جواز تشاغل الجنب بغير غسل،
وقد خالف عطاء غيره كما رواه أبي شيبة عن الحسن البصري وغيره فقالوا: يستحب له
الوضوء وحديث أنس يقوي اختيار عطاء لأنه لم يذكر فيه أنه توضأ فكأن المصنف أورده
ليستدل له لا ليستدل به.
285- حَدَّثَنَا عَيَّاشٌ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ
عَنْ بَكْرٍ عَنْ أَبِي رَافِعٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ "لَقِيَنِي
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا جُنُبٌ فَأَخَذَ
بِيَدِي فَمَشَيْتُ مَعَهُ حَتَّى قَعَدَ فَانْسَلَلْتُ فَأَتَيْتُ الرَّحْلَ
فَاغْتَسَلْتُ ثُمَّ جِئْتُ وَهُوَ قَاعِدٌ فَقَالَ أَيْنَ كُنْتَ يَا أَبَا هِرٍّ
فَقُلْتُ لَهُ "فَقَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ يَا أَبَا هِرٍّ إِنَّ الْمُؤْمِنَ
لاَ يَنْجُسُ".
(1/391)
قوله: "حدثنا عياش" بياء تحتانية وشين معجمة هو ابن الوليد الرقام، وعبد الأعلى هو ابن عبد الأعلى والإسناد أيضا إلى أبي رافع بصريون، وقد سبق الكلام على هذا الحديث في الباب الذي قبله قوله: "فانسللت" أي ذهبت في خفية، والرحل بحاء مهملة ساكنة أي المكان الذي يأوى فيه، وقوله: "يا أبا هريرة " وقع في رواية المستملي والكشميهني: "يا أبا هر " بالترخيم.
(1/392)
25 - باب
كَيْنُونَةِ الْجُنُبِ فِي الْبَيْتِ إِذَا تَوَضَّأَ قَبْلَ أَنْ يَغْتَسِلَ
286- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ وَشَيْبَانُ عَنْ
يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: "سَأَلْتُ عَائِشَةَ
أَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْقُدُ وَهُوَ جُنُبٌ
قَالَتْ نَعَمْ وَيَتَوَضَّأُ".
قوله: "باب كينونة الجنب في البيت" أي استقراره فيه، وكينونة مصدر كان
يكون كونا وكينونة، ولم يجيء على هذا إلا أحرف معدودة مثل ديمومة من دام. قوله:
"إذا توضأ" زاد أبو الوقت وكريمة: "قبل أن يغتسل " وسقط
الجميع من رواية المستملي والحموي، قيل أشار المصنف بهذه الترجمة إلى تضعيف ما ورد
عن على مرفوعا: "إن الملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب ولا صورة ولا جنب "
رواه أبو داود وغيره، وفيه نجى بضم النون وفتح الجيم الحضرمي، ما روى عنه غير ابنه
عبد الله فهو مجهول، لكن وثقه العجلي وصحح حديثه ابن حبان والحاكم، فيحتمل كما قال
الخطابي أن المراد بالجنب من يتهاون بالاغتسال ويتخذ تركه عادة لا من يؤخره
ليفعله، قال: ويقويه أن المراد بالكلب غير ما أذن في اتخاذه، وبالصورة ما فيه روح
وما لا يمتهن، قال النووي: وفي الكلب نظر. انتهى. ويحتمل أن يكون المراد بالجنب في
حديث على من لم يرتفع حدثه كله ولا بعضه، وعلى هذا فلا يكون بينه وبين حديث الباب
منافاة، لأنه إذا توضأ ارتفع بعض حدثه على الصحيح كما سيأتي تصويره. قوله:
"حدثنا هشام" هو الدستوائي، وشيبان هو ابن عبد الرحمن، ويحيى هو ابن أبي
كثير، وصرح بتحديث أبي سلمة له في رواية ابن أبي شيبة. ورواه الأوزاعي عن يحيى بن
أبي كثير عن أبي سلمة عن ابن عمر أخرجه النسائي. قوله: "قال نعم ويتوضأ"
هو معطوف على ما سد لفظ: "نعم " مسده أي يرقد ويتوضأ، والواو لا تقتضي
الترتيب فالمعنى يتوضأ ثم يرقد، ولمسلم من طريق الزهري عن أبي سلمة بلفظ:
"كان إذا أراد أن ينام وهو جنب توضأ وضوءه للصلاة"، وهذا السياق أوضح في
المراد. وللمصنف مثله في الباب الذي بعد هذا من رواية عروة عن عائشة بزيادة "
غسل الفرج " وزاد أبو نعيم في المستخرج من طريق أبي نعيم شيخ البخاري في آخر
حديث الباب: "ويتوضأ وضوءه للصلاة " وللإسماعيلي من وجه آخر عن هشام
نحوه، وفيه رد على من حمل الوضوء هنا على التنظيف.
(1/392)
26- بَاب نَوْمِ
الْجُنُبِ
287- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ قَالَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ
عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيَرْقُدُ أَحَدُنَا وَهُوَ جُنُبٌ قَالَ: "نَعَمْ إِذَا
تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَلْيَرْقُدْ وَهُوَ جُنُبٌ".
[الحديث287- طرفاه في:290,289]
(1/392)
288- باب الجنب
يتوضأ ثم ينام
288- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُبَيْدِ
اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ
عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ "كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَنَامَ وَهُوَ جُنُبٌ غَسَلَ فَرْجَهُ وَتَوَضَّأَ
لِلصَّلاَةِ"
قوله: "عن محمد بن عبد الرحمن" هو أبو الأسود الذي يقال له يتيم عروة.
ونصف هذا الإسناد المبتدأ به بصريون ونصفه الأعلى مدنيون. قوله: "وتوضأ
للصلاة" أي توضأ وضوءا كما للصلاة، وليس المعنى أنه توضأ لأداء الصلاة، وإنما
المراد توضأ وضوءا شرعيا لا لغويا.
289- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ عَنْ
نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ اسْتَفْتَى عُمَرُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيَنَامُ أَحَدُنَا وَهُوَ جُنُبٌ قَالَ: "نَعَمْ إِذَا
تَوَضَّأَ".
قوله: "حدثنا جويرية" بالجيم والراء مصغرا وهو اسم رجل، واسم أبيه أسماء
بن عبيد، وقد سمع جويرية هذا من نافع مولى ابن عمر ومن مالك عن نافع.قوله:
"عن عبد الله" في رواية ابن عساكر: "عن ابن عمر". قوله:
"فقال نعم إذا توضأ" ولمسلم من طريق ابن جريج عن نافع " ليتوضأ ثم
لينم".
290- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ
ذَكَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ تُصِيبُهُ الْجَنَابَةُ مِنْ اللَّيْلِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "تَوَضَّأْ وَاغْسِلْ ذَكَرَكَ
ثُمَّ نَمْ".
قوله: "عن عبد الله بن دينار" هكذا رواه مالك في الموطأ باتفاق من رواة
الموطأ، ورواه خارج الموطأ عن نافع بدل عبد الله بن دينار، وذكر أبو علي الجياني
أنه وقع في رواية ابن السكن عن نافع بدل عبد الله بن دينار، وكان كذلك عند الأصيلي
إلا أنه ضرب على نافع وكتب فوقه " عبد الله بن دينار " قال أبو علي:
والحديث محفوظ لمالك عنهما جميعا. انتهى كلامه. قال ابن عبد البر: الحديث لمالك
عنهما جميعا، لكن المحفوظ عن عبد الله بن دينار وحديث نافع غريب. انتهى. وقد رواه
عنه كذلك عن نافع خمسة أو ستة فلا غرابة، وإن ساقه الدارقطني في
(1/393)
غرائب مالك فمراده ما رواه خارج الموطأ، فهي غرابة خاصة بالنسبة للموطأ، نعم رواية الموطأ أشهر. قوله: "ذكر عمر بن الخطاب" مقتضاه أيضا أنه من مسند ابن عمر كما هو عند أكثر الرواة، ورواه أبو نوح عن مالك فزاد فيه عن عمر، وقد بين النسائي سبب ذلك في روايته من طريق ابن عون عن نافع قال: أصاب ابن عمر جنابة فأتى عمر فذكر ذلك له، فأتى عمر النبي صلى الله عليه وسلم فاستأمره فقال: "ليتوضأ ويرقد " وعلى هذا فالضمير في قوله في حديث الباب: "أنه تصيبه " يعود على ابن عمر لا على عمر، وقوله في الجواب " توضأ " يحتمل أن يكون ابن عمر كان حاضرا فوجه الخطاب إليه. قوله: "بأنه" كذا للمستملي والحموي وللباقين " أنه". قوله: "فقال له" سقط لفظ: "له " من رواية الأصيلي. قوله: "توضأ واغسل ذكرك" في رواية أبي نوح " اغسل ذكرك ثم توضأ ثم نم " وهو يرد على من حمله على ظاهره فقال: يجوز تقديم الوضوء على غسل الذكر لأنه ليس بوضوء يرفع الحدث وإنما هو للتعبد إذ الجنابة أشد من مس الذكر، فتبين من رواية أبي نوح أن غسله مقدم على الوضوء، ويمكن أن يؤخذ عنه بشرط أن لا يمسه على القول بأن مسه ينقض. وقال ابن دقيق العيد: جاء الحديث بصيغة الأمر وجاء بصيغة الشرط، وهو متمسك لمن قال بوجوبه. وقال ابن عبد البر: ذهب الجمهور إلى أنه للاستحباب، وذهب أهل الظاهر إلى إيجابه وهو شذوذ. وقال ابن العربي: قال مالك والشافعي لا يجوز للجنب أن ينام قبل أن يتوضأ، واستنكر بعض المتأخرين هذا النقل وقال: لم يقل الشافعي بوجوبه، ولا يعرف ذلك أصحابه. وهو كما قال، لكن كلام ابن العربي محمول على أنه أراد نفي الإباحة المستوية الطرفين لا إثبات الوجوب، أو أراد بأنه واجب وجوب سنة أي متأكد الاستحباب، ويدل عليه أنه قابله بقول ابن حبيب: هو واجب وجوب الفرائض، وهذا موجود في عبارة المالكية كثيرا، وأشار ابن العربي إلى تقوية قول ابن حبيب، وبوب عليه أبو عوانة في صحيحه إيجاب الوضوء عن الجنب إذا أراد النوم، ثم استدل بعد ذلك هو وابن خزيمة على عدم الوجوب بحديث ابن عباس مرفوعا: "إنما أمرت بالوضوء إذا قمت إلى الصلاة " وقد تقدم ذكره في باب إذا جامع ثم عاد. وقد قدح في هذا الاستدلال ابن رشد المالكي، وهو واضح. ونقل الطحاوي عن أبي يوسف أنه ذهب إلى عدم الاستحباب، وتمسك بما رواه أبو إسحاق عن الأسود عن عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم كان يجنب ثم ينام ولا يمس ماء رواه أبو داود وغيره، وتعقب بأن الحفاظ قالوا إن أبا إسحاق غلط فيه، وبأنه لو صح حمل على أنه ترك الوضوء لبيان الجواز لئلا يعتقد وجوبه، أو أن معنى قوله لا يمس ماء أي للغسل، وأورد الطحاوي من الطريق المذكورة عن أبي إسحاق ما يدل على ذلك، ثم جنح الطحاوي إلى أن المراد بالوضوء التنظيف، واحتج بأن ابن عمر راوي الحديث وهو صاحب القصة كان يتوضأ وهو جنب ولا يغسل رجليه كما رواه مالك في الموطأ عن نافع، وأجيب بأنه ثبت تقييد الوضوء بالصلاة من روايته ومن رواية عائشة كما تقدم فيعتمد ويحمل ترك ابن عمر لغسل رجليه على أن ذلك كان لعذر. وقال جمهور العلماء: المراد بالوضوء هنا الشرعي، والحكمة فيه أنه يخفف الحدث، ولا سيما على القول بجواز تفريق الغسل فينويه فيرتفع الحدث عن تلك الأعضاء المخصوصة على الصحيح، ويؤيده ما رواه ابن أبي شيبة بسند رجاله ثقات عن شداد بن أوس الصحابي قال: "إذا أجنب أحدكم من الليل ثم أراد أن ينام فليتوضأ فإنه نصف غسل الجنابة " وقيل:الحكمة فيه أنه إحدى الطهارتين، فعلى هذا يقوم التيمم مقامه. وقد روى البيهقي بإسناد حسن عن عائشة أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أجنب فأراد أن ينام توضأ أو تيمم، ويحتمل أن يكون التيمم هنا عند عسر وجود الماء، وقيل
(1/394)
الحكمة فيه أنه ينشط إلى العود أو إلى الغسل. وقال ابن دقيق العيد: نص الشافعي رحمه الله على أن ذلك ليس على الحائض، لأنها لو اغتسلت لم يرتفع حدثها بخلاف الجنب، لكن إذا انقطع دمها استحب لها ذلك. وفي الحديث أن غسل الجنابة ليس على الفور، وإنما يتضيق عند القيام إلى الصلاة، واستحباب التنظيف عند النوم، قال ابن الجوزي: والحكمة فيه أن الملائكة تبعد عن الوسخ والريح الكريهة بخلاف الشياطين فإنها تقرب من ذلك، والله أعلم.
(1/395)
28- باب إِذَا
الْتَقَى الْخِتَانَانِ
حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ قَالَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ ح
291- و حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ عَنْ هِشَامٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ الْحَسَنِ
عَنْ أَبِي رَافِعٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا جَلَسَ بَيْنَ شُعَبِهَا الأَرْبَعِ ثُمَّ
جَهَدَهَا فَقَدْ وَجَبَ الْغَسْلُ"
تَابَعَهُ عَمْرُو بْنُ مَرْزُوقٍ عَنْ شُعْبَةَ مِثْلَهُ وَقَالَ مُوسَى
حَدَّثَنَا أَبَانُ قَالَ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ مِثْلَهُ
قوله: "باب إذا التقى الختانان" المراد بهذه التثنية ختان الرجل
والمرأة، والختن قطع جلدة كمرته، وخفاض المرأة والخفض قطع جليدة في أعلى فرجها تشبه
عرف الديك بينها وبين مدخل الذكر جلدة رقيقة، وإنما ثنيا بلفظ واحد تغليبا وله
نظائر، وقاعدته رد الأثقل إلى الأخف والأدنى إلى الأعلى. قوله: "هشام"
هو الدستوائي في الموضعين، وإنما فرقهما لأن معاذا قال: "حدثنا " وأبا
نعيم قال: "عن " وطريق معاذ إلى الصحابي كلهم بصريون. قوله: "إذا
جلس" لضمير المستتر فيه وفي قوله: "جهد " للرجل، والضميران
البارزان في قوله: "شعبها " و " جهدها " للمرأة، وترك إظهار
ذلك للمعرفة به، وقد وقع مصرحا به في رواية لابن المنذر من وجه آخر عن أبي هريرة
قال: "إذا غشى الرجل امرأته فقعد بين شعبها " الحديث، والشعب جمع شعبة
وهي القطعة من الشيء، قيل المراد هنا يداها ورجلاها وقيل رجلاها وفخذاها وقع
ساقاها وفخذاها وقيل فخذاها وإسكتاها وقيل فخذاها وشفراها وقيل نواحي فرجها
الأربع، قال الأزهري: الإسكتان ناحيتا الفرج، والشفران طرف الناحيتين، ورجح القاضي
عياض الأخير، واختار ابن دقيق العيد الأول، قال: لأنه أقرب إلى الحقيقة أو هو
حقيقة في الجلوس، وهو كناية عن الجماع فاكتفى به عن التصريح. قوله: "ثم
جهدها" بفتح الجيم والهاء، يقال جهد وأجهد أي بلغ المشقة، قيل معناه كدها
بحركته أو بلغ جهده في العمل بها، ولمسلم من طريق شعبة عن قتادة " ثم
اجتهد" ، ورواه أبو داود من طريق شعبة وهشام معا عن قتادة بلفظ: "وألزق
الختان بالختان " بدل قوله ثم جهدها، وهذا يدل على أن الجهد هنا كناية عن
معالجة الإيلاج، ورواه البيهقي من طريق ابن أبي عروبة عن قتادة مختصرا ولفظه:
"إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل" وهذا مطابق للفظ الترجمة، فكأن
المصنف أشار إلى هذه الرواية كعادته في التبويب بلفظ إحدى روايات حديث الباب، وروى
أيضا بهذا اللفظ من حديث عائشة أخرجه الشافعي من طريق سعيد بن المسيب عنها وفي
إسناده على بن زيد وهو ضعيف، وابن ماجه من طريق القاسم بن محمد عنها ورجاله ثقات،
ورواه مسلم من طريق أبي موسى الأشعري عنها بلفظ: "ومس الختان الختان"
والمراد بالمس والالتقاء المحاذاة، ويدل عليه رواية الترمذي بلفظ: "إذا جاوز
" وليس المراد بالمس حقيقته لأنه لا يتصور عند غيبة الحشفة، ولو حصل المس
(1/395)
قبل الإيلاج لم يجب الغسل بالإجماع، قال النووي: معنى الحديث أن إيجاب الغسل لا يتوقف على الإنزال، وتعقب بأنه يحتمل أن يراد بالجهد الإنزال لأنه هو الغاية في الأمر فلا يكون فيه دليل، والجواب أن التصريح بعدم التوقف على الإنزال قد ورد في بعض طرق الحديث المذكور فانتقى الاحتمال، ففي رواية مسلم من طريق مطر الوراق عن الحسن في آخر هذا الحديث: "وإن لم ينزل"، ووقع ذلك في رواية قتادة أيضا رواه ابن أبي خيثمة في تاريخه عن عفان قال حدثنا همام وأبان قالا حدثنا قتادة به وزاد في آخره: "أنزل أو لم ينزل " وكذا رواه الدارقطني وصححه من طريق علي بن سهل عن عفان، وكذا ذكرها أبو داود الطيالسي عن حماد بن سلمة عن قتادة. قوله: "تابعه عمرو" أي ابن مرزوق، وصرح به في رواية كريمة، وقد روينا حديثه موصولا في فوائد عثمان بن أحمد السماك حدثنا عثمان بن عمر الضبي حدثنا عمرو بن مرزوق حدثنا شعبة عن قتادة، فذكر مثل سياق حديث الباب لكن قال: "وأجهدها " وعرف بهذا أن شعبة رواه عن قتادة عن الحسن لا عن الحسن نفسه، والضمير في تابعه يعود على هشام لا على قتادة. وقرأت بخط الشيخ مغلطاي أن رواية عمرو بن مرزوق هذه عند مسلم عن محمد بن عمرو بن جبلة عن وهب بن جرير وابن أبي عدي كلاهما عن عمرو بن مرزوق عن شعبة، وتبعه بعض الشراح على ذلك، وهو غلط فإن ذكر عمرو بن مرزوق في إسناد مسلم زيادة، بل لم يخرج مسلم لعمرو بن. مرزوق شيئا. قوله: "وقال موسى" أي ابن إسماعيل قال: "حدثنا" وللأصيلي أخبرنا "أبان" وهو ابن يزيد العطار، وأفادت روايته التصريح بتحديث الحسن لقتادة، وقرأت بخط مغلطاي أيضا أن رواية موسى هذه عند البيهقي أخرجها من طريق عفان وهمام كلاما عن موسى عن أبان، وهو تخليط تبعه عليه أيضا بعض الشراح، وإنما أخرجها البيهقي من طريق عفان عن همام وأبان جميعا عن قتادة، فهمام شيخ عفان لا رفيقه، وأبان رفيق همام لا شيخ شيخه، ولا ذكر لموسى فيه أصلا بل عفان رواه عن أبان كما رواه عنه موسى فهو رفيقه لا شيخه، والله الهادي إلى الصواب. "تنبيه": زاد هنا في نسخة الصغاني: هذا أجود وأوكد، وإنما بينا..إلى آخر الكلام الآتي في آخر الباب الذي يليه.والله أعلم.
