Translate فتح الباري وتفسير بن كثير كيكي520.

الخميس، 12 مايو 2022

مجلد 7 و 8. فتح الباري أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ)

 مجلد 7 و 8.  فتح الباري أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ)

7.

مجلد 7. فتح الباري أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ)
 =وتعقب بأن الخلاف معروف عند الشافعية، وبأن المشهور عند الحنفية كلهم أن القيام سنة، وأنه لو أذن قاعدا صح، والصواب ما قال ابن المنذر أنهم اتفقوا على أن القيام من السنة. "فائدة": كان اللفظ الذي ينادي به بلال للصلاة قوله: "الصلاة جامعة " أخرجه ابن سعد في الطبقات من مراسيل سعيد بن المسيب. وظن بعضهم أن بلالا حينئذ إنما أمر بالأذان المعهود فذكر مناسبة اختصاص بلال بذاك دون غيره لكونه كان لما عذب ليرجع عن الإسلام فيقول: أحد أحد، فجوزي بولاية الأذان المشتملة على التوحيد في ابتدائه وانتهائه، وهي مناسبة حسنة في اختصاص بلال بالأذان، إلا أن هذا الموضع ليس هو محلها. وفي حديث ابن عمر دليل على مشروعية طلب الأحكام من المعاني المستنبطة دون الاقتصار على الظواهر. قاله ابن العربي، وعلى مراعاة المصالح والعمل بها، وذلك أنه لما شق عليهم التبكير إلى الصلاة فتفوتهم أشغالهم، أو التأخير فيفوتهم وقت الصلاة، نظروا في ذلك. وفيه مشروعية التشاور في الأمور المهمة وأنه لا حرج على أحد من المتشاورين إذا أخبر بما أدى إليه اجتهاده، وفيه منقبة ظاهرة لعمر. وقد استشكل إثبات حكم الأذان برؤيا عبد الله بن زيد لأن رؤيا غير الأنبياء لا ينبني عليها حكم شرعي، وأجيب باحتمال مقارنة الوحي لذلك، أو لأنه صلى الله عليه وسلم أمر بمقتضاها لينظر أيقر على ذلك أم لا، ولا سيما لما رأى نظمها يبعد دخول الوسواس فيه، وهذا ينبني على القول بجواز اجتهاده صلى الله عليه وسلم في الأحكام وهو المنصور في الأصول، ويؤيد الأول ما رواه عبد الرزاق وأبو داود في المراسيل من طريق عبيد بن عمير الليثي أحد كبار التابعين أن عمر لما رأى الأذان جاء ليخبر به النبي صلى الله عليه وسلم فوجد الوحي قد ورد بذلك فما راعه إلا أذان بلال، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "سبقك بذلك الوحي " وهذا أصح مما حكى الداودي عن ابن إسحاق أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم بالأذان قبل أن يخبره عبد الله بن زيد وعمر بثمانية أيام، وأشار السهيلي إلى أن الحكمة في ابتداء شرع الأذان على لسان غير النبي صلى الله عليه وسلم التنويه بعلو قدره على لسان غيره ليكون أفخم لشأنه، والله أعلم.

(2/82)


3 - باب الإِقَامَةُ وَاحِدَةٌ إِلاَّ قَوْلَهُ قَدْ قَامَتْ الصَّلاَةُ
607- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ أُمِرَ

(2/83)


بِلاَلٌ أَنْ يَشْفَعَ الأَذَانَ وَأَنْ يُوتِرَ الإِقَامَةَ قَالَ إِسْمَاعِيلُ فَذَكَرْتُ لِأَيُّوبَ فَقَالَ إِلاَّ الإِقَامَةَ قوله: "باب الإقامة واحدة" قال الزين بن المنير: خالف البخاري لفظ الحديث في الترجمة فعدل عنه إلى قوله: "واحدة " لأن لفظ الوتر غير منحصر في المرة فعدل عن لفظ فيه الاشتراك إلى ما لا اشتراك فيه. قلت: وإنما لم يقل واحدة واحدة مراعاة للفظ الخبر الوارد في ذلك، وهو عند ابن حبان في حديث ابن عمر الذي أشرت إليه في الباب الماضي ولفظه: "الأذان مثنى والإقامة واحدة " وروى الدار قطني وحسنه في حديث لأبي محذورة " وأمره أن يقيم واحدة واحدة". قوله: "إلا قوله قد قامت الصلاة" هو لفظ معمر عن أيوب كما تقدم، قيل واعترضه الإسماعيلي بأن إيراد حديث سماك بن عطية في هذا الباب أولى من إيراد حديث ابن علية، والجواب أن المصنف قصد رفع توهم من يتوهم أنه موقوف على أيوب لأنه أورده في مقام الاحتجاج به، ولو كان عنده مقطوعا لم يحتج به. قوله: "حدثنا خالد" هو الحذاء كما تقدم، والإسناد كله بصريون. قوله: "قال إسماعيل" هو ابن إبراهيم المذكور في أول الإسناد وهو المعروف بابن علية، وليس هو معلقا. قوله: "فذكرت" كذا للأكثر بحذف المفعول، وللكشميهني والأصيلي: "فذكرته " أي حديث خالد، وهذا الحديث حجة على من زعم أن الإقامة مثنى مثل الأذان. وأجاب بعض الحنفية بدعوى النسخ، وأن إفراد الإقامة كان أولا ثم نسخ بحديث أبي محذورة، يعني الذي رواه أصحاب السنن وفيه تثنية الإقامة، وهو متأخر عن حديث أنس فيكون ناسخا. وعورض بأن في بعض طرق حديث أبي محذورة المحسنة التربيع والترجيع فكان يلزمهم القول به، وقد أنكر أحمد على من ادعى النسخ بحديث أبي محذورة واحتج بأن النبي صلى الله عليه وسلم رجع بعد الفتح إلى المدينة وأقر بلالا على إفراد الإقامة وعلمه سعد القرظ فأذن به بعده كما رواه الدار قطني والحاكم. وقال ابن عبد البر: ذهب أحمد وإسحاق وداود وابن جرير إلى أن ذلك من الاختلاف المباح، فإن ربع التكبير الأول في الأذان، أو ثناه، أو رجع في التشهد أو لم يرجع، أو ثنى الإقامة أو أفردها كلها أو إلا " قد قامت الصلاة " فالجميع جائز. وعن ابن خزيمة إن ربع الأذان ورجع فيه ثنى الإقامة وإلا أفردها، وقيل لم يقل بهذا التفصيل أحد قبله والله أعلم. "فائدة": قيل الحكمة في تثنية الأذان وإفراد الإقامة أن الأذان لإعلام الغائبين فيكرر ليكون أوصل إليهم، بخلاف الإقامة فإنها للحاضرين، ومن ثم استحب أن يكون الأذان في مكان عال بخلاف الإقامة، وأن يكون الصوت في الأذان أرفع منه في الإقامة، وأن يكون الأذان مرتلا والإقامة مسرعة، وكرر " قد قامت الصلاة " لأنها المقصودة من الإقامة بالذات. قلت: توجيهه ظاهر، وأما قول الخطابي: لو سوى بينهما لاشتبه الأمر عند ذلك وصار لأن يفوت كثيرا من الناس صلاة الجماعة، ففيه نظر، لأن الأذان يستحب أن يكون على مكان عال لتشترك الأسماع كما تقدم، وقد تقدم الكلام على تثنية التكبير، وتؤخذ حكمة الترجيع مما تقدم، وإنما اختص بالتشهد لأنه أعظم ألفاظ الأذان، والله أعلم.

(2/84)


4 - باب فَضْلِ التَّأْذِينِ
608- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ وَلَهُ ضُرَاطٌ حَتَّى لاَ يَسْمَعَ التَّأْذِينَ فَإِذَا قَضَى النِّدَاءَ أَقْبَلَ حَتَّى إِذَا

(2/84)


ثُوِّبَ بِالصَّلاَةِ أَدْبَرَ حَتَّى إِذَا قَضَى التَّثْوِيبَ أَقْبَلَ حَتَّى يَخْطِرَ بَيْنَ الْمَرْءِ وَنَفْسِهِ يَقُولُ اذْكُرْ كَذَا اذْكُرْ كَذَا لِمَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ حَتَّى يَظَلَّ الرَّجُلُ لاَ يَدْرِي كَمْ صَلَّى
[الحديث 608 – أطرافه في : 3285,1233,1231,1222]
قوله: "باب فضل التأذين" راعى المصنف لفظ: "التأذين " لوروده في حديث الباب. وقال الزين ابن المنير: التأذين يتناول جميع ما يصدر عن المؤذن من قول وفعل وهيئة، وحقيقة الأذان تعقل بدون ذلك، كذا قال. والظاهر أن التأذين هنا أطلق بمعنى الأذان لقوله في الحديث: "حتى لا يسمع التأذين " وفي رواية لمسلم: "حتى لا يسمع صوته " فالتقييد بالسماع لا يدل على فعل ولا على هيئة، مع أن ذلك هو الأصل في قوله: "إذا نودي للصلاة" وللنسائي عن قتيبة عن مالك " بالصلاة " وهي رواية لمسلم أيضا، ويمكن حملهما على معنى واحد. قوله: "له ضراط" جملة اسمية وقعت حالا بدون واو لحصول الارتباط بالضمير. وفي رواية الأصيلي: "وله ضراط " وهي للمصنف من وجه آخر في بدء الخلق، قال عياض: يمكن حمله على ظاهره لأنه جسم متغذ يصح منه خروج الريح، ويحتمل أنها عبارة عن شدة نفاره، ويقويه رواية لمسلم: "له حصاص " بمهملات مضموم الأول فقد فسره الأصمعي وغيره بشدة العدو. قال الطيبي: شبه شغل الشيطان نفسه عن سماع الأذان بالصوت الذي يملأ السمع ويمنعه عن سماع غيره، ثم سماه ضراطا تقبيحا له. "تنبيه" الظاهر أن المراد بالشيطان إبليس، وعليه يدل كلام كثير من الشراح كما سيأتي، ويحتمل أن المراد جنس الشيطان وهو كل متمرد من الجن والإنس، لكن المراد هنا شيطان الجن خاصة. قوله: "حتى لا يسمع التأذين" ظاهره أنه يتعمد إخراج ذلك إما ليشتغل بسماع الصوت الذي يخرجه عن سماع المؤذن، أو يصنع ذلك استخفافا كما يفعله السفهاء، ويحتمل أن لا يتعمد ذلك بل يحصل له عند سماع الأذان شدة خوف يحدث له ذلك الصوت بسببها، ويحتمل أن يتعمد ذلك ليقابل ما يناسب الصلاة من الطهارة بالحدث، واستدل به على استحباب رفع الصوت بالأذان لأن قوله: "حتى لا يسمع " ظاهر في أنه يبعد إلى غاية ينتفي فيها سماعه للصوت، وقد وقع بيان الغاية في رواية لمسلم من حديث جابر فقال: "حتى يكون مكان الروحاء " وحكى الأعمش عن أبي سفيان راويه عن جابر أن بين المدينة والروحاء ستة وثلاثين ميلا، هذه رواية قتيبة عن جرير عند مسلم، وأخرجه عن إسحاق عن جرير ولم يسق لفظه، ولفظ إسحاق في مسنده " حتى يكون بالروحاء، وهي ثلاثون ميلا من المدينة " فأدرجه في الخبر، والمعتمد رواية قتيبة، وسيأتي حديث أبي سعيد في " فضل رفع الصوت بالأذان " بعده. قوله: "قضي" بضم أوله، والمراد بالقضاء الفراغ أو الانتهاء، ويروى بفتح أوله على حذف الفاعل، والمراد المنادى، واستدل به على أنه كان بين الأذان والإقامة فصل، خلافا لمن شرط في إدراك فضيلة أول الوقت أن ينطبق أول التكبير على أول الوقت. قوله: "إذا ثوب" بضم المثلثة وتشديد الواو المكسورة قيل هو من ثاب إذا رجع، وقيل من ثوب إذا أشار بثوبه عند الفراغ لإعلام غيره، قال الجمهور: المراد بالتثويب هنا الإقامة، وبذلك جزم أبو عوانة في صحيحه والخطابي والبيهقي وغيرهم، قال القرطبي: ثوب بالصلاة إذا أقيمت، وأصله أنه رجع إلى ما يشبه الأذان، وكل من ردد صوتا فهو مثوب، ويدل عليه رواية مسلم في رواية أبي صالح عن أبي هريرة " فإذا سمع الإقامة ذهب " وزعم بعض الكوفيين أن المراد بالتثويب قول المؤذن

(2/85)


بين الأذان والإقامة " حي على الصلاة، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة " وحكى ذلك ابن المنذر عن أبي يوسف عن أبي حنيفة وزعم أنه تفرد به، لكن في سنن أبي داود عن ابن عمر أنه كره التثويب بين الأذان والإقامة، فهذا يدل على أن له سلفا في الجملة، ويحتمل أن يكون الذي تفرد به القول الخاص. وقال الخطابي: لا يعرف العامة التثويب إلا قول المؤذن في الأذان " الصلاة خير من النوم " لكن المراد به في هذا الحديث الإقامة، والله أعلم. قوله: "أقبل" زاد مسلم في رواية أبي صالح عن أبي هريرة " فوسوس". قوله: "أقبل حتى يخطر" بضم الطاء، قال عياض: كذا سمعناه من أكثر الرواة، وضبطناه عن المتقنين بالكسر، وهو الوجه، ومعناه يوسوس، وأصله من خطر البعير بذنبه إذا حركه فضرب به فخذيه، وأما بالضم فمن المرور أي يدنو منه فيمر بينه وبين قلبه فيشغله، وضعف الحجري في نوادره الضم مطلقا وقال: هو يخطر بالكسر في كل شيء. قوله: "بين المرء ونفسه" أي قلبه، وكذا هو للمصنف من وجه آخر في بدء الخلق، قال الباجي: المعنى أنه يحول بين المرء وبين ما يريده من إقباله على صلاته وإخلاصه فيها. قوله: "يقول: اذكر كذا اذكر كذا" وقع في رواية كريمة بواو العطف " واذكر كذا " وهي لمسلم، وللمصنف في صلاة السهو " اذكر كذا وكذا " زاد مسلم من رواية عبد ربه عن الأعرج " فهناه ومناه وذكره من حاجاته ما لم يكن يذكر". قوله: "لما لم يكن يذكر" أي لشيء لم يكن على ذكره قبل دخوله في الصلاة. وفي رواية لمسلم: "لما لم يكن يذكر من قبل"، ومن ثم استنبط أبو حنيفة للذي شكا إليه أنه دفن مالا ثم لم يهتد لمكانه أن يصلي ويحرص أن لا يحدث نفسه بشيء من أمر الدنيا، ففعل، فذكر مكان المال في الحال. قيل: خصه بما يعلم دون ما لا يعلم لأنه يميل لما يعلم أكثر لتحقق وجوده، والذي يظهر أنه لأعم من ذلك فيذكره بما سبق له به علم ليشتغل باله به وبما لم يكن سبق له ليوقعه في الفكرة فيه، وهذا أعم من أن يكون في أمور الدنيا أو في أمور الدين كالعلم، لكن هل يشمل ذلك التفكر في معاني الآيات التي يتلوها؟ لا يبعد ذلك، لأن غرضه نقص خشوعه وإخلاصه بأي وجه كان. قوله: "حتى يظل الرجل" كذا للجمهور بالظاء المشالة المفتوحة، ومعنى يظل في الأصل اتصاف المخبر عنه بالخبر نهارا لكنها هنا بمعنى يصير أو يبقى، ووقع عند الأصيلي: "يضل " بكسر الساقطة أي ينسى، ومنه قوله تعالى: {أن تضل إحداهما} أو بفتحها، أي يخطئ ومنه قوله تعالى: {لا يضل ربي ولا ينسى} والمشهور الأول. قوله: "لا يدرى" وفي رواية في صلاة السهو " إن يدري " بكسر همزة إن وهي نافية بمعنى لا، وحكى ابن عبد البر عن الأكثر في الموطأ فتح الهمزة ووجهه بما تعقبه عليه جماعة. وقال القرطبي: ليست رواية الفتح لشيء إلا مع رواية الضاد الساقطة فتكون أن مع الفعل بتأويل المصدر ومفعول ضل أن بإسقاط حرف الجر أي يضل عن درايته. قوله: "كم صلى" وللمصنف في بدء الخلق من وجه آخر عن أبي هريرة " حتى لا يدري أثلاثا صلى أم أربعا " وسيأتي الكلام عليه في أبواب السهو إن شاء الله تعالى. وقد اختلف العلماء في الحكمة في هروب الشيطان عند سماع الأذان والإقامة دون سماع القرآن والذكر في الصلاة، فقيل يهرب حتى لا يشهد للمؤذن يوم القيامة، فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس إلا شهد له كما يأتي بعد، ولعل البخاري أشار إلى ذلك بإيراده الحديث المذكور عقب هذا الحديث. ونقل عياض عن بعض أهل العلم أن اللفظ عام والمراد به خاص، وأن الذي يشهد من تصح منه الشهادة كما سيأتي القول فيه في الباب الذي بعده. وقيل إن ذلك خاص بالمؤمنين فأما الكفار فلا تقبل لهم شهادة، ورده لما جاء من الآثار بخلافه، وبالغ الزين بن المنير في تقرير الأول وهو مقام

(2/86)


احتمال، وقيل يهرب نفورا عن سماع الأذان ثم يرجع موسوسا ليفسد على المصلي صلاته، فصار رجوعه من جنس فراره، والجامع بينهما الاستخفاف. وقيل لأن الأذان دعاء إلى الصلاة المشتملة على السجود الذي أباه وعصى بسببه، واعترض بأنه يعود قبل السجود، فلو كان هربه لأجله لم يعد إلا عند فراغه، وأجيب بأنه يهرب عند سماع الدعاء بذلك ليغالط نفسه بأنه لم يخالف أمرا ثم يرجع ليفسد على المصلي سجده الذي أباه، وقيل إنما يهرب لاتفاق الجميع على الإعلان بشهادة الحق وإقامة الشريعة، واعترض بأن الاتفاق على ذلك حاصل قبل الأذان وبعده من جميع من يصلي، وأجيب بأن الإعلان أخص من الاتفاق فإن الإعلان المختص بالأذان لا يشاركه فيه غيره من الجهر بالتكبير والتلاوة مثلا، ولهذا قال لعبد الله بن زيد " ألقه على بلال فإنه أندى صوتا منك " أي أقعد في المد والإطالة والإسماع ليعم الصوت ويطول أمد التأذين فيكثر الجمع ويفوت على الشيطان مقصوده من إلهاء الآدمي عن إقامة الصلاة في جماعة أو إخراجها عن وقتها أو وقت فضيلتها فيفر حينئذ، وقد ييأس عن أن يردهم عما أعلنوا به ثم يرجع لما طبع عليه من الأذى والوسوسة. وقال ابن الجوزي: على الأذان هيبة يشتد انزعاج الشيطان بسببها، لأنه لا يكاد يقع في الأذان رياء ولا غفلة عند النطق به، بخلاف الصلاة فإن النفس تحضر فيها فيفتح لها الشيطان أبواب الوسوسة. وقد ترجم عليه أبو عوانة " الدليل على أن المؤذن في أذانه وإقامته منفي عنه الوسوسة والرياء لتباعد الشيطان منه " وقيل لأن الأذان إعلام بالصلاة التي هي أفضل الأعمال بألفاظ هي من أفضل الذكر لا يزاد فيها ولا ينقص منها، بل تقع على وفق الأمر، فيفر من سماعها. وأما الصلاة فلما يقع من كثير من الناس فيها من التفريط فيتمكن الخبيث من المفرط، فلو قدر أن المصلي وفى بجميع ما أمر به فيها لم يقر به إذا كان وحده وهو نادر، وكذا إذا انضم إليه من هو مثله فإنه يكون أندر، أشار إليه ابن أبي جمرة نفع الله ببركته. "فائدة": قال ابن بطال يشبه أن يكون الزجر عن خروج المرء من المسجد بعد أن يؤذن المؤذن من هذا المعنى، لئلا يكون متشبها بالشيطان الذي يفر عند سماع الأذان والله أعلم. "تنبيهان": "الأول" فهم بعض السلف من الأذان في هذا الحديث الإتيان بصورة الأذان وإن لم توجد فيه شرائط الأذان من وقوعه في الوقت وغير ذلك، ففي صحيح مسلم من رواية سهيل بن أبي صالح عن أبيه أنه قال: "إذا سمعت صوتا فناد بالصلاة " واستدل بهذا الحديث، وروى مالك عن زيد بن أسلم نحوه. "الثاني" وردت في فضل الأذان أحاديث كثيرة ذكر المصنف بعضها في مواضع أخرى، واقتصر على هذا هنا، لأن هذا الخبر تضمن فضلا لا ينال بغير الأذان، بخلاف غيره من الأخبار فإن الثواب المذكور فيها يدرك بأنواع أخرى من العبادات، والله أعلم.

(2/87)


5 - باب رَفْعِ الصَّوْتِ بِالنِّدَاءِ
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَذِّنْ أَذَانًا سَمْحًا وَإِلاَ فَاعْتَزِلْنَا
609- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ الأَنْصَارِيِّ ثُمَّ الْمَازِنِيِّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ قَالَ لَهُ إِنِّي أَرَاكَ تُحِبُّ الْغَنَمَ وَالْبَادِيَةَ فَإِذَا كُنْتَ فِي غَنَمِكَ أَوْ بَادِيَتِكَ فَأَذَّنْتَ بِالصَّلاَةِ فَارْفَعْ صَوْتَكَ بِالنِّدَاءِ فَإِنَّهُ لاَ يَسْمَعُ مَدَى صَوْتِ الْمُؤَذِّنِ

(2/87)


جِنٌّ وَلاَ إِنْسٌ وَلاَ شَيْءٌ إِلاَّ شَهِدَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[الحديث 609 – طرفاه في: 7548,3296]
قوله: "باب رفع الصوت بالنداء" قال الزين بن المنير: لم ينص على حكم رفع الصوت لأنه من صفة الأذان، وهو لم ينص في أصل الأذان على حكم كما تقدم، وقد ترجم عليه النسائي: "باب الثواب على رفع الصوت بالأذان". قوله: "وقال عمر بن عبد العزيز" وصله ابن أبي شيبة من طريق عمر عن سعيد بن أبي حسين أن مؤذنا أذن فطرب في أذانه فقال له عمر بن عبد العزيز. فذكره، ولم أقف على اسم هذا المؤذن وأظنه من بني سعد القرظ لأن ذلك وقع حيث كان عمر بن عبد العزيز أميرا على المدينة، والظاهر أنه خاف عليه من التطريب الخروج عن الخشوع، لا أنه نهاه عن رفع الصوت. وقد روي نحو هذا من حديث ابن عباس مرفوعا أخرجه الدار قطني وفيه إسحاق بن أبي يحيى الكعبي وهو ضعيف عند الدار قطني وابن عدي. وقال ابن حبان: لا تحل الرواية عنه، ثم غفل فذكره في الثقات. قوله: "عن أبيه" زاد ابن عيينة " وكان يتيما في حجر أبي سعيد وكانت أمه عند أبي سعيد " أخرجه ابن خزيمة من طريقه، لكن قلبه ابن عيينة فقال: عن عبد الرحمن بن عبد الله والصحيح قول مالك ووافقه عبد العزيز الماجشون. وزعم أبو مسعود في الأطراف أن البخاري أخرج روايته، لكن لم نجد ذلك ولا ذكرها خلف قاله ابن عساكر. واسم أبي صعصعة عمرو بن زيد بن عوف بن مبدول بن عمرو بن غنم بن مازن ابن النجار، مات أبو صعصعة في الجاهلية، وابنه عبد الرحمن صحابي، روى ابن شاهين في الصحابة من طريق قيس بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة عن أبيه عن جده حديثا سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، وفي سياقه أن جده كان بدريا، وفيه نظر لأن أصحاب المغازي لم يذكروه فيهم وإنما ذكروا أخاه قيس بن أبي صعصعة. قوله: "أن أبا سعيد الخدري قال له" أي لعبد الله بن عبد الرحمن. قوله: "تحب الغنم والبادية" أي لأجل الغنم لأن محبها يحتاج إلى إصلاحها بالمرعى، وهو في الغالب يكون في البادية وهي الصحراء التي لا عمارة فيها. قوله: "في غنمك أو باديتك" يحتمل أن تكون " أو " شكا من الراوي، ويحتمل أن تكون للتنويع لأن الغنم قد لا تكون في البادية، ولأنه قد يكون في البادية حيث لا غنم. قوله: "فأذنت للصلاة" أي لأجل الصلاة، وللمصنف في بدء الخلق " بالصلاة " أي أعلمت بوقتها. قوله: "فارفع" فيه إشعار بأن أذان من أراد الصلاة كان مقررا عندهم لاقتصاره على الأمر بالرفع دون أصل التأذين، واستدل به الرافعي للقول الصائر إلى استحباب أذان المنفرد، وهو الراجح عند الشافعية بناء على أن الأذان حق الوقت، وقيل لا يستحب بناء على أن الأذان لاستدعاء الجماعة للصلاة، ومنهم من فصل بين من يرجو جماعة أو لا. قوله: "بالنداء" أي بالأذان. قوله: "لا يسمع مدى صوت المؤذن" أي غاية صوته، قال البيضاوي: غاية الصوت تكون أخفى من ابتدائه، فإذا شهد له من بعد عنه ووصل إليه منتهى صوته فلأن يشهد له من دنا منه وسمع مبادي صوته أولى. قول "جن ولا إنس ولا شيء" ظاهره يشمل الحيوانات والجمادات، فهو من العام بعد الخاص، ويؤيده ما في رواية ابن خزيمة: "لا يسمع صوته شجر ولا مدر ولا حجر ولا جن ولا إنس" ، ولأبي داود والنسائي من طريق أبي يحيى عن أبي هريرة بلفظ: "المؤذن يغفر له مدى صوته، ويشهد له كل رطب ويابس " ونحوه للنسائي وغيره من حديث البراء وصححه ابن السكن، فهذه الأحاديث تبين المراد من قوله في حديث الباب: "ولا شيء " وقد تكلم بعض من لم يطلع عليها في تأويله على غير ما يقتضيه ظاهره، قال القرطبي: قوله: "ولا شيء "

(2/88)


المراد به الملائكة. وتعقب بأنهم دخلوا في قوله جن لأنهم يستخفون عن الأبصار. وقال غيره: المراد كل ما يسمع المؤذن من الحيوان حتى ما لا يعقل دون الجمادات. ومنهم من حمله على ظاهره، وذلك غير ممتنع عقلا ولا شرعا. قال ابن بزيزة، تقرر في العادة أن السماع والشهادة والتسبيح لا يكون إلا من حي، فهل ذلك حكاية عن لسان الحال لأن الموجودات ناطقة بلسان حالها بجلال باريها، أو هو على ظاهره؟ وغير ممتنع عقلا أن الله يخلق فيها الحياة والكلام. وقد تقدم البحث في ذلك في قول النار " أكل بعضي بعضا " وسيأتي في الحديث الذي فيه: "أن البقرة قالت إنما خلقت للحرث " وفي مسلم من حديث جابر ابن سمرة مرفوعا: "إني لأعرف حجرا كان يسلم علي " ا هـ. ونقل ابن التين عن أبي عبد الملك: إن قوله هنا " ولا شيء " نظير قوله تعالى:{وإن من شيء إلا يسبح بحمده" وتعقبه بأن الآية مختلف فيها، وما عرفت وجه هذا التعقب فإنهما سواء في الاحتمال ونقل الاختلاف، إلا أن يقول إن الآية لم يختلف في كونها على عمومها، وإنما اختلف في تسبيح بعض الأشياء هل هو على الحقيقة أو المجاز بخلاف الحديث. والله أعلم. "فائدة": السر في هذه الشهادة مع أنها تقع عند عالم الغيب والشهادة أن أحكام الآخرة جرت على نعت أحكام الخلق في الدنيا من توجيه الدعوى والجواب والشهادة، قاله الزين بن المنير. وقال التوربشتي: المراد من هذه الشهادة اشتهار المشهود له يوم القيامة بالفضل وعلو الدرجة، وكما أن الله يفضح بالشهادة قوما فكذلك يكرم بالشهادة آخرين. قوله: "إلا شهد له" للكشميهني إلا يشهد له، وتوجيههما واضح. قوله: "قال أبو سعيد سمعته" قال الكرماني: أي هذا الكلام الأخير وهو قوله إنه لا يسمع الخ. قلت: وقد أورد الرافعي هذا الحديث في الشرح بلفظ: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي سعيد إنك رجل تحب الغنم " وساقه إلى آخره، وسبقه إلى ذلك الغزالي وإمامه والقاضي حسين وابن داود شارح المختصر وغيرهم، وتعقبه النووي، وأجاب ابن الرفعة عنهم بأنهم فهموا أن قول أبي سعيد " سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عائد على كل ما ذكر ا ه. ولا يخفى بعده. وقد رواه ابن خزيمة من رواية ابن عيينة ولفظه: "قال أبو سعيد: إذا كنت في البوادي فارفع صوتك بالنداء، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يسمع " فذكره، ورواه يحيى القطان أيضا عن مالك بلفظ: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا أذنت فارفع صوتك، فإنه لا يسمع " فذكره. فالظاهر أن ذكر الغنم والبادية موقوف، والله أعلم. وفي الحديث استحباب رفع الصوت بالأذان ليكثر من يشهد له ما لم يجهده أو يتأذى به، وفيه أن حب الغنم والبادية ولا سيما عند نزول الفتنة من عمل السلف الصالح، وفيه جواز التبدي ومساكنة الأعراب ومشاركتهم في الأسباب بشرط حظ من العلم وأمن من غلبة الجفاء. وفيه أن أذان الفذ مندوب إليه ولو كان في قفر ولو لم يرتج حضور من يصلي معه، لأنه إن فاته دعاء المصلين فلم يفته استشهاد من سمعه من غيرهم.

(2/89)


6 - باب مَا يُحْقَنُ بِالأَذَانِ مِنْ الدِّمَاءِ
610- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا غَزَا بِنَا قَوْمًا لَمْ يَكُنْ يَغْزُو بِنَا حَتَّى يُصْبِحَ وَيَنْظُرَ فَإِنْ سَمِعَ أَذَانًا كَفَّ عَنْهُمْ وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ أَذَانًا أَغَارَ عَلَيْهِمْ قَالَ فَخَرَجْنَا إِلَى خَيْبَرَ فَانْتَهَيْنَا إِلَيْهِمْ لَيْلًا فَلَمَّا أَصْبَحَ وَلَمْ يَسْمَعْ أَذَانًا رَكِبَ وَرَكِبْتُ خَلْفَ أَبِي طَلْحَةَ

(2/89)


وَإِنَّ قَدَمِي لَتَمَسُّ قَدَمَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "فَخَرَجُوا إِلَيْنَا بِمَكَاتِلِهِمْ وَمَسَاحِيهِمْ فَلَمَّا رَأَوْا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا مُحَمَّدٌ وَاللَّهِ مُحَمَّدٌ وَالْخَمِيسُ قَالَ فَلَمَّا رَآهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ خَرِبَتْ خَيْبَرُ إِنَّا إِذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ قوله: "باب ما يحقن بالأذان من الدماء" قال الزين بن المنير: قصد البخاري بهذه الترجمة واللتين قبلها استيفاء ثمرات الأذان، فالأولى فيها فضل التأذين لقصد الاجتماع للصلاة، والثانية فيها فضل أذان المنفرد لإيداع الشهادة له بذلك، والثالثة فيها حقن الدماء عند وجود الأذان. قال: وإذا انتفت عن الأذان فائدة من هذه الفوائد لم يشرع إلا في حكايته عند سماعه، ولهذا عقبه بترجمة ما يقول إذا سمع المنادي ا هـ. كلامه ملخصا. ووجه الاستدلال للترجمة من حديث الباب ظاهر، وباقي المتن من متعلقات الجهاد. الحديث قد أورده المصنف في الجهاد بهذا الإسناد وسياقه هناك أتم مما هنا، وسيأتي الكلام على فوائده هناك إن شاء الله تعالى. وقد روى مسلم طرفه المتعلق بالأذان وسياقه أوضح، أخرجه من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغير إذا طلع الفجر، وكان يستمع الأذان، فإن سمع أذانا أمسك وإلا أغار" . قال الخطابي: فيه أن الأذان شعار الإسلام، وأنه لا يجوز تركه، ولو أن أهل بلد اجتمعوا على تركه كان للسلطان قتالهم عليه ا هـ. وهذا أحد أقوال العلماء كما تقدم، وهو أحد الأوجه في المذهب. وأغرب ابن عبد البر فقال: لا أعلم فيه خلافا، وأن قول أصحابنا من نطق بالتشهد في الأذان حكم بإسلامه إلا إذا كان عيسويا فلا يرد عليه مطلق حديث الباب، لأن العيسوية طائفة من اليهود حدثت في آخر دولة بني أمية فاعترفوا بأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن إلى العرب فقط، وهم منسوبون إلى رجل يقال له أبو عيسى أحدث لهم ذلك. "تنبيه": وقع في سياق حديث الباب: "لم يكن يغر بنا " واختلف في ضبطه، ففي رواية المستملي: "يغر " من الإغارة مجزوم على أنه بدل من قوله يكن. وفي رواية الكشميهني: "يغد " بإسكان الغين وبالدال المهملة من الغدو. وفي رواية كريمة: "يغزو " بزاي بعدها واو من الغزو. وفي رواية الأصيلي: "يغير " كالأول لكن بإثبات الياء. وفي رواية غيرهم بضم أوله وإسكان الغين من الإغراء، ورواية مسلم تشهد لرواية من رواه من الإغارة، والله أعلم.

(2/90)


7 - باب مَا يَقُولُ إِذَا سَمِعَ الْمُنَادِي
611- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إِذَا سَمِعْتُمْ النِّدَاءَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ الْمُؤَذِّنُ"
612- حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ قَالَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ حَدَّثَنِي عِيسَى بْنُ طَلْحَةَ أَنَّهُ سَمِعَ مُعَاوِيَةَ يَوْمًا فَقَالَ مِثْلَهُ إِلَى قَوْلِهِ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ قَالَ حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ قَالَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ يَحْيَى نَحْوَهُ

(2/90)


613- قَالَ يَحْيَى وَحَدَّثَنِي بَعْضُ إِخْوَانِنَا أَنَّهُ قَالَ لَمَّا قَالَ حَيَّ عَلَى الصَّلاَةِ قَالَ لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَقَالَ هَكَذَا سَمِعْنَا نَبِيَّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ"
قوله ( بابمايقول إذا سمع المنادي ) هذا لفظ رواية أبي الطيالسي عن ابن المبارك عن يونس عن الزهري في حديث الباب , وآثر المصنف عدم الجزم بحكم ذلك لقوة الخلاف فيه كما سيأتي . ثم ظاهر صنيعه يقتضي ترجيح ما عليه الجمهور وهو أن يقول مثل مايقول من الأذان إلا الحيعلتين , لان حديث أبي سعيد الذي بدأ به عام , وحديث معاوية الذي تلاه به يخصصه , والخاص مقدم على العام . قوله: "عن عطاء بن زيد" في رواية ابن وهب عن مالك ويونس عن الزهري أن عطاء بن يزيد أخبره، أخرجه أبو عوانة. "فائدة": اختلف على الزهري في إسناد هذا الحديث، وعلى مالك أيضا، لكنه اختلاف لا يقدح في صحته، فرواه عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة أخرجه النسائي وابن ماجه. وقال أحمد بن صالح وأبو حاتم وأبو داود والترمذي: حديث مالك ومن تابعه أصح، ورواه يحيى القطان عن مالك عن الزهري عن السائب بن يزيد أخرجه مسدد في مسنده عنه. وقال الدار قطني: إنه خطأ والصواب الرواية الأولى، وفيه اختلاف آخر دون ما ذكر لا نطيل به. قوله: "إذا سمعتم" ظاهره اختصاص الإجابة بمن يسمع حتى لو رأى المؤذن على المنارة مثلا في الوقت وعلم أنه يؤذن لكن لم يسمع أذانه لبعد أو صمم لا تشرع له المتابعة، قاله النووي في شرح المهذب. قوله: "فقولوا مثل ما يقول المؤذن" ادعى ابن وضاح أن قول " المؤذن " مدرج، وأن الحديث انتهى عند قوله: "مثل ما يقول". وتعقب بأن الإدراج لا يثبت بمجرد الدعوى، وقد اتفقت الروايات في الصحيحين والموطأ على إثباتها، ولم يصب صاحب العمدة في حذفها. قوله: "ما يقول" قال الكرماني: قال: "ما يقول: "ولم يقل مثل ما قال ليشعر بأنه يجيبه بعد كل كلمة مثل كلمتها. قلت: والصريح في ذلك ما رواه النسائي من حديث أم حبيبة " أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول كما يقول المؤذن حتى يسكت " وأما أبو الفتح اليعمري فقال: ظاهر الحديث أنه يقول مثل ما يقول عقب فراغ المؤذن، لكن الأحاديث التي تضمنت إجابة كل كلمة عقبها دلت على أن المراد المساوقة، يشير إلى حديث عمر بن الخطاب الذي عند مسلم وغيره، فلو لم يجاوبه حتى فرغ استحب له التدارك إن لم يطل الفصل. قاله النووي في شرح المهذب بحثا. وقد قالوه فيما إذا كان له عذر كالصلاة، وظاهر قوله مثل أنه يقول مثل قوله في جميع الكلمات، لكن حديث عمر أيضا وحديث معاوية الآتي يدلان على أنه يستثنى من ذلك " حي على الصلاة وحي على الفلاح " فيقول بدلهما " لا حول ولا قوة إلا بالله " كذلك استدل به ابن خزيمة وهو المشهور عند الجمهور. وقال ابن المنذر يحتمل أن يكون ذلك من الاختلاف المباح فيقول تارة كذا وتارة كذا، وحكى بعض المتأخرين عن بعض أهل الأصول أن الخاص والعام إذا أمكن الجمع بينهما وجب إعمالهما، قال: فلم لا يقال يستحب للسامع أن يجمع بين الحيعلة والحوقلة، وهو وجه عند الحنابلة. أجيب عن المشهور من حيث المعنى بأن الأذكار الزائدة على الحيعلة يشترك السامع والمؤذن في ثوابها، وأما الحيعلة فمقصودها الدعاء إلى الصلاة، وذلك يحصل من المؤذن، فعوض السامع عما يفوته من ثواب الحيعلة بثواب الحوقلة. ولقائل أن يقول: يحصل للمجيب الثواب لامتثاله الأمر، ويمكن أن يزداد استيقاظا وإسراعا إلى القيام إلى الصلاة إذا تكرر على سمعه الدعاء إليها من المؤذن ومن

(2/91)


نفسه. ويقرب من ذلك الخلاف في قول المأموم " سمع الله لمن حمده " كما سيأتي في موضعه. وقال الطيبي: معنى الحيعلتين هلم بوجهك وسريرتك إلى الهدى عاجلا والفوز بالنعيم آجلا، فناسب أن يقول: هذا أمر عظيم لا أستطيع مع ضعفي القيام به إلا إذا وفقني الله بحوله وقوته. ومما لوحظت فيه المناسبة ما نقل عيد الرزاق عن ابن جريج قال: حدثت أن الناس كانوا ينصتون للمؤذن إنصاتهم للقراءة فلا يقول شيئا إلا قالوا مثله، حتى إذا قال: "حي على الصلاة " قالوا " لا حول ولا قوة إلا بالله " وإذا قال: "حي على الفلاح " قالوا " ما شاء الله". انتهى. وإلى هذا صار بعض الحنفية. وروى ابن أبي شيبة مثله عن عثمان، وروى عن سعيد بن جبير قال: يقول في جواب الحيعلة: سمعنا وأطعنا. ووراء ذلك وجوه من الاختلاف أخرى، قيل لا يجيبه إلا في التشهدين فقط، وقيل هما والتكبير، وقيل يضيف إلى ذلك الحوقلة دون ما في آخره، وقيل مهما أتى به مما يدل على التوحيد والإخلاص كفاه وهو اختيار الطحاوي، وحكوا أيضا خلافا: هل يجيب في الترجيع أو لا، وفيما إذا أذن مؤذن آخر هل يجيبه بعد إجابته للأول أو لا. قال النووي: لم أر فيه شيئا لأصحابنا. وقال ابن عبد السلام: يجيب كل واحد بإجابة لتعدد السبب، وإجابة الأول أفضل، إلا في الصبح والجمعة فإنهما سواء لأنهما مشروعان. وفي الحديث دليل على أن لفظ المثل لا يقتضي المساواة من كل جهة، لأن قوله مثل ما يقول لا يقصد به رفع الصوت المطلوب من المؤذن، كذا قيل وفيه بحث، لأن المماثلة وقعت في القول لا في صفته، والفرق بين المؤذن والمجيب في ذلك أن المؤذن مقصوده الإعلام فاحتاج إلى رفع الصوت، والسامع مقصوده ذكر الله فيكتفي بالسر أو الجهر لا مع الرفع. نعم لا يكفيه أن يجريه على خاطره من غير تلفظ لظاهر الأمر بالقول. وأغرب ابن المنير فقال: حقيقة الأذان جميع ما يصدر عن المؤذن من قول وفعل وهيئة. وتعقب بأن الأذان معناه الإعلام لغة، وخصه الشرع بألفاظ مخصوصة في أوقات مخصوصة فإذا وجدت الأذان، وما زاد على ذلك من قول أو فعل أو هيئة يكون من مكملاته صلى الله عليه وسلم ويوجد الأذان من دونها. ولو كان على ما أطلق لكان ما أحدث من التسبيح قبل الصبح وقبل الجمعة ومن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من جملة الأذان، وليس كذلك لا لغة ولا شرعا. واستدل به على جواز إجابة المؤذن في الصلاة عملا بظاهر الأمر، ولأن المجيب لا يقصد المخاطبة، وقيل يؤخر الإجابة حتى يفرغ لأن في الصلاة شغلا، وقيل يجيب إلا في الحيعلتين لأنهما كالخطاب للآدميين والباقي من ذكر الله فلا يمنع. لكن قد يقال: من يبدل الحيعلة بالحوقلة لا يمنع، لأنها من ذكر الله، قاله ابن دقيق العيد. وفرق ابن عبد السلام في فتاويه بين ما إذا كان يقرأ الفاتحة فلا يجيب بناء على وجوب موالاتها وإلا فيجيب، وعلى هذا إن أجاب في الفاتحة استأنف، وهذا قاله بحثا، والمشهور في المذهب كراهة الإجابة في الصلاة بل يؤخرها حتى يفرغ، وكذا في حال الجماع والخلاء، لكن إن أجاب بالحيعلة بطلت كذا أطلقه كثير منهم، ونص الشافعي في الأم على عدم فساد الصلاة بذلك، واستدل به على مشروعية إجابة المؤذن في الإقامة، قالوا: إلا في كلمتي الإقامة فيقول: "أقامها الله وأدامها " وقياس إبدال الحيعلة بالحوقلة في الأذان أن يجيء هنا، لكن قد يفرق بأن الأذان إعلام عام فيعسر على الجميع أن يكونوا دعاة إلى الصلاة، والإقامة إعلام
ـــــــ
(1) هذا فيه نظر : والصواب أن ما أحدثه الناس من رفع الصوت بالتسبيح قبل الأذان والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعده – كما أشار إليه الشارح – بدعة يجب على ولاة الأمر إنكارها حتى لايدخل في الأذان ماليس منه , وفيما شرعه الله غنية وكفاية عن المحدثات,فتنبه

(2/92)


خاص وعدد من يسمعها محصور فلا يعسر أن يدعو بعضهم بعضا. واستدل به على وجوب إجابة المؤذن، حكاه الطحاوي عن قوم من السلف وبه قال الحنفية وأهل الظاهر وابن وهب، واستدل للجمهور بحديث أخرجه مسلم وغيره: "إنه صلى الله عليه وسلم سمع مؤذنا فلما كبر قال: على الفطرة، فلما تشهد قال: خرج من النار " قال: فلما قال عليه الصلاة والسلام غير ما قال المؤذن علمنا أن الأمر بذلك للاستحباب. وتعقب بأنه ليس في الحديث أنه لم يقل مثل ما قال، فيجوز أن يكون قاله ولم ينقله الراوي اكتفاء بالعادة ونقل القول الزائد، وبأنه يحتمل أن يكون ذلك وقع قبل صدور الأمر، ويحتمل أن يكون الرجل لما أمر لم يرد أن يدخل نفسه في عموم من خوطب بذلك، قيل ويحتمل أن يكون الرجل لم يقصد الأذان لكن يرد هذا الأخير أن في بعض طرقه أنه حضرته الصلاة قوله: "حدثنا هشام" هو الدستوائي ويحيى هو ابن أبي كثير. قوله: "أنه سمع معاوية يوما فقال مثله - إلى قوله - وأشهد أن محمدا رسول الله" هكذا أورد المتن هنا مختصرا، وقد رواه أبو داود الطيالسي في مسنده عن هشام ولفظه: "كنا عند معاوية فنادى المنادي بالصلاة فقال مثل ما قال، ثم قال: هكذا سمعت نبيكم " ثم قال البخاري: حدثنا إسحاق أنبأنا وهب بن جرير حدثنا هشام عن يحيى نحوه. قال يحيى: وحدثني بعض إخواننا " أنه لما قال حي على الصلاة قال: لا حول ولا قوة إلا بالله. وقال: هكذا سمعت نبيكم يقول". انتهى. فأحال بقوله نحوه على الذي قبله، وقد عرفت أنه لم يسق لفظه كله، وقد وقع لنا هذا الحديث من طرق عن هشام المذكور تاما، منها للإسماعيلي من طريق معاذ ابن هشام عن أبيه عن يحيى حدثنا محمد بن إبراهيم حدثنا عيسى بن طلحة قال: "دخلنا على معاوية، فنادى مناد بالصلاة، فقال: الله أكبر الله أكبر، فقال معاوية الله أكبر الله أكبر. فقال: أشهد أن لا إله إلا الله. فقال معاوية: وأنا أشهد أن لا إله إلا الله. فقال: أشهد أن محمدا رسول الله، فقال معاوية: وأنا أشهد أن محمدا رسول الله" قال يحيى فحدثني صاحب لنا " أنه لما قال حي على الصلاة قال: لا حول ولا قوة إلا بالله. ثم قال هكذا سمعنا نبيكم". انتهى. فاشتمل هذا السياق على فوائد: أحدها تصريح يحيى بن أبي كثير بالسماع له من محمد بن إبراهيم فأمن ما يخشى من تدليسه، ثانيها بيان ما اختصر من روايتي البخاري، ثالثها أن قوله في الرواية الأولى " أنه سمع معاوية يوما فقال مثله " فيه حذف تقديره أنه سمع معاوية يسمع المؤذن يوما فقال مثله، رابعها أن الزيادة في رواية وهب بن جرير لم ينفرد بها لمتابعة معاذ بن هشام له، خامسها أن قوله: "قال يحيى " ليس تعليقا من البخاري كما زعمه بعضهم، بل هو عنده بإسناد إسحاق. وأبدى الحافظ قطب الدين احتمالا أنه عنده بإسنادين، ثم إن إسحاق هذا لم ينسب وهو ابن راهويه، كذلك صرح به أبو نعيم في مستخرجه، وأخرجه من طريق عبد الله بن شيرويه عنه. وأما المبهم الذي حدث يحيى به عن معاوية فلم أقف في شيء من الطرق على تعيينه، وحكى الكرماني عن غيره أن المراد به الأوزاعي، وفيه نظر، لأن الظاهر أن قائل ذلك ليحيى حدثه به عن معاوية، وأين عصر الأوزاعي من عصر معاوية؟ وقد غلب على ظني أنه علقمة ابن وقاص إن كان يحيى بن أبي كثير أدركه، وإلا فأحد ابنيه عبد الله بن علقمة أو عمرو بن علقمة، وإنما قلت ذلك لأنني جمعت طرقه عن معاوية فلم أجد هذه الزيادة في ذكر الحوقلة إلا من طريقين: أحدهما عن نهشل التميمي عن معاوية وهو في الطبراني بإسناد واه، والآخر عن علقمة بن وقاص عنه، وقد أخرجه النسائي واللفظ له، وابن خزيمة وغيرهما من طريق ابن جريج أخبرني عمرو بن يحيى أن عيسى بن عمرو أخبره عن عبد الله بن علقمة بن وقاص عن أبيه قال: "إني لعند معاوية إذ أذن مؤذن، فقال معاوية

(2/93)


كما قال، حتى إذا قال حي على الصلاة قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، فلما قال حي على الفلاح قال: لا حول ولا قوة إلا بالله. وقال بعد ذلك ما قال المؤذن، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك " ورواه ابن خزيمة أيضا من طريق يحيى القطان عن محمد بن عمرو بن علقمة عن أبيه عن جده قال: كنت عند معاوية فذكر مثله، وأوضح سياقا منه، وتبين بهذه الرواية أن ذكر الحوقلة في جواب حي على الفلاح اختصر في حديث الباب، بخلاف ما تمسك به بعض من وقف مع ظاهره، وأن " إلى " في قوله في الطريق الأولى " فقال مثل قوله إلى أشهد أن محمدا رسول الله " بمعنى " مع " كقوله تعالى: {ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم" . "تنبيه": أخرج مسلم من حديث عمر بن الخطاب نحو حديث معاوية، وإنما لم يخرجه البخاري لاختلاف وقع في وصله وإرساله كما أشار إليه الدار قطني، ولم يخرج مسلم حديث معاوية لأن الزيادة المقصودة منه ليست على شرط الصحيح للمبهم الذي فيها، لكن إذا انضم أحد الحديثين إلى الآخر قوي جدا. وفي الباب أيضا عن الحارث بن نوفل الهاشمي وأبي رافع - وهما في الطبراني وغيره - وعن أنس في البزار وغيره، والله تعالى أعلم.

(2/94)


8 - باب الدُّعَاءِ عِنْدَ النِّدَاءِ
614- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَيَّاشٍ قَالَ حَدَّثَنَا شُعَيْبُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ وَالصَّلاَةِ الْقَائِمَةِ آتِ مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدْتَهُ حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ"
[ الحديث 614- طرفه في :4719]
قوله: "باب الدعاء عند النداء" أي عند تمام النداء، وكأن المصنف لم يقيده بذلك اتباعا لإطلاق الحديث كما سيأتي البحث فيه. قوله: "حدثني علي بن عياش" بالياء الأخيرة والشين المعجمة وهو الحمصي من كبار شيوخ البخاري ولم يلقه من الأئمة الستة غيره، وقد حدث عنه القدماء بهذا الحديث، أخرجه أحمد في مسنده عنه، ورواه علي بن المديني شيخ البخاري مع تقدمه على أحمد عنه، أخرجه الإسماعيلي من طريقه. قوله: "عن محمد بن المنكدر" ذكر الترمذي أن شعيبا تفرد به عن ابن المنكدر فهو غريب مع صحته، وقد توبع ابن المنكدر عليه عن جابر أخرجه الطبراني في الأوسط من طريق أبي الزبير عن جابر نحوه، ووقع في زوائد الإسماعيلي: أخبرني ابن المنكدر. قوله: "من قال حين يسمع النداء" أي الأذان، واللام للعهد، ويحتمل أن يكون التقدير: من قال حين يسمع نداء المؤذن. وظاهره أنه يقول الذكر المذكور حال سماع الأذان ولا يتقيد بفراغه، لكن يحتمل أن يكون المراد من النداء تمامه، إذ المطلق يحمل على الكامل، ويؤيده حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عند مسلم بلفظ: "قولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي، ثم سلوا الله لي الوسيلة " ففي هذا أن ذلك يقال عند فراغ الأذان. واستدل الطحاوي بظاهر حديث جابر على أنه لا يتعين إجابة المؤذن بمثل ما يقول، بل لو اقتصر على الذكر المذكور كفاه. وقد بين حديث عبد الله بن عمرو المراد، وأن الحين محمول على ما بعد الفراغ، واستدل به ابن بزيزة على عدم وجوب ذلك لظاهر إيراده، لكن لفظ الأمر في رواية مسلم قد يتمسك به من يدعي الوجوب، وبه

(2/94)


قال الحنفية وابن وهب من المالكية وخالف الطحاوي أصحابه فوافق الجمهور. قوله: "رب هذه الدعوة" بفتح الدال، زاد البيهقي من طريق محمد بن عون عن علي بن عياش " اللهم إني أسألك بحق هذه الدعوة التامة " والمراد بها دعوة التوحيد كقوله تعالى: {له دعوة الحق} وقيل لدعوة التوحيد " تامة " لأن الشركة نقص. أو التامة التي لا يدخلها تغيير ولا تبديل، بل هي باقية إلى يوم النشور، أو لأنها هي التي تستحق صفة التمام وما سواها فمعرض للفساد. وقال ابن التين: وصفت بالتامة لأن فيها أتم القول وهو " لا إله إلا الله". وقال الطيبي: من أوله إلى قوله: "محمد رسول الله " هي الدعوة التامة، والحيعلة هي الصلاة القائمة في قوله يقيمون الصلاة، ويحتمل أن يكون المراد بالصلاة الدعاء وبالقائمة الدائمة من قام على الشيء إذا داوم عليه، وعلى هذا فقوله: "والصلاة القائمة " بيان للدعوة التامة، ويحتمل أن يكون المراد بالصلاة المعهودة المدعو إليها حينئذ وهو أظهر. قوله: "الوسيلة" هي ما يتقرب به إلى الكبير، يقال توسلت أي تقربت، وتطلق على المنزلة العلية، ووقع ذلك في حديث عبد الله بن عمرو عند مسلم بلفظ: "فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله " الحديث، ونحوه للبزار عن أبي هريرة، ويمكن ردها إلى الأول بأن الواصل إلى تلك المنزلة قريب من الله فتكون كالقربة التي يتوسل بها. قوله: "والفضيلة" أي المرتبة الزائدة على سائر الخلائق، ويحتمل أن تكون منزلة أخرى أو تفسيرا للوسيلة. قوله: "مقاما محمودا" أي يحمد القائم فيه، وهو مطلق في كل ما يجلب الحمد من أنواع الكرامات، ونصب على الظرفية، أي ابعثه يوم القيامة فأقمه مقاما محمودا، أو ضمن ابعثه معنى أقمه، أو على أنه مفعول به ومعنى ابعثه أعطه، ويجوز أن يكون حالا أي ابعثه ذا مقام محمود. قال النووي: ثبتت الرواية بالتنكير وكأنه حكاية للفظ القرآن. وقال الطيبي: إنما نكره لأنه أفخم وأجزل، كأنه قيل مقاما أي مقاما محمودا بكل لسان. قلت: وقد جاء في هذه الرواية بعينها من رواية علي بن عياش شيخ البخاري فيه بالتعريف عند النسائي، وهي في صحيح ابن خزيمة وابن حبان أيضا، وفي الطحاوي والطبراني في الدعاء والبيهقي، وفيه تعقب على من أنكر ذلك كالنووي. قوله: "الذي وعدته" زاد في رواية البيهقي " إنك لا تخلف الميعاد " وقال الطيبي: المراد بذلك قوله تعالى: {عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا} وأطلق عليه الوعد لأن عسى من الله واقع كما صح عن ابن عيينة وغيره، والموصول إما بدل أو عطف بيان أو خبر مبتدأ محذوف وليس صفة للنكرة، ووقع في رواية النسائي وابن خزيمة وغيرهما: "المقام المحمود " بالألف واللام فيصح وصفه بالموصول والله أعلم. قال ابن الجوزي: والأكثر على أن المراد بالمقام المحمود الشفاعة، وقيل إجلاسه على العرش، وقيل على الكرسي، وحكى كلا من القولين عن جماعة، وعلى تقدير الصحة لا ينافي الأول لاحتمال أن يكون الإجلاس علامة الإذن في الشفاعة، ويحتمل أن يكون المراد بالمقام المحمود الشفاعة كما هو مشهور وأن يكون الإجلاس هي المنزلة المعبر عنها بالوسيلة أو الفضيلة. ووقع في صحيح ابن حبان من حديث كعب بن مالك مرفوعا: "يبعث الله الناس، فيكسوني ربي حلة خضراء، فأقول ما شاء الله أن أقول " فذلك المقام المحمود، ويظهر أن المراد بالقول المذكور هو الثناء الذي يقدمه بين يدي الشفاعة. ويظهر أن المقام المحمود هو مجموع ما يحصل له في تلك الحالة، ويشعر قوله في آخر الحديث: "حلت له شفاعتي " بأن الأمر المطلوب له الشفاعة، والله أعلم. قوله: "حلت له" أي استحقت ووجبت أو نزلت عليه، يقال حل يحل بالضم إذا نزل، واللام بمعنى على، ويؤيده رواية مسلم: "حلت عليه". ووقع في الطحاوي حديث ابن مسعود " وجبت له " ولا يجوز أن يكون حلت من

(2/95)


الحل لأنها لم تكن قبل ذلك محرمة. قوله: "شفاعتي" استشكل بعضهم جعل ذلك ثوابا لقائل ذلك مع ما ثبت من أن الشفاعة للمذنبين، وأجيب بأن له صلى الله عليه وسلم شفاعات أخرى: كإدخال الجنة بغير حساب، وكرفع الدرجات فيعطى كل أحد ما يناسبه. ونقل عياض عن بعض شيوخه أنه كان يرى اختصاص ذلك بمن قاله مخلصا مستحضرا إجلال النبي صلى الله عليه وسلم، لا من قصد بذلك مجرد الثواب ونحو ذلك، وهو تحكم غير مرضي، ولو كان أخرج الغافل اللاهي لكان أشبه. وقال المهلب: في الحديث الحض على الدعاء في أوقات الصلوات لأنه حال رجاء الإجابة، والله أعلم.

(2/96)


باب الستهام في الأذان
...
9 - باب الِاسْتِهَامِ فِي الأَذَانِ
وَيُذْكَرُ أَنَّ أَقْوَامًا اخْتَلَفُوا فِي الأَذَانِ فَأَقْرَعَ بَيْنَهُمْ سَعْدٌ
615- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ سُمَيٍّ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الأَوَّلِ ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلاَّ أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لاَسْتَهَمُوا وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ لاَسْتَبَقُوا إِلَيْهِ وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ لاَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا"
[ الحديث615- أطرافه في 2689,721,654]
قوله: "باب الاستهام في الأذان" أي الاقتراع، ومنه قوله تعالى: {فساهم فكان من المدحضين} قال الخطابي وغيره: قيل له الاستهام لأنهم كانوا يكتبون أسماءهم على سهام إذا اختلفوا في الشيء فمن خرج سهمه غلب.قوله: "ويذكر أن قوما اختلفوا" أخرجه سعيد بن منصور والبيهقي من طريق أبي عبيد كلاهما عن هشيم عن عبد الله بن شبرمة قال: "تشاح الناس في الأذان بالقادسية فاختصموا إلى سعد بن أبي وقاص، فأقرع بينهم. وهذا منقطع. وقد وصله سيف بن عمر في الفتوح والطبري من طريقه عنه عن عبد الله ابن شبرمة عن شقيق - وهو أبو وائل - قال: "افتتحنا القادسية صدر النهار، فتراجعنا وقد أصيب المؤذن " فذكره وزاد: "فخرجت القرعة لرجل منهم فأذن". "فائدة": القادسية مكان بالعراق معروف، نسب إلى قادس رجل نزل به، وحكى الجوهري أن إبراهيم عليه السلام قدس على ذلك المكان فلذلك صار منزلا للحاج، وكانت به وقعة للمسلمين مشهورة مع الفرس وذلك في خلافة عمر سنة خمس عشرة، وكان سعد يومئذ الأمير على الناس. قوله: "عن سمي" بضم أوله بلفظ التصغير. قوله: "مولى أبي بكر" أي ابن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام. قوله: "لو يعلم الناس" قال الطيبي: وضع المضارع موضع الماضي ليفيد استمرار العلم. قوله: "ما في النداء" أي الأذان، وهي رواية بشر بن عمر عن مالك عند السراج. قوله: "والصف الأول" زاد أبو الشيخ في رواية له من طريق الأعرج عن أبي هريرة " من الخير والبركة " وقال الطيبي: أطلق مفعول يعلم وهو ما ولم يبين الفضيلة ما هي ليفيد ضربا من المبالغة وأنه مما لا يدخل تحت الوصف، والإطلاق إنما هو في قدر الفضيلة وإلا فقد بينت في الرواية الأخرى بالخير والبركة. قوله: "ثم لم يجدوا" في رواية المستملي والحموي " ثم لا يجدون " وحكى الكرماني أن في بعض الروايات " ثم لا يجدوا " ووجهه بجواز حذف النون تخفيفا، ولم أقف على هذه الرواية. قوله: "إلا أن يستهموا" أي لم يجدوا شيئا من وجوه الأولوية، أما في الأذان فبأن يستووا في معرفة الوقت وحسن الصوت ونحو ذلك من شرائط المؤذن

(2/96)


وتكملاته، وأما في الصف الأول فبأن يصلوا دفعة واحدة، ويستووا في الفضل فيقرع بينهم، إذا لم يتراضوا فيما بينهم في الحالين. واستدل به بعضهم لمن قال بالاقتصار على مؤذن واحد، وليس بظاهر لصحة استهام أكثر من واحد في مقابلة أكثر من واحد، ولأن الاستهام على الأذان يتوجه من جهة التولية من الإمام لما فيه من المزية، وزعم بعضهم أن المراد بالاستهام هنا الترامي بالسهام، وأنه أخرج مخرج المبالغة. واستأنس بحديث لفظه: "لتجالدوا عليه بالسيوف " لكن الذي فهمه البخاري منه أولى، ولذلك استشهد له بقصة سعد، ويدل عليه رواية لمسلم: "لكانت قرعة". قوله: "عليه" أي على ما ذكر ليشمل الأمرين الأذان والصف الأول، وبذلك يصح تبويب المصنف. وقال ابن عبد البر: الهاء عائدة على الصف الأول لا على النداء، وهو حق الكلام، لأن الضمير يعود لأقرب مذكور. ونازعه القرطبي وقال: إنه يلزم منه أن يبقى النداء ضائعا لا فائدة له، قال: والضمير يعود على معنى الكلام المتقدم، ومثله قوله تعالى: {ومن يفعل ذلك يلق أثاما} أي جميع ذلك. قلت: وقد رواه عبد الرزاق عن مالك بلفظ: "لاستهموا عليهما " فهذا مفصح بالمراد من غير تكلف. قوله: "التهجير" أي التبكير إلى الصلاة، قال الهروي: وحمله الخليل وغيره على ظاهره فقالوا: المراد الإتيان إلى صلاة الظهر في أول الوقت، لأن التهجير مشتق من الهاجرة وهي شدة الحر نصف النهار وهو أول وقت الظهر، وإلى ذلك مال المصنف كمأ سيأتي، ولا يرد على ذلك مشروعية الإبراد لأنه أريد به الرفق، وأما من ترك قائلته وقصد إلى المسجد لينتظر الصلاة فلا يخفى ما له من الفضل. قوله: "لاستبقوا إليه" قال ابن أبي جمرة المراد بالاستباق معنى لا حسا، لأن المسابقة على الأقدام حسا تقتضي السرعة في المشي وهو ممنوع منه. انتهى. وسيأتي الكلام على بقية الحديث في " باب فضل صلاة العشاء في الجماعة " قريبا، ويأتي الكلام على المراد بالصف الأول في أواخر أبواب الإمامة إن شاء الله تعالى.

(2/97)


10 - باب الْكَلاَمِ فِي الأَذَانِ
وَتَكَلَّمَ سُلَيْمَانُ بْنُ صُرَدٍ فِي أَذَانِهِ وَقَالَ الْحَسَنُ لاَ بَأْسَ أَنْ يَضْحَكَ وَهُوَ يُؤَذِّنُ أَوْ يُقِيمُ
616- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ أَيُّوبَ وَعَبْدِ الْحَمِيدِ صَاحِبِ الزِّيَادِيِّ وَعَاصِمٍ الأَحْوَلِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ خَطَبَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ فِي يَوْمٍ رَدْغٍ فَلَمَّا بَلَغَ الْمُؤَذِّنُ حَيَّ عَلَى الصَّلاَةِ فَأَمَرَهُ أَنْ يُنَادِيَ الصَّلاَةُ فِي الرِّحَالِ فَنَظَرَ الْقَوْمُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ فَقَالَ فَعَلَ هَذَا مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ وَإِنَّهَا عَزْمَةٌ"

(2/97)


ذلك المحل. قوله: "وتكلم سليمان بن صرد في أذانه" وصله أبو نعيم شيخ البخاري في كتاب الصلاة له، وأخرجه البخاري في التاريخ عنه وإسناده صحيح ولفظه: "أنه كان يؤذن في العسكر فيأمر غلامه بالحاجة في أذانه". قوله: "وقال الحسن" لم أره موصولا، والذي أخرجه ابن أبي شيبة وغيره من طرق عنه جواز الكلام بغير قيد الضحك، قيل مطابقته للترجمة من جهة أن الضحك إذا كان بصوت قد يظهر منه حرف مفهم أو أكثر فتفسد الصلاة، ومن منع الكلام في الأذان أراد أن يساويه بالصلاة، وقد ذهب الأكثر إلى أن تعمد الضحك يبطل الصلاة ولو لم يظهر منه حرف، فاستوى مع الكلام في بطلان الصلاة بعمده. قوله: "حماد" هو ابن زيد، وعبد الحميد هو ابن دينار، وعبد الله بن الحارث هو البصري ابن عم ابن سيرين وزوج ابنته وهو تابعي صغير، ورواية الثلاثة عنه من باب رواية الأقران لأن الثلاثة من صغار التابعين، ورجال الإسناد كلهم بصريون، وقد جمعهم حماد كمسدد كما هنا، وكذلك رواه سليمان بن حرب عنه عند أبي عوانة وأبي نعيم في المستخرج، وكان حماد ربما اقتصر على بعضهم كما سيأتي قريبا في " باب هل يصلي الإمام بمن حضر " عن عبد الله بن عبد الوهاب الحجبي عن حماد عن عبد الحميد وعن عاصم فرقهما، ورواه مسلم عن الربيع عن حماد عن أيوب وعاصم من طرق أخرى منها وهيب عن أيوب، وحكى عن وهيب أن أيوب لم يسمعه من عبد الله بن الحارث وفيه نظر، لأن في رواية سليمان بن حرب عن حماد عن أيوب وعبد الحميد قالا: سمعنا عبد الله بن الحارث كذلك أخرجه الإسماعيلي وغيره، ولمسدد فيه شيخ آخر وهو ابن علية كما سيأتي في كتاب الجمعة إن شاء الله. قوله: "خطبنا" استدل به ابن الجوزي على أن الصلاة المذكورة كانت الجمعة، وفيه نظر. نعم وقع التصريح بذلك في رواية ابن علية ولفظه: "أن الجمعة عزمة". قوله: "في يوم رزغ" بفتح الراء وسكون الزاي بعدها غين معجمة كذا للأكثر هنا، ولابن السكن والكشميهني وأبي الوقت بالدال المهملة بدل الزاي. وقال القرطبي، إنها أشهر. وقال: والصواب الفتح فإنه الاسم، وبالسكون المصدر. انتهى. وبالفتح رواية القابسي، قال صاحب المحكم: الرزغ الماء القليل في الثماد، وقيل إنه طين وحل، وفي العين: الردغة الوحل والرزغة أشد منها. وفي الجمهرة والردغة والرزغة الطين القليل من مطر أو غيره. "تنبيه": وقع هنا يوم رزغ بالإضافة. وفي رواية الحجبي الآتية في يوم ذي رزغ وهي أوضح. وفي رواية ابن علية في يوم مطير. قوله: "فلما بلغ المؤذن حي على الصلاة فأمره" كذا فيه، وكأن هنا حذفا تقديره أراد أن يقولها فأمره، ويؤيده رواية ابن علية " إذا قلت أشهد أن محمدا رسول الله فلا تقل حي على الصلاة " وبوب عليه ابن خزيمة وتبعه ابن حبان ثم المحب الطبري حذف " حي على الصلاة في يوم المطر " وكأنه نظر إلى المعنى لأن حي على الصلاة والصلاة في الرحال وصلوا في بيوتكم يناقض ذلك، وعند الشافعية وجه أنه يقول ذلك بعد الأذان، وآخر أنه يقوله بعد الحيعلتين، والذي يقتضيه الحديث ما تقدم. وقوله: "الصلاة في الرحال " بنصب الصلاة والتقدير صلوا الصلاة، والرحال جمع رحل وهو مسكن الرجل وما فيه من أثاثه. قال النووي: فيه أن هذه الكلمة تقال في نفس الأذان. وفي حديث ابن عمر يعني الآتي في " باب الأذان للمسافر " أنها تقال بعده، قال: والأمران جائزان كما نص عليه الشافعي، لكن بعده أحسن ليتم نظم الأذان. قال: ومن أصحابنا من يقول لا يقوله إلا بعد الفراغ، وهو ضعيف مخالف لصريح حديث ابن عباس. انتهى. وكلامه يدل على أنها تزاد مطلقا إما في أثنائه وإما بعده، لا أنها بدل من حي على الصلاة، وقد تقدم عن ابن خزيمة ما يخالفه، وقد ورد الجمع بينهما في حديث آخر أخرجه عبد الرزاق

(2/98)


وغيره بإسناد صحيح عن نعيم ابن النحام قال: "أذن مؤذن النبي صلى الله عليه وسلم للصبح في ليلة باردة، فتمنيت لو قال: ومن قعد فلا حرج. فلما قال الصلاة خير من النوم قالها". قوله: "فقال فعل هذا" كأنه فهم من نظرهم الإنكار. وفي رواية الحجبي " كأنهم أنكروا ذلك " وفي رواية ابن علية " فكأن الناس استنكروا ذلك". قوله: "من هو خير منه" وللكشميهني: "منهم " وللحجبي " مني " يعني النبي صلى الله عليه وسلم، كذا في أصل الرواية، ومعني رواية الباب من هو خير من المؤذن، يعني فعله مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو خير من هذا المؤذن، وأما رواية الكشميهني ففيها نظر، ولعل من أذن كانوا جماعة إن كانت محفوظة، أو أراد جنس المؤذنين، أو أراد خير من المنكرين. قوله: "وإنها" أي الجمعة كما تقدم "عزمة" بسكون الزاي ضد الرخصة، زاد ابن علية " وإني كرهت أن أخرجكم فتمشون في الطين " وفي رواية الحجبي من طريق عاصم " إلى أؤثمكم " وهي ترجح رواية من روى " أحرجكم " بالحاء المهملة. وفي رواية جرير عن عاصم عند ابن خزيمة: "أن أخرج الناس وأكلفهم أن يحملوا الخبث من طرقهم إلى مسجدكم " وسيأتي الكلام على ما يتعلق بسقوط الجمعة بعذر المطر في كتاب الجمعة إن شاء الله تعالى. ومطابقة الحديث للترجمة أنكرها الداودي فقال: لا حجة فيه على جواز الكلام في الأذان، بل القول المذكور من جملة الأذان في ذلك المحل، وتعقب بأنه وإن ساغ ذكره في هذا المحل لكنه ليس من ألفاظ الأذان المعهود، وطريق بيان المطابقة أن هذا الكلام لما جازت زيادته في الأذان للحاجة إليه دل على جواز الكلام في الأذان لمن يحتاج إليه.

(2/99)


11 - باب أَذَانِ الأَعْمَى إِذَا كَانَ لَهُ مَنْ يُخْبِرُهُ
617- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إِنَّ بِلاَلًا يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُنَادِيَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ ثُمَّ قَالَ وَكَانَ رَجُلًا أَعْمَى لاَ يُنَادِي حَتَّى يُقَالَ لَهُ أَصْبَحْتَ أَصْبَحْتَ
[الحديث617- أطرافه في 7248,2656,1918,623,620]
قوله: "باب أذان الأعمى" أي جوازه. قوله: "إذا كان له من يخبره" أي بالوقت، لأن الوقت في الأصل مبني على المشاهدة، وعلى هذا القيد يحمل ما روى ابن أبي شيبة وابن المنذر عن ابن مسعود وابن الزبير وغيرهما أنهم كرهوا أن يكون المؤذن أعمى، وأما ما نقله النووي عن أبي حنيفة وداود أن أذان الأعمى لا يصح فقد تعقبه السروجي بأنه غلط على أبي حنيفة، نعم في المحيط للحنفية أنه يكره. قوله: "حدثنا عبد الله بن مسلمة" هو القعنبي، قال الدار قطني: تفرد القعنبي بروايته إياه في الموطأ موصولا عن مالك، ولم يذكر غيره من رواة الموطأ فيه ابن عمر، ووافقه على وصله عن مالك - خارج الموطأ - عبد الرحمن بن مهدي وعبد الرزاق وروح بن عبادة وأبو قرة وكامل بن طلحة وآخرون، ووصله عن الزهري جماعة من حفاظ أصحابه. قوله: "إن بلالا يؤذن بليل" فيه إشعار بأن ذلك كان من عادته المستمرة، وزعم بعضهم أن ابتداء ذلك باجتهاد منه، وعلى تقدير صحته فقد أقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك فصار في حكم المأمور به، وسيأتي الكلام على تعيين الوقت الذي كان يؤذن فيه من الليل بعد باب. قوله: "فكلوا" فيه إشعار بأن الأذان كان علامة عندهم على دخول الوقت فبين لهم أن أذان بلال بخلاف ذلك. قوله: "ابن أم مكتوم" اسمه عمرو كما سيأتي موصولا في الصيام وفضائل القرآن، وقيل: كان اسمه الحصين فسماه

(2/99)


النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله، ولا يمتنع أنه كان له اسمان، وهو قرشي عامري، أسلم قديما، والأشهر في اسم أبيه قيس بن زائدة. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكرمه ويستخلفه على المدينة، وشهد القادسية في خلافة عمر فاستشهد بها، وقيل رجع إلى المدينة فمات، وهو الأعمى المذكور في سورة عبس، واسم أمه عاتكة بنت عبد الله المخزومية. وزعم بعضهم أنه ولد أعمى فكنيت أمه أم مكتوم لانكتام نور بصره، والمعروف أنه عمي بعد بدر بسنتين صلى الله عليه وسلم. قوله: "وكان رجلا أعمى" ظاهره أن فاعل قال هو ابن عمر، وبذلك جزم الشيخ الموفق في " المغني " لكن رواه الإسماعيلي عن أبي خليفة والطحاوي عن يزيد بن سنان كلاهما عن القعنبي فعينا أنه ابن شهاب، وكذلك رواه إسماعيل بن إسحاق ومعاذ بن المثنى وأبو مسلم الكجي الثلاثة عند الدار قطني، والخزاعي عند أبي الشيخ، وتمام عند أبي نعيم، وعتمان الدارمي عند البيهقي، كلهم عن القعنبي. وعلى هذا ففي رواية البخاري إدراج. ويجاب عن ذلك بأنه لا يمنع كون ابن شهاب قاله أن يكون شيخه قاله، وكذا شيخ شيخه، وقد رواه البيهقي من رواية الربيع بن سليمان عن ابن وهب عن يونس والليث جميعا عن ابن شهاب وفيه: "قال سالم: وكان رجلا ضرير البصر " ففي هذا أن شيخ ابن شهاب قاله أيضا، وسيأتي في كتاب الصيام عن المصنف من وجه آخر عن ابن عمر ما يؤدي معناه، وسنذكر لفظه قريبا، فثبتت صحة وصله. ولابن شهاب فيه شيخ آخر أخرجه عبد الرزاق عن معمر عنه عن سعيد بن المسيب وفيه الزيادة، قال ابن عبد البر: هو حديث آخر لابن شهاب، وقد وافق ابن إسحاق معمرا فيه عن ابن شهاب. قوله: "أصبحت أصبحت" أي دخلت في الصباح، هذا ظاهره، واستشكل لأنه جعل أذانه غاية للأكل، فلو لم يؤذن حتى يدخل في الصباح للزم منه جواز الأكل بعد طلوع الفجر، والإجماع على خلافه إلا من شذ كالأعمش. وأجاب ابن حبيب وابن عبد البر والأصيلي وجماعة من الشراح بأن المراد قاربت الصباح ويعكر على هذا الجواب أن في رواية الربيع التي قدمناها " ولم يكن يؤذن حتى يقول له الناس حين ينظرون إلى بزوغ الفجر: أذن " وأبلغ من ذلك أن لفظ رواية المصنف التي في الصيام " حتى يؤذن ابن أم مكتوم، فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر " وإنما قلت إنه أبلغ لكون جميعه من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وأيضا فقوله: "إن بلالا يؤذن بليل " يشعر أن ابن أم مكتوم بخلافه، ولأنه لو كان قبل الصبح لم يكن بينه وبين بلال فرق لصدق أن كلا منهما أذن قبل الوقت، وهذا الموضع عندي في غاية الإشكال، وأقرب ما يقال فيه إن أذانه جعل علامة لتحريم الأكل والشرب، وكأنه كان له من يراعي الوقت بحيث يكون أذانه مقارنا لابتداء طلوع الفجر وهو المراد بالبزوغ، وعند أخذه في الأذان يعترض الفجر في الأفق، ثم ظهر لي أنه لا يلزم من كون المراد بقولهم " أصبحت " أي قاربت الصباح وقوع أذانه قبل الفجر لاحتمال أن يكون قولهم ذلك يقع في آخر جزء من الليل وأذانه يقع في أول جزء من طلوع الفجر، وهذا وإن كان مستبعدا في العادة فليس بمستبعد من مؤذن النبي صلى الله عليه وسلم المؤيد بالملائكة، فلا يشاركه فيه من لم يكن بتلك الصفة، وقد روى أبو قرة من وجه آخر عن ابن عمر حديثا فيه: "وكان ابن أم مكتوم يتوخى الفجر فلا يخطئه". وفي هذا الحديث جواز الأذان قبل طلوع الفجر، وسيأتي بعد باب، واستحباب أذان واحد بعد واحد. وأما
ـــــــ
(1)هذا فيه نظر . لأن ظاهر القرآن يدل على أنه عمى قبل الهجرة , لأن سورة عبس , النازله فيه مكية , وقد وصفه الله بأنه أعمى . فتنبه

(2/100)


أذان اثنين معا فمنع منه قوم، ويقال إن أول من أحدثه بنو أمية. وقال الشافعية: لا يكره إلا إن حصل من ذلك تهويش، واستدل به على جواز اتخاذ مؤذنين في المسجد الواحد، قال ابن دقيق العيد: وأما الزيادة على الاثنين فليس في الحديث تعرض له. انتهى. ونص الشافعي على جوازه ولفظه: ولا يتضيق صلى الله عليه وسلم إن أذن أكثر من اثنين، وعلى جواز تقليد الأعمى للبصير في دخول الوقت وفيه أوجه، واختلف فيه الترجيح، وصحح النووي في كتبه أن للأعمى والبصير اعتماد المؤذن الثقة، وعلى جواز شهادة الأعمى، وسيأتي ما فيه في كتاب الشهادات. وعلى جواز العمل بخبر الواحد، وعلى أن ما بعد الفجر من حكم النهار، وعلى جواز الأكل مع الشك في طلوع الفجر لأن الأصل بقاء الليل، وخالف في ذلك مالك فقال: يجب القضاء. وعلى جواز الاعتماد على الصوت في الرواية إذا كان عارفا به وإن لم يشاهد الراوي، وخالف في ذلك شعبة لاحتمال الاشتباه. وعلى جواز ذكر الرجل بما فيه من العاهة إذا كان يقصد التعريف ونحوه، وجواز نسبة الرجل إلى أمه إذا اشتهر بذلك واحتيج إليه.

(2/101)


3 - باب الأَذَانِ بَعْدَ الْفَجْرِ
618- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ "أَخْبَرَتْنِي حَفْصَةُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا اعْتَكَفَ الْمُؤَذِّنُ لِلصُّبْحِ وَبَدَا الصُّبْحُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ تُقَامَ الصَّلاَةُ"
[ الحديث 618- طرفاه في : 1181,1173]
619-حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ "كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ بَيْنَ النِّدَاءِ وَالإِقَامَةِ مِنْ صَلاَةِ الصُّبْحِ"
620-حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إِنَّ بِلاَلًا يُنَادِي بِلَيْلٍ فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُنَادِيَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ"
قوله: "باب الأذان في الفجر" قال الزين بن المنير: قدم المصنف ترجمة الأذان بعد الفجر على ترجمة الأذان قبل الفجر فخالف الترتيب الوجودي، لأن الأصل في الشرع أن لا يؤذن إلا بعد دخول الوقت، فقدم ترجمة الأصل على ما ندر عنه. وأشار ابن بطال إلى الاعتراض على الترجمة بأنه لا خلاف فيه بين الأئمة، وإنما الخلاف في جوازه قبل الفجر. والذي يظهر لي أن مراد المصنف بالترجمتين أن يبين أن المعنى الذي كان يؤذن لأجله قبل الفجر غير المعنى الذي كان يؤذن لأجله بعد الفجر، وأن الأذان قبل الفجر لا يكتفى به عن الأذان بعده، وأن أذان ابن أم مكتوم لم يكن يقع قبل الفجر، والله أعلم. قوله: "كان إذا اعتكف المؤذن للصبح" هكذا وقع عند جمهور رواة البخاري وفيه نظر، وقد استشكله كثير من العلماء، ووجهه بعضهم كما سيأتي، والحديث في الموطأ عند جميع رواته بلفظ
ـــــــ
(1) في مخطوطة الرياض " ولا يضر"

(2/101)


"كان إذا سكت المؤذن من الأذان لصلاة الصبح " وكذا رواه مسلم وغيره وهو الصواب، وقد أصلح في رواية ابن شبويه عن الفربري كذلك. وفي رواية الهمداني " كان إذا أذن " بدل اعتكف، وهي أشبه بالرواية المصوبة. ووقع في رواية النسفي عن البخاري بلفظ كان إذا اعتكف وأذن المؤذن وهو يقتضي أن صنيعه ذلك كان مختصا بحال اعتكافه، وليس كذلك، والظاهر أنه من إصلاحه. وقد أطلق جماعة من الحفاظ القول بأن الوهم فيه من عبد الله بن يوسف شيخ البخاري، ووجه ابن بطال وغيره بأن معنى " اعتكف المؤذن " أي لازم ارتقابه ونظره إلى أن يطلع الفجر ليؤذن عند أول إدراكه. قالوا: وأصل العكوف لزوم الإقامة بمكان واحد، وتعقب بأنه يلزم منه أنه كان لا يصليهما إلا إذا وقع ذلك من المؤذن لما يقتضيه مفهوم الشرط، وليس كذلك لمواظبته عليهما مطلقا، والحق أن لفظ: "اعتكف " محرف من لفظ: "سكت " وقد أخرجه المؤلف في باب الركعتين بعد الظهر من طريق أيوب عن نافع بلفظ: "كان إذا أذن المؤذن وطلع الفجر". قوله: "وبدا الصبح" بغير همز أي ظهر، وأغرب الكرماني فصحح أنه بالنون المكسورة والهمزة بعد المد، وكأنه ظن أنه معطوف على قوله: "للصبح " فيكون التقدير واعتكف لنداء الصبح، وليس كذلك فإن الحديث في جميع النسخ من الموطأ والبخاري ومسلم وغيرها بالباء الموحدة المفتوحة وبعد الدال ألف مقصورة والواو فيه واو الحال لا واو العطف، وبذلك تتم مطابقة الحديث للترجمة، وسيأتي بقية الكلام عليه في أبواب التطوع إن شاء الله تعالى.قوله: "عن عبد الله بن دينار" هذا إسناد آخر لمالك في هذا الحديث، قال ابن عبد البر: لم يختلف عليه فيه، واعترض ابن التيمي فقال: هذا الحديث لا يدل على الترجمة، لجعله غاية الأكل ابتداء أذان ابن أم مكتوم، فدل على أن أذانه كان يقع قبل الفجر بقليل. وجوابه ما تقدم تقريره في الباب الذي قبله. وقال الزين بن المنير: الاستدلال بحديث ابن عمر أوجه من غيره، فإن قوله: "حتى ينادي ابن أم مكتوم " يقتضي أنه ينادي حين يطلع الفجر، لأنه لو كان ينادي قبله لكان كبلال ينادي بليل. "تنبيه": قال ابن منده حديث عبد الله بن دينار مجمع على صحته، رواه جماعة من أصحابه عنه، ورواه عنه شعبة فاختلف عليه فيه: رواه يزيد بن هارون عنه على الشك أن بلالا كما هو المشهور، أو " أن ابن أم مكتوم ينادي بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن بلال". قال: ولشعبة فيه إسناد آخر، فإنه رواه أيضا عن خبيب بن عبد الرحمن عن عمته أنيسة فذكره على الشك أيضا، أخرجه أحمد عن غندر عنه، ورواه أبو داود الطيالسي عنه جازما بالأول، ورواه أبو الوليد عنه جازما بالثاني، وكذا أخرجه ابن خزيمة وابن المنذر وابن حبان من طرق عن شعبة، وكذلك أخرجه الطحاوي والطبراني من طريق منصور بن زاذان عن خبيب بن عبد الرحمن، وادعى ابن عبد البر وجماعة من الأئمة بأنه مقلوب وأن الصواب

(2/102)


حديث الباب، وقد كنت أميل إلى ذلك إلى أن رأيت الحديث في صحيح ابن خزيمة من طريقين آخرين عن عائشة، وفي بعض ألفاظه ما يبعد وقوع الوهم فيه وهو قوله: "إذا أذن عمرو فإنه ضرير البصر فلا يغرنكم، وإذا أذن بلال فلا يطعمن أحد " وأخرجه أحمد، وجاء عن عائشة أيضا أنها كانت تنكر حديث ابن عمر وتقول إنه غلط، أخرج ذلك البيهقي من طريق الدراوردي عن هشام عن أبيه عنها فذكر الحديث وزاد: "قالت عائشة: وكان بلال يبصر الفجر " قال: وكانت عائشة تقول: غلط ابن عمر. انتهى. وقد جمع خزيمة والضبعي بين الحديثين بما حاصله: أنه يحتمل أن يكون الأذان كان نوبا بين بلال وابن أم مكتوم، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم الناس أن أذان الأول منهما لا يحرم على الصائم شيئا ولا يدل على دخول وقت الصلاة بخلاف الثاني. وجزم ابن حبان بذلك ولم يبده احتمالا، وأنكر ذلك عليه الضياء وغيره، وقيل: لم يكن نوبا، وإنما كانت لهما حالتان مختلفتان: فإن بلالا كان في أول ما شرع الأذان يؤذن وحده ولا يؤذن للصبح حتى يطلع الفجر، وعلى ذلك تحمل رواية عروة عن امرأة من بني النجار قالت: "كان بلال يجلس على بيتي وهو أعلى بيت في المدينة، فإذا رأى الفجر تمطأ ثم أذن " أخرجه أبو داود وإسناده حسن، ورواية حميد عن أنس " أن سائلا سأل عن وقت الصلاة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا فأذن حين طلع الفجر " الحديث أخرجه النسائي وإسناده صحيح، ثم أردف بابن أم مكتوم وكان يؤذن بليل واستمر بلال على حالته الأولى، وعلى ذلك تنزل رواية أنيسة وغيرها، ثم في آخر الأمر أخر ابن أم مكتوم لضعفه ووكل به من يراعي له الفجر، واستقر أدان بلال بليل، وكان سبب ذلك ما روي أنه ربما كان أخطأ الفجر فأذن قبل طلوعه، وأنه أخطأ مرة فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجع فيقول: "ألا إن العبد نام " يعني أن غلبة النوم على عينيه منعته من تبين الفجر، وهو حديث أخرجه أبو داود وغيره من طريق حماد بن سلمة عن أيوب عن نافع عن ابن عمر موصولا مرفوعا ورجاله ثقات حفاظ، لكن اتفق أئمة الحديث على ابن المديني وأحمد ابن حنبل والبخاري والذهلي وأبو حاتم وأبو داود والترمذي والأثرم والدار قطني على أن حمادا أخطأ في رفعه، وأن الصواب وقفه على عمر بن الخطاب، وأنه هو الذي وقع له ذلك مع مؤذنه وأن حمادا انفرد برفعه، ومع ذلك فقد وجد له متابع، أخرجه البيهقي من طريق سعيد بن زربي وهو بفتح الزاي وسكون الراء بعدها موحدة ثم ياء كياء النسب فرواه عن أيوب موصولا لكن سعيد ضعيف. ورواه عبد الرزاق عن معمر عن أيوب أيضا، لكنه أعضله فلم يذكر نافعا ولا ابن عمر. وله طريق أخرى عن نافع عند الدار قطني وغيره اختلف في رفعها ووقفها أيضا، وأخرى مرسلة من طريق يونس بن عبيد وغيره عن حميد بن هلال وأخرى من طريق سعيد عن قتادة مرسلة ووصلها يونس عن سعيد بذكر أنس، وهذه طرق يقوي بعضها بعضا قوة ظاهرة، فلهذا والله أعلم استقر أن بلالا يؤذن الأذان الأول، وسنذكر اختلافهم في تعيين الوقت المراد من قوله: "يؤذن بليل " في الباب الذي بعد هذا

(2/103)


13 - باب الأَذَانِ قَبْلَ الْفَجْرِ
621- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ قَالَ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ قَالَ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لاَ يَمْنَعَنَّ أَحَدَكُمْ أَوْ أَحَدًا مِنْكُمْ أَذَانُ بِلاَلٍ مِنْ سَحُورِهِ فَإِنَّهُ يُؤَذِّنُ أَوْ يُنَادِي بِلَيْلٍ لِيَرْجِعَ قَائِمَكُمْ وَلِيُنَبِّهَ نَائِمَكُمْ وَلَيْسَ أَنْ يَقُولَ الْفَجْرُ أَوْ الصُّبْحُ وَقَالَ بِأَصَابِعِهِ وَرَفَعَهَا

(2/103)


إِلَى فَوْقُ وَطَأْطَأَ إِلَى أَسْفَلُ حَتَّى يَقُولَ هَكَذَا" وَقَالَ زُهَيْرٌ بِسَبَّابَتَيْهِ إِحْدَاهُمَا فَوْقَ الأُخْرَى ثُمَّ مَدَّهَا عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ
[الحديث621- طرفاه في : 7247,5298]
622و623- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو أُسَامَةَ قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ حَدَّثَنَا عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ وَعَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "ح و حَدَّثَنِي يُوسُفُ بْنُ عِيسَى الْمَرْوَزِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى قَالَ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّ بِلاَلًا يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُؤَذِّنَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ"
[الحديث622- طرفه في : 1919]
قوله: "باب الأذان قبل الفجر" أي ما حكمه؟ هل يشرع أو لا؟ وإذا شرع هل يكتفى به عن إعادة الأذان بعد الفجر أو لا؟ وإلى مشروعيته مطلقا ذهب الجمهور. وخالف الثوري وأبو حنيفة ومحمد، وإلى الاكتفاء مطلقا ذهب مالك والشافعي وأحمد وأصحابهم، وخالف ابن خزيمة وابن المنذر وطائفة من أهل الحديث وقال به الغزالي في الإحياء، وادعى بعضهم أنه لم يرد في شيء من الحديث ما يدل على الاكتفاء، وتعقب بحديث الباب، وأجيب بأنه مسكوت عنه فلا يدل، وعلى التنزل فمحله فيما إذا لم يرد نطق بخلافه، وهنا قد ورد حديث ابن عمر وعائشة بما يشعر بعدم الاكتفاء، وكأن هذا هو السر في إيراد البخاري لحديثهما في هذا الباب عقب حديث ابن مسعود، نعم حديث زياد بن الحارث عند أبي داود يدل على الاكتفاء، فإن فيه أنه أذن قبل الفجر بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه استأذنه في الإقامة فمنعه، إلى أن طلع الفجر فأمره فأقام، لكن في إسناده ضعف. وأيضا فهي واقعة عين وكانت في سفر، ومن ثم قال القرطبي: إنه مذهب واضح، غير أن العمل المنقول بالمدينة على خلافه. انتهى. فلم يرده إلا بالعمل على قاعدة المالكية. وادعى بعض الحنفية - كما حكاه السروجي منهم - أن النداء قبل الفجر لم يكن بألفاظ الأذان، وإنما كان تذكيرا أو تسحيرا كما يقع للناس اليوم، وهذا مردود، لكن الذي يصنعه الناس اليوم محدث قطعا، وقد تضافرت الطرق على التعبير بلفظ الأذان، فحمله على معناه الشرعي مقدم، ولأن الأذان الأول لو كان بألفاظ مخصوصة لما التبس على السامعين. وسياق الخبر يقتضي أنه خشي عليهم الالتباس. وادعى ابن القطان أن ذلك كان في رمضان خاصة وفيه نظر. قوله: "زهير" هو ابن معاوية الجعفي. قوله: "عن أبي عثمان" في رواية ابن خزيمة من طريق معتمر بن سليمان عن أبيه " حدثنا أبو عثمان " ولم أر هذا الحديث من حديث ابن مسعود في شيء من الطرق إلا من رواية أبي عثمان عنه، ولا من رواية أبي عثمان إلا من رواية سليمان التيمي عنه. واشتهر عن سليمان، وله شاهد في صحيح مسلم من حديث سمرة بن جندب. قوله: "أحدكم أو أحد منكم" شك من الراوي وكلاهما يفيد العموم وإن اختلفت الحيثية. قوله: "من سحوره" بفتح أوله اسم لما يؤكل في السحر، ويجوز الضم وهو اسم الفعل. قوله: "ليرجع" بفتح الياء وكسر الجيم المخففة يستعمل هذا لازما ومتعديا، يقال رجع زيد ورجعت زيدا ولا يقال في المتعدي بالتثقيل. فعلى هذا من رواه بالضم والتثقيل أخطأ فإنه يصير من الترجيع وهو الترديد، وليس مرادنا هنا، وإنما معناه يرد القائم - أي المتهجد - إلى راحته ليقوم إلى صلاة الصبح نشيطا، أو

(2/104)


يكون له حاجة إلى الصيام فيتسحر، ويوقظ النائم ليتأهب لها بالغسل ونحوه، وتمسك الطحاوي بحديث ابن مسعود هذا لمذهبه فقال: فقد أخبر أن ذلك النداء كان لما ذكر لا للصلاة. وتعقب بأن قوله: "لا للصلاة " زيادة في الخبر، وليس فيه حصر فيما ذكر، فإن قيل تقدم في تعريف الأذان الشرعي أنه إعلام بدخول وقت الصلاة بألفاظ مخصوصة والأذان قبل الوقت، ليس إعلاما بالوقت، فالجواب أن الإعلام بالوقت أعم من أن يكون إعلاما بأنه دخل أو قارب أن يدخل، وإنما اختصت الصبح بذلك من بين الصلوات لأن الصلاة في أول وقتها مرغب فيه، والصبح يأتي غالبا عقب نوم فناسب أن ينصب من يوقظ الناس قبل دخول وقتها ليتأهبوا ويدركوا فضيلة أول الوقت، والله أعلم. قوله: "وليس أن يقول الفجر" فيه إطلاق القول على الفعل أي يظهر، وكذا قوله: "وقال بأصابعه ورفعها" أي أشار. وفي رواية الكشميهني. " بإصبعيه ورفعهما". قوله: "إلى فوق" بالضم على البناء، وكذا "أسفل" لنية المضاف إليه دون لفظه نحو "لله الأمر من قبل ومن بعد". قوله: "وقال زهير" أي الراوي، وهي أيضا بمعنى أشار، وكأنه جمع بين إصبعيه ثم فرقهما ليحكي صفة الفجر الصادق لأنه يطلع معترضا ثم يعم الأفق ذاهبا يمينا وشمالا، بخلاف الفجر الكاذب وهو الذي تسميه العرب " ذنب السرحان " فإنه يظهر في أعلى السماء ثم ينخفض، وإلى ذلك أشار بقوله رفع وطأطأ رأسه. وفي رواية الإسماعيلي من طريق عيسى بن يونس عن سليمان " فإن الفجر ليس هكذا ولا هكذا، ولكن الفجر هكذا " فكأن أصل الحديث كان بهذا اللفظ مقرونا بالإشارة الدالة على المراد، وبهذا اختلفت عبارة الرواة، وأخصر ما وقع فيها رواية جرير عن سليمان عند مسلم: "وليس الفجر المعترض ولكن المستطيل". قوله: "حدثني إسحاق" لم أره منسوبا، وتردد فيه الجياني، وهو عندي ابن إبراهيم الحنظلي المعروف بابن راهويه كما جزم به المزي، ويدل عليه تعبيره بقوله: "أخبرنا " فإنه لا يقول قط حدثنا بخلاف إسحاق ابن منصور وإسحاق نن نصر، وأما ما وقع بخط الدمياطي أنه الواسطي ثم فسره بأنه ابن شاهين فليس بصواب لأنه لا يعرف له عن أبي أسامة شيء، لأن أبا أسامة كوفي وليس في شيوخ ابن شاهين أحد من أهل الكوفة. قوله: "قال عبيد الله حدثنا" فاعل قال أبو أسامة، وعبيد الله قائل حدثنا، فالتقدير حدثنا عبيد الله. قوله: "عن نافع" هو معطوف على " عن القاسم بن محمد". والحاصل أنه أخرج الحديث عن عبيد الله بن عمر من وجهين: الأول ذكر له فيه إسناد بن نافع عن ابن عمر والقاسم عن عائشة، وأما الثاني فاقتصر فيه على الإسناد الثاني. قوله: "حتى يؤذن" في رواية الكشميهني: "حتى ينادي"، وقد أورده في الصيام بلفظ: "يؤذن " وزاد في آخره: "فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر " قال القاسم: لم يكن بين أذانيهما إلا أن يرقى ذا وينزل ذا، وفي هذا تقييد لما أطلق في الروايات الآخرى من قوله: "إن بلالا يؤذن بليل"، ولا يقال إنه مرسل لأن القاسم تابعي فلم يدرك القصة المذكورة، لأنه ثبت عند النسائي من رواية حفص بن غياث، وعند الطحاوي من رواية يحيى القطان كلاهما عن عبيد الله بن عمر عن القاسم عن عائشة فذكر الحديث قالت: "ولم يكن بينهما إلا أن ينزل هذا ويصعد هذا " وعلى هذا فمعنى قوله في رواية البخاري " قال القاسم " أي في روايته عن عائشة. وقد وقع عند مسلم في رواية ابن نمير عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر مثل هذه الزيادة، وفيها نظر أوضحته في كتاب " المدرج " وثبتت الزيادة أيضا في حديث أنيسة الذي تقدمت الإشارة إليه، وفيه حجة لمن ذهب إلى أن الوقت الذي يقع فيه الأذان قبل الفجر هو وقت السحور، وهو أحد الأوجه في المذهب واختاره السبكي في شرح المنهاج وحكى تصحيحه عن

(2/105)


القاضي حسين والمتولي وقطع به البغوي، وكلام ابن دقيق العيد يشعر به، فإنه قال بعد أن حكاه: يرجح هذا بأن قوله: "إن بلالا ينادي بليل " خبر يتعلق به فائدة للسامعين قطعا، وذلك إذا كان وقت الأذان مشتبها محتملا لأن يكون عند طلوع الفجر فبين صلى الله عليه وسلم أن ذلك لا يمنع الأكل والشرب بل الذي يمنعه طلوع الفجر الصادق، قال: وهذا يدل على تقارب وقت أذان بلال من الفجر. انتهى. ويقويه أيضا ما تقدم من أن الحكمة في مشروعيته التأهب لإدراك الصبح في أول وقتها، وصحح النووي في أكثر كتبه أن مبدأه من نصف الليل الثاني، وأجاب عن الحديث في شرح مسلم فقال: قال العلماء معناه أن بلالا كان يؤذن ويتربص بعد أذانه للدعاء ونحوه، فإذا قارب طلوع الفجر نزل فأخبر ابن أم مكتوم فيتأهب بالطهارة وغيرها ثم يرقى ويشرع في الأذان مع أول طلوع الفجر. وهذا - مع وضوح مخالفته لسياق الحديث - يحتاج إلى دليل خاص لما صححه حتى يسوغ له التأويل. ووراء ذلك أقوال أخرى معروفة في الفقهيات. واحتج الطحاوي لعدم مشروعية الأذان قبل الفجر بقوله: لما كان بين أذانيهما من القرب ما ذكر في حديث عائشة ثبت أنهما كانا يقصدان وقتا واحدا وهو طلوع الفجر فيخطئه بلال ويصيبه ابن أم مكتوم. وتعقب بأنه لو كان كذلك لما أقره النبي صلى الله عليه وسلم مؤذنا واعتمد عليه، ولو كان كما ادعى لكان وقوع ذلك منه نادرا. وظاهر حديث ابن عمر يدل على أن ذلك كان شأنه وعادته، والله أعلم.

(2/106)


14 - باب كَمْ بَيْنَ الأَذَانِ وَالإِقَامَةِ وَمَنْ يَنْتَظِرُ الإِقَامَةَ
624- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ الْوَاسِطِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ الْجُرَيْرِيِّ عَنْ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ الْمُزَنِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلاَةٌ ثَلاَثًا لِمَنْ شَاءَ"
[الحديث624- طرفه في : 627]
625- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ سَمِعْتُ عَمْرَو بْنَ عَامِرٍ الأَنْصَارِيَّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ كَانَ الْمُؤَذِّنُ إِذَا أَذَّنَ قَامَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَبْتَدِرُونَ السَّوَارِيَ حَتَّى يَخْرُجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ كَذَلِكَ يُصَلُّونَ الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْمَغْرِبِ وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ الأَذَانِ وَالإِقَامَةِ شَيْءٌ قَالَ عُثْمَانُ بْنُ جَبَلَةَ وَأَبُو دَاوُدَ عَنْ شُعْبَةَ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا إِلاَّ قَلِيلٌ"
قوله: "باب كم بين الأذان والإقامة" أما " باب " فهو في روايتنا بلا تنوين و " كم " استفهامية ومميزها محذوف وتقديره ساعة أو صلاة أو نحو ذلك، ولعله أشار بذلك إلى ما روي عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبلال " اجعل بين أذانك وإقامتك قدر ما يفرغ الآكل من أكله والشارب من شربه والمعتصر إذا دخل لقضاء حاجته " أخرجه الترمذي والحاكم لكن إسناده ضعيف، وله شاهد من حديث أبي هريرة ومن حديث سلمان أخرجهما أبو الشيخ ومن حديث أبي بن كعب أخرجه عبد الله بن أحمد في زيادات المسند وكلها واهية، فكأنه أشار إلى أن التقدير بذلك لم يثبت. وقال ابن بطال: لا حد لذلك غير تمكن دخول الوقت واجتماع المصلين، ولم يختلف العلماء في التطوع بين الأذان والإقامة إلا في المغرب كما سيأتي. ووقع هنا في رواية نسبت للكشميهني: "ومن انتظر الإقامة " وهو خطأ فإن هذا اللفظ ترجمة تلي هذه. قوله: "حدثنا إسحاق الواسطي" هو ابن شاهين، ويحتمل أن يكون هو الذي

(2/14)


15 - باب مَنْ انْتَظَرَ الإِقَامَةَ
626- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سَكَتَ الْمُؤَذِّنُ بِالأُولَى مِنْ صَلاَةِ الْفَجْرِ قَامَ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ قَبْلَ صَلاَةِ الْفَجْرِ بَعْدَ أَنْ يَسْتَبِينَ الْفَجْرُ ثُمَّ اضْطَجَعَ عَلَى شِقِّهِ الأَيْمَنِ حَتَّى يَأْتِيَهُ الْمُؤَذِّنُ لِلْإِقَامَةِ
[الحديث626-أطرافه في : 6310,1170,1160,1123,994]
قوله: "باب من انتظر الإقامة" موضع الترجمة من الحديث قوله: "ثم اضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن " وأوردها مورد الاحتمال تنبيها على اختصاص ذلك بالإمام لأن المأموم مندوب إلى إحراز الصف الأول، ويحتمل أن يشارك الإمام في ذلك من كان منزله قريبا من المسجد، وقيل يستفاد من حديث الباب أن الذي ورد من الحض على الاستباق إلى المسجد هو لمن كان على مسافة من المسجد، وأما من كان يسمع الإقامة من داره فانتظاره للصلاة إذا كان متهيئا لها كانتظاره إياها في المسجد، وفي مقصود الترجمة أيضا ما أخرجه مسلم من حديث جابر بن سمرة قال: "كان بلال يؤذن ثم لا يقيم حتى يخرج النبي صلى الله عليه وسلم".قوله ( إذا سكت المؤذن ) أي فرغ من الأذان بالسكوت عنه , هذا في الروايات المعتمدة بالمثناة الفوقانية , وحكى ابن التين أنه روى بالموحدة , ومعناه صب الاذان وأفرغه في الآذان , ومنه أفرغ في أذني كلاما حسنا أهـ .والرواية المذكورة لم تثبت في شيء من الطرق , وانما ذكرها الخطابي من طريق الأوزاعي عن الزهري وقال: إن سويد بن نصر – راويها عن ابن المبارك عنه- ضبطها بالموحدة . وافرط الصغاني في العباب فجزم أنها بالموحدة , وكذا ضبطها في نسخته التي ذكر أنه قابلها على نسخة الفربري , وأن المحدثين يقولونها بالمثناة , ثم أدعى أنها تصحيف وليس كما قال . قوله ( بالاولى ) أي عن الاولى , وهي متعلقه بسكت يقال سكت عن كذا إذا تركه , والمراد بالاولى الاذان الذي يؤذن به عند دخول الوقت , وهو أول باعتبار الاقامة وتان باعتبار الاذان الذي قبل الفجر , وجاءه التانيث إما من قبل مؤخاته للاقامة أو لانه أراد المناداة أو الدعوة التامة , ويحتمل ان يكون صفة لمحذوف والتقدير اذا سكت عن المرة الاولى

(2/109)


أو في المرة الاولى . (تنبيه) : أخرج البيهقي من طريق موسى بن عقبة عن سالم أبي النضر " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج بعد النداء إلى المسجد, فإن رأى أهل المسجد قليلا جلس حتى يجتمعوا ثم يصلى" وإسانده قوي مع ارساله , وليس بينه وبين حديث الباب تعارض لانه يحمل على غير الصبح , أو كان يفعل ذلك بعد أن يأتيه المؤذن ويخرج معه إلى المسجد . قوله (يستبين)بموحدة وآخره نون , وفي رواية (يستنير ) بنون وآخره راء , وسيأتي الكلام على ركعتي الفجر في أبواب التطوع إن شاء الله تعالى

(2/110)


16 - باب بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلاَةٌ لِمَنْ شَاءَ
627- حدثنا عبد الله بن يزيد قال حدثنا كهمس بن الحسن عن عبد الله بن بريدة عن عبد الله بن المغفل قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم "بين كل أذانين صلاة , بين كل أذانين صلاة – ثم قال في الثالثة: - لمن شاء "
قوله: "باب بين كل أذانين صلاة" تقدم الكلام على فوائده قبل باب، وترجم هنا بلفظ الحديث، وهناك ببعض ما دل عليه.

(2/110)


17 - باب مَنْ قَالَ لِيُؤَذِّنْ فِي السَّفَرِ مُؤَذِّنٌ وَاحِدٌ
628- حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ قَالَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَفَرٍ مِنْ قَوْمِي فَأَقَمْنَا عِنْدَهُ عِشْرِينَ لَيْلَةً وَكَانَ رَحِيمًا رَفِيقًا فَلَمَّا رَأَى شَوْقَنَا إِلَى أَهَالِينَا قَالَ ارْجِعُوا فَكُونُوا فِيهِمْ وَعَلِّمُوهُمْ وَصَلُّوا فَإِذَا حَضَرَتْ الصَّلاَةُ فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ"
[ الحديث 628- أطرافه في : 7246,6008,2848,819,685,658,631,630]
قوله: "باب من قال ليؤذن في السفر مؤذن واحد" كأنه يشير إلى ما رواه عبد الرزاق بإسناد صحيح " أن ابن عمر كان يؤذن للصبح في السفر أذانين " وهذا مصير منه إلى التسوية بين الحضر والسفر، وظاهر حديث الباب أن الأذان في السفر لا يتكرر، لأنه لم يفرق بين الصبح وغيرها، والتعليل الماضي في حديث ابن مسعود يؤيده، وعلى هذا فلا مفهوم لقوله مؤذن واحد في السفر لأن الحضر أيضا لا يؤذن فيه إلا واحد، ولو احتج إلى تعددهم لتباعد أقطار البلد أذن كل واحد في جهة ولا يؤذنون جميعا، وقد قيل أن أول من أحدث التأذين جميعا بنو أمية. وقال الشافعي في " الأم ": وأحب أن يؤذن مؤذن بعد مؤذن ولا يؤذن جماعة معا، وإن كان مسجد كبير فلا بأس أن يؤذن في كل جهة منه مؤذن يسمع من يليه في وقت واحد. قوله ( في نفر ) هم من ثلاثة إلى عشرة. قوله (منقومي)هم بنو ليثبن بكر بن عبد مناف بن كنانة, وكان قدوم وفد بني ليث فيما ذكره ابن سعد بأسانيد متعددة أن واثلة الليثي قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتجهز لتبوك . قوله (رفيقا)بفاء ثم قاف من الرفق, وفي رواية الاصيلي قيل والكشميهني بقافين أي رقيق القلب . قوله (وصلوا) زاد في رواية إسماعيل بن علية عن أيوب "كما رأيتموني أصلي " , وهو في باب رحمة الناس والبهائم " من كتاب الأدب , ومثله في باب خبر الواحد من رواية عبد الوهاب الثقفي عن أيوب . قوله ( فإذا حضرت الصلاة ) وجه مطابقته للترجمة مع أن ظاهره

(2/110)


باب الأذان للمسافرين إذا كانوا جماعة والإقامة وكذلك بعرفة وجمع وقول المؤذن (الصلاة في الرحال) في الليلة الباردة أو المطيرة
...
18 - باب الأَذَانِ لِلْمُسَافِرِ إِذَا كَانُوا جَمَاعَةً وَالإِقَامَةِ
وَكَذَلِكَ بِعَرَفَةَ وَجَمْعٍ وَقَوْلِ الْمُؤَذِّنِ الصَّلاَةُ فِي الرِّحَالِ فِي اللَّيْلَةِ الْبَارِدَةِ أَوْ الْمَطِيرَةِ
629- حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الْمُهَاجِرِ أَبِي الْحَسَنِ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فَأَرَادَ الْمُؤَذِّنُ أَنْ يُؤَذِّنَ فَقَالَ لَهُ أَبْرِدْ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُؤَذِّنَ فَقَالَ لَهُ أَبْرِدْ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُؤَذِّنَ فَقَالَ لَهُ أَبْرِدْ حَتَّى سَاوَى الظِّلُّ التُّلُولَ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ"
630- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ قَالَ أَتَى رَجُلاَنِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدَانِ السَّفَرَ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَنْتُمَا خَرَجْتُمَا فَأَذِّنَا ثُمَّ أَقِيمَا ثُمَّ لِيَؤُمَّكُمَا أَكْبَرُكُمَا
631- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ قَالَ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ قَالَ حَدَّثَنَا مَالِكٌ أَتَيْنَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ شَبَبَةٌ مُتَقَارِبُونَ فَأَقَمْنَا عِنْدَهُ عِشْرِينَ يَوْمًا وَلَيْلَةً وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَحِيمًا رَفِيقًا فَلَمَّا ظَنَّ أَنَّا قَدْ اشْتَهَيْنَا أَهْلَنَا أَوْ قَدْ اشْتَقْنَا سَأَلَنَا عَمَّنْ تَرَكْنَا بَعْدَنَا فَأَخْبَرْنَاهُ قَالَ ارْجِعُوا إِلَى أَهْلِيكُمْ فَأَقِيمُوا فِيهِمْ وَعَلِّمُوهُمْ وَمُرُوهُمْ وَذَكَرَ أَشْيَاءَ أَحْفَظُهَا أَوْ لاَ أَحْفَظُهَا وَصَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي فَإِذَا حَضَرَتْ الصَّلاَةُ فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ" قوله: "باب الأذان للمسافرين" كذا للكشميهني وللباقين " للمسافر " بالإفراد، وهو للجنس. قوله: "إذا كانوا جماعة" هو مقتضى الأحاديث التي أوردها، لكن ليس فيها ما يمنع أذان المنفرد، وقد روى عبد الرزاق بإسناد صحيح عن ابن عمر أنه كان يقول: إنما التأذين لجيش أو ركب عليهم أمير فينادى بالصلاة ليجتمعوا لها، فأما غيرهم فإنما هي الإقامة. وحكى نحو ذلك عن مالك. وذهب الأئمة الثلاثة والثوري وغيرهم إلى مشروعة الأذان لكل أحد، وقد تقدم حديث أبي سعيد في " باب رفع الصوت بالنداء " وهو يقتضي استحباب الأذان للمنفرد، وبالغ عطاء فقال: إذا كنت في سفر فلم تؤذن ولم تقم فأعد الصلاة، ولعله كان يرى ذلك شرطا في صحة الصلاة أو يرى

(2/111)


استحباب الإعادة لا وجوبها. قوله: "والإقامة" بالخفض عطفا على الأذان، ولم يختلف في مشروعية الإقامة في كل حال. قوله: "وكذلك بعرفة" لعله يشير إلى حديث جابر الطويل في صفة الحج، وهو عند مسلم، وفيه أن بلالا أذن وأقام لما جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر يوم عرفة. قوله: "وجمع" بفتح الجيم وسكون الميم هي مزدلفة، وكأنه أشار بذلك إلى حديث ابن مسعود الذي ذكره في كتاب الحج وفيه: أنه صلى المغرب بأذان وإقامة. ، والعشاء بأذان وإقامة، ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله. قوله: "وقول المؤذن" هو بالخفض أيضا. وقد تقدم الكلام على حديث أبي ذر مستوفى في " باب الإبراد بالظهر " في المواقيت، وفيه البيان أن المؤذن هو بلال وأنه أذن وأقام، فيطابق هذه الترجمة. قوله ( حدثنا محمد بن يوسف) هو الفريابي, وبذلك صرح أبو نعيم في المستخرج وسفيان هو الثوري, وقد روى البخاري عن محمد بن يوسف أيضا عن سفيان بن عيينه , لكنه محمد بن يوسف البيكندي وليست له رواية عن الثوري , وإذا روى عن ابن عيينه بينه , وقد قدمنا ذلك . قوله(أتى رجلان ) هما مالك بن الحويرث راوي الحديث ورفيقه , وسيأتي في " باب سفر الاثنين", من كتاب الجهاد بلفظ "انصرفت من عند النبي صلى الله عليه وسلم أنا وصاحب لي" ولم أر في شيء من طرقه تسمية صاحبه . قوله ( فأذنا) قال أبو الحسن بن القصار : أراد به الفضل , وإلا فاذان الواحد يجزي, وكأنه فهم منه أنه أمرهما أن يؤذنان معا فليس ذلك بمراد , وقد قدمنا النقل عن السلف بخلافه . وإن أراد كلا منهما يؤذن على حدة ففيه نظر فان أذان الواحد يكفي الجماعة . نعم يستحب لكل أحد إجابة المؤذن , فالاولى حمل الأمر على أن أحدهما يؤذن والآخر يجيب , وقد تقدم له توجيه آخر في الباب الذي قبله , وأن الحامل على صرفه عن ظاهره قوله فيه " فليؤذن لكم أحدكم " . وللطبراني من طريق حماد بن سلمه عن خالد الحذاء في هذا الحديث" إذا كنت مع صاحبك فأذن وأقم , وليؤمكما أكبركما" وأستروح القرطبي فحمل اختلاف ألفاظ الحديث على تعدد القصة , وهو بعيد , وقال الكرماني: قد يطلق الأمر بالتثنية وبالجمع والمراد واحد . قوله ( ثم أقيما) فيه حجة لمن قال باستحباب إجابة المؤذن بالاقامة إن حمل الأمر على ما مضى , وإلا فالذي يؤذن هو الذي يقيم. "تنبيه": وقع هنا في رواية أبي الوقت " حدثنا محمد بن المثني حدثنا عبد الوهاب عن أيوب " فذكر حديث مالك بن الحويرث مطولا نحو ما مضى في الباب قبله، وسيأتي بتمامه في " باب خبر الواحد"، وعلى ذكره هناك اقتصر باقي الرواة.
632- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ أَخْبَرَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ حَدَّثَنِي نَافِعٌ قَالَ أَذَّنَ ابْنُ عُمَرَ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ بِضَجْنَانَ ثُمَّ قَالَ صَلُّوا فِي رِحَالِكُمْ فَأَخْبَرَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْمُرُ مُؤَذِّنًا يُؤَذِّنُ ثُمَّ يَقُولُ عَلَى إِثْرِهِ أَلاَ صَلُّوا فِي الرِّحَالِ فِي اللَّيْلَةِ الْبَارِدَةِ أَوْ الْمَطِيرَةِ فِي السَّفَرِ"
[ الحديث 632- طرفه في : 666]
633- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الْعُمَيْسِ عَنْ عَوْنِ بْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالأَبْطَحِ فَجَاءَهُ بِلاَلٌ فَآذَنَهُ بِالصَّلاَةِ ثُمَّ خَرَجَ بِلاَلٌ بِالْعَنَزَةِ حَتَّى رَكَزَهَا

(2/112)


بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالأَبْطَحِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ"
قوله: "حدثنا يحيى" هو القطان. قوله: "بضجنان" هو بفتح الضاد المعجمة وبالجيم بعدها نون على وزن فعلان غير مصروف، قال صاحب الصحاح وغيره: هو جبل بناحية مكة. وقال أبو موسى في ذيل الغريبين: هو موضع أو جبل بين مكة والمدينة. وقال صاحب المشارق ومن تبعه: هو جبل على بريد من مكة. وقال صاحب الفائق: بينه وبين مكة خمسة وعشرون ميلا، وبينه وبين وادي مريسعة أميال. انتهى. وهذا القدر أكثر من بريدين. وضبطه بالأميال يدل على مزيد اعتناء، وصاحب الفائق ممن شاهد تلك الأماكن واعتنى بها، خلاف من تقدم ذكره ممن لم يرها أصلا. ويؤيده ما حكاه أبو عبيد البكري قال: وبين قديد وضجنان يوم. قال معبد الخزاعي:
قد جعلت ماء قديد موعدي ... وماء ضجنان لها ضحى الغد
قوله: "وأخبرنا" أي ابن عمر. قوله: "كان يأمر مؤذنا" في رواية مسلم كان يأمر المؤذن. قوله: "ثم يقول على أثره" صريح في أن القول المذكور كان بعد فراغ الأذان. وقال القرطبي: لما ذكر رواية مسلم بلفظ: "يقول في آخر ندائه " يحتمل أن يكون المراد في آخره قبيل الفراغ منه، جمعا بينه وبين حديث ابن عباس. انتهى. وقد قدمنا في " باب الكلام في الأذان " عن ابن خزيمة أنه حمل حديث ابن عباس على ظاهره، وأن ذلك يقال بدلا من الحيعلة نظرا إلى المعنى لأن معنى " حي على الصلاة " هلموا إليها، ومعنى " الصلاة في الرحال " تأخروا عن المجيء ولا يناسب إيراد اللفظين معا لأن أحدهما نقيض الآخر ا هـ. ويمكن الجمع بينهما، ولا يلزم منه ما ذكر بأن يكون معنى الصلاة في الرحال رخصة لمن أراد أن يترخص، ومعنى هلموا إلى الصلاة ندب لمن أراد أن يستكمل الفضيلة ولو تحمل المشقة. ويؤيد ذلك حديث جابر عند مسلم قال: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فمطرنا، فقال: ليصل من شاء منكم في رحله. قوله: "في الليلة الباردة أو المطيرة" قال الكرماني فعيلة بمعنى فاعلة، وإسناد المطر إليها مجاز، ولا يقال إنها بمعنى مفعولة - أي ممطور فيها - لوجود الهاء في قوله مطيرة إذ لا يصح ممطورة فيها ا هـ. ملخصا. وقوله: "أو" للتنويع لا للشك، وفي صحيح أبي عوانة " ليلة باردة أو ذات مطر أو ذات ريح " ودل ذلك على أن كلا من الثلاثة عذر في التأخر عن الجماعة، ونقل ابن بطال فيه الإجماع، لكن المعروف عند الشافعية أن الريح عذر في الليل فقط، وظاهر الحديث اختصاص الثلاثة بالليل، لكن في السنن من طريق ابن إسحاق عن نافع في هذا الحديث: "في الليلة المطيرة والغداة القرة"، وفيها بإسناد صحيح من حديث أبي المليح عن أبيه " أنهم مطروا يوما فرخص لهم " ولم أر في شيء من الأحاديث الترخص بعذر الريح في النهار صريحا، لكن القيام يقتضي إلحاقه، وقد نقله ابن الرفعة وجها. قوله: "في السفر" ظاهره اختصاص ذلك بالسفر، ورواية مالك عن نافع الآتية في أبواب صلاة الجماعة مطلقة، وبها أخذ الجمهور، لكن قاعدة حمل المطلق على المقيد تقتضي أن يختص ذلك بالمسافر مطلقا، ويلحق به من تلحقه بذلك مشقة في الحضر دون من لا تلحقه، والله أعلم. قوله: "حدثنا إسحاق" وقع في رواية أبي الوقت أنه ابن منصور، وبذلك جزم خلف في الأطراف، وقد تردد الكلاباذي هل هو ابن إبراهيم أو ابن منصور، ورجح الجياني أنه ابن منصور واستدل على ذلك بأن مسلما أخرج هذا الحديث بهذا الإسناد عن إسحاق بن منصور. قوله: "فآذنه بالصلاة ثم خرج بلال" اختصره المصنف، وقد أخرجه الإسماعيلي من طرق

(2/113)


عن جعفر ابن عون فقال بعد قوله بالصلاة " فدعا بوضوء فتوضأ " فذكر القصة. قوله: "وأقام الصلاة" اختصر بقيته، وهي عند الإسماعيلي أيضا وهي " وركزها بين يديه والظعن يمرون " الحديث، وقد قدمنا الكلام عليه في " باب سترة الإمام سترة لمن خلفه". قوله: "بالأبطح" هو موضع معروف خارج مكة، وقد بيناه في ذلك الباب، وفهم بعضهم أن المراد بالأبطح موضع جمع لذكره لها في الترجمة، وليس ذلك مراده، بل بين جمع والأبطح مسافة طويلة، وإنما أورد حديث أبي جحيفة لأنه يدخل في أصل الترجمة وهي مشروعية الأذان والإقامة للمسافرين.

(2/114)


باب هل يتتبع المؤذن فاه هاهنا وهاهنا وهل يلتفت في الأذان
...
19 - باب هَلْ يَتَتَبَّعُ الْمُؤَذِّنُ فَاهُ هَهُنَا وَهَهُنَا وَهَلْ يَلْتَفِتُ فِي الأَذَانِ
وَيُذْكَرُ عَنْ بِلاَلٍ أَنَّهُ جَعَلَ إِصْبَعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ لاَ يَجْعَلُ إِصْبَعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ لاَ بَأْسَ أَنْ يُؤَذِّنَ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ وَقَالَ عَطَاءٌ الْوُضُوءُ حَقٌّ وَسُنَّةٌ وَقَالَتْ عَائِشَةُ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ اللَّهَ عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ
634- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَوْنِ بْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ رَأَى بِلاَلًا يُؤَذِّنُ فَجَعَلْتُ أَتَتَبَّعُ فَاهُ هَهُنَا وَهَهُنَا بِالأَذَانِ"
قوله: "باب هل يتتبع المؤذن فاه هاهنا وهاهنا" هو بياء تحتانية ثم بتاءين مفتوحات ثم بموحدة مشددة من التتبع. وفي رواية الأصيلي: "يتبع " بضم أوله وإسكان المثناة وكسر الموحدة من الاتباع، والمؤذن بالرفع لأنه فاعل التتبع، وفاه منصوب على المفعولية، و " هاهنا وهاهنا " ظرفا مكان والمراد بهما جهتا اليمين والشمال كما سيأتي إن شاء الله تعالى في الكلام على الحديث. وقال الكرماني: لفظ المؤذن بالنصب وفاعله محذوف تقديره الشخص ونحوه، وفاه بالنصب بدل من المؤذن، قال: ليوافق قوله في الحديث: "فجعلت أتتبع فاه " ا هـ. وليس ذلك بلازم، لما عرف من طريقة المصنف أنه لا يقف مع اللفظ الذي يورده غالبا بل يترجم له ببعض ألفاظه الواردة فيه، وكذا وقع هاهنا، فإن في رواية عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان عند أبي عوالة في صحيحه " فجعل يتتبع بفيه يمينا وشمالا". وفي رواية وكيع عن سفيان عند الإسماعيلي: "رأيت بلالا يؤذن يتتبع بفيه: "ووصف سفيان يميل برأسه يمينا وشمالا، والحاصل أن بلالا كان يتتبع بفيه الناحيتين، وكان أبو جحيفة ينظر إليه فكل منهما متتبع باعتبار. قوله: "وهل يلتفت في الأذان" يشير إلى ما قدمناه في رواية وكيع وفي رواية إسحاق الأزرق عن سفيان عند النسائي: "فجعل ينحرف يمينا وشمالا " وسيأتي في رواية يحيى بن آدم بلفظ: "والتفت". قوله: "ويذكر عن بلال أنه جعل إصبعيه في أذنيه" يشير بذلك إلى ما وقع في رواية عبد الرزاق وغيره عن سفيان كما سنوضحه بعد. قوله: "وكان ابن عمر الخ" أخرجه عبد الرزاق وابن أبي شيبة عن طريق نسير وهو بالنون والمهملة مصغر ابن ذعلوق بضم الذال المعجمة وسكون العين المهملة وضم اللام عن ابن عمر. قوله: "وقال إبراهيم" يعني النخعي الخ وصله سعيد بن منصور وابن أبي شيبة عن جرير عن منصور عنه بذلك وزاد: "ثم يخرج فيتوضأ ثم يرجع فيقيم". قوله: "وقال عطاء الخ" وصله عبد الرزاق عن ابن جرير قال: "قال لي عطاء: حق وسنة مسنونة أن لا يؤذن المؤذن إلا متوضئا، هو من الصلاة، هو فاتحة الصلاة " ولابن أبي شيبة من وجه آخر عن عطاء " أنه كره أن يؤذن الرجل على غير

(2/114)


وضوء " وقد ورد فيه حديث مرفوع أخرجه الترمذي والبيهقي من حديث أبي هريرة وفي إسناده ضعف. قوله: "وقالت عائشة" تقدم الكلام عليه في " باب تقضي الحائض المناسك " من كتاب الحيض، وأن مسلما وصله. وفي إيراد البخاري له هنا إشارة إلى اختيار قول النخعي، وهو قول مالك والكوفيين لأن الأذان من جملة الأذكار فلا يشترط فيه ما يشترط في الصلاة من الطهارة ولا من استقبال القبلة، كما لا يستحب فيه الخشوع الذي ينافيه الالتفات وجعل الإصبع في الأذن، وبهذا تعرف مناسبة ذكره لهذه الآثار في هذه الترجمة ولاختلاف نظر العلماء فها أوردها بلفظ الاستفهام ولم يجزم بالحكم. قوله: "حدثنا محمد بن يوسف" هو الفريابي، وسفيان هو الثوري. قوله: "هاهنا وهاهنا بالأذان" كذا أورده مختصرا، ورواية وكيع عن سفيان عند مسلم أتم حيث قال: "فجعلت أتتبع فاه هاهنا وهاهنا يمينا وشمالا يقول: حي على الصلاة، حي على الفلاح " وهذا فيه تقييد للالتفات في الأذان وأن محله عند الحيعلتين، وبوب عليه ابن خزيمة: "انحراف المؤذن عند قوله حي على الصلاة حي على الفلاح بفمه لا ببدنه كله " قال: وإنما يمكن الانحراف بالفم بانحراف الوجه، ثم ساقه من طريق وكيع أيضا بلفظ: "فجعل يقول في أذانه هكذا، ويحرف رأسه يمينا وشمالا " وفي رواية عبد الرزاق عن الثوري في هذا الحديث زيادتان: إحداهما الاستدارة، والأخرى وضع الإصبع في الأذن، ولفظه عند الترمذي " رأيت بلالا يؤذن ويدور ويتبع فاه هاهنا وهاهنا وإصبعاه في أذنيه " فأما قوله: "ويدور " فهو مدرج في رواية سفيان عن عون، بين ذلك يحيى بن آدم عن سفيان عن عون عن أبيه قال: "رأيت بلالا أذن فأتبع فاه هاهنا وهاهنا والتفت يمينا وشمالا " قال سفيان: كان حجاج - يعني ابن أرطاة - يذكر لنا عن عون أنه قال: "فاستدار في أذانه " فلما لقينا عونا لم يذكر فيه الاستدارة، أخرجه الطبراني وأبو الشيخ من طريق يحيى بن آدم، وكذا أخرجه البيهقي من طريق عبد الله بن الوليد العدني عن سفيان، لكن لم يسم حجاجا، وهو مشهور عن حجاج أخرجه ابن ماجه وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وغيرهم من طريقه ولم ينفرد به بل وافقه إدريس الأودي ومحمد العرزمي عن عون، لكن الثلاثة ضعفاء، وقد خالفهم من هو مثلهم أو أمثل وهو قيس بن الربيع فرواه عن عون فقال في حديثه " ولم يستدر " أخرجه أبو داود، ويمكن الجمع بأن من أثبت الاستدارة عني استدارة الرأس، ومن نفاها عني استدارة الجسد كله. ومشى ابن بطال ومن تبعه على ظاهره فاستدل به على جواز الاستدارة بالبدن كله، قال ابن دقيق العيد: فيه دليل على استدارة المؤذنين للإسماع عند التلفظ بالحيعلتين، واختلف هل يستدير ببدنه كله أو بوجهه فقط وقدماه قارتان مستقبل القبلة؟ واختلف أيضا هل يستدير في الحيعلتين الأوليين مرة وفي الثانيتين مرة، أو يقول حي على الصلاة عن يمينه ثم حي على الصلاة عن شماله وكذا في الأخرى؟ قال: ورجح الثاني لأنه يكون لكل جهة نصيب منهما، قال: والأول أقرب إلى لفظ الحديث. وفي المغني عن أحمد: لا يدور إلا إن كان على منارة يقصد إسماع أهل الجهتين. وأما وضع الإصبعين في الأذنين فقد رواه مؤمل أيضا عن سفيان أخرجه أبو عوانة، وله شواهد ذكرتها في " تعليق التعليق " من أصحها ما رواه أبو داود وابن حبان من طريق أبي سلام الدمشقي أن عبد الله الهوزني حدثه قال: قلت لبلال كيف كانت نفقة النبي صلى الله عليه وسلم؟ فذكر الحديث وفيه: "قال بلال: فجعلت إصبعي في أذني فأذنت " ولابن ماجه والحاكم من حديث سعد القرظ " أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بلالا أن يجعل إصبعيه في أذنيه " وفي إسناده ضعف، قال العلماء في ذلك فائدتان: إحداهما أنه قد يكون أرفع لصوته، وفيه حديث ضعيف أخرجه أبو الشيخ من طريق سعد القرظ عن بلال،

(2/115)


ثانيهما أنه علامة للمؤذن ليعرف من رآه على بعد أو كان به صمم أنه يؤذن، ومن ثم قال بعضهم: يجعل يده فوق أذنه حسب، قال الترمذي: استحب أهل العلم أن يدخل المؤذن إصبعيه في أذنيه في الأذان، قال: واستحبه الأوزاعي في الإقامة أيضا. "تنبيه": لم يرد تعيين الإصبع التي يستحب وضعها، وجزم النووي أنها المسبحة، وإطلاق الإصبع مجاز عن الأنملة. "تنبيه آخر": وقع في المغني للموفق نسبة حديث أبي جحيفة بلفظ: "أن بلالا أذن ووضع إصبعيه في أذنيه " إلى تخريج البخاري ومسلم، وهو وهم، وساق أبو نعيم في المستخرج حديث الباب من طريق عبد الرحمن بن مهدي وعبد الرزاق عن سفيان بلفظ عيد الرزاق من غير بيان فما أجاد، لإيهامه أنهما متوافقتان، وقد عرفت ما في رواية عبد الرزاق من الإدراج، وسلامة رواية عبد الرحمن من ذلك، والله المستعان.

(2/116)


20 - باب قَوْلِ الرَّجُلِ فَاتَتْنَا الصَّلاَةُ
وَكَرِهَ ابْنُ سِيرِينَ أَنْ يَقُولَ فَاتَتْنَا الصَّلاَةُ وَلَكِنْ لِيَقُلْ لَمْ نُدْرِكْ وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصَحُّ
635- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ بَيْنَمَا نَحْنُ نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ سَمِعَ جَلَبَةَ رِجَالٍ فَلَمَّا صَلَّى قَالَ مَا شَأْنُكُمْ قَالُوا اسْتَعْجَلْنَا إِلَى الصَّلاَةِ قَالَ فَلاَ تَفْعَلُوا إِذَا أَتَيْتُمْ الصَّلاَةَ فَعَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا"
قوله: "باب قول الرجل فاتتنا الصلاة" أي هل يكره أم لا؟ قوله: "وكره ابن سيرين الخ" وصله ابن أبي شيبة عن أزهر عن ابن عون قال: "كان محمد - يعني ابن سيرين - يكره " فذكره. قوله: "وقول النبي صلى الله عليه وسلم" هو بالرفع على الابتداء، وأصح خبره. وهذا كلام المصنف رادا على ابن سيرين. ووجه الرد أن الشارع أطلق لفظ الفوات فدل على الجواز، وابن سيرين مع كونه كرهه فإنما كرهه من جهة اللفظ لأنه قال: "وليقل لم ندرك " وهذا محصل معنى الفوات، لكن قوله لم ندرك فيه نسبة عدم الإدراك إليه بخلاف فاتتنا، فلعل ذلك هو الذي لحظه ابن سيربن. وقوله أصح معناه صحيح أي بالنسبة إلى قول ابن سيرين، فإنه غير صحيح لثبوت النص بخلافه. وعند أحمد من حديث أبي قتادة في قصة نومهم عن الصلاة " فقلت يا رسول الله فاتتنا الصلاة " ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وموقع هذه الترجمة وما بعدها من أبواب الأذان والإقامة أن المرء عند إجابة المؤذن يحتمل أن يدرك الصلاة كلها أو بعضها أو لا يدرك شيئا، فاحتيج إلى جواز إطلاق الفوات وكيفية الإتيان إلى الصلاة وكيفية العمل عند فوات البعض ونحو ذلك. قوله: "شيبان" هو ابن عبد الرحمن، ويحيى هو ابن أبي كثير. قوله: "عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه" في رواية مسلم من طريق معاوية بن سلام عن يحيى بن أبي كثير التصريح بإخبار عبد الله له به وبإخبار أبي قتادة لعبد الله. قوله: "جلبة الرجال" وفي رواية كريمة والأصيلي: "جلبة رجال " بغير ألف ولام وهما للعهد الذهني، وقد سمي منهم أبو بكرة فيما رواه الطبراني من رواية يونس عن الحسن عنه نحوه في نحو هذه القصة. و " جلبة " بجيم ولام وموحدة مفتوحات، أي أصواتهم حال حركتهم. واستدل به على أن التفات خاطر المصلي إلى الأمر الحادث لا يفسد صلاته، وسنذكر الكلام على المتن في الباب الذي بعده.