(1/396)
29 - باب غَسْلِ
مَا يُصِيبُ مِنْ فَرْجِ الْمَرْأَةِ
292- حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ الْحُسَيْنِ
قَالَ يَحْيَى وَأَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ أَنَّ عَطَاءَ بْنَ يَسَارٍ
أَخْبَرَهُ أَنَّ زَيْدَ بْنَ خَالِدٍ الْجُهَنِيَّ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَأَلَ
عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ فَقَالَ "أَرَأَيْتَ إِذَا جَامَعَ الرَّجُلُ
امْرَأَتَهُ فَلَمْ يُمْنِ قَالَ عُثْمَانُ يَتَوَضَّأُ كَمَا يَتَوَضَّأُ
لِلصَّلاَةِ وَيَغْسِلُ ذَكَرَهُ قَالَ عُثْمَانُ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي
طَالِبٍ وَالزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ وَطَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ
وَأُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَأَمَرُوهُ بِذَلِكَ" قَالَ
يَحْيَى وَأَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ أَنَّ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ أَخْبَرَهُ
أَنَّ أَبَا أَيُّوبَ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قوله: "باب غسل ما يصيب" أي الرجل "من فرج المرأة" أي من
رطوبة وغيرها. قوله: "عن الحسين" زاد أبو ذر " المعلم". قوله:
"قال يحيى" هو ابن أبي كثير، أي قال الحسين قال يحيى، ولفظ قال الأولى
تحذف في الخط عرفا. قوله: "وأخبرني" هو عطف على مقدر، أي أخبرني بكذا
وأخبرني بكذا. ووقع في رواية مسلم بحذف الواو، قال ابن العربي: لم يسمعه الحسين من
يحيى فلهذا قال: "قال يحيى " كذا ذكره، ولم يأت بدليل. وقد
(1/396)
وقع في رواية مسلم في هذا الموضع عن الحسين عن يحيى، وليس الحسين بمدلس، وعنعنة غير المدلس محمولة على السماع إذا لقيه على الصحيح. على أنه وقع التصريح في رواية ابن خزيمة في رواية الحسين عن يحيى بالتحديث ولفظه: "حدثني يحيى بن أبي كثير " ولم ينفرد الحسين مع ذلك به، فقد رواه عن يحيى أيضا معاوية بن سلام أخرجه ابن شاهين، وشيبان بن عبد الرحمن أخرجه المصنف كما تقدم في باب الوضوء من المخرجين، وسبق الكلام هناك على فوائد هذا الإسناد وألفاظ المتن. قوله: "فأمروه بذلك" فيه التفات، لأن الأصل أن يقول فأمروني، أو هو مقول عطاء بن يسار فيكون مرسلا. وقال الكرماني: الضمير يعود على الجامع الذي في ضمن " إذا جامع " وجزم أيضا بأنه عن عثمان إفتاء ورواية مرفوعة وعن الباقين إفتاء فقط. قلت: وظاهره أنهم أمروه بما أمره به عثمان فليس صريحا في عدم الرفع، لكن في رواية الإسماعيلي: فقالوا مثل ذلك، وهذا ظاهره الرفع لأن عثمان أفتاه بذلك وحدثه به عن النبي صلى الله عليه وسلم فالمثلية تقتضي أنهم أيضا أفتوه وحدثوه، وقد صرح الإسماعيلي بالرفع في رواية أخرى له ولفظه: "فقالوا مثل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم: "وقال الإسماعيلي: لم يقل ذلك غير يحيى الحماني، وليس هو من شرط هذا الكتاب. قوله: "أخبرني أبو سلمة" كذا لأبي ذر، وللباقين " قال يحيى: وأخبرني أبو سلمة " وهو المراد، وهو معطوف بالإسناد الأول وليس معلقا، وقد رواه مسلم من طريق عبد الصمد بن عبد الوارث عن أبيه بالإسنادين معا. قوله: "أنه سمع ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم" قال الدارقطني: هو وهم لأن أبا أيوب إنما سمعه من أبي بن كعب كما قال هشام بن عروة عن أبيه. قلت: الظاهر أن أبا أيوب سمعه منهما لاختلاف السياق، لأن في روايته عن أبي بن كعب قصة ليست في روايته عن النبي صلى الله عليه وسلم، مع أن أبا سلمة وهو ابن عبد الرحمن بن عوف أكبر قدرا وسنا وعلما من هشام بن عروة، وروايته عن عروة من باب رواية الأقران لأنهما تابعيان فقهان من طبقة واحدة، وكذلك رواية أبي أيوب عن أبي بن كعب لأنهما فقيهان صحابيان كبيران، وقد جاء هذا الحديث من وجه آخر عن أبي أيوب عن النبي صلى الله عليه وسلم أخرجه الدارمي وابن ماجه، وقد حكى الأثرم عن أحمد أن حديث زيد بن خالد المذكور في هذا الباب معلول، لأنه ثبت عن هؤلاء الخمسة الفتوى بخلاف ما في هذا الحديث، وقد حكى يعقوب بن شيبة عن علي بن المديني أنه شاذ. والجواب عن ذلك أن الحديث ثابت من جهة اتصال إسناده وحفظ رواته، وقد روى ابن عيينة أيضا عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار نحو رواية أبي سلمة عن عطاء أخرجه ابن أبي شيبة وغيره فليس هو فردا، وأما كونهم أفتوا بخلافه فلا يقدح ذلك في صحته لاحتمال أنه ثبت عندهم ناسخه فذهبوا إليه، وكم من حديث منسوخ وهو صحيح من حيث الصناعة الحديثية. وقد ذهب الجمهور إلى أن ما دل عليه حديث الباب من الاكتفاء بالوضوء إذا لم ينزل الجامع منسوخ بما دل عليه حديث أبي هريرة وعائشة المذكوران في الباب قبله، والدليل على النسخ ما رواه أحمد وغيره من طريق الزهري عن سهل بن سعد قال: حدثني أبي بن كعب أن الفتيا التي كانوا يقولون " الماء من الماء " رخصة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص بها في أول الإسلام ثم أمر بالاغتسال بعد، صححه ابن خزيمة وابن حبان. وقال الإسماعيلي: هو صحيح على شرط البخاري، كذا قال، وكأنه لم يطلع على علته، فقد اختلفوا في كون الزهري سمعه من سهل. نعم أخرجه أبو داود وابن خزيمة أيضا من طريق أبي حازم عن سهل، ولهذا الإسناد أيضا علة أخرى ذكرها ابن أبي حاتم، وفي الجملة هو إسناد صالح لأن يحتج به، وهو صريح في النسخ. على أن حديث الغسل وإن لم ينزل أرجح من حديث الماء من الماء، لأنه بالمنطوق، وترك الغسل من حديث الماء
(1/397)
بالمفهوم، أو
بالمنطوق أيضا لكن ذاك أصرح منه. وروى ابن أبي شيبة وغيره عن ابن عباس أنه حمل
حديث: "الماء من الماء " على صورة مخصوصة وهي ما يقع في المنام من رؤية
الجماع، وهو تأويل يجمع بين الحديثين من غير تعارض. "تنبيه": في قوله:
"الماء من الماء " جناس تام، والمراد بالماء الأول ماء الغسل وبالثاني
المني وذكر الشافعي أن كلام العرب يقتضي أن الجنابة تطلق بالحقيقة على الجماع وإن
لم يكن معه إنزال، فإن كل من خوطب بأن فلانا أجنب من فلانة عقل أنه أصابها وإن لم
ينزل، قال: ولم يختلف أن الزنا الذي يجب به الحد هو الجماع ولو لم يكن معه إنزال.
وقال ابن العربي: إيجاب الغسل بالإيلاج بالنسبة إلى الإنزال نظير إيجاب الوضوء بمس
الذكر بالنسبة إلى خروج البول0(1) فهما متفقان دليلا وتعليلا. والله أعلم.
293- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ قَالَ
أَخْبَرَنِي أَبِي قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو أَيُّوبَ قَالَ أَخْبَرَنِي أُبَيُّ
بْنُ كَعْبٍ أَنَّهُ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِذَا جَامَعَ الرَّجُلُ
الْمَرْأَةَ فَلَمْ يُنْزِلْ قَالَ "يَغْسِلُ مَا مَسَّ الْمَرْأَةَ مِنْهُ
ثُمَّ يَتَوَضَّأُ وَيُصَلِّي" قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ الْغَسْلُ أَحْوَطُ
وَذَاكَ الْآخِرُ وَإِنَّمَا بَيَّنَّا لِاخْتِلاَفِهِمْ
قوله: "عن هشام بن عروة قال أخبرني أبي" عني أباه عروة وهو واضح، وإنما
نبهت عليه لئلا يظن أنه نظير أبي بن كعب لكونه ذكر في الإسناد. قوله: "ما مس
المرأة منه" أي يغسل الرجل العضو الذي مس فرج المرأة من أعضائه، وهو من إطلاق
الملزوم وإرادة اللازم لأن المراد رطوبة فرجها قوله: "ثم يتوضأ" ريح في
تأخير الوضوء عن غسل الذكر، زاد عبد الرزاق عن الثوري عن هشام فيه: "وضوءه
للصلاة". قوله: "ويصلي" هو أصرح في الدلالة على ترك الغسل من الحديث
الذي قبله. قوله: "قال أبو عبد الله" و المصنف، وقائل ذلك هو الراوي
عنه. قوله: "الغسل أحوط" أي على تقدير أن لا يثبت الناسخ ولا يظهر
الترجيح، فالاحتياط للدين الاغتسال. قوله: "الأخير" كذا لأبي ذر،
ولغيره: "الآخر " بالمد بغير ياء، أي آخر الأمرين من الشارع أو من
اجتهاد الأئمة. وقال ابن التين: ضبطناه بفتح الخاء، فعلى هذا الإشارة في قوله:
"وذاك " إلى حديث الباب قوله: "إنما بينا لاختلافهم" وفي
رواية كريمة: "إنما بينا اختلافهم " وللأصيلي: "إنما بيناه
لاختلافهم " وفي نسخة الصغاني " إنما بينا الحديث الآخر لاختلافهم،
والماء أنقى " واللام تعليلية أي حتى لا يظن أن في ذلك إجماعا. واستشكل ابن
العربي كلام البخاري فقال: إيجاب الغسل أطبق عليه الصحابة ومن بعدهم وما خالف فيه
إلا داود، ولا عبرة بخلافه، وإنما الأمر الصعب مخالفة البخاري وحكمه بأن الغسل
مستحب، وهو أحد أئمة الدين وأجلة علماء المسلمين. ثم أخذ يتكلم في تضعيف حديث
الباب بما لا يقبل منه، وقد أشرنا إلى بعضه ثم قال: ويحتمل أن يكون مراد البخاري
بقوله: "الغسل أحوط " أي في الدين، وهو باب مشهور في الأصول، قال: وهو
أشبه بإمامة الرجل وعلمه. قلت: وهذا هو الظاهر من تصرفه، فإنه لم يترجم بجواز ترك
الغسل وإنما ترجم ببعض ما يستفاد من الحديث من غير هذه المسألة كما استدل به على
إيجاب الوضوء فيما تقدم، وأما نفي ابن العربي الخلاف فمعترض، فإنه مشهور بين
الصحابة، ثبت عن جماعة منهم، لكن ادعى ابن القصار أن الخلاف ارتفع بين التابعين،
وهو
ـــــــ
(1) في مخطوطة الرياض"المذى"
(1/398)
معترض أيضا فقد قال
الخطابي: أنه قال به من الصحابة جماعة فسمي بعضهم، قال: ومن التابعين الأعمش وتبعه
عياض، لكن قال: لم يقل به أحد بعد الصحابة غيره، وهو معترض أيضا فقد ثبت ذلك عن
أبي سلمة بن عبد الرحمن وهو في سنن أبي داود بإسناد صحيح، وعن هشام بن عروة عند
عبد الرزاق بإسناد صحيح. وقال عبد الرزاق أيضا عن ابن جريج عن عطاء أنه قال لا
تطيب نفسي إذا لم أنزل حتى اغتسل من أجل اختلاف الناس لأخذنا بالعروة الوثقى. وقال
الشافعي في اختلاف الحديث: حديث: "الماء من الماء " ثابت لكنه منسوخ،
إلى أن قال: فخالفنا بعض أهل ناحيتنا - يعني من الحجازيين - فقالوا: لا يجب الغسل
حتى ينزل ا هـ. فعرف بهذا أن الخلاف كان مشهورا بين التابعين ومن بعدهم، لكن
الجمهور على إيجاب الغسل، وهو الصواب، والله أعلم.
"خاتمة": اشتمل كتاب الغسل - وما معه من أحكام الجنابة - من الأحاديث
المرفوعة على ثلاثة وستين حديثا، المكرر منها فيه وفيما مضى خمسة وثلاثون حديثا،
الموصول منها أحد وعشرون والبقية تعليق ومتابعة، والخالص ثمانية وعشرون منها واحد
معلق وهو حديث بهز عن أبيه عن جده، وقد وافقه مسلم على تخريجها سواه وسوى حديث جابر
في الاكتفاء في الغسل بصاع وحديث أنس كان يدور على نسائه وهن إحدى عشرة امرأة في
ليلة واحدة وحديثه في الاغتسال مع المرأة من إناء واحد وحديث عائشة في صفة غسل
المرأة من الجنابة. وفيه من الآثار الموقوفة على الصحابة والتابعين عشرة المعلق
منها سبعة والموصول ثلاثة وهي حديث زيد بن خالد عن علي وطلحة والزبير المذكور في
الباب الأخير، فإن كان مرفوعا عنهم فتزيد عدة الخالص من المرفوع ثلاثة وهي أيضا من
أفراده عن مسلم. والله أعلم.
(1/399)
كتاب الحيض
مدخل
...
- كِتَاب الْحَيْضِ
وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى
فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ
فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ
يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [222البقرة]
قوله: "بسم الله الرحمن الرحيم - كتاب الحيض" أصله السيلان، وفي العرف
جريان دم المرأة من موضع مخصوص في أوقات معلومة. قوله: "وقول الله
تعالى" بالجر عطفا على الحيض، والمحيض عند الجمهور هو الحيض، وقيل زمانه،
وقيل مكانه. قوله: "أذى" قال الطيبي: سمي الحيض أذى لنتنه وقذره
ونجاسته. وقال الخطابي: الأذى المكروه الذي ليس بشديد، كما قال تعالى :{لَنْ
يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً} ، فالمعنى أن المحيض أذى يعتزل من المرأة موضعه ولا
يتعدى ذلك إلى بقيه بدنها. قوله: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} روى
مسلم وأبو داود من حديث أنس أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة أخرجوها من البيت،
فسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فنزلت الآية فقال: "اصنعوا كل شيء إلا
النكاح " فأنكرت اليهود ذلك، فجاء أسيد بن حضير وعباد بن بشر فقالا: يا رسول
الله ألا نجامعهن في الحيض؟ يعني خلافا لليهود، فلم يأذن في ذلك. وروى الطبري عن
السدي أن الذي سأل أولا عن ذلك هو ثابت بن الدحداح.
(1/399)
باب كيف بدء الحيض
، وقول النبي صلى الله عليه وسلم " هذا شيء كتبه الله على بنات آدم "
...
1 - باب كَيْفَ كَانَ بَدْءُ الْحَيْضِ
وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا شَيْءٌ كَتَبَهُ
اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ "كَانَ أَوَّلُ مَا أُرْسِلَ
الْحَيْضُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ" قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ وَحَدِيثُ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْثَرُ
قوله: "باب كيف كان بدء الحيض" أي ابتداؤه، وفي إعراب " باب "
الأوجه المتقدمة أول الكتاب. قوله: "وقول النبي صلى الله عليه وسلم: هذا
شيء" يشير إلى حديث عائشة المذكور عقبه، لكن بلفظ: "هذا أمر " وقد
وصله بلفظ: "شيء " من طريق أخرى بعد خمسة أبواب أو ستة، والإشارة بقوله:
"هذا " إلى الحيض. قوله: "وقال بعضهم: كان أول" بالرفع لأنه
اسم كان والخبر " على بني إسرائيل " أي على نساء بني إسرائيل، وكأنه
يشير إلى ما أخرجه عبد الرزاق عن ابن مسعود بإسناد صحيح قال: "كان الرجال
والنساء في بني إسرائيل يصلون جميعا، فكانت المرأة تتشرف للرجل، فألقى الله عليهن
الحيض ومنعهن المساجد " وعنده عن عائشة نحوه. قوله: "وحديث النبي صلى
الله عليه وسلم أكثر" قيل معناه أشمل لأنه عام في جميع بنات آدم، فيتناول
الإسرائيليات ومن قبلهن، أو المراد أكثر شواهد أو أكثر قوة. وقال الداودي ليس
بينهما مخالفة فإن نساء بني إسرائيل من بنات آدم، فعلى هذا فقوله بنات آدم عام
أريد به الخصوص. قلت: ويمكن أن يجمع بينهما مع القول بالتعميم بأن الذي أرسل على
نساء بني إسرائيل طول مكثه بهن عقوبة لهن لا ابتداء وجوده. وقد روى الطبري وغيره
عن ابن عباس وغيره أن قوله تعالى في قصة إبراهيم "وامرأته قائمة فضحكت"
أي حاضت. والقصة متقدمة على بني إسرائيل بلا ريب، وروى الحاكم وابن المنذر بإسناد
صحيح عن ابن عباس " أن ابتداء الحيض كان على حواء بعد أن أهبطت من
الجنة"، وإذا كان كذلك فبنات آدم بناتها، والله أعلم.
(1/400)
باب الأمر بالنفساء
إذا نفسن
294- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ
سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْقَاسِمِ قَالَ سَمِعْتُ الْقَاسِمَ بْنَ
مُحَمَّدٍ يَقُولُ سَمِعْتُ عَائِشَةَ تَقُولُ: "خَرَجْنَا لاَ نَرَى إِلاَّ
الْحَجَّ فَلَمَّا كُنَّا بِسَرِفَ حِضْتُ فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أَبْكِي قَالَ "مَا لَكِ
أَنُفِسْتِ" قُلْتُ نَعَمْ قَالَ "إِنَّ هَذَا أَمْرٌ كَتَبَهُ اللَّهُ
عَلَى بَنَاتِ آدَمَ فَاقْضِي مَا يَقْضِي الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لاَ تَطُوفِي بِالْبَيْتِ"
قَالَتْ وَضَحَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ
نِسَائِهِ بِالْبَقَرِ".