(2/116)


باب لا يسمى إلى الصلاة وليأت بالسكينة والوقار
...
21- باب لاَ يَسْعَى إِلَى الصَّلاَةِ وَلْيَأْتِ بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ
وَقَالَ مَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا قَالَهُ أَبُو قَتَادَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
636- حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ قَالَ حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا سَمِعْتُمْ الإِقَامَةَ فَامْشُوا إِلَى الصَّلاَةِ وَعَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ وَلاَ تُسْرِعُوا فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا"
[الحديث636 – طرفه في : 908]
قوله: "باب لا يسعى إلى الصلاة الخ" سقطت هذه الترجمة من رواية الأصيلي ومن رواية أبي ذر عن غير السرخسي، وثبوتها أصوب لقوله فيها " وقاله أبو قتادة " لأن الضمير يعود على ما ذكر في الترجمة، ولولا ذلك لعاد الضمير إلى المتن السابق فيكون ذكر أبي قتادة تكرارا بلا فائدة لأنه ساقه عنه. قوله: "وعن الزهري" أي بالإسناد الذي قبله، وهو آدم عن ابن أبي ذئب عنه، أي أن ابن أبي ذئب حدث به عن الزهري عن شيخين حدثاه به عن أبي هريرة، وقد جمعهما المصنف في " باب المشي إلى الجمعة " عن آدم فقال فيه: "عن سعيد وأبي سلمة كلاهما عن أبي هريرة " وكذلك أخرجه مسلم من طريق إبراهيم بن سعد عن الزهري عنهما، وذكر الدار قطني الاختلاف فيه على الزهري وجزم بأنه عنده عنهما جميعا قال: وكان ربما اقتصر على أحدهما. وأما الترمذي فإنه أخرجه من طريق يزيد بن زريع عن معمر عن الزهري عن أبي سلمة وحده، ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سعيد وحده، قال: وقول عبد الرزاق أصح، ثم أخرجه من طريق ابن عيينة عن الزهري كما قال عبد الرزاق، وهذا عمل صحيح لو لم يثبت أن الزهري حدث به عنهما. وقد أخرجه المصنف في " باب المشي إلى الجمعة " من طريق شعيب ومسلم من طريق يونس كلاهما عن الزهري عن أبي سلمة وحده فترجح ما قال الدار قطني. قوله: "إذا سمعتم الإقامة" هو أخص من قوله في حديث أبي قتادة " إذا أتيتم الصلاة " لكن الظاهر أنه من مفهوم الموافقة، لأن المسرع إذا أقيمت الصلاة يترجى إدراك فضيلة التكبيرة الأولى ونحو ذلك، ومع ذلك فقد نهى عن الإسراع، فغيره ممن جاء قبل الإقامة لا يحتاج إلى الإسراع لأنه يتحقق إدراك الصلاة كلها فينهي عن الإسراع من باب الأولى.
وقد لحظ فيه بعضهم معنى غير هذا فقال: الحكمة في التقييد بالإقامة أن المسرع إذا أقيمت الصلاة يصل إلها وقد انبهر فيقرأ وهو في تلك الحالة فلا يحصل له تمام الخشوع في الترتيل وغيره، بخلاف من جاء قبل ذلك فإن الصلاة قد لا تقام فيه حتى يستريح.
انتهى.
وقضية هذا أنه لا يكره الإسراع لمن جاء قبل الإقامة، وهو مخالف لصريح قوله: "إذا أتيتم الصلاة " لأنه يتناول ما قبل الإقامة، وإنما قيد في الحديث الثاني بالإقامة لأن ذلك هو الحامل في الغالب على الإسراع.
قوله: "وعليكم بالسكينة" كذا في رواية أبي ذر، ولغيره: "وعليكم السكينة " بغير باء، وكذا في رواية مسلم من طريق يونس، وضبطها القرطبي شارحه بالنصب على الإغراء، وضبطها النووي بالرفع على أنها جملة في موضع الحال، واستشكل بعضهم دخول الباء قال: لأنه متعد بنفسه كقوله تعالى: {عليكم أنفسكم} وفيه نظر لثبوت زيادة الباء في الأحاديث الصحيحة كحديث: "عليكم برخصة الله " وحديث: "فعليه بالصوم فإنه له وجاء " وحديث: "فعليك بالمرأة " قاله لأبي طلحة في قصة صفية، وحديث: "عليك بعيبتك " قالته عائشة

(2/117)


لعمر، وحديث: "عليكم بقيام الليل " وحديث: "عليك بخويصة نفسك " وغير ذلك. ثم إن الذي علل به هذا المعترض غير موف بمقصوده، إذ لا يلزم من كونه يجوز أن يتعدى بنفسه امتناع تعديه بالماء، وإذا ثبت ذلك فيدل على أن فيه لغتين والله أعلم. "فائدة": الحكمة في هذا الأمر تستفاد من زيادة وقعت في مسلم من طريق العلاء عن أبيه عن أبي هريرة، فذكر نحو حديث الباب وقال في آخره: "فإن أحدكم إذا كان يعمد إلى الصلاة فهو في صلاة " أي أنه في حكم المصلي، فينبغي له اعتماد ما ينبغي للمصلي اعتماده واجتناب ما ينبغي للمصلي اجتنابه. قوله: "والوقار" قال عياض والقرطبي: هو بمعنى السكينة، وذكر على سبيل التأكيد. وقال النووي: الظاهر أن بينهما فرقا، وأن السكينة التأني في الحركات واجتناب العبث، والوقار في الهيئة كغض البصر وخفض الصوت وعدم الالتفات. قوله: "ولا تسرعوا" فيه زيادة تأكيد، ويستفاد منه الرد على من أول قوله في حديث أبي قتادة " لا تفعلوا " أي الاستعجال المفضي إلى عدم الوقار، وأما الإسراع الذي لا ينافي الوقار كمن خاف فوت التكبيرة فلا، وهذا محكي عن إسحاق بن راهويه وقد تقدمت رواية العلاء التي فيها " فهو في صلاة " قال النووي: نبه بذلك على أنه لم يدرك من الصلاة شيئا لكان محصلا لمقصوده لكونه في صلاة، وعدم الإسراع أيضا يستلزم كثرة الخطا وهو معنى مقصود لذاته وردت فيه أحاديث كحديث جابر عند مسلم: "أن بكل خطوة درجة " ولأبي داود من طريق سعيد بن المسيب عن رجل من الأنصار مرفوعا: "إذا توضأ أحدكم فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى المسجد، لم يرفع قدمه اليمنى إلا كتب الله له حسنة ولم يضع قدمه اليسرى إلا حط الله عنه سيئة، فإن أتى المسجد فصلى في جماعة غفر له، فإن أتى وقد صلوا بعضا وبقي بعض فصلى ما أدرك وأتم ما بقي كان كذلك، وإن أتى المسجد وقد صلوا فأتم الصلاة كان كذلك". قوله: "فما أدركتم فصلوا" قال الكرماني: الفاء جواب شرط محذوف، أي إذا بينت لكم ما هو أولى بكم فما أدركتم فصلوا. قلت: أو التقدير إذا فعلتم فا أدركتم أي فعلتم الذي أمرتكم به من السكينة وترك الإسراع. واستدل بهذا الحديث على حصول فضيلة الجماعة بإدراك جزء من الصلاة لقوله: "فما أدركتم فصلوا " ولم يفصل بين القليل والكثير، وهذا قول الجمهور، وقيل: لا تدرك الجماعة بأقل من ركعة للحديث السابق " من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك " وقياسا على الجمعة، وقد قدمنا الجواب عنه في موضعه وأنه ورد في الأوقات، وأن في الجمعة حديثا خاصا بها. واستدل به أيضا على استحباب الدخول مع الإمام في أي حالة وجد عليها، وفيه حديث أصرح منه أخرجه ابن أبي شيبة من طريق عبد العزيز بن رفيع عن رجل من الأنصار مرفوعا : "من وجدني راكعا أو قائما أو ساجدا فليكن معي على حالتي التي أنا عليها" . قوله: "وما فاتكم فأتموا" أي أكملوا، هذا هو الصحيح في رواية الزهري، ورواه عنه ابن عيينة بلفظ: "فاقضوا " وحكم مسلم في التمييز عليه بالوهم في هذه اللفظة، مع أنه أخرج إسناده في صحيحه لكن لم يسق لفظه، وكذا روى أحمد عن عبد الرزاق عن معمر عن همام عن أبي هريرة فقال: "فاقضوا " وأخرجه مسلم عن محمد بن رافع عن عبد الرزاق بلفظ: "فأتموا" . واختلف أيضا في حديث أبي قتادة، فرواية الجمهور " فأتموا " ووقع لمعاوية بن هشام عن سفيان " فاقضوا " كذا ذكره ابن أبي شيبة عنه. وأخرج مسلم إسناده في صحيحه عن ابن أبي شيبة فلم يسق لفظه أيضا، وروى أبو داود مثله عن سعد بن إبراهيم عن أبي سلمة عن أبي هريرة، قال: ووقعت في رواية أبي رافع عن أبي هريرة، واختلف في حديث أبي ذر قال: وكذا قال ابن سيرين عن أبي هريرة " وليقض". قلت: ورواية ابن سيرين عند مسلم بلفظ: "صل ما أدركت، واقض ما سبقك "

(2/118)


والحاصل أن أكثر الروايات ورد بلفظ: "فأتموا " وأقلها بلفظ: "فاقضوا " وإنما تظهر فائدة ذلك إذا جعلنا بين الإمام والقضاء مغايرة، لكن إذا كان مخرج الحديث واحدا واختلف في لفظه منه وأمكن رد الاختلاف إلى معنى واحد كان أولى، وهنا كذلك لأن القضاء وإن كان يطلق على الفائت غالبا لكنه يطلق على الأداء أيضا، ويرد بمعنى الفراغ كقوله تعالى: {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا} ، ويرد بمعان أخر فيحمل قوله فاقضوا على معنى الأداء أو الفراغ فلا يغاير قوله فأتموا، فلا حجة فيه لمن تمسك برواية فاقضوا على أن ما أدركه المأموم هو آخر صلاته حتى استحب له الجهر في الركعتين الأخيرتين وقراءة السورة وترك القنوت، بل هو أولها وإن كان آخر صلاة إمامه لأن الآخر لا يكون إلا عن شيء تقدمه، وأوضح دليل على ذلك أنه يجب عليه أن يتشهد في آخر صلاته على كل حال، فلو كان ما يدركه مع الإمام آخرا له لما احتاج إلى إعادة التشهد. وقول ابن بطال إنه ما تشهد إلا لأجل السلام لأن السلام يحتاج إلى سبق تشهد ليس بالجواب الناهض على دفع الإيراد المذكور، واستدل ابن المنذر لذلك أيضا على أنهم أجمعوا على أن تكبيرة الافتتاح لا تكون إلا في الركعة الأولى، وقد عمل بمقتضى اللفظين الجمهور فإنهم قالوا. إن ما أدرك المأموم هو أول صلاته إلا أنه يقضي مثل الذي فاته من قراءة السورة مع أم القرآن في الرباعية، لكن لم يستحبوا له إعادة الجهر في الركعتين الباقيتين، وكأن الحجة فيه قوله: "ما أدركت مع الإمام فهو أول صلاتك واقض ما سبقك به من القرآن " أخرجه البيهقي، وعن إسحاق والمزني لا يقرأ إلا أم القرآن فقط وهو القياس، واستدل به على أن من أدرك الإمام راكعا لم تحسب له تلك الركعة للأمر بإتمام ما فاته، لأنه فاته الوقوف والقراءة فيه، وهو قول أبي هريرة وجماعة، بل حكاه البخاري في " القراءة خلف الإمام " عن كل من ذهب إلى وجوب القراءة خلف الإمام، واختاره ابن خزيمة والضبعي وغيرهما من محدثي الشافعية، وقواه الشيخ تقي الدين السبكي من المتأخرين والله أعلم. وحجة الجمهور حديث أبي بكرة حيث ركع دون الصف، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "زادك الله حرصا ولا تعد " ولم يأمره بإعادة تلك الركعة، وسيأتي في أثناء صفة الصلاة إن شاء الله تعالى.

(2/119)


22 - باب مَتَى يَقُومُ النَّاسُ إِذَا رَأَوْا الإِمَامَ عِنْدَ الإِقَامَةِ
637- حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ قَالَ كَتَبَ إِلَيَّ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أُقِيمَتْ الصَّلاَةُ فَلاَ تَقُومُوا حَتَّى تَرَوْنِي"
[الحديث637- طرفاه في: 909,638]
قوله: "باب متى يقوم الناس إذا رأوا الإمام عند الإقامة؟" قيل أود الترجمة بلفظ الاستفهام لأن قوله في الحديث: "لا تقوموا " نهى عن القيام، وقوله: "حتى تروني " تسويغ للقيام عند الرؤية، وهو مطلق غير مقيد بشيء من ألفاظ الإقامة، ومن ثم اختلف السلف في ذلك كما سيأتي. قوله: "هشام" هو الدستوائي، وقد رواه أبو داود عن مسلم بن إبراهيم شيخ البخاري فيه هنا عن أبان العطار عن يحيى، فلعله له فيه شيخان. قوله: "كتب إلى يحيى" ظاهر في أنه لم يسمعه منه، وقد رواه إسماعيل من طريق هشيم عن هشام وحجاج الصواف كلاهما عن يحيى، وهو من تدليس الصيغ وصرح أبو نعيم في المستخرج من وجه آخر عن هشام أن يحيى كتب إليه أن عبد الله بن أبي قتادة حدثه، فأمن بذلك تدليس يحيى. قوله: "إذا أقيمت" أي إذا ذكرت ألفاظ الإقامة. قوله: "حتى تروني"

(2/119)


أي خرجت وصرح به عبد الرزاق وغيره عن معمر عن يحيى أخرجه مسلم، ولابن حبان من طريق عبد الرزاق وحده " حتى تروني خرجت إليكم" ؛ وفيه مع ذلك حذف تقديره فقوموا. وقال مالك في الموطأ: لم أسمع في قيام الناس حين تقام الصلاة بحد محدود، إلا أني أرى ذلك على طاقة الناس، فإن منهم الثقيل والخفيف. وذهب الأكثرون إلى أنهم إذا كان الإمام معهم في المسجد لم يقوموا حتى تفرغ الإقامة، وعن أنس أنه كان يقوم إذا قال المؤذن " قد قامت الصلاة " رواه ابن المنذر وغيره، وكذا رواه سعيد بن منصور من طريق أبي إسحاق عن أصحاب عبد الله، وعن سعيد بن المسيب قال: "إذا قال المؤذن الله أكبر وجب القيام، وإذا قال حي على الصلاة عدلت الصفوف، وإذا قال لا إله إلا الله كبر الإمام " وعن أبي حنيفة يقومون إذا قال حي على الفلاح، فإذا قال قد قامت الصلاة كبر الإمام، وأما إذا لم يكن الإمام في المسجد فذهب الجمهور إلى أنهم لا يقومون حتى يروه، وخالف من ذكرنا على التفصيل الذي شرحنا، وحديث الباب حجة عليهم وفيه جواز الإقامة والإمام في منزله إذا كان يسمعها وتقدم إذنه في ذلك. قال القرطبي: ظاهر الحديث أن الصلاة كانت تقام قبل أن يخرج النبي صلى الله عليه وسلم من بيته، وهو معارض لحديث جابر بن سمرة " أن بلالا كان لا يقيم حتى يخرج النبي صلى الله عليه وسلم: "أخرجه مسلم. ويجمع بينهما بأن بلالا كان يراقب خروج النبي صلى الله عليه وسلم فأول ما يراه يشرع في الإقامة قبل أن يراه غالب الناس، ثم إذا رأوه قاموا فلا يقوم في مقامه حتى تعتدل صفوفهم. قلت: ويشهد له ما رواه عبد الرزاق عن ابن جريج عن ابن شهاب " أن الناس كانوا ساعة يقول المؤذن الله أكبر يقومون إلى الصلاة، فلا يأتي النبي صلى الله عليه وسلم مقامه حتى تعتدل الصفوف"؛ وأما حديث أبي هريرة الآتي قريبا بلفظ: "أقيمت الصلاة فسوى الناس صفوفهم، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم: "ولفظه في مستخرج أبي نعيم " فصف الناس صفوفهم ثم خرج علينا " ولفظه عند مسلم: "أقيمت الصلاة فقمنا فعدلنا الصفوف قبل أن يخرج إلينا النبي صلى الله عليه وسلم، فأتى فقام مقامه " الحديث. وعنه في رواية أبي داود " إن الصلاة كانت تقام لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيأخذ الناس مقامهم قبل أن يجيء النبي صلى الله عليه وسلم: "فيجمع بينه وبين حديث أبي قتادة بأن ذلك ربما وقع لبيان الجواز وبأن صنيعهم في حديث أبي هريرة كان سبب النهي عن ذلك في حديث أبي قتادة، وأنهم كانوا يقومون ساعة تقام الصلاة ولو لم يخرج النبي صلى الله عليه وسلم، فنهاهم عن ذلك لاحتمال أن يقع له شغل يبطئ فيه عن الخروج فيشق عليهم انتظاره ولا يرد هذا حديث أنس الآتي أنه قام في مقامه طويلا في حاجة بعض القوم، لاحتمال أن يكون ذلك وقع نادرا، أو فعله لبيان الجواز.

(2/120)


23 - باب لاَ يَسْعَى إِلَى الصَّلاَةِ مُسْتَعْجِلًا وَلْيَقُمْ بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ
638- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أُقِيمَتْ الصَّلاَةُ فَلاَ تَقُومُوا حَتَّى تَرَوْنِي وَعَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ" . تابعة علىُّ بن المبارك
قوله: "باب لا يقوم إلى الصلاة مستعجلا، وليقم إليها بالسكينة والوقار" كذا في رواية الحموي.
وفي رواية المستملي: "باب لا يسعى إلى الصلاة " وسقط من رواية الكشميهني، وجمعا في رواية الباقين بلفظ باب لا يسعى إلى الصلاة ولا يقوم إليها مستعجلا الخ". قوله: "لا يسعى" كأنه يشير بذلك إلى رواية ابن سيرين في حديث أبي هريرة عند مسلم ولفظه: "إذا ثوب بالصلاة فلا يسعى إليها أحدكم " وفي رواية أبي سلمة عن أبي هريرة عند المصنف

(2/120)


في " باب المشي إلى الجمعة " من كتاب الجمعة " إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون " وسيأتي وجه الجمع بينه وبين قوله تعالى: {فاسعوا إلى ذكر الله} هناك إن شاء الله تعالى. قوله: "وعليكم بالسكينة" كذا في رواية أبي ذر وكريمة. وفي رواية الأصيلي وأبي الوقت " وعليكم السكينة " بحذف الباء، وكذا أخرجه أبو عوانة من طرق عن شيبان. قوله: "تابعه علي بن المبارك" أي عن يحيى، ومتابعته وصلها المؤلف في كتاب الجمعة، ولفظه: "عليكم السكينة " بغير باء أيضا. وقال أبو العباس الطرقي: تفرد شيبان وعلي بن المبارك عن يحيى بهذه الزيادة، وتعقب بأن معاوية بن سلام تابعهما عن يحيى، ذكره أبو داود عقب رواية أبان عن يحيى فقال: رواه معاوية بن سلام وعلي بن المبارك عن يحيى وقالا فيه: "حتى تروني وعليكم السكينة" . قلت: وهذه الرواية المعلقة وصلها الإسماعيلي من طريق الوليد بن مسلم عن معاوية بن سلام وشيبان جميعا عن يحيى كما قال أبو داود.

(2/121)


24 - باب هَلْ يَخْرُجُ مِنْ الْمَسْجِدِ لِعِلَّةٍ
639- حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ وَقَدْ أُقِيمَتْ الصَّلاَةُ وَعُدِّلَتْ الصُّفُوفُ حَتَّى إِذَا قَامَ فِي مُصَلاَهُ انْتَظَرْنَا أَنْ يُكَبِّرَ انْصَرَفَ قَالَ عَلَى مَكَانِكُمْ فَمَكَثْنَا عَلَى هَيْئَتِنَا حَتَّى خَرَجَ إِلَيْنَا يَنْطِفُ رَأْسُهُ مَاءً وَقَدْ اغْتَسَلَ"
قوله: "باب هل يخرج من المسجد لعلة" أي لضرورة، وكأنه يشير إلى تخصيص ما رواه مسلم وأبو داود وغيرهما من طريق أبي الشعثاء عن أبي هريرة " أنه رأى رجلا خرج من المسجد بعد أن أذن المؤذن فقال: أما هذا فقد عصى أبا القاسم " فإن حديث الباب يدل على أن ذلك مخصوص بمن ليس له ضرورة، فيلحق بالجنب المحدث والراعف والحاقن ونحوهم، وكذا من يكون إماما لمسجد آخر ومن في معناه. وقد أخرجه الطبراني في الأوسط من طريق سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه فصرح برفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبالتخصيص ولفظه: "لا يسمع النداء في مسجد ثم يخرج منه إلا لحاجة ثم لا يرجع إليه إلا منافق" . قوله: "خرج وقد أقيمت الصلاة" يحتمل أن يكون المعنى خرج في حال الإقامة، ويحتمل أن تكون الإقامة تقدمت خروجه، وهو ظاهر الرواية التي في الباب الذي بعده، لتعقيب الإقامة بالتسوية، وتعقيب التسوية بخروجه جميعا بالفاء، ويحتمل أن يجمع بين الروايتين بأن الجملتين وقعتا حالا أي خرج والحال أن الصلاة أقيمت والصفوف عدلت. وقال الكرماني: لفظ: "قد " تقرب الماضي من الحال، وكأنه خرج في حال الإقامة وفي حال التعديل، ويحتمل أن يكونوا إنما شرعوا في ذلك بإذن منه أو قرينة تدل عليه. قلت: وتقدم احتمال أن يكون ذلك سببا للنهي فلا يلزم منه مخالفتهم له، وقد تقدم الجمع بينه وبين حديث أبي قتادة " لا تقوموا حتى تروني قريبا" . قوله: "وعدلت الصفوف" أي سويت.
قوله: "حتى إذا قام في مصلاه" زاد مسلم من طريق يونس عن الزهري " قبل أن يكبر فانصرف " وقد تقدم في " باب إذا ذكر في المسجد أنه جنب " من أبواب الغسل من وجه آخر عن يونس بلفظ: "فلما قام في مصلاه ذكر " ففيه دليل على أنه انصرف قبل أن يدخل في الصلاة، وهو معارض لما رواه أبو داود وابن حبان عن أبي بكرة

(2/121)


أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل في صلاة الفجر فكبر ثم أومأ إليهم، ولمالك من طريق عطاء بن يسار مرسلا أنه صلى الله عليه وسلم كبر في صلاة من الصلوات ثم أشار بيده أن امكثوا، ويمكن الجمع بينهما بحمل قوله: "كبر " على أراد أن يكبر، أو بأنهما واقعتان، أبداه عياض والقرطبي احتمالا وقال النووي إنه الأظهر، وجزم به ابن حبان كعادته، فإن ثبت وإلا فما في الصحيح أصح، ودعوى ابن بطال أن الشافعي احتج بحديث عطاء على جواز تكبير المأموم قبل تكبير الإمام قال فناقض أصله فاحتج بالمرسل، متعقبه بأن الشافعي لا يرد المراسيل مطلقا، بل يحتج منها بما يعتضد، والأمر هنا كذلك لحديث أبي بكرة الذي ذكرناه. قوله: "انتظرنا" جملة حالية، و قوله: "انصرف" أي إلى حجرته وهو جواب إذا، و قوله: "قال" استئناف أو حال. قوله: "على مكانكم" أي كونوا على مكانكم. قوله: "على هيئتنا" بفتح الهاء بعدها ياء تحتانية ساكنة ثم همزة مفتوحة ثم مثناة، والمراد بذلك أنهم امتثلوا أمره في قوله: "على مكانكم " فاستمروا على الهيئة - أي الكيفية - التي تركهم عليها، وهي قيامهم فب صفوفهم المعتدلة. وفي رواية الكشميهني: "على هيئتنا " بكسر الهاء وبعد الياء نون مفتوحة، والهيئة الرفق، ورواية الجماعة أوجه. قوله: "ينطف" بكسر الطاء وضمها أي يقطر كما صرح به في الرواية التي بعد هذه. قوله: "وقد اغتسل" زاد الدار قطني من وجه آخر عن أبي هريرة فقال: "إني كنت جنبا فنسيت أن اغتسل " وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما مضى في كتاب الغسل جواز النسيان على الأنبياء في أمر العبادة لأجل التشريع، وفيه طهارة الماء المستعمل وجواز الفصل بين الإقامة والصلاة، لأن قوله: "فصلى " ظاهر في أن الإقامة لم تعد، والظاهر أنه مقيد بالضرورة وبأمن خروج الوقت. وعن مالك إذا بعدت الإقامة من الإحرام تعاد، وينبغي أن يحمل على ما إذا لم يكن عذر. وفيه أنه لا حياء في أمر الدين، وسبيل من غلب أن يأتي بعذر موهم كأن يمسك بأنفه ليوهم أنه رعف. وفيه جواز انتظار المأمومين مجيء الإمام قياما عند الضرورة، وهو غير القيام المنهي عنه في حديث أبي قتادة. وأنه لا يجب على من احتلم في المسجد فأراد الخروج منه أن يتيمم كما تقدم في الغسل. وجواز الكلام بين الإقامة والصلاة وسيأتي في باب مفرد. وجواز تأخير الجنب الغسل عن وقت الحدث. "فائدة": وقع في بعض النسخ هنا: قيل لأبي عبد الله - أي البخاري - إذا وقع هذا لأحدنا يفعل مثل هذا؟ قال: نعم. قيل: فينتظرون الإمام قياما أو قعودا؟ قال: إن كان قبل التكبير فلا بأس أن يقعدوا، وإن كان بعد التكبير انتظروه قياما. ووقع في بعضها في آخر الباب الذي بعده.

(2/122)


25 - باب إِذَا قَالَ الإِمَامُ مَكَانَكُمْ حَتَّى رَجَعَ انْتَظَرُوهُ
640- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ قَالَ حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ أُقِيمَتْ الصَّلاَةُ فَسَوَّى النَّاسُ صُفُوفَهُمْ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَقَدَّمَ وَهُوَ جُنُبٌ ثُمَّ قَالَ عَلَى مَكَانِكُمْ فَرَجَعَ فَاغْتَسَلَ ثُمَّ خَرَجَ وَرَأْسُهُ يَقْطُرُ مَاءً فَصَلَّى بِهِمْ"
قوله: "باب إذا قال الإمام مكانكم" هذا اللفظ في رواية يونس عن الزهري كما مضى في الغسل بلفظ: "فقال لنا مكانكم " بحذف حرف الجر. قوله: "حتى نرجع" بالنون للكشميهني، وبالهمزة للأصيلي، وبالتحتانية

(2/122)


للباقين. قوله: "حدثنا إسحاق" كذا في جميع الروايات غير منسوب، وجوز ابن طاهر والجياني أنه إسحاق بن منصور، وبه جزم المزي، وكنت أجوز أنه ابن راهويه لثبوته في مسنده عن الفريابي إلى أن رأيت في سياقه له مغايرة. ومحمد بن يوسف هو الفريابي وقد أكثر البخاري عنه بغير واسطة. قوله: "عن الزهري عن أبي سلمة" صرح بالتحديث في الموضعين إسحاق بن راهويه في روايته له عن الفريابي، ومن طريقه أخرجه أبو نعيم في المستخرج. قوله: "فتقدم وهو جنب" أي في نفس الأمر، لا أنهم اطلعوا على ذلك منه قبل أن يعلمهم، وقد تقدم في الغسل في رواية يونس " فلما قام في مصلاه ذكر أنه جنب". وفي رواية أبي نعيم " ذكر أنه لم يغتسل"، ومضت فوائده في الباب الذي قبله.

(2/123)


باب قول الردل ما صلينا
...
26 - باب قَوْلِ الرَّجُلِ مَا صَلَّيْنَا
641- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيَى قَالَ سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ يَقُولُ أَخْبَرَنَا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاللَّهِ مَا كِدْتُ أَنْ أُصَلِّيَ حَتَّى كَادَتْ الشَّمْسُ تَغْرُبُ وَذَلِكَ بَعْدَ مَا أَفْطَرَ الصَّائِمُ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وَاللَّهِ مَا صَلَّيْتُهَا فَنَزَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بُطْحَانَ وَأَنَا مَعَهُ فَتَوَضَّأَ ثُمَّ صَلَّى يَعْنِي الْعَصْرَ بَعْدَ مَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ ثُمَّ صَلَّى بَعْدَهَا الْمَغْرِبَ"
قوله: "باب قول الرجل للنبي صلى الله عليه وسلم ما صلينا" قال ابن بطال: فيه رد لقول إبراهيم النخعي: يكره أن يقول الرجل لم نصل ويقول نصلي. قلت: وكراهة النخعي إنما هي في حق منتظر الصلاة، وقد صرح ابن بطال بذلك، ومنتظر الصلاة في صلاة كما ثبت بالنص، فإطلاق المنتظر " ما صلينا " يقتضي نفي ما أثبته الشارع فلذلك كرهه، والإطلاق الذي في حديث الباب إنما كان من ناس لها أو مشتغل عنها بالحرب كما تقدم تقريره في " باب من صلى بالناس جماعة بعد خروج الوقت " في أبواب المواقيت، فافترق حكمهما وتغايرا. والذي يظهر لي أن البخاري أراد أن ينبه على أن الكراهة المحكية عن النخعي ليست على إطلاقها لما دل عليه حديث الباب، ولو أراد الرد على النخعي مطلقا لأفصح به كما أفصح بالرد على ابن سيرين في ترجمة " فاتتنا الصلاة"، ثم إن اللفظ الذي أورده المؤلف وقع النفي فيه من قول النبي صلى الله عليه وسلم لا من قول الرجل، لكن في بعض طرقه وقوع ذلك من الرجل أيضا، وهو عمر كما أورده في المغازي، وهذه عادة معروفة للمؤلف يترجم ببعض ما وقع في طرق الحديث الذي يسوقه ولو لم يقع في الطريق التي يوردها في تلك الترجمة، ويدخل في هذا ما في الطبراني من حديث جندب في قصة النوم عن الصلاة " فقالوا: يا رسول الله سهونا فلم نصل حتى طلعت الشمس " وبقية فوائد الحديث تقدمت في المواقيت. قوله: "ما كدت أن أصلي حتى كادت الشمس تغرب" وذلك بعد ما أفطر الصائم. قال الكرماني مستشكلا: كيف يكون المجيء بعد الغروب؟ لأن الصائم إنما يفطر حينئذ مع تصريحه بأنه جاء في اليوم، ثم أجاب بأن المراد بقوله يوم الحندق زمان الخندق، والمراد به بيان التاريخ لا خصوص الوقت ا هـ. والذي يظهر لي أن الإشارة بقوله: "وذلك بعد ما أفطر الصائم " إشارة إلى الوقت الذي خاطب به عمر النبي صلى الله عليه وسلم لا إلى الوقت الذي صلى فيه عمر العصر، فإنه كان قرب الغروب كما تدل عليه " كاد". وأما إطلاق اليوم وإرادة زمان

(2/123)


الوقعة لا خصوص النهار فهو كثير.

(2/124)


27 - باب الإِمَامِ تَعْرِضُ لَهُ الْحَاجَةُ بَعْدَ الإِقَامَةِ
643- حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: "أُقِيمَتْ الصَّلاَةُ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنَاجِي رَجُلًا فِي جَانِبِ الْمَسْجِدِ فَمَا قَامَ إِلَى الصَّلاَةِ حَتَّى نَامَ الْقَوْمُ "
[الحديث642- طرفاه في : 6292,643]
قوله: "باب الإمام تعرض له الحاجة بعد الإقامة" أي هل يباح له التشاغل بها قبل الدخول في الصلاة أو لا؟ وتعرض بكسر الراء أي تظهر. قوله: "عن أنس" في رواية لمسلم: "سمع أنسا " والإسناد كله بصريون. قوله: "أقيمت الصلاة" أي صلاة العشاء، بينه حماد عن ثابت عن أنس عند مسلم. قوله: "يناجي رجلا" أي يحادثه، ولم أقف على اسم هذا الرجل، وذكر بعض الشراح أنه كان كبيرا في قومه فأراد أن يتألفه على الإسلام، ولم أقف على مستند ذلك. قيل ويحتمل أن يكون ملكا من الملائكة جاء بوحي من الله عز وجل، ولا يخفى بعد هذا الاحتمال. قوله: "حتى نام بعض القوم" زاد شعبة عن عبد العزيز " ثم قام فصلى " أخرجه مسلم، وهو عند المصنف في الاستئذان. ووقع عند إسحاق بن راهويه في مسنده عن ابن علية عن عبد العزيز في هذا الحديث: "حتى نعس بعض القوم " وكذا هو عند ابن حبان من وجه آخر عن أنس، وهو يدل على أن النوم المذكور لم يكن مستغرقا، وقد تقدم الكلام على هذه المسألة في " باب الوضوء من النوم " من كتاب الطهارة، وفي الحديث جواز مناجاة الواحد غيره بحضور الجماعة، وترجم عليه المؤلف في الاستئذان " طول النجوى"، وفيه جواز الفصل بين الإقامة والإحرام إذا كان لحاجة، أما إذا كان لغير حاجة فهو مكروه، واستدل به للرد على من أطلق من الحنفية أن المؤذن إذا قال قد قامت الصلاة وجب على الإمام التكبير، قال الزين ابن المنير: خص المصنف الإمام بالذكر مع أن الحكم عام لأن لفظ الخير يشعر بأن المناجاة كانت لحاجة النبي صلى الله عليه وسلم لقوله: "والنبي صلى الله عليه وسلم يناجي رجلا " ولو كان لحاجة الرجل لقال أنس: ورجل يناجي النبي صلى الله عليه وسلم. انتهى. وهذا ليس بلازم، وفيه غفلة منه عما في صحيح مسلم بلفظ: أقيمت الصلاة، فقال رجل: لي حاجة. فقام النبي صلى الله عليه وسلم يناجيه " والذي يظهر لي أن هذا الحكم إنما يتعلق بالإمام، لأن المأموم إذا عرضت له الحاجة لا يتقيد به غيره من المأمومين بخلاف الإمام. ولما أن كانت مسألة الكلام بين الإحرام والإقامة تشمل المأموم والإمام أطلق المؤلف الترجمة ولم يقيدها بالإمام فقال.

(2/124)


با بالكلام إذا أقيمت الصلاة
...
28 - باب الْكَلاَمِ إِذَا أُقِيمَتْ الصَّلاَةُ
643- حَدَّثَنَا عَيَّاشُ بْنُ الْوَلِيدِ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى قَالَ حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ قَالَ سَأَلْتُ ثَابِتًا الْبُنَانِيَّ عَنْ الرَّجُلِ يَتَكَلَّمُ بَعْدَ مَا تُقَامُ الصَّلاَةُ فَحَدَّثَنِي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ "أُقِيمَتْ الصَّلاَةُ فَعَرَضَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ فَحَبَسَهُ بَعْدَ مَا أُقِيمَتْ الصَّلاَةُ" . وقال الحسن : إن منعته أمه عن العشاء في جماعة شفقة عليه لم يطعمها
قوله: "باب الكلام إذا أقيمت الصلاة" وأشار بذلك إلى الرد على من كرهه مطلقا. قوله: "حدثنا عياش بن الوليد" هو الرقام وعبد الأعلى هو ابن عبد الأعلى السامي بالمهملة، والإسناد كله بصريون أيضا. وقول حميد " سألت

(2/124)


29 - باب وُجُوبِ صَلاَةِ الْجَمَاعَةِ
وَقَالَ الْحَسَنُ إِنْ مَنَعَتْهُ أُمُّهُ عَنْ الْعِشَاءِ فِي الْجَمَاعَةِ شَفَقَةً لَمْ يُطِعْهَا
644- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِحَطَبٍ فَيُحْطَبَ ثُمَّ آمُرَ بِالصَّلاَةِ فَيُؤَذَّنَ لَهَا ثُمَّ آمُرَ رَجُلًا فَيَؤُمَّ النَّاسَ ثُمَّ أُخَالِفَ إِلَى رِجَالٍ فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ يَعْلَمُ أَحَدُهُمْ أَنَّهُ يَجِدُ عَرْقًا سَمِينًا أَوْ مِرْمَاتَيْنِ حَسَنَتَيْنِ لَشَهِدَ الْعِشَاءَ"
[الحديث644- أطرافه في : 7224,2420,657]
قوله: "باب وجوب صلاة الجماعة" هكذا بت الحكم في هذه المسألة، وكأن ذلك لقوة دليلها عنده، لكن أطلق الوجوب وهو أعم من كونه وجوب عين أو كفاية، إلا أن الأثر الذي ذكره عن الحسن يشعر بكونه يريد أنه وجوب عين، لما عرف من عادته أنه يستعمل الآثار في التراجم لتوضيحها وتكميلها وتعيين أحد الاحتمالات في حديث الباب، وبهذا يجاب من اعترض عليه بأن قول الحسن يستدل له لا به، ولم ينبه أحد من الشراح على من وصل أثر الحسن، وقد وجدته بمعناه وأتم منه وأصرح في كتاب الصيام للحسين ابن الحسن المروزي بإسناد صحيح " عن الحسن في رجل يصوم - يعني تطوعا - فتأمره أمه أن يفطر، قال: فليفطر ولا قضاء عليه، وله أجر الصوم وأجر البر. قيل: فتنهاه أن يصلي العشاء في جماعة، قال: ليس ذلك لها، هذه فريضة " وأما حديث الباب

(2/125)


فظاهر في كونها فرض عين، لأنها لو كانت سنة لم يهدد تاركها بالتحريق، ولو كانت فرض كفاية لكانت قائمة بالرسول ومن معه. ويحتمل أن يقال: التهديد بالتحريق المذكور يمكن أن يقع في حق تاركي فرض الكفاية كمشروعية قتال تاركي فرض الكفاية، وفيه نظر لأن التحريق الذي قد يفضي إلى القتل أخص من المقاتلة، ولأن المقاتلة إنما تشرع فيما إذا تمالأ الجميع على الترك، وإلى القول بأنها فرض عين ذهب عطاء والأوزاعي وأحمد وجماعة من محدثي الشافعية كأبي ثور وابن خزيمة وابن المنذر وابن حبان، وبالغ داود ومن تبعه فجعلها شرطا في صحة الصلاة، وأشار ابن دقيق العيد إلى أنه مبني على أن ما وجب في العبادة كان شرطا فيها، فلما كان لهم المذكور دالا على لازمه وهو الحضور، ووجوب الحضور دليلا على لازمه وهو الاشتراط، ثبت الاشتراط بهذه الوسيلة. إلا أنه لا يتم إلا بتسليم أن ما وجب في العبادة كان شرطا فيها، وقد قيل إنه الغالب. ولما كان الوجوب قد ينفك عن الشرطية قال أحمد: إنها واجبة غير شرط. انتهى. وظاهر نص الشافعي أنها فرض كفاية، وعليه جمهور المتقدمين من أصحابه وقال به كثير من الحنفية والمالكية، والمشهور عند الباقين أنها سنة مؤكدة، وقد أجابوا عن ظاهر حديث الباب بأجوبة: منها ما تقدم. ومنها وهو ثانيها ونقله إمام الحرمين عن ابن خزيمة، والذي نقله عنه النووي الوجوب حسبما قال ابن بزيزة إن بعضهم استنبط من نفس الحديث عدم الوجوب لكونه صلى الله عليه وسلم هم بالتوجه إلى المتخلفين فلو كانت الجماعة فرض عين ما هم بتركها إذا توجه. وتعقب بأن الواجب يجوز تركه لما هو أوجب منه. قلت: وليس فيه أيضا دليل على أنه لو فعل ذلك لم يتداركها في جماعة آخرين. ومنها وهو ثالثها ما قال ابن بطال وغيره: لو كانت فرضا لقال حين توعد بالإحراق من تخلف عن الجماعة لم تجزئه صلاته، لأنه وقت البيان. وتعقبه ابن دقيق العيد بأن البيان قد يكون بالتنصيص وقد يكون بالدلالة، فلما قال صلى الله عليه وسلم: "لقد هممت الخ " دل على وجوب الحضور وهو كاف في البيان. ومنها وهو رابعها ما قال الباجي وغيره إن الخبر ورد مورد الزجر وحقيقته غير مرادة. وإنما المراد المبالغة. ويرشد إلى ذلك وعيدهم بالعقوبة التي يعاقب بها الكفار، وقد انعقد الإجماع على منع عقوبة المسلمين بذلك، وأجيب بأن المنع وقع بعد نسخ التعذيب بالنار، وكان قيل ذلك جائزا بدليل حديث أبي هريرة الآتي في الجهاد الدال على جواز التحريق بالنار ثم على نسخه، فحمل التهديد على حقيقته غير ممتنع. ومنها وهو خامسها كونه صلى الله عليه وسلم ترك تحريقهم بعد التهديد، فلو كان واجبا ما عفا عنهم، قال القاضي عياض ومن تبعه: ليس في الحديث حجة لأنه عليه السلام هم ولم يفعل، زاد النووي: ولو كانت فرض عين لما تركهم، وتعقبه ابن دقيق العيد فقال: هذا ضعيف لأنه صلى الله عليه وسلم لا يهم إلا بما يجوز له فعله لو فعله، وأما الترك فلا يدل على عدم الوجوب لاحتمال أن يكونوا انزجروا بذلك وتركوا التخلف الذي ذمهم بسببه، على أنه قد جاء في بعض الطرق بيان سبب الترك وهو فيما رواه أحمد من طريق سعيد المقبري عن أبي هريرة بلفظ: "لولا ما في البيوت من النساء والذرية لأقمت صلاة العشاء وأمرت فتياني يحرقون " الحديث. ومنها وهو سادسها أن المراد بالتهديد قوم تركوا الصلاة رأسا لا مجرد الجماعة، وهو متعقب بأن في رواية مسلم: "لا يشهدون الصلاة " أي لا يحضرون. وفي رواية عجلان عن أبي هريرة عند أحمد " لا يشهدون العشاء في الجميع " أي في الجماعة، وفي حديث أسامة بن زيد عند ابن ماجه مرفوعا: "لينتهين رجال عن تركهم الجماعات أو لأحرقن بيوتهم" . ومنها وهو سابعها أن الحديث ورد في الحث على مخالفة فعل أهل النفاق والتحذير من التشبه بهم لا لخصوص ترك الجماعة فلا يتم الدليل، أشار إليه الزين بن المنير، وهو

(2/126)


قريب من الوجه الرابع. ومنها وهو ثامنها أن الحديث ورد في حق المنافقين، فليس التهديد لترك الجماعة بخصوصه فلا يتم الدليل، وتعقب باستبعاد الاعتناء بتأديب المنافقين على تركهم الجماعة مع العلم بأنه لا صلاة لهم، وبأنه كان معرضا عنهم وعن عقوبتهم مع علمه بطويتهم وقد قال: "لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه " وتعقب ابن دقيق العيد هذا التعقيب بأنه لا يتم إلا إذا ادعى أن ترك معاقبة المنافقين كان واجبا عليه ولا دليل على ذلك، فإذا ثبت أنه كان مخيرا فليس في إعراضه عنهم ما يدل على وجوب ترك عقوبتهم. انتهى. والذي يظهر لي أن الحديث ورد في المنافقين لقوله في صدر الحديث الآتي بعد أربعة أبواب " ليس صلاة أثقل على المنافقين من العشاء والفجر " الحديث، ولقوله: "لو يعلم أحدهم الخ " لأن هذا الوصف لائق بالمنافقين لا بالمؤمن الكامل، لكن المراد به نفاق المعصية لا نفاق الكفر بدليل قوله في رواية عجلان " لا يشهدون العشاء في الجميع " وقوله في حديث أسامة " لا يشهدون الجماعة " وأصرح من ذلك قوله في رواية يزيد بن الأصم عن أبي هريرة عند أبي داود " ثم آتى قوما يصلون في بيوتهم ليست بهم علة " فهذا يدل على أن نفاقهم نفاق معصية لا كفر، لأن الكافر لا يصلي في بيته إنما يصلي في المسجد رياء وسمعة، فإذا خلا في بيته كان كما وصفه الله به من الكفر والاستهزاء، نبه عليه القرطبي. وأيضا فقوله في رواية المقبري " لولا ما في البيوت من النساء والذرية " يدل على أنهم لم يكونوا كفارا لأن تحريق بيت الكافر إذا تعين طريقا إلى الغلبة عليه لم يمنع ذلك وجود النساء والذرية في بيته، وعلى تقدير أن يكون المراد بالنفاق في الحديث نفاق الكفر فلا يدل على الوجوب من جهة المبالغة في ذم من تخلف عنها، قال الطيبي: خروج المؤمن من هذا الوعيد ليس من جهة أنهم إذا سمعوا النداء جاز لهم التخلف عن الجماعة، بل من جهة أن التخلف ليس من شأنهم بل هو من صفات المنافقين، ويدل عليه قول ابن مسعود " لقد رأيتنا وما يتخلف عن الجماعة إلا منافق " رواه مسلم، انتهى كلامه. وروى ابن أبي شيبة وسعيد بن منصور بإسناد صحيح عن أبي عمير بن أنس حدثني عمومتي من الأنصار قالوا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما يشهدهما منافق " يعني العشاء والفجر. ولا يقال فهذا يدل على ما ذهب إليه صاحب هذا الوجه لانتفاء أن يكون المؤمن قد يتخلف، وإنما ورد الوعيد في حق من تخلف لأني أقول بل هذا يقوى ما ظهر لي أولا أن المراد بالنفاق نفاق المعصية لا نفاق الكفر، فعلى هذا الذي خرج هو المؤمن الكامل لا العاصي الذي يجوز إطلاق النفاق عليه مجازا لما دل عليه مجموع الأحاديث. ومنها وهو تاسعها ما ادعاه بعضهم أن فرضية الجماعة كانت في أول الإسلام لأجل سد باب التخلف عن الصلاة على المنافقين ثم نسخ حكاه عياض، ويمكن أن يتقوى بثبوت نسخ الوعيد المذكور في حقهم وهو التحريق بالنار كما سيأتي واضحا في كتاب الجهاد، وكذا ثبوت نسخ ما يتضمنه التحريق من جواز العقوبة بالمال، ويدل على النسخ الأحاديث الواردة في تفصيل صلاة الجماعة على صلاة الفذ كما سيأتي بيانه في الباب الذي بعد هذا، لأن الأفضلية تقتضي الاشتراك في أصل الفضل، ومن لازم ذلك الجواز. ومنها وهو عاشرها أن المراد بالصلاة الجمعة لا باقي الصلوات، ونصره القرطبي، وتعقب بالأحاديث المصرحة بالعشاء، وفيه بحث لأن الأحاديث اختلفت في تعيين الصلاة التي وقع التهديد بسببها هل هي الجمعة أو العشاء، أو العشاء والفجر معا؟ فإن لم تكن أحاديث مختلفة ولم يكن بعضها أرجح من بعض وإلا وقف الاستدلال، لأنه لا يتم إلا إن تعين كونها غير الجمعة، أشار إليه ابن دقيق العيد، ثم قال فليتأمل الأحاديث الواردة

(2/127)


في ذلك. انتهى. وقد تأملتها فرأيت التعيين ورد في حديث أبي هريرة وابن أم مكتوم وابن مسعود، أما حديث أبي هريرة فحديث الباب من رواية الأعرج عنه يومي إلى أنها العشاء لقوله في آخره: "لشهد العشاء " وفي رواية مسلم: "يعني العشاء " ولهما من رواية أبي صالح عنه أيضا الإيماء إلى أنها العشاء والفجر، وعينها السراج في رواية له من هذا الوجه العشاء حيث قال في صدر الحديث: "أخر العشاء ليلة فخرج فوجد الناس قليلا فغضب " فذكر الحديث. وفي رواية ابن حبان من هذا الوجه " يعني الصلاتين العشاء والغداة " وفي رواية عجلان والمقبري عند أحمد التصريح بتعيين العشاء، ثم سائر الروايات عن أبي هريرة على الإبهام. وقد أورده مسلم من طريق وكيع عن جعفر بن برقان عن يزيد بن الأصم عنه فلم يسق لفظه وساقه الترمذي وغيره من هذا الوجه بإبهام الصلاة، وكذلك رواه السراج وغيره عن طرق عن جعفر، وخالفهم معمر عن جعفر فقال: "الجمعة " أخرجه عبد الرزاق عنه، والبيهقي طريقه وأشار إلى ضعفها لشذوذها، ويدل على وهمه فيها رواية أبي داود والطبراني في الأوسط من طريق يزيد بن يزيد بن جابر عن يزيد بن الأصم فذكر الحديث، قال يزيد: قلت ليزيد بن الأصم: يا أبا عوف الجمعة عني أو غيرها؟ قال: صمت أذناي إن لم أكن سمعت أبا هريرة يأثره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ذكر جمعة ولا غيرها. فظهر أن الراجح في حديث أبي هريرة أنها لا تختص بالجمعة، وأما حديث ابن أم مكتوم فسأذكره قريبا وأنه موافق لأبي هريرة. وأما حديث ابن مسعود فأخرجه مسلم وفيه الجزم بالجمعة وهو حديث مستقل لأن مخرجه مغاير لحديث أبي هريرة، ولا يقدح أحدهما في الآخر فيحمل على أنهما واقعتان كما أشار إليه النووي والمحب الطبري، وقد وافق ابن أم مكتوم أبا هريرة على ذكر العشاء، وذلك فيما أخرجه ابن خزيمة وأحمد والحاكم من طريق حصين بن عبد الرحمن عن عبد الله بن شداد عن ابن أم مكتوم " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استقبل الناس في صلاة العشاء فقال: لقد هممت أني آتي هؤلاء الذين يتخلفون عن الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم. فقام ابن أم مكتوم فقال: يا رسول الله قد علمت ما بي؟ وليس لي قائد - زاد أحمد - وأن بيني وبين المسجد شجرا ونخلا ولا أقدر على قائد كل ساعة. قال: أتسمع الإقامة؟ قال: نعم. قال فاحضرها. ولم يرخص له " ولابن حبان من حديث جابر قال: "أتسمع الأذان؟ قال: نعم. قال: فأتها ولو حبوا " وقد حمله العلماء على أنه كان لا يشق عليه التصرف بالمشي وحده ككثير من العميان. واعتمد ابن خزيمة وغيره حديث ابن أم مكتوم هذا على فرضية الجماعة في الصلوات كلها ورجحوه بحديث الباب وبالأحاديث الدالة على الرخصة في التخلف عن الجماعة، قالوا: لأن الرخصة لا تكون إلا عن واجب، وفيه نظر، ووراء ذلك أمر آخر ألزم به ابن دقيق العيد من يتمسك بالظاهر ولا يتقيد بالمعنى، وهو أن الحديث ورد في صلاة معينة فيدل على وجوب الجماعة فيها دون غيرها، وأشار للانفصال عنه بالتمسك بدلالة العموم، لكن نوزع في كون القول بما ذكر أولا ظاهرية محضة صلى الله عليه وسلم فإن قاعدة حمل المطلق على المقيد تقتضيه،
ـــــــ
(1) ليس هذا بجيد , والصواب ماقاله ابن خزيمة وغيره من الموجبين للجماعة في جميع الصلوات . وإنما يستقيم حمل المطلق على المقيد إذا لم يوجد دليل على التعميم , وفي هذه المسألة قد قام الدليل على التعميم كحديث" من سمع النداء فلم يأت فلا صلاة له إلا من عذر " وغيره من الأحاديث التي أشار إليها الشارح في هذا الباب . وذكر العشاء والفجر في بعض الروايات لايقتضي التخصيص لاحتمال كون المتوعدين لم يتخلفوا إلا عنها كما قد بين ذلك في كثير من الروايات. ولأن الحكمة في شرعية الجماعة تقتضى التعميم . والله أعلم

(2/128)


ولا يستلزم ذلك ترك اتباع المعنى، لأن غير العشاء والفجر مظنة الشغل بالتكسب وغيره، أما العصران فظاهر، وأما المغرب فلأنها في الغالب وقت الرجوع إلى البيت والأكل ولا سيما للصائم مع ضيق وقتها، بخلاف العشاء والفجر فليس للمتخلف عنهما عذر غير الكسل المذموم، وفي المحافظة عليهما في الجماعة أيضا انتظام الألفة بين المتجاورين في طرفي النهار، وليختموا النهار بالاجتماع على الطاعة ويفتتحوه كذلك. وقد وقع في رواية عجلان عن أبي هريرة عند أحمد تخصيص التهديد بمن حول المسجد، وسيأتي توجيه كون العشاء والفجر أثقل على المنافقين من غيرهما. وقد أطلت في هذا الموضع لارتباط بعض الكلام ببعض، واجتمع من الأجوبة لمن لم يقل بالوجوب عشرة أجوبة لا توجد مجموعة في غير هذا الشرح. قوله: "عن الأعرج" في رواية السراج من طريق شعيب عن أبي الزناد سمع الأعرج. قوله: "والذي نفسي بيده" هو قسم كان النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يقسم به، والمعنى أن أمر نفوس العباد بيد الله، أي بتقديره وتدبيره صلى الله عليه وسلم. وفيه جواز القسم على الأمر الذي لا شك فيه تنبيها على عظم شأنه، وفيه الرد على من كره أن يحلف بالله مطلقا. قوله: "لقد هممت" اللام جواب القسم، والهم العزم وقيل دونه، وزاد مسلم في أوله " أنه صلى الله عليه وسلم فقد ناسا في بعض الصلوات فقال: لقد هممت " فأفاد ذكر سبب الحديث. قوله: "بحطب ليحطب" كذا للحموي والمستملي بلام التعليل، وللكشميهني والباقين " فيحطب " بالفاء، وكذا هو في الموطأ ومعنى يحطب يكسر ليسهل اشتعال النار به. ويحتمل أن يكون أطلق عليه ذلك قبل أن يتصف به تجوزا بمعنى أنه يتصف به. قوله: "ثم أخالف إلى رجال" أي آتيهم من خلفهم. وقال الجوهري: خالف إلى فلان أي أتاه إذا غاب عنه، أو المعنى أخالف الفعل الذي أظهرت من إقامة الصلاة وأتركه وأسير إليهم، أو أخالف ظنهم في أني مشغول بالصلاة عن قصدي إليهم، أو معنى أخالف أتخلف - أي عن الصلاة - إلى قصدي المذكورين، والتقييد بالرجال يخرج النساء والصبيان. قوله: "فأحرق" بالتشديد، والمراد به التكثير، يقال حرقه إذا بالغ في تحريقه. قوله: "عليهم" يشعر بأن العقوبة ليست قاصرة على المال، بل المراد تحريق المقصودين، والبيوت تبعا للقاطنين بها. وفي رواية مسلم من طريق أبي صالح " فأحرق بيوتا على من فيها" . قوله: "والذي نفسي بيده" فيه إعادة اليمين للمبالغة في التأكيد. قوله: "عرقا" بفتح العين المهملة وسكون الراء بعدها قاف قال الخليل: العراق العظم بلا لحم، وإن كان عليه لحم فهو عرق، وفي الحكم عن الأصمعي: العرق بسكون الراء قطعة لحم. وقال الأزهري: العرق واحد العراق وهي العظام التي يؤخذ منها هبر اللحم، ويبقى عليها لحم رقيق فيكسر ويطبخ ويؤكل ما على العظام من لحم دقيق ويتشمس العظام، يقال عرقت اللحم واعترقته وتعرقته إذا أخذت اللحم منه نهشا، وفي المحكم: جمع العرق على عراق بالضم عزيز، وقول الأصمعي هو اللائق هنا. قوله: "أو مرماتين" تثنية مرماة بكسر الميم وحكى الفتح، قال الخليل: هي ما بين ظلفي الشاة، وحكاه أبو عبيد وقال: لا أدري ما وجهه. ونقله المستملي في روايته في كتاب الأحكام عن الفربري قال: قال يونس عن محمد بن سليمان عن البخاري: المرماة بكسر الميم مثل مسناة وميضاة ما بين ظلفي الشاة من اللحم، قال عياض فالميم على هذا أصلية. وقال الأخفش: المرماة لعبة كانوا يلعبونها بنصال محدودة يرمونها في كوم من تراب، فأيهم أثبتها في الكوم غلب، وهي المرماة والمدحاة. قلت: ويبعد أن

(2/129)


تكون هذه مراد الحديث لأجل التثنية، وحكى الحربي عن الأصمعي أن المرماة سهم الهدف، قال: ويؤيده ما حدثني.ثم ساق من طريق أبي رافع عن أبي هريرة نحو الحديث بلفظ: "لو أن أحدهم إذا شهد الصلاة معي كان له عظم من شاة سمينة أو سهمان لفعل " وقيل المرماة سهم يتعلم عليه الرمي، وهو سهم دقيق مستو غير محدد، قال الزين ابن المنير: ويدل على ذلك التثنية، فإنها مشعرة بتكرار الرمي بخلاف السهام المحددة الحربية فإنها لا يتكرر رميها وقال الزمخشري: تفسير المرماة بالسهم ليس بوجيه، ويدفعه ذكر العرق معه. ووجهه ابن الأثير بأنه لما ذكر العظم السمين وكان مما يؤكل أتبعه بالسهمين لأنهما مما يلهي به. انتهى. وإنما وصف العرق بالسمن والمرماة بالحسن ليكون ثم باعث نفساني على تحصيلهما. وفيه الإشارة إلى ذم المتخلفين عن الصلاة بوصفهم بالحرص على الشيء الحقير من مطعوم أو ملعوب به، مع التفريط فيما يحصل رفيع الدرجات ومنازل الكرامة. وفي الحديث من الفوائد أيضا تقديم الوعيد والتهديد على العقوبة، وسره أن المفسدة إذا ارتفعت بالأهون من الزجر اكتفى به عن الأعلى من العقوبة، نبه عليه ابن دقيق العيد، وفيه جواز العقوبة بالمال. كذا استدل به كثير من القائلين بذلك من المالكية وغيرهم، وفيه نظر لما أسلفناه، ولاحتمال أن التحريق من باب ما لا يتم الواجب إلا به، إذ الظاهر أن الباعث على ذلك أنهم كانوا يختفون في بيوتهم فلا يتوصل إلى عقوبتهم إلا بتحريقها عليهم. وفيه جواز أخذ أهل الجرائم على غرة لأنه صلى الله عليه وسلم هم بذلك في الوقت الذي عهد منه فيه الاشتغال بالصلاة بالجماعة، فأراد أن يبغتهم في الوقت الذي يتحققون أنه لا يطرقهم فيه أحد. وفي السياق إشعار بأنه تقدم منه زجرهم عن التخلف بالقول حتى استحقوا التهديد بالفعل، وترجم عليه البخاري في كتاب الأشخاص وفي كتاب الأحكام " باب إخراج أهل المعاصي والريب من البيوت بعد المعرفة " يريد أن من طلب منهم بحق فاختفى أو امتنع في بيته لددا ومطلا أخرج منه بكل طريق يتوصل إليه بها، كما أراد صلى الله عليه وسلم إخراج المتخلفين عن الصلاة بإلقاء النار عليهم في بيوتهم. واستدل به ابن العربي وغيره على مشروعية قتل تارك الصلاة متهاونا بها، ونوزع في ذلك. ورواية أبي داود التي فيها أنهم كانوا يصلون في بيوتهم كما قدمناه تعكر عليه. نعم يمكن الاستدلال منه بوجه آخر وهو أنهم إذا استحقوا التحريق بترك صفة من صفات الصلاة خارجة عنها سواء قلنا واجبة أو مندوبة كان من تركها أصلا رأسا أحق بذلك، لكن لا يلزم من التهديد بالتحريق حصول القتل لا دائما ولا غالبا، لأنه يمكن الفرار منه أو الإخماد له بعد حصول المقصود منه من الزجر والإرهاب. وفي قوله في رواية أبي داود " ليست بهم علة " دلالة على أن الأعذار تبيح التخلف عن الجماعة ولو قلنا إنها فرض، وكذا الجمعة. وفيه الرخصة للإمام أو نائبه في ترك الجماعة لأجل إخراج من يستخفي في بيته ويتركها، ولا بعد في أن تلحق بذلك الجمعة، فقد ذكروا من الأعذار في التخلف عنها خوف فوات الغريم وأصحاب الجرائم في حق الإمام كالغرماء. واستدل به على جواز إمامة المفضول مع وجود الفاضل إذا كان في ذلك مصلحة، قال ابن بزيزة: وفيه نظر لأن الفاضل في هذه الصورة يكون غائبا، وهذا لا يختلف في جوازه، واستدل به ابن العربي على جواز إعدام محل المعصية كما هو مذهب مالك، وتعقب بأنه منسوخ صلى الله عليه وسلم كما قيل في العقوبة بالمال، والله أعلم.

(2/130)


باب عدل فضل صلاة الجماعة
...
30 - باب فَضْلِ صَلاَةِ الْجَمَاعَةِ
وَكَانَ الأَسْوَدُ إِذَا فَاتَتْهُ الْجَمَاعَةُ ذَهَبَ إِلَى مَسْجِدٍ آخَرَ وَجَاءَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ إِلَى مَسْجِدٍ قَدْ صُلِّيَ فِيهِ فَأَذَّنَ وَأَقَامَ وَصَلَّى جَمَاعَةً
645- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "صَلاَةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُلُ صَلاَةَ الْفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً"
[الحديث645 – طرفه في : 649]
646- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ حَدَّثَنِي ابْنُ الْهَادِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَبَّابٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ صَلاَةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُلُ صَلاَةَ الْفَذِّ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً
647- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ قَالَ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا صَالِحٍ يَقُولُ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صَلاَةُ الرَّجُلِ فِي الْجَمَاعَةِ تُضَعَّفُ عَلَى صَلاَتِهِ فِي بَيْتِهِ وَفِي سُوقِهِ خَمْسًا وَعِشْرِينَ ضِعْفًا وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الْمَسْجِدِ لاَ يُخْرِجُهُ إِلاَّ الصَّلاَةُ لَمْ يَخْطُ خَطْوَةً إِلاَّ رُفِعَتْ لَهُ بِهَا دَرَجَةٌ وَحُطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ فَإِذَا صَلَّى لَمْ تَزَلْ الْمَلاَئِكَةُ تُصَلِّي عَلَيْهِ مَا دَامَ فِي مُصَلاَهُ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِ اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ وَلاَ يَزَالُ أَحَدُكُمْ فِي صَلاَةٍ مَا انْتَظَرَ الصَّلاَةَ"
قوله: "باب فضل صلاة الجماعة" أشار الزين بن المنير إلى أن ظاهر هذه الترجمة ينافي الترجمة التي قبلها، ثم أطال في الجواب عن ذلك، ويكفي منه أن كون الشيء واجبا لا ينافي كونه ذا فضيلة، ولكن. الفضائل تتفاوت، فالمراد منها بيان زيادة ثواب الجماعة على صلاة الفذ. قوله: "وكان الأسود" أي ابن يزيد النخعي أحد كبار التابعين، وأثره هذا وصله ابن أبي شيبة بإسناد صحيح ولفظه: "إذا فاتته الجماعة في مسجد قومه" . ومناسبته للترجمة أنه لولا ثبوت فضيلة الجماعة عنده لما ترك فضيلة أول الوقت والمبادرة إلى خلاص الذمة وتوجه إلى مسجد آخر، كذا أشار إليه ابن المنير، والذي يظهر لي أن البخاري قصد الإشارة بأثر الأسود وأنس إلى أن الفضل الوارد في أحاديث الباب مقصور على من جمع في المسجد دون من جمع في بيته مثلا كما سيأتي البحث فيه في الكلام على حديث أبي هريرة، لأن التجميع لو لم يكن مختصا بالمسجد لجمع الأسود في مكانه ولم ينتقل إلى مسجد آخر لطلب الجماعة ولما جاء أنس إلى مسجد بني رفاعة كما سنبينه. قوله: "وجاء أنس" وصله أبو يعلى في مسنده من طريق الجعد أبي عثمان قال: "مر بنا أنس، بن مالك في مسجد بني ثعلبة " فذكر نحوه قال: وذلك في صلاة الصبح، وفيه: "فأمر رجلا فأذن وأقام ثم صلى بأصحابه " وأخرجه ابن أبي شيبة من طرق عن الجعد، وعند البيهقي من طريق أبي عبد الصمد العمي عن الجعد نحوه وقال: "مسجد بني رفاعة " وقال: "فجاء أنس في نحو عشرين من فتيانه " وهو يؤيد ما قلناه من إرادة التجميع في المسجد. قوله: "صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ" بالمعجمة أي المنفرد، يقال فذ الرجل من أصحابه إذا بقي منفردا

(2/131)


وحده. وقد رواه مسلم من رواية عبيد الله بن عمر عن نافع وسياقه أوضح ولفظه: "صلاة الرجل في الجماعة تزيد على صلاته وحده" . قوله: "بسبع وعشرين درجة" قال الترمذي عامة من رواه قالوا خمسا وعشرين إلا ابن عمر فإنه قال سبعا وعشرين. قلت: لم يختلف عليه في ذلك إلا ما وقع عند عبد الرزاق عن عبد الله العمري عن نافع فقال فيه خمس وعشرون لكن العمري ضعيف، ووقع عند أبي عوانة في مستخرجه من طريق أبي أسامة عن عبيد الله ابن عمر عن نافع فإنه قال فيه بخمس وعشرين وهي شاذة مخالفة لرواية الحفاظ من أصحاب عبيد الله وأصحاب نافع وإن كان راويها ثقة. وأما ما وقع عند مسلم من رواية الضحاك بن عثمان عن نافع بلفظ بضع وعشرين فليست مغايرة لرواية الحفاظ لصدق البضع على السبع، وأما غير ابن عمر فصح عن أبي سعيد وأبي هريرة كما في هذا الباب، وعن ابن مسعود عند أحمد وابن خزيمة، وعن أبي بن كعب عند ابن ماجه والحاكم، وعن عائشة وأنس عند السراج، وورد أيضا من طرق ضعيفة عن معاذ وصهيب وعبد الله بن زيد وزيد بن ثابت وكلها عند الطبراني، واتفق الجميع على سبع وعشرون سوى رواية أبي فقال أربع أو خمس على الشك، وسوى رواية لأبي هريرة عند أحمد قال فيها سبع وعشرون وفي إسنادها شريك القاضي وفي حفظه ضعف. وفي رواية لأبي عوانة بضعا وعشرين وليست مغايرة أيضا لصدق البضع على الخمس، فرجعت الروايات كلها إلى الخمس والسبع إذ لا أثر للشك، واختلف في أيهما أرجح فقيل رواية الخمس لكثرة رواتها، وقيل رواية السبع لأن فيها زيادة من عدل حافظ، ووقع الاختلاف في موضع آخر من الحديث وهو مميز العدد المذكور، ففي الروايات كلها التعبير بقوله: "درجة " أو حذف المميز، إلا طرق حديث أبي هريرة ففي بعضها " ضعفا " وفي بعضها " جزءا " وفي بعضها " درجة " وفي بعضها " صلاة " ووقع هذا الأخير في بعض طرق حديث أنس، والظاهر أن ذلك من تصرف الرواة، ويحتمل أن يكون ذلك من التفنن في العبارة. وأما قول ابن الأثير: إنما قال درجة ولم يقل جزءا ولا نصيبا ولا حظا ولا نحو ذلك لأنه أراد الثواب من جهة العلو والارتفاع فإن ذلك فوق هذه بكذا وكذا درجة لأن الدرجات إلى جهة فوق، فكأنه بناه على أن الأصل لفظ درجة وما عدا ذلك من تصرف الرواة، لكن نفيه ورود " الجزء " مردود، فإنه ثابت، وكذلك الضعف، وقد جمع بين روايتي الخمس والسبع بوجوه: منها أن ذكر القليل لا ينفي الكثير، وهذا قول من لا يعتبر مفهوم العدد، لكن قد قال به جماعة من أصحاب الشافعي وحكى عن نصه، وعلى هذا فقيل وهو الوجه الثاني: لعله صلى الله عليه وسلم أخبر بالخمس، ثم أعلمه الله بزيادة الفضل فأخبر بالسبع، وتعقب بأنه يحتاج إلى التاريخ، وبأن دخول النسخ في الفضائل مختلف فيه، لكن إذا فرعنا على المنع تعين تقدم الخمس على السبع من جهة أن الفضل من الله يقبل الزيادة لا النقص. ثالثها أن اختلاف العددين باختلاف مميزهما، وعلى هذا فقيل: الدرجة أصغر من الجزء، وتعقب بأن الذي روى عنه الجزء روى عند الدرجة. وقال بعضهم: الجزء في الدنيا والدرجة في الآخرة، وهو مبني على التغاير. رابعها الفرق بقرب المسجد وبعده. خامسها الفرق بحال المصلي كأن يكون أعلم أو أخشع. سادسها الفرق بإيقاعها في المسجد أو في غيره. سابعها الفرق بالمنتظر للصلاة وغيره. ثامنها الفرق بإدراك كلها أو بعضها. تاسعها الفرق بكثرة الجماعة وقلتهم. عاشرها السبع مختصة بالفجر والعشاء وقيل بالفجر والعصر والخمس بما عدا ذلك. حادي عشرها السبع مختصة بالجهرية والخمس بالسرية، وهذا الوجه عندي أوجهها لما سأبينه. ثم إن الحكمة في هذا العدد الخاص غير محققة المعنى. ونقل الطيبي عن التوربشتي ما حاصله: إن ذلك لا يدرك بالرأي، بل مرجعه إلى علم

(2/132)


النبوة التي قصرت علوم الألباء عن إدراك حقيقتها كلها، ثم قال: ولعل الفائدة هي اجتماع المسلمين مصطفين كصفوف الملائكة، والاقتداء بالإمام، وإظهار شعائر الإسلام وغير ذلك. وكأنه يشير إلى ما قدمته عن غيره وغفل عن مراد من زعم أن هذا الذي ذكره لا يفيد المطلوب، لكن أشار الكرماني إلى احتمال أن يكون أصله كون المكتوبات خمسا فأريد المبالغة في تكثيرها فضربت في مثلها فصارت خمسا وعشرين. ثم ذكر للسبع مناسبة أيضا من جهة عدد ركعات الفرائض ورواتبها. وقال غيره: الحسنة بعشر للمصلي منفردا فإذا انضم إليه آخر بلغت عشرين ثم زيد بقدر عدد الصلوات الخمس، أو يزاد عدد أيام الأسبوع، ولا يخفى فساد هذا. وقيل: الأعداد عشرات ومئين وألوف وخير الأمور الوسط فاعتبرت المائة والعدد المذكور ربعها، وهذا أشد فسادا من الذي قبله. وقرأت بخط شيخنا البلقيني فيما كتب على العمدة: ظهر لي في هذين العددين شيء لم أسبق إليه، لأن لفظ ابن عمر " صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ " ومعناه الصلاة في الجماعة كما وقع في حديث أبي هريرة " صلاة الرجل في الجماعة " وعلى هذا فكل واحد من المحكوم له بذلك صلى في جماعة، وأدني الأعداد التي يتحقق فيها ذلك ثلاثة حتى يكون كل واحد صلى في جماعة وكل واحد منهم أتى بحسنة وهي بعشرة فيحصل من مجموعه ثلاثون فاقتصر في الحديث على الفضل الزائد وهو سبعة وعشرون دون الثلاثة التي هي أصل ذلك. انتهى. وظهر لي في الجمع بين العددين أن أقل الجماعة إمام ومأموم، فلولا الإمام ما سمى المأموم وكذا عكسه، فإذا تفضل الله على من صلى جماعة بزيادة خمس وعشرين درجة حمل الخبر الوارد بلفظها على الفضل الزائد، والخبر الوارد بلفظ سبع وعشرين على الأصل والفضل. وقد خاض قوم في تعيين الأسباب المقتضية للدرجات المذكورة، قال ابن الجوزي: وما جاءوا بطائل. وقال المحب الطبري: ذكر بعضهم أن في حديث أبي هريرة - يعني ثالث أحاديث الباب - إشارة إلى بعض ذلك، ويضاف إليه أمور أخرى وردت في ذلك، وقد فصلها ابن بطال وتبعه جماعة من الشارحين، وتعقب الزين ابن المنير بعض ما ذكره واختار تفصيلا آخر أورده، وقد نقحت ما وقفت عليه من ذلك وحذفت ما لا يختص بصلاة الجماعة: فأولها إجابة المؤذن بنية الصلاة في الجماعة، والتبكير إليها في أول الوقت، والمشي إلى المسجد بالسكينة، ودخول المسجد داعيا، وصلاة التحية عند دخوله كل ذلك بنية الصلاة في الجماعة، سادسها انتظار الجماعة، سابعها صلاة الملائكة عليه واستغفارهم له، ثامنها شهادتهم له، تاسعها إجابة الإقامة، عاشرها السلامة من الشيطان حين يفر عند الإقامة، حادي عاشرها الوقوف منتظرا إحرام الإمام أو الدخول معه في أي هيئة وحده عليها، ثاني عشرها إدراك تكبيرة الإحرام كذلك، ثالث عشرها تسوية الصفوف وسد فرجها، رابع عشرها جواب الإمام عند قوله سمع الله لمن حمده، خامس عشرها الأمن من السهو غالبا وتنبيه الإمام إذا سها بالتسبيح أو الفتح عليه، سادس عشرها حصول الخشوع والسلامة عما يلهي غالبا، سابع عشرها تحسين الهيئة غالبا، ثامن عشرها احتفاف الملائكة به، تاسع عشرها التدرب على تجويد القراءة وتعلم الأركان والأبعاض، العشرون إظهار شعائر الإسلام، الحادي والعشرون إرغام الشيطان بالاجتماع على العبادة والتعاون على الطاعة ونشاط المتكاسل، الثاني والعشرون السلامة من صفة النفاق ومن إساءة غيره الظن بأنه ترك الصلاة رأسا، الثالث والعشرون رد السلام على الإمام، الرابع والعشرون الانتفاع باجتماعهم على الدعاء والذكر وعود بركة الكامل على الناقص، الخامس والعشرون قيام نظام الألفة بين الجيران وحصول تعاهدهم في أوقات الصلوات. فهذه خمس وعشرون خصلة ورد في كل منها

(2/133)


أمر أو ترغيب يخصه، وبقي منها أمران يختصان بالجهرية وهما الإنصات عند قراءة الإمام والاستماع لها والتأمين عند تأمينه ليوافق تأمين الملائكة، وبهذا يترجح أن السبع تختص بالجهرية صلى الله عليه وسلم والله أعلم. "تنبيهات": "الأول" مقتضى الخصال التي ذكرتها اختصاص التضعيف بالتجمع في المسجد وهو الراجح في نظري كما سيأتي البحث فيه، وعلى تقدير أن لا يختص بالمسجد فإنما ذكرته ثلاثة أشياء وهي المشي والدخول والتحية، فيمكن أن تعوض من بعض ما ذكر مما يشتمل على خصلتين متقاربتين أقيمتا مقام خصلة واحدة كالأخيرتين لأن منفعة الاجتماع على الدعاء والذكر غير منفعة عود بركة الكامل على الناقص، وكذا فائدة قيام نظام الألفة غير فائدة حصول التعاهد، وكذا فائدة أمن المأمومين من السهو غالبا غير تنبيه الإمام إذا سها. فهذه ثلاثة يمكن أن يعوض بها الثلاثة المذكورة فيحصل المطلوب. "الثاني" لا يرد على الخصال التي ذكرتها كون بعض الخصال يختص ببعض من صلى جماعة دون بعض كالتبكير في أول الوقت وانتظار الجماعة وانتظار إحرام الإمام ونحو ذلك، لأن أجر ذلك يحصل لقاصده بمجرد النية ولو لم يقع كما سبق، والله أعلم. "الثالث" معنى الدرجة أو الجزء حصول مقدار صلاة المنفرد بالعدد المذكور للمجمع، وقد أشار ابن دقيق العيد إلى أن بعضهم زعم خلاف ذلك قال: والأول أظهر، لأنه قد ورد مبينا في بعض الروايات. انتهى. وكأنه يشير إلى ما عند مسلم في بعض طرقه بلفظ: "صلاة الجماعة تعدل خمسا وعشرين من صلاة الفذ " وفي أخرى " صلاة مع الإمام أفضل من خمس وعشرين صلاة يصليها وحده " ولأحمد من حديث ابن مسعود بإسناد رجاله ثقات نحوه وقال في آخره: "كلها مثل صلاته " وهو مقتضى لفظ رواية أبي هريرة الآتية حيث قال: "تضعف " لأن الضعف كما قال الأزهري المثل إلى ما زاد ليس بمقصور على المثلين تقول هذا ضعف الشيء أي مثله أو مثلاه فصاعدا لكن لا يزاد على العشرة. وظاهر قوله: "تضعف " وكذا قوله في روايتي ابن عمر وأبي سعيد " تفضل " أي تزيد، وقوله في رواية أبي هريرة السابقة في " باب مساجد السوق " يريد أن صلاة الجماعة تساوي صلاة المنفرد وتزيد عليها العدد المذكور فيكون لمصلي الجماعة ثواب ست أو ثمان وعشرين من صلاة المنفرد. قوله: "عن عبد الله بن خباب" بمعجمة وموحدتين الأولى مثقلة، وهو أنصاري مدني، ويوافقه في اسمه واسم أبيه عبد الله بن خباب بن الأرت، لكن ليست له في الصحيحين رواية. قوله: "بخمس وعشرين" في رواية الأصيلي: "خمسا وعشرين " زاد ابن حبان وأبو داود من وجه آخر عن أبي سعيد " فإن صلاها في فلاة فأتم ركوعها وسجودها بلغت خمسين صلاة " وكأن السر في ذلك أن الجماعة لا تتأكد في حق المسافر لوجود المشقة، بل حكى النووي أنه لا يجري فيه الخلاف في وجوبها صلى الله عليه وسلم لكن فيه نظر فإنه خلاف نص الشافعي، وحكى أبو داود عن عبد الواحد قال:
ـــــــ
(1) في هذا التخريج نظر , والأظهر عموم الحديث لجميع الصلوات الخمس , وذلك من زيادة فضل الله سبحانه وتعالى لمن يحضر الصلاة في الجماعة . والله أعلم
(2) ليس ما قاله النووي بجيد , والصواب وجوب الجماعة حضرا وسفرا كما يعلم ذلك من فعله صلى الله عليه وسلم ومواظبته على الجماعة وقوله تعالى { وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ } الآية . وأما تفضيل صلاة من صلى في الفلاة فأتم ركوعها وسجودها على صلاة من صلى في الجماعة فليس فيه حجة على عدم وجوب الجماعة في السفر لأن أدلتها محكمة فلا تجوز مخالفتها لشيء محتمل . وإنما يجب حمل هذا النص - إن صح - على من صلى في الفلاة حسب طاقته من غير ترك الجماعة عند إمكانها فأتم ركوعها وسجودها مع كونه خاليا بربه بعيدا عن الناس , فشكر الله له هذا الإخلاص والاهتمام بأمر الصلاة فضاعف له هذا التضعيف. والله أعلم

(2/134)


في هذا الحديث أن صلاة الرجل في الفلاة تضاعف على صلاته في الجماعة. انتهى. وكأنه أخذه من إطلاق قوله: "فإن صلاها " لتناوله الجماعة والانفراد، لكن حمله على الجماعة أولى، وهو الذي يظهر من السياق، ويلزم على ما قال النووي أن ثواب المندوب يزيد على ثواب الواجب عند من يقول بوجوب الجماعة، وقد استشكله القرافي على أصل الحديث بناء على القول بأنها سنة، ثم أورد عليه أن الثواب المذكور مرتب على صلاة الفرض وصفته من صلاة الجماعة، فلا يلزم منه زيادة ثواب المندوب على الواجب. وأجاب بأنه تفرض المسألة فيمن صلى وحده ثم أعاد في جماعة فإن ثواب الفرض يحصل له بصلاته وحده، والتضعيف يحصل بصلاته في الجماعة، فبقي الإشكال على حاله، وفيه نظر لأن التضعيف لم يحصل بسبب الإعادة وإنما حصل بسبب الجماعة، إذ لو أعاد منفردا لم يحصل له إلا صلاة واحدة فلا يلزم منه زيادة ثواب المندوب على الواجب. ومما ورد من الزيادة على العدد المذكور ما أخرجه ابن أبي شيبة من طريق عكرمة عن ابن عباس موقوفا عليه قال: "فضل صلاة الجماعة على صلاة المنفرد خمس وعشرون درجة. قال: فإن كانوا أكثر من ذلك فعلى عدد من في المسجد. فقال رجل: وإن كانوا عشرة آلاف؟ قال نعم " وهذا له حكم الرفع لأنه لا يقال بالرأي، لكنه غير ثابت. "تنبيه": سقط حديث أبي سعيد من هذا الباب في رواية كريمة وثبت للباقين، وأورده الإسماعيلي قبل حديث عمر. قوله في حديث أبي هريرة "صلاة الرجل في الجماعة" في رواية الحموي والكشميهني: "في جماعة " بالتنكير. قوله: "خمسة وعشرين ضعفا" كذا في الروايات التي وقفنا عليها، وحكى الكرماني وغيره أن فيه خمسا وعشرين درجة، بتأويل الضعف بالدرجة أو الصلاة. قوله: "في بيته وفي سوقه" مقتضاه أن الصلاة في المسجد جماعة تزيد على الصلاة في البيت وفي السوق جماعة وفرادى قاله ابن دقيق العيد، قال: والذي يظهر أن المراد بمقابل الجماعة في المسجد الصلاة في غيره منفردا، لكنه خرج مخرج الغالب في أن من لم يحضر الجماعة في المسجد صلى منفردا، قال: وبهذا يرتفع الإشكاك عمن استشكل تسوية الصلاة في البيت والسوق. انتهى. ولا يلزم من حمل الحديث على ظاهره التسوية المذكورة، إذ لا يلزم من استوائهما في المفضولية عن المسجد أن لا يكون أحدهما أفضل من الآخر، وكذا لا يلزم منه أن كون الصلاة جماعة في البيت أو السوق لا فضل فيها على الصلاة منفردا، بل الظاهر أن التضعيف المذكور مختص بالجماعة في المسجد، والصلاة في البيت مطلقا أولى منها في السوق لما ورد من كون الأسواق موضع الشياطين، والصلاة جماعة في البيت وفي السوق أولى من الانفراد. وقد جاء عن بعض الصحابة قصر التضعيف إلى خمس وعشرين على التجميع، وفي المسجد العام مع تقرير الفضل في غيره. وروى سعيد بن منصور بإسناد حسن عن أوس المعافري أنه قال لعبد الله بن عمرو بن العاص: أرأيت من توضأ فأحسن الوضوء ثم صلى في بيته؟ قال: حسن جميل. قال: فإن صلى في مسجد عشيرته؟ قال: خمس عشرة صلاة.قال: فإن مشى إلى مسجد جماعة فصلى فيه؟ قال: خمس وعشرون. انتهى. وأخرج حميد بن زنجويه في " كتاب الترغيب " نحوه من حديث واثلة، وخص الخمس والعشرون بمسجد القبائل. قال: وصلاته في المسجد الذي يجمع فيه - أي الجمعة - بخمسمائة، وسنده ضعيف. قوله: "وذلك أنه إذا توضأ" ظاهر في أن الأمور المذكورة علة للتضعيف المذكور، إذ التقدير: وذلك لأنه، فكأنه يقول: التضعيف المذكور سببه كيت وكيت، وإذا كان كذلك فما رتب على موضوعات متعددة لا يوجد بوجود بعضها إلا إذا دل الدليل على إلغاء ما ليس معتبرا أو ليس مقصودا لذاته. وهذه الزيادة التي في حديث أبي هريرة معقولة المعنى، فالأخذ بها

(2/135)


متوجه، والروايات المطلقة لا تنافيها بل يحمل مطلقها على هذه المقيدة، والذين قالوا بوجوب الجماعة على الكفاية ذهب كثير منهم إلى أن الحرج لا يسقط بإقامة الجماعة في البيوت، وكذا روى عن أحمد في فرض العين، ووجهوه بأن أصل المشروعية إنما كان في جماعة المساجد، وهو وصف معتبر لا ينبغي إلغاؤه فيختص به المسجد، ويلحق به ما في معناه مما يحصل به إظهار الشعار. قوله: "لا يخرجه إلا الصلاة" أي قصد الصلاة في جماعة، واللام فيها للعهد لما بيناه. قوله: "لم يخط" بفتح أوله وضم الطاء. و قوله: "خطوة" ضبطناه بضم أوله ويحوز الفتح، قال الجوهري: الخطوة بالضم ما بين القدمين، وبالفتح المرة الواحدة وجزم اليعمري أنها هنا بالفتح.وقال القرطبي: إنها في روايات مسلم بالضم، والله أعلم. قوله: "فإذا صلى" قال ابن أبي جمرة: أي صلى صلاة تامة، لأنه صلى الله عليه وسلم قال للمسيء صلاته "ارجع فصل، فإنك لم تصل" . قوله: "في مصلاه" أي في المكان الذي أوقع فيه الصلاة من المسجد، وكأنه خرج مخرج الغالب، وإلا فلو قام إلى بقعة أخرى من المسجد مستمرا على نية انتظار الصلاة كان كذلك. قوله: "اللهم ارحمه" أي قائلين ذلك، زاد ابن ماجه: "اللهم تب عليه " وفي الطريق الماضية في باب مسجد السوق " اللهم اغفر له " واستدل به على أفضلية الصلاة على غيرها من الأعمال لما ذكر من صلاة الملائكة عليه ودعائهم له بالرحمة والمغفرة والتوبة، وعلى تفضيل صالحي الناس على الملائكة لأنهم يكونون في تحصيل الدرجات بعبادتهم والملائكة مشغولون بالاستغفار والدعاء لهم. واستدل بأحاديث الباب على أن الجماعة ليست شرطا لصحة الصلاة لأن قوله: "على صلاته وحده " يقتضي صحة صلاته منفردا لاقتضاء صيغة أفعل الاشتراك في أصل التفاضل، فإن ذلك يقتضي وجود فضيلة في صلاة المنفرد، وما لا يصح لا فضيلة فيه. قال القرطبي وغيره: ولا يقال إن لفظة أفعل قد ترد لإثبات صفة الفضل في إحدى الجهتين كقوله تعالى: {أحسن مقيلا} لأنا نقول إنما يقع ذلك على قلة حيث ترد صيغة أفعل مطلقة غير مقيدة بعدد معين، فإذا قلنا هذا العدد أزيد من هذا بكذا فلا بد من وجود أصل العدد، ولا يقال يحمل المنفرد على المعذور لأن قوله: "صلاة الفذ " صيغة عموم فيشمل من صلى منفردا بعذر وبغير عذر، فحمله على المعذور يحتاج إلى دليل. وأيضا ففضل الجماعة حاصل للمعذور لما سيأتي في هذا الكتاب من حديث أبي موسى مرفوعا: "إذا مرض العبد أو سافر كتب له ما كان يعمل صحيحا مقيما" . وأشار ابن عبد البر إلى أن بعضهم حمله على صلاة النافلة، ثم رده بحديث: "أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة " واستدل بها على تساوي الجماعات في الفضل سواء كثرت الجماعة أم قلت، لأن الحديث دل على فضيلة الجماعة على المنفرد بغير واسطة فيدخل فيه كل جماعة، كذا قال بعض المالكية، وقواه بما روى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح إبراهيم النخعي قال: إذا صلى الرجل مع الرجل فهما جماعة لهم التضعيف خمسا وعشرين. انتهى. وهو مسلم في أصل الحصول، لكنه لا ينفي مزيد الفضل لما كان أكثر، لا سيما مع وجود النص المصرح به وهو ما رواه أحمد وأصحاب السنن وصححه ابن خزيمة وغيره من حديث أبي بن كعب مرفوعا: "صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وما كثر فهو أحب إلى الله" ، وله شاهد قوي في الطبراني من حديث قباث بن أشيم وهو بفتح القاف والموحدة وبعد الألف مثلثة، وأبوه بالمعجمة بعدها تحتانية بوزن أحمر، ويترتب على الخلاف المذكور أن من قال بالتفاوت استحب إعادة الجماعة مطلقا لتحصيل الأكثرية، ولم يستحب ذلك الآخرون، ومنهم من فصل فقال: تعاد مع الأعلم أو الأورع أو في البقعة الفاضلة، ووافق مالك على الأخير لكن قصره على المساجد

(2/136)


الثلاثة، والمشهور عنه بالمسجدين المكي والمدني. وكما أن الجماعة تتفاوت في الفضل بالقلة والكثرة وغير ذلك مما ذكر كذلك يفوق بعضها بعضا، ولذلك عقب المصنف الترجمة المطلقة في فضل الجماعة بالترجمة المقيدة بصلاة الفجر، واستدل بها على أن أقل الجماعة إمام ومأموم، وسيأتي الكلام عليه في باب مفرد قريبا إن شاء الله تعالى.

(2/137)


31 - باب فَضْلِ صَلاَةِ الْفَجْرِ فِي جَمَاعَةٍ
648- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "تَفْضُلُ صَلاَةُ الْجَمِيعِ صَلاَةَ أَحَدِكُمْ وَحْدَهُ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا وَتَجْتَمِعُ مَلاَئِكَةُ اللَّيْلِ وَمَلاَئِكَةُ النَّهَارِ فِي صَلاَةِ الْفَجْرِ ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا}
649- قَالَ شُعَيْبٌ وَحَدَّثَنِي نَافِعٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ تَفْضُلُهَا بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً
650- حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ سَمِعْتُ سَالِمًا قَالَ سَمِعْتُ أُمَّ الدَّرْدَاءِ تَقُولُ دَخَلَ عَلَيَّ أَبُو الدَّرْدَاءِ وَهُوَ مُغْضَبٌ فَقُلْتُ مَا أَغْضَبَكَ فَقَالَ وَاللَّهِ مَا أَعْرِفُ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا إِلاَّ أَنَّهُمْ يُصَلُّونَ جَمِيعًا
651- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَعْظَمُ النَّاسِ أَجْرًا فِي الصَّلاَةِ أَبْعَدُهُمْ فَأَبْعَدُهُمْ مَمْشًى وَالَّذِي يَنْتَظِرُ الصَّلاَةَ حَتَّى يُصَلِّيَهَا مَعَ الإِمَامِ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ الَّذِي يُصَلِّي ثُمَّ يَنَامُ"
قوله: "باب فضل صلاة الفجر في جماعة" هذه الترجمة أخص من التي قبلها، ومناسبة حديث أبي هريرة لها من قوله: "وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر " فإنه يدل على مزية لصلاة الفجر على غيرها. وزعم ابن بطال أن في قوله: "وتجتمع " إشارة إلى أن الدرجتين الزائدتين على خمس وعشرين تؤخذ من ذلك، ولهذا عقبه برواية ابن عمر التي فيها بسبع وعشرين، وقد تقدم الكلام على الاجتماع المذكور في " باب فضل صلاة العصر " من المواقيت. قوله: "بخمس وعشرين جزءا" كذا في النسخ التي وقفت عليها، ونقل الزركشي في نكته أنه وقع في الصحيحين " خمس " بحذف الموحدة من أوله والهاء من آخره، قال: وخفض خمس على تقدير الباء كقول الشاعر أشارت كليب بالأكف الأصابع أي إلى كليب. وأما حذف الهاء فعلى تأويل الجزء بالدرجة. انتهى. وقد أورده المؤلف في التفسير من طريق معمر عن الزهري بلفظ: "فضل صلاة الجميع على صلاة الواحد خمس وعشرون درجة" . قوله: "قال شعيب وحدثني نافع" أي بالحديث مرفوعا نحوه، إلا أنه قال: "بسبع وعشرين درجة، وهو موافق لرواية مالك وغيره عن نافع كما تقدم، وطريق شعيب هذه موصولة، وجوز الكرماني أن تكون معلقة وهو بعيد، بل هي معطوفة على الإسناد الأول، والتقدير حدثنا أبو اليمان قال شعيب: ونظائر هذا

(2/137)


في الكتاب كثيرة، ولكن لم أر طريق شعيب هذه إلا عند المصنف، ولم يستخرجها الإسماعيلي ولا أبو نعيم ولا أوردها الطبراني في مسند الشاميين في ترجمة شعيب. قوله: "سمعت سالما" هو ابن أبي الجعد، وأم الدرداء هي الصغرى التابعية لا الكبرى الصحابية لأن الكبرى ماتت في حياة أبي الدرداء وعاشت الصغرى بعده زمانا طويلا. وقد جزم أبو حاتم بأن سالم بن أبي الجعد لم يدرك أبا الدرداء، فعلى هذا لم يدرك أم الدرداء الكبرى. وفسرها الكرماني هنا بصفات الكبرى وهو خطأ لقول سالم " سمعت أم الدرداء " وقد تقدم في المقدمة أن اسم الصغرى هجيمة والكبرى خيرة. قوله: "من أمة محمد" كذا في رواية أبي ذر وكريمة، وللباقين " من محمد " بحذف المضاف، وعليه شرح ابن بطال ومن تبعه فقال: يريد من شريعة محمد شيئا لم يتغير عما كان عليه إلا الصلاة في جماعة، فحذف المضاف لدلالة الكلام عليه. انتهى. ووقع في رواية أبي الوقت " من أمر محمد " بفتح الهمزة وسكون الميم بعدها راء، وكذا ساقه الحميدي في جمعه، وكذا هو في مسند أحمد ومستخرجي الإسماعيلي وأبي نعيم من طرق عن الأعمش، وعندهم " ما أعرف فيهم " أي في أهل البلد الذي كان فيه، وكأن لفظ: "فيهم " لما حذف من رواية البخاري صحف بعض النقلة " أمر " بأمة ليعود الضمير في أنهم على الأمة. قوله: "يصلون جميعا" أي مجتمعين، وحذف المفعول وتقديره الصلاة أو الصلوات، ومراد أبي الدرداء أن أعمال المذكورين حصل في جميعها النقص والتغيير إلا التجميع في الصلاة، وهو أمر نسبي لأن حال الناس في زمن النبوة كان أتم مما صار إليه بعدها، ثم كان في زمن الشيخين أتم مما صار إليه بعدهما وكأن ذلك صدر من أبي الدرداء في أواخر عمره وكان ذلك في أواخر خلافة عثمان، فيا ليت شعري إذا كان ذلك العصر الفاضل بالصفة المذكورة عند أبي الدرداء فكيف بمن جاء بعدهم من الطبقات إلى هذا الزمان؟ وفي هذا الحديث جواز الغضب عند تغير شيء من أمور الدين، وإنكار المنكر بإظهار الغضب إذا لم يستطع أكثر منه، والقسم على الخبر لتأكيده في نفس السامع. قوله: "أبعدهم فأبعدهم ممشى" أي إلى المسجد، وسيأتي الكلام على ذلك بعد باب واحد. قوله: "مع الإمام" زاد مسلم: "في جماعة " وبين أنها رواية أنها كريب - وهو محمد بن العلاء - الذي أخرجه البخاري عنه. قوله: "من الذي يصلي ثم ينام" أي سواء صلى وحده أو في جماعة، ويستفاد منه أن الجماعة تتفاوت كما تقدم. "تكميل": استشكل إيراد حديث أبي موسى في هذا الباب، لأنه ليس فيه لصلاة الفجر ذكر، بل آخره يشعر بأنه في العشاء. ووجهه ابن المنير وغيره بأنه دل على أن السبب في زيادة الأجر وجود المشقة بالمشي إلى الصلاة، وإذا كان كذلك فالمشي إلى صلاة الفجر في جماعة أشق من غيرها، لأنها وإن شاركتها العشاء في المشي في الظلمة فإنها تزيد عليها بمفارقة النوم المشتهي طبعا، ولم أر أحدا من الشراح نبه على مناسبة حديث أبي الدرداء للترجمة إلا الزين بن المنير فإنه قال: تدخل صلاة الفجر في قوله: "يصلون جميعا " وهي أخص بذلك من باقي الصلوات. وذكر ابن رشيد نحوه وزاد أن استشهاد أبي هريرة في الحديث الأول بقوله تعالى:{إن قرآن الفجر كان مشهودا" يشير إلى أن الاهتمام بها آكد. وأقول: تفنن المصنف بإيراد الأحاديث الثلاثة في الباب إذ تؤخذ المناسبة من حديث أبي هريرة بطريق الخصوص، ومن حديث أبي الدرداء بطريق العموم، ومن حديث أبي موسى بطريق الاستنباط. ويمكن أن يقال: لفظ الترجمة يحتمل أن يراد به فضل الفجر على غيرها من الصلوات، وأن يراد به ثبوت الفضل لها في الجملة، فحديث أبي هريرة شاهد للأول، وحديث أبي الدرداء شاهد للثاني، وحديث أبي موسى شاهد لهما، والله أعلم.

(2/138)


باب فضل التهجير إلى الطهر
...
32 - باب فَضْلِ التَّهْجِيرِ إِلَى الظُّهْرِ
قوله: "باب فضل التهجير إلى الظهر" كذا للأكثر وعليه شرح ابن التين وغيره، وفي بعضها " إلى الصلاة " وعليه شرح ابن بطال.
وقد تقدم الكلام عليه في " باب الاستهام في الأذان".
652- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ عَنْ مَالِكٍ عَنْ سُمَيٍّ مَوْلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ وَجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ عَلَى الطَّرِيقِ فَأَخَّرَهُ فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ"
[الحديث 652- طرفه في : 2472]
653- ثُمَّ قَالَ الشُّهَدَاءُ خَمْسَةٌ : الْمَطْعُونُ وَالْمَبْطُونُ وَالْغَرِيقُ وَصَاحِبُ الْهَدْمِ وَالشَّهِيدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالَ لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الأَوَّلِ ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلاَّ أَنْ يَسْتَهِمُوا لاَسْتَهَمُوا عَلَيْهِ"
[الحديث655- طرفاه في : 1887,656}
654- "وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ لاَسْتَبَقُوا إِلَيْهِ وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ لاَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا
قوله: "بينما رجل" في هذا المتن ثلاثة أحاديث: قصة الذي نحي غصن الشوك، والشهداء، والترغيب في النداء وغيره مما ذكر. والمقصود منه ذكر التهجير، وقد تقدم الحديث الثالث مفردا في " باب الاستهام " عن عبد الله بن يوسف عن مالك، ويأتي الثاني في الجهاد عنه أيضا، والأول في المظالم كذلك وتكلمنا على شرحه هناك، وكان قتيبة حدث به عن مالك هكذا مجموعا فلم يتصرف فيه المصنف كعادته في الاختصار، وتكلف الزين بن المنير إبداء مناسبة للأول من جهة أنه دال على أن الطاعة وإن قلت فلا ينبغي أن تترك، واعترف بعدم مناسبة الثاني. قوله: "فأخذه" في رواية الكشميهني: "فأخره" . قوله: "فشكر الله له" أي رضى بفعله وقبل منه، وفيه فضل إماطة الأذى عن الطريق، وقد تقدم في كتاب الإيمان أنها أدنى شعب الإيمان. قوله: "الشهداء خمس" كذا لأبي ذر عن الحموي، وللباقين " خمسة " وهو الأصل في المذكر، وجاز الأول لأن المميز غير مذكور، وسيأتي الكلام على مباحثه في كتاب الجهاد إن شاء الله تعالى.

(2/139)


33 - باب احْتِسَابِ الْآثَارِ
655- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَوْشَبٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ قَالَ حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يَا بَنِي سَلِمَةَ أَلاَ تَحْتَسِبُونَ آثَارَكُمْ وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ قَالَ خُطَاهُمْ
[الحديث 655 – طرفاه في : 1887,656]
656- وَقَالَ ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ حَدَّثَنِي حُمَيْدٌ حَدَّثَنِي أَنَسٌ أَنَّ بَنِي سَلِمَةَ أَرَادُوا أَنْ يَتَحَوَّلُوا عَنْ مَنَازِلِهِمْ فَيَنْزِلُوا قَرِيبًا مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُعْرُوا الْمَدِينَةَ فَقَالَ أَلاَ تَحْتَسِبُونَ آثَارَكُمْ قَالَ مُجَاهِدٌ خُطَاهُمْ آثَارُهُمْ أَنْ يُمْشَى فِي الأَرْضِ بِأَرْجُلِهِمْ

(2/139)


قوله: "باب احتساب الآثار" أي إلى الصلاة، وكأنه لم يقيدها لتشمل كل مشي إلى كل طاعة.قوله: "حدثنا عبد الوهاب" هو الثقفي. قوله: "يا بني سلمة" بكسر اللام وهم بطن كبير من الأنصار ثم من الخزرج، وقد غفل القزاز وتبعه الجوهري حيث قال: ليس في العرب سلمة بكسر اللام غير هذا القبيل، فإن الأئمة الذين صنفوا في المؤتلف والمختلف ذكروا عددا من الأسماء كذلك، لكن يحتمل أن يكون أراد بقيد القبيلة أو البطن فله بعض اتجاه. قوله: "ألا تحتسبون" كذا في النسخ التي وقفنا عليها بإثبات النون، وشرحه الكرماني بحذفها، ووجهه بأن النحاة أجازوا ذلك - يعني تخفيفا - قال: والمعنى ألا تعدون خطاكم عند مشيكم إلى المسجد؟ فإن لكل خطوة ثوابا ا هـ. والاحتساب وإن كان أصله العد لكنه يستعمل غالبا في معنى طلب تحصيل الثواب بنية خالصة. قوله: "وحدثنا ابن أبي مريم" كذا لأبي ذر وحده. وفي رواية الباقين " وقال ابن أبي مريم " وذكره صاحب الأطراف بلفظ: "وزاد ابن أبي مريم " وقال أبو نعيم في المستخرج ذكره البخاري بلا رواية يعني معلقا، وهذا هو الصواب، وله نظائر في الكتاب في رواية يحيى بن أيوب لأنه ليس على شرطه في الأصول. قوله: "عن أنس" كذا لأبي ذر وحده أيضا وللباقين " حدثنا أنس " وكذا ذكره أبو نعيم أيضا، وكذا سمعناه في الأول من فوائد المخلص من طريق أحمد بن منصور عن ابن أبي مريم ولفظه: "سمعت أنسا"، وهذا هو السر في إيراد طريق يحيى بن أيوب عقب طريق عبد الوهاب ليبين الأمن من تدليس حميد، وقد تقدم نظيره في " باب وقت العشاء " وقد أخرجه في الحج من طريق مروان القزارى عن حميد وساق المتن كاملا. قوله: "فينزلوا قريبا" يعني لأن ديارهم كانت بعيدة من المسجد، وقد صرح بذلك في رواية مسلم من طريق أبي الزبير قال: "سمعت جابر رسول الله يقول: كانت ديارنا بعيدة من المسجد، فأردنا أن نبتاع بيوتا فنقرب من المسجد، فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إن لكم بكل خطوة درجة " وللسراج من طريق أبي نضرة عن جابر: أرادوا أن يقربوا من أجل الصلاة. ولابن مردويه من طريق أخرى عن أبي نضرة عنه قال: "كانت منازلنا بسلع " ولا يعارض هذا ما سيأتي في الاستسقاء من حديث أنس " وما بيننا وبين سلع من دار " لاحتمال أن تكون ديارهم كانت من وراء سلع، وبين سلع والمسجد قدر ميل. قوله أن يعروا المدينة في رواية الكشميهني أن يعروا منازلهم وهو بضم أوله وسكون العين الراء أي يتركونها خالية يقال أعراه إذا أخلاه والعراء الأرض الخالية وقيل الواسعة وقيل المكان الذي لا يستتر فيه بشيء ونبه بهذه الكراهة على السبب في منعهم من المسجد لتبقى جهات المدينة عامرة بساكنها واستفادوا بذلك كثرة الأجر لكثرة الخطا في المشي إلى المسجد وزاد في رواية الفزاري التي في الحج فأقاموا ومثله في رواية المخلص التي ذكرناها وللترمذي من حديث أبي سعيد فلم ينتقلوا ولمسلم من طريق أبي نضرة عن جابر فقالوا ما يسرنا أنا كنا تحولنا قوله وقال مجاهد خطاهم آثارهم والمشى في الأرض بارجلهم كذا لأبي ذر وللباقين وقال مجاهد ونكتب ما قدموا وآثارهم قال خطاهم وكذا وصله عبد بن حميد من طريق بن أبي نجيح عنه قال في قوله تعالى ونكتب ما قدموا قال أعمالهم وفي قوله وآثارهم قال خطاهم وأشار البخاري بهذا التعليق إلى أن قصة بني سلمة كانت سبب نزول هذه الآية وقد ورد مصرحا به من طريق سماك عن عكرمة عن بن عباس أخرجه بن ماجة وغيره وإسناده قوي وفي الحديث أن أعمال البر إذا كانت خالصة تكتب آثارها حسنات وفيه استحباب السكنى بقرب المسجد إلا لمن حصلت به منفعة أخرى أو أراد تكثير الأجر بكثرة المشي ما لم يحمل

(2/140)


على نفسه , ووجهه أنهم طلبوا السكنى بقرب المسجد للفضل الذي علموه منه فما أنكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بل رجح درء المفسدة باخلائهم جوانب المدينة على المصلحة المذكورة وأعلمهم بان لهم في التردد إلى المسجد من الفضل ما يقوم مقام السكنى بقرب المسجد أو يزيد عليه واختلف فيمن كانت داره المساجد من المسجد فقارب الخطا بحيث تساوى خطا من داره بعيدة هل يساويه في الفضل أو لا وإلى المساواة جنح الطبري وروى بن أبي شييبة من طريق أنس قال مشيت مع زيد بن ثابت إلى المسجد فقارب بين الخطا وقال أردت أن تكثر خطانا إلى المسجد وهذا لا يلزم منه المساواة في الفضل وأن دل على أن في كثرة الخطا فضيلة لأن ثواب الخطا الشاقة ليس كثواب الخطا السهلة وهو ظاهر حديث أبي موسى الماضي قبل باب حيث جعل أبعدهم ممشى أعظمهم أجرا واستنبط منه بعضهم استحباب قصد المسجد البعيد ولو كان بجنبه مسجد قريب وإنما يتم ذلك إذا لم يلزم من ذهابه إلى البعيد هجر القريب وإلا فاحياؤه بذكر الله أولى وكذا إذا كان في البعيد مانع من الكمال كأن يكون إمامه مبتدعا

(2/141)


34 - باب فَضْلِ الْعِشَاءِ فِي الْجَمَاعَةِ
657- حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ صَلاَةٌ أَثْقَلَ عَلَى الْمُنَافِقِينَ مِنْ الْفَجْرِ وَالْعِشَاءِ وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لاَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ الْمُؤَذِّنَ فَيُقِيمَ ثُمَّ آمُرَ رَجُلًا يَؤُمُّ النَّاسَ ثُمَّ آخُذَ شُعَلًا مِنْ نَارٍ فَأُحَرِّقَ عَلَى مَنْ لاَ يَخْرُجُ إِلَى الصَّلاَةِ بَعْدُ"
قوله: "باب فضل صلاة العشاء في الجماعة" أورد فيه الحديث الدال على فضل العشاء والفجر، فيحتمل أن يكون مراد الترجمة إثبات فضل العشاء في الجملة أو إثبات أفضليتها على غيرها، والظاهر الثاني، ووجهه أن صلاة الفجر ثبتت أفضليتها كما تقدم، وسوى في هذا بينها وبين العشاء، ومساوى الأفضل يكون أفضل جزما. قوله: "ليس أثقل" كذا للأكثر بحذف الاسم، وبينه الكشميهني في رواية أبي ذر وكريمة عنه فقال: "ليس صلاة أثقل " ودل هذا على أن الصلاة كلها ثقيلة على المنافقين، ومنه قوله تعالى: {ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى} وإنما كانت العشاء والفجر أثقل عليهم من غيرهما لقوة الداعي إلى تركهما، لأن العشاء وقت السكون والراحة والصبح وقت لذة النوم. وقيل وجهه كون المؤمنين يفوزون بما ترتب عليهما من الفضل لقيامهم بحقهما دون المنافقين. قوله: "ولو يعلمون ما فيهما" أي من مزيد الفضل "لأتوهما" أي الصلاتين، والمراد لأتوا إلى المحل الذي يصليان فيه جماعة وهو المسجد. قوله: "ولو حبوا" أي يزحفون إذا منعهم مانع من المشي كما يزحف الصغير، ولابن أبي شيبة من حديث أبي الدرداء " ولو حبوا على المرافق والركب " وقد تقدم الكلام على باقي الحديث في " باب وجوب صلاة الجماعة". قوله في آخره "على من لا يخرج إلى الصلاة بعد" كذا للأكثر بلفظ: "بعد " ضد قبل، وهي مبنية على الضم، ومعناه بعد أن يسمع النداء إليها أو بعد أن يبلغه التهديد المذكور، وللكشميهني بدلها " يقدر " أي لا يخرج وهو يقدر على المجيء، ويؤيده ما قدمناه من رواية لأبي داود " وليست بهم علة " ووقع عند الداودي للشارح هنا " لا لعذر " وهي أوضح من غيرها لكن لم نقف عليها في شيء من الروايات عند غيره.

(2/141)


35 - باب اثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ
658- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ قَالَ حَدَّثَنَا خَالِدٌ الْحَذَّاءُ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا حَضَرَتْ الصَّلاَةُ فَأَذِّنَا وَأَقِيمَا ثُمَّ لِيَؤُمَّكُمَا أَكْبَرُكُمَا"
قوله: "باب اثنان فما فوقهما جماعة" هذه الترجمة لفظ حديث ورد من طرق ضعيفة، منها في ابن ماجه من حديث أبي موسى الأشعري وفي معجم البغوي من حديث الحكم بن عمير وفي أفراد الدار قطني من حديث عبد الله بن عمرو وفي البيهقي من حديث أنس وفي الأوسط للطبراني من حديث أبي أمامة وعند أحمد من حديث أبي أمامة أيضا: "أنه صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يصلي وحده فقال: ألا رجل يتصدق على هذا فيصلى معه؟ فقام رجل فصلى معه، فقال: هذان جماعه " والقصة المذكورة دون قوله: "هذان جماعة " أخرجها أبو داود والترمذي من وجه آخر صحيح. قوله: "إذا حضرت الصلاة" تقدم من هذا الوجه في " باب الأذان للمسافر " وأوله " أتى رجلان النبي صلى الله عليه وسلم يريدان السفر فقال لهما " فذكره. وقد اعترض على الترجمة بأنه ليس في حديث مالك ابن الحويرث تسمية صلاة الاثنين جماعة، والجواب أن ذلك مأخوذ بالاستنباط من لازم الأمر بالإمامة، لأنه لو استوت صلاتهما معا مع صلاتهما منفردين لاكتفى بأمرهما بالصلاة كأن يقول: أذنا وأقيما وصليا. واعترض أيضا على أصل الاستدلال بهذا الحديث بأن مالك بن الحويرث كان مع جماعة من أصحابه، فلعل الاقتصار عل التثنية من تصرف الرواة. والجواب أنهما قضيتان كما تقدم، واستدل به على أن أقل الجماعة إمام ومأموم أعم من أن يكون المأموم رجلا أو صبيا أو امرأة. وتكلم ابن بطال هنا على مسألة أقل الجمع والاختلاف فيها، ورده الزين بن المنير بأنه لا يلزم من قوله: "الاثنان جماعة " أن يكون أقل الجمع اثنين وهو واضح.

(2/142)


36 - باب مَنْ جَلَسَ فِي الْمَسْجِدِ يَنْتَظِرُ الصَّلاَةَ وَفَضْلِ الْمَسَاجِدِ
659- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "الْمَلاَئِكَةُ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي مُصَلاَهُ مَا لَمْ يُحْدِثْ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ لاَ يَزَالُ أَحَدُكُمْ فِي صَلاَةٍ مَا دَامَتْ الصَّلاَةُ تَحْبِسُهُ لاَ يَمْنَعُهُ أَنْ يَنْقَلِبَ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ الصَّلاَةُ"
قوله: "باب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة" أي ليصليها جماعة. قوله: "تصلي على أحدكم" أي تستغفر له، قيل عبر بتصلي ليتناسب الجزاء والعمل. قوله: "ما دام في مصلاه" أي ينتظر الصلاة كما صرح به في الطهارة من وجه آخر. قوله: "لا يزال أحدكم الخ" هذا القدر أفرده مالك في الموطأ عما قبله، وأكثر الرواة ضموه إلى الأول فجعلوه حديثا واحدا، ولا حجر في ذلك. قوله: "في صلاة" أي في ثواب صلاة لا في حكمها، لأنه يحل له الكلام وغيره مما منع في الصلاة. قوله: "ما دامت" في رواية الكشميهني: "ما كانت " وهو عكس ما مضى في الطهارة. قوله: "لا يمنعه" يقتضي أنه إذا صرف نيته عن ذلك صارف آخر انقطع عنه الثواب المذكور، وكذلك إذا شارك نية الانتظار أمر آخر، وهل يحصل ذلك لمن نيته إيقاع الصلاة في المسجد ولو لم يكن فيه؟ الظاهر خلافه، لأنه رتب

(2/142)


الثواب المذكور على المجموع من النية وشغل البقعة بالعبادة، لكن للمذكور ثواب يخصه، ولعل هذا هو السر في إيراد المصنف الحديث الذي يليه وفيه: "ورجل قلبه معلق في المساجد " وقد تقدم الكلام في الطهارة على معنى قوله: "ما لم يحدث " وفيه زيادة على ما هنا، وأن المراد بالحدث حدث الفرج، لكن يؤخذ منه أن اجتناب حدث اليد واللسان من باب الأولى، لأن الأذى منهما يكون أشد، أشار إلى ذلك ابن بطال. وقد تقدم الكلام على باقي فوائده في " باب فضل صلاة الجماعة " ويؤخذ من قوله: "في مصلاه الذي صلى فيه: "أن ذلك مقيد بمن صلى ثم انتظر صلاة أخرى، وبتقييد الصلاة الأولى بكونها مجزئه، أما لو كان فيها نقص فإنها تجبر بالنافلة كما ثبت في الخبر الآخر. قوله: "اللهم اغفر له، اللهم ارحمه" هو مطابق لقوله تعالى: {والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض} ، قيل: السر فيه أنهم يطلعون على أفعال بني آدم وما فيها من المعصية والخلل في الطاعة فيقتصرون على الاستغفار لهم من ذلك، لأن دفع المفسدة مقدم على جلب المصلحة، ولو فرض أن فيهم من تحفظ من ذلك فإنه يعوض من المغفرة بما يقابلها من الثواب.
660- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ بُنْدَارٌ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي خُبَيْبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ الإِمَامُ الْعَادِلُ وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ وَرَجُلاَنِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ أَخْفَى حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ"
[الحديث660- أطرافه في: 6806,6479,1423]
قوله: "حدثنا يحيى" هو القطان، وعبيد الله هو ابن عمر العمري، وخبيب بضم المعجمة وهو خال عبيد الله الراوي عنه، وحفص بن عاصم هو ابن عمر بن الخطاب وهو جد عبيد الله المذكور لأبيه. قوله: "عن أبي هريرة" لم تختلف الرواة عن عبيد الله في ذلك، ورواه مالك في الموطأ عن خبيب فقال: "عن أبي سعيد وأبي هريرة " على الشك، ورواه أبو قرة عن مالك بواو العطف فجعله عنهما، وتابعه مصعب الزبيري، وشذا في ذلك عن أصحاب مالك، والظاهر أن عبيد الله حفظه لكونه لم يشك فيه ولكونه من رواية خاله وجده، والله أعلم. قوله: "سبعة" ظاهره اختصاص المذكورين بالثواب المذكور، ووجهه الكرماني بما محصله أن الطاعة إما أن تكون بين العبد وبين الرب أو بينه وبين الخلق، فالأول باللسان وهو الذكر، أو بالقلب وهو المعلق بالمسجد، أو بالبدن وهو الناشئ في العبادة. والثاني عام وهو العادل، أو خاص بالقلب وهو التحاب، أو بالمال وهو الصدقة، أو بالبدن وهو العفة. وقد نظم السبعة العلامة أبو شامة عبد الرحمن بن إسماعيل فيما أنشدناه أبو إسحاق التنوخي إذنا عن أبي الهدى أحمد بن أبي شامة عن أبيه سماعا من لفظه قال:
وقال النبي المصطفى إن سبعة ... يظلهم الله الكريم بظله
محب عفيف ناشئ متصدق ... وباك مصل والإمام بعدله

(2/143)


ووقع في صحيح مسلم من حديث أبي اليسر مرفوعا: "من أنظر معسرا أو وضع له أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله " وهاتان الخصلتان غير السبعة الماضية فدل على أن العدل المذكور لا مفهوم له. وقد ألقيت هذه المسألة على العالم شمس الدين بن عطاء الرازي المعروف بالهروي لما قدم القاهرة وادعى أنه يحفظ صحيح مسلم، فسألته بحضرة الملك المؤيد عن هذا وعن غيره فما استحضر في ذلك شيئا، ثم تتبعت بعد ذلك الأحاديث الواردة في مثل ذلك فزادت على عشر خصال، وقد انتقيت منها سبعة وردت بأسانيد جياد ونظمتها في بيتين تذييلا على بيتي أبي شامة وهما:
وزد سبعة: إظلال غاز وعونه ... وإنظار ذي عسر وتخفيف حمله
وإرفاد ذي غرم وعون مكاتب ... وتاجر صدق في المقال وفعله
فأما إظلال الغازي فرواه ابن حبان وغيره من حديث عمر، وأما عون المجاهد فرواه أحمد والحاكم من حديث سهم بن حنيف، وأما إنظار المعسر والوضيعة عنه ففي صحيح مسلم كما ذكرنا، وأما إرفاد الغارم وعون المكاتب فرواهما أحمد والحاكم من حديث سهل بن حنيف المذكور، وأما التاجر الصدوق فرواه البغوي في شرح السنة من حديث سلمان وأبو القاسم التيمي من حديث أنس، والله أعلم. ونظمته مرة أخرى فقلت في السبعة الثانية:
وتحسين خلق مع إعانة غارم ... خفيف يد حتى مكاتب أهله
وحديث تحسين الخلق أخرجه الطبراني من حديث أبي هريرة بإسناد ضعيف، ثم تتبعت ذلك فجمعت سبعة أخرى ونظمتها في بيتين آخرين وهما:
وزد سبعة: حزن ومشى لمسجد ... وكره وضوء ثم مطعم فضله
وآخذ حق باذل ثم كافل ... وتاجر صدق في المقال وفعله
ثم تتبعت ذلك فجمعت سبعة أخرى، ولكن أحاديثها ضعيفة وقلت في آخر البيت: "تربع به السبعات من فيض فضله". وقد أوردت الجميع في " الأمالي"، وقد أفردته في جزء سميته " معرفة الخصال الموصلة إلى الظلال". قوله: "في ظله" قال عياض: إضافة الظل إلى الله إضافة ملك، وكل ظل فهو ملكه. كذا قال، وكان حقه أن يقول إضافة تشريف، ليحصل امتياز هذا على غيره، كما قيل للكعبة بيت الله مع أن المساجد كلها ملكه. وقيل المراد بظله كرامته وحمايته كما يقال فلان في ظل الملك، وهو قول عيسى بن دينار وقواه عياض، وقيل المراد ظل عرشه، ويدل عليه حديث سلمان عند سعيد بن منصور بإسناد حسن " سبعة يظلهم الله في ظل عرشه " فذكر الحديث، وإذا كان المراد ظل العرش استلزم ما ذكر من كونهم في كنف الله وكرامته من غير عكس فهو أرجح، وبه جزم القرطبي، ويؤيده أيضا تقييد ذلك بيوم القيامة كما صرح به. ابن المبارك في روايته عن عبيد الله بن عمر وهو عند المصنف في كتاب الحدود، وبهذا يندفع قول من قال: المراد ظل طوبى أو ظل الجنة لأن ظلهما إنما يحصل ثم بعد الاستقرار في الجنة. ثم إن ذلك مشترك لجميع من يدخلها، والسياق يدل على امتياز أصحاب الخصال المذكورة، فيرجح أن المراد ظل العرش، وروى الترمذي وحسنه من حديث أبي سعيد مرفوعا: "أحب الناس إلى الله يوم القيامة وأقربهم منه مجلسا إمام عادل" . قوله: "الإمام العادل" اسم فاعل من العدل، وذكر ابن عبد البر أن بعض الرواة عن مالك رواه بلفظ: "العدل " قال وهو أبلغ لأنه جعل المسمى نفسه عدلا، والمراد به صاحب الولاية العظمى، ويلتحق به

(2/144)


كل من ولى شيئا من أمور المسلمين فعدل فيه، ويؤيده رواية مسلم من حديث عبد الله بن عمرو رفعه: "أن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا " وأحسن ما فسر به العادل أنه الذي يتبع أمر الله بوضع كل شيء في موضعه من غير إفراط ولا تفريط ، وقدمه في الذكر لعموم النفع به. قوله: "وشاب" خص الشاب لكونه مظنة غلبة الشهوة لما فيه من قوة الباعث على متابعة الهوى؛ فإن ملازمة العبادة مع ذلك أشد وأدل على غلبة التقوى. قوله: "في عبادة ربه" في رواية الإمام أحمد عن يحيى القطان " بعبادة الله " وهي رواية مسلم، وهما بمعنى، زاد حماد بن زيد عن عبيد الله بن عمر " حتى توفى على ذلك " أخرجه الجوزقي. وفي حديث سلمان " أفنى شبابه ونشاطه في عبادة الله". قوله: "معلق في المساجد" هكذا في الصحيحين، وظاهره أنه من التعليق كأنه شبهه بالشيء المعلق في المسجد كالقنديل مثلا إشارة إلى طول الملازمة بقلبه وإن كان جسده خارجا عنه، ويدل عليه رواية الجوزقي " كأنما قلبه معلق في المسجد " ويحتمل أن يكون من العلاقة وهي شدة الحب، ويدل عليه رواية أحمد " معلق بالمساجد " وكذا رواية سلمان " من حبها " وزاد الحموي والمستملى " متعلق " بزيادة مثناة بعد الميم وكسر اللام، زاد سلمان " من حبها " وزاد مالك " إذا خرج منه حتى يعود إليه". وهذه الخصلة هي المقصودة من هذا الحديث للترجمة، ومناسبتها للركن الثاني من الترجمة وهو فضل المساجد ظاهرة، وللأول من جهة ما دل عليه من الملازمة للمسجد واستمرار الكون فيه بالقلب وإن عرض للجسد عارض. قوله: "تحابا" بتشديد الباء وأصله تحابيا أي اشتركا في جنس المحبة وأحب كل منهما الآخر حقيقة لا إظهارا فقط، ووقع في رواية حماد بن زيد " ورجلان قال كل منهما للآخر إني أحبك في الله فصدرا على ذلك " ونحوه في حديث سلمان. قوله: "اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه" في رواية الكشميهني: "اجتمعا عليه " وهي رواية مسلم أي على الحب المذكور، والمراد أنهما داما على المحبة الدينية ولم يقطعاها بعارض دنيوي سواء اجتمعا حقيقة أم لا حتى فرق بينهما الموت. ووقع في الجمع للحميدي " اجتمعا على خير " ولم أر ذلك في شيء من نسخ الصحيحين ولا غيرهما من المستخرجات وهي عندي تحريف. "تنبيه": عدت هذه الخصلة واحدة مع أن متعاطيها اثنان لأن المحبة لا تتم إلا باثنين، أو لما كان المتحابان بمعنى واحد كان عد أحدهما مغنيا عن عد الآخر، لأن الغرض عد الخصال لا عد جميع من اتصف بها. قوله: "ورجل طلبته ذات منصب" بين المحذوف أحمد في روايته عن يحيى القطان فقال: "دعته امرأة " وكذا في رواية كريمة، ولمسلم وهو للمصنف في الحدود عن ابن المبارك، والمراد بالمنصب الأصل أو الشرف. وفي رواية ومالك " دعته ذات حسب " وهو يطلق على الأصل وعلى المال أيضا، وقد وصفها بأكمل الأوصاف التي جرت العادة بمزيد الرغبة لمن تحصل فيه وهو المنصب الذي يستلزمه الجاه والمال مع الجمال وقل من يجتمع ذلك فيها من النساء، زاد ابن المبارك " إلى نفسها " وللبيهقي في الشعب من طريق أبي صالح عن أبي هريرة " فعرضت نفسها عليه " والظاهر أنها دعته إلى الفاحشة وبه جزم القرطبي ولم يحك غيره. وقال بعضهم يحتمل أن تكون دعته إلى التزوج بها فخاف أن يشتغل عن العبادة بالافتتان بها، أو خاف أن لا يقوم بحقها لشغله بالعبادة عن التكسب بما يليق بها، والأول أظهر، ويؤيده وجود الكناية في قوله: "إلى نفسها " ولو كان المراد التزويج لصرح به، والصبر عن الموصوفة بما ذكر من أكمل المراتب لكثرة الرغبة في مثلها وعسر تحصيلها لا سيما وقد أغنت من مشاق التوصل إليها بمراودة ونحوها. قوله: "فقال إني أخاف الله" زاد في رواية كريمة: "رب العالمين " والظاهر أنه يقول ذلك بلسانه إما

(2/145)


ليزجرها عن الفاحشة أو ليعتذر إليها، ويحتمل أن يقوله بقلبه، قال عياض قال القرطبي: إنما يصدر ذلك عن شدة خوف من الله تعالى ومتين تقوى وحياء. قوله: "تصدق أخفى" بلفظ الماضي. قال الكرماني هو جملة حالية بتقدير قد، ووقع في رواية أحمد " تصدق فأخفى " وكذا للمصنف في الزكاة عن مسدد عن يحيى " تصدق بصدقة فأخفاها " ومثله لمالك في الموطأ، فالظاهر أن راوي الأولى حذف العاطف، ووقع في رواية الأصيلي: "تصدق إخفاء " بكسر الهمزة ممدودا على أنه مصدر أو نعت لمصدر محذوف، ويحتمل أن يكون حالا من الفاعل أي مخفيا، وقوله: "بصدقة " نكرها ليشمل كل ما يتصدق به من قليل وكثير، وظاهره أيضا يشمل المندوبة والمفروضة، لكن نقل النووي عن العلماء أن إظهار المفروضة أولى من إخفائها. قوله: "حتى لا تعلم" بضم الميم وفتحها. قوله: "شماله ما تنفق يمينه" هكذا وقع في معظم الروايات في هذا الحديث في البخاري وغيره، ووقع في صحيح مسلم مقلوبا " حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله " وهو نوع من أنواع علوم الحديث أغفله ابن الصلاح وإن كان أفرد نوع المقلوب لكنه قصره على ما يقع في الإسناد، ونبه عليه شيخنا في محاسن الاصطلاح ومثل له بحديث: "إن ابن أم مكتوم يؤذن بليل " وقد قدمنا الكلام عليه في كتاب الأذان. وقال شيخنا: ينبغي أن يسمى هذا النوع المعكوس. انتهى. والأولى تسميته مقلوبا فيكون المقلوب تارة في الإسناد وتارة في المتن كما قالوه في المدرج سواء، وقد سماه بعض من تقدم مقلوبا، قال عياض: هكذا في جميع النسخ التي وصلت إلينا من صحيح مسلم وهو مقلوب أو الصواب الأول وهو وجه الكلام لأن السنة المعهودة في الصدقة إعطاؤها باليمين، وقد ترجم عليه البخاري في الزكاة " باب الصدقة باليمين " قال: ويشبه أن يكون الوهم فيه ممن دون مسلم بدليل قوله في رواية مالك لما أوردها عقب رواية عبيد الله بن عمر فقال بمثل حديث عبيد الله فلو كانت بينهما مخالفة لبينها كما نبه على الزيادة في قوله: "ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه" . انتهى. وليس الوهم فيه ممن دون مسلم ولا منه بل هو من شيخه أو من شيخ شيخه يحيى القطان، فإن مسلما أخرجه عن زهير بن حرب وابن نمير كلاهما عن يحيى وأشعر سياقه بأن اللفظ لزهير، وكذا أخرجه أبو يعلى في مسنده عن زهير، وأخرجه الجوزقي في مستخرجه عن أبي حامد بن الشرقي عن عبد الرحمن ابن بشر بن الحكم عن يحيى القطان كذلك، وعقبه بأن قال: سمعت أبا حامد بن الشرقي يقول يحيى القطان عندنا واهم في هذا، إنما هو " حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه " قلت: والجزم بكون يحيى هو الواهم فيه نظر، لأن الإمام أحمد قد رواه عنه على الصواب، وكذلك أخرجه البخاري هنا عن محمد بن بشار وفي الزكاة عن مسدد، وكذا أخرجه الإسماعيلي من طريق يعقوب الدورقي وحفص بن عمر وكلهم عن يحيى، وكأن أبا حامد لما رأى عبد الرحمن قد تابع زهيرا ترجح عنده أن الوهم من يحيى، وهو محتمل بأن يكون منه لما حدث به هذين خاصة، مع احتمال أن يكون الوهم منهما تواردا عليه. وقد تكلف بعض المتأخرين توجيه هذه الرواية المقلوبة، وليس بجيد لأن المخرج متحد ولم يختلف فيه على عبيد الله بن عمر شيخ يحيى فيه ولا على شيخه خبيب ولا على مالك رفيق عبيد الله بن عمر فيه. وأما استدلال عياض على أن الوهم فيه ممن دون مسلم بقوله في رواية مالك مثل عبيد الله فقد عكسه غيره فواخذ مسلما بقوله مثل عبيد الله لكونهما ليستا متساويتين، والذي يظهر أن مسلما لا يقصر لفظ المثل على المساوي في جميع اللفظ والترتيب، بل هو في المعظم إذا تساويا في المعنى، والمعنى المقصود من هذا الموضع إنما هو إخفاء الصدقة والله أعلم، ولم نجد هذا الحديث من وجه من الوجوه إلا عن أبي هريرة، إلا ما وقع عند مالك من التردد هل هو عنه أو عن أبي

(2/146)


سعيد كما قدمناه قبل، ولم نجده عن أبي هريرة إلا من رواية حفص، ولا عن حفص إلا من رواية خبيب. نعم أخرجه البيهقي في الشعب من طريق سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة والراوي له عن سهيل عبد الله بن عامر الأسلمي وهو ضعيف لكنه ليس بمتروك، وحديثه حسن في المتابعات، ووافق في قوله: "تصدق بيمينه " وكذا أخرجه سعيد بن منصور من حديث سلمان الفارسي بإسناد حسن موقوفا عليه لكن حكمه الرفع. وفي مسند أحمد من حديث أنس بإسناد حسن مرفوعا: "إن الملائكة قالت: يا رب هل من خلقك شيء أشد من الجبال؟ قال: نعم الحديد. قالت: فهل أشد من الحديد؟ قال: نعم النار. قالت: فهل أشد من النار؟ قال: نعم الماء. قالت: فهل أشد من الماء؟ قال: نعم الريح. قالت: فهل أشد من الريح؟ قال. نعم ابن آدم يتصدق بيمينه فيخفيها عن شماله " ثم إن المقصود منه المبالغة في إخفاء الصدقة بحيث أن شماله مع قربها من يمينه وتلازمهما لو تصور أنها تعلم لما علمت ما فعلت اليمين لشدة إخفائها، فهو على هذا من مجاز التشبيه. ويؤيده رواية حماد بن زيد عند الجوزفي " تصدق بصدقة كأنما أخفى يمينه من شماله " ويحتمل أن يكون من مجاز الحذف والتقدير حتى لا يعلم ملك شماله. وأبعد من زعم أن المراد بشماله نفسه وأنه من تسمية الكل باسم الجزء فإنه ينحل إلى أن نفسه لا تعلم ما تنفق نفسه، وقيل هو من مجاز الحذف والمراد بشماله من على شماله من الناس كأنه قال مجاور شماله، وقل المراد أنه لا يرائي بصدقته فلا يكتبها كاتب الشمال، وحكى القرطبي عن بعض مشايخه أن معناه أن يتصدق على الضعيف المكتسب في صورة الشراء لترويج سلعته أو رفع قيمتها واستحسنه، وفيه نظر إن كان أراد أن هذه الصورة مراد الحديث خاصة، وإن أراد أن هذا من صور الصدقة المخفية فسلم والله أعلم. قوله: "ذكر الله" أي بقلبه من التذكر أو بلسانه من الذكر، و "خاليا" أي من الخلو لأنه يكون حينئذ أبعد من الرياء والمراد خاليا من الالتفات إلى غير الله ولو كان في ملأ، ويؤيده رواية البيهقي " ذكر الله بين يديه " ويؤيد الأول رواية ابن المبارك وحماد بن زيد " ذكر الله في خلاء " أي في موضع خال وهي أصح. قوله: "ففاضت عيناه" أي فاضت الدموع من عينيه، وأسند الفيض إلى العين مبالغة كأنها هي التي فاضت، قال القرطبي: وفيض العين بحسب حال الذاكر وبحسب ما يكشف له، ففي حال أوصاف الجلال يكون البكاء من خشية الله، وفي حال أوصاف الجمال يكون البكاء من الشوق إليه. قلت: قد خص في بعض الروايات بالأول، ففي رواية حماد بن زيد عند الجوزقي " ففاضت عيناه من خشية الله " ونحوه في رواية البيهقي، ويشهد له ما رواه الحاكم من حديث أنس مرفوعا: "من ذكر الله ففاضت عيناه من خشية الله حتى يصيب الأرض من دموعه لم يعذب يوم القيامة" . "تنبيهان": "الأول" ذكر الرجال في هذا الحديث لا مفهوم له بل يشترك النساء معهم فيما ذكر، إلا إن كان المراد بالإمام العادل الإمامة العظمى، وإلا فيمكن دخول المرأة حيث تكون ذات عيال فتعدل فيهم. وتخرج خصلة ملازمة المسجد لأن صلاة المرأة في بيتها أفضل من المسجد، وما عدا ذلك فالمشاركة حاصلة لهن، حتى الرجل الذي دعته المرأة فإنه يتصور في امرأة دعاها ملك جميل مثلا فامتنعت خوفا من الله تعالى مع حاجتها، أو شاب جميل دعاه ملك إلى أن يزوجه ابنته مثلا فخشي أن يرتكب منه الفاحشة فامتنع مع حاجته إليه. "الثاني" استوعبت شرح هذا الحديث هنا وإن كان مخالفا لما شرطت لأن أليق المواضع به كتاب الرقاق، وقد اختصرها المصنف حيث أورده فيه، وساقه تاما في الزكاة والحدود، فاستوفيته هنا لأن للأولية وجها من الأولوية.

(2/147)


661- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ قَالَ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ حُمَيْدٍ قَالَ سُئِلَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ هَلْ اتَّخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمًا فَقَالَ نَعَمْ أَخَّرَ لَيْلَةً صَلاَةَ الْعِشَاءِ إِلَى شَطْرِ اللَّيْلِ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ بَعْدَ مَا صَلَّى فَقَالَ صَلَّى النَّاسُ وَرَقَدُوا وَلَمْ تَزَالُوا فِي صَلاَةٍ مُنْذُ انْتَظَرْتُمُوهَا قَالَ فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ خَاتَمِهِ قوله: "سئل أنس" تقدم التصريح بسماع حميد له منه في " باب وقت العشاء". قوله: "صلى الناس" أي غير المخاطبين ممن صلى في داره أو مسجد قبيلته، ويستأنس به لمن قال بأن الجماعة غير واجبة. قوله: "ولم تزالوا في صلاة" أي في ثواب صلاة كما تقدم. قوله: "وبيص" بكسر الموحدة وبالمهملة أي بريقه ولمعانه، وقد تقدم الكلام على هذا الحديث في " باب وقت العشاء " ويأتي الكلام على الخاتم في كتاب اللباس إن شاء الله تعالى.

(2/148)


37 - باب فَضْلِ مَنْ غَدَا إِلَى الْمَسْجِدِ وَمَنْ رَاحَ
662- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ قَالَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُطَرِّفٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ غَدَا إِلَى الْمَسْجِدِ وَرَاحَ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُ نُزُلَهُ مِنْ الْجَنَّةِ كُلَّمَا غَدَا أَوْ رَاحَ"
قوله: "باب فضل من غدا للمسجد ومن راح" هكذا للأكثر موافقا للفظ الحديث في الغدو والرواح، ولأبي ذر بلفظ: "خرج " بدل غدا، وله عن المستملى والسرخسي بلفظ: "من يخرج " بصيغة المضارع، وعلى هذا فالمراد بالغدو الذهاب وبالرواح الرجوع، والأصل في الغدو المضي من بكرة النهار والرواح بعد الزوال، ثم قد يستعملان في كل ذهاب ورجوع توسعا. قوله: "أعد" أي هيأ. قوله: "نزله" للكشميهني: "نزلا " بالتنكير، والنزل بضم النون والزاي المكان الذي يهيأ للنزول فيه، وبسكون الزاي ما يهيأ للقادم من الضيافة ونحوها، فعلى هذا " من " في قوله من الجنة للتبعيض على الأول وللتبين على الثاني، ورواه مسلم وابن خزيمة وأحمد بلفظ: "نزلا في الجنة " وهو محتمل للمعنيين. قوله: "كلما غدا أو راح" أي بكل غدوة وروحة. وظاهر الحديث حصول الفضل لمن أتى المسجد مطلقا، لكن المقصون منه اختصاصه بمن يأتيه للعبادة، والصلاة رأسها، والله أعلم.

(2/148)


38 - باب إِذَا أُقِيمَتْ الصَّلاَةُ فَلاَ صَلاَةَ إِلاَّ الْمَكْتُوبَةَ
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَالِكٍ ابْنِ بُحَيْنَةَ قَالَ مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَجُلٍ قَالَ ح و حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ يَعْنِي ابْنَ بِشْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا بَهْزُ بْنُ أَسَدٍ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبَرَنِي سَعْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ سَمِعْتُ حَفْصَ بْنَ عَاصِمٍ قَالَ سَمِعْتُ رَجُلًا مِنْ الأَزْدِ يُقَالُ لَهُ مَالِكُ ابْنُ بُحَيْنَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلًا وَقَدْ أُقِيمَتْ الصَّلاَةُ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ فَلَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَثَ بِهِ النَّاسُ وَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصُّبْحَ أَرْبَعًا الصُّبْحَ أَرْبَعًا تَابَعَهُ غُنْدَرٌ وَمُعَاذٌ عَنْ شُعْبَةَ فِي مَالِكٍ وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ سَعْدٍ عَنْ حَفْصٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ بُحَيْنَةَ وَقَالَ حَمَّادٌ أَخْبَرَنَا سَعْدٌ عَنْ حَفْصٍ عَنْ مَالِكٍ

(2/148)


39 - باب حَدِّ الْمَرِيضِ أَنْ يَشْهَدَ الْجَمَاعَةَ
664- حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الأَسْوَدِ قَالَ كُنَّا عِنْدَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَذَكَرْنَا الْمُوَاظَبَةَ عَلَى الصَّلاَةِ وَالتَّعْظِيمَ لَهَا قَالَتْ لَمَّا مَرِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَضَهُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ فَحَضَرَتْ الصَّلاَةُ فَأُذِّنَ فَقَالَ مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ فَقِيلَ لَهُ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ أَسِيفٌ إِذَا قَامَ فِي مَقَامِكَ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ وَأَعَادَ فَأَعَادُوا لَهُ فَأَعَادَ الثَّالِثَةَ فَقَالَ إِنَّكُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ فَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ فَصَلَّى فَوَجَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ نَفْسِهِ خِفَّةً فَخَرَجَ يُهَادَى بَيْنَ رَجُلَيْنِ

(2/151)


كَأَنِّي أَنْظُرُ رِجْلَيْهِ تَخُطَّانِ مِنْ الْوَجَعِ فَأَرَادَ أَبُو بَكْرٍ أَنْ يَتَأَخَّرَ فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ مَكَانَكَ ثُمَّ أُتِيَ بِهِ حَتَّى جَلَسَ إِلَى جَنْبِهِ قِيلَ لِلْأَعْمَشِ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي وَأَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي بِصَلاَتِهِ وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلاَةِ أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ بِرَأْسِهِ نَعَمْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ الأَعْمَشِ بَعْضَهُ وَزَادَ أَبُو مُعَاوِيَةَ جَلَسَ عَنْ يَسَارِ أَبِي بَكْرٍ فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي قَائِمًا
665- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى قَالَ أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَتْ عَائِشَةُ لَمَّا ثَقُلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاشْتَدَّ وَجَعُهُ اسْتَأْذَنَ أَزْوَاجَهُ أَنْ يُمَرَّضَ فِي بَيْتِي فَأَذِنَّ لَهُ فَخَرَجَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ تَخُطُّ رِجْلاَهُ الأَرْضَ وَكَانَ بَيْنَ الْعَبَّاسِ وَرَجُلٍ آخَرَ قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِابْنِ عَبَّاسٍ مَا قَالَتْ عَائِشَةُ فَقَالَ لِي وَهَلْ تَدْرِي مَنْ الرَّجُلُ الَّذِي لَمْ تُسَمِّ عَائِشَةُ قُلْتُ لاَ قَالَ هُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ
قوله: "باب حد المريض أن يشهد الجماعة" قال ابن التين تبعا لابن بطال: معنى الحد هاهنا الحدة، وقد نقله الكسائي، ومثله قول عمر في أبي بكر " كنت أرى منه بعض الحد " أي الحدة، قال: والمراد به هنا الحض على شهود الجماعة، قال ابن التين: ويصح أن يقال هنا " جد " بكسر الجيم وهو الاجتهاد في الأمر، لكن لم أسمع أحدا رواه بالجيم.انتهى. وقد أثبت ابن قرقول رواية الجيم وعزاها للقابسي. وقال ابن رشيد: إنما المعنى ما يحد للمريض أن يشهد معه الجماعة فإذا جاوز ذلك الحد لم يستحب له شهودها. ومناسبة ذلك من الحديث خروجه صلى الله عليه وسلم متوكئا على غيره من شدة الضعف فكأنه يشير إلى أنه من بلغ إلى تلك الحال لا يستحب له تكلف الخروج للجماعة إلا إذا وجد من يتوكأ عليه. وأن قوله في الحديث الماضي " لأتوهما ولو حبوا " وقع على طريق المبالغة، قال: ويمكن أن يقال معناه باب الحد الذي للمريض أن يأخذ فيه بالعزيمة في شهود الجماعة. انتهى ملخصا. قوله: "مرضه الذي مات فيه" سيأتي الكلام عليه مبينا في آخر المغازي في سببه ووقت ابتدائه وقدره، وقد بين الزهري في روايته كما في الحديث الثاني من هذا الباب أن ذلك كان بعد أن اشتد به المرض واستقر في بيت عائشة. قوله: "فحضرت الصلاة" هي العشاء كما في رواية موسى بن أبي عائشة الآتية قريبا في " باب إنما جعل الإمام ليؤتم به " وسنذكر هناك الخلاف في ذلك إن شاء الله تعالى. قوله: "فأذن" بضم الهمزة على البناء للمفعول. وفي رواية الأصيلي: "وأذن بالواو " وهو أوجه، والمراد به أذان الصلاة. ويحتمل أن يكون معناه أعلم، ويقويه رواية أبي معاوية عن الأعمش الآتية في " باب الرجل يأتم بالإمام " ولفظه: "جاء بلال يؤذنه بالصلاة " واستفيد منه تسمية المبهم، وسيأتي في رواية موسى ابن أبي عائشة أنه صلى الله عليه وسلم بدأ بالسؤال عن حضور وقت الصلاة وأنه أراد أن يتهيأ للخروج إليها فأغمي عليه. قوله: "مرضه الذي مات فيه" سيأتي الكلام عليه مبينا في آخر المغازي في سببه ووقت ابتدائه وقدره، وقد بين الزهري في روايته كما في الحديث الثاني من هذا الباب أن ذلك كان بعد أن اشتد به المرض واستقر في بيت عائشة. قوله: "فحضرت الصلاة" هي العشاء كما في رواية موسى بن أبي عائشة الآتية قريبا في " باب إنما جعل الإمام ليؤتم به " وسنذكر هناك الخلاف في ذلك إن شاء الله تعالى. قوله: "فأذن" بضم الهمزة على البناء للمفعول. وفي رواية الأصيلي: "وأذن بالواو " وهو أوجه، والمراد به أذان الصلاة. ويحتمل أن يكون معناه أعلم، ويقويه رواية أبي معاوية عن الأعمش الآتية في " باب الرجل يأتم بالإمام " ولفظه: "جاء بلال يؤذنه بالصلاة " واستفيد منه تسمية المبهم، وسيأتي في رواية موسى ابن أبي عائشة أنه صلى الله عليه وسلم بدأ بالسؤال عن حضور وقت الصلاة وأنه أراد أن يتهيأ للخروج إليها فأغمي عليه. الحديث. قوله: "مروا أبا بكر فليصل" استدل به على أن الآمر بالأمر بالشيء يكون آمرا به، وهي مسألة معروفة في أصول الفقه، وأجاب المانعون بأن المعنى بلغوا أبا بكر أني أمرته.وفصل النزاع أن النافي إن أراد أنه ليس أمرا حقيقة فمسلم لأنه ليس فيه صيغة أمر للثاني، وإن أراد أنه لا يستلزمه فمردود والله أعلم. قوله: "فقيل له"

(2/152)


قائل ذلك عائشة كما سيأتي. قوله: "أسيف" بوزن فعيل وهو بمعنى فاعل من الأسف وهو شدة الحزن، والمراد أنه رقيق القلب. ولابن حبان من رواية عاصم عن شقيق عن مسروق عن عائشة في هذا الحديث: قال عاصم والأسيف الرقيق الرحيم، وسيأتي بعد ستة أبواب من حديث ابن عمر في هذه القصة " فقالت له عائشة: إنه رجل رقيق، إذا قرأ غلبه البكاء " ومن حديث أبي موسى نحوه، ومن رواية مالك عن هشام عن أبيه عنها بلفظ: "قالت عائشة: قلت إن أبا بكر إذا قام في مقامك لم يسمع الناس من البكاء فمر عمر". قوله: "فأعادوا له" أي من كان في البيت، والمخاطب بذلك عائشة كما ترى، لكن جمع لأنهم كانوا في مقام الموافقين لها على ذلك. ووقع في حديث أبي موسى بالإفراد ولفظه: "فعادت " ولابن عمره " فعاودته". قوله: "فأعاد الثالثة فقال: إنكن صواحب يوسف" فيه حذف بينه مالك في روايته المذكرة، وأن المخاطب له حينئذ حفصة بنت عمر بأمر عائشة، وفيه أيضا: "فمر عمر، فقال: مه إنكن لأنتن صواحب يوسف " وصواحب جمع صاحبة، والمراد أنهن مثل صواحب يوسف في إظهار خلاف ما في الباطن. ثم إن هذا الخطاب وإن كان بلفظ الجمع فالمراد به واحد وهي عائشة فقط، كما أن " صواحب " صيغة جمع والمراد زليخا فقط، ووجه المشابهة بينهما في ذلك أن زليخا استدعت النسوة وأظهرت لهن الإكرام بالضيافة ومرادها زيادة على ذلك وهو أن ينظرن إلى حسن يوسف ويعذرنها في محبته، وأن عائشة أظهرت أن سبب إرادتها صرف الإمامة عن أبيها كونه لا يسمع المأمومين القراءة لبكائه، ومرادها زيادة على ذلك وهو أن لا يتشاءم الناس به. وقد صرحت هي فيما بعد ذلك فقالت: "لقد راجعته وما حملني على كثرة مراجعته إلا أنه لم يقع في قلبي أن يحب الناس بعده رجلا قام مقامه أبدا " الحديث. وسيأتي بتمامه في " باب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم: "في أواخر المغازي إن شاء الله تعالى. وأخرجه مسلم أيضا. وبهذا التقرير يندفع إشكال من قال إن صواحب يوسف لم يقع منهن إظهار يخالف ما في الباطن. ووقع في مرسل الجنس عند ابن أبي خيثمة أن أبا بكر أمر عائشة أن تكلم النبي صلى الله عليه وسلم أن يصرف ذلك عنه، فأرادت التوصل إلى ذلك بكل طريق فلم يتم. ووقع في أمالي ابن عبد السلام أن النسوة أتين امرأة العزيز يظهرن تعنيفها، ومقصودهن في الباطن أن يدعون يوسف إلى أنفسهن، كذا قال وليس في سياق الآية ما يساعد ما قال. "فائدة": زاد حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم في هذا الحديث أن أبا بكر هو الذي أمر عائشة أن تشير على رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يأمر عمر بالصلاة، أخرجه الدورقي في مسنده، وزاد مالك في روايته التي ذكرناها " فقالت حفصة لعائشة: ما كنت لأصيب منك خبرا". ومثله للإسماعيلي في حديث الباب، وإنما قالت حفصة ذلك لأن كلامها صادف المرة الثالثة في المعاودة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يراجع بعد ثلاث، فلما أشار إلى الإنكار عليها بما ذكر من كونهن صواحب يوسف وجدت حفصة في نفسها من ذلك لكون عائشة هي التي أمرتها بذلك، ولعلها تذكرت ما وقع لها معها أيضا في قصة المغافير كما سيأتي في موضعه. قوله: "فليصل بالناس" في رواية الكشميهني: "للناس". قوله: "فخرج أبو بكر" فيه حذف دل عليه سياق الكلام، وقد بينه في رواية موسى بن أبي عائشة المذكورة ولفظه: "فأتاه الرسول " أي بلال لأنه هو الذي أعلم بحضور الصلاة فأجيب بذلك، وفي روايته أيضا: "فقال له إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تصلي بالناس. فقال أبو بكر - وكان رجلا رقيقا - يا عمر صل بالناس فقال له عمر: أنت أحق بذلك " انتهى. وقول أبي بكر هذا لم يرد به ما أرادت عائشة. قال النووي: تأوله بعضهم على أنه قاله تواضعا، وليس كذلك، بل قاله للعذر المذكور وهو كونه رقيق القلب كثير البكاء، فخشي أن

(2/153)


لا يسمع الناس. انتهى. ويحتمل أن يكون رضي الله عنه فهم من الإمامة الصغرى الإمامة العظمى وعلم ما في تحملها من الخطر، وعلم قوة عمر على ذلك، فاختاره. ويؤيده أنه عند البيعة أشار عليهم أن يبايعوه أو يبايعوا أبا عبيدة بن الجراح. والظاهر أنه لم يطلع على المراجعة المتقدمة، وفهم من الأمر له بذلك تفويض الأمر له في ذلك سواء باشر بنفسه أو استحلف. قال القرطبي: ويستفاد منه أن للمستخلف في الصلاة أن يستحلف لا يتوقف على إذن خاص له بذلك. قوله: "فصلى" في رواية المستملي والسرخسي " يصلي " وظاهره أنه شرع في الصلاة، ويحتمل أن يكون المراد أنه تهيأ لها، وسيأتي في رواية أبي معاوية عن الأعمش بلفظ: "فلما دخل في الصلاة " وهو محتمل أيضا بأن يكون المراد دخل في مكان الصلاة، ويأتي البحث مع من حمله على ظاهره إن شاء الله تعالى. قوله: "فوجد النبي صلى الله عليه وسلم من نفسه خفة" ظاهره أنه صلى الله عليه وسلم وجد ذلك في تلك الصلاة بعينها، ويحتمل أن يكون ذلك بعد ذلك وأن يكون فيه حذف كما تقدم مثله في قوله: "فخرج أبو بكر " وأوضح منه رواية موسى بن أبي عائشة المذكور " فصلى أبو بكر تلك الأيام. ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد من نفسه خفة " وعلى هذا لا يتعين أن تكون الصلاة المذكورة هي العشاء. قوله: "يهادي" بضم أوله وفتح الدال أي يعتمد على الرجلين متمايلا في مشيه من شدة الضعف، والتهادي التمايل في المشي البطيء، وقوله: "يخطان الأرض " أي لم يكن يقدر على تمكينهما من الأرض، وسقط لفظ: "الأرض " من رواية الكشميهني. وفي رواية عاصم المذكورة عند ابن حبان: "إني لأنظر إلى بطون قدميه". قوله: "بين رجلين" في الحديث الثاني من حديثي الباب أنهما العباس بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب ومثله في رواية موسى بن أبي عائشة، ووقع في رواية عاصم المذكورة " وجد خفة من نفسه فخرج بين بريرة ونوبة " ويجمع كما قال النووي بأنه خرج من البيت إلى المسجد بين هذين، ومن ثم إلى مقام الصلاة بين العباس وعلي، أو يحمل على التعدد، ويدل عليه ما في رواية الدار قطني أنه خرج بين أسامة بن زيد والفضل بن العباس. وأما ما في مسلم أنه خرج بين الفضل بن العباس وعلي فذاك في حال مجيئه إلى بيت عائشة. "تنبيه": نوبة بضم النون وبالموحدة ذكره بعضهم في النساء الصحابيات فوهم، وإنما هو عبد أسود كما وقع عند سيف في كتاب الردة، ويؤيده حديث سالم بن عبيد في صحيح ابن خزيمة بلفظ: "خرج بين بريرة ورجل آخر". قوله: "فأراد أبو بكر" زاد أبو معاوية عن الأعمش " فلما سمع أبو بكر حسه " وفي رواية أرقم بن شرحبيل عن ابن عباس في هذا الحديث: "فلما أحس الناس به سبحوا " أخرجه ابن ماجه وغيره بإسناد حسن. قوله: "أن مكانك" في رواية عاصم المذكورة " أن أثبت مكانك " وفي رواية موسى بن أبي عائشة فأومأ إليه بأن لا يتأخر. قوله: "ثم أتى به" كذا هنا بضم الهمزة. وفي رواية موسى بن أبي عائشة أن ذلك كان بأمره ولفظه: "فقال أجلساني إلى جنبه، فأجلساه " وعين أبو معاوية عن الأعمش في إسناد حديث الباب - كما سيأتي بعد أبواب - مكان الجلوس فقال في روايته: "حتى جلس عن يسار أبي بكر " وهذا هو مقام الإمام، وسيأتي القول فيه. وأغرب القرطبي شارح مسلم لما حكى الخلاف هل كان أبو بكر إماما أو مأموما؟ فقال: لم يقع في الصحيح بيان جلوسه صلى الله عليه وسلم هل كان عن يمين أبي بكر أو عن يساره. انتهى. ورواية أبي معاوية هذه عند مسلم أيضا، فالعجب منه كيف يغفل عن ذلك في حال شرحه له. قوله: "فقيل للأعمش الخ" ظاهرها الانقطاع، لأن الأعمش لم يسنده، لكن في رواية أبي معاوية عنه ذكر ذلك متصلا بالحديث، وكذا في رواية موسى بن أبي عائشة وغيرها. قوله: "رواه أبو داود" هو الطيالسي. قوله: "بعضه" بالنصب وهو بدل من الضمير، وروايته

(2/154)


هذه وصلها البزار قال: حدثنا أبو موسى محمد بن المثنى حدثنا أبو داود به ولفظه: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم المقدم بين يدي أبي بكر، كذا رواه مختصرا، وهو موافق لقضية حديث الباب، لكن رواه ابن خزيمة في صحيحه عن محمد بن بشار عن أبي داود بسنده هذا عن عائشة قالت: "من الناس من يقول: كان أبو بكر المقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصف، ومنهم من يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المقدم " ورواه مسلم بن إبراهيم عن شعبة بلفظ: "أن النبي صلى الله عليه وسلم خلف أبي بكر " أخرجه ابن المنذر، وهذا عكس رواية أبي موسى، وهو اختلاف شديد. ووقع في رواية مسروق عنها أيضا اختلاف فأخرجه ابن حبان من رواية عاصم عن شقيق عنه بلفظ: "كان أبو بكر يصلي بصلاته، والناس يصلون بصلاة أبي بكر " وأخرجه الترمذي والنسائي وابن خزيمة من رواية شعبة عن نعيم بن أبي هند عن شقيق بلفظ: "أن النبي صلى الله عليه وسلم خلف أبي بكر " وظاهر رواية محمد بن بشار أن عائشة لم تشاهد الهيئة المذكورة، ولكن تضافرت الروايات عنها بالجزم بما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان هو الإمام في تلك الصلاة، منها رواية موسى ابن أبي عائشة التي أشرنا إليها ففيها " فجعل أبو بكر يصلي بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم والناس بصلاة أبي بكر " وهذه رواية زائدة بن قدامة عن موسى، وخالفه شعبة أيضا فرواه عن موسى بلفظ: "أن أبا بكر صلى بالناس ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الصف خلفه " فمن العلماء من سلك الترجيح فقدم الرواية التي فيها أن أبا بكر كان مأموما للجزم بها، ولأن أبا معاوية أحفظ في حديث الأعمش من غيره، ومنهم من سلك عكس ذلك ورجح أنه كان إماما، وتمسك بقول أبي بكر في " باب من دخل ليؤم الناس " حيث قال: "ما كان لابن أبي قحافة أن يتقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم". ومنهم من سلك الجمع فحمل القصة على التعدد. وأجاب عن قول أبي بكر كما سيأتي في بابه. ويؤيده اختلاف النقل عن الصحابة غير عائشة، فحديث ابن عباس فيه أن أبا بكر كان مأموما كما سيأتي في رواية موسى بن أبي عائشة، وكذا في رواية أرقم بن شرحبيل التي أشرنا إليها عن ابن عباس، وحديث أنس فيه أن أبا بكر كان إماما أخرجه الترمذي وغيره من رواية حميد عن ثابت عنه بلفظ: "آخر صلاة صلاها النبي صلى الله عليه وسلم خلف أبي بكر في ثوب " وأخرجه النسائي من وجه آخر عن حميد عن أنس فلم يذكر ثابتا، وسيأتي بيان ما ترتب على هذا الاختلاف من الحكم في " باب إنما جعل الإمام ليؤتم به " قريبا إن شاء الله تعالى. قوله: "وزاد أبو معاوية عن الأعمش: جلس عن يسار أبي بكر فكان أبو بكر يصلي قائما" يعني روى الحديث المذكور أبو معاوية عن الأعمش كما رواه حفص بن غياث مطولا وشعبة مختصرا كلهم عن الأعمش بإسناده المذكور، فزاد أبو معاوية ما ذكر. وقد تقدمت الإشارة إلى المكان الذي وصله المصنف فيه. وغفل مغلطاي ومن تبعه فنسبوا وصله إلى رواية ابن نمير عن أبي معاوية في صحيح ابن حبان، وليس بجيد من وجهين: أحدهما أن رواية ابن نمير ليس فيها عن يسار أبي بكر، والثاني أن نسبته إلى تخريج صاحب الكتاب أولى من نسبته لغيره فيه. قوله: "لما ثقل على النبي صلى الله عليه وسلم" أي اشتد به مرضه، يقال ثقل في مرضه إذا ركدت أعضاؤه عن خفة الحركة. قوله: "فأذن له" بفتح الهمزة وكسر المعجمة وتشديد النون أي الأزواج، وحكى الكرماني أنه روى بضم الهمزة وكسر الذال وتخفيف النون على البناء للمجهول، واستدل به على أن القسم كان واجبا عليه صلى الله عليه وسلم كما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى. وقد تقدم حديث الزهري هذا في " باب الغسل والوضوء من المخضب " وفيه زيادة على الذي هنا، وسيأتي في رواية ابن أبي عائشة عن عبيد الله شيخ الزهري وسياقه أتم من سياق الزهري. قوله: "قال هو علي بن أبي طالب" زاد الإسماعيلي من

(2/155)


رواية عبد الرزاق عن معمر " ولكن عائشة لا تطيب نفسا له بخير " ولابن إسحاق في المغازي عن الزهري " ولكنها لا تقدر على أن تذكره بخير " ولم يقف الكرماني على هذه الزيادة فعبر عنها بعبارة شنيعة، وفي هذا رد على من تنطع فقال لا يجوز أن يظن ذلك بعائشة، ورد على من زعم أنها أبهمت الثاني لكونه لم يتعين في جميع المسافة إذ كان تارة يتوكأ على الفضل وتارة على أسامة وتارة على علي، وفي جميع ذلك الرجل الآخر هو العباس، واختص بذلك إكراما له، وهذا توهم ممن قاله والواقع خلافه، لأن ابن عباس في جميع الروايات الصحيحة جازم بأن المبهم علي فهو المعتمد والله أعلم. ودعوى وجود العباس في كل مرة والذي يتبدل غيره مردودة بدليل رواية عاصم التي قدمت الإشارة إليها وغيرها صريح في أن العباس لم يكن في مرة ولا في مرتين منها والله أعلم. وفي هذه القصة من الفوائد غير ما مضى تقديم أبي بكر، وترجيحه على جميع الصحابة، وفضيلة عمر بعده، وجواز الثناء في الوجه لمن أمن عليه الإعجاب، وملاطفة النبي صلى الله عليه وسلم لأزواجه وخصوصا لعائشة، وجواز مراجعة الصغير الكبير، والمشاورة في الأمر العام، والأدب مع الكبير لهم أبي بكر بالتأخر عن الصف، وإكرام الفاضل لأنه أراد أن يتأخر حتى يستوي مع الصف فلم يتركه النبي صلى الله عليه وسلم يتزحزح عن مقامه. فيه أن البكاء ولو كثر لا يبطل الصلاة لأنه صلى الله صلى الله عليه وسلم بعد أن علم حال أبي بكر في رقة القلب وكثرة البكاء لم يعدل عنه، ولا نهاه عن البكاء، وأن الإيماء يقوم مقام النطق، واقتصار النبي صلى الله عليه وسلم على الإشارة يحتمل أن يكون لضعف صوته، ويحتمل أن يكون للإعلام بأن مخاطبة من يكون في الصلاة بالإيماء أولى من النطق، وفيه تأكيد أمر الجماعة والأخذ فيها بالأشد وإن كان المرض يرخص في تركها، ويحتمل أن يكون فعل ذلك لبيان جواز الأخذ بالأشد وإن كانت الرخصة أولى. وقال الطبري: إنما فعل ذلك لئلا يعذر أحد من الأئمة بعده نفسه بأدنى عذر فيتخلف عن الإمامة، ويحتمل أن يكون قصد إفهام الناس أن تقديمه لأبي بكر كان لأهليته لذلك حتى إنه صلى خلفه، واستدل به على جواز استخلاف الإمام لغير ضرورة لصنيع أبي بكر، وعلى جواز مخالفة موقف المأموم للضرورة كمن قصد أن يبلغ عنه، ويلتحق به من زحم عن الصف، وعلى جواز ائتمام بعض المأمومين ببعض وهو قول الشعبي واختيار الطبري وأومأ إليه البخاري كما سيأتي، وتعقب بأن أبا بكر إنما كان مبلغا كما سيأتي في " باب من أسمع الناس التكبير " من رواية أخرى عن الأعمش، وكذا ذكره مسلم على هذا، فمعنى الاقتداء اقتداؤهم بصوته، ويؤيده أنه صلى الله عليه وسلم كان جالسا وكان أبو بكر قائما فكان بعض أفعاله يخفى على بعض المأمومين فمن ثم كان أبو بكر كالإمام في حقهم والله أعلم. وفيه اتباع صوت المكبر، وصحة صلاة المستمع والسامع، ومنهم من شرط في صحته تقدم إذن الإمام، واستدل به الطبري على أن للإمام أن يقطع الاقتداء به ويقتدي هو بغيره من غير أن يقطع الصلاة. وعلى جواز إنشاء القدوة في أثناء الصلاة، وعلى جواز تقدم إحرام المأموم على الإمام بناء على أن أبا بكر كان دخل في الصلاة ثم قطع القدوة وائتم برسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قدمنا أنه ظاهر الرواية. ويؤيده أيضا أن في رواية أرقم بن شرحبيل عن ابن عباس " فابتدأ النبي صلى الله عليه وسلم القراءة من حيث انتهى أبو بكر، واستدل به على صحة صلاة القادر على القيام قائما خلف القاعد خلافا للمالكية مطلقا ولأحمد حيث أوجب القعود على من يصلي خلف القاعد كما سيأتي الكلام عليه في " باب إنما جعل الإمام ليؤئم به " إن شاء الله تعالى.

(2/156)


40 - باب الرُّخْصَةِ فِي الْمَطَرِ وَالْعِلَّةِ أَنْ يُصَلِّيَ فِي رَحْلِهِ
حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن نافع ثم أن بن عمر أذن بالصلاة في ليلة ذات

(2/156)


برد وريح ثم قال ألا صلوا في الرحال ثم قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر المؤذن إذا كانت ليلة ذات برد ومطر يقول ألا صلوا في الرحال "
667- حدثنا إسماعيل قال حدثني مالك عن بن شهاب عن محمود بن الربيع الأنصاري ثم أن عتبان بن مالك كان يؤم قومه وهو أعمى وأنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا رسول الله إنها تكون الظلمة والسيل وأنا رجل ضرير البصر فصل يا رسول الله في بيتي مكانا أتخذه مصلى فجاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أين تحب أن أصلي فأشار إلى مكان من البيت فصلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم
قوله: "باب الرخصة في المطر والعلة أن يصلي في رحله" ذكر العلة من عطف العام على الخاص لأنها أعم من أن تكون بالمطر أو غيره، والصلاة في الرحل أعم من أن تكون بجماعة أو منفردا لكنها مظنة الانفراد، والمقصود الأصلي في الجماعة إيقاعها في المسجد، وقد تقدم الكلام على حديث ابن عمر في كتاب الأذان، وعلى حديث عتبان في " باب المساجد في البيوت " وسياقه هناك أتم، وإسماعيل شيخه هنا هو ابن أبي أويس.

(2/157)


41 - باب هَلْ يُصَلِّي الإِمَامُ بِمَنْ حَضَرَ وَهَلْ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي الْمَطَرِ
668- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ صَاحِبُ الزِّيَادِيِّ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْحَارِثِ قَالَ خَطَبَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ فِي يَوْمٍ ذِي رَدْغٍ فَأَمَرَ الْمُؤَذِّنَ لَمَّا بَلَغَ حَيَّ عَلَى الصَّلاَةِ قَالَ قُلْ الصَّلاَةُ فِي الرِّحَالِ فَنَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ فَكَأَنَّهُمْ أَنْكَرُوا فَقَالَ كَأَنَّكُمْ أَنْكَرْتُمْ هَذَا إِنَّ هَذَا فَعَلَهُ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّهَا عَزْمَةٌ وَإِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أُحْرِجَكُمْ
وَعَنْ حَمَّادٍ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ كَرِهْتُ أَنْ أُؤَثِّمَكُمْ فَتَجِيئُونَ تَدُوسُونَ الطِّينَ إِلَى رُكَبِكُمْ"
669- حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ سَأَلْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ فَقَالَ جَاءَتْ سَحَابَةٌ فَمَطَرَتْ حَتَّى سَالَ السَّقْفُ وَكَانَ مِنْ جَرِيدِ النَّخْلِ فَأُقِيمَتْ الصَّلاَةُ فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْجُدُ فِي الْمَاءِ وَالطِّينِ حَتَّى رَأَيْتُ أَثَرَ الطِّينِ فِي جَبْهَتِهِ"
[الحديث 669- أطرافه : 2040,2036,2027,2018,2016,836,813]
670- حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ سِيرِينَ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ قَالَ رَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ إِنِّي لاَ أَسْتَطِيعُ الصَّلاَةَ مَعَكَ وَكَانَ رَجُلًا ضَخْمًا فَصَنَعَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَعَامًا فَدَعَاهُ إِلَى مَنْزِلِهِ فَبَسَطَ لَهُ حَصِيرًا وَنَضَحَ طَرَفَ الْحَصِيرِ فَصَلَّى عَلَيْهِ رَكْعَتَيْنِ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ آلِ الْجَارُودِ لِأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي

(2/157)


الضُّحَى قَالَ مَا رَأَيْتُهُ صَلاَهَا إِلاَّ يَوْمَئِذٍ"
[الحديث670- طرفاه في : 6080,1179]
قوله: "باب هل يصلي الإمام بمن حضر" أي وجود العلة المرخصة للتخلف، فلو تكلف قوم الحضور فصلى بهم الإمام لم يكره، فالأمر بالصلاة في الرحال على هذا للإباحة لا للندب، ومطابقة ذلك لحديث ابن عباس من قوله فيه: "فنظر بعضهم إلى بعض " لما أمر المؤذن أن يقول: "الصلاة في الرحال " فإنه دال على أن بعضهم حضر وبعضهم لم يحضر ومع ذلك خطب وصلى بمن حضر، وأما قوله: "وهل يخطب يوم الجمعة في المطر " فظاهر من حديث ابن عباس وقد تقدم الكلام عليه في الأذان أيضا وفيه أن ذلك كان يوم الجمعة وأن قوله: "إنها عزمة " أي الجمعة، وأما مطابقة حديث أبي سعيد فمن جهة أن العادة في يوم المطر أن يتخلف بعض الناس، وأما قول بعض الشراح يحتمل أن يكون ذلك في الجمعة فمردود لأنه سيأتي في الاعتكاف أنها كانت في صلاة الصبح، وحديث أنس لا ذكر للخطبة فيه. ولا يلزم أن يدل كل حديث في الباب على كل ما في الترجمة. قوله: "باب الرخصة في المطر والعلة أن يصلي في رحله" ذكر العلة من عطف العام على الخاص لأنها أعم من أن تكون بالمطر أو غيره، والصلاة في الرحل أعم من أن تكون بجماعة أو منفردا لكنها مظنة الانفراد، والمقصود الأصلي في الجماعة إيقاعها في المسجد، وقد تقدم الكلام على حديث ابن عمر في كتاب الأذان، وعلى حديث عتبان في " باب المساجد في البيوت " وسياقه هناك أتم، وإسماعيل شيخه هنا هو ابن أبي أويس. قوله: "سألت أبا سعيد " أي عن ليلة القدر. قوله في حديث أنس "قال رجل من الأنصار" قيل إنه عتبان بن مالك، وهو محتمل لتقارب القصتين، لكن لم أر ذلك صريحا. وقد وقع في رواية ابن ماجه الآتية أنه بعض عمومة أنس وليس عتبان عما لأنس إلا على سبيل المجاز لأنهما من قبيلة واحدة وهي الخزرج لكن كل منهما من بطن. قوله: "معك" أي في الجماعة في المسجد. قوله: "وكان رجلا ضخما" أي سمينا، وفي هذا الوصف إشارة إلى علة تخلفه، وقد عده ابن حبان من الأعذار المرخصة في التأخر عن الجماعة، وزاد عبد الحميد عن أنس " وإني أحب أن تأكل في بيتي وتصلي فيه". قوله: "فبسط له حصيرا" سبق الكلام فيه في حديث أنس في أوائل الصلاة في " باب الصلاة على الحصير". قوله: "فصلى عليه ركعتين" زاد عبد الحميد " فصلى وصلينا معه". قوله: "فقال رجل من آل الجارود" في رواية على بن الجعد عن شعبة الآتية للمصنف في صلاة الضحى " فقال فلان ابن فلان ابن الجارود " وكأنه عبد الحميد بن المنذر بن الجارود البصري، وذلك أن البخاري أخرج هذا الحديث من رواية شعبة، وأخرجه في موضع آخر من رواية خالد الحذاء كلاهما عن أنس ابن سيرين عن عبد الحميد بن المنذر بن الجارود عن أنس، وأخرجه ابن ماجه وابن حبان من رواية عبد الله ابن عون عن أنس بن سيرين عن عبد الحميد بن المنذر بن الجارود عن أنس، فاقتضى ذلك أن في رواية البخاري انقطاعا، وهو مندفع بتصريح أنس بن سيرين عنده بسماعه من أنس، فحينئذ رواية ابن ماجه إما من المزيد في متصل الأسانيد، وإما أن يكون فيها وهم لكون ابن الجارود كان حاضرا عند أنس لما حدث بهذا الحديث وسأله عما سأله من ذلك، فظن بعض الرواة أن له فيه رواية. وسيأتي الكلام على فوائده في " باب صلاة الضحى "

(2/158)


ومطابقته لهذه الترجمة إما من جهة ما يلزم من الرخصة لمن له عذر أن يتخلف عن الحضور فإن ضرورة مواظبته صلى الله عليه وسلم على الصلاة بالجماعة أن يصلي بمن بقي، وإما من جهة ما ورد في طريق عبد الحميد المذكورة حيث قال أنس " فصلى وصلينا معه " فإنه مطابق لقوله: "وهل يصلي بمن حضر " والله أعلم.

(2/159)


42 - باب إِذَا حَضَرَ الطَّعَامُ وَأُقِيمَتْ الصَّلاَةُ , وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَبْدَأُ بِالْعَشَاءِ
وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ مِنْ فِقْهِ الْمَرْءِ إِقْبَالُهُ عَلَى حَاجَتِهِ حَتَّى يُقْبِلَ عَلَى صَلاَتِهِ وَقَلْبُهُ فَارِغٌ
671- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ هِشَامٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ سَمِعْتُ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ إِذَا وُضِعَ الْعَشَاءُ وَأُقِيمَتْ الصَّلاَةُ فَابْدَءُوا بِالْعَشَاءِ"
[ الحديث 671 – طرفه في : 5465]
672- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إِذَا قُدِّمَ الْعَشَاءُ فَابْدَءُوا بِهِ قَبْلَ أَنْ تُصَلُّوا صَلاَةَ الْمَغْرِبِ وَلاَ تَعْجَلُوا عَنْ عَشَائِكُمْ
[الحديث 672- طرفه في : 5463]
673- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا وُضِعَ عَشَاءُ أَحَدِكُمْ وَأُقِيمَتْ الصَّلاَةُ فَابْدَءُوا بِالْعَشَاءِ وَلاَ يَعْجَلْ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهُ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُوضَعُ لَهُ الطَّعَامُ وَتُقَامُ الصَّلاَةُ فَلاَ يَأْتِيهَا حَتَّى يَفْرُغَ وَإِنَّهُ لَيَسْمَعُ قِرَاءَةَ الإِمَامِ
[الحديث673- طرفاه في : 5464,674]
674- وَقَالَ زُهَيْرٌ وَوَهْبُ بْنُ عُثْمَانَ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ عَلَى الطَّعَامِ فَلاَ يَعْجَلْ حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهُ مِنْهُ وَإِنْ أُقِيمَتْ الصَّلاَةُ" رَوَاهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ وَهْبِ بْنِ عُثْمَانَ وَوَهْبٌ مَدِينِيٌّ
قوله: "باب إذا حضر الطعام وأقيمت الصلاة" قال الزين بن المنير: حذف جواب الشرط في هذه الترجمة إشعارا بعدم الجزم بالحكم لقوة الخلاف.
انتهى.
وكأنه أشار بالأثرين المذكورين في الترجمة إلى منزع العلماء في ذلك، فإن ابن عمر حمله على إطلاقه، وأشار أبو الدرداء إلى تقييده بما إذا كان القلب مشغولا بالأكل، وأثر ابن عمر مذكور في الباب بمعناه، وأثر أبي الدرداء وصله ابن المبارك في " كتاب الزهد " وأخرجه محمد بن نصر المروزي في " كتاب تعظيم قدر الصلاة " من طريقه.
قوله: "حدثنا يحيى" هو ابن سعيد القطان، وقد أخرجه السراج من طريق يحيى بن سعيد الأموي عن هشام بن عروة أيضا لكن لفظه: "إذا حضر " وذكره المصنف في كتاب الأطعمة من طريق سفيان عن هشام بلفظ: "إذا حضر " وقال بعده " قال يحيى بن سعيد ووهيب عن هشيم إذا وضع " انتهى.
ورواية وهيب وصلها الإسماعيلي، وأخرجه مسلم من رواية ابن نمير وحفص ووكيع بلفظ: "إذا حضر " ووافق كلا جماعة

(2/159)


من الرواة عن هشام، لكن الذين رووه بلفظ: "إذا وضع " كما قال الإسماعيلي أكثر، والفرق بين اللفظين أن الحضور أعم من الوضع، فيحمل قوله: "حضر " أي بين يديه لتأتلف الروايات لاتحاد المخرج، ويؤيده حديث أنس الآتي بعده بلفظ: "إذا قدم العشاء " ولمسلم: "إذا قرب العشاء " وعلى هذا فلا يناط الحكم بما إذا حضر العشاء لكنه لم يقرب للأكل كما لو لم يقرب. قوله: "وأقيمت الصلاة" قال ابن دقيق العيد: الألف واللام في " الصلاة " لا ينبغي أن تحمل على الاستغراق ولا على تعريف الماهية، بل ينبغي أن تحمل على المغرب، لقوله: "فابدؤوا بالعشاء " ويترجح حمله على المغرب لقوله في الرواية الأخرى " فابدؤوا به قبل أن تصلوا المغرب " والحديث يفسر بعضه بعضا. وفي رواية صحيحة " إذا وضع العشاء وأحدكم صائم " انتهى. وسنذكر من أخرج هذه الرواية في الكلام على الحديث الثاني. وقال الفاكهاني: ينبغي حمله على العموم نظرا إلى العلة وهي التشويش المفضي إلى ترك الخشوع، وذكر المغرب لا يقتضي حصرا فيها لأن الجائع غير الصائم قد يكون أشوق إلى الأكل من الصائم. انتهى. وحمله على العموم إنما هو بالنظر إلى المعنى إلحاقا للجائع بالصائم وللغداء بالعشاء لا بالنظر إلى اللفظ الوارد صلى الله عليه وسلم. قوله: "فابدؤوا بالعشاء" حمل الجمهور هذا الأمر على الندب، ثم اختلفوا: فمنهم من قيده بمن كان محتاجا إلى الأكل وهو المشهور عند الشافعية، وزاد الغزالي ما إذا خشي فساد المأكول، ومنهم من لم يقيده وهو قول الثوري وأحمد وإسحاق، وعليه يدل فعل ابن عمر الآتي، وأفرط ابن حزم فقال: تبطل الصلاة. ومنهم من اختار البداءة بالصلاة إلا إن كان الطعام خفيفا نقله ابن المنذر عن مالك، وعند أصحابه تفصيل قالوا: يبدأ بالصلاة إن لم يكن متعلق النفس بالأكل، أو كان متعلقا به لكن لا يعجله عن صلاته، فإن كان يعجله عن صلاته بدأ بالطعام واستحبت له الإعادة. قوله: "عن عقيل" في رواية الإسماعيلي: "حدثني عقيل " وعنده أيضا عن ابن شهاب " أخبرني أنس". قوله: "إذا قدم العشاء" زاد ابن حبان والطبراني في الأوسط من رواية موسى بن أعين عن عمرو بن الحارث عن ابن شهاب " وأحدكم صائم " وقد أخرجه مسلم من طريق ابن وهب عن عمرو بدون هذه الزيادة، وذكر الطبراني أن موسى بن أعين تفرد بها. انتهى. وموسى ثقة متفق عليه. قوله: "ولا تعجلوا" بضم المثناة وبفتحها والجيم مفتوحة فهما، ويروي بضم أوله وكسر الجيم. قوله في حديث ابن عمر "إذا وضع عشاء أحدكم" هذا أخص من الرواية الماضية حيث قال: "إذا وضع العشاء " فيحمل العشاء في تلك الرواية على عشاء من يريد الصلاة، فلو وضع عشاء غيرة لم يدخل في ذلك، ويحتمل أن يقال بالنظر إلى المعنى: لو كان جائعا واشتغل خاطره بطعام غيره كان كذلك، وسبيله أن ينتقل عن ذلك المكان أو يتناول مأكولا يزيل شغل باله ليدخل في الصلاة وقلبه فارغ، ويؤيد هذا الاحتمال عموم قوله في رواية مسلم من طريق أخرى عن عائشة " لا صلاة بحضرة طعام " الحديث، وقوله أبي الدرداء الماضي إقباله على حاجته. قوله: "ولا يعجل" أي أحدكم المذكور أولا. وقال الطيبي: أفرد قوله: "يعجل " نظرا إلى لفظ أحد، وجمع قوله: "فابدؤوا " نظرا إلى لفظ كم. وقال: والمعنى إذا وضع عشاء أحدكم فابدؤوا أنتم بالعشاء ولا يعجل هو حتى يفرغ معكم منه. انتهى. قوله: "وكان ابن عمر" هو موصول عطفا على المرفوع، وقد رواه السراج من طريق يحيى بن سعيد عن عبيد الله عن نافع فذكر المرفوع ثم قال: "قال نافع: وكان ابن عمر إذا
ـــــــ
(1) ليس الامر كما قال , بل إلحاق غير المغرب موافق للمعنى واللفظ الثابت في حديث عائشة وما جاء في معناه , وحديث عائشة رواه مسلم في صحيحه بلفظ " لاصلاة بحضرة الطعام , ولا وهو يدافعه الأخبثان" والله أعلم

(2/160)


حضرة عشاؤه وسمع الِإقامة وقراءة الإمام لم يقم حتى يفرغ " ورواه ابن حبان من طريق ابن جريج عن نافع " أن ابن عمر كان يصلي المغرب إذا غابت الشمس. وكان أحيانا يلقاه وهو صائم فيقدم له عشاؤه وقد نودي للصلاة ثم تقام وهو يسمع فلا يترك عشاءه، ولا يعجل حتى يقضي عشاءه، ثم يخرج فيصلي " انتهى، وهذا أصرح ما ورد عنه في ذلك. قوله: "وإنه يسمع" في رواية الكشميهني: "وإنه ليسمع " بزيادة لام التأكيد في أوله. قوله: "وقال زهير" هو ابن معاوية الجعفي، وطريقه هذه موصولة عند أبي عوانة في مستخرجه، وأما رواية وهب بن عثمان فقد ذكر المصنف أن إبراهيم بن المنذر رواها عنه، وإبراهيم من شيوخ البخاري، وقد وافق زهيرا ووهبا أبو ضمرة عند مسلم وأبو بدر عند أبي عوانة والدراوردي عند السراج كلهم عن موسى بن عقبة، قال النووي: في هذه الأحاديث كراهة الصلاة بحضرة الطعام الذي يريد أكله، لما فيه من ذهاب كمال الخشوع، ويلتحق به ما في معناه مما يشغل القلب، وهذا إذا كان في الوقت سعة، فإن ضاق صلى على حاله محافظة على حرمة الوقت ولا يجوز التأخير، وحكى المتولي وجها أنه يبدأ بالأكل وإن خرج الوقت، لأن مقصود الصلاة الخشوع فلا يفوته. انتهى. وهذا إنما يجيء على قول من يوجب الخشوع، ثم فيه نظر ن المفسدتين إذا تعارضتا اقتصر على أخفهما، وخروج الوقت أشد من ترك الخشوع بدليل صلاة الخوف والغريق وغير ذلك، وإذا صلى لمحافظة الوقت صحت مع الكراهة وتستحب الإعادة عند الجمهور صلى الله عليه وسلم. وادعى ابن حزم أن في الحديث دلالة على امتداد الوقت في حق من وضع له الطعام ولو خرج الوقت المحدود. وقال مثل ذلك في حق النائم والناسي، واستدل النووي وغيره بحديث أنس على امتداد وقت المغرب، واعترضه ابن دقيق العيد بأنه إن أريد بذلك التوسعة إلى غروب الشفق ففيه نظر، وإن أريد به مطلق التوسعة فمسلم ولكن ليس محل الخلاف المشهور، فإن بعض من ذهب إلى ضيق وقتها جعله مقدرا بزمن يدخل فيه مقدار ما يتناول لقيمات يكسر بها سورة الجوع. واستدل به القرطبي على أن شهود صلاة الجماعة ليس بواجب، لأن ظاهره أنه يشتغل بالأكل وإن فاتته الصلاة في الجماعة، وفيه نظر لأن بعض من ذهب إلى الوجوب كابن حبان جعل حضور الطعام عذرا في ترك الجماعة فلا دليل فيه حينئذ على إسقاط الوجوب مطلقا، وفيه دليل على تقديم فضيلة الخشوع في الصلاة على فضيلة أول الوقت، واستدل بعض الشافعية والحنابلة بقوله: "فابدؤوا " على تخصيص ذلك بمن لم يشرع في الأكل، وأما من شرع ثم أقيمت الصلاة فلا يتمادى بل يقوم إلى الصلاة، قال النووي: وصنيع ابن عمر يبطل ذلك، وهو الصواب. وتعقب بأن صنيع ابن عمر اختيار له وإلا فالنظر إلى المعنى يقتضي ما ذكروه، لأنه يكون قد أخذ من الطعام ما دفع شغل البال به، ويؤيد ذلك حديث عمرو بن أمية المذكور في الباب بعده، ولعل ذلك هو السر في إيراد المصنف له عقبه، وروى سعيد بن منصور وابن أبي شيبة بإسناد حسن عن أبي هريرة وابن عباس " أنهما كانا يأكلان طعاما وفي التنور شواء، فأراد المؤذن أن يقيم فقال له ابن عباس: لا تعجل لئلا نقوم وفي أنفسنا منه شيء". وفي رواية ابن أبي شيبة: "لئلا يعرض لنا في صلاتنا"، وله عن الحسن ابن علي قال: "العشاء قبل الصلاة يذهب النفس اللوامة " وفي هذا كله إشارة إلى أن العلة في ذلك تشوف النفس إلى الطعام، فينبغي أن يدار الحكم مع علته وجودا وعدما ولا يتقيد بكل ولا بعض، ويستثنى من ذلك الصائم فلا تكره صلاته
ـــــــ
(1) الاولى عدم استحباب الاعادة , لأن من صلى كما أمر فليس عليه إعاده , فقد قال الله تعالى {فأتقوا الله ما استطعتم}والله أعلم

(2/161)


بحضرة الطعام، إذ الممتنع بالشرع لا يشغل العاقل نفسه به، لكن إذا غلب استحب له التحول من ذلك المكان. "فائدتان": "الأولى" قال ابن الجوزي: ظن قوم أن هذا من باب تقديم حق العبد على حق الله، وليس كذلك، وإنما هو صيانة لحق الحق ليدخل الخلق في عبادته بقلوب مقبلة. ثم إن طعام القوم كان شيئا يسيرا لا يقطع عن لحاق الجماعة غالبا. "الثانية" ما يقع في بعض كتب الفقه إذا حضر العشاء والعشاء فابدؤوا بالعشاء لا أصل له في كتب الحديث بهذا اللفظ، كذا في شرح الترمذي لشيخنا أبي الفضل، لكن رأيت بخط الحافظ قطب الدين أن ابن أبي شيبة أخرج عن إسماعيل وهو ابن علية عن ابن إسحاق قال حدثني عبد الله ابن رافع عن أم سلمة مرفوعا: "إذا حضر العشاء وحضرت العشاء فابدءوا بالعشاء " فإن كان ضبطه فذاك، وإلا فقد رواه أحمد في مسنده عن إسماعيل بلفظ: "وحضرت الصلاة " ثم راجعت مصنف ابن أبي شيبة فرأيت الحديث فيه كما أخرجه أحمد، والله أعلم.

(2/162)


43 - باب إِذَا دُعِيَ الإِمَامُ إِلَى الصَّلاَةِ وَبِيَدِهِ مَا يَأْكُلُ
675- حدثنا عبد العزيز بن عبد الله قال حدثنا إبراهيم عن صالح عن بن شهاب قال أخبرني جعفر بن عمرو بن أمية أن أباه قال ثم رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل ذراعا يحتز منها فدعي إلى الصلاة فقام فطرح السكين فصلى ولم يتوضأ "
قوله: "باب إذا دعى الإمام إلى الصلاة وبيده ما يأكل" قيل أشار بهذا إلى أن الأمر الذي في الباب قبله للندب لا للوجوب، وقد قدمنا قول من فصل بين ما إذا أقيمت الصلاة قبل الشروع في الأكل أو بعده، فيحتمل أن المصنف كان يرى التفصيل، ويحتمل تقييده في الترجمة بالإمام أنه كان يرى تخصيصه به، وأما غيره من المأمومين فالأمر متوجه إليهم مطلقا، ويؤيده قوله فيما سبق " إذا وضع عشاء أحدكم " وقد قدمنا تقرير ذلك مع بقية فوائد الحديث في " باب من لم يتوضأ من لحم الشاة " من كتاب الطهارة. وقال الزين بن المنير: لعله صلى الله صلى الله عليه وسلم أخذ في خاصة نفسه بالعزيمة فقدم الصلاة على الطعام، وأمر غيره بالرخصة لأنه لا يقوى على مدافعة الشهوة قوته، وأيكم يملك أربه. انتهى. ويعكر على من استدل به على أن الأمر للندب احتمال أن يكون اتفق في تلك الحالة أنه قضى حاجته من الأكل فلا يتم الدلالة به. وإبراهيم المذكور في الإسناد هو ابن سعد، وصالح هو ابن كيسان، والإسناد كله مدنيون.

(2/163)


44 - باب مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَهْلِهِ فَأُقِيمَتْ الصَّلاَةُ فَخَرَجَ
676- حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ حَدَّثَنَا الْحَكَمُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الأَسْوَدِ قَالَ "سَأَلْتُ عَائِشَةَ مَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْنَعُ فِي بَيْتِهِ قَالَتْ كَانَ يَكُونُ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ تَعْنِي خِدْمَةَ أَهْلِهِ فَإِذَا حَضَرَتْ الصَّلاَةُ خَرَجَ إِلَى الصَّلاَةِ"
[الحديث676-طرفاه في :6039,5363]
قوله: "باب من كان في حاجة أهله" كأنه أشار بهذه الترجمة إلى أنه لا يلحق بحكم الطعام كل أمر يكون للنفس تشوف إليه، إذ لو كان كذلك لم يبق للصلاة وقت في الغالب. وأيضا فوضع الطعام بين يدي الآكل فيه زيادة

(2/162)


45 - باب مَنْ صَلَّى بِالنَّاسِ وَهُوَ لاَ يُرِيدُ إِلاَّ أَنْ يُعَلِّمَهُمْ صَلاَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسُنَّتَهُ
677- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ قَالَ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ قَالَ جَاءَنَا مَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ فِي مَسْجِدِنَا هَذَا فَقَالَ إِنِّي لاَصَلِّي بِكُمْ وَمَا أُرِيدُ الصَّلاَةَ أُصَلِّي كَيْفَ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي فَقُلْتُ لِأَبِي قِلاَبَةَ كَيْفَ كَانَ يُصَلِّي قَالَ مِثْلَ شَيْخِنَا هَذَا قَالَ وَكَانَ شَيْخًا يَجْلِسُ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ السُّجُودِ قَبْلَ أَنْ يَنْهَضَ فِي الرَّكْعَةِ الأُولَى
[الحديث677- أطرافه في : 824,818,802]
قوله: "باب من صلى بالناس الخ" والحديث مطابق للترجمة، وكأنه لم يجزم فيها بالحكم لما سنبينه. قوله: "حدثنا وهيب" هو ابن خالد، والإسناد كله بصريون. قوله: "إني لأصلي بكم وما أريد الصلاة" استشكل نفي هذه الإرادة لما يلزم عليها من وجود صلاة غير قربة ومثلها لا يصح، وأجيب بأنه لم يرد نفي القربة وإنما أراد بيان السبب الباعث له على الصلاة في غير وقت صلاة معينة جماعة، وكأنه قال ليس الباعث لي على هذا الفعل حضور صلاة معينة من أداء أو إعادة أو غير ذلك، وإنما الباعث لي عليه قصد التعليم، وكأنه كان تعين عليه حينئذ لأنه أحد من خوطب بقوله: "صلوا كما رأيتموني أصلي " كما سيأتي، ورأى أن التعليم بالفعل أوضح من القول، ففيه دليل على جواز مثل ذلك وأنه ليس من باب التشريك في العبادة. قوله: "أصلي" زاد في " باب كيف يعتمد على الأرض " عن معلى عن وهيب " ولكني أريد أن أريكم". قوله: "مثل شيخنا" هو عمرو بن سلمة كما سيأتي في " باب اللبث

(2/163)


46 - باب أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْفَضْلِ أَحَقُّ بِالإِمَامَةِ
678- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ عَنْ زَائِدَةَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ مَرِضَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاشْتَدَّ مَرَضُهُ فَقَالَ مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ قَالَتْ عَائِشَةُ إِنَّهُ رَجُلٌ رَقِيقٌ إِذَا قَامَ مَقَامَكَ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ قَالَ مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ فَعَادَتْ فَقَالَ مُرِي أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ فَإِنَّكُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ فَأَتَاهُ الرَّسُولُ فَصَلَّى بِالنَّاسِ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "
[الحديث 678- طرفه في : 3385]
679- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "فِي مَرَضِهِ مُرُوا أَبَا بَكْرٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ قَالَتْ عَائِشَةُ قُلْتُ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ إِذَا قَامَ فِي مَقَامِكَ لَمْ يُسْمِعْ النَّاسَ مِنْ الْبُكَاءِ فَمُرْ عُمَرَ فَلْيُصَلِّ لِلنَّاسِ فَقَالَتْ عَائِشَةُ فَقُلْتُ لِحَفْصَةَ قُولِي لَهُ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ إِذَا قَامَ فِي مَقَامِكَ لَمْ يُسْمِعْ النَّاسَ مِنْ الْبُكَاءِ فَمُرْ عُمَرَ فَلْيُصَلِّ لِلنَّاسِ فَفَعَلَتْ حَفْصَةُ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَهْ إِنَّكُنَّ لاَنْتُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ لِلنَّاسِ فَقَالَتْ حَفْصَةُ لِعَائِشَةَ مَا كُنْتُ لِأُصِيبَ مِنْكِ خَيْرًا
680- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ الأَنْصَارِيُّ وَكَانَ تَبِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَدَمَهُ وَصَحِبَهُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ يُصَلِّي لَهُمْ فِي وَجَعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ وَهُمْ صُفُوفٌ فِي الصَّلاَةِ فَكَشَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِتْرَ الْحُجْرَةِ يَنْظُرُ إِلَيْنَا وَهُوَ قَائِمٌ كَأَنَّ وَجْهَهُ وَرَقَةُ مُصْحَفٍ ثُمَّ تَبَسَّمَ يَضْحَكُ فَهَمَمْنَا أَنْ نَفْتَتِنَ مِنْ الْفَرَحِ بِرُؤْيَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَكَصَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى عَقِبَيْهِ لِيَصِلَ الصَّفَّ وَظَنَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَارِجٌ إِلَى الصَّلاَةِ فَأَشَارَ إِلَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَتِمُّوا صَلاَتَكُمْ وَأَرْخَى السِّتْرَ فَتُوُفِّيَ مِنْ يَوْمِهِ"
[الحديث680- أطرافه في : 4448 ,1205,754,681]
681- حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ لَمْ يَخْرُجْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلاَثًا فَأُقِيمَتْ الصَّلاَةُ فَذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ يَتَقَدَّمُ فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحِجَابِ فَرَفَعَهُ فَلَمَّا وَضَحَ وَجْهُ النَّبِيِّ

(2/164)


صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا نَظَرْنَا مَنْظَرًا كَانَ أَعْجَبَ إِلَيْنَا مِنْ وَجْهِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ وَضَحَ لَنَا فَأَوْمَأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ أَنْ يَتَقَدَّمَ وَأَرْخَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحِجَابَ فَلَمْ يُقْدَرْ عَلَيْهِ حَتَّى مَاتَ"
682- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ حَدَّثَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ عَنْ أَبِيهِ قَالَ لَمَّا اشْتَدَّ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعُهُ قِيلَ لَهُ فِي الصَّلاَةِ فَقَالَ مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ قَالَتْ عَائِشَةُ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ رَقِيقٌ إِذَا قَرَأَ غَلَبَهُ الْبُكَاءُ قَالَ مُرُوهُ فَيُصَلِّي فَعَاوَدَتْهُ قَالَ مُرُوهُ فَيُصَلِّي إِنَّكُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ تَابَعَهُ الزُّبَيْدِيُّ وَابْنُ أَخِي الزُّهْرِيِّ وَإِسْحَاقُ بْنُ يَحْيَى الْكَلْبِيُّ عَنْ الزُّهْرِيِّ وَقَالَ عُقَيْلٌ وَمَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ حَمْزَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قوله: "باب أهل العلم والفضل أحق بالإمامة" أي ممن ليس كذلك، ومقتضاه أن الأعلم والأفضل أحق من العالم والفاضل، وذكر الفضل بعد العلم من العام بعد الخاص، وسيأتي الكلام على ترتيب الأئمة بعد بابين. قوله: "حدثنا حسين" هو ابن علي الجعفي، والإسناد سوى الراوي عنه كلهم كوفيون، وأبو بردة هو ابن أبي موسى، ووهم من زعم أنه هنا أخوه. قوله: "رقيق" أي رقيق القلب. قوله: "لم يستطع" أي من البكاء. قوله: "فأتاه الرسول" هو بلال. قوله: "فصلى بالناس في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي إلى أن مات، وكذا صرح به موسى ابن عقبة في المغازي. الحديث:قوله: "عن أبيه عن عائشة" كذا رواه جماعة عن مالك موصولا، وهو في أكثر نسخ الموطأ مرسلا ليس فيه عائشة. قوله: "مه" هي كلمة زجر بنيت على السكون. قوله: "فليصل بالناس" في رواية الكشميهني: "للناس " وقد تقدم الكلام على فوائد هذين الحديثين في " باب حد المريض أن يشهد الجماعة " والظاهر أن حديث أبي موسى من مراسيل الصحابة، ويحتمل أن يكون تلقاه عن عائشة أو بلال. وحديث أنس من طريق الزهري سيأتي في الوفاة من آخر المغازي. قوله (حدثنا أبة معمر) هو عبد الله بن عمرو,لاإسماعيل بن إبراهيم.وعبد العزيز هو إبن صهيب . والاسناد كله بصريون . قوله (ثلاثا) كان ابتداؤها من حين خرج النبي عليه الصلاة والسلام فصلى بهم قاعدا كما تقدم .قوله(فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم بالحجاب) هو من إجراء قال مجرى فعل وهو كثير . قوله( مارأينا) في رواية الكشميهني " مانظرنا" وقوله " فأومأ بيده إلى أبي بكر أن يتقدم " ليس مخالفا لقوله في أوله" فتقدم أبو بكر " بل في السياق حذف يظهر من رواية الزهري حيث قال فيها "فنكص أبو بكر " والحاصل أنه تقدم ثم ظن أن النبي عليه الصلا والسلام خرج فتأخر ,فأشار إليه حينئذ أن يرجع إلى مكانه. (فائدة ) وقع في حديث ابن عباس في نحو هذه القصة أنه صلى الله عليه وسلم قال لهم في تلك الحالة " ألا واني نهيت أن أقرأ راكعا أو ساجدا" الحديث, أخرجه مسلم من رواية عبد الله بن معبد عنه قوله: "عن حمزة بن عبد الله" أي ابن عمر بن الخطاب، وفي كلام ابن بطال ما يوهم أنه حمزة ابن عمرو الأسلمي وهو خطأ. قوله: "فعاودته" بفتح الدال وسكون المثناة أي عائشة، وبسكون الدال وفتح النون، أي هي ومن معها من النساء. قوله: "تابعه الزبيدي" أي تابع يونس بن يزيد، ومتابعته هذه وصلها الطبراني في مسند الشاميين من طريق عبد الله بن سالم الحمصي عنه موصولا مرفوعا وزاد فيه قولها " فمر عمر " وقال فيه: "فراجعته عائشة". ومتابعة ابن أخي الزهري وصلها ابن عدي من رواية الدراوردي

(2/165)


عنه، ومتابعة إسحاق بن يحيى وصلها أبو بكر بن شاذان البغدادي في نسخة إسحاق بن يحيى في رواية يحيى بن صالح عنه. "تنبيه": ظن بعضهم أن قوله: "عن الزهري " أي موقوفا عليه، وهو فاسد لما بيناه. قوله: "وقال عقيل ومعمر الخ" قال الكرماني: الفرق بين رواية الزبيدي وابن أخي الزهري وإسحاق بن يحيى وبين رواية عقيل ومعمر أن الأولى متابعة والثانية مقاولة ا ه ومراده بالمقالة الإتيان فيها بصيغة قال، وليس في اصطلاح المحدثين صيغة مقاولة وإنما السر في تركه عطف رواية عقيل ومعمر على رواية يونس من تابعه أنهما أرسلا الحديث وأولئك وصلوه، أي أنهما خالفا يونس ومن تابعه فأرسلا الحديث، فأما رواية عقيل فوصلها الذهلي في الزهريات، وأما معمر فاختلف عليه فرواه ابن المبارك عنه رسلا كذلك أخرجه ابن سعد وأبو يعلى من طريقه، ورواه عبد الرزاق عن معمر موصولا لكن قال: "عن عائشة " بدل قوله: "عن أبيه " كذلك أخرجه مسلم، وكأنه رجح عنده لكون عائشة صاحبة القصة ولقاء حمزة لها ممكن، ورجح الأول عند البخاري لأن المحفوظ في هذا عن الزهري من حديث عائشة روايته لذلك عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عنها، ومما يؤيده أن في رواية عبد الرزاق عن معمر متصلا بالحديث المذكور أن عائشة قالت: "وقد عاودته، وما حملني على معاودته إلا أني خشيت أن يتشاءم الناس بأبي بكر " الحديث. وهذه الزيادة إنما تحفظ من رواية الزهري عن عبيد الله عنها لا من رواية الزهري عن حمزة، وقد روى الإسماعيلي هذا الحديث عن الحسن بن سفيان عن يحيى بن سليمان شيخ البخاري فيه مفصلا، فجعل أوله من رواية الزهري عن حمزة عن أبيه بالقدر الذي أخرجه البخاري، وآخره من رواية الزهري عن عبيد الله عنها، والله أعلم.

(2/166)


47 - باب مَنْ قَامَ إِلَى جَنْبِ الإِمَامِ لِعِلَّةٍ
683- حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ بْنُ يَحْيَى قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ قَالَ أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بَكْرٍ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ فِي مَرَضِهِ فَكَانَ يُصَلِّي بِهِمْ قَالَ عُرْوَةُ فَوَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَفْسِهِ خِفَّةً فَخَرَجَ فَإِذَا أَبُو بَكْرٍ يَؤُمُّ النَّاسَ فَلَمَّا رَآهُ أَبُو بَكْرٍ اسْتَأْخَرَ فَأَشَارَ إِلَيْهِ أَنْ كَمَا أَنْتَ فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِذَاءَ أَبِي بَكْرٍ إِلَى جَنْبِهِ فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي بِصَلاَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلاَةِ أَبِي بَكْرٍ"
قوله: "باب من قام" أي صلى "إلى جنب الإمام لعلة" أي سبب اقتضى ذلك، وقد تقدم ما فيه في " باب حد المريض". قوله: "قال عروة فوجد" هو بالإسناد المذكور، ووهم من جعله معلقا. ثم إن ظاهره الإرسال من قوله: "فوجد الخ " لكن رواه ابن أبي شيبة عن ابن نمير بهذا الإسناد متصلا بما قبله، وأخرجه ابن ماجه عنه، وكذا وصله الشافعي عن يحيى بن حبان عن حماد بن سلمة عن هشام، وكذا وصله عن عروة عنها كما تقدم، ويحتمل أن يكون عروة أخذه عن عائشة وعن غيرها، فلذلك قطعه عن القدر الأول الذي أخذه عنها وحدها، والأصل في الإمام أن يكون متقدما على المأمومين إلا إن ضاق المكان أو لم يكن إلا مأموم واحد، وكذا لو كانوا عراة، وما عدا ذلك يجوز ولكن تفوت الفضيلة.

(2/166)


باب من دخل ليؤم الناس فدخل الإمام الأول
...
48 - باب مَنْ دَخَلَ لِيَؤُمَّ النَّاسَ فَجَاءَ الإِمَامُ الأَوَّلُ فَتَأَخَّرَ الأَوَّلُ أَوْ لَمْ يَتَأَخَّرْ جَازَتْ صَلاَتُهُ
فِيهِ عَائِشَةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
684- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي حَازِمِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَهَبَ إِلَى بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ لِيُصْلِحَ بَيْنَهُمْ فَحَانَتْ الصَّلاَةُ فَجَاءَ الْمُؤَذِّنُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ أَتُصَلِّي لِلنَّاسِ فَأُقِيمَ قَالَ نَعَمْ فَصَلَّى أَبُو بَكْرٍ فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّاسُ فِي الصَّلاَةِ فَتَخَلَّصَ حَتَّى وَقَفَ فِي الصَّفِّ فَصَفَّقَ النَّاسُ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ لاَ يَلْتَفِتُ فِي صَلاَتِهِ فَلَمَّا أَكْثَرَ النَّاسُ التَّصْفِيقَ الْتَفَتَ فَرَأَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَشَارَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ امْكُثْ مَكَانَكَ فَرَفَعَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَدَيْهِ فَحَمِدَ اللَّهَ عَلَى مَا أَمَرَهُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ اسْتَأْخَرَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى اسْتَوَى فِي الصَّفِّ وَتَقَدَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ يَا أَبَا بَكْرٍ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَثْبُتَ إِذْ أَمَرْتُكَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ مَا كَانَ لِابْنِ أَبِي قُحَافَةَ أَنْ يُصَلِّيَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا لِي رَأَيْتُكُمْ أَكْثَرْتُمْ التَّصْفِيقَ مَنْ رَابَهُ شَيْءٌ فِي صَلاَتِهِ فَلْيُسَبِّحْ فَإِنَّهُ إِذَا سَبَّحَ الْتُفِتَ إِلَيْهِ وَإِنَّمَا التَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ "
[الحديث 684 – أطرافه في : 7190,2693,2690,1234,1218,1204,1201]
قوله باب من دخل أي إلى المحراب مثلا ليؤم الناس فجاء الإمام الأول أي الراتب فتأخر الأول أي الداخل فكل منهما أول باعتبار والمعرفة إذا أعيدت كانت عين الأولى إلا بقرينة وقرينة كونها غيرها هنا ظاهرة قوله فيه عائشة يشير بالشق الأول وهو ما إذا تأخر إلى رواية عروة عنها في الباب الذي قبله حيث قال فلما رآه استأخر وبالثانى وهو ما إذا لم يستأخر إلى رواية عبد الله عنها حيث قال فأراد أن يتأخر وقد تقدمت في باب حد المريض والجواز مستفاد من التقرير وكلا الامرين قد وقعا في حديث الباب 652 قوله عن سهل بن سعد في رواية النسائي من طريق سفيان عن أبي حازم سمعت سهلا قوله ذهب إلى بني عمرو بن عوف أي بن مالك بن الأوس والأوس أحد قبيلتى الأنصار وهما الأوس والخزرج وبنو عمرو بن عوف بطن كبير من الأوس فيه عدة أحياء كانت منازلهم بقباء منهم بنو أمية بن زيد بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف وبنو ضبيعة بن زيد وبنو ثعلبة بن عمرو بن عوف والسبب في ذهابه صلى الله عليه وسلم إليهم ما في رواية سفيان المذكورة قال وقع بين حيين من الأنصار كلام وللمؤلف في الصلح من طريق محمد بن جعفر عن أبي حازم أن أهل قباء اقتتلوا حتى تراموا بالحجارة فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال اذهبوا بنا نصلح بينهم وله فيه من رواية أبي غسان عن أبي حازم فخرج في أناس من أصحابه وسمى الطبراني منهم من طريق موسى بن محمد عن أبي حازم أبي بن كعب وسهيل بن بيضاء وللمؤلف في الأحكام من طريق حماد بن زيد عن أبي حازم أن توجهه كان بعد أن صلى الظهر وللطبرانى من طريق عمر بن على عن أبي حازم أن الخبر جاء بذلك وقد أذن بلال لصلاة الظهر قوله فحانت الصلاة أي صلاة العصر وصرح به في الأحكام ولفظه فلما عملا صلاة العصر أذن وأقام وأمر

(2/167)


أبا بكر فتقدم " ولم يسم فاعل ذلك، وقد أخرجه أحمد وأبو داود وابن حبان من رواية حماد المذكورة فبين الفاعل وأن ذلك كان بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، ولفظه: "فقال لبلال إن حضرت العصر ولم آتك فمر أبا بكر فليصل بالناس، فلما حضرت العصر أذن بلال ثم أقام ثم أمر أبا بكر فتقدم " ونحوه للطبراني من رواية موسى بن محمد عن أبي حازم، وعرف بهذا أن المؤذن بلال. وأما قوله لأبي بكر " أتصلي للناس " فلا يخالف ما ذكر لأنه يحمل على أنه استفهمه هل يبادر أول الوقت أو ينتظر قليلا ليأتي النبي صلى الله عليه وسلم؟ ورجح عند أبي بكر المبادرة لأنها فضيلة متحققة فلا تترك لفضيلة متوهمة. قوله: "أقيم" بالنصب ويجوز الرفع. قوله: "قال نعم" زاد في رواية عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه " إن شئت " وهو في " باب رفع الأيدي " عند المؤلف، وإنما فوض ذلك له لاحتمال أن يكون عنده زيادة علم من النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك. قوله: "فصلى أبو بكر" أي دخل في الصلاة، ولفظ عبد العزيز المذكور " وتقدم أبو بكر فكبر " وفي رواية المسعودي عن أبي حازم " فاستفتح أبو بكر الصلاة " وهي عند الطبراني، وبهذا يجاب عن الفرق بين المقامين حيث امتنع أبو بكر هنا أن يستمر إماما وحيث استمر في مرض موته صلى الله عليه وسلم حين صلى خلفه الركعة الثانية من الصبح كما صرح به موسى بن عقبة في المغازي، فكأنه لما أن مضى معظم الصلاة حسن الاستمرار ولما أن لم يمض منها إلا اليسير لم يستمر. وكذا وقع لعبد الرحمن بن عوف حيث صلى النبي صلى الله عليه وسلم خلفه الركعة الثانية من الصبح فإنه استمر في صلاته إماما لهذا المعنى، وقصة عبد الرحمن عند مسلم من حديث المغيرة بن شعبة. قوله: "فتخلص" في رواية عبد العزيز " فجاء النبي صلى الله عليه وسلم يمشي في الصفوف يشقها شقا حتى قام في الصف الأول " ولمسلم: "فخرق الصفوف حتى قام عند الصف المتقدم". قوله: "فصفق الناس" في رواية عبد العزيز " فأخذ الناس في التصفيح. قال سهل: أتدرون ما التصفيح؟ هو التصفيق". انتهى. وهذا يدل على ترادفهما عنده فلا يلتفت إلى ما يخالف ذلك، وسيأتي البحث فيه في باب مفرد. قوله: "وكان أبو بكر لا يلتفت" قيل كان ذلك لعلمه بالنهي عن ذلك، وقد صح أنه اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد كما سيأتي في باب مفرد في صفة الصلاة " فلما أكثر الناس التصفيق " في رواية حماد بن زيد " فلما رأى التصفيح لا يمسك عنه التفت". قوله: "فأشار إليه أن امكث مكانك" في رواية عبد العزيز " فأشار إليه يأمره أن يصلي " وفي رواية عمر بن علي " فدفع في صدره ليتقدم فأبى". قوله: "فرفع أبو بكر يديه فحمد الله" ظاهره أنه تلفظ بالحمد، لكن في رواية الحميدي عن سفيان " فرفع أبو بكر رأسه إلى السماء شكرا لله ورجع القهقري " وادعى ابن الجوزي أنه أشار بالشكر والحمد بيده ولم يتكلم، وليس في رواية الحميدي ما يمنع أن يكون تلفظ، ويقوى ذلك ما عند أحمد من رواية عبد العزيز الماجشون عن أبي حازم " يا أبا بكر لم رفعت يديك وما منعك أن تثبت حين أشرت إليك؟ قال: رفعت يدي لأني حمدت الله على ما رأيت منك " زاد المسعودي " فلما تنحى تقدم النبي صلى الله عليه وسلم: "ونحوه في رواية حماد بن زيد. قوله: "أن يصلي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم" في رواية الحمادين والماجشون " أن يؤم النبي صلى الله عليه وسلم". قوله: "أكثرتم التصفيق" ظاهره أن الإنكار إنما حصل عليهم لكثرته لا لمطلقه، وسيأتي البحث فيه. قوله: "من نابه" أي أصابه. قوله: "فليسبح" في رواية يعقوب بن عبد الرحمن عن أبي حازم " فليقل سبحان الله " وسيأتي في باب الإشارة في الصلاة. قوله: "التفت إليه" بضم المثناة على البناء للمجهول. وفي رواية يعقوب المذكورة " فإنه لا يسمعه أحد حين يقول سبحان الله إلا التفت" . قوله: "وإنما التصفيق للنساء" في رواية عبد العزيز " وإنما التصفيح للنساء " زاد الحميدي " والتسبيح للرجال " وقد روى

(2/168)


المصنف هذه الجملة الأخيرة مقتصرا عليها من رواية الثوري عن أبي حازم كما سيأتي في " باب التصفيق للنساء " ووقع في رواية حماد بن زيد بصيغة الأمر ولفظه: "إذا نابكم أمر فليسبح الرجال وليصفح النساء" . وفي هذا الحديث فضل الإصلاح بين الناس وجمع كلمة القبيلة وحسم مادة القطيعة، وتوجه الإمام بنفسه إلى بعض رعيته لذلك، وتقديم مثل ذلك على مصلحة الإمامة بنفسه. واستنبط منه توجه الحاكم لسماع دعوى بعض الخصوم إذا رجح ذلك على استحضارهم. وفيه جواز الصلاة الواحدة بإمامين أحدهما بعد الآخر، وأن الإمام الراتب إذا غاب يستخلف غيره، وأنه إذا حضر بعد أن دخل نائبه في الصلاة يتخير بين أن يأتم به أو يؤم هو ويصير النائب مأموما من غير أن يقطع الصلاة، ولا يبطل شيء من ذلك صلاة أحد من المأمومين. وادعى ابن عبد البر أن ذلك من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم، وادعى الإجماع على عدم جواز ذلك لغيره صلى الله عليه وسلم، ونوقض بأن الخلاف ثابت، فالصحيح المشهور عند الشافعية الجواز، وعن ابن القاسم في الإمام يحدث فيستخلف ثم يرجع فيخرج المستخلف ويتم الأول أن الصلاة صحيحة، وفيه جواز إحرام المأموم قبل الإمام، وأن المرء قد يكون في بعض صلاته إماما وفي بعضها مأموما، وأن من أحرم منفردا ثم أقيمت الصلاة جاز له الدخول مع الجماعة من غير قطع لصلاته، كذا استنبطه الطبري من هذه القصة، وهو مأخوذ من لازم جواز إحرام الإمام بعد المأموم كما ذكرنا، وفيه فضل أبي بكر على جميع الصحابة. واستدل به جمع من الشراح ومن الفقهاء كالروياني على أن أبا بكر كان عند الصحابة أفضلهم لكونهم اختاروه دون غيره، وعلى جواز تقديم الناس لأنفسهم إذا غاب إمامهم، قالوا: ومحل ذلك إذا أمنت الفتنة والإنكار من الإمام، وأن الذي يتقدم نيابة عن الإمام يكون أصلحهم لذلك الأمر وأقومهم به، وأن المؤذن وغيره يعرض التقدم على الفاضل وأن الفاضل يوافقه بعد أن يعلم أن ذلك برضا الجماعة ا هـ. وكل ذلك مبني على أن الصحابة فعلوا ذلك بالاجتهاد، وقد قدمنا أنهم إنما فعلوا ذلك بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه أن الإقامة واستدعاء الإمام من وظيفة المؤذن، وأنه لا يقيم إلا بإذن الإمام، وأن فعل الصلاة - لا سيما العصر - في أول الوقت مقدم على انتظار الإمام الأفضل، وفيه جواز التسبيح والحمد في الصلاة لأنه من ذكر الله ولو كان مراد المسبح إعلام غيره بما صدر منه، وسيأتي في باب مفرد، وفيه رفع اليدين في الصلاة عند الدعاء والثناء وسيأتي كذلك، وفيه استحباب حمد الله لمن تجددت له نعمة ولو كان في الصلاة، وفيه جواز الالتفات للحاجة وأن مخاطبة المصلي بالإشارة أولى من مخاطبته بالعبارة. وأنها تقوم مقام النطق لمعاتبة النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر على مخالفة إشارته. وفيه جواز شق الصفوف والمشي بين المصلين لقصد الوصول إلى الصف الأول لكنه مقصور على من يليق ذلك به كالإمام أو من كان بصدد أن يحتاج الإمام إلى استخلافه أو من أراد سد فرجة في الصف الأول أو ما يليه مع ترك من يليه سدها ولا يكون ذلك معدودا من الأذى. قال المهلب: لا تعارض بين هذا وبين النهي عن التخطي، لأن النبي صلى الله عليه وسلم ليس كغيره في أمر الصلاة ولا غيرها، لأن له أن يتقدم بسبب ما ينزل عليه من الأحكام، وأطال في تقرير ذلك. وتعقب بأن هذا ليس من الخصائص، وقد أشار هو إلى المعتمد في ذلك فقال: ليس في ذلك شيء من الأذى والجفاء الذي يحصل من التخطي، وليس كمن شق الصفوف والناس جلوس لما فيه من تخطي رقابهم. وفيه كراهية التصفيق في الصلاة وسيأتي في باب مفرد، وفيه الحمد والشكر على الوجاهة في الدين وأن من أكرم بكرامة يتخير بين القبول والترك إذا فهم أن ذلك الأمر على غير جهة اللزوم وكأن القرينة التي بينت لأبي بكر ذلك هي كونه صلى الله عليه وسلم شق الصفوف إلى أن انتهى إليه فكأنه فهم من ذلك أن مراده

(2/169)


أن يؤم الناس، وأن أمره إياه بالاستمرار في الإمامة من باب الإكرام له والتنويه بقدره، فسلك هو طريق الأدب والتواضع. ورجح ذلك عنده احتمال نزول الوحي في حال الصلاة لتغيير حكم من أحكامها، وكأنه لأجل هذا لم يتعقب صلى الله عليه وسلم اعتذاره برد عليه. وفيه جواز إمامة المفضول للفاضل، وفيه سؤال الرئيس عن سبب مخالفة أمره قبل الزجر عن ذلك، وفيه إكرام الكبير بمخاطبته بالكنية، واعتماد ذكر الرجل لنفسه بما يشعر بالتواضع من جهة استعمال أبي بكر خطاب الغيبة مكان الحضور. إذ كان حد الكلام أن يقول أبو بكر: ما كان لي، فعدل عنه إلى قوله: ما كان لابن أبي قحافة، لأنه أدل على التواضع من الأول، وفيه جواز العمل القليل في الصلاة لتأخر أبي بكر عن مقامه إلى الصف الذي يليه، وأن من احتاج إلى مثل ذلك يرجع القهقري ولا يستدبر القبلة ولا ينحرف عنها. واستنبط ابن عبد البر منه جواز الفتح على الإمام، لأن التسبيح إذا جاز جازت التلاوة من باب الأولى، والله أعلم.

(2/170)


باب إذا استووا في القراءة فليأمهم أكبرهم
...
49 - باب إِذَا اسْتَوَوْا فِي الْقِرَاءَةِ فَلْيَؤُمَّهُمْ أَكْبَرُهُمْ
685- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ قَالَ قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ شَبَبَةٌ فَلَبِثْنَا عِنْدَهُ نَحْوًا مِنْ عِشْرِينَ لَيْلَةً وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَحِيمًا فَقَالَ لَوْ رَجَعْتُمْ إِلَى بِلاَدِكُمْ فَعَلَّمْتُمُوهُمْ مُرُوهُمْ فَلْيُصَلُّوا صَلاَةَ كَذَا فِي حِينِ كَذَا وَصَلاَةَ كَذَا فِي حِينِ كَذَا وَإِذَا حَضَرَتْ الصَّلاَةُ فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ"
قوله: "باب إذا استووا في القراءة فليؤمهم أكبرهم" هذه الترجمة مع ما سأبينه من زيادة في بعض طرق حديث الباب منتزعة من حديث أخرجه مسلم من رواية أبي مسعود الأنصاري مرفوعا: "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانت قراءتهم سواء صلى الله عليه وسلم فليؤمهم أقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فليؤمهم أكبرهم سنا " الحديث. ومداره على إسماعيل بن رجاء عن أوس ضمعج عنه، وليسا جميعا من شرط البخاري، وقد نقل ابن أبي حاتم في العلل عن أبيه أن شعبة كان يتوقف في صحة هذا الحديث، ولكن هو في الجملة يصلح للاحتجاج به عند البخاري، وقد علق منه طرفا بصيغة الجزم كما سيأتي، واستعمله هنا في الترجمة، وأورد في الباب ما يؤدي معناه وهو حديث مالك بن الحويرث لكن ليس فيه التصريح باستواء المخاطبين في القراءة، وأجاب الزين بن المنير وغيره بما حاصله أن تساوى هجرتهم وإقامتهم وغرضهم بها مع ما في الشباب غالبا من الفهم - ثم توجه الخطاب إليهم بأن يعلموا من وراءهم من غير تخصيص بعضهم دون بعض - دال على استوائهم في القراءة والتفقه في الدين. قلت: وقد وقع التصريح بذلك فيما رواه أبو داود من طريق مسلمة بن محمد عن خالد الحذاء عن أبي قلابة في هذا الحديث قال: "وكنا يومئذ متقاربين في العلم " انتهى. وأظن في هذه الرواية إدراجا، فإن ابن خزيمة رواه من طريق إسماعيل بن علية عن خالد قال: "قلت لأبي قلابة فأين القراءة؟ قال: إنهما كانا متقاربين " وأخرجه مسلم من طريق حفص بن غياث عن خالد الحذاء وقال فيه: "قال الحذاء: وكانا متقاربين في القراءة". ويحتمل أن يكون مستند أبي قلابة في ذلك هو إخبار
ـــــــ
(1) هذا اللفظ هو إحدى روايتي حديث أبي مسعود المذكور . انظر الرواية الثانية في الصفحة الآتية .

(2/170)


مالك بن الحويرث، كما أن مستند الحذاء هو إخبار أبي قلابة له به فينبغي الإدراج عن الإسناد صلى الله عليه وسلم والله أعلم. "تنبيه": ضمعج والد أوس بفتح الضاد المعجمة وسكون الميم وفتح العين المهملة بعدها جيم معناه الغليظ، وقوله في حديث أبي مسعود " أقرؤهم " قيل المراد به الأفقه وقيل هو على ظاهره، وبحسب ذلك اختلف الفقهاء. قال النووي قال أصحابنا: الأفقه مقدم على الأقرأ، فإن الذي يحتاج إليه من القراءة مضبوط والذي يحتاج إليه من الفقه غير مضبوط، فقد يعرض في الصلاة أمر لا يقدر على مراعاة الصلاة فيه إلا كامل الفقه، ولهذا قدم النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر في الصلاة على الباقين مع أنه صلى الله عليه وسلم نص على أن غيره أقرأ منه، كأنه عنى حديث أقرؤكم أبي. قال: وأجابوا عن الحديث بأن الأقرأ من الصحابة كان هو الأفقه. قلت: وهذا الجواب يلزم منه أن من نص النبي صلى الله عليه وسلم على أنه أقرأ من أبي بكر كان أفقه من أبي بكر فيفسد الاحتجاج بأن تقديم أبي بكر كان لأنه الأفقه. ثم قال النووي بعد ذلك: إن قوله في حديث أبي مسعود " فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم في الهجرة " يدل على تقديم الأقرأ مطلقا انتهى. وهو واضح للمغايرة. وهذه الرواية أخرجها مسلم أيضا من وجه آخر عن إسماعيل بن رجاء، ولا يخفى أن محل تقديم الأقرأ إنما هو حيث يكون عارفا بما يتعين معرفته من أحوال الصلاة، فأما إذا كان جاهلا بذلك فلا يقدم اتفاقا، والسبب فيه أن أهل ذلك العصر كانوا يعرفون معاني القرآن لكونهم أهل اللسان، فالأقرأ منهم بل القارئ كان أفقه في الدين من كثير من الفقهاء الذين جاءوا بعدهم. قوله: "ونحن شببة" بفتح المعجمة والموحدتين جمع شاب، زاد في الأدب من طريق ابن علية عن أيوب " شببة متقاربون " والمراد تقاربهم في السن، لأن ذلك كان في حال قدومهم. قوله: "نحوا من عشرين" في رواية ابن علية المذكورة الجزم به ولفظه: "فأقمنا عنده عشرين ليلة " والمراد بأيامها، ووقع التصريح بذلك في روايته في خبر الواحد من طريق عبد الوهاب عن أيوب. قوله: "رحيما فقال لو رجعتم " في رواية ابن علية وعبد الوهاب " رحيما رقيقا " فظن أنا اشتقنا إلى أهلنا، وسألنا عمن تركنا بعدنا فأخبرناه فقال: ارجعوا إلى أهليكم فأقيموا فيهم وعلموهم" ، ويمكن الجمع بينهما بأن يكون عرض ذلك عليهم على طريق الإيناس بقوله: "لو رجعتم " إذ لو بدأهم بالأمر بالرجوع لأمكن أن يكون فيه تنفير فيحتمل أن يكونوا أجابوه بنعم فأمرهم حينئذ بقوله: "ارجعوا" ، واقتصار الصحابي على ذكر سبب الأمر برجوعهم بأنه الشوق إلى أهليهم دون قصد التعليم هو لما قام عنده من القرينة الدالة على ذلك، ويمكن أن يكون عرف ذلك بتصريح القول منه صلى الله عليه وسلم وإن كان سبب تعليمهم قومهم أشرف في حقهم، لكنه أخبر بالواقع ولم يتزين بما ليس فيهم، ولما كانت نيتهم صادقة صادف شوقهم إلى أهلهم الحظ الكامل في الدين وهو أهلية التعليم كما قال الإمام أحمد في الحرص على طلب الحديث: حظ وافق حقا. قوله: "وليؤمكم أكبركم" ظاهره تقديم الأكبر بكثير السن وقليله، وأما من جوز أن يكون مراده بالكبر ما هو أعم من السن أو القدر كالتقدم في الفقه والقراءة والدين فبعيد لما تقدم من فهم راوي الخبر حيث قال للتابعي " فأين القراءة " فإنه دال على أنه أراد كبر السن، وكذا دعوى من زعم أن قوله: "وليؤمكم أكبركم " معارض بقوله: "يؤم القوم أقرؤهم " لأن الأول يقتضي تقديم الأكبر على الأقرأ والثاني عكسه، ثم انفصل عنه بأن قصة مالك بن الحويرث واقعة عين قابلة للاحتمال بخلاف الحديث الآخر فإنه تقرير قاعدة تفيد التعميم، قال: فيحتمل أن يكون الأكبر منهم كان يومئذ هو الأفقه.
ـــــــ
(1) كذا في الأصلين , ولعل الصواب أن لا إدراج في الاسناد , فتأمل

(2/171)


انتهى. والتنصيص على تقاربهم في العلم يرد عليه، فالجمع الذي قدمناه أولى والله أعلم. وفي الحديث أيضا فضل الهجرة والرحلة في طلب العلم وفضل التعليم، وما كان عليه صلى الله عليه وسلم من الشفقة والاهتمام بأحوال الصلاة وغيرها من أمور الدين، وإجازة خبر الواحد وقيام الحجة به، وتقدم الكلام على بقية فوائده في " باب من قال يؤذن في السفر مؤذن واحد". ويأتي الكلام على قوله صلوا كما رأيتموني أصلي في " باب إجازة خبر الواحد " إن شاء الله تعالى.

(2/172)


باب إذا زار الإمام قوم فأمهم
...
50 - باب إِذَا زَارَ الإِمَامُ قَوْمًا فَأَمَّهُمْ
686- حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ أَسَدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي مَحْمُودُ بْنُ الرَّبِيعِ قَالَ سَمِعْتُ عِتْبَانَ بْنَ مَالِكٍ الأَنْصارِيَّ قَالَ اسْتَأْذَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَذِنْتُ لَهُ فَقَالَ أَيْنَ تُحِبُّ أَنْ أُصَلِّيَ مِنْ بَيْتِكَ فَأَشَرْتُ لَهُ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي أُحِبُّ فَقَامَ وَصَفَفْنَا خَلْفَهُ ثُمَّ سَلَّمَ وَسَلَّمْنَا
قوله: "باب إذا زار الإمام قوما فأمهم" قيل أشار بهذه الترجمة إلى أن حديث مالك بن الحويرث الذي أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه مرفوعا: "من زار قوما فلا يؤمهم، وليؤمهم رجل منهم " محمول على من عدا الإمام الأعظم. وقال الزين بن المنير: مراده أن الإمام الأعظم ومن يجري مجراه إذا حضر بمكان مملوك لا يتقدم عليه مالك الدار أو المنفعة، ولكن ينبغي للمالك أن يأذن له ليجمع بين الحقين حق الإمام في التقدم، وحق المالك في منع التصرف بغير إذنه. انتهى ملخصا. ويحتمل أنه أشار إلى ما في حديث أبي مسعود المتقدم " ولا يؤم الرجل في سلطانه، ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه " فإن مالك الشيء سلطان عليه، والإمام الأعظم سلطان على المالك، وقوله: "إلا بإذنه " يحمل عوده على الأمرين الإمامة والجلوس، وبذلك جزم أحمد كما حكاه الترمذي عنه، فتحصل بالإذن مراعاة الجانبين. قوله: "حدثنا معاذ بن أسد" هو مروزي سكن البصرة وليس هو أخا لمعلى بن أسد أحد شيوخ البخاري أيضا، كان معاذ المذكور كاتبا لعبد الله بن المبارك وهو شيخه في هذا الإسناد، وقد تقدم الكلام على حديث عتبان مستوفى في " باب المساجد التي في البيوت".

(2/172)


باب إنما جعل الإمام ليؤتم به وصلى النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه بالناس وهو جالس
...
51 - باب إِنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ وَصَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ بِالنَّاسِ وَهُوَ جَالِسٌ
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ إِذَا رَفَعَ قَبْلَ الإِمَامِ يَعُودُ فَيَمْكُثُ بِقَدْرِ مَا رَفَعَ ثُمَّ يَتْبَعُ الإِمَامَ
وَقَالَ الْحَسَنُ فِيمَنْ يَرْكَعُ مَعَ الإِمَامِ رَكْعَتَيْنِ وَلاَ يَقْدِرُ عَلَى السُّجُودِ يَسْجُدُ لِلرَّكْعَةِ الْآخِرَةِ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ يَقْضِي الرَّكْعَةَ الأُولَى بِسُجُودِهَا وَفِيمَنْ نَسِيَ سَجْدَةً حَتَّى قَامَ يَسْجُدُ
687- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ قَالَ حَدَّثَنَا زَائِدَةُ عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ قَالَ دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ فَقُلْتُ أَلاَ تُحَدِّثِينِي عَنْ مَرَضِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ بَلَى ثَقُلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَصَلَّى النَّاسُ قُلْنَا لاَ هُمْ يَنْتَظِرُونَكَ قَالَ ضَعُوا لِي مَاءً فِي الْمِخْضَبِ قَالَتْ فَفَعَلْنَا فَاغْتَسَلَ فَذَهَبَ لِيَنُوءَ فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ ثُمَّ أَفَاقَ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصَلَّى النَّاسُ قُلْنَا لاَ هُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ ضَعُوا لِي مَاءً فِي الْمِخْضَبِ

(2/172)


52 - باب مَتَى يَسْجُدُ مَنْ خَلْفَ الإِمَامِ قَالَ أَنَسٌ فَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا
690- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ سُفْيَانَ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو إِسْحَاقَ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ قَالَ حَدَّثَنِي الْبَرَاءُ وَهُوَ غَيْرُ كَذُوبٍ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ لَمْ يَحْنِ أَحَدٌ مِنَّا ظَهْرَهُ حَتَّى يَقَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاجِدًا ثُمَّ نَقَعُ سُجُودًا بَعْدَهُ حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ نَحْوَهُ بِهَذَا
[الحديث 690- طرفاه في : 811 ,747]
قوله: "باب متى يسجد من خلف الإمام" أي إذا اعتدل أو جلس بين السجدتين. قوله: "وقال أنس" هو طرف من حديثه الماضي في الباب قبله، لكن في بعض طرقه دون بعض، وسيأتي في " باب إيجاب التكبير " من رواية الليث عن الزهري بلفظه، ومناسبته لحديث الباب مما قدمناه أنه يقتضي تقديم ما يسمى ركوعا من الإمام بناء على تقدم الشرط على الجزاء وحديث الباب يفسره. قوله: "عن سفيان" هو الثوري، وأبو إسحاق هو السبيعي، وعبد الله بن يزيد هو الخطمي، كذا وقع منسوبا عند الإسماعيلي في رواية لشعبة عن أبي إسحاق، وهو منسوب إلى خطمة بفتح المعجمة وإسكان الطاء بطن من الأوس، وكان عبد الله المذكور أميرا على الكوفة في زمن ابن الزبير، ووقع للمصنف في " باب رفع البصر في الصلاة " أن أبا إسحاق قال: "سمعت عبد الله بن يزيد يخطب"، وأبو إسحاق معروف بالرواية عن البراء بن عازب لكنه سمع هذا عنه بواسطة. وفيه لطيفة وهي رواية صحابي ابن صحابي عن صحابي ابن صحابي من الأنصار ثم من الأوس وكلاهما سكن الكوفة. قوله: "وهو غير كذوب" الظاهر أنه من كلام عبد الله بن يزيد وعلى ذلك جرى الحميدي في جمعه وصاحب العمدة، لكن روى عباس الدوري في تاريخه عن يحيى بن معين أنه قال: قوله: "هو غير كذوب " إنما يريد عبد الله بن يزيد الراوي عن البراء لا البراء. ولا يقال لرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم غير كذوب، يعني أن هذه العبارة إنما تحسن في مشكوك في عدالته والصحابة كلهم عدول لا يحتاجون إلى تزكية. وقد تعقبه الخطابي فقال: هذا القول لا يوجب تهمة في الراوي إنما يوجب حقيقة الصدق له، قال: وهذه عادتهم إذا أرادوا تأكيد العلم بالراوي والعمل بما روى، كان أبو هريرة يقول: "سمعت خليلي الصادق المصدوق". وقال ابن مسعود " حدثني الصادق المصدوق " وقال عياض وتبعه النووي: لا وصم في هذا على الصحابة لأنه لم يرد به التعديل، وإنما أراد به تقوية الحديث إذ حدث به البراء وهو غير متهم، ومثل هذا قول أبي مسلم الخولاني: حدثني الحبيب الأمين. وقد قال ابن مسعود وأبو هريرة فذكرهما. قال: وهذا قالوه تنبيها على صحة الحديث لا أن قائله قصد به تعديل راويه. وأيضا فتنزيه ابن معين للبراء عن التعديل لأجل صحبته ولم ينزه عن ذلك عبد الله بن يزيد لا وجه له، فإن عبد الله بن يزيد معدود في الصحابة. انتهى كلامه. وقد علمت أنه أخذ كلام الخطابي فبسطه واستدرك عليه الإلزام الأخير، وليس بوارد لأن يحيى بن معين لا يثبت صحبة عبد الله بن يزيد، وقد نفاها أيضا مصعب الزبيري وتوقف فيها أحمد بن حنبل وأبو حاتم وأبو داود وأثبتها ابن البرقي والدار قطني وآخرون. وقال

(2/181)


النووي: معنى الكلام حدثني البراء وهو غير متهم كما علمتم فثقوا بما أخبركم به عنه، وقد اعترض بعض المتأخرين على التنظير المذكور فقال: كأنه لم يلم بشيء من علم البيان، للفرق الواضح بين قولنا فلان صدوق وفلان غير كذوب لأن في الأول إثبات الصفة للموصوف، وفي الثاني نفي ضدها عنه فهما مفترقان. قال: والسر فيه أن نفي الضد كأنه يقع جوابا لمن أثبته يخالف إثبات الصفة. انتهى. والذي يظهر لي أن الفرق بينهما أنه يقع في الإثبات بالمطابقة وفي النفي بالالتزام، لكن التنظير صحيح بالنسبة إلى المعنى المراد باللفظين، لأن كلا منهما يرد عليه أنه تزكية في حق مقطوع بتزكيته فيكون من تحصيل الحاصل، ويحصل الانفصال عن ذلك بما تقدم من أن المراد بكل منهما تفخيم الأمر وتقويته في نفس السامع. وذكر ابن دقيق العيد أن بعضهم استدل على أنه كلام عبد الله بن يزيد بقول أبي إسحاق في بعض طرقه: سمعت عبد الله بن يزيد وهو يخطب يقول: "حدثنا البراء وكان غير كذوب " قال وهو محتمل أيضا. قلت: لكنه أبعد من الأول. وقد وجدت الحديث من غير طريق أبي إسحاق عن عبد الله بن يزيد وفيه قوله أيضا: "حدثنا البراء وهو غير كذوب " أخرجه أبو عوانة في صحيحه من طريق محارب بن دثار قال: سمعت عبد الله بن يزيد على المنير يقول. فذكره. وأصله في مسلم، لكن ليس فيه قوله: "وكان غير كذوب " وهذا يقوى أن الكلام لعبد الله ابن يزيد، والله أعلم. "فائدة": روى الطبراني في مسند عبد الله بن يزيد هذا شيئا يدل على سبب روايته لهذا الحديث، فإنه أخرج من طريقه أنه كان يصلي بالناس بالكوفة فكان الناس يضعون رءوسهم قبل أن يضع رأسه ويرفعون قبل أن يرفع رأسه، فذكر الحديث في إنكاره عليهم. قوله: "إذا قال سمع الله لمن حمده" في رواية شعبة " إذا رفع رأسه من الركوع " ولمسلم من رواية محارب بن دثار " فإذا رفع رأسه من الركوع فقال سمع الله لمن حمده لم نزل قياما". قوله: "لم يحن" بفتح التحتانية وسكون المهملة أي لم يثن، يقال حنيت العود إذا ثنيته. وفي رواية لمسلم: "لا يحنو " وهي لغة صحيحة يقال حنيت وحنوت بمعنى. قوله: "حتى يقع ساجدا" في رواية إسرائيل عن أبي إسحاق " حتى يضع جبهته على الأرض " وسيأتي في " باب سجود السهو"، ونحوه لمسلم من رواية زهير عن أبي إسحق، ولأحمد عن غندر عن شعبة " حتى يسجد ثم يسجدون " واستدل به ابن الجوزي على أن المأموم لا يشرع في الركن حتى يتمه الإمام، وتعقب بأنه ليس فيه إلا التأخر حتى يتلبس الإمام بالركن الذي ينتقل إليه بحيث يشرع المأموم بعد شروعه وقبل الفراغ منه. ووقع في حديث عمرو بن حريث عند مسلم: "فكان لا يحنى أحد منا ظهره حتى يستتم ساجدا " ولأبي يعلى من حديث أنس " حتى يتمكن النبي صلى الله عليه وسلم من السجود " وهو أوضح في انتفاء المقارنة. واستدل به على الطمأنينة وفيه نظر، وعلى جواز النظر إلى الإمام لاتباعه في انتقالاته. قوله: "حدثنا أبو نعيم حدثنا سفيان. نحوه" هكذا في رواية المستملى وكريمة، وسقط للباقين. وقد أخرجه أبو عوانة عن الصغاني وغيره عن أبي نعيم ولفظه: "كنا إذا صلينا خلف النبي صلى الله عليه وسلم لم يحن أحد منا ظهره حتى يضع رسول الله صلى الله عليه وسلم جبهته".

(2/182)


53 - باب إِثْمِ مَنْ رَفَعَ رَأْسَهُ قَبْلَ الإِمَامِ
691- حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَمَا يَخْشَى أَحَدُكُمْ أَوْ لاَ يَخْشَى أَحَدُكُمْ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ قَبْلَ الإِمَامِ أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ رَأْسَهُ رَأْسَ حِمَارٍ أَوْ

(2/182)


يَجْعَلَ اللَّهُ صُورَتَهُ صُورَةَ حِمَارٍ "
قوله: "باب إثم من رفع رأسه قبل الإمام" أي من السجود كما سيأتي بيانه. قوله: "عن محمد بن زياد" هو الجمحي مدني سكن البصرة وله في البخاري أحاديث عن أبي هريرة، وفي التابعين أيضا محمد بن زياد الالهاني الحمصي وله عنده حديث واحد عن أبي أمامة في المزارعة. قوله: "أما يخشى أحدكم" في رواية الكشميهني: "أو لا يخشى " ولأبي داود عن حفص بن عمر عن شعبة " أما يخشى أو ألا يخشى " بالشك. و " أما " بتخفيف الميم حرف استفتاح مثل ألا، وأصلها النافية دخلت عليها همزة الاستفهام وهو هنا استفهام توبيخ. قوله: "إذا رفع رأسه قبل الإمام" زاد ابن خزيمة من رواية حماد بن زيد عن محمد بن زياد " في صلاته". وفي رواية حفص بن عمر المذكورة " الذي يرفع رأسه والإمام ساجد " فتبين أن المراد الرفع من السجود ففيه تعقب على من قال إن الحديث نص في المنع من تقدم المأموم على الإمام في الرفع من الركوع والسجود معا، وإنما هو نص في السجود، ويلتحق به الركوع لكونه في معناه، ويمكن أن يفرق بينهما بأن السجود له مزيد مزية لأن العبد أقرب ما يكون فيه من ربه لأنه غاية الخضوع المطلوب منه، فلذلك خص بالتنصيص عليه، ويحتمل أن يكون من باب الاكتفاء، وهو ذكر أحد الشيئين المشتركين في الحكم إذا كان للمذكور مزية، وأما التقدم على الإمام في الخفض في الركوع والسجود فقيل يلتحق به من باب الأولى، لأن الاعتدال والجلوس بين السجدتين من الوسائل، والركوع والسجود من المقاصد، وإذا دل الدليل على وجوب الموافقة فيما هو وسيلة فأولى أن يجب فيما هو مقصد، ويمكن أن يقال ليس هذا بواضح لأن الرفع من الركوع والسجود يستلزم قطعه عن غاية كماله، ودخول النقص في المقاصد أشد من دخوله في الوسائل، وقد ورد الزجر عن الخفض والرفع قبل الإمام في حديث آخر أخرجه البزار من رواية مليح صلى الله عليه وسلم بن عبد الله السعدي عن أبي هريرة مرفوعا: "الذي يخفض ويرفع قبل الإمام إنما ناصيته بيد شيطان". وأخرجه عبد الرزاق من هذا الوجه موقوفا وهو المحفوظ. قوله: "أو يجعل الله صورته صورة حمار" الشك من شعبة، فقد رواه الطيالسي عن حماد بن سلمة وابن خزيمة من رواية حماد بن زيد ومسلم من رواية يونس بن عبيد والربيع بن مسلم كلهم عن محمد بن زياد بغير تردد، فأما الحمادان فقالا " رأس " وأما. يونس فقال: "صورة " وأما الربيع فقال: "وجه"، والظاهر أنه من تصرف الرواة. قال عياض: هذه الروايات متفقة لأن الوجه في الرأس ومعظم الصورة فيه. قلت: لفظ الصورة يطلق على الوجه أيضا، وأما الرأس فرواتها أكثر وهي أشمل فهي المعتمدة، وخص وقوع الوعيد عليها لأن بها وقعت الجناية وهي أشمل، وظاهر الحديث يقتضي تحريم الرفع قبل الإمام لكونه توعد عليه بالمسخ وهو أشد العقوبات، وبذلك جزم النووي في شرح المهذب، ومع القول بالتحريم فالجمهور على أن فاعله يأثم وتجزئ صلاته، وعن ابن عمر تبطل وبه قال أحمد في رواية وأهل الظاهر بناء على أن النهي يقتضي الفساد، وفي المغني عن أحمد أنه قال في رسالته: ليس لمن سبق الإمام صلاة لهذا الحديث، قال: ولو كانت له صلاة لرجى له الثواب ولم يخش عليه العقاب. اختلف في معنى الوعيد المذكور فقيل: يحتمل أن يرجع ذلك إلى أمر معنوي، فإن الحمار موصوف بالبلادة فاستعير هذا المعنى للجاهل بما يجب عليه من فرض الصلاة ومتابعة الإمام، ويرجح هذا المجازى
ـــــــ
(1) في مخطوطة الرياض " فليح"

(2/183)


أن التحويل لم يقع مع كثرة الفاعلين، لكن ليس في الحديث ما يدل أن ذلك يقع ولا بد، وإنما يدل على كون فاعله متعرضا لذلك وكون فعله ممكنا لأن يقع عنه ذلك الوعيد، ولا يلزم من التعرض للشيء وقوع ذلك الشيء، قاله ابن دقيق العيد. قال ابن بزيزة: يحتمل أن يراد بالتحويل المسخ أو تحويل الهيئة الحسية أو المعنوية أو هما معا. حمله آخرون على ظاهره إذ لا مانع من جواز وقوع ذلك، وسيأتي في كتاب الأشربة الدليل على جواز وقوع المسخ في هذه الأمة، وهو حديث أبي مالك الأشعري في المغازي فإن فيه ذكر الخسف وفي آخره: "ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة " وسيأتي مزيد لذلك في تفسير سورة الأنعام إن شاء الله تعالى. يقوى حمله على ظاهره أن في رواية ابن حبان من وجه آخر عن محمد بن زياد " أن يحول الله رأسه رأس كلب " فهذا يبعد المجاز لانتقاء المناسبة التي ذكروها من بلادة الحمار. مما يبعده أيضا إيراد الوعيد بالأمر المستقبل وباللفظ الدال على تغيير الهيئة الحاصلة، ولو أريد تشبيهه بالحمار لأجل البلادة لقال مثلا فرأسه رأس حمار، وإنما قلت ذلك لأن الصفة المذكورة وهي البلادة حاصلة في فاعل ذلك عند فعله المذكور فلا يحسن أن يقال له يخشى إذا فعلت ذلك أن تصير بليدا، مع أن فعله المذكور إنما نشأ عن البلادة. قال ابن الجوزي في الرواية التي عبر فيها بالصورة: هذه اللفظة تمنع تأويل من قال المراد رأس حمار في البلادة، ولم يبين وجه المنع. في الحديث كمال شفقته صلى الله عليه وسلم بأمته وبيانه لهم الأحكام وما يترتب عليها من الثواب والعقاب، واستدل به على جواز المقارنة، ولا دلالة فيه لأنه دل بمنطوقه على منع المسابقة، وبمفهومه على طلب المتابعة، وأما المقارنة فمسكوت عنها. قال ابن بزيزة: استدل بظاهره قوم لا يعقلون على جواز التناسخ. لت: وهو مذهب رديء مبني على دعاوى بغير برهان، والذي استدل بذلك منهم إنما استدل بأصل النسخ لا بخصوص هذا الحديث. لطيفة": قال صاحب " القبس ": ليس للتقدم قبل الإمام سبب إلا طلب الاستعجال، ودواؤه أن يستحضر أنه لا يسلم قبل الإمام فلا يستعجل في هذه الأفعال، والله أعلم.

(2/184)


54- باب إِمَامَةِ الْعَبْدِ وَالْمَوْلَى
وَكَانَتْ عَائِشَةُ يَؤُمُّهَا عَبْدُهَا ذَكْوَانُ مِنْ الْمُصْحَفِ وَوَلَدِ الْبَغِيِّ وَالأَعْرَابِيِّ وَالْغُلاَمِ الَّذِي لَمْ يَحْتَلِمْ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَؤُمُّهُمْ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ"
692- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ قَالَ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ لَمَّا قَدِمَ الْمُهَاجِرُونَ الأَوَّلُونَ الْعُصْبَةَ مَوْضِعٌ بِقُبَاءٍ قَبْلَ مَقْدَمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَؤُمُّهُمْ سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ وَكَانَ أَكْثَرَهُمْ قُرْآنًا"
[الحديث 693 – طرفاه في: 7175]
693- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو التَّيَّاحِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَإِنْ اسْتُعْمِلَ حَبَشِيٌّ كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ "
[الحديث693- طرفاه في : 7142,696]
قوله: "باب إمامة العبد والمولى" أي العتيق، قال الزين بن المنير: لم يفصح بالجواز لكن لوح به لإيراده

(2/184)


أدلته. قوله: "وكانت عائشة الخ" وصله أبو داود صلى الله عليه وسلم في " كتاب المصاحف " من طريق أيوب عن ابن أبي مليكة أن عائشة كان يؤمها غلامها ذكوان في المصحف، ووصله ابن أبي شيبة قال حدثنا وكيع عن هشام بن عروة عن أبي بكر بن أبي مليكة عن عائشة أنها أعتقت غلاما لها عن دبر، فكان يؤمها في رمضان في المصحف. ووصله الشافعي وعبد الرزاق من طريق أخرى عن ابن أبي مليكة أنه كان يأتي عائشة بأعلى الوادي - هو وأبوه وعبيد بن عمير والمسور بن مخرمة وناس كثير - فيؤمهم أبو عمرو مولى عائشة وهو يومئذ غلام لم يعتق، وأبو عمرو المذكور هو ذكوان، وإلى صحة إمامة العبد ذهب الجمهور. وخالف مالك فقال: لا يؤم الأحرار إلا إن كان قارئا وهم لا يقرءون فيؤمهم، إلا في الجمعة لأنها لا تجب عليه. وخالفه أشهب واحتج بأنها تجزئه إذا حضرها. قوله: "في المصحف" استدل به على جواز قراءة المصلي من المصحف، ومنع منه آخرون لكونه عملا كثيرا في الصلاة صلى الله عليه وسلم. قوله: "وولد البغي" بفتح الموحدة وكسر المعجمة والتشديد أي الزانية، ونقل ابن التين أنه رواه بفتح الموحدة وسكون المعجمة والتخفيف، والأول أولى، وهو معطوف على قوله: "والمولى " لكن فصل بين المتعاطفين بأثر عائشة، وغفل القرطبي في مختصر البخاري فجعله من بقية الأثر المذكور، وإلى صحة إمامة ولد الزنا ذهب الجمهور أيضا، وكان مالك يكره أن يتخذ إماما راتبا، وعلته عنده أنه يصير معرضا لكلام الناس فيأثمون بسببه، وقيل لأنه ليس في الغالب من يفقهه صلى الله عليه وسلم فيغلب عليه الجهل. قوله: "والأعرابي" بفتح الهمزة أي ساكن البادية، وإلى صحة إمامته ذهب الجمهور أيضا، وخالف مالك وعلته عنده غلبة الجهل على ساكن البوادي، وقيل لأنهم يديمون نقص السنن وترك حضور الجماعة غالبا قوله: "والغلام الذي لم يحتلم" ظاهره أنه أراد المراهق، ويحتمل الأعم لكن يخرج منه من كان دون سن التمييز بدليل آخر، ولعل المصنف راعى اللفظ الوارد في النهي عن ذلك وهو فيما رواه عبد الرزاق من حديث ابن عباس مرفوعا: "لا يؤم الغلام حتى يحتلم " وإسناده ضعيف، وقد أخرج المصنف في غزوة الفتح حديث عمرو بن سلمة بكسر اللام أنه كان يؤم قومه وهو ابن سبع سنين، وقيل إنما لم يستدل به هنا لأن أحمد بن حنبل توقف فيه فقيل: لأنه ليس فيه اطلاع النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، وقيل لاحتمال أن يكون أراد أنه كان يؤمهم في النافلة دون الفريضة، وأجيب عن الأول بأن زمان نزول الوحي لا يقع فيه لأحد من الصحابة التقرير على ما لا يجوز فعله، ولهذا استدل أبو سعيد وجابر على جواز العزل بأنهم كانوا يعزلون والقرآن ينزل كما سيأتي في موضعه، وأيضا فالوفد الذين قدموا عمرو بن سلمة كانوا جماعة من الصحابة، وقد نقل ابن حزم أنه لا يعلم لهم في ذلك مخالف منهم. وعن الثاني بأن سياق رواية المصنف تدل على أنه كان يؤمهم في الفرائض لقوله فيه: "صلوا صلاة كذا في حين كذا فإذا حضرت الصلاة " الحديث. وفي رواية لأبي داود قال عمرو " فما شهدت مشهدا في جرم صلى الله عليه وسلم إلا كنت إمامهم " وهذا يعم الفرائض والنوافل واحتج ابن حزم على عدم الصحة بأنه صلى الله عليه وسلم أمر
ـــــــ
(1) في مخطوطة الرياض " ابن أبي داود"
(2) الصوابالجواز كما فعلت عائشة رضي الله عنها , لأن الحاجة قد تدعوا . والعمل الكثير إذا كان لحاجة ولم يتوال لم يضر الصلاة لحمله صلى الله عليه وسلم أمامة بنت زينب في الصلاة , وتقدمه وتأخره في صلاة الكسوف , ولأدلة أخرى مدونه في موضعها . والله أعلم
(3) كذا ولعله " ممن يفقه "
(4) جرم بالجيم والراء الساكنة : هي قبيلة عمرو بن سلمة المذكور

(2/185)


أن يؤمهم أقرؤهم قال: فعلى هذا إنما يؤم من يتوجه إليه الأمر، والصبي ليس بمأمور لأن القلم رفع عنه فلا يؤم، كذا قال، ولا يخفى فساده لأنا نقول: المأمور من يتوجه إليه الأمر من البالغين بأنهم يقدمون من اتصف بكونه أكثر قرآنا فبطل ما احتج به، وإلى صحة إمامة الصبي ذهب أيضا الحسن البصري والشافعي وإسحاق، وكرهها مالك والثوري، وعن أبي حنيفة وأحمد روايتان والمشهور عنهما الإجزاء في النوافل دون الفرائض. قوله: "لقول النبي صلى الله عليه وسلم يؤمهم أقرؤهم لكتاب الله" أي فكل من اتصف بذلك جازت إمامته من عبد وصبي وغيرها، وهذا طرف من حديث أبي مسعود الذي ذكرناه في " باب أهل العلم أحق بالإمامة " وقد أخرجه مسلم وأصحاب السنن بلفظ: "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله " الحديث. وفي حديث عمرو بن سلمة المذكور عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وليؤمكم أكثركم قرآنا " وفي حديث أبي سعيد عند مسلم أيضا: "إذا كانوا ثلاثة فليؤمهم أحدهم، وأحقهم بالإمامة أقرؤهم " واستدل بقوله أقرؤهم على أن إمامة الكافر لا تصح لأنه لا قراءة له. قوله: "ولا يمنع العبد من الجماعة" هذا من كلام المصنف، وليس من الحديث المعلق. قوله: "بغير علة" أي بغير ضرورة لسيده، فلو قصد تفويت الفضيلة عليه بغير ضرورة لم يكن له ذلك، وسنذكر مستنده في الكلام على قصة سالم في أول حديثى الباب. قوله: "عن عبيد الله" هو العمري. قوله: "لما قدم المهاجرون الأولون" أي من مكة إلى المدينة وبه صرح في رواية الطبراني. قوله: "العصبة" بالنصب على الظرفية لقوله: "قدم " كذا في جميع الروايات. وفي رواية أبي داود " نزلوا العصبة " أي المكان المسمى بذلك وهو بإسكان الصاد المهملة بعدها موحدة، واختلف في أوله فقيل بالفتح وقيل بالضم، ثم رأيت في النهاية ضبطه بعضهم بفتح العين والصاد المهملتين، قال أبو عبيد البكري: لم يضبطه الأصيلي في روايته، والمعروف " المعصب " بوزن محمد بالتشديد وهو موضع بقباء. قوله: "وكان يؤمهم سالم مولى أبي حذيفة" زاد في الأحكام من رواية ابن جريج عن نافع " وفيهم أبو بكر وعمر وأبو سلمة - أي ابن عبد الأسد - وزيد أي ابن حارثة وعامر بن ربيعة " واستشكل ذكر أبي بكر فيهم إذ في الحديث أن ذلك كان قبل مقدم النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر كان رفيقه، ووجهه البيهقي باحتمال أن يكون سالم المذكور استمر على الصلاة بهم فيصح ذكر أبي بكر، ولا يخفى ما فيه. ووجه الدلالة منه إجماع كبار الصحابة القرشيين على تقديم سالم عليهم، وكان سالم المذكور مولى امرأة من الأنصار فأعتقته، وكأن إمامته بهم كانت قبل أن يعتق، وبذلك تظهر مناسبة قول المصنف " ولا يمنع العبد". وإنما قيل له مولى أبي حذيفة لأنه لازم أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة بعد أن عتق فتبناه، فلما نهوا عن ذلك قيل له مولاه كما سيأتي في موضعه. واستشهد سالم باليمامة في خلافة أبي بكر رضي الله عنهما. قوله: "وكان أكثرهم قرآنا" إشارة إلى سبب تقديمهم له مع كونهم أشرف منه. وفي رواية للطبراني " لأنه كان أكثرهم قرآنا". قوله: "حدثنا يحيى" هو القطان. قوله: "اسمعوا وأطيعوا" أي فيما فيه طاعة لله. قوله: "وإن استعمل" أي جعل عاملا، وللمصنف في الأحكام عن مسدد عن يحيى " وإن استعمل عليكم عبد حبشي " وهو أصرح في مقصود الترجمة، وذكره بعد باب من طريق غندر عن شعبة بلفظ: "قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لأبي ذر: اسمع وأطع " الحديث، وقد أخرجه مسلم من طريق غندر أيضا لكن بإسناد له آخر عن شعبة عن أبي عمران الجوني عن عبد الله بن الصامت عن أبي ذر قال: "إن خليلي صلى الله عليه وسلم أوصاني أن اسمع وأطع وإن كان عبدا حبشيا مجدع الأطراف". وأخرجه الحاكم والبيهقي من هذا الوجه، وفيه قصة أن أبا ذر انتهى إلى الربذة وقد أقيمت الصلاة فإذا عبد يؤمهم، قال فقيل: هذا أبو ذر، فذهب

(2/186)


يتأخر، فقال أبو ذر: "أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم: "فذكر الحديث. وأخرج مسلم أيضا من طريق غندر أيضا عن شعبة عن يحيى بن الحصين سمعت جدتي تحدث أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب في حجة الوداع يقول: "ولو استعمل عليكم عبد يقودكم بكتاب الله " وفي هذه الرواية فائدتان: تعيين جهة الطاعة، وتاريخ الحديث وأنه كان في أواخر عهد النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: "كأن رأسه زبيبة" قيل شبهه بذلك لصغر رأسه، وذلك معروف في الحبشة، وقيل لسواده، وقيل لقصر شعر رأسه وتفلفله. ووجه الدلالة منه على صحة إمامة العبد أنه إذا أمر بطاعته فقد أمر بالصلاة خلفه قاله ابن بطال. ويحتمل أن يكون مأخوذا من جهة ما جرت به عادتهم أن الأمير هو الذي يتولى الإمامة بنفسه أو نائبه، واستدل به على المنع من القيام على السلاطين وإن جاروا لأن القيام عليهم يفضي غالبا إلى أشد مما ينكر عليهم، ووجه الدلالة منه أنه أمر بطاعة العبد الحبشي والإمامة العظمى إنما تكون بالاستحقاق في قريش فيكون غيرهم متغلبا، فإذا أمر بطاعته استلزم النهي عن مخالفته والقيام عليه. ورده ابن الجوزي بأن المراد بالعامل هنا من يستعمله الإمام لا من يلي الإمامة العظمى، وبأن المراد بالطاعة الطاعة فيما وافق الحق. انتهى. ولا مانع من حمله على أعم من ذلك، فقد وجد من ولى الإمامة العظمى من غير قريش من ذوى الشوكة متغلبا، وسيأتي بسط ذلك في كتاب الأحكام. وقد عكسه بعضهم فاستدل به على جواز الإمامة في غير قريش، وهو متعقب، إذ لا تلازم بين الإجزاء والجواز، والله أعلم.

(2/187)


باب إذا لم يتم الإمام وأثم من خلفه
...
55 - باب إِذَا لَمْ يُتِمَّ الإِمَامُ وَأَتَمَّ مَنْ خَلْفَهُ
694- حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ سَهْلٍ قَالَ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُوسَى الأَشْيَبُ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "يُصَلُّونَ لَكُمْ فَإِنْ أَصَابُوا فَلَكُمْ وَإِنْ أَخْطَئُوا فَلَكُمْ وَعَلَيْهِمْ
قوله: "باب إذا لم يتم الإمام وأتم من خلفه" يشير بذلك إلى حديث عقبة بن عامر وغيره كما سيأتي. قوله: "حدثنا الفضل بن سهل" هو البغدادي المعروف بالأعرج من صغار شيوخ البخاري ومات قبله بسنة. قوله: "يصلون" أي الأئمة، واللام في قوله: "لكلم " للتعليل. قوله: "فإن أصابوا فلكم" أي ثواب صلاتكم، زاد أحمد عن الحسن بن موسى بهذا السند " ولهم " أي ثواب صلاتهم، وهو يغني عن تكلف توجيه حذفها، وتمسك ابن بطال بظاهر الرواية المحذوفة فزعم أن المراد بالإصابة هنا إصابة الوقت، واستدل بحديث ابن مسعود مرفوعا: "لعلكم تدركون أقواما يصلون الصلاة لغير وقتها، فإذا أدركتموهم فصلوا في بيوتكم في الوقت ثم صلوا معهم واجعلوها سبحة " وهو حديث حسن أخرجه النسائي وغيره، فالتقدير على هذا: فإن أصابوا الوقت وإن أخطؤوا الوقت فلكم يعني الصلاة التي في الوقت. انتهى. وغفل عن الزيادة التي في رواية أحمد فإنها تدل على أن المراد صلاتهم معهم لا عند الانفراد، وكذا أخرجه الإسماعيلي وأبو نعيم في مستخرجيهما من طرق عن الحسن بن موسى، وقد أخرج ابن حبان حديث أبي هريرة من وجه آخر أصرح في مقصود الترجمة ولفظه: "يكون أقوام يصلون الصلاة، فإن أتموا فلكم ولهم " وروى أبو داود من حديث عقبة بن عامر مرفوعا: "من أم الناس فأصاب الوقت فله ولهم" . وفي رواية أحمد في هذا الحديث: "فإن صلوا الصلاة لوقتها وأتموا الركوع والسجود فهي لكم ولهم " فهذا يبين أن المراد

(2/187)


ما هو أعم من ترك إصابة الوقت، قال ابن المنذر: هذا الحديث يرد على من زعم أن صلاة الإمام إذا فسدت فسدت صلاة من خلفه. قوله: "وإن أخطؤوا" أي ارتكبوا الخطيئة، ولم يرد به الخطأ المقابل للعمد لأنه لا إثم فيه. قال المهلب: فيه جواز الصلاة خلف البر والفاجر إذا خيف منه. ووجه غيره قوله إذا خيف منه بأن الفاجر إنما يؤم إذا كان صاحب شوكة. وقال البغوي في شرح السنة: فيه دليل على أنه إذا صلى بقوم محدثا أنه تصح صلاة المأمومين وعليه الإعادة. واستدل به غيره على أعم من ذلك وهو صحة الائتمام بمن يخل بشيء من الصلاة ركنا كان أو غيره إذا أتم المأموم، وهو عند الشافعية بشرط أن يكون الإمام هو الخليفة أو نائبه، والأصح عندهم صحة الاقتداء بمن علم أنه ترك واجبا. ومنهم من استدل به على الجواز مطلقا بناء على أن المراد بالخطأ ما يقابل العمد، قال: ومحل الخلاف في الأمور الاجتهادية كمن يصلي خلف من لا يرى قراءة البسملة ولا أنها من أركان القراءة ولا أنها آية من الفاتحة بل يرى أن الفاتحة تجزئ بدونها قال: فإن صلاة المأموم تصح إذا قرأ هو البسملة لأن غاية حال الإمام في هذه الحالة أن يكون أخطأ. وقد دل الحديث على أن خطأ الإمام لا يؤثر في صحة صلاة المأموم إذا أصاب. "تنبيه": حديث الباب من رواية عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار وفيه مقال، وقد ذكرنا له شاهدا عند ابن حبان، وروى الشافعي معناه من طريق صفوان بن سليم عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة مرفوعا بلفظ: "يأتي قوم فيصلون لكم، فإن أتموا كان لهم ولكم، وإن نقصوا كان عليهم ولكم" .

(2/188)


56 - باب إِمَامَةِ الْمَفْتُونِ وَالْمُبْتَدِعِ وَقَالَ الْحَسَنُ صَلِّ وَعَلَيْهِ بِدْعَتُهُ
695- قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ وَقَالَ لَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ خِيَارٍ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ مَحْصُورٌ فَقَالَ إِنَّكَ إِمَامُ عَامَّةٍ وَنَزَلَ بِكَ مَا نَرَى وَيُصَلِّي لَنَا إِمَامُ فِتْنَةٍ وَنَتَحَرَّجُ فَقَالَ الصَّلاَةُ أَحْسَنُ مَا يَعْمَلُ النَّاسُ فَإِذَا أَحْسَنَ النَّاسُ فَأَحْسِنْ مَعَهُمْ وَإِذَا أَسَاءُوا فَاجْتَنِبْ إِسَاءَتَهُمْ"
وَقَالَ الزُّبَيْدِيُّ قَالَ الزُّهْرِيُّ لاَ نَرَى أَنْ يُصَلَّى خَلْفَ الْمُخَنَّثِ إِلاَّ مِنْ ضَرُورَةٍ لاَ بُدَّ مِنْهَا "
696- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبَانَ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لِأَبِي ذَرٍّ اسْمَعْ وَأَطِعْ وَلَوْ لِحَبَشِيٍّ كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ
قوله: "باب إمامة المفتون" أي الذي دخل في الفتنة فخرج على الإمام، ومنهم من فسره بما هو أعم من ذلك. قوله: "والمبتدع" أي من اعتقد شيئا مما يخالف أهل السنة والجماعة. قوله: "وقال الحسن صل وعليه بدعته" وصله سعيد بن منصور عن ابن المبارك عن هشام بن حسان أن الحسن سئل عن الصلاة خلف صاحب البدعة فقال الحسن " صل خلفه وعليه بدعته". قوله: "وقال لنا محمد بن يوسف" هو الفريابي، قيل عبر بهذه الصيغة لأنه مما أخذه من شيخه في المذاكرة فلم يقل فيه حدثنا، وقيل إن ذلك مما تحمله بالإجازة أو المناولة أو العرض، وقيل: هو متصل من حيث اللفظ منقطع من حيث المعنى. والذي ظهر لي بالاستقراء خلاف ذلك، وهو أنه متصل لكنه لا يعبر بهذه الصيغة إلا إذا كان المتن موقوفا أو كان فيه راو ليس على شرطه، والذي هنا من قبيل الأول، وقد وصله الإسماعيلي

(2/188)


من رواية محمد بن يحيى قال: حدثنا محمد بن يوسف الفريابي. قوله: "عن حميد بن عبد الرحمن" أي ابن عوف. وفي رواية الإسماعيلي: "أخبرني حميد". وأخرجه الإسماعيلي من طريق أخرى عن الأوزاعي، وخالفه يونس بن يزيد فقال: عن الزهري عن عروة أخرجه الإسماعيلي أيضا، وكذلك رواه معمر عن الزهري أخرجه عمر بن شبة في " كتاب مقتل عثمان " عن غندر عنه، ويحتمل أن يكون للزهري فيه شيخان. قوله: "عن عبيد الله بن عدي" في رواية ابن المبارك عن الأوزاعي عند الإسماعيلي وأبي نعيم " حدثني عبيد الله بن عدي بن الخيار من بني نوفل بن عبد مناف " وعبيد الله المذكور تابعي كبير معدود في الصحابة لكونه ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وكان عثمان من أقارب أمه كما سيأتي في موضعه. قوله: "إنك إمام عامة" أي جماعة. وفي رواية يونس " وأنت الإمام " أي الأعظم. قوله: "ونزل بك ما نرى" أي من الحصار. قوله: "ويصلي لنا" أي يؤمنا. قوله: "إمام فتنة" أي رئيس فتنة، واختلف في المشار إليه بذلك فقيل: هو عبد الرحمن بن عديس البلوى أحد رءوس المصريين الذين حصروا عثمان، قاله ابن وضاح فيما نقله عنه ابن عبد البر وغيره. وقاله ابن الجوزي وزاد: إن كنانة بن بشر أحد رءوسهم صلى بالناس أيضا. قلت: وهو المراد هنا، فإن سيف بن عمر روى حديث الباب في " كتاب الفتوح " من طريق أخرى عن الزهري بسنده فقال فيه: "دخلت على عثمان وهو محصور وكنانة يصلي بالناس فقلت كيف ترى " الحديث. وقد صلى بالناس يوم حصر عثمان أبو أمامة بن سهل بن حنيف الأنصاري لكن بإذن عثمان، ورواه عمر بن شبة بسند صحيح، ورواه ابن المديني من طريق أبي هريرة. وكذلك صلى بهم علي بن أبي طالب فيما رواه إسماعيل الخطي في " تاريخ بغداد " من رواية ثعلبة بن يزيد الحماني قال: فلما كان يوم عيد الأضحى جاء علي فصلى بالناس. وقال ابن المبارك فيما رواه الحسن الحلواني: لم يصل بهم غيرها. وقال غيره: صلى بهم عدة صلوات وصلى بهم أيضا سهل بن حنيف، رواه عمر بن شبة بإسناد قوى. وقيل صلى بهم أيضا أبو أيوب الأنصاري وطلحة بن عبيد الله، وليس واحد من هؤلاء مرادا بقوله إمام فتنة. وقال الداودي: معنى قوله: "إمام فتنة " أي إمام وقت فتنة، وعلى هذا لا اختصاص له بالخارجي. قال: ويدل على صحة ذلك أن عثمان لم يذكر الذي أمهم بمكروه بل ذكر أن فعله أحسن الأعمال. انتهى. وهذا مغاير لمراد المصنف من ترجمته، ولو كان كما قال لم يكن قوله: "ونتحرج " مناسبا. قوله: "ونتحرج" في رواية ابن المبارك " وأنا لنتحرج من الصلاة معه " والتحرج التأثم، أي نخاف الوقوع في الإثم، وأصل الحرج الضيق، ثم استعمل للإثم. لأنه يضيق على صاحبه. قوله: "فقال الصلاة أحسن" في رواية ابن المبارك " أن الصلاة أحسن " وفي رواية معقل بن زياد عن الأوزاعي عند الإسماعيلي: "من أحسن". قوله: "فإذا أحسن الناس فأحسن" ظاهره أنه رخص له في الصلاة معهم كأنه يقول لا يضرك كونه مفتونا، بل إذا أحسن فوافقه على إحسانه واترك ما افتتن به، وهو المطابق لسياق الباب، وهو الذي فهمه الداودي حتى احتاج إلى تقدير حذف في قوله إمام فتنة، وخالف ابن المنير فقال: يحتمل أن يكون رأى أن الصلاة خلفه لا تصح فحاد عن الجواب بقوله إن الصلاة أحسن، لأن الصلاة التي هي أحسن هي الصلاة الصحيحة، وصلاة الخارجي غير صحيحة لأنه إما كافر أو فاسق. انتهى. وهذا قاله نصرة لمذهبه في عدم صحة الصلاة خلف الفاسق، وفيه نظر لأن سيفا روى في الفتوح عن سهل بن يوسف الأنصاري عن أبيه قال: كره الناس الصلاة خلف الذين حصروا عثمان إلا عثمان فإنه قال: من دعا إلى الصلاة فأجيبوه. انتهى. فهذا صريح في أن مقصوده بقوله: "الصلاة أحسن " الإشارة إلى الإذن

(2/189)


بالصلاة خلفه، وفيه تأييد لما فهمه المصنف من قوله إمام فتنة، وروى سعيد بن منصور من طريق مكحول قال: قالوا لعثمان إنا نتحرج أن نصلي خلف هؤلاء الذين حصروك، فذكر نحو حديث الزهري. وهذا منقطع إلا أنه اعتضد. قوله: "وإذا أساؤوا فاجتنب" فيه تحذير من الفتنة والدخول فيها ومن جميع ما ينكر من قول أو فعل أو اعتقاد، وفي هذا الأثر الحض على شهود الجماعة ولا سيما في زمن الفتنة لئلا يزداد تفرق الكلمة، وفيه أن الصلاة خلف من تكره الصلاة خلفه أولى من تعطيل الجماعة، وفيه رد على زعم أن الجمعة لا يجزئ أن تقام بغير إذن الإمام. قوله: "وقال الزبيدي" بضم الزاي هو محمد بن الوليد. قوله: "المخنث" رويناه بكسر النون وفتحها، فالأول المراد به من فيه تكسر وتثن وتشبه بالنساء. والثاني المراد به من يؤتي، وبه جزم أبو عبد الملك فيما حكاه ابن التين محتجا بأن الأول لا مانع من الصلاة خلفه إذا كان ذلك أصل خلقته. ورد بأن المراد من يتعمد ذلك فيتشبه بالنساء فإن ذلك بدعة قبيحة، ولهذا جوز الداودي أن يكون كل منهما مرادا. قال ابن بطال: ذكر البخاري هذه المسألة هنا لأن المخنث مفتتن في طريقته. قوله: "إلا من ضرورة" أي بأن يكون ذا شوكة أو من جهته فلا تعطل الجماعة بسببه، وقد رواه معمر عن الزهري بغير قيد أخرجه عبد الرزاق عنه ولفظه: "قلت: فالمخنث؟ قال: لا ولا كرامة، لا يؤتم به " وهو محمول على حالة الاختيار. قوله: "حدثنا محمد بن أبان" هو البلخي مستملى وكيع، وقيل الواسطي وهو محتمل لكن لم نجد للواسطي رواية عن غندر بخلاف البلخي، وقد تقدم عنه بموضع آخر في المواقيت وهذا جميع ما أخرج عنه البخاري. قوله: "اسمع وأطع" تقدم الكلام عليه قبل بباب، قال ابن المنير: وجه دخوله في هذا الباب أن الصفة المذكورة إنما توجد غالبا في عجمي حديث عهد بالإسلام لا يخلو من جهل بدينه، وما يخلو من هذه صفته ارتكاب البدعة، ولو لم يكن إلا افتتانه بنفسه حتى تقدم للإمامة وليس من أهلها.

(2/190)


باب يقوم عن يمين الإمام يحذائه سواء إذا كانا اثنين
...
57 - باب يَقُومُ عَنْ يَمِينِ الإِمَامِ بِحِذَائِهِ سَوَاءً إِذَا كَانَا اثْنَيْنِ
697- حدثنا سليمان بن حرب قال حدثنا شعبة عن الحكم قال سمعت سعيد بن جبير عن بن عباس رضي الله عنهما قال "بت في بيت خالتي ميمونة فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء ثم جاء فصلى أربع ركعات ثم نام ثم قام فجئت فقمت عن يساره فجعلني عن يمينه فصلى خمس ركعات ثم صلى ركعتين ثم نام حتى سمعت غطيطه أو قال خطيطه ثم خرج إلى الصلاة"
[انظر الحديث 117 وأطرافه ]
قوله: "باب يقوم" أي المأموم "عن يمين الإمام بحذائه" بكسر المهملة وذال معجمة بعدها مدة، أي بجنبه، فأخرج بذلك من كان خلفه أو مائلا عنه. و قوله: "سواء" أخرج به من كان إلى جنبه لكن على بعد عنه، كذا قال الزين بن المنير، والذي يظهر أن قوله بحذائه يخرج هذا أيضا. وقوله سواء أي لا يتقدم ولا يتأخر، وفي انتزاع هذا من الحديث الذي أورده بعد. وقد قال أصحابنا: يستحب أن يقف المأموم دونه قليلا، وكأن المصنف أشار بذلك إلى ما وقع في بعض طرقه، فقد تقدم في الطهارة من رواية مخرمة عن كريب عن ابن عباس بلفظ: "فقمت إلى جنبه " وظاهره المساواة. وروى عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس نحوا من هذه القصة، وعن

(2/190)


ابن جريج قال قلت لعطاء: الرجل يصلي مع الرجل أين يكون منه؟ قال: إلى شقه الأيمن. قلت: أيحاذى به حتى يصف معه لا يفوت أحدهما الآخر؟ قال: نعم. قلت: أتحب أن يساويه حتى لا تكون بينهما فرجة؟ قال: نعم. وفي الموطأ عن عبد الله بن عتبة ابن مسعود قال: "دخلت على عمر بن الخطاب بالهاجرة فوجدته يسبح، فقمت وراءه فقربني حتى جعلني حذاءه عن يمينه". قوله: "إذا كانا" أي إماما ومأموما، بخلاف ما إذا كانا مأمومين مع إمام فلهما حكم آخر. "تنبيه": هكذا في جميع الروايات " باب " بالتنوين " يقوم الخ"، وأورده الزين بن المنير بلفظ: "باب من يقوم " بالإضافة وزيادة من، وشرحه على ذلك، وتردد بين كونها موصولة أو استفهامية ثم أطال في حكمة ذلك وأن سببه كون المسألة مختلفا فيها. والواقع أن من محذوفه والسياق ظاهر في أن المصنف جازم بحكم المسألة لا متردد والله أعلم. وقد نقل بعضهم الاتفاق على أن المأموم الواحد يقف عن يمين الإمام إلا النخعي فقال: "إذا كان الإمام ورجل قام الرجل خلف الإمام، فإن ركع الإمام قبل أن يجيء أحد قام عن يمينه " أخرجه سعيد بن منصور، ووجهه بعضهم بأن الإمام مظنة الاجتماع فاعتبرت في موقف المأموم حتى يظهر خلاف ذلك، وهو حسن لكنه مخالف للنص، وهو قياس فاسد ثم ظهر لي أن إبراهيم إنما كان يقول بذلك حيث يظن ظنا قويا مجيء ثان، وقد روى سعيد بن منصور أيضا عنه قال: "ربما قمت خلف الأسود وحدي حتى يجيء المؤذن " وذكر البيهقي أنه يستفاد من حديث الباب امتناع تقديم المأموم على الإمام خلافا لمالك، لما في رواية مسلم: "فقمت عن يساره فأدارني من خلفه حتى جعلني عن يمينه " وفيه نظر.

(2/191)


58 - باب إِذَا قَامَ الرَّجُلُ عَنْ يَسَارِ الإِمَامِ فَحَوَّلَهُ الإِمَامُ إِلَى يَمِينِهِ لَمْ تَفْسُدْ صَلاَتُهُمَا
698- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَمْرٌو عَنْ عَبْدِ رَبِّهِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ مَخْرَمَةَ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ نِمْتُ عِنْدَ مَيْمُونَةَ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَهَا تِلْكَ اللَّيْلَةَ فَتَوَضَّأَ ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي فَقُمْتُ عَلَى يَسَارِهِ فَأَخَذَنِي فَجَعَلَنِي عَنْ يَمِينِهِ فَصَلَّى ثَلاَثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً ثُمَّ نَامَ حَتَّى نَفَخَ وَكَانَ إِذَا نَامَ نَفَخَ ثُمَّ أَتَاهُ الْمُؤَذِّنُ فَخَرَجَ فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ قَالَ عَمْرٌو فَحَدَّثْتُ بِهِ بُكَيْرًا فَقَالَ حَدَّثَنِي كُرَيْبٌ بِذَلِكَ" قوله: "باب إذا قام الرجل عن يسار الإمام الخ " وجه الدلالة من حديث ابن عباس المذكور أنه صلى الله عليه وسلم لم يبطل صلاة ابن عباس مع كونه قام عن يساره أولا، وعن أحمد تبطل لأنه صلى الله عليه وسلم لم يقره على ذلك، والأول هو قول الجمهور، بل قال سعيد بن المسيب: إن موقف المأموم الواحد يكون عن يسار الإمام، ولم يتابع على ذلك. قوله: "حدثنا أحمد" لم أره منسوبا في شيء من الروايات، لكن جزم أبو نعيم في المستخرج بأنه ابن صالح وأخرجه من طريقه. قوله: "عمرو" هو ابن الحارث المصري، وكذا وقع عند أبي نعيم. قوله: "عن عبد ربه" بفتح الراء وتشديد الموحدة وهو أخو يحيى بن سعيد الأنصاري، وفي الإسناد ثلاثة من التابعين مدنيون على نسق. قوله: "نمت" في رواية الكشميهني: "بت". قوله: "فأخذني فجعلني" قد تقدم أنه أداره من خلفه، واستدل به على أن مثل ذلك من العمل لا يفسد الصلاة كما سيأتي. قوله: "قال عمرو" أي ابن الحارث المذكور بالإسناد المذكور إليه، ووهم من زعم أنه من تعليق البخاري، فقد ساقه أبو نعيم مثل سياقه، وبكير المذكور في هذا هو ابن عبد الله بن الأشج، واستفاد عمرو بن الحارث بهذه الرواية عنه العلو برجل.