[الحديث249- أطرافه في:
7229,6257,5559,5548,5329,4408,4401,4395,2984,2952,1788,1787,1786,1783
,1772,1771,1762,1757,1733,172,1709,1650,1638,1562,1560,1556,1518,1516,328,319,317,316,305]قوله
"باب الأمر بالنفساء" أي الأمر المتعلق بالنفساء, والجمع في قوله
"إذا نفسن "باعتبار الجنس, وسقطت هذه الترجمة من أكثر الروايات غير أبي
ذر وأبي الوقت,وترجم بالنفساء إشعارا بأن ذلك يطلق على الحائض لقول عائشة في
الحديث:حضت" وقوله صلى الله عليه وسلم لها "أنفست" وهو بضم النون
وفتحها وكسر الفاء فيهما,وقيل بالضم في الولادة وبالفتحفي الحيض وأصله خروج الدم
للأنه يسمى نفسا,وسيأتي مزيد بسط لذلك بعد بابين قوله: "سمعت القاسم"
يعني أباه، وهو ابن محمد بن أبي بكر الصديق. قوله: "لا نرى" بالضم أي لا
نظن. و " سرف " بفتح المهملة كسر الراء بعدها فاء موضع قريب من مكة
بينهما نحو من عشرة أميال، وهو ممنوع من
(1/400)
الصرف وقد يصرف. قوله: "فاقضى" المراد بالقضاء هنا الأداء وهما في اللغة بمعنى واحد. قوله: " غير أن لا تطوفي بالبيت" زاد في الرواية الآتية " حتى تطهري " وهذا الاستثناء مختص بأحوال الحج لا بجميع أحوال المرأة، وسيأتي الكلام على هذا الحديث بتمامه في كتاب الحج إن شاء الله تعالى.
(1/401)
2 - باب غَسْلِ
الْحَائِضِ رَأْسَ زَوْجِهَا وَتَرْجِيلِهِ
295- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ
هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ "كُنْتُ
أُرَجِّلُ رَأْسَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا
حَائِضٌ"
[الحديث295- أطرافه في:2925,2046,2031,2029,2028,301,296]
296- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى قَالَ أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ
أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ قَالَ أَخْبَرَنِي هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ
عُرْوَةَ أَنَّهُ سُئِلَ: "أَتَخْدُمُنِي الْحَائِضُ أَوْ تَدْنُو مِنِّي
الْمَرْأَةُ وَهِيَ جُنُبٌ فَقَالَ عُرْوَةُ كُلُّ ذَلِكَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَكُلُّ
ذَلِكَ تَخْدُمُنِي وَلَيْسَ عَلَى أَحَدٍ فِي ذَلِكَ بَأْسٌ أَخْبَرَتْنِي
عَائِشَةُ أَنَّهَا كَانَتْ تُرَجِّلُ تَعْنِي رَأْسَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ حَائِضٌ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَئِذٍ مُجَاوِرٌ فِي الْمَسْجِدِ يُدْنِي لَهَا رَأْسَهُ
وَهِيَ فِي حُجْرَتِهَا فَتُرَجِّلُهُ وَهِيَ حَائِضٌ".
قوله: "باب غسل الحائض رأس زوجها وترجيله" بالجر عطفا على غسل، أي تسريح
شعر رأسه. والحديث مطابق لما ترجم له من جهة الترجيل، والحق به الغسل قياسا، أو
إشارة إلى الطريق الآتية في باب مباشرة الحائض فإنها صريحة في ذلك، وهو دال على أن
ذات الحائض طاهرة، وعلى أن حيضها لا يمنع ملامستها. قوله: "أخبرنا هشام"
وفي رواية الأكثر " أخبرني هشام بن عروة " وفي هذا الإسناد لطيفة، وهي
اتفاق اسم شيخ الراوي وتلميذه، مثاله هذا ابن جريج عن هشام وعنه هشام، فالأعلى ابن
عروة والأدنى ابن يوسف، وهو نوع أغفله ابن الصلاح. قوله: "مجاور" أي
معتكف، وثبت هذا التفسير في نسخة الصغاني في الأصل، وحجرة عائشة كانت ملاصقة
للمسجد، وألحق عروة الجنابة بالحيض قياسا، وهو جلي لأن الاستقذار بالحائض أكثر من
الجنب، وألحق الخدمة بالترجيل. وفي الحديث دلالة على طهارة بدن الحائض وعرقها، وأن
المباشرة الممنوعة للمعتكف هي الجماع ومقدماته، وأن الحائض لا تدخل المسجد. وقال
ابن بطال: فيه حجة على الشافعي في قوله أن المباشرة مطلقا تنقض الوضوء، كذا قال.
ولا حجة فيه لأن الاعتكاف لا يشترط فيه الوضوء، وليس في الحديث أنه عقب ذلك الفعل
بالصلاة، وعلى تقدير ذلك فمس الشعر لا ينقض الوضوء. والله أعلم.
(1/401)
3 - باب قِرَاءَةِ
الرَّجُلِ فِي حَجْرِ امْرَأَتِهِ وَهِيَ حَائِضٌ
وَكَانَ أَبُو وَائِلٍ يُرْسِلُ خَادِمَهُ وَهِيَ حَائِضٌ إِلَى أَبِي رَزِينٍ
فَتَأْتِيهِ بِالْمُصْحَفِ فَتُمْسِكُهُ بِعِلاَقَتِهِ
297- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ سَمِعَ زُهَيْرًا عَنْ
مَنْصُورِ بْنِ صَفِيَّةَ أَنَّ أُمَّهُ حَدَّثَتْهُ أَنَّ عَائِشَةَ حَدَّثَتْهَا
"أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَّكِئُ فِي
حَجْرِي وَأَنَا حَائِضٌ ثُمَّ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ".
[الحديث 297- طرفه في:7549]
(1/401)
4 - باب مَنْ
سَمَّى النِّفَاسَ حَيْضًا وَالْحَيْضَ نِفَاسًا
298- حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ
يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ أُمِّ
سَلَمَةَ حَدَّثَتْهُ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ حَدَّثَتْهَا قَالَتْ: "بَيْنَا
أَنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُضْطَجِعَةٌ فِي
خَمِيصَةٍ إِذْ حِضْتُ فَانْسَلَلْتُ فَأَخَذْتُ ثِيَابَ حِيضَتِي قَالَ
"أَنُفِسْتِ" قُلْتُ نَعَمْ فَدَعَانِي فَاضْطَجَعْتُ مَعَهُ فِي
الْخَمِيلَةِ".
[الحديث298- أطرافه في:1929,323,322]
قوله: "باب من سمي النفاس حيضا" قيل هذه الترجمة مقلوبة لأن حقها أن
يقول من سمي الحيض نفاسا، وقيل يحمل على التقديم والتأخير، والتقدير: من سمي حيضا
النفاس، ويحتمل أن يكون المراد بقوله: "من سمي " من أطلق لفظ النفاس على
الحيض فيطابق ما في الخير بغير تكلف. وقال المهلب وغيره لما لم يجد المصنف نصا على
شرطه في النفساء ووجد تسمية الحيض نفاسا في هذا الحديث فهم منه أن حكم دم النفاس
حكم دم الحيض. وتعقب بأن الترجمة في التسمية لا في الحكم، وقد نازع الخطابي في
التسوية بينهما من حيث الاشتقاق كما سيأتي. وقال ابن رشيد وغيره: مراد البخاري أن
يثبت أن النفاس هو الأصل في تسمية الدم الخارج، والتعبير به تعبير بالمعنى الأعم،
والتعبير عنه بالحيض تعبير بالمعنى الأخص. فعبر النبي صلى الله عليه وسلم بالأول
وعبرت أم سلمة بالثاني، فالترجمة على هذا مطابقة لما عبرت به أم سلمة، والله أعلم.
قوله: "حدثنا هشام" هو الدستوائي. قوله: "عن أبي سلمة" في
رواية مسلم حدثني أبو سلمة أخرجها من طريق معاذ بن هشام عن أبيه. قوله:
"مضطجعة" بالرفع ويجوز النصب. قوله: "في خميصة" بفتح الخاء
المعجمة وبالصاد المهملة: كساء أسود له أعلام يكون من صوف وغيره ولم أر في شيء من
(1/402)
طرقه بلفظ خميصة إلا في هذه الرواية. وأصحاب يحيى ثم أصحاب هشام كلهم قالوا خميلة باللام بدل الصاد، وهو موافق لما في آخر الحديث، قيل: الخميلة القطيفة، وقيل الطنفسة. وقال الخليل: الخميلة ثوب له خمل أي هدب، وعلى هذا لا منافاة بين الخميصة والخميلة فكأنها كانت كساء أسود لها أهداب قوله: "فانسللت" بلامين الأولى مفتوحة والثانية ساكنة، أي ذهبت في خفية. زاد المصنف من رواية شيبان عن يحيى كما سيأتي قريبا " فخرجت منها " أي من الخميصة قال النووي كأنها خافت وصول شيء من دمها إليه، أو خافت أن يطلب الاستمتاع بها فذهبت لتتأهب لذلك، أو تقذرت نفسها ولم ترضها لمضاجعته، فلذلك أذن لها في العود. قوله: "ثياب حيضتي" وقع في روايتنا الحاء وكسرها معا، ومعنى الفتح أخذت ثيابي التي ألبسها زمن الحيض، لأن الحيضة بالفتح هي الحيض. ومعنى الكسر أخذت ثيابي التي أعددتها لألبسها حالة الحيض، وحزم الخطابي برواية الكسر ورجحها النووي، ورجح القرطبي رواية الفتح لوروده في بعض طرقه بلفظ حيضي بغير تاء. قوله: "أنفست" ؟ قال الخطابي: أصل هذه الكلمة من النفس وهو الدم، إلا أنهم فرقوا بين بناء الفعل من الحيض والنفاس، فقالوا في الحيض نفست بفتح النون، وفي الولادة بضمها. انتهى، وهذا قول كثير من أهل اللغة، لكن حكى أبو حاتم عن الأصمعي قال: يقال نفست المرأة في الحيض والولادة، بضم النون فيهما. وقد ثبت في روايتنا بالوجهين فتح النون وضمها، وفي الحديث جواز النوم مع الحائض في ثيابها والاضطجاع معها في لحاف واحد، واستحباب اتخاذ المرأة ثيابا للحيض غير ثيابها المعتادة، وقد ترجم المصنف على ذلك كما سيأتي، وسيأتي الكلام على مباشرتها في الباب الذي بعده.
(1/403)
5 - باب
مُبَاشَرَةِ الْحَائِضِ
299- حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ
إِبْرَاهِيمَ عَنْ الأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ "كُنْتُ أَغْتَسِلُ
أَنَا وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ
كِلاَنَا جُنُبٌ"
300- "وَكَانَ يَأْمُرُنِي فَأَتَّزِرُ فَيُبَاشِرُنِي وَأَنَا حَائِضٌ"
[الحديث300- طرفاه في:2030,302]
301- "وَكَانَ يُخْرِجُ رَأْسَهُ إِلَيَّ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ فَأَغْسِلُهُ
وَأَنَا حَائِضٌ".
302- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ خَلِيلٍ قَالَ أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ
مُسْهِرٍ قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ هُوَ الشَّيْبَانِيُّ عَنْ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ الأَسْوَدِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: "كَانَتْ
إِحْدَانَا إِذَا كَانَتْ حَائِضًا فَأَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُبَاشِرَهَا أَمَرَهَا أَنْ تَتَّزِرَ فِي فَوْرِ
حَيْضَتِهَا ثُمَّ يُبَاشِرُهَا قَالَتْ وَأَيُّكُمْ يَمْلِكُ إِرْبَهُ كَمَا
كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْلِكُ إِرْبَهُ"
تَابَعَهُ خَالِدٌ وَجَرِيرٌ عَنْ الشَّيْبَانِيِّ
قوله: "باب مباشرة الحائض" المراد بالمباشرة هنا التقاء البشرتين، لا
الجماع.قوله: "حدثنا قبيصة" القاف والصاد المهملة هو ابن عقبة، وسفيان
هو الثوري، ومنصور هو ابن المعتمر.والإسناد كله إلى عائشة كوفيون، وتقدم الكلام
على اغتسالها مع النبي صلى الله عليه وسلم من إناء واحد في كتاب الغسل.قوله:
"فأتزر" كذا في روايتنا،
(1/403)
وغيرها بتشديد التاء المثناة بعد الهمزة، وأصله فئأتزر بهمزة ساكنة بعد الهمزة المفتوحة ثم المثناة بوزن أفتعل، وأنكر أكثر النحاة الإدغام حتى قال صاحب المفصل إنه خطأ، لكن نقل غيره أنه مذهب الكوفيين، وحكاه الصغاني في مجمع البحرين. وقال ابن مالك: إنه مقصور على السماع ومنه قراءة ابن محيص {فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ} بالتشديد، والمراد بذلك أنها تشد إزارها على وسطها، وحدد ذلك الفقهاء بما بين السرة والركبة عملا بالعرف الغالب. وقد سبق الكلام على بقية الحديث قبل ببابين. قوله: "حدثنا إسماعيل بن خليل" كذا في رواية أبي ذر وكريمة، ولغيرهما: "الخليل". والإسناد أيضا إلى عائشة كلهم كوفيون. قوله: "إحدانا" أي إحدى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: "أن تتزر" بتشديد المثناة الثانية، وقد تقدم توجيهها، وللكشميهني: "أن تأتزر " بهمزة ساكنة وهي أفصح. قوله: "في فور حيضتها" قال الخطابي: فور الحيض أوله ومعظمه. وقال القرطبي: فور الحيضة معظم صبها، من فوران القدر وغليانها. قوله: "يملك إربه" بكسر الهمزة وسكون الراء ثم موحدة، قيل المراد عضوه الذي يستمتع به، وقيل حاجته، والحاجة تسمى إربا بالكسر ثم السكون وأربا بفتح الهمزة والراء، وذكر الخطابي في شرحه أنه روى هنا بالوجهين، وأنكر في موضع آخر كما نقله النووي وغيره عنه رواية الكسر، وكذا أنكرها النحاس. وقد ثبتت رواية الكسر، وتوجيهها ظاهر فلا معنى لإنكارها، والمراد أنه صلى الله عليه وسلم كان أملك الناس لأمره، فلا يخشى عليه ما يخشى على غيره من أن يحوم حول الحمى، ومع ذلك فكان يباشر فوق الإزار تشريعا لغيره ممن ليس بمعصوم. وبهذا قال أكثر العلماء، وهو الجاري على قاعدة المالكية في باب سد الذرائع. وذهب كثير من السلف والثوري وأحمد وإسحاق إلى أن الذي يمتنع من الاستمتاع بالحائض الفرج فقط، وبه قال محمد بن الحسن من الحنفية ورجحه الطحاوي، وهو اختيار أصبغ من المالكية، وأحد القولين أو الوجهين للشافعية واختاره ابن المنذر. وقال النووي: هو الأرجح دليلا لحديث أنس في مسلم: "اصنعوا كل شيء إلا الجماع " وحملوا حديث الباب وشبهه على الاستحباب جمعا بين الأدلة. وقال ابن دقيق العيد: ليس في حديث الباب ما يقتضي منع ما تحت الإزار لأنه فعل مجرد. انتهى. ويدل على الجواز أيضا ما رواه أبو داود بإسناد قوي عن عكرمة عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا أراد من الحائض شيئا ألقى على فرجها ثوبا، واستدل الطحاوي على الجواز بأن المباشرة تحت الإزار دون الفرج لا توجب حدا ولا غسلا فأشبهت المباشرة فوق الإزار. وفصل بعض الشافعية فقال: إن كان يضبط نفسه عند المباشرة عن الفرج ويثق منها باجتنابه جاز وإلا فلا، واستحسنه النووي. ولا يبعد تخريج وجه مفرق بين ابتداء الحيض وما بعده لظاهر التقييد بقولها " فور حيضتها"، ويؤيده ما رواه ابن ماجه بإسناد حسن عن أم سلمة أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتقي سورة الدم ثلاثا ثم يباشر بعد ذلك، ويجمع بينه وبين الأحاديث الدالة على المبادرة إلى المباشرة على اختلاف هاتين الحالتين. قوله: "تابعه خالد" هو ابن عبد الله الواسطي، وجرير هو ابن عبد الحميد، أي تابعا علي بن مسهر في رواية هذا الحديث عن أبي إسحاق الشيباني بهذا الإسناد. وللشيباني فيه إسناد آخر كما سيأتي عقبه، ومتابعة خالد وصلها أبو القاسم التنوخي في فوائده من طريق وهب بن بقية عنه، وقد أوردت إسنادها في تعليق التعليق، ومتابعة جرير وصلها أبو داود والإسماعيلي والحاكم في المستدرك. وهذا مما وهم في استدراكه لكونه مخرجا في الصحيحين من طريق الشيباني. ورواه أيضا عن الشيباني عن عبد الرحمن بن الأسود بسنده هذا منصور بن أبي الأسود. أخرجه أبو عوانة في صحيحه.
(1/404)
303- حَدَّثَنَا
أَبُو النُّعْمَانِ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ قَالَ حَدَّثَنَا
الشَّيْبَانِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ قَالَ سَمِعْتُ
مَيْمُونَةَ: "تَقُولُ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُبَاشِرَ امْرَأَةً مِنْ نِسَائِهِ أَمَرَهَا
فَاتَّزَرَتْ وَهِيَ حَائِضٌ". وَرَوَاهُ سُفْيَانُ عَنْ الشَّيْبَانِيِّ
قوله: "حدثنا أبو النعمان" هو الذي يقال له عارم، وعبد الواحد هو ابن
زياد البصري. قوله: "عبد الله بن شداد" أي ابن أسامة بن الهاد الليثي،
وهو من أولاد الصحابة له رؤية. قوله: "أمرها" أي بالاتزار
"فاتزرت" وهو في روايتنا بإثبات الهمزة على اللغة الفصحى. قوله:
"رواه سفيان" يعني الثوري "عن الشيباني" يعني بسند عبد
الواحد، وهو عند الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان نحوه. وقد رواه عن
الشيباني أيضا بهذا الإسناد خالد بن عبد الله عند مسلم وجرير بن عبد الحميد عند
الإسماعيلي، وذلك مما يدفع عنه توهم الاضطراب، وكأن الشيباني كان يحدث به تارة من
مسند عائشة وتارة من مسند ميمونة، فسمعه منه جرير وخالد بالإسنادين، وسمعه غيرهما
بأحدهما. ورواه عنه أيضا - بإسناد ميمونة - حفص بن غياث عند أبي داود وأبو معاوية
عند الإسماعيلي وأسباط بن محمد عند أبي عوانه في صحيحه. وقد تقدم ذكر من رواه عنه
بإسناد عائشة.