(2/191)


باب إذا لم ينو الإمام أن يؤم ثم جاء فوم فأمهم
...
59 - باب إِذَا لَمْ يَنْوِ الإِمَامُ أَنْ يَؤُمَّ ثُمَّ جَاءَ قَوْمٌ فَأَمَّهُمْ
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ فَقُمْتُ أُصَلِّي مَعَهُ فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ فَأَخَذَ بِرَأْسِي فَأَقَامَنِي عَنْ يَمِينِهِ"
قوله: "باب إذا لم ينو الإمام أن يؤم الخ" لم يجزم يحكم المسألة لما فيه من الاحتمال، لأنه ليس في حديث ابن عباس التصريح بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينو الإمامة، كما أنه ليس فيه أنه نوى لا في ابتداء صلاته ولا بعد أن قام ابن عباس فصلى معه، لكن في إيقافه إياه منه موقف المأموم ما يشعر بالثاني، وأما الأول فالأصل عدمه، وهذه المسألة مختلف فيها، والأصح عند الشافعية لا يشترط لصحة الاقتداء أن ينوي الإمام الإمامة، واستدل ابن المنذر أيضا بحديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى في شهر رمضان قال: "فجئت فقمت إلى جنبه، وجاء آخر فقام إلى جنبي حتى كنا رهطا، فلما أحس النبي صلى الله عليه وسلم بنا تجوز في صلاته " الحديث، وهو ظاهر في أنه لم ينو الإمامة ابتداء، وائتموا هم به وأقرهم. وهو حديث صحيح أخرجه مسلم وعلقه البخاري كما سيأتي في كتاب الصيام إن شاء الله تعالى. وذهب أحمد إلى التفرقة بين النافلة والفريضة فشرط أن ينوي في الفريضة دون النافلة، وفيه نظر لحديث أبي سعيد " أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يصلي وحده فقال: ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه " أخرجه أبو داود وحسنه الترمذي وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم. قوله: "عن عبد الله بن سعيد بن جبير" هو من أقران أيوب الراوي عنه، ورجال الإسناد كلهم بصريون، وسيأتي الكلام على بقية فوائد حديث ابن عباس المذكور في هذه الأبواب الثلاثة تاما في كتاب الوتر إن شاء الله تعالى

(2/192)


باب إذا طول الإمام وكان للرجل حاجة فخرج فصلى
...
60 - باب إِذَا طَوَّلَ الإِمَامُوَكَانَ لِلرَّجُلِ حَاجَةٌ فَخَرَجَ فَصَلَّى
700- حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَمْرٍو عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ كَانَ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يَرْجِعُ فَيَؤُمُّ قَوْمَهُ"
[الحديث700- أطرافه : 6106,711,705,701]
701- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَمْرٍو قَالَ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ كَانَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يَرْجِعُ فَيَؤُمُّ قَوْمَهُ فَصَلَّى الْعِشَاءَ فَقَرَأَ بِالْبَقَرَةِ فَانْصَرَفَ الرَّجُلُ فَكَأَنَّ مُعَاذًا تَنَاوَلَ مِنْهُ فَبَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ فَتَّانٌ فَتَّانٌ فَتَّانٌ ثَلاَثَ مِرَارٍ أَوْ قَالَ فَاتِنًا فَاتِنًا فَاتِنًا وَأَمَرَهُ بِسُورَتَيْنِ مِنْ أَوْسَطِ الْمُفَصَّلِ قَالَ عَمْرٌو لاَ أَحْفَظُهُمَا
قوله باب إذا طول الإمام وكان للرجل أي المأموم حاجة فخرج وصلى وللكشميهني فصلى بالفاء وهذه الترجمة عكس التي قبلها لأن في الأولى جواز الائتمام بمن لم ينو الإمامة وفي الثانية جواز قطع الائتمام بعد

(2/192)


الدخول فيه وأما قوله في الترجمة فخرج فيحتمل أنه خرج من القدوة أو من الصلاة رأسا أو من المسجد قال بن رشيد الظاهر أن المراد خرج إلى منزله فصلى فيه وهو ظاهر قوله في الحديث فانصرف الرجل قال وكان سبب ذلك قوله صلى الله عليه وسلم الذي رآه يصلي أصلاتان معا كما تقدم قلت وليس الواقع كذلك فإن في رواية النسائي فانصرف الرجل فصلى في ناحية المسجد وهذا يحتمل أن يكون قطع الصلاة أو القدوة لكن في مسلم فانحرف ثم صلى وحده واعلم أن هذا الحديث رواه عن جابر عمرو بن دينار ومحارب بن دثار وأبو الزبير وعبيد الله بن مقسم فرواية عمرو للمصنف هنا عن شعبة وفي الأدب عن سليم بن حيان ولمسلم عن أبي عيينة ثلاثتهم عنه ورواية محارب تأتي بعد بابين وهي ثم النسائي مقرونه بأبي صالح ورواية أبي الزبير ثم مسلم ورواية عبيد الله ثم بن خزيمة وله طرق هذه سأذكر ما يحتاج إليه منها معزوا وإنما قدمت ذكر هذه لتسهل الحوالة عليه قوله: "حدثنا مسلم" هو ابن إبراهيم، والظاهر أن روايته عن شعبة مختصرة كما هنا وكذلك أخرجها البيهقي من طريق محمد بن أيوب الرازي عنه. وقال الكرماني: الظاهر من قوله: "فصلى العشاء الخ " داخل تحت الطريق الأولى، وكان الحامل له على ذلك أنها لو خلت عن ذلك لم تطابق الترجمة ظاهرا. لكن لقائل أن يقول: إن مراد البخاري بذلك الإشارة إلى أصل الحديث على عادته، واستفاد بالطريق الأولى علو الإسناد، كما أن في الطريق الثانية فائدة التصريح بسماع عمرو من جابر.
قوله: "يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم" زاد سلم من رواية منصور عن عمرو " عشاء الآخرة " فكأن العشاء هي التي كان يواظب فيها على الصلاة مرتين.
قوله: "ثم يرجع فيؤم قومه" في رواية منصور المذكورة " فيصلي بهم تلك الصلاة " وللمصنف في الأدب " فيصلي بهم الصلاة " أي المذكورة، وفي هذا رد على من زعم أن المراد أن الصلاة التي كان يصليها مع النبي صلى الله عليه وسلم غير الصلاة التي كان يصليها بقومه.
وفي رواية ابن عيينة " فصلى ليلة مع النبي صلى الله عليه وسلم العشاء ثم أتى قومه فأمهم " وفي رواية الحميدي عن ابن عيينة " ثم يرجع إلى بني سلمة فيصليها بهم " ولا مخالفة فيه لأن قومه هم بنو سلمة.
وفي رواية الشافعي عنه " ثم يرجع فيصليها بقومه في بني سلمة " ولأحمد " ثم يرجع فيؤمنا".
"فصلى العشاء" كذا في معظم الروايات، ووقع في رواية لأبي عوانة والطحاوي من طريق محارب " صلى بأصحابه المغرب " وكذا لعبد الرزاق من رواية أبي الزبير، فإن حمل على تعدد القصة كما سيأتي أو على أن المراد بالمغرب العشاء مجازا تم، وإلا فما في الصحيح أصح. قوله: "فقرأ بالبقرة" استدل به على من يكره أن يقول البقرة بل سورة البقرة، لكن في رواية الإسماعيلي عن الحسن بن سفيان عن محمد بن بشار شيخ البخاري فيه: "فقرأ سورة البقرة " ولمسلم عن ابن عيينة نحوه، وللمصنف في الأدب " فقرأ بهم البقرة " فالظاهر أن ذلك من تصرفات الرواة، والمراد أنه ابتدأ في قراءتها، وبه صرح مسلم ولفظه: "فافتتح سورة البقرة " وفي رواية محارب " فقرأ بسورة البقرة أو النساء " على الشك، وللسراج من رواية مسعر عن محارب " فقرأ بالبقرة والنساء " كذا رأيته بخط الزكي البرزالي بالواو، فإن كان ضبطه احتمل أن يكون قرأ في الأولى بالبقرة وفي الثانية بالنساء، ووقع عند أحمد من حديث بريدة بإسناد قوى " فقرأ اقتربت الساعة " وهي شاذة إلا إن حمل على التعدد، ولم يقع في شيء من الطرق المتقدمة تسمية هذا الرجل، لكن روى أبو داود الطيالسي في مسنده والبزار من طريقه عن طالب بن حبيب عن عبد الرحمن بن جابر عن أبيه قال: "مر حزم بن أبي بن كعب بمعاذ بن جبل وهو يصلي بقومه صلاة العتمة فافتتح بسورة طويلة ومع حزم ناضح له " الحديث. قال البزار: لا

(2/193)


نعلم أحدا سماه عن جابر إلا ابن جابر ا هـ. وقد رواه أبو داود في السنن من وجه آخر عن طالب فجعله عن ابن جابر عن حزم صاحب القصة، وابن جابر لم يدرك حزما. ووقع عنده " صلاة المغرب " وهو نحو ما تقدم من الاختلاف في رواية محارب، ورواه ابن لهيعة عن أبي الزبير عن جابر فسماه حازما وكأنه صحفه أخرجه ابن شاهين من طريقه، ورواه أحمد والنسائي وأبو يعلى وابن السكن بإسناد صحيح عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس قال: "كان معاذ يؤم قومه فدخل حرام وهو يريد أن يسقي نخله " الحديث كذا فيه براء بعدها ألف، وظن بعضهم أنه حرام بن ملحان خال أنس وبذلك جزم الخطيب في المبهمات، لكن لم أره منسوبا في الرواية، ويحتمل أن يكون تصحيفا من حزم فتجتمع هذه الروايات، وإلى ذلك يومئ صنيع ابن عبد البر فإنه ذكر في الصحابة حرام بن أبي بن كعب وذكر له. هذه القصة، وعزا تسميته لرواية عبد العزيز بن صهيب عن أنس، ولم أقف في رواية عبد العزيز على تسمية أبيه وكأنه بنى على أن اسمه تصحف والأب واحد، سماه جابر ولم يسمه أنس، وجاء في تسميته قول آخر أخرجه أحمد أيضا من رواية معاذ بن رفاعة عن رجل من بني سلمة يقال له سليم أنه " أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله، إنا نظل في أعمالنا فنأتي حين نمسي فنصلي، فيأتي معاذ بن جبل فينادي بالصلاة فنأتيه فيطول علينا " الحديث، وفيه أنه استشهد بأحد، وهذا مرسل لأن معاذ بن رفاعة لم يدركه، وقد رواه الطحاوي والطبراني من هذا الوجه عن معاذ ابن رفاعة أن رجلا من بني سلمة فذكره مرسلا، ورواه البزار من وجه آخر عن جابر وسماه سليما أيضا، لكن وقع عند ابن حزم من هذا الوجه أن اسمه سلم بفتح أوله وسكون اللام وكأنه تصحيف والله أعلم. وجمع بعضهم بين هذا الاختلاف بأنهما واقعتان، وأيد ذلك بالاختلاف في الصلاة هل هي العشاء أو المغرب وبالاختلاف في السورة هل هي البقرة أو اقتربت، وبالاختلاف في عذر الرجل هل هو لأجل التطويل فقط لكونه جاء من العمل وهو تعبان أو لكونه أراد أن يسقي نخله إذ ذاك أو لكونه خاف على الماء في النخل كما في حديث بريدة. واستشكل هذا الجمع لأنه لا يظن بمعاذ أنه صلى الله عليه وسلم يأمره بالتخفيف ثم يعود إلى التطويل، ويجاب عن ذلك باحتمال أن يكون قرأ أولا بالبقرة فلما نهاه قرأ اقتربت وهي طويلة بالنسبة إلى السور التي أمره أن يقرأ بها كما سيأتي، ويحتمل أن يكون النهي أولا وقع لما يخشى من تنفير بعض من يدخل في الإسلام، ثم لما اطمأنت نفوسهم بالإسلام ظن أن المانع زال فقرأ باقتربت لأنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور فصادف صاحب الشغل، وجمع النووي باحتمال أن يكون قرأ في الأولى بالبقرة فانصرف رجل، ثم قرأ اقتربت في الثانية فانصرف آخر. ووقع في رواية أبي الزبير عند مسلم: "فانطلق رجل منا " وهذا يدل على أنه كان من بني سلمة، ويقوى رواية من سماه سليما، والله أعلم. قوله: "فانصرف الرجل" اللام فيه للعهد الذهني، ويحتمل أن يراد به الجنس، فكأنه قال واحد من الرجال، لأن المعرف تعريف الجنس كالنكرة في مؤداه. ووقع في رواية الإسماعيلي: "فقام رجل فانصرف " وفي رواية سليم بن حيان " فتجوز رجل فصلى صلاة خفيفة " ولابن عيينة عند مسلم: "فانحرف رجل فسلم ثم صلى وحده " وهو ظاهر في أنه قطع الصلاة، لكن ذكر البيهقي أن محمد بن عباد شيخ مسلم تفرد عن ابن عيينة بقوله: "ثم سلم"، وأن الحفاظ من أصحاب ابن عيينة وكذا من أصحاب شيخه عمرو بن دينار وكذا من أصحاب جابر لم يذكروا السلام، وكأنه فهم أن هذه اللفظة تدل على أن الرجل قطع الصلاة لأن السلام يتحلل به من الصلاة، وسائر الروايات تدل على أنه قطع القدوة فقط ولم يخرج من الصلاة بل استمر فيها منفردا. قال الرافعي في " شرح المسند " في الكلام

(2/194)


على رواية الشافعي عن ابن عيينة في هذا الحديث: "فتنحى رجل من خلفه فصلى وحده". هذا يحتمل من جهة اللفظ أنه قطع الصلاة وتنحى عن موضع صلاته واستأنفها لنفسه، لكنه غير محمول عليه لأن الفرض لا يقطع بعد الشروع فيه. انتهى. ولهذا استدل به الشافعية على أن للمأموم أن يقطع القدوة ويتم صلاته منفردا. ونازع النووي فيه فقال: لا دلالة فيه لأنه ليس فيه أنه فارقه وبنى على صلاته، بل في الرواية التي فيها أنه سلم دليل على أنه قطع الصلاة من أصلها ثم استأنفها، فيدل على جواز قطع الصلاة وإبطالها لعذر. قوله: "فكأن معاذ ينال منه" وللمستملى " تناول منه " وللكشميهني: "فكأن - بهمزة ونون مشددة - معاذا تناول منه " والأولى تدل على كثرة ذلك منه بخلاف الثانية، ومعنى ينال منه أو تناوله: ذكره بسوء، وقد فسره في رواية سليم بن حيان ولفظه: "فبلغ ذلك معاذا فقال إنه منافق " وكذا لأبي الزبير، ولابن عيينة " فقالوا له: أنافقت يا فلان؟ قال: لا، والله لآتين رسول الله صلى الله عليه وسلم فلأخبرنه " وكأن معاذا قال ذلك أولا ثم قاله أصحاب معاذ للرجل. قوله: "فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم" بين ابن عيينة في روايته وكذا محارب وأبو الزبير أنه الذي جاء فاشتكى من معاذ. وفي رواية النسائي: "فقال معاذ: لئن أصبحت لأذكرن ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له، فأرسل إليه فقال: ما حملك على الذي صنعت؟ فقال: يا رسول الله عملت على ناضح لي " فذكر الحديث، وكأن معاذل سبقه بالشكوى، فلما أرسل إليه جاء فاشتكى من معاذ. قوله: "فقال فتان" في رواية ابن عيينة " أفتان أنت " زاد محارب " ثلاثا". قوله: "أو قال فاتنا" شك من الراوي، وهو منصوب على أنه خبر كان المقدرة. وفي رواية أبي الزبير " أتريد أن تكون فاتنا " ولأحمد في حديث معاذ بن رفاعة المتقدم " يا معاذ لا تكن فاتنا " وزاد في حديث أنس " لا تطول بهم " ومعنى الفتنة هاهنا أن التطويل يكون سببا لخروجهم من الصلاة وللتكره للصلاة في الجماعة، وروى البيهقي في الشعب بإسناد صحيح عن عمر قال: "لا تبغضوا إلى الله عباده صلى الله عليه وسلم يكون أحدكم إماما فيطول على القوم الصلاة حتى يبغض إليهم ما هم فيه". وقال الداودي: يحتمل أن يريد بقوله: "فتان " أي معذب لأنه عذبهم بالتطويل، ومنه قول الله تعالى: {إن الذين فتنوا المؤمنين} قيل معناه عذبوهم. قوله: "وأمره بسورتين من أوسط المفصل، قال عمرو" أي ابن دينار "لا أحفظهما" وكأنه قال ذلك في حال تحديثه لشعبة، وإلا ففي رواية سليم بن حيان عن عمرو " اقرأ والشمس وضحاها وسبح اسم ربك الأعلى ونحوها". وقال في رواية ابن عيينة عند مسلم: "اقرأ بكذا واقرأ بكذا " قال ابن عيينة: فقلت لعمرو إن أبا الزبير حدثنا عن جابر أنه قال: "اقرأ بالشمس وضحاها والليل إذا يغشى وبسبح اسم ربك الأعلى " فقال عمرو نحو هذا، وجزم بذلك محارب في حديثه عن جابر. وفي رواية الليث عن أبي الزبير عند مسلم مع الثلاثة "اقرأ باسم ربك " زاد ابن جريج عن أبي الزبير " والضحى " أخرجه عبد الرزاق. وفي رواية الحميدي عن ابن عيينة مع الثلاثة الأول " والسماء ذات البروج والسماء والطارق " وفي المراد بالمفصل أقوال ستأتي في فضائل القرآن أصحها أنه من أول ق إلى آخر القرآن. قوله: "أوسط" يحتمل أن يريد به المتوسط والسور التي مثل بها من قصار المتوسط، ويحتمل أن يريد به المعتدل أي المناسب للحال من المفصل، والله أعلم. واستدل بهذا الحديث على صحة اقتداء المفترض بالمتنفل، بناء على أن معاذا كان ينوي بالأولى الفرض وبالثانية النفل، ويدل عليه ما رواه عبد الرزاق والشافعي والطحاوي والدار قطني وغيرهم من طريق ابن جريج عن عمرو بن دينار عن جابر في حديث الباب زاد

(2/195)


"هي له تطوع ولهم فريضة " وهو حديث صحيح رجاله رجال الصحيح، وقد صرح ابن جريج في رواية عبد الرزاق بسماعه فيه فانتفت تهمة تدليسه، فقول ابن الجوزي إنه لا يصح مردود، وتعليل الطحاوي له بأن ابن عيينة ساقه عن عمرو أتم من سياق ابن جريج ولم يذكر هذه الزيادة ليس بقادح في صحته، لأن ابن جريج أسن وأجل من ابن عيينة وأقدم أخذا عن عمرو منه، ولو لم يكن كذلك فهي زيادة من ثقة حافظ ليست منافية لرواية من هو أحفظ منه ولا أكثر عددا فلا معنى للتوقف في الحكم بصحتها. وأما رد الطحاوي لها باحتمال أن تكون مدرجة فجوابه أن الأصل عدم الإدراج حتى يثبت التفصيل، فمهما كان مضموما إلى الحديث فهو منه ولا سيما إذا روى من وجهين، والأمر هنا كذلك، فإن الشافعي أخرجها من وجه آخر عن جابر متابعا لعمرو بن دينار عنه، وقول الطحاوي هو ظن من جابر مردود لأن جابرا كان ممن يصلي مع معاذ فهو محمول على أنه سمع ذلك منه ولا يظن بجابر أنه يخبر عن شخص بأمر غير مشاهد إلا بأن يكون ذلك الشخص أطلعه عليه. وأما احتجاج أصحابنا لذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة " فليس بجيد، لأن حاصله النهي عن التلبس بصلاة غير التي أقيمت من غير تعرض لنية فرض أو نفل، ولو تعينت نية الفريضة لامتنع على معاذ أن يصلي الثانية بقومه لأنها ليست حينئذ فرضا له، وكذلك قول بعض أصحابنا لا يظن بمعاذ أن يترك فضيلة الفرض خلف أفضل الأئمة في المسجد الذي هو من أفضل المساجد، فإنه وإن كان فيه نوع ترجيح لكن للمخالف أن يقول: إذا كان ذلك بأمر النبي صلى الله عليه وسلم لم يمتنع أن يحصل له الفضل بالاتباع، وكذلك قول الخطابي إن العشاء في قوله: "كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم العشاء " حقيقة في المفروضة، فلا يقال كان ينوي بها التطوع لأن لمخالفه أن يقول: هذا لا ينافي أن ينوي بها التنفل. وأما قول ابن حزم: إن المخالفين لا يجيزون لمن عليه فرض إذا أقيم أن يصليه متطوعا فكيف ينسبون إلى معاذ ما لا يجوز عندهم؟ فهذا إن كان كما قال نقص قوي، وأسلم الأجوبة التمسك بالزيادة المتقدمة. وأما قول الطحاوي: لا حجة فيها لأنها لم تكن بأمر النبي صلى الله عليه وسلم ولا تقريره، فجوابه أنهم لا يختلفون في أن رأي الصحابي إذا لم يخالفه غيره حجة، والواقع هنا كذلك، فإن الذين كان يصلي بهم معاذ كلهم صحابة وفيهم ثلاثون عقبيا وأربعون بدريا، قاله ابن حزم، قال: ولا يحفظ عن غيرهم من الصحابة امتناع ذلك، بل قال معهم بالجواز عمر وابن عمر وأبو الدرداء وأنس وغيرهم. وأما قول الطحاوي: لو سلمنا جميع ذلك لم يكن فيه حجة لاحتمال أن ذلك كان في الوقت الذي كانت الفريضة فيه تصلي مرتين، أي فيكون منسوخا، فقد تعقبه ابن دقيق العيد بأنه يتضمن إثبات النسخ بالاحتمال وهو لا يسوغ، وبأنه يلزمه إقامة الدليل على ما ادعاه من إعادة الفريضة ا هـ. وكأنه لم يقف على كتابه فإنه قد ساق فيه دليل ذلك وهو حديث ابن عمر رفعه: "لا تصلوا الصلاة في اليوم مرتين " ومن وجه آخر مرسل " إن أهل العالية كانوا يصلون في بيوتهم ثم يصلون مع النبي صلى الله عليه وسلم فبلغه ذلك فنهاهم " ففي الاستدلال بذلك على تقدير صحته نظر، لاحتمال أن يكون النهي عن أن يصلوها مرتين على أنها فريضة، وبذلك جزم البيهقي جمعا بين الحديثين، بل لو قال قائل: هذا النهي منسوخ بحديث معاذ، لم يكن بعيدا، ولا يقال القصة قديمة لأن صاحبها استشهد بأحد لأنا نقول: كانت أحد في أواخر الثالثة فلا مانع أن يكون النهي في الأولى والإذن في الثالثة مثلا، وقد قال صلى الله عليه وسلم للرجلين اللذين لم يصليا معه " إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم فإنها نافلة " أخرجه أصحاب السنن من حديث يزيد بن الأسود

(2/196)


العامري وصححه ابن خزيمة وغيره، وكان ذلك في حجة الوداع في أواخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ويدل على الجواز أيضا أمره صلى الله عليه وسلم لمن أدرك الأئمة الذين يأتون بعده ويؤخرون الصلاة عن ميقاتها أن " صلوها في بيوتكم في الوقت ثم اجعلوها معهم نافلة" . وأما استدلال الطحاوي أنه صلى الله عليه وسلم نهي معاذا عن ذلك بقوله في حديث سليم بن الحارث " إما أن تصلي معي وإما أن تخفف بقومك " ودعواه أن معناه إما أن تصلي معي ولا تصل بقومك وإما أن تخفف بقومك ولا تصل معي، ففيه نظر لأن لمخالفه أن يقول: بل التقدير إما أن تصلي معي فقط إذا لم تخفف وإما أن تخفف بقومك فتصلي معي، وهو أولى من تقديره، لما فيه من مقابلة التخفيف بترك التخفيف لأنه هو المسئول عنه المتنازع فيه، وأما تقوية بعضهم بكونه منسوخا بأن صلاة الخوف وقعت مرارا على صفة فيها مخالفة ظاهرة بالأفعال المنافية في حال الأمن، فلو جازت صلاة المفترض خلف المتنفل لصلى النبي صلى الله عليه وسلم بهم مرتين على وجه لا تقع فيه منافاة، فلما لم يفعل دل ذلك على المنع، فجوابه أنه ثبت أنه صلى الله عليه وسلم صلى بهم صلاة الخوف مرتين كما أخرجه أبو داود عن أبي بكرة صريحا، ولمسلم عن جابر نحوه، وأما صلاته بهم على نوع من المخالفة فلبيان الجواز. وأما قول بعضهم كان فعل معاذ للضرورة لقلة القراء في ذلك الوقت فهو ضعيف كما قال ابن دقيق العيد، لأن القدر المجزئ من القراءة في الصلاة كان حافظوه كثيرا، وما زاد لا يكون سببا لارتكاب أمر ممنوع منه شرعا في الصلاة. وفي حديث الباب من الفوائد أيضا استحباب تخفيف الصلاة مراعاة لحال المأمومين، وأما من قال لا يكره التطويل إذا علم رضاء المأمومين فيشكل عليه أن الإمام قد لا يعلم حال من يأتي فيأتم به بعد دخوله في الصلاة كما في حديث الباب، فعلى هذا يكره التطويل مطلقا إلا إذا فرض في مصل بقوم محصورين راضين بالتطويل في مكان لا يدخله غيرهم. وفيه أن الحاجة من أمور الدنيا عذر في تخفيف الصلاة، وجواز إعادة الواحدة في اليوم الواحد مرتين صلى الله عليه وسلم وجواز خروج المأموم من الصلاة لعذر، وأما بغير عذر فاستدل به بعضهم وتعقب. وقال ابن المنير: لو كان كذلك لم يكن لأمر الأئمة بالتخفيف فائدة، وفيه نظر لأن فائدة الأمر بالتخفيف المحافظة على صلاة الجماعة، ولا ينافي ذلك جواز الصلاة منفردا، وهذا كما استدل بعضهم بالقصة على وجوب صلاة الجماعة وفيه نحو هذا النظر. وفيه جواز صلاة المنفرد في المسجد الذي يصلي فيه بالجماعة إذا كان بعذر. وفيه الإنكار بلطف لوقوعه بصورة الاستفهام، ويؤخذ منه تعزيز كل أحد بحسبه، والاكتفاء في التعزيز بالقول، والإنكار في المكروهات، وأما تكراره ثلاثا فللتأكيد، وقد تقدم في العلم أنه صلى الله عليه وسلم كان يعيد الكلمة ثلاثا لتفهم عنه. وفيه اعتذار من وقع منه خطأ في الظاهر، وجواز الوقوع في حق من وقع في محذور ظاهر وإن كان له عذر باطن للتنفير عن فعل ذلك، وأنه لا لوم على من فعل ذلك متأولا، وأن التخلف عن الجماعة من صفة المنافق.

(2/197)


61 - باب تَخْفِيفِ الإِمَامِ فِي الْقِيَامِ وَإِتْمَامِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ
702- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ قَالَ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ قَالَ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ سَمِعْتُ قَيْسًا قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو مَسْعُودٍ أَنَّ رَجُلًا قَالَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لاَتَأَخَّرُ عَنْ صَلاَةِ الْغَدَاةِ مِنْ أَجْلِ فُلاَنٍ مِمَّا يُطِيلُ بِنَا فَمَا رَأَيْتُ
ـــــــ
(1) ليس هذا على إطلاقه , بل إنما يجوز ذلك لمسوغ شرعي كمن صلى وحده في جماعة ثم حضر جماعة أخرى شرع له أن يعيد الصلاة معهم لصحة الأحاديث بالأمر بذلك, ومثل ذلك لو كان أماما راتبا للجماعة الثانية كقصة معاذ . والله أعلم

(2/197)


رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَوْعِظَةٍ أَشَدَّ غَضَبًا مِنْهُ يَوْمَئِذٍ ثُمَّ قَالَ إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ فَأَيُّكُمْ مَا صَلَّى بِالنَّاسِ فَلْيَتَجَوَّزْ فَإِنَّ فِيهِمْ الضَّعِيفَ وَالْكَبِيرَ وَذَا الْحَاجَةِ"
قوله: "باب تخفيف الإمام في القيام وإتمام الركوع والسجود" قال الكرماني: الواو بمعنى مع كأنه قال باب التخفيف بحيث لا يفوقه شيء من الواجبات، فهو تفسير لقوله في الحديث: "فليتجوز " لأنه لا يأمر بالتجوز المؤدي إلى فساد الصلاة، قال ابن المنير وتبعه ابن رشيد وغيره: خص التخفيف في الترجمة بالقيام مع أن لفظ الحديث أعم حيث قال: "فليتجوز " لأن الذي يطول في الغالب إنما هو القيام، وما عداه لا يشق إتمامه على أحد، وكأنه حمل حديث الباب على قصة معاذ، فإن الأمر بالتخفيف فيها مختص بالقراءة. انتهى ملخصا. والذي يظهر لي أن البخاري أشار بالترجمة إلى بعض ما ورد في بعض طرق الحديث كعادته، وأما قصة معاذ فمغايرة لحديث الباب لأن قصة معاذ كانت في العشاء وكان الإمام فيها معاذا وكانت في مسجد بني سلمة، وهذه كانت في الصبح وكانت في مسجد قباء، ووهم من فسر الإمام المبهم هنا بمعاذ، بل المراد به أبي بن كعب كما أخرجه أبو يعلى بإسناد حسن من رواية عيسى بن جارية وهو بالجيم عن جابر قال: "كان أبي بن كعب يصلي بأهل قباء فاستفتح سورة طويلة، فدخل معه غلام من الأنصار في الصلاة، فلما سمعه استفتحها انفتل من صلاته، فغضب أبي فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو الغلام، وأتى الغلام يشكو أبيا، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم حتى عرف الغضب في وجهه ثم قال: إن منكم منفرين، فإذا صليتم فأوجزوا، فإن خلفكم الضعيف والكبير والمريض وذا الحاجة " فأبان هذا الحديث أن المراد بقوله في حديث الباب: "مما يطيل بنا فلان " أي في القراءة، واستفيد منه أيضا تسمية الإمام وبأي موضع كان. وفي الطبراني من حديث عدي بن حاتم " من أمنا فليتم الركوع والسجود". وفي قول ابن المنير إن الركوع والسجود لا يشق إتمامهما نظر، فإنه إن أراد أقل ما يطلق عليه اسم تمام فذاك لا بد منه، وإن أراد غاية التمام فقد يشق، فسيأتي حديث البراء قريبا أنه صلى الله عليه وسلم كان قيامه وركوعه وسجوده قريبا من السواء. قوله: "حدثنا زهير" هو ابن معاوية الجعفي، وإسماعيل هو ابن أبي خالد، وقيس هو ابن أبي حازم، وأبو مسعود هو الأنصاري البدري، والإسناد كله كوفيون. قوله: "أن رجلا" لم أقف على اسمه، ووهم من زعم أنه حزم بن أبي كعب لأن قصته كانت مع معاذ لا مع أبي بن كعب. قوله: "إني لأتأخر عن صلاة الغداة" أي فلا أحضرها مع الجماعة لأجل التطويل. وفي رواية ابن المبارك في الأحكام " والله إني لأتأخر " بزيادة القسم، وفيه جواز مثل ذلك لأنه لم ينكر عليه، وتقدم في كتاب العلم في " باب الغضب في العلم " بلفظ: "إني لا أكاد أدرك الصلاة " وتقدم توجيهه. ويحتمل أيضا أن يكون المراد أن الذي ألفه من تطويله اقتضى له أن يتشاغل عن المجيء في أول الوقت وثوقا بتطويله، بخلاف ما إذا لم يكن يطول فإنه كان يحتاج إلى المبادرة إليه أول الوقت، وكأنه يعتمد على تطويله فيتشاغل ببعض شغله ثم يتوجه فيصادف أنه تارة يدركه وتارة لا يدركه فلذلك قال: "لا أكاد أدرك مما يطول بنا " أي بسبب تطويله. واستدل به على تسمية الصبح بذلك، ووقع في رواية سفيان الآتية قريبا " عن الصلاة في الفجر " وإنما خصها بالذكر لأنها تطول فيها القراءة غالبا، ولأن الانصراف منها وقت التوجه لمن له حرفة إليها. قوله: "أشد" بالنصب وهو نعت لمصدر محذوف أي غضبا أشد، وسببه إما لمخالفة الموعظة أو للتقصير في تعلم ما ينبغي تعلمه، كذا قاله ابن دقيق العيد،

(2/198)


وتعقبه تلميذه أبو الفتح اليعمري بأنه يتوقف على تقدم الإعلام بذلك، قال: ويحتمل أن يكون ما ظهر من الغضب لإرادة الاهتمام بما يلقيه لأصحابه ليكونوا من سماعه على بال لئلا يعود من فعل ذلك إلى مثله. وأقول: هذا أحسن في الباعث على أصل إظهار الغضب، أما كونه أشد فالاحتمال الثاني أوجه ولا يرد عليه التعقب المذكور. قوله: "إن منكم منفرين" فيه تفسير للمراد بالفتنة في قوله في حديث معاذ " أفتان أنت " ويحتمل أن تكون قصة أبي هذه بعد قصة معاذ، فلهذا أتى بصيغة الجمع. وفي قصة معاذ واجهه وحده بالخطاب، وكذا ذكر في هذا الغضب ولم يذكره في قصة معاذ، وبهذا يتوجه الاحتمال الأول لابن دقيق العيد. قوله: "فأيكم ما صلى" ما زائدة، ووقع في رواية سفيان " فمن أم الناس".
قوله: "فليخفف" قال ابن دقيق العيد: التطويل والتخفيف من الأمور الإضافية فقد يكون الشيء خفيفا بالنسبة إلى عادة قوم طويلا بالنسبة لعادة آخرين. قال: وقول الفقهاء لا يزيد الإمام في الركوع والسجود على ثلاث تسبيحات لا يخالف ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يزيد على ذلك لأن رغبة الصحابة في الخير تقتضي أن لا يكون ذلك تطويلا قلت: وأولى ما أخذ حد التخفيف من الحديث الذي أخرجه أبو داود والنسائي عن عثمان بن أبي العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له " أنت إمام قومك، وأقدر القوم بأضعفهم " إسناده حسن وأصله في مسلم. قوله: "فإن فيهم" في رواية سفيان " فإن خلفه " وهو تعليل الأمر المذكور، ومقتضاه أنه متى لم يكن فيهم متصف بصفة من المذكورات لم يضر التطويل، وقد قدمت ما يرد عليه في الباب الذي قبله من إمكان مجيء من يتصف بإحداها. وقال اليعمري: الأحكام إنما تناط بالغالب لا بالصورة النادرة، فينبغي للأئمة التخفيف مطلقا. قال: وهذا كما شرع القصر في صلاة المسافر وعلل بالمشقة، وهو مع ذلك يشرع ولو لم يشق عملا بالغالب، لأنه لا يدري ما يطرأ عليه، وهنا كذلك. قوله: "الضعيف والكبير" كذا للأكثر، ووقع في رواية سفيان في العلم " فإن فيهم المريض والضعيف " وكأن المراد بالضعيف هنا المريض وهناك من يكون ضعيفا في خلقته كالنحيف والمسن، وسيأتي في الباب الذي بعده مزيد قول فيه.

(2/199)


62 - باب إِذَا صَلَّى لِنَفْسِهِ فَلْيُطَوِّلْ مَا شَاءَ
703- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ لِلنَّاسِ فَلْيُخَفِّفْ فَإِنَّ مِنْهُمْ الضَّعِيفَ وَالسَّقِيمَ وَالْكَبِيرَ وَإِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ لِنَفْسِهِ فَلْيُطَوِّلْ مَا شَاءَ
قوله: "باب إذا صلى لنفسه فليطول ما شاء" يريد أن عموم الأمر بالتخفيف مختص بالأئمة، فأما المنفرد فلا حجر عليه في ذلك. لكن اختلف فيما إذا أطال القراءة حتى خرج الوقت كما سنذكره. قوله: "فإن فيهم" كذا للأكثر، وللكشميهني: "فإن منهم" . قوله: "الضعيف والسقيم" المراد بالضعيف هنا ضعيف الخلقة وبالسقيم من به مرض، زاد مسلم من وجه آخر عن أبي الزناد " والصغير والكبير " وزاد الطبراني من حديث عثمان بن أبي العاص " والحامل والمرضع " وله من حديث عدي بن حاتم " والعابر السبيل " وقوله في حديث أبي مسعود الماضي " وذا الحاجة " وهي أشمل الأوصاف المذكورة. قوله: "فليطول ما شاء" ولمسلم: "فليصل كيف شاء " أي مخففا أو مطولا

(2/199)


واستدل به على جواز إطالة القراءة ولو خرج الوقت، وهو المصحح عند بعض أصحابنا وفيه نظر، لأنه يعارضه عموم قوله في حديث أبي قتادة " إنما التفريط أن يؤخر الصلاة حتى يدخل وقت الأخرى " أخرجه مسلم، وإذا تعارضت مصلحة المبالغة في الكمال بالتطويل ومفسدة إيقاع الصلاة في غير وقتها كانت مراعاة ترك المفسدة أولى، واستدل بعمومه أيضا على جواز تطويل الاعتدال والجلوس بين السجدتين.

(2/200)


63 - باب مَنْ شَكَا إِمَامَهُ إِذَا طَوَّلَ وَقَالَ أَبُو أُسَيْدٍ طَوَّلْتَ بِنَا يَا بُنَيَّ
704- حدثنا محمد بن يوسف حدثنا سفيان عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن أبي مسعود قال قال رجل ثم يا رسول الله إني لأتأخر عن الصلاة في الفجر مما يطيل بنا فلان فيها فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأيته غضب في موضع كان أشد غضبا منه يومئذ ثم قال يا أيها الناس إن منكم منفرين فمن أم الناس فليتجوز فإن خلفه الضعيف والكبير وذا الحاجة"
705- حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَارِبُ بْنُ دِثَارٍ قَالَ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيَّ قَالَ أَقْبَلَ رَجُلٌ بِنَاضِحَيْنِ وَقَدْ جَنَحَ اللَّيْلُ فَوَافَقَ مُعَاذًا يُصَلِّي فَتَرَكَ نَاضِحَهُ وَأَقْبَلَ إِلَى مُعَاذٍ فَقَرَأَ بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ أَوْ النِّسَاءِ فَانْطَلَقَ الرَّجُلُ وَبَلَغَهُ أَنَّ مُعَاذًا نَالَ مِنْهُ فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشَكَا إِلَيْهِ مُعَاذًا فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يَا مُعَاذُ أَفَتَّانٌ أَنْتَ أَوْ أَفَاتِنٌ ثَلاَثَ مِرَارٍ فَلَوْلاَ صَلَّيْتَ بِسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى فَإِنَّهُ يُصَلِّي وَرَاءَكَ الْكَبِيرُ وَالضَّعِيفُ وَذُو الْحَاجَةِ " .. أَحْسِبُ هَذَا فِي الْحَدِيثِ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ وَتَابَعَهُ سَعِيدُ بْنُ مَسْرُوقٍ وَمِسْعَرٌ وَالشَّيْبَانِيُّ
قَالَ عَمْرٌو وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مِقْسَمٍ وَأَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَرَأَ مُعَاذٌ فِي الْعِشَاءِ بِالْبَقَرَةِ وَتَابَعَهُ الأَعْمَشُ عَنْ مُحَارِبٍ قوله: "باب من شكا إمامه إذا طول" فيه حديث أبي مسعود وهو ظاهر في الترجمة، وكذا حديث جابر، والتعليق عن أبي أسيد وهو الأنصاري وصله ابن أبي شيبة من رواية المنذر بن أبي أسيد قال: "كان أبي يصلي خلفي، فربما قال: يا بني طولت بنا اليوم " واستفيد منه تسمية الابن المذكور، وفيه حجة على من كره للرجل أن يؤم أباه كعطاء، ورأيت بخط البدر الزركشي أنه رأى في بعض نسخ البخاري " وكره عطاء أن يؤم الرجل أباه " فإن ثبت ذلك فقد وصل ابن أبي شيبة هذا التعليق، وكأن المنذر كان إماما راتبا في المسجد. "تنبيه": وقع في رواية المستملي: "أبو أسيد " بفتح الهمزة والصواب الضم كما للباقين. قوله في حديث محارب عن جابر "أقبل رجل بناضحين" الناضح بالنون والضاد المعجمة والحاء المهملة ما استعمل من الإبل في سقى النخل والزرع. قوله: "وقد جنح الليل" أي أقبل بظلمته، وهو يؤيد أن الصلاة المذكورة كانت العشاء كما تقدم. قوله: "بسورة البقرة أو النساء" زاد أبو داود الطيالسي عن شعبة شك محارب، وفي هذا رد على من زعم أن الشك فيه من جابر. قوله: "فلولا صليت" أي فهلا صليت. قوله: "فإنه يصلي وراءك" تقدم شرحه في الباب الذي قبله فكان هذا هو الحامل لمن وحد بين

(2/200)


القصتين، لكن في ثبوت هذه الزيادة في هذه القصة نظر، لقوله بعدها "أحسب هذا في الحديث" يعني هذه الجملة الأخيرة " فإنه يصلي الخ"، وقائل ذلك هو شعبة الراوي عن محارب، وقد رواه غير شعبة من أصحاب محارب عنه بدونها، وكذا أصحاب جابر. قوله: "تابعه سعيد بن مسروق" هو والد سفيان الثوري، وروايته هذه وصلها أبو عوانة من طريق أبي الأحوص عنه، ومتابعة مسعر وصلها السراج من رواية أبي نعيم عنه، ومتابعة الشيباني وهو أبو إسحاق وصلها البزار من طريقه كلهم عن محارب، والمراد أنهم تابعوا شعبة عن محارب في أصل الحديث لا في جميع ألفاظه. قوله: "قال عمرو" هو ابن دينار وقد تقدمت روايته قبل ببابين، ورواية عبيد الله بن مقسم وصلها ابن خزيمة من رواية محمد بن عجلان عنه وهي عند أبي داود باختصار، ورواية أبي الزبير وصلها عبد الرزاق عن ابن جريج عنه وهي عند مسلم من طريق الليث عنه لكن لم يعين أن السورة البقرة. قوله: "وتابعه الأعمش عن محارب" أي تابع شعبة، وروايته عند النسائي من طريق محمد بن فضيل عن الأعمش عن محارب وأبي صالح كلاهما عن جابر بطوله وقال فيه: "فيطول بهم معاذ " ولم يعين السورة.

(2/201)


64 - باب الإِيجَازِ فِي الصَّلاَةِ وَإِكْمَالِهَا
706- حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوجِزُ الصَّلاَةَ وَيُكْمِلُهَا
قوله: "عبد العزيز" هو ابن صهيب، والإسناد كله بصريون.
والمراد بالإيجاز مع الإكمال الإتيان بأقل ما يمكن من الأركان والأبعاض.

(2/201)


65 - باب مَنْ أَخَفَّ الصَّلاَةَ عِنْدَ بُكَاءِ الصَّبِيِّ
707- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى قَالَ أَخْبَرَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ قَالَ حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنِّي لاَقُومُ فِي الصَّلاَةِ أُرِيدُ أَنْ أُطَوِّلَ فِيهَا فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلاَتِي كَرَاهِيَةَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمِّهِ تَابَعَهُ بِشْرُ بْنُ بَكْرٍ وَابْنُ الْمُبَارَكِ وَبَقِيَّةُ عَنْ الأَوْزَاعِيِّ
[ الحديث707- طرفه في:868]
708- حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ قَالَ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلاَلٍ قَالَ حَدَّثَنَا شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ مَا صَلَّيْتُ وَرَاءَ إِمَامٍ قَطُّ أَخَفَّ صَلاَةً وَلاَ أَتَمَّ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ كَانَ لَيَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ

(2/201)


66- باب إِذَا صَلَّى ثُمَّ أَمَّ قَوْمًا
711- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ وَأَبُو النُّعْمَانِ قَالاَ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ كَانَ مُعَاذٌ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يَأْتِي قَوْمَهُ فَيُصَلِّي بِهِمْ
تقدم الحديث من وجه آخر عن عمرو.

(2/203)


67- باب مَنْ أَسْمَعَ النَّاسَ تَكْبِيرَ الإِمَامِ
712- حدثنا مسدد قال حدثنا عبد الله بن داود قال حدثنا الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة رضي الله عنها قالت ثم لما مرض النبي صلى الله عليه وسلم مرضه الذي مات فيه أتاه يؤذنه بالصلاة فقال مروا أبا بكر فليصل قلت إن أبا بكر رجل أسيف إن يقم مقامك يبك فلا يقدر على القراءة قال مروا أبا بكر فليصل فقلت مثله فقال في الثالثة أو الرابعة إنكن صواحب يوسف مروا أبا بكر فليصل فصلى وخرج النبي صلى الله عليه وسلم يهادى بين رجلين كأني أنظر إليه يخط برجليه الأرض فلما رآه أبو بكر ذهب يتأخر فأشار إليه أن صل فتأخر أبو بكر رضي الله عنه وقعد النبي صلى الله عليه وسلم إلى جنبه وأبو بكر يسمع الناس التكبير تابعه محاضر عن الأعمش
قوله: "باب من أسمع الناس تكبير الإمام" تقدم الكلام على حديث عائشة في " باب حد المريض أن يشهد الجماعة " والشاهد فيه قوله: "وأبو بكر يسمع الناس التكبير " وهذه اللفظة مفسرة عند الجمهور للمراد بقوله في الرواية الماضية " وكان أبو بكر يصلي بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم والناس يصلون بصلاة أبي بكر " وقد ذكر البخاري أن

(2/203)


68 - باب الرَّجُلُ يَأْتَمُّ بِالإِمَامِ وَيَأْتَمُّ النَّاسُ بِالْمَأْمُومِ
وَيُذْكَرُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ائْتَمُّوا بِي وَلْيَأْتَمَّ بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ
714- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ لَمَّا ثَقُلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ بِلاَلٌ يُؤذِنُهُ بِالصَّلاَةِ فَقَالَ مُرُوا أَبَا بَكْرٍ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ أَسِيفٌ وَإِنَّهُ مَتَى مَا يَقُمْ مَقَامَكَ لاَ يُسْمِعُ النَّاسَ فَلَوْ أَمَرْتَ عُمَرَ فَقَالَ مُرُوا أَبَا بَكْرٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ فَقُلْتُ لِحَفْصَةَ قُولِي لَهُ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ أَسِيفٌ وَإِنَّهُ مَتَى يَقُمْ مَقَامَكَ لاَ يُسْمِعُ النَّاسَ فَلَوْ أَمَرْتَ عُمَرَ قَالَ إِنَّكُنَّ لاَنْتُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ مُرُوا أَبَا بَكْرٍ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ فَلَمَّا دَخَلَ فِي الصَّلاَةِ وَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَفْسِهِ خِفَّةً فَقَامَ يُهَادَى بَيْنَ رَجُلَيْنِ وَرِجْلاَهُ يَخُطَّانِ فِي الأَرْضِ حَتَّى دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَلَمَّا سَمِعَ أَبُو بَكْرٍ حِسَّهُ ذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ يَتَأَخَّرُ فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى جَلَسَ عَنْ يَسَارِ أَبِي بَكْرٍ فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي قَائِمًا وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي قَاعِدًا يَقْتَدِي أَبُو بَكْرٍ بِصَلاَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّاسُ مُقْتَدُونَ بِصَلاَةِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قوله: "باب الرجل يأتم بالإمام ويأتم الناس بالمأموم" قال ابن بطال: هذا موافق لقول مسروق والشعبي إن الصفوف يؤم بعضها بعضا خلافا للجمهور، قلت: وليس المراد أنهم يأتمون بهم في التبليغ فقط كما فهمه بعضهم بل الخلاف معنوي، لأن الشعبي قال فيمن أحرم قبل أن يرفع الصف الذي يليه رءوسهم من الركعة: إنه أدركها ولو كان الإمام رفع قبل ذلك، لأن بعضهم لبعض أئمة. انتهى. فهذا يدل على أنه يرى أنهم يتحملون عن بعضهم بعض ما يتحمله الإمام، وأثر الشعبي الأول وصله عبد الرزاق، والثاني وصله ابن أبي شيبة، ولم يفصح البخاري باختياره في هذه المسألة لأنه بدأ بالترجمة الدالة على أن المراد بقوله: "ويأتم الناس بأبي بكر " أي أنه في مقام المبلغ، ثم ثنى بهذه الرواية التي أطلق فيها اقتداء الناس بأبي بكر، ورشح ظاهرها. بظاهر الحديث المعلق، فيحتمل أن يكون يذهب إلى قول الشعبي ويرى أن قوله في الرواية الأولى " يسمع الناس التكبير " لا ينفي كونهم يأتمون به لأن إسماعه لهم التكبير جزء من أجزاء ما يأتمون به فيه، وليس فيه نفي لغيره. ويؤيد ذلك رواية الإسماعيلي من طريق عبد الله بن داود المذكور ووكيع جميعا عن الأعمش بهذا الإسناد قال فيه: "والناس يأتمون بأبي بكر وأبو بكر يسمعهم" . قوله: "ويذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم" هذا طرف من حديث أبي سعيد الخدري قال: "رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه

(2/204)


تأخرا فقال: تقدموا وائتموا بي وليأتم بكم من بعدكم " الحديث أخرجه مسلم وأصحاب السنن من رواية أبي نضرة عنه. قيل: وإنما ذكره البخاري بصيغة التمريض لأن أبا نضرة ليس على شرطه لضعف فيه، وهذا عندي ليس بصواب، لأنه لا يلزم من كونه على غير شرطه أنه لا يصلح عنده للاحتجاج به، بل قد يكون صالحا للاحتجاج به عنده وليس هو على شرط صحيحه الذي هو أعلى شروط الصحة. والحق أن هذه الصيغة لا تختص بالضعيف بل قد تستعمل في الصحيح أيضا. بخلاف صيغة الجزم فإنها لا تستعمل إلا في الصحيح، وظاهره يدل لمذهب الشعبي. وأجاب النووي بأن معنى " وليأتم بكم من بعدكم " أي يقتدي بكم من خلفكم مستدلين على أفعالي بأفعالكم، قال: وفيه جواز اعتماد المأموم في متابعة الإمام الذي لا يراه ولا يسمعه على مبلغ عنه أو صف قدامه يراه متابعا للإمام، وقيل: معناه تعلموا مني أحكام الشريعة وليتعلم منكم التابعون بعدكم وكذلك أتباعهم إلى انقراض الدنيا. قوله: "مروا أبا بكر يصلي" كذا فيه بإثبات الياء، وقد تقدم توجيه ابن مالك له. ووقع في رواية الكشميهني: "أن يصلي". قوله: "متى يقوم" كذا وقع للأكثر في الموضعين بإثبات الواو، ووجهه ابن مالك بأنه شبه متى بإذا فلم تجزم، كما شبه إذا بمتى في قوله: "إذا أخذتما مضاجعكما تكبرا أربعا وثلاثين " فحذف النون. ووقع في رواية الكشميهني: "متى ما يقم " ولا إشكال فيها. قوله: "تخطان الأرض" في رواية الكشميهني: "يخطان في الأرض". وقد تقدمت بقية مباحث الحديث في " باب حد المريض " وقوله في السند " الأعمش عن إبراهيم عن الأسود " كذا للجميع وهو الصواب، وسقط إبراهيم بين الأعمش والأسود من رواية أبي المروزي وهو وهم قاله الجياني.

(2/205)


69 - باب هَلْ يَأْخُذُ الإِمَامُ إِذَا شَكَّ بِقَوْلِ النَّاسِ
714- حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك بن أنس عن أيوب بن أبي تميمة السختياني عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة ثم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من اثنتين فقال له ذو اليدين أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أصدق ذو اليدين فقال الناس نعم فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى اثنتين أخريين ثم سلم ثم كبر فسجد مثل سجوده أو أطول
715- حدثنا أبو الوليد قال حدثنا شعبة عن سعد بن إبراهيم عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال ثم صلى النبي صلى الله عليه وسلم الظهر ركعتين فقيل صليت ركعتين فصلى ركعتين ثم سلم ثم سجد سجدتين
قوله: "باب هل يأخذ الإمام إذا شك بقول الناس" أورد فيه قصة ذي اليدين في السهو، وسيأتي الكلام عليها في موضعه. قال الزين بن المنير: أراد أن محل الخلاف في هذه المسألة هو ما إذا كان الإمام شاكا، أما إذا كان على يقين من فعل نفسه فلا خلاف أنه لا يرجع إلى أحد. انتهى. وقال ابن التين: يحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم شك بأخبار ذي اليدين فسألهم إرادة تيقن أحد الأمرين، فلما صدقوا ذا اليدين علم صحة قوله، قال: وهذا الذي أراد البخاري بتبويبه. وقال ابن بطال بعد أن حكى الخلاف في هذه المسألة: حمل الشافعي رجوعه عليه الصلاة والسلام على أنه تذكر فذكر، وفيه نظر، لأنه لو كان كذلك لبينه لهم ليرتفع اللبس، ولو بينه لنقل، ومن ادعى ذلك فليذكره. قلت: قد ذكره أبو داود من طريق الأوزاعي عن الزهري عن سعيد وعبيد الله عن أبي هريرة بهذه القصة قال: "ولم

(2/205)


يسجد سجدتي السهو حتى يقنه الله ذلك".

(2/206)


70 - باب إِذَا بَكَى الإِمَامُ فِي الصَّلاَةِ
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ سَمِعْتُ نَشِيجَ عُمَرَ وَأَنَا فِي آخِرِ الصُّفُوفِ يَقْرَأُ {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ}
حدثنا إسماعيل قال حدثنا مالك بن أنس عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أم المؤمنين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ثم في مرضه مروا أبا بكر يصلي بالناس قالت عائشة قلت إن أبا بكر إذا قام في مقامك لم يسمع الناس من البكاء فمر عمر فليصل فقال مروا أبا بكر فليصل للناس قالت عائشة لحفصة قولي له إن أبا بكر إذا قام في مقامك لم يسمع الناس من البكاء فمر عمر فليصل للناس ففعلت حفصة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مه إنكن لأنتن صواحب يوسف مروا أبا بكر فليصل للناس قالت حفصة لعائشة ما كنت لأصيب منك خيرا
قوله: "باب إذا بكى الإمام في الصلاة" أي هل تفسد أو لا؟ والأثر والخبر اللذان في الباب يدلان على الجواز، وعن الشعبي والنخعي والثوري أن البكاء والأنين يفسد الصلاة. وعن المالكية والحنفية إن كان لذكر النار والخوف لم يفسد، وفي مذهب الشافعي ثلاثة أوجه أصحها إن ظهر منه حرفان أفسد وإلا فلا. ثانيها وحكى عن نصه في الإملاء أنه لا يفسد مطلقا لأنه ليس من جنس الكلام ولا يكاد يبين منه حرف محقق فأشبه الصوت الغفل. ثالثها عن القفال إن كان فمه مطبقا لم يفسد وإلا أفسد إن ظهر منه حرفان، وبه قطع المتولي. والوجه الثاني أقوى دليلا. "فائدة": أطلق جماعة التسوية بين الضحك والبكاء. وقال المتولي: لعل الأظهر في الضحك البطلان مطلقا لما فيه من هتك حرمة الصلاة، وهذا أقوى من حيث المعنى، والله أعلم. قوله: "وقال عبد الله بن شداد" أي ابن الهاد، وهو تابعي كبير له رؤية ولأبيه صحبة. قوله: "سمعت نشيج عمر" النشيج - بفتح النون وكسر المعجمة وآخره جيم - قال ابن فارس: نشج الباكي ينشج نشيجا إذا غص بالبكاء في حلقه من غير انتحاب. وقال الهروي: النشيج صوت معه ترجيع كما يردد الصبي بكاءه في صدره. وفي " المحكم ": هو أشد البكاء. وهذا الأثر وصله سعيد بن منصور عن ابن عيينة عن إسماعيل بن محمد بن سعد سمع عبد الله بن شداد بهذا وزاد: "في صلاة الصبح". وأخرجه ابن المنذر من طريق عبيد بن عمير عن عمر نحوه، وقد تقدم الكلام على حديث أبي بكر وقوله فيه: "من البكاء " أي لأجل البكاء. وفي الباب حديث عبد الله بن الشخير " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بنا وفي صدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء " رواه أبو داود والنسائي والترمذي في الشمائل وإسناده قوى، وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم، ووهم من زعم أن مسلما أخرجه. والمرجل بكسر الميم وفتح الجيم القدر إذا غلت. والأزيز بفتح الهمزة بعدها زاي ثم تحتانية ساكنة ثم زاي أيضا وهو صوت القدر إذا غلت، وفي لفظ: "كأزيز الرحى" .

(2/206)


71 - باب تَسْوِيَةِ الصُّفُوفِ عِنْدَ الإِقَامَةِ وَبَعْدَهَا
717- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ قَالَ سَمِعْتُ سَالِمَ

(2/206)


باب إفبال الإمام على الناس عن تسوية الصفوف
...
72 - باب إِقْبَالِ الإِمَامِ عَلَى النَّاسِ عِنْدَ تَسْوِيَةِ الصُّفُوفِ
719- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ ابْنُ أَبِي رَجَاءٍ قَالَ حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ حَدَّثَنَا زَائِدَةُ بْنُ قُدَامَةَ قَالَ حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ أُقِيمَتْ الصَّلاَةُ فَأَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَجْهِهِ فَقَالَ أَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ وَتَرَاصُّوا فَإِنِّي أَرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي"
قوله: "باب إقبال الإمام على الناس عند تسوية الصفوف" أورد فيه حديث أنس الذي في الباب قبله، وقد تقدم الكلام عليه فيه. قوله: "حدثنا معاوية بن عمرو" هو من قدماء شيوخ البخاري، وروى له هنا بواسطة، فكأنه لم يسمعه منه وإنما نزل فيه لما وقع في الإسناد من تصريح حميد بتحديث أنس له فأمن بذلك تدليسه. قوله: "وتراصوا" بتشديد الصاد المهملة أي تلاصقوا بغير خلل، ويحتمل أن يكون تأكيدا لقوله أقيموا، والمراد بأقيموا سووا كما وقع في رواية معمر عن حميد عند الإسماعيلي بدل أقيموا واعتدلوا، وفيه جواز الكلام بين الإقامة والدخول في الصلاة، وقد تقدم في باب مفرد، وفيه مراعاة الإمام لرعيته والشفقة عليهم وتحذيرهم من المخالفة.

(2/208)


73 - باب الصَّفِّ الأَوَّلِ
720- حدثنا أبو عاصم عن مالك عن سمي عن أبي صالح عن أبي هريرة قال:قال النبي صلى الله عليه وسلم " الشهداء الغرق والمطعون والمبطون والهدم "
721- وقال "ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبوا ولو يعلمون ما في الصف المقدم لاستهموا "
قوله: "باب الصف الأول" والمراد به ما يلي الإمام مطلقا، وقيل أول صف تام يلي الإمام، لا ما تخلله شيء كمقصورة. وقيل المراد به من سبق إلى الصلاة ولو صلى آخر الصفوف قاله ابن عبد البر واحتج بالاتفاق على أن من جاء أول الوقت ولم يدخل في الصف الأول فهو أفضل ممن جاء في آخره وزاحم إليه، ولا حجة له في ذلك كما لا يخفى. قال النووي: القول الأول هو الصحيح المختار وبه صرح المحققون، والقولان الآخران غلط صريح. انتهى. وكأن صاحب القول الثاني لحظ أن المطلق ينصرف إلى الكامل، وما فيه خلل فهو ناقص، وصاحب القول الثالث لحظ المعنى في تفضيل الصف الأول دون مراعاة لفظه، وإلى الأول أشار البخاري لأنه ترجم بالصف الأول وحديث الباب فيه الصف المقدم وهو الذي لا يتقدمه إلا الإمام، قال العلماء: في الحض على الصف الأول المسارعة إلى خلاص الذمة، والسبق لدخول المسجد، والقرب من الإمام، واستماع قراءته والتعلم منه، والفتح عليه، والتبليغ عنه، والسلامة من اختراق المارة بين يديه، وسلامة البال من رؤية من يكون قدامه، وسلامة موضع سجوده من أذيال المصلين.

(2/208)


3 - باب إِقَامَةُ الصَّفِّ مِنْ تَمَامِ الصَّلاَةِ
722- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ

(2/208)


75 - باب إِثْمِ مَنْ لَمْ يُتِمَّ الصُّفُوفَ
حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ أَسَدٍ قَالَ أَخْبَرَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى قَالَ أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ عُبَيْدٍ الطَّائِيُّ عَنْ بُشَيْرِ

(2/209)


ابْنِ يَسَارٍ الأَنْصَارِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَقِيلَ لَهُ مَا أَنْكَرْتَ مِنَّا مُنْذُ يَوْمِ عَهِدْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "مَا أَنْكَرْتُ شَيْئًا إِلاَّ أَنَّكُمْ لاَ تُقِيمُونَ الصُّفُوفَ"
وَقَالَ عُقْبَةُ بْنُ عُبَيْدٍ عَنْ بُشَيْرِ بْنِ يَسَارٍ قَدِمَ عَلَيْنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ الْمَدِينَةَ بِهَذَا
قوله: "باب إثم من لم يتم الصفوف" قال ابن رشيد: أورد فيه حديث أنس " ما أنكرت شيئا إلا أنكم لا تقيمون الصفوف " وتعقب بأن الإنكار قد يقع على ترك السنة فلا يدل ذلك على حصول الإثم، وأجيب بأنه لعله حمل الأمر في قوله تعالى:{فليحذر الذين يخالفون عن أمره" على أن المراد بالأمر الشأن والحال لا مجرد الصيغة، فيلزم منه أن من خالف شيئا من الحال التي كان عليها صلى الله عليه وسلم أن يأثم لما يدل عليه الوعيد المذكور في الآية، وإنكار أنس ظاهر في أنهم خالفوا ما كانوا عليه في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم من إقامة الصفوف، فعلى هذا تستلزم المخالفة التأثيم. انتهى كلام ابن رشيد ملخصا. وهو ضعيف لأنه يفضي إلى أن لا يبقى شيء مسنون، لأن التأثيم إنما يحصل عن ترك واجب. وأما قول ابن بطال: إن تسوية الصفوف لما كانت من السنن المندوب إليها التي يستحق فاعلها المدح عليها دل على أن تاركها يستحق الذم، فهو متعقب من جهة أنه لا يلزم من ذم تارك السنة أن يكون آثما. سلمنا، لكن يرد عليه التعقب الذي قبله. ويحتمل أن يكون البخاري أخذ الوجوب من صيغة الأمر في قوله: "سووا صفوفكم " ومن عموم قوله: "صلوا كما رأيتموني أصلي " ومن ورود الوعيد على تركه، فرجح عنده بهذه القرائن أن إنكار أنس إنما وقع على ترك الواجب وإن كان الإنكار قد يقع على ترك السنن، ومع القول بأن التسوية واجبة فصلاة من خالف ولم يسو صحيحة لاختلاف الجهتين، ويؤيد ذلك أن أنسا مع إنكاره عليهم لم يأمرهم بإعادة الصلاة. وأفرط ابن حزم فجزم بالبطلان، ونازع من ادعى الإجماع على عدم الوجوب بما صح عن عمر أنه ضرب قدم أبي عثمان النهدي لإقامة الصف، وبما صح عن سويد بن غفلة قال: "كان بلال يسوي مناكبنا ويضرب أقدامنا في الصلاة " فقال: ما كان عمر وبلال يضربان أحدا على ترك غير الواجب وفيه نظر، لجواز أنهما كانا يريان التعزير على ترك السنة. قوله: "بشير" هو بالمعجمة مصغر. قوله: "ما أنكرت منذ يوم عهدت" في رواية المستملي والكشميهني: "ما أنكرت منا منذ عهدت" قوله: "وقال عقبة بن عبيد" هو أبو الرحال بفتح الراء وتشديد الحاء المهملة وهو أخو سعيد بن عبيد راوي الإسناد الذي قبله، وليس لعقبة في البخاري إلا هذا الموضع المعلق، وأراد به بيان سماع بشير بن يسار له من أنس، وقد وصله أحمد في مسنده عن يحيى القطان عن عقبة بن عبيد الطائي " حدثني بشير بن يسار قال: جاء أنس إلى المدينة فقلنا ما أنكرت منا من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: ما أنكرت منكم شيئا غير أنكم لا تقيمون الصفوف". "تنبيه": هذه القدمة لأنس غير القدمة التي تقدم ذكرها في " باب وقت العصر"، فإن ظاهر الحديث فيها أنه أنكر تأخير الظهر إلى أول وقت العصر كما مضى، وهذا الإنكار أيضا غير الإنكار الذي تقدم ذكره في " باب تضييع الصلاة عن وقتها " حيث قال: "لا أعرف شيئا مما كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلا الصلاة وقد ضيعت " فإن ذاك كان بالشام وهذا بالمدينة، وهذا يدل على أن أهل المدينة كانوا في ذلك الزمان أمثل من غيرهم في التمسك بالسنن.

(2/210)


إلزاق المنكب بالمنكب والقدم بالقدم في الصلاة
...
76 - باب إِلْزَاقِ الْمَنْكِبِ بِالْمَنْكِبِ وَالْقَدَمِ بِالْقَدَمِ فِي الصَّفِّ
وَقَالَ النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ رَأَيْتُ الرَّجُلَ مِنَّا يُلْزِقُ كَعْبَهُ بِكَعْبِ صَاحِبِهِ
725- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ قَالَ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ فَإِنِّي أَرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي وَكَانَ أَحَدُنَا يُلْزِقُ مَنْكِبَهُ بِمَنْكِبِ صَاحِبِهِ وَقَدَمَهُ بِقَدَمِهِ"
قوله: "باب إلزاق المنكب بالمنكب والقدم بالقدم في الصف" المراد بذلك المبالغة في تعديل الصف وسد خلله، وقد ورد الأمر بسد خلل الصف والترغيب فيه في أحاديث كثيرة أجمعها حديث ابن عمر عند أبي داود وصححه ابن خزيمة والحاكم ولفظه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أقيموا الصفوف وحاذوا بين المناكب وسدوا الخلل ولا تذروا فرجات للشيطان، ومن وصل صفا وصله الله، ومن قطع صفا قطعه الله ". قوله: "وقال النعمان بن بشير" هذا طرف من حديث أخرجه أبو داود وصححه ابن خزيمة من رواية أبي القاسم الجدلي واسمه حسين بن الحارث قال: "النعمان بن بشير يقول: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس بوجهه فقال: أقيموا صفوفكم ثلاثا، والله لتقيمن صفوفكم أو ليخالفن الله بين قلوبكم . قال: فلقد رأيت الرجل منا يلزق منكبه بمنكب صاحبه وكعبه بكعبه " واستدل بحديث النعمان هذا على أن المراد بالكعب في آية الوضوء العظم الناتئ في جانبي الرجل - وهو عند ملتقى الساق والقدم - وهو الذي يمكن أن يلزق بالذي بجنبه، خلافا لمن ذهب أن المراد بالكعب مؤخر القدم، وهو قول شاذ ينسب إلى بعض الحنفية ولم يثبته محققوهم وأثبته بعضهم في مسألة الحج لا الوضوء، وأنكر الأصمعي قول من زعم أن الكعب في ظهر القدم. قوله: "عن أنس" رواه سعيد بن منصور عن هشيم فصرح فيه بتحديث أنس لحميد وفيه الزيادة التي في آخره وهي قوله: "وكان أحدنا الخ " وصرح بأنها من قول أنس. وأخرجه الإسماعيلي من رواية معمر عن حميد بلفظ: "قال أنس: فلقد رأيت أحدنا الخ " وأفاد هذا التصريح أن الفعل المذكور كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وبهذا يتم الاحتجاج به على بيان المراد بإقامة الصف وتسويته، وزاد معمر في روايته: "ولو فعلت ذلك بأحدهم اليوم لنفر كأنه بغل شموس".

(2/211)


باب إذا قام الرجل عن يسار الإمام وخلفه إلى يمينه تمت صلاته
...
77 - باب إِذَا قَامَ الرَّجُلُ عَنْ يَسَارِ الإِمَامِ وَحَوَّلَهُ الإِمَامُ خَلْفَهُ إِلَى يَمِينِهِ تَمَّتْ صَلاَتُهُ
726- حدثنا قتيبة بن سعيد قال حدثنا داود عن عمرو بن دينار عن كريب مولى بن عباس عن بن عباس رضي الله عنهما قال ثم صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فقمت عن يساره فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم برأسي من ورائي فجعلني عن يمينه فصلى ورقد فجاءه المؤذن فقام وصلى ولم يتوضأ "
قوله: "باب إذا قام الرجل عن يسار الإمام وحوله الإمام خلفه إلى يمينه تمت صلاته" تقدم أكثر لفظ هذه الترجمة قبل بنحو من عشرين بابا لكن ليس هناك لفظ: "خلفه " وقال هناك " لم تفسد صلاتهما " بدل قوله: "تمت صلاته " وأخرج هناك حديث ابن عباس هذا لكن من وجه آخر، ولم ينبه أحد من الشراح على حكمة هذه الإعادة، بل أسقط بعضهم الكلام على هذا الباب. والذي يظهر لي أن حكمهما مختلف لاختلاف الجوابين، فقوله: "لم تفسد

(2/211)


صلاتهما " أي بالعمل الواقع منهما لكونه خفيفا وهو من مصلحة الصلاة أيضا، وقوله: "تمت صلاته " أي المأموم ولا يضر وقوفه عن يسار الإمام أولا مع كونه في غير موقفه، ولأنه معذور بعدم العلم بذلك الحكم. ويحتمل أن يكون الضمير للإمام وتوجيهه أن الإمام وحده في مقام الصف، ومحاولته لتحويل المأموم فيه التفات ببعض بدنه ولكن ليس تركا لإقامة الصف للمصلحة المذكورة، فصلاته على هذا لا نقص فيها من هذه الجهة والله أعلم. وقال الكرماني: يحتمل أن يكون الضمير للرجل لأن الفاعل وإن تأخر لفظا لكنه متقدم رتبة فلكل منها قرب من وجه. قلت: لكن إذا عاد الضمير للإمام أفاد أنه احترز أن يحوله من بين يديه لئلا يصير كالمار بين يديه.

(2/212)


78 - باب الْمَرْأَةُ وَحْدَهَا تَكُونُ صَفًّا
727- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ إِسْحَاقَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ صَلَّيْتُ أَنَا وَيَتِيمٌ فِي بَيْتِنَا خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمِّي أُمُّ سُلَيْمٍ خَلْفَنَا
" قوله: "باب المرأة وحدها تكون صفا" أي في حكم الصف، وبهذا يندفع اعتراض الإسماعيلي حيث قال: الشخص الواحد لا يسمى صفا، وأقل ما يقوم الصف باثنين. ثم إن هذه الترجمة لفظ حديث أخرجه ابن عبد البر من حديث عائشة مرفوعا: "والمرأة وحدها صف". قوله: "حدثنا عبد الله بن محمد" هو الجعفي، وإن كان عبد الله بن محمد بن أبي شيبة قد روى هذا الحديث أيضا عن سفيان وهو ابن عيينة. قوله: "عن إسحاق عن أنس" في رواية الحميدي عند أبي نعيم وعلي بن المديني عند الإسماعيلي كلاهما عن سفيان " حدثنا إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة أنه سمع أنس بن مالك". قوله: "صليت أنا ويتيم" كذا للجميع، وكذا وقع في خبر يحيى بن يحيى المشهور من روايته عن ابن عيينة. ووقع عند ابن فتحون فيما رواه عن ابن السكن بسنده في الخبر المذكور " صليت أنا وسليم " بسين مهملة ولام مصغرا فتصحفت على الراوي من لفظ: "يتيم " ومشى على ذلك ابن فتحون فقال في ذيله على الاستيعاب: سليم غير منسوب وساق هذا الحديث. ثم إن هذا طرف من حديث اختصره سفيان وطوله مالك كما تقدم في " باب الصلاة على الحصير " واستدل بقوله: "فصففت أنا واليتيم وراءه " على أن السنة في موقف الاثنين أن يصفا خلف الإمام، خلافا لمن قال من الكوفيين أن أحدهما يقف عن يمينه والآخر عن يساره، وحجتهم في ذلك حديث ابن مسعود الذي أخرجه أبو داود وغيره عنه أنه أقام علقمة عن يمينه والأسود عن شماله، وأجاب عنه ابن سيربن بأن ذلك كان لضيق المكان، رواه الطحاوي. قوله: "وأمي أم سليم خلفنا" فيه أن المرأة لا تصف مع الرجال، وأصله ما يخشى من الافتتان بها فلو خالفت أجزأت صلاتها عند الجمهور، وعن الحنفية تفسد صلاة الرجل دون المرأة، وهو عجيب وفي توجيهه تعسف حيث قال قائلهم: دليله قول ابن مسعود " أخروهن من حيث أخرهن الله " والأمر للوجوب، وحيث ظرف مكان ولا مكان يجب تأخرهن فيه إلا مكان الصلاة فإذا حاذت الرجل فسدت صلاة الرجل لأنه ترك ما أمر به من تأخيرها، وحكاية هذا تغني عن تكلف جوابه، والله المستعان. فقد ثبت النهي عن الصلاة في الثوب المغصوب وأمر لابسه أن ينزعه، فلو خالف فصلى فيه ولم ينزعه أثم وأجزأته صلاته، فلم لا يقال في الرجل الذي حاذته المرأة ذلك؟ وأوضح منه لو كان لباب المسجد صفة مملوكة فصلى فيها شخص بغير إذنه مع اقتداره على أن ينتقل عنها إلى أرض المسجد بخطوة واحدة صحت صلاته وأثم، وكذلك الرجل مع المرأة التي حاذته ولا سيما إن

(2/212)


جاءت بعد أن دخل في الصلاة فصلت بجنبه. وقال ابن رشيد: الأقرب أن البخاري قصد أن يبين أن هذا مستثنى من عموم الحديث الذي فيه: "لا صلاة لمنفرد خلف الصف " يعني أنه مختص بالرجال، والحديث المذكور أخرجه ابن حبان من حديث علي بن شيبان، وفي صحته نظر كما سنذكره في " باب إذا ركع دون الصف " واستدل به ابن بطال على صحة صلاة المنفرد خلف الصف خلافا لأحمد، قال: لأنه لما ثبت ذلك للمرأة كان للرجل أولى، لكن لمخالفه أن يقول: إنما ساغ ذلك لامتناع أن تصف مع الرجال، بخلاف الرجل فإن له أن يصف معهم وأن يزاحمهم وأن يجذب رجلا من حاشية الصف فيقوم معه فافترقا. وباقي مباحثه تقدمت في " باب الصلاة على الحصير".

(2/213)


79 - باب مَيْمَنَةِ الْمَسْجِدِ وَالإِمَامِ
828- حَدَّثَنَا مُوسَى حَدَّثَنَا ثَابِتُ بْنُ يَزِيدَ حَدَّثَنَا عَاصِمٌ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قُمْتُ لَيْلَةً أُصَلِّي عَنْ يَسَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخَذَ بِيَدِي أَوْ بِعَضُدِي حَتَّى أَقَامَنِي عَنْ يَمِينِهِ وَقَالَ بِيَدِهِ مِنْ وَرَائِي "
قوله: "باب ميمنة المسجد والإمام" أورد فيه حديث ابن عباس مختصرا، وهو موافق للترجمة: أما للإمام فبالمطابقة، وأما للمسجد فباللزوم. وقد تعقب من وجه آخر، وهو أن الحديث إنما ورد فيما إذا كان المأموم واحدا، أما إذا كثروا فلا دليل فيه على فضيلة ميمنة المسجد. وكأنه أشار إلى ما أخرجه النسائي بإسناد صحيح عن البراء قال: "كنا إذا صلينا خلف النبي صلى الله عليه وسلم أحببنا أن نكون عن يمينه" ، ولأبي داود بإسناد حسن عن عائشة مرفوعا: "أن الله وملائكته يصلون على ميامن الصفوف". وأما ما رواه ابن ماجه عن ابن عمر قال: "قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: إن ميسرة المسجد تعطلت، فقال: من عمر ميسرة المسجد كتب له كفلان من الأجر " ففي إسناده مقال. وإن ثبت فلا يعارض الأول لأن ما ورد لمعنى عارض يزول بزواله. قوله: "حدثنا موسى" هو ابن إسماعيل التبوذكي، وعاصم هو ابن سليمان. قوله: "وقال بيده" أي تناول، ويدل عليه رواية الإسماعيلي: "فأخذ بيدي". قوله: "من ورائي" في رواية الكشميهني: "من ورائه " وهو أوجه.

(2/213)


80 - باب إِذَا كَانَ بَيْنَ الإِمَامِ وَبَيْنَ الْقَوْمِ حَائِطٌ أَوْ سُتْرَةٌ وَقَالَ الْحَسَنُ لاَ بَأْسَ أَنْ تُصَلِّيَ وَبَيْنَكَ وَبَيْنَهُ نَهْرٌ
وَقَالَ أَبُو مِجْلَزٍ يَأْتَمُّ بِالإِمَامِ وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا طَرِيقٌ أَوْ جِدَارٌ إِذَا سَمِعَ تَكْبِيرَ الإِمَامِ
729- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ فِي حُجْرَتِهِ وَجِدَارُ الْحُجْرَةِ قَصِيرٌ فَرَأَى النَّاسُ شَخْصَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَامَ أُنَاسٌ يُصَلُّونَ بِصَلاَتِهِ فَأَصْبَحُوا فَتَحَدَّثُوا بِذَلِكَ فَقَامَ اللَّيْلَةَ الثَّانِيَةَ فَقَامَ مَعَهُ أُنَاسٌ يُصَلُّونَ بِصَلاَتِهِ صَنَعُوا ذَلِكَ لَيْلَتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا حَتَّى إِذَا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ جَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَخْرُجْ فَلَمَّا أَصْبَحَ ذَكَرَ ذَلِكَ النَّاسُ فَقَالَ إِنِّي خَشِيتُ أَنْ
ـــــــ
(1) في جواز الجذب المذكور نظر , لأن الحديث الوارد فيه ضعيف , ولأن الجذب يفضى إلى إيجاد فرجة في الصف والمشروع سد الخلل , فالأولى ترك الجذب وأن يلتمس موضعا في الصف أو يقف عن يمين الامام . والله أعلم

(2/213)


81 - باب صَلاَةِ اللَّيْلِ
730- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَهُ حَصِيرٌ يَبْسُطُهُ بِالنَّهَارِ وَيَحْتَجِرُهُ بِاللَّيْلِ فَثَابَ إِلَيْهِ نَاسٌ فَصَلَّوْا وَرَاءَهُ"
731- حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى بْنُ حَمَّادٍ قَالَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ قَالَ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ سَالِمٍ أَبِي النَّضْرِ عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتَّخَذَ حُجْرَةً قَالَ حَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ مِنْ حَصِيرٍ فِي رَمَضَانَ فَصَلَّى فِيهَا لَيَالِيَ فَصَلَّى بِصَلاَتِهِ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَلَمَّا عَلِمَ بِهِمْ جَعَلَ يَقْعُدُ فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ قَدْ عَرَفْتُ الَّذِي رَأَيْتُ مِنْ صَنِيعِكُمْ فَصَلُّوا أَيُّهَا النَّاسُ فِي بُيُوتِكُمْ فَإِنَّ أَفْضَلَ الصَّلاَةِ صَلاَةُ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلاَّ الْمَكْتُوبَةَ

(2/214)


قَالَ عَفَّانُ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا مُوسَى سَمِعْتُ أَبَا النَّضْرِ عَنْ بُسْرٍ عَنْ زَيْدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[الحديث 731- طرفاه في: 7290,6113]
قوله: "باب صلاة الليل" كذا وقع في رواية المستملي وحده، ولم يعرج عليه أكثر الشراح ولا ذكره الإسماعيلي، وهو السياق لأن التراجم متعلقة بأبواب الصفوف وإقامتها، ولما كانت الصلاة بالحائل قد يتخيل أنها مانعة من إقامة الصف. ترجم لها وأوردها ما عنده فيها، فأما صلاة الليل بخصوصها فلها كتاب مفرد سيأتي في أواخر الصلاة، وكأن النسخة وقع فيها تكرير لفظ: "صلاة الليل " وهي الجملة التي في آخر الحديث الذي قبله فظن الراوي أنها ترجمة مستقلة فصدرها بلفظ: "باب " وقد تكلف ابن رشيد توجيهها بما حاصله: إن من صلى بالليل مأموما في الظلمة كانت فيه مشابهة بمن صلى وراء حائل. وأبعد منه من قال: يريد أن من صلى بالليل مأموما في الظلمة كان كمن صلى وراء حائط. ثم ظهر لي احتمال أن يكون المراد صلاة الليل جماعة فحذف لفظ جماعة. والذي يأتي في أبواب التهجد إنما هو حكم صلاة الليل وكيفيتها في عدد الركعات أو في المسجد أو البيت وهو ذلك. قوله: "عن المقبري" هو سعيد، والإسناد كله مدنيون. قوله: "ويحتجزه" كذا للأكثر بالراء أي يتخذه مثل الحجرة. وفي رواية الكشميهني بالزاي بدل الراء أي يجعله حاجزا بينه وبين غيره. قوله: "فثاب" كذا للأكثر بمثلثة ثم موحدة أي اجتمعوا، ووقع عند الخطابي " آبوا " أي رجعوا. وفي رواية الكشمهيني والسرخسي " فثار " بالمثلثة والراء أي قاموا. قوله: "فصلوا وراءه" كذا أورده مختصرا، وغرضه بيان أن الحجرة المذكورة في الرواية التي قبل هذه كانت حصيرا. وقد ساقه الإسماعيلي من وجه آخر عن ابن أبي ذئب تاما، وسنذكر الكلام على فوائده في كتاب التهجد إن شاء الله تعالى. قوله: "عن سالم أبي النضر" كذا لأكثر الرواة عن موسى بن عقبة، وخالفهم ابن جريج عن موسى فلم يذكر أبا النضر في الإسناد أخرجه النسائي، ورواية الجماعة أولى. وقد وافقهم مالك في الإسناد لكن لم يرفعه في الموطأ، وروى عنه خارج الموطأ مرفوعا، وفيه ثلاثة من التابعين مدنيون على نسق أولهم موسى المذكور. قوله: "حجرة" كذا للأكثر بالراء، وللكشميهني أيضا بالزاي. قوله: "من صنيعكم" كذا للأكثر وللكشميهني بضم الصاد وسكون النون، وليس المراد به صلاتهم فقط، بل كونهم رفعوا أصواتهم وسبحوا به ليخرج إليهم، وحصب بعضهم الباب لظنهم أنه نائم كما ذكر المؤلف ذلك في الأدب وفي الاعتصام، وزاد فيه: "حتى خشيت أن يكتب عليكم، ولو كتب عليكم ما قمتم به " وقد استشكل الخطابي هذه الخشية كما سنوضحه في كتاب التهجد إن شاء الله تعالى. قوله: "أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة" ظاهره أنه يشمل جميع النوافل، لأن المراد بالمكتوبة المفروضة، لكنه محمول على ما لا يشرع فيه التجميع، وكذا ما لا يخص المسجد كركعتي التحية، كذا قال بعض أئمتنا. ويحتمل أن يكون المراد بالصلاة ما يشرع في البيت وفي المسجد معا فلا تدخل تحية المسجد لأنها لا تشرع في البيت، وأن يكون المراد بالمكتوبة ما تشرع فيه الجماعة، وهل يدخل ما وجب بعارض كالمنذورة؟ فيه نظر، والمراد بالمكتوبة الصلوات الخمس لا ما وجب بعارض كالمنذورة، والمراد بالمرء جنس الرجال فلا يرد استثناء النساء لثبوت قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تمنعوهن المساجد وبيوتهن خير لهن " أخرجه مسلم؛ قال النووي: إنما حث على النافلة في البيت لكونه أخفى وأبعد من الرياء، وليتبرك البيت بذلك فتنزل فيه الرحمة

(2/215)


وينفر منه الشيطان، وعلى هذا يمكن أن يخرج بقوله: "في بيته " بيت غيره ولو أمن فيه من الرياء. قوله: "قال عفان" كذا في رواية كريمة وحدها، ولم يذكره الإسماعيلي ولا أبو نعيم، وذكر خلف في الأطراف في رواية حماد بن شاكر " حدثنا عفان " وفيه نظر لأنه أخرجه في كتاب الاعتصام بواسطة بينه وبين عفان. ثم فائدة هذه الطريق بيان سماع موسى بن عقبة له من أبي النضر. والله أعلم. "خاتمة": اشتملت أبواب الجماعة والإمامة من الأحاديث المرفوعة على مائة واثنين وعشرين حديثا، الموصول منها ستة وتسعون، والمعلق ستة وعشرون، المكرر منها فيه وفيما مضى تسعون حديثا، الخالص اثنان وثلاثون، وافقه مسلم على تخريجها سوى تسعة أحاديث وهي: حديث أبي سعيد في فضل الجماعة، وحديث أبي الدرداء " ما أعرف شيئا"، وحديث أنس " كان رجل من الأنصار ضخما"، وحديث مالك بن الحويرث في صفة الصلاة، وحديث ابن عمر " لما قدم المهاجرون". وحديث أبي هريرة " يصلون فإن أصابوا"، وحديث النعمان المعلق في الصفوف، وحديث أنس " كان أحدنا يلزق منكبه"، وحديثه في إنكاره إقامة الصفوف. وفيه من الآثار عن الصحابة والتابعين سبعة عشر أثرا كلها معلقة إلا أثر ابن عمر أنه " كان يأكل قبل أن يصلي"، وأثر عثمان " الصلاة أحسن ما يعمل الناس " فإنهما موصولان والله سبحانه وتعالى أعلم.

(2/216)


82 - باب إِيجَابِ التَّكْبِيرِ وَافْتِتَاحِ الصَّلاَةِ
732- حدثنا أبو اليمان قال أخبرنا شعيب عن الزهري قال أخبرني أنس بن مالك الأنصاري ثم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركب فرسا فجحش شقه الأيمن قال أنس رضي الله عنه فصلى لنا يومئذ صلاة من الصلوات وهو قاعد فصلينا وراءه قعودا قال لما سلم: إنما جعل الإمام,ليؤتم به فإذا صلى قائما فصلوا قياما وإذا ركع فاركعوا وإذا رفع فارفعوا وإذا سجد فاسجدوا وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا ولك الحمد"
733- حدثنا قتيبة بن سعيد قال حدثنا ليث عن بن شهاب عن أنس بن مالك أنه قال خر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن فرس فجحش فصلى لنا قاعدا فصلينا معه قعودا ثم انصرف فقال ثم إنما الإمام أو إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا كبر فكبروا وإذا ركع فاركعوا وإذا رفع فارفعوا وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا لك الحمد وإذا سجد فاسجدوا"
734- حدثنا أبو اليمان قال أخبرنا شعيب قال حدثني أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال قال النبي صلى الله عليه وسلم إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا كبر فكبروا وإذا ركع فاركعوا وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا ولك الحمد وإذا سجد فاسجدوا وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون"
(أبواب صفة الصلاة) . قوله: "باب إيجاب التكبير وافتتاح الصلاة" قيل: أطلق الإيجاب والمراد الوجوب تجوزا، لأن الإيجاب خطاب الشارع، والوجوب ما يتعلق بالمكلف وهو المراد هنا. ثم الظاهر أن الواو عاطفة

(2/216)


إما على المضاف وهو إيجاب وإما على المضاف إليه وهو التكبير، والأول أولى إن كان المراد بالافتتاح الدعاء لكنه لا يجب، والذي يظهر من سياقه أن الواو بمعنى مع، وأن المراد بالافتتاح الشروع في الصلاة.
وأبعد من قال إنها بمعنى الموحدة أو اللام، وكأنه أشار إلى حديث عائشة " كان النبي صلى الله عليه وسلم يفتتح بالتكبير " وسيأتي بعد بابين حديث ابن عمر " رأيت النبي صلى الله عليه وسلم افتتح التكبير في الصلاة " واستدل به وبحديث عائشة على تعين لفظ التكبير دون غيره من ألفاظ التعظيم، وهو قول الجمهور، ووافقهم أبو يوسف. وعن الحنفية تنعقد بكل لفظ يقصد به التعظيم. ومن حجة الجمهور حديث رفاعة في قصة المسيء صلاته أخرجه أبو داود بلفظ: "لا تتم صلاة أحد من الناس حتى يتوضأ فيضع الوضوء مواضعه ثم يكبر " ورواه الطبراني بلفظ: "ثم يقول الله أكبر " وحديث أبي حميد " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة اعتدل قائما ورفع يديه ثم قال: الله أكبر " أخرجه ابن ماجه وصححه ابن خزيمة وابن حبان، وهذا فيه بيان المراد بالتكبير وهو قول " الله أكبر". وروى البزار بإسناد صحيح على شرط مسلم عن علي " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام إلى الصلاة قال: الله أكبر " ولأحمد والنسائي من طريق واسع بن حبان أنه سأل ابن عمر عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "الله أكبر كلما وضع ورفع " ثم أورد المصنف حديث أنس " إنما جعل الإمام ليؤتم به " من وجهين ثم حديث أبي هريرة في ذلك، واعترضه الإسماعيلي فقال: ليس في الطريق الأول ذكر التكبير ولا في الثاني والثالث بيان إيجاب التكبير وإنما فيه الأمر بتأخير المأموم عن الإمام قال: ولو كان ذلك إيجابا للتكبير لكان قوله: "فقولوا ربنا ولك الحمد " إيجابا لذلك على المأموم. وأجيب عن الأول بأن مراد المصنف أن يبين أن حديث أنس من الطريقين واحد اختصره شعيب وأتمه الليث، وإنما احتاج إلى ذكر الطريق المختصرة لتصريح الزهري فيها بإخبار أنس له، وعن الثاني بأنه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، وفعله بيان لمجمل الصلاة، وبيان الواجب واجب، كذا وجهه ابن رشيد، وتعقب بالاعتراض الثالث وليس بوارد على البخاري لاحتمال أن يكون قائلا بوجوبه كما قال به شيخه إسحاق بن راهويه. وقيل في الجواب أيضا، إذا ثبت إيجاب التكبير في حالة من الأحوال طابق الترجمة، ووجوبه على المأموم ظاهر من الحديث، وأما الإمام فمسكوت عنه. ويمكن أن يقال: في السياق إشارة إلى الإيجاب لتعبيره بإذا التي تختص بما يجزم بوقوعه. وقال الكرماني: الحديث دال على الجزء الثاني من الترجمة لأن لفظ: "إذا صلى قائما " متناول لكون الافتتاح في حال القيام فكأنه قال: إذا افتتح الإمام الصلاة قائما فافتتحوا أنتم أيضا قياما. قال: ويحتمل أن تكون الواو بمعنى مع والمعنى باب إيجاب التكبير عند افتتاح الصلاة، فحينئذ دلالته على الترجمة مشكل. انتهى. ومحصل كلامه أنه لم يظهر له توجيه إيجاب التكبير من هذا الحديث، والله أعلم. وقال في قوله: "فقولوا ربنا ولك الحمد " لولا الدليل الخارجي وهو الإجماع على عدم وجوبه لكان هو أيضا واجبا. انتهى. وقد قال بوجوبه جماعة من السلف منهم الحميدي شيخ البخاري، وكأنه لم يطلع على ذلك. وقد تقدم الكلام على فوائد المتن المذكور مستوفى في " باب إنما جعل الإمام ليؤتم به". ووقع في رواية المستملي وحده في طريق شعيب عن الزهري " وإذا سجد فاسجدوا". ووقع في رواية الكشميهني في طريق الليث " ثم انصرف " بدل قوله: "فلما انصرف " وزيادة الواو في قوله: "ربنا لك الحمد " وسقط لفظ: "جعل " عند السرخسي في حديث أبي هريرة من قوله: "إنما جعل الإمام ليؤتم به". "فائدة": تكبيرة الإحرام ركن عند الجمهور، وقيل شرط وهو عند الحنفية، ووجه عند الشافعية، وقيل سنة. قال ابن المنذر: لم يقل به أحد غير

(2/217)


الزهري، ونقله غيره عن سعيد بن المسيب والأوزاعي ومالك ولم يثبت عن أحد منهم تصريحا، وإنما قالوا فيمن أدرك الإمام راكعا تجزئه تكبيرة الركوع. نعم نقله الكرخي من الحنفية عن إبراهيم بن علية وأبي بكر الأصم، ومخالفتهما للجمهور كثيرة. "تنبيه": لم يختلف في إيجاب النية في الصلاة، وقد أشار إليه المصنف في أواخر الإيمان حيث قال: "باب ما جاء في قول النبي صلى الله عليه وسلم الأعمال بالنية " فدخل فيه الإيمان والوضوء والصلاة والزكاة إلى آخر كلامه.

(2/218)


83 - باب رَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي التَّكْبِيرَةِ الأُولَى مَعَ الِافْتِتَاحِ سَوَاءً
735- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ إِذَا افْتَتَحَ الصَّلاَةَ وَإِذَا كَبَّرَ لِلرُّكُوعِ وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ رَفَعَهُمَا كَذَلِكَ أَيْضًا وَقَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ وَكَانَ لاَ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي السُّجُودِ"
[الحديث 735 أطرافه في:739,738,726]
قوله: "باب رفع اليدين في التكبيرة الأولى مع الافتتاح سواء" هو ظاهر قوله في حديث الباب: "يرفع يديه إذا افتتح الصلاة " وفي رواية شعيب الآتية بعد باب " يرفع يديه حين يكبر " فهذا دليل المقارنة. وقد ورد تقديم الرفع على التكبير وعكسه أخرجهما مسلم، ففي حديث الباب عنده من رواية ابن جريج وغيره عن ابن شهاب بلفظ: "رفع يديه ثم كبر " وفي حديث مالك بن الحويرث عنده " كبر ثم رفع يديه " وفي المقارنة وتقديم الرفع على التكبير خلاف بين العلماء، والمرجح عند أصحابنا المقارنة، ولم أر من قال بتقديم التكبير على الرفع، ويرجح الأول حديث وائل بن حجر عند أبي داود بلفظ: "رفع يديه مع التكبير " وقضية المعية أنه ينتهي بانتهائه، وهو الذي صححه النووي في شرح المهذب ونقله عن نص الشافعي، وهو المرجح عند المالكية. وصحح في الروضة - تبعا لأصلها - أنه لا حد لانتهائه. وقال صاحب الهداية من الحنفية: الأصح يرفع ثم يكبر، لأن الرفع نفي صفة الكبرياء عن غير الله، والتكبير إثبات ذلك له، والنفي سابق على الإثبات كما في كلمة الشهادة. وهذا مبني على أن الحكمة في الرفع ما ذكر. وقد قال فريق من العلماء: الحكمة في اقترانهما أن يراه الأصم ويسمعه الأعمى. وقد ذكرت في ذلك مناسبات أخر فقيل: معناه الإشارة إلى طرح الدنيا والإقبال بكليته على العبادة، وقيل إلى الاستسلام والانقياد ليناسب فعله قوله الله أكبر. وقيل إلى استعظام ما دخل فيه، وقيل إشارة إلى تمام القيام، وقيل إلى رفع الحجاب بين العبد والمعبود، وقيل ليستقبل بجميع بدنه، قال القرطبي: هذا أنسبها. وتعقب. وقال الربيع قلت للشافعي: ما معنى رفع اليدين؟ قال: تعظيم الله واتباع سنة نبيه. ونقل ابن عبد البر عن ابن عمر أنه قال: رفع اليدين من زينة الصلاة. وعن عقبة بن عامر قال: "بكل رفع عشر حسنات، بكل إصبع حسنة" . قوله: "حدثنا عبد الله بن مسلمة" هو القعنبي، وفي روايته هذه عن مالك خلاف ما في روايته عنه في الموطأ، وقد أخرجه الإسماعيلي من روايته بلفظ الموطأ قال الدار قطني: رواه الشافعي والقعنبي، وسرد جماعة من رواة الموطأ فلم يذكروا فيه الرفع عند الركوع. قال: وحدث به عن مالك في غير الموطأ ابن المبارك وابن مهدي والقطان وغيرهم بإثباته. وقال ابن عبد البر كل من رواه عن ابن شهاب أثبته غير مالك في الموطأ خاصة، قال النووي في شرح مسلم: أجمعت الأمة على استحباب

(2/218)


رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام، ثم قال بعد أسطر: أجمعوا على أنه لا يجب شيء من الرفع، إلا أنه حكى وجوبه عند تكبيرة الإحرام عن داود، وبه قال أحمد بن سيار من أصحابنا ا هـ. واعترض عليه بأنه تناقض، وليس كما قال المعترض، فلعله أراد إجماع من قبل المذكورين أو لم يثبت عنده عنهما أو لأن الاستحباب لا ينافي الوجوب، وبالاعتذار الأول يندفع اعتراض من أورد عليه أن مالكا قال في روايته عنه إنه لا يستحب، نقله صاحب التبصرة منهم، وحكاه الباجي عن كثير من متقدميهم. وأسلم العبارات قول ابن المنذر: لم يختلفوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه إذا افتتح الصلاة . وقول ابن عبد البر: أجمع العلماء على جواز رفع اليدين عند افتتاح الصلاة. وممن قال بالوجوب أيضا الأوزاعي والحميدي شيخ البخاري وابن خزيمة من أصحابنا نقله عنه الحاكم في ترجمة محمد بن علي العلوي، وحكاه القاضي حسين على الإمام أحمد. وقال ابن عبد البر: كل من نقل عنه الإيجاب لا يبطل الصلاة بتركه إلا في رواية عن الأوزاعي والحميدي. قلت: ونقل بعض الحنفية عن أبي حنيفة يأثم تاركه، وأما قول النووي في شرح المهذب أجمعوا على استحبابه ونقله ابن المنذر ونقل العبدري عن الزيدية أنه لا يرفع ولا يعتد بخلافهم، ونقل القفال عن أحمد بن سيار أنه أوجبه، وإذا لم يرفع لم تصح صلاته، وهو مردود بإجماع من قبله، وفي نقل الإجماع نظر فقد نقل القول بالوجوب عن بعض من تقدمه ونقله القفال في فتاويه عن أحمد بن سيار الذي مضى ونقله القرطبي في أوائل تفسيره عن بعض المالكية وهو مقتضى قول ابن خزيمة إنه ركن، واحتج ابن حزم بمواظبة النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك وقد قال: "صلوا كما رأيتموني أصلي " وسيأتي ما يرد عليه في ذلك في الباب الذي يليه، ويأتي الكلام على نهاية الرفع بعد بباب.

(2/219)


84 - باب رَفْعِ الْيَدَيْنِ إِذَا كَبَّرَ وَإِذَا رَكَعَ وَإِذَا رَفَعَ
736- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَامَ فِي الصَّلاَةِ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى يَكُونَا حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ وَكَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ حِينَ يُكَبِّرُ لِلرُّكُوعِ وَيَفْعَلُ ذَلِكَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ وَيَقُولُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ وَلاَ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي السُّجُودِ
737- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ الْوَاسِطِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ خَالِدٍ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ أَنَّهُ رَأَى مَالِكَ بْنَ الْحُوَيْرِثِ إِذَا صَلَّى كَبَّرَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ رَفَعَ يَدَيْهِ وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ رَفَعَ يَدَيْهِ وَحَدَّثَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَنَعَ هَكَذَا "
قوله: "باب رفع اليدين إذا كبر وإذا ركع وإذا رفع" قد صنف البخاري في هذه المسألة جزءا منفردا، وحكى فيه عن الحسن وحميد بن هلال أن الصحابة كانوا يفعلون ذلك. قال البخاري: ولم يستثن الحسن أحدا. وقال ابن عبد البر: كل من روى عنه ترك الرفع في الركوع والرفع منه روى عنه فعله إلا ابن مسعود. وقال محمد بن نصر المروزي:

(2/219)


أجمع علماء الأمصار على مشروعية ذلك إلا أهل الكوفة. وقال ابن عبد البر: لم يرو أحد عن مالك ترك الرفع فيهما إلا ابن القاسم. والذي نأخذ به الرفع على حديث ابن عمر، وهو الذي رواه ابن وهب وغيره عن مالك، ولم يحك الترمذي عن مالك غيره، ونقل الخطابي وتبعه القرطبي في المفهم أنه آخر قولي مالك وأصحهما، ولم أر للمالكية دليلا على تركه ولا متمسكا إلا بقول ابن القاسم. وأما الحنفية فعولوا على رواية مجاهد أنه صلى خلف ابن عمر فلم يره يفعل ذلك. وأجيبوا بالطعن في إسناده لأن أبا بكر بن عياش راويه ساء حفظه بآخره، وعلى تقدير صحته فقد أثبت ذلك سالم ونافع وغيرهما عنه، وستأتي رواية نافع بعد بابين، والعدد الكثير أولى من واحد، لاسيما وهم مثبتون وهو ناف، مع أن الجمع بين الروايتين ممكن وهو أنه لم يكن يراه واجبا ففعله تارة وتركه أخرى. ومما يدل على ضعفه ما رواه البخاري في " جزء رفع اليدين " عن مالك أن ابن عمر كان إذا رأى رجلا لا يرفع يديه إذا ركع وإذا رفع رماه بالحصا، واحتجوا بحديث ابن مسعود " أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يرفع يديه عند الافتتاح ثم لا يعود " أخرجه أبو داود، ورده الشافعي بأنه لم يثبت، قال: ولو ثبت لكان المثبت مقدما على النافي، وقد صححه بعض أهل الحديث، لكنه استدل به على عدم الوجوب، والطحاوي إنما نصب الخلاف مع من يقول بوجوبه كالأوزاعي وبعض أهل الظاهر، ونقل البخاري عقب حديث ابن عمر في هذا الباب عن شيخه علي بن المديني قال: حق على المسلمين أن يرفعوا أيديهم عند الركوع والرفع منه لحديث ابن عمر هذا، وهذا في رواية ابن عساكر. وقد ذكره البخاري في " جزء رفع اليدين " وزاد: وكان علي أعلم أهل زمانه. ومقابل هذا قول بعض الحنفية أنه يبطل الصلاة. ونسب بعض متأخري المغاربة فاعله إلى البدعة، ولهذا مال بعض محققيهم كما حكاه ابن دقيق العيد إلى تركه درءا لهذه المفسدة. وقد قال البخاري في " جزء رفع اليدين ": من زعم أنه بدعة فقد طعن في الصحابة فإنه لم يثبت عن أحد منهم تركه. قال: ولا أسانيد أصح من أسانيد الرفع. انتهى. والله أعلم. وذكر البخاري أيضا أنه رواه سبعة عشر رجلا من الصحابة، وذكر الحاكم وأبو القاسم بن منده ممن رواه العشرة المبشرة، وذكر شيخنا أبو الفضل الحافظ أنه تتبع من رواه من الصحابة فبلغوا خمسين رجلا. قوله: "أخبرنا عبد الله" هو ابن المبارك، ويونس هو ابن يزيد. وأفادت هذه الطريق تصريح الزهري بإخبار سالم له به. قوله: "عن أبيه" سماه غير أبي ذر فقالوا " عن عبد الله بن عمر". قوله: "حين يكبر للركوع" أي عند ابتداء الركوع، وهو مقتضى رواية مالك بن الحويرث المذكورة في الباب حيث قال: "وإذا أراد أن يركع رفع يديه " وسيأتي في " باب التكبير إذا قام من السجود " من حديث أبي هريرة " ثم يكبر حين يركع". قوله: "ويفعل ذلك إذا رفع رأسه من الركوع" أي إذا أراد أن يرفع. ويؤيده رواية أبي داود من طريق الزبيدي عن الزهري بلفظ: "ثم إذا أراد أن يرفع صلبه رفعهما حتى يكونا حذو منكبيه " ومقتضاه أنه يبتدئ رفع يديه عند ابتداء القيام من الركوع، وأما رواية ابن عيينة عن الزهري التي أخرجها عنه أحمد وأخرجها عن أحمد أبو داود بلفظ: "وبعد ما يرفع رأسه من الركوع " فمعناه بعد ما يشرع في الرفع لتتفق الروايات. قوله: "ولا يفعل ذلك في السجود" أي لا في الهوى إليه ولا في الرفع منه كما في رواية شعيب في الباب الذي بعده حيث قال: "حين يسجد ولا حين يرفع رأسه " وهذا يشمل ما إذا نهض
ـــــــ
(1) في مخطوطة الرياض" ابن عبد الحكم"

(2/220)


من السجود إلى الثانية والرابعة والتشهدين، ويشمل ما إذا قام إلى الثالثة أيضا لكن بدون تشهد لكونه غير واجب وإذا قلنا باستحباب جلسة الاستراحة لم يدل هذا اللفظ على نفي ذلك عند القيام منها إلى الثانية والرابعة، لكن قد روى يحيى القطان عن مالك عن نافع عن ابن عمر مرفوعا هذا الحديث وفيه: "ولا يرفع بعد ذلك " أخرجه الدار قطني في الغرائب بإسناد حسن. وظاهره يشمل النفي عما عدا المواطن الثلاثة، وسيأتي إثبات ذلك في موطن رابع بعد بباب. قوله: "عن خالد" هو الحذاء. وفي رواية المستملي والسرخسي " حدثنا خالد". قوله: "إذا صلى كبر ورفع يديه" في رواية مسلم: "ثم رفع " وزاد مسلم من رواية نصر بن عاصم عن مالك بن الحويرث " حتى يحاذي بهما أذنيه " ووهم المحب الطبري فعزاه للمتفق. قوله: "وحدث" أي مالك بن الحويرث، وليس معطوفا على قوله: "رأى " فيبقى فاعله أبو قلابة فيصير مرسلا.

(2/221)


85 - باب إِلَى أَيْنَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ وَقَالَ أَبُو حُمَيْدٍ فِي أَصْحَابِهِ رَفَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ
738- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنَا سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ افْتَتَحَ التَّكْبِيرَ فِي الصَّلاَةِ فَرَفَعَ يَدَيْهِ حِينَ يُكَبِّرُ حَتَّى يَجْعَلَهُمَا حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ وَإِذَا كَبَّرَ لِلرُّكُوعِ فَعَلَ مِثْلَهُ وَإِذَا قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَعَلَ مِثْلَهُ وَقَالَ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ وَلاَ يَفْعَلُ ذَلِكَ حِينَ يَسْجُدُ وَلاَ حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ مِنْ السُّجُودِ"
قوله: "باب إلى أين يرفع يديه" لم يجزم المصنف بالحكم كما جزم به قبل وبعد جريا على عادته فيما إذا قوى الخلاف، لكن الأرجح عنده محاذاة المنكبين لاقتصاره على إيراد دليله. قوله: "وقال أبو حميد الخ" هذا التعليق طرف من حديث سيأتي في " باب سنة الجلوس في التشهد " وسنذكر هناك من عرفنا اسمه من أصحابه المذكورين إن شاء الله تعالى. قوله: "حذو منكبيه" بفتح المهملة وإسكان الذال المعجمة أي مقابلهما، والمنكب مجمع عظم العضد والكتف، وبهذا أخذ الشافعي والجمهور. وذهب الحنفية إلى حديث مالك بن الحويرث المقدم ذكره عند مسلم، وفي لفظ له عنه حتى يحاذي بهما فروع أذنيه، وعند أبي داود من رواية عاصم بن كليب عن أبيه عن وائل بن حجر بلفظ: "حتى حاذتا أذنيه " ورجح الأول لكون إسناده أصح. وروى أبو ثور عن الشافعي أنه جمع بينهما فقال: يحاذي بظهر كفيه المنكبين وبأطراف أنامله الأذنين. ويؤيده رواية أخرى عن وائل عند أبي داود بلفظ: "حتى كانتا حيال منكبيه، وحاذى بإبهاميه أذنيه " وبهذا قال المتأخرون من المالكية فيما حكاه ابن شاس في الجواهر لكن روى مالك عن نافع عن ابن عمر أنه كان يرفع يديه حذو منكبيه في الافتتاح، وفي غيره دون ذلك، أخرجه أبو داود. ويعارضه قول ابن جريج: قلت لنافع أكان ابن عمر يجعل الأولى أرفعهن؟ قال: لا. ذكره أبو داود أيضا وقال: لم يذكر رفعهما دون ذلك غير مالك فيما أعلم. قوله: "وإذا قال سمع الله لمن حمده فعل مثله" ظاهره أنه
ـــــــ
(1) مراده عند الشافعية وجماعة من أهل العلم , والصواب وجوبه كما هو مذهب أحمد وجماعة , لكونه صلى الله عليه وسلم فعله وداوم عليه وسجد للسهو لما تركه سهوا , ولعموم قوله صلى الله عليه وسلم " صلوا كما رأيتموني أصلي" والله أعلم

(2/221)


يقول التسميع في ابتداء ارتفاعه من الركوع، وسيأتي الكلام عليه بعد أبواب قليلة. "فائدة": لم يرد ما يدل على التفرقة في الرفع بين الرجل والمرأة، وعن الحنفية يرفع الرجل إلى الأذنين والمرأة إلى المنكبين لأنه أستر لها. والله أعلم.

(2/222)


باب رفع اليدين إذا قام من الركتين
...
86 - باب رَفْعِ الْيَدَيْنِ إِذَا قَامَ مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ
739- حَدَّثَنَا عَيَّاشٌ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى قَالَ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا دَخَلَ فِي الصَّلاَةِ كَبَّرَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ وَإِذَا رَكَعَ رَفَعَ يَدَيْهِ وَإِذَا قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَفَعَ يَدَيْهِ وَإِذَا قَامَ مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ رَفَعَ يَدَيْهِ وَرَفَعَ ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَوَاهُ ابْنُ طَهْمَانَ عَنْ أَيُّوبَ وَمُوسَى بْنِ عُقْبَةَ مُخْتَصَرًا
قوله: "باب رفع اليدين إذا قام من الركعتين" أي بعد التشهد، فيخرج ما إذا تركه ونهض قائما من السجود لعموم قوله في الرواية التي قبله " ولا حين يرفع رأس من السجود" ، ويحتمل حمل النفي هناك على حالة رفع الرأس من السجود لا على ما بعد ذلك حين يستوي قائما. وأبعد من استدل بقول سالم في روايته: "ولا يفعل ذلك في السجود " على موافقة رواية نافع في حديث هذا الباب حيث قال: "وإذا قام من الركعتين " لأنه لا يلزم من كونه لم ينفه أنه أثبته بل هو ساكت عنه. وأبعد أيضا من استدل برواية سالم على ضعف رواية نافع، والحق أنه ليس بين روايتي نافع وسالم تعارض، بل في رواية نافع زيادة لم ينفها سالم، وستأتي الإشارة إلى أن سالما أثبتها من وجه آخر. قوله: "حدثنا عياش" هو بالمثناة التحتانية وبالمعجمة وهو ابن الوليد الرقام، وعبد الأعلى هو ابن عبد الأعلى، وعبيد الله هو ابن عمر بن حفص. قوله: "ورفع ذلك ابن عمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم" في رواية أبي ذر " إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم: "قال أبو داود: رواه الثقفي يعني عبد الوهاب عن عبيد الله فلم يرفعه وهو الصحيح، وكذا رواه الليث بن سعد وابن جريج ومالك يعني عن نافع موقوفا، وحكي الدار قطني في العلل الاختلاف في وقفه ورفعه وقال: الأشبه بالصواب قول عبد الأعلى. وحكى الإسماعيلي عن بعض مشايخه أنه أومأ إلى أن عبد الأعلى أخطأ في رفعه، قال الإسماعيلي: وخالفه عبد الله بن إدريس وعبد الوهاب الثقفي والمعتمر يعني عن عبيد الله فرووه موقوفا عن ابن عمر. قلت: وقفه معتمر وعبد الوهاب عن عبيد الله عن نافع كما قال، لكن رفعاه عن عبيد الله عن الزهري عن سالم عن ابن عمر أخرجهما البخاري في " جزء رفع اليدين " وفيه الزيادة، وقد توبع نافع على ذلك عن ابن عمر، وهو فيما رواه أبو داود وصححه البخاري في الجزء المذكور من طريق محارب بن دثار عن ابن عمر قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام في الركعتين كبر ورفع يديه " وله شواهد منها حديث أبي حميد الساعدي وحديث علي بن أبي طالب أخرجهما أبو داود وصححهما ابن خزيمة وابن حبان. وقال البخاري في الجزء المذكور: ما زاده ابن عمر وعلي وأبو حميد في عشرة من الصحابة من الرفع عند القيام من الركعتين صحيح، لأنهم لم يحكوا صلاة واحدة فاختلفوا فيها وإنما زاد بعضهم على بعض، والزيادة مقبولة من أهل العلم. وقال ابن بطال: هذه زيادة يجب قبولها لمن يقول بالرفع. وقال الخطابي: لم يقل به الشافعي، وهو لازم على أصله في قبول الزيادة. وقال ابن خزيمة: هو سنة، وإن لم يذكره

(2/222)


الشافعي فالإسناد صحيح، وقد قال: قولوا بالسنة ودعوا قولي. وقال ابن دقيق العيد: قياس نظر الشافعي أنه يستحب الرفع فيه لأنه أثبت الرفع عند الركوع والرفع منه لكونه زائدا على من اقتصر عليه عند الافتتاح، والحجة في الموضعين واحدة، وأول راض سيرة من يسيرها. قال: والصواب إثباته، وأما كونه مذهبا للشافعي لكونه قال: إذا صح الحديث فهو مذهبي ففيه نظر. انتهى. ووجه النظر أن محل العمل بهذه الوصية ما إذا عرف أن الحديث لم يطلع عليه الشافعي، أما إذا عرف أنه اطلع عليه ورده أو تأوله بوجه من الوجوه فلا، والأمر هنا محتمل. واستنبط البيهقي من كلام الشافعي أنه يقول به لقوله في حديث أبي حميد المشتمل على هذه السنة وغيرها: وبهذا نقول. وأطلق النووي في الروضة أن الشافعي نص عليه، لكن الذي رأيت في الأم خلاف ذلك فقال في " باب رفع اليدين في التكبير في الصلاة " بعد أن أورد حديث ابن عمر من طريق سالم وتكلم عليه: ولا نأمره أن يرفع يديه في شيء من الذكر في الصلاة التي لها ركوع وسجود إلا في هذه المواضع الثلاثة. وأما ما وقع في أواخر البويطي: يرفع يديه في كل خفض ورفع، فيحمل الخفض على الركوع والرفع على الاعتدال، وإلا فحمله على ظاهره يقتضي استحبابه في السجود أيضا وهو خلاف ما عليه الجمهور، وقد نفاه ابن عمر. وأغرب الشيخ أبو حامد في تعليقه فنقل الإجماع على أنه لا يشرع الرفع في غير المواطن الثلاثة، وتعقب بصحة ذلك عن ابن عمر وابن عباس وطاوس ونافع وعطاء كما أخرجه عبد الرزاق وغيره عنهم بأسانيد قوية، وقد قال به من الشافعية ابن خزيمة وابن المنذر وأبو علي الطبري والبيهقي والبغوي وحكاه ابن خويز منداد عن مالك وهو شاذ. وأصح ما وقفت عليه من الأحاديث في الرفع في السجود ما رواه النسائي من رواية سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن نصر ابن عاصم عن مالك بن الحويرث " أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يرفع يديه في صلاته إذا ركع، وإذا رفع رأسه من ركوعه، وإذا سجد، وإذا رفع رأسه من سجوده حتى يحاذي بهما فروع أذنيه " وقد أخرج مسلم بهذا الإسناد طرفه الأخير كما ذكرناه في أول الباب الذي قبل هذا، ولم ينفرد به سعيد فقد تابعه همام عن قتادة عند أبي عوانة في صحيحه. وفي الباب عن جماعة من الصحابة لا يخلو شيء منها عن مقال، وقد روى البخاري في " جزء رفع اليدين " في حديث على المرفوع " ولا يرفع يديه في شيء من صلاته وهو قاعد " وأشار إلى تضعيف ما ورد في ذلك. "تنبيه": روى الطحاوي حديث الباب في مشكله من طريق نصر بن علي عن عبد الأعلى بلفظ: "كان يرفع يديه في كل خفض ورفع وركوع وسجود وقيام وقعود وبين السجدتين ويذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك " وهذه رواية شاذة، فقد رواه الإسماعيلي عن جماعة من مشايخه الحفاظ عن نصر بن علي المذكور بلفظ عياش شيخ البخاري، وكذا رواه هو وأبو نعيم من طريق أخرى عن عبد الأعلى كذلك. قوله: "رواه حماد بن سلمة عن أيوب الخ" وصله البخاري في الجزء المذكور عن موسى بن إسماعيل عن حماد مرفوعا ولفظه: "كان إذا كبر رفع يديه، وإذا ركع، وإذا رفع رأسه من الركوع" . قوله: "ورواه ابن طهمان" يعني إبراهيم عن أيوب وموسى بن عقبة، وهذا وصله البيهقي من طريق عمر بن عبد الله بن رزين عن إبراهيم بن طهمان بهذا السند موقوفا نحو حديث حماد وقال في آخره: "وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك". واعترض الإسماعيلي فقال: ليس في حديث حماد ولا ابن طهمان الرفع من الركعتين المعقود لأجله الباب،

(2/223)


قال: فلعل المحدث عنه دخل له باب في باب، يعني أن هذا التعليق يليق بحديث سالم الذي في الباب الماضي. وأجيب بأن البخاري قصد الرد على من جزم بأن رواية نافع لأصل الحديث موقوفة وأنه خالف في ذلك سالما كما نقله ابن عبد البر وغيره، وقد تبين بهذا التعليق أنه اختلف على نافع في وقفه ورفعه لا خصوص هذه الزيادة، والذي يظهر أن السبب في هذا الاختلاف أن نافعا كان يرويه موقوفا ثم يعقبه بالرفع، فكأنه كان أحيانا يقتصر على الموقوف أو يقتصر عليه بعض الرواة عنه، والله أعلم.

(2/224)


87 - باب وَضْعِ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى فِي الصَّلاَةِ
740- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ كَانَ النَّاسُ يُؤْمَرُونَ أَنْ يَضَعَ الرَّجُلُ الْيَدَ الْيُمْنَى عَلَى ذِرَاعِهِ الْيُسْرَى فِي الصَّلاَةِ قَالَ أَبُو حَازِمٍ لاَ أَعْلَمُهُ إِلاَّ يَنْمِي ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِسْمَاعِيلُ يُنْمَى ذَلِكَ وَلَمْ يَقُلْ "يَنْمِي"
قوله: "كان الناس يؤمرون" هذا حكمه الرفع لأنه محمول على أن الآمر لهم بذلك هو النبي صلى الله عليه وسلم كما سيأتي. قوله: "على ذراعه" أبهم موضعه من الذراع، وفي حديث وائل عند أبي داود والنسائي: "ثم وضع يده اليمنى على ظهره كفه اليسرى والرسغ والساعد " وصححه ابن خزيمة وغيره، وأصله في صحيح مسلم بدون الزيادة، والرسغ بضم الراء وسكون السين المهملة بعدها معجمة هو المفصل بين الساعد والكف، وسيأتي أثر على نحوه في أواخر الصلاة، ولم يذكر أيضا محلهما من الجسد. وقد روى ابن خزيمة من حديث وائل أنه وضعهما على صدره، والبزار عند صدره، وعند أحمد في حديث هلب الطائي نحوه. وهلب بضم الهاء وسكون اللام بعدها موحدة، وفي زيادات المسند من حديث علي أنه وضعهما تحت السرة وإسناده ضعيف. واعترض الداني في أطراف الموطأ فقال: هذا معلول، لأنه ظن من أبي حازم، ورد بأن أبا حازم لو لم يقل لا أعلمه الخ لكان في حكم المرفوع، لأن قول الصحابي كنا نؤمر بكذا يصرف بظاهره إلى من له الأمر وهو النبي صلى الله عليه وسلم، لأن الصحابي في مقام تعريف الشرع فيحمل على من صدر عنه الشرع، ومثله قول عائشة كنا نؤمر بقضاء الصوم فإنه محمول على أن الآمر بذلك هو النبي صلى الله عليه وسلم. وأطلق البيهقي أنه لا خلاف في ذلك بين أهل النقل والله أعلم. وقد ورد في سنن أبي داود والنسائي وصحيح ابن السكن شيء يستأنس به على تعيين الآمر والمأمور، فروى عن ابن مسعود قال: "رآني النبي صلى الله عليه وسلم واضعا يدي اليسرى على يدي اليمنى فنزعها ووضع اليمنى على اليسرى " إسناده حسن، قيل: لو كان مرفوعا ما احتاج أبو حازم إلى قوله لا أعلمه الخ، والجواب أنه أراد الانتقال إلى التصريح، فالأول لا يقال له مرفوع وإنما يقال: له حكم الرفع، قال العلماء: الحكمة في هذه الهيئة أنه صفة السائل الذليل، وهو أمنع من العبث وأقرب إلى الخشوع، وكأن البخاري لحظ ذلك فعقبه بباب الخشوع. ومن اللطائف قول بعضهم: القلب موضع النية، والعادة أن من احترز على حفظ شيء جعل يديه عليه. قال ابن عبد البر: لم يأت عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه خلاف، وهو قول الجمهور من الصحابة والتابعين، وهو الذي ذكره مالك في الموطأ، ولم يحك ابن المنذر وغيره عن مالك غيره. وروى ابن القاسم عن مالك الإرسال، وصار إليه أكثر أصحابه، وعنه التفرقة بين الفريضة والنافلة. ومنهم من كره الإمساك. ونقل ابن الحاجب أن ذلك حيث يمسك معتمدا لقصد الراحة.

(2/224)


قوله: "قال أبو حازم" يعني راويه بالسند المذكور إليه "لا أعلمه" أي سهل بن سعد "إلا ينمي" أوله وسكون النون وكسر الميم، قال أهل اللغة: نميت الحديث إلى غيري رفعته وأسندته وصرح بذلك معن بن عيسى وابن يوسف الإسماعيلي والدار قطني، وزاد ابن وهب: ثلاثتهم عن مالك بلفظ: "يرفع ذلك"، ومن اصطلاح أهل الحديث إذا قال الراوي ينميه فمراده يرفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولو لم يقيده". قوله: "وقال إسماعيل ينمي ذلك ولم يقل ينمي" الأول بضم أوله وفتح الميم بلفظ المجهول، والثاني وهو المنفي كرواية القعنبي، فعلى الأول الهاء ضمير الشأن فيكون مرسلا لأن أبا حازم لم يعين من نماه له، وعلى رواية القعنبي الضمير لسهل شيخه فهو متصل. وإسماعيل هذا هو ابن أبي أويس شيخ البخاري كما جزم به الحميدي في الجمع. وقرأت بخط مغلطاي هو إسماعيل بن إسحاق القاضي، وكأنه رأى الحديث عند الجوزقي والبيهقي وغيرهما من روايته عن القعنبي فظن أنه المراد، وليس كذلك لأن رواية إسماعيل بن إسحاق موافقة لرواية البخاري، ولم يذكر أحد أن البخاري روى عنه وهو أصغر سنا من البخاري وأحدث سماعا، وقد شاركه في كثير من مشايخه البصريين القدماء: ووافق إسماعيل بن أبي أويس على هذه الرواية عن مالك ابن سويد بن سعيد فيما أخرجه الدار قطني في الغرائب. "تنبيه" حكى في المطالع أن رواية القعنبي بضم أوله من أنمى، قال: وهو غلط؛ وتعقب بأن الزجاج ذكر في " كتاب فعلت وأفعلت ": نميت الحديث وأنميته، وكذا حكاه ابن دريد وغيره. ومع ذلك فالذي ضبطناه في البخاري عن القعنبي بفتح أوله من الثلاثي، فلعل الضم رواية القعنبي في الموطأ، والله أعلم.

(2/225)


88 - باب الْخُشُوعِ فِي الصَّلاَةِ
741- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "هَلْ تَرَوْنَ قِبْلَتِي هَا هُنَا وَاللَّهِ مَا يَخْفَى عَلَيَّ رُكُوعُكُمْ وَلاَ خُشُوعُكُمْ وَإِنِّي لأَرَاكُمْ وَرَاءَ ظَهْرِي
742- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ سَمِعْتُ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَقِيمُوا الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ فَوَ اللَّهِ إِنِّي لاَرَاكُمْ مِنْ بَعْدِي وَرُبَّمَا قَالَ مِنْ بَعْدِ ظَهْرِي إِذَا رَكَعْتُمْ وَسَجَدْتُمْ
قوله: "باب الخشوع في الصلاة" سقط لفظ: "باب " من رواية أبي ذر. والخشوع تارة يكون من فعل القلب كالخشية، وتارة من فعل البدن كالسكون، وقيل: لا بد من اعتبارهما حكاه الفخر الرازي في تفسيره. وقال غيره: هو معنى يقوم بالنفس يظهر عنه سكون في الأطراف يلائم مقصود العبادة. ويدل على أنه من عمل القلب حديث على " الخشوع في القلب " أخرجه الحاكم. وأما حديث: "لو خشع هذا خشعت جوارحه " ففيه إشارة إلى أن الظاهر عنوان الباطن. حديث أبي هريرة من هذا الوجه سبق الكلام عليه في " باب عظة الإمام الناس في إتمام الصلاة " من أبواب القبلة. وأورد فيه أيضا حديث أنس من وجه آخر ببعض مغايرة. قوله: "عن أنس" عند الإسماعيلي من رواية أبي موسى عن غندر التصريح بقولي قتادة " سمعت أنس بن مالك". قوله: "أقيموا الركوع والسجود" أي أكملوهما. وفي رواية معاذ عن شعبة عن الإسماعيلي: "أتموا " بدل أقيموا. قوله: "فوالله إني لأراكم من بعدي" تقدم الكلام على معنى

(2/225)


هذه الرواية. وأغرب الداودي الشارح فحمل البعدية هنا على ما بعد الوفاة؛ يعني أن أعمال الأمة تعرض عليه، وكأنه لم يتأمل سياق حديث أبي هريرة حيث بين فيه سبب هذه المقالة، وقد تقدم في الباب المذكور ما يدل على أن حديث أبي هريرة وحديث أنس في قضية واحدة، وهو مقتضى صنيع البخاري في إيراده الحديثين في هذا الباب، وكذا أوردهما مسلم معا. واستشكل إيراد البخاري لحديث أنس هذا لكونه لا ذكر فيه للخشوع الذي ترجم له، وأجيب بأنه أراد أن ينبه على أن الخشوع يدرك بسكون الجوارح إذ الظاهر عنوان الباطن. وروى البيهقي بإسناد صحيح عن مجاهد قال: "كان ابن الزبير إذا قام في الصلاة كأنه عود " وحدث أن أبا بكر الصديق كان كذلك. قال وكان يقال: ذاك الخشوع في الصلاة. واستدل بحديث الباب على أنه لا يجب إذ لم يأمرهم بالإعادة، وفيه نظر. نعم في حديث أبي هريرة من وجه آخر عند مسلم: "صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما ثم انصرف فقال: يا فلان ألا تحسن صلاتك " وله في رواية أخرى " أتموا الركوع والسجود " وفي أخرى " أقيموا الصفوف " وفي أخرى " لا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود " وعند أحمد " صلى بنا الظهر وفي مؤخر الصفوف رجل فأساء الصلاة " وعنده من حديث أبي سعيد الخدري أن بعض الصحابة تعمد المسابقة لينظر هل يعلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لا؟ فلما قضى الصلاة نهاه عن ذلك. واختلاف هذه الأسباب يدل على أن جميع ذلك صدر من جماعة في صلاة واحدة أو في صلوات، وقد حكى النووي الإجماع على أن الخشوع ليس بواجب، ولا يرد عليه قول القاضي حسين: إن مدافعة الأخبثين إذا انتهت إلى حد يذهب معه الخشوع أبطلت الصلاة. وقاله أيضا أبو زيد المروزي، لجواز أن يكون بعد الإجماع السابق أو المراد بالإجماع أنه لم يصرح أحد بوجوبه، وكلاهما في أمر يحصل من مجموع المدافعة وترك الخشوع، وفيه تعقب على من نسب إلى القاضي وأبى زيد أنهما قالا أن الخشوع شرط في صحة الصلاة، وقد حكاه المحب الطبري وقال: هو محمول على أن يحصل في الصلاة في الجملة لا في جميعها، والخلاف في ذلك عند الحنابلة أيضا، وأما قول ابن بطال: فإن قال قائل فإن الخشوع فرض في الصلاة، قيل له بحسب الإنسان أن يقبل على صلاته بقلبه ونيته يريد بذلك وجه الله عز وجل ولا طاقة له بما اعترضه من الخواطر. فحاصل كلامه أن القدر المذكور هو الذي يجب من الخشوع، وما زاد على ذلك فلا. وأنكر ابن المنير إطلاق الفرضية وقال: الصواب أن عدم الخشوع تابع لما يظهر عنه من الآثار وهو أمر متفاوت، فإن أثر نقصا في الواجبات كان حراما وكان الخشوع واجبا وإلا فلا. وقد سئل عن الحكمة في تحذيرهم من النقص في الصلاة برؤيته إياهم دون تحذيرهم برؤية الله تعالى لهم، وهو مقام الإحسان المبين في سؤال جبريل كما تقدم في كتاب الإيمان " اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك " فأجيب بأن في التعليل برؤيته صلى الله عليه وسلم تنبيها على رؤية الله تعالى لهم، فإنهم إذا أحسنوا الصلاة لكون النبي صلى الله عليه وسلم يراهم أيقظهم ذلك إلى مراقبة الله تعالى مع ما تضمنه الحديث من المعجزة له صلى الله عليه وسلم بذلك، ولكونه يبعث شهيدا عليهم يوم القيامة فإذا علموا أنه يراهم تحفظوا في عبادتهم ليشهد لهم بحسن عبادتهم.

(2/226)


89 - باب مَا يَقُولُ بَعْدَ التَّكْبِيرِ
743- حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ
ـــــــ
(1) كذا : ولعله " وكلاهما "

(2/226)


اللَّهُ عَنْهُمَا كَانُوا يَفْتَتِحُونَ الصَّلاَةَ بِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ"
744- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ قَالَ حَدَّثَنَا عُمَارَةُ بْنُ الْقَعْقَاعِ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْكُتُ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَبَيْنَ الْقِرَاءَةِ إِسْكَاتَةً قَالَ أَحْسِبُهُ قَالَ هُنَيَّةً فَقُلْتُ بِأَبِي وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ إِسْكَاتُكَ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ مَا تَقُولُ قَالَ أَقُولُ اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنْ الْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأَبْيَضُ مِنْ الدَّنَسِ اللَّهُمَّ اغْسِلْ خَطَايَايَ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ "
قوله: "باب ما يقول بعد التكبير" في رواية المستملي: "باب ما يقرأ": بدل " ما يقول: "وعليها اقتصر الإسماعيلي. واستشكل إيراد حديث أبي هريرة إذ لا ذكر للقراءة فيه. وقال الزين بن المنير: ضمن قوله ما يقرأ ما يقول من الدعاء قولا متصلا بالقراءة، أو لما كان الدعاء والقراءة يقصد بهما التقرب إلى الله تعالى استغنى بذكر أحدهما عن الآخر كما جاء " علفتها تبنا وماء باردا". وقال ابن رشيد: دعاء الافتتاح يتضمن مناجاة الرب والإقبال عليه بالسؤال، وقراءة الفاتحة تتضمن هذا المعنى، فظهرت المناسبة بين الحديثين. قوله: "كانوا يفتتحون الصلاة" أي القراءة في الصلاة، وكذلك رواه ابن المنذر والجوزقي وغيرهما من طريق أبي عمر الدوري وهو حفص بن عمر شيخ البخاري فيه بلفظ: "كانوا يفتتحون القراءة بالحمد لله رب العالمين " وكذلك رواه البخاري في " جزء القراءة خلف الإمام " عن عمرو بن مرزوق عن شعبة وذكر أنها أبين من رواية حفص بن عمر. قوله: "بالحمد لله رب العالمين" بضم الدال على الحكاية. واختلف في المراد بذلك فقيل: المعنى كانوا يفتتحون بالفاتحة، وهذا قول من أثبت البسملة في أولها، وتعقب بأنها إنما تسمى الحمد فقط، وأجيب بمنع الحصر، ومستنده ثبوت تسميتها بهذه الجملة وهي " الحمد لله رب العالمين " في صحيح البخاري أخرجه في فضائل القرآن من حديث أبي سعيد بن المعلى " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ألا أعلمك أعظم سورة في القرآن " فذكر الحديث وفيه قال: "الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني " وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى. وقيل المعنى كانوا يفتتحون بهذا اللفظ تمسكا بظاهر الحديث، وهذا قول من نفى قراءة البسملة، لكن لا يلزم من قوله كانوا يفتتحون بالحمد أنهم لم يقرؤوا بسم الله الرحمن الرحيم سرا، وقد أطلق أبو هريرة السكوت على القراءة سرا كما في الحديث الثاني من الباب، وقد اختلف الرواة عن شعبة في لفظ الحديث: فرواه جماعة من أصحابه عنه بلفظ: "كانوا يفتتحون بالحمد لله رب العالمين " ورواه آخرون عنه بلفظ: "فلم أسمع أحدا منهم يقرأ ببسم الله الرحمن الرحيم " كذا أخرجه مسلم من رواية أبي داود الطيالسي ومحمد بن جعفر، وكذا أخرجه الخطيب من رواية أبي عمر الدوري شيخ البخاري فيه، وأخرجه ابن خزيمة من رواية محمد بن جعفر باللفظين، وهؤلاء من أثبت أصحاب شعبة، ولا يقال هذا اضطراب من شعبة لأنا نقول قد رواه جماعة من أصحاب قتادة عنه باللفظين، فأخرجه البخاري في " جزء القراءة " والنسائي وابن ماجه من طريق أيوب وهؤلاء والترمذي من طريق أبي عوانة والبخاري في " جزء القراءة " وأبو داود من طريق هشام الدستوائي والبخاري فيه وابن حبان من طريق حماد بن سلمة والبخاري فيه والسراج من طريق همام كلهم عن قتادة باللفظ الأول، وأخرجه

(2/227)


مسلم من طريق الأوزاعي عن قتادة بلفظ: "لم يكونوا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم"، وقد قدح بعضهم في صحته بكون الأوزاعي رواه عن قتادة مكاتبة، وفيه نظر فإن الأوزاعي لم ينفرد به فقد رواه أبو يعلى عن أحمد الدورقي والسراج عن يعقوب الدورقي وعبد الله بن أحمد بن عبد الله السلمي ثلاثتهم عن أبي داود الطيالسي عن شعبة بلفظ: "فلم يكونوا يفتتحون القراءة ببسم الله الرحمن الرحيم". قال شعبة قلت لقتادة: سمعته من أنس؟ قال: نحن سألناه. لكن هذا النفي محمول على ما قدمناه أن المراد أنه لم يسمع منهم البسملة، فيحتمل أن يكونوا يقرءونها سرا، ويؤيده رواية من رواه عنه بلفظ: "فلم يكونوا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم " كذا رواه سعيد بن أبي عروبة عند النسائي وابن حبان وهمام عند الدار قطني وشيبان عند الطحاوي وابن حبان وشعبة أيضا من طريق وكيع عنه عند أحمد أربعتهم عن قتادة. ولا يقال هذا اضطراب من قتادة لأنا نقول: قد رواه جماعة من أصحاب أنس عنه كذلك: فرواه البخاري في " جزء القراءة " والسراج وأبو عوانة في صحيحه من طريق إسحاق بن أبي طلحة والسراج من طريق ثابت البناني والبخاري فيه من طريق مالك بن دينار كلهم عن أنس باللفظ الأول، ورواه الطبراني في الأوسط من طريق إسحاق أيضا وابن خزيمة من طريق ثابت أيضا والنسائي من طريق منصور بن زاذان وابن حبان من طريق أبي قلابة والطبراني من طريق أبي نعامة كلهم عن أنس باللفظ النافي للجهر، فطريق الجمع بين هذه الألفاظ حمل نفي القراءة على نفي السماع ونفي السماع على نفي الجهر، ويؤيده أن لفظ رواية منصور بن زاذان " فلم يسمعنا قراءة بسم الله الرحمن الرحيم"، وأصرح من ذلك رواية الحسن عن أنس عند ابن خزيمة بلفظ: "كانوا يسرون بسم الله الرحمن الرحيم " فاندفع بهذا تعليل من أعله بالاضطراب كابن عبد البر، لأن الجمع إذا أمكن تعين المصير إليه. وأما من قدح في صحته بأن أبا سلمة سعيد بن يزيد سأل أنسا عن هذه المسألة فقال: "إنك لتسألني عن شيء ما أحفظه ولا سألني عنه أحد قبلك " ودعوى أبي شامة أن أنسا سئل عن ذلك سؤالين فسؤال أبي سلمة " هل كان الافتتاح بالبسملة أو الحمدلة " وسؤال قتادة " هل كان يبدأ بالفاتحة أو غيرها " قال: ويدل عليه قول قتادة في صحيح مسلم: "نحن سألناه " انتهى. فليس بجيد، لأن أحمد روى في مسنده بإسناد الصحيحين أن سؤال قتادة نظير سؤال أبي سلمة، والذي في مسلم إنما قاله عقب رواية أبي داود الطيالسي عن شعبة، ولم يبين مسلم صورة المسألة، وقد بينها أبو يعلى والسراج وعبد الله بن أحمد في رواياتهم التي ذكرناها عن أبي داود أن السؤال كان عن افتتاح القراءة بالبسملة، وأصرح من ذلك رواية ابن المنذر عن طريق أبي جابر عن شعبة عن قتادة قال: "سألت أنسا: أيقرأ الرجل في الصلاة بسم الله الرحمن الرحيم؟ فقال: صليت وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر فلم أسمع أحدا منهم يقرأ ببسم الله الرحمن الرحيم " فظهر اتحاد سؤال أبي سلمة وقتادة وغايته أن أنسا أجاب قتادة بالحكم دون أبي سلمة، فلعله تذكره لما سأله قتادة بدليل قوله في رواية أبي سلمة " ما سألني عنه أحد قبلك " أو قاله لهما معا فحفظه قتادة دون أبي سلمة فإن قتادة أحفظ من أبي سلمة بلا نزاع، وإذا انتهى البحث إلى أن محصل حديث أنس نفي الجهر بالبسملة على ما ظهر من طريق الجمع بين مختلف الروايات عنه فمتى وجدت رواية فيها إثبات الجهر قدمت على نفيه، لا لمجرد تقديم رواية المثبت على النافي لأن أنسا يبعد جدا أن يصحب النبي صلى الله عليه وسلم مدة عشر سنين ثم يصحب أبا بكر وعمر وعثمان خمسا وعشرين سنة فلم يسمع منهم الجهر بها في صلاة واحدة، بل لكون أنس اعترف بأنه لا يحفظ هذا الحكم كأنه لبعد عهده به، ثم تذكر منه الجزم بالافتتاح بالحمد جهرا ولم يستحضر الجهر بالبسملة، فيتعين

(2/228)


الأخذ بحديث من أثبت الجهر. وسيأتي الكلام على ذلك في " باب جهر المأموم بالتأمين " إن شاء الله قريبا. وترجم له ابن خزيمة وغيره: "إباحة الإسرار بالبسملة في الجهرية " وفيه نظر لأنه لم يختلف في إباحته، بل في استحبابه، واستدل به المالكية على ترك دعاء الافتتاح، وحديث أبي هريرة الذي بعده يرد عليه، وكأن هذا هو السر في إيراده، وقد تحرر أن المراد بحديث أنس بيان ما يفتتح به القراءة، فليس فيه تعرض لنفي دعاء الافتتاح. "تنبيه": وقع ذكر عثمان في حديث أنس في رواية عمرو بن مرزوق عن شعبة عند البخاري في " جزء القراءة " وكذا في رواية حجاج بن محمد عن شعبة عند أبي عوانة، وهو في رواية شيبان وهشام والأوزاعي. وقد أشرنا إلى روايتهم فيما تقدم. قوله: "حدثنا أبو زرعة" هو ابن عمرو بن جرير البجلي. قوله: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسكت" ضبطناه بفتح أوله من السكوت، وحكى الكرماني عن بعض الروايات بضم أوله من الإسكات، قال الجوهري: يقال تكلم الرجل ثم سكت بغير ألف، فإذا انقطع كلامه فلم يتكلم قلت أسكت. قوله: "إسكاتة" بكسر أوله بوزن إفعالة من السكوت، وهو من المصادر الشاذة نحو أثبته إثباتة، قال الخطابي: معناه سكوت يقتضي بعده كلاما مع قصر المدة فيه، وسياق الحديث يدل على أنه أراد السكوت عن الجهر لا عن مطلق القول، أو السكوت عن القراءة لا عن الذكر. قوله: "قال أحسبه قال هنية" هذه رواية عبد الواحد بن زياد بالظن، ورواه جرير عند مسلم وغيره وابن فضيل عند ابن ماجه وغيره بلفظ: "سكت هنية " بغير تردد، وإنما اختار البخاري رواية عبد الواحد لوقوع التصريح بالتحديث فيها في جميع الإسناد. وقال الكرماني: المراد أنه قال - بدل إسكاتة - هنية. قلت: وليس بواضح، بل الظاهر أنه شك هل وصف الإسكاتة بكونها هنية أم لا، وهنية بالنون بلفظ التصغير، وهو عند الأكثر بتشديد الياء، وذكر عياض والقرطبي أن أكثر رواة مسلم قالوه بالهمزة، وأما النووي فقال: الهمز خطأ. قال: وأصله هنوة فلما صغر صار هنيوة فاجتمعت واو وياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء ثم أدغمت. قال غيره: لا يمنع ذلك إجازة الهمز، فقد تقلب الياء همزة. وقد وقع في رواية الكشميهني هنيهة بقلبها هاء، وهي رواية إسحاق والحميدي في مسنديهما عن جرير. قوله: "بأبي وأمي" الباء متعلقة بمحذوف اسم أو فعل والتقدير أنت مفدي أو أفديك، واستدل به على جواز قول ذلك، وزعم بعضهم أنه من خصائصه صلى الله عليه وسلم. قوله: "إسكاتك" بكسر أوله وهو بالرفع على الابتداء. وقال المظهري شارح المصابيح: هو بالنصب على أنه مفعول بفعل مقدر أي أسألك إسكاتك، أو على نزع الخافض. انتهى. والذي في روايتنا بالرفع للأكثر، ووقع في رواية المستملي والسرخسي بفتح الهمزة وضم السين على الاستفهام. وفي رواية الحميدي " ما تقول في سكتتك بين التكبير والقراءة " ولمسلم: "أرأيت سكوتك " وكله مشعر بأن هناك قولا لكونه قال: "ما تقول " ولم يقل هل تقول؟ نبه عليه ابن دقيق العيد قال: ولعله استدل على أصل القول بحركة الفم كما استدل غيره على القراءة باضطراب اللحية. قلت: وسيأتي من حديث خباب بعد باب، ونقل ابن بطال عن الشافعي أن سبب هذه السكتة للإمام أن يقرأ
ـــــــ
(1) هذا فيه نظر , والصواب تقديم مادل عليه حديث أنس من شرعية الإسرار بالبسملة لصحته وصراحته في هذه المسألة . وكونه نسي ذلك ثم ذكره لايقدح في روايته كما علم ذلك في الأصول والمصطلح . وتحمل رواية من روى الجهر بالبسملة على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجهر بها في بعض الأحيان ليعلم من وراءه أنه يقرأها , وبهذا تجتمع الأحاديث , وقد وردت أحاديث صحيحة تؤيد ما دل عليه حديث أنس من شرعية الإسرار بالبسملة , والله أعلم

(2/229)


المأموم فيها الفاتحة، ثم اعترضه بأنه لو كان كذلك لقال في الجواب: أسكت لكي يقرأ من خلفي. ورده ابن المنير بأنه لا يلزم من كونه أخبره بصفة ما يقول أن لا يكون سبب السكوت ما ذكر. انتهى. وهذا النقل من أصله غير معروف عن الشافعي ولا عن أصحابه، إلا أن الغزالي قال في الإحياء: إن المأموم يقرأ الفاتحة إذا اشتغل الإمام بدعاء الافتتاح. وخولف في ذلك، بل أطلق المتولي وغيره كراهة تقديم المأموم قراءة الفاتحة على الإمام. وفي وجه إن فرغها قبله بطلت صلاته، والمعروف أن المأموم يقرؤها إذا سكت الإمام بين الفاتحة والسورة، وهو الذي حكاه عياض وغيره عن الشافعي، وقد نص الشافعي على أن المأموم يقول دعاء الافتتاح كما يقوله الإمام، والسكتة التي بين الفاتحة والسورة ثبت فيها حديث سمرة عند أبي داود وغيره. قوله: "باعد" المراد بالمباعدة محو ما حصل منها والعصمة عما سيأتي منها، وهو مجاز لأن حقيقة المباعدة إنما هي في الزمان والمكان، وموقع التشبيه أن التقاء المشرق والمغرب مستحيل فكأنه أراد أنه لا يبقى لها منه اقتراب بالكلية. وقال الكرماني: كرر لفظ: "بين " لأن العطف على الضمير المجرور يعاد فيه الخافض. قوله: "نقني" مجاز عن زوال الذنوب ومحو أثرها، ولما كان الدنس في الثوب الأبيض أظهر من غيره من الألوان وقع التشبيه به، قاله ابن دقيق العيد. قوله: "بالماء والثلج والبرد" قال الخطابي: ذكر الثلج والبرد تأكيد، أو لأنهما ما آن لم تمسهما الأيدي ولم يمتهنهما الاستعمال. وقال ابن دقيق العيد: عبر بذلك عن غاية المحو، فإن الثوب الذي يتكرر عليه ثلاثة أشياء منقية يكون في غاية النقاء، قال: ويحتمل أن يكون المراد أن كل واحد من هذه الأشياء مجاز عن صفة يقع بها المحو وكأنه كقوله تعالى: {واعف عنا واغفر لنا وارحمنا} وأشار الطيبي إلى هذا بحثا فقال: يمكن أن يكون المطلوب من ذكر الثلج والبرد بعد الماء شمول أنواع الرحمة والمغفرة بعد العفو لإطفاء حرارة عذاب النار التي هي في غاية الحرارة، ومنه قولهم برد الله مضجعه أي رحمه ووقاه عذاب النار. انتهى. ويؤيده ورود وصف الماء بالبرودة في حديث عبد الله بن أبي أوفى عند مسلم، وكأنه جعل الخطايا بمنزلة جهنم لكونها مسببة عنها، فعبر عن إطفاء حرارتها بالغسل وبالغ فيه باستعمال المبردات ترقيا عن الماء إلى أبرد منه. وقال التوربشتي: خص هذه الثلاثة بالذكر لأنها منزلة من السماء. وقال الكرماني: يحتمل أن يكون في الدعوات الثلاث إشارة إلى الأزمنة الثلاثة " فالمباعدة للمستقبل، والتنقية للحال، والغسل للماضي " انتهى. وكأن تقديم المستقبل للاهتمام بدفع ما سيأتي قبل رفع ما حصل. واستدل بالحديث على مشروعية الدعاء بين التكبير والقراءة خلافا للمشهور عن مالك، وورد فيه أيضا حديث: "وجهت وجهي الخ " وهو عند مسلم من حديث علي لكن قيده بصلاة الليل. وأخرجه الشافعي وابن خزيمة وغيرهما بلفظ: "إذا صلى المكتوبة " واعتمده الشافعي في الأم، وفي الترمذي وصحيح ابن حبان من حديث أبي سعيد الافتتاح بسبحانك اللهم، ونقل الساجي عن الشافعي استحباب الجمع بين التوجيه والتسبيح وهو اختيار ابن خزيمة وجماعة من الشافعية وحديث أبي هريرة أصح ما ورد في ذلك، واستدل به على جواز الدعاء في الصلاة بما ليس في القرآن خلافا للحنفية. ثم هذا الدعاء صدر منه صلى الله عليه وسلم على سبيل المبالغة في إظهار العبودية، وقيل قاله على سبيل التعليم لأمته، واعترض بكونه لو أراد ذلك لجهر به، وأجيب بورود الأمر بذلك في حديث سمرة عند البزار، وفيه ما كان الصحابة عليه من المحافظة على تتبع أحوال النبي صلى الله عليه وسلم في حركاته وسكناته وإسراره وإعلانه حتى حفظ الله بهم الدين، واستدل

(2/230)


به بعض الشافعية على أن الثلج والبرد مطهران، واستبعده ابن عبد السلام، وأبعد منه استدلال بعض الحنفية به على نجاسة الماء المستعمل.

(2/231)


باب حدثنا ابن أبي مريم قال أخبرنا نافع بن عمر
...
90 – باب *745-حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ قَالَ أَخْبَرَنَا نَافِعُ بْنُ عُمَرَ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى صَلاَةَ الْكُسُوفِ فَقَامَ فَأَطَالَ الْقِيَامَ ثُمَّ رَكَعَ فَأَطَالَ الرُّكُوعَ ثُمَّ قَامَ فَأَطَالَ الْقِيَامَ ثُمَّ رَكَعَ فَأَطَالَ الرُّكُوعَ ثُمَّ رَفَعَ ثُمَّ سَجَدَ فَأَطَالَ السُّجُودَ ثُمَّ رَفَعَ ثُمَّ سَجَدَ فَأَطَالَ السُّجُودَ ثُمَّ قَامَ فَأَطَالَ الْقِيَامَ ثُمَّ رَكَعَ فَأَطَالَ الرُّكُوعَ ثُمَّ رَفَعَ فَأَطَالَ الْقِيَامَ ثُمَّ رَكَعَ فَأَطَالَ الرُّكُوعَ ثُمَّ رَفَعَ فَسَجَدَ فَأَطَالَ السُّجُودَ ثُمَّ رَفَعَ ثُمَّ سَجَدَ فَأَطَالَ السُّجُودَ ثُمَّ انْصَرَفَ فَقَالَ قَدْ دَنَتْ مِنِّي الْجَنَّةُ حَتَّى لَوْ اجْتَرَأْتُ عَلَيْهَا لَجِئْتُكُمْ بِقِطَافٍ مِنْ قِطَافِهَا وَدَنَتْ مِنِّي النَّارُ حَتَّى قُلْتُ أَيْ رَبِّ وَأَنَا مَعَهُمْ فَإِذَا امْرَأَةٌ حَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ تَخْدِشُهَا هِرَّةٌ قُلْتُ مَا شَأْنُ هَذِهِ قَالُوا حَبَسَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ جُوعًا لاَ أَطْعَمَتْهَا وَلاَ أَرْسَلَتْهَا تَأْكُلُ قَالَ نَافِعٌ حَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ مِنْ خَشِيشِ أَوْ خَشَاشِ الأَرْضِ
[الحديث 745- طرفه في: 2364]
قوله: "باب" كذا في رواية الأصيلي وكريمة بلا ترجمة، وكذا قال الإسماعيلي: "باب " بلا ترجمة، وسقط من رواية أبي ذر وأبي الوقت، وكذا لم يذكره أبو نعيم. وعلى هذا فمناسبة الحديث غير ظاهرة للترجمة، وعلى تقدير ثبوت لفظ باب فهو كالفصل من الباب الذي قبله كما قررناه غير مرة فله به تعلق أيضا. قال الكرماني: وجه المناسبة أن دعاء الافتتاح مستلزم لتطويل القيام، وحديث الكسوف فيه تطويل القيام فتناسبا. وأحسن منه ما قال ابن رشيد: يحتمل أن تكون المناسبة في قوله: "حتى قلت أي رب أو أنا معهم " لأنه وإن لم يكن فيه دعاء ففيه مناجاة واستعطاف، فيجمعه مع الذي قبله جواز دعاء الله ومناجاته بكل ما فيه خضوع، ولا يختص بما ورد في القرآن خلافا لبعض الحنفية. قوله: "أو أنا معهم" كذا للأكثر بهمزة الاستفهام بعدها واو عاطفة وهي على مقدر. وفي رواية كريمة بحذف الهمزة وهي مقدرة. قوله: "حسبت أنه قال تخدشها" قائل ذلك هو نافع بن عمر راوي الحديث، بينه الإسماعيلي، فالضمير في " أنه " لابن أبي مليكة. قوله: "لا هي أطعمتها" سقط لفظ: "هي " من رواية الكشميهني والحموي. قوله: "تأكل من خشيش - أو خشاش - الأرض" كذا في هذه الرواية على الشك، وكل من اللفظين بمعجمات مفتوح الأول والمراد حشرات الأرض، وأنكر الخطابي رواية خشيش، وضبطها بعضهم بضم أوله على التصغير من لفظ خشاش، فعلى هذا لا إنكار، ورواها بعضهم بحاء مهملة. وقال عياض هو تصحيف. وسيأتي الكلام على بقية فوائده في كتاب الكسوف، وعلى قصة المرأة صاحبة الهرة في كتاب بدء الخلق إن شاء الله تعالى.

(2/231)


91 - باب رَفْعِ الْبَصَرِ إِلَى الإِمَامِ فِي الصَّلاَةِ
وَقَالَتْ عَائِشَةُ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فِي صَلاَةِ الْكُسُوفِ فَرَأَيْتُ جَهَنَّمَ يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا حِينَ رَأَيْتُمُونِي تَأَخَّرْتُ

(2/231)


92 - باب رَفْعِ الْبَصَرِ إِلَى السَّمَاءِ فِي الصَّلاَةِ
750- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَرُوبَةَ قَالَ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ حَدَّثَهُمْ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ فِي صَلاَتِهِمْ فَاشْتَدَّ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ حَتَّى قَالَ لَيَنْتَهُنَّ عَنْ ذَلِكَ أَوْ لَتُخْطَفَنَّ أَبْصَارُهُمْ
قوله: "باب رفع البصر إلى السماء في الصلاة" قال ابن بطال: أجمعوا على كراهة رفع البصر في الصلاة، واختلفوا فيه خارج الصلاة في الدعاء، فكرهه شريح وطائفة، وأجازه الأكثرون لأن السماء قبلة الدعاء كما أن الكعبة قبلة الصلاة. قال عياض: رفع البصر إلى السماء في الصلاة فيه نوع إعراض عن القبلة، وخروج عن هيئة الصلاة. قوله: "حدثنا قتادة" فيه دفع لتعليل ما أخرجه ابن عدي في الكامل فأدخل بين سعيد بن أبي عروبة وقتادة رجلا، وقد أخرجه ابن ماجه من رواية عبد الأعلى بن عبد الأعلى عن سعيد - وهو من أثبت أصحابه - وزاد في أوله بيان سبب هذا الحديث ولفظه: "صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما بأصحابه، فلما قضى الصلاة أقبل عليهم بوجهه " فذكره، وقد رواه عبد الرزاق عن معمر عن قتادة مرسلا لم يذكر نسا، وهي علة غير قادحة لأن سعيدا أعلم بحديث قتادة من معمر، وقد تابعه همام على وصله عن قتادة أخرجه السراج. قوله: "في صلاتهم" زاد مسلم من حديث أبي هريرة " عند الدعاء " فإن حمل المطلق على هذا المقيد اقتضى اختصاص الكراهة بالدعاء الواقع في الصلاة. وقد أخرجه ابن ماجه وابن حبان من حديث ابن عمر بغير تقييد ولفظه "لا ترفعوا أبصاركم إلى السماء" يعني في الصلاة، وأخرجه بغير تقييد أيضا مسلم من حديث جابر بن سمرة والطبراني من حديث أبي سعيد الخدري وكعب بن مالك. وأخرج ابن

(2/233)


أبي شيبة من رواية هشام بن حسان عن محمد بن سيرين " كانوا يلتفتون في صلاتهم حتى نزلت: {قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون} فأقبلوا على صلاتهم ونظروا أمامهم، وكانوا يستحبون أن لا يجاوز بصر أحدهم موضع سجوده". ووصله الحاكم بذكر أبي هريرة فيه، ورفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال في آخره: "فطأطأ رأسه". قوله: "لينتهين" كذا للمستملي والحموي بضم الياء وسكون النون وفتح المثناة والهاء والياء وتشديد النون على البناء للمفعول والنون للتأكيد، وللباقين " لينتهن " بفتح أوله وضم الهاء على البناء للفاعل. قوله: "أو لتخطفن أبصارهم" ولمسلم من حديث جابر بن سمرة " أو لا ترجع إليهم " يعني أبصارهم. واختلف في المراد بذلك: فقيل هو وعيد، وعلى هذا فالفعل المذكور حرام، وأفرط ابن حزم فقال: يبطل الصلاة. وقيل المعنى أنه يخشى على الأبصار من الأنوار التي تنزل بها الملائكة على المصلين كما في حديث أسيد بن حضير الآتي في فضائل القرآن إن شاء الله تعالى، أشار إلى ذلك الداودي، ونحوه في جامع حماد بن سلمة عن أبي مجلز أحد التابعين. و " أو " هنا للتخيير نظير قوله تعالى: {تقاتلونهم أو يسلمون} أي يكون أحد الأمرين إما المقاتلة وإما الإسلام، وهو خبر في معنى الأمر .

(2/234)


93 - باب الِالْتِفَاتِ فِي الصَّلاَةِ
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ قَالَ حَدَّثَنَا أَشْعَثُ بْنُ سُلَيْمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الِالْتِفَاتِ فِي الصَّلاَةِ فَقَالَ هُوَ اخْتِلاَسٌ يَخْتَلِسُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ صَلاَةِ الْعَبْدِ"
[الحديث 751- طرفه في:3291]
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى فِي خَمِيصَةٍ لَهَا أَعْلاَمٌ فَقَالَ شَغَلَتْنِي أَعْلاَمُ هَذِهِ اذْهَبُوا بِهَا إِلَى أَبِي جَهْمٍ وَأْتُونِي بِأَنْبِجَانِيَّةٍ "
قوله: "باب الالتفات في الصلاة" لم يبين المؤلف حكمه، لكن الحديث الذي أورده دل على الكراهة وهو إجماع، لكن الجمهور على أنها للتنزيه. وقال المتولي: يحرم إلا للضرورة، وهو قول أهل الظاهر. وورد في كراهية الالتفات صريحا على غير شرطه عدة أحاديث، منها عند أحمد وابن خزيمة من حديث أبي ذر رفعه: "لا يزال الله مقبلا على العبد في صلاته ما لم يلتفت، فإذا صرف وجهه عنه انصرف " ومن حديث الحارث الأشعري نحوه وزاد: "فإذا صليتم فلا تلتفتوا " وأخرج الأول أيضا أبو داود والنسائي. والمراد بالالتفات المذكور ما لم يستدبر القبلة بصدره أو عنقه كله. وسبب كراهة الالتفات يحتمل أن يكون لنقص الخشوع، أو لترك استقبال القبلة ببعض البدن. قوله: "عن أبيه" هو أبو الشعثاء المحاربي، ووافق أبا الأحوص على هذا الإسناد شيبان عند ابن خزيمة وزائدة عند النسائي ومسعر عند ابن حبان، وخالفهم إسرائيل فرواه عن أشعث عن أبي عطية عن مسروق. ووقع عند البيهقي من رواية مسعر عن أشعث عن أبي وائل، فهذا اختلاف على أشعث، والراجح رواية أبي الأحوص. وقد رواه النسائي من طريق عمارة بن عمير عن أبي عطية عن عائشة ليس بينهما مسروق، ويحتمل أن يكون للأشعث فيه شيخان، أبوه وأبو عطية بناء على أن يكون أبو عطية حمله عن مسروق ثم لقي عائشة فحمله عنها.

(2/234)


وأما الرواية عن أبي وائل فشاذة لأنه لا يعرف من حديثه والله أعلم. قوله: "هو اختلاس" أي اختطاف بسرعة، ووقع في النهاية: والاختلاس افتعال من الخلسة وهي ما يؤخذ سلبا مكابرة، وفيه نظر. وقال غيره: المختلس الذي يخطف من غير غلبة ويهرب ولو مع معاينة المالك له والناهب يأخذ بقوة، والسارق يأخذ في خفية. فلما كان الشيطان قد يشغل المصلي عن صلاته بالالتفات إلى شيء ما بغير حجة يقيمها أشبه المختلس. وقال ابن بزيزة: أضيف إلى الشيطان لأن فيه انقطاعا. من ملاحظة التوجه إلى الحق سبحانه. وقال الطيبي: سمي اختلاسا تصويرا لقبح تلك الفعلة بالمختلس، لأن المصلي يقبل عليه الرب سبحانه وتعالى، والشيطان مرتصد له ينتظر فوات ذلك عليه، فإذا التفت اغتنم الشيطان الفرصة فسلبه تلك الحالة. قوله: "يختلس" كذا للأكثر بحذف المفعول، وللكشميهني: "يختلسه " وهي رواية أبي داود عن مسدد شيخ البخاري. قيل: الحكمة في جعل سجود السهو جابرا للمشكوك فيه دون الالتفات وغيره مما ينقص الخشوع لأن السهو لا يؤاخذ به المكلف، فشرع له الجبر دون العمد ليتيقظ العبد له فيجتنبه. ثم أورد المصنف حديث عائشة في قصة أنبجانية أبي جهم، وقد تقدم الكلام عليه في " باب إذا صلى في ثوب له أعلام " في أوائل الصلاة. ووجه دخوله في الترجمة أن أعلام الخميصة إذا لحظها المصلي وهي على عاتقه كان قريبا من الالتفات ولذلك خلعها معللا بوقوع بصره على أعلامها وسماه شغلا عن صلاته، وكأن المصنف أشار إلى أن علة كراهة الالتفات كونه يؤثر في الخشوع كما وقع في قصة الخميصة. ويحتمل أن يكون أراد أن ما لا يستطاع دفعه معفو عنه، لأن لمح العين يغلب الإنسان ولهذا لم يعد النبي صلى الله عليه وسلم تلك الصلاة. قوله: "شغلني" في رواية الكشميهني: "شغلتني " وهو أوجه، وكذا اختلفوا في " اذهبوا بها " أو " به". قوله: "إلى أبي جهم" كذا للأكثر وهو الصحيح، وللكشميهني جهيم بالتصغير.

(2/235)


94 - باب هَلْ يَلْتَفِتُ لِأَمْرٍ يَنْزِلُ بِهِ أَوْ يَرَى شَيْئًا أَوْ بُصَاقًا فِي الْقِبْلَةِ
وَقَالَ سَهْلٌ الْتَفَتَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَرَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
753- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ حَدَّثَنَا لَيْثٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ رَأَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُخَامَةً فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ وَهُوَ يُصَلِّي بَيْنَ يَدَيْ النَّاسِ فَحَتَّهَا ثُمَّ قَالَ حِينَ انْصَرَفَ إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا كَانَ فِي الصَّلاَةِ فَإِنَّ اللَّهَ قِبَلَ وَجْهِهِ فَلاَ يَتَنَخَّمَنَّ أَحَدٌ قِبَلَ وَجْهِهِ فِي الصَّلاَةِ رَوَاهُ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ وَابْنُ أَبِي رَوَّادٍ عَنْ نَافِعٍ
754- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا لَيْثُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ بَيْنَمَا الْمُسْلِمُونَ فِي صَلاَةِ الْفَجْرِ لَمْ يَفْجَأْهُمْ إِلاَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَشَفَ سِتْرَ حُجْرَةِ عَائِشَةَ فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ وَهُمْ صُفُوفٌ فَتَبَسَّمَ يَضْحَكُ وَنَكَصَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى عَقِبَيْهِ لِيَصِلَ لَهُ الصَّفَّ فَظَنَّ أَنَّهُ يُرِيدُ الْخُرُوجَ وَهَمَّ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يَفْتَتِنُوا فِي صَلاَتِهِمْ فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ أَتِمُّوا صَلاَتَكُمْ فَأَرْخَى السِّتْرَ وَتُوُفِّيَ مِنْ آخِرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ "
قوله: "باب هل يلتفت لأمر ينزل به أو يرى شيئا أو بصاقا في القبلة" الظاهر أن قوله: "في القبلة " يتعلق بقوله: "بصاقا " وأما قوله: "شيئا " فأعم من ذلك، والجامع بين جميع ما ذكر في الترجمة حصول التأمل المغاير للخشوع

(2/235)


وأنه لا يقدح إلا إذا كان لغير حاجة. قوله: "وقال سهل" هو ابن سعد، وهذا طرف من حديث تقدم موصولا في " باب من دخل ليؤم الناس"، ووجه الدلالة منه أنه صلى الله عليه وسلم لم يأمر أبا بكر بالإعادة، بل أشار إليه أن يتمادى على إمامته وكان التفاته لحاجة. قوله في حديث ابن عمر "بين يدي الناس" يحتمل أن يكون متعلقا بقوله: "وهو يصلي " أو بقوله: "رأى نخامة". قوله: "فحتها ثم قال حين انصرف" ظاهره أن الحت وقع منه داخل الصلاة، وقد تقدم من رواية مالك عن نافع غير مقيد بحال الصلاة، وسبق الكلام على فوائده في أواخر أبواب القبلة، وأورده هناك أيضا من رواية أبي هريرة وأبي سعيد وعائشة وأنس من طرق كلها غير مقيدة بحال الصلاة. قوله: "رواه موسى بن عقبة" وصله مسلم من طريقه. قوله: "وابن أبي رواد" اسم أبي رواد ميمون، ووصله أحمد عن عبد الرزاق عن عبد العزيز ابن أبي رواد المذكور وفيه أن الحك كان بعد الفراغ من الصلاة، فالغرض منه على هذا المتابعة في أصل الحديث. ثم أورد المصنف حديث أنس المتقدم في " باب أهل العلم والفضل أحق بالإمامة " قال ابن بطال: وجه مناسبته للترجمة أن الصحابة لما كشف صلى الله عليه وسلم الستر التفتوا إليه، ويدل على ذلك قول أنس " فأشار إليهم " ولولا التفاتهم لما رأوا إشارته ا هـ. ويوضحه كون الحجرة عن يسار القبلة فالناظر إلى إشارة من هو فيها يحتاج إلى أن يلتفت، ولم يأمرهم صلى الله عليه وسلم بالإعادة، بل أقرهم على صلاتهم بالإشارة المذكورة، والله أعلم.

(2/236)


95 - باب وُجُوبِ الْقِرَاءَةِ لِلْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ فِي الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ وَمَا يُجْهَرُ فِيهَا وَمَا يُخَافَتُ
755- حَدَّثَنَا مُوسَى قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ شَكَا أَهْلُ الْكُوفَةِ سَعْدًا إِلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَعَزَلَهُ وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ عَمَّارًا فَشَكَوْا حَتَّى ذَكَرُوا أَنَّهُ لاَ يُحْسِنُ يُصَلِّي فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ فَقَالَ يَا أَبَا إِسْحَاقَ إِنَّ هَؤُلاَءِ يَزْعُمُونَ أَنَّكَ لاَ تُحْسِنُ تُصَلِّي قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ أَمَّا أَنَا وَاللَّهِ فَإِنِّي كُنْتُ أُصَلِّي بِهِمْ صَلاَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَخْرِمُ عَنْهَا أُصَلِّي صَلاَةَ الْعِشَاءِ فَأَرْكُدُ فِي الأُولَيَيْنِ وَأُخِفُّ فِي الأُخْرَيَيْنِ قَالَ ذَاكَ الظَّنُّ بِكَ يَا أَبَا إِسْحَاقَ فَأَرْسَلَ مَعَهُ رَجُلًا أَوْ رِجَالًا إِلَى الْكُوفَةِ فَسَأَلَ عَنْهُ أَهْلَ الْكُوفَةِ وَلَمْ يَدَعْ مَسْجِدًا إِلاَّ سَأَلَ عَنْهُ وَيُثْنُونَ مَعْرُوفًا حَتَّى دَخَلَ مَسْجِدًا لِبَنِي عَبْسٍ فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ أُسَامَةُ بْنُ قَتَادَةَ يُكْنَى أَبَا سَعْدَةَ قَالَ أَمَّا إِذْ نَشَدْتَنَا فَإِنَّ سَعْدًا كَانَ لاَ يَسِيرُ بِالسَّرِيَّةِ وَلاَ يَقْسِمُ بِالسَّوِيَّةِ وَلاَ يَعْدِلُ فِي الْقَضِيَّةِ قَالَ سَعْدٌ أَمَا وَاللَّهِ لاَدْعُوَنَّ بِثَلاَثٍ اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ عَبْدُكَ هَذَا كَاذِبًا قَامَ رِيَاءً وَسُمْعَةً فَأَطِلْ عُمْرَهُ وَأَطِلْ فَقْرَهُ وَعَرِّضْهُ بِالْفِتَنِ وَكَانَ بَعْدُ إِذَا سُئِلَ يَقُولُ شَيْخٌ كَبِيرٌ مَفْتُونٌ أَصَابَتْنِي دَعْوَةُ سَعْدٍ قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ فَأَنَا رَأَيْتُهُ بَعْدُ قَدْ سَقَطَ حَاجِبَاهُ عَلَى عَيْنَيْهِ مِنْ الْكِبَرِ وَإِنَّهُ لَيَتَعَرَّضُ لِلْجَوَارِي فِي الطُّرُقِ يَغْمِزُهُنَّ"
[الحديث755- طرفاه في: 770,758]
756- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ

(2/236)


الصَّامِتِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ "
757- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَدَخَلَ رَجُلٌ فَصَلَّى فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَدَّ وَقَالَ ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ فَرَجَعَ يُصَلِّي كَمَا صَلَّى ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ ثَلاَثًا فَقَالَ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أُحْسِنُ غَيْرَهُ فَعَلِّمْنِي فَقَالَ إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلاَةِ فَكَبِّرْ ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْدِلَ قَائِمًا ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا وَافْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلاَتِكَ كُلِّهَا
[الحديث 757- أطرافه في6667,6252,6251,793]
758- حدثنا أبو نعمان حدثنا أبو عوانة عن عبد الملك بن عمير عن جابر بن سمرة قال : قال سعد " كنت أصلي بهم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاتي العشي لاأخرم عنها : أركد في الأوليين وأحذف في الأخريين .فقال عمر رضي الله عنه : ذلك الظن بك "
قوله: "باب وجوب القراءة للإمام والمأموم في الصلوات كلها في الحضر والسفر" لم يذكر المنفرد لأن حكمه حكم الإمام، وذكر السفر لئلا يتخيل أنه يترخص فيه بترك القراءة كما رخص فيه بحذف بعض الركعات. قوله:"وما يجهر فيها وما يخافت" هو بضم أول كل منهما على البناء للمجهول، وتقدير الكلام وما يجهر به وما يخافت، لأنه لازم فلا يبنى منه، قال ابن رشيد: قوله: "وما يجهر " معطوف على قوله: "في الصلوات " لا على القراءة، والمعنى وجوب القراءة فيما يجهر فيه ويخافت، أي أن الوجوب لا يختص بالسرية دون الجهرية خلافا لمن فرق في المأموم. انتهى. وقد اعتنى البخاري بهذه المسألة فصنف فيها جزءا مفردا سنذكر ما يحتاج إليه في هذا الشرح من فوائده إن شاء الله تعالى. قوله: "حدثنا موسى" هو ابن إسماعيل. قوله: "عن جابر بن سمرة" هو الصحابي، ولأبيه سمرة بن جنادة صحبة أيضا. وقد صرح ابن عيينة بسماع عبد الملك له من جابر أخرجه أحمد وغيره. قوله: "شكا أهل الكوفة سعدا" هو ابن أبي وقاص، وهو خال ابن سمرة الراوي عنه. وفي رواية عبد الرزاق عن معمر عن عبد الملك عن جابر بن سمرة قال: "كنت جالسا عند عمر إذ جاء أهل الكوفة يشكون إليه سعد بن أبي وقاص حتى قالوا إنه لا يحسن الصلاة " انتهى. وفي قوله أهل الكوفة مجاز، وهو من إطلاق الكل على البعض، لأن الذين شكوه بعض أهل الكوفة لا كلهم، ففي رواية زائدة عن عبد الملك في صحيح أبي عوانة " جعل ناس من أهل الكوفة"، ونحوه لإسحاق بن راهويه عن جرير عن عبد الملك وسمى منهم عند سيف والطبراني الجراح بن سنان وقبيصة وأربد الأسديون، وذكر العسكري في الأوائل أن منهم الأشعث بن قيس. قوله: "فعزله" كان عمر بن الخطاب أمر سعد بن أبي وقاص على قتال الفرس في سنة أربع عشرة ففتح الله العراق على يديه، ثم اختط الكوفة سنة سبع عشرة واستمر عليها أميرا إلى سنة إحدى وعشرين في قول خليفة بن خياط، وعند الطبري سنة عشرين، فوقع له مع أهل الكوفة ما ذكر.

(2/237)


قوله: "واستعمل عليهم عمارا" هو ابن ياسر، قال خليفة: استعمل عمارا على الصلاة وابن مسعود على بيت المال وعثمان بن حنيف على مساحة الأرض. انتهى. وكأن تخصيص عمار بالذكر لوقوع التصريح بالصلاة دون غيرها مما وقعت فيه الشكوى. قوله: "فشكوا" ليست هذه الفاء عاطفة على قوله: "فعزله " بل هي تفسيرية عاطفة على قوله شكا عطف تفسير، وقوله: "فعزله واستعمل " اعتراض إذ الشكوى كانت سابقة على العزل، وبينته رواية معمر الماضية. قوله: "حتى ذكروا أنه لا يحسن يصلي" ظاهره أن جهات الشكوى كانت متعددة، ومنها قصة الصلاة. وصرح بذلك في رواية أبي عون الآتية قريبا، فقال عمر: لقد شكوك في كل شيء حتى في الصلاة. وذكر ابن سعد وسيف أنهم زعموا أنه حابى في بيع خمس باعه. وأنه صنع على داره بابا مبوبا من خشب، وكان السوق مجاورا له فكان يتأذى بأصواتهم، فزعموا أنه قال: انقطع التصويت. وذكر سيف أنهم زعموا أنه كان يلهيه الصيد عن الخروج في السرايا. وقال الزبير بن بكار في " كتاب النسب ": رفع أهل الكوفة عليه أشياء كشفها عمر فوجدها باطلة اهـ. ويقويه قول عمر في وصيته " فإني لم أعزله من عجز ولا خيانة " وسيأتي ذلك في مناقب عثمان. قوله: "فأرسل إليه فقال" فيه حذف تقديره فوصل إليه الرسول فجاء إلى عمر، وسيأتي تسمية الرسول. قوله: "يا أبا إسحاق" هي كنية سعد، كني بذلك بأكبر أولاده، وهذا تعظيم من عمر له، وفيه دلالة على أنه لم تقدح فيه الشكوى عنده. قوله: "أما أنا والله" أما بالتشديد وهي للتقسيم، والقسيم هنا محلوف تقديره وأما هم فقالوا ما قالوا. وفيه القسم في الخبر لتأكيده في نفس السامع، وجواب القسم يدل عليه قوله: "فإني كنت أصلي بهم". قوله: "صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم" بالنصب أي مثل صلاة. قوله: "ما أخرم" بفتح أوله وكسر الراء أي لا أنقص، وحكى ابن التين عن بعض الرواة أنه بضم أوله ففعله من الرباعي واستضعفه. قوله: "أصلي صلاة العشاء" كذا هنا بالفتح والمد للجميع، غير الجرجاني فقال: "العشي"، وفي الباب الذي بعده " صلاتي العشي " بالكسر والتشديد لهم إلا الكشميهني، ورواه أبو داود الطيالسي في مسنده عن أبي عوانة بلفظ: "صلاتي العشي " وكذا في رواية عبد الرزاق عن معمر وكذا لزائدة في صحيح أبي عوانة وهو الأرجح، ويدل عليه التثنية، والمراد بهما الظهر والعصر ولا يبعد أن تقع التثنية في الممدود ويراد بهما المغرب والعشاء، لكن يعكر عليه قوله الأخريين لأن المغرب إنما لها أخرى واحدة والله أعلم. وأبدى الكرماني لتخصيص العشاء بالذكر حكمة، وهو أنه لما أتقن فعل هذه الصلاة التي وقتها وقت الاستراحة كان ذلك في غيرها بطريق الأولى وهو حسن، ويقال مثله في الظهر والعصر لأنهما وقت الاشتغال بالقائلة والمعاش. والأولى أن يقال: لعل شكواهم كانت في هاتين الصلاتين خاصة فلذلك خصهما بالذكر. قوله: "فأركد في الأوليين" قال القزاز: أركد أي أقيم طويلا، أي أطول فيهما القراءة. قلت: ويحتمل أن يكون التطويل بما هو أعم من القراءة كالركوع والسجود، لكن المعهود في التفرقة بين الركعات إنما هو في القراءة، وسيأتي قريبا من رواية أبي عون عن جابر بن سمرة " أمد في الأوليين " والأوليين بتحتانيتين تثنية الأولى وكذا الأخريين. قوله: "وأخف" بضم أوله وكسر الخاء المعجمة. وفي رواية الكشميهني وأحذف بفتح أوله وسكون المهملة، وكذا هو في رواية عثمان بن سعيد الدارمي عن موسى بن إسماعيل شيخ البخاري فيه أخرجه البيهقي، وكذا هو في جميع طرق هذا الحديث التي وقفت عليها، إلا أن في رواية محمد بن كثير عن شعبة عند الإسماعيلي بالميم
ـــــــ
(1) هو محمد بن عبيد الله الثقفي

(2/238)


بدل الفاء، والمراد بالحذف حذف التطويل لا حذف أصل القراءة فكأنه قال أحذف الركود. قوله: "ذلك الظن بك" أي هذا الذي تقول هو الذي كنا نظنه، زاد مسعر عن عبد الملك وابن عون معا " فقال سعد أتعلمني الأعراب الصلاة " أخرجه مسلم، وفيه دلالة على أن الذين شكوه لم يكونوا من أهل العلم، وكأنهم ظنوا مشروعية التسوية بين الركعات فأنكروا على سعد التفرقة، فيستفاد منه ذم القول بالرأي الذي لا يستند إلى أصل، وفيه أن القياس في مقابلة النص فاسد الاعتبار، قال ابن بطال: وجه دخول حديث سعد في هذا الباب أنه لما قال: "أركد وأخف " علم أنه لا يترك القراءة في شيء من صلاته، وقد قال إنها مثل صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، واختصره الكرماني فقال: ركود الإمام يدل على قراءته عادة. قال ابن رشيد: ولهذا أتبع البخاري في الباب الذي بعده حديث سعد بحديث أبي قتادة كالمفسر له. قلت: وليس في حديث أبي قتادة هنا ذكر القراءة في الأخريين. نعم هو مذكور من حديثه بعد عشرة أبواب، وإنما تتم الدلالة على الوجوب إذا ضم إلى ما ذكر قوله صلى الله عليه وسلم: "صلوا كما رأيتموني أصلي " فيحصل التطابق بهذا لقوله: "القراءة للإمام " وما ذكر من الجهر والمخافتة، وأما الحضر والسفر وقراءة المأموم فمن غير حديث سعد مما ذكر في الباب، وقد يؤخذ السفر والحضر من إطلاق قوله صلى الله عليه وسلم فإنه لم يفصل بين الحضر والسفر، وأما وجوب القراءة على الإمام فمن حديث عبادة في الباب، ولعل البخاري اكتفى بقوله صلى الله عليه وسلم للمسيء صلاته وهو ثالث أحاديث الباب: "وافعل ذلك في صلاتك كلها"، وبهذا التقرير يندفع اعتراض الإسماعيلي وغيره حيث قال: لا دلالة في حديث سعد على وجوب القراءة، وإنما فيه تخفيفها في الأخريين عن الأوليين. قوله: "فأرسل معه رجلا أو رجالا" كذا لهم بالشك. وفي رواية ابن عيينة " فبعث عمر رجلين " وهذا يدل على أنه أعاده إلى الكوفة ليحصل له الكشف عنه بحضرته ليكون أبعد من التهمة، لكن كلام سيف يدل على أن عمر إنما سأله عن مسألة الصلاة بعد ما عاد به محمد بن مسلمة من الكوفة. وذكر سيف والطبري أن رسول عمر بذلك محمد بن مسلمة قال: وهو الذي كان يقتص آثار من شكى من العمال في زمن عمر. وحكى ابن التين أن عمر أرسل في ذلك عبد الله بن أرقم، فإن كان محفوظا فقد عرف الرجلان. وروى ابن سعد من طريق مليح بن عوف السلمي قال: بعث عمر محمد بن مسلمة وأمرني بالمسير معه وكنت دليلا بالبلاد، فذكر القصة وفيها " وأقام سعدا في مساجد الكوفة يسألهم عنه " وفي رواية إسحاق عن جرير " فطيف به في مساجد الكوفة". قوله: "ويثنون عليه معروفا" في رواية ابن عيينة " فكلهم يثني عليه خيرا". قوله: "لبني عبس" بفتح المهملة وسكون الموحدة بعدها مهملة قبيلة كبيرة من قيس. قوله: "أبا سعدة" بفتح المهملة بعدها مهملة ساكنة، زاد سيف في روايته: "فقال محمد بن مسلمة: أنشد الله رجلا يعلم حقا إلا قال". قوله: "أما" بتشديد الميم، وقسيمها محذوف أيضا، قوله: "نشدتنا " أي طلبت منا القول. قوله: "لا يسير بالسرية" الباء للمصاحبة والسرية بفتح المهملة وكسر الراء المخففة قطعة من الجيش، ويحتمل أن يكون صفة لمحذوف أي لا يسير بالطريقة السرية أي العادلة، والأول أولى لقوله بعد ذلك: "ولا يعدل". والأصل عدم التكرار، والتأسيس أولى من التأكيد. ويؤيده رواية جرير وسفيان بلفظ: "ولا ينفر في السرية". قوله: "في القضية" أي الحكومة. وفي رواية سفيان وسيف " في الرعية". قوله: "قال سعد" في رواية جرير " فغضب سعد". وحكى ابن التين أنه قال: "أعلى تسجع". قوله: "أما والله" بتخفيف الميم حرف استفتاح. قوله: "لأدعون بثلاث" أي عليك، والحكمة في ذلك أنه نفى عنه الفضائل الثلاث وهي الشجاعة حيث قال: "لا ينفر " والعفة حيث قال: "لا

(2/239)


يقسم " والحكمة حيث قال: "لا يعدل " فهذه الثلاثة تتعلق بالنفس والمال والدين، فقابلها بمثلها: فطول العمر يتعلق بالنفس، وطول الفقر يتعلق بالمال، والوقوع في الفتن يتعلق بالدين، ولما كان في الثنتين الأوليين ما يمكن الاعتذار عنه دون الثالثة قابلهما بأمرين دنيويين والثالثة بأمر ديني، وبيان ذلك أن قوله: "لا ينفر بالسرية " يمكن أن يكون حقا لكن رأى المصلحة في إقامته ليرتب مصالح من يغزو ومن يقيم، أو كان له عذر كما وقع وهو في القادسية وقوله: "لا يقسم بالسوية " يمكن أن يكون حقا فإن للإمام تفضيل أهل الغناء في الحرب والقيام بالمصالح، وقوله: "لا يعدل في القضية " هو أشدها لأنه سلب عنه العدل مطلقا وذلك قدح في الدين، ومن أعجب العجب أن سعدا مع كون هذا الرجل واجهة بهذا وأغضبه حتى دعا عليه في حال غضبه راعى العدل والإنصاف في الدعاء عليه، إذ علقه بشرط أن يكون كاذبا وأن يكون الحامل له على ذلك الغرض الدنيوي. قوله: "رياء وسمعة" أي ليراه الناس ويسمعوه فيشهروا ذلك عنه فيكون له بذلك ذكر، وسيأتي مزيد في ذلك في كتاب الرقاق إن شاء الله تعالى. قوله: "وأطل فقره" في رواية جرير " وشدد فقره " وفي رواية سيف " وأكثر عياله " قال الزين ابن المنير: في الدعوات الثلاث مناسبة للحال، أما طول عمره فليراه من سمع بأمره فيعلم كرامة سعد، وأما طول فقره فلنقيض مطلوبه لأن حاله يشعر بأنه طلب أمرا دنيويا، وأما تعرضه للفتن فلكونه قام فيها ورضيها دون أهل بلده". قوله: "فكان بعد" أي أبو سعدة، وقائل ذلك عبد الملك بن عمير بينه جرير في روايته. قوله: "إذا سئل" في رواية ابن عيينة " إذ قيل له كيف أنت". قوله: "شيخ كبير مفتون" قيل لم يذكر الدعوة الأخرى وهي الفقر لكن عموم قوله: "أصابتني دعوة سعد " يدل عليه. قلت: قد وقع التصريح به في رواية الطبراني من طريق أسد بن موسى. وفي رواية أبي يعلى عن إبراهيم بن الحجاج كلاهما عن أبي عوانة ولفظه: "قال عبد الملك: فأنا رأيته يتعرض للإماء في السكك، فإذا سألوه قال: كبير فقير مفتون " وفي رواية إسحاق عن جرير " فافتقر وافتتن " وفي رواية سيف " فعمى واجتمع عنده عشر بنات، وكان إذا سمع بحس المرأة تشبث بها، فإذا أنكر عليه قال: دعوة المبارك سعد " وفي رواية ابن عيينة " ولا تكون فتنة إلا وهو فيها " وفي رواية محمد بن جحادة عن مصعب ابن سعد نحو هذه القصة قال: "وأدرك فتنة المختار فقتل فيها " رواه المخلص في فوائده. ومن طريقه ابن عساكر. وفي رواية سيف أنه عاش إلى فتنة الجماجم وكانت سنة ثلاث وثمانين، وكانت فتنة المختار حين غلب على الكوفة من سنة خمس وستين إلى أن قتل سنة سبع وستين. قوله: "دعوة سعد" أفردها لإرادة الجنس وإن كانت ثلاث دعوات، وكان سعد معروفا بإجابة الدعوة، روى الطبراني من طريق الشعبي قال: "قيل لسعد متى أصبت الدعوة؟ قال: يوم بدر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم استجب لسعد " وروى الترمذي وابن حبان والحاكم من طريق قيس بن أبي حازم عن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم استجب لسعد إذا دعاك" . وفي هذا الحديث من الفوائد سوى ما تقدم جواز عزل الإمام بعض عماله إذا شكى إليه وإن لم يثبت عليه شيء إذا اقتضت ذلك المصلحة، قال مالك: قد عزل عمر سعدا وهو أعدل من يأتي بعده إلى يوم القيامة. والذي يظهر أن عمر عزله حسما لمادة الفتنة، ففي رواية سيف " قال عمر: لولا الاحتياط وأن لا يتقي من أمير مثل سعد لما عزلته". وقيل عزله إيثارا لقربه منه لكونه من أهل الشورى، وقيل لأن مذهب عمر أنه لا يستمر بالعامل أكثر من أربع سنين. وقال المازري: اختلفوا هل يعزل القاضي بشكوى الواحد أو الاثنين أو لا يعزل حتى يجتمع الأكثر على الشكوى منه؟ وفيه استفسار العامل عما قيل فيه، والسؤال

(2/240)


عمن شكى في موضع عمله، والاقتصار في المسألة على من يظن به الفضل. وفيه أن السؤال عن عدالة الشاهد ونحوه يكون ممن يجاوره، وأن تعريض العدل للكشف عن حاله لا ينافي قبول شهادته في الحال. وفيه خطاب الرجل الجليل بكنيته، والاعتذار لمن سمع في حقه كلام يسوؤه. وفيه الفرق بين الافتراء الذي يقصد به السب، والافتراء الذي يقصد به دفع الضرر، فيعزر قائل الأول دون الثاني. ويحتمل أن يكون سعد لم يطلب حقه منهم أو عفا عنهم واكتفى بالدعاء على الذي كشف قناعه في الافتراء عليه دون غيره فإنه صار كالمنفرد بأذيته. وقد جاء في الخبر " من دعا على ظالمه فقد انتصر " فلعله أراد الشفقة عليه بأن عجل له العقوبة في الدنيا، فانتصر لنفسه وراعى حال من ظلمه لما كان فيه من وفور الديانة. ويقال إنه إنما دعا عليه لكونه انتهك حرمة من صحب صاحب الشريعة، وكأنه قد انتصر لصاحب الشريعة. وفيه جواز الدعاء على الظالم المعين بما يستلزم النقص في دينه، وليس هو من طلب وقوع المعصية، ولكن من حيث أنه يؤدي إلى نكاية الظالم وعقوبته. ومن هذا القبيل مشروعية طلب الشهادة وإن كانت تستلزم ظهور الكافر على المسلم، ومن الأول قول موسى عليه السلام: {ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم} الآية. وفيه سلوك الورع في الدعاء، واستدل به على أن الأوليين من الرباعية متساويتان في الطول، وسيأتي البحث في ذلك في الباب الذي بعده. قوله: "عن محمود بن الربيع" في رواية الحميدي عن سفيان " حدثنا الزهري سمعت محمود بن الربيع " ولابن أبي عمر عن سفيان بالإسناد عند الإسماعيلي: "سمعت عبادة بن الصامت " ولمسلم من رواية صالح بن كيسان " عن ابن شهاب أن محمود بن الربيع أخبره أن عبادة بن الصامت أخبره"، وبهذا التصريح بالإخبار يندفع تعليل من أعله بالانقطاع لكون بعض الرواة أدخل بين محمود وعبادة رجلا وهي رواية ضعيفة عند الدار قطني. قوله: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" زاد الحميدي عن سفيان " فيها " كذا في مسنده. وهكذا رواه يعقوب بن سفيان عن الحميدي، أخرجه البيهقي. وكذا لابن أبي عمر عند الإسماعيلي، ولقتيبة وعثمان ابن أبي شيبة عند أبي نعيم في المستخرج، وهذا يعين أن المراد القراءة في نفس الصلاة، قال عياض: قيل يحمل على نفي الذات وصفاتها، لكن الذات غير منتفية فيخص بدليل خارج، ونوزع في تسليم عدم نفي الذات على الإطلاق لأنه إن ادعى أن المراد بالصلاة معناها اللغوي فغير مسلم، لأن ألفاظ الشارع محمولة على عرفه لأنه المحتاج إليه فيه لكونه بعث لبيان الشرعيات لا لبيان موضوعات اللغة، وإذا كان المنفي الصلاة الشرعية استقام دعوى نفي الذات، فعلى هذا لا يحتاج إلى إضمار الإجزاء ولا الكمال، لأنه يؤدي إلى الإجمال كما نقل عن القاضي أبي بكر وغيره حتى مال إلى التوقف، لأن نفي الكمال يشعر بحصول الإجزاء فلو قدر الإجزاء منتفيا لأجل العموم قدر ثابتا لأجل إشعار نفي الكمال بثبوته فيتناقض، ولا سبيل إلى إضمارهما معا لأن الإضمار إنما احتيج إليه للضرورة، وهي مندفعة بإضمار فرد فلا حاجة إلى أكثر منه، ودعوى إضمار أحدهما ليست بأولى من الآخر، قاله ابن دقيق العيد، وفي هذا الأخير نظر لأنا إن سلمنا تعذر الحمل على الحقيقة فالحمل على أقرب المجازين إلى الحقيقة أولى من الحمل على أبعدهما، ونفي الإجزاء أقرب إلى نفي الحقيقة وهو السابق إلى الفهم، ولأنه يستلزم نفي الكمال من غير عكس فيكون أولى، ويؤيده رواية الإسماعيلي من طريق العباس بن الوليد النرسي أحد شيوخ البخاري عن سفيان بهذا الإسناد بلفظ: "لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب " وتابعه على ذلك زياد بن أيوب أحد الإثبات أخرجه الدار قطني، وله شاهد من طريق العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعا بهذا اللفظ، أخرجه ابن خزيمة وابن حبان وغيرهما، ولأحمد

(2/241)


من طريق عبد الله بن سوادة القشيري عن رجل عن أبيه مرفوعا: "لا تقبل صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن " وقد أخرج ابن خزيمة عن محمد بن الوليد القرشي عن سفيان حديث الباب بلفظ: "لا صلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب " فلا يمتنع أن يقال إن قوله: "لا صلاة " نفي بمعنى النهي أي لا تصلوا إلا بقراءة فاتحة الكتاب، ونظيره ما رواه مسلم من طريق القاسم عن عائشة مرفوعا: "لا صلاة بحضرة الطعام " فإنه في صحيح ابن حبان بلفظ: "لا يصلي أحدكم بحضرة الطعام " أخرجه مسلم من طريق حاتم بن إسماعيل وغيره عن يعقوب بن مجاهد عن القاسم، وابن حبان من طريق حسين بن علي وغيره عن يعقوب به. وأخرج له ابن حبان أيضا شاهدا من حديث أبي هريرة بهذا اللفظ، وقد قال بوجوب قراءة الفاتحة في الصلاة الحنفية لكن بنوا على قاعدتهم أنها مع الوجوب ليست شرطا في صحة الصلاة لأن وجوبها إنما ثبت بالسنة، والذي لا تتم الصلاة إلا به فرض، والفرض عندهم لا يثبت بما يزيد على القرآن، وقد قال تعالى: {فاقرؤوا ما تيسر من القرآن} فالفرض قراءة ما تيسر، وتعيين الفاتحة إنما ثبت بالحديث فيكون واجبا يأثم من يتركه وتجزئ الصلاة بدونه، وإذا تقرر ذلك لا ينقضي عجبي ممن يتعمد ترك قراءة الفاتحة منهم وترك الطمأنينة فيصلي صلاة يريد أن يتقرب بها إلى الله تعالى وهو يتعمد ارتكاب الإثم فيها مبالغة في تحقيق مخالفته لمذهب غيره، واستدل به على وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة بناء على أن الركعة الواحدة تسمى صلاة لو تجردت، وفيه نظر لأن قراءتها في ركعة واحدة من الرباعية مثلا يقتضي حصول اسم قراءتها في تلك الصلاة، والأصل عدم وجوب الزيادة على المرة الواحدة، والأصل أيضا عدم إطلاق الكل على البعض، لأن الظهر مثلا كلها صلاة واحدة حقيقة كما صرح به في حديث الإسراء حيث سمى المكتوبات خمسا، وكذا حديث عبادة " خمس صلوات كتبهن الله على العباد " وغير ذلك، فإطلاق الصلاة على ركعة منها يكون مجازا، قال الشيخ تقي الدين: وغاية ما في هذا البحث أن يكون في الحديث دلالة مفهوم على صحة الصلاة بقراءة الفاتحة في كل ركعة واحدة منها، فإن دل دليل خارج منطوق على وجوبها في كل ركعة كان مقدما. انتهى. وقال بمقتضى هذا البحث الحسن البصري رواه عنه ابن المنذر بإسناد صحيح، ودليل الجمهور قوله صلى الله عليه وسلم: "وافعل ذلك في صلاتك كلها " بعد أن أمره بالقراءة. وفي رواية لأحمد وابن حبان: "ثم افعل ذلك في كل ركعة " ولعل هذا هو السر في إيراد البخاري له عقب حديث عبادة " واستدل به على وجوب قراءة الفاتحة على المأموم سواء أسر الإمام أم جهر، لأن صلاته صلاة حقيقة فتنتفي عند انتفاء القراءة إلا إن جاء دليل يقتضي تخصيص صلاة المأموم من هذا العموم فيقدم، قاله الشيخ تقي الدين، واستدل من أسقطها عن المأموم مطلقا كالحنفية بحديث: "من صلى خلف إمام فقراءة الإمام له قراءة " لكنه حديث ضعيف عند الحفاظ، وقد استوعب طرقه وعلله الدار قطني وغيره، واستدل من أسقطها عنه في الجهرية كالمالكية بحديث: "وإذا قرأ فأنصتوا " وهو حديث صحيح أخرجه مسلم من حديث أبي موسى الأشعري، ولا دلالة فيه لإمكان الجمع بين الأمرين: فينصت فيما عدا الفاتحة، أو ينصت إذا قرأ الإمام ويقرأ إذا سكت، وعلى هذا فيتعين على الإمام السكوت في الجهرية ليقرأ المأموم لئلا يوقعه في ارتكاب النهي حيث لا ينصت إذا قرأ الإمام، وقد ثبت الإذن بقراءة المأموم الفاتحة في الجهرية بغير قيد، وذلك فيما أخرجه البخاري في " جزء القراءة " والترمذي وابن حبان وغيرهما من رواية مكحول عن محمود بن الربيع عن عبادة " أن النبي صلى الله عليه وسلم ثقلت عليه القراءة في الفجر، فلما فرغ قال: لعلكم تقرءون خلف إمامكم؟ قلنا: نعم. قال: فلا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها" ، والظاهر أن حديث الباب مختصر

(2/242)


من هذا وكان هذا سببه والله أعلم. وله شاهد من حديث أبي قتادة عند أبي داود والنسائي، ومن حديث أنس عند ابن حبان، وروى عبد الرزاق عن سعيد بن جبير قال: لابد من أم القرآن، ولكن من مضى كان الإمام يسكت ساعة قدر ما يقرأ المأموم بأم القرآن. "فائدة": زاد معمر عن الزهري في آخر حديث الباب: "فصاعدا " أخرجه النسائي وغيره، واستدل به على وجوب قدر زائد على الفاتحة. وتعقب بأنه ورد لدفع توهم قصر الحكم على الفاتحة، قال البخاري في " جزء القراءة ": هو نظير قوله: "تقطع اليد في ربع دينار فصاعدا " وادعى ابن حبان والقرطبي وغيرهما الإجماع على عدم وجوب قدر زائد عليها، وفيه نظر لثبوته عن بعض الصحابة ومن بعدهم فيما رواه ابن المنذر وغيره، ولعلهم أرادوا أن الأمر استقر على ذلك، وسيأتي بعد ثمانية أبواب حديث أبي هريرة " وإن لم تزد على أم القرآن أجزأت " ولابن خزيمة من حديث ابن عباس " أن النبي صلى الله عليه وسلم قام فصلى ركعتين لم يقرأ فيها إلا بفاتحة الكتاب" حديث أبي هريرة في قصة المسيء صلاته سيأتي الكلام عليه بعد أربعة وعشرين بابا، وموضع الحاجة منه هنا قوله: "ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن " وكأنه أشار بإبراده عقب حديث عبادة أن الفاتحة إنما تتحتم على من يحسنها، وأن من لا يحسنها يقرأ بما تيسر عليه، وأن إطلاق القراءة في حديث أبي هريرة مقيد بالفاتحة كما في حديث عبادة والله أعلم. قال الخطابي: قوله: "ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن " ظاهر الإطلاق التخيير، لكن المراد به فاتحة الكتاب لمن أحسنها بدليل حديث عبادة، وهو كقوله تعالى: {فما استيسر من الهدى} ثم عينت السنة المراد. وقال النووي: قوله: "ما تيسر " محمول على الفاتحة فإنها متيسرة، أو على ما زاد من الفاتحة بعد أن يقرأها، أو على من عجز عن الفاتحة. وتعقب بأن قوله: "ما تيسر " لا إجمال فيه حتى يبين بالفاتحة، والتقييد بالفاتحة ينافي التيسير الذي يدل عليه الإطلاق فلا يصح حمله عليه. وأيضا فسورة الإخلاص متيسرة وهي أقصر من الفاتحة فلم ينحصر التيسير في الفاتحة، وأما الحمل على ما زاد فمبني على تسليم تعين الفاتحة وهي محل النزاع. وأما حمله على من عجز فبعيد، والجواب القوي عن هذا أنه ورد في حديث المسيء صلاته تفسير ما تيسر بالفاتحة كما أخرجه أبو داود من حديث رفاعة بن رافع رفعه: "وإذا قمت فتوجهت فكبر ثم اقرأ بأم القرآن وبما شاء الله أن تقرأ، وإذا ركعت فضع راحتيك على ركبتيك " الحديث. ووقع فيه في بعض طرقه: "ثم اقرأ إن كان معك قرآن، فإن لم يكن فاحمد الله وكبر وهلل " فإذا جمع بين ألفاظ الحديث كان تعين الفاتحة هو الأصل لمن معه قرآن، فإن عجز عن تعلمها وكان معه شيء من القرآن قرأ ما تيسر، وإلا انتقل إلى الذكر. ويحتمل الجمع أيضا أن يقال: المراد بقوله: "فاقرأ ما تيسر معك من القرآن " أي بعد الفاتحة، ويؤيده حديث أبي سعيد عند أبي داود بسند قوي " أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسر" .

(2/243)


96 - باب الْقِرَاءَةِ فِي الظُّهْرِ
759- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ مِنْ صَلاَةِ الظُّهْرِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَتَيْنِ يُطَوِّلُ فِي الأُولَى وَيُقَصِّرُ فِي الثَّانِيَةِ وَيُسْمِعُ الْآيَةَ أَحْيَانًا وَكَانَ يَقْرَأُ فِي الْعَصْرِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَتَيْنِ وَكَانَ يُطَوِّلُ فِي الأُولَى وَكَانَ يُطَوِّلُ فِي الرَّكْعَةِ الأُولَى مِنْ صَلاَةِ الصُّبْحِ وَيُقَصِّرُ فِي الثَّانِيَةِ "

(2/243)


[الحديث 759 – أطرافه : 779.778.776.762]
760- حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ حَدَّثَنِي عُمَارَةُ عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ قَالَ سَأَلْنَا خَبَّابًا أَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ قَالَ نَعَمْ قُلْنَا بِأَيِّ شَيْءٍ كُنْتُمْ تَعْرِفُونَ قَالَ بِاضْطِرَابِ لِحْيَتِهِ "
قوله: "باب القراءة في الظهر" هذه الترجمة والتي بعدها يحتمل أن يكون المراد بهما إثبات القراءة فيهما وأنها تكون سرا إشارة إلى من خالف في ذلك كابن عباس كما سيأتي البحث فيه بعد ثمانية أبواب، ويحتمل أن يراد به تقدير المقروء أو تعينه، والأول أظهر لكونه لم يتعرض في البابين لإخراج شيء مما يتعلق بالاحتمال الثاني، وقد أخرج مسلم وغيره في ذلك أحاديث مختلفة سيأتي بعضها، وجمع بينها بوقوع ذلك في أحوال متغايرة، إما لبيان الجواز أو لغير ذلك من الأسباب، واستدل ابن العربي باختلافها على عدم مشروعية سورة معينة في صلاة معينة، وهو واضح فيما اختلف لا فيما لم يختلف كتنزيل وهل أتى في صبح الجمعة. قوله: "حدثنا شيبان" هو ابن عبد الرحمن، ويحيى هو ابن أبي كثير. قوله: "عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه" في رواية الجوزقي من طريق عبيد الله بن موسى عن شيبان التصريح بالإخبار ليحيى من عبد الله ولعبد الله من أبيه، وكذا للنسائي من رواية الأوزاعي عن يحيى لكن بلفظ التحديث فيهما، وكذا عنده من رواية أبي إبراهيم القناد عن يحيى حدثني عبد الله فأمن بذلك تدليس يحيى. قوله: "الأوليين" بتحتانيتين الأولى. قوله: "صلاة الظهر" فيه جواز تسمية الصلاة بوقتها. قوله: "وسورتين" أي في كل ركعة سورة كما سيأتي صريحا في الباب الذي بعده، واستدل به على أن قراءة سورة أفضل من قراءة قدرها من طويلة قاله النووي، وزاد البغوي: ولو قصرت السورة عن المقروء، كأنه مأخوذ من قوله كان يفعل، لأنها تدل على الدوام أو الغالب قوله: "يطول في الأولى ويقصر في الثانية" قال الشيخ تقي الدين: كان السبب في ذلك أن النشاط في الأولى يكون أكثر فناسب التخفيف في الثانية حذرا من الملل. انتهى. وروى عبد الرزاق عن معمر عن يحيى في آخر هذا الحديث: "فظننا أنه يريد بذلك أن يدرك الناس الركعة"، ولأبي داود وابن خزيمة نحوه من رواية أبي خالد عن سفيان عن معمر، وروى عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء قال: إني لأحب أن يطول الإمام الركعة الأولى من كل صلاة حتى يكثر الناس، واستدل به على استحباب تطويل الأولى على الثانية وسيأتي في باب مفرد، وجمع بينه وبين حديث سعد الماضي حيث قال: "أمد في الأوليين " أن المراد تطويلهما على الأخريين لا التسوية بينهما في الطول. وقال من استحب استواءهما: إنما طالت الأولى بدعاء الافتتاح والتعوذ، وأما في القراءة فهما سواء، ويدل عليه حديث أبي سعيد عند مسلم: "كان يقرأ في الظهر في الأوليين في كل ركعة قدر ثلاثين آية " وفي رواية لابن ماجه أن الذين حزروا ذلك كانوا ثلاثين من الصحابة، وادعى ابن حبان أن الأولى إنما طالت على الثانية بالزيادة في الترتيل فيها مع استواء المقروء فيهما، وقد روى مسلم من حديث حفصة " أنه صلى الله عليه وسلم كان يرتل السورة حتى تكون أطول من أطول منها" ، واستدل به بعض الشافعية على جواز تطويل الإمام في الركوع لأجل الداخل، قال القرطبي: ولا حجة فيه، لأن الحكمة لا يعلل بها لخفائها أو لعدم انضباطها، ولأنه لم يكن يدخل في الصلاة يريد تقصير تلك الركعة ثم يطيلها لأجل الآتي، وإنما كان يدخل فيها ليأتي بالصلاة على سنتها من

(2/244)


تطويل الأولى، فافترق الأصل والفرع فامتنع الإلحاق. انتهى. وقد ذكر البخاري في " جزء القراءة " كلاما معناه أنه لم يرد عن أحد من السلف في انتظار الداخل في الركوع شيء والله أعلم. ولم يقع في حديث أبي قتادة هذا هنا ذكر القراءة في الأخريين، فتمسك به بعض الحنفية على إسقاطها فيهما، لكنه ثبت في حديثه من وجه آخر كما سيأتي من حديثه بعد عشرة أبواب. قوله: "ويسمع الآية أحيانا" في الرواية الآتية " ويسمعنا " وكذا أخرجه الإسماعيلي من رواية شيبان، وللنسائي من حديث البراء " كنا نصلي خلف النبي صلى الله عليه وسلم الظهر فنسمع منه الآية بعد الآية من سورة لقمان والذاريات " ولابن خزيمة من حديث أنس نحوه لكن قال: "بسبح اسم ربك الأعلى وهل أتاك حديث الغاشية " واستدل به على جواز الجهر في السرية وأنه لا سجود على من فعل ذلك خلافا لمن قال ذلك من الحنفية وغيرهم سواء قلنا كان يفعل ذلك عمدا لبيان الجواز أو بغير قصد للاستغراق في التدبر، وفيه حجة على من زعم أن الإسرار شرط لصحة الصلاة السرية. وقوله: "أحيانا " يدل على تكرر ذلك منه. وقال ابن دقيق العيد: فيه دليل على جواز الاكتفاء بظاهر الحال في الأخبار دون التوقف على اليقين، لأن الطريق إلى العلم بقراءة السورة في السرية لا يكون إلا بسماع كلها، وإنما يفيد يقين ذلك لو كان في الجهرية، وكأنه مأخوذ من سماع بعضها مع قيام القرينة على قراءة باقيها.ويحتمل أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم كان يخبرهم عقب الصلاة دائما أو غالبا بقراءة السورتين، وهو بعيد جدا والله أعلم. قوله: "حدثنا عمر" هو ابن حفص بن غياث. قوله: "حدثني عمارة" هو ابن عمير كما في الباب الذي بعده. قوله: "عن أبي معمر" هو عبد الله بن سخبرة بفتح المهملة والموحدة بينهما خاء معجمة ساكنة الأزدي، وأفاد الدمياطي أن لأبيه صحبة، ووهمه بعضهم في ذلك فإن الصحابي أخرج حديثه الترمذي وقال في سياقه " عن سخبرة وليس بالأزدي". قلت: لكن جزم البخاري وابن أبي خيثمة وابن حبان بأنه الأزدي، والعلم عند الله. قوله: "باضطراب لحيته" فيه الحكم بالدليل لأنهم حكموا باضطراب لحيته على قراءته، لكن لا بد من قرينة تعين القراءة دون الذكر والدعاء مثلا لأن اضطراب اللحية يحصل بكل منهما، وكأنهم نظروه بالصلاة الجهرية لأن ذلك المحل منها هو محل القراءة لا الذكر والدعاء، وإذا انضم إلى ذلك قول أبي قتادة " كان يسمعنا الآية أحيانا " قوي الاستدلال، والله أعلم. وقال بعضهم: احتمال الذكر ممكن لكن جزم الصحابي بالقراءة مقبول، لأنه أعرف بأحد المحتملين فيقبل تفسيره، واستدل به المصنف على مخافتته القراءة في الظهر والعصر كما سيأتي، وعلى رفع بصر المأموم إلى الإمام كما مضى، واستدل به البيهقي على أن الإسرار بالقراءة لا بد فيه من إسماع المرء نفسه، وذلك لا يكون إلا بتحريك اللسان والشفتين، بخلاف ما لو أطبق شفتيه وحرك لسانه بالقراءة فإنه لا تضطرب بذلك لحيته فلا يسمع نفسه. انتهى وفيه نظر لا يخفى.

(2/245)


97 - باب الْقِرَاءَةِ فِي الْعَصْرِ
761- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ قَالَ قُلْتُ لِخَبَّابِ بْنِ الأَرَتِّ أَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ قَالَ نَعَمْ قَالَ قُلْتُ بِأَيِّ شَيْءٍ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ قِرَاءَتَهُ قَالَ بِاضْطِرَابِ لِحْيَتِهِ "

(2/245)


762- حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ مِنْ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَةٍ سُورَةٍ وَيُسْمِعُنَا الْآيَةَ أَحْيَانًا "
قوله: "باب القراءة في العصر" أورد فيه حديث خباب المذكور قبله، وكذا حديث أبي قتادة مختصرا، وقد تقدم الكلام عليهما في الباب الذي قبله وعلى ما يؤخذ من الترجمة تصريحا أو إشارة. قوله: "قلنا" في رواية الحموي والمستملي: "قلت لخباب". قوله: "ابن الأرت" بفتح الراء وتشديد المثناة الفوقانية.قوله: "هشام" هو الدستوائي.

(2/246)


98 - باب الْقِرَاءَةِ فِي الْمَغْرِبِ
763- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ إِنَّ أُمَّ الْفَضْلِ سَمِعَتْهُ وَهُوَ يَقْرَأُ وَالْمُرْسَلاَتِ عُرْفًا فَقَالَتْ يَا بُنَيَّ وَاللَّهِ لَقَدْ ذَكَّرْتَنِي بِقِرَاءَتِكَ هَذِهِ السُّورَةَ إِنَّهَا لاَخِرُ مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ بِهَا فِي الْمَغْرِبِ "
[الحديث 763- طرفه في 4429]
764- حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ قَالَ قَالَ لِي زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ مَا لَكَ تَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِقِصَارٍ وَقَدْ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ بِطُولَى الطُّولَيَيْنِ
قوله: "باب القراءة في المغرب" المراد تقديرها لا إثباتها لكونها جهرية، بخلاف ما تقدم في " باب القراءة في الظهر " من أن المراد إثباتها. قوله: "أن أم الفضل" هي والدة ابن عباس الراوي عنها، وبذلك صرح الترمذي في روايته فقال: "عن أمه أم الفضل " وقد تقدم في المقدمة أن اسمها لبابة بنت الحارث الهلالية، ويقال إنها أول امرأة أسلمت بعد خديجة، والصحيح أخت عمر زوج سعيد بن زيد لما سيأتي في المناقب من حديثه " لقد رأيتني وعمر موثقي وأخته على الإسلام " واسمها فاطمة. قوله: "سمعته" أي سمعت ابن عباس، وفيه التفات لأن السياق يقتضي أن يقول سمعتني. قوله: "لقد ذكرتني" أي شيئا نسيته، وصرح عقيل في روايته عن ابن شهاب أنها آخر صلوات النبي صلى الله عليه وسلم ولفظه: "ثم ما صلى لنا بعدها حتى قبضه الله " أورده المصنف في " باب الوفاة " وقد تقدم في " باب إنما جعل الإمام ليؤتم به " من حديث عائشة أن الصلاة التي صلاها النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه في مرض موته كانت الظهر، وأشرنا إلى الجمع بينه وبين حديث أم الفضل هذا بأن الصلاة التي حكتها عائشة كانت في المسجد، والتي حكتها أم الفضل كانت في بيته كما رواه النسائي، لكن يعكر عليه رواية ابن إسحاق عن ابن شهاب في هذا الحديث بلفظ: "خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عاصب رأسه في مرضه فصلى المغرب " الحديث أخرجه الترمذي، ويمكن حمل قولها " خرج إلينا " أي من مكانه الذي كان راقدا فيه إلى من في البيت فصلى بهم، فتلتئم الروايات. قوله: "يقرأ بها" هو في موضع الحال أي سمعته في حال قراءته. قوله: "عن ابن أبي مليكة" في رواية عبد الرزاق عن ابن جريج " حدثني ابن أبي مليكة " ومن طريقة أخرجه أبو داود وغيره. قوله: "عن عروة" في رواية الإسماعيلي من طريق حجاج بن محمد عن ابن جريج " سمعت ابن أبي مليكة أخبرني عروة أن مروان أخبره". قوله: "قال لي زيد بن ثابت مالك تقرأ" كان مروان حينئذ أميرا على المدينة من قبل معاوية. قوله: "بقصار" كذا للأكثر بالتنوين وهو عوض عن

(2/246)


المضاف إليه. وفي رواية الكشميهني: "بقصار المفصل " وكذا للطبراني عن أبي مسلم الكجي، وللبيهقي من طريق الصغاني كلاهما عن أبي عاصم شيخ البخاري فيه، وكذا في جميع الروايات عند أبي داود والنسائي وغيرهما، لكن في رواية النسائي: "بقصار السور " وعند النسائي من رواية أبي الأسود عن عروة عن زيد بن ثابت أنه قال لمروان " أبا عبد الملك، أتقرأ في المغرب بقل هو الله أحد وإنا أعطيناك الكوثر"، وصرح الطحاوي من هذا الوجه بالإخبار بين عروة وزيد، فكأن عروة سمعه من مروان عن زيد ثم لقي زيدا فأخبره. قوله: "وقد سمعت" استدل به ابن المنير على أن ذلك وقع منه صلى الله عليه وسلم نادرا، قال: لأنه لو لم يكن كذلك لقال كان يفعل يشعر بأن عادته كانت كذلك. انتهى. وغفل عما في رواية البيهقي من طريق أبي عاصم شيخ البخاري فيه بلفظ: "لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ" ، ومثله في رواية حجاج عن ابن جريج عند الإسماعيلي. قوله: "بطولي الطوليين" أي بأطول السورتين الطويلتين وطولي تأنيث أطول، والطوليين بتحتانيتين تثنية طولى، وهذه رواية الأكثر. ووقع في رواية كريمة: "بطول " بضم الطاء وسكون الواو، ووجهه الكرماني بأنه أطلق المصدر وأراد الوصف أي كان يقرأ بمقدار طول الطوليين وفيه نظر لأنه يلزم منه أن يكون قرأ بقدر السورتين، وليس هو المراد كما سنوضحه. وحكى الخطابي أنه ضبطه عن بعضهم بكسر الطاء وفتح الواو. قال: وليس بشيء، لأن الطول الحبل ولا معنى له هنا. انتهى. ووقع في رواية الإسماعيلي: "بأطول الطوليين " بالتذكير، ولم يقع تفسيرهما في رواية البخاري. ووقع في رواية أبي الأسود المذكورة " بأطول الطوليين المص " وفي رواية أبي داود " قال قلت وما طولي الطوليين؟ قال: الأعراف " وبين النسائي في رواية له أن التفسير من قول عروة ولفظه: "قال قلت يا أبا عبد الله " وهي كنية عروة. وفي رواية البيهقي " قال فقلت لعروة". وفي رواية الإسماعيلي: "قال ابن أبي مليكة وما طولي الطوليين " زاد أبو داود " قال - يعني ابن جريج - وسألت أنا ابن أبي مليكة فقال لي من قبل نفسه المائدة والأعراف " كذا رواه عن الحسن بن علي عن عبد الرزاق. وللجوزقي من طريق عبد الرحمن بن بشر عن عبد الرزاق مثله لكن قال: "الأنعام " بدل المائدة وكذا في رواية حجاج بن محمد والصغاني المذكورتين، وعند أبي مسلم الكجي عن أبي عاصم بدل الأنعام يونس أخرجه الطبراني وأبو نعيم في المستخرج، فحصل الاتفاق على تفسير الطولي بالأعراف، وفي تفسير الأخرى ثلاثة أقوال المحفوظ منها الأنعام، قال ابن بطال: البقرة أطول السبع الطوال فلو أرادها لقال طولى الطوال، فلما لم يردها دل على أنه أراد الأعراف لأنها أطول السور بعد البقرة. وتعقب بأن النساء أطول من الأعراف، وليس هذا التعقيب بمرضي لأنه اعتبر عدد الآيات وعدد آيات الأعراف أكثر من عدد آيات النساء وغيرها من السبع بعد البقرة والمتعقب اعتبر عدد الكلمات لأن كلمات النساء تزيد على كلمات الأعراف بمائتي كلمة. وقال ابن المنير: تسمية الأعراف والأنعام بالطوليين إنما هو لعرف فيهما لا أنهما أطول من غيرهما والله أعلم. واستدل بهذين الحديثين على امتداد وقت المغرب، وعلى استحباب القراءة فيها بغير قصار المفصل، وسيأتي البحث في ذلك في الباب الذي بعده.

(2/247)


بابا الجهر في المغرب
...
99 - باب الْجَهْرِ فِي الْمَغْرِبِ
765- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ فِي الْمَغْرِبِ بِالطُّورِ"
[الحديث765- أطرافه في: 4854,4023,3050]

(2/247)


قوله: "باب الجهر في المغرب" اعترض الزين بن المنير على هذه الترجمة والتي بعدها بأن الجهر فيهما لا خلاف فيه، وهو عجيب لأن الكتاب موضوع لبيان الأحكام من حيث هي، وليس هو مقصورا على الخلافيات.
قوله: "عن محمد بن جبير" في رواية ابن خزيمة من طريق سفيان عن الزهري " حدثني محمد ابن جبير". قوله: "قرأ في المغرب بالطور" في رواية ابن عساكر: "يقرأ: { وكذا هو في الموطأ وعند مسلم، زاد المصنف في الجهاد من طريق محمد بن عمرو عن الزهري " وكان جاء في أسارى بدر " ولابن حبان من طريق محمد بن عمرو عن الزهري " في فداء أهل بدر " وزاد الإسماعيلي من طريق معمر " وهو يومئذ مشرك " وللمصنف في المغازي من طريق معمر أيضا في آخره قال: "وذلك أول ما وقر الإيمان في قلبي " وللطبراني من رواية أسامة بن زيد عن الزهري نحوه وزاد: "فأخذني من قراءته الكرب " ولسعيد بن منصور عن هشيم عن الزهري " فكأنما صدع قلبي حين سمعت القرآن " واستدل به على صحة أداء ما تحمله الراوي في حال الكفر، وكذا الفسق إذا أداه في حال العدالة. وستأتي الإشارة إلى زوائد أخرى فيه لبعض الرواة. قوله: "بالطور" أي بسورة الطور. وقال ابن الجوزي: يحتمل أن تكون الباء بمعنى من كقوله تعالى: {عينا يشرب بها عباد الله" وسنذكر ما فيه قريبا. قال الترمذي: ذكر عن مالك أنه كره أن يقرأ في المغرب بالسور الطوال نحو الطور والمرسلات. وقال الشافعي: لا أكره ذلك بل أستحبه. وكذا نقله البغوي في شرح السنة عن الشافعي، والمعروف عند الشافعية أنه لا كراهية في ذلك ولا استحباب. وأما مالك فاعتمد العمل بالمدينة بل وبغيرها. قال ابن دقيق العيد: استمر العمل على تطويل القراءة في الصبح وتقصيرها في المغرب، والحق عندنا أن ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك وثبتت مواظبته عليه فهو مستحب، وما لم تثبت مواظبته عليه فلا كراهة قيه. قلت: الأحاديث التي ذكرها البخاري في القراءة هنا ثلاثة مختلفة المقادير لأن الأعراف من السبع الطوال، والطور من طوال المفصل، والمرسلات من أوساطه. وفي ابن حبان من حديث ابن عمر أنه قرأ بهم في المغرب بالذين كفروا وصدوا عن سبيل الله، ولم أر حديثا مرفوعا فيه التنصيص على القراءة فيها بشيء من قصار المفصل إلا حديثا في ابن ماجه عن ابن عمر نص فيه على الكافرون والإخلاص، ومثله لابن حبان عن جابر بن سمرة. فأما حديث ابن عمر فظاهر إسناده الصحة إلا أنه معلول، قال الدار قطني: أخطأ فيه بعض رواته. وأما حديث جابر بن سمرة ففيه سعيد بن سماك وهو متروك، والمحفوظ أنه قرأ بهما في الركعتين بعد المغرب واعتمد بعض أصحابنا وغيرهم حديث سليمان بن يسار عن أبي هريرة أنه قال: "ما رأيت أحدا أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم من فلان، قال سليمان: فكان يقرأ في الصبح بطوال المفصل وفي المغرب بقصار المفصل " الحديث أخرجه النسائي وصححه ابن خزيمة وغيره. وهذا يشعر بالمواظبة على ذلك، لكن في الاستدلال به نظر يأتي مثله في " باب جهر الإمام بالتأمين " بعد ثلاثة عشر بابا. نعم حديث رافع الذي تقدم في المواقيت أنهم كانوا ينتضلون بعد صلاة المغرب يدل على تخفيف القراءة فيها، وطريق الجمع بين هذه الأحاديث أنه صلى الله عليه وسلم كان أحيانا يطيل القراءة في المغرب إما لبيان الجواز وإما لعلمه بعدم المشقة على المأمومين، وليس في حديث جبير بن مطعم دليل على أن ذلك تكرر منه، وأما حديث زيد بن ثابت ففيه إشعار بذلك لكونه أنكر على مروان المواظبة على القراءة بقصار المفصل، ولو كان مروان يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم واظب على ذلك لاحتج به على زيد، لكن لم يرد زيد منه فيما يظهر المواظبة على القراءة بالطوال، وإنما أراد منه أن يتعاهد ذلك كما رآه من النبي صلى الله عليه وسلم. وفي حديث أم الفضل إشعار بأنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الصحة بأطول من المرسلات لكونه كان في

(2/248)


حال شدة مرضه وهو مظنة التخفيف، وهو يرد على أبي داود ادعاء نسخ التطويل لأنه روى عقب حديث زيد بن ثابت من طريق عروة أنه كان يقرأ في المغرب بالقصار، قال: وهذا يدل على نسخ حديث زيد، ولم يبين وجه الدلالة، وكأنه لما رأى عروة راوي الخبر عمل بخلافه حمله على أنه اطلع على ناسخة، ولا يخفى بعد هذا الحمل، وكيف تصح دعوى النسخ وأم الفضل تقول: إن آخر صلاة صلاها بهم قرأ بالمرسلات. قال ابن خزيمة في صحيحه: هذا من الاختلاف المباح، فجائز للمصلي أن يقرأ في المغرب وفي الصلوات كلها بما أحب، إلا أنه إذا كان إماما استحب له أن يخفف في القراءة كما تقدم ا هـ. وهذا أولى من قول القرطبي: ما ورد في مسلم وغيره من تطويل القراءة فيما استقر عليه التقصير أو عكسه فهو متروك، وادعى الطحاوي أنه لا دلالة في شيء الأحاديث الثلاثة على تطويل القراءة، لاحتمال أن يكون المراد أنه قرأ بعض السورة. ثم استدل لذلك بما رواه من طريق هشيم عن الزهري في حديث جبير بلفظ: فسمعته يقول: {إن عذاب ربك لواقع} قال فأخبر أن الذي سمعه من هذه السورة هي هذه الآية خاصة ا هـ. وليس في السياق ما يقتضي قوله: "خاصة " مع كون رواية هشيم عن الزهري بخصوصها مضعفة، بل جاء في روايات أخرى ما يدل على أنه قرأ السورة كلها، فعند البخاري في التفسير " سمعته يقرأ في المغرب بالطور، فلما بلغ هذه الآية "أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون" الآيات إلى قوله: "المصيطرون" كاد قلبي يطير " ونحوه لقاسم بن أصبغ. وفي رواية أسامة ومحمد بن عمرو المتقدمتين " سمعته يقرأ والطور وكتاب مسطور " ومثله لابن سعد، وزاد في أخرى فاستمعت قراءته حتى خرجت من المسجد. ثم ادعى الطحاوي أن الاحتمال المذكور يأتي في حديث زيد بن ثابت، وكذا أبداه الخطابي احتمالا، وفيه نظر لأنه لو كان قرأ بشيء منها يكون قدر سورة من قصار المفصل لما كان لإنكار زيد معنى. وقد روى حديث زيد هشام بن عروة عن أبيه عنه أنه قال لمروان " إنك لتخف القراءة في الركعتين من المغرب فوالله لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ فيها بسورة الأعراف في الركعتين جميعا " أخرجه ابن خزيمة. واختلف على هشام في صحابيه والمحفوظ عن عروة أنه زيد بن ثابت. وقال أكثر الرواة: عن هشام عن زيد بن ثابت أو أبي أيوب، وقيل عن عائشة أخرجه النسائي مقتصرا على المتن دون القصة، واستدل به الخطابي وغيره على امتداد وقت المغرب إلى غروب الشفق، وفيه نظر لأن من قال إن لها وقتا واحدا لم يحده بقراءة معينة بل قالوا: لا يجوز تأخيرها عن أول غروب الشمس، وله أن يمد القراءة فيها ولو غاب الشفق. واستشكل المحب الطبري إطلاق هذا، وحمله الخطابي قبله على أنه يوقع ركعة في أول الوقت ويديم الباقي ولو غاب الشفق، ولا يخفى ما فيه، لأن تعمد إخراج بعض الصلاة عن الوقت ممنوع، ولو أجزأت فلا يحمل ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك. واختلف في المراد بالمفصل مع الاتفاق على أن منتهاه آخر القرآن هل هو من أول الصافات أو الجاثية أو القتال أو الفتح أو الحجرات أو ق أو الصف أو تبارك أو سبح أو الضحى إلى آخر القرآن أقوال أكثرها مستغرب اقتصر في شرح المهذب على أربعة من الأوائل سوى الأول والرابع، وحكى الأول والسابع والثامن ابن أبي الصيف اليمني، وحكى الرابع والثامن الدزماري في " شرح التنبيه " وحكى التاسع المرزوقي في شرحه، وحكى الخطابي والماوردي العاشر، والراجح الحجرات صلى الله عليه وسلم ذكره النووي. ونقل المحب الطبري قولا شاذا أن المفصل جميع القرآن، وأما

(2/249)


ما أخرجه الطحاوي من طريق زرارة بن أوفى قال: أقرأني أبو موسى كتاب عمر إليه: اقرأ في المغرب آخر المفصل. وآخر المفصل من "لم يكن" إلى آخر القرآن فليس تفسيرا للمفصل بل لآخره، فدل على أن أوله قبل ذلك.

(2/250)


100 - باب الْجَهْرِ فِي الْعِشَاءِ
766- حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ قَالَ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ بَكْرٍ عَنْ أَبِي رَافِعٍ قَالَ صَلَّيْتُ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ الْعَتَمَةَ فَقَرَأَ إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ فَسَجَدَ فَقُلْتُ لَهُ قَالَ سَجَدْتُ خَلْفَ أَبِي الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلاَ أَزَالُ أَسْجُدُ بِهَا حَتَّى أَلْقَاهُ
[الحديث:766 – أطرافه في : 1078,1074,768]
767- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَدِيٍّ قَالَ سَمِعْتُ الْبَرَاءَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي سَفَرٍ فَقَرَأَ فِي الْعِشَاءِ فِي إِحْدَى الرَّكْعَتَيْنِ بِالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ "
[الحديث767- أطرافه في:7546,4952,769]
قوله: "باب الجهر في العشاء" قدم ترجمة الجهر على ترجمة القراءة عكس ما صنع في المغرب ثم الصبح، والذي في المغرب أولى ولعله من النساخ. قوله: "حدثنا معتمر" هو ابن سليمان التيمي، وبكر هو ابن عبد الله المزني، وأبو رافع هو الصائغ، وهو ومن قبله من رجال الإسناد بصريون، وهو من كبار التابعين وبكر من أوساطهم وسليمان من صغارهم. قوله: "فقلت له" أي في شأن السجدة يعني سألته عن حكمها، وفي الرواية التي بعدها " فقلت ما هذه؟". قوله: "سجدت" زاد غير أبي ذر " بها " أي بالسجدة، أو الباء للظرف أي فيها يعني السورة، وفي الرواية الآتية لغير الكشميهني: "سجدت فيها". قوله: "خلف أبي القاسم صلى الله عليه وسلم" أي في الصلاة، وبه يتم استدلال المصنف لهذه الترجمة والتي بعدها، ونوزع في ذلك لأن سجوده في السورة أعم من أن يكون داخل الصلاة أو خارجها فلا ينهض الدليل. وقال ابن المنير: لا حجة فيه على مالك حيث كره السجدة في الفريضة يعني في المشهور عنه، لأنه ليس مرفوعا، وغفل عن رواية أبي الأشعث عن معتمر بهذا الإسناد بلفظ: "صليت خلف أبي القاسم فسجد بها " أخرجه ابن خزيمة، وكذلك أخرجه الجوزقي من طريق يزيد بن هارون عن سليمان التيمي بلفظ: "صليت مع أبي القاسم فسجد فيها". قوله: "حتى ألقاه" كناية عن الموت، وسيأتي الكلام على بقية فوائده في أبواب سجود التلاوة إن شاء الله تعالى. قوله: "عن عدي" هو ابن ثابت كما في الرواية الآتية بعد باب. قوله: "في سفر" زاد الإسماعيلي: "فصلى العشاء ركعتين". قوله: "في إحدى الركعتين" في رواية النسائي: "في الركعة الأولى". قوله: "بالتين" أي بسورة التين، وفي الرواية الآتية " والتين " على الحكاية، وإنما قرأ في العشاء بقصار المفصل لكونه كان مسافرا والسفر يطلب فيه التخفيف، وحديث أبي هريرة محمول على الحضر فلذلك قرأ فيها بأوساط المفصل.

(2/250)


101 - باب الْقِرَاءَةِ فِي الْعِشَاءِ بِالسَّجْدَةِ
768- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ قَالَ حَدَّثَنِي التَّيْمِيُّ عَنْ بَكْرٍ عَنْ أَبِي رَافِعٍ قَالَ صَلَّيْتُ

(2/250)


102 - باب الْقِرَاءَةِ فِي الْعِشَاءِ
769- حَدَّثَنَا خَلاَدُ بْنُ يَحْيَى قَالَ حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ قَالَ حَدَّثَنَا عَدِيُّ بْنُ ثَابِتٍ سَمِعَ الْبَرَاءَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ فِي الْعِشَاءِ وَمَا سَمِعْتُ أَحَدًا أَحْسَنَ صَوْتًا مِنْهُ أَوْ قِرَاءَةً "
قوله: "باب القراءة في العشاء" تقدم أيضا وقوله فيه "وما سمعت أحدا أحسن صوتا منه" يأتي الكلام عليه في أواخر كتاب التوحيد إن شاء الله تعالى.

(2/251)


103 - باب يُطَوِّلُ فِي الأُولَيَيْنِ وَيَحْذِفُ فِي الأُخْرَيَيْنِ
حدثنا سليمان بن حرب قال حدثنا شعبة عن أبي عون قال سمعت جابر بن سمرة قال قال عمر لسعد ثم لقد شكوك في كل شيء حتى الصلاة قال أما أنا فأمد في الأوليين وأحذف في الأخريين ولا آلو ما اقتديت به من صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال صدقت ذاك الظن بك أو ظني بك"
قوله: "باب يطول في الأوليين" أي من صلاة العشاء، ذكر فيه حديث سعد، وقد تقدم الكلام عليه مستوفى في " باب وجوب القراءة"، ووجهه هنا إما الإشارة إلى إحدى الروايتين في قوله: "صلاتي العشاء أو العشي " وإما لإلحاق العشاء بالظهر والعصر لكون كل منهن رباعية.

(2/251)


باب القراءة في الفجر وقالت أم سلمة قرأ النبي صلى الله عليه وسلم بالطور
...
104 - باب الْقِرَاءَةِ فِي الْفَجْرِ
771- حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ حَدَّثَنَا سَيَّارُ بْنُ سَلاَمَةَ قَالَ دَخَلْتُ أَنَا وَأَبِي عَلَى أَبِي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ فَسَأَلْنَاهُ عَنْ وَقْتِ الصَّلَوَاتِ فَقَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الظُّهْرَ حِينَ تَزُولُ الشَّمْسُ وَالْعَصْرَ وَيَرْجِعُ الرَّجُلُ إِلَى أَقْصَى الْمَدِينَةِ وَالشَّمْسُ حَيَّةٌ وَنَسِيتُ مَا قَالَ فِي الْمَغْرِبِ وَلاَ يُبَالِي بِتَأْخِيرِ الْعِشَاءِ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ وَلاَ يُحِبُّ النَّوْمَ قَبْلَهَا وَلاَ الْحَدِيثَ بَعْدَهَا وَيُصَلِّي الصُّبْحَ فَيَنْصَرِفُ الرَّجُلُ فَيَعْرِفُ جَلِيسَهُ وَكَانَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ أَوْ إِحْدَاهُمَا مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إِلَى الْمِائَةِ
772- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ فِي كُلِّ صَلاَةٍ يُقْرَأُ فَمَا أَسْمَعَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْمَعْنَاكُمْ وَمَا أَخْفَى عَنَّا أَخْفَيْنَا عَنْكُمْ وَإِنْ لَمْ تَزِدْ عَلَى أُمِّ الْقُرْآنِ أَجْزَأَتْ وَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ "

(2/251)


105 - باب الْجَهْرِ بِقِرَاءَةِ صَلاَةِ الْفَجْرِ
وَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ طُفْتُ وَرَاءَ النَّاسِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي وَيَقْرَأُ بِالطُّورِ
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ هُوَ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي وَحْشِيَّةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ انْطَلَقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ عَامِدِينَ إِلَى سُوقِ عُكَاظٍ وَقَدْ حِيلَ بَيْنَ الشَّيَاطِينِ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ وَأُرْسِلَتْ عَلَيْهِمْ الشُّهُبُ فَرَجَعَتْ الشَّيَاطِينُ إِلَى قَوْمِهِمْ فَقَالُوا مَا لَكُمْ فَقَالُوا حِيلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ وَأُرْسِلَتْ عَلَيْنَا الشُّهُبُ قَالُوا مَا حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ إِلاَّ شَيْءٌ حَدَثَ فَاضْرِبُوا مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا فَانْظُرُوا مَا هَذَا الَّذِي حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ فَانْصَرَفَ أُولَئِكَ الَّذِينَ تَوَجَّهُوا نَحْوَ تِهَامَةَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِنَخْلَةَ عَامِدِينَ إِلَى سُوقِ عُكَاظٍ وَهُوَ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ صَلاَةَ الْفَجْرِ فَلَمَّا سَمِعُوا الْقُرْآنَ اسْتَمَعُوا لَهُ فَقَالُوا هَذَا وَاللَّهِ الَّذِي حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ فَهُنَالِكَ حِينَ رَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ وَقَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنْ الْجِنِّ}
وَإِنَّمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ قَوْلُ الْجِنِّ[الحديث 773 – طرفه في : 4921]
774- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَرَأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا أُمِرَ وَسَكَتَ فِيمَا أُمِرَ { وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} قوله: "باب الجهر بقراءة صلاة الصبح" ولغير أبي ذر " صلاة الفجر " وهو موافق للترجمة الماضية، وعلى رواية أبي ذر فلعله أشار إلى أنها تسمى بالأمرين. قوله: "وقالت أم سلمة الخ" وصله المصنف في " باب طواف النساء " من كتاب الحج من رواية مالك عن أبي الأسود عن عروة عن زينب عن أمها أم سلمة قالت: "شكوت إلى النبي صلى الله عليه وسلم أني أشتكي - أي أن بها مرضا - فقال: طوفي وراء الناس وأنت راكبة. قالت: فطفت حينئذ والنبي صلى الله عليه وسلم: "الحديث، وليس فيه بيان أن الصلاة حينئذ كانت الصبح، ولكن تبين ذلك من رواية أخرى أوردها بعد ستة أبواب من طريق يحيى بن أبي زكريا الغساني عن هشام بن عروة عن أبيه ولفظه: "فقال: إذا أقيمت الصلاة للصبح فطوفي " وهكذا أخرجه الإسماعيلي من رواية حسان بن إبراهيم عن هشام، وأما ما أخرجه ابن خزيمة من طريق ابن وهب عن مالك وابن لهيعة جميعا عن أبي الأسود في هذا الحديث قال فيه: "قالت وهو يقرأ في العشاء الآخرة " فشاذ، وأظن سياقه لفظ ابن لهيعة، لأن ابن وهب رواه في الموطأ عن مالك فلم يعين الصلاة كما رواه أصحاب مالك كلهم أخرجه الدار قطني في الموطآت له من طرق كثيرة عن مالك، منها رواية ابن وهب المذكورة. وإذا تقرر ذلك فابن لهيعة لا يحتج به إذا انفرد فكيف إذا خالف، وعرف بهذا اندفاع الاعتراض الذي حكاه ابن التين عن بعض المالكية حيث أنكر أن تكون الصلاة المذكورة صلاة الصبح فقال: ليس في الحديث بيانها، والأولى أن

(2/253)


تحمل على النافلة لأن الطواف يمتنع إذا كان الإمام في صلاة الفريضة. انتهى. وهو رد للحديث الصحيح بغير حجة، بل يستفاد من هذا الحديث جواز ما منعه، بل يستفاد من الحديث التفصيل فنقول: إن كان الطائف بحيث يمر بين يدي المصلين فيمتنع كما قال وإلا فيجوز، وحال أم سلمة هو الثاني لأنها طافت من وراء الصفوف. ويستنبط منه أن الجماعة في الفريضة ليست فرضا على الأعيان، إلا أن يقال كانت أم سلمة حينئذ شاكية فهي معذورة، أو الوجوب يختص بالرجال. وسيأتي بقية مباحث هذا الحديث في كتاب الحج إن شاء الله تعالى. وقال ابن رشيد: ليس في حديث أم سلمة نص على ما ترجم له من الجهر بالقراءة، إلا أنه يؤخذ بالاستنباط من حيث أن قولها " طفت وراء الناس " يستلزم الجهر بالقراءة لأنه لا يمكن سماعها للطائف من ورائهم إلا إن كانت جهرية، قال: ويستفاد منه جواز إطلاق " قرأ: وإرادة جهر، والله أعلم. ذكر البخاري حديث ابن عباس في قصة سماع الجن القرآن، وسيأتي الكلام عليه في موضعه من التفسير، ويأتي بيان عكاظ في كتاب الحج في شرح حديث ابن عباس أيضا: "كانت عكاظ من أسواق الجاهلية " والمقصود منه هنا قوله: "وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر فلما سمعوا القرآن استمعوا له " وهو ظاهر في الجهر، ثم ذكر حديث ابن عباس أيضا قال: "قرأ النبي صلى الله عليه وسلم فيما أمر وسكت فيما أمر، {وما كان ربك نسيا } ، {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} ووجه المناسبة منه ما تقدم من إطلاق " قرأ: على جهر، لكن كان يبقى خصوص تناول ذلك لصلاة الصبح فيستفاد ذلك من الذي قبله، فكأنه يقول: هذا الإجمال هنا مفسر بالبيان في الذي قبله، لأن المحدث بهما واحد، أشار إلى ذلك ابن رشيد. ويمكن أن يكون مراد البخاري بهذا ختم تراجم القراءة في الصلوات إشارة منه إلى أن المعتمد في ذلك هو فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأنه لا ينبغي لأحد أن يغير شيئا مما صنعه. وقال الإسماعيلي: إيراد حديث ابن عباس هنا يغاير ما تقدم من إثبات القراءة في الصلوات، لأن مذهب ابن عباس كان ترك القراءة في السرية. وأجيب بأن الحديث الذي أورده البخاري ليس فيه دلالة على الترك، وأما ابن عباس فكان يشك في ذلك تارة وينفي القراءة أخرى وربما أثبتها، أما نفيه فرواه أبو داود وغيره من طريق عبد الله بن عبيد الله بن عباس عن عمه " أنهم دخلوا عليه فقالوا له: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهر والعصر؟ قال: لا. قيل: لعله كان يقرأ في نفسه؟ قال: هذه شر من الأولى، كان عبدا مأمورا بلغ ما أمر به " وأما شكه فرواه أبو داود أيضا والطبري من رواية حصين عن عكرمة عن ابن عباس قال: "ما أدري أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهر والعصر أم لا " انتهى. وقد أثبت قراءته فيهما خباب وأبو قتادة وغيرهما كما تقدم، فروايتهم مقدمة على من نفى، فضلا على من شك. ولعل البخاري أراد بإيراد هذا إقامة الحجة عليه، لأنه احتج بقوله تعالى:{لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة" فيقال له قد ثبت أنه قرأ فيلزمك أن تقرأ، والله أعلم. وقد جاء عن ابن عباس إثبات ذلك أيضا رواه أيوب عن أبي العالية البراء قال: "سألت ابن عباس: أقرأ في الظهر والعصر؟ قال هو أمامك اقرأ منه ما قل أو كثر". أخرجه ابن المنذر والطحاوي وغيرهما. قوله: "حدثنا إسماعيل" هو ابن إبراهيم المعروف بابن علية. قوله: {وما كان ربك نسيا} - و - {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} قال الخطابي: مراده أنه لو شاء الله أن ينزل بيان أحوال الصلاة حتى تكون قرآنا يتلى لفعل ولم يتركه عن نسيان، ولكنه وكل الأمر في ذلك إلى بيان نبيه صلى الله عليه وسلم، ثم شرع الاقتداء به. قال: ولا خلاف في وجوب أفعاله التي هي لبيان مجمل الكتاب. و قوله: "أسوة" بكسر الهمزة وضمها أي قدوة.

(2/254)


106- باب الْجَمْعِ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ فِي الرَّكْعَةِ
وَالْقِرَاءَةِ بِالْخَوَاتِيمِ وَبِسُورَةٍ قَبْلَ سُورَةٍ وَبِأَوَّلِ سُورَةٍ وَيُذْكَرُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ :
" قَرَأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُؤْمِنُونَ فِي الصُّبْحِ حَتَّى إِذَا جَاءَ ذِكْرُ مُوسَى وَهَارُونَ أَوْ ذِكْرُ عِيسَى أَخَذَتْهُ سَعْلَةٌ فَرَكَعَ
وَقَرَأَ عُمَرُ فِي الرَّكْعَةِ الأُولَى بِمِائَةٍ وَعِشْرِينَ آيَةً مِنْ الْبَقَرَةِ وَفِي الثَّانِيَةِ بِسُورَةٍ مِنْ الْمَثَانِي وَقَرَأَ الأَحْنَفُ بِالْكَهْفِ فِي الأُولَى وَفِي الثَّانِيَةِ بِيُوسُفَ أَوْ يُونُسَ وَذَكَرَ أَنَّهُ صَلَّى مَعَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الصُّبْحَ بِهِمَا
وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ بِأَرْبَعِينَ آيَةً مِنْ الأَنْفَالِ وَفِي الثَّانِيَةِ بِسُورَةٍ مِنْ الْمُفَصَّلِ
وَقَالَ قَتَادَةُ فِيمَنْ يَقْرَأُ سُورَةً وَاحِدَةً فِي رَكْعَتَيْنِ أَوْ يُرَدِّدُ سُورَةً وَاحِدَةً فِي رَكْعَتَيْنِ كُلٌّ كِتَابُ اللَّهِ
774م- وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ رَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ يَؤُمُّهُمْ فِي مَسْجِدِ قُبَاءٍ وَكَانَ كُلَّمَا افْتَتَحَ سُورَةً يَقْرَأُ بِهَا لَهُمْ فِي الصَّلاَةِ مِمَّا يَقْرَأُ بِهِ افْتَتَحَ بِ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهَا ثُمَّ يَقْرَأُ سُورَةً أُخْرَى مَعَهَا وَكَانَ يَصْنَعُ ذَلِكَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ فَكَلَّمَهُ أَصْحَابُهُ فَقَالُوا إِنَّكَ تَفْتَتِحُ بِهَذِهِ السُّورَةِ ثُمَّ لاَ تَرَى أَنَّهَا تُجْزِئُكَ حَتَّى تَقْرَأَ بِأُخْرَى فَإِمَّا تَقْرَأُ بِهَا وَإِمَّا أَنْ تَدَعَهَا وَتَقْرَأَ بِأُخْرَى فَقَالَ مَا أَنَا بِتَارِكِهَا إِنْ أَحْبَبْتُمْ أَنْ أَؤُمَّكُمْ بِذَلِكَ فَعَلْتُ وَإِنْ كَرِهْتُمْ تَرَكْتُكُمْ وَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ مِنْ أَفْضَلِهِمْ وَكَرِهُوا أَنْ يَؤُمَّهُمْ غَيْرُهُ فَلَمَّا أَتَاهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرُوهُ الْخَبَرَ فَقَالَ يَا فُلاَنُ مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَفْعَلَ مَا يَأْمُرُكَ بِهِ أَصْحَابُكَ وَمَا يَحْمِلُكَ عَلَى لُزُومِ هَذِهِ السُّورَةِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ فَقَالَ إِنِّي أُحِبُّهَا فَقَالَ حُبُّكَ إِيَّاهَا أَدْخَلَكَ الْجَنَّةَ
775- حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا وَائِلٍ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ مَسْعُودٍ فَقَالَ قَرَأْتُ الْمُفَصَّلَ اللَّيْلَةَ فِي رَكْعَةٍ فَقَالَ هَذًّا كَهَذِّ الشِّعْرِ لَقَدْ عَرَفْتُ النَّظَائِرَ الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرُنُ بَيْنَهُنَّ فَذَكَرَ عِشْرِينَ سُورَةً مِنْ الْمُفَصَّلِ سُورَتَيْنِ من آل حاميم فِي كُلِّ رَكْعَةٍ
[الحديث775-طرفاه في:5043,49996]
قوله: "باب الجمع بين السورتين في ركعة، والقراءة بالخواتم، وبسورة قبل سورة، وبأول سورة" هذا الباب على أربع مسائل: فأما الجمع بين سورتين فظاهر من حديث ابن مسعود ومن حديث أنس أيضا، وأما القراءة بالخواتم فيؤخذ بالإلحاق من القراءة بالأوائل والجامع بينهما أن كلا منهما بعض سورة، ويمكن أن يؤخذ من قوله: "قرأ عمر بمائة من البقرة " ويتأيد بقول قتادة " كل كتاب الله " وأما تقديم السورة على السورة على ما في ترتيب المصحف فمن حديث أنس أيضا ومن فعل عمر في رواية الأحنف عنه، وأما القراءة بأول سورة فمن حديث عبد الله بن السائب ومن حديث ابن مسعود أيضا. قوله: "ويذكر عن عبد الله بن السائب" أي ابن السائب بن صيفي بن عابد بموحدة ابن عبد الله ابن عمر بن مخزوم، وحديثه هذا وصله مسلم من طريق ابن جريج قال: "سمعت

(2/255)


محمد بن عباد بن جعفر يقول أخبرني أبو سلمة بن سفيان وعبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الله بن المسيب العابدي كلهم عن عبد الله ابن السائب قال: صلى لنا النبي صلى الله عليه وسلم الصبح بمكة فاستفتح بسورة المؤمنين حتى جاء ذكر موسى وهارون - أو ذكر عيسى، شك محمد بن عباد - أخذت النبي صلى الله عليه وسلم سعلة فركع " وفي رواية بحذف " فركع". وقوله: "ابن عمرو بن العاص " وهم من بعض أصحاب ابن جريج، وقد رويناه في مصنف عبد الرزاق عنه فقال: "عبد الله بن عمرو القارئ " وهو الصواب. واختلف في إسناده على ابن جريج فقال ابن عيينة عنه عن ابن أبي مليكة عن عبد الله بن السائب أخرجه ابن ماجه. وقال أبو عاصم عنه عن محمد بن عباد عن أبي سلمة بن سفيان - أو سفيان بن أبي سلمة - وكأن البخاري علقه بصيغة " ويذكر " لهذا الاختلاف، أن إسناده مما تقوم به الحجة. قال النووي: قوله: "ابن العاص " غلط عند الحفاظ، فليس هذا عبد الله بن عمرو بن العاص الصحابي المعروف، بل هو تابعي حجازي، قال: وفي الحديث جواز قطع القراءة وجواز القراءة ببعض السورة، وكرهه مالك. انتهى. وتعقب بأن الذي كرهه مالك أن يقتصر على بعض السورة مختارا، والمستدل به ظاهر في أنه كان للضرورة فلا يرد عليه، وكذا يرد على من استدل به على أنه لا يكره قراءة بعض الآية أخذا من قوله: "حتى جاء ذكر موسى وهارون أو ذكر عيسى"، لأن كلا من الموضعين يقع في وسط آية وفيه ما تقدم. نعم الكراهة لا تثبت إلا بدليل، وأدلة الجواز كثيرة، وقد تقدم حديث زيد بن ثابت أنه صلى الله عليه وسلم قرأ الأعراف في الركعتين ولم يذكر ضرورة ففيه القراءة بالأول وبالأخير، وروى عبد الرزاق بإسناد صحيح عن أبي بكر الصديق أنه أم الصحابة في صلاة الصبح بسورة البقرة فقرأها في الركعتين، وهذا إجماع منهم. وروى محمد بن عبد السلام الخشني بضم الخاء المعجمة بعدها معجمة مفتوحة خفيفة ثم نون - من طريق الحسن البصري قال: "غزونا خراسان ومعنا ثلاثمائة من الصحابة فكان الرجل منهم يصلي بنا فيقرأ الآيات من السورة ثم يركع " أخرجه ابن حزم محتجا به، وروى الدار قطني بإسناد قوي عن ابن عباس أنه قرأ الفاتحة وآية من البقرة في كل ركعة صلى الله عليه وسلم. قوله: "أخذت النبي صلى الله عليه وسلم سعلة" بفتح أوله من السعال، ويجوز الضم، ولابن ماجه: "شرقة " بمعجمة وقاف. وقوله في رواية مسلم: "فحذف " أي ترك القراءة. وفسره بعضهم برمي النخامة الناشئة عن السعلة، والأول أظهر لقوله: "فركع " ولو كان أزال ما عاقه عن القراءة لتمادى فيها. واستدل به على أن السعال لا يبطل الصلاة، وهو واضح فيما إذا غلبه. وقال الرافعي في شرح المسند: قد يستدل به على أن سورة المؤمنين مكية وهو قول الأكثر، قال: ولمن خالف أن يقول يحتمل أن يكون قوله: "بمكة " أي في الفتح أو حجة الوداع. قلت: قد صرح بقضية الاحتمال المذكور النسائي في روايته فقال: "في فتح مكة " ويؤخذ منه أن قطع القراءة لعارض السعال ونحوه أولى من التمادي في القراءة مع السعال والتنحنح، ولو استلزم تخفيف القراءة فيما استحب فيه تطويلها. قوله: "وقرأ عمر الخ" وصله ابن أبي شيبة من طريق أبي رافع قال: "كان عمر يقرأ في الصبح بمائة من البقرة ويتبعها بسورة من المثاني". انتهى. والمثاني قيل ما لم يبلغ مائة آية أو بلغها (2)
ـــــــ
(1) ويدل على ما ذكره الشارح من جواز قراءة بعض السورة مارواه البخاري عن ابن عباس أن النبي ثلى الله عليه وسلم قرأ في ركعتي الفجر من البقرة وآل عمران { قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا } الاية, و {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا} الاية , وماجاز في النافلة جاز في الفريضة مالم يرد مخصص. والله أعلم
(2) هذه الكلمة سقطت من المخطوطة , ولعل سقوطها أولى . والله أعلم

(2/256)


وقيل ما عدا السبع الطوال إلى المفصل، قيل سميت مثاني لأنها ثنيت السبع، وسميت الفاتحة المثاني لأنها تثنى في كل صلاة. وأما قوله سبحانه وتعالى: {ولقد آتيناك سبعا من المثاني} فالمراد بها سورة الفاتحة وقيل غير ذلك. قوله: "وقرأ الأحنف" وصله جعفر الفريابي في " كتاب الصلاة " له من طريق عبد الله بن شقيق قال: "صلى بنا الأحنف " فذكره وقال: "في الثانية يونس " ولم يشك. قال: وزعم أنه صلى خلف عمر كذلك. ومن هذا الوجه أخرجه أبو نعيم في المستخرج. قوله: "وقرأ ابن مسعود الخ" وصله عبد الرزاق بلفظه من رواية عبد الرحمن بن يزيد النخعي عنه، وأخرجه هو وسعيد بن منصور من وجه آخر عن عبد الرزاق صلى الله عليه وسلم بلفظ: "فافتتح الأنفال حتى بلغ ونعم النصير". انتهى. وهذا الموضع هو رأس أربعين آية، فالروايتان متوافقتان، وتبين بهذا أنه قرأ بأربعين من أولها، فاندفع الاستدلال به على قراءة خاتمة السورة بخلاف الأثر عن عمر فإنه محتمل. قال ابن التين إن لم تؤخذ القراءة بالخواتم من أثر عمر أو ابن مسعود وإلا فلم يأت البخاري بدليل على ذلك، وفاته ما قدمناه من أنه مأخوذ بالإلحاق مؤيد بقول قتادة. قوله: "وقال قتادة" وصله عبد الرزاق، وقتادة تابعي صغير يستدل لقوله ولا يستدل به، وإنما أراد البخاري منه قوله: "كل كتاب الله" فإنه يستنبط منه جواز خمس ما ذكر في الترجمة، وأما قول قتادة في ترديد السورة فلم يذكره المصنف في الترجمة، فقال ابن رشيد: لعله لا يقول به، لما روي فيه من الكراهة عن بعض العلماء. قلت: وفيه نظر، لأنه لا يراعي هذا القدر إذا صح له الدليل. قال الزين ابن المنير: ذهب مالك إلى أن يقرأ المصلي في كل ركعة بسورة كما قال ابن عمر: لكل سورة حظها من الركوع والسجود. قال: ولا تقسم السورة في ركعتين، ولا يقتصر على بعضها ويترك الباقي، ولا يقرأ بسورة قبل سورة يخالف ترتيب المصحف، قال: فإن فعل ذلك كله لم تفسد صلاته، بل هو خلاف الأولى. قال: وجميع ما استدل به البخاري لا يخالف ما قال مالك، لأنه محمول على بيان الجواز. انتهى. وأما حديث ابن مسعود ففيه إشعار بالمواظبة على الجمع بين سورتين كما سيأتي في الكلام عليه. وقد نقل البيهقي في مناقب الشافعي عنه أن ذلك مستحب، وما عدا ذلك مما ذكر أنه خلاف الأولى هو مذهب الشافعي أيضا، وعن أحمد والحنفية كراهية قراءة سورة قبل سورة تخالف ترتيب المصحف، واختلف هل رتبه الصحابة بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم أو باجتهاد منهم؟ قال القاضي أبو بكر: الصحيح الثاني، وأما ترتيب الآيات فتوقيفي بلا خلاف. ثم قال ابن المنير؛ والذي يظهر أن التكرير أخف من قسم السورة في ركعتين انتهى. وسبب الكراهة فيما يظهر أن السورة مرتبط بعضها ببعض فأي موضع قطع فيه لم يكن كانتهائه إلى آخر السورة، فإنه إن قطع في وقف غير تام كانت الكراهة ظاهرة، وإن قطع في وقف تام فلا يخفى أنه خلاف الأولى. وقد تقدم في الطهارة قصة الأنصاري الذي رماه العدو بسهم فلم يقطع صلاته وقال: "كنت في سورة فكرهت أن أقطعها " وأقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك صلى الله عليه وسلم. قوله: "وقال عبيد الله بن عمر" أي ابن حفص بن عاصم، وحديثه هذا وصله الترمذي والبزار عن البخاري عن إسماعيل بن أبي أويس، والبيهقي من رواية محرز بن سلمة كلاهما عن عبد العزيز الدراوردي عنه بطوله، قال الترمذي: حسن صحيح غريب من حديث عبيد الله عن ثابت، قال: وقد روى مبارك ابن فضالة عن ثابت فذكر طرفا من آخره، وذكر الطبراني في الأوسط أن الدراوردي تفرد به عن عبيد الله،
ـــــــ
(1) في المخطوطة " عبد الرحمن "
(2) لكن سبق قريبا مايدل على عدم كراهة قسم السورة في ركعتين" فتنبه.

(2/257)


وذكر الدار قطني في العلل أن حماد بن سلمة خالف عبيد الله في إسناده فرواه عن ثابت عن حبيب بن سبيعة مرسلا قال: وهو أشبه بالصواب، وإنما رجحه لأن حماد سلمة مقدم في حديث ثابت، لكن عبيد الله ابن عمر حافظ حجة، وقد وافقه مبارك في إسناده فيحتمل أن يكون لثابت فيه شيخان. قوله: "كان رجل من الأنصار يؤمهم في مسجد قباء" هو كلثوم بن الهدم، رواه ابن منده في كتاب التوحيد من طريق أبي صالح عن ابن عباس، كذا أورده بعضهم. والهدم بكسر الهاء وسكون الدال، وهو من بني عمرو بن عوف سكان قباء، وعليه نزل النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم في الهجرة إلى قباء. قيل وفي تعيين المبهم به هنا نظر، لأن في حديث عائشة في هذه القصة أنه كان أمير سرية. وكلثوم بن الهدم مات في أوائل ما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فيما ذكره الطبري وغيره من أصحاب المغازي، وذلك قبل أن يبعث السرايا. ثم رأيت بخط بعض من تكلم على رجال العمدة كلثوم بن زهدم وعزاه لابن منده، لكن رأيت أنا بخط الحافظ رشيد الدين العطار في حواشي مبهمات الخطيب نقلا عن صفة التصوف لابن طاهر: أخبرنا عبد الوهاب بن أبي عبد الله بن منده عن أبيه فسماه كرز بن زهدم، فالله أعلم. وعلى هذا فالذي كان يؤم في مسجد قباء غير أمير السرية، ويدل على تغايرهما أن في رواية الباب أنه كان يبدأ بقل هو الله أحد وأمير السرية كان يختم بها، وفي هذا أنه كان يصنع ذلك في كل ركعة ولم يصرح بذلك في قصة الآخر، وفي هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله وأمير السرية أمر أصحابه أن يسألوه، وفي هذا أنه قال إنه يحبها فبشره بالجنة وأمير السرية قال إنها صفة الرحمن فبشره بأن الله يحبه. والجمع بين هذا التغاير كله ممكن لولا ما تقدم من كون كلثوم بن الهدم مات قبل البعوث والسرايا، وأما من فسره بأنه قتادة بن النعمان فأبعد جدا، فإن في قصة قتادة أنه كان يقرؤها في الليل يرددها، ليس فيه أنه أم بها لا في سفر ولا في حضر، ولا أنه سئل عن ذلك ولا بشر. وسيأتي ذلك واضحا في فضائل القرآن. وحديث عائشة الذي أشرنا إليه أورده المصنف في أوائل كتاب التوحيد كما سيأتي إن شاء الله تعالى. قوله: "مما يقرأ به" أي من السورة بعد الفاتحة. قوله: "افتتح بقل هو الله أحد" تمسك به من قال: لا يشترط قراءة الفاتحة، وأجيب بأن الراوي لم يذكر الفاتحة اعتناء بالعلم لأنه لا بد منها فيكون معناه افتتح بسورة بعد الفاتحة، أو كان ذلك قبل ورود الدليل الدال على اشتراط الفاتحة. قوله: "فكلمه أصحابه" يظهر منه أن صنيعه ذلك خلاف ما ألفوه من النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: "وكرهوا أن يؤمهم غيره" إما لكونه من أفضلهم كما ذكر في الحديث، وإما لكون النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي قرره. قوله: "ما يأمرك به أصحابك" أي يقولون لك، ولم يرد الأمر بالصيغة المعروفة لكنه لازم من التخيير الذي ذكروه كأنهم قالوا له افعل كذا وكذا. قوله: "ما يمنعك وما يحملك" سأله عن أمرين فأجابه بقوله: إني أحبها، وهو جواب عن الثاني مستلزم للأول بانضمام شيء آخر وهو إقامة السنة المعهودة في الصلاة، فالمانع مركب من المحبة والأمر المعهود، والحامل على الفعل المحبة وحدها، ودل تبشيره له بالجنة على الرضا بفعله، وعبر بالفعل الماضي في قوله: "أدخلك " وإن كان دخول الجنة مستقبلا تحقيقا لوقوع ذلك، قال ناصر الدين بن المنير: في هذا الحديث أن المقاصد تغير أحكام الفعل لأن الرجل لو قال إن الحامل له على إعادتها أنه لا يحفظ غيرها لأمكن أن يأمره بحفظ غيرها، لكنه اعتل بحبها فظهرت صحة قصده فصوبه. قال: وفيه دليل على جواز تخصيص بعض القرآن بميل النفس إليه والاستكثار منه ولا يعد ذلك هجرانا لغيره، وفيه ما يشعر بأن سورة الإخلاص مكية. قوله: "جاء رجل إلى ابن مسعود" هو نهيك بفتح النون وكسر الهاء ابن سنان البجلي، سماه منصور في روايته عن

(2/258)


أبي وائل عند مسلم، وسيأتي من وجه آخر. قوله: "قرأت المفصل" تقدم أنه من ق إلى آخر القرآن على الصحيح، وسمي مفصلا لكثرة الفصل بين سوره بالبسملة على الصحيح. ولقول هذا الرجل قرأت المفصل سبب بينه مسلم في أول حديثه من رواية وكيع عن الأعمش عن أبي وائل قال: جاء رجل يقال له نهيك بن سنان إلى عبد الله فقال: يا أبا عبد الرحمن كيف تقرأ هذا الحرف "من ماء غير آسن" أو غير ياسن؟ فقال عبد الله: كل القرآن أحصيت غير هذا، قال: إني لأقرأ المفصل في ركعة. قوله: "هذا" بفتح الهاء وتشديد الذال المعجمة، أي سردا وإفراطا في السرعة، وهو منصوب على المصدر، وهو استفهام إنكار بحذف أداة الاستفهام، وهي ثابتة في رواية منصور عند مسلم وقال ذلك لأن تلك الصفة كانت عادتهم في إنشاد الشعر. وزاد فيه مسلم من رواية وكيع أيضا أن أقواما يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، وزاد أحمد عن أبي معاوية وإسحاق عن عيسى بن يونس كلاهما عن الأعمش فيه: "ولكن إذا وقع في القلب فرسخ فيه نفع " وهو في رواية مسلم دون قوله نفع صلى الله عليه وسلم. قوله: "لقد عرفت النظائر" أي السور المماثلة في المعاني كالموعظة أو الحكم أو القصص، لا المتماثلة في عدد الآي، لما سيظهر عند تعيينها. قال المحب الطبري: كنت أظن أن المراد أنها متساوية في العد، حتى اعتبرتها فلم أجد فيها شيئا متساويا. قوله: "يقرن" بضم الراء وكسرها. قوله: "عشرين سورة من المفصل وسورتين من آل حم في كل ركعة" وقع في فضائل القرن من رواية واصل عن أبي وائل " ثماني عشرة سورة من المفصل وسورتين من آل حم " وبين فيه من رواية أبي حمزة عن الأعمش أن قوله عشرين سورة إنما سمعة أبو وائل من علقمة عن عبد الله ولفظه: "فقام عبد الله ودخل علقمة معه ثم خرج علقمة فسألناه فقال: عشرون سورة من المفصل على تأليف ابن مسعود آخرهن حم الدخان وعم يتساءلون " ولابن خزيمة من طريق أبي خالد الأحمر عن الأعمش مثله وزاد فيه: "فقال الأعمش: أولهن الرحمن وآخرهن الدخان " ثم سردها، وكذلك سردها أبو إسحاق عن علقمة والأسود عن عبد الله فيما أخرجه أبو داود متصلا بالحديث بعد قوله: "كان يقرأ النظائر السورتين في ركعة: الرحمن والنجم في ركعة واقتربت والحاقة في ركعة والذاريات والطور في ركعة والواقعة ونون في ركعة وسأل والنازعات في ركعة وويل للمطففين وعبس في ركعة والمدثر والمزمل في ركعة وهل أتى ولا أقسم في ركعة وعم يتساءلون والمرسلات في ركعة وإذا الشمس كورت والدخان في ركعة " هذا لفظ أبي داود والآخر مثله إلا أنه لم يقل " في ركعة " في شيء منها، وذكر السورة الرابعة قبل الثالثة والعاشرة قبل التاسعة ولم يخالفه في الاقتران، وقد سردها أيضا محمد بن سلمة بن كهيل عن أبيه عن أبي وائل فيما أخرجه الطبراني لكن قدم وأخر في بعض وحذف بعضها، ومحمد ضعيف. وعرف بهذا أن قوله في رواية واصل " وسورتين من آل حم " مشكل لأن الروايات لم تختلف أنه ليس في العشرين من الحواميم غير الدخان فيحمل على التغليب. أو فيه حذف كأنه قال وسورتين إحداهما من آل حم، وكذا قول في رواية أبي حمزة " آخرهن حم الدخان وعم يتساءلون " مشكل لأن حم الدخان آخرهن في جميع الروايات. وأما عم فهي في رواية أبي خالد السابعة عشرة وفي رواية أبي إسحاق الثامنة عشرة فكأن فيه تجوزا، لأن عم وقعت في الركعتين الأخيرتين في الجملة، ويتبين بهذا أن في قوله في حديث الباب: "عشرين سورة من المفصل " تجوزا لأن الدخان ليست منه، ولذلك فصلها من المفصل في رواية واصل. نعم يصح
ـــــــ
(1) قوله " دون قوله نفع" هذا سهو من الشارح رحمه الله , بل هذا اللفظ موجود في صحيح مسلم , ولفظه " ولكن إذا وقع في القلب فرسخ فيه نفع " انتهى . والله أعلم

(2/259)


ذلك على أحد الآراء في حد المفصل كما تقدم وكما سيأتي بيانه أيضا في فضائل القرآن. وفي هذا الحديث من الفوائد كراهة الإفراط في سرعة التلاوة لأنه ينافي المطلوب من التدبر والتفكر في معاني القرآن، ولا خلاف في جواز السرد بدون تدبر لكن القراءة بالتدبر أعظم أجرا، وفيه جواز تطويل الركعة الأخيرة على ما قبلها، وهذا الحديث أول حديث موصول أورده في هذا الباب، فلهذا صدر الترجمة بما دل عليه، وفيه ما ترجم له وهو الجمع بين السور لأنه إذا جمع بين السورتين ساغ الجمع بين ثلاث فصاعدا لعدم الفرق، وقد روى أبو داود وصححه ابن خزيمة من طريق عبد الله بن شقيق قال: "سألت عائشة: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع بين السور؟ قالت: نعم من المفصل " ولا يخالف هذا ما سيأتي في التهجد أنه جمع بين البقرة وغيرها من الطوال، لأنه يحمل على النادر. وقال عياض في حديث ابن مسعود هذا يدل على أن هذا القدر كان قدر قراءته غالبا، وأما تطويله فإنما كان في التدبر والترتيل، وما ورد غير ذلك من قراءة البقرة وغيرها في ركعة فكان نادرا. قلت: لكن ليس في حديث ابن مسعود ما يدل على المواظبة، بل فيه أنه كان يقرن بين هذه السور المعينات إذا قرأ من المفصل، وفيه موافقة لقول عائشة وابن عباس: إن صلاته بالليل كانت عشر ركعات غير الوتر، وفيه ما يقوي قول القاضي أبي بكر المتقدم: إن تأليف السور كان عن اجتهاد من الصحابة، لأن تأليف عبد الله المذكور مغاير لتأليف مصحف عثمان، وسيأتي ذلك في باب مفرد في فضائل القرآن إن شاء الله تعالى.

(2/260)


107 - باب يَقْرَأُ فِي الأُخْرَيَيْنِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ
776- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ فِي الأُولَيَيْنِ بِأُمِّ الْكِتَابِ وَسُورَتَيْنِ وَفِي الرَّكْعَتَيْنِ الأُخْرَيَيْنِ بِأُمِّ الْكِتَابِ وَيُسْمِعُنَا الْآيَةَ وَيُطَوِّلُ فِي الرَّكْعَةِ الأُولَى مَا لاَ يُطَوِّلُ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ وَهَكَذَا فِي الْعَصْرِ وَهَكَذَا فِي الصُّبْحِ "
قوله: "باب يقرأ في الأخريين بفاتحة الكتاب" يعني بغير زيادة، وسكت عن ثالثة المغرب رعاية للفظ الحديث مع أن حكمها حكم الآخريين من الرباعية، ويحتمل أن يكون لم يذكرها لما رواه مالك من طريق الصنابحي أنه سمع أبا بكر الصديق يقرأ فيها {ربنا لا تزغ قلوبنا} الآية. قوله باب يقرأ في الأخريين بفاتحة الكتاب يعني بغير زيادة وسكت عن ثالثة المغرب رعاية للفظ الحديث مع أن حكمها حكم الأخريين من الرباعية ويحتمل أن يكون لم يذكرها لما رواه مالك من طريق الصنابحي أنه سمع أبا بكر الصديق يقرأ فيها ربنا لا تزغ قلوبنا الآية 743 قوله عن يحيى هو بن أبي كثير قوله بأم الكتاب فيه ما ترجم له وفيه التنصيص على قراءة الفاتحة في كل ركعة وقد تقدم البحث فيه قال بن خزيمة قد كنت زمانا أحسب أن هذا اللفظ لم يروه عن همام وتابعه أبان إلى أن رأيت الأوزاعي قد رواه أيضا عن يحيى يعني أن أصحاب يحيى اقتصروا على قوله كان يقرأ في الأوليين بأم الكتاب وسورة كما تقدم عنه من طرق وأن هماما زاد هذه الزيادة وهي الاقتصار على الفاتحة في الأخريين فكان يخشى شذوذها إلى أن قويت عنده بمتابعة من ذكر لكن أصحاب الأوزاعي لم يتفقوا على ذكرها كما سيظهر ذلك بعد باب قوله ما لا يطيل كذا للأكثر ولكريمة ما لا المطلوب وما نكرة موصوفة أو مصدرية وفي رواية المستملى والحموي بما لا يطيل واستدل به على تطويل الركعة الأولى على الثانية وقد تقدم البحث في ذلك في باب القراءة في الظهر وسيأتي أيضا

(2/260)


108 - باب مَنْ خَافَتَ الْقِرَاءَةَ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ
777- حدثنا قتيبة بن سعيد قال حدثنا جرير عن الأعمش عن عمارة بن عمير عن أبي معمر ثم قلت لخباب أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهر والعصر قال نعم قلنا من أين علمت قال باضطراب لحيته "
قوله: "باب من خافت القراءة" أي أسر. وفي رواية الكشميهني: "خافت بالقراءة " وهو أوجه. ودلالة حديث خباب للترجمة واضحة، وقد تقدم الكلام على بقية فوائده قريبا.
وفي رواية الكشميهني: "خافت بالقراءة " وهو أوجه.
ودلالة حديث خباب للترجمة واضحة، وقد تقدم الكلام على بقية فوائده قريبا.

(2/261)


109 - باب إِذَا أَسْمَعَ الإِمَامُ الْآيَةَ
778- حدثنا محمد بن يوسف حدثنا الأوزاعي حدثني يحيى بن أبي كثير حدثني عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه ثم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بأم الكتاب وسورة معها في الركعتين الأوليين من صلاة الظهر وصلاة العصر ويسمعنا الآية أحيانا وكان يطيل في الركعة الأولى"
قوله: "باب إذا أسمع" وللكشميهني: "إذا سمع " بتشديد الميم "الإمام الآية" أي في السرية، خلافا لمن قال يسجد للسهو إن كان ساهيا، وكذا لمن قال يسجد مطلقا حديث أبي قتادة واضح في الترجمة وقد تقدم الكلام عليه أيضا.