(1/405)
6 - باب تَرْكِ
الْحَائِضِ الصَّوْمَ
304- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ قَالَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
جَعْفَرٍ قَالَ أَخْبَرَنِي زَيْدٌ هُوَ ابْنُ أَسْلَمَ عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَضْحَى أَوْ فِطْرٍ إِلَى الْمُصَلَّى فَمَرَّ
عَلَى النِّسَاءِ فَقَالَ: "يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ فَإِنِّي
أُرِيتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ" فَقُلْنَ وَبِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ
قَالَ "تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ مَا رَأَيْتُ مِنْ
نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَذْهَبَ لِلُبِّ الرَّجُلِ الْحَازِمِ مِنْ
إِحْدَاكُنَّ" قُلْنَ وَمَا نُقْصَانُ دِينِنَا وَعَقْلِنَا يَا رَسُولَ
اللَّهِ قَالَ "أَلَيْسَ شَهَادَةُ الْمَرْأَةِ مِثْلَ نِصْفِ شَهَادَةِ
الرَّجُلِ" قُلْنَ بَلَى قَالَ "فَذَلِكِ مِنْ نُقْصَانِ عَقْلِهَا
أَلَيْسَ إِذَا حَاضَتْ لَمْ تُصَلِّ وَلَمْ تَصُمْ قُلْنَ بَلَى قَالَ
"فَذَلِكِ مِنْ نُقْصَانِ دِينِهَا"
[الحديث304- أطرافه في:2658,1951,1462]
قوله: "باب ترك الحائض الصوم" قال ابن رشيد وغيره: جرى البخاري على
عادته في إيضاح المشكل دون الجلي، وذلك أن تركها الصلاة واضح من أجل أن الطهارة
مشترطة في صحة الصلاة وهي غير طاهر، وأما الصوم فلا يشترط له الطهارة فكان تركها
له تعبدا محضا فاحتاج إلى التنصيص عليه بخلاف الصلاة. قوله: "حدثنا سعيد بن
أبي مريم" هو سعيد بن الحكم بن محمد بن سالم المصري الجمحي، لقيه البخاري
وروى مسلم وأصحاب السنن عنه بواسطة، ومحمد بن جعفر هو ابن أبي كثير أخو إسماعيل،
والإسناد منه فصاعدا مدنيون، وفيه تابعي عن تابعي، زيد بن أسلم عن عياض بن عبد
الله وهو ابن أبي سرح العامري، لأبيه صحبة. قوله: "في أضحى أو فطر" شك
من الراوي. قوله: "إلى المصلى فمر على النساء" اختصره المؤلف هنا، وقد
ساقه في كتاب الزكاة تاما ولفظه: "إلى المصلى فوعظ
(1/405)
الناس وأمرهم بالصدقة فقال: أيها الناس تصدقوا، فمر على النساء"، وقد تقدم في كتاب العلم من وجه آخر أبي سعيد أنه كان وعد النساء بأن يفردهن بالموعظة فأنجزه ذلك اليوم، وفيه أنه وعظهن وبشرهن. قوله: "يا معشر النساء" المعشر كل جماعة أمرهم واحد، ونقل عن ثعلب أنه مخصوص بالرجال، وهذا الحديث يرد عليه، إلا إن كان مراده بالتخصيص حالة إطلاق المعشر لا تقييده كما في الحديث. قوله: "أريتكن" بضم الهمزة وكسر الراء على البناء للمفعول، والمراد أن الله تعالى أراهن له ليلة الإسراء، وقد تقدم في العلم من حديث ابن عباس، بلفظ: "أريت النار فرأيت أكثر أهلها النساء " ويستفاد من حديث ابن عباس أن الرؤية المذكورة وقعت في حال صلاة الكسوف كما سيأتي واضحا في باب صلاة الكسوف جماعة. قوله: "وبم؟" الواو استئنافية والباء تعليلية والميم أصلها ما الاستفهامية فحذفت منها الألف تخفيفا. قوله: "وتكفرن العشير" أي تجحدن حق الخليط - وهو الزوج - أو أعم من ذلك. قوله: "من ناقصات" صفة موصوف محذوف قال الطيبي في قوله: "ما رأيت من ناقصات الخ " زيادة على الجواب تسمى الاستتباع، كذا قال وفيه نظر، ويظهر لي أن ذلك من جملة أسباب كونهن أكثر أهل النار، لأنهن إذا كن سببا لإذهاب عقل الرجل الحازم حتى يفعل أو يقول ما لا ينبغي فقد شاركنه في الإثم وزدن عليه: قوله: "أذهب" أي أشد إذهابا، واللب أخص من العقل وهو الخالص منه، "الحازم الضابط لأمره، وهذه مبالغة في وصفهن بذلك لأن الضابط لأمره إذا كان ينقاد لهن فغير الضابط أولى، واستعمال أفعل التفضيل من الإذهاب جائز عند سيبويه حيث جوزه من الثلاثي والمزيد. قوله: "قلن: وما نقصان ديننا" ؟ كأنه خفي عليهن ذلك حتى سألن عنه، ونفس السؤال دال على النقصان لأنهن سلمن ما نسب إليهن من الأمور الثلاثة - الإكثار والكفران والإذهاب - ثم استشكلن كونهن ناقصات. وما ألطف ما أجابهن به صلى الله عليه وسلم من غير تعنيف ولا لوم، بل خاطبهن على قدر عقولهن، وأشار بقوله: "مثل نصف شهادة الرجل " إلى قوله تعالى :{فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} لأن الاستظهار بأخرى مؤذن بقلة ضبطها وهو مشعر بنقص عقلها، وحكى ابن التين عن بعضهم أنه حمل العقل هنا على الدية وفيه بعد قلت: بل سياق الكلام يأباه. قوله: "فذلك" بكسر الكاف خطابا التي تولت الخطاب، ويجوز فتحها على أنه للخطاب العام. قوله: "لم تصل ولم تصم" فيه إشعار بأن منع الحائض من الصوم والصلاة كان ثابتا بحكم الشرع قبل ذلك المجلس. وفي هذا الحديث من الفوائد: مشروعية الخروج إلى المصلى في العيد، وأمر الإمام الناس بالصدقة فيه، واستنبط منه بعض الصوفية جواز الطلب من الأغنياء للفقراء وله شروط، وفيه حضور النساء العيد، لكن بحيث ينفردن عن الرجال خوف الفتنة، وفيه جواز عظة الإمام النساء على حدة وقد تقدم في العلم، وفيه أن جحد النعم حرام، وكذا كثرة استعمال الكلام القبيح كاللعن والشتم، استدل النووي على أنهما من الكبائر بالتوعد عليها بالنار، وفيه ذم اللعن وهو الدعاء بالإبعاد من رحمة الله تعالى، وهو محمول على ما إذا كان في معين، وفيه إطلاق الكفر على الذنوب التي لا تخرج عن الملة تغليظا على فاعلها لقوله في بعض طرقه: "بكفرهن " كم تقدم في الإيمان، وهو كإطلاق نفي الإيمان، وفيه الإغلاظ في النصح بما يكون سببا لإزالة الصفة التي تعاب، وأن لا يواجه بذلك الشخص المعين لأن التعميم تسهيلا على السامع، وفيه أن الصدقة تدفع العذاب، وأنها قد تكفر الذنوب التي بين المخلوقين، وأن العقل يقبل الزيادة والنقصان، وكذلك الإيمان كما تقدم، وليس المقصود بذكر النقص في النساء لومهن على ذلك لأنه من أصل الخلقة، لكن التنبيه على ذلك تحذيرا من الافتتان بهن،
(1/406)
ولهذا رتب العذاب على ما ذكر من الكفران وغيره لا على النقص، وليس، نقص، الدين منحصرا فيما يحصل به الإثم بل في أعم من ذلك قاله النووي، لأنه أمر نسبي، فالكامل مثلا ناقص عن الأكمل، ومن ذلك الحائض لا تأثم بترك الصلاة زمن الحيض لكنها ناقصة عن المصلي، وهل تثاب على هذا الترك لكونها مكلفة به كما يثاب المريض على النوافل التي كان يعملها في صحته وشغل بالمرض عنها؟ قال النووي: الظاهري أنها لا تثاب، والفرق بينها وبين المريض أنه كان يفعلها بنية الدوام عليها مع أهليته، والحائض ليست كذلك. وعندي - في كون هذا الفرق مستلزما لكونها لا تثاب - وقفة، وفي الحديث أيضا مراجعة المتعلم لمعلمه والتابع لمتبوعه فيما لا يظهر له معناه، وفيه ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من الخلق العظيم والصفح الجميل والرفق والرأفة، زاده الله تشريفا وتكريما وتعظيما.
(1/407)
7 - باب تَقْضِي
الْحَائِضُ الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا إِلاَّ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ "لاَ بَأْسَ أَنْ تَقْرَأَ الْآيَةَ" وَلَمْ يَرَ
ابْنُ عَبَّاسٍ بِالْقِرَاءَةِ لِلْجُنُبِ بَأْسًا "وَكَانَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ اللَّهَ عَلَى كُلِّ
أَحْيَانِهِ" وَقَالَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ: "كُنَّا نُؤْمَرُ أَنْ
يَخْرُجَ الْحُيَّضُ فَيُكَبِّرْنَ بِتَكْبِيرِهِمْ وَيَدْعُونَ" وَقَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ: "أَخْبَرَنِي أَبُو سُفْيَانَ أَنَّ هِرَقْلَ دَعَا
بِكِتَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَأَ فَإِذَا فِيهِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَ {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا
إِلَى كَلِمَةٍ} الْآيَةَ" وَقَالَ عَطَاءٌ عَنْ جَابِرٍ: "حَاضَتْ
عَائِشَةُ فَنَسَكَتْ الْمَنَاسِكَ غَيْرَ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ وَلاَ
تُصَلِّي" وَقَالَ الْحَكَمُ: "إِنِّي لاَذْبَحُ وَأَنَا جُنُبٌ وَقَالَ
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ
عَلَيْهِ} "[الأنعام121]
305- حدثنا أبو نعيم قال حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة عن عبد الرحمن بن القاسم عن
القاسم بن محمد عن عائشة قالت:خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم لانذكر الا
الحج.فلما جئنا سرف طمثت ,فدخل علي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي,فقال
مايبكيك؟ قلت لوددت والله أني لم أحج العام. قال: لعلك نفست؟ قلت نعم.
قال"فإن ذلك شيء كتبه الله على بنات آدم,فافعلي ما يفعل الحاج,غير أن لاتطوفي
بالبيت حتى تطهري"
قوله: "باب تقضي الحائض" أي تؤدي "المناسك كلها إلا الطواف
بالبيت" قيل مقصود البخاري بما ذكر في هذا الباب من الأحاديث والآثار أن
الحيض وما في معناه من الجنابة لا ينافي جميع العبادات، بل صحت معه عبادات بدنية
من أذكار وغيرها، فمناسك الحج من جملة ما لا ينافها، إلا الطواف فقط. وفي كون هذا
مراده نظر، لأن كون مناسك الحج كذلك حاصل بالنص فلا يحتاج إلى الاستدلال عليه،
والأحسن ما قاله ابن رشيد تبعا لابن بطال وغيره: إن مراده الاستدلال على جواز
قراءة الحائض والجنب بحديث عائشة رضي الله عنها، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يستثن
من جميع مناسك الحج إلا الطواف، وإنما استثناه لكونه صلاة مخصوصة، وأعمال الحج مشتملة
على ذكر وتلبيه ودعاء، ولم تمنع الحائض من شيء من ذلك، فكذلك الجنب لأن حدثها أغلظ
من حدثه، ومنع القراءة إن كان
(1/407)
لكونه ذكرا لله فلا فرق بينه وبين ما ذكر، وإن كان تعبدا فيحتاج إلى دليل خاص، ولم يصح عند المصنف شيء من الأحاديث الواردة في ذلك، وإن كان مجموع ما ورد في ذلك تقوم به الحجة عند غيره لكن أكثرها قابل للتأويل كما سنشير إليه، ولهذا تمسك البخاري ومن قال بالجواز غيره كالطبري وابن المنذر وداود بعموم حديث: "كان يذكر الله على كل أحيانه " لأن الذكر أعم من أن يكون بالقرآن أو بغيره، وإنما فرق بين الذكر والتلاوة بالعرف والحديث المذكور وصله مسلم من حديث عائشة، وأورد المصنف أثر إبراهيم وهو النخعي بأن منع الحائض من القراءة ليس مجمعا عليه، وقد وصله الدارمي وغيره بلفظ: "أربعة لا يقرءون القرآن: الجنب والحائض وعند الخلاء وفي الحمام، إلا الآية ونحوها للجنب والحائض"، وروي عن مالك نحو قول إبراهيم وروي عنه الجواز مطلقا وروي عنه الجواز للحائض دون الجنب، وقد قيل إنه قول الشافعي في القديم، ثم أورد أثر ابن عباس، وقد وصله ابن المنذر بلفظ: "إن عباس كان يقرأ ورده وهو جنب " وأما حديث أم عطية فوصله المؤلف في العيدين. وقوله فيه: "ويدعون " كذا لأكثر الرواة، وللكشميهني: "يدعين " بياء تحتانية بدل الواو، ووجه الدلالة منه ما تقدم من أنه لا فرق بين التلاوة وغيرها، ثم أورد المصنف طرفا من حديث أبي سفيان في قصة هرقل وهو موصول عنده في بدء الوحي وغيره، ووجه الدلالة منه أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى الروم وهم كفار والكافر جنب، كأنه يقول: إذا جاز مس الكتاب للجنب مع كونه مشتملا على آيتين فكذلك يجوز له قراءته، كذا قاله ابن رشيد. وتوجيه الدلالة منه إنما هي من حيث إنه إنما كتب إليهم ليقرءوه فاستلزم جواز القراءة بالنص لا بالاستنباط، وقد أجيب ممن منع ذلك - وهم الجمهور - بأن الكتاب اشتمل على أشياء غير الآيتين، فأشبه ما لو ذكر بعض القرآن في كتاب في الفقه أو في التفسير فإنه لا يمنع قراءته ولا مسه عند الجمهور لأنه لا يقصد منه التلاوة، ونص أحمد أنه يجوز مثل ذلك في المكاتبة لمصلحة التبليغ. وقال به كثير من الشافعية، ومنهم من خص الجواز بالقليل كالآية والآيتين، قال الثوري: "لا بأس أن يعلم الرجل النصراني الحرف من القرآن عسى الله أن يهديه، وأكره أن يعلمه الآية هو كالجنب"، وعن أحمد أكره أن يضع القرآن في غير موضعه، وعنه إن رجى منه الهداية جاز وإلا فلا. وقال بعض من منع: لا دلالة في القصة على جواز تلاوة الجنب القرآن، لأن الجنب إنما منع التلاوة إذا قصدها وعرف أن الذي يقرأه قرآن، أما لو قرأ في ورقة ما لا يعلم أنه من القرآن فإنه لا يمنع، وكذلك الكافر. وسيأتي مزيد لهذا في كتاب الجهاد إن شاء الله تعالى. "تنبيه": ذكر صاحب المشارق أنه وقع في رواية القابسي والنسفي وعبدوس هنا "ويا أهل الكتاب" بزيادة واو قال: وسقطت لأبي ذر والأصيلي وهو الصواب. قلت فافهم أن الأولى خطأ لكونها مخالفة للتلاوة، وليست خطأ، وقد تقدم توجيه إثبات الواو في بدء الوحي. قوله: "وقال عطاء عن جابر" هو طرف من حديث موصول عند المصنف في كتاب الأحكام وفي آخره: "غير أنها لا تطوف بالبيت ولا تصلي، وأما أثر الحكم - وهو الفقيه الكوفي - فوصله البغوي في الجعديات من روايته عن علي بن الجعد عن شعبة عنه، ووجه الدلالة منه أن الذبح مستلزم لذكر الله بحكم الآية التي ساقها، وفي جميع ما استدل به نزاع يطول ذكره، ولكن الظاهر من تصرفه ما ذكرناه. واستدل الجمهور على المنع بحديث علي " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحجبه عن القرآن شيء، ليس الجنابة " رواه أصحاب السنن وصححه الترمذي وابن حبان، وضعف بعضهم بعض رواته، والحق أنه من قبيل الحسن يصلح للحجة، لكن قيل: في الاستدلال به نظر، لأنه فعل مجرد فلا يدل على تحريم ما عداه،
(1/408)
وأجاب الطبري عنه بأنه محمول على الأكمل جمعا بين الأدلة، وأما حديث ابن عمر مرفوعا: "لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئا من القرآن " فضعيف من جميع طرقه، وقد تقدم الكلام على حديث عائشة في أول كتاب الحيض، وقولها " طمثت " بفتح الميم وإسكان المثلثة أي حضت، ويجوز كسر الميم يقال طمثت المرأة بالفتح والكسر في الماضي تطمث بالضم في المستقبل.