(2/261)


110 - باب يُطَوِّلُ فِي الرَّكْعَةِ الأُولَى
حدثنا أبو نعيم حدثنا هشام عن يحيى بن كثير عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه ثم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان المطلوب في الركعة الأولى من صلاة الظهر ويقصر في الثانية ويفعل ذلك في صلاة الصبح "
قوله: "باب يطول في الركعة الأولى" أي في جميع الصلوات، وهو ظاهر الحديث المذكور في الباب، وقد تقدم البحث فيه أيضا، وعن أبي حنيفة يطول في أولى الصبح خاصة. وقال البيهقي في الجمع بين أحاديث المسألة: يطول في الأولى إن كان ينتظر أحدا وإلا فليسو بين الأوليين. وروى عبد الرزاق نحوه عن ابن جريج عن عطاء قال: إني لأحب أن يطول الإمام الأولى من كل صلاة حتى يكثر الناس، فإذا صليت لنفسي فإني أحرص على أن أجعل الأوليين سواء. وذهب بعض الأئمة إلى استحباب تطويل الأولى من الصبح دائما، وأما غيرها فإن كان يترجى كثرة المأمومين ويبادر هو أول الوقت فينتظر وإلا فلا. وذكر في حكمة اختصاص الصبح بذلك أنها تكون عقب النوم والراحة وفي ذلك الوقت يواطئ السمع واللسان القلب لفراغه وعدم تمكن الاشتغال بأمور المعاش وغيرها منه، والعلم عند الله.
"تنبيه" أبو يعفور المذكور في السند هو الأكبر، واسمه واقد بالقاف وقيل وقدان، وجزم النووي في شرح مسلم بأنه الأصغر واسمه عبد الرحمن بن عبيد، وبالأول جزم أبو علي الجياني والمزي وغيرهما وهو الصواب

(2/261)


111 - باب جَهْرِ الإِمَامِ بِالتَّأْمِينِ
وَقَالَ عَطَاءٌ آمِينَ دُعَاءٌ أَمَّنَ ابْنُ الزُّبَيْرِ وَمَنْ وَرَاءَهُ حَتَّى إِنَّ لِلْمَسْجِدِ لَلَجَّةً
وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يُنَادِي الإِمَامَ لاَ تَفُتْنِي بِآمِينَ
وَقَالَ نَافِعٌ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ لاَ يَدَعُهُ وَيَحُضُّهُمْ وَسَمِعْتُ مِنْهُ فِي ذَلِكَ خَيْرًا
70- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُمَا أَخْبَرَاهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِذَا أَمَّنَ الإِمَامُ فَأَمِّنُوا فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلاَئِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ آمِينَ"
[الحديث780 – طرفه في : 6402]
قوله: "باب جهر الإمام بالتأمين" أي بعد الفاتحة في الجهر، والتأمين مصدر أمن بالتشديد أي قال آمين وهي بالمد والتخفيف في جميع الروايات وعن جميع القراء، وحكى الواحدي عن حمزة والكسائي الإمالة، وفيها ثلاث لغات أخرى شاذة: القصر حكاه ثعلب وأنشد له شاهدا، وأنكره ابن درستويه وطعن في الشاهد بأنه لضرورة الشعر، وحكى عياض ومن تبعه عن ثعلب أنه إنما أجازه في الشعر خاصة. والتشديد مع المد والقصر. وخطأهما جماعة من أهل اللغة. وآمين من أسماء الأفعال مثل صه للسكوت، وتفتح في الوصل لأنها مبنية بالاتفاق مثل كيف، وإنما لم تكسر لثقل الكسرة بعد الياء ومعناها اللهم استجب عند الجمهور، وقيل غير ذلك مما يرجع جميعه إلى هذا المعنى، كقول من قال: معناه اللهم آمنا بخير، وقيل كذلك يكون، وقيل درجة في الجنة تجب لقائلها، وقيل لمن استجيب له كما استجيب للملائكة، وقيل هو اسم من أسماء الله تعالى رواه عبد الرزاق عن أبي هريرة بإسناد ضعيف وعن هلال بن يساف التابعي مثله، وأنكره جماعة. وقال من مد وشدد: معناها قاصدين إليك ونقل ذلك عن جعفر الصادق؛ وقال من قصر وشدد: هي كلمة عبرانية أو سريانية. وعند أبي داود من حديث أبي زهير النميري الصحابي أن آمين مثل الطابع على الصحيفة، ثم ذكر قوله صلى الله عليه وسلم: "إن ختم بآمين فقد أوجب" . قوله: "وقال عطاء إلى قوله بآمين" وصله عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء قال: قلت له أكان ابن الزبير يؤمن على أثر أم القرآن؟ قال: نعم ويؤمن من وراءه؛ حتى إن للمسجد للجة. ثم قال: إنما آمين دعاء. قال: وكان أبو هريرة يدخل المسجد وقد قام الإمام فيناديه فيقول: لا تسبقني بآمين. وقوله حتى إن بكسر الهمزة للمسجد أي لأهل المسجد للجة اللام للتأكيد واللجة قال أهل اللغة: الصوت المرتفع، وروى " للجبة " بموحدة وتخفيف الجيم حكاه ابن التين، وهي الأصوات المختلطة. ورواه البيهقي " لرجة " بالراء بدل اللام كما سيأتي. قوله: "لا تفتني" بضم الفاء وسكون المثناة، وحكى بعضهم عن بعض النسخ بالفاء والشين المعجمة ولم أر ذلك في شيء من الروايات، وإنما فيها بالمثناة من الفوات وهي بمعنى ما تقدم عند عبد الرزاق من السبق، ومراد أبي هريرة أن يؤمن مع الإمام داخل الصلاة، وقد تمسك به بعض المالكية في أن الإمام لا يؤمن وقال: معناه لا تنازعني بالتأمين الذي هو من وظيفة المأموم، وهذا تأويل بعيد، وقد جاء عن أبي هريرة وجه آخر أخرجه البيهقي من طريق حماد عن ثابت عن أبي رافع قال: كان أبو

(2/262)


هريرة يؤذن لمروان، فاشترط أن لا يسبقه بالضالين حتى يعلم أنه دخل في الصف، وكأنه كان يشتغل بالإقامة وتعديل الصفوف، وكان مروان يبادر إلى الدخول في الصلاة قبل فراغ أبي هريرة وكان أبو هريرة ينهاه عن ذلك، وقد وقع له ذلك مع غير مروان: فروى سعيد بن منصور من طريق محمد بن سيربن أن أبا هريرة كان مؤذنا بالبحرين وأنه اشترط على الإمام أن لا يسبقه بآمين، والإمام بالبحرين كان العلاء بن الحضرمي، بينه عبد الرزاق من طريق أبي سلمة عنه، وقد روى نحو قول أبي هريرة عن بلال أخرجه أبو داود من طريق أبي عثمان عن بلال أنه قال: "يا رسول الله، لا تستبقني بآمين " ورجاله ثقات. لكن قيل إن أبا عثمان لم يلق بلالا، وقد روي عنه بلفظ: "أن بلالا قال: "وهو ظاهر الإرسال، ورجحه الدار قطني وغيره على الموصول، وهذا الحديث يضعف التأويل السابق لأن بلالا لا يقع منه ما حمل هذا القائل كلام أبي هريرة عليه، وتمسك به بعض الحنفية بأن الإمام يدخل في الصلاة قبل فراغ المؤذن من الإقامة، وفيه نظر لأنها واقعة عين وسببها محتمل فلا يصح التمسك بها، قال ابن المنير: مناسبة قول عطاء للترجمة أنه حكم بأن التأمين دعاء فاقتضى ذلك أن يقوله الإمام لأنه في مقام الداعي، بخلاف قول المانع إنها جواب للدعاء فيختص بالمأموم، وجوابه أن التأمين قائم مقام التلخيص بعد البسط، فالداعي فصل المقاصد بقوله: "اهدنا الصراط المستقيم" إلى آخره، والمؤمن أتى بكلمة تشمل الجميع فإن قالها الإمام فكأنه دعا مرتين مفصلا ثم مجملا. قوله: "وقال نافع الخ" وصله عبد الرزاق عن ابن جريج أخبرنا نافع أن ابن عمر كان إذا ختم أم القرآن قال آمين لا يدع أن يؤمن إذا ختمها ويحضهم على قولها، قال: "وسمعت منه في ذلك خيرا". وقوله: "ويحضهم" بالضاد المعجمة، و قوله: "خيرا" بسكون التحتانية أي فضلا وثوابا وهي رواية الكشميهني، ولغيره: "خيرا " بفتح الموحدة أي حديثا مرفوعا، ويشعر به ما أخرجه البيهقي " كان ابن عمر إذا أمن الناس أمن معهم ويرى ذلك من السنة". ورواية عبد الرزاق مثل الأول، وكذلك رويناه في فوائد يحيى بن معين قال حدثنا حجاج بن محمد عن ابن جريج، ومناسبة أثر ابن عمر من جهة أنه كان يؤمن إذا ختم الفاتحة، وذلك أعم من أن يكون إماما أو مأموما. قوله: "عن ابن شهاب" في الترمذي من طريق زيد بن الحباب عن مالك " أخبرنا ابن شهاب". قوله: "أنهما أخبراه" ظاهره أن لفظهما واحد، لكن سيأتي في رواية محمد بن عمرو عن أبي سلمة مغايرة يسيرة للفظ الزهري. قوله: "إذا أمن الإمام فأمنوا" ظاهر في أن الإمام يؤمن، وقيل معناه إذا دعا، والمراد دعاء الفاتحة من قوله: "اهدنا" إلى آخره بناء على أن التأمين دعاء. وقيل معناه إذا بلغ إلى موضع استدعى التأمين وهو قوله: "ولا الضالين" ويرد ذلك التصريح بالمراد في حديث الباب، واستدل به على مشروعية التأمين للإمام، قيل وفيه نظر لكونها قضية شرطية، وأجيب بأن التعبير بإذا يشعر بتحقيق الوقوع، وخالف مالك في إحدى الروايتين عنه وهي رواية ابن القاسم فقال: لا يؤمن الإمام في الجهرية. وفي رواية عنه لا يؤمن مطلقا. وأجاب عن حديث ابن شهاب هذا بأنه لم يره في حديث غيره، وهي علة غير قادحة فإن ابن شهاب إمام لا يضره التفرد، مع ما سيذكر قريبا أن ذلك جاء في حديث غيره، ورجح بعض المالكية كون الإمام لا يؤمن من حيث المعنى بأنه داع فناسب أن يختص المأموم التأمين، وهذا يجيء على قولهم إنه لا قراءة على المأموم، وأما من أوجبها عليه فله أن يقول: كما اشتركا في القراءة فينبغي أن يشتركا في التأمين، ومنهم من أول قوله: "إذا أمن الإمام " فقال: معناه دعا، قال وتسمية الداعي مؤمنا سائغة لأن المؤمن يسمى داعيا كما جاء في قوله تعالى: {قد أجيبت دعوتكما} وكان موسى داعيا وهارون مؤمنا كما رواه

(2/263)


ابن مردويه من حديث أنس، وتعقب بعدم الملازمة فلا يلزم من تسمية المؤمن داعيا عكسه قاله ابن عبد البر، على أن الحديث في الأصل لم يصح، ولو صح فإطلاق كون هارون داعيا إنما هو للتغليب. وقال بعضهم: معنى قوله: "إذا أمن " بلغ موضع التأمين كما يقال أنجد إذا بلغ نجدا وإن لم يدخلها، قال ابن العربي: هذا بعيد لغة وشرعا. وقال ابن دقيق العيد: وهذا مجاز، فإن وجد دليل يرجحه عمل به وإلا فالأصل عدمه. قلت: استدلوا له برواية أبي صالح عن أبي هريرة الآتية بعد باب بلفظ: "إذا قال الإمام ولا الضالين فقولوا آمين " قالوا فالجمع بين الرواتين يقتضي حمل قوله: "إذا أمن " على المجاز. وأجاب الجمهور - على تسليم المجاز المذكور - بأن المراد بقوله إذا أمن أي أراد التأمين ليتوافق تأمين الإمام والمأموم معا، ولا يلزم من ذلك أن لا يقولها الإمام، وقد ورد التصريح بأن الإمام يقولها وذلك في رواية، ويدل على خلاف تأويلهم رواية معمر عن ابن شهاب في هذا الحديث بلفظ: "إذا قال الإمام ولا الضالين فقالوا آمين فإن الملائكة تقول آمين وإن الإمام يقول آمين " الحديث، أخرجه أبو داود والنسائي والسراج وهو صريح في كون الإمام يؤمن. وقيل في الجمع بينهما: المراد بقوله: "إذا قال ولا الضالين فقولوا آمين " أي ولو لم يقل الإمام آمين، وقيل يؤخذ من الخبرين تخيير المأموم في قولها مع الإمام أو بعده قاله الطبري، وقيل الأول لمن قرب من الإمام والثاني لمن تباعد عنه، لأن جهر الإمام بالتأمين أخفض من جهره بالقراءة، فقد يسمع قراءته من لا يسمع تأمينه، فمن سمع تأمينه أمن معه، وإلا يؤمن إذا سمعه يقول ولا الضالين لأنه وقت تأمينه قاله الخطابي. وهذه الوجوه كلها محتملة وليست بدون الوجه الذي ذكروه، وقد رده ابن شهاب بقوله: "وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول آمين " كأنه استشعر التأويل المذكور فبين أن المراد بقوله: "إذا أمن " حقيقة التأمين، وهو وإن كان مرسلا فقد اعتضد بصنيع أبي هريرة راويه كما سيأتي بعد باب، وإذا ترجح أن الإمام يؤمن فيجهر به في الجهرية كما ترجم به المصنف وهو قول الجمهور، خلافا للكوفيين ورواية عن مالك فقال: يسر به مطلقا. ووجه الدلالة من الحديث أنه لو لم يكن التأمين مسموعا للمأموم لم يعلم به وقد علق تأمينه بتأمينه، وأجابوا بأن موضعه معلوم فلا يستلزم الجهر به وفيه نظر لاحتمال أن يخل به فلا يستلزم علم المأموم به، وقد روى روح بن عبادة عن مالك في هذا الحديث قال ابن شهاب " وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال ولا الضالين جهر بآمين " أخرجه السراج، ولابن حبان من رواية الزبيدي في حديث الباب عن ابن شهاب " كان إذا فرغ من قراءة أم القرآن رفع صوته وقال آمين " وللحميدي من طريق سعيد المقبري عن أبي هريرة نحوه بلفظ: "إذا قال ولا الضالين " ولأبي داود من طريق أبي عبد الله ابن عم أبي هريرة عن أبي هريرة مثله وزاد: "حتى يسمع من يليه من الصف الأول " ولأبي داود وصححه ابن حبان من حديث وائل ابن حجر نحو رواية الزبيدي، وفيه رد على من أومأ إلى النسخ فقال: إنما كان صلى الله عليه وسلم يجهر بالتأمين في ابتداء الإسلام ليعلمهم فإن وائل بن حجر إنما أسلم في أواخر الأمر. قوله: "فأمنوا" استدل به على تأخير تأمين المأموم عن تأمين الإمام لأنه رتب عليه بالفاء، لكن تقدم في الجمع بين الروايتين أن المراد المقارنة وبذلك قال الجمهور. وقال الشيخ أبو محمد الجويني: لا تستحب مقارنة الإمام في شيء من الصلاة غيره، قال إمام الحرمين: يمكن تعليله بأن التأمين لقراءة الإمام لا لتأمينه، فلذلك لا يتأخر عنه وهو واضح. ثم إن هذا الأمر عند الجمهور للندب، وحكى ابن بزيزة عن بعض أهل العلم وجوبه على المأموم عملا بظاهر الأمر، قال: وأوجبه الظاهرية على كل مصل ثم في مطلق أمر المأموم بالتأمين أنه يؤمن ولو كان مشتغلا بقراءة الفاتحة، وبه قال أكثر الشافعية. ثم اختلفوا هل تنقطع بذلك الموالاة؟

(2/264)


على وجهين: أصحهما لا تنقطع لأنه مأمور بذلك لمصلحة الصلاة، بخلاف الأمر الذي لا يتعلق بها كالحمد للعاطس (1) والله أعلم. قوله: "فإنه من وافق" زاد يونس عن ابن شهاب عند مسلم: "فإن الملائكة تؤمن " قبل قوله: "فمن وافق " وكذا لابن عيينة عن ابن شهاب كما سيأتي في الدعوات، وهو دال على أن المراد الموافقة في القول والزمان، خلافا لمن قال المراد الموافقة في الإخلاص والخشوع كابن حبان فإنه لما ذكر الحديث قال: يريد موافقة الملائكة في الإخلاص بغير إعجاب، وكذا جنح إليه غيره فقال نحو ذلك من الصفات المحمودة، أو في إجابة الدعاء، أو في الدعاء بالطاعة خاصة، أو المراد بتأمين الملائكة استغفارهم للمؤمنين. وقال ابن المنير: الحكمة في إيثار الموافقة في القول والزمان أن يكون المأموم على يقظة للإتيان بالوظيفة في محلها، لأن الملائكة لا غفلة عندهم، فمن وافقهم كان متيقظا. ثم إن ظاهره أن المراد الملائكة جميعهم، واختاره ابن بزيزة. وقيل: الحفظة منهم، وقيل الذين يتعاقبون منهم إذا قلنا إنهم غير الحفظة. والذي يظهر أن المراد بهم من يشهد تلك الصلاة من الملائكة ممن في الأرض أو في السماء. وسيأتي في رواية الأعرج بعد باب " وقالت الملائكة في السماء آمين " وفي رواية محمد بن عمرو الآتية أيضا: "فوافق ذلك قول أهل السماء " ونحوها لسهيل عن أبيه عند مسلم، وروى عبد الرزاق عن عكرمة قال: "صفوف أهل الأرض على صفوف أهل السماء، فإذا وافق آمين في الأرض آمين في السماء غفر للعبد " انتهى. ومثله لا يقال بالرأي فالمصير إليه أولى. قوله: "غفر له ما تقدم من ذنبه" ظاهره غفران جميع الذنوب الماضية، وهو محمول عند العلماء على الصغائر، وقد تقدم البحث في ذلك في الكلام على حديث عثمان فيمن توضأ كوضوئه صلى الله عليه وسلم في كتاب الطهارة. "فائدة": وقع في أمالي الجرجاني عن أبي العباس الأصم عن بحر بن نصر عن ابن وهب عن يونس في آخر هذا الحديث: "وما تأخر " وهي زيادة شاذة فقد رواه ابن الجارود في المنتقى عن بحر بن نصر بدونها، وكذا رواه مسلم عن حرملة وابن خزيمة عن يونس بن عبد الأعلى كلاهما عن ابن وهب وكذلك في جميع الطرق عن أبي هريرة إلا أني وجدته في بعض النسخ من ابن ماجه عن هشام بن عمار وأبي بكر بن أبي شيبة كلاهما عن ابن عيينة بإثباتها، ولا يصح، لأن أبا بكر قد رواه في مسنده ومصنفه بدونها، وكذلك حفاظ أصحاب ابن عيينة الحميدي وابن المديني وغيرهما. وله طريق أخرى ضعيفة من رواية أبي فروة محمد بن يزيد بن سنان عن أبيه عن عثمان والوليد ابني ساج عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة. قوله: "قال ابن شهاب" هو متصل إليه برواية مالك عنه، وأخطأ من زعم أنه معلق. ثم هو من مراسيل ابن شهاب، وقد قدمنا وجه اعتضاده. وروي عنه موصولا أخرجه الدار قطني في الغرائب والعلل من طريق حفص بن عمر العدني عن مالك عنه. وقال الدار قطني: تفرد به حفص بن عمر وهو ضعيف، وفي الحديث حجة على الإمامية (2) في قولهم إن التأمين يبطل الصلاة، لأنه ليس بلفظ قرآن ولا ذكر، ويمكن أن يكون مستندهم ما نقل عن جعفر الصادق أن معنى آمين أي قاصدين إليك، وبه تمسك من قال إنه بالمد والتشديد، وصرح المتولي من الشافعية بأن من قاله هكذا بطلت صلاته. وفيه فضيلة الإمام لأن تأمين الإمام يوافق
ـــــــ
(1) الصواب أن تأمين المأموم وحده إذا عطس لايقطع عليه قراءته لكونه شيئا يسيرا مشروعا . والله أعلم
(2) ما كان يحسن من الشارح أن يذكر خلاف الإمامية , لأنها طائفة ضالة , وهي من أخبث طوائف الشيعة. وقد سبق للشارح أن خلاف الزيدية لايعتبر , والإمامية شر من الزيدية وكلاهما من الشيعة وليسوا أهلا لأن يذكر خلافهم في مسائل الإجماع والخلاف . والله أعلم

(2/265)


تأمين الملائكة، ولهذا شرعت للمأموم موافقته. وظاهر سياق الأمر أن المأموم إنما يؤمن إذا أمن الإمام لا إذا ترك. وقال به بعض الشافعية كما صرح به صاحب " الذخائر " وهو مقتضى إطلاق الرافعي الخلاف. وادعى النووي في " شرح المهذب " الاتفاق على خلافه، ونص الشافعي في " الأم " على أن المأموم يؤمن ولو تركه الإمام عمدا أو سهوا، واستدل به القرطبي على تعيين قراءة الفاتحة للإمام، وعلى أن المأموم ليس عليه أن يقرأ فيما جهر به إمامه، فأما الأول فكأنه أخذه من أن التأمين مختص بالفاتحة فظاهر السياق يقتضي أن قراءة الفاتحة كان أمرا معلوما عندهم، وأما الثاني فقد يدل على أن المأموم لا يقرأ الفاتحة حال قراءة الإمام لها لا أنه لا يقرؤها أصلا.

(2/266)


112 - باب فَضْلِ التَّأْمِينِ
781- حدثنا عبد الله بن يوسف أخبرنا مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ثم إذا قال أحدكم آمين وقالت الملائكة في السماء آمين فوافقت إحداهما الأخرى غفر له ما تقدم من ذنبه "
قوله: "باب فضل التأمين" أورد فيه رواية الأعرج لأنها مطلقة غير مقيدة بحال الصلاة. قال ابن المنير: وأي فضل أعظم من كونه قولا يسيرا لا كلفه فيه، ثم قد ترتبت عليه المغفرة ا هـ. ويؤخذ منه مشروعية التأمين لكل من قرأ الفاتحة سواء كان داخل الصلاة أو خارجها لقوله: "إذا قال أحدكم " لكن في رواية مسلم من هذا الوجه " إذا قال أحدكم في صلاته " فيحمل المطلق على المقيد. نعم في رواية همام عن أبي هريرة عند أحمد - وساق مسلم إسنادها - " إذا أمن القارئ فأمنوا " فهذا يمكن حمله على الإطلاق فيستحب التأمين إذا أمن القارئ مطلقا لكل من سمعه من مصل أو غيره. ويمكن أن يقال: المراد بالقارئ الإمام إذا قرأ الفاتحة. فإن الحديث واحد اختلفت ألفاظه. واستدل به بعض المعتزلة على أن الملائكة أفضل من الآدميين، وسيأتي البحث في ذلك في " باب الملائكة " من بدء الخلق إن شاء الله تعالى. -=

8.

مجلد 8.  فتح الباري أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ)

113 - باب جَهْرِ الْمَأْمُومِ بِالتَّأْمِينِ
782- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ سُمَيٍّ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إِذَا قَالَ الإِمَامُ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ فَقُولُوا آمِينَ فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ الْمَلاَئِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ تَابَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنُعَيْمٌ الْمُجْمِرُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
[الحديث782- طرفه في : 4475]
قوله: "باب جهر المأموم بالتأمين" كذا للأكثر. وفي رواية المستملي والحموي " جهر الإمام بآمين " والأول هو الصواب لئلا يتكرر. قوله: "مولى أبي بكر" أي ابن عبد الرحمن بن الحارث. قوله: "إذا قال الإمام الخ" استدل به على أن الإمام لا يؤمن، وقد تقدم البحث فيه قبل، قال الزين بن المنير: مناسبة الحديث للترجمة من جهة

(2/266)


114 - باب إِذَا رَكَعَ دُونَ الصَّفِّ
783- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ الأَعْلَمِ وَهُوَ زِيَادٌ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّهُ انْتَهَى إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ رَاكِعٌ فَرَكَعَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَى الصَّفِّ فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ زَادَكَ اللَّهُ حِرْصًا وَلاَ تَعُدْ "

(2/267)


قوله: "باب إذا ركع دون الصف" كان اللائق إيراد هذه الترجمة في أبواب الإمامة، وقد سبق هناك ترجمة " المرأة وحدها تكون صفا " وذكرت هناك أن ابن بطال استدل بحديث أنس المذكور فيه في صلاة أم سليم لصحة صلاة المنفرد خلف الصف إلحاقا للرجل بالمرأة، ثم وجدته مسبوقا بالاستدلال به عن جماعة من كبار الأئمة، لكنه متعقب، وأقدم من وقفت على كلامه ممن تعقبه ابن خزيمة فقال: لا يصح الاستدلال به لأن صلاة المرء خلف الصف وحده منهي عنها باتفاق ممن يقول تجزئه أو لا تجزئه، وصلاة المرأة وحدها إذا لم يكن هناك امرأة أخرى مأمور بها باتفاق، فكيف يقاس مأمور على منهي؟ والظاهر أن الذي استدل به نظر إلى مطلق الجواز حملا للنهي على التنزيه والأمر على الاستحباب. وقال ناصر الدين ابن المنير: هذه الترجمة مما نوزع فيها البخاري حيث لم يأت: بجواب " إذا " لإشكال الحديث واختلاف العلماء في المراد بقوله: "ولا تعد". قوله: "عن الأعلم هو زياد" في رواية عن عفان عن همام حدثنا زياد الأعلم أخرجه ابن أبي شيبة، وزياد هو ابن حسان بن قرة الباهلي من صغار التابعين، قيل له الأعلم لأنه كان مشقوق الشفة، والإسناد كله بصريون. قوله: "عن الحسن" هو البصري. قوله: "عن أبي بكرة" هو الثقفي، وقد أعله بعضهم بأن الحسن عنعنه، وقيل إنه لم يسمع من أبي بكرة وإنما يروى عن الأحنف عنه، ورد هذا الإعلال برواية سعيد بن أبي عروبة عن الأعلم قال: "حدثني الحسن أن أبا بكرة حدثه " أخرجه أبو داود والنسائي. قوله: "أنه انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم" في رواية سعيد المذكورة " أنه دخل المسجد " زاد الطبراني من رواية عبد العزيز بن أبي بكرة عن أبيه " وقد أقيمت الصلاة فانطلق يسعى " وللطحاوي من رواية حماد بن سلمة عن الأعلم " وقد حفزه النفس". قوله: "فذكر ذلك" في رواية حماد عند الطبراني " فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أيكم دخل الصف وهو راكع" . قوله: "زادك الله حرصا" أي على الخير، قال ابن المنير صوب النبي صلى الله عليه وسلم فعل أبي بكرة من الجهة العامة وهي الحرص على إدراك فضيلة الجماعة، وخطأه من الجهة الخاصة. قوله: "ولا تعد" أي إلى ما صنعت من السعي الشديد ثم الركوع دون الصف ثم من المشي إلى الصف، وقد ورد ما يقتضي ذلك صريحا في طرق حديثه كما تقدم بعضها. وفي رواية عبد العزيز المذكورة " فقال من الساعي " وفي رواية يونس بن عبيد عن الحسن عن الطبراني " فقال أيكم صاحب هذا النفس؟ قال: خشيت أن تفوتني الركعة معك " وله من وجه آخر عنه في آخر الحديث: "صل ما أدركت واقض ما سبقك " وفي رواية حماد عند أبي داود وغيره: "أيكم الراكع دون الصف " وقد تقدم من روايته قريبا " أيكم دخل نصف وهو راكع " وتمسك المهلب بهذه الرواية الأخيرة فقال: إنما قال له " لا تعد " لأنه مثل بنفسه في مشيه راكعا لأنها كمشية البهائم ا هـ. ولم ينحصر النهي في ذلك كما حررته، ولو كان منحصرا لاقتضى ذلك عدم الكراهة في إحرام المنفرد خلف الصف، وقد تقدم نقل الاتفاق على كراهيته، وذهب إلى تحريمه أحمد وإسحاق وبعض محدثي الشافعية كابن خزيمة، واستدلوا بحديث وابصة بن معبد " أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يصلي خلف الصف وحده فأمره أن يعيد الصلاة " أخرجه أصحاب السنن وصححه أحمد وابن خزيمة وغيرهما. ولابن خزيمة أيضا من حديث علي بن شيبان نحوه وزاد: "لا صلاة لمنفرد خلف الصف " واستدل الشافعي وغيره بحديث أبي بكرة على أن الأمر في حديث وابصة للاستحباب لكون أبي بكرة أتى بجزء من الصلاة خلف الصف ولم يؤمر بالإعادة، لكن نهى عن العود إلى ذلك، فكأنه أرشد إلى ما هو الأفضل. وروى البيهقي من طريق المغيرة عن إبراهيم فيمن صلى خلف الصف وحده فقال: صلاته تامة وليس له تضعيف،

(2/268)


وجمع أحمد وغيره بين الحديثين بوجه آخر، وهو أن حديث أبي بكرة مخصص لعموم حديث وابصة، فمن ابتدأ الصلاة منفردا خلف الصف ثم دخل في الصف قبل القيام من الركوع لم تجب عليه الإعادة كما في حديث أبي بكرة، وإلا فتجب على عموم حديث وابصة وعلي بن شيبان. واستنبط بعضهم من قوله: "لا تعد " أن ذلك الفعل كان جائزا ثم ورد النهي عنه بقوله لا تعد، فلا يجوز العود إلى ما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم وهذه طريقة البخاري في " جزء القراءة خلف الإمام " ويؤخذ مما حررته جواب من قال: لم لا دعا له بعدم العود إلى ذلك كما دعا له بزيادة الحرص؟ وأجاب بأنه جوز أنه ربما تأخر في أمر يكون أفضل من إدراك أول الصلاة ا ه. وهو مبني على أن النهي إنما وقع عن التأخير وليس كذلك. "تنبيه": قوله: "ولا تعدل " ضبطناه في جميع الروايات بفتح أوله وضم العين من العود، وحكى بعض شراح المصابيح أنه روى بضم أوله وكسر العين من الإعادة، ويرجح الرواية المشهورة ما تقدم من الزيادة في آخره عند الطبراني " صل ما أشركت واقض ما سبقك " وروى الطحاوي بإسناد حسن عن أبي هريرة مرفوعا: "إذا أتى أحدكم الصلاة فلا يركع دون الصف حتى يأخذ مكانه من الصف " واستدل بهذا الحديث على استحباب موافقة الداخل للإمام على أي حال وجده عليها، وقد ورد الأمر بذلك صريحا في سنن سعيد بن منصور من رواية عبد العزيز بن رفيع عن أناس من أهل المدينة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من وجدني قائما أو راكعا أو ساجدا فليكن معي على الحال التي أنا عليها " وفي الترمذي نحوه عن علي ومعاذ بن جبل مرفوعا وفي إسناده ضعف، لكنه ينجبر بطريق سعيد بن منصور المذكورة.

(2/269)


115 - باب إِتْمَامِ التَّكْبِيرِ فِي الرُّكُوعِ
قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ مَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ
784- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ الْوَاسِطِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ الْجُرَيْرِيِّ عَنْ أَبِي الْعَلاَءِ عَنْ مُطَرِّفٍ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ صَلَّى مَعَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالْبَصْرَةِ فَقَالَ ذَكَّرَنَا هَذَا الرَّجُلُ صَلاَةً كُنَّا نُصَلِّيهَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ يُكَبِّرُ كُلَّمَا رَفَعَ وَكُلَّمَا وَضَعَ "
[الحديث784 – طرفاه في : 826 ,786]
785- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي بِهِمْ فَيُكَبِّرُ كُلَّمَا خَفَضَ وَرَفَعَ فَإِذَا انْصَرَفَ قَالَ إِنِّي لاَشْبَهُكُمْ صَلاَةً بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "
[الحديث785 – أطرافه في:8003,795,789]
قوله: "باب إتمام التكبير في الركوع" أي مده بحيث ينتهي بتمامه، أو المراد إتمام عدد تكبيرات الصلاة بالتكبير في الركوع قاله الكرماني. قلت: ولعله أراد بلفظ الإتمام الإشارة إلى تضعيف ما رواه أبو داود من حديث عبد الرحمن بن أبزى قال: "صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم فلم يتم التكبير " وقد نقل البخاري في التاريخ عن داود الطيالسي أنه قال: هذا عندنا باطل. وقال الطبري والبزار: تفرد به الحسن بن عمران وهو مجهول، وأجيب على تقدير صحته بأنه فعل ذلك لبيان الجواز، أو المراد لم يتم الجهر به أو لم يمده. قوله: "قاله ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم" أي الإتمام

(2/269)


ومراده أنه قال ذلك بالمعنى، لأنه أشار بذلك إلى حديثه الموصول في آخر الباب الذي بعده وفيه قوله لعكرمة لما أخبره عن الرجل الذي كبر في الظهر ثنتين وعشرين تكبيرة " إنها صلاة النبي صلى الله عليه وسلم: "فيستلزم ذلك أنه نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم إتمام التكبير، لأن الرباعية لا يقع فيها لذاتها أكثر من ذلك، ومن لازم ذلك التكبير في الركوع. وهذا يبعد الاحتمال الأول. قوله: "وفيه مالك بن الحويرث" أي يدخل في الباب حديث مالك، وقد أورده المؤلف بعد أبواب في " باب المكث بين السجدتين " ولفظه: "فقام ثم ركع فكبر". قوله: "حدثنا خالد" هو الطحان، والجريري هو سعيد، وأبو العلاء هو يزيد بن عبد الله بن الشخير أخو مطرف الذي روى هذا الحديث عنه، والإسناد كله بصريون وفيه رواية الأقران والإخوة. قوله: "صلى" أي عمران "مع علي" أي ابن أبي طالب "بالبصرة" يعني بعد وقعة الجمل. قوله: "ذكرنا" بتشديد الكاف وفتح الراء، وفيه إشارة إلى أن التكبير الذي ذكره كان قد ترك، وقد روى أحمد والطحاوي بإسناد صحيح عن أبي موسى الأشعري قال: "ذكرنا علي صلاة كنا نصليها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إما نسيناها وإما تركناها عمدا " ولأحمد من وجه آخر عن مطرف قال: قلنا - يعني لعمران بن حصين - يا أبا نجيد، هو بالنون والجيم مصغر، من أول من ترك التكبير؟ قال: عثمان بن عفان حين كبر وضعف صوته. وهذا يحتمل إرادة ترك الجهر. وروى الطبراني عن أبي هريرة أن أول من ترك التكبير معاوية. وروى أبو عبيد أن أول من تركه زياد. وهذا لا ينافي الذي قبله لأن زيادا تركه بترك معاوية، وكأن معاوية تركه بترك عثمان. وقد حمل ذلك جماعة من أهل العلم على الإخفاء، ويرشحه حديث أبي سعيد الآتي في " باب يكبر وهو ينهض من السجدتين"، لكن حكى الطحاوي أن قوما كانوا يتركون التكبير في الخفض دون الرفع، قال: وكذلك كانت بنو أمية تفعل، وروى ابن المنذر نحوه عن ابن عمر وعن بعض السلف أنه كان لا يكبر سوى تكبيرة الإحرام، وفرق بعضهم بين المنفرد وغيره، ووجهه بأن التكبير شرع للإيذان بحركة الإمام فلا يحتاج إليه المنفرد، لكن استقر الأمر على مشروعية التكبير في الخفض والرفع لكل مصل، فالجمهور على ندبية ما عدا تكبيرة الإحرام.
وعن أحمد وبعض أهل العلم بالظاهر يجب كله صلى الله عليه وسلم قال ناصر الدين بن المنير: الحكمة في مشروعية التكبير في الخفض والرفع أن المكلف أمر بالنية أول الصلاة مقرونة بالتكبير، وكان من حقه أن يستصحب النية إلى آخر الصلاة، فأمر أن يجدد العهد في أثنائها بالتكبير الذي هو شعار النية صلى الله عليه وسلم.
قوله: "كلما رفع وكلما وضع" هو عام في جميع الانتقالات في الصلاة، لكن خص منه الرفع من الركوع بالإجماع فإنه شرع فيه التحميد، وقد جاء بهذا اللفظ العام أيضا من حديث أبي هريرة في الباب، ومن حديث أبي موسى الذي ذكرناه عند أحمد والنسائي، ومن حديث ابن مسعود عن الدارمي والطحاوي، ومن حديث ابن عباس في الباب الذي بعده، ومن حديث ابن عمر عند أحمد والنسائي، ومن حديث
ـــــــ
(1) وهذا القول أظهر من حيث الدليل , لأن الرسول ثلى الله عليه وسلم حافظ عليه وأمر به , وأصل الأمر للوجوب , وقد قال صلى الله عليه وسلم " صلوا كما رأيتموني أصلى " . وأما ماروى عن عثمان ومعاوية من عدم إتمام التكبير فهو محمول على عدم الجهر بذلك لا أنهما تركاه إحسانا للظن بهما , وعلى تسليم أن الترك وقع منهما فالحجة مقدمة على رأيهما رضي الله عنهما وعن سائر الصحابة أجمعين . والله أعلم
(2) ولو قيل إن الحكمة في شرعية تكرار التكبير تنبيه المصلي على أن الله سبحانه أكبر من كل كبير وأعظم من كل عظيم فلا ينبغى التشاغل عن طاعته من الأشياء , بل ينبغي الإقبال عليها بالقلب والقالب , والخشوع فيها تعظيما له سبحانه وطلبا لرضاه , لكان ذلك متوجها , والله أعلم

(2/270)


عبد الله بن زيد عند سعيد بن منصور، ومن حديث وائل بن حجر عند ابن حبان، ومن حديث جابر عند البزار، وسيأتي مفسرا من حديث أبي هريرة فيه.قوله في حديث أبي هريرة ( يصلي بهم) في رواية الكشميهني"يصلي لهم"

(2/271)


116 - باب إِتْمَامِ التَّكْبِيرِ فِي السُّجُودِ
786- حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ غَيْلاَنَ بْنِ جَرِيرٍ عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ صَلَّيْتُ خَلْفَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَا وَعِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ فَكَانَ إِذَا سَجَدَ كَبَّرَ وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ كَبَّرَ وَإِذَا نَهَضَ مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ كَبَّرَ فَلَمَّا قَضَى الصَّلاَةَ أَخَذَ بِيَدِي عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ فَقَالَ قَدْ ذَكَّرَنِي هَذَا صَلاَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ قَالَ لَقَدْ صَلَّى بِنَا صَلاَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
787- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ قَالَ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ رَأَيْتُ رَجُلًا عِنْدَ الْمَقَامِ يُكَبِّرُ فِي كُلِّ خَفْضٍ وَرَفْعٍ وَإِذَا قَامَ وَإِذَا وَضَعَ فَأَخْبَرْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ أو ليس تِلْكَ صَلاَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ أُمَّ لَكَ "
[ الحديث787 – طرفه : في 788]
قوله: "باب إتمام التكبير في السجود" فيه ما تقدم في الذي قبله. قوله: "حدثنا حماد" هو ابن زيد. قوله: "صليت خلف علي بن أبي طالب أنا وعمران" استدل به على أن موقف الاثنين يكون خلف الإمام خلافا لمن قال يجعل أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله، وفيه نظر لأنه ليس فيه أنه لم يكن معهما غيرهما. وقد تقدم أن ذلك كان بالبصرة وكذا رواه سعيد بن منصور من رواية حميد بن هلال عن عمران، ووقع لأحمد من طريق سعيد بن أبي عروبة عن غيلان بالكوفة، وكذا لعبد الرزاق عن معمر عن قتادة وغير واحد عن مطرف، فيحتمل أن يكون ذلك وقع منه بالبلدين، وقد ذكره في رواية أبي العلاء بصيغة العموم وهنا بذكر السجود والرفع والنهوض من الركعتين فقط ففيه إشعار بأن هذه المواضع الثلاثة هي التي كان ترك التكبير فيها حتى تذكرها عمران بصلاة علي. قوله: "قد ذكرني" في رواية الكشميهني: "لقد ذكرني". قوله: "أو قال" هو شك من أحد رواته، ويحتمل أن يكون من حماد فقد رواه أحمد من رواية سعيد بن أبي عروبة بلفظ: "صلى بنا هذا مثل صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ولم يشك. وفي رواية قتادة عن مطرف قال عمران " ما صليت منذ حين أو منذ كذا وكذا أشبه بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه الصلاة " قال ابن بطال: ترك النكير على من ترك التكبير يدل على أن السلف لم يتلقوه على أنه ركن من الصلاة، وأشار الطحاوي إلى أن الإجماع استقر على أن من تركه فصلاته تامة، وفيه نظر لما تقدم عن أحمد، والخلاف في بطلان الصلاة بتركه ثابت في مذهب مالك إلا أن يريد إجماعا سابقا. قوله: "عن أبي بشر" صرح سعيد بن منصور عن هشيم بأن أبا بشر حدثه. قوله: "رأيت رجلا عند المقام" في رواية الإسماعيلي: "صليت خلف شيخ بالأبطح " والأولى أصح، إلا أن يكون المراد بالأبطح البطحاء التي تفرش في المسجد، وسيأتي في أول الباب الذي بعده بلفظ: "صليت خلف شيخ بمكة " وأنه سماه في بعض الطرق أبا هريرة، واتفقت هذه الروايات على أنه رآه بمكة،

(2/271)


وللسراج من طريق حبيب بن الزبير عن عكرمة " رأيت رجلا يصلي في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم: "فإن لم يحمل على التجوز وإلا فهي شاذة. قوله: "أو ليس تلك صلاة النبي صلى الله عليه وسلم" هو استفهام إنكار للإنكار المذكور، ومقتضاه الإثبات لأنه نفى النفي. قوله: "لا أم لك" هي كلمة تقولها العرب عند الزجر، وكذا قوله في الرواية التي بعدها " ثكلتك أمك " فكأنه دعا عليه أن يفقد أمه أو أن تفقده أمه، لكنهم قد يطلقون ذلك ولا يريدون حقيقته. واستحق عكرمة ذلك عند ابن عباس لكونه نسب ذلك الرجل الجليل إلى الحمق الذي هو غاية الجهل وهو بريء من ذلك.

(2/272)


117 - بَاب التَّكْبِيرِ إِذَا قَامَ مِنْ السُّجُودِ
788- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ أَخْبَرَنَا هَمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ صَلَّيْتُ خَلْفَ شَيْخٍ بِمَكَّةَ فَكَبَّرَ ثِنْتَيْنِ وَعِشْرِينَ تَكْبِيرَةً فَقُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ إِنَّهُ أَحْمَقُ فَقَالَ ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ سُنَّةُ أَبِي الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ مُوسَى حَدَّثَنَا أَبَانُ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ "
789- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلاَةِ يُكَبِّرُ حِينَ يَقُومُ ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْكَعُ ثُمَّ يَقُولُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ حِينَ يَرْفَعُ صُلْبَهُ مِنْ الرَّكْعَةِ ثُمَّ يَقُولُ وَهُوَ قَائِمٌ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ عَنْ اللَّيْثِ وَلَكَ الْحَمْدُ ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَهْوِي ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَسْجُدُ ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ ثُمَّ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي الصَّلاَةِ كُلِّهَا حَتَّى يَقْضِيَهَا وَيُكَبِّرُ حِينَ يَقُومُ مِنْ الثِّنْتَيْنِ بَعْدَ الْجُلُوسِ "
قوله (بَاب التَّكْبِيرِ إِذَا قَامَ مِنْ السُّجُودِ ) .قوله: "صليت خلف شيخ" زاد سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عند الإسماعيلي: "الظهر " وبذلك يصح عدد التكبير الذي ذكره، لأن في كل ركعة خمس تكبيرات فيقع في الرباعية عشرون تكبيرة مع تكبيرة الافتتاح وتكبيرة القيام من التشهد الأول، ولأحمد والطحاوي والطبراني من طريق عبد الله الداناج وهو بالنون والجيم الخفيفتين عن عكرمة قال: "صلى بنا أبو هريرة". قوله: "وقال موسى" هو ابن إسماعيل راوي الحديث عن همام، وهو عنده متصل عن همام وأبان كلاهما عن قتادة، وإنما أفردهما لكونه على شرطه في الأصول، بخلاف أبان فإنه على شرطه في المتابعات. وأفادت رواية أبان تصريح قتادة بالتحديث عن عكرمة، وقد وقع مثله من رواية سعيد بن أبي عروبة المذكورة عند الإسماعيلي. وقوله: "سنة" بالرفع خبر مبتدأ محذوف تقديره تلك سنة، وذلك في رواية عبيد الله بن موسى عن همام عند الإسماعيلي. قوله: "أخبرني أبو بكر بن عبد الرحمن" كذا قال عقيل، وتابعه ابن جريج عن شهاب عند مسلم. وقال مالك عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن كما تقدم قبل بباب مختصرا، وكذا أخرجه مسلم والنسائي مطولا من رواية يونس عن ابن شهاب، وتابعه معمر عن ابن شهاب عند السراج، وليس هذا الاختلاف قادحا بل الحديث عند ابن شهاب عنهما معا كما سيأتي في " باب يهوى بالتكبير " من رواية شعيب عنه عنهما جميعا عن أبي هريرة. قوله: "يكبر حين يقوم" فيه التكبير قائما ، وهو

(2/272)


بالاتفاق في حق القادر. قوله: "ثم يكبر حين يركع" قال النووي: فيه دليل على مقارنة التكبير للحركة وبسطه عليها، فيبدأ بالتكبير حين يشرع في الانتقال إلى الركوع، ويمده حتى يصل إلى حد الراكع. انتهى. ودلالة هذا اللفظ على البسط الذي ذكره غير ظاهرة. قوله: "حين يرفع الخ" فيه أن التسميع ذكر النهوض، وأن التحميد ذكر الاعتدال، وفيه دليل على أن الإمام يجمع بينهما خلافا لمالك، لأن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم الموصوفة محمولة على حال الإمامة لكون ذلك هو الأكثر الأغلب من أحواله، وسيأتي البحث فيه بعد خمسة أبواب. قوله: "قال عبد الله بن صالح عن الليث: ولك الحمد" يعني أن ابن صالح زاد في روايته عن الليث الواو في قوله: "ولك الحمد"، وأما باقي الحديث فاتفقا فيه، وإنما لم يسقه عنهما معا وهما شيخاه لأن يحيى من شرطه في الأصول، وابن صالح إنما يورده في المتابعات وسيأتي من رواية شعيب أيضا عن ابن شهاب بإثبات الواو، وكذا في رواية ابن جريج عند مسلم ويونس عند النسائي، قال العلماء: الرواية بثبوت الواو أرجح، وهي زائدة وقيل عاطفة على محذوف وقيل هي واو الحال قاله ابن الأثير وضعف ما عداه. قوله: "ثم يكبر حين يهوى" يعني ساجدا، وكذا هو في رواية شعيب، و " يهوى " ضبطناه بفتح أوله، أي يسقط. قوله: "يكبر حين يقوم من الثنتين" أي الركعتين الأوليين، وقوله: "بعد الجلوس" أي في التشهد الأول. وهذا الحديث مفسر للأحاديث المتقدمة حيث قال فيها " كان يكبر في كل خفض ورفع".

(2/273)


3 - باب وَضْعِ الأَكُفِّ عَلَى الرُّكَبِ فِي الرُّكُوعِ
وَقَالَ أَبُو حُمَيْدٍ فِي أَصْحَابِهِ أَمْكَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَيْهِ مِنْ رُكْبَتَيْهِ
حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي يَعْفُورٍ قَالَ سَمِعْتُ مُصْعَبَ بْنَ سَعْدٍ يَقُولُ صَلَّيْتُ إِلَى جَنْبِ أَبِي فَطَبَّقْتُ بَيْنَ كَفَّيَّ ثُمَّ وَضَعْتُهُمَا بَيْنَ فَخِذَيَّ فَنَهَانِي أَبِي وَقَالَ كُنَّا نَفْعَلُهُ فَنُهِينَا عَنْهُ وَأُمِرْنَا أَنْ نَضَعَ أَيْدِينَا عَلَى الرُّكَبِ
قوله: "باب وضع الأكف على الركب في الركوع" أي كل كف على ركبة. قوله: "وقال أبو حميد" سيأتي موصولا مطولا في " باب سنة الجلوس في التشهد " والغرض منه هنا بيان الصفة المذكورة في الركوع. يقويه ما أشار إليه سعد من نسخ التطبيق. قوله: "عن أبي يعفور" بفتح التحتانية وبالفاء وآخره راء وهو الأكبر كما جزم به المزي وهو مقتضى صنيع ابن عبد البر، وصرح الدارمي في روايته من طريق إسرائيل عن أبي يعفور بأنه العبدي والعبدي هو الأكبر بلا نزاع، وذكر النووي في شرح مسلم أنه الأصغر، وتعقب، وقد ذكرنا اسمهما في المقدمة. قوله: "مصعب بن سعد" أي ابن أبي وقاص. قوله: "فطبقت" أي ألصقت بين باطني كفي في حال الركوع. قوله: "كنا نفعله فنهينا عنه وأمرنا" استدل به على نسخ التطبيق المذكور بناء على أن المراد بالآمر والناهي في ذلك هو النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه الصيغة مختلف فيها، والراجح أن حكمها الرفع، وهو مقتضى تصرف البخاري. وكذا مسلم إذ أخرجه في صحيحه. وفي رواية إسرائيل المذكورة عند الدارمي " كان بنو عبد الله بن مسعود إذا ركعوا جعلوا أيديهم بين أفخاذهم، فصليت إلى جنب أبي فضرب يدي " الحديث، فأفادت هذه الزيادة مستند مصعب في فعل ذلك، وأولاد ابن مسعود أخذوه عن أبيهم. قال الترمذي: التطبيق منسوخ عند أهل العلم لا خلاف بين العلماء في ذلك إلا ما روي

(2/273)


عن ابن مسعود وبعض أصحابه أنهم كانوا يطبقون. انتهى. وقد ورد ذلك عن ابن مسعود متصلا في صحيح مسلم وغيره من طريق إبراهيم عن علقمة والأسود أنهما دخلا على عبد الله فذكر الحديث قال: "فوضعنا أيدينا على ركبنا، فضرب أيدينا ثم طبق بين يديه ثم جعلهما بين فخذيه، فلما صلى قال: هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم" . وحمل هذا على أن ابن مسعود لم يبلغه النسخ. وقد روى ابن المنذر عن ابن عمر بإسناد قوي قال: "إنما فعله النبي صلى الله عليه وسلم مرة " يعني التطبيق، وروى ابن خزيمة من وجه آخر عن علقمة عن عبد الله قال: "علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أراد أن يركع طبق يديه بين ركبتيه فركع، فبلغ ذلك سعدا فقال: صدق أخي، كنا نفعل هذا ثم أمرنا بهذا " يعني الإمساك بالركب. فهذا شاهد قوي لطريق مصعب ابن سعد. وروى عبد الرزاق عن عمر ما يوافق قول سعد، أخرجه من وجه آخر عن علقمة والأسود قال: "صلينا مع عبد الله فطبق، ثم لقينا عمر فصلينا معه فطبقنا، فلما انصرف قال: ذلك شيء كنا نفعله ثم ترك " وفي الترمذي من طريق أبي عبد الرحمن السلمي قال: "قال لنا عمر بن الخطاب: إن الركب سنت لكم فخذوا بالركب " ورواه البيهقي بلفظ: "كنا إذا ركعنا جعلنا أيدينا بين أفخاذنا، فقال عمر: إن من السنة الأخذ بالركب " وهذا أيضا حكمه حكم الرفع لأن الصحابي إذا قال السنة كذا أو سن كذا كان الظاهر انصراف ذلك إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم ولا سيما إذا قاله مثل عمر. قوله: "فنهينا عنه" استدل به ابن خزيمة على أن التطبيق غير جائز، وفيه نظر لاحتمال حمل النهي على الكراهة، فقد روى ابن أبي شيبة من طريق عاصم بن ضمرة عن علي قال: "إذا ركعت فإن شئت قلت هكذا - يعني وضعت يديك على ركبتيك - وإن شئت طبقت " وإسناده حسن، وهو ظاهر في أنه كان يرى التخيير، فإما أنه لم يبلغه النهي وإما حمله على كراهة التنزيه. ويدل على أنه ليس بحرام كون عمر وغيره ممن أنكره لم يأمر من فعله بالإعادة. "فائدة": حكى ابن بطال عن الطحاوي وأقره أن طريق النظر يقتضي أن تفريق اليدين أولى من تطبيقهما، لأن السنة جاءت بالتجافي في الركوع والسجود، وبالمراوحة بين القدمين، قال: فلما اتفقوا على أولوية تفريقهما في هذا واختلفوا في الأول اقتضى النظر أن يلحق ما اختلفوا فيه بما اتفقوا عليه، قال: فثبت انتفاء التطبيق ووجوب وضع اليدين على الركبتين. انتهى كلامه. وتعقبه الزين بن المنير بأن الذي ذكره معارض بالمواضع التي سن فيها الضم كوضع اليمنى على اليسرى في حال القيام، قال: وإذا ثبت مشروعية الضم في بعض مقاصد الصلاة بطل ما اعتمده من القياس المذكور. نعم لو قال أن الذي ذكره ما صلى الله عليه وسلم يقتضي مزية التفريج على التطبيق لكان له وجه. قلت: وقد وردت الحكمة في إثبات التفريج على التطبيق عن عائشة رضي الله عنها، أورد سيف في الفتوح من رواية مسروق أنه سألها عن ذلك فأجابت بما محصله: أن التطبيق من صنيع اليهود، وأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه لذلك، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه موافقة أهل الكتاب فيما لم ينزل عليه، ثم أمر في آخر الأمر بمخالفتهم، والله أعلم. قوله: "أن نضع أيدينا" أي أكفنا من إطلاق الكل وإرادة الجزء، ورواه مسلم من طريق أبي عوانة عن أبي يعفور بلفظ: "وأمرنا أن نضرب بالأكف على الركب " وهو مناسب للفظ الترجمة.
ـــــــ
(1) كذا في الاصلين, ولعله " إنما "

(2/274)


119 - باب إِذَا لَمْ يُتِمَّ الرُّكُوعَ
حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سُلَيْمَانَ قَالَ سَمِعْتُ زَيْدَ بْنَ وَهْبٍ قَالَ رَأَى

(2/274)


حُذَيْفَةُ رَجُلًا لاَ يُتِمُّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ قَالَ مَا صَلَّيْتَ وَلَوْ مُتَّ مُتَّ عَلَى غَيْرِ الْفِطْرَةِ الَّتِي فَطَرَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهَا قوله: "باب إذا لم يتم الركوع" أقود الركوع بالذكر مع أن السجود مثله لكونه أفرده بترجمة تأتي، وغرضه سياق صفة الصلاة على ترتيب أركانها، واكتفى عن جواب " إذا " بما ترجم به بعد من أمر النبي صلى الله عليه وسلم الذي لم يتم ركوعه بالإعادة. قوله: "عن سليمان" هو الأعمش. قوله: "رأى حذيفة رجلا" لم أقف على اسمه لكن عند ابن خزيمة وابن حبان من طريق الثوري عن الأعمش أنه كان عند أبواب كندة، ومثله لعبد الرزاق عن الثوري. قوله: "لا يتم الركوع والسجود" في رواية عبد الرزاق " فجعل ينقر ولا يتم ركوعه " زاد أحمد عن محمد بن جعفر عن شعبة " فقال: منذ كم صليت؟ فقال: منذ أربعين سنة " ومثله في رواية الثوري، وللنسائي من طريق طلحة بن مصرف عن زيد بن وهب مثله، وفي حمله على ظاهره نظر، وأظن ذلك هو السبب في كون البخاري لم يذكر ذلك، وذلك لأن حذيفة مات سنة ست وثلاثين فعلى هذا يكون ابتداء صلاة المذكور قبل الهجرة بأربع أو أكثر ولعل الصلاة لم تكن فرضت بعد، فلعله أطلق وأراد المبالغة، أو لعله ممن كاد يصلي قبل إسلامه ثم أسلم فحصلت المدة المذكورة من الأمرين. قوله: "ما صليت" هو نظير قوله صلى الله عليه وسلم للمسيء صلاته " فإنك لم تصل " وسيأتي بعد باب. قوله: "فطر الله محمدا" زاد الكشميهني: "عليها " واستدل به على وجوب الطمأنينة في الركوع والسجود وعلى أن الإخلال بها مبطل للصلاة، وعلى تكفير تارك الصلاة لأن ظاهره أن حذيفة نفى الإسلام عمن أخل ببعض أركانها فيكون نفيه عمن أخل بها كلها أولى، وهذا بناء على أن المراد بالفطرة الدين، وقد أطلق الكفر على من لم يصل كما رواه مسلم صلى الله عليه وسلم وهو إما على حقيقته عند قوم وإما على المبالغة في الزجر عند آخرين، قال الخطابي: الفطرة الملة أو الدين، قال: ويحتمل أن يكون المراد بها هنا السنة كما جاء " خمس من الفطرة " الحديث، ويكون حذيفة قد أراد توبيخ الرجل ليرتدع في المستقبل، ويرجحه وروده من وجه آخر بلفظ: "سنة محمد " كما سيأتي بعد عشرة أبواب، وهو مصير من البخاري إلى أن الصحابي إذا قال سنة محمد أو فطرته كان حديثا مرفوعا، وقد خالف فيه قوم والراجح الأول.

(2/275)


120 - باب اسْتِوَاءِ الظَّهْرِ فِي الرُّكُوعِ
وَقَالَ أَبُو حُمَيْدٍ فِي أَصْحَابِهِ رَكَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ هَصَرَ ظَهْرَهُ
قوله: "باب استواء الظهر في الركوع" أي من غير ميل في الرأس عن البدن ولا عكسه. قوله: "وقال أبو حميد" هو الساعدي. قوله: "هصر ظهره" بفتح الهاء والصاد المهملة أي أماله. وفي رواية الكشميهني: "حنى " بالمهملة والنون الخفيفة وهو بمعناه، وسيأتي حديث أبي حميد هذا موصولا مطولا في " باب سنة الجلوس في التشهد " بلفظ: "ثم ركع فوضع يديه على ركبتيه ثم هصر طهره " زاد أبو داود من وجه آخر عن أبي حميد " ووتر يديه فتجافى عن جنبيه " وله من وجه آخر " أمكن كفيه من ركبتيه وفرج بين أصابعه ثم هصر ظهره غير مقنع رأسه ولا صافح بخده" .

(2/275)


باب حد إتمام الركوع والععتدال فيه والاطمأنينة
...
121 - باب حَدِّ إِتْمَامِ الرُّكُوعِ وَالِاعْتِدَالِ فِيهِ وَالطُّمَأْنِينَةِ

(2/275)


باب أمر النبي صلى اله عليه وسلم الذب لا يتم ركوعه بالإعادة
...
122 - باب أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي لاَ يُتِمُّ رُكُوعَهُ بِالإِعَادَةِ
793- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ أَخْبَرَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ الْمَقْبُرِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي

(2/276)


هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَدَخَلَ رَجُلٌ فَصَلَّى ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَدَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ السَّلاَمَ فَقَالَ ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ فَصَلَّى ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ ثَلاَثًا فَقَالَ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ فَمَا أُحْسِنُ غَيْرَهُ فَعَلِّمْنِي قَالَ إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلاَةِ فَكَبِّرْ ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلاَتِكَ كُلِّهَا
قوله: "باب أمر النبي صلى الله عليه وسلم الذي لا يتم الركوع بالإعادة" قال الزين بن المنير: هذه من التراجم الخفية، وذلك أن الخبر لم يقع فيه بيان ما نقصه المصلي المذكور، لكنه صلى الله عليه وسلم لما قال له " ثم اركع حتى تطمئن راكعا " إلى آخر ما ذكر له من الأركان اقتضى ذلك تساويها في الحكم لتناول الأمر كل فرد منها، فكل من لم يتم ركوعه أو سجوده أو غير ذلك مما ذكر مأمور بالإعادة. قلت: ووقع في حديث رفاعة بن رافع عند ابن أبي شيبة في هذه القصة " دخل رجل فصلى صلاة خفيفة لم يتم ركوعها ولا سجودها " فالظاهر أن المصنف أشار بالترجمة إلى ذلك. قوله: "عن عبيد الله" هو ابن عمر العمري. قوله: "عن أبيه" قال الدار قطني: خالف يحيى القطان أصحاب عبيد الله كلهم في هذا الإسناد، فإنهم لم يقولوا عن أبيه؛ ويحيى حافظ قال: فيشبه أن يكون عبيد الله حدث به على الوجهين. وقال البزار: لم يتابع يحيى عليه، ورجح الترمذي رواية يحيى. قلت: لكل من الروايتين وجه مرجح، أما رواية يحيى فللزيادة من الحافظ، وأما الرواية الأخرى فللكثرة، ولأن سعيدا لم يوصف بالتدليس وقد ثبت سماعه من أبي هريرة، ومن ثم أخرج الشيخان الطريقين. فأخرج البخاري طريق يحيى هنا وفي " باب وجوب القراءة " وأخرج في الاستئذان طريق عبيد الله بن النمير، وفي الإيمان والنذور طريق أسامة كلاهما عن عبيد الله ليس فيه عن أبيه، وأخرجه مسلم من رواية الثلاثة. وللحديث طريق أخرى من غير رواية أبي هريرة أخرجها أبو داود والنسائي من رواية إسحاق بن أبي طلحة ومحمد بن إسحاق ومحمد بن عمرو ومحمد بن عجلان وداود بن قيس كلهم عن علي بن يحيى بن خلاد بن رافع الزرقي عن أبيه عن عمه رفاعة بن رافع، فمنهم من لم يسم رفاعة قال: "عن عم له بدري " ومنهم من لم يقل عن أبيه، ورواه النسائي والترمذي من طريق يحيى بن علي بن يحيى عن أبيه عن جده عن رفاعة لكن لم يقل الترمذي عن أبيه، وفيه اختلاف آخر نذكره قريبا. قوله: "فدخل رجل" في رواية ابن نمير " ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في ناحية المسجد " وللنسائي من رواية إسحاق بن أبي طلحة " بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس ونحن حوله " وهذا الرجل هو خلاد بن رافع جد علي بن يحيى راوي الخبر، بينه ابن أبي شيبة عن عباد بن العوام عن محمد بن عمرو عن علي بن يحيى عن رفاعة أن خلادا دخل المسجد. وروى أبو موسى في الذيل من جهة ابن عيينة عن ابن عجلان عن علي بن يحيى بن عبد الله بن خلاد عن أبيه عن جده أنه دخل المسجد ا هـ. وفيه أمران: زيادة عبد الله في نسب علي بن يحيى، وجعل الحديث من رواية خلاد جد علي. فأما الأول فوهم من الراوي عن ابن عيينة، وأما الثاني فمن ابن عيينة لأن سعيد بن منصور قد رواه عنه كذلك لكن بإسقاط عبد الله، والمحفوظ أنه من حديث رفاعة، كذلك أخرجه أحمد عن يحيى بن سعيد القطان وابن أبي شيبة عن أبي خالد. الأحمر كلاهما عن محمد بن عجلان. وأما ما وقع عند الترمذي " إذ

(2/277)


جاء رجل كالبدوي فصلى فأخف صلاته " فهذا لا يمنع تفسيره بخلاد لأن رفاعة شبهه بالبدوي لكونه أخف الصلاة أو لغير ذلك. قوله: "فصلى" زاد النسائي من رواية داود بن قيس " ركعتين " وفيه إشعار بأنه صلى نفلا. والأقرب أنها تحية المسجد، وفي الرواية المذكورة " وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يرمقه في صلاته " زاد في رواية إسحاق بن أبي طلحة " ولا ندري ما يعيب منها " وعند ابن أبي شيبة من رواية أبي خالد " يرمقه ونحن لا نشعر " وهذا محمول على حالهم في المرة الأولى، وهو مختصر من الذي قبله كأنه قال: ولا نشعر بما يعيب منها.قوله: "ثم جاء فسلم" في رواية أبي أسامة " فجاء فسلم " وهي أولى لأنه لم يكن بين صلاته ومجيئه تراخ. قوله: "فرد النبي صلى الله عليه وسلم" في رواية مسلم وكذا في رواية ابن نمير في الاستئذان " فقال وعليك السلام " وفي هذا تعقب علي ابن المنير حيث قال فيه: أن الموعظة في وقت الحاجة أهم من رد السلام، ولأنه لعله لم يرد عليه السلام تأديبا على جهله فيؤخذ منه التأديب بالهجر وترك السلام ا هـ. والذي وقفنا عليه من نسخ الصحيحين ثبوت الرد في هذا الموضع وغيره، إلا الذي في الأيمان والنذور وقد ساق الحديث صاحب " العمدة " بلفظ الباب إلا أنه حذف منه " فرد النبي صلى الله عليه وسلم: "فلعل ابن المنير اعتمد على النسخة التي اعتمد عليها صاحب العمدة. قوله: "ارجع" في رواية ابن عجلان فقال: "أعد صلاتك". قوله: "فإنك لم تصل" قال عياض: فيه أن أفعال الجاهل في العبادة على غير علم لا تجزئ، وهو مبني على أن المراد بالنفي نفي الإجزاء وهو الظاهر، ومن حمله على نفي الكمال تمسك بأنه صلى الله عليه وسلم لم يأمره بعد التعليم بالإعادة فدل على إجزائها وإلا لزم تأخير البيان، كذا قاله بعض المالكية وهو المهلب ومن تبعه، وفيه نظر لأنه صلى الله عليه وسلم قد أمره في المرة الأخيرة بالإعادة، فسأله التعليم فعلمه، فكأنه قال له أعد صلاتك على هذه الكيفية، أشار إلى ذلك ابن المنير، وسيأتي في آخر الكلام على الحديث مزيد بحث في ذلك. قوله: "ثلاثا" في رواية ابن نمير " فقال في الثالثة أو في التي بعدها " وفي رواية أبي أسامة " فقال في الثانية أو الثالثة " وتترجح الأولى لعدم وقوع الشك فيها ولكونه صلى الله عليه وسلم كان من عادته استعمال الثلاث في تعليمه غالبا. قوله: "فعلمني" في رواية يحيى بن علي صلى الله عليه وسلم: "فقال الرجل فأرني وعلمني فإنما أنا بشر أصيب وأخطئ فقال: أجل". قوله: "إذا قمت إلى الصلاة فكبر" في رواية ابن نمير " إذا قمت إلى الصلاة فأصبغ الوضوء ثم استقبل القبلة فكبر " وفي رواية يحيى بن علي " فتوضأ كما أمرك الله ثم تشهد وأقم" . وفي رواية إسحاق بن أبي طلحة عند النسائي إنها لم تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله فيغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ويمسح رأسه ورجليه إلى الكعبين ثم يكبر الله ويحمده ويمجده " وعند أبي داود " ويثني عليه " بدل ويمجده. قوله: "ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن" لم تختلف الروايات في هذا عن أبي هريرة، وأما رفاعة ففي رواية إسحاق المذكورة " ويقرأ ما تيسر من القرآن مما علمه الله " وفي رواية يحيى بن علي " فإن كان معك قرآن فاقرأ وإلا فاحمد الله وكبره وهلله" . وفي رواية محمد بن عمرو عند أبي داود " ثم اقرأ بأم القرآن أو بما شاء الله" . ولأحمد وابن حبان من هذا الوجه " ثم اقرأ بأم القرآن ثم اقرأ بما شئت " ترجم له ابن حبان بباب فرض المصلي قراءة فاتحة الكتاب في كل ركعة. قوله: "حتى تطمئن راكعا" في رواية أحمد هذه القريبة " فإذا ركعت فاجعل راحتيك على ركبتيك وامدد ظهرك وتمكن لركوعك" . وفي رواية إسحاق بن أبي طلحة " ثم يكبر فيركع حتى تطمئن مفاصله ويسترخي". قوله: "حتى تعتدل قائما" في رواية ابن نمير عند ابن ماجه: "حتى تطمئن قائما " أخرجه ابن أبي شيبة عنه، وقد أخرج مسلم إسناده

(2/278)


بعينه في هذا الحديث لكن لم يسق لفظه فهو على شرطه، وكذا أخرجه إسحاق ابن راهويه في مسنده عن أبي أسامة، وهو في مستخرج أبي نعيم من طريقه، وكذا أخرجه السراج عن يوسف بن موسى أحد شيوخ البخاري عن أبي أسامة، فثبت ذكر الطمأنينة في الاعتدال على شرط الشيخين، ومثله في حديث رفاعة عند أحمد وابن حبان، وفي لفظ لأحمد " فأقم صلبك حتى ترجع العظام إلى مفاصلها " وعرف بهذا أن قول إمام الحرمين: في القلب من إيجابها - أي الطمأنينة في الرفع من الركوع - شيء لأنها لم تذكر في حديث المسيء صلاته، دال على أنه لم يقف على هذه الطرق الصحيحة. قوله: "ثم اسجد" في رواية إسحاق بن أبي طلحة "ثم يكبر فيسجد حتى يمكن وجهه أو جبهته حتى تطمئن مفصاله وتسترخي" . قوله: "ثم ارفع" في رواية إسحاق المذكورة " ثم يكبر فيركع حتى يستوي قاعدا على مقعدته ويقيم صلبه" . وفي رواية محمد بن عمرو " فإذا رفعت رأسك فاجلس على فخذك اليسرى" . وفي رواية إسحاق " فإذا جلست في وسط الصلاة فاطمئن جالسا ثم افترش فخذك اليسرى ثم تشهد" . قوله: "ثم افعل ذلك في صلاتك كلها" في رواية محمد بن عمرو " ثم اصنع ذلك في كل ركعة وسجدة". "تنبيه": وقع في رواية ابن نمير في الاستئذان بعد ذكر السجود الثاني " ثم ارفع حتى تطمئن جالسا". وقد قال بعضهم: هذا يدل على إيجاب جلسة الاستراحة ولم يقل به أحد، وأشار البخاري إلى أن هذه اللفظة وهم، فإنه عقبه بأن قال: "قال أبو أسامة في الأخير حتى تستوي قائما " ويمكن أن يحمل إن كان محفوظا على الجلوس للتشهد، ويقويه رواية إسحاق المذكورة قريبا، وكلام البخاري ظاهر في أن أبا أسامة خالف ابن نمير، لكن رواه إسحاق بن راهويه في مسنده عن أبي أسامة كما قال ابن نمير بلفظ: "ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم اقعد حتى تطمئن قاعدا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم اقعد حتى تطمئن قاعدا، ثم افعل ذلك في كل ركعة" . وأخرجه البيهقي من طريقه وقال: كذا قال إسحاق بن راهويه عن أبي أسامة، والصحيح رواية عبيد الله بن سعيد أبي قدامة ويوسف بن موسى عن أبي أسامة بلفظ: "ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم ارفع حتى تستوي قائما " ثم ساقه من طريق يوسف بن موسى كذلك. واستدل بهذا الحديث على وجوب الطمأنينة في أركان الصلاة، وبه قال الجمهور، واشتهر عن الحنفية أن الطمأنينة سنة، وصرح بذلك كثير من مصنفيهم، لكن كلام الطحاوي كالصريح في الوجوب عندهم، فإنه ترجم مقدار الركوع والسجود، ثم ذكر الحديث الذي أخرجه أبو داود وغيره في قوله: "سبحان ربي العظيم ثلاثا في الركوع وذلك أدناه" . قال: فذهب قوم إلى أن هذا مقدار الركوع والسجود لا يجزئ أدنى منه، قال. وخالفهم آخرون فقالوا: إذا استوى راكعا واطمأن ساجدا أجزأ، ثم قال: وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد. قال ابن دقيق العيد: تكرر من الفقهاء الاستدلال بهذا الحديث على وجوب ما ذكر فيه وعلى عدم وجوب ما لم يذكر، أما الوجوب فلتعلق الأمر به، وأما عدمه فليس لمجرد كون الأصل عدم الوجوب، بل لكون الموضع تعليم وبيان للجاهل، وذلك يقتضي انحصار الواجبات فيما ذكر ويتقوى ذلك بكونه صلى الله عليه وسلم ذكر ما تعلقت به الإساءة من هذا المصلي وما لم تتعلق به، فدل على أنه لم يقصر المقصود على ما وقعت به الإساءة. قال: فكل موضع اختلف الفقهاء في وجوبه وكان مذكورا في هذا الحديث فلنا أن نتمسك به في وجوبه، وبالعكس. لكن يحتاج أولا إلى جمع طرق هذا الحديث وإحصاء الأمور المذكورة فيه والأخذ بالزائد فالزائد، ثم إن عارض الوجوب أو عدمه دليل أقوى منه عمل به، وإن جاءت صيغة الأمر في حديث آخر بشيء لم يذكر في هذا الحديث قدمت. قلت: قد امتثلت ما أشار إليه وجمعت طرقه القوية من رواية أبي هريرة ورفاعة،

(2/279)


وقد أمليت الزيادات التي اشتملت عليها. فمما لم يذكر فيه تصريحا من الواجبات المتفق عليها: النية، والقعود الأخير ومن المختلف فيه التشهد الأخير والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فيه، والسلام في آخر الصلاة. قال النووي: وهو محمول على أن ذلك كان معلوما عند الرجل ا هـ. وهذا يحتاج إلى تكملة، وهو ثبوت الدليل على إيجاب ما ذكر كما تقدم، وفيه بعد ذلك نظر. قال: وفيه دليل على أن الإقامة والتعوذ ودعاء الافتتاح ورفع اليدين في الإحرام وغيره ووضع اليمنى على اليسرى وتكبيرات الانتقالات وتسبيحات الركوع والسجود وهيئات الجلوس ووضع اليد على الفخذ ونحو ذلك مما لم يذكر في الحديث ليس بواجب ا هـ. وهو في معرض المنع لثبوت بعض ما ذكر في بعض الطرق كما تقدم بيانه، فيحتاج من لم يقل بوجوبه إلى دليل على عدم وجوبه كما تقدم تقريره. واستدل به على تعين لفظ التكبير، خلافا لمن قال يجزئ بكل لفظ يدل على التعظيم، وقد تقدمت هذه المسألة في أول صفة الصلاة. قال ابن دقيق العيد: ويتأيد ذلك بأن العبادات محل التعبدات، ولأن رتب هذه الأذكار مختلفة، فقد لا يتأدى برتبة منها ما يقصد برتبة أخرى. ونظيره الركوع، فإن المقصود به التعظيم بالخضوع، فلو أبدله بالسجود لم يجزئ، مع أنه غاية الخضوع. واستدل به على أن قراءة الفاتحة لا تتعين، قال ابن دقيق العيد: ووجهه أنه إذا تيسر فيه غير الفاتحة فقرأه يكون ممتثلا فيخرج عن العهدة، قال: والذين عينوها أجابوا بأن الدليل على تعينها تقييد للمطلق في هذا الحديث، وهو متعقب، لأنه ليس بمطلق من كل وجه بل هو مقيد بقيد التيسير الذي يقتضي التخيير، وإنما يكون مطلقا لو قال: اقرأ قرآنا، ثم قال: اقرأ فاتحة الكتاب. وقال بعضهم: هو بيان للمجمل، وهو متعقب أيضا، لأن المجمل ما لم تتضح دلالته، وقوله: "ما تيسر " متضح لأنه ظاهر في التخيير، قال: وإنما يقرب ذلك إن جعلت " ما " موصولة، وأريد بها شيء معين وهو الفاتحة لكثرة حفظ المسلمين لها، فهي المتيسرة. وقيل هو محمول على أنه عرف من حال الرجل أنه لا يحفظ الفاتحة ومن كان كذلك كان الواجب عليه قراءة ما تيسر. وقيل: محمول على أنه منسوخ بالدليل على تعيين الفاتحة، ولا يخفى ضعفهما. لكنه محتمل، ومع الاحتمال لا يترك الصريح وهو قوله: "لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب " وقيل: إن قوله: "ما تيسر " محمول على ما زاد على الفاتحة جمعا بينه وبين دليل إيجاب الفاتحة. ويؤيده الرواية التي تقدمت لأحمد وابن حبان حيث قال فيها " اقرأ بأم القرآن، ثم اقرأ بما شئت " واستدل به على وجوب الطمأنينة في الأركان. واعتذر بعض من لم يقل به بأنه زيادة على النص، لأن المأمور به في القرآن مطلق السجود فيصدق بغير طمأنينة، فالطمأنينة زيادة والزيادة على المتواتر بالآحاد لا تعتبر. وعورض بأنها ليست زيادة لكن بيان للمراد بالسجود، وأنه خالف السجود اللغوي لأنه مجرد وضع الجبهة فبينت السنة أن السجود الشرعي ما كان بالطمأنينة. ويؤيده أن الآية نزلت تأكيدا لوجوب السجود، وكان النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه يصلون قبل ذلك، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بغير طمأنينة. وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدم: وجوب الإعادة على من أخل بشيء من واجبات الصلاة. وفيه أن الشروع في النافلة ملزم، لكن يحتمل أن تكون تلك الصلاة كانت فريضة فيقف الاستدلال. وفيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحسن التعليم بغير تعنيف، وإيضاح المسألة، وتخليص، المقاصد، وطلب المتعلم من العالم أن يعلمه. وفيه تكرار السلام ورده وإن لم يخرج من الموضع إذا وقعت صورة انفصال. وفيه أن القيام في الصلاة ليس مقصودا لذاته، وإنما يقصد للقراءة فيه. وفيه جلوس الإمام في المسجد وجلوس أصحابه معه. وفيه التسليم للعالم والانقياد له والاعتراف بالتقصير والتصريح بحكم البشرية في جواز الخطأ

(2/280)


وفيه أن فرائض الوضوء مقصورة على ما ورد به القرآن لا ما زادته السنة فيندب صلى الله عليه وسلم. وفيه حسن خلقه صلى الله عليه وسلم ولطف معاشرته، وفيه تأخير البيان في المجلس للمصلحة. وقد استشكل تقرير النبي صلى الله عليه وسلم له على صلاته وهي فاسدة على القول بأنه أخل ببعض الواجبات، وأجاب المازري بأنه أراد استدراجه بفعل ما يجهله مرات لاحتمال أن يكون فعله ناسيا أو غافلا فيتذكره فيفعله من غير تعليم، وليس ذلك من باب التقرير الخطأ، بل من باب تحقق الخطأ. وقال النووي نحوه، قال: وإنما لم يعلمه أولا ليكون أبلغ في تعريفه وتعريف غيره بصفة الصلاة المجزئة. وقال ابن الجوزي: يحتمل أن يكون ترديده لتفخيم الأمر وتعظيمه عليه، ورأى أن الوقت لم يفته، فرأى إيقاظ الفطنة للمتروك. وقال ابن دقيق العيد: ليس التقرير بدليل على الجواز مطلقا، بل لا بد من انتفاء الموانع. ولا شك أن في زيادة قبول المتعلم لما يلقي إليه بعد تكرار فعله واستجماع نفسه وتوجه سؤاله مصلحة مانعة من وجوب المبادرة إلى التعليم، لا سيما مع عدم خوف الفوات، إما بناء على ظاهر الحال، أو بوحي خاص. وقال التوربشتي: إنما سكت عن تعليمه أولا لأنه لما رجع لم يستكشف الحال من مورد الوحي، وكأنه اغتر بما عنده من العلم فسكت عن تعليمه زجرا له وتأديبا وإرشادا إلى استكشاف ما استبهم عليه، فلما طلب كشف الحال من مورده أرشد إليه. انتهى. لكن فيه مناقشة، لأنه إن تم له في الصلاة الثانية والثالثة لم يتم له في الأولى، لأنه صلى الله عليه وسلم بدأه لما جاء أول مرة بقوله: "ارجع فصل فإنك لم تصل " فالسؤال وارد على تقريره له على الصلاة الأولى كيف لم ينكر عليه في أثنائها؟ لكن الجواب يصلح بيانا للحكمة في تأخير البيان بعد ذلك، والله أعلم. وفيه حجة على من أجاز القراءة بالفارسية لكون ما ليس بلسان العرب لا يسمى قرآنا، قاله عياض. وقال النووي: وفيه وجوب القراءة في الركعات كلها، وأن المفتي إذا سئل عن شيء وكان هناك شيء آخر يحتاج إليه السائل يستحب له أن يذكره له وإن لم يسأله عنه ويكون من باب النصيحة لا من الكلام فيما لا معنى له. وموضع الدلالة منه كونه قال: "علمني " أي الصلاة فعلمه الصلاة ومقدماتها.

(2/281)


123 - باب الدُّعَاءِ فِي الرُّكُوعِ
794- حدثنا حفص بن عمر قال حدثنا شعبة عن منصور عن أبي الضحى عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها قالت ثم كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه وسجوده سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي "
[الحديث794- أطرافه في :4968,4967,4293,817]
قوله: "باب الدعاء في الركوع" ترجم بعد هذا بأبواب التسبيح والدعاء في السجود، وساق فيه حديث الباب، فقيل: الحكمة في تخصيص الركوع بالدعاء دون التسبيح - مع أن الحديث واحد - أنه قصد الإشارة إلى الرد على من كره الدعاء في الركوع كمالك، وأما التسبيح فلا خلاف فيه، فاهتم هنا بذكر الدعاء لذلك. وحجة المخالف الحديث الذي أخرجه مسلم من رواية ابن عباس مرفوعا وفيه: "فأما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء، فقمن أن يستجاب لكم " لكنه لا مفهوم له، فلا يمتنع الدعاء في الركوع كما لا يمتنع التعظيم في السجود. وظاهر حديث عائشة أنه كان يقول هذا الذكر كله في الركوع وكذا في السجود، وسيأتي بقية الكلام عليه في الباب
ـــــــ
(1) في هذا نظر . والصواب وجوب ما دلت السنة على وجوبه من الضوء كالمضمضة والاستنشاق, لأن النبي صلى الله عليه وسلم لأن السنة تفسر القرآن وما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم فهو مما أمر الله به لقوله تعالى { من يطع الرسول فقد أطاع الله } الاية . والله أعلم

(2/281)


المذكور إن شاء الله تعالى.

(2/282)


124 - باب مَا يَقُولُ الإِمَامُ وَمَنْ خَلْفَهُ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ
795- حدثنا آدم قال حدثنا بن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة قال ثم كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قال سمع الله لمن حمده قال اللهم ربنا ولك الحمد وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ركع وإذا رفع رأسه يكبر وإذا قام من السجدتين قال الله أكبر"
قوله: "باب ما يقول الإمام ومن خلفه إذا رفع رأسه من الركوع". وقع في شرح ابن بطال هنا " باب القراءة في الركوع والسجود وما يقول الإمام ومن خلفه الخ " وتعقبه بأن قال: لم يدخل فيه حديثا لجواز القراءة ولا منعها. وقال ابن رشيد: هذه الزيادة لم تقع فيما رويناه من نسخ البخاري. انتهى. وكذلك أقول، وقد تبع ابن المنير ابن بطال، ثم اعتذر عن البخاري بأن قال: يحتمل أن يكون وضعها للأمرين فذكر أحدهما وأخلى للآخر بياضا ليذكر فيه ما يناسبه، ثم عرض له مانع فبقيت الترجمة بلا حديث. وقال ابن رشيد: يحتمل أن يكون ترجم بحديث مشيرا إليه ولم يخرجه لأنه ليس على شرطه لأن في إسناده اضطرابا، وقد أخرجه مسلم من حديث ابن عباس في أثناء حديث، وفي آخره: "ألا وإني نهيت أن أقرأ القرآن راكعا أو ساجدا " ثم تعقبه على نفسه بأن ظاهر الترجمة الجواز وظاهر الحديث المنع. قال: فيحتمل أن يكون معنى الترجمة باب حكم القراءة، وهو أعم من الجواز أو المنع، وقد اختلف السلف في ذلك جوازا ومنعا فلعله كان يرى الجواز لأن حديث النهي لم يصح عنده. انتهى ملخصا. ومال الزين بن المنير إلى هذا الأخير، لكن حمله على وجه أخص منه فقال: لعله أراد أن الحمد في الصلاة لا حجر فيه، وإذا ثبت أنه من مطالبها ظهر تسويغ ذلك في الركوع وغيره بأي لفظ كان، فيدخل في ذلك آيات الحمد كمفتتح الأنعام وغيرها. فإن قيل: ليس في حديث الباب ذكر ما يقوله المأموم، أجاب ابن رشيد بأنه أشار إلى التذكير بالمقدمات لتكون الأحاديث عند الاستنباط نصب عيني المستنبط، فقد تقدم حديث: "إنما جعل الإمام ليؤتم به " وحديث: "صلوا كما رأيتموني أصلي". قال: ويمكن أن يكون قاس المأموم على الإمام لكن فيه ضعف. قلت: وقد ورد في ذلك حديث عن أبي هريرة أيضا أخرجه الدار قطني بلفظ: "كنا إذا صلينا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال سمع الله لمن حمده، قال من وراءه سمع الله لمن حمده " ولكن قال الدار قطني: المحفوظ في هذا " فليقل من وراءه ربنا ولك الحمد " وسنذكر الاختلاف في هذه المسألة في الباب الذي يليه إن شاء الله تعالى. قوله: "إذا قال سمع الله لمن حمده" في رواية أبي داود الطيالسي عن ابن أبي ذئب " كان إذا رفع رأسه من الركوع قال اللهم ربنا لك الحمد " ولا منافاة بينهما لأن أحدهما ذكر ما لم يذكره الآخر. قوله: "اللهم ربنا" ثبت في أكثر الطرق هكذا، وفي بعضها يحذف " اللهم " وثبوتها أرجح، وكلاهما جائز، وفي ثبوتها تكرير النداء كأنه قال يا الله يا ربنا. قوله: "ولك الحمد" كذا ثبت زيادة الواو في طرق كثيرة، وفي بعضها كما في الباب الذي يليه بحذفها، قال النووي: المختار لا ترجيح لأحدهما على الآخر. وقال ابن دقيق العيد: كأن إثبات الواو دال على معنى زائد، لأنه يكون التقدير مثلا ربنا استجب ولك الحمد، فيشتمل على معنى الدعاء ومعنى الخبر. انتهى. وهذا بناء على أن الواو عاطفة، وقد تقدم في " باب التكبير إذا قام من السجود " قول من جعلها حالية، وأن الأكثر رجحوا ثبوتها. وقال الأثرم: سمعت أحمد يثبت

(2/282)


الواو في " ربنا ولك الحمد " ويقول: ثبت فيه عدة أحاديث. قوله: "إذا ركع وإذا رفع رأسه" أي من السجود، وقد ساق البخاري هذا المتن مختصرا، ورواه أبو يعلى من طريق شبابة وأوله عنده عن أبي هريرة وقال: "أنا أشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يكبر إذا ركع، وإذا قال سمع الله لمن حمده قال: اللهم ربنا لك الحمد، وكان يكبر إذا سجد وإذا رفع رأسه وإذا قام من السجدتين " ورواه الإسماعيلي من وجه آخر عن ابن أبي ذئب بلفظ: "وإذا قام من الثنتين كبر " ورواه الطيالسي بلفظ: "وكان يكبر بين السجدتين " والظاهر أن المراد بالثنتين الركعتان، والمعنى أنه كان يكبر إذا قام إلى الثالثة، ويؤيده الرواية الماضية في " باب التكبير إذا قام من السجود " بلفظ: "ويكبر حين يقوم من الثنتين بعد الجلوس " وأما رواية الطيالسي فالمراد بها التكبير للسجدة الثانية، وكأن بعض الرواة ذكر ما لم يذكر الآخر. قوله: "قال الله أكبر" كذا وقع مغير الأسلوب إذ عبر أولا بلفظ: "يكبر " قال الكرماني: هو للتفنن أو لإرادة التعميم، لأن التكبير يتناول التعريف ونحوه. انتهى. والذي يظهر أنه من تصرف الرواة، فإن الروايات التي أشرنا إليها جاءت كلها على أسلوب واحد، ويحتمل أن يكون المراد به تعيين هذا اللفظ دون غيره من ألفاظ التعظيم، وقد تقدم الكلام على بقية فوائده في " باب التكبير إذا قام من السجود " ويأتي الكلام على محل التكبير عند القيام من التشهد الأول بعد بضعة عشر بابا.

(2/283)


125 - باب فَضْلِ اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ سُمَيٍّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إِذَا قَالَ الإِمَامُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَقُولُوا اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ الْمَلاَئِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ"
قوله: "باب فضل اللهم ربنا لك الحمد" في رواية الكشميهني: "ولك الحمد " بإثبات الواو، وفيه رد على ابن القيم حيث جزم بأنه لم يرد الجمع بين اللهم والواو في ذلك. وثبت لفظ: "باب " عند من عدا أبا ذر والأصيلي، والراجح حذفه كما سيأتي. قوله: "إذا قال الإمام الخ" استدل به على أن الإمام لا يقول: "ربنا لك الحمد " وعلى أن المأموم لا يقول: "سمع الله لمن حمده " لكون ذلك لم يذكر في هذه الرواية كما حكاه الطحاوي، وهو قول مالك وأبي حنيفة، وفيه نظر لأنه ليس فيه ما يدل على النفي، بل فيه أن قول المأموم ربنا لك الحمد يكون عقب قول الإمام سمع الله لمن حمده، والواقع في التصوير ذلك لأن الإمام يقول التسميع في حال انتقاله والمأموم يقول التحميد في حال اعتداله، فقوله يقع عقب قول الإمام كما في الخبر، وهذا الموضع يقرب من مسألة التأمين كما تقدم من أنه لا يلزم من قوله: "إذا قال ولا الضالين فقولوا آمين " أن الإمام لا يؤمن بعد قوله ولا الضالين، وليس فيه أن الإمام يؤمن كما أنه ليس في هذا أنه يقول ربنا لك الحمد، لكنهما مستفادان من أدلة أخرى صحيحة صريحة كما تقدم في التأمين وكما مضى في الباب الذي قبله وفي غيره ويأتي أنه صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين التسميع والتحميد. وأما ما احتجوا به من حيث المعنى من أن معنى سمع الله لمن حمده طلب التحميد فيناسب حال الإمام، وأما المأموم فتناسبه الإجابة بقوله ربنا لك الحمد ويقويه حديث أبي موسى الأشعري عند مسلم وغيره، ففيه: "وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا ولك الحمد يسمع

(2/283)


الله لكم. فجوابه أن يقال لا يدل ما ذكرتم على أن الإمام لا يقول ربنا ولك الحمد، إذ لا يمتنع أن يكون طالبا ومجيبا، وهو نظير ما تقدم في مسألة التأمين من أنه لا يلزم من كون الإمام داعيا والمأموم مؤمنا أن لا يكون الإمام مؤمنا، ويقرب منه ما تقدم البحث فيه في الجمع بين الحيعلة والحوقلة لسامع المؤذن، وقضية ذلك أن الإمام يجمعهما وهو قول الشافعي وأحمد وأبي يوسف ومحمد والجمهور، والأحاديث الصحيحة تشهد له، وزاد الشافعي أن المأموم يجمع بينهما أيضا لكن لم يصح في ذلك شيء ولم يثبت عن ابن المنذر أنه قال إن الشافعي انفرد بذلك لأنه قد نقل في الأشراف عن عطاء وابن سيرين وغيرهما القول بالجمع بينهما للمأموم، وأما المنفرد فحكى الطحاوي وابن عبد البر الإجماع على أنه يجمع بينهما، وجعله الطحاوي حجة لكون الإمام يجمع بينهما للاتفاق على اتحاد حكم الإمام والمنفرد، لكن أشار صاحب الهداية إلى خلاف عندهم في المنفرد. قوله: "فإنه من وافق قوله" فيه إشعار بأن الملائكة تقول ما يقول المأمومون، وقد تقدم باقي البحث فيه في " باب التأمين".

(2/284)


باب حدثنا معاذ بن فضالة قال حدثنا هشام عن يحيى عن أبي سلمة عن أبي هريرة
...
126 – باب * 797- حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ قَالَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ لاَقَرِّبَنَّ صَلاَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقْنُتُ فِي الرَّكْعَةِ الْآخِرَةِ مِنْ صَلاَةِ الظُّهْرِ وَصَلاَةِ الْعِشَاءِ وَصَلاَةِ الصُّبْحِ بَعْدَ مَا يَقُولُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَيَدْعُو لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَلْعَنُ الْكُفَّارَ "
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الأَسْوَدِ قَالَ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كَانَ الْقُنُوتُ فِي الْمَغْرِبِ وَالْفَجْرِ "
[الحديث798 – طرفه في : 1004]
799- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ نُعَيْمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُجْمِرِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ يَحْيَى بْنِ خَلاَدٍ الزُّرَقِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ الزُّرَقِيِّ قَالَ كُنَّا يَوْمًا نُصَلِّي وَرَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرَّكْعَةِ قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ قَالَ رَجُلٌ وَرَاءَهُ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ مَنْ الْمُتَكَلِّمُ قَالَ أَنَا قَالَ رَأَيْتُ بِضْعَةً وَثَلاَثِينَ مَلَكًا يَبْتَدِرُونَهَا أَيُّهُمْ يَكْتُبُهَا أَوَّلُ "
قوله: "باب" كذا للجميع بغير ترجمة إلا للأصيلي فحذفه، وعليه شرح ابن بطال ومن تبعه، والراجح إثباته كما أن الراجح حذف باب من الذي قبله، وذلك أن الأحاديث المذكورة فيه لا دلالة فيها على فضل اللهم ربنا لك الحمد إلا بتكلف، فالأولى أن يكون بمنزلة الفصل من الباب الذي قبله كما تقدم في عدة مواضع، وذلك أنه لما قال أولا " باب ما يقول الإمام ومن خلفه إذا رفع رأسه من الركوع " وذكر فيه قوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم ربنا ولك الحمد " استطرد إلى ذكر فضل هذا القول بخصوصه، ثم فصل بلفظ: "باب " لتكميل الترجمة الأولى فأورد بقية ما ثبت على شرطه مما يقال في الاعتدال كالقنوت وغيره. وقد وجه الزين بن المنير دخول الأحاديث الثلاثة تحت ترجمة فضل " اللهم ربنا لك الحمد " فقال: وجه دخول حديث أبي هريرة أن القنوت لما كان مشروعا في الصلاة كالت هي مفتاحه ومقدمته، ولعل ذلك سبب تخصيص القنوت بما بعد ذكرها. انتهى. ولا يخفى ما فيه من التكلف، وقد تعقب من وجه آخر وهو

(2/284)


أن الخبر المذكور في الباب لم يقع فيه قول " ربنا لك الحمد " لكن له أن يقول وقع في هذه الطريق اختصار وهي مذكورة في الأصل، ولم يتعرض لحديث أنس، لكن له أن يقول إنما أورده استطرادا لأجل ذكر المغرب. قال: وأما حديث رفاعة فظاهر في أن الابتدار الذي تنشأ عنه الفضيلة إنما كان لزيادة قول الرجل، لكن لما كانت الزيادة المذكورة صفة في التحميد جارية مجرى التأكيد له تعين جعل الأصل سببا أو سببا للسبب فثبتت بذلك الفضيلة، والله أعلم. وقد ترجم بعضهم له بباب القنوت ولم أره في شيء من روايتنا. قوله: "حدثنا هشام" هو الدستوائي ويحيى هو ابن أبي كثير. قوله: "عن أبي سلمة" في رواية مسلم من طريق معاذ بن هشام عن أبيه عن يحيى " حدثني أبو سلمة". قوله: "لأقربن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم" في رواية مسلم المذكورة " لأقربن لكم " وللإسماعيلي: "إني لأقربكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم". قوله: "فكان أبو هريرة إلى آخره" قيل المرفوع من هذا الحديث وجود القنوت لا وقوعه في الصلوات المذكورة فإنه موقوف على أبي هريرة، ويوضحه ما سيأتي في تفسير النساء من رواية شيبان عن يحيى من تخصيص المرفوع بصلاة العشاء، ولأبي داود من رواية الأوزاعي عن يحيى " قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة العتمة شهرا " ونحوه لمسلم، لكن لا ينافي هذا كونه صلى الله عليه وسلم قنت في غير العشاء، والظاهر سياق حديث الباب أن جميعه مرفوع ولعل هذا هو السر في تعقب المصنف له بحديث أنس إشارة إلى أن القنوت في النازلة لا يختص بصلاة معينة، واستشكل التقييد في رواية الأوزاعي بشهر لأن المحفوظ أنه كان في قصة الذين قتلوا أصحاب بئر معونة كما سيأتي في آخر أبواب الوتر، وسيأتي في تفسير آل عمران من رواية الزهري عن أبي سلمة في هذا الحديث أن المراد بالمؤمنين من كان مأسورا بمكة، وبالكافرين قريش، وأن مدته كانت طويلة فيحتمل أن يكون التقييد بشهر في حديث أبي هريرة يتعلق بصفة من الدعاء مخصوصة وهي قوله: "اشدد وطأتك على مضر" . قوله: "في الركعة الأخرى" في رواية الكشميهني: "الآخرة " وسيأتي بعد باب من رواية الزهري عن أبي سلمة أن ذلك كان بعد الركوع، وسيأتي في تفسير آل عمران بيان الخلاف في مدة الدعاء عليهم والتنبيه على أحوال من سمي منهم. وقد اختصر يحيى سياق هذا الحديث عن أبي سلمة وطوله الزهري كما سيأتي بعد باب، وسيأتي في الدعوات بالإسناد الذي ذكره المصنف أتم مما ساقه هنا إن شاء الله تعالى. قوله: "إسماعيل" هو المعروف بابن علية، والإسناد كله بصريون، وعبد الله بن أبي الأسود نسب إلى جد أبيه، واسم أبيه محمد بن حميد. قوله: "كان القنوت" أي في أول الأمر، واحتج بهذا على أن قول الصحابي كنا نفعل كذا له حكم الرفع وإن لم يقيده بزمن النبي صلى الله عليه وسلم كما هو قول الحاكم، وقد اتفق الشيخان على إخراج هذا الحديث في المسند الصحيح وليس فيه تقييد، وسنذكر اختلاف النقل عن أنس في القنوت في محله من الصلاة وفي أي الصلوات شرع، وهل استمر مطلقا أو مدة معينة أو في حالة دون حالة حيت أورد المصنف بعض ذلك في آخر أبواب الوتر إن شاء الله تعالى. قوله: "المجمر" بالخفض وهو صفة لنعيم ولأبيه. قوله: "عن علي بن يحيى" في رواية ابن خزيمة أن علي بن يحيى حدثه، والإسناد كله مدنيون، وفيه رواية الأكابر عن الأصاغر لأن نعيما أكبر سنا من علي بن يحيى وأقدم سماعا، وفيه ثلاثة من التابعين في نسق وهم من بين مالك والصحابي، هذا من حيث الرواية وأما من حيث شرف الصحبة فيحيى بن خلاد والد علي مذكور في الصحابة لأنه قيل إن النبي صلى الله عليه وسلم حنكه لما ولد. قوله: "فلما رفع رأسه من الركعة قال: سمع الله لمن حمده" ظاهره أن قول التسميع وقع بعد رفع الرأس من الركوع فيكون من أذكار الاعتدال، وقد مضى في حديث أبي هريرة وغيره ما يدل على أنه ذكر الانتقال

(2/285)


وهو المعروف، ويمكن الجمع بينهما بأن معنى قوله: "فلما رفع رأسه " أي فلما شرع في رفع رأسه ابتداء القول المذكور وأتمه بعد أن اعتدل. قوله: "قال رجل" زاد الكشميهني: "وراءه " قال ابن بشكوال: هذا الرجل هو رفاعة بن رافع راوي الخبر، ثم استدل على ذلك بما رواه النسائي وغيره عن قتيبة عن رفاعة بن يحيى الزرقي عن عم أبيه معاذ بن رفاعة عن أبيه قال: "صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم فعطست فقلت: الحمد لله " الحديث، ونوزع تفسيره به لاختلاف سياق السبب والقصة، والجواب أنه لا تعارض بينهما بل يحمل على أن عطاسه وقع عند رفع رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا مانع أن يكنى عن نفسه لقصد إخفاء عمله، أو كنى عنه لنسيان بعض الرواة لاسمه، وأما ما عدا ذلك من الاختلاف فلا يتضمن إلا زيادة لعل الراوي اختصرها كما سنبينه، وأفاد بشر بن عمر الزهراني في روايته عن رفاعة بن يحيى أن تلك الصلاة كانت المغرب. قوله: "مباركا فيه" زاد رفاعة بن يحيى "مباركا عليه كما يحب ربنا ويرضى" فأما قوله: "مباركا عليه " فيحتمل أن يكون تأكيدا وهو الظاهر، وقيل الأول بمعنى الزيادة والثاني بمعنى البقاء، قال الله تعالى : {وبارك فيها وقدر فيها أقواتها} فهذا يناسب الأرض لأن المقصود به النماء والزيادة لا البقاء لأنه بصدد التغير. وقال تعالى: {وباركنا عليه وعلى إسحاق} فهذا يناسب الأنبياء لأن البركة باقية لهم، ولما كان الحمد يناسبه المعنيان جمعهما، كذا قرره بعض الشراح ولا يخفى ما فيه. وأما قوله كما يحب ربنا ويرضى ففيه من حسن التفويض إلى الله تعالى ما هو الغاية في القصد. قوله: "من المتكلم" زاد رفاعة بن يحيى في الصلاة " فلم يتكلم أحد، ثم قالها الثانية فلم يتكلم أحد، ثم قالها الثالثة فقال رفاعة بن رافع: أنا. قال: كيف قلت؟ فذكره. فقال: والذي نفسي بيده " الحديث. قوله: "بضعة وثلاثين" فيه رد على من زعم كالجوهري أن البضع يختص بما دون العشرين. قوله: "أيهم يكتبها أول" في رواية رفاعة بن يحيى المذكورة " أيهم يصعد بها أول " وللطبراني من حديث أبي أيوب " أيهم يرفعها " قال السهيلي روى أول بالضم على البناء لأنه ظرف قطع من الإضافة، وبالنصب على الحال. انتهى. وأما " أيهم " فرويناه بالرفع وهو مبتدأ وخبره يكتبها، قاله الطيبي وغيره تبعا لأبي البقاء في إعراب قوله تعالى: {يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم} قال: وهو في موضع نصب، والعامل فيه ما دل عليه "يلقون" وأي استفهامية، والتقدير مقول فيهم أيهم يكتبها، ويجوز في أيهم النصب بأن يقدر المحذوف فينظرون أيهم، وعند سيبويه أي موصولة، والتقدير يبتدرون الذي هو يكتبها أول، وأنكر جماعة من البصريين ذلك، ولا تعارض بين روايتي يكتبها ويصعد بها لأنه يحمل على أنهم يكتبونها ثم يصعدون بها، والظاهر أن هؤلاء الملائكة غير الحفظة، ويؤيده ما في الصحيحين عن أبي هريرة مرفوعا: "إن لله ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر " الحديث. واستدل به على أن بعض الطاعات قد يكتبها غير الحفظة، وقد استشكل تأخير رفاعة إجابة النبي صلى الله عليه وسلم حين كرر سؤاله ثلاثا مع أن إجابته واجبة عليه، بل وعلى كل من سمع رفاعة، فإنه لم يسأل المتكلم وحده. وأجيب بأنه لما لم يعين واحدا بعينه لم تتعين المبادرة بالجواب من المتكلم ولا من واحد بعينه، فكأنهم انتظروا بعضهم ليجيب، وحملهم على ذلك خشية أن يبدو في حقه شيء ظنا منهم أنه أخطأ فيما فعل، ورجوا أن يقع العفو عنه. وكأنه صلى الله عليه وسلم لما رأى سكوتهم فهم ذلك فعرفهم أنه لم يقل بأسا، ويدل على ذلك أن في رواية سعيد بن عبد الجبار عن رفاعة بن يحيى عند ابن قانع قال رفاعة " فوددت أني خرجت من مالي وأني لم أشهد مع النبي صلى الله عليه وسلم تلك الصلاة". ولأبي داود من حديث عامر بن ربيعة قال: "من القائل الكلمة؟ فإنه لم يقل بأسا. فقال: أنا قلتها، لم أرد بها إلا خيرا " وللطبراني

(2/286)


من حديث أبي أيوب " فسكت الرجل ورأى أنه قد هجم من رسول الله صلى الله عليه وسلم على شيء كرهه. فقال: من هو؟ فإنه لم يقل إلا صوابا. فقال الرجل: أنا يا رسول الله قلتها، أرجو بها الخير " ويحتمل أيضا أن يكون المصلون لم يعرفوه بعينه إما لإقبالهم على صلاتهم وإما لكونه في آخر الصفوف فلا يرد السؤال في حقهم، والعذر عنه هو ما قدمناه، والحكمة في سؤاله صلى الله عليه وسلم له عمن قال أن يتعلم السامعون كلامه فيقولوا مثله. واستدل به على جواز إحداث ذكر في الصلاة غير مأثور إذا كان مخالف للمأثور، وعلى جواز رفع الصوت بالذكر ما لم يشوش على من معه، وعلى أن العاطس في الصلاة يحمد الله بغير كراهة، وأن المتلبس بالصلاة لا يتعين عليه تشميت العاطس وعلى تطويل الاعتدال بالذكر كما سيأتي البحث فيه في الباب الذي بعده. واستنبط منه ابن بطال جواز رفع الصوت بالتبليغ خلف الإمام، وتعقبه الزين بن المنير بأن سماعه صلى الله عليه وسلم لصوت الرجل لا يستلزم الرجل رفعه لصوته كرفع صوت المبلغ، وفي هذا التعقب نظر، لأن غرض ابن بطال إثبات جواز الرفع في الجملة، وقد سبقه إليه ابن عبد البر واستدل له بإجماعهم على أن الكلام الأجنبي يبطل عمده الصلاة ولو كان سرا، قال: وكذلك الكلام المشروع في الصلاة لا يبطلها ولو كان جهرا. وقد تقدم الكلام على مسألة المبلغ في " باب من أسمع الناس تكبير الإمام". "فائدة": قيل الحكمة في اختصاص العدد المذكور من الملائكة بهذا الذكر أن عدد حروفه مطابق للعدد المذكور، فإن البضع مع الثلاث إلى التسع وعدد الذكر المذكور ثلاثة وثلاثون حرفا، ويعكر على هذا الزيادة المتقدمة في رواية رفاعة بن يحيى وهي قوله: "مباركا عليه كما يحب ربنا ويرضي " بناء على أن القصة واحدة. ويمكن أن يقال: المتبادر إليه هو الثناء الزائد على المعتاد وهو من قوله: "حمدا كثيرا الخ " دون قوله: "مباركا عليه " فإنه كما تقدم للتأكيد وعدد ذلك سبعة وثلاثون حرفا، وأما ما وقع عند مسلم من حديث أنس " لقد رأيت اثني عشر ملكا يبتدرونها " وفي حديث أبي أيوب عند الطبراني " ثلاثة عشر " فهو مطابق لعدد الكلمات المذكورة في سياق رفاعة بن يحيى ولعددها أيضا في سياق حديث الباب لكن على اصطلاح النحاة، والله أعلم.

(2/287)


باب الاطمأنينة حين يرفع رأسه من الركوع
...
127 - باب الطُّمَأْنِينَةِ حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ
حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ ثَابِتٍ قَالَ كَانَ أَنَسٌ يَنْعَتُ لَنَا صَلاَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ يُصَلِّي وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ قَامَ حَتَّى نَقُولَ قَدْ نَسِيَ "
[الحديث 800 – طرفه في : 821]
ـــــــ
(1) هذا فيه نظر , ولو قيده الشارح بزمن النبي صلى الله عليه وسلم لكان أوجه , لأنه في ذلك الزمن لايقر على باطل , خلاف الحال بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم فان الوحي قد انقطع والشريعة قد كملت ولله الحمد فلا يجوز أن يرادفي المبادات مالم يردبه الشرع. والله أعلم
(2) هذا فيه تسامح , والصواب أن يقال لايجوز . لأن التشميت من كلام الناس . والمصلى ممنوع منه كما في حديث معاويةبن الحكم أنه شمت إنسانا , وهو يصلى وأنكر عليه الناس ولما فرغ قال النبي صلى الله عليه وسلم " إن هذه الصلاة لايصلح فيها شيء من كلام الناس, الحديث أخرجه مسلم

(2/287)


801- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ الْبَرَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كَانَ رُكُوعُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسُجُودُهُ وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ وَبَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ قَرِيبًا مِنْ السَّوَاءِ "
802- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ قَالَ كَانَ مَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ يُرِينَا كَيْفَ كَانَ صَلاَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَاكَ فِي غَيْرِ وَقْتِ صَلاَةٍ فَقَامَ فَأَمْكَنَ الْقِيَامَ ثُمَّ رَكَعَ فَأَمْكَنَ الرُّكُوعَ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَأَنْصَبَ هُنَيَّةً قَالَ فَصَلَّى بِنَا صَلاَةَ شَيْخِنَا هَذَا أَبِي بُرَيْدٍ وَكَانَ أَبُو بُرَيْدٍ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ السَّجْدَةِ الْآخِرَةِ اسْتَوَى قَاعِدًا ثُمَّ نَهَضَ "
وَقَالَ أَبُو حُمَيْدٍ رَفَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَوَى جَالِسًا حَتَّى يَعُودَ كُلُّ فَقَارٍ مَكَانَهُ قوله: "باب الاطمأنينة" كذا للأكثر، وللكشميهني: "الطمأنينة " وقد تقدم الكلام عليها في " باب استواء الظهر". قوله: "وقال أبو حميد" يأتي موصولا مطولا في " باب سنة الجلوس في التشهد". وقوله: "رفع " أي من الركوع " فاستوى " أي قائما كما سيأتي بيانه هناك، وهو ظاهر فيما ترجم له. ووقع في رواية كريمة: "جالسا " بعد قوله: "فاستوى " فإن كان محفوظا حمل على أنه عبر عن السكون بالجلوس وفيه بعد، أو لعل المصنف أراد إلحاق الاعتدال بالجلوس بين السجدتين بجامع كون كل منهما غير مقصود لذاته فيطابق الترجمة. قوله: "ينعت" بفتح المهملة، أي يصف. وهذا الحديث ساقه شعبة عن ثابت مختصرا، ورواه عنه حماد بن زيد مطولا كما سيأتي في " باب المكث بين السجدتين " فقال في أوله " عن أنس قال: إني لا آلو أن أصلي بكم كما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بنا " فصرح بوصف أنس لصلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالفعل، وقوله: "لا آلو " بهمزة ممدودة بعد حرف النفي ولام مضمومة بعدها واو خفيفة أي لا أقصر. وزاد حماد بن زيد أيضا: "قال ثابت: فكان أنس يصنع شيئا لا أراكم تصنعونه " وفيه إشعار بأنهم كانوا يخلون بتطويل الاعتدال، وقد تقدم حديث أنس وإنكاره عليهم في أمر الصلاة في أبواب المواقيت وقوله: "حتى نقول " بالنصب. وقوله: "قد نسي " أي نسي وجوب الهوي إلى السجود قاله الكرماني، ويحتمل أن يكون المراد أنه نسي أنه في صلاة، أو ظن أنه وقت القنوت حيث كان معتدلا أو وقت التشهد حيث كان جالسا. ووقع عند الإسماعيلي من طريق غندر عن شعبة " قلنا قد نسي من طول القيام " أي لأجل طول قيامه. حديث البراء تقدم التنبيه عليه في " باب استواء الظهر". وقوله: "قريبا من السواء " فيه إشعار بأن فيها تفاوتا لكنه لم يعينه، وهو دال على الطمأنينة في الاعتدال وبين السجدتين لما علم من عادته من تطويل الركوع والسجود. قوله: "وإذا رفع" أي ورفعه إذا رفع، وكذا قوله: "وبين السجدتين " أي وجلوسه بين السجدتين، والمراد أن زمان ركوعه وسجوده واعتداله وجلوسه متقارب، ولم يقع في هذه الطريق الاستثناء الذي مر في " باب استواء الظهر " وهو قوله: "ما خلا القيام والقعود " ووقع في رواية لمسلم: "فوجدت قيامه فركعته فاعتداله " الحديث، وحكى ابن دقيق العيد عن بعض العلماء أنه نسب هذه الرواية إلى الوهم ثم استبعده لأن توهيم الراوي الثقة على خلاف الأصل، ثم قال في آخر كلامه: فلينظر ذلك من الروايات ويحقق الاتحاد أو الاختلاف من مخارج الحديث ا هـ. وقد جمعت طرقه فوجدت مداره على ابن أبي ليلى عن البراء، لكن الرواية التي فيها زيادة ذكر القيام من طريق هلال بن أبي حميد عنه، ولم يذكره الحكم عنه وليس بينهما اختلاف في سوى ذلك، إلا ما زاده بعض الرواة عن شعبة عن الحكم من

(2/288)


قوله: "ما خلا القيام والقعود " وإذا جمع بين الروايتين ظهر من الأخذ بالزيادة فيهما أن المراد بالقيام المستثنى القيام للقراءة، وكذا القعود والمراد به القعود للتشهد كما تقدم، قال ابن دقيق العيد: هذا الحديث يدل على أن الاعتدال ركن طويل، وحديث أنس يعني الذي قبله أصرح في الدلالة على ذلك، بل هو نص فيه فلا ينبغي العدول عنه لدليل ضعيف وهو قولهم: لم يسن فيه تكرير التسبيحات كالركوع والسجود. ووجه ضعفه أنه قياس في مقابلة النص وهو فاسد، وأيضا فالذكر المشروع في الاعتدال أطول من الذكر المشروع في الركوع، فتكرير سبحان ربي العظيم ثلاثا يجيء قدر قوله اللهم ربنا ولك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، وقد شرع في الاعتدال ذكر أطول كما أخرجه مسلم من حديث عبد الله بن أبي أوفى وأبي سعيد الخدري وعبد الله بن عباس بعد قوله حمدا كثيرا طيبا " ملء السموات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد " زاد في حديث ابن أبي أوفى " اللهم طهرني بالثلج الخ " وزاد في حديث الآخرين " أهل الثناء والمجد الخ " وقد تقدم في الحديث الذي قبله ترك إنكار النبي صلى الله عليه وسلم على من زاد في الاعتدال ذكرا غير مأثور، ومن ثم اختار النووي جواز تطويل الركن القصير بالذكر خلافا للمرجح في المذهب، واستدل لذلك أيضا بحديث حذيفة في مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قرأ في ركعة بالبقرة أو غيرها ثم ركع نحوا مما قرأ ثم قام بعد أن قال: "ربنا لك الحمد " قياما طويلا قريبا مما ركع. قال النووي: الجواب عن هذا الحديث صعب، والأقوى جواز الإطالة بالذكر ا هـ. وقد أشار الشافعي في الأم إلى عدم البطلان فقال في ترجمة " كيف القيام من الركوع ": ولو أطال القيام بذكر الله أو يدعو أو ساهيا وهو لا ينوي به القنوت كرهت له ذلك ولا إعادة، إلى آخر كلامه في ذلك. فالعجب ممن يصحح مع هذا بطلان الصلاة بتطويل الاعتدال، وتوجيههم ذلك أنه إذا أطيل انتفت الموالاة معترض بأن معنى الموالاة أن لا يتخلل فصل طويل بين الأركان بما ليس منها، وما ورد به الشرع لا يصح نفي كونه منها، والله أعلم. وأجاب بعضهم عن حديث البراء أن المراد بقوله: "قريبا من السواء " ليس أنه كان يركع بقدر قيامه وكذا السجود والاعتدال بل المراد أن صلاته كانت قريبا معتدلة فكان إذا أطال القراءة أطال بقية الأركان وإذا أخفها أخف بقية الأركان، فقد ثبت أنه قرأ في الصبح بالصافات وثبت في السنن عن أنس أنهم حزروا في السجود قدر عشر تسبيحات فيحمل على أنه قرأ بدون الصافات اقتصر على دون العشر، وأقله كما ورد في السنن أيضا ثلاث تسبيحات. قوله: "كان مالك بن الحويرث" في رواية الكشميهني: "قام " والأول يشعر بتكرير ذلك منه وقد تقدم بعض الكلام عليه في " باب من صلى بالناس وهو لا يريد إلا أن يعلمهم " ويأتي بقية الكلام عليه في " باب المكث بين السجدتين". قوله: "فأنصت" في رواية الكشميهني بهمزة مقطوعة وآخره مثناة خفيفة. وللباقين بألف موصولة وآخره موحدة مشددة، وحكى ابن التين أن بعضهم ضبطه بالمثناة المشددة بدل الموحدة، ووجهه بأن أصله انصوت فأبدل من الواو تاء ثم أدغمت إحدى التاءين في الأخرى، وقياس إعلاله إنصات تحركت الواو وانفتح ما قبلها فانقلبت ألفا، قال: ومعنى إنصات استوت قامته بعد الانحناء كأنه أقبل شبابه، قال الشاعر:
وعمرو بن دهمان الهنيدة عاشها ... وتسعين عاما ثم قوم فأنصاتا
وعاد سواد الرأس بعد ابيضاضه ... وعاوده شرخ الشباب الذي فاتا
ا هـ. وعرف بهذا أن من نقل عن ابن التين - وهو السفاقسي - أنه ضبطه بتشديد الموحدة فقد صحف، ومعنى رواية

(2/289)


الكشميهني أنصت أي سكت فلم يكبر للهوي في الحال، قال بعضهم: وفيه نظر، والأوجه أن يقال هو كناية عن سكون أعضائه، عبر عن عدم حركتها بالإنصات وذلك دال على الطمأنينة. وأما الرواية المشهورة بالموحدة المشددة الفعل من الصب كأنه كنى عن رجوع أعضائه عن الانحناء إلى القيام بالانصباب، ووقع عند الإسماعيلي: "فانتصب قائما " وهي أوضح من الجميع. قوله: "هنية" أي قليلا، وقد تقدم ضبطها في " باب ما يقول بعد التكبير". قوله: "صلاة شيخنا هذا أبي يزيد" هو عمرو بن سلمة الجرمي، واختلف في ضبط كنيته، ووقع هنا للأكثر بالتحتانية والزاي، وعند الحموي وكريمة بالموحدة والراء مصغرا وكذا ضبطه مسلم في الكنى. وقال عبد الغني بن سعيد لم أسمعه من أحد إلا بالزاي لكن مسلم أعلم، والله أعلم.

(2/290)


128 - باب يَهْوِي بِالتَّكْبِيرِ حِينَ يَسْجُدُ
وَقَالَ نَافِعٌ كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَضَعُ يَدَيْهِ قَبْلَ رُكْبَتَيْهِ
803- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يُكَبِّرُ فِي كُلِّ صَلاَةٍ مِنْ الْمَكْتُوبَةِ وَغَيْرِهَا فِي رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ فَيُكَبِّرُ حِينَ يَقُومُ ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْكَعُ ثُمَّ يَقُولُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ ثُمَّ يَقُولُ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ قَبْلَ أَنْ يَسْجُدَ ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُ أَكْبَرُ حِينَ يَهْوِي سَاجِدًا ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ مِنْ السُّجُودِ ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَسْجُدُ ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ مِنْ السُّجُودِ ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَقُومُ مِنْ الْجُلُوسِ فِي الِاثْنَتَيْنِ وَيَفْعَلُ ذَلِكَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ الصَّلاَةِ ثُمَّ يَقُولُ حِينَ يَنْصَرِفُ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنِّي لاَقْرَبُكُمْ شَبَهًا بِصَلاَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ كَانَتْ هَذِهِ لَصَلاَتَهُ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا
804- قَالاَ وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ يَقُولُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ يَدْعُو لِرِجَالٍ فَيُسَمِّيهِمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَيَقُولُ اللَّهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ وَسَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ وَعَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ وَأَهْلُ الْمَشْرِقِ يَوْمَئِذٍ مِنْ مُضَرَ مُخَالِفُونَ لَهُ
805- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ غَيْرَ مَرَّةٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ سَقَطَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ فَرَسٍ وَرُبَّمَا قَالَ سُفْيَانُ مِنْ فَرَسٍ فَجُحِشَ شِقُّهُ الأَيْمَنُ فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ نَعُودُهُ فَحَضَرَتْ الصَّلاَةُ فَصَلَّى بِنَا قَاعِدًا وَقَعَدْنَا وَقَالَ سُفْيَانُ مَرَّةً صَلَّيْنَا قُعُودًا فَلَمَّا قَضَى الصَّلاَةَ قَالَ إِنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا وَإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا وَإِذَا قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَقُولُوا رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ وَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا قَالَ سُفْيَانُ كَذَا جَاءَ بِهِ مَعْمَرٌ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ لَقَدْ

(2/290)


حَفِظَ كَذَا قَالَ الزُّهْرِيُّ وَلَكَ الْحَمْدُ حَفِظْتُ مِنْ شِقِّهِ الأَيْمَنِ فَلَمَّا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ الزُّهْرِيِّ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ وَأَنَا عِنْدَهُ فَجُحِشَ سَاقُهُ الأَيْمَنُ
قوله: "باب يهوي بالتكبير حين يسجد" قال ابن التين: رويناه بالفتح وضبطه بعضهم بالضم والفتح أرجح، ووقع في روايتنا بالوجهين. قوله: "كان ابن عمر الخ" وصله ابن خزيمة والطحاوي وغيرهما من طريق عبد العزيز الدراوردي عن عبيد الله عن عمر عن نافع بهذا وزاد في آخره: "ويقول: كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك " قال البيهقي: كذا رواه عبد العزيز ولا أراه إلا وهما، يعني رفعه. قال: والمحفوظ ما اخترنا. ثم أخرج من طريق أيوب عن نافع عن ابن عمر قال: "إذا سجد أحدكم فليضع يديه، وإذا رفع فليرفعهما " اهـ. ولقائل أن يقول: هذا الموقوف غير المرفوع، فإن الأول في تقديم وضع اليدين على الركبتين والثاني في إثبات وضع اليدين في الجملة. واستشكل إيراد هذا الأثر في هذه الترجمة، وأجاب الزين بن المنير بما حاصله: أنه لما ذكر صفة الهوي إلى السجود القولية أردفها بصفته الفعلية. وقال أخوه: أراد بالترجمة وصف حال الهوي من فعال ومقال ا هـ. والذي يظهر أن أثر ابن عمر من جملة الترجمة، فهو مترجم به لا مترجم له، والترجمة قد تكون مفسرة لمجمل الحديث وهذا منها، وهذه من المسائل المختلف فيها. قال مالك: هذه الصفة أحسن في خشوع الصلاة، وبه قال الأوزاعي، وفيه حديث عن أبي هريرة رواه أصحاب السنن، وعورض بحديث عنه أخرجه الطحاوي، وقد روى الأثرم حديث أبي هريرة " إذا سجد أحدكم فليبدأ بركبتيه قبل يديه، ولا يبرك بروك الفحل، ولكن إسناده ضعيف. وعند الحنفية والشافعية الأفضل أن يضع ركبتيه ثم يديه، وفيه حديث في السنن أيضا عن واثل بن حجر قال الخطابي: هذا أصح من حديث أبي هريرة، ومن ثم قال النووي: لا يظهر ترجيح أحد المذهبين على الآخر من حيث السنة ا هـ. وعن مالك وأحمد رواية بالتخيير، وادعى ابن خزيمة أن حديث أبي هريرة منسوخ بحديث سعد قال: "كنا نضع اليدين قبل الركبتين، فأمرنا بالركبتين قبل اليدين " وهذا لو صح لكان قاطعا للنزاع، لكنه من أفراد إبراهيم بن إسماعيل بن يحيى بن سلمة بن كهيل عن أبيه وهما ضعيفان. وقال الطحاوي: مقتضى تأخير وضع الرأس عنهما في الانحطاط ورفعه قبلهما أن يتأخر وضع اليدين عن الركبتين لاتفاقهم على تقديم اليدين عليهما في الرفع. وأبدى الزين بن المنير لتقديم اليدين مناسبة وهي أن يلقى الأرض عن جبهته ويعتصم بتقديمهما على إيلام ركبتيه إذا جثا عليهما، والله أعلم. قوله: "أن أبا هريرة كان يكبر" زاد النسائي من طريق يونس عن الزهري " حين استخلفه مروان على المدينة". قوله: "ثم يقول: الله أكبر حين يهوي ساجدا" فيه أن التكبير ذكر الهوي، فيبتدئ به من حين يشرع في الهوي بعد الاعتدال إلى حين يتمكن ساجدا. قوله: "ثم يكبر حين يقوم من الجلوس في الاثنتين" فيه أنه يشرع في التكبير من حين ابتداء القيام إلى الثالثة بعد التشهد الأول، خلافا لمن قال إنه لا يكبر حتى يستوي قائما، وسيأتي في باب مفرد بعد بضعة عشر بابا. قوله: "إن كانت هذه لصلاته" قال أبو داود: هذا الكلام يؤيد رواية مالك وغيره عن الزهري عن علي بن حسين، يعني مرسلا. قلت: وكذا أخرجه سعيد بن منصور عن ابن عيينة عن الزهري، لكن لا يلزم من ذلك أن لا يكون الزهري رواه أيضا عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث وغيره عن أبي هريرة، ويؤيد ذلك ما تقدم في " باب التكبير إذا قام من السجود " من طريق عقيل عن الزهري فإنه صريح في أن الصفة

(2/291)


المذكورة مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: "قالا" يعني أبا بكر بن عبد الرحمن وأبا سلمة المذكورين، وهو موصول بالإسناد المذكور إليهما، والكلام على المتن المذكور يأتي في تفسير آل عمران إن شاء الله تعالى، وإنما ذكره هنا استطرادا. وقد أورده مختصرا في الباب الذي ذكر فيه ما يقول في الاعتدال، واستدل به على أن محل القنوت بعد الرفع من الركوع، وعلى أن تسمية الرجال بأسمائهم فيما يدعى لهم وعليهم لا تفسد الصلاة. قوله: "عن فرس وربما قال سفيان - وهو ابن عيينة - من فرس" فيه إشعار بتثبت علي بن عبد الله ومحافظته على الإتيان بألفاظ الحديث، وقد تقدم الكلام عليه في " باب إنما جعل الإمام ليؤتم به " وأن قوله: "جحش " أي خدش، ووقع في قصر الصلاة عن أبي نعيم عن ابن عيينة بلفظ: "فجحش أو خدش " على الشك. قوله: "كذا جاء به معمر" القائل هو سفيان، والمقول له علي، وهمزة الاستفهام قبل كذا مقدرة. قوله: "قلت نعم" كأن مستند علي في ذلك رواية عبد الرزاق عن معمر فإنه من مشايخه، بخلاف معمر فإنه لم يدركه، وإنما يروى عنه بواسطة. وكلام الكرماني يوهم خلاف ذلك. قوله: "قال لقد حفظ" أي حفظا جيدا، وفيه إشعار بقوة حفظ سفيان بحيث يستجيد حفظ معمر إذا وافقه، وقوله: "كذا قال الزهري ولك الحمد " فيه إشارة إلى أن بعض أصحاب الزهري لم يذكر الواو في " ولك الحمد " وقد وقع ذلك في رواية الليث وغيره عن الزهري كما تقدم في " باب إيجاب التكبير". قوله: "حفظت" في رواية ابن عساكر: "وحفظت " بزيادة واو وهي أوضح، وقوله: "من شقه الأيمن الخ " فيه إشارة إلى ما ذكرناه من جودة ضبط سفيان، لأن ابن جريج سمعه معهم من الزهري بلفظ: "شقه " فحدث به عن الزهري بلفظ: "ساقه " وهي أخص من شقه، لكن هذا محمول على أن ابن جريج عرف من الزهري في وقت آخر أن الذي خدش هو ساقه لبعد أن يكون نسي هذه الكلمة في هذه المدة اليسيرة، وقد قدمنا الدلالة على ذلك في " باب إنما جعل الإمام ليؤتم به " وقوله: "وأنا عنده " قال الكرماني: هو معطوف على مقدار أو جملة حالية من فاعل قال مقدرا، إذ تقديره قال الزهري وأنا عنده؛ ويحتمل أن يكون هو مقول سفيان، والضمير لابن جريج. قلت: وهذا أقرب إلى الصواب، ومقول ابن جريج هو " فجحش الخ " والله أعلم.

(2/292)


129 - باب فَضْلِ السُّجُودِ
806- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَعَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ اللَّيْثِيُّ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ أَخْبَرَهُمَا أَنَّ النَّاسَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ هَلْ تُمَارُونَ فِي الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ قَالُوا لاَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ فَهَلْ تُمَارُونَ فِي الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ قَالُوا لاَ قَالَ فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ كَذَلِكَ يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ شَيْئًا فَلْيَتَّبِعْ فَمِنْهُمْ مَنْ يَتَّبِعُ الشَّمْسَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَّبِعُ الْقَمَرَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَّبِعُ الطَّوَاغِيتَ وَتَبْقَى هَذِهِ الأُمَّةُ فِيهَا مُنَافِقُوهَا فَيَأْتِيهِمْ اللَّهُ فَيَقُولُ أَنَا رَبُّكُمْ فَيَقُولُونَ هَذَا مَكَانُنَا حَتَّى يَأْتِيَنَا رَبُّنَا فَإِذَا جَاءَ رَبُّنَا عَرَفْنَاهُ فَيَأْتِيهِمْ اللَّهُ فَيَقُولُ أَنَا رَبُّكُمْ فَيَقُولُونَ أَنْتَ رَبُّنَا فَيَدْعُوهُمْ فَيُضْرَبُ الصِّرَاطُ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ جَهَنَّمَ فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يَجُوزُ مِنْ

(2/292)


الرُّسُلِ بِأُمَّتِهِ وَلاَ يَتَكَلَّمُ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ إِلاَّ الرُّسُلُ وَكَلاَمُ الرُّسُلِ يَوْمَئِذٍ اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ وَفِي جَهَنَّمَ كَلاَلِيبُ مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ هَلْ رَأَيْتُمْ شَوْكَ السَّعْدَانِ قَالُوا نَعَمْ قَالَ فَإِنَّهَا مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ غَيْرَ أَنَّهُ لاَ يَعْلَمُ قَدْرَ عِظَمِهَا إِلاَّ اللَّهُ تَخْطَفُ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ فَمِنْهُمْ مَنْ يُوبَقُ بِعَمَلِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يُخَرْدَلُ ثُمَّ يَنْجُو حَتَّى إِذَا أَرَادَ اللَّهُ رَحْمَةَ مَنْ أَرَادَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ أَمَرَ اللَّهُ الْمَلاَئِكَةَ أَنْ يُخْرِجُوا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَيُخْرِجُونَهُمْ وَيَعْرِفُونَهُمْ بِآثَارِ السُّجُودِ وَحَرَّمَ اللَّهُ عَلَى النَّارِ أَنْ تَأْكُلَ أَثَرَ السُّجُودِ فَيَخْرُجُونَ مِنْ النَّارِ فَكُلُّ ابْنِ آدَمَ تَأْكُلُهُ النَّارُ إِلاَّ أَثَرَ السُّجُودِ فَيَخْرُجُونَ مِنْ النَّارِ قَدْ امْتَحَشُوا فَيُصَبُّ عَلَيْهِمْ مَاءُ الْحَيَاةِ فَيَنْبُتُونَ كَمَا تَنْبُتُ الْحِبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ ثُمَّ يَفْرُغُ اللَّهُ مِنْ الْقَضَاءِ بَيْنَ الْعِبَادِ وَيَبْقَى رَجُلٌ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَهُوَ آخِرُ أَهْلِ النَّارِ دُخُولًا الْجَنَّةَ مُقْبِلٌ بِوَجْهِهِ قِبَلَ النَّارِ فَيَقُولُ يَا رَبِّ اصْرِفْ وَجْهِي عَنْ النَّارِ قَدْ قَشَبَنِي رِيحُهَا وَأَحْرَقَنِي ذَكَاؤُهَا فَيَقُولُ هَلْ عَسَيْتَ إِنْ فُعِلَ ذَلِكَ بِكَ أَنْ تَسْأَلَ غَيْرَ ذَلِكَ فَيَقُولُ لاَ وَعِزَّتِكَ فَيُعْطِي اللَّهَ مَا يَشَاءُ مِنْ عَهْدٍ وَمِيثَاقٍ فَيَصْرِفُ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنْ النَّارِ فَإِذَا أَقْبَلَ بِهِ عَلَى الْجَنَّةِ رَأَى بَهْجَتَهَا سَكَتَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَسْكُتَ ثُمَّ قَالَ يَا رَبِّ قَدِّمْنِي عِنْدَ بَابِ الْجَنَّةِ فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ أَلَيْسَ قَدْ أَعْطَيْتَ الْعُهُودَ وَالْمِيثَاقَ أَنْ لاَ تَسْأَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنْتَ سَأَلْتَ فَيَقُولُ يَا رَبِّ لاَ أَكُونُ أَشْقَى خَلْقِكَ فَيَقُولُ فَمَا عَسَيْتَ إِنْ أُعْطِيتَ ذَلِكَ أَنْ لاَ تَسْأَلَ غَيْرَهُ فَيَقُولُ لاَ وَعِزَّتِكَ لاَ أَسْأَلُ غَيْرَ ذَلِكَ فَيُعْطِي رَبَّهُ مَا شَاءَ مِنْ عَهْدٍ وَمِيثَاقٍ فَيُقَدِّمُهُ إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ فَإِذَا بَلَغَ بَابَهَا فَرَأَى زَهْرَتَهَا وَمَا فِيهَا مِنْ النَّضْرَةِ وَالسُّرُورِ فَيَسْكُتُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَسْكُتَ فَيَقُولُ يَا رَبِّ أَدْخِلْنِي الْجَنَّةَ فَيَقُولُ اللَّهُ وَيْحَكَ يَا ابْنَ آدَمَ مَا أَغْدَرَكَ أَلَيْسَ قَدْ أَعْطَيْتَ الْعُهُودَ وَالْمِيثَاقَ أَنْ لاَ تَسْأَلَ غَيْرَ الَّذِي أُعْطِيتَ فَيَقُولُ يَا رَبِّ لاَ تَجْعَلْنِي أَشْقَى خَلْقِكَ فَيَضْحَكُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْهُ ثُمَّ يَأْذَنُ لَهُ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ فَيَقُولُ تَمَنَّ فَيَتَمَنَّى حَتَّى إِذَا انْقَطَعَ أُمْنِيَّتُهُ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ كَذَا وَكَذَا أَقْبَلَ يُذَكِّرُهُ رَبُّهُ حَتَّى إِذَا انْتَهَتْ بِهِ الأَمَانِيُّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَكَ ذَلِكَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ لِأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "قَالَ اللَّهُ لَكَ ذَلِكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ لَمْ أَحْفَظْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلاَّ قَوْلَهُ لَكَ ذَلِكَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ إِنِّي سَمِعْتُهُ يَقُولُ ذَلِكَ لَكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ
[الحديث 806 – طرفاه 7437,6573]
قوله: "باب فضل السجود" أورد فيه حديث أبي هريرة في صفة البعث والشفاعة، والمقصود منه هنا قوله: "وحرم الله على النار أن تأكل آثار السجود " وقد ورده بتمامه أيضا في أبواب صفة الجنة والنار من كتاب الرقاق ويأتي الكلام عليه هناك مستوفى إن شاء الله تعالى، مع ذكر اختلاف ألفاظ رواته. اختلف في المراد بقوله: "آثار

(2/293)


السجود " فقيل هي الأعضاء السبعة الآتي ذكرها في حديث ابن عباس قريبا وهذا هو الظاهر. وقال عياض: المراد الجبهة خاصة، ويؤيده ما في رواية مسلم من وجه آخر " أن قوما يخرجون من النار يحترقون فيها إلا دارات وجوههم " فإن ظاهر هذه الرواية يخص العموم الذي في الأولى.

(2/294)


130 - باب يُبْدِي ضَبْعَيْهِ وَيُجَافِي فِي السُّجُودِ
807- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنِي بَكْرُ بْنُ مُضَرَ عَنْ جَعْفَرٍ عَنْ ابْنِ هُرْمُزَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَالِكٍ ابْنِ بُحَيْنَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا صَلَّى فَرَجَ بَيْنَ يَدَيْهِ حَتَّى يَبْدُوَ بَيَاضُ إِبْطَيْهِ وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ نَحْوَهُ
قوله: "باب يبدي ضبعيه" بفتح المعجمة وسكون الموحدة تثنية ضبع وهو وسط العضد من داخل وقيل هو لحمه تحت الإبط. قوله: "عن جعفر" هو ابن ربيعة، وابن هرمز هو عبد الرحمن الأعرج، والإسناد كله بصريون. قوله: "فرج بين يديه" أي نحى كل يد عن الجنب الذي يليها، قال القرطبي: الحكمة في استحباب هذه الهيئة في السجود أنه يخف بها اعتماده عن وجهه ولا يتأثر أنفه ولا جبهته، ولا يتأذى بملاقاة الأرض. وقال غيره: هو أشبه بالتواضع وأبلغ في تمكين الجبهة والأنف من الأرض مع مغايرته لهيئة الكسلان. وقال ناصر الدين بن المنير في الحاشية: الحكمة فيه أن يظهر كل عضو بنفسه ويتميز حتى يكون الإنسان الواحد في سجوده كأنه عدد، ومقتضى هذا أن يستقل كل عضو بنفسه ولا يعتمد بعض الأعضاء على بعض في سجوده، وهذا ضد ما ورد في الصفوف من التصاق بعضهم ببعض لأن المقصود هناك إظهار الاتحاد بين المصلين حتى كأنهم جسد واحد، وروى الطبراني وغيره من حديث ابن عمر بإسناد صحيح أنه قال: "لا تفترش افتراش السبع، وادعم على راحتيك وأبد ضبعيك، فإذا فعلت ذلك سجد كل عضو منك" ، ولمسلم من حديث عائشة " نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يفترش الرجل ذراعيه افتراش السبع " وأخرج الترمذي وحسنه من حديث عبد الله بن أرقم " صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم فكنت أنظر إلى عفرتي إبطيه إذا سجد" ، ولابن خزيمة عن أبي هريرة رفعه: "إذا سجد أحدكم فلا يفترش ذراعيه افتراش الكلب، وليضم فخذيه" ، وللحاكم من حديث ابن عباس نحو حديث عبد الله بن أرقم، وعنه عند الحاكم " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سجد يرى وضح إبطيه " وله من حديثه ولمسلم من حديث البراء رفعه: "إذا سجدت فضع كفيك وارفع مرفقيك " وهذه الأحاديث - مع حديث ميمونة عند مسلم: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يجافي يديه، فلو أن بهيمة أرادت أن تمر لمرت " مع حديث ابن بحينة المعلق هنا - ظاهرها وجوب التفريج المذكور، لكن أخرج أبو داود ما يدل على أنه للاستحباب وهو حديث أبي هريرة " شكا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم له مشقة السجود عليهم إذا انفرجوا، فقال: استعينوا بالركب " وترجم له " الرخصة في ذلك " أي في ترك التفريج، قال ابن عجلان أحد رواته: وذلك أن يضع مرفقيه على ركبتيه إذا طال السجود وأعيا، وقد أخرج الترمذي الحديث المذكور ولم يقع في روايته: "إذا انفرجوا " فترجم له " ما جاء في الاعتماد إذا قام من السجود " فجعل محل الاستعانة بالركب لمن يرفع من السجود طالبا للقيام، واللفظ محتمل ما قال، لكن الزيادة التي أخرجها أبو داود تعين المراد.
وقال ابن التين: فيه دليل على أنه لم يكن عليه قميص لانكشاف إبطيه، وتعقب باحتمال أن يكون القميص

(2/294)


واسع الأكمام، وقد روى الترمذي في " الشمائل " عن أم سلمة قالت: "كان أحب الثياب إلى النبي صلى الله عليه وسلم القميص " أو أراد الراوي أن موضع بياضهما لو لم يكن عليه ثوب لرئي قاله القرطبي، واستدل به على أن إبطيه صلى الله عليه وسلم لم يكن عليهما شعر، وفيه نظر فقد حكى المحب الطبري في الاستسقاء من الأحكام له أن من خصائصه صلى الله عليه وسلم أن الإبط من جميع الناس متغير اللون غيره، واستدل بإطلاقه على استحباب التفريج في الركوع أيضا، وفيه نظر لأن في رواية قتيبة عن بكر بن مضر التقييد بالسجود، وأخرجه المصنف في المناقب، والمطلق إذا استعمل في صورة اكتفي بها. قوله: "وقال الليث حدثني جعفر بن ربيعة نحوه" وصله مسلم من طريقه بلفظ: "كان إذا سجد فرج يديه عن إبطيه حتى إني لأرى بياض إبطيه" . "تنبيه": تقدم قبيل أبواب القبلة أنه وقع في كثير من النسخ وقوع هاتين الترجمتين هذه والتي بعدها هناك وأعيدا هنا وأن الصواب إثباتهما هنا، وذكرنا توجيه ذلك بما يغني عن إعادته.

(2/295)


باب يتقبل بأطراف رجليه الكعبة
...
131 - باب يَسْتَقْبِلُ بِأَطْرَافِ رِجْلَيْهِ الْقِبْلَةَ
قَالَهُ أَبُو حُمَيْدٍ السَّاعِدِيُّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قوله: "باب يستقبل القبلة بأطراف رجليه قاله أبو حميد" يأتي موصولا في " باب سنة الجلوس في التشهد " قريبا وأنه ورد في صفة السجود " قال الزين بن المنير: المراد أن يجعل قدميه قائمتين على بطون أصابعهما وعقباه مرتفعان فيستقبل بظهور قدميه القبلة، قال أخوه: ومن ثم ندب ضم الأصابع في السجود لأنها لو تفرجت انحرفت رءوس بعضها عن القبلة.

(2/295)


132 - باب إِذَا لَمْ يُتِمَّ السُّجُودَ
808- حدثنا الصلت بن محمد قال حدثنا مهدي عن واصل عن أبي وائل عن حذيفة رأى رجلا لا يتم ركوعه ولا سجوده فلما قضى صلاته قال له حذيفة ما صليت قال وأحسبه قال ولو مت مت على غير سنة محمد صلى الله عليه وسلم
قوله: "باب إذا لم يتم سجوده" أورد فيه حديث حذيفة وقد تقدم الكلام عليه مستوفى في " باب إذا لم يتم الركوع".

(2/295)


133 - باب السُّجُودِ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ
809- حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أُمِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْضَاءٍ وَلاَ يَكُفَّ شَعَرًا وَلاَ ثَوْبًا الْجَبْهَةِ وَالْيَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ
[الحديث809 – أطرافه في: 816,815,812,810]
810- حدثنا مسلم بن إبراهيم قال حدثنا شعبة عن عمرو عن طاوس عن بن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم " ثم أمرنا أن نسجد على سبعة أعظم ولا نكف ثوبا ولا شعرا "
811- حدثنا آدم حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبد الله بن يزيد الخطمي حدثنا البراء بن عازب كذوب قال " كنا نصلي خلف النبي صلى الله عليه وسلم فإذا قال سمع الله لمن حمده لم يحن أحد منا
ـــــــ
(1)مثل هذا التخصيص يحتاج إلى دليل , ولا أعلم في الأحاديث مايدل على ما قاله المحب , فالأقرب ما قاله القرطبي, وهو ظاهر كثير من الأحاديث. ويحتمل أن يكون شعر إبطيه صلى الله عليه وسلم كان خفيفا فلا يتضح للناظر من سوى بياض الإبطين . والله أعلم

(2/295)


134 - باب السُّجُودِ عَلَى الأَنْفِ
حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ قَالَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم : "أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ عَلَى الْجَبْهَةِ وَأَشَارَ بِيَدِهِ عَلَى أَنْفِهِ وَالْيَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ وَأَطْرَافِ الْقَدَمَيْنِ وَلاَ نَكْفِتَ الثِّيَابَ وَالشَّعَرَ"
قوله: "باب السجود على الأنف" أورد فيه حديث ابن عباس من جهة وهيب وهو ابن خالد "عن عبد الله بن طاوس عن أبيه" وقد أسلفنا الكلام عليه قبل. قوله فيه "على سبعة أعظم، على الجبهة" قال الكرماني: "على " الثانية بدل من الأولى التي في حكم الطرح، أو الأولى متعلقة بنحو حاصلا أي اسجد على الجبهة حال كون السجود

(2/297)


على سبعة أعضاء.

(2/298)


135 - باب السُّجُودِ عَلَى الأَنْفِ وَالسُّجُودِ عَلَى الطِّينِ
813- حدثنا موسى قال حدثنا همام عن يحيى عن أبي سلمة قال ثم انطلقت إلى أبي سعيد الخدري فقلت ألا تخرج بنا إلى النخل نتحدث فخرج فقال قلت حدثني ما سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة القدر قال اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر الأول من رمضان واعتكفنا معه فأتاه جبريل فقال إن الذي تطلب أمامك فاعتكف العشر الأوسط فاعتكفنا معه فأتاه جبريل فقال إن الذي تطلب أمامك قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيبا صبيحة عشرين من رمضان فقال من كان اعتكف مع النبي صلى الله عليه وسلم فليرجع فإني أريت ليلة القدر وإني نسيتها وإنها في العشر الأواخر في وتر وإني رأيت كأني أسجد في طين وماء وكان سقف المسجد جريد النخل وما نرى في السماء شيئا فجاءت قزعة فأمطرنا فصلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم حتى رأيت أثر الطين ظاهرا على جبهة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرنبته تصديق رؤياه "
قوله: "باب السجود على الأنف في الطين" كذا للأكثر، وللمستملي: "السجود على الأنف والسجود على الطين " والأول أنسب لئلا يلزم التكرار، وهذه الترجمة أخص من التي قبلها، وكأنه يشير إلى تأكد أمر السجود على الأنف بأنه لم يترك مع وجود عذر الطين الذي أثر فيه، ولا حجة فيه لمن استدل به على جواز الاكتفاء بالأنف لأن في سياقه أنه سجد على جبهته وأرنبته، فوضح أنه إنما قصد بالترجمة ما قدمناه وهو دال على وجوب السجود عليهما ولولا ذلك لصانهما عن لوث الطين، قاله الخطابي، وفيه نظر: وفيه استحباب ترك الإسراع إلى إزالة ما يصيب جبهة الساجد من غبار الأرض ونحوه، وسنذكر بقية مباحث الحديث المذكور في كتاب الصيام إن شاء الله تعالى.