(1/409)
8 - باب
الِاسْتِحَاضَةِ
306- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ
هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: قَالَتْ
فَاطِمَةُ بِنْتُ أَبِي حُبَيْشٍ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لاَ أَطْهُرُ أَفَأَدَعُ الصَّلاَةَ فَقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا ذَلِكِ عِرْقٌ وَلَيْسَ بِالْحَيْضَةِ
فَإِذَا أَقْبَلَتْ الْحَيْضَةُ فَاتْرُكِي الصَّلاَةَ فَإِذَا ذَهَبَ قَدْرُهَا
فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ وَصَلِّي"
قوله: "باب الاستحاضة" قدم أنها جريان الدم من فرج المرأة في غير أوانه،
وأنه يخرج من عرق يقال له العاذل بعين مهملة وذال معجمة. قوله: "إني لا
أطهر" تقدم في باب غسل الدم من رواية أبي معاوية عن هشام وهو ابن عروة. في
هذا الحديث التصريح ببيان السبب وهو قولها " إني أستحاض " وكان عندها أن
طهارة الحائض لا تعرف إلا بانقطاع الدم فكنت بعدم الطهر عن اتصاله، وكانت علمت أن
الحائض لا تصلي فظنت أن ذلك الحكم مقترن بجريان الدم من الفرج فأرادت تحقق ذلك
فقالت: "أفأدع الصلاة". قوله: "إنما ذلك" بكسر الكاف وزاد في
الرواية الماضية " فقال لا". قوله: "وليس بالحيضة" بفتح الحاء
كما نقله الخطابي عن أكثر المحدثين أو كلهم، وإن كان قد اختار الكسر على إرادة
الحالة لكن الفتح هنا أظهر. وقال النووي: وهو متعين أو قريب من المتعين لأنه صلى
الله عليه وسلم أراد إثبات الاستحاضة ونفي الحيض. وأما قوله: "فإذا أقبلت
الحيضة " فيجوز فيه الوجهان معا جوازا حسنا. انتهى كلامه. والذي في روايتنا
بفتح الحاء في الموضعين. والله أعلم. قوله: "فاغسلي عنك الدم وصلي" أي
بعد الاغتسال كما سيأتي التصريح به في باب إذا حاضت في شهر ثلاث حيض من طريق أبي
أسامة عن هشام بن عروة في هذا الحديث قال في آخره: "ثم اغتسلي وصلي " ولم
يذكر غسل الدم. وهذا الاختلاف واقع بين أصحاب هشام، منهم من ذكر غسل الدم ولم يذكر
الاغتسال ومنهم من ذكر الاغتسال ولم يذكر غسل الدم، كلهم ثقات وأحاديثهم في
الصحيحين، فيحمل على أن كل فريق اختصر أحد الأمرين لوضوحه عنده. وفيه اختلاف ثالث
أشرنا إليه في باب غسل الدم من رواية أبي معاوية فذكر مثل حديث الباب وزاد:
"ثم توضئي لكل صلاة " ورددنا هناك قول من قال إنه مدرج، وقول من جزم
بأنه موقوف على عروة، ولم ينفرد أبو معاوية بذلك فقد رواه النسائي من طريق حماد بن
زيد عن، هشام وادعى أن حمادا تفرد بهذه الزيادة، وأومأ مسلم أيضا إلى ذلك، وليس
كذلك، فقد رواه الدارمي من طريق حماد بن سلمة والسراج من طريق يحيى بن سليم كلاما
عن هشام، وفي الحديث دليل على أن المرأة إذا ميزت دم الحيض من دم الاستحاضة تعتبر
دم الحيض وتعمل على إقباله وإدباره، فإذا انقضى قدره اغتسلت عنه ثم صار حكم دم
الاستحاضة حكم الحدث فتتوضأ لكل صلاة، لكنها لا تصلي
(1/409)
بذلك الوضوء أكثر من فريضة واحدة مؤداة أو مقضية لظاهر قوله: "ثم توضئي لكل صلاة"، وبهذا قال الجمهور، وعند الحنفية أن الوضوء متعلق بوقت الصلاة فلها أن تصلي به الفريضة الحاضرة وما شاءت من الفوائت ما لم يخرج وقت الحاضرة، وعلى قولهم المراد بقوله: "وتوضئي لكل صلاة " أي لوقت كل صلاة، ففيه مجاز الحذف ويحتاج إلى دليل. وعند المالكية يستحب لها الوضوء لكل صلاة ولا يجب إلا بحديث آخر. وقال أحمد وإسحاق: إن اغتسلت لكل فرض فهو أحوط. وفيه جوازا استفتاء المرأة بنفسها ومشافهتها للرجل فيما يتعلق، بأحوال النساء، وجواز سماع صونها للحاجة. وفيه غير ذلك. وقد استنبط منه الرازي الحنفي أن مدة أقل الحيض، ثلاثة أيام وأكثره عشرة لقوله: "قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها " لأن أقل ما يطلق عليه لفظ: "أيام ثلاثة وأكثره عشرة فأما دون الثلاثة فإنما يقال يومان ويوم وأما فوق عشرة فإنما يقال أحد عشر يوما وهكذا إلى عشرين، وفي الاستدلال بذلك نظر
(1/410)
9 - باب غَسْلِ
دَمِ الْمَحِيضِ
307حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ
هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ
أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَنَّهَا قَالَتْ: سَأَلَتْ امْرَأَةٌ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ
إِحْدَانَا إِذَا أَصَابَ ثَوْبَهَا الدَّمُ مِنْ الْحَيْضَةِ كَيْفَ تَصْنَعُ
فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَصَابَ ثَوْبَ إِحْدَاكُنَّ
الدَّمُ مِنْ الْحَيْضَةِ فَلْتَقْرُصْهُ ثُمَّ لِتَنْضَحْهُ بِمَاءٍ ثُمَّ
لِتُصَلِّي فِيهِ".
قوله: "باب غسل دم المحيض" هذه الترجمة أخص من الترجمة المتقدمة في كتاب
الوضوء وهي غسل الدم.قد تقدم الكلام هناك على حديث أسماء هذا، أخرجه هناك من رواية
يحيى القطان عن هشام، وإسناد هذه الرواية كالتي قبلها مدنيون سوى شيخه. وفيه من
الفوائد ما في الذي قبله، وجواز سؤال المرأة عما يستحيي من ذكره، والإفصاح بذكر ما
يستقذر للضرورة، وأن دم الحيض كغيره من الدماء في وجوب غسله. وفيه استحباب فرك
النجاسة اليابسة ليهون غسلها.
308- حَدَّثَنَا أَصْبَغُ قَالَ أَخْبَرَنِي ابْنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي
عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ حَدَّثَهُ عَنْ
أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ "كَانَتْ إِحْدَانَا تَحِيضُ ثُمَّ
تَقْتَرِصُ الدَّمَ مِنْ ثَوْبِهَا عِنْدَ طُهْرِهَا فَتَغْسِلُهُ وَتَنْضَحُ
عَلَى سَائِرِهِ ثُمَّ تُصَلِّي فِيهِ".
قوله: "حدثنا أصبغ" هو وشيخه وشيخ شيخه الثلاثة مصريون، والباقون وهم
ثلاثة أيضا مدنيون. قوله: "كانت إحدانا" أي أزواج النبي صلى الله عليه
وسلم، وهو محمول على أنهن كن يصنعن ذلك في زمنه صلى الله عليه وسلم، وبهذا يلتحق
هذا الحديث بحكم المرفوع، ويؤيده حديث أسماء الذي قبله، قال ابن بطال: حديث عائشة
يفسر حديث أسماء وأن المراد بالنضح في حديث أسماء الغسل، وأما قول عائشة "
وتنضح على سائره " فإنما فعلت ذلك دفعا للوسوسة، لأنه قد بان سياق حديثها
أنها كانت تغسل الدم لا بعضه، وفي قولها " ثم تصلي فيه: "إشارة إلى
امتناع الصلاة في الثوب النجس. قوله: "ثم تقترص الدم" بالقاف والصاد
المهملة بوزن تفتعل أي تغسله بأطراف أصابعها. وقال ابن الجوزي: "معناه
(1/410)
تقتطع كأنها تحوزه دون باقي المواضع"، والأول أشبه بحديث أسماء. قوله: "عند طهرها" كذا في أكثر الروايات، وللمستملي والحموي " عند طهره " أي الثوب، والمعنى عند إرادة تطهيره. وفيه جواز ترك النجاسة في الثوب عند عدم الحاجة إلى تطهيره.
(1/411)
باب اللإعتكاف للمستحاضة
...
10 - باب اعْتِكَافِ الْمُسْتَحَاضَةِ
309- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ
خَالِدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ عَائِشَةَ "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَكَفَ مَعَهُ بَعْضُ نِسَائِهِ وَهِيَ مُسْتَحَاضَةٌ تَرَى
الدَّمَ فَرُبَّمَا وَضَعَتْ الطَّسْتَ تَحْتَهَا مِنْ الدَّمِ وَزَعَمَ أَنَّ
عَائِشَةَ رَأَتْ مَاءَ الْعُصْفُرِ فَقَالَتْ: كَأَنَّ هَذَا شَيْءٌ كَانَتْ
فُلاَنَةُ تَجِدُهُ".
[الحديث309- أطرافه في: 2037,311,310]
310- حدثنا قتيبة قال حدثنا يزيد بن زريع عن خالد عن عكرمة عن عائشة قالت:
"اعتكفت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة من أزواجه فكانت ترى الدم
والصفرة والطست تحتها وهي تصلي"
311- حدثنامسدد قال حدثنا معتمر عن خالد عن عكرمة عن عائشة "أن بعض أمهات
المؤمنين اعتكفت وهي مستحاضة".
قوله: "باب اعتكاف المستحاضة" أي جوازه. قوله: "حدثنا خالد بن عبد
الله" هو الطحان الواسطى، وشيخه خالد هو ابن مهران الذي يقال له الحذاء
بالحاء المهملة والذال المعجمة المثقلة، ومدار الحديث المذكور عليه، وعكرمة هو
مولى ابن عباس. قوله: "بعض نسائه" قال ابن الجوزي: ما عرفنا من أزواج
النبي صلى الله عليه وسلم من كانت مستحاضة، قال: والظاهر أن عائشة أشارت بقولها من
نسائه أي النساء المتعلقات به وهي أم حبيبة بنت جحش أخت زينب بنت جحش قلت: يرد هذا
التأويل قوله في الرواية الثانية " امرأة من أزواجه " وقد ذكرها الحميدي
عقب الرواية الأولى فما أدري كيف غفل عنها ابن الجوزي، وفي الرواية الثالثة "
بعض أمهات المؤمنين " ومن المستبعد أن تعتكف معه صلى الله عليه وسلم امرأة
غير زوجاته وإن كان لها به تعلق. وقد حكى ابن عبد البر أن بنات جحش الثلاث كن
مستحاضات: زينب أم المؤمنين وحمنة زوج طلحة وأم حبيبة زوج عبد الرحمن بن عوف وهي
المشهورة منهن بذلك، وسيأتي حديثها في ذلك. وذكر أبو داود من طريق سليمان بن كثير
عن الزهري عن عروة عن عائشة " استحيضت زينب بنت جحش فقال لها النبي صلى الله
عليه وسلم " اغتسلي لكل صلاة " وكذا وقع في الموطأ أن زينب بنت جحش
استحيضت، وجزم ابن عبد البر بأنه خطأ لأنه ذكر أنها كانت تحت عبد الرحمن بن عوف
والتي كانت تحت عبد الرحمن ابن، عوف إنما هي أم حبيبة أختها. وقال شيخنا الإمام
البلقيني: يحمل على أن زينب بنت جحش استحيضت وقتا بخلاف أختها فإن استحاضتها دامت.
قلت: وكذا يحمل على ما سأذكره في حق سودة وأم سلمة والله أعلم. وقرأت بخط مغلطاي
في عد المستحاضات في زمن النبي صلى الله عليه وسلم قال: وسودة بنت زمعة ذكرها
العلاء بن المسيب عن الحكم عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين، فلعلها هي
المذكورة. قلت: وهو حديث ذكره أبو داود
(1/411)
من هذا الوجه تعليقا وذكر البيهقي(1) أن ابن خزيمة أخرجه موصولا. قلت: لكنه مرسل لأن أبا جعفر تابعي ولم يذكر من حدثه به. وقرأت في السنن لسعيد بن منصور: حدثنا إسماعيل ابن إبراهيم حدثنا خالد هو الحذاء عن عكرمة أن امرأة من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كانت معتكفة وهي مستحاضة قال: وحدثنا به خالد مرة أخرى عن عكرمة أن أم سلمة كانت عاكفة وهي مستحاضة وربما جعلت الطست تحتها. قلت: وهذا أولى ما فسرت به هذه المرأة لاتحاد المخرج. وقد أرسله إسماعيل ابن علية عن عكرمة، ووصله خالد الطحان ويزيد بن زريع وغيرهما بذكر عائشة فيه، ورجح البخاري الموصول فأخرجه. وقد أخرج ابن أبي شيبة عن إسماعيل بن علية هذا الحديث كما أخرجه سعيد بن منصور بدون تسمية أم سلمة. والله أعلم. قوله: "من الدم" أي لأجل الدم. قوله: "وزعم" هو معطوف على معنى العنعنة أي حدثني عكرمة بكذا وزعم كذا، وأبعد من زعم أنه معلق. قوله: "كأن" بالهمز وتشديد النون. قوله: "فلانة" لظاهر أنها تعني المرأة التي ذكرتها قبل. ورأيت على حاشية نسخة صحيحة من أصل أبي ذر ما نصه " فلانة هي رملة أم حبيبة بنت أبي سفيان " فإن كان ثابتا فهو قول ثالث في تفسير المبهمة، وعلى ما زعم ابن الجوزي من أن المستحاضة ليست من أزواجه فقد روي أن زينب بنت أم سلمة استحيضت، روى ذلك البيهقي والإسماعيلي في جمعه حديث يحيى بن أبي كثير، لكن الحديث في سنن أبي داود من حكاية زينب عن غيرها وهو أشبه، فإنها كانت في زمنه صلى الله عليه وسلم صغيرة لأنه دخل على أمها في السنة الثالثة وزينب ترضع وأسماء بنت عميس حكاه الدارقطني من رواية سهيل بن أبي صالح عن الزهري عن عروة عنها. قلت: وهو عند أبي داود على التردد هل هو عن أسماء أو فاطمة بنت أبي حبيش، وهاتان لهما به صلى الله عليه وسلم تعلق، لأن زينب ربيبته وأسماء أخت امرأته ميمونة لأمها، وكذا لحمنة وأم حبيبة به تعلق وحديثهما في سنن أبي داود، فهؤلاء سبع يمكن أن تفسر المبهمة بإحداهن. وأما من استحيض في عهده صلى الله عليه وسلم من الصحابيات غيرهن فسهلة بنت سهيل ذكرها أبو داود أيضا، وأسماء بنت مرثد ذكرها البيهقي وغيره، وبادية بنت غيلان ذكرها ابن منده، وفاطمة بنت أبي حبيش وقصتها عن عائشة في الصحيحين، ووقع في سنن أبي داود عن فاطمة بنت قيس فظن بعضهم أنها القرشية الفهرية والصواب أنها بنت أبي حبيش واسم أبي حبيش قيس، فهؤلاء أربع نسوة أيضا وقد كملن عشرا بحذف زينب بنت أبي سلمة. وفي الحديث جواز مكث المستحاضة في المسجد وصحة اعتكافها وصلاتها وجواز حدثها في المسجد عند أمن التلويث ويلتحق بها دائم الحدث ومن به جرح يسيل
(1/412)
11 - باب هَلْ
تُصَلِّي الْمَرْأَةُ فِي ثَوْبٍ حَاضَتْ فِيهِ؟
312- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ نَافِعٍ عَنْ
ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: "قَالَتْ عَائِشَةُ مَا كَانَ
لِإِحْدَانَا إِلاَّ ثَوْبٌ وَاحِدٌ تَحِيضُ فِيهِ فَإِذَا أَصَابَهُ شَيْءٌ مِنْ
دَمٍ قَالَتْ بِرِيقِهَا فَقَصَعَتْهُ بِظُفْرِهَا".
قوله: "باب هل تصلي المرأة في ثوب حاضت فيه" قيل مطابقة الترجمة لحديث
الباب أن من لم يكن لها إلا ثوب واحد تحيض فيه فمن المعلوم أنها تصلي فيه لكن بعد
تطهيره.في الجمع بين هذا الحديث وبين حديث أم سلمة الماضي الدال على
ـــــــ
(1) في طبعة بولاق: كذا في نسخ, وفي نسخ أخرى"السهيلى"بدله
(1/412)
أنه كان لها ثوب مختص بالحيض أن حديث عائشة محمول على ما كان في أول الأمر وحديث أم سلمة محمول على ما كان بعد اتساع الحال، ويحتمل أن يكون مراد عائشة بقولها " ثوب واحد " مختص بالحيض، وليس في سياقها ما ينقي أن يكون لها غيره في زمن الطهر فيوافق حديث أم سلمة، وليس فيه أيضا أنها صلت فيه فلا يكون فيه حجة لمن أجاز إزالة النجاسة بغير الماء، وإنما أزالت الدم بريقها ليذهب أثره ولم تقصد تطهيره، وقد مضى قبل بباب عنها ذكر الغسل بعد القرص قالت: "ثم تصلي فيه: "فدل على أنها عند إرادة الصلاة فيه كانت تغسله. وقولها في حديث الباب: "قالت بريقها " من إطلاق القول على الفعل، وقولها " فمصعته " بالصاد والعين المهملتين المفتوحتين أي حكته وفركته بظفرها، ورواه أبو داود بالقاف بدل الميم، والقصع الدلك. ووقع في رواية له من طريق عطاء عن عائشة بمعنى هذا الحديث: "ثم ترى فيه قطرة من دم فتقصعه بظفرها " فعلى هذا فيحمل حديث الباب على أن المراد دم يسير يعفي عن مثله، والتوجيه الأول أقوى. "فائدة": طعن بعضهم في هذا الحديث من جهة دعوى الانقطاع، ومن جهة دعوى الاضطراب. فأما الانقطاع فقال أبو حاتم: لم يسمع مجاهد من عائشة، وهذا مردود، فقد وقع التصريح بسماعه منها عند البخاري في غير هذا الإسناد، وأثبته علي بن المديني، فهو مقدم على من نفاه. وأما الاضطراب فلرواية أبي داود له عن محمد بن كثير عن إبراهيم بن نافع عن الحسن بن مسلم بدل ابن أبي نجيح، وهذا الاختلاف لا يوجب الاضطراب لأنه محمول على أن إبراهيم بن نافع سمعه من شيخين، ولو لم يكن كذلك فأبو نعيم شيخ البخاري فيه أحفظ من محمد بن كثير شيخ أبي داود فيه، وقد تابع أبا نعيم خلاد بن يحيى وأبو حذيفة والنعمان بن عبد السلام فرجحت روايته، والرواية المرجوحة لا تؤثر في الرواية الراجحة. والله أعلم.
(1/413)
12 - باب الطِّيبِ
لِلْمَرْأَةِ عِنْدَ غُسْلِهَا مِنْ الْمَحِيضِ
313- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ قَالَ حَدَّثَنَا
حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ حَفْصَةَ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ أَوْ
هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ عَنْ حَفْصَةَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: "كُنَّا نُنْهَى أَنْ نُحِدَّ عَلَى
مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاَثٍ إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا وَلاَ
نَكْتَحِلَ وَلاَ نَتَطَيَّبَ وَلاَ نَلْبَسَ ثَوْبًا مَصْبُوغًا إِلاَّ ثَوْبَ
عَصْبٍ وَقَدْ رُخِّصَ لَنَا عِنْدَ الطُّهْرِ إِذَا اغْتَسَلَتْ إِحْدَانَا مِنْ
مَحِيضِهَا فِي نُبْذَةٍ مِنْ كُسْتِ أَظْفَارٍ وَكُنَّا نُنْهَى عَنْ اتِّبَاعِ
الْجَنَائِزِ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ رَوَاهُ هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ عَنْ
حَفْصَةَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ".
[الحديث 313- أطرافه في:5343,5342,5341,5340,1279,1278]
قوله: "باب الطيب للمرأة" المراد بالترجمة أن تطيب المراة عند الغسل من
الحيض متأكد بحيث أنه رخص للحادة التي حرم عليها استعمال الطيب في شيء منه مخصوص.
قوله: "عن أيوب عن حفصة عن أم عطية" زاد المستملي وكريمة: "قال أبو
عبد الله " أي المصنف " أو هشام بن حسان عن حفصة عن أم عطية " كأنه
شك في شيخ حماد أهو أيوب أو هشام، ولم يذكر ذلك باقي الرواة ولا أصحاب المستخرجات
ولا الأطراف، وقد أورد المصنف هذا الحديث في كتاب الطلاق بهذا الإسناد فلم يذكر
ذلك. قوله: "كنا ننهي" بضم النون الأولى وفاعل النهي النبي صلى الله
عليه وسلم كما دلت عليه رواية هشام المعلقة المذكورة بعد، وهذا هو السر في ذكرها.
قوله: "نحد" بضم النون وكسر
(1/413)
المهملة من الإحداد وهو الامتناع من الزينة. قوله: "إلا على زوج" كذا للأكثر. وفي رواية المستملي والحموي " إلا على زوجها " والأولى موافقة للفظ: "نحد " وتوجيه الثانية أن الضمير يعود على الواحدة المندرجة في قولها " كنا ننهي " أي كل واحدة منهن. قوله: "ولا نكتحل" بالرفع والنصب أيضا على العطف، و " لا " زائدة، وأكد بها لأن في النهي معنى النفي. قوله: "ثوب عصب" بفتح العين وسكون الصاد المهملتين، قال في المحكم: هو ضرب من برود اليمن يعصب غزله أي يجمع ثم يصبغ ثم ينسج، وسيأتي الكلام على أحكام الحادة في كتاب الطلاق إن شاء الله تعالى. قوله: "في نبذة" أي قطعة. قوله: "كست أظفار" كذا في هذه الرواية قال ابن التين صوابه " قسط ظفار " كذا قال، ولم أر هذا في هذه الرواية، لكن حكاه صاحب المشارق، ووجهه بأنه منسوب إلى ظفار مدينة معروفة بسواحل اليمن يجلب إليها القسط الهندي، وحكى في ضبط ظفار وجهين كسر أوله وصرفه أو فتحه والبناء بوزن قطام، ووقع في رواية مسلم من هذا الوجه " من قسط أو أظفار " بإثبات " أو " وهي للتخيير، قال في المشارق: القسط بخور معروف وكذلك الأظفار، قال في البارع: الأظفار ضرب من العطر يشبه الظفر. وقال صاحب المحكم: الظفر ضرب من العطر أسود مغلف من أصله على شكل ظفر الإنسان يوضع في البخور والجمع أظفار. وقال صاحب العين: لا واحد له. والكست بضم الكاف وسكون المهملة بعدها مثناة هو القسط، قاله المصنف في الطلاق، وكذا قاله غيره، وحكى المفضل بن سلمة أنه يقال بالكاف والطاء أيضا، قال النووي: ليس القسط والظفر من مقصود التطيب، وإنما رخص فيه للحادة إذا اغتسلت من الحيض لإزالة الرائحة الكريهة، قال المهلب: رخص لها في التبخر لدفع رائحة الدم عنها لما تستقبله من الصلاة. وسيأتي الكلام على مسألة اتباع الجنائز في موضعه إن شاء الله تعالى. قوله: "وروي" كذا لأبي ذر، ولغيره: "ورواه " أي الحديث المذكور، وسيأتي موصولا عند المصنف في كتاب الطلاق إن شاء الله تعالى من حديثه هشام المذكور، ولم يقع هذا التعليق في رواية المستملي، وأغرب الكرماني فجوز أن يكون قائل " ورواه " حماد بن زيد المذكور في أول الباب فلا يكون تعليقا.
(1/414)
13 - باب دَلْكِ
الْمَرْأَةِ نَفْسَهَا إِذَا تَطَهَّرَتْ مِنْ الْمَحِيضِ وَكَيْفَ تَغْتَسِلُ
وَتَأْخُذُ فِرْصَةً مُمَسَّكَةً فَتَتَّبِعُ أَثَرالدَّمِ
314حَدَّثَنَا يَحْيَى قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ مَنْصُورِ بْنِ
صَفِيَّةَ عَنْ أُمِّهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتْ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ غُسْلِهَا مِنْ الْمَحِيضِ فَأَمَرَهَا
كَيْفَ تَغْتَسِلُ قَالَ "خُذِي فِرْصَةً مِنْ مَسْكٍ فَتَطَهَّرِي
بِهَا" قَالَتْ كَيْفَ أَتَطَهَّرُ قَالَ "تَطَهَّرِي بِهَا"
قَالَتْ كَيْفَ قَالَ "سُبْحَانَ اللَّهِ تَطَهَّرِي" فَاجْتَبَذْتُهَا
إِلَيَّ فَقُلْتُ تَتَبَّعِي بِهَا أَثَرَ الدَّمِ"
[الحديث314- طرفاه في: 7357,315]
قوله: "باب دلك المرأة نفسها..إلى آخر الترجمة" قيل: ليس في الحديث ما
يطابق الترجمة لأنه ليس فيه كيفة الغسل ولا الدلك.وأجاب الكرماني تبعا لغيره بأن
تتبع أثر الدم يستلزم الدلك، وبأن المراد من كيفية الغسل الصفة المختصة بغسل
المحيض وهي التطيب لا نفس الاغتسال.انتهى.وهو حسن على ما فيه من كلفة، وأحسن منه
أن المصنف جرى على عادته في الترجمة بما تضمنه بعض طرق الحديث الذي يورده وإن لم
يكن المقصود منصوصا فيما
(1/414)
ساقه. وبيان ذلك أن
مسلما أخرج هذا الحديث من طريق ابن عيينة عن منصور التي أخرجه منها المصنف، فذكر
بعد قوله كيف تغتسل " ثم تأخذ " زاد: "ثم " الدالة على تراخي
تعلم الأخذ عن تعليم الاغتسال، ثم رواه من طريق أخرى عن صفية عن عائشة وفيها شرح
كيفية الاغتسال المسكوت عنها في رواية منصور ولفظه: "فقال تأخذ إحداكن ماءها
وسدرتها فتطهر فتحسن الطهور، ثم تصب على رأسها فتدلكه دلكا شديدا حتى تبلغ شئون
رأسها - أي أصوله - ثم تصب عليها الماء، ثم تأخذ فرصة " فهدا مراد الترجمة
لاشتمالها على كيفيه الغسل والدلك، وإنما لم يخرج المصنف هذه الطريق لكونها من رواية
إبراهيم بن مهاجر عن صفية وليس هو على شرطه. قوله: "حدثنا يحيى" هو ابن
موسى البلخي كما جزم به ابن السكن في روايته عن الفربري. وقال البيهقي: هو يحيى بن
جعفر، وقيل إنه وقع كذلك في بعض النسخ. قوله: "عن منصور بن صفية" هي بنت
شيبة بن عثمان بن أبي طلحة العبدري، نسب إليها لشهرتها، واسم أبيه عبد الرحمن بن
طلحة بن الحارث بن طلحة بن أبي طلحة العبدري، وهو من رهط زوجته صفية، وشيبة له
صحبه ولها أيضا، وقتل الحارث بن طلحة بأحد، ولعبد الرحمن رؤية، ووقع التصريح
بالسماع في جميع السند عند الحميدي في مسنده. قوله: "أن امرأة" زاد في رواية
وهيب " من الأنصار " وسماها مسلم في رواية أبي الأحوص عن إبراهيم بن
مهاجر أسماء بنت شكل بالشين المعجمة والكاف المفتوحتين ثم اللام، ولم يسم أباها في
رواية غندر عن شعبة عن إبراهيم، وروى الخطيب في المبهمات من طريق يحيى بن سعيد عن
شعبة هذا الحديث فقال: أسماء بنت يزيد بن السكن بالمهملة والنون الأنصارية التي
يقال لها خطيبة النساء، وتبعه ابن الجوزي في التلقيح والدمياطي وزاد أن الذي وقع
في مسلم تصحيف لأنه ليس في الأنصار من يقال له شكل، وهو رد للرواية الثابتة بغير
دليل، وقد يحتمل أن يكون شكل لقبا لا اسما، والمشهور في المسانيد والجوامع في هذا
الحديث أسماء بنت شكل كما في مسلم، أو أسماء لغير نسب كما في أبي داود، وكذا في
مستخرج أبي نعيم من الطريق التي أخرجه منها الخطيب، وحكى النووي في شرح مسلم
الوجهين بغير ترجيح والله أعلم. قوله: "فأمرها كيف تغتسل قال: خذي" قال
الكرماني هو بيان لقولها " أمرها " فإن قيل كيف يكون بيانا للاغتسال،
والاغتسال صب الماء لا أخذ الفرصة؟ فالجواب أن السؤال لم يكن عن نفس الاغتسال لأنه
معروف لكل أحد، بل كان لقدر زائد على ذلك. وقد سبقه إلى هذا الجواب الرافعي في شرح
المسند وابن أبي جمرة وقوفا مع هذا اللفظ الوارد مع قطع النظر عن الطريق التي
ذكرناها عند مسلم الدالة على أن بعض الرواة اختصر أو اقتصر، والله أعلم. قوله:
"فرصة" بكسر الفاء وحكى ابن سيده تثليثها وبإسكان الراء وإهمال الصاد:
قطعة من صوف أو قطن أو جلدة عليها صوف حكاه أبو عبيد وغيره، وحكى أبو داود أن في
رواية أبي الأحوص " قرصة " بفتح القاف، ووجهه المنذري فقال: يعني شيئا
يسيرا مثل القرصة بطرف الإصبعين. انتهى. ووهم من عزا هذه الرواية للبخاري. وقال
ابن قتيبة: هي " قرضة " بفتح القاف وبالضاد المعجمة. وقوله: "من
مسك " بفتح الميم والمراد قطعة جلد، وهي رواية(1) من قاله بكسر الميم، واحتج
بأنهم كانوا في ضيق يمتنع معه أن يمتهنوا المسك مع غلاء ثمنه. وتبعه ابن بطال. وفي
المشارق أن أكثر الروايات بفتح الميم. ورجح النووي الكسر وقال: إن الرواية الأخرى
وهي قوله: "فرصة ممسكة " تدل عليه، وفيه نظر،
ـــــــ
(1) كذافي النسخ ولعله"وهي كرواية"
(1/415)
لأن الخطابي قال:. يحتمل أن يكون المراد بقوله: "ممسكة " أي مأخوذة باليد، يقال أمسكته ومسكته. لكن يبقى الكلام ظاهر الركة لأنه يصير هكذا: خذي قطعة مأخوذة. وقال الكرماني: "صنيع البخاري يشعر بأن الرواية عنده بفتح الميم حيث جعل للأمر بالطيب بابا مستقلا". انتهى. واقتصار البخاري في الترجمة على بعض ما دلت عليه لا يدل على نفي ما عداه، ويقوى رواية الكسر وإن المراد التطيب ما في رواية عبد الرزاق حيث وقع عنده " من ذريرة"، وما استبعده ابن قتيبة من امتهان المسك ليس ببعيد لما عرف من شأن أهل الحجاز من كثرة استعمال الطيب، وقد يكون المأمور به من يقدر عليه. قال النووي: والمقصود باستعمال الطيب دفع الرائحة الكريهة على الصحيح. وقيل لكونه أسرع إلى الحبل. حكاه الماوردي قال: فعلى الأول إن فقدت المسك استعملت ما يخلفه في طيب الريح، وعلى الثاني ما يقوم مقامه في إسراع العلوق. وضعف النووي الثاني وقال: لو كان صحيحا لاختصت به المزوجة. قال: وإطلاق الأحاديث يرده، والصواب أن ذلك مستحب لكل مغتسلة من حيض أو نفاس، ويكره تركه للقادرة، فإن لم تجد مسكا فطيبا، فإن لم تجد فمزيلا كالطين وإلا فالماء كاف، وقد سبق في الباب قبله أن الحادة تتبخر بالقسط فيجزيها. قوله: "فتطهري" قال في الرواية التي بعدها " توضئي " أي تنظفي. قوله: "سبحان الله" زاد في الرواية الآتية " استحيي وأعرض"، وللإسماعيلي: "فلما رأيته استحيي علمتها " وزاد الدارمي " وهو يسمع فلا ينكر". قوله: "أثر الدم" قال النووي: المراد به عند العلماء الفرج. وقال المحاملي: يستحب لها أن تطيب كل موضع أصابه الدم من بدنها، قال: ولم أره لغيره، وظاهر الحديث حجة له. قلت: ويصرح به رواية الإسماعيلي: "تتبعي بها مواضع الدم". وفي هذا الحديث من الفوائد التسبيح عند التعجب، ومعناه هنا كيف يخفى هذا الظاهر الذي لا يحتاج في فهمه إلى فكر؟ وفيه استحباب الكنايات فيما يتعلق بالعورات. وفيه سؤال المرأة العالم عن أحوالها التي يحتشم منها، ولهذا كانت عائشة تقول في نساء الأنصار " لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين". كما أخرجه مسلم في بعض طرق هذا الحديث، وتقدم في العلم معلقا. وفيه الاكتفاء بالتعريض والإشارة في الأمور المستهجنة، وتكرير الجواب لإفهام السائل، وإنما كرره مع كونها لم تفهمه أولا لأن الجواب به يؤخذ من إعراضه بوجهه عند قوله: "توضئي " أي في المحل الذي يستحيي من مواجهة المرأة بالتصريح به، فاكتفى بلسان الحال عن لسان المقال، وفهمت عائشة رضي الله عنها ذلك عنه فتولت تعليمها. وبوب عليه المصنف في الاعتصام " الأحكام التي تعرف بالدلائل". وفيه تفسير كلام العالم بحضرته لمن خفي عليه إذا عرف أن ذلك يعجبه. وفيه الأخذ عن المفضول بحضرة الفاضل. وفيه صحة العرض على المحدث إذا أقره ولو لم يقل عقبه نعم، وأنه لا يشترط في صحة التحمل فهم السامع لجميع ما يسمعه. وفيه الرفق بالمتعلم وإقامة العذر لمن لا يفهم. وفيه أن المرء مطلوب بستر عيوبه وإن كانت مما جبل عليها من جهة أمر المرأة بالتطيب لإزالة الرائحة الكريهة. وفيه حسن خلقه صلى الله عليه وسلم وعظيم حلمه وحيائه. زاده الله شرفا.
(1/416)
14 - باب غَسْلِ
الْمَحِيضِ
315- حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا
مَنْصُورٌ عَنْ أُمِّهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ الأَنْصَارِ قَالَتْ
لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفَ أَغْتَسِلُ مِنْ الْمَحِيضِ
قَالَ "خُذِي فِرْصَةً مُمَسَّكَةً فَتَوَضَّئِي ثَلاَثًا" ثُمَّ إِنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(1/416)
اسْتَحْيَا
فَأَعْرَضَ بِوَجْهِهِ أَوْ قَالَ: تَوَضَّئِي بِهَا. فَأَخَذْتُهَا فَجَذَبْتُهَا
فَأَخْبَرْتُهَا بِمَا يُرِيدُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ".
قوله: "باب غسل المحيض" قدم توجيهه في الترجمة التي قبله. قوله:
"حدثنا مسلم" هو ابن إبراهيم، ومنصور هو ابن صفية المذكور في الإسناد
قبله. قوله: "وتوضئي ثلاثا" يحتمل أن يتعلق قوله: "ثلاثا "
بتوضئي أي كرري الوضوء ثلاثا، ويحتمل أن يتعلق بقال ويؤيده السياق المتقدم، أي قال
لها ذلك ثلاث مرات. قوله: "أو قال" كذا وقع بالشك في أكثر الروايات،
ووقع في رواية ابن عساكر: "وقال: "بالواو العاطفة، والأولى أظهر، ومحل
التردد في لفظ: "بها " هل هو ثابت أم لا، أو التردد واقع بينه وبين لفظ:
"ثلاثا " والله أعلم.
(1/417)
15- باب امتشاط
المرأة عند غسلها من المحيض
316- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ حَدَّثَنَا
ابْنُ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: أَهْلَلْتُ مَعَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَكُنْتُ
مِمَّنْ تَمَتَّعَ وَلَمْ يَسُقْ الْهَدْيَ فَزَعَمَتْ أَنَّهَا حَاضَتْ وَلَمْ
تَطْهُرْ حَتَّى دَخَلَتْ لَيْلَةُ عَرَفَةَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذِهِ
لَيْلَةُ عَرَفَةَ وَإِنَّمَا كُنْتُ تَمَتَّعْتُ بِعُمْرَةٍ فَقَالَ لَهَا
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "انْقُضِي رَأْسَكِ
وَامْتَشِطِي وَأَمْسِكِي عَنْ عُمْرَتِكِ" فَفَعَلْتُ فَلَمَّا قَضَيْتُ
الْحَجَّ أَمَرَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ لَيْلَةَ الْحَصْبَةِ فَأَعْمَرَنِي مِنْ
التَّنْعِيمِ مَكَانَ عُمْرَتِي الَّتِي نَسَكْتُ".
قوله "باب امتشاط المرأة .حدثنا إبراهيم "قوله: "حدثنا
إبراهيم" و ابن سعد. قوله: "انقضى رأسك" أي حلي ضفره
"وامتشطي" قيل ليس فيه دليل على الترجمة، قاله الداودي ومن تبعه، قالوا:
لأن أمرها بالامتشاط كان للإهلال وهي حائض لا عند غسلها، والجواب أن الإهلال بالحج
يقتضي الاغتسال لأنه من سنة الإحرام، وقد ورد الأمر بالاغتسال صريحا في هذه القصة
فيما أخرجه مسلم من طريق أبي الزبير عن جابر ولفظه: "فاغتسلي ثم أهلي بالحج
" فكأن البخاري جرى على عادته في الإشارة إلى ما تضمنه بعض طرق الحديث وإن لم
يكن منصوصا فيما ساقه، ويحتمل أن يكون الداودي أراد بقوله: "لا عند غسلها
" أي من الحيض ولم يرد نفي الاغتسال مطلقا، والحامل له على ذلك ما في
الصحيحين أن عائشة إنما طهرت من حيضها يوم النحر فلم تغتسل يوم عرفة إلا للإحرام،
وأما ما وقع في مسلم من طريق مجاهد عن عائشة أنها حاضت بسرف وتطهرت بعرفة فهو
محمول على غسل الإحرام جمعا بين الروايتين، وإذا ثبت أن غسلها إذ ذاك كان للإحرام
استفيد معنى الترجمة من دليل الخطاب لأنه إذا جاز لها الامتشاط في غسل الإحرام وهو
مندوب كان جوازه لغسل المحيض وهو واجب أولى. قوله: "أمر عبد الرحمن"
يعني ابن أبي بكر، وليلة الحصبة بفتح الحاء وسكون الصاد المهملتين ثم الموحدة هي
الليلة التي نزلوا فيها في المحصب، وهو المكان الذي نزلوه بعد النفر من منى خارج
مكة. قوله: "التي نسكت" كذا للأكثر، مأخوذ من النسك. وفي رواية أبي زيد
المروزي " سكت " بحذف النون وتشديد آخره أي عنها، والقابسي بمعجمة
والتخفيف، والضمير فيه راجع إلى عائشة على سبيل الالتفات، وفي السياق التفات آخر
بعد التفات، وهو ظاهر للمتأمل.