(2/298)


136 - باب عَقْدِ الثِّيَابِ وَشَدِّهَا وَمَنْ ضَمَّ إِلَيْهِ ثَوْبَهُ إِذَا خَافَ أَنْ تَنْكَشِفَ عَوْرَتُهُ
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ قَالَ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ كَانَ النَّاسُ يُصَلُّونَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ عَاقِدُوا أُزْرِهِمْ مِنْ الصِّغَرِ عَلَى رِقَابِهِمْ فَقِيلَ لِلنِّسَاءِ لاَ تَرْفَعْنَ رُءُوسَكُنَّ حَتَّى يَسْتَوِيَ الرِّجَالُ جُلُوسًا "
قوله: "باب عقد الثياب وشدها، ومن ضم إليه ثوبه إذا خاف أن تنكشف عورته" كأنه يشير إلى أن النهي الوارد عن كف الثياب في الصلاة محمول على غير حالة الاضطرار، ووجه إدخال هذه الترجمة في أحكام السجود من جهة أن حركة السجود والرفع منه تسهل مع ضم الثياب وعقدها لا مع إرسالها وسدلها، أشار إلى ذلك الزين بن المنير. قوله: "عن أبي حازم" هو ابن دينار، وقد تقدم في " باب إذا كان الثوب ضيقا " في أوائل الصلاة من وجه آخر عن سفيان قال: "حدثني أبو حازم " وقد تقدم الكلام على فوائد المتن هناك.

(2/298)


137 - باب لاَ يَكُفُّ شَعَرًا
815- حدثنا أبو النعمان قال حدثنا حماد وهو بن زيد عن عمرو بن دينار عن طاوس عن بن عباس قال ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يسجد على سبعة أعظم ولا يكف ثوبه ولا شعره "
قوله: "باب لا يكف شعرا" أي المصلي، و " يكف " ضبطناه في روايتنا بضم الفاء وهو الراجح، ويجوز الفتح، والمراد بالشعر شعر الرأس، ومناسبة هذه الترجمة لأحكام السجود من جهة أن الشعر يسجد مع الرأس إذا لم يكف أو يلف، وجاء في حكمة النهي عن ذلك أن غرزة الشعر يقعد فيها الشيطان حالة الصلاة. وفي سنن أبي داود بإسناد جيد " أن أبا رافع رأى الحسن بن علي يصلي قد غرز ضفيرته في قفاه فحلها وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ذلك مقعد الشيطان " وقد تقدم الكلام على بقية الحديث مستوفى قبل ثلاثة أبواب.

(2/299)


باب لايكف ثوبة في الصلاة
...
138 - باب لاَ يَكُفُّ ثَوْبَهُ فِي الصَّلاَةِ
816- حدثنا موسى بن إسماعيل قال حدثنا أبو عوانة عن عمرو عن طاوس عن بن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ثم أمرت أن أسجد على سبعة لا أكف شعرا ولا ثوبا قوله: "باب لا يكف ثوبه في الصلاة" أورد فيه حديث ابن عباس من وجه آخر وقد تقدم ما فيه.

(2/299)


139 - باب التَّسْبِيحِ وَالدُّعَاءِ فِي السُّجُودِ
817- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ سُفْيَانَ قَالَ حَدَّثَنِي مَنْصُورُ بْنُ الْمُعْتَمِرِ عَنْ مُسْلِمٍ هُوَ ابْنُ صُبَيْحٍ أَبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ
قوله: "باب التسبيح والدعاء في السجود" تقدم الكلام على هذه الترجمة في باب الدعاء في الركوع. قوله: "يحيى" هو القطان، وسفيان هو الثوري. قوله: "يكثر أن يقول" كذا في رواية منصور وقد بين الأعمش في روايته عن أبي الضحى كما سيأتي في التفسير ابتداء هذا الفعل وأنه واظب عليه صلى الله عليه وسلم ولفظه: "ما صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة بعد أن نزلت عليه "إذا جاء نصر الله والفتح" إلا يقول فيها " الحديث. قيل اختار النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة لهذا القول لأن حالها أفضل من غيرها. انتهى. وليس في الحديث أنه لم يكن يقول ذلك خارج الصلاة أيضا، بل في بعض طرقه عند مسلم ما يشعر بأنه صلى الله عليه وسلم كان يواظب على ذلك داخل الصلاة وخارجها. وفي رواية منصور بيان المحل الذي كان صلى الله عليه وسلم يقول فيه من الصلاة وهو الركوع والسجود. قوله: "يتأول القرآن" أي يفعل ما أمر به فيه، وقد تبين من رواية الأعمش أن المراد بالقرآن بعضه وهو السورة المذكورة والذكر المذكور. ووقع في رواية ابن السكن عن الفربري: قال أبو عبد الله يعني قوله تعالى: {فسبح بحمد ربك} الآية. وفي هذا تعيين أحد الاحتمالين في قوله تعالى: {فسبح بحمد ربك} لأنه يحتمل أن يكون المراد بسبح نفس الحمد لما تضمنه الحمد من معنى التسبيح الذي هو التنزيه لاقتضاء الحمد نسبة الأفعال المحمود عليها إلى الله سبحانه وتعالى، فعلى هذا يكفي في امتثال الأمر الاقتصار على الحمد

(2/299)


140 - باب الْمُكْثِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ
818- حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ أَنَّ مَالِكَ بْنَ الْحُوَيْرِثِ قَالَ لِأَصْحَابِهِ أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ صَلاَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ وَذَاكَ فِي غَيْرِ حِينِ صَلاَةٍ فَقَامَ ثُمَّ رَكَعَ فَكَبَّرَ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَامَ هُنَيَّةً ثُمَّ سَجَدَ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ هُنَيَّةً فَصَلَّى صَلاَةَ عَمْرِو بْنِ سَلِمَةَ شَيْخِنَا هَذَا قَالَ أَيُّوبُ كَانَ يَفْعَلُ شَيْئًا لَمْ أَرَهُمْ يَفْعَلُونَهُ كَانَ يَقْعُدُ فِي الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ
819- قَالَ فَأَتَيْنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَقَمْنَا عِنْدَهُ فَقَالَ لَوْ رَجَعْتُمْ إِلَى أَهْلِيكُمْ صَلُّوا صَلاَةَ كَذَا فِي حِينِ كَذَا صَلُّوا صَلاَةَ كَذَا فِي حِينِ كَذَا فَإِذَا حَضَرَتْ الصَّلاَةُ فَلْيُؤَذِّنْ أَحَدُكُمْ وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ
820- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ الْبَرَاءِ قَالَ " كَانَ سُجُودُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرُكُوعُهُ وَقُعُودُهُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ

(2/300)


قَرِيبًا مِنْ السَّوَاءِ "
821- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ إِنِّي لاَ آلُو أَنْ أُصَلِّيَ بِكُمْ كَمَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بِنَا قَالَ ثَابِتٌ كَانَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ يَصْنَعُ شَيْئًا لَمْ أَرَكُمْ تَصْنَعُونَهُ كَانَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ قَامَ حَتَّى يَقُولَ الْقَائِلُ قَدْ نَسِيَ وَبَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ حَتَّى يَقُولَ الْقَائِلُ قَدْ نَسِيَ
قوله: "باب المكث بين السجدتين" في رواية الحموي بين السجود. قوله: "ألا أنبئكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم" الإنباء بعدي بنفسه وبالباء، قال الله تعالى: {من أنبأك هذا} وقال: {فل أأنبئكم بخير من ذلكم} . قوله: "قال" أي أبو قلابة "وذلك في غير حين صلاة" أي غير وقت صلاة من المفروضة، ويتعين حمله على ذلك حتى لا يدخل فيه أوقات المنع من النافلة لتنزيه الصحابي عن التنفل حينئذ، وليس في اليوم والليلة وقت أجمع على أنه غير وقت لصلاة من الخمس إلا من طلوع الشمس إلى زوالها، وقد تقدم هذا الحديث في " باب الطمأنينة في الركوع " وفي غيره. والغرض منه هنا قوله: "ثم رفع رأسه هنية " بعد قوله: "ثم سجد " لأنه يقتضي الجلوس بين السجدتين قدر الاعتدال. قوله: "قال أيوب" أي بالسند المذكور إليه. قوله: "كان يقعد في الثالثة أو الرابعة" هو شك من الراوي، والمراد منه بيان جلسة الاستراحة، وهي تقع بين الثالثة والرابعة كما تقع بين الأولى والثانية، فكأنه قال: كان يقعد في آخر الثالثة أو في أول الرابعة، والمعنى واحد فشك الراوي أيهما قال، وسيأتي الحديث بعد باب واحد بلفظ: "فإذا كان في وتر من صلاته لم ينهض حتى يستوي قاعدا". قوله: "فأتينا النبي صلى الله عليه وسلم" هو مقول مالك بن الحويرث والفاء عاطفة على شيء محذوف تقديره أسلمنا فأتينا، أو أرسلنا قومنا فأتينا ونحو ذلك، وقد تقدم الكلام عليه في أبواب الإمامة وفي الأذان. حديث البراء تقدم الكلام عليه في " باب استواء الظهر في الركوع" حديث أنس تقدم الكلام عليه في " باب الطمأنينة حين يرفع رأسه من الركوع " وفي قوله في هذه الطريق " قال ثابت: كان أنس يصنع شيئا لم أركم تصنعونه الخ " إشعار بأن من خاطبهم كانوا لا يطيلون الجلوس بين السجدتين، ولكن السنة إذا ثبتت لا يبالي من تمسك بها بمخالفة من خالفها، والله المستعان.

(2/301)


141 - باب لاَ يَفْتَرِشُ ذِرَاعَيْهِ فِي السُّجُودِ
وَقَالَ أَبُو حُمَيْدٍ سَجَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَضَعَ يَدَيْهِ غَيْرَ مُفْتَرِشٍ وَلاَ قَابِضِهِمَا
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ سَمِعْتُ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "اعْتَدِلُوا فِي السُّجُودِ وَلاَ يَبْسُطْ أَحَدُكُمْ ذِرَاعَيْهِ انْبِسَاطَ الْكَلْبِ

(2/301)


والترمذي وابن خزيمة من حديث جابر نحوه بلفظ: "إذا سجد أحدكم فليعتدل ولا يفترش ذراعيه " الحديث، ولمسلم عن عائشة نحوه. قوله: "وقال أبو حميد الخ" هو طرف من حديث يأتي مطولا بعد ثلاثة أبواب. قوله: "ولا قابضهما" أي بأن يضمهما ولا يجافيهما عن جنبيه. قوله: "عن أنس" في رواية أبي داود الطيالسي عند الترمذي وفي رواية معاذ عند الإسماعيلي كلاهما عن شعبة التصريح بسماع قتادة له من أنس. قوله: "اعتدلوا" أي كونوا متوسطين بين الافتراش والقبض. وقال ابن دقيق العيد: لعل المراد بالاعتدال هنا وضع هيئة السجود على وفق الأمر، لأن الاعتدال الحسي المطلوب في الركوع لا يتأتى هنا، فإنه هناك استواء الظهر والعنق، والمطلوب هنا ارتفاع الأسافل على الأعالي، قال: وقد ذكر الحكم هنا مقرونا بعلته، فإن التشبيه بالأشياء الخسيسة يناسب تركه في الصلاة. انتهى. والهيئة المنهي عنها أيضا مشعرة بالتهاون وقلة الاعتناء بالصلاة. قوله: "ولا ينبسط" كذا للأكثر بنون ساكنة قبل الموحدة وللحموي " يبتسط " بمثناة بعد موحدة. وفي رواية ابن عساكر بموحدة ساكنة فقط وعليها اقتصر العمدة، وقوله: "انبساط " بالنون في الأولى والثالثة وبالمثناة وهي ظاهرة والثالثة تقديرها ولا يبسط ذراعيه فينبسط انبساط الكلب.

(2/302)


142- باب مَنْ اسْتَوَى قَاعِدًا فِي وِتْرٍ مِنْ صَلاَتِهِ ثُمَّ نَهَضَ
823- حدثنا محمد بن الصباح قال أخبرنا هشيم قال أخبرنا خالد الحذاء عن أبي قلابة قال أخبرنا مالك بن الحويرث الليثي أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فإذا كان في وتر من صلاته لم ينهض حتى يستوي قاعدا "
قوله: "باب من استوى قاعدا في وتر من صلاته" ذكر فيه حديث مالك بن الحويرث ومطابقته واضحة، وفيه مشروعية جلسة الاستراحة، وأخذ بها الشافعي وطائفة من أهل الحديث، وعن أحمد روايتان، وذكر الخلال أن أحمد رجع إلى القول بها، ولم يستحبها الأكثر، واحتج الطحاوي بخلو حديث أبي حميد عنها فإنه ساقه بلفظ: "فقام ولم يتورك " وأخرجه أبو داود أيضا كذلك قال: فلما تخالفا احتمل أن يكون ما فعله في حديث مالك بن الحويرث لعلة كانت به فقعد لأجلها، لا أن ذلك من سنة الصلاة، ثم قوى ذلك بأنها لو كانت مقصودة لشرع لها ذكر مخصوص، وتعقب بأن الأصل عدم العلة وبأن مالك بن الحويرث هو راوي حديث: "صلوا كما رأيتموني أصلي " فحكايته لصفات صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم داخلة تحت هذا الأمر. ويستدل بحديث أبي حميد المذكور على عدم وجوبها فكأنه تركها لبيان الجواز، وتمسك من لم يقل باستحبابها بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تبادروني بالقيام والقعود، فإني قد بدنت " فدل على أنه كان يفعلها لهذا السبب، فلا يشرع إلا في حق من اتفق له نحو ذلك، وأما الذكر المخصوص فإنها جلسة خفيفة جدا استغني فيها بالتكبير المشروع للقيام، فإنها من جملة النهوض إلى القيام، ومن حديث المعنى إن الساجد يضع يديه وركبتيه ورأسه مميزا لكل عضو وضع، فكذا ينبغي إذا رفع رأسه ويديه أن يميز رفع ركبتيه، وإنما يتم ذلك بأن يجلس ثم ينهض قائما، نبه عليه ناصر الدين بن المنير في الحاشية، ولم تتفق الروايات عن أبي حميد على نفي هذه الجلسة كما يفهمه صنيع الطحاوي، بل أخرجه أبو داود أيضا من وجه آخر عنه بإثباتها، وسيأتي ذلك عند الكلام على حديثه بعد بابين إن شاء الله تعالى. وأما قول بعضهم: لو كانت سنة لذكرها كل من وصف صلاته، فيقوى أنه فعلها للحاجة ففيه نظر، فإن السنن المتفق عليها لم يستوعبها كل واحد ممن وصف، وإنما أخذ مجموعها عن مجموعهم.

(2/302)


143 - باب كَيْفَ يَعْتَمِدُ عَلَى الأَرْضِ إِذَا قَامَ مِنْ الرَّكْعَةِ
824- حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ قَالَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ قَالَ جَاءَنَا مَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ فَصَلَّى بِنَا فِي مَسْجِدِنَا هَذَا فَقَالَ إِنِّي لاَصَلِّي بِكُمْ وَمَا أُرِيدُ الصَّلاَةَ وَلَكِنْ أُرِيدُ أَنْ أُرِيَكُمْ كَيْفَ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي قَالَ أَيُّوبُ فَقُلْتُ لِأَبِي قِلاَبَةَ وَكَيْفَ كَانَتْ صَلاَتُهُ قَالَ مِثْلَ صَلاَةِ شَيْخِنَا هَذَا يَعْنِي عَمْرَو بْنَ سَلِمَةَ قَالَ أَيُّوبُ وَكَانَ ذَلِكَ الشَّيْخُ يُتِمُّ التَّكْبِيرَ وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ عَنْ السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ جَلَسَ وَاعْتَمَدَ عَلَى الأَرْضِ ثُمَّ قَامَ "
قوله: "باب كيف يعتمد على الأرض إذا قام من الركعة" أي أي ركعة كانت. وفي رواية المستملي والكشميهني من الركعتين أي الأولى والثالثة. قوله: "عن السجدة" في رواية المذكورين " في السجدة " وفي بعض نسخ أبي ذر " من السجدة " وهي رواية الإسماعيلي، وقد تقدم الكلام على حديث مالك بن الحويرث، والغرض منه هنا ذكر الاعتماد على الأرض عند القيام من السجود أو الجلوس، والإشارة إلى رد ما روي بخلاف ذلك، فعند سعيد بن منصور بإسناد ضعيف عن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم كان ينهض على صدور قدميه، وعن ابن مسعود مثله بإسناد صحيح، وعن إبراهيم أنه كره أن يعتمد على يديه إذا نهض. فإن قيل ترجم على كيفية الاعتماد، والذي في الحديث إثبات الاعتماد فقط، أجاب الكرماني بأن بيان الكيفية مستفاد من قوله جلس واعتمد على الأرض ثم قام، فكأنه أراد بالكيفية أن يقوم معتمدا عن جلوس لا عن سجود. وقال ابن رشيد: أفاد في الترجمة التي قبل هذه إثبات الجلوس في الأولى والثالثة، وفي هذه أن ذلك الجلوس جلوس اعتماد على الأرض بتمكن، بدليل الإتيان بحرف " ثم " الدال على المهلة وأنه ليس جلوس استيفاز، فأفاد في الأولى مشروعية الحكم وفي الثانية صفته ا هـ ملخصا. وفيه شيء إذ لو كان ذلك المراد لقال كيف يجلس مثلا. وقيل يستفاد من الاعتماد أنه يكون باليد لأنه افتعال من العماد والمراد به الاتكاء وهو باليد، وروى عبد الرزاق عن ابن عمر أنه كان يقوم إذا رفع رأسه من السجدة معتمدا على يديه قبل أن يرفعهما.

(2/303)


144 - باب يُكَبِّرُ وَهُوَ يَنْهَضُ مِنْ السَّجْدَتَيْنِ وَكَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ يُكَبِّرُ فِي نَهْضَتِهِ
825-حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ صَالِحٍ قَالَ حَدَّثَنَا فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ صَلَّى لَنَا أَبُو سَعِيدٍ فَجَهَرَ بِالتَّكْبِيرِ حِينَ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ السُّجُودِ وَحِينَ سَجَدَ وَحِينَ رَفَعَ وَحِينَ قَامَ مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ وَقَالَ هَكَذَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
826- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ قَالَ حَدَّثَنَا غَيْلاَنُ بْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُطَرِّفٍ قَالَ صَلَّيْتُ أَنَا وَعِمْرَانُ صَلاَةً خَلْفَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَكَانَ إِذَا سَجَدَ كَبَّرَ وَإِذَا رَفَعَ كَبَّرَ وَإِذَا

(2/303)


نَهَضَ مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ كَبَّرَ فَلَمَّا سَلَّمَ أَخَذَ عِمْرَانُ بِيَدِي فَقَالَ لَقَدْ صَلَّى بِنَا هَذَا صَلاَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ قَالَ لَقَدْ ذَكَّرَنِي هَذَا صَلاَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قوله: "باب يكبر وهو ينهض من السجدتين" ذهب أكثر العلماء إلى أن المصلي يشرع في التكبير أو غيره عند ابتداء الخفض أو الرفع، إلا أنه اختلف عن مالك في القيام إلى الثالثة من التشهد الأول، فروي في الموطأ عن أبي هريرة وابن عمر وغيرهما أنهم كانوا يكبرون في حال قيامهم، وروى ابن وهب عنه أن التكبير بعد الاستواء أولى، وفي المدونة: لا يكبر حتى يستوي قائما. ووجهه بعض أتباعه بأن تكبير الافتتاح يقع بعد القيام فينبغي أن يكون هذا نظيره من حيث أن الصلاة فرضت أولا ركعتين ثم زيدت الرباعية فيكون افتتاح المزيد كافتتاح المزيد عليه. وكان ينبغي لصاحب هذا الكلام أن يستحب رفع اليدين حينئذ لتكمل المناسبة، ولا قائل منهم به. قوله: "وكان ابن الزبير" وصله ابن أبي شيبة بإسناد صحيح. قوله: "صلى لنا أبو سعيد" أي الخدري بالمدينة، وبين الإسماعيلي في روايته من طريق يونس بن محمد عن فليح سبب ذلك ولفظه: "اشتكى أبو هريرة - أو غاب - فصلى أبو سعيد، فجهر بالتكبير حين افتتح وحين ركع " الحديث، وزاد في آخره أيضا: "فلما انصرف قيل له: قد اختلف الناس على صلاتك، فقام عند المنبر فقال: إني والله ما أبالي اختلفت صلاتكم أم لم تختلف، إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا يصلي " والذي يظهر أن الاختلاف بينهم كان في الجهر بالتكبير والإسرار به، وكان مروان وغيره من بني أمية يسرونه كما تقدم في " باب إتمام التكبير في الركوع " وكان أبو هريرة يصلي بالناس في إمارة مروان على المدينة. وأما مقصود الباب فالمشهور عن أبي هريرة أنه كان يكبر حين يقوم ولا يؤخره حتى يستوي قائما كما تقدم عن الموطأ، وأما ما تقدم في " باب ما يقول الإمام ومن خلفه " من حديثه بلفظ: "وإذا قام من السجدتين قال الله أكبر " فيحمل على أن المعنى إذا شرع في القيام، قال الزين بن المنير: أجرى البخاري الترجمة وأثر ابن الزبير مجرى التبيين لحديثي الباب، لأنهما ليسا صريحين في أن ابتداء التكبير يكون مع أول النهوض. وقال ابن رشيد: في هذه الترجمة إشكال، لأنه ترجم فيما مضى " باب التكبير إذا قام من السجود " وأورد فيه حديث ابن عباس وأبي هريرة وفيهما التنصيص على أنه يكبر في حالة النهوض، وهو الذي اقتضته هذه الترجمة، فكان ظاهرها التكرار ويحمل قوله: "من السجدتين " على أنه أراد من الركعتين، لأن الركعة تسمى سجدة مجازا، ثم استبعده، ثم رجح أن المراد بهذه الترجمة بيان محل التكبير حين ينهض من السجدة الثانية بأنه إذا قعد على الوتر يكون تكبيره في الرفع إلى القعود ولا يؤخره إلى ما بعد القعود، ويتوجه ذلك بأن الترجمتين اللتين قبله فيهما بيان الجلوس، ثم بيان الاعتماد، فبين في هذه الثالثة محل التكبير ا هـ ملخصا. ويحتمل أن يكون مراده بقوله: "من السجدتين " ما هو أعم من ذلك فيشمل ما قيل أولا وثانيا، ويؤيد ذلك اشتمال حديثي الباب على ذلك، ففي حديث أبي سعيد " حين رفع رأسه من السجود وحين قام من الركعتين " وفي حديث عمران بن حصين " وإذا رفع كبر وإذا نهض من الركعتين كبر " وأما أثر ابن الزبير فيمكن شموله الأمرين لأن النهضة تحتملهما، لكن استعمالها في القيام أكثر، وهذا يرجح الحمل الأول
ـــــــ
(1)يعني من المالكية . ولا ريب أن السنة في ذلك التكبير حين ينهض إلى الثالثة مع رفع اليدين كما ثبت ذلك من حديث ابن عمر وغيره . والله أعلم

(2/304)


الذي استبعده ابن رشيد، ولا بعد فيه فقد تقدم أن خلاف مالك إنما هو في النهوض من الركعتين بعد التشهد الأول. الكلام على حديث عمران بن حصين قد تقدم في " باب إتمام التكبير في الركوع".

(2/305)


145 - باب سُنَّةِ الْجُلُوسِ فِي التَّشَهُّدِ
وَكَانَتْ أُمُّ الدَّرْدَاءِ تَجْلِسُ فِي صَلاَتِهَا جِلْسَةَ الرَّجُلِ وَكَانَتْ فَقِيهَةً
827- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ كَانَ يَرَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَتَرَبَّعُ فِي الصَّلاَةِ إِذَا جَلَسَ فَفَعَلْتُهُ وَأَنَا يَوْمَئِذٍ حَدِيثُ السِّنِّ فَنَهَانِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَقَالَ إِنَّمَا سُنَّةُ الصَّلاَةِ أَنْ تَنْصِبَ رِجْلَكَ الْيُمْنَى وَتَثْنِيَ الْيُسْرَى فَقُلْتُ إِنَّكَ تَفْعَلُ ذَلِكَ فَقَالَ إِنَّ رِجْلَيَّ لاَ تَحْمِلاَنِي "
828- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ خَالِدٍ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَلْحَلَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ وَحَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ وَيَزِيدَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَلْحَلَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ أَنَّهُ كَانَ جَالِسًا مَعَ نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْنَا صَلاَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَبُو حُمَيْدٍ السَّاعِدِيُّ أَنَا كُنْتُ أَحْفَظَكُمْ لِصَلاَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَيْتُهُ إِذَا كَبَّرَ جَعَلَ يَدَيْهِ حِذَاءَ مَنْكِبَيْهِ وَإِذَا رَكَعَ أَمْكَنَ يَدَيْهِ مِنْ رُكْبَتَيْهِ ثُمَّ هَصَرَ ظَهْرَهُ فَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ اسْتَوَى حَتَّى يَعُودَ كُلُّ فَقَارٍ مَكَانَهُ فَإِذَا سَجَدَ وَضَعَ يَدَيْهِ غَيْرَ مُفْتَرِشٍ وَلاَ قَابِضِهِمَا وَاسْتَقْبَلَ بِأَطْرَافِ أَصَابِعِ رِجْلَيْهِ الْقِبْلَةَ فَإِذَا جَلَسَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ جَلَسَ عَلَى رِجْلِهِ الْيُسْرَى وَنَصَبَ الْيُمْنَى وَإِذَا جَلَسَ فِي الرَّكْعَةِ الْآخِرَةِ قَدَّمَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى وَنَصَبَ الأُخْرَى وَقَعَدَ عَلَى مَقْعَدَتِهِ وَسَمِعَ اللَّيْثُ يَزِيدَ بْنَ أَبِي حَبِيبٍ وَيَزِيدُ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَلْحَلَةَ وَابْنُ حَلْحَلَةَ مِنْ ابْنِ عَطَاءٍ قَالَ أَبُو صَالِحٍ عَنْ اللَّيْثِ كُلُّ فَقَارٍ وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ قَالَ حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَمْرٍو حَدَّثَهُ كُلُّ فَقَارٍ "
قوله: "باب سنة الجلوس في التشهد" أي السنة في الجلوس الهيئة الآتي ذكرها، ولم يرد أن نفس الجلوس سنة. ويحتمل إرادته على أن المراد بالسنة الطريقة الشرعية التي هي أهم من الواجب والمندوب. وقال الزين بن المنير: ضمن هذه الترجمة ستة أحكام، وهي أن هيئة الجلوس غير مطلق الجلوس، والتفرقة بين الجلوس للتشهد الأول والأخير وبينهما وبين الجلوس بين السجدتين، وأن ذلك كله سنة، وأن لا فرق بين الرجال والنساء، وأن ذا العلم يحتج بعمله ا هـ. وهذا الأخير إنما يتم إذا ضم أثر أم الدرداء إلى الترجمة، وقد تقدم تقرير ذلك، وأثر أم الدرداء المذكور وصله المصنف في التاريخ الصغير من طريق مكحول باللفظ المذكور، وأخرجه ابن أبي شيبة من هذا الوجه، لكن لم يقع عنده قول مكحول في آخره: "وكانت فقيهة " فجزم بعض الشراح بأن ذلك من كلام البخاري لا من كلام مكحول، فقال مغلطاي: القائل: "وكانت فقيهة " هو البخاري فيما أرى. وتبعه شيخنا ابن الملقن فقال: الظاهر أنه

(2/305)


قول البخاري ا هـ. وليس كما قالا، فقد رويناه تاما في مسند الفريابي أيضا بسنده إلى مكحول، ومن طريقة البخاري أن الدليل إذا كان عاما وعمل بعمومه بعض العلماء رجح به وإن لم يحتج به بمجرده، وعرف من رواية مكحول أن المراد بأم الدرداء الصغرى التابعية لا الكبرى الصحابية لأنه أدرك الصغرى ولم يدرك الكبرى، وعمل التابعي بمفرده ولو لم يخالف لا يحتج به، وإنما وقع الاختلاف في العمل بقول الصحابي كذلك، ولم يورد البخاري أثر أم الدرداء ليحتج به بل للتقوية. قوله: "عن عبد الله بن عبد الله" أي ابن عمر، وهو تابعي ثقة سمي باسم أبيه وكني بكنيته. قوله: "أنه أخبره" صريح في أن عبد الرحمن بن القاسم حمله عنه بلا واسطة، وقد اختلف فيه الرواة عن مالك فأدخل معن بن عيسى وغيره عنه فيه - بين عبد الرحمن بن القاسم وعبد الله بن عبد الله - القاسم بن محمد والد عبد الرحمن، بين ذلك الإسماعيلي وغيره، فكأن عبد الرحمن سمعه من أبيه عنه، ثم لقيه أو سمعه منه معه وثبته فيه أبوه. قوله: "وتثني اليسرى" لم يبين في هذه الرواية ما يصنع بعد ثنيها هل يجلس فوقها أو يتورك، ووقع في الموطأ عن يحيى بن سعيد أن القاسم بن محمد أراهم الجلوس في التشهد فنصب رجله اليمنى وثنى اليسرى وجلس على وركه اليسرى ولم يجلس على قدمه ثم قال: أراني هذا عبد الله بن عبد الله بن عمر وحدثني أن أباه كان يفعل ذلك. فتبين من رواية القاسم ما أجمل في رواية ابنه، وإنما اقتصر البخاري على رواية عبد الرحمن لتصريحه فيها بأن ذلك هو السنة لاقتضاء ذلك الرفع، بخلاف رواية القاسم، ورجح ذلك عنده حديث أبي حميد المفصل بين الجلوس الأول والثاني، على أن الصفة المذكورة قد يقال إنها لا تخالف حديث أبي حميد لأن في الموطأ أيضا عن عبد الله بن دينار التصريح بأن جلوس ابن عمر المذكور كان في التشهد الأخير، وروى النسائي من طريق عمرو بن الحارث عن يحيى بن سعيد أن القاسم حدثه عن عبد الله بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال: "من سنة الصلاة أن ينصب اليمنى ويجلس على اليسرى " فإذا حملت هذه الرواية على التشهد الأول ورواية مالك على التشهد الأخير انتفى عنهما التعارض ووافق ذلك التفصيل المذكور في حديث أبي حميد، والله أعلم. قوله: "فقلت إنك تفعل ذلك" أي التربع قال ابن عبد البر: اختلفوا في التربع في النافلة وفي الفريضة للمريض، وأما الصحيح فلا يجوز له التربع في الفريضة بإجماع العلماء، كذا قال، وروى ابن أبي شيبة عن ابن مسعود قال: "لأن أقعد على رضفتين أحب إلي من أن أقعد متربعا في الصلاة " وهذا يشعر بتحريمه عنده، ولكن المشهور عن أكثر العلماء أن هيئة الجلوس في التشهد سنة، فلعل ابن عبد البر أراد بنفي الجواز إثبات الكراهة. قوله: "إن رجلي" كذا للأكثر. وفي رواية حكاها ابن التين " أن رجلاي " ووجهها على أن " إن " بمعنى نعم، ثم استأنف فقال: "رجلاي لا تحملاني " أو على اللغة المشهورة لغة بني الحارث، ولها وجه آخر لم يذكره، وقد ذكرت الأوجه في قراءة من قرأ: {إن هذان لساحران} . قوله: "لا تحملاني" بتشديد النون ويجوز التخفيف. قوله: "عن خالد" هو ابن يزيد الجمحي المصري، وهو من أقران سعيد بن أبي هلال شيخه في هذا الحديث. قوله: "قال حدثنا الليث" قائل ذلك هو يحيى بن بكير المذكور. والحاصل أن بين الليث وبين محمد ابن عمرو بن حلحلة في الرواية الأولى اثنين، وبينهما في الرواية الثانية واسطة واحدة، ويزيد بن أبي حبيب مصري معروف من صغار التابعين، ويزيد بن محمد رفيقه في هذا الحديث من بني قيس بن مخرمة بن المطلب مدني سكن مصر، وكل من فوقهم مدني أيضا، فالإسناد دائر بين مدني ومصري. وأردف الرواية النازلة بالرواية العالية على عادة أهل الحديث، وربما وقع لها ضد ذلك لمعنى مناسب. قوله: "أنه كان جالسا في نفر من

(2/306)


أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم" في رواية كريمة: "مع نفر " وكذا اختلف على عبد الحميد بن جعفر عن محمد بن عمرو بن عطاء، ففي رواية عاصم عنه عند أبي داود وغيره: "سمعت أبا حميد في عشرة". وفي رواية هشيم عنه عند سعيد بن منصور " رأيت أبا حميد مع عشرة " ولفظ: "مع " يرجح أحد الاحتمالين في لفظ: "في " لأنها محتملة لأن يكون أبو حميد من العشرة أو زائدا عليهم، ثم إن رواية الليث ظاهرة في اتصاله بين محمد بن عمرو وأبي حميد، ورواية عبد الحميد صريحة في ذلك. وزعم ابن القطان تبعا للطحاوي أنه غير متصل لأمرين: أحدهما أن عيسى بن عبد الله بن مالك رواه عن محمد بن عمرو بن عطاء فأدخل بينه وبين الصحابة عباس بن سهل أخرجه أبو داود وغيره، ثانيهما أن في بعض طرقه تسمية أبي قتادة في الصحابة المذكورين وأبو قتادة قديم الموت يصغر سن محمد بن عمرو ابن عطاء عن إدراكه. والجواب عن ذلك: أما الأول فلا يضر الثقة المصرح بسماعه أن يدخل بينه وبين شيخه واسطة، إما لزيادة في الحديث، وإما ليثبت فيه، وقد صرح محمد بن عمرو المذكور بسماعه فتكون رواية عيسى عنه من المزيد في متصل الأسانيد، وأما الثاني فالمعتمد فيه قول بعض أهل التاريخ إن أبا قتادة مات في خلافة علي وصلى عليه علي وكان قتل علي سنة أربعين وأن محمد بن عمرو بن عطاء مات بعد سنة عشرين ومائة وله نيف وثمانون سنة فعلى هذا لم يدرك أبا قتادة، والجواب أن أبا قتادة اختلف في وقت موته، فقيل مات سنة أربع وخمسين وعلى هذا فلقاء محمد له ممكن، وعلى الأول فلعل من ذكر مقدار عمره أو وقت وفاته وهم، أو الذي سمي أبا قتادة في الصحابة المذكورين وهم في تسميته، ولا يلزم من ذلك أن يكون الحديث الذي رواه غلطا لأن غيره ممن رواه معه عن محمد بن عمرو بن عطاء أو عن عباس ابن سهل قد وافقه. "فائدة": سمي من النفر المذكورين في رواية فليح عن عباس بن سهل مع أبي حميد أبو العباس سهل بن سعد وأبو أسيد الساعدي ومحمد بن مسلمة أخرجها أحمد وغيره، وسمي منهم في رواية عيسى ابن عبد الله عن عباس المذكورون سوى محمد بن مسلمة فذكر بدله أبو هريرة أخرجها أبو داود وغيره، وسمي منهم في رواية ابن إسحاق عن عباس عند ابن خزيمة. وفي رواية عبد الحميد بن جعفر عن محمد بن عمرو بن عطاء عند أبي داود والترمذي أبو قتادة. وفي رواية عبد الحميد المذكورة أنهم كانوا عشرة كما تقدم، ولم أقف على تسمية الباقين. وقد اشتمل حديث أبي حميد هذا على جملة كثيرة من صفة الصلاة، وسأبين ما في رواية غير الليث من الزيادة ناسبا كل زيادة إلى مخرجها إن شاء الله تعالى. وقد أشرت قبل إلى مخارج الحديث، لكن سياق الليث فيه حكاية أبي حميد لصفة الصلاة بالقول، وكذا في رواية كل من رواه عن محمد بن عمرو بن حلحلة، ونحوه رواية عبد الحميد بن جعفر عن محمد بن عمرو بن عطاء، ووافقهما فليح عن عباس بن سهل، وخالف الجميع عيسى بن عبد الله عن محمد بن عمرو بن عطاء عن عباس فحكى أن أبا حميد وصفها بالفعل ولفظه عند الطحاوي وابن حبان: "قالوا فأرنا، فقام يصلي وهم ينظرون، فبدأ فكبر " الحديث. ويمكن الجمع بين الروايتين بأن يكون وصفها مرة بالقول ومرة بالفعل، وهذا يؤيد ما جمعنا به أولا، فإن عيسى المذكور هو الذي زاد عباس بن سهل بين محمد بن عمرو بن عطاء وأبي حميد، فكأن محمدا شهد هو وعباس حكاية أبي حميد بالقول فحملها عنه من تقدم ذكره، وكأن عباسا شهدها وحده بالفعل فسمع ذلك منه محمد بن عطاء فحدث بها كذلك، وقد وافق عيسى أيضا عنه عطاف بن خالد لكنه أبهم عباس بن سهل أخرجه الطحاوي أيضا، ويقوي ذلك أن ابن خزيمة أخرج من طريق ابن إسحاق أن عباس بن سهل حدثه فساق الحديث بصفة الفعل أيضا، والله أعلم. قوله: "أنا كنت أحفظكم" زاد

(2/307)


عبد الحميد " قالوا فلم؟ فوالله ما كنت بأكثرنا له اتباعا - وفي رواية الترمذي إتيانا - ولا أقدمنا له صحبة". وفي رواية عيسى بن عبد الله " قالوا فكيف؟ قال: اتبعت ذلك منه حتى حفظته " زاد عبد الحميد " قالوا فاعرض " وفي روايته عند ابن حبان: "استقبل القبلة ثم قال: الله أكبر"، وزاد فليح عند ابن خزيمة فيه ذكر الوضوء. قوله: "جعل يديه حذو منكبيه" زاد ابن إسحاق " ثم قرأ بعض القرآن " ونحوه لعبد الحميد. قوله: "ثم هصر ظهره" بالهاء والصاد المهملة المفتوحتين، أي ثناه في استواء من غير تقويس ذكره الخطابي. وفي رواية عيسى " غير مقنع رأسه ولا مصوبه " ونحوه لعبد الحميد. وفي رواية فليح عند أبي داود " فوضع يديه على ركبتيه كأنه قابض عليهما " ووتر يديه فتجافى عن جنبيه " وله في رواية ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب " وفرج بين أصابعه". قوله: "فإذا رفع رأسه استوى" زاد عيسى عند أبي داود " فقال سمع الله لمن حمده اللهم ربنا لك الحمد، ورفع يديه"، ونحوه لعبد الحميد وزاد: "حتى يحاذي بهما منكبيه معتدلا". قوله: "حتى يعود كل فقار" الفقار بفتح الفاء والقاف جمع فقارة وهي عظام الظهر، وهي العظام التي يقال لها خرز الظهر قاله القزاز. وقال ابن سيده: هي من الكاهل إلى العجب، وحكى ثعلب عن نوادر بن الأعرابي أن عدتها سبعة عشر. وفي أمالي الزجاج: أصولها سبع غير التوابع وعن الأصمعي: هي خمس وعشرون، سبع في العنق وخمس في الصلب وبقيتها في أطراف الأضلاع، وحكي في المطالع أنه وقع في رواية الأصيلي بفتح الفاء ولابن السكن بكسرها، والصواب بفتحها، وسيأتي ما فيه في آخر الحديث والمراد بذلك كمال الاعتدال. وفي رواية هشيم عن عبد الحميد " ثم يمكث قائما حتى يقع كل عظم موقعه". قوله: "فإذ سجد وضع يديه غير مفترش" أي لهما، ولابن حبان من رواية عتبة بن أبي حكيم عن عباس بن سهل " غير مفترش ذراعيه". قوله: "ولا قابضهما" أي بأن يضمهما إليه. وفي رواية عيسى " فإذا سجد فرج بين فخذيه غير حامل بطنه على شيء منهما " وفي رواية عتبة المذكورة " ولا حامل بطنه على شيء من فخذيه " وفي رواية عبد الحميد " جافى يديه عن جنبيه " وفي رواية فليح " ونحى يديه عن جنبيه ووضع يديه حذو منكبيه " وفي رواية ابن إسحاق " فاعلو لي على جنبيه وراحتيه وركبتيه وصدور قدميه حتى رأيت بياض إبطيه ما تحت منكبيه، ثم ثبت حتى اطمأن كل عظم منه، ثم رفع رأسه فاعتدل " وفي رواية عبد الحميد " ثم يقول الله أكبر ويرفع رأسه ويثني رجله اليسرى فيقعد عليها حتى يرجع كل عظم إلى موضعه " ونحوه في رواية عيسى بلفظ: "ثم كبر فجلس فتورك ونصب قدمه الأخرى ثم كبر فسجد " وهذا يخالف رواية عبد الحميد في صفة الجلوس، ويقوي رواية عبد الحميد ورواية فليح عند ابن حبان بلفظ: "كان إذا جلس بين السجدتين افترش رجله اليسرى وأقبل بصدر اليمنى على قبلته " أورده مختصرا هكذا في كتاب الصلاة له. وفي رواية ابن إسحاق خلاف الروايتين ولفظه: "فاعتدل على عقبيه وصدور قدميه " فإن لم يحمل على التعدد وإلا فرواية عبد الحميد أرجح. قوله: "فإذا جلس في الركعتين" أي الأوليين ليتشهد. وفي رواية فليح " ثم جلس فافترش رجله اليسرى وأقبل بصدر اليمنى على قبلته ووضع كفه على ركبته اليمنى وكفه اليسرى على ركبته اليسرى وأشار بإصبعه " وفي رواية عيسى بن عبد الله " ثم جلس بعد الركعتين حتى إذا هو أراد أن ينهض إلى القيام قام بتكبيرة " وهذا يخالف في الظاهر رواية عبد الحميد حيث قال: "إذا قام من الركعتين كبر ورفع يديه كما كبر عند افتتاح الصلاة " ويمكن الجمع بينهما بأن التشبيه واقع على صفة التكبير لا على محله، ويكون معنى قوله: "إذا قام " أي أراد القيام أو شرع فيه. قوله: "وإذا جلس في الركعة الآخرة الخ" في رواية عبد الحميد " حتى إذا كانت السجدة التي يكون فيها

(2/308)


التسليم " وفي روايته عند ابن حبان: "التي تكون خاتمة الصلاة أخرج رجله اليسرى وقعد متوركا على شقه الأيسر " زاد ابن إسحاق في روايته: "ثم سلم " وفي رواية عيسى عند الطحاوي " فلما سلم سلم عن يمينه سلام عليكم ورحمة الله وعن شماله كذلك " وفي رواية أبي عاصم عن عبد الحميد عند أبي داود وغيره: "قالوا - أي الصحابة المذكورون - صدقت، هكذا كان يصلي " وفي هذا الحديث حجة قوية للشافعي ومن قال بقوله في أن هيئة الجلوس في التشهد الأول مغايرة لهيئة الجلوس في الأخير، وخالف في ذلك المالكية والحنفية فقالوا: يسوى بينهما، لكن قال المالكية: يتورك فيهما كما جاء في التشهد الأخير، وعكسه الآخرون. وقد قيل في حكمة المغايرة بينهما أنه أقرب إلى عدم اشتباه عدد الركعات، ولأن الأول تعقبه حركة بخلاف الثاني، ولأن المسبوق إذا رآه علم قدر ما سبق به، واستدل به الشافعي أيضا على أن تشهد الصبح كالتشهد الأخير من غيره لعموم قوله: "في الركعة الأخيرة"، واختلف فيه قول أحمد، والمشهور عنه اختصاص التورك بالصلاة التي فيها تشهدان. وفي الحديث من الفوائد أيضا جواز وصف الرجل نفسه بكونه أعلم من غيره إذا أمن الإعجاب وأراد تأكيد ذلك عند من سمعه لما في التعليم والأخذ عن الأعلم من الفضل. وفيه أن " كان " تستعمل فيما مضى وفيما يأتي لقول أبي حميد كنت أحفظكم وأراد استمراره على ذلك أشار إليه ابن التين. وفيه أنه كان يخفى على الكثير من الصحابة بعض الأحكام المتلقاة عن النبي صلى الله عليه وسلم وربما تذكره بعضهم إذا ذكر. وفي الطرق التي أشرت إلى زيادتها جملة من صفة الصلاة ظاهرة لمن تدبر ذلك وتفهمه. قوله: "وسمع الليث الخ" إعلام منه بأن العنعنة الواقعة في إسناد هذا الحديث بمنزلة السماع، وهو كلام المصنف، ووهم من جزم بأنه كلام يحيى بن بكير، وقد وقع التصريح بتحديث ابن حلحلة ليزيد في رواية ابن المبارك كما سيأتي. قوله: "وقال أبو صالح عن الليث" يعني بإسناده الثاني عن اليزيدين، كذلك وصله الطبراني عن مطلب بن شعيب وابن عبد البر من طريق قاسم بن أصبغ كلاهما عن أبي صالح عبد الله بن صالح كاتب الليث، ووهم من جزم بأن أبا صالح هنا هو ابن عبد الغفار الحراني. قوله: "كل قفار" ضبط في روايتنا بتقديم القاف على الفاء، وكذا للأصيلي، وعند الباقين بتقديم الفاء كرواية يحيى بن بكير، لكن ذكر صاحب المطالع أنهم كسروا الفاء، وجزم جماعة من الأئمة بأن تقديم القاف تصحيف. وقال ابن التين: لم يتبين لي وجهه. قوله: "وقال ابن المبارك الخ" وصله الجوزقي في جمعه وإبراهيم الحربي في غريبه وجعفر الفريابي في صفة الصلاة كلهم من طريق ابن المبارك بهذا الإسناد، ووقع عندهم بلفظ: "حتى يعود كل فقار مكانه " وهي نحو رواية يحيى بن بكير، ووقع في رواية الكشميهني وحده " كل فقاره " واختلف في ضبطه فقيل بهاء الضمير وقيل بهاء التأنيث أي حتى تعود كل عظمة من عظام الظهر مكانها، والأول معناه حتى يعود جميع عظام ظهره. وأما رواية يحيى بن بكير ففيها إشكال، وكأنه ذكر الضمير لأنه أعاده على لفظ الفقار، والمعنى حتى يعود كل عظام مكانها، أو استعمل الفقار للواحد تجوزا.

(2/309)


باب من لم ير التشهد الأول واجبا لأن النبي سلى اله عليه وسلم قام من الركعتين ولم يرجع
...
146 - باب مَنْ لَمْ يَرَ التَّشَهُّدَ الأَوَّلَ وَاجِبًالِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ وَلَمْ يَرْجِعْ
147- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ هُرْمُزَ مَوْلَى بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَقَالَ مَرَّةً مَوْلَى رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ ابْنَ بُحَيْنَةَ وَهُوَ مِنْ أَزْدِ شَنُوءة وَهُوَ حَلِيفٌ لِبَنِي عَبْدِ مَنَافٍ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِهِمْ الظَّهْرَ فَقَامَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ لَم ْ

(2/309)


يَجْلِسْ فَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ حَتَّى إِذَا قَضَى الصَّلاَةَ وَانْتَظَرَ النَّاسُ تَسْلِيمَهُ كَبَّرَ وَهُوَ جَالِسٌ فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ ثُمَّ سَلَّمَ "
[الحديث829- أطرافه في : 7381,6328,6265,6230,1202,835]
قوله: "باب من لم ير التشهد الأول واجبا لأن النبي صلى الله عليه وسلم قام من الركعتين ولم يرجع" قال الزين بن المنير: ذكر في هذه الترجمة الحكم ودليله، ولم يثبت الحكم مع ذلك كأن يقول باب لا يجب التشهد الأول، وسببه ما يطرق الدليل المذكور من الاحتمال. وقد أشار إلى معارضته في الترجمة التي تلي هذه حيث أوردها بنظير ما أورد به الترجمة التي بعدها، وفي لفظ حديث الباب فيها ما يشعر بالوجوب حيث قال: "وعليه جلوس " وهو محتمل أيضا، وسيأتي الكلام على حديث التشهد، وورد الأمر بالتشهد الأول أيضا. ووجه الدلالة من حديث الباب أنه لو كان واجبا لرجع إليه لما سبحوا به بعد أن قام كما سيأتي بيانه في الكلام على حديث الباب في أبواب سجود السهو، ويعرف منه أن قول ناصر الدين بن المنير في الحاشية: لو كان واجبا لسبحوا به ولم يسارعوا إلى الموافقة على الترك، غفلة عن الرواية المنصوص فيها على أنهم سبحوا به، قال ابن بطال: والدليل على أن سجود السهو لا ينوب عن الواجب أنه لو نسي تكبيرة الإحرام لم تجبر فكذلك التشهد، ولأنه ذكر لا يجهر به بحال فلم يجب كدعاء الافتتاح، واحتج غيره بتقريره صلى الله عليه وسلم الناس على متابعته بعد أن علم أنهم تعمدوا تركه، وفيه نظر. وممن قال بوجوبه الليث وإسحاق وأحمد في المشهور وهو قول للشافعي. وفي رواية عند الحنفية. واحتج الطبري لوجوبه بأن الصلاة فرضت أولا ركعتين وكان التشهد فيها واجبا فلما زيدت لم تكن الزيادة مزيلة لذلك الواجب. وأجيب بأن الزيادة لم تتعين في الأخيرتين بل يحتمل أن يكونا هما الفرض الأول والمزيد هما الركعتان الأولتان بتشهدهما، ويؤيده استمرار السلام بعد التشهد الأخير كما كان، واحتج أيضا بأن من تعمد ترك الجلوس الأول بطلت صلاته، وهذا لا يرد لأن من لا يوجبه لا يبطل الصلاة بتركه. قوله: "التشهد" هو تفعل من تشهد، سمي بذلك لاشتماله على النطق بشهادة الحق تغليبا لها على بقية أذكاره لشرفها. قوله: "حدثني عبد الرحمن بن هرمز" هو الأعرج المذكور في الإسناد الذي بعده. قوله: "مولى بني عبد المطلب وقال مرة" أي الزهري "مولى ربيعة بن الحارث" ولا تنافي بينهما لأنه مولى ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، فذكره أولا بجد مواليه الأعلى وثانيا بمولاه الحقيقي. قوله: "أزد شنوءة" بفتح الهمزة وسكون الزاي بعدها مهملة ثم معجمة مفتوحة ثم نون مضمومة وهمزة مفتوحة وزن فعولة قبيلة مشهورة. قوله: "حليف لبني عبد مناف" صواب لأن جده حالف المطلب بن عبد مناف، قاله ابن سعد وغيره، وسيأتي ما فيه في أبواب سجود السهو إن شاء الله تعالى. قوله: "فقام في الركعتين الأوليين لم يجلس" أي للتشهد، ووقع في رواية ابن عساكر: "ولم يجلس " بزيادة واو، وفي صحيح مسلم: "فلم يجلس " بالفاء، وسيأتي في السهو كذلك، قال ابن رشيد: إذا أطلق في الأحاديث الجلوس في الصلاة من غير تقييد فالمراد به جلوس التشهد، وبهذا يظهر وجه مناسبة الحديث للترجمة.

(2/310)


147 - باب التَّشَهُّدِ فِي الأُولَى
830- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ حَدَّثَنَا بَكْرٌ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَالِكٍ

(2/310)


ابْنِ بُحَيْنَةَ قَالَ صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظُّهْرَ فَقَامَ وَعَلَيْهِ جُلُوسٌ فَلَمَّا كَانَ فِي آخِرِ صَلاَتِهِ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ "
قوله: "باب التشهد في الأولى" أي الجلسة الأولى من ثلاثية أو رباعية قال الكرماني: الفرق بين هذه الترجمة والتي قبلها أن الأولى لبيان عدم وجوب التشهد الأول والثانية لبيان مشروعيته أي والمشروعية أعم من الواجب والمندوب قوله: "بكر" هو ابن مضر، وعبد الله بن مالك بن بحينة هو عبد الله بن بحينة المذكور في الإسناد الذي قبله، وبحينة والدة عبد الله على المشهور فينبغي أن تثبت الألف في ابن بحينة إذا ذكر مالك ويعرب إعراب عبد الله. "فائدة": لا خلاف في أن ألفاظ التشهد في الأولى كالتي في الأخيرة، إلا ما روى الزهري عن سالم قال: وكان ابن عمر لا يسلم في التشهد الأول، كان يرى ذلك نسخا لصلاته. قال الزهري: فأما أنا فأسلم، يعني قوله: "السلام عليك أيها النبي - إلى - الصالحين " هكذا أخرجه عبد الرزاق.

(2/311)


148 - باب التَّشَهُّدِ فِي الْآخِرَةِ
832- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ شَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ كُنَّا إِذَا صَلَّيْنَا خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْنَا السَّلاَمُ عَلَى جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ السَّلاَمُ عَلَى فُلاَنٍ وَفُلاَنٍ فَالْتَفَتَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّلاَمُ فَإِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ السَّلاَمُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ السَّلاَمُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ فَإِنَّكُمْ إِذَا قُلْتُمُوهَا أَصَابَتْ كُلَّ عَبْدٍ لِلَّهِ صَالِحٍ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ "
[الحديث831 – أطرافه في:7381,6328,6265,6230,1202,835]
قوله: "باب التشهد في الآخرة" أي الجلسة الآخرة، قال ابن رشيد: ليس في حديث الباب تعيين محل القول، لكن يؤخذ ذلك من قوله: "فإذا صلى أحدكم فليقل " فإن ظاهر قوله: "إذا صلى " أي أتم صلاته، لكن تعذر الحمل على الحقيقة لأن التشهد لا يكون بعد السلام، فلما تعين المجاز كان حمله على آخر جزء من الصلاة أولى لأنه هو الأقرب إلى الحقيقة. قلت: وهذا التقرير على مذهب الجمهور في أن السلام جزء من الصلاة، لا أنه للتحلل منها فقط، والأشبه بتصرف البخاري أنه أشار بذلك إلى ما ورد في بعض طرقه من تعيين محل القول كما سيأتي قريبا. قوله: "عن شقيق" في رواية يحيى الآتية بعد باب " عن الأعمش حدثني شقيق". قوله: "كنا إذا صلينا" في رواية يحيى المذكورة " كنا إذا كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة " ولأبي داود عن مسدد شيخ البخاري فيه: "إذا جلسنا " ومثله للإسماعيلي من رواية محمد بن خلاد عن يحيى، وله من رواية علي بن مسهر، ولابن إسحاق في مسنده عن عيسى بن يونس كلاهما عن الأعمش نحوه. قوله: "قلنا السلام على جبريل" وقع في هذه الرواية اختصار ثبت في رواية يحيى المذكورة وهو " قلنا السلام على الله من عباده " كذا وقع للمصنف فيها، وأخرجه أبو داود عن مسدد شيخ البخاري فيه فقال: "قبل عباده " وكذا للمصنف في الاستئذان من طريق حفص بن غياث عن الأعمش وهو المشهور في أكثر الروايات

(2/311)


وبهذه الزيادة يتبين موقع قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله هو السلام " ولفظه في رواية يحيى المذكورة " لا تقولوا السلام على الله، فإن الله هو السلام" . قوله: "السلام على فلان وفلان" في رواية عبد الله بن نمير عن الأعمش عند ابن ماجه يعنون الملائكة، وللإسماعيلي من رواية على بن مسهر " فنعد الملائكة " ومثله للسراج من رواية محمد بن فضيل عن الأعمش بلفظ: "فنعد من الملائكة ما شاء الله". قوله: "فالتفت" ظاهره أنه كلمهم بذلك في أثناء الصلاة، ونحوه في رواية حصين عن أبي وائل وهو شقيق عند المصنف، في أواخر الصلاة بلفظ: "فسمعه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: قولوا " لكن بين حفص بن غياث في روايته المذكورة المحل الذي خاطبهم بذلك فيه وأنه بعد الفراغ من الصلاة ولفظه: "فلما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم أقبل علينا بوجهه " وفي رواية عيسى بن يونس أيضا: "فلما انصرف من الصلاة قال". قوله: "إن الله هو السلام" قال البيضاوي ما حاصله: أنه صلى الله عليه وسلم أنكر التسليم على الله وبين أن ذلك عكس ما يجب أن يقال، فإن كل سلام ورحمة له ومنه وهو مالكها ومعطيها. وقال التوربشتي: وجه النهي عن السلام على الله لأنه المرجوع إليه بالمسائل المتعالي عن المعاني المذكورة فكيف يدعى له وهو المدعو على الحالات. وقال الخطابي: المراد أن الله هو ذو السلام فلا تقولوا السلام على الله فإن السلام منه بدأ وإليه يعود، ومرجع الأمر في إضافته إليه أنه ذو السلام من كل آفة وعيب. ويحتمل أن يكون مرجعها إلى حظ العبد فيما يطلبه من السلامة من الآفات والمهالك. وقال النووي: معناه أن السلام اسم من أسماء الله تعالى، يعني السالم من النقائص، ويقال: المسلم أولياء وقيل المسلم عليهم، قال ابن الأنباري أمرهم أن يصرفوه إلى الخلق لحاجتهم إلى السلامة وغناه سبحانه وتعالى عنها. قوله: "فإذا صلى أحدكم فليقل" بين حفص في روايته المذكورة محل القول ولفظه: "فإذا جلس أحدكم في الصلاة " وفي رواية حصين المذكورة " إذا قعد أحدكم في الصلاة " وللنسائي من طريق أبي الأحوص عن عبد الله " كنا لا ندري ما نقول في كل ركعتين، وأن محمدا علم فواتح الخير وخواتمه فقال: إذا قعدتم في كل ركعتين فقولوا " وله من طريق الأسود عن عبد الله " فقولوا في كل جلسة " ولابن خزيمة من وجه آخر عن الأسود عن عبد الله " علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم التشهد في وسط الصلاة وفي آخرها " وزاد الطحاوي من هذا الوجه في أوله " وأخذت التشهد من في رسول الله صلى الله عليه وسلم ولقننيه كلمة كلمة " وللمصنف في الاستئذان من طريق أبي معمر عن ابن مسعود " علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم التشهد وكفي بين كفيه كما يعلمني السورة من القرآن " واستدل بقوله: "فليقل " على الوجوب خلافا لمن لم يقل به كمالك، وأجاب بعض المالكية بأن التسبيح في الركوع والسجود مندوب، وقد وقع الأمر به في قوله صلى الله عليه وسلم لما نزلت: {فسبح باسم ربك العظيم} " اجعلوها في ركوعكم " الحديث فكذلك التشهد، وأجاب الكرماني بأن الأمر حقيقته الوجوب فيحمل عليه إلا إذا دل دليل على خلافه، ولولا الإجماع على عدم وجوب التسبيح في الركوع والسجود لحملناه على الوجوب. انتهى. وفي دعوى هذا الإجماع نظر، فإن أحمد يقول بوجوبه ويقول بوجوب التشهد الأول أيضا، ورواية أبي الأحوص المتقدمة وغيرها تقويه، وقد قدمنا ما فيه قبل بباب، وقد جاء عن ابن مسعود التصريح بفرضية التشهد، وذلك فيما رواه الدار قطني وغيره بإسناد صحيح من طريق علقمة عن ابن مسعود " كنا لا ندري ما نقول قبل أن يفرض علينا التشهد". قوله: "التحيات" جمع تحية ومعناها السلام وقيل البقاء وقيل العظمة وقيل السلامة من الآفات والنقص وقيل الملك. وقال أبو سعيد الضرير: ليست التحية الملك نفسه لكنها الكلام الذي يحيا به الملك.وقال ابن قتيبة: لم يكن يحيا إلا الملك خاصة، وكان لكل ملك تحية تخصه فلهذا جمعت،

(2/312)


فكان المعنى التحيات التي كانوا يسلمون بها على الملوك كلها مستحقة لله. وقال الخطابي ثم البغوي: ولم يكن في تحياتهم شيء يصلح للثناء على الله، فلهذا أبهمت ألفاظها واستعمل منها معنى التعظيم فقال: قولوا التحيات لله، أي أنواع التعظيم له. وقال المحب الطبري: يحتمل أن يكون لفظ التحية مشتركا بين المعاني المقدم ذكرها، وكونها بمعنى السلام أنسب هنا. قوله: "والصلوات" قيل المراد الخمس، أو ما هو أعم من ذلك من الفرائض والنوافل في كل شريعة وقيل المراد العبادات كلها، وقيل الدعوات، وقيل المراد الرحمة، وقيل التحيات العبادات القولية والصلوات العبادات الفعلية والطيبات الصدقات. قوله: "والطيبات" أي ما طاب من الكلام وحسن أن يثنى به على الله دون ما لا يليق بصفاته مما كان الملوك يحيون به، وقيل الطيبات ذكر الله، وقيل الأقوال الصالحة كالدعاء والثناء، وقيل الأعمال الصالحة وهو أعم، قال ابن دقيق العيد: إذا حمل التحية على السلام فيكون التقدير التحيات التي تعظم بها الملوك مستمرة لله، وإذا حمل على البقاء فلا شك في اختصاص الله به، وكذلك الملك الحقيقي والعظمة التامة، وإذا حملت الصلاة على العهد أو الجنس كان التقدير أنها لله واجبة لا يجوز أن يقصد بها غيره، وإذا حملت على الرحمة فيكون معنى قوله: "لله " أنه المتفضل بها لأن الرحمة التامة لله يؤتيها من يشاء. وإذا حملت على الدعاء فظاهر، وأما الطيبات فقد فسرت بالأقوال، ولعل تفسيرها بما هو أعم أولى فتشمل الأفعال والأقوال والأوصاف، وطيبها كونها كاملة خالصة عن الشوائب. وقال القرطبي: قوله: "لله " فيه تنبيه على الإخلاص في العبادة، أي أن ذلك لا يفعل إلا لله، ويحتمل أن يراد به الاعتراف بأن ملك الملوك وغير ذلك مما ذكر كله في الحقيقة لله تعالى. وقال البيضاوي: يحتمل أن يكون والصلوات والطيبات عطفا على التحيات، ويحتمل أن تكون الصلوات مبتدأ وخبره محذوف والطيبات معطوفة عليها والواو الأولى لعطف الجملة على الجملة، والثانية لعطف المفرد على الجملة. وقال ابن مالك: إن جعلت التحيات مبتدأ ولم تكن صفة لموصوف محذوف كان قولك والصلوات مبتدأ لئلا يعطف نعت على منعوته فيكون من باب عطف الجمل بعضها على بعض، وكل جملة مستقلة بفائدتها، وهذا المعنى لا يوجد عند إسقاط الواو. قوله: "السلام عليك أيها النبي" قال النووي: يجوز فيه وفيما بعده أي السلام حذف اللام وإثباتها والإثبات أفضل وهو الموجود في روايات الصحيحين. قلت: لم يقع في شيء من طرق حديث ابن مسعود بحذف اللام، وإنما اختلف ذلك في حديث ابن عباس وهو من أفراد مسلم، قال الطيبي: أصل سلام عليك سلمت سلاما عليك، ثم حذف الفعل وأقيم المصدر مقامه، وعدل عن النصب إلى الرفع على الابتداء للدلالة على ثبوت المعنى واستقراره، ثم التعريف إما للعهد التقديري، أي ذلك السلام الذي وجه إلى الرسل والأنبياء عليك أيها النبي، وكذلك السلام الذي وجه إلى الأمم السالفة علينا وعلى إخواننا، وإما للجنس والمعنى أن حقيقة السلام الذي يعرفه كل واحد وعمن يصدر وعلى من ينزل عليك وعلينا، ويجوز أن يكون للعهد الخارجي إشارة إلى قوله تعالى:{وسلام على عباده الذين اصطفى" قال: ولا شك أن هذه التقادير أولى من تقدير النكرة. انتهى. وحكى صاحب الإقليد عن أبي حامد أن التنكير فيه للتعظيم، وهو وجه من وجوه الترجيح لا يقصر عن الوجوه المتقدمة. وقال البيضاوي: علمهم أن يفردوه صلى الله عليه وسلم بالذكر لشرفه ومزيد حقه عليهم، ثم علمهم أن يخصصوا أنفسهم أولا لأن الاهتمام بها أهم، ثم أمرهم بتعميم السلام على الصالحين إعلاما منه بأن الدعاء للمؤمنين ينبغي أن يكون شاملا لهم. وقال التوربشتي:
ـــــــ
(1)في المخطوطة"العبادات"

(2/313)


السلام بمعنى السلامة كالمقام والمقامة، والسلام من أسماء الله تعالى وضع المصدر موضع الاسم مبالغة، والمعنى أنه سالم من كل عيب وآفة ونقص وفساد، ومعنى قولنا السلام عليك الدعاء أي سلمت من المكاره، وقيل معناه اسم السلام عليك كأنه تبرك عليه باسم الله تعالى. فإن قيل كيف شرع هذا اللفظ وهو خطاب بشر مع كونه منهيا عنه في الصلاة؟ فالجواب أن ذلك من خصائصه صلى الله عليه وسلم، فإن قيل ما الحكمة في العدول عن الغيبة إلى الخطاب في قوله عليك أيها النبي مع أن لفظ الغيبة هو الذي يقتضيه السياق كأن يقول السلام على النبي فينتقل من تحية الله إلى تحية النبي ثم إلى تحية النفس ثم إلى الصالحين، أجاب الطيبي بما محصله: نحن نتبع لفظ الرسول بعينه الذي كان علمه الصحابة. ويحتمل أن يقال على طريق أهل العرفان: إن المصلين لما استفتحوا باب الملكوت بالتحيات أذن لهم بالدخول في حريم الحي الذي لا يموت فقرت أعينهم بالمناجاة فنبهوا على أن ذلك بواسطة نبي الرحمة وبركة متابعته فالتفتوا فإذا الحبيب في حرم الحبيب حاضر فأقبلوا عليه قائلين: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ا هـ. وقد ورد في بعض طرق حديث ابن مسعود هذا ما يقتضي المغايرة بين زمانه صلى الله عليه وسلم فيقال بلفظ الخطاب، وأما بعده فيقال بلفظ الغيبة، وهو مما يخدش في وجه الاحتمال المذكور، ففي الاستئذان من صحيح البخاري من طريق أبي معمر عن ابن مسعود بعد أن ساق حديث التشهد قال: "وهو بين ظهرانينا، فلما قبض قلنا السلام " يعني على النبي، كذا وقع في البخاري، وأخرجه أبو عوانة في صحيحه والسراج والجوزقي وأبو نعيم الأصبهاني والبيهقي من طرق متعددة إلى أبي نعيم شيخ البخاري فيه بلفظ: "فلما قبض قلنا السلام على النبي " بحذف لفظ يعني، وكذلك رواه أبو بكر بن أبي شيبة عن أبي نعيم، قال السبكي في شرح المنهاج بعد أن ذكر هذه الرواية من عند أبي عوانة وحده: إن صح هذا عن الصحابة دل على أن الحطاب في السلام بعد النبي صلى الله عليه وسلم غير واجب فيقال السلام على النبي. قلت: قد صح بلا ريب وقد وجدت له متابعا قويا. قال عبد الرزاق: "أخبرنا ابن جريج أخبرني عطاء أن الصحابة كانوا يقولون والنبي صلى الله عليه وسلم حي: السلام عليك أيها النبي، فلما مات قالوا: السلام على النبي " وهذا إسناد صحيح.وأما ما روى سعيد بن منصور من طريق أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم علمهم التشهد فذكره قال فقال ابن عباس: إنما كنا نقول السلام عليك أيها النبي إذ كان حيا، فقال ابن مسعود: هكذا علمنا وهكذا نعلم، فظاهر أن ابن عباس قاله بحثا وأن ابن مسعود لم يرجع إليه، لكن رواية أبي معمر أصح لأن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه والإسناد إليه مع ذلك ضعيف، فإن قيل لم عدل عن الوصف بالرسالة إلى الوصف بالنبوة مع أن الوصف بالرسالة أعم في حق البشر؟ أجاب بعضهم بأن الحكمة في ذلك أن يجمع له الوصفين لكونه وصفه بالرسالة في آخر التشهد وإن كان الرسول البشري يستلزم النبوة، لكن التصريح بهما أبلغ. قيل والحكمة في تقديم الوصف بالنبوة أنها كذا وجدت في الخارج لنزول قوله تعالى:{اقرأ باسم ربك" قبل قوله: "يا أيها المدثر قم فأنذر" والله أعلم. قوله: "ورحمة الله" أي إحسانه، "وبركاته" أي زيادته من كل خير. قوله: "السلام علينا" استدل به على استحباب البداءة بالنفس في الدعاء وفي الترمذي مصححا من حديث أبي بن كعب " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا ذكر أحدا فدعا له بدأ بنفسه " وأصله في مسلم، ومنه قول نوح وإبراهيم عليهما السلام كما في التنزيل. قوله: "عباد الله الصالحين" الأشهر في تفسير الصالح أنه القائم بما يجب عليه من حقوق الله وحقوق عباده وتتفاوت درجاته، قال الترمذي الحكيم: من أراد أن يحظى بهذا السلام الذي يسلمه الخلق في الصلاة فليكن عبدا صالحا وإلا حرم هذا الفضل العظيم. وقال الفاكهاني: ينبغي

(2/314)


للمصلي أن يستحضر في هذا المحل جميع الأنبياء والملائكة والمؤمنين، يعني ليتوافق لفظه مع قصده. قوله: "فإنكم إذا قلتموها" أي " وعلى عباد الله الصالحين " وهو كلام معترض بين قوله الصالحين وبين قوله أشهد الخ، وإنما قدمت للاهتمام بها لكونه أنكر عليهم عد الملائكة واحدا واحدا ولا يمكن استيعابهم لهم مع ذلك، فعلمهم لفظا يشمل الجميع مع غير الملائكة من النبيين والمرسلين والصديقين وغيرهم بغير مشقة، وهذا من جوامع الكلم التي أوتيها صلى الله عليه وسلم، وإلى ذلك الإشارة بقول ابن مسعود " وأن محمدا علم فواتح الخير وخواتمه " كما تقدم. وقد ورد في بعض طرقه سياق التشهد متواليا وتأخير الكلام المذكور بعد، وهو من تصرف الرواة، وسيأتي في أواخر الصلاة. قوله: "كل عبد لله صالح" استدل به على أن الجمع المضاف والجمع المحلى بالألف واللام يعم، لقوله أولا عباد الله الصالحين ثم قال أصابت كل عبد صالح. وقال القرطبي: فيه دليل على أن جمع التكسير للعموم، وفي هذه العبارة نظر واستدل به على أن للعموم صيغة، قال ابن دقيق العيد: وهو مقطوع به عندنا في لسان العرب وتصرفات ألفاظ الكتاب والسنة، قال: والاستدلال بهذا فرد من أفراد لا تحصى، لا للاقتصار عليه. قوله: "في السماء والأرض" في رواية مسدد عن يحيى " أو بين السماء والأرض " والشك فيه من مسدد، وإلا فقد رواه غيره عن يحيى بلفظ: "من أهل السماء والأرض " وأخرجه الإسماعيلي وغيره. قوله: "أشهد أن لا إله إلا الله" زاد ابن أبي شيبة من رواية أبي عبيدة عن أبيه " وحده لا شريك له " وسنده ضعيف، لكن ثبتت هذه الزيادة في حديث أبي موسى عند مسلم وفي حديث عائشة الموقوف في الموطأ. وفي حديث ابن عمر عند الدار قطني، إلا أن سنده ضعيف. وقد روى أبو داود من وجه آخر صحيح عن ابن عمر في التشهد " أشهد أن لا إله إلا الله " قال ابن عمر: زدت فيها " وحده لا شريك له " وهذا ظاهره الوقف. قوله: "وأشهد أن محمدا عبده ورسوله" لم تختلف الطرق عن ابن مسعود في ذلك، وكذا هو في حديث أبي موسى وابن عمر وعائشة المذكور وجابر وابن الزبير عند الطحاوي وغيره: "وروى عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء قال: "بينا النبي صلى الله عليه وسلم يعلم التشهد إذ قال رجل: وأشهد أن محمدا رسوله وعبده، فقال عليه الصلاة والسلام: لقد كنت عبدا قبل أن أكون رسولا. قل: عبده ورسوله " ورجاله ثقات إلا أنه مرسل، وفي حديث ابن عباس عند مسلم وأصحاب السنن " وأشهد أن محمدا رسول الله " ومنهم من حذف " وأشهد " ورواه ابن ماجه بلفظ ابن مسعود، قال الترمذي: حديث ابن مسعود روي عنه من غير وجه، وهو أصح حديث روي في التشهد والعمل عليه عند أكثر أهل العلم من الصحابة ومن بعدهم. قال: وذهب الشافعي إلى حديث ابن عباس في التشهد. وقال البزار لما سئل عن أصح حديث في التشهد قال: هو عندي حديث ابن مسعود، وروى من نيف وعشرين طريقا، ثم سرد أكثرها وقال: لا أعلم في التشهد أثبت منه ولا أصح أسانيد ولا أشهر رجالا ا هـ. ولا اختلاف بين أهل الحديث في ذلك، وممن جزم بذلك البغوي في شرح السنة، ومن رجحانه أنه متفق عليه دون غيره، وأن الرواة عنه من الثقات لم يختلفوا في ألفاظه بخلاف غيره، وأنه نلقاه عن النبي صلى الله عليه وسلم تلقينا فروى الطحاوي من طريق الأسود بن يزيد عنه قال: "أخذت التشهد من في رسول الله صلى الله عليه وسلم ولقننيه كلمة كلمة " وقد تقدم أن في رواية أبي معمر عنه " علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم التشهد وكفي بين كفيه: "ولابن أبي شيبة وغيره من رواية جامع بن أبي راشد عن أبي وائل عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن " وقد وافقه على هذا اللفظ أبو سعيد الخدري وساقه بلفظ ابن مسعود أخرجه الطحاوي، لكن هذا الأخير ثبت مثله في حديث ابن عباس عند مسلم

(2/315)


ورجح أيضا بثبوت الواو في الصلوات والطيبات، وهي تقتضي المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه فتكون كل جملة ثناء مستقلا، بخلاف ما إذا حذفت فإنها تكون صفة لما قبلها، وتعدد الثناء في الأول صريح فيكون أولى، ولو قيل إن الواو مقدرة في الثاني، ورجح بأنه ورد بصيغة الأمر بخلاف غيره فإنه مجرد حكاية. ولأحمد من حديث ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمه التشهد وأمره أن يعلمه الناس، ولم ينقل ذلك لغيره، ففيه دليل على مزيته. وقال الشافعي بعد أن أخرج حديث ابن عباس: رويت أحاديث في التشهد مختلفة، وكان هذا أحب إلي لأنه أكملها. وقال في موضع آخر، وقد سئل عن اختياره تشهد ابن عباس: لما رأيته واسعا وسمعته عن ابن عباس صحيحا كان عندي أجمع وأكثر لفظا من غيره، وأخذت به غير معنف لمن يأخذ بغيره مما صح. ورجحه بعضهم بكونه مناسبا للفظ القرآن في قوله تعالى:{تحية من عند الله مباركة طيبة" وأما من رجحه بكون ابن عباس من أحداث الصحابة فيكون أضبط لما روي، أو بأنه أفقه من رواه، أو بكون إسناد حديثه حجازيا وإسناد ابن مسعود كوفيا وهو مما يرجح به فلا طائل فيه لمن أنصف، نعم يمكن أن يقال إن الزيادة التي في حديث ابن عباس وهي " المباركات " لا تنافي رواية ابن مسعود، ورجح الأخذ بها لكون أخذه عن النبي صلى الله عليه وسلم كان في الأخير، وقد اختار مالك وأصحابه تشهد عمر لكونه علمه للناس وهو على المنبر ولم ينكروه فيكون إجماعا، ولفظه نحو حديث ابن عباس إلا أنه قال: "الزاكيات " بدل المباركات وكأنه بالمعنى، لكن أورد على الشافعي زيادة " بسم الله " في أول التشهد، ووقع في رواية عمر المذكورة لكن من طريق هشام بن عروة عن أبيه لا من طريق الزهري عن عروة التي أخرجها مالك أخرجه عبد الرزاق وسعيد بن منصور وغيرهما وصححه الحاكم مع كونه موقوفا، وثبت في الموطأ أيضا عن ابن عمر موقوفا ووقع أيضا في حديث جابر المرفوع تفرد به أيمن بن نابل بالنون ثم الموحدة عن أبي الزبير عنه، وحكم الحفاظ - البخاري وغيره - على أنه أخطأ في إسناده وأن الصواب رواية أبي الزبير عن طاوس وغيره عن ابن عباس. وفي الجملة لم تصح هذه الزيادة. وقد ترجم البيهقي عليها " من استحب أو أباح التسمية قبل التحية " وهو وجه لبعض الشافعية وضعف، ويدل على عدم اعتبارها أنه ثبت في حديث أبي موسى المرفوع في التشهد وغيره: "فإذا قعد أحدكم فليكن أول قوله التحيات لله " الحديث. كذا رواه عبد الرزاق عن معمر عن قتادة بسنده. وأخرج مسلم من طريق عبد الرزاق هذه، وقد أنكر ابن مسعود وابن عباس وغيرهما على من زادها أخرجه البيهقي وغيره. ثم إن هذا الاختلاف إنما هو في الأفضل وكلام الشافعي المتقدم يدل على ذلك، ونقل جماعة من العلماء الاتفاق على جواز التشهد بكل ما ثبت، لكن كلام الطحاوي يشعر بأن بعض العلماء يقول بوجوب التشهد المروي عن عمر، وذهب جماعة من محدثي الشافعية كابن المنذر إلى اختيار تشهد ابن مسعود، وذهب بعضهم كابن خزيمة إلى عدم الترجيح، وقد تقدم الكلام عن المالكية أن التشهد مطلقا غير واجب، والمعروف عند الحنفية أنه واجب لا فرض، بخلاف ما يوجد عنهم في كتب مخالفيهم. وقال الشافعي: هو فرض، لكن قال: لو لم يزد رجل على قوله: "التحيات لله سلام عليك أيها النبي الخ " كرهت ذلك له ولم أر عليه إعادة، هذا لفظه في الأم. وقال صاحب الروضة تبعا لأصله: وأما أقل التشهد فنص الشافعي وأكثر الأصحاب إلى أنه. فذكره، لكنه قال: "وأن محمدا رسول الله " قال: ونقله ابن كج والصيدلاني فقالا " وأشهد أن محمدا رسول الله " لكن أسقطا " وبركاته " ا هـ. وقد استشكل جواز حذف " الصلوات " مع ثبوتها في جميع الروايات الصحيحة وكذلك " الطيبات " مع جزم جماعة من الشافعية بأن المقتصر

(2/316)


عليه هو الثابت في جميع الروايات، ومنهم من وجه الحذف بكونهما صفتين كما هو الظاهر من سياق ابن عباس، لكن يعكر على هذا ما تقدم من البحث في ثبوت العطف فيهما في سياق غيره وهو يقتضي المغايرة. "فائدة": قال القفال في فتاويه: ترك الصلاة يضر بجميع المسلمين لأن المصلي يقول: اللهم اغفر لي وللمؤمنين والمؤمنات، ولا بد أن يقول في التشهد " السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين " فيكون مقصرا بخدمة الله وفي حق رسوله وفي حق نفسه وفي حق كافة المسلمين، ولذلك عظمت المعصية بتركها. واستنبط منه السبكي أن في الصلاة حقا للعباد مع حق الله، وأن من تركها أخل يحق جميع المؤمنين من مضى ومن يجيء إلى يوم القيامة لوجوب قوله فيها " السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين". "تنبيه": ذكر خلف في الأطراف أن في بعض النسخ من صحيح البخاري عقب حديث الباب في التشهد عن أبي نعيم " حدثنا قبيصة حدثنا سفيان عن الأعمش ومنصور وحماد عن أبي وائل " وبذلك جزم أبو نعيم في مستخرجه فأخرجه من طريق أبي نعيم عن الأعمش به. ومن طريق عبد الرزاق عن سفيان به، ثم أخرجه من طريق أبي نعيم عن يوسف بن سليمان وقال: أخرجه البخاري عن أبي نعيم فيما أرى ا هـ. وبذلك جزم المزي في الأطراف، ولم أره في شيء من الروايات التي اتصلت لنا هنا لا عن قبيصة ولا عن أبي نعيم عن سيف، نعم هو في الاستئذان عن أبي نعيم. بهذا الإسناد، والله أعلم.

(2/317)


149 - باب الدُّعَاءِ قَبْلَ السَّلاَمِ
832- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنَا عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَدْعُو فِي الصَّلاَةِ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَفِتْنَةِ الْمَمَاتِ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ مَا أَكْثَرَ مَا تَسْتَعِيذُ مِنْ الْمَغْرَمِ فَقَالَ إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا غَرِمَ حَدَّثَ فَكَذَبَ وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ "
[الحديث832- أطرافه في : 7129,6377,6376,6375,6368,2397,833]
833- وَعَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَعِيذُ فِي صَلاَتِهِ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ "
834- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلاَتِي قَالَ قُلْ اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا وَلاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ وَارْحَمْنِي إِنَّك أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ
[الحديث 834- طرفاه في: 7388,6326]
قوله: "باب الدعاء قبل السلام" أي بعد التشهد، هذا الذي يتبادر من ترتيبه، لكن قوله في الحديث: "كان يدعو في الصلاة " لا تقييد فيه بما بعد التشهد. وأجاب الكرماني فقال: من حيث أن لكل مقام ذكرا مخصوصا فتعين أن

(2/317)


يكون محله بعد الفراغ من الكل ا هـ. وفيه نظر، لأن التعيين الذي ادعاه لا يختص بهذا المحل لورود الأمر بالدعاء في السجود، فكما أن للسجود ذكرا مخصوصا ومع ذلك أمر فيه بالدعاء فكذلك الجلوس في آخر الصلاة له ذكر مخصوص وأمر فيه مع ذلك بالدعاء إذا فرغ منه. وأيضا فإن هذا هو ترتيب البخاري، لكنه مطالب بدليل اختصاص هذا المحل بهذا الذكر، ولو قطع النظر عن ترتيبه لم يكن بين الترجمة والحديث منافاة، لأن قبل السلام يصدق على جميع الأركان، وبذلك جزم الزين بن المنير وأشار إليه النووي، وسأذكر كلامه آخر الباب. وقال ابن دقيق العيد في الكلام على حديث أبي بكر - وهو ثاني حديثي الباب - هذا يقتضي الأمر بهذا الدعاء في الصلاة من غير تعين محله، ولعل الأولى أن يكون في أحد موطنين - السجود أو التشهد - لأنهما أمر فيهما بالدعاء. قلت: والذي يظهر لي أن البخاري أشار إلى ما ورد في بعض الطرق من تعيينه بهذا المحل، فقد وقع في بعض طرق حديث ابن مسعود بعد ذكر التشهد " ثم ليتخير من الدعاء ما شاء " وسيأتي البحث فيه. ثم قد أخرج ابن خزيمة من رواية ابن جريج أخبرني عبد الله بن طاوس عن أبيه أنه كان يقول بعد التشهد كلمات يعظمهن جدا. قلت في المثنى كليها؟ قال بل في التشهد الأخير، قلت: ما هي؟ قال: "أعوذ بالله من عذاب القبر " الحديث. قال ابن جريج: أخبرنيه عن أبيه عن عائشة مرفوعا. ولمسلم من طريق محمد بن أبي عائشة عن أبي هريرة مرفوعا: "إذا تشهد أحدكم فليقل " فذكر نحوه. هذه رواية وكيع عن الأوزاعي عنه، وأخرجه أيضا من رواية الوليد بن مسلم عن الأوزاعي بلفظ: "إذا فرغ أحدكم من التشهد الأخير " فذكره، وصرح بالتحديث في جميع الإسناد، فهذا فيه تعيين هذه الاستعاذة بعد الفراغ من التشهد، فيكون سابقا على غيره من الأدعية. وما ورد الإذن فيه أن المصلى يتخير من الدعاء ما شاء يكون بعد هذه الاستعاذة وقبل السلام. قوله: "من عذاب القبر" فيه رد على من أنكره، وسيأتي البحث في ذلك في كتاب الجنائز إن شاء الله تعالى. قوله: "من فتنة المسيح الدجال" قال أهل اللغة: الفتنة الامتحان والاختبار، قال عياض: واستعمالها في العرف لكشف ما يكره ا ه. وتطلق على القتل والإحراق والنميمة وغير ذلك. والمسيح بفتح الميم وتخفيف المهملة المكسورة وآخره حاء مهملة يطلق على الدجال وعلى عيسى بن مريم عليه السلام، لكن إذا أريد الدجال قيد به. وقال أبو داود في السنن: المسيح مثقل الدجال ومخفف عيسى، والمشهور الأول. وأما ما نقل الفربري في رواية المستملي وحده عنه عن خلف بن عامر وهو الهمداني أحد الحفاظ أن المسيح بالتشديد والتخفيف واحد يقال للدجال ويقال لعيسى وأنه لا فرق بينهما بمعنى لا اختصاص لأحدهما بأحد الأمرين فهو رأى ثالث. وقال الجوهري: من قاله بالتخفيف فلمسحه الأرض، ومن قاله بالتشديد فلكونه ممسوح العين. وحكى بعضهم أنه قال بالخاء المعجمة في الدجال ونسب قائله إلى التصحيف. واختلف في تلقيب الدجال بذلك، فقيل: لأنه ممسوح العين، وقيل لأن أحد شقي وجهه خلق ممسوحا لا عين فيه ولا حاجب، وقيل لأنه يمسح الأرض إذا خرج. وأما عيسى فقيل: سمي بذلك لأنه خرج من بطن أمه ممسوحا بالدهن، وقيل لأن زكريا مسحه، وقيل لأنه كان لا يمسح ذا عاهة إلا برئ، وقيل لأنه كأن يمسح الأرض بسياحته، وقيل لأن رجله كانت لا أخمص لها، وقيل للبسه المسوح، وقيل هو بالعبرانية ماشيخا فعرب المسيح، وقيل المسيح الصديق كما سيأتي في التفسير ذكر قائله إن شاء الله تعالى. وذكر شيخنا الشيخ مجد الدين الشيرازي صاحب القاموس أنه جمع في سبب تسمية عيسى بذلك خمسين قولا أوردها في
ـــــــ
(1)ليله: في الاثنين

(2/318)


شرح المشارق. قوله: "فتنة المحيا وفتنة الممات" قال ابن دقيق العيد: فتنة المحيا ما يعرض للإنسان مدة حياته من الافتتان بالدنيا والشهوات والجهالات، وأعظمها والعياذ بالله أمر الخاتمة عند الموت. وفتنة الممات يجوز أن يراد بها الفتنة عند الموت أضيفت إليه لقربها منه، ويكون المراد بفتنة المحيا على هذا ما قبل ذلك، ويجوز أن يراد بها فتنة القبر، وقد صح يعني في حديث أسماء الآتي في الجنائز " إنكم تفتنون في قبوركم مثل أو قريبا من فتنة الدجال " ولا يكون مع هذا الوجه متكررا مع قوله: "عذاب القبر " لأن العذاب مرتب عن الفتنة والسبب غير المسبب. وقيل أراد بفتنة المحيا الابتلاء مع زوال الصبر، وبفتنة الممات السؤال في القبر مع الحيرة، وهذا من العام بعد الخاص، لأن عذاب القبر داخل تحت فتنة الممات، وفتنة الدجال داخلة تحت فتنة المحيا. وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن سفيان الثوري أن الميت إذا سئل " من ربك " تراءى له الشيطان فيشير إلى نفسه إني أنا ربك، فلهذا ورد سؤال التثبت له حين يسأل. ثم أخرج بسند جيد إلى عمرو بن مرة " كانوا يستحبون إذا وضع الميت في القبر أن يقولوا: اللهم أعذه من الشيطان".قوله: "والمغرم" أي الدين، يقال غرم بكسر الراء أي أدان.قيل والمراد به ما يستدان فيما لا يجوز وفيما يجوز ثم يعجز عن أدائه، ويحتمل أن يراد به ما هو أعم من ذلك. وقد استعاذ صلى الله عليه وسلم من غلبة الدين. وقال القرطبي: المغرم الغرم، وقد نبه في الحديث على الضرر اللاحق من المغرم، والله أعلم. قوله: "فقال له قائل" لم أقف على اسمه، ثم وجدت في رواية للنسائي من طريق معمر عن الزهري أن السائل عن ذلك عائشة ولفظها " فقلت: يا رسول الله ما أكثر ما تستعيذ الخ". قوله: "ما أكثر" بفتح الراء على التعجب. و قوله: "إذا غرم" بكسر الراء. قوله: "ووعد فأخلف" كذا للأكثر. وفي رواية الحموي " وإذا وعد أخلف " والمراد أن ذلك شأن من يستدين غالبا. قوله: "وعن الزهري" الظاهر أنه معطوف على الإسناد المذكور، فكأن الزهري حدث به مطولا ومختصرا، لكن لم أره في شيء من المسانيد والمستخرجات من طريق شعيب عنه إلا مطولا ورأيته باللفظ المختصر المذكور سندا ومتنا عند المصنف في كتاب الفتن من طريق صالح بن كيسان عن الزهري، وكذلك أخرجه مسلم من طريق صالح. وقد استشكل دعاؤه صلى الله عليه وسلم بما ذكر مع أنه معصوم مغفور له ما تقدم وما تأخر، وأجيب بأجوبة، أحدها: أنه قصد التعليم لأمته، ثانيها: أن المراد السؤال منه لأمته فيكون المعنى هنا أعوذ بك لأمتي، ثالثها: سلوك طريق التواضع وإظهار العبودية وإلزام خوف الله وإعظامه والافتقار إليه وامتثال أمره في الرغبة إليه، ولا يمتنع تكرار الطلب مع تحقيق الإجابة لأن ذلك يحصل الحسنات ويرفع الدرجات، وفيه تحريض لأمته على ملازمة ذلك لأنه إذا كان مع تحقق المغفرة لا يترك التضرع فمن لم يتحقق ذلك أحرى بالملازمة. وأما الاستعاذة من فتنة الدجال مع تحققه أنه لا يدركه فلا إشكال فيه على الوجهين الأولين، وقيل على الثالث: يحتمل أن يكون ذلك قبل تحقيق عدم إدراكه، ويدل عليه قوله في الحديث الآخر عند مسلم: "إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه " الحديث، والله أعلم. قوله: "عن أبي الخير" هو اليزني بالتحتانية والزاي المفتوحتين ثم نون، والإسناد كله سوى طرفيه مصريون، وفيه تابعي عن تابعي وهو يزيد عن أبي الخير، وصحابي عن صحابي وهو عبد الله بن عمرو بن العاص عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، هذه رواية الليث عن يزيد ومقتضاها أن الحديث من مسند الصديق رضي الله عنه، وأوضح من ذلك رواية أبي الوليد الطيالسي عن الليث فإن لفظه عن أبي بكر قال: "قلت يا رسول الله " أخرجه البراز من طريقه. وخالف عمرو بن الحارث الليث فجعله من مسند عبد الله ابن عمرو ولفظه:

(2/319)


"عن أبي الخير أنه سمع عبد الله بن عمرو يقول: إن أبا بكر قال للنبي صلى الله عليه وسلم: "هكذا رواه ابن وهب عن عمرو، ولا يقدح هذا الاختلاف في صحة الحديث. وقد أخرج المصنف طريق عمرو معلقة في الدعوات وموصولة في التوحيد، وكذلك أخرج مسلم الطريقين طريق الليث وطريق ابن وهب وزاد مع عمرو بن الحارث رجلا مبهما، وبين ابن خزيمة في روايته أنه ابن لهيعة. قوله: "ظلمت نفسي" أي بملابسة ما يستوجب العقوبة أو ينقص الحظ. وفيه أن الإنسان لا يعري عن تقصير ولو كان صديقا: قوله: "ولا يغفر الذنوب إلا أنت" فيه إقرار بالوحدانية واستجلاب للمغفرة، وهو كقوله تعالى: {والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم} الآية، فأثنى على المستغفرين وفي ضمن ثنائه عليهم بالاستغفار لوح بالأمر به كما قيل: إن كل شيء أثنى الله على فاعله فهو آمر به، وكل شيء ذم فاعله فهو ناه عنه. قوله: "مغفرة من عندك" قال الطيبي: دل التنكير على أن المطلوب غفران عظيم لا يدرك كهنه، ووصفه بكونه من عنده سبحانه وتعالى مريدا لذلك العظم لأن الذي يكون من عند الله لا يحيط به وصف. وقال ابن دقيق العيد: يحتمل وجهين، أحدهما الإشارة إلى التوحيد المذكور كأنه قال لا يفعل هذا إلا أنت فافعله لي أنت، والثاني - وهو أحسن - أنه إشارة إلى طلب مغفرة متفضل بها لا يقتضيها سبب من العبد من عمل حسن ولا غيره. انتهى. وبهذا الثاني جزم ابن الجوزي فقال: المعنى هب لي المغفرة تفضلا وإن لم أكن لها أهلا بعملي. قوله: "إنك أنت الغفور الرحيم" هما صفتان ذكرتا ختما للكلام على جهة المقابلة لما تقدم، فالغفور مقابل لقوله اغفر لي، والرحيم مقابل لقوله ارحمني، وهي مقابلة مرتبة. وفي هذا الحديث من الفوائد أيضا استحباب طلب التعليم من العالم، خصوصا في الدعوات المطلوب فها جوامع الكلم. ولم يصرح في الحديث بتعيين محله. وقد تقدم كلام ابن دقيق العيد في ذلك في أوائل الباب الذي قبله، قال: ولعله ترجح كونه فيما بعد التشهد لظهور العناية بتعليم دعاء مخصوص في هذا المحل. ونازعه الفاكهاني فقال: الأولى الجمع بينهما في المحلين المذكورين، أي السجود والتشهد. وقال النووي: استدلال البخاري صحيح، لأن قوله: "في صلاتي " يعم جميعها، ومن مظانه هذا الموطن. قلت: ويحتمل أن يكون سؤال أبي بكر عن ذلك كان عند قوله لما علمهم التشهد " ثم ليتخير من الدعاء ما شاء " ومن ثم أعقب المصنف الترجمة بذلك.

(2/320)


150 - باب مَا يُتَخَيَّرُ مِنْ الدُّعَاءِ بَعْدَ التَّشَهُّدِ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ
835- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ الأَعْمَشِ حَدَّثَنِي شَقِيقٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ كُنَّا إِذَا كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّلاَةِ قُلْنَا السَّلاَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْ عِبَادِهِ السَّلاَمُ عَلَى فُلاَنٍ وَفُلاَنٍ
فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لاَ تَقُولُوا السَّلاَمُ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّلاَمُ وَلَكِنْ قُولُوا التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ السَّلاَمُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ السَّلاَمُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ فَإِنَّكُمْ إِذَا قُلْتُمْ أَصَابَ كُلَّ عَبْدٍ فِي السَّمَاءِ أَوْ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ثُمَّ يَتَخَيَّرُ مِنْ الدُّعَاءِ أَعْجَبَهُ إِلَيْهِ فَيَدْعُو "
قوله: "باب ما يتخير من الدعاء بعد التشهد، وليس بواجب" يشير إلى أن الدعاء السابق في الباب الذي قبله لا

(2/320)


يجب وإن كان قد ورد بصيغة الأمر كما أشرت إليه، لقوله في آخر حديث التشهد " ثم ليتخير " والمنفي وجوبه يحتمل أن يكون الدعاء الذي لا يجب دعاء مخصوص، وهذا واضح مطابق للحديث، وإن كان التخيير مأمورا به. ويحتمل أن يكون المنفي التخيير، ويحمل الأمر الوارد به على الندب، ويحتاج إلى دليل. قال ابن رشيد: ليس التخيير في آحاد الشيء بدال على عدم وجوبه، فقد يكون أصل الشيء واجبا ويقع التخيير في وصفه. وقال الزين بن المنير: قوله: "ثم ليتخير " وإن كان بصيغة الأمر لكنا كثيرا ما ترد للندب، وادعى بعضهم الإجماع على عدم الوجوب، وفيه نظر، فقد أخرج عبد الرزاق بإسناد صحيح عن طاوس ما يدل على أنه يرى وجوب الاستعاذة المأمور بها في حديث أبي هريرة المذكور في الباب قبله، وذلك أنه سأل ابنه: هل قالها بعد التشهد؟ فقال: لا، فأمره أن يعيد الصلاة. وبه قال بعض أهل الظاهر. وأفرط ابن حزم فقال بوجوبها في التشهد الأول أيضا. وقال ابن المنذر: لولا حديث ابن مسعود " ثم ليتخير من الدعاء " لقلت بوجوبها، وقد قال الشافعي أيضا بوجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التشهد، وادعى أبو الطيب الطبري من أتباعه والطحاوي وآخرون أنه لم يسبق إلى ذلك، واستدلوا على ندبيتها بحديث الباب مع دعوى الإجماع، وفيه نظر لأنه ورد عن أبي جعفر الباقر والشعبي وغيرهما ما يدل على القول بالوجوب. وأعجب من ذلك أنه صح عن ابن مسعود راوي حديث الباب ما يقتضيه، فعند سعيد بن منصور وأبي بكر بن أبي شيبة بإسناد صحيح إلى أبي الأحوص قال: قال عبد الله يتشهد الرجل في الصلاة ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يدعو لنفسه بعد. وقد وافق الشافعي أحمد في إحدى الروايتين عنه وبعض أصحاب مالك. وقال إسحق بن راهويه أيضا بالوجوب لكن قال: إن تركها ناسيا رجوت أن يجزئه، فقيل إن له في المسألة قولين كأحمد، وقيل بل كان يراها واجبة لا شرطا. ومنهم من قيد تفرد الشافعي بكونه عينها بعد التشهد لا قبله ولا فيه حتى لو صلى على النبي صلى الله عليه وسلم في أثناء التشهد مثلا لم يجزئ عنده. وسيأتي مزيد لهذا في كتاب الدعوات إن شاء الله تعالى. قوله: "ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه فيدعو" زاد أبو داود عن مسدد شيخ البخاري فيه: "فيدعو به " ونحوه النسائي من وجه آخر بلفظ: "فليدع به " ولإسحاق عن عيسى عن الأعمش " ثم ليتخير من الدعاء ما أحب " وفي رواية منصور عن أبي وائل عند المصنف في الدعوات " ثم ليتخير من الثناء ما شاء " ونحوه لمسلم بلفظ: "من المسألة " واستدل به على جواز الدعاء في الصلاة بما اختار المصلي من أمر الدنيا والآخرة، قال ابن بطال: خالف في ذلك النخعي وطاوس وأبو حنيفة فقالوا: لا يدعو في الصلاة إلا بما يوجد في القرآن، كذا أطلق هو ومن تبعه عن أبي حنيفة، والمعروف في كتب الحنفية أنه لا يدعو في الصلاة إلا بما جاء في القرآن أو ثبت في الحديث، وعبارة بعضهم: ما كان مأثورا، قال قائلهم: والمأثور أعم من أن يكون مرفوعا أو غير مرفوع، لكن ظاهر حديث الباب يرد عليهم، وكلا يرد على قول ابن سيرين: لا يدعو في الصلاة إلا بأمر الآخرة، واستثنى بعض الشافعية ما يقبح في أمر الدنيا، فإن أراد الفاحش من اللفظ فمحتمل، وإلا فلا شك أن الدعاء بالأمور المحرمة مطلقا لا يجوز، وقد ورد فيما يقال بعد التشهد أخبار من أحسنها ما رواه سعيد بن منصور وأبو بكر بن أبي شيبة من طريق عمير بن سعد قال: "كان عبد الله - يعني ابن مسعود - يعلمنا التشهد في الصلاة ثم يقول: إذا فرغ أحدكم من التشهد فليقل اللهم إني أسألك من الخير كله ما علمت منه وما لم أعلم، وأعوذ بك من الشر كله ما علمت منه وما لم أعلم. اللهم إني أسألك من خير ما سألك منه عبادك الصالحون، وأعوذ بك من شر ما استعاذك منه عبادك الصالحون. {ربنا آتنا في الدنيا حسنة } الآية. قال ويقول: لم

(2/321)


يدع نبي ولا صالح بشيء إلا دخل في هذا الدعاء. وهذا من المأثور غير مرفوع، وليس هو مما ورد في القرآن. وقد استدل البيهقي بالحديث المتفق عليه " ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه فيدعو به " وبحديث أبي هريرة رفعه: "إذا فرغ أحدكم من التشهد فليتعوذ بالله " الحديث. وفي آخره: "ثم ليدعو لنفسه بما بدا له " هكذا أخرجه البيهقي. وأصل الحديث في مسلم. وهذه الزيادة صحيحة لأنها من الطريق التي أخرجها مسلم.

(2/322)


باب من لم يمسح جهته وأنفه حتى صلى
...
151 - باب مَنْ لَمْ يَمْسَحْ جَبْهَتَهُ وَأَنْفَهُ حَتَّى صَلَّى
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ رَأَيْتُ الْحُمَيْدِيَّ يَحْتَجُّ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْ لاَ يَمْسَحَ الْجَبْهَةَ فِي الصَّلاَةِ
836- حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ سَأَلْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ فَقَالَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْجُدُ فِي الْمَاءِ وَالطِّينِ حَتَّى رَأَيْتُ أَثَرَ الطِّينِ فِي جَبْهَتِهِ "
قوله: "باب من لم يمسح جبهته وأنفه حتى صلى" قال الزين بن المنير ما حاصله: ذكر البخاري المستدل ودليله، وكل الأمر فيه لنظر المجتهد هل يوافق الحميدي أو يخالفه، وإنما فعل ذلك لما يتطرق إلى الدليل من الاحتمالات، لأن بقاء أثر الطين لا يستلزم نفي مسح الجبهة، إذ يجوز أن يكون مسحها وبقي الأثر بعد المسح، ويحتمل أن يكون ترك المسح ناسيا أو تركه عامدا لتصديق رؤياه، أو لكونه لم يشعر ببقاء أثر الطين في جبهته، أو لبيان الجواز، أو لأن ترك المسح أولى لأن المسح عمل وإن كان قليلا، وإذا تطرقت هذه الاحتمالات لم ينهض الاستدلال، لا سيما وهو فعل من الجبليات لا من القرب. قوله: "قال أبو عبد الله" هو المصنف، والحميدي هو شيخه المشهور أحد تلامذة الشافعي. قوله: "يحتج بهذا" فيه إشارة إلى أنه يوافقه على ذلك، ومن ثم لم يتعقبه، وقد تقدم ما فيه وأنه إن احتج به على المنع جملة لم يسلم من الاعتراض وأن الترك أولى. قوله: "حدثنا هشام" هو الدستوائي، ويحيى هو ابن أبي كثير. قوله: "حتى رأيت أثر الطين" هو محمول على أثر خفيف لا يمنع مباشرة الجبهة للسجود، وسيأتي بقية الكلام على فوائده في كتاب الصيام إن شاء الله تعالى.

(2/322)


152 - باب التَّسْلِيمِ
837- حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا إبراهيم بن سعد حدثنا الزهري عن هند بنت الحارث أن أم سلمة رضي الله عنها قالت ثم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلم قام النساء حين يقضي تسليمه ومكث يسيرا قبل أن يقوم قال بن شهاب فأرى والله أعلم أن مكثه لكي ينفذ النساء قبل أن يدركهن من انصرف من القوم
[الحديث837 –طرفاه في: 850,849]
قوله: "باب التسليم" أي من الصلاة، قيل لم يذكر المصنف حكمه لتعارض الأدلة عنده في الوجوب وعدمه، ويمكن أن يؤخذ الوجوب من حديث الباب حيث جاء فيه: "كان إذا سلم " لأنه يشعر بتحقق مواظبته على ذلك، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "صلوا كما رأيتموني أصلي " وحديث: "تحليلها التسليم " أخرجه أصحاب السنن بسند صحيح. أما حديث: "إذا

(2/322)


153 - باب يُسَلِّمُ حِينَ يُسَلِّمُ الإِمَامُ
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَسْتَحِبُّ إِذَا سَلَّمَ الإِمَامُ أَنْ يُسَلِّمَ مَنْ خَلْفَهُ
838- حَدَّثَنَا حِبَّانُ بْنُ مُوسَى قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ عَنْ عِتْبَانَ بْنِ مَالِكٍ قَالَ صَلَّيْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلَّمْنَا حِينَ سَلَّمَ "
قوله: "باب يسلم" أي المأموم "حين يسلم الإمام" قال الزين بن المنير: ترجم بلفظ الحديث، وهو محتمل لأن يكون المراد أنه يبتدئ السلام بعد ابتداء الإمام له، فيشرع المأموم فيه قبل أن يتمه الإمام، ويحتمل أن يكون المراد أن المأموم يبتدئ السلام إذا أتمه الإمام، قال: فلما كان محتملا للأمرين وكل النظر فيه إلى المجتهد. انتهى ويحتمل أن يكون أراد أن الثاني ليس بشرط، لأن اللفظ يحتمل الصورتين، فأيهما فعل المأموم جاز، وكأنه أشار إلى أنه يندب أن لا يتأخر المأموم في سلامه بعد الإمام متشاغلا بدعاء وغيره، ويدل على ذلك ما ذكره عن ابن عمر، والأثر المذكور لم أقف على من وصله، لكن عند ابن أبي شيبة عن ابن عمر ما يعطى معناه. قد تقدم الكلام على حديث عتبان مطولا في أوائل الصلاة، وأورده هنا مختصرا جدا. وفي الباب الذي يليه أتم منه، وكلاهما من طريق عبد الله وهو ابن المبارك.

(2/323)


154 - باب مَنْ لَمْ يَرَ رَدَّ السَّلاَمِ عَلَى الإِمَامِ وَاكْتَفَى بِتَسْلِيمِ الصَّلاَةِ
839- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي مَحْمُودُ بْنُ الرَّبِيعِ وَزَعَمَ أَنَّهُ عَقَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَقَلَ مَجَّةً مَجَّهَا مِنْ دَلْوٍ كَانَ فِي دَارِهِمْ قَالَ سَمِعْتُ عِتْبَانَ بْنَ مَالِكٍ الأَنْصارِيَّ ثُمَّ أَحَدَ بَنِي سَالِمٍ قَالَ كُنْتُ أُصَلِّي لِقَوْمِي بَنِي سَالِمٍ فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ إِنِّي أَنْكَرْتُ بَصَرِي وَإِنَّ السُّيُولَ تَحُولُ بَيْنِي وَبَيْنَ مَسْجِدِ قَوْمِي فَلَوَدِدْتُ أَنَّكَ جِئْتَ فَصَلَّيْتَ فِي بَيْتِي مَكَانًا حَتَّى أَتَّخِذَهُ مَسْجِدًا فَقَالَ أَفْعَلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَغَدَا عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ مَعَهُ بَعْدَ مَا اشْتَدَّ النَّهَارُ فَاسْتَأْذَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَذِنْتُ لَهُ فَلَمْ يَجْلِسْ حَتَّى قَالَ أَيْنَ تُحِبُّ أَنْ أُصَلِّيَ مِنْ بَيْتِكَ فَأَشَارَ إِلَيْهِ مِنْ الْمَكَانِ الَّذِي أَحَبَّ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ فَقَامَ فَصَفَفْنَا خَلْفَهُ ثُمَّ سَلَّمَ وَسَلَّمْنَا حِينَ سَلَّمَ
قوله: "باب من لم يرد السلام على الإمام واكتفى بتسليم الصلاة" أورد فيه حديث عتبان كما ذكرنا، واعتماده فيه على قوله: "ثم سلم وسلمنا حين سلم " فإن ظاهره أنهم سلموا نظير سلامه، وسلامه إما واحدة وهي التي يتحلل

(2/323)


155 - باب الذِّكْرِ بَعْدَ الصَّلاَةِ
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَمْرٌو أَنَّ أَبَا مَعْبَدٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَخْبَرَهُ أَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ حِينَ

(2/324)


يَنْصَرِفُ النَّاسُ مِنْ الْمَكْتُوبَةِ كَانَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ كُنْتُ أَعْلَمُ إِذَا انْصَرَفُوا بِذَلِكَ إِذَا سَمِعْتُهُ
الحديث 841- طرفه 842]
842- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو مَعْبَدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ كُنْتُ أَعْرِفُ انْقِضَاءَ صَلاَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّكْبِيرِ
843- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ سُمَيٍّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ جَاءَ الْفُقَرَاءُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ مِنْ الأَمْوَالِ بِالدَّرَجَاتِ الْعُلاَ وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ وَلَهُمْ فَضْلٌ مِنْ أَمْوَالٍ يَحُجُّونَ بِهَا وَيَعْتَمِرُونَ وَيُجَاهِدُونَ وَيَتَصَدَّقُونَ قَالَ أَلاَ أُحَدِّثُكُمْ إِنْ أَخَذْتُمْ أَدْرَكْتُمْ مَنْ سَبَقَكُمْ وَلَمْ يُدْرِكْكُمْ أَحَدٌ بَعْدَكُمْ وَكُنْتُمْ خَيْرَ مَنْ أَنْتُمْ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِ إِلاَّ مَنْ عَمِلَ مِثْلَهُ تُسَبِّحُونَ وَتَحْمَدُونَ وَتُكَبِّرُونَ خَلْفَ كُلِّ صَلاَةٍ ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ فَاخْتَلَفْنَا بَيْنَنَا فَقَالَ بَعْضُنَا نُسَبِّحُ ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ وَنَحْمَدُ ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ وَنُكَبِّرُ أَرْبَعًا وَثَلاَثِينَ فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ فَقَالَ تَقُولُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَاللَّهُ أَكْبَرُ حَتَّى يَكُونَ مِنْهُنَّ كُلِّهِنَّ ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ
[الحديث843-طرفه في :6329]
844- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ وَرَّادٍ كَاتِبِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ أَمْلَى عَلَيَّ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ فِي كِتَابٍ إِلَى مُعَاوِيَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ مَكْتُوبَةٍ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ اللَّهُمَّ لاَ مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَلاَ مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ وَلاَ يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ"
وَقَالَ شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ بِهَذَا وَعَنْ الْحَكَمِ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُخَيْمِرَةَ عَنْ وَرَّادٍ بِهَذَا وَقَالَ الْحَسَنُ الْجَدُّ غِنًى "
[الحديث844- أطرافه في: 7292,6615,6473,6330,5975,2408,1477]
قوله: "باب الذكر بعد الصلاة" أورد فيه أولا حديث ابن عباس من وجهين أحدهما أتم من الآخر، وأغرب المزي فجعلهما حديثين، والذي يظهر أنهما حديث واحد كما سنبينه.قوله: "أخبرني عمرو" هو ابن دينار المكي. قوله: "كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم" فيه أن مثل هذا عند البخاري يحكم له بالرفع خلافا لمن شذ ومنع ذلك، وقد وافقه مسلم والجمهور على ذلك، وفيه دليل على جواز الجهر صلى الله عليه وسلم بالذكر عقب الصلاة قال الطبري: فيه الإبانة عن صحة ما كان يفعله بعض الأمراء من التكبير عقب الصلاة، وتعقبه ابن بطال بأنه لم يقف على ذلك عن أحد من
ـــــــ
(1)لو قال " على شرعية الجهر " لكان أصح , والله أعلم

(2/325)


السلف إلا ما حكاه ابن حبيب في " الواضحة " أنهم كانوا يستحبون التكبير في العساكر عقب الصبح والعشاء تكبيرا عاليا ثلاثا، قال: وهو قديم من شأن الناس. قال ابن بطال: وفي " العتبية " عن مالك أن ذلك محدث. قال: وفي السياق إشعار بأن الصحابة لم يكونوا يرفعون أصواتهم بالذكر في الوقت الذي قال فيه ابن عباس ما قال. قلت: في التقييد بالصحابة نظر، بل لم يكن حينئذ من الصحابة إلا القليل. وقال النووي: حمل الشافعي هذا الحديث على أنهم جهروا به وقتا يسيرا لأجل تعليم صفة الذكر، لا أنهم داوموا على الجهر به، والمختار أن الإمام والمأموم يخفيان الذكر إلا إن احتيج إلى التعليم. قوله: "وقال ابن عباس" هو موصول بالإسناد المبدأ به صلى الله عليه وسلم كما في رواية مسلم عن إسحاق بن منصور عن عبد الرزاق به. قوله: "كنت أعلم" فيه إطلاق العلم على الأمر المستند إلى الظن الغالب. قوله: "إذا انصرفوا" أي أعلم انصرافهم بذلك أي برفع الصوت إذا سمعته أي الذكر، والمعنى كنت أعلم بسماع الذكر انصرافهم. قَالَ عَلِيٌّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو قَالَ كَانَ أَبُو مَعْبَدٍ أَصْدَقَ مَوَالِي ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ عَلِيٌّ وَاسْمُهُ نَافِذٌ قوله: "حدثني علي" هو ابن المديني وسفيان هو ابن عيينة وعمرو هو ابن دينار. قوله: "كنت أعرف انقضاء صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالتكبير" وقع في رواية الحميدي عن سفيان بصيغة الحصر، ولفظه: "ما كنا نعرف انقضاء صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بالتكبير " وكذا أخرجه مسلم عن ابن أبي عمر عن سفيان، واختلف في كون ابن عباس قال ذلك، فقال عياض: الظاهر أنه لم يكن يحضر الجماعة لأنه كان صغيرا ممن لا يواظب على ذلك ولا يلزم به، فكان يعرف انقضاء الصلاة بما ذكر. وقال غيره: يحتمل أن يكون حاضرا في أواخر الصفوف فكان لا يعرف انقضاءها بالتسليم، وإنما كان يعرفه بالتكبير. وقال ابن دقيق العيد: يؤخذ منه أنه لم يكن هناك مبلغ جهير الصوت يسمع من بعد. قوله: "بالتكبير" هو أخص من رواية ابن جريج التي قبلها، لأن الذكر أعم من التكبير، ويحتمل أن تكون هذه مفسرة لذلك فكان المراد أن رفع الصوت بالذكر أي بالتكبير، وكأنهم كانوا يبدءون بالتكبير بعد الصلاة قبل التسبيح والتحميد، وسيأتي الكلام على ذلك في الحديث الذي بعده. قوله: "قال علي" هو ابن المديني المذكور وثبتت هذه الزيادة في رواية المستملي والكشميهني، وزاد مسلم في روايته المذكورة " قال عمرو - يعني ابن دينار - وذكرت ذلك لأبي معبد بعد فأنكره وقال لم أحدثك بهذا. قال عمرو: قد أخبرتنيه قبل ذلك " قال الشافعي بعد أن رواه عن سفيان كأنه نسيه بعد أن حدثه به. انتهى. وهذا يدل على أن مسلما كان يرى صحة الحديث ولو أنكره راويه إذا كان الناقل عنه عدلا، ولأهل الحديث فيه تفصيل: قالوا إما أن يجزم برده أو لا، وإذا جزم فإما أن يصرح بتكذيب الراوي عنه أو لا فإن لم يجزم بالرد كأن قال لا أذكره فهو متفق عندهم على قبوله صلى الله عليه وسلم لأن الفرع ثقة والأصل لم يطعن فيه، وإن جزم وصرح بالتكذيب فهو متفق عندهم على رده لأن جزم الفرع بكون الأصل حدثه يستلزم تكذيب الأصل في دعواه أنه كذب عليه، وليس قبول قول أحدهما بأولى من الآخر، وإن جزم بالرد ولم يصرح بالتكذيب فالراجح عندهم قبوله. وأما الفقهاء فاختلفوا: فذهب الجمهور في هذه الصورة إلى القبول، وعن بعض الحنفية ورواية عن أحمد لا يقبل قياسا على الشاهد، وللإمام فخر الدين في هذه المسألة تفصيل نحو ما تقدم وزاد. فإن كان الفرع مترددا في سماعه والأصل جازما بعدمه سقط لوجود التعارض، ومحصل كلامه آنفا أنهما إن تساويا فالرد، وإن رجح أحدهما عمل به، وهذا الحديث من أمثلته، وأبعد من قال إنما نفى أبو
ـــــــ
(1) كذا في الأصلين ولعله " المبدوء به"
(2) في حكاية الإتفاق نظر , فقد حكى المؤلف في النخبة وشرحها والوراق في الأفية اختلاف في ذلك

(2/326)


معبد التحديث ولا يلزم منه نفي الإخبار، وهو الذي وقع من عمرو ولا مخالفة، وترده الرواية التي فيها " فأنكره " ولو كان كما زعم لم يكن هناك إنكار، ولأن الفرق بين التحديث والإخبار إنما حدث بعد ذلك، وفي كتب الأصول حكاية الخلاف في هذه المسألة عن الحنفية. قوله: "عن عبيد الله" هو ابن عمر العمري، وسمي هو مولي أبي بكر بن عبد الرحمن وهما مدنيان، وعبيد الله تابعي صغير، ولم أقف لسمي على رواية عن أحد من الصحابة فهو من رواية الكبير عن الصغير، وهما مدنيان وكذا أبو صالح. قوله: "جاء الفقراء" سمي منهم في رواية محمد بن أبي عائشة عن أبي هريرة أبو ذر الغفاري أخرجه أبو داود وأخرجه جعفر الفرياني في كتاب الذكر له من حديث أبي ذر نفسه، وسمي منهم أبو الدرداء عند النسائي وغيره من طرق عنه، ولمسلم من رواية سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة أنهم قالوا: "يا رسول الله " فذكر الحديث، والظاهر أن أبا هريرة منهم. وفي رواية النسائي عن زيد بن ثابت قال: "أمرنا أن نسبح " الحديث كما سيأتي لفظه، وهذا يمكن أن يقال فيه إن زيد بن ثابت كان منهم، ولا يعارضه قوله في رواية ابن عجلان عن سمي عند مسلم: "جاء فقراء المهاجرين " لكون زيد بن ثابت من الأنصار لاحتمال التغليب. قوله: "الدثور" بضم المهملة والمثلثة جمع دثر بفتح ثم سكون هو المال الكثير، و " من " في قوله: "من الأموال " للبيان، ووقع عند الخطابي " ذهب أهل الدور من الأموال " وقال: كذا وقع الدور جمع دار والصواب الدثور. انتهى. وذكر صاحب المطالع عن رواية أبي زيد المروزي أيضا الدور. قوله: "بالدرجات العلى" بضم العين جمع العلياء وهي تأنيث الأعلى، ويحتمل أن تكون حسية، والمراد درجات الجنات، أو معنوية والمراد علو القدر عند الله. قوله: "والنعيم المقيم" وصفه بالإقامة إشارة إلى ضده وهو النعيم العاجل، فإنه قل ما يصفو، وإن صفا فهو بصدد الزوال. وفي رواية محمد بن أبي عائشة المذكورة " ذهب أصحاب الدثور بالأجور " وكذا لمسلم من حديث أبي ذر، زاد المصنف في الدعوات من رواية ورقاء عن سمي " قال كيف ذلك " ونحوه لمسلم من رواية ابن عجلان عن سمي. قوله: "ويصومون كما نصوم" زاد في حديث أبي الدرداء المذكور " ويذكرون كما نذكر " وللبزار من حديث ابن عمر " صدقوا تصديقنا، وآمنوا إيماننا". قوله: "ولهم فضل أموال" كذا للأكثر بالإضافة. وفي رواية الأصيلي: "فضل الأموال " وللكشميهني: "فضل من أموال". قوله: "يحجون بها" أي ولا نحج، يشكل عليه ما وقع في رواية جعفر الفريابي من حديث أبي الدرداء " ويحجون كما نحج " ونظيره ما وقع هنا " ويجاهدون " ووقع في الدعوات من رواية ورقاء عن سمي: "وجاهدوا كما جاهدنا " لكن الجواب عن هذا الثاني ظاهر وهو التفرقة بين الجهاد الماضي فهو الذي اشتركوا فيه وبين الجهاد المتوقع فهو الذي تقدر عليه أصحاب الأموال غالبا. ويمكن أن يقال مثله في الحج، ويحتمل أن يقرأ: { يحجون بها " بضم أوله من الرباعي أي يعينون غيرهم على الحج بالمال. قوله: "ويتصدقون" عند مسلم من رواية ابن عجلان عن سمي " ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق". قوله: "فقال ألا أحدثكم بما إن أخذتم به" في رواية الأصيلي: "بأمر إن أخذتم " وكذا للإسماعيلي، وسقط قوله: "بما " من أكثر الروايات، وكذا قوله: "به " وقد فسر الساقط في الرواية الأخرى. وفي رواية مسلم: "أفلا أعلمكم شيئا " وفي رواية أبي داود " فقال يا أبا ذر ألا أعلمك كلمات تقولهن". قوله: "أدركتم من سبقكم" أي من أهل الأموال الذين امتازوا عليكم بالصدقة، والسبقية هنا يحتمل أن تكون معنوية وأن تكون حسية، قال الشيخ تقي الدين: والأول أقرب وسقط قوله: "من سبقكم " من رواية الأصيلي. قوله: "وكنتم خير من أنتم بين ظهرانيهم" بفتح النون وسكون

(2/327)


التحتانية. وفي رواية كريمة وأبي الوقت ظهرانيه بالإفراد، وكذا للإسماعيلي. وعند مسلم من رواية ابن عجلان " ولا يكون أحد أفضل منكم " قيل ظاهره يخالف ما سبق لأن الإدراك ظاهره المساواة، وهذا ظاهره الأفضلية. وأجاب بعضهم بأن الإدراك لا يلزم منه المساواة فقد يدرك ثم يفوق، وعلى هذا فالتقرب بهذا الذكر راجح على التقرب بالمال. ويحتمل أن يقال: الضمير في كنتم للمجموع من السابق والمدرك، وكذا قوله: "إلا من عمل مثل عملكم " أي من الفقراء فقال الذكر، أو من الأغنياء فتصدق، أو أن الخطاب للفقراء خاصة لكن يشاركهم الأغنياء في الخيرية المذكورة فيكون كل من الصنفين خيرا ممن لا يتقرب بذكر ولا صدقة، ويشهد له قوله في حديث ابن عمر عند البزار " أدركتم مثل فضلهم " ولمسلم في حديث أبي ذر " أو ليس قد جعل لكم ما تتصدقون؟ إن بكل تسبيحة صدقة، وبكل تكبيرة صدقة " الحديث. واستشكل تساوي فضل هذا الذكر بفضل التقرب بالمال مع شدة المشقة فيه، وأجاب الكرماني بأنه لا يلزم أن يكون الثواب على قدر المشقة في كل حالة، واستدل لذلك بفضل كلمة الشهادة مع سهولتها على كثير من العبادات الشاقة. قوله: "وتسبحون وتحمدون وتكبرون" كذا وقع في أكثر الأحاديث تقديم التسبيح على التحميد وتأخير التكبير. وفي رواية ابن عجلان تقديم التكبير على التحميد خاصة، وفيه أيضا قول أبي صالح " يقول الله أكبر وسبحان الله والحمد لله " ومثله لأبي داود من حديث أم الحكم، وله من حديث أبي هريرة " تكبر وتحمد وتسبح " وكذا في حديث ابن عمر. وهذا الاختلاف دال على أن لا ترتيب فيها، ويستأنس لذلك بقوله في حديث الباقيات الصالحات " لا يضرك بأيهن بدأت " لكن يمكن أن يقال: الأولى البداءة بالتسبيح لأنه يتضمن نفي النقائض عن الباري سبحانه وتعالى، ثم التحميد لأنه يتضمن إثبات الكمال له، إذ لا يلزم من نفي النقائض إثبات الكمال. ثم التكبير إذ لا يلزم من نفي النقائض وإثبات الكمال أن يكون صلى الله عليه وسلم هناك كبير آخر. ثم يختم بالتهليل الدال على انفراده سبحانه وتعالى بجميع ذلك. قوله: "خلف كل صلاة" هذه الرواية مفسرة للرواية التي عند المصنف في الدعوات وهي قوله: "دبر كل صلاة " ولجعفر الفريابي في حديث أبي ذر " أثر كل صلاة " وأما رواية: "دبر " فهي بضمتين، قال الأزهري: دبر الأمر يعني بضمتين ودبره يعني بفتح ثم سكون: آخره. وادعى أبو عمرو الزاهد أنه لا يقال بالضم إلا للجارحة، ورد بمثل قولهم أعتق غلامه عن دبر، ومقتضى الحديث أن الذكر المذكور يقال عند الفراغ من الصلاة، فلو تأخر ذلك عن الفراع فإن كان يسيرا بحيث لا يعد معرضا أو كان ناسيا أو متشاغلا بما ورد أيضا بعد الصلاة كآيه الكرسي فلا يضر، وظاهر قوله: "كل صلاة " يشمل الفرض والنفل، لكن حمله أكثر العلماء على الفرض، وقد وقع في حديث كعب بن عجرة عند مسلم التقييد بالمكتوبة، وكأنهم حملوا المطلقات عليها، وعلى هذا هل يكون التشاغل بعد المكتوبة بالراتبة بعدها فاصلا بين المكتوبة والذكر أو لا؟ محل النظر، والله أعلم. قوله: "ثلاثا وثلاثين" يحتمل أن يكون المجموع للجميع فإذا وزع كان لكل واحد إحدى عشرة، وهو الذي فهمه سهيل بن أبي صالح كما رواه مسلم من طريق روح بن القاسم عنه، لكن لم يتابع سهيل على ذلك، بل لم أر في شيء من طرق الحديث كلها التصريح بإحدى عشرة إلا في حديث ابن عمر عند البزار وإسناده ضعيف، والأظهر أن المراد أن المجموع لكل فرد فرد، فعلى هذا ففيه تنازع أفعال في ظرف ومصدر والتقدير تسبحون خلف كل صلاة ثلاثا وثلاثين وتحمدون وتكبرون كذلك. قوله: "فاختلفنا بيننا" ظاهره أن أبا هريرة هو
ـــــــ
(1)كذا في الأصلين والصواب " أن لايكون"

(2/328)


القائل، وكذا قوله: "فرجعت إليه " وأن الذي رجع أبو هريرة إليه هو النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا فالخلاف في ذلك وقع بين الصحابة، لكن بين مسلم في رواية ابن عجلان عن سمي أن القائل " فاختلفنا " هو سمي، وأنه هو الذي رجع إلى أبي صالح، وأن الذي خالفه بعض أهله ولفظه: "قال سمي: فحدثت بعض أهل هذا الحديث، قال: وهمت، فذكر كلامه. قال: فرجعت إلى أبي صالح " وعلى رواية مسلم اقتصر صاحب العمدة، لكن لم يوصل مسلم هذه الزيادة، فإنه أخرج الحديث عن قتيبة عن الليث عن ابن عجلان ثم قال: زاد غير قتيبة في هذا الحديث عن الليث، فذكرها. والغير المذكور يحتمل أن يكون شعيب بن الليث أو سعيد بن أبي مريم، فقد أخرجه أبو عوانة في مستخرجه عن الربيع بن سليمان عن شعيب، وأخرجه الجوز في والبيهقي من طريق سعيد، وتبين بهذا أن في رواية عبيد الله بن عمر عن سمي في حديث الباب إدراجا، وقد روى ابن حبان هذا الحديث من طريق المعتمر بن سليمان بالإسناد المذكور فلم يذكر قوله: "فاختلفنا الخ". قوله: "ونكبر أربعا وثلاثين" هو قول بعض أهل سمي كما تقدم التنبيه عليه من رواية مسلم، وقد تقدم احتمال كونه من كلام بعض الصحابة، وقد جاء مثله في حديث أبي الدرداء عند النسائي، وكذا عنده من حديث ابن عمر بسند قوي، ومثله لمسلم من حديث كعب بن عجرة، ونحوه لابن ماجه من حديث أبي ذر لكن شك بعض رواته في أنهن أربع وثلاثون، ويخالف ذلك ما في رواية محمد بن أبي عائشة عن أبي هريرة عند أبي داود ففيه: "ويختم المائة بلا إله إلا الله وحده لا شريك له الخ"، وكذا لمسلم في رواية عطاء بن يزيد عن أبي هريرة، ومثله لأبي داود في حديث أم الحكم، ولجعفر الفريابي في حديث أبي ذر، قال النووي: ينبغي أن يجمع بين الروايتين بأن يكبر أربعا وثلاثين ويقول معها لا إله إلا الله وحده الخ. وقال غيره: بل يجمع بأن يختم مرة بزيادة تكبيرة ومرة بلا إله إلا الله على وفق ما وردت به الأحاديث. قوله: "حتى يكون منهن كلهن" بكسر اللام تأكيدا للضمير المجرور. قوله: "ثلاث وثلاثون" بالرفع وهو اسم كان. وفي رواية كريمة والأصيلي وأبي الوقت " ثلاثا وثلاثين " وتوجه بأن اسم كان محذوف والتقدير حتى بكون العدد منهن كلهن ثلاثا وثلاثين. وفي قوله: "منهن كلهن " الاحتمال المتقدم: هل العدد للجميع أو المجموع. وفي رواية ابن عجلان ظاهرها أن العدد للجميع لكن يقول ذلك مجموعا، وهذا اختيار أبي صالح. لكن الرواية الثابتة عن غيره الإفراد، قال عياض: وهو أولى. ورجح بعضهم الجمع للإتيان فيه بواو العطف والذي يظهر أن كلا من الأمرين حسن، إلا أن الإفراد يتميز بأمر آخر وهو أن الذاكر يحتاج إلى العدد، وله على كل حركة لذلك - سواء كان بأصابعه أو بغيرها - ثواب لا يحصل لصاحب الجمع منه إلا الثلث. "تنبيهان": الأول وقع في رواية ورقاء عن سمي عند المصنف في الدعوات في هذا الحديث: "تسبحون عشرا وتحمدون عشرا وتكبرون عشرا، ولم أقف في شيء من طرق حديث أبي هريرة على من تابع ورقاء على ذلك لا عن سمي ولا عن غيره، ويحتمل أن يكون تأول ما تأول سهيل من التوزيع، ثم ألغى الكسر. ويعكر عليه أن السياق صريح في كونه كلام النبي صلى الله عليه وسلم. وقد وجدت لرواية العشر شواهد: منها عن علي عند أحمد، وعن سعد بن أبي وقاص عند النسائي، وعن عبد الله بن عمرو عنده، وعن أبي داود والترمذي، وعن أم سلمة عند البزار، وعن أم مالك الأنصارية عند الطبراني. وجمع البغوي في " شرح السنة " بين هذا الاختلاف باحتمال أن يكون ذلك صدر في أوقات متعددة أولها عشرا عشرا ثم إحدى عشرة إحدى عشرة ثم ثلاثا وثلاثين ثلاثا وثلاثين، ويحتمل أن يكون ذلك على سبيل التخيير، أو يفترق بافتراق الأحوال. وقد جاء من حديث زيد بن ثابت وابن عمر " أنه صلى الله عليه وسلم أمرهم

(2/329)


أن يقولوا كل ذكر منها خمسا وعشرين ويزيدوا فيها لا إله إلا الله خمسا وعشرين " ولفظ زيد بن ثابت " أمرنا أن نسبح في دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين ونحمد ثلاثا وثلاثين ونكبر أربعا وثلاثين، فأتى رجل في منامه فقيل له: أمركم محمد أن تسبحوا - فذكره - قال: نعم قال: اجعلوها خمسا وعشرين، واجعلوا فيها التهليل. فلما أصبح أتى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره فقال: فافعلوه " أخرجه النسائي وابن خزيمة وابن حبان، ولفظ ابن عمر " رأى رجل من الأنصار فيما يرى النائم - فذكر نحوه وفيه - فقيل له سبح خمسا وعشرين واحمد خمسا وعشرين وكبر خمسا وعشرين وهلل خمسا وعشرين فتلك مائة. فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يفعلوا كما قال: "أخرجه النسائي وجعفر الفريابي.واستنبط من هذا أن مراعاة العدد المخصوص في الأذكار معتبرة وإلا لكان يمكن أن يقال لهم: أضيفوا لها التهليل ثلاثا وثلاثين. وقد كان بعض العلماء يقول: إن الأعداد الواردة كالذكر عقب الصلوات إذا رتب عليها ثواب مخصوص فزاد الآتي بها على العدد المذكور لا يحصل له ذلك الثواب المخصوص لاحتمال أن يكون لتلك الأعداد حكمة وخاصية تفوت بمجاوزة ذلك العدد، قال شيخنا الحافظ أبو الفضل في شرح الترمذي: وفيه نظر، لأنه أتى بالمقدار الذي رتب الثواب على الإتيان به فحصل له الثواب بذلك، فإذا زاد عليه من جنسه كيف تكون الزيادة مزيلة لذلك الثواب بعد حصوله؟ ا هـ. ويمكن أن يفترق الحال فيه بالنية، فإن نوى عند الانتهاء إليه امتثال الأمر الوارد ثم أتى بالزيادة فالأمر كما قال شيخنا لا محالة، وإن زاد بغير نية بأن يكون الثواب رتب على عشرة مثلا فرتبه هو على مائة فيتجه القول الماضي. وقد بالغ القرافي في القواعد فقال: من البدع المكروهة الزيادة في المندوبات المحدودة شرعا، لأن شأن العظماء إذا حدوا شيئا أن يوقف عنده ويعد الخارج عنه مسيئا للأدب ا هـ. وقد مثله بعض العلماء بالدواء يكون مثلا فيه أوقية سكر فلو زيد فيه أوقية أخرى لتخلف الانتفاع به، فلو اقتصر على الأوقية في الدواء ثم استعمل من السكر بعد ذلك ما شاء لم يتخلف الانتفاع. ويؤيد ذلك أن الأذكار المتغايرة إذا ورد لكل منها عدد مخصوص مع طلب الإتيان بجميعها متوالية لم تحسن الزيادة على العدد المخصوص لما في ذلك من قطع الموالاة لاحتمال أن يكون للموالاة في ذلك حكمة خاصة تفوت بفواتها، والله أعلم. "التنبيه الثاني": زاد مسلم في رواية ابن عجلان عن سمي " قال أبو صالح فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلناه ففعلوا مثله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء " ثم ساقه مسلم من رواية روح بن القاسم عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة فذكر طرفا منه ثم قال بمثل حديث قتيبة، قال: إلا أنه أدرج في حديث أبي هريرة قول أبي صالح: فرجع فقراء المهاجرين. قلت: وكذا رواه أبو معاوية عن سهيل مدرجا أخرجه جعفر الفريابي، وتبين بهذا أن الزيادة المذكورة مرسلة، وقد روى الحديث البزار من حديث ابن عمر وفيه: "فرجع الفقراء " فذكره موصولا لكن قد قدمت أن إسناده ضعيف. ورواه جعفر الفريابي من رواية حرام بن حكيم وهو بحاء وراء مهملتين عن أبي ذر وقال فيه: "فقال أبو ذر: يا رسول الله إنهم قد قالوا مثل ما نقول. فقال: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء " ونقل الخطيب أن حرام بن حكيم يرسل الرواية عن أبي ذر، فعلى هذا لم يصح بهذه الزيادة إسناد، إلا أن هذين الطريقين يقوي بهما مرسل أبي صالح. قال ابن بطال عن المهلب: في هذا الحديث فضل الغني نصا لا تأويلا، إذا استوت أعمال الغني والفقير فيما افترض الله عليهما، فللغني حينئذ فضل عمل البر من الصدقة ونحوها مما لا سبيل للفقير إليه. قال: ورأيت بعض المتكلمين ذهب إلى أن هذا الفضل يخص الفقراء دون غيرهم، أي الفضل المترتب على الذكر المذكور، وغفل

(2/330)


عن قوله في نفس الحديث: "إلا من صنع مثل ما صنعتم " فجعل الفضل لقائله كائنا من كان. وقال القرطبي: تأول بعضهم قوله: "ذلك فضل الله يؤتيه " بأن قال: الإشارة راجعة إلى الثواب المترتب على العمل الذي يحصل به التفضيل عند الله، فكأنه قال: ذاك الثواب الذي أخبرتكم به لا يستحقه أحد بحسب الذكر ولا بحسب الصدقة، وإنما هو بفضل الله. قال: وهذا التأويل فيه بعد، ولكن اضطره إليه ما يعارضه. وتعقب بأن الجمع بينه وبين ما يعارضه ممكن من غير احتياج إلى التعسف. وقال ابن دقيق العيد: ظاهر الحديث القريب من النص أنه فضل الغني، وبعض الناس تأوله بتأويل مستكره كأنه يشير إلى ما تقدم. قال: والذي يقتضيه النظر أنهما إن تساويا وفضلت العبادة المالية أنه يكون الغني أفضل، وهذا لا شك فيه، وإنما النظر إذا تساويا وانفرد كل منهما بمصلحة ما هو فيه أيهما أفضل؟ إن فسر الفضل بزيادة الثواب فالقياس يقتضي أن المصالح المتعدية أفضل من القاصرة فيترجح الغني، وإن فسر بالإشراف بالنسبة إلى صفات النفس فالذي يحصل لها من التطهير بسبب الفقر أشرف فيترجح الفقر، ومن ثم ذهب جمهور الصوفية إلى ترجيح الفقير الصابر. وقال القرطبي: للعلماء في هذه المسألة خمسة أقوال، ثالثها الأفضل الكفاف، رابعها يختلف باختلاف الأشخاص، خامسها التوقف. وقال الكرماني: قضية الحديث أن شكوى الفقر تبقى بحالها. وأجاب بأن مقصودهم كان تحصيل الدرجات العلا والنعيم المقيم لهم أيضا لا نفي الزيادة عن أهل الدثور مطلقا ا هـ. والذي يظهر أن مقصودهم إنما كان طلب المساواة. ويظهر أن الجواب وقع قبل أن يعلم النبي صلى الله عليه وسلم أن متمني الشيء يكون شريكا لفاعله في الأجر كما سبق في كتاب العلم في الكلام على حديث ابن مسعود الذي أوله " لا حسد إلا في اثنتين " فإن في رواية الترمذي من وجه آخر التصريح بأن المنفق والمتمني إذا كان صادق النية في الأجر سواء، وكذا قوله صلى الله عليه وسلم: "من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من يعمل بها من غير أن ينقص من أجره شيء " فإن الفقراء في هذه القصة كانوا السبب في تعلم الأغنياء الذكر المذكور، فإذا استووا معهم في قوله امتاز الفقراء بأجر السبب مضافا إلى التمني، فلعل ذلك يقاوم التقرب بالمال، وتبقى المقايسة بين صبر الفقير على شظف العيش وشكر الغني على التنعم بالمال، ومن ثم وقع التردد في تفضيل أحدهما على الآخر، وسيكون لنا عودة إلى ذلك في الكلام على حديث: "الطاعم الشاكر مثل الصائم الصابر " في كتاب الأطعمة إن شاء الله تعالى.
وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدم أن العالم إذا سئل عن مسألة يقع فيها الخلاف أن يجيب بما يلحق به المفضول درجة الفاضل، ولا يجيب بنفس، الفاضل لئلا يقع الخلاف، كذا قال ابن بطال، وكأنه أخذه من كونه صلى الله عليه وسلم أجاب بقوله: "ألا أدلكم على أمر تساوونهم فيه: "وعدل عن قوله نعم هم أفضل منكم بذلك.
وفيه التوسعة في الغبطة، وقد تقدم تفسيرها في كتاب العلم، والفرق بينها وبين الحسد المذموم.
وفيه المسابقة إلى الأعمال المحصلة للدرجات العالية لمبادرة الأغنياء إلى العمل بما بلغهم، ولم ينكر عليهم صلى الله عليه وسلم فيؤخذ منه أن قوله: "إلا من عمل " عام للفقراء والأغنياء خلافا لمن أوله بغير ذلك.
وفيه أن العمل السهل قد يدرك به صاحبه فضل العمل الشاق.
وفيه فضل الذكر عقب الصلوات، واستدل به البخاري على فضل الدعاء عقيب الصلاة كما سيأتي في الدعوات لأنه في معناها، ولأنها أوقات فاضلة يرتجى فيها إجابة الدعاء.
وفيه أن العمل القاصر قد يساوي المتعدي خلافا لمن قال إن المتعدي أفضل مطلقا، نبه على ذلك الشيخ عز الدين بن عبد السلام.
قوله: "حدثنا سفيان" هو الثوري، ورجال الإسناد كلهم كوفيون إلا محمد بن يوسف وهو الفريابي.
قوله: "عن وراد" في رواية معتمر بن سليمان عن سفيان عند الإسماعيلي: "حدثني

(2/331)


وراد". قوله: "أملى علي المغيرة" أي ابن شعبة "في كتاب إلى معاوية" كان المغيرة إذ ذاك أميرا على الكوفة من قبل معاوية وسيأتي في الدعوات من وجه آخر عن وراد بيان السبب في ذلك، وهو أن معاوية كتب إليه: اكتب لي بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي القدر من رواية عبدة بن أبي لبابة عن وراد قال: "كتب معاوية إلى المغيرة: اكتب إلى ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول خلف الصلاة". قد قيدها في رواية الباب بالمكتوبة فكأن المغيرة فهم ذلك من قرينة في السؤال واستدل به على العمل بالمكاتبة وإجرائها مجرى والسماع في الرواية ولو لم تقترن بالإجازة. وعلى الاعتماد على خبر الشخص الواحد. وسيأتي في القدر في آخره أن ورادا قال: "ثم وفدت بعد علي معاوية فسمعته يأمر الناس بذلك " وزعم بعضهم أن معاوية كان قد سمع الحديث المذكور، وإنما أراد استثبات المغيرة واحتج بما في الموطأ من وجه آخر عن معاوية أنه كان يقول على المنبر " أيها الناس، إنه لا مانع لما أعطى الله، ولا معطي لما منع الله، ولا ينفع ذا الجد منه الجد. من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين. ثم يقول: سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه الأعواد". قوله: "له لملك وله الحمد" زاد الطبراني من طريق أخرى عن المغيرة " يحيي ويميت وهو حي لا يموت، بيده الخير - إلى - قدير " ورواته موثقون. وثبت مثله عند البزار من حديث عبد الرحمن ابن عوف بسند ضعيف، لكن في القول إذا أصبح وإذا أمسى. قوله: "ولا ينفع ذا الجد منك الجد" قال الخطابي: الجد الغني ويقال الحظ، قال: و " من " في قوله: "منك " بمعنى البدل، قال الشاعر:
فليت لنا من ماء زمزم شربة ... مبردة باتت على الطهيان
يريد ليت لنا بدل ماء زمزم ا ه. وفي الصحاح: معنى " منك " هنا عندك، أي لا ينفع ذا الغنى عندك غناه، إنما ينفعه العمل الصالح. وقال ابن التين: الصحيح عندي أنها ليست بمعنى البدل ولا عند، بل هو كما تقول: ولا ينفعك مني شيء إن أنا أردتك بسوء. ولم يظهر من كلامه معنى، ومقتضاه أنها بمعنى عند أو فيه حذف تقديره من قضائي أو سطوتي أو عذابي. واختار الشيخ جمال الدين في المغني الأول، قال ابن دقيق العيد: قوله منك يجب أن يتعلق بينفع، وينبغي أن يكون ينفع قد ضمن معنى يمنع وما قاربه، ولا يجوز أن يتعلق منك بالجد كما يقال حظي منك كثير لأن ذلك نافع ا ه. والجد مضبوط في جميع الروايات بفتح الجيم ومعناه الغني كما نقله المصنف عن الحسن، أو الحظ. وحكى الراغب أن المراد به هنا أبو الأب، أي لا ينفع أحدا نسبه. قال القرطبي: حكى عن أبي عمرو الشيباني أنه رواه بالكسر وقال: معناه لا ينفع ذا الاجتهاد اجتهاده. وأنكره الطبري. وقال القزاز في توجيه إنكاره: الاجتهاد في العمل نافع لأن الله قد دعا الخلق إلى ذلك، فكيف لا ينفع عنده؟ قال: فيحتمل أن يكون المراد أنه لا ينفع الاجتهاد في طلب الدنيا وتضييع أمر الآخرة. وقال غيره: لعل المراد أنه لا ينفع بمجرده ما لم يقارنه القبول، وذلك لا يكون إلا بفضل الله ورحمته، كما تقدم في شرح قوله: "لا يدخل أحدا منكم الجنة عمله " وقيل المراد على رواية الكسر السعي التام في الحرص أو الإسراع في الهرب. قال النووي: الصحيح المشهور الذي عليه الجمهور أنه بالفتح وهو الحظ في الدنيا بالمال أو الولد أو العظمة أو السلطان، والمعنى لا ينجيه حظه منك، وإنما ينجيه فضلك ورحمتك. وفي الحديث استحباب هذا الذكر عقب الصلوات لما اشتمل عليه من ألفاظ التوحيد
ـــــــ
(1) في طبعة بولاق "على الظمآن" والتصحيح من لسان العرب ( مادة طهي ) ومن مخطوطة الرياض

(2/332)


ونسبة الأفعال إلى الله والمنع والإعطاء وتمام القدرة، وفيه المبادرة إلى امتثال السنن وإشاعتها. "فائدة": اشتهر على الألسنة في الذكر المذكور زيادة " ولا راد لما قضيت " وهي في مسند عبد ابن حميد من رواية معمر عن عبد الملك بن عمير بهذا الإسناد، لكن حذف قوله: "ولا معطي لما منعت " ووقع عند الطبراني تاما من وجه آخر كما سنذكره في كتاب القدر إن شاء الله تعالى. ووقع عند أحمد والنسائي وابن خزيمة من طريق هشيم عن عبد الملك بالإسناد المذكور أنه كان يقول الذكر المذكور أو لا ثلاث مرات. قوله: "وقال شعبة عن عبد الملك بن عمير بهذا" وصله السراج في مسنده، والطبراني في الدعاء، وابن حبان من طريق معاذ بن معاذ عن شعبة ولفظه عن عبد الملك بن عمير " سمعت ورادا كاتب المغيرة بن شعبة أن المغيرة كتب إلى معاوية " فذكره. وفي قوله: "كتب " تجوز لما تبين من رواية سفيان وغيره أن الكاتب هو وراد، لكنه كتب بأمر المغيرة وإملائه عليه. وعند مسلم من رواية عبدة عن وراد قال: "كتب المغيرة إلى معاوية، كتب ذلك الكتاب له وراد " فجمع بين الحقيقة والمجاز. قوله: "وقال الحسن جد غني" الأولى في قراءة هذا الحرف أن يقرأ بالرفع بغير تنوين على الحكاية، ويظهر ذلك من لفظ الحسن، فقد وصله ابن أبي حاتم من طريق أبي رجاء وعبد بن حميد من طريق سليمان التيمي كلاهما عن الحسن في قوله تعالى: {وأنه تعالى جد ربنا} قال: غنى ربنا. وعادة البخاري إذا وقع في الحديث لفظة غريبة وقع مثلها في القرآن يحكي قول أهل التفسير فيها وهذا منها. ووقع في رواية كريمة: "قال الحسن الجد غني " وسقط هذا الأثر من أكثر الروايات. قوله: "وعن الحكم" هكذا وقع في رواية أبي ذر التعليق عن الحكم مؤخرا عن أثر الحسن. وفي رواية كريمة بالعكس وهو الأصوب، لأن قوله وعن الحكم معطوف على قوله عن عبد الملك، فهو من رواية شعبة عن الحكم أيضا، وكذلك أخرجه السراج والطبراني وابن حبان بالإسناد المذكور إلى شعبة ولفظه كلفظ عبد الملك إلا أنه قال فيه: "كان إذا قضى صلاته وسلم قال: "فذكره، ووقع نحو هذا التصريح لمسلم من طريق المسيب بن رافع عن وراد به.