(1/417)
16 - باب نَقْضِ
الْمَرْأَةِ شَعَرَهَا عِنْدَ غُسْلِ الْمَحِيضِ
317- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ
عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: "خَرَجْنَا
(1/417)
17 - باب قَوْلِ
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ}
318- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ
أَبِي بَكْرٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَكَّلَ بِالرَّحِمِ مَلَكًا
يَقُولُ يَا رَبِّ نُطْفَةٌ يَا رَبِّ عَلَقَةٌ يَا رَبِّ مُضْغَةٌ فَإِذَا
أَرَادَ أَنْ يَقْضِيَ خَلْقَهُ قَالَ أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى شَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ
فَمَا الرِّزْقُ وَالأَجَلُ فَيُكْتَبُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ
[الحديث 318- طرفاه- في:6595,3333]
قوله: "باب مخلقة وغير مخلقة" رويناه بالإضافة، أي باب تفسير قوله تعالى
:{مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} وبالتنوين وتوجيهه ظاهر. قوله: "حدثنا
حماد" هو ابن زيد، وعبيد الله بالتصغير ابن أبي بكر بن أنس بن مالك. قوله:
"إن الله عز وجل" وقع في روايتنا بالتخفيف، يقال وكله بكذا إذا استكفاه
إياه وصرف أمره إليه، وللأكثر بالتشديد وهو موافق لقوله تعالى :{مَلَكُ الْمَوْتِ
الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} قوله: "يقول يا رب نطفة" بالرفع والتنوين، أي
وقعت في الرحم نطفة. وفي رواية القابسي بالنصب أي خلقت يا رب نطفة، ونداء الملك
بالأمور الثلاثة ليس في دفعة واحدة، بل بين كل حالة وحالة مدة تبين من حديث ابن
مسعود الآتي في كتاب القدر أنها أربعون يوما، وسيأتي الكلام هناك على بقية فوائد
حديث أنس هذا، والجمع بينه وبين ما ظاهره التعارض من حديث ابن مسعود المذكور،
ومناسبة الحديث للترجمة من جهة أن الحديث المذكور مفسر للآية. وأوضح منه سياقا ما رواه
(1/418)
الطبري من طريق داود ابن أبي هند عن الشعبي عن علقمة عن ابن مسعود قال: "إذا وقعت النطفة في الرحم بعث الله ملكا فقال: يا رب مخلقة أو غير مخلقة؟ فإن قال غير مخلقة مجها الرحم دما، وإن قال مخلقة قال: يا رب فما صفة هذه النطفة؟ " فذكر الحديث وإسناده صحيح، وهو موقوف لفظا مرفوع حكما، وحكى الطبري لأهل التفسير في ذلك أقوالا وقال: الصواب قول من قال المخلقة المصورة خلقا تاما، وغير المخلقة السقط قبل تمام خلقه، وهو قول مجاهد والشعبي وغيرهما. وقال ابن بطال: غرض البخاري بإدخال هذا الحديث في أبواب الحيض تقوية مذهب من يقول إن الحامل لا تحيض، وهو قول الكوفيين وأحمد وأبي ثور وابن المنذر وطائفة، وإليه ذهب الشافعي في القديم. وقال في الجديد: إنها تحيض، وبه قال إسحاق، وعن مالك روايتان. قلت: وفي الاستدلال بالحديث المذكور على أنها لا تحيض نظر، لأنه لا يلزم من كون ما يخرج من الحامل هو السقط الذي لم يصور أن لا يكون(1) صلى الله عليه وسلم الدم الذي تراه المرأة التي يستمر حملها ليس بحيض. وما ادعاه المخالف من أنه رشح من الولد أو من فضلة غذائه أو دم فساد لعلة فمحتاج إلى دليل. وما ورد في ذلك من خبر أو أثر لا يثبت، لأن هذا دم بصفات دم الحيض وفي زمن إمكانه فله حكم دم الحيض، فمن ادعى خلافه فعليه البيان. وأقوى حججهم أن استبراء الأمة اعتبر بالمحيض لتحقق براءة الرحم من الحمل، فلو كانت الحامل تحيض لم تتم البراءة بالحيض، واستدل ابن المنير على أنه ليس بدم حيض بأن الملك موكل برحم الحامل، والملائكة لا تدخل بيتا فيه قذر ولا يلائمها ذلك. وأجيب بأنه لا يلزم من كون الملك موكلا به أن يكون حالا فيه، ثم هو مشترك الإلزام لأن الدم كله قذر، والله أعلم.
(1/419)
18 - باب كَيْفَ
تُهِلُّ الْحَائِضُ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ
319- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ
عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: "خَرَجْنَا مَعَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَمِنَّا
مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ فَقَدِمْنَا مَكَّةَ فَقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ وَلَمْ يُهْدِ
فَلْيُحْلِلْ وَمَنْ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ وَأَهْدَى فَلاَ يُحِلُّ حَتَّى يُحِلَّ
بِنَحْرِ هَدْيِهِ وَمَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ فَلْيُتِمَّ حَجَّهُ" قَالَتْ
فَحِضْتُ فَلَمْ أَزَلْ حَائِضًا حَتَّى كَانَ يَوْمُ عَرَفَةَ وَلَمْ أُهْلِلْ
إِلاَّ بِعُمْرَةٍ فَأَمَرَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ
أَنْقُضَ رَأْسِي وَأَمْتَشِطَ وَأُهِلَّ بِحَجٍّ وَأَتْرُكَ الْعُمْرَةَ
فَفَعَلْتُ ذَلِكَ حَتَّى قَضَيْتُ حَجِّي فَبَعَثَ مَعِي عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ
أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَأَمَرَنِي أَنْ أَعْتَمِرَ مَكَانَ عُمْرَتِي مِنْ
التَّنْعِيمِ".
قوله: "باب كيف تهل الحائض بالحج والعمرة" مراده بيان صحة إهلال الحائض،
ومعنى كيف في الترجمة الإعلام بالحال بصورة الاستفهام لا الكيفية التي يراد بها
الصفة، وبهذا التقرير يندفع اعتراض من زعم أن الحديث غير مناسب للترجمة، إذ ليس
فيها ذكر صفة الإهلال.قوله: "من أهل بحج" في رواية المستملي: "بحجة
" في الموضعين، وكذا للحموي في الموضع الثاني.قوله: "قالت فحضت" أي
بسرف قبل دخول مكة. قوله: "حتى قضيت حجتي" في رواية كريمة وأبي الوقت
" حجي"، والكلام على فوائد الحديث يأتي في كتاب الحج إن شاء الله تعالى.
ـــــــ
(1) كذا في النسخ ولعله"أن يكون"باسقاط حرف النفي ليستقيم المعنى فتأمل
(1/419)
19 - باب إِقْبَالِ
الْمَحِيضِ وَإِدْبَارِهِ
وَكُنَّ نِسَاءٌ يَبْعَثْنَ إِلَى عَائِشَةَ بِالدُّرَجَةِ فِيهَا الْكُرْسُفُ
فِيهِ الصُّفْرَةُ فَتَقُولُ: "لاَ تَعْجَلْنَ حَتَّى تَرَيْنَ الْقَصَّةَ
الْبَيْضَاءَ" تُرِيدُ بِذَلِكَ الطُّهْرَ مِنْ الْحَيْضَةِ وَبَلَغَ بِنْتَ
زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ نِسَاءً يَدْعُونَ بِالْمَصَابِيحِ مِنْ جَوْفِ
اللَّيْلِ يَنْظُرْنَ إِلَى الطُّهْرِ فَقَالَتْ: "مَا كَانَ النِّسَاءُ
يَصْنَعْنَ هَذَا وَعَابَتْ عَلَيْهِنَّ"
320- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ
هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ أَبِي حُبَيْشٍ
كَانَتْ تُسْتَحَاضُ فَسَأَلَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَالَ "ذَلِكِ عِرْقٌ وَلَيْسَتْ بِالْحَيْضَةِ فَإِذَا أَقْبَلَتْ
الْحَيْضَةُ فَدَعِي الصَّلاَةَ وَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْتَسِلِي وَصَلِّي"
قوله: "باب إقبال المحيض وإدباره" اتفق العلماء على أن إقبال المحيض
يعرف بالدفعة من الدم في وقت إمكان الحيض، واختلفوا في إدباره فقيل: يعرف بالجفوف،
وهو أن يخرج ما يحتشي به جافا، وقيل بالقصة البيضاء وإليه ميل المصنف كما سنوضحه.
قوله: "وكن" هو بصيغة جمع المؤنث، و " نساء " بالرفع وهو بدل
من الضمير نحو أكلوني البراغيث، والتنكير في نساء للتنويع، أي كان ذلك من نوع من
النساء لا من كلهن. وهذا الأثر قد رواه مالك في الموطأ عن علقمة بن أبي علقمة
المدني عن أمه - واسمها مرجانة مولاة عائشة - قالت: "كان النساء". قوله:
"بالدرجة" بكسر أوله وفتح الراء والجيم جمع درج بالضم ثم السكون. قال
ابن بطال: كذا يرويه أصحاب الحديث وضبطه أن عبد البر في الموطأ بالضم ثم السكون
وقال: إنه تأنيث درج، والمراد به ما تحتشي به المرأة من قطنة وغيرها لتعرف هل بقي
من أثر الحيض شيء أم لا. قوله: "الكرسف" بضم الكاف والسين المهملة
بينهما راء ساكنة هو القطن. قوله: "فيه الصفرة" زاد مالك من دم الحيضة.
قوله: "فتقول" أي عائشة. والقصة بفتح القاف وتشديد المهملة هي النورة،
أي حتى تخرج القطنة بيضاء نقية لا يخالطها صفرة، وفيه دلالة على أن الصفرة والكدرة
في أيام الحيض حيض، وأما في غيرها فسيأتي الكلام على ذلك في باب مفرد إن شاء
تعالى. وفيه أن القصة البيضاء علامة لانتهاء الحيض ويتبين بها ابتداء الطهر،
واعترض على من ذهب إلى أنه يعرف بالجفوف بأن القطنة قد تخرج جافة في أثناء الأمر
فلا يدل ذلك على انقطاع الحيض، بخلاف القصة وهي ماء أبيض يدفعه الرحم عند انقطاع
الحيض. قال مالك: سألت النساء عنه فإذا هو أمر معلوم عندهن يعرفنه عند الطهر.
قوله: "وبلغ ابنة زيد بن ثابت" كذا وقعت مبهمة هنا، وكذا في الموطأ حيث
روى هذا الأثر عن عبد الله بن أبي بكر أي ابن محمد(1) بن عمرو بن حزم عن عمته
عنها، وقد ذكروا لزيد بن ثابت من البنات حسنة وعمرة وأم كلثوم وغيرهن، ولم أر
لواحدة منهن رواية إلا لأم كلثوم - وكانت زوج سالم بن عبد الله ابن عمر - فكأنها
هي المبهمة هنا. وزعم بعض الشراح أنها أم سعد قال: لأن ابن عبد البر ذكرها في
الصحابة. انتهى. وليس في ذكره لها دليل المدعي لأنه لم يقل إنها صاحبة هذه القصة،
بل لم يأت لها ذكر عنده ولا عند غيره إلا من طريق عنبسة بن عبد الرحمن
ـــــــ
(1) في هامش طبعة بولاق: في نسخة"ابن أبي محمد"
(1/420)
وقد كذبوه، وكان مع ذلك يضطرب فيها فتارة يقول بنت زيد بن ثابت وتارة يقول امرأة زيد، ولم يذكر أحد من أهل المعرفة بالنسب في أولاد زيد من يقال لها أم سعد، وأما عمة عبد الله بن أبي بكر فقال ابن الحذاء: هي عمرة بنت حزم عمة جد عبد الله بن أبي بكر، وقيل لها عمته مجازا. قلت: لكنها صحابية قديمة روى عنها جابر بن عبد الله الصحابي، ففي روايتها عن بنت زيد بن ثابت بعد، فإن كانت ثابتة فرواية عبد الله عنها منقطعة لأنه لم يدركها، ويحتمل أن تكون المرادة عمته الحقيقية وهي أم عمرو أو أم كلثوم والله أعلم. قوله: "يدعون" أي يطلبن. وفي رواية الكشميهني: "يدعين " وقد تقدم مثلها في " باب تقضي الحائض المناسك كلها". وقال صاحب القاموس: دعيت لغة في دعوت، ولم ينبه على ذلك صاحب المشارق ولا المطالع. قوله: "إلى الطهر" أي إلى ما يدل على الطهر واللام في قولها " ما كان النساء " للعهد أي نساء الصحابة، وإنما عابت عليهن لأن ذلك يقتضي الحرج والتنطع وهو مذموم، قاله ابن بطال وغيره. وقيل لكون ذلك كان في غير وقت الصلاة وهو جوف الليل، وفيه نظر لأنه وقت العشاء، ويحتمل أن يكون العيب لكون الليل لا يتبين به البياض الخالص من غيره فيحسبن أنهن طهرن وليس كذلك فيصلين قبل الطهر. حديث فاطمة بنت أبي حبيش تقدم في باب الاستحاضة، وسفيان في هذا الإسناد هو ابن عيينة لأن عبد الله بن محمد وهو المسندي لم يسمع من الثوري.
(1/421)
20 - باب لاَ
تَقْضِي الْحَائِضُ الصَّلاَةَ
وَقَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبُو سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "تَدَعُ الصَّلاَةَ"
321- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ قَالَ
حَدَّثَنَا قَتَادَةُ قَالَ حَدَّثَتْنِي مُعَاذَةُ أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ
لِعَائِشَةَ "أَتَجْزِي إِحْدَانَا صَلاَتَهَا إِذَا طَهُرَتْ فَقَالَتْ
أَحَرُورِيَّةٌ أَنْتِ كُنَّا نَحِيضُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَلاَ يَأْمُرُنَا بِهِ أَوْ قَالَتْ فَلاَ نَفْعَلُهُ".
قوله: "باب لا تقضي الحائض الصلاة" نقل ابن المنذر وغيره إجماع أهل
العلم على ذلك، وروى عبد الرزاق عن معمر أنه سأل الزهري عنه فقال: اجتمع الناس
عليه، وحكى ابن عبد البر عن طائفة من الخوارج أنهم كانوا يوجبونه، وعن سمرة بن
جندب أنه كان يأمر به فأنكرت عليه أم سلمة، لكن استقر الإجماع على عدم الوجوب كما
قاله الزهري وغيره. قوله: "وقال جابر بن عبد الله وأبو سعيد" هذا
التعليق عن هذين الصحابيين ذكره المؤلف بالمعنى، فأما حديث جابر فأشار به إلى ما
أخرجه في كتاب الأحكام من طريق حبيب عن عطاء عن جابر في قصة حيض عائشة في الحج
وفيه: "غير أنها لا تطوف ولا تصلي"، ولمسلم نحوه من طريق أبي الزبير عن
جابر، وأما حديث أبي سعيد فأشار به إلى حديثه المتقدم في " باب ترك الحائض
الصوم " وفيه: "أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم؟". فإن قيل: الترجمة
لعدم القضاء، وهذان الحديثان لعدم الإيقاع، فما وجه المطابقة؟ أجاب الكرماني بأن
الترك في قوله: "تدع الصلاة " مطلق أداء وقضاء. انتهى. وهو غير متجه،
لأن منعها إنما هو في زمن الحيض فقط، وقد وضح ذلك من سياق الحديثين، والذي يظهر لي
أن المصنف أراد أن يستدل على الترك أولا بالتعليق المذكور، وعلى عدم القضاء بحديث
عائشة، فجعل المعلق كالمقدمة للحديث الموصول الذي هو مطابق للترجمة، والله أعلم.
قوله: "حدثتني معاذة" هي بنت عبد الله العدوية، وهي معدودة في فقهاء
التابعين، ورجال الإسناد المذكور إليها بصريون. قوله: "أن امرأة قالت
لعائشة" كذا أبهمها همام، وبين شعبة في روايته عن قتادة أنها هي معاذة
الراوية. أخرجه
(1/421)
الإسماعيلي من طريقه، وكذا لمسلم من طريق عاصم وغيره عن معاذة. قوله: "أتجزي" بفتح أوله، أي أتقضي. وصلاتها بالنصب على المفعولية، ويروى أتجزئ بضم أوله والهمز، أي أتكفي المرأة الصلاة الحاضرة وهي طاهرة ولا تحتاج إلى قضاء الفائتة في زمن الحيض؟ فصلاتها على هذا بالرفع على الفاعلية، والأولى أشهر. قوله: "أحرورية" الحروري منسوب إلى حروراء بفتح الحاء وضم الراء المهملتين وبعد الواو الساكنة راء أيضا، بلدة على ميلين من الكوفة، والأشهر أنها بالمد. قال المبرد: النسبة إليها حروراوي، وكذا كل ما كان في آخره ألف تأنيث ممدودة، ولكن قيل الحروري بحذف الزوائد، ويقال لمن يعتقد مذهب الخوارج حرورى لأن أول فرقة منهم خرجوا على علي بالبلدة المذكورة فاشتهروا بالنسبة إليها، وهم فرق كثيرة، لكن من أصولهم المتفق عليها بينهم الأخذ بما دل عليه القرآن ورد ما زاد عليه من الحديث مطلقا، ولهذا استفهمت عائشة معاذة استفهام إنكار، وزاد مسلم في رواية عاصم عن معاذة فقلت: لا ولكني أسأل، أي سؤالا مجردا لطلب العلم لا للتعنت، وفهمت عائشة عنها طلب الدليل فاقتصرت في الجواب عليه دون التعليل، والذي ذكره العلماء في الفرق بين الصلاة والصيام أن الصلاة تتكرر فلم يجب قضاؤها للحرج بخلاف الصيام، ولمن يقول بأن الحائض مخاطبة بالصيام أن يفرق بأنها لم تخاطب بالصلاة أصلا. وقال ابن دقيق العيد: اكتفاء عائشة في الاستدلال على إسقاط القضاء بكونها لم تؤمر به يحتمل وجهين: أحدهما أنها أخذت إسقاط القضاء من إسقاط الأداء فيتمسك به حتى يوجد المعارض وهو الأمر بالقضاء كما في الصوم، ثانيهما - قال وهو أقرب - أن الحاجة داعية إلى بيان هذا الحكم لتكرر الحيض منهن عنده صلى الله عليه وسلم، وحيث لم يبين دل على عدم الوجوب، لا سيما وقد اقترن بذلك الأمر بقضاء الصوم كما في رواية عاصم عن معاذة عند مسلم. قوله: "فلا يأمرنا به، أو قالت: فلا نفعله" كذا في هذه الرواية بالشك، وعند الإسماعيلي من وجه آخر " فلم نكن نقضي ولم نؤمر به " والاستدلال بقولها فلم نكن نقضي أوضح من الاستدلال بقولها فلم نؤمر به، لأن عدم الأمر بالقضاء هنا قد ينازع في الاستدلال به على عدم الوجوب، لاحتمال الاكتفاء بالدليل العام على وجوب القضاء. والله أعلم.
(1/422)
21 - باب النَّوْمِ
مَعَ الْحَائِضِ وَهِيَ فِي ثِيَابِهَا
322- حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ حَفْصٍ قَالَ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيَى عَنْ
أَبِي سَلَمَةَ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ حَدَّثَتْهُ أَنَّ أُمَّ
سَلَمَةَ قَالَتْ: "حِضْتُ وَأَنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي الْخَمِيلَةِ فَانْسَلَلْتُ فَخَرَجْتُ مِنْهَا فَأَخَذْتُ ثِيَابَ
حِيضَتِي فَلَبِسْتُهَا فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ "أَنُفِسْتِ" قُلْتُ نَعَمْ فَدَعَانِي فَأَدْخَلَنِي مَعَهُ
فِي الْخَمِيلَةِ قَالَتْ وَحَدَّثَتْنِي أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُقَبِّلُهَا وَهُوَ صَائِمٌ وَكُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا
وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ مِنْ
الْجَنَابَةِ".
قوله: "باب النوم مع الحائض" زاد في رواية الصاغاني " وهي في
ثيابها " تقدم الكلام على ذلك في " باب من سمى النفاس حيضا".يحيى
المذكور هو ابن أبي كثير. قوله: "قالت وحدثتني" هو مقول زينب بنت أم
سلمة، وفاعل " حدثتني " أمها أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم،
وسيأتي الكلام على ذلك في كتاب الصيام. قوله: "وكنت" معطوف على جملة
الحديث الذي قبله وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبلها، وقد تقدم الكلام
على فوائده في كتاب الغسل.
(1/422)
22- باب مَنْ
اتَّخَذَ ثِيَابَ الْحَيْضِ سِوَى ثِيَابِ الطُّهْرِ
323- حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ قَالَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ يَحْيَى
عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ
قَالَتْ: "بَيْنَا أَنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مُضْطَجِعَةٌ فِي خَمِيلَةٍ حِضْتُ فَانْسَلَلْتُ فَأَخَذْتُ ثِيَابَ حِيضَتِي
فَقَالَ "أَنُفِسْتِ" فَقُلْتُ نَعَمْ فَدَعَانِي فَاضْطَجَعْتُ مَعَهُ
فِي الْخَمِيلَةِ".
قوله: "باب من اتخذ ثياب الحيض" وفي رواية الكشميهني: "من أعد
" بالعين والدال المهملتين.هشام المذكور هو الدستوائي، ويحيى هو ابن أبي
كثير، والكلام على الحديث قد تقدم في " باب من سمى النفاس حيضا".
(1/423)
23 - باب شُهُودِ
الْحَائِضِ الْعِيدَيْنِ وَدَعْوَةَ الْمُسْلِمِينَ وَيَعْتَزِلْنَ الْمُصَلَّى
324- حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ هُوَ ابْنُ سَلاَمٍ قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ
الْوَهَّابِ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ حَفْصَةَ قَالَتْ: "كُنَّا نَمْنَعُ
عَوَاتِقَنَا أَنْ يَخْرُجْنَ فِي الْعِيدَيْنِ فَقَدِمَتْ امْرَأَةٌ فَنَزَلَتْ
قَصْرَ بَنِي خَلَفٍ فَحَدَّثَتْ عَنْ أُخْتِهَا وَكَانَ زَوْجُ أُخْتِهَا غَزَا
مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثِنْتَيْ عَشَرَةَ غَزْوَةً
وَكَانَتْ أُخْتِي مَعَهُ فِي سِتٍّ قَالَتْ كُنَّا نُدَاوِي الْكَلْمَى وَنَقُومُ
عَلَى الْمَرْضَى فَسَأَلَتْ أُخْتِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَعَلَى إِحْدَانَا بَأْسٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا جِلْبَابٌ أَنْ لاَ
تَخْرُجَ قَالَ " لِتُلْبِسْهَا صَاحِبَتُهَا مِنْ جِلْبَابِهَا وَلْتَشْهَد
الْخَيْرَ وَدَعْوَةَ الْمُسْلِمِينَ" فَلَمَّا قَدِمَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ
سَأَلْتُهَا أَسَمِعْتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ
بِأَبِي نَعَمْ وَكَانَتْ لاَ تَذْكُرُهُ إِلاَّ قَالَتْ بِأَبِي سَمِعْتُهُ
يَقُولُ يَخْرُجُ الْعَوَاتِقُ وَذَوَاتُ الْخُدُورِ أَوْ الْعَوَاتِقُ ذَوَاتُ
الْخُدُورِ وَالْحُيَّضُ وَلْيَشْهَدْنَ الْخَيْرَ وَدَعْوَةَ الْمُؤْمِنِينَ
وَيَعْتَزِلُ الْحُيَّضُ الْمُصَلَّى قَالَتْ حَفْصَةُ فَقُلْتُ الْحُيَّضُ
فَقَالَتْ أَلَيْسَ تَشْهَدُ عَرَفَةَ وَكَذَا وَكَذَا".
[الحديث324- أطرافه في:1652,981,980,974,971,351]
قوله: "باب شهود الحائض العيدين ودعوة المسلمين ويعتزلن" وفي رواية ابن
عساكر: "واعتزالهن المصلى " والجمع بالنظر إلى أن الحائض اسم جنس، أو
فيه حذف والتقدير ويعتزلن الحيض كما سيذكر بعد. قوله: "حدثنا محمد" كذا
للأكثر غير منسوب، ولأبي ذر محمد بن سلام، ولكريمة محمد هو ابن سلام. قوله:
"حدثنا عبد الوهاب" هو الثقفي. قوله: "عواتقنا" العواتق جمع
عاتق وهي من بلغت الحلم أو قاربت، أو استحقت التزويج، أو هي الكريمة على أهلها، أو
التي عتقت عن الامتهان في الخروج للخدمة، وكأنهم كانوا يمنعون العواتق من الخروج
لما حدث بعد العصر الأول من الفساد، ولم تلاحظ الصحابة ذلك بل رأت استمرار الحكم
على ما كان عليه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: "فقدمت امرأة"
لم أقف على تسميتها. وقصر بني خلف كان بالبصرة وهو منسوب إلى طلحة ابن عبد الله بن
خلف الخزاعي المعروف بطلحة الطلحات وقد ولي إمرة سجستان. قوله: "فحدثت عن
أختها" قيل هي أم عطية، وقيل غيرها وعليه مشى الكرماني، وعلى تقدير أن تكون
أم عطية فلم نقف على تسمية زوجها أيضا. قوله: "ثنتي عشرة" زاد الأصيلي:
"غزوة".قوله: "وكانت أختي" فيه حذف تقديره قالت المرأة وكانت
أختي. قوله:
(1/423)
"قالت" أي الأخت، والكلمى بفتح الكاف وسكون اللام: جمع كليم أي جريح. قوله: "من جلبابها" قيل المراد به الجنس، أي تعيرها من ثيابها ما لا تحتاج إليه. وقيل المراد تشركها معها في لبس الثوب الذي عليها، وهذا ينبني على تفسير الجلباب - وهو بكسر الجيم وسكون اللام وبموحدتين بينهما ألف - قيل: هو المقنعة أو الخمار أو أعرض منه، وقيل الثوب الواسع يكون دون الرداء، وقيل الإزار، وقيل الملحفة، وقيل الملاءة، وقيل القميص. قوله: "ودعوة المسلمين" - في رواية الكشميهني: "المؤمنين " وهي موافقة لرواية أم عطية. قوله: "وكانت" أي أم عطية "لا تذكره" أي النبي صلى الله عليه وسلم "إلا قالت: بأبي" أي هو مفدى بأبي. وفي رواية عبدوس بيبي بباء تحتانية بدل الهمزة في الموضعين، وللأصيلي بفتح الموحدة الثانية مع قلب الهمزة ياء - كعبدوس - لكن فتح ما بعدها كأنه جعله لكثرة الاستعمال واحدا، ونقل عن الأصيلي أيضا كالأصل لكن فتح الثانية أيضا، وقد ذكر ابن مالك هذه الأربعة في شواهد التوضيح. وقال ابن الأثير: قوله بأبأ أصله بأبي هو، يقال بأبأت الصبي إذا قلت له أفديك بأبي فقلبوا الياء ألفا كما في " ويلتا". قوله: "وذوات الخدور" بضم الخاء المعجمة والدال المهملة جمع خدر بكسرها وسكون الدال، وهو ستر يكون في ناحية البيت تقعد البكر وراءه، وللأصيلي وكريمة: "العواتق وذوات الخدور أو العواتق ذوات الخدور " على الشك، وبين العاتق والبكر عموم وخصوص وجهي. قوله: "ويعتزل الحيض المصلى" بضم اللام هو خبر. بمعنى الأمر. وفي رواية: "ويعتزلن الحيض المصلى " وهو نحو أكلوني البراغيث. وحمل الجمهور الأمر المذكور على الندب لأن المصلى ليس بمسجد فيمتنع الحيض من دخوله، وأغرب الكرماني فقال: الاعتزال واجب، والخروج والشهود مندوب، مع كونه نقل عن النووي تصويب عدم وجوبه. وقال ابن المنير: الحكمة في اعتزالهن أن في وقوفهن وهن لا يصلين مع المصليات إظهار استهانة بالحال. فاستحب لهن اجتناب ذلك. قوله: "فقلت: آلحيض" بهمزة ممدودة، كأنها تتعجب من ذلك "فقالت" أي أم عطية: "أليس تشهد" أي الحيض، وللكشميهني: "أليست " وللأصيلي: "أليس يشهدن". قوله: "وكذا وكذا" أي ومزدلفة ومنى وغيرهما. وفيه أن الحائض لا تهجر ذكر الله ولا مواطن الخير كمجالس العلم والذكر سوى المساجد، وفيه امتناع خروج المرأة بغير جلباب، وغير ذلك مما سيأتي استيفاؤه في كتاب العيدين إن شاء الله تعالى.
(1/424)
باب إذا حاضت في
الشهر ثلاث حيض
...
24 - باب إِذَا حَاضَتْ فِي شَهْرٍ ثَلاَثَ حِيَضٍ وَمَا يُصَدَّقُ النِّسَاءُ فِي
الْحَيْضِ وَالْحَمْلِ فِيمَا يُمْكِنُ مِنْ الْحَيْضِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى
{وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ}
وَيُذْكَرُ عَنْ عَلِيٍّ وَشُرَيْحٍ "إِنْ امْرَأَةٌ جَاءَتْ بِبَيِّنَةٍ
مِنْ بِطَانَةِ أَهْلِهَا مِمَّنْ يُرْضَى دِينُهُ أَنَّهَا حَاضَتْ ثَلاَثًا فِي
شَهْرٍ صُدِّقَتْ" وَقَالَ عَطَاءٌ "أَقْرَاؤُهَا مَا كَانَتْ"
وَبِهِ قَالَ إِبْرَاهِيمُ وَقَالَ عَطَاءٌ: "الْحَيْضُ يَوْمٌ إِلَى خَمْسَ
عَشْرَةَ" وَقَالَ مُعْتَمِرٌ عَنْ أَبِيهِ "سَأَلْتُ ابْنَ سِيرِينَ
عَنْ الْمَرْأَةِ تَرَى الدَّمَ بَعْدَ قُرْئِهَا بِخَمْسَةِ أَيَّامٍ قَالَ
النِّسَاءُ أَعْلَمُ بِذَلِكَ"
قوله: "باب إذا حاضت في شهر ثلاث حيض" بفتح الياء جمع حيضة. قوله:
"وما يصدق" بضم أوله وتشديد الدال المفتوحة. قوله: "فيما يمكن من
الحيض" أي فإذا لم يمكن لم تصدق. قوله: "لقول الله تعالى" أشير إلى
تفسير الآية المذكورة، وقد روى الطبري بإسناد صحيح عن الزهري قال: بلغنا أن المراد
بما خلق الله في أرحامهن
(1/424)
الحمل أو الحيض،
فلا يحل لهن أن يكتمن ذلك لتنقضي العدة ولا يملك الزوج الرجعة إذا كانت له. وروى
أيضا بإسناد حسن عن ابن عمر قال: "لا يحل لها إن كانت حائضا أن تكتم حيضها،
ولا إن كانت حاملا أن تكتم حملها". وعن مجاهد " لا تقول إني حائض وليست
بحائض، ولا لست بحائض وهي حائض " وكذا في الحبل. ومطابقة الترجمة للآية من
جهة أن الآية دالة على أنها يجب عليها الإظهار، فلو لم تصدق فيه لم يكن له فائدة.
قوله: "ويذكر عن علي" وصله الدارمي كما سيأتي ورجاله ثقات، وإنما لم
يجزم به للتردد في سماع الشعبي من علي، ولم يقل إنه سمعه من شريح فيكون موصولا. قوله:
"أن جاءت" في رواية كريمة: "إن امرأة جاءت " بكسر النون.
قوله: "ببينة من بطانة أهلها" أي خواصها. قال إسماعيل القاضي: ليس
المراد أن يشهد النساء أن ذلك وقع، وإنما هو فيما نرى أن يشهدن أن هذا يكون وقد
كان في نسائهن. قلت: وسياق القصة يدفع هذا التأويل، قال الدارمي: أخبرنا يعلى بن
عبيد حدثنا إسماعيل بن أبي خالد عن عامر - هو الشعبي - قال: "جاءت امرأة إلى
علي تخاصم زوجها طلقها فقالت: حضت في شهر ثلاث حيض، فقال علي لشريح: اقض بينهما.
قال: يا أمير المؤمنين وأنت هاهنا؟ قال: اقض بينهما. قال: إن جاءت من بطانة أهلها
ممن يرضى دينه وأمانته تزعم أنها حاضت ثلاث حيض تطهر عند كل قرء وتصلي جاز لها
وإلا فلا. قال علي: قالون " قال وقالون بلسان الروم أحسنت. فهذا ظاهر في أن
المراد أن يشهدن بأن ذلك وقع منها، وإنما أراد إسماعيل رد هذه القصة إلى موافقة
مذهبه، وكذا قال عطاء إنه يعتبر في ذلك عادتها قبل الطلاق، وإليه الإشارة ب قوله:
"أقراؤها" وهو بالمد جمع قرء أي في زمان العدة "ما كانت" أي
قبل الطلاق، فلو ادعت في العدة ما يخالف ما قبلها لم يقبل. وهذا الأثر وصله عبد
الرزاق عن ابن جريج عن عطاء. قوله: "وبه قال إبراهيم" يعني النخعي، أي
قال بما قال عطاء، ووصله عبد الرزاق أيضا عن أبي معشر عن إبراهيم نحوه. وروى
الدارمي أيضا بإسناد صحيح إلى إبراهيم قال: "إذا حاضت المرأة في شهر أو
أربعين ليلة ثلاث حيض " فذكر نحو أثر شريح، وعلى هذا فيحتمل أن يكون الضمير
في قول البخاري " وبه " يعود على أثر شريح، أو في النسخة تقديم وتأخير،
أو لإبراهيم في المسألة قولان. قوله: "وقال عطاء. إلخ" وصله الدارمي
أيضا بإسناد صحيح قال: "أقصى الحيض خمس عشرة، وأدنى الحيض يوم". ورواه
الدارقطني بلفظ: "أدنى وقت الحيض يوم وأكثر الحيض خمس عشرة". قوله:
"وقال معتمر" عني ابن سليمان التيمي. وهذا الأثر وصله الدارمي أيضا عن
محمد بن عيسى عن معتمر.
325- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ ابْنُ أَبِي رَجَاءٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ
قَالَ سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ عُرْوَةَ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ عَائِشَةَ
أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ أَبِي حُبَيْشٍ سَأَلَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: "إِنِّي أُسْتَحَاضُ فَلاَ أَطْهُرُ أَفَأَدَعُ
الصَّلاَةَ فَقَالَ "لاَ إِنَّ ذَلِكِ عِرْقٌ وَلَكِنْ دَعِي الصَّلاَةَ
قَدْرَ الأَيَّامِ الَّتِي كُنْتِ تَحِيضِينَ فِيهَا ثُمَّ اغْتَسِلِي
وَصَلِّي".
قوله: "حدثنا أحمد بن أبي رجاء" هو أحمد بن عبد الله بن أيوب الهروي
يكنى أبا الوليد، وهو حنفي النسب لا المذهب، وقصة فاطمة بنت أبي حبيش تقدمت في باب
الاستحاضة، ومناسبة الحديث للترجمة من قوله: "قدر الأيام التي كنت تحيضين
فيها " فوكل ذلك إلى أمانتها ورده إلى عادتها، وذلك يختلف باختلاف الأشخاص.
واختلف العلماء في أقل الحيض وأقل الطهر، ونقل الداودي أنهم اتفقوا على أن أكثره
خمسة عشر يوما. وقال أبو حنيفة: لا يجتمع أقل الطهر وأقل الحيض معا. فأقل ما تنقضي
به العدة عنده ستون يوما. وقال صاحباه: تنقضي في تسعة
(1/425)
وثلاثين يوما بناء على أن أقل الحيض ثلاثة أيام وأن أقل الطهر خمسة عشر يوما وأن المراد بالقرء الحيض، وهو قول الثوري. وقال الشافعي: "القرء الطهر وأقله خمسة عشر يوما، وأقل الحيض يوم وليلة فتنقضي عنده في اثنين وثلاثين يوما ولحظتين"، وهو موافق لقصة علي وشريح المتقدمة إذا حمل ذكر الشهر فيها على إلغاء الكسر، ويدل عليه رواية هشيم عن إسماعيل فيها بلفظ: "حاضت في شهر أو خمسة وثلاثين يوما"
(1/426)
25 - باب
الصُّفْرَةِ وَالْكُدْرَةِ فِي غَيْرِ أَيَّامِ الْحَيْضِ
326- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ عَنْ أَيُّوبَ
عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ: "كُنَّا لاَ نَعُدُّ
الْكُدْرَةَ وَالصُّفْرَةَ شَيْئًا".
قوله: "باب الصفرة والكدرة في غير أيام الحيض" يشير بذلك إلى الجمع بين
حديث عائشة المتقدم في قولها " حتى ترين القصة البيضاء " وبين حديث أم
عطية المذكور في هذا الباب بأن ذلك محمول على ما إذا رأت الصفرة أو الكدرة في أيام
الحيض، وأما في غيرها فعلى ما قالته أم عطية. قوله: "أيوب عن محمد" و
ابن سيرين، وكذا رواه إسماعيل وهو ابن علية عن أيوب، ورواه وهيب بن خالد عن أيوب
عن حفصة بنت سيرين عن أم عطية أخرجه ابن ماجه. ونقل عن الذهلي أنه رجح رواية وهيب.
وما ذهب إليه البخاري من تصحيح رواية إسماعيل أرجح لموافقة معمر له، ولأن إسماعيل
أحفظ لحديث أيوب من غيره، ويمكن أن أيوب سمعه منهما. قوله: "كنا لا نعد"
أي في زمن النبي صلى الله عليه وسلم مع علمه بذلك، وبهذا يعطي الحديث حكم الرفع،
وهو مصير من البخاري إلى أن مثل هذه الصيغة تعد في المرفوع ولو لم يصرح الصحابي
بذكر زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وبهذا جزم الحاكم وغيره خلافا للخطيب. قوله:
"الكدرة والصفرة" أي الماء الذي تراه المرأة كالصديد يعلوه اصفرار.
قوله: "شيئا" أي من الحيض، ولأبي داود من طريق قتادة عن حفصة عن أم عطية
" كنا لا نعد الكدرة والصفرة بعد الطهر شيئا " وهو موافق لما ترجم به
البخاري. والله أعلم.
(1/426)
26 - باب عِرْقِ
الِاسْتِحَاضَةِ
327- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ قَالَ حَدَّثَنَا مَعْنٌ قَالَ
حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ وَعَنْ عَمْرَةَ
عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أَنَّ
أُمَّ حَبِيبَةَ اسْتُحِيضَتْ سَبْعَ سِنِينَ فَسَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَأَمَرَهَا أَنْ تَغْتَسِلَ فَقَالَ:
"هَذَا عِرْقٌ" فَكَانَتْ تَغْتَسِلُ لِكُلِّ صَلاَةٍ".
قوله: "باب عرق الاستحاضة" بكسر العين وإسكان الراء، وقد تقدم بيانه في
باب الاستحاضة. قوله: "وعن عمرة" يعني كلاهما عن عائشة، كذا للأكثر. وفي
رواية أبي الوقت وابن عساكر بحذف الواو فصار من رواية عروة عن عمرة، وكذا ذكر
الإسماعيلي أن أحمد بن الحسن الصوفي حدثهم به عن خلف بن سالم عن معن، والمحفوظ
إثبات الواو وأن الزهري رواه عن شيخين عروة وعمرة كلاهما عن عائشة، وكذا أخرجه
الإسماعيلي وغيره من طرق عن ابن أبي ذئب، وكذا أخرجه مسلم من طريق عمرو ابن
الحارث، وأبو داود من طريق الأوزاعي كلاهما
(1/426)