(2/333)


156 - باب يَسْتَقْبِلُ الإِمَامُ النَّاسَ إِذَا سَلَّمَ
845- حدثنا موسى بن إسماعيل قال حدثنا جرير بن حازم قال حدثنا أبو رجاء عن سمرة بن جندب قال ثم كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى صلاة أقبل علينا بوجهه
[الحديث"845- أطرافه في: 7047,6096,4674,3354,2125,2791,2085,1386,1143]
846- حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن صالح بن كيسان عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن زيد بن خالد الجهني أنه قال ثم صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليلة فلما انصرف أقبل على الناس فقال هل تدرون ماذا قال ربكم قالوا الله ورسوله أعلم قال أصبح من عبادي مؤمن وكافر فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي وكافر بالكوكب وأما من قال بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي ومؤمن بالكوكب "
[الحديث846- 7503,4147,1038]

(2/333)


847- حدثنا عبد الله سمع يزيد قال أخبرنا حميد عن أنس قال ثم أخر رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة ذات ليلة إلى شطر الليل ثم خرج علينا فلما صلى أقبل علينا بوجهه فقال إن الناس قد صلوا ورقدوا وإنكم لن تزالوا في صلاة ما انتظرتم الصلاة"
قوله: "باب يستقبل الإمام الناس إذا سلم" أورد فيه ثلاثة أحاديث: أحدها حديث سمرة بن جندب، وسيأتي مطولا في أواخر الجنائز، ثانيها حديث زيد بن خالد الجهني، وسيأتي في كتاب الاستسقاء. ثالثها: حديث أنس، وقد تقدم الكلام عليه في المواقيت وفي فضل انتظار الصلاة من أبواب الجماعة. والأحاديث الثلاثة مطابقة لما ترجم له، وأصرحها حديث زيد بن خالد حيث قال فيه: "فلما انصرف " وأما قوله في حديث سمرة " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى صلاة أقبل علينا بوجهه " فالمعنى إذا صلى صلاة ففرغ منها أقبل علينا، لضرورة أنه لا يتحول عن القبلة قبل فراغ الصلاة. وقوله في حديث أنس " فلما صلى أقبل " يأتي فيه نحو ذلك، وسياق سمرة ظاهره أنه كان يواظب على ذلك. قيل الحكمة في استقبال المأمومين أن يعلمهم ما يحتاجون إليه، فعلى هذا يختص بمن كان في مثل حاله صلى الله عليه وسلم من قصد التعليم والموعظة. وقيل الحكمة فيه تعريف الداخل بأن الصلاة انقضت، إذ لو استمر الإمام على حاله لأوهم أنه في التشهد مثلا. وقال الزين بن المنير: استدبار الإمام المأمومين إنما هو لحق الإمامة، فإذا انقضت الصلاة زال السبب، فاستقبالهم حينئذ يرفع الخيلاء والترفع على المأمومين، والله أعلم.

(2/334)


157 - باب مُكْثِ الإِمَامِ فِي مُصَلاَهُ بَعْدَ السَّلاَمِ
848- وَقَالَ لَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ قَالَ كَانَ ابْنُ عُمَرَ يُصَلِّي فِي مَكَانِهِ الَّذِي صَلَّى فِيهِ الْفَرِيضَةَ وَفَعَلَهُ الْقَاسِمُ وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ لاَ يَتَطَوَّعُ الإِمَامُ فِي مَكَانِهِ وَلَمْ يَصِحَّ
849- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ هِنْدٍ بِنْتِ الْحَارِثِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا سَلَّمَ يَمْكُثُ فِي مَكَانِهِ يَسِيرًا قَالَ ابْنُ شِهَابٍ فَنُرَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ لِكَيْ يَنْفُذَ مَنْ يَنْصَرِفُ مِنْ النِّسَاءِ "
850- وَقَالَ ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ أَخْبَرَنَا نَافِعُ بْنُ يَزِيدَ قَالَ أَخْبَرَنِي جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ أَنَّ ابْنَ شِهَابٍ كَتَبَ إِلَيْهِ قَالَ حَدَّثَتْنِي هِنْدُ بِنْتُ الْحَارِثِ الْفِرَاسِيَّةُ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَتْ مِنْ صَوَاحِبَاتِهَا قَالَتْ كَانَ يُسَلِّمُ فَيَنْصَرِفُ النِّسَاءُ فَيَدْخُلْنَ بُيُوتَهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَنْصَرِفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَتْنِي هِنْدُ الْفِرَاسِيَّةُ وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ حَدَّثَتْنِي هِنْدُ الْفِرَاسِيَّةُ وَقَالَ الزُّبَيْدِيُّ أَخْبَرَنِي الزُّهْرِيُّ أَنَّ هِنْدَ بِنْتَ الْحَارِثِ الْقُرَشِيَّةَ أَخْبَرَتْهُ وَكَانَتْ تَحْتَ مَعْبَدِ بْنِ الْمِقْدَادِ وَهُوَ حَلِيفُ بَنِي زُهْرَةَ وَكَانَتْ تَدْخُلُ عَلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ حَدَّثَتْنِي هِنْدُ الْقُرَشِيَّةُ وَقَالَ ابْنُ

(2/334)


أَبِي عَتِيقٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ هِنْدٍ الْفِرَاسِيَّةِ وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَهُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ امْرَأَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ حَدَّثَتْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قوله: "باب مكث الإمام في مصلاه بعد السلام" أي وبعد استقبال القوم، فيلائم ما تقدم ثم أن المكث لا يتقيد بحال من ذكر أو دعاء أو تعليم أو صلاة نافلة، ولهذا ذكر في الباب مسألة تطوع الإمام في مكانه. قوله: "وقال لنا آدم الخ" هو موصول، وإنما عبر يقوله: "قال لنا " لكونه موقوفا مغايرة بينه وبين المرفوع، هذا الذي عرفته بالاستقراء من صنيعه. وقيل إنه لا يقول ذلك إلا فيما حمله مذاكرة، وهو محتمل لكنه ليس بمطرد، لأني وجدت كثيرا مما قال فيه: "قال لنا " في الصحيح قد أخرجه في تصانيف أخرى بصيغة " حدثنا " وقد روى ابن أبي شيبة أثر ابن عمر من وجه آخر عن أيوب عن نافع قال: "كان ابن عمر يصلي سبحته مكانه". قوله: "وفعله القاسم" أي ابن محمد بن أبي بكر الصديق، وقد وصله ابن أبي شيبة عن معتمر عن عبيد الله بن عمر قال: "رأيت القاسم وسالما يصليان الفريضة ثم يتطوعان في مكانهما". قوله: "ويذكر عن أبي هريرة رفعه" أي قال فيه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله: "لا يتطوع الإمام في مكانه" ذكره بالمعنى، ولفظه عند أبي داود " أيعجز أحدكم أن يتقدم أو يتأخر أو عن يمينه أو عن شماله في الصلاة"، ولابن ماجه: "إذا صلى أحدكم " زاد أبو داود يعني في السبحة صلى الله عليه وسلم وللبيهقي " إذا أراد أحدكم أن يتطوع بعد الفريضة فليتقدم " الحديث. قوله: "ولم يصح" هو كلام البخاري، وذلك لضعف إسناده واضطرابه تفرد به ليث بن أبي سليم وهو ضعيف، واختلف عليه فيه. وقد ذكر البخاري الاختلاف فيه في تاريخه وقال: "لم يثبت هذا الحديث: "وفي الباب عن المغيرة بن شعبة مرفوعا أيضا بلفظ: "لا يصلي الإمام في الموضع الذي صلى فيه حتى يتحول " رواه أبو داود وإسناده منقطع، وروى ابن أبي شيبة بإسناد حسن عن علي قال: "من السنة أن لا يتطوع الإمام حتى يتحول من مكانه"، وحكى ابن قدامة في " المغني " عن أحمد أنه كره ذلك وقال: لا أعرفه عن غير على، فكأنه لم يثبت عنده حديث أبي هريرة ولا المغيرة، وكان المعنى في كراهة ذلك خشية التباس النافلة بالفريضة. وفي مسلم: "عن السائب بن يزيد أنه صلى مع معاوية الجمعة فتنفل بعدها، فقال له معاوية: إذا صليت الجمعة فلا تصلها بصلاة حتى تتكلم أو تخرج، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا بذلك " ففي هذا إرشاد إلى طريق الأمن من الالتباس، وعليه تحمل الأحاديث المذكورة. ويؤخذ من مجموع الأدلة أن للإمام أحوالا لأن الصلاة إما أن تكون مما يتطوع بعدها أو لا يتطوع، الأول اختلف فيه هل يتشاغل قبل التطوع بالذكر المأثور ثم يتطوع؟ وهذا الذي عليه عمل الأكثر، وعند الحنفية يبدأ بالتطوع. وحجة الجمهور حديث معاوية. وبمكن أن يقال لا يتعين الفصل بين الفريضة والنافلة بالذكر، بل إذا تنحى من مكانه كفي. فإن قيل: لم يثبت الحديث في التنحي، قلنا: قد ثبت في حديث معاوية " أو تخرج " ويترجح تقديم الذكر المأثور بتقييده في الأخبار الصحيحة بدبر الصلاة. وزعم بعض الحنابلة أن المراد بدبر الصلاة ما قبل السلام، وتعقب بحديث: "ذهب أهل الدثور " فإن فيه: "تسبحون دبر كل صلاة وهو بعد السلام جزما، فكذلك ما شابهه. وأما الصلاة التي لا يتطوع بعدها فيتشاغل الإمام ومن معه بالذكر المأثور ولا يتعين له مكان بل إن شاءوا انصرفوا وذكروا، وإن شاءوا مكثوا وذكروا. وعلى الثاني إن كان للإمام عادة أن يعلمهم
ـــــــ
(1)في المخطوطة" المسجد"

(2/335)


أو يعظهم فيستحب أن يقبل عليهم بوجهه جميعا، وإن كان لا يزيد على الذكر المأثور فهل يقبل عليهم جميعا أو ينفتل فيجعل يمينه من قبل المأمومين ويساره من قبل القبلة ويدعو؟ الثاني هو الذي جزم به أكثر الشافعية. ويحتمل إن قصر زمن ذلك أن يستمر مستقبلا للقبلة صلى الله عليه وسلم من أجل أنها أليق بالدعاء، ويحمل الأول على ما لو طال الذكر والدعاء، والله أعلم. قوله: "عن هند بنت الحارث" هي تابعية ولا أعرف عنها راويا غير الزهري، وهي من أفراد البخاري عن مسلم، وسيأتي الخلاف في نسبتها. قوله: "قال ابن شهاب" هو الزهري، وهو موصولا بالإسناد المذكور. و قوله: "فنرى" بضم النون أي نظن. قوله: "من النساء" زاد في " باب التسليم " من هذا الوجه " قبل أن يدركهن من انصرف من القوم " أي الرجال، وهو لفظه في رواية يحيى بن قزعة الآتية بعد أبواب. قوله: "وقال ابن أبي مريم" رويناه موصولا في " الزهريات " لمحمد بن يحيى الذهلي قال: "حدثنا سعيد بن أبي مريم " فذكره. قوله: "من صواحباتها" جمع صاحبة وهي لغة، والمشهور صواحب كضوارب وضاربة، وقيل هو جمع صواحب وهو جمع صاحبة. قوله: "كان يسلم" أي النبي صلى الله عليه وسلم، وأفادت هذه الرواية الإشارة إلى أقل مقدار كان يمكثه صلى الله عليه وسلم. قوله: "وقال ابن وهب الخ" وصله النسائي عن محمد بن سلمة عنه بالإسناد المذكور ولفظه: "أن النساء كن إذا سلمن قمن وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن صلى من الرجال ما شاء الله، فإذا قام رسول الله صلى الله عليه وسلم قام الرجال. قوله: "وقال عثمان بن عمر" سيأتي موصولا بعد أربعة أبواب من طريقه. قوله: "وقال الزبيدي" وصله الطبراني في مسند الشاميين من طريق عبد الله بن سالم عنه بتمامه، وفيه: "أن النساء كن يشهدن الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا سلم قام النساء فانصرفن إلى بيوتهن قبل أن يقوم الرجال". قوله: "وقال شعيب" هو ابن أبي حمزة، وابن أبي عتيق هو محمد بن عبد الله، وروايتهما موصولة في " الزهريات " أيضا. ومراد البخاري بيان الاختلاف في نسب هند وأن منهم من قال الفراسية نسبة إلى بني فراس بكسر الفاء وتخفيف الراء آخره مهملة وهم بطن من كنانة، ومنهم من قال القرشية، فمن قال من أهل النسب إن كنانة جماع قريش فلا مغايرة بين النسبتين، ومن قال إن جماع قريش فهر بن مالك فيحتمل أن يكون اجتماع النسبتين لهند على أن إحداهما بالأصالة والأخرى بالمخالفة صلى الله عليه وسلم. وأشار البخاري برواية الليث الأخيرة إلى الرد على من زعم أن قول من قال: "القرشية " تصحيف من الفراسية، لقوله فيه: "عن امرأة من قريش " وفي رواية الكشميهني: "أن امرأة " وقوله فيه: "عن النبي صلى الله عليه وسلم: "غير موصولة لأنها تابعية كما تقدم، وكأن التقصير فيه من يحيى بن سعيد وهو الأنصاري، وروايته عن ابن شهاب من رواية الأقران: وفي الحديث مراعاة الإمام أحوال المأمومين، والاحتياط في اجتناب ما قد يفضي إلى المحذور. وفيه اجتناب مواضع التهم، وكراهة مخالطة الرجال للنساء في الطرقات فضلا عن البيوت. ومقتضى التعليل المذكور أن المأمومين إذا كانوا رجالا فقط أن لا يستحب هذا المكث، وعليه حمل ابن قدامة حديث عائشة " أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا سلم لم يقعد إلا مقدار ما يقول: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام " أخرجه مسلم: وفيه أن النساء كن يحضرن الجماعة في المسجد، وستأتي المسألة قريبا.
ـــــــ
(1)الصواب أن المشروع إقبال الإمام على المأمومين بوجهه بعد السلام والإستغفار وقول " اللهم أنت السلام الخ"مطلقا لما تقدم في الأحاديثالصحيحة. والله أعلم
(2)كذا في المطبوعة والمخطوطة , ولعله " بالمحالفة"

(2/336)


158 - باب مَنْ صَلَّى بِالنَّاسِ فَذَكَرَ حَاجَةً فَتَخَطَّاهُمْ
851- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ مَيْمُونٍ قَالَ حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ عَنْ عُمَرَ بْنِ سَعِيدٍ قَالَ أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عُقْبَةَ قَالَ صَلَّيْتُ وَرَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ الْعَصْرَ فَسَلَّمَ ثُمَّ قَامَ مُسْرِعًا فَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ إِلَى بَعْضِ حُجَرِ نِسَائِهِ فَفَزِعَ النَّاسُ مِنْ سُرْعَتِهِ فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ فَرَأَى أَنَّهُمْ عَجِبُوا مِنْ سُرْعَتِهِ فَقَالَ ذَكَرْتُ شَيْئًا مِنْ تِبْرٍ عِنْدَنَا فَكَرِهْتُ أَنْ يَحْبِسَنِي فَأَمَرْتُ بِقِسْمَتِهِ "
[ الحديث851- أطرافه في: 6275,1430,1221]
قوله: "باب من صلى بالناس فذكر حاجة فتخطاهم" الغرض من هذه الترجمة بيان أن المكث المذكور في الباب قبله محله ما إذا لم يعرض ما يحتاج معه إلى القيام. قوله: "حدثنا محمد بن عبيد" أي ابن ميمون العلاف، وثبت كذلك في رواية ابن عساكر. قوله: "عن عمر بن سعيد" أي ابن أبي حسين المكي. قوله: "عن عقبة" هو ابن الحارث النوفلي، وللمصنف في الزكاة من رواية أبي عاصم عن عمر بن سعيد أن عقبة بن الحارث حدثه. قوله: "فمسلم فقام" في رواية الكشميهني: "ثم قام". قوله: "ففزع الناس" أي خافوا، وكانت تلك عادتهم إذا رأوا منه غير ما يعهدونه خشية أن ينزل فيهم شيء يسوؤهم.قوله: "فرأى أنهم قد عجبوا" في رواية أبي عاصم " فقلت أو فقيل له " وهو شك من الراوي، فإن كان قوله فقلت محفوظا فقد تعين الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة عن ذلك.قوله: "ذكرت شيئا من تبر" في رواية روح عن عمر بن سعيد في أواخر الصلاة " ذكرت وأنا في الصلاة " وفي رواية أبي عاصم " تبرا من الصدقة " والتبر بكسر المثناة وسكون الموحدة الذهب الذي لم يصف ولم يضرب، قال الجوهري: لا يقال إلا للذهب.وقد قاله بعضهم في الفضة. انتهى. وأطلقه بعضهم على جميع جواهر الأرض قبل أن تصاغ أو تضرب حكاه ابن الأنباري عن الكسائي، وكذا أشار إليه ابن دريد. وقيل هو الذهب المكسور، حكاه ابن سيده. قوله: "يحبسني" أي يشغلني التفكر فيه عن التوجه والإقبال على الله تعالى. وفهم منه ابن بطال معنى آخر فقالا: فيه أن تأخير الصدقة تحبس صاحبها يوم القيامة. قوله: "فأمرت بقسمته" في رواية أبي عاصم " فقسمته " وفي الحديث أن المكث بعد الصلاة ليس بواجب، وأن التخطي للحاجة مباح، وأن التفكر في الصلاة في أمر لا يتعلق بالصلاة لا يفسدها ولا ينقص من كمالها، وأن إنشاء العزم في أثناء الصلاة على الأمور الجائزة لا يضر، وفيه إطلاق الفعل على ما يأمر به الإنسان، وجواز الاستنابة مع القدرة على المباشرة.

(2/337)


159 - باب الِانْفِتَالِ وَالِانْصِرَافِ عَنْ الْيَمِينِ وَالشِّمَالِ
وَكَانَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ يَنْفَتِلُ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَارِهِ وَيَعِيبُ عَلَى مَنْ يَتَوَخَّى أَوْ مَنْ يَعْمِدُ الِانْفِتَالَ عَنْ يَمِينِهِ
852- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ الأَسْوَدِ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ لاَ يَجْعَلْ أَحَدُكُمْ لِلشَّيْطَانِ شَيْئًا مِنْ صَلاَتِهِ يَرَى أَنَّ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ لاَ يَنْصَرِفَ إِلاَّ عَنْ يَمِينِهِ لَقَدْ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَثِيرًا يَنْصَرِفُ عَنْ يَسَارِهِ "

(2/337)


قوله: "باب الانفتال والانصراف عن اليمين والشمال" قال الزين بن المنير: جمع في الترجمة بين الانفتال والانصراف للإشارة إلى أنه لا فرق في الحكم بين الماكث في مصلاه إذا انفتل لاستقبال المأمومين، وبين المتوجه لحاجته إذا انصرف إليها. قوله: "وكان أنس بن مالك الخ" وصله مسدد في مسنده الكبير من طريق سعيد عن قتادة قال: "كان أنس " فذكره وقال فيه: "ويعيب على من يتوخى ذلك أن لا ينفتل إلا عن يمينه ويقول: يدور كما يدور الحمار " وقوله: "يتوخى " بخاء معجمة مشددة أي يقصد، وقوله: "أو يعمد" شك من الراوي. قلت: وظاهر هذا الأثر عن أنس يخالف ما رواه مسلم من طريق إسماعيل بن عبد الرحمن السدي قال: "سألت أنسا كيف أنصرف إذا صليت عن يميني أو عن يساري؟ قال: أما أنا فأكثر ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم ينصرف عن يمينه " ويجمع بينهما بأن أنسا عاب من يعتقد تحتم ذلك ووجوبه، وأما إذا استوى الأمران فجهة اليمين أولى. قوله: "عن سليمان" هو الأعمش. قوله: "عن عمارة" في رواية أبي داود الطيالسي عن شعبة عن الأعمش " سمعت عمارة بن عمير " وفي الإسناد ثلاثة من التابعين كوفيون في نسق آخرهم الأسود وهو ابن يزيد النخعي. قوله: "لا يجعل" في رواية الكشميهني: "لا يجعلن " بزيادة نون التأكيد. قوله: "شيئا من صلاته" في رواية وكيع وغيره عن الأعمش عند مسلم: "جزءا من صلاته". قوله: "يرى" بفتح أوله أي يعتقد، ويجوز الضم أي يظن. و قوله: "أن حقا عليه" هو بيان للجعل في قوله: "لا يجعل". قوله: "أن لا ينصرف" أي يرى أن عدم الانصراف حق عليه، فهو من باب القلب قاله الكرماني في الجواب عن ابتدائه بالنكرة قال: أو لأن النكرة المخصوصة كالمعروفة. قوله: "كثيرا ينصرف عن يساره" في رواية مسلم: "أكثر ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينصرف عن شماله " فأما رواية البخاري فلا تعارض حديث أنس الذي أشرت إليه عند مسلم، وأما رواية مسلم فظاهرة التعارض لأنه عبر في كل منهما بصيغة أفعل، قال النووي: يجمع بينهما بأنه صلى الله عليه وسلم كان يفعل تارة هذا وتارة هذا، فأخبر كل منهما بما اعتقد أنه الأكثر، وإنما كره ابن مسعود أن يعتقد وجوب الانصراف عن اليمين. قلت: وهو موافق للأثر المذكور أولا عن أنس، ويمكن أن يجمع بينهما بوجه آخر، وهو أن يحمل حديث ابن مسعود على حالة الصلاة في المسجد، لأن حجرة النبي صلى الله عليه وسلم كانت من جهة يساره، ويحمل حديث أنس على ما سوى ذلك كحال السفر، ثم إذا تعارض اعتقاد ابن مسعود وأنس رجح ابن مسعود لأنه أعلم وأسن وأجل وأكثر ملازمة للنبي صلى الله عليه وسلم وأقرب إلى موقفه في الصلاة من أنس، وبان في إسناد حديث أنس من تكلم فيه وهو السدي، وبأنه متفق عليه بخلاف حديث أنس في الأمرين، وبأن رواية ابن مسعود توافق ظاهر الحال لأن حجرة النبي صلى الله عليه وسلم كانت على جهة يساره كما تقدم. ثم ظهر لي أنه بمكن الجمع بين الحديثين بوجه آخر، وهو أن من قال كان أكثر انصرافه عن يساره نظر إلى هيئته في حال الصلاة، ومن قال كان أكثر انصرافه عن يمينه نظر إلى هيئته في حالة استقباله القوم بعد سلامه من الصلاة، فعلى هذا لا يختص الانصراف بجهة معينة، ومن ثم قال العلماء. يستحب الانصراف إلى جهة حاجته. لكن قالوا: إذا استوت الجهتان في حقه فاليمين أفضل لعموم الأحاديث المصرحة بفضل التيامن كحديث عائشة المتقدم في كتاب الطهارة. قال ابن المنير: فيه أن المندوبات قد تنقلب مكروهات إذا رفعت عن رتبتها، لأن التيامن مستحب في كل شيء أي من أمور العبادة، لكن لما خشي ابن مسعود أن يعتقدوا وجوبه أشار إلى كراهته، والله أعلم.

(2/338)


باب ما جاء في الثوم النيء والبصل والكراث
...
160 - باب مَا جَاءَ فِي الثُّومِ النِّيِّ وَالْبَصَلِ وَالْكُرَّاثِ
وَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَكَلَ الثُّومَ أَوْ الْبَصَلَ مِنْ الْجُوعِ أَوْ غَيْرِهِ فَلاَ يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا
583- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ يَعْنِي الثُّومَ فَلاَ يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا
[الحديث853-أطرافه في: 7359,5452,855]
584- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ قَالَ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ يُرِيدُ الثُّومَ فَلاَ يَغْشَانَا فِي مَسَاجِدِنَا قُلْتُ مَا يَعْنِي بِهِ قَالَ مَا أُرَاهُ يَعْنِي إِلاَّ نِيئَهُ وَقَالَ مَخْلَدُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ إِلاَّ نَتْنَهُ
585- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ زَعَمَ عَطَاءٌ أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ زَعَمَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ أَكَلَ ثُومًا أَوْ بَصَلًا فَلْيَعْتَزِلْنَا أَوْ قَالَ فَلْيَعْتَزِلْ مَسْجِدَنَا وَلْيَقْعُدْ فِي بَيْتِهِ وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِقِدْرٍ فِيهِ خَضِرَاتٌ مِنْ بُقُولٍ فَوَجَدَ لَهَا رِيحًا فَسَأَلَ فَأُخْبِرَ بِمَا فِيهَا مِنْ الْبُقُولِ فَقَالَ قَرِّبُوهَا إِلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ كَانَ مَعَهُ فَلَمَّا رَآهُ كَرِهَ أَكْلَهَا قَالَ كُلْ فَإِنِّي أُنَاجِي مَنْ لاَ تُنَاجِي "
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ وَهْبٍ أُتِيَ بِبَدْرٍ وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ يَعْنِي طَبَقًا فِيهِ خَضِرَاتٌ وَلَمْ يَذْكُرِ اللَّيْثُ وَأَبُو صَفْوَانَ عَنْ يُونُسَ قِصَّةَ الْقِدْرِ فَلاَ أَدْرِي هُوَ مِنْ قَوْلِ الزُّهْرِيِّ أَوْ فِي الْحَدِيثِ
586- حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ سَأَلَ رَجُلٌ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ مَا سَمِعْتَ نَبِيَّ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي الثُّومِ فَقَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ فَلاَ يَقْرَبْنَا أَوْ لاَ يُصَلِّيَنَّ مَعَنَا "
[الحديث856-طرفه في : 5451]
قوله: "باب ما جاء في الثوم" هذه الترجمة والتي بعدها من أحكام المساجد. وأما التراجم التي قبلها فكلها من صفة الصلاة. لكن مناسبة هذه الترجمة وما بعدها لذلك من جهة أنه بنى صفة الصلاة على الصلاة في الجماعة، ولهذا لم يفرد ما بعد كتاب الأذان بكتاب، لأنه ذكر فيه أحكام الإقامة ثم الإمامة ثم الصفوف ثم الجماعة ثم صفة الصلاة، فلما كان ذلك كله مرتبطا بعضه ببعض واقتضى فضل حضور الجماعة بطريق العموم ناسب أن يورد فيه من قام به عارض كأكل الثوم، ومن لا يجب عليه ذلك كالصبيان، ومن تندب له في حالة دون حالة كالنساء، فذكر هذه التراجم فختم بها صفة الصلاة. قوله: "الثوم" بضم الثاء المثلثة، "والنيئ" بكسر النون وبعدها تحتانية ثم همزة وقد تدغم، وتقييده بالنيئ حمل منه للأحاديث المطلقة في الثوم على غير النضيج منه. وقوله في الترجمة " والكراث " لم يقع ذكره في أحاديث الباب التي ذكرها، لكنه أشار به إلى ما وقع في بعض طرق حديث جابر كما سأذكره، وهذا أولى من

(2/339)


قول بعضهم إنه قاسه على البصل. ويحتمل أن يكون استنبط الكراث من عموم الخضرات فإنه يدخل فيها دخولا أولويا لأن رائحته أشد. قوله: "وقول النبي صلى الله عليه وسلم" هو بكسر اللام، و قوله: "من الجوع أو غيره" لم أر التقييد بالجوع وغيره صريحا لكنه مأخوذ من كلام الصحابي في بعض طرق حديث جابر وغيره، فعند مسلم من رواية أبي الزبير عن جابر قال: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أكل البصل والكراث، فغلبتنا الحاجة وله من رواية أبي نضرة عن أبي سعيد " لم نعد أن فتحت خيبر فوقعنا في هذه البقلة والناس جياع " وقال ابن المنير في الحاشية: ألحق بعض أصحابنا المجذوم وغيره بآكل الثوم في المنع من المسجد، قال: وفيه نظر لأن آكل الثوم أدخل على نفسه باختياره هذا المانع، والمجذوم علته سماوية. قال: لكن قوله صلى الله عليه وسلم: "من جوع أو غيره: "يدل على التسوية بينهما. انتهى. وكأنه رأى قول البخاري في الترجمة وقول النبي صلى الله عليه وسلم الخ فظنه لفظ حديث، وليس كذلك، بل هو من تفقه البخاري وتجويزه لذكر الحديث بالمعنى. قوله: "من أكل" قال ابن بطال هذا يدل على إباحة أكل الثوم، لأن قوله: "من أكل " لفظ إباحة. وتعقبه ابن المنير بأن هذه الصيغة إنما تعطي الوجود لا الحكم، أي من وجد منه الأكل، وهو أعم من كونه مباحا أو غير مباح، وفي حديث أبي سعيد الذي أشرت إليه عند مسلم الدلالة على عدم تحريمه كما سيأتي. قوله: "حدثنا يحيى" هو القطان وعبيد الله هو ابن عمر. قوله: "قال في غزوة خيبر" قال الداودي أي حين أراد الخروج أو حين قدم. وتعقبه ابن التين بأن الصواب أنه قال ذلك وهو في الغزاة نفسها، قال ولا ضرورة تمنع أن يخبرهم بذلك في السفر. انتهى. فكأن الذي حمل الداودي على ذلك قوله في الحديث: "فلا يقربن مسجدنا " لأن الظاهر أن المراد به مسجد المدينة فلهذا حمل الخبر على ابتداء التوجه إلى خيبر أو الرجوع إلى المدينة، لكن حديث أبي سعيد عند مسلم دال على أن القول المذكور صدر منه صلى الله عليه وسلم عقب فتح خيبر فعلى هذا فقوله مسجدنا يريد به المكان الذي أعد ليصلي فيه مدة إقامته هناك أو المراد بالمسجد الجنس والإضافة إلى المسلمين أي فلا يقربن مسجد المسلمين. ويؤيده رواية أحمد عن يحيى القطان فيه بلفظ: "فلا يقربن المساجد " ونحوه لمسلم وهذا يدفع قول من خص النهي بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم كما سيأتي، وقد حكاه ابن بطال عن بعض أهل العلم ووهاه. وفي مصنف عبد الرزاق عن ابن جريج قال قلت لعطاء هل النهي للمسجد الحرام خاصة أو في المساجد؟ قال: لا بل في المساجد. قوله: "من هذه الشجرة يعني الثوم" لم أعرف القائل يعني ويحتمل أن يكون عبيد الله بن عمر، فقد رواه السراج من رواية يزيد بن الهادي عن نافع بدونها ولفظه: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل الثوم يوم خيبر " وزاد مسلم من رواية ابن نمير عن عبيد الله " حتى يذهب ريحها". وفي قوله شجرة مجاز لأن المعروف في اللغة أن الشجرة ما كان لها ساق وما لا ساق له يقال له نجم، وبهذا فسر ابن عباس وغيره قوله تعالى: {والنجم والشجر يسجدان} ؛ ومن أهل اللغة من قال: كل ما ثبتت له أرومة، أي أصل في الأرض يخلف ما قطع منه فهو شجر، وإلا فنجم. وقال الخطابي: في هذا الحديث إطلاق الشجر على الثوم والعامة لا تعرف الشجر إلا ما كان له ساق ا هـ. ومنهم من قال: بين الشجر والنجم عموم وخصوص، فكل نجم شجر من غير عكس كالشجر والنخل، فكل نخل شجر من غير عكس. قوله: "حدثنا عبد الله بن محمد" هو المسندي وأبو عاصم هو النبيلي وهو شيخ البخاري وربما روي عنه بواسطة كما هنا. قوله: "يريد الثوم" لم أعرف الذي فسره أيضا وأظنه ابن جريج فإن في الرواية التي تلي هذه عن الزهري عن عطاء الجزم بذكر الثوم. على أنه قد اختلف في سياقه عن ابن جريج فقد رواه مسلم من رواية يحيى القطان عن ابن جريج بلفظ:

(2/340)


"من أكل من هذه البقلة الثوم " وقال مرة " من أكل البصل والثوم والكراث " ورواه أبو نعيم في المستخرج من طريق روح بن عبادة عن ابن جريج مثله وعين الذي قال. وقال مرة ولفظه: قال ابن جريج وقال عطاء في وقت آخر " الثوم والبصل والكراث " ورواه أبو الزبير عن جابر بلفظ: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم أكل البصل والكراث " قال: "ولم يكن ببلدنا يومئذ الثوم " هكذا أخرجه ابن خزيمة من رواية يزيد بن إبراهيم وعبد الرزاق عن ابن عيينة كلاهما عن أبي الزبير. قلت: هذا لا ينافي التفسير المتقدم إذ لا يلزم من كونه لم يكن بأرضهم أن لا يجلب إليهم، حتى لو امتنع هذا الحمل لكانت رواية المثبت مقدمة على رواية النافي، والله أعلم. قوله: "فلا يغشانا" كذا فيه بصيغة النفي التي يراد بها النهي. قال الكرماني: أو على لغة من يجري المعتل مجرى الصحيح، أو أشبع الراوي الفتحة فظن أنها ألف. والمراد بالغشيان الإتيان، أي فلا يأتينا. قوله: "في مسجدنا" في رواية الكشميهني وأبي الوقت " مساجدنا " بصيغة الجمع. قوله: "قلت ما يعني به" لم أقف على تعيين القائل والمقول له وأظن السائل ابن جريج والمسئول عطاء، في مصنف عبد الرزاق ما يرشد إلى ذلك، وجزم الكرماني بأن القائل عطاء والمسئول جابر، وعلى هذا فالضمير في " أراه " للنبي صلى الله عليه وسلم وهو بضم الهمزة أي أظنه، و " نيئه " تقدم ضبطه. قوله: "وقال مخلد بن يزيد عن ابن جريج إلا نتنه" بفتح النون وسكون المثناة من فوق بعدها نون أخرى، ولم أجد طريق مخلد هذه موصولة بالإسناد المذكور، وقد أخرج السراج عن أبي كريب عن مخلد هذا الحديث لكن قال: "عن أبي الزبير " بدل عطاء عن جابر، ولم يذكر المقصود من التعليق المذكور، إلا أنه قال فيه: "ألم أنهكم عن هذه البقلة الخبيثة أو المنتنة " فإن كان أشار إلى ذلك وإلا فنا أظنه إلا تصحيفا، فقد رواه أبو عوانة في صحيحه من طريق روح بن عبادة عن ابن جريج كما قال أبو عاصم، ورواه عبد الرزاق عن ابن جريج بلفظ: "أراه يعني النيئة التي لم تطبخ " وكذا لأبي نعيم في المستخرج من طريق ابن أبي عدي عن ابن جريج بلفظ: "يريد النيئ الذي لم يطبخ " وهو تفسير للنيئ بأنه الذي لم يطبخ وهو حقيقته كما تقدم، وقد يطلق على أعم من ذلك وهو ما لم ينضج فيدخل فيه ما طبخ قليلا ولم يبلغ النضج. قوله: "عن يونس" هو ابن يزيد. قوله: "زعم عطاء" هو ابن أبي رباح وفي رواية الأصيلي: "عن عطاء"، ولمسلم من وجه آخر عن ابن وهب " حدثني عطاء". قوله: "أن جابر بن عبد الله زعم" قال الخطابي لم يقل زعم على وجه التهمة، لكنه لما كان أمرا مختلفا فيه أتى بلفظ الزعم لأن هذا اللفظ لا يكاد يستعمل إلا في أمر يرتاب به أو يختلف فيه. قلت: وقد يستعمل في القول المحقق أيضا كما تقدم، وكلام الخطابي لا ينفي ذلك. وفي رواية أحمد بن صالح الآتية عن جابر ولم يقل " زعم". قوله: "فليعتزلنا أو فليعتزل مسجدنا" شك من الراوي وهو الزهري، ولم تختلف الرواة عنه في ذلك قوله: "أو ليقعد في بيته" كذا لأبي ذر بالشك أيضا، ولغيره: "وليقعد في بيته " بواو العطف، وكذا لمسلم، وهي أخص من الاعتزال لأنه أعم من أن يكون في البيت أو غيره. قوله: "وأن النبي صلى الله عليه وسلم" هذا حديث آخر، وهو معطوف على الإسناد المذكور، والتقدير وحدثنا سعيد بن عفير بإسناده أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى، وقد تردد البخاري فيه هل هو موصول أو مرسل كما سيأتي وهذا الحديث الثاني كان متقدما على الحديث الأول بست سنين، لأن الأول تقدم في حديث ابن عمر وغيره أنه وقع منه صلى الله عليه وسلم في غزوة خيبر وكانت سنة سبع، وهذا وقع في السنة الأولى عند قدومه صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ونزوله في بيت أبي أيوب الأنصاري كما سأبينه. قوله: "أتى بقدر" بكسر القاف وهو ما يطبخ فيه، ويجوز

(2/341)


فيه التأنيث والتذكير، والتأنيث أشهر، لكن الضمير في قوله: "فيه خضرات " يعود على الطعام الذي في القدر، فالتقدير أتى بقدر من طعام فيه خضرات، ولهذا لما أعاد الضمير على القدر أعاده بالتأنيث حيث قال: "فأخبر بما فيها " وحيث قال: "قربوها " وقوله: "خضرات " بضم الخاء وفتح الضاد المعجمتين كذا ضبط في رواية أبي ذر، ولغيره بفتح أوله وكسر ثانية وهو جمع خضرة، ويجوز مع ضم أوله ضم الضاد وتسكينها أيضا. قوله: "إلى بعب أصحابه" قال الكرماني فيه النقل بالمعنى، إذ الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقله بهذا اللفظ بل قال قربوها إلى فلان مثلا، أو فيه حذف أي قال قربوها مشيرا أو أشار إلى بعض أصحابه. قلت والمراد بالبعض أبو أيوب الأنصاري، ففي صحيح مسلم من حديث أبي أيوب في قصة نزول النبي صلى الله عليه وسلم عليه قال فكان يصنع للنبي صلى الله عليه وسلم طعاما فإذا جئ به إليه - أي بعد أن يأكل النبي صلى الله عليه وسلم منه - سأل عن موضع أصابع النبي صلى الله عليه وسلم، فصنع ذلك مرة فقيل له: لم يأكل، وكان الطعام فيه ثوم، فقال: أحرام هو يا رسول الله؟ قال: لا ولكن أكرهه" . قوله: "كل فإني أناجي من لا تناجي" أي الملائكة، وفي حديث أبي أيوب عند ابن خزيمة وابن حبان من وجه أخر " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل إليه بطعام من خضرة فيه بصل أو كراث فلم ير فيه أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبي أن يأكل، فقال له: ما منعك؟ قال: لم أر أثر يدك قال: أستحي من ملائكة الله وليس بمحرم " ولهما من حديث أم أيوب قالت: نزل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فتكلفنا له طعاما فيه بعض البقول، فذكر الحديث نحوه وقال فيه: "كلوا، فإني لست كأحد منكم، إني أخاف أو ذي صاحبي". قوله: "وقال أحمد بن صالح عن ابن وهب أتى ببدر" مراده أن أحمد بن صالح خالف سعيد بن عفير في هذه اللفظة فقط وشاركه في سائر الحديث عن ابن وهب بإسناده المذكور، وقد أخرجه البخاري في الاعتصام قال: "حدثنا أحمد بن صالح " فذكره بلفظ: "أتى ببدر " وفيه قول ابن وهب " يعني طبقا فيه خضرات"، وكذا أخرجه أبو داود عن أحمد بن صالح، لكن أخر تفسير ابن وهب فذكره بعد فراغ الحديث. وأخرجه مسلم عن أبي الطاهر وحرملة كلاهما عن ابن وهب فقال: "بقدر " بالقاف ورجح جماعة من الشراح رواية أحمد بن صالح لكون ابن وهب فسر " البدر " بالطبق فدل على أنه حدث به كذلك، وزعم بعضهم أن لفظة " بقدر " تصحيف لأنها تشعر بالطبخ وقد ورد الإذن بأكل البقول مطبوخة، بخلاف الطبق فظاهره أن البقول كانت فيه نيئة. والذي يظهر لي أن رواية: "القدر " أصح لما تقدم من حديث أبي أيوب وأم أيوب جميعا، فإن فيه التصريح بالطعام، ولا تعارض بين امتناعه صلى الله عليه وسلم من أكل الثوم وغيره مطبوخا وبين إذنه لهم في أكل ذلك مطبوخا، فقد علل ذلك بقوله: "إني لست كأحد منكم " وترجم ابن خزيمة على حديث أبي أيوب ذكر ما خص الله نبيه به من ترك أكل الثوم ونحوه مطبوخا، وقد جمع القرطبي في " المفهم " بين الروايتين بأن الذي في القدر لم ينضج حتى تضمحل رائحته فبقي في حكم النيئ. قوله: "ببدر" بفتح الموحدة وهو الطبق، سمي بذلك لاستدارته تشبيها له بالقمر عند كماله. قوله: "ولم يذكر الليث وأبو صفوان عن يونس قصة القدر" أما رواية الليث فوصلها الذهلي في " الزهريات " وأما رواية أبي صفوان وهو الأموي فوصلها المؤلف في الأطعمة عن علي بن المديني عنه واقتصر على الحديث الأول وكذا اقتصر عقيل عن الزهري كما أخرجه ابن خزيمة. قوله: "فلا أدري الخ" هو من كلام البخاري، ووهم من زعم أنه كلام أحمد بن صالح أو من فوقه، وقد قال البيهقي: الأصل أن ما كان من الحديث متصلا به فهو منه حتى يجيء البيان الواضح بأنه مدرج فيه. قوله: "عن عبد العزيز" هو ابن صهيب. قوله: "سأل رجل" لم أقف على تسميته،

(2/342)


وقد تقدم الكلام على إطلاق الشجرة على الثوم، وقوله: "فلا يقربن " بفتح الراء والموحدة وتشديد النون، وليس في هذا تقييد النهي بالمسجد فيستدل بعمومه على إلحاق المجامع بالمساجد كمصلي العيد والجنازة ومكان الوليمة، وقد ألحقها بعضهم بالقياس والتمسك بهذا العموم أولى، ونظيره قوله: "وليقعد في بيته " كما تقدم، لكن قد علل المنع في الحديث بترك أذى الملائكة وترك أذى المسلمين، فإن كان كل منهما جزء علة اختص النهي بالمساجد وما في معناها، وهذا هو الأظهر، وإلا لعم النهي كل مجمع كالأسواق، ويؤيد هذا البحث قوله في حديث أبي سعيد عند مسلم: "من أكل من هذه الشجرة شيئا فلا يقربنا في المسجد " قال القاضي ابن العربي: ذكر الصفة في الحكم يدل على التعليل بها، ومن ثم رد على المازري حيث قال: لو أن جماعة مسجد أكلوا كلهم ما له رائحة كريهة لم يمنعوا منه، بخلاف ما إذا أكل بعضهم، لأن المنع لم يختص بهم بل بهم وبالملائكة، وعلى هذا يتناول المنع من تناول شيئا من ذلك ودخل المسجد مطلقا ولو كان وحده. واستدل بأحاديث الباب على أن صلاة الجماعة ليست فرض عين. قال ابن دقيق العيد لأن اللازم من منعه أحد أمرين: إما أن يكون أكل هذه الأمور مباحا فتكون صلاة الجماعة ليست فرض عين، أو حراما فتكون صلاة الجماعة فرضا. وجمهور الأمة على إباحة أكلها فيلزم أن لا تكون الجماعة فرض عين. وتقريره أن يقال: أكل هذه الأمور جائز، ومن لوازمه ترك صلاة الجماعة، وترك الجماعة في حق آكلها جائز، ولازم الجائز جائز وذلك ينافي الوجوب صلى الله عليه وسلم. ونقل عن أهل الظاهر أو بعضهم تحريمها بناء على أن الجماعة فرض عين، وتقريره أن يقال: صلاة الجماعة فرض عين، ولا تتم إلا بترك أكلها، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فترك أكل هذا واجب فيكون حراما ا ه. وكذا نقله غيره عن أهل الظاهر، لكن صرح ابن حزم منهم بأن أكلها حلال مع قوله بأن الجماعة فرض عين، وانفصل عن اللزوم المذكور بأن المنع من أكلها مختص بمن علم بخروج الوقت قبل زوال الرائحة. ونظيره أن صلاة الجمعة فرض عين بشروطها، ومع ذلك تسقط بالسفر. وهو في أصله مباح، لكن يحرم على من أنشأه بعد سماع النداء. وقال ابن دقيق العيد أيضا: قد يستدل بهذا الحديث على أن أكل هذه الأمور من الأعذار المرخصة في ترك حضور الجماعة، وقد يقال: إن هذا الكلام خرج مخرج الزجر عنها فلا يقتضي ذلك أن يكون عذرا في تركها إلا أن تدعو إلى أكلها ضرورة. قال: ويبعد هذا من وجه تقريبه إلى بعض أصحابه، فإن ذلك ينفي الزجر ا هـ. ويمكن حمله على حالتين، والفرق بينهما أن الزجر وقع في حق من أراد إتيان المسجد، والإذن في التقريب وقع في حالة لم يكن فيها ذلك، بل لم يكن المسجد النبوي إذ ذاك بني، فقد قدمت أن الزجر متأخر عن قصة التقريب بست سنين. وقال الخطابي: توهم بعضهم أن أكل الثوم عذر في التخلف عن الجماعة، وإنما هو عقوبة لآكله على فعله إذ حرم فضل الجماعة ا ه. وكأنه يخص الرخصة بما لا سبب للمرء فيه كالمطر مثلا، لكن لا يلزم من ذلك أن يكون أكلها حراما، ولا أن الجماعة فرض عين. واستدل المهلب بقوله: "فإني أناجي من لا تناجي " على أن الملائكة أفضل من الآدميين. وتعقب بأنه لا يلزم من تفضيل بعض
ـــــــ
(1)ليس هذا التقرير بجيد , والصواب أن إباحة أكل هذه الخضروات ذوات الرائحة الكريهة لاينافي كون الجماعة فرض عين , كما أن حضور الطعام يسوغ ترك الجماعة لمن قدم بين يديه مع كون ذلك مباحا . وخلاصة الكلام أن الله سبحانه يسر على عباده , وجعل مثل هذه المباحات عذرا في ترك الجماعة لمصلحة شرعية , فإذا أراد أحد أن يتخذها حيلة لترك الجماعة حرم عليه ذلك . والله أعلم

(2/343)


الأفراد على بعض تفضيل الجنس على الجنس، واختلف هل كان أكل ذلك حراما على النبي صلى الله عليه وسلم أو لا؟ والراجح الحل لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "وليس بمحرم " كما تقدم من حديث أبي أيوب عند ابن خزيمة. ونقل ابن التين عن مالك قال: الفجل إن كان يظهر ريحه فهو كالثوم. وقيده عياض بالجشاء. قلت: وفي الطبراني الصغير من حديث أبي الزبير عن جابر التنصيص على ذكر الفجل في الحديث، لكن في إسناده يحيى بن راشد وهو ضعيف. وألحق بعضهم بذلك من بفيه بخر أو به جرح له رائحة. وزاد بعضهم فألحق أصحاب الصنائع كالسماك، والعاهات كالمجذوم، ومن يؤذي الناس بلسانه، وأشار ابن دقيق العيد إلى أن ذلك كله توسع غير مرضي. "فائدة": حكم رحبة المسجد وما قرب منها حكمه، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم إذا وجد ريحها في المسجد أمر بإخراج من وجدت منه إلى البقيع كما ثبت في مسلم عن عمر رضي الله عنه. "تنبيه": وقع في حديث حذيفة عند ابن خزيمة: "من أكل من هذه البقلة الخبيثة فلا يقربن مسجدنا، ثلاثا" . وبوب عليه " توقيت النهي عن إتيان الجماعة لآكل الثوم " وفيه نظر، لاحتمال أن يكون قوله: "ثلاثا " يتعلق بالقول، أي قال ذلك ثلاثا، بل هذا هو الظاهر، لأن علة المنع وجود الرائحة وهي لا تستمر هذه المدة.

(2/344)


باب وضوء الصيان ومتى يجب عليهم الغسل والطهور
...
161 - باب وُضُوءِ الصِّبْيَانِ وَمَتَى يَجِبُ عَلَيْهِمْ الْغُسْلُ وَالطُّهُورُ وَحُضُورِهِمْ الْجَمَاعَةَ وَالْعِيدَيْنِ وَالْجَنَائِزَ وَصُفُوفِهِمْ
857- حدثنا بن المثنى قال حدثني غندر قال حدثنا شعبة قال سمعت سليمان الشيباني قال سمعت الشعبي قال أخبرني من مر مع النبي صلى الله عليه وسلم على قبر منبوذ فأمهم وصفوا عليه فقلت يا أبا عمرو من حدثك فقال بن عباس "
[الحديث857- أطرافه في:2665,895,880,879]
858-حدثنا علي بن عبد الله قال حدثنا سفيان قال حدثني صفوان بن سليم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الغسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم "
[الحديث858 –أطرافه : 22665,895,880,879]
859- حدثنا علي بن عبد الله قال أخبرنا سفيان عن عمرو قال أخبرني كريب عن بن عباس رضي الله عنهما قال ثم بت ثم خالتي ميمونة ليلة فنام النبي صلى الله عليه وسلم فلما كان في بعض الليل قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوضأ من شن معلق وضوءا خفيفا يخففه عمرو ويقلله جدا ثم قام يصلي فقمت فتوضأت نحوا مما توضأ ثم جئت فقمت عن يساره فحولني فجعلني عن يمينه ثم صلى ما شاء الله ثم اضطجع فنام حتى نفخ فأتاه المنادي يأذنه بالصلاة فقام معه إلى الصلاة فصلى ولم يتوضأ قلنا لعمرو إن ناسا يقولون إن النبي صلى الله عليه وسلم تنام عينه ولا ينام قلبه قال عمرو سمعت عبيد بن عمير يقول إن رؤيا الأنبياء وحي ثم قرأ {إني أرى في المنام أني أذبحك}

(2/344)


860- حدثنا إسماعيل قال حدثني مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك أن جدته مليكة دعت رسول الله صلى الله عليه وسلم لطعام صنعته فأكل منه فقال قوموا فلأصلي بكم فقمت إلى حصير لنا قد اسود من طول ما لبس فنضحته بماء فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم واليتيم معي والعجوز من ورائنا فصلى بنا ركعتين "
861- حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن بن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن بن عباس رضي الله عنهما أنه قال ثم أقبلت راكبا على حمار أتان وأنا يومئذ قد ناهزت الاحتلام ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس بمنى جدار فمررت بين يدي بعض الصف فنزلت وأرسلت الأتان ترتع ودخلت في الصف فلم ينكر ذلك علي أحد
862- حدثنا أبو اليمان قال أخبرنا شعيب عن الزهري قال أخبرني عروة بن الزبير أن عائشة قالت أعتم النبي صلى الله عليه وسلم وقال عياش حدثنا عبد الأعلى حدثنا معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت أعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم في العشاء حتى ناداه عمر قد نام النساء والصبيان فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إنه ليس أحد من أهل الأرض يصلي هذه الصلاة غيركم ولم يكن أحد يومئذ أهل المدينة "
863- حدثنا عمرو بن علي قال حدثنا يحيى قال حدثنا سفيان حدثني عبد الرحمن بن عابس سمعت بن عباس رضي الله عنهما قال له رجل شهدت الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال نعم ولولا مكاني منه ما شهدته يعني من صغره أتى العلم الذي ثم دار كثير بن الصلت ثم خطب ثم أتى النساء فوعظهن وذكرهن وأمرهن أن يتصدقن فجعلت المرأة تهوي بيدها إلى حلقها تلقي في ثوب بلال ثم أتى هو وبلال البيت "
قوله: "باب وضوء الصبيان" قال الزين بن المنير: لم ينص على حكمه، لأنه لو عبر بالندب لاقتضى صحة صلاة الصبي بغير وضوء، ولو عبر بالوجوب لاقتضى أن الصبي يعاقب على تركه كما هو حد الواجب، فأتى بعبارة سالمة من ذلك، وإنما لم يذكر الغسل لندور موجبه من الصبي بخلاف الوضوء، ثم أردفه بذكر الوقت الذي يجب فيه ذلك عليه فقال: ومتى يجب عليهم الغسل والطهور " وقوله: "والطهور " من عطف العام على الخاص، وليس في أحاديث الباب تعيين وقت الإيجاب إلا في حديث أبي سعيد فإن مفهومه أن غسل الجمعة لا يجب على غير المحتلم، فيؤخذ منه أن الاحتلام شرط لوجوب الغسل، وأما ما رواه أبو داود والترمذي وصححه وكذا ابن خزيمة والحاكم من طريق عبد الملك بن الربيع بن سبرة عن أبيه عن جده مرفوعا: "علموا الصبي الصلاة ابن سبع، واضربوه عليها ابن عشر " فهو وإن اقتضى تعيين وقت الوضوء لتوقف الصلاة عليه فلم يقل بظاهر إلا بعض أهل العلم، قالوا: تجب الصلاة

(2/345)


على الصبي للأمر بضربه على تركها، وهذه صفة الوجوب، وبه قال أحمد في رواية، وحكى البندنيجي أن الشافعي أومأ إليه. وذهب الجمهور إلى أنها لا تجب عليه إلا بالبلوغ. وقالوا: الأمر بضربه للتدريب. وجزم البيهقي بأنه منسوخ بحديث: "رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم " لأن الرفع يستدعي سبق وضع. وسيأتي البحث في ذلك في كتاب النكاح. ويؤخذ من إطلاق الصبي على ابن سبع الرد على من زعم أنه لا يسمى صبيا إلا إذا كان رضيعا، ثم يقال له غلام إلى أن يصير ابن سبع، ثم يصير يافعا إلى عشر، ويوافق الحديث قول الجوهري: الصبي الغلام. قوله: "وحضورهم" بالجر عطفا على قوله: "وضوء الصبيان " وكذا قوله: "وصفوفهم". ثم أورد في الباب سبعة أحاديث أولها حديث ابن عباس في الصلاة على القبر، والغرض منه صلاة ابن عباس معهم ولم يكن إذ ذاك بالغا كما سيأتي دليله في خامس أحاديث الباب، وسيأتي الكلام عليه في كتاب الجنائز إن شاء الله تعالى. ثانيها حديث أبي سعيد، وقد تقدم توجيه إيراده، ويأتي الكلام عليه في كتاب الجمعة إن شاء الله تعالى. ثالثها حديث ابن عباس في مبيته في بيت ميمونة، وفيه وضوؤه وصلاته مع النبي صلى الله عليه وسلم وتقريره له على ذلك بأن حوله فجعله عن يمينه، وقد تقدم من هذا الوجه في أوائل كتاب الطهارة، ويأتي بقية مباحثه في كتاب الوتر إن شاء الله تعالى. رابعها حديث أنس في صف اليتيم معه خلف النبي صلى الله عليه وسلم، ومطابقته للترجمة من جهة أن اليتم دال على الصبا إذ لا يتم بعد احتلام، وقد أقره صلى الله عليه وسلم على ذلك. خامسها حديث ابن عباس في مجيئه إلى منى ومروره بين يدي بعض الصف، ودخوله معهم وتقريره على ذلك وقال فيه إنه كان ناهز الاحتلام أي قاربه، وقد تقدمت مباحثه في أبواب سترة المصلي. سادسها حديث عائشة في تأخير العشاء حتى قال عمر " نام النساء والصبيان " قال ابن رشيد: فهم منه البخاري أن النساء والصبيان الذين ناموا كانوا حضورا في المسجد، وليس الحديث صريحا في ذلك، إذ يحتمل أنهم ناموا في البيوت، لكن الصبيان جمع محلى باللام فيعم من كان منهم مع أمه أو غيرها في البيوت ومن كان مع أمه في المسجد، وقد أورد المصنف في الباب الذي يليه حديث أبي قتادة رفعه: "إني لأقوم إلى الصلاة " الحديث وفيه: "فأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي كراهية أن أشق على أمه " وقد قدمنا في شرحه في أبواب الجماعة أن الظاهر أن الصبي كان مع أمه في المسجد وأن احتمال أنها كانت تركته نائما في بيتها وحضرت الصلاة فاستيقظ في غيبتها فبكى بعيد، لكن الظاهر الذي فهمه أن القضاء بالمرئي أولى من القضاء بالمقدر. انتهى. وقد تقدمت مباحثه في أبواب المواقيت، وساقه المصنف هنا من طريق معمر وشعيب بلفظ معمر ثم ساق لفظ شعيب في الباب الذي بعده، وقوله: "قال عياش " وقع في بعض الروايات " قال لي عياش " وهو بالتحتانية والمعجمة، وتحول الإسناد عند الأكثر من بعد الزهري، وأتمه في رواية المستملي، ثم ختم الباب بحديث ابن عباس في شهوده صلاة العيد مع النبي صلى الله عليه وسلم وقد صرح فيه بأنه كان صغيرا وسيأتي الكلام عليه في كتاب العيدين، وترجم له هناك " باب خروج الصبيان إلى المصلى " واستشكل قوله في الترجمة " وصفوفهم " لأنه يقتضي أن يكون للصبيان صفوف تخصهم وليس في الباب ما يدل على ذلك وأجيب بأن المراد بصفوفهم وقوفهم في الصف مع غيرهم، وفقه ذلك هل يخرج من وقف معه الصبي في الصف عن أن يكون فردا حتى يسلم من بطلان صلاته عند من يمنعه أو كراهته وظاهر حديث أنس يقتضي الإجزاء، فهو حجة على من منع ذلك من الحنابلة مطلقا، وقد نص أحمد على أنه يجزئ في النفل دون الفرض وفيه ما فيه
ـــــــ
(1)الصواب صحة مصافة الصبي في الفرض والنفل , لحديثي أنس وأبن عباس المذكورين في هذا الباب , والأصل أن الفريضة والنافلة سواء في الأحكام إلا ماخصه الدليل , وليس هنا دليل يمنع من مصافة الصبي في الفرض فوحبت التسوية بينهما . والله أعلم

(2/346)


باب خروج النساء إلى المساجد باليل والغلس
...
162 - باب خُرُوجِ النِّسَاءِ إِلَى الْمَسَاجِدِ بِاللَّيْلِ وَالْغَلَسِ
864- حدثنا أبو اليمان قال أخبرنا شعيب عن الزهري قال أخبرني عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها قالت " أعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعتمة حتى ناداه عمر نام النساء والصبيان فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فقال ما ينتظرها أحد غيركم من أهل الأرض ولا يصلي يومئذ إلا بالمدينة وكانوا يصلون العتمة فيما بين أن يغيب الشفق إلى ثلث الليل الأول
865- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ حَنْظَلَةَ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا اسْتَأْذَنَكُمْ نِسَاؤُكُمْ بِاللَّيْلِ إِلَى الْمَسْجِدِ فَأْذَنُوا لَهُنَّ "
تَابَعَهُ شُعْبَةُ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قوله: "باب خروج النساء إلى المساجد بالليل والغلس" أورد فيه ستة أحاديث تقدم الكلام عليها إلا الثاني والأخير، وبعضها مطلق في الزمان وبعضها مقيد بالليل أو الغلس، فحمل المطلق في الترجمة على المقيد، وللفقهاء في ذلك تفاصيل ستأتي الإشارة إلى بعضها. فأول أحاديث الباب حديث عائشة في تأخير العشاء حتى نادى عمر: نام النساء والصبيان، وقد تقدم سادسا لأحاديث الباب الذي قبله. ثانيها حديث ابن عمر في النهي عن منع النساء عن المسجد. ثالثها حديث أم سلمة في مكث الإمام بعد السلام حتى ينصرف النساء، وقد تقدم الكلام عليه قبل أربعة أبواب. رابعها حديث عائشة في صلاة الصبح بغلس ورجوع النساء متلفعات، وقد تقدم الكلام عليه قبل في المواقيت. خامسها حديث أبي قتادة في تخفيف الصلاة حين بكى الصبي لأجل أمه، وقد تقدم الكلام عليه في الإمامة. سادسها حديث عائشة في منع نساء بني إسرائيل المساجد، وسأذكر فوائده بعد الكلام على الحديث الثاني وهو حديث ابن عمر. قوله: "عن حنظلة" هو ابن أبي سفيان الجمحي، وسالم بن عبد الله أي ابن عمر. قوله: "إذا استأذنكم نساؤكم بالليل إلى المسجد" لم يذكر أكثر الرواة عن حنظلة قوله: "بالليل " كذلك أخرجه مسلم وغيره، وقد اختلف فيه على الزهري عن سالم أيضا، فأورده المصنف بعد بابين من رواية معمر ومسلم من رواية يونس بن يزيد وأحمد من رواية عقيل والسراج من رواية الأوزاعي كلهم من الزهري بغير تقييد، وكذا أخرجه المصنف في النكاح عن علي بن المديني عن سفيان بن عيينة عن الزهري بغير قيد، ووقع عند أبي عوانة في صحيحه عن يونس بن عبد الأعلى عن ابن عيينة مثله لكن قال في آخره: "يعني بالليل " وبين ابن خزيمة عن عبد الجبار بن العلاء أن سفيان بن عيينة هو القائل " يعني"، وله عن سعيد بن عبد الرحمن عن ابن عيينة قال: "قال نافع بالليل"، وله عن يحيى بن حكيم عن ابن عيينة قال: "جاءنا رجل فحدثنا عن نافع قال: إنما هو بالليل " وسمي عبد الرزاق عن ابن عيينة الرجل المبهم فقال بعد روايته عن الزهري " قال ابن عيينة وحدثنا عبد الغفار - يعني ابن القاسم - أنه سمع أبا جعفر يعني الباقر يخبر بمثل هذا عن ابن عمر، قال فقال له نافع مولي ابن عمر: إنما ذلك بالليل " وكأن اختصاص الليل بذلك لكونه أستر، ولا يخفى أن محل ذلك إذا أمنت المفسدة منهن وعليهن، قال النووي: استدل به على أن المرأة لا تخرج من

(2/347)


بيت زوجها إلا بإذنه لنوحه الأمر إلى الأزواج بالإذن، وتعقبه ابن دقيق العيد بأنه إن أخذ من المفهوم فهو مفهوم لقب وهو ضعيف، لكن يتقوى بأن يقال: إن منع الرجال نساءهم أمر مقرر، وإنما علق الحكم بالمساجد لبيان محل الجواز فيبقى ما عداه على المنع، وفيه إشارة إلى أن الإذن المذكور لغير الوجوب، لأنه لو كان واجبا لانتفى معنى الاستئذان، لأن ذلك إنما يتحقق إذا كان المستأذن مخيرا في الإجابة أو الرد. قوله: "تابعه شعبة عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عمر" ذكر المزي في الأطراف تبعا لخلف وأبي مسعود أن هذه المتابعة وقعت بعد رواية ورقاء عن عمرو بن دينار عن مجاهد عن ابن عمر بهذا الحديث، ولم أقف على ذلك في شيء من الروايات التي اتصلت لنا من البخاري في هذا الموضع، وإنما وقعت المتابعة المذكورة عقب رواية حنظلة عن سالم، وقد وصلها أحمد قال: "حدثنا محمد بن جعفر قال حدثنا شعبة " فذكر الحديث بزيادة سيأتي ذكرها قريبا. نعم أخرج البخاري رواية ورقاء في أوائل كتاب الجمعة بلفظ: "ائذنوا للنساء بالليل إلى المساجد " ولم يذكر بعده متابعة ولا غيرها، ووافقه مسلم على إخراجه من هذا الوجه أيضا وزاد فيه: "فقال له ابن له يقال له واقد: إذا يتخذنه دغلا، قال: فضرب في صدره وقال: أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول لا " ولم أر لهذه القصة ذكرا في شيء من الطرق التي أخرجها البخاري لهذا الحديث، وقد أوهم صنيع صاحب العمدة خلاف ذلك، ولم يتعرض لبيان ذلك أحد من شراحه، وأظن البخاري اختصرها للاختلاف في تسمية ابن عبد الله بن عمر، فقد رواه مسلم من وجه آخر عن ابن عمر وسمي الابن بلالا فأخرجه من طريق كعب بن علقمة عن بلال بن عبد الله بن عمر عن أبيه بلفظ: "لا تمنعوا النساء حظوظهن المساجد إذا استأذنكم، فقال بلال: والله لنمنعهن " الحديث. وللطبراني من طريق عبد الله بن هبيرة عن بلال بن عبد الله نحوه وفيه: "فقلت أما أنا فسأمنع أهلي، فمن شاء فليسرح أهله " وفي رواية يونس عن ابن شهاب الزهري عن سالم في هذا الحديث: "قال فقال بلال بن عبد الله: والله لنمنعهن " ومثله في رواية عقيل عند أحمد، وعنده في رواية شعبة عن الأعمش المذكورة " فقال سالم أو بعض بنيه: والله لا ندعهن يتخذنه دغلا " الحديث. والراجح من هذا أن صاحب القصة بلال لورود ذلك من روايته نفسه ومن رواية أخيه سالم، ولم يختلف عليهما في ذلك. وأما هذه الرواية الأخيرة فمرجوحة لوقوع الشك فيها، ولم أره مع ذلك في شيء من الروايات عن الأعمش مسمى ولا عن شيخه مجاهد، فقد أخرجه أحمد من رواية إبراهيم بن مهاجر وابن أبي نجيح وليث بن أبي سليم كلهم عن مجاهد ولم يسمه أحد منهم، فإن كانت رواية عمرو بن دينار عن مجاهد محفوظة في تسميته واقدا فيحتمل أن يكون كل من بلال وواقع وقع منه ذلك إما في مجلس أو في مجلسين، وأجاب ابن عمر كلا منهما بجواب يليق به، ويقويه اختلاف النقلة في جواب ابن عمر، ففي رواية بلال عند مسلم: "فأقبل عليه عبد الله فسبه سبا سيئا ما سمعته يسبه مثله قط " وفسر عبد الله بن هبيرة في رواية الطبراني السب المذكور باللعن ثلاث مرات. وفي رواية زائدة عن الأعمش " فانتهره وقال: أف لك " وله عن ابن نمير عن الأعمش " فعل الله بك وفعل " ومثله للترمذي من رواية عيسى بن يونس، ولمسلم من رواية أبي معاوية " فزبره " ولأبي داود من رواية جرير " فسبه وغضب " فيحتمل أن يكون بلال البادئ فلذلك أجابه بالسب المفسر باللعن، وأن يكون واقد بدأه فلذلك أجابه بالسب المفسر بالتأفيف مع الدفع في صدره، وكأن السر في ذلك أن بلالا عارض الخبر برأيه ولم يذكر علة المخالفة، ووافقه واقد لكن ذكرها بقوله: "يتخذنه دغلا " وهو بفتح المهملة ثم المعجمة وأصله الشجر الملتف ثم استعمل في المخادعة لكون المخادع

(2/348)


يلف في ضميره أمرا ويظهر غيره، وكأنه قال ذلك لما رأى من فساد بعض النساء في ذلك الوقت وحملته على ذلك الغيرة، وإنما أنكر عليه ابن عمر لتصريحه بمخالفة الحديث، وإلا فلو قال مثلا إن الزمان قد تغير وإن بعضهن ربما ظهر منه قصد المسجد وإضمار غيره لكان يظهر أن لا ينكر عليه، وإلى ذلك أشارت عائشة بما ذكر في الحديث الأخير. وأخذ من إنكار عبد الله على ولده تأديب المعترض على السنن برأيه، وعلى العالم بهواه، وتأديب الرجل ولده وإن كان كبيرا إذا تكلم بما لا ينبغي له، وجواز التأديب بالهجران، فقد وقع في رواية ابن أبي نجيح عن مجاهد عند أحمد " فما كلمه عبد الله حتى مات " وهذا إن كان محفوظا يحتمل أن يكون أحدهما مات عقب هذه القصة بيسير.

(2/349)


163- باب انتظار الناس قيام الإمام العالم
866- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ حَدَّثَتْنِي هِنْدُ بِنْتُ الْحَارِثِ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَتْهَا أَنَّ النِّسَاءَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُنَّ إِذَا سَلَّمْنَ مِنْ الْمَكْتُوبَةِ قُمْنَ وَثَبَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ صَلَّى مِنْ الرِّجَالِ مَا شَاءَ اللَّهُ فَإِذَا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ الرِّجَالُ "
867- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ ح
وحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ إِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيُصَلِّي الصُّبْحَ فَيَنْصَرِفُ النِّسَاءُ مُتَلَفِّعَاتٍ بِمُرُوطِهِنَّ مَا يُعْرَفْنَ مِنْ الْغَلَسِ
868- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مِسْكِينٍ قَالَ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ بَكْرٍ أَخْبَرَنَا الأَوْزَاعِيُّ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ الأَنْصَارِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي لاَقُومُ إِلَى الصَّلاَةِ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُطَوِّلَ فِيهَا فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلاَتِي كَرَاهِيَةَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمِّهِ "
869- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ لَوْ أَدْرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَحْدَثَ النِّسَاءُ لَمَنَعَهُنَّ كَمَا مُنِعَتْ نِسَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ قُلْتُ لِعَمْرَةَ أَوَمُنِعْنَ قَالَتْ نَعَمْ
ثم ذكر المصنف في الباب أحاديث في مطلق حضور النساء الجماعة مع الرجال وهي حديث أم سلمة " أن النساء كن إذا سلمن من الصلاة قمن وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد مضى الكلام عليه في أواخر صفة الصلاة. وحديث عائشة " إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي الصبح فينصرف النساء متلفعات " وقد تقدم شرحه في المواقيت. حديث أبي قتادة رفعه: "إني لأقوم في الصلاة " الحديث وفيه: "فأتجوز في صلاتي كراهية أن أشق على أمه " وقد تقدم شرحه في أبواب الإمامة، قال ابن دقيق العيد: هذا الحديث عام في النساء، إلا أن الفقهاء خصوه بشروط: منها أن لا تتطيب، وهو في بعض الروايات " وليخرجن تفلات " قلت: هو بفتح المثناة وكسر الفاء أي غير متطيبات، ويقال امرأة تفلة إذا كانت متغيرة الريح، وهو عند أبي داود وابن خزيمة من حديث أبي هريرة وعند ابن حبان من حديث

(2/349)


زيد بن خالد وأوله " لا تمنعوا إماء الله مساجد الله " ولمسلم من حديث زينب امرأة ابن مسعود " إذا شهدت إحداكن المسجد فلا تمسن طيبا " انتهى. قال: ويلحق بالطيب ما في معناه لأن سبب المنع منه ما فيه من تحريك داعية الشهوة كحسن الملبس والحلي الذي يظهر والزينة الفاخرة وكذا الاختلاط بالرجال، وفرق كثير من الفقهاء المالكية وغيرهم بين الشابة وغيرها وفيه نظر، إلا إن أخذ الخوف عليها من جهتها لأنها إذا عريت مما ذكر وكانت مستترة حصل الأمن عليها ولا سيما إذا كان ذلك بالليل. وقد ورد في بعض طرق هذا الحديث وغيره ما يدل على أن صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في المسجد، وذلك في رواية حبيب بن أبي ثابت عن ابن عمر بلفظ: "لا تمنعوا نساءكم المساجد، وبيوتهن خير لهن " أخرجه أبو داود وصححه ابن خزيمة. ولأحمد والطبراني من حديث أم حميد الساعدية " أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله، إني أحب الصلاة معك. قال: قد علمت، وصلاتك في بيتك خير لك من صلاتك في حجرتك، وصلاتك في حجرتك خير من صلاتك في دارك، وصلاتك في دارك خير من صلاتك في مسجد قومك، وصلاتك في مسجد قومك خير من صلاتك في مسجد الجماعة " وإسناد أحمد حسن، وله شاهد من حديث ابن مسعود عند أبي داود. ووجه كون صلاتها في الإخفاء أفضل تحقق الأمن فيه من الفتنة، ويتأكد ذلك بعد وجود ما أحدث النساء من التبرج والزينة، ومن ثم قالت عائشة ما قالت، وتمسك بعضهم بقول عائشة في منع النساء مطلقا وفيه نظر، إذ لا يترتب على ذلك تغير الحكم لأنها علقته على شرط لم يوجد بناء على ظن ظنته فقالت: "لو رأى لمنع " فيقال عليه: لم ير ولم يمنع، فاستمر الحكم حتى أن عائشة لم تصرح بالمنع وإن كان كلامها يشعر بأنها كانت ترى المنع. وأيضا فقد علم الله سبحانه ما سيحدثن فما أوحى إلى نبيه بمنعهن، ولو كان ما أحدثن يستلزم منعهن من المساجد لكان منعهن من غيرها كالأسواق أولى. وأيضا فالإحداث إنما وقع من بعض النساء لا من جميعهن، فإن تعين المنع فليكن لمن أحدثت، والأولى أن ينظر إلى ما يخشى منه الفساد فيجتنب لإشارته صلى الله عليه وسلم إلى ذلك بمنع التطيب والزينة، وكذلك التقيد بالليل كما سبق. قوله في حديث عائشة آخر أحاديث الباب "كما منعت نساء بني إسرائيل" وقول عمرة "نعم" في جواب سؤال يحيى بن سعيد لها يظهر أنها تلقته عن عائشة، ويحتمل أن يكون عن غيرها، وقد ثبت ذلك من حديث عروة عن عائشة موقوفا أخرجه عبد الرزاق بإسناد صحيح ولفظه: "قالت: كن نساء بني إسرائيل يتخذن أرجلا من خشب يتشرفن للرجال في المساجد، فحرم الله عليهن المساجد، وسلطت عليهن الحيضة " وهذا وإن كان موقوفا فحكمه حكم الرفع لأنه لا يقال بالرأي صلى الله عليه وسلم، وروى عبد الرزاق أيضا نحوه بإسناد صحيح عن ابن مسعود، وقد أشرت إلى ذلك في أول كتابه الحيض. "تنبيه": وقع في رواية كريمة عقب الحديث الثاني من هذا الباب: "باب انتظار الناس قيام الإمام العالم " وكذا في نسخة الصغاني، وليس ذلك بمعتمد إذ لا تعلق لذلك بهذا الموضع، بل قد تقدم في موضعه من الإمامة بمعناه.

(2/350)


164 - باب صَلاَةِ النِّسَاءِ خَلْفَ الرِّجَالِ
870- حدثنا يحيى بن قزعة قال حدثنا إبراهيم بن سعد عن الزهري عن هند بنت الحارث عن أم
ـــــــ
(1) هذا فيه نظر , والاقرب أنها تلقت ما ذكر عن نساء بني اسرائيل . ويدل إنكار الرفع قولها " وسلطت عليهن الحيضة " والحيض موجود في بني اسرائيل وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعائشة لما حاضت في حجة الوداع " ان هذا شيء كتب الله على بنات آدم " في اثر ابن مسعود المذكور كالكلام في أثر عائشة. والله أعلم.

(2/350)


سلمة رضي الله عنها قالت ثم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلم قام النساء حين يقضي تسليمه ويمكث هو في مقامه يسيرا قبل أن يقوم قال نرى والله أعلم أن ذلك كان لكي ينصرف النساء قبل أن يدركهن أحد من الرجال "
871- حدثنا أبو نعيم قال حدثنا بن عيينة عن إسحاق عن أنس رضي الله عنه قال صلى النبي صلى الله عليه وسلم في بيت أم سليم فقمت ويتيم خلفه وأم سليم خلفنا "
قوله: "باب صلاة النساء خلف الرجال" أورد فيه حديث أم سلمة في مكث الرجال بعد التسليم، وقد تقدم الكلام عليه. ومطابقته للترجمة من جهة أن صف النساء لو كان أمام الرجال أو بعضهم للزم من انصرافهن قبلهم أن يتخطينهم وذلك منهي عنه. ثم أورد فيه حديث أنس في صلاة أم سليم خلفه واليتيم معه، وهو ظاهر فيما ترجم له، وقد تقدم الكلام عليه في آخر أبواب الصفوف. وقوله فيه: "فقمت ويتيم خلفه " فيه شاهد لمذهب الكوفيين في إجازة العطف على الضمير المرفوع المتصل بدون التأكيد.

(2/351)


165 - باب سُرْعَةِ انْصِرَافِ النِّسَاءِ مِنْ الصُّبْحِ وَقِلَّةِ مَقَامِهِنَّ فِي الْمَسْجِدِ
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي الصُّبْحَ بِغَلَسٍ فَيَنْصَرِفْنَ نِسَاءُ الْمُؤْمِنِينَ لاَ يُعْرَفْنَ مِنْ الْغَلَسِ أَوْ لاَ يَعْرِفُ بَعْضُهُنَّ بَعْضًا "
قوله: "باب سرعة انصراف النساء من الصبح" قيد بالصبح لأن طول التأخير فيه يفضي إلى الإسفار، فناسب الإسراع، بخلاف العشاء فإنه يفضي إلى زيادة الظلمة فلا يضر المكث. قوله: "سعيد بن منصور" هو من شيوخ البخاري، وربما روي عنه بواسطة كما هنا. قوله: "فينصرفن" هو على لغة بني الحارث، وكذا قوله: "لا يعرفن بعضهن بعضا " وهذا في رواية الحموي والكشميهني ولغيرهما: "لا يعرف " بالإفراد على الجادة. قوله: "نساء المؤمنين" ذكر الكرماني أن في بعض النسخ " نساء المؤمنات " وذكر توجيهه، وقد تقدم الكلام على هذا الحديث في أبواب المواقيت.

(2/351)


166 - باب اسْتِئْذَانِ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا بِالْخُرُوجِ إِلَى الْمَسْجِدِ
873- حدثنا مسدد حدثنا يزيد بن زريع عن معمر عن الزهري عن سالم بن عبد الله عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم إذا استأذنت امرأة أحدكم فلا يمنعها "
قوله: "باب استئذان المرأة زوجها بالخروج إلى المسجد" أورد فيه حديث ابن عمر، وقد تقدم الكلام عليه قريبا، لكن أورده هنا من طريق يزيد بن زريع عن معمر وليس فيه تقييد بالمسجد. نعم أخرجه الإسماعيلي من هذا الوجه بذكر المسجد، وكذا أخرجه أحمد عن عبد الأعلى عن معمر وزاد فيه زيادة ستأتي قريبا. ومقتضى الترجمة أن جواز الخروج يحتاج إلى إذن الزوج، وقد تقدم البحث فيه أيضا، والله المستعان.

(2/351)


باب صلاة النساء خلف الرجال(1)
874- حدثنا أبو نعيم قال حدثنا ابن عيينه عن اسحاق عن أنس قال " صلى النبي صلى الله عليه وسلم في بيت أم سليم , فقمت ويتيم خلفه وأم سليم خلفنا "
875- حدثنا يحي بن قزعة حدثنا إبراهيم بن سعد عن الزهري عن هند بنت الحارث عن أم سلمة قالت " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلم قام النساء حين يقضي تسليمه , وهو يمكث في مقامه يسيرا قبل أن يقوم . قالت ترى – والله أعلم – أن ذلك كان لكي ينصرف النساء قبل أن يدركهن الرجال "
"خاتمة": اشتملت أبواب صفة الصلاة إلى هنا من الأحاديث المرفوعة على مائة وثمانين حديثا، المعلق منها ثمانية وثلاثون حديثا، والبقية موصولة. المكرر منها - فيها وفيما مضى - مائة حديث وخمسة أحاديث وهي جملة المعلق إلا ثلاثة منه وسبعون أخرى موصولة، فالخالص منها خمسة وسبعون منها الثلاثة المعلقة، وافقه مسلم على تخريجها سوى ثلاثة عشر حديثا وهي: حديث ابن عمر في الرفع عند القيام من الركعتين، وحديث أنس في النهي عن رفع البصر في الصلاة، وحديث عائشة في أن الالتفات اختلاس من الشيطان، وحديث زيد بن ثابت في قراءة الأعراف في المغرب، وحديث أنس في قراءة الرجل قل هو الله أحد وهو معلق، وحديث أبي بكرة في الركوع دون الصف، وحديث أبي هريرة في جمع الإمام بين التسميع والتحميد، وحديث رفاعة في القول في الاعتدال، وحديث أبي سعيد في الجهر بالتكبير، وحديث ابن عمر في سنة الجلوس في التشهد، وحديث أم سلمة في سرعة انصراف النساء بعد السلام، وحديث أبي هريرة " لا يتطوع الإمام في مكانه " وهو معلق، وحديث عقبة بن الحارث في قسمة التبر. وفيه من الآثار الموقوفة على الصحابة وغيرهم ستة عشر أثرا منها ثلاثة موصولة وهي: حديث أبي يزيد عمرو بن سلمة في موافقته في صفه الصلاة لحديث مالك بن الحويرث وقد كرره، وحديث ابن عمر في صلاته متربعا ذكره في أثناء حديثه في سنة الجلوس في التشهد، وحديثه في تطوعه في المكان الذي صلى فيه الفريضة والبقية معلقات. والله أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
ـــــــ
(1) هذه الترجمة تقدمت قريبا برقم الباب 164 , وكذلك حديثا الباب تقدما في ذلك الموضع برقم 871 و 870 فالتكرير وقع في الترجمة والحديثين معا

(2/352)


كتاب الجمعة
مدخل
...
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
11- كِتَاب الْجُمُعَةِ
"كتاب الجمعة" ثبتت هذه الترجمة للأكثر، ومنهم من قدمها على البسملة، وسقطت لكريمة وأبي ذر عن الحموي. والجمعة بضم الميم على المشهور، وقد تسكن وقرأ بها الأعمش، وحكى الواحدي عن الفراء فتحها، وحكى الزجاج الكسر أيضا. والمراد بيان أحكام صلاة الجمعة. واختلف في تسمية اليوم بذلك - مع الاتفاق على أنه كان يسمى في الجاهلية العروبة - بفتح العين المهملة وضم الراء وبالموحدة - فقيل: سمي بذلك لأن كمال الخلائق جمع فيه، ذكره أبو حذيفة النجاري في المبتدأ عن ابن عباس وإسناده ضعيف. وقيل: لأن خلق آدم جمع فيه ورد ذلك من حديث سلمان أخرجه أحمد وابن خزيمة وغيرهما في أثناء حديث، وله شاهد عن أبي هريرة ذكره ابن أبي حاتم موقوفا بإسناد قوي، وأحمد مرفوعا بإسناد ضعيف. وهذا أصح الأقوال. ويليه ما أخرجه عبد بن حميد عن ابن سيرين بسند صحيح إليه في قصة تجميع الأنصار مع أسعد بن زرارة، وكانوا يسمون يوم الجمعة يوم العروبة، فصلى بهم وذكرهم فسموه الجمعة حين اجتمعوا إليه، ذكره ابن أبي حاتم موقوفا. وقيل: لأن كعب بن لؤي كان يجمع قومه فيه فيذكرهم ويأمرهم بتعظيم الحرم ويخبرهم بأنه سيبعث منه نبي، روى ذلك الزبير في " كتاب النسب " عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف مقطوعا وبه جزم الفراء وغيره. وقيل: إن قصيا هو الذي كان يجمعهم ذكره ثعلب في أماليه. وقيل سمي بذلك لاجتماع الناس للصلاة فيه، وبهذا جزم ابن حزم فقال: إنه اسم إسلامي لم يكن في الجاهلية وإنما كان يسمى العروبة. انتهى. وفيه نظر، فقد قال أهل اللغة: أن العروبة اسم قديم كان للجاهلية. وقالوا في الجمعة هو يوم العروبة، فالظاهر أنهم غيروا أسماء الأيام السبعة بعد أن كانت تسمى: أول، أهون، جبار، دبار، مؤنس، عروبة، شبار. وقال الجوهري: كانت العرب تسمي يوم الاثنين أهون في أسمائهم القديمة، وهذا يشعر بأنهم أحدثوا لها أسماء، وهي هذه المتعارفة الآن كالسبت والأحد إلى آخرها. وقيل: إن أول من سمى الجمعة العروبة كعب بن لؤي وبه جزم الفراء وغيره، فيحتاج من قال إنهم غيروها إلا الجمعة فأبقوه على تسمية العروبة إلى نقل خاص. وذكر ابن القيم في الهدى ليوم الجمعة اثنين وثلاثين خصوصية، وفيها أنها يوم عيد ولا يصام منفردا، وقراءة ألم تنزيل وهل أتى في صبيحتها والجمعة والمنافقين فيها، والغسل لها والطيب والسواك ولبس أحسن الثياب، وتبخير المسجد والتبكير والاشتغال بالعبادة حتى يخرج الخطيب، والخطبة والإنصات، وقراءة الكهف، ونفي كراهية النافلة وقت الاستواء، ومنع السفر قبلها، وتضعيف أجر الذاهب إليها بكل خطوة أجر سنة، ونفي تسجير جهنم في يومها، وساعة الإجابة، وتكفير الآثام، وأنها يوم المزيد والشاهد المدخر لهذه الأمة، وخير أيام الأسبوع، وتجتمع فيه الأرواح إن ثبت الخبر فيه، وذكر أشياء أخر فيها نظر، وترك أشياء يطول تتبعها. انتهى ملخصا والله أعلم.

(2/353)


1 - باب فَرْضِ الْجُمُعَةِ
لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} سورة الجمعة

(2/353)


876- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ هُرْمُزَ الأَعْرَجَ مَوْلَى رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا ثُمَّ هَذَا يَوْمُهُمْ الَّذِي فُرِضَ عَلَيْهِمْ فَاخْتَلَفُوا فِيهِ فَهَدَانَا اللَّهُ فَالنَّاسُ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ الْيَهُودُ غَدًا وَالنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ "
قوله: "باب فرض الجمعة" لقول الله تعالى. {إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع } إلى هنا عند الأكثر، وسياق بقية الآية في رواية كريمة وأبي ذر. قوله: "فاسعوا فامضوا" هذا في رواية أبي ذر عن الحموي وحدة، وهو تفسير منه للمراد بالسعي هنا بخلاف قوله في الحديث المتقدم " فلا تأتوها تسعون " فالمراد به الجري. وسيأتي في التفسير أن عمر قرأ: { فامضوا } وهو يؤيد ذلك. واستدلال البخاري بهذه الآية على فرضية الجمعة سبقه إليه الشافعي في الأم، وكذا حديث أبي هريرة ثم قال: فالتنزيل ثم السنة يدلان على إيجابها، قال: وعلم بالإجماع أن يوم الجمعة هو الذي بين الخميس والسبت. وقال الشيخ الموفق: الأمر بالسعي يدل على الوجوب إذ لا يجب السعي إلا إلى واجب. واختلف في وقت فرضيتها فالأكثر على أنها فرضت بالمدينة وهو مقتضى ما تقدم أن فرضيتها بالآية المذكورة وهي مدنية. وقال الشيخ أبو حامد: فرضت بمكة، وهو غريب. وقال الزين ابن المنير: وجه الدلالة من الآية الكريمة مشروعية النداء لها، إذ الأذان من خواص الفرائض، وكذا النهي عن البيع لأنه لا ينهي عن المباح - يعني نهى تحريم - إلا إذا أفضى إلى ترك واجب، ويضاف إلى ذلك التوبيخ على قطعها. قال: وأما وجه الدلالة من الحديث فهو من التعبير بالفرض لأنه للإلزام، وإن أطلق على غير الإلزام كالتقدير لكنه متعين له لاشتماله على ذكر الصرف لأهل الكتاب عن اختياره وتعيينه لهذه الأمة سواء كان ذلك وقع لهم بالتنصيص أم بالاجتهاد. وفي سياق القصة إشعار بأن فرضيتها على الأعيان لا على الكفاية، وهو من جهة إطلاق الفرضية ومن التعميم في قوله: "فهدانا الله له والناس لنا فيه تبع" . قوله: "نحن الآخرون السابقون" في رواية ابن عيينة عن أبي الزناد عند مسلم: "نحن الآخرون ونحن السابقون " أي الآخرون زمانا الأولون منزلة، والمراد أن هذه الأمة وإن تأخر وجودها في الدنيا عن الأمم الماضية فهي سابقة لهم في الآخرة بأنهم أول من يحشر وأول من يحاسب وأول من يقضي بينهم وأول من يدخل الجنة. وفي حديث حذيفة عند مسلم: "نحن الآخرون من أهل الدنيا والأولون يوم القيامة المقضي لهم قبل الخلائق" . وقيل: المراد بالسبق هنا إحراز فضيلة اليوم السابق بالفضل، وهو يوم الجمعة، ويوم الجمعة وإن كان مسبوقا بسبت قبله أو أحد لكن لا يتصور اجتماع الأيام الثلاثة متوالية إلا ويكون يوم الجمعة سابقا. وقيل المراد بالسبق أي إلى القبول والطاعة التي حرمها أهل الكتاب فقالوا سمعنا وعصينا، والأول أقوى، قوله: "بيد" بموحدة ثم تحتانية ساكنة مثل غير وزنا ومعنى، وبه جزم الخليل والكسائي ورجحه ابن سيده، وروى ابن أبي حاتم في مناقب الشافعي عن الربيع عنه أن معنى " بيد " من أجل، وكذا ذكره ابن حبان والبغوي عن المزني عن الشافعي. وقد استبعده عياض ولا بعد فيه، بل معناه أنا سبقنا بالفضل هدينا للجمعة مع تأخرنا في الزمان، بسبب أنهم ضلوا عنها مع تقدمهم، ويشهد له ما وقع في فوائد ابن المقري من طريق أبي صالح عن أبي هريرة بلفظ: "نحن الآخرون في الدنيا ونحن السابقون أول من يدخل الجنة لأنهم أوتوا الكتاب من قبلنا " وفي

(2/354)


موطأ سعيد بن عفير عن مالك عن أبي الزناد بلفظ: "ذلك بأنهم أوتوا الكتاب " وقال الداودي: هي بمعنى على أو مع، قال القرطبي: إن كانت بمعنى غير فنصب على الاستثناء، وإن كانت بمعنى مع فنصب على الظرف. وقال الطيبي: هي للاستثناء، وهو من باب تأكيد المدح بما يشبه الذم، والمعنى نحن السابقون للفضل غير أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، ووجه التأكيد فيه ما أدمج فيه من معنى النسخ، لأن الناسخ هو السابق في الفضل وإن كان متأخرا في الوجود، وبهذا التقرير يظهر موقع قوله: "نحن الآخرون " مع كونه أمرا واضحا. قوله: "أوتوا الكتاب" اللام للجنس، والمراد التوراة والإنجيل، والضمير في " أوتيناه " للقرآن. وقال القرطبي: المراد بالكتاب التوراة، وفيه نظر لقوله: "وأوتيناه من بعدهم " فأعاد الضمير على الكتاب، فلو كان المراد التوراة لما صح الإخبار، لأنا إنما أوتينا القرآن. وسقط من الأصل قوله: "وأوتيناه من بعدهم " وهي ثابتة في رواية أبي زرعة الدمشقي عن أبي اليمان شيخ البخاري فيه، أخرجه الطبراني في مسند الشاميين عنه، وكذا لمسلم من طريق ابن عيينة عن أبي الزناد، وسيأتي تاما عند المصنف بعد أبواب من وجه آخر عن أبي هريرة. قوله: "ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم" كذا للأكثر، وللحموي " الذي فرض الله عليهم " والمراد باليوم يوم الجمعة، والمراد باليوم بفرضه فرض تعظيمه، وأشير إليه بهذا لكونه ذكر في أول الكلام كما عند مسلم من طريق آخر عن أبي هريرة، ومن حديث حذيفة قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا " الحديث. قال ابن بطال: ليس المراد أن يوم الجمعة فرض عليهم بعينه فتركوه، لأنه لا يجوز لأحد أن يترك ما فرض الله عليه وهو مؤمن، وإنما يدل - والله أعلم - أنه فرض عليهم يوم من الجمعة وكل إلى اختيارهم ليقيموا فيه شريعتهم، فاختلفوا في أي الأيام هو ولم يهتدوا ليوم الجمعة، ومال عياض إلى هذا ورشحه بأنه لو كان فرض عليهم بعينه لقيل فخالفوا بدل فاختلفوا. وقال النووي: يمكن أن يكونوا أمروا به صريحا فاختلفوا هل يلزم تعينه أم يسوغ إبداله بيوم آخر فاجتهدوا في ذلك فأخطئوا. انتهى. ويشهد له ما رواه الطبري بإسناد صحيح عن مجاهد في قوله تعالى:{إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه" قال: أرادوا الجمعة فأخطئوا وأخذوا السبت مكانه. ويحتمل أن يراد بالاختلاف اختلاف اليهود والنصارى في ذلك، وقد روى ابن أبي حاتم من طريق أسباط بن نصر عن السدي التصريح بأنهم فرض عليهم يوم الجمعة بعينه فأبوا، ولفظه: "إن الله فرض على اليهود الجمعة فأبوا وقالوا: يا موسى إن الله لم يخلق يوم السبت شيئا فاجعله لنا، فجعل عليهم " وليس ذلك بعجيب من مخالفتهم كما وقع لهم في قوله تعالى: {ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة} وغير ذلك، وكيف لا وهم القائلون {سمعنا وعصينا} . قوله: "فهدانا الله له" يحتمل أن يراد بأن نص لنا عليه، وأن يراد الهداية إليه بالاجتهاد، ويشهد للثاني ما رواه عبد الرزاق بإسناد صحيح عن محمد بن سيربن قال: "جمع أهل المدينة قبل أن يقدمها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبل أن تنزل الجمعة، فقالت الأنصار: إن لليهود يوما يجتمعون فيه كل سبعة أيام، وللنصارى كذلك، فهلم فلنجعل يوما نجتمع فيه فنذكر الله تعالى ونصلي ونشكره. فجعلوه يوم العروبة، واجتمعوا إلى أسعد بن زرارة فصلى بهم يومئذ، وأنزل الله تعالى بعد ذلك: {إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة} الآية، وهذا وإن كان مرسلا فله شاهد بإسناد حسن أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه وصححه ابن خزيمة وغير واحد من حديث كعب بن مالك قال: "كان أول من صلى بنا الجمعة قبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أسعد بن زرارة " الحديث. فمرسل ابن سيرين يدل على أن أولئك الصحابة اختاروا يوم الجمعة بالاجتهاد، ولا يمنع ذلك أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم علمه بالوحي وهو

(2/355)


بمكة فلم يتمكن من إقامتها، ثم فقد ورد فيه حديث عن ابن عباس عند الدار قطني، ولذلك جمع بهم أول ما قدم المدينة كما حكاه ابن إسحاق وغيره، وعلى هذا فقد حصلت الهداية للجمعة بجهتي البيان والتوفيق. وقيل في الحكمة في اختيارهم الجمعة وقوع خلق آدم فيه، والإنسان إنما خلق للعبادة فناسب أن يشتغل بالعبادة فيه، ولأن الله تعالى أكمل فيه الموجودات وأوجد فيه الإنسان الذي ينتفع بها فناسب أن يشكر على ذلك بالعبادة فيه. قوله: "اليهود غدا والنصارى بعد غد" في رواية أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة عند ابن خزيمة: "فهو لنا، ولليهود يوم السبت والنصارى يوم الأحد " والمعنى أنه لنا بهداية الله تعالى ولهم باعتبار اختيارهم وخطئهم في اجتهادهم. قال القرطبي: غدا هنا منصوب على الظرف، وهو متعلق بمحذوف وتقديره اليهود يعظمون غدا، وكذا قوله: "بعد غد " ولا بد من هذا التقدير لأن ظرف الزمان لا يكون خبرا عن الجثة. انتهى. وقال ابن مالك: الأصل أن يكون المخبر عنه بظرف الزمان من أسماء المعاني كقولك غدا للتأهب وبعد غد للرحيل فيقدر هنا مضافان يكون ظرفا الزمان خبرين عنهما، أي تعييد اليهود غدا وتعييد النصارى بعد غد ا هـ. وسبقه إلى نحو ذلك عياض، وهو أوجه من كلام القرطبي. وفي الحديث دليل على فرضية الجمعة كما قال النووي، لقوله: "فرض عليهم فهدانا الله له " فإن التقدير فرض عليهم وعلينا فضلوا وهدينا، وقد وقع في رواية سفيان عن أبي الزناد عند مسلم بلفظ: "كتب علينا" . وفيه أن الهداية والإضلال من الله تعالى كما هو قول أهل السنة، وأن سلامة الإجماع من الخطأ مخصوص بهذه الأمة، وأن استنباط معنى من الأصل يعود عليه بالإبطال باطل، وأن القياس مع وجود النص فاسد، وأن الاجتهاد في زمن نزول الوحي جائز، وأن الجمعة أول الأسبوع شرعا، ويدل على ذلك تسمية الأسبوع كله جمعة وكانوا يسمون الأسبوع سبتا كما سيأتي في الاستسقاء في حديث أنس، وذلك أنهم كانوا مجاورين لليهود فتبعوهم في ذلك، وفيه بيان واضح لمزيد فضل هذه الأمة على الأمم السابقة زادها الله تعالى.

(2/356)


باب فصل الغسل يوم الجمعة
...
3 - باب فَضْلِ الْغُسْلِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ .
وَهَلْ عَلَى الصَّبِيِّ شُهُودُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ أَوْ عَلَى النِّسَاءِ
877- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ الْجُمُعَةَ فَلْيَغْتَسِلْ "
[الحديث 877- طرفاه في:919,894]
878- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءَ قَالَ أَخْبَرَنَا جُوَيْرِيَةُ بْنُ أَسْمَاءَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ بَيْنَمَا هُوَ قَائِمٌ فِي الْخُطْبَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِذْ دَخَلَ رَجُلٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ الأَوَّلِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَادَاهُ عُمَرُ أَيَّةُ سَاعَةٍ هَذِهِ قَالَ إِنِّي شُغِلْتُ فَلَمْ أَنْقَلِبْ إِلَى أَهْلِي حَتَّى سَمِعْتُ التَّأْذِينَ فَلَمْ أَزِدْ أَنْ تَوَضَّأْتُ فَقَالَ وَالْوُضُوءُ أَيْضًا وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْمُرُ بِالْغُسْلِ "
[الحديث878-طرفه في:882]

(2/356)


879- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ "
قوله: "باب فضل الغسل يوم الجمعة" قال الزين بن المنير: لم يذكر الحكم لما وقع فيه من الخلاف، واقتصر على الفضل لأن معناه الترغيب فيه وهو القدر الذي تتفق الأدلة على ثبوته. قوله: "وهل على الصبي شهود يوم الجمعة أو على النساء" اعترض أبو عبد الملك فيما حكاه ابن التين على هذا الشق الثاني من الترجمة فقال: ترجم هل على الصبي أو النساء جمعة؟ وأورد " إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل " وليس فيه ذكر وجوب شهود ولا غيره، وأجاب ابن التين بأنه أراد سقوط الوجوب عنهم، أما الصبيان فبالحديث الثالث في الباب حيث قال: "على كل محتلم " فدل على أنها غير واجبة على الصبيان، قال: وقال الداودي فيه دليل على سقوطها عن النساء لأن الفروض تجب عليهن في الأكثر بالحيض لا بالاحتلام، وتعقب بأن الحيض في حقهن علامة للبلوغ كالاحتلام، وليس الاحتلام مختصا بالرجال وإنما ذكر في الخبر لكونه الغالب وإلا فقد لا يحتلم الإنسان أصلا ويبلغ بالإنزال أو السن وحكمه حكم المحتلم. وقال الزين بن المنير: إنما أشار إلى أن غسل الجمعة شرع للرواح إليها كما دلت عليه الأخبار، فيحتاج إلى معرفة من يطلب رواحه فيطلب غسله، واستعمل الاستفهام في الترجمة للإشارة إلى وقوع الاحتمال في حق الصبي في عموم قوله : "أحدكم " لكن تقيده بالمحتلم في الحديث الآخر يخرجه، وأما النساء فيقع فيهن الاحتمال بأن يدخلن في " أحدكم " بطريق التبع، وكذا احتمال عموم النهي في منعهن المساجد، لكن تقيده بالليل يخرج الجمعة ا هـ. ولعل البخاري أشار بذكر النساء إلى ما سيأتي قريبا في بعض طرق حديث نافع، وإلى الحديث المصرح بأن لا جمعة على امرأة ولا صبي لكونه ليس على شرطه وإن كان الإسناد صحيحا وهو عند أبي داود من حديث طارق بن شهاب عن النبي صلى الله عليه وسلم ورجاله ثقات، لكن قال أبو داود: لم يسمع طارق من النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنه رآه ا هـ. وقد أخرجه الحاكم في المستدرك من طريق طارق عن أبي موسى الأشعري، قال الزين بن المنير: ونقل عن مالك أن من يحضر الجمعة من غير الرجال أن حضرها لابتغاء الفضل شرع له الغسل وسائر آداب الجمعة، وإن حضرها لأمر اتفاقي فلا. ثم أورد المصنف في الباب ثلاثة أحاديث: حديث نافع عن ابن عمر أخرجه من حديث مالك عنه بلفظ: "إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل " وقد رواه ابن وهب عن مالك أن نافعا حدثهم فذكره، أخرجه البيهقي، والفاء للتعقيب، وظاهره أن الغسل يعقب المجيء، وليس ذلك المراد وإنما التقدير إذا أراد أحدكم، وقد جاء مصرحا به في رواية الليث عن نافع عند مسلم ولفظه: "إذا أراد أحدكم أن يأتي الجمعة فليغتسل " ونظير ذلك قوله تعالى: {إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة} فإن المعنى إذا أردتم المناجاة بلا خلاف.ويقوي رواية الليث حديث أبي هريرة الآتي قريبا بلفظ: "من اغتسل يوم الجمعة ثم راح " فهو صريح في تأخير الرواح عن الغسل، وعرف بهذا فساد قول من حمله على ظاهره واحتج به على أن الغسل لليوم لا للصلاة، لأن الحديث واحد ومخرجه واحد، وقد بين الليث في روايته المراد، وقواه حديث أبي هريرة، ورواية نافع عن ابن عمر لهذا الحديث مشهورة جدا فقد اعتنى بتخريج طرقه أبو عوانة في صحيحه فساقه من طريق سبعين نفسا رووه عن نافع، وقد تتبعت ما فاته وجمعت ما وقع لي من طرقه في جزء مفرد لغرض اقتضى ذلك فبلغت أسماء من رواه عن نافع مائة وعشرين نفسا، فما يستفاد منه هنا ذكر سبب

(2/357)


الحديث، ففي رواية إسماعيل بن أمية عن نافع عند أبي عوانة وقاسم بن أصبغ " كان الناس يغدون في أعمالهم، فإذا كانت الجمعة جاءوا وعليهم ثياب متغيرة، فشكوا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من جاء منكم الجمعة فليغتسل " ومنها ذكر محل القول، ففي رواية الحكم بن عتيبة عن نافع عن ابن عمر " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على أعواد هذا المنبر بالمدينة يقول: "أخرجه يعقوب الجصاص في فوائده من رواية اليسع بن قيس عن الحكم، وطريق الحكم عند النسائي وغيره من رواية شعبة عنه بدون هذا السياق بلفظ حديث الباب إلا قوله: "جاء " فعنده " راح " وكذا رواه النسائي من رواية إبراهيم بن طهمان عن أيوب ومنصور ومالك ثلاثتهم عن نافع، ومنها ما يدل على تكرار ذلك ففي رواية صخر بن جويرية عن نافع عند أبي مسلم الكجي بلفظ: "كان إذا خطب يوم الجمعة قال: "الحديث. ومنها زيادة في المتن، ففي رواية عثمان بن واقد عن نافع عند أبي عوانة وابن خزيمة وابن حبان في صحاحهم بلفظ: "من أتى الجمعة من الرجال والنساء فليغتسل، ومن لم يأتها فليس عليه غسل " ورجاله ثقات، لكن قال البزار: أخشى أن يكون عثمان بن واقد وهم فيه. ومنها زيادة في المتن والإسناد أيضا، أخرجه أبو داود والنسائي وابن خزيمة وابن حبان وغيرهم من طرق عن مفضل بن فضالة عن عياش بن عباس الكثباني عن بكير بن عبد الله بن الأشج عن نافع عن ابن عمر عن حفصة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الجمعة واجبة على كل محتلم، وعلى من راح إلى الجمعة الغسل " قال الطبراني في الأوسط: لم يروه عن نافع بزيادة حفصة إلا بكير، ولا عنه إلا عياش تفرد به مفضل. قلت: رواته ثقات، فإن كان محفوظا فهو حديث آخر ولا مانع أن يسمعه ابن عمر من النبي صلى الله عليه وسلم ومن غيره من الصحابة، فسيأتي في ثاني أحاديث الباب من رواية ابن عمر عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا سيما مع اختلاف المتون، قال ابن دقيق العيد: في الحديث دليل على تعليق الأمر بالغسل بالمجيء إلى الجمعة، واستدل به لمالك في أنه يعتبر أن يكون الغسل متصلا بالذهاب، ووافقه الأوزاعي والليث والجمهور قالوا: يجزئ من بعد الفجر، ويشهد لهم حديث ابن عباس الآتي قريبا. وقال الأثرم: سمعت أحمد سئل عمن اغتسل ثم أحدث هل يكفيه الوضوء؟ فقال: نعم. ولم أسمع فيه أعلى من حديث ابن أبزي، يشير إلى ما أخرجه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزي عن أبيه وله صحبة " أنه كان يغتسل يوم الجمعة ثم يحدث فيتوضأ ولا يعيد الغسل " ومقتضى النظر أن يقال: إذا عرف أن الحكمة في الأمر بالغسل يوم الجمعة والتنظيف رعاية الحاضرين من التأذي بالرائحة الكريهة، فمن خشي أن يصيبه في أثناء النهار ما يزيل تنظيفه استحب له أن يؤخر الغسل لوقت ذهابه، ولعل هذا هو الذي لحظه مالك فشرط اتصال الذهاب بالغسل ليحصل الأمن مما يغاير التنظيف والله أعلم. قال ابن دقيق العيد: ولقد أبعد الظاهري إبعادا يكاد أن يكون مجزوما ببطلانه حيث لم يشترط تقدم الغسل على إقامة صلاة الجمعة حتى لو اغتسل قبل الغروب كفى عنده تعلقا بإضافة الغسل إلى اليوم، يعني كما سيأتي في حديث الباب الثالث، وقد تبين من بعض الروايات أن الغسل لإزالة الروائح الكريهة يعني كما سيأتي من حديث عائشة بعد أبواب، قال: وفهم منه أن المقصود عدم تأذي الحاضرين وذلك لا يتأتى بعد إقامة الجمعة، وكذلك أقول لو قدمه بحيث لا يتحصل هذا المقصود لم يعتد به. والمعنى إذا كان معلوما كالنص قطعا أو ظنا مقارنا للقطع فاتباعه وتعليق الحكم به أولى من اتباع مجرد اللفظ. قلت: وقد حكى ابن عبد البر الإجماع على أن من اغتسل بعد الصلاة لم يغتسل للجمعة ولا فعل ما أمر به. وادعى ابن حزم أنه قول جماعة من الصحابة والتابعين وأطال في تقرير ذلك بما هو بصدد المنع، والرد يفضي إلى التطويل بما لا طائل تحته،

(2/358)


ولم يورد عن أحد ممن ذكر التصريح بإجزاء الاغتسال بعد صلاة الجمعة، وإنما أورد عنهم ما يدل على أنه لا يشترط اتصال الغسل بالذهاب إلى الجمعة، فأخذ هو منه أنه لا فرق بين ما قبل الزوال أو بعده والفرق بينهما ظاهر كالشمس، والله أعلم. واستدل من مفهوم الحديث على أن الغسل لا يشرع لمن لم يحضر الجمعة، وقد تقدم التصريح بمقتضاه في آخر رواية عثمان بن واقد عن نافع، وهذا هو الأصح عند الشافعية، وبه قال الجمهور خلافا لأكثر الحنفية، وقوله فيه: "الجمعة " المراد به الصلاة أو المكان الذي تقام فيه، وذكر المجيء لكونه الغالب وإلا فالحكم شامل لمن كان مجاورا للجامع أو مقيما به، واستدل به على أن الأمر لا يحمل على الوجوب إلا بقرينه لقوله كان يأمرنا مع أن الجمهور حملوه على الندب كما سيأتي في الكلام على الحديث الثالث، وهذا بخلاف صيغة أفعل فإنها على الوجوب حتى تظهر قرينة على الندب. حديث مالك عن الزهري عن سالم بن عبد الله عن عمر عن ابن عمر رضي الله عنهما " أن عمر بن الخطاب بينا هو قائم في الخطبة يوم الجمعة " الحديث أورده من رواية جويرية ابن أسماء عن مالك وهو عند رواة الموطأ عن مالك ليس فيه ذكر ابن عمر، فحكى الإسماعيلي عن البغوي بعد أن أخرجه من طريق روح بن عبادة عن مالك أنه لم يذكر في هذا الحديث أحد عن مالك عن عبد الله بن عمر غير روح بن عبادة وجويرية ا هـ. وقد تابعهما أيضا عبد الرحمن بن مهدي، أخرجه أحمد ابن حنبل عنه بذكر ابن عمر. وقال الدار قطني في الموطأ رواه جماعة من أصحاب مالك الثقات عنه خارج الموطأ موصولا عنهم فذكر هؤلاء الثلاثة ثم قال: وأبو عاصم النبيل وإبراهيم بن طهمان والوليد بن مسلم وعبد الوهاب بن عطاء، وذكر جماعة غيرهم في بعضهم مقال، ثم ساق أسانيدهم إليهم بذلك، وزاد ابن عبد البر فيمن وصله عن مالك القعنبي في رواية إسماعيل بن إسحاق القاضي عنه، ورواه عن الزهري موصولا يونس بن يزيد عند مسلم ومعمر عند أحمد وأبو أويس عند قاسم بن أصبغ، ولجويرية بن أسماء فيه إسناد آخر أعلى من روايته عن مالك أخرجه الطحاوي وغيره من رواية أبي غسان عنه عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما. قوله: "بينما" أصله " بين " وأشبعت الفتحة، وقد تبقى بلا إشباع ويزاد فيها " ما " فتصير " بينما " وهي رواية يونس، وهي ظرف زمان فيه معنى المفاجأة. قوله: "إذ جاء رجل" في رواية المستملي والأصيلي وكريمة: "إذ دخل". قوله: "من المهاجرين الأولين" قيل في تعريفهم من صلى إلى القبلتين، وقيل من شهد بدرا، وقيل من شهد بيعة الرضوان. ولا شك أنها مراتب نسبية والأول أولى في التعريف لسبقه، فمن هاجر بعد تحويل القبلة وقبل وقعة بدر هو آخر بالنسبة إلى من هاجر قبل التحويل، وقد سمي ابن وهب وابن القاسم في روايتهما عن مالك في الموطأ الرجل المذكور عثمان بن عفان، وكذا سماه معمر في روايته عن الزهري عند الشافعي وغيره، وكذا وقع في رواية ابن وهب عن أسامة بن زيد عن نافع عن ابن عمر، قال ابن عبد البر: لا أعلم خلافا في ذلك، وقد سماه أيضا أبو هريرة في روايته لهذه القصة عند مسلم كما سيأتي بعد بابين. قوله: "فناداه" أي قال له يا فلان. قوله: "أية ساعة هذه" أية بتشديد التحتانية تأنيث أي يستفهم بها، والساعة اسم لجزء من النهار مقدر وتطلق على الوقت الحاضر وهو المراد هنا، وهذا الاستفهام استفهام توبيخ وإنكار، وكأنه يقول لم تأخرت إلى هذه الساعة؟ وقد ورد التصريح بالإنكار في رواية أبي هريرة فقال عمر: لم تحتبسون عن الصلاة. وفي رواية مسلم: "فعرض عنه عمر فقال ما بال رجال يتأخرون بعد النداء " والذي يظهر أن عمر قال ذلك كله فحفظ بعض الرواة ما لم يحفظ الآخر، ومراد عمر التلميح إلى ساعات التبكير التي وقع الترغيب فيها وأنها إذا انقضت طوت الملائكة الصحف كما سيأتي قريبا،

(2/359)


وهذا من أحسن التعويضات وأرشق الكنايات، وفهم عثمان ذلك فبادر إلى الاعتذار عن التأخر. قوله: "إني شغلت" بضم أوله، وقد بين جهة شغله في رواية عبد الرحمن بن مهدي حيث قال: "انقلبت من السوق فسمعت النداء " والمراد به الأذان بين يدي الخطيب كما سيأتي بعد أبواب. قوله: "فلم أزد على أن توضأت" لم أشتغل بشيء بعد أن سمعت النداء إلا بالوضوء، وهذا يدل على أنه دخل المسجد في ابتداء شروع عمر في الخطبة. قوله: "والوضوء أيضا؟" فيه إشعار بأنه قبل عذره في ترك التبكير لكنه استنبط منه معنى آخر اتجه له عليه فيه إنكار ثان مضاف إلى الأول، وقوله: "والوضوء " في روايتنا بالنصب، وعليه اقتصر النووي في شرح مسلم، أي والوضوء أيضا اقتصرت عليه أو اخترته دون الغسل؟ والمعنى ما اكتفيت بتأخير الوقت وتفويت الفضيلة حتى تركت الغسل واقتصرت على الوضوء؟ وجوز القرطبي الرفع على أنه مبتدأ وخبره محذوف أي والوضوء أيضا يقتصر عليه، وأغرب السهيلي فقال: اتفق الرواة على الرفع لأن النصب يخرجه إلى معنى الإنكار، يعني والوضوء لا ينكر، وجوابه ما تقدم. والظاهر أن الواو عاطفة. وقال القرطبي: هي عوض عن همزة استفهام كقراءة ابن كثير " قال فرعون وآمنتم به " وقوله: "أيضا: "أي ألم يكفك أن فاتك فضل التبكير إلى الجمعة حتى أضفت إليه ترك الغسل المرغب فيه؟ ولم أقف في شيء من الروايات على جواب عثمان عن ذلك، والظاهر أنه سكت عنه اكتفاء بالاعتذار الأول لأنه قد أشار إلى أنه كان ذاهلا عن الوقت، وأنه بادر عند سماع النداء، وإنما ترك الغسل لأنه تعارض عنده إدراك سماع الخطبة والاشتغال بالغسل وكل منهما مرغب فيه فآثر سماع الخطبة، ولعله كان يرى فرضيته فلذلك آثره، والله أعلم. قوله: "كان يأمر بالغسل" كذا في جميع الروايات لم يذكر المأمور، إلا أن في رواية جويرية عن نافع بلفظ: "كنا نؤمر " وفي حديث ابن عباس عند الطحاوي في هذه القصة " أن عمر قال له: لقد علم أنا أمرنا بالغسل. قلت: أنتم المهاجرون الأولون أم الناس جميعا؟ قال: لا أدري " رواته ثقات، إلا أنه معلول. وقد وقع في رواية أبي هريرة في هذه القصة " أن عمر قال: ألم تسمعوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا راح أحدكم إلى الجمعة فليغتسل " كذا هو في الصحيحين وغيرهما، وهو ظاهر في عدم التخصيص بالمهاجرين الأولين. وفي هذا الحديث من الفوائد القيام في الخطبة وعلى المنبر، وتفقد الإمام رعيته، وأمره لهم بمصالح دينهم، وإنكاره على من أخل بالفضل وإن كان عظيم المحل، ومواجهته بالإنكار ليرتدع من هو دونه بذلك، وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في أثناء الخطبة لا يفسدها، وسقوط منع الكلام عن المخاطب بذلك. وفيه الاعتذار إلى ولاة الأمر، وإباحة الشغل والتصرف يوم الجمعة قبل النداء ولو أفضى إلى ترك فضيلة البكور إلى الجمعة، لأن عمر لم يأمر برفع السوق بعد هذه القصة. واستدل به مالك على أن السوق لا تمنع يوم الجمعة قبل النداء لكونها كانت في زمن عمر، ولكون الذاهب إليها مثل عثمان. وفيه شهود الفضلاء السوق، ومعاناة المتجر فيها. وفيه أن فضيلة التوجه إلى الجمعة إنما تحصل قبل التأذين. وقال عياض: فيه حجة لأن السعي إنما يجب بسماع الأذان، وأن شهود الخطبة لا يجب، وهو مقتضى قول أكثر المالكية. وتعقب بأنه لا يلزم من التأخير إلى سماع النداء فوات الخطبة، بل تقدم ما يدل على أنه لم يفت عثمان من الخطبة شيء. وعلى تقدير أن يكون فاته منها بشيء فليس فيه دليل على أنه لا يجب شهودها على من تنعقد به الجمعة. واستدل به على أن غسل الجمعة واجب لقطع عمر الخطبة وإنكاره على عثمان تركه، وهو متعقب لأنه أنكر عليه ترك السنة المذكورة وهي التبكير إلى الجمعة فيكون الغسل كذلك، وعلى أن الغسل ليس

(2/360)


شرطا لصحة الجمعة. وسيأتي البحث فيه في الحديث بعده. حديث مالك أيضا عن صفوان بن سليم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري، لم تختلف رواة الموطأ على مالك في إسناده، ورجاله مدنيون كالأول، وفيه رواية تابعي عن تابعي صفوان عن عطاء، وقد تابع مالكا على روايته الدراوردي عن صفوان عند ابن حبان، وخالفهما عبد الرحمن بن إسحاق فرواه عن صفوان بن سليم عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة أخرجه أبو بكر المروذي في كتاب الجمعة له. قوله: "غسل يوم الجمعة" استدل به لمن قال الغسل لليوم للإضافة إليه، وقد تقدم ما فيه، واستنبط منه أيضا أن ليوم الجمعة غسلا مخصوصا حتى لو وجدت صورة الغسل فيه لم يجز عن غسل الجمعة إلا بالنية، وقد أخذ بذلك أبو قتادة فقال لابنه وقد رآه يغتسل يوم الجمعة " إن كان غسلك عن جنابة فأعد غسلا آخر للجمعة " أخرجه الطحاوي وابن المنذر وغيرهما. ووقع في رواية مسلم في حديث الباب الغسل يوم الجمعة وكذا هو في الباب الذي بعد هذا، وظاهره أن الغسل حيث وجد فيه كفى لكون اليوم جعل ظرفا للغسل، ويحتمل أن يكون اللام للعهد فتتفق الروايتان. قوله: "واجب على كل محتلم" أي بالغ، وإنما ذكر الاحتلام لكونه الغالب، واستدل به على دخول النساء في ذلك كما سيأتي بعد ثمانية أبواب، واستدل بقوله واجب على فرضية غسل الجمعة، وقد حكاه ابن المنذر عن أبي هريرة وعمار بن ياسر وغيرهما، وهو قول أهل الظاهر وإحدى الروايتين عن أحمد، وحكاه ابن حزم عن عمر وجمع جم من الصحابة ومن بعدهم، ثم ساق الرواية عنهم لكن ليس فيها عن أحد منهم التصريح بذلك إلا نادرا، وإنما اعتمد في ذلك على أشياء محتملة كقول سعد " ما كنت أظن مسلما يدع غسل يوم الجمعة"، وحكاه ابن المنذر والخطابي عن مالك.
وقال القاضي عياض وغيره ليس ذلك بمعروف في مذهبه، قال ابن دقيق العيد: قد نص مالك على وجوبه فحمله من لم يمارس مذهبه على ظاهره وأبى ذلك أصحابه ا هـ.
والرواية عن مالك بذلك في التمهيد.
وفيه أيضا من طريق أشهب عن مالك أنه سئل عنه فقال: حسن وليس بواجب.
وحكاه بعض المتأخرين عن ابن خزيمة من أصحابنا، وهو غلط عليه فقد صرح في صحيحه بأنه على الاختيار، واحتج لكونه مندوبا بعدة أحاديث في عدة تراجم.
وحكاه شارح الغنية لابن سريح قولا للشافعي واستغرب، وقد قال الشافعي في الرسالة بعد أن أورد حديثي ابن عمر وأبي سعيد: احتمل قوله واجب معنيين، الظاهر منهما أنه واجب فلا نجزي الطهارة لصلاة الجمعة إلا بالغسل، واحتمل أنه واجب في الاختيار وكرم الأخلاق والنظافة.
ثم استدل للاحتمال الثاني بقصة عثمان مع عمر التي تقدمت قال: فلما لم يترك عثمان الصلاة للغسل ولم يأمره عمر بالخروج للغسل دل ذلك على أنهما قد علما أن الأمر بالغسل للاختيار ا هـ.
وعلى هذا الجواب عول أكثر المصنفين في هذه المسألة كابن خزيمة والطبري والطحاوي وابن حبان وابن عبد البر وهلم جرا، وزاد بعضهم فيه أن من حضر من الصحابة وافقوهما على ذلك فكان إجماعا منهم على أن الغسل ليس شرطا في صحة الصلاة وهو استدلال قوي، وقد نقل الخطابي وغيره الإجماع على أن صلاة الجمعة بدون الغسل مجزئة، لكن حكى الطبري عن قوم أنهم قالوا بوجوبه ولم يقولوا إنه شرط بل هو واجب مستقل تصح الصلاة بدونه كأن أصله قصد التنظيف وإزالة الروائح الكريهة التي يتأذى بها الحاضرون من الملائكة والناس، وهو موافق لقول من قال: يحرم أكل الثوم على من قصد الصلاة في الجماعة، ويرد عليهم أنه يلزم من ذلك تأثيم عثمان، والجواب أنه كان معذورا لأنه إنما تركه ذاهلا عن الوقت، مع أنه يحتمل أن يكون قد اغتسل في أول النهار، لما ثبت في صحيح مسلم عن حمران أن عثمان لم يكن يمضي عليه يوم حتى يفيض عليه الماء، وإنما لم يعتذر بذلك لعمر كما اعتذر عن التأخر

(2/361)


لأنه لم يتصل غسله بذهابه إلى الجمعة كما هو الأفضل، وعن بعض الحنابلة التفصيل بين ذي النظافة وغيره، فيجب على الثاني دون الأول نظرا إلى العلة، حكاه صاحب الهدى، وحكى ابن المنذر عن إسحاق بن راهويه أن قصة عمر وعثمان تدل على وجوب الغسل لا على عدم وجوبه من جهة ترك عمر الخطبة واشتغاله بمعاتبة عثمان وتوبيخ مثله على رءوس الناس، فلو كان ترك الغسل مباحا لما فعل عمر ذلك، وإنما لم يرجع عثمان للغسل لضيق الوقت إذ لو فعل لفاتته الجمعة أو لكونه كان اغتسل كما تقدم. قال ابن دقيق العيد: ذهب الأكثرون إلى استحباب غسل الجمعة وهم محتاجون إلى الاعتذار عن مخالفة هذا الظاهر، وقد أولوا صيغة الأمر على الندب وصيغة الوجوب على التأكيد كما يقال: إكرامك على واجب، وهو تأويل ضعيف إنما يصار إليه إذا كان المعارض راجحا على هذا الظاهر. وأقوى ما عارضوا به هذا الظاهر حديث: "من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل " ولا يعارض سنده سند هذه الأحاديث، قال: وربما تأولوه تأويلا مستكرها كمن حمل لفظ الوجوب على السقوط.انتهى. فأما الحديث فعول على المعارضة به كثير من المصنفين، ووجه الدلالة منه قوله: "فالغسل أفضل " فإنه يقتضي اشتراك الوضوء والغسل في أصل الفضل، فيستلزم إجزاء الوضوء. ولهذا الحديث طرق أشهرها وأقواها رواية الحسن عن سمرة أخرجها أصحاب السنن الثلاثة وابن خزيمة وابن حبان، وله علتان: إحداهما أنه من عنعنة الحسن، والأخرى أنه اختلف عليه فيه. وأخرجه ابن ماجه من حديث أنس، والطبراني من حديث عبد الرحمن ابن سمرة، والبزار من حديث أبي سعيد، وابن عدي من حديث جابر وكلها ضعيفة. وعارضوا أيضا بأحاديث، منها الحديث الآتي في الباب الذي بعده فإن فيه: "وأن يستن، وأن يمس طيبا " قال القرطبي: ظاهره وجوب الاستنان والطيب لذكرهما بالعاطف، فالتقدير الغسل واجب والاستنان والطيب كذلك، قال: وليسا بواجبين اتفاقا، فدل على أن الغسل ليس بواجب، إذ لا يصح تشريك ما ليس بواجب مع الواجب بلفظ واحد. انتهى. وقد سبق إلى ذلك الطبري والطحاوي، وتعقبه ابن الجوزي بأنه لا يمتنع عطف ما ليس بواجب على الواجب، لا سيما ولم يقع التصريح بحكم المعطوف. وقال ابن المنير في الحاشية: إن سلم أن المراد بالواجب الفرض لم ينفع دفعه بعطف ما ليس بواجب عليه لأن للقائل أن يقول: أخرج بدليل فبقي ما عداه على الأصل، وعلى أن دعوى الإجماع في الطيب مردودة، فقد روى سفيان بن عيينة في جامعه عن أبي هريرة أنه كان يوجب الطيب يوم الجمعة وإسناده صحيح، وكذا قال بوجوبه بعض أهل الظاهر. ومنها حديث أبي هريرة مرفوعا: "من توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت غفر له " أخرجه مسلم. قال القرطبي: ذكر الوضوء وما معه مرتبا عليه الثواب المقتضى للصحة، فدل على أن الوضوء كاف. وأجيب بأنه ليس فيه نفي الغسل. وقد ورد من وجه آخر في الصحيحين بلفظ: "من اغتسل " فيحتمل أن يكون ذكر الوضوء لمن تقدم غسله على الذهاب فاحتاج إلى إعادة الوضوء. ومنها حديث ابن عباس أنه " سئل عن غسل يوم الجمعة أواجب هو؟ فقال: لا، ولكنه أطهر لمن اغتسل، ومن لم يغتسل فليس بواجب عليه. وسأخبركم عن بدء الغسل: كان الناس مجهودين يلبسون الصوف ويعملون، وكان مسجدهم ضيقا، فلما آذى بعضهم بعضا قال النبي صلى الله عليه وسلم: أيها الناس، إذا كان هذا اليوم فاغتسلوا " قال ابن عباس " ثم جاء الله بالخير، ولبسوا غير الصوف، وكفوا العمل، ووسع المسجد". أخرجه أبو داود والطحاوي وإسناده حسن، لكن الثابت عن ابن عباس خلافه كما سيأتي قريبا. وعلى تقدير الصحة فالمرفوع منه ورد بصيغة الأمر الدالة على الوجوب، وأما نفي الوجوب فهو موقوف

(2/362)


لأنه من استنباط ابن عباس، وفيه نظر إذ لا يلزم من زوال السبب زوال المسبب كما في الرمل والجمار، على تقدير تسليمه فلمن قصر الوجوب على من به رائحة كريهة أن يتمسك به. ومنها حديث طاوس " قلت لابن عباس: زعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اغتسلوا يوم الجمعة واغسلوا رءوسكم إلا أن تكونوا جنبا " الحديث. قال ابن حبان بعد أن أخرجه: فيه أن غسل الجمعة يجزئ عنه غسل الجنابة، وأن غسل الجمعة ليس بفرض، إذ لو كان فرضا لم يجز عنه غيره. انتهى. وهذه الزيادة " إلا أن تكونوا جنبا " تفرد بها ابن إسحاق عن الزهري، وقد رواه شعيب عن الزهري بلفظ: "وأن تكونوا جنبا " وهذا هو المحفوظ عن الزهري كما سيأتي بعد بابين. ومنها حديث عائشة الآتي بعد أبواب بلفظ: "لو اغتسلتم " ففيه عرض وتنبيه لا حتم ووجوب، وأجيب بأنه ليس فيه نفي الوجوب، وبأنه سابق عل الأمر به والإعلام بوجوبه. ونقل الزين بن المنير بعد قول الطحاوي لما ذكر حديث عائشة: فدل على أن الأمر بالغسل لم يكن للوجوب، وإنما كان لعلة ثم ذهبت تلك العلة فذهب الغسل، وهذا من الطحاوي يقتضي سقوط الغسل أصلا فلا يعد فرضا ولا مندوبا لقوله زالت العلة الخ، فيكون مذهبا ثالثا في المسألة. انتهى. ولا يلزم من زوال العلة سقوط الندب تعبدا، ولا سيما مع احتمال وجود العلة المذكورة. ثم إن هذه الأحاديث كلها لو سلمت لما دلت إلا على نفي اشتراط الغسل لا على الوجوب المجرد صلى الله عليه وسلم كما تقدم. وأما ما أشار إليه ابن دقيق العيد من أن بعضهم أوله بتأويل مستكره فقد نقله ابن دحية عن القدوري من الحنفية وأنه قال: قوله واجب أي ساقط، وقوله على بمعنى عن، فيكون المعنى أنه غير لازم، ولا يخفى ما فيه من التكلف. وقال الزين بن المنير: أصل الوجوب في اللغة السقوط، فلما كان في الخطاب على المكلف عبء ثقيل كان كل ما أكد طلبه منه يسمى واجبا كأنه سقط عليه، وهو أعم من كونه فرضا أو ندبا. وهذا سبقه ابن بزيزة إليه، ثم تعقبه بأن اللفظ الشرعي خاص بمقتضاه شرعا لا وضعا، وكأن الزين استشعر هذا الجواب فزاد أن تخصيص الواجب بالفرض اصطلاح حادث. وأجيب بأن " وجب " في اللغة لم ينحصر في السقوط، بل ورد بمعنى مات، وبمعنى اضطرب، وبمعنى لزم وغير ذلك. والذي يتبادر إلى الفهم منها في الأحاديث أنها بمعنى لزم، لا سيما إذا سيقت لبيان الحكم. وقد تقدم في بعض طرق حديث ابن عمر " الجمعة واجبة على كل محتلم " وهو بمعنى اللزوم قطعا ويؤيده أن في بعض طرق حديث الباب: "واجب كغسل الجنابة " أخرجه ابن حبان من طريق الدراوردي عن صفوان بن سليم، وظاهره اللزوم، وأجاب عنه بعض القائلين بالندبية بأن التشبيه في الكيفية لا في الحكم. وقال ابن الجوزي: يحتمل أن تكون لفظة " الوجوب " مغيرة من بعض الرواة أو ثابتة ونسخ الوجوب، ورد بأن الطعن في الروايات الثابتة بالظن الذي لا مستند له لا يقبل، والنسخ لا يصار إليه إلا بدليل، ومجموع الأحاديث يدل على استمرار الحكم، فإن في حديث عائشة أن ذلك كان في أول الحال حيث كانوا مجهودين، وأبو هريرة وابن عباس إنما صحبا النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن حصل التوسع بالنسبة إلى ما كانوا فيه أولا، ومع ذلك فقد سمع كل منهما منه صلى الله عليه وسلم الأمر بالغسل والحث عليه والترغيب فيه فكيف يدعي النسخ بعد ذلك؟. "فائدة": حكى ابن العربي وغيره أن بعض أصحابهم قالوا: يجزئ عن الاغتسال للجمعة التطيب لأن المقصود النظافة. وقال بعضهم: لا يشترط له الماء المطلق بل يجزئ بماء الورد ونحوه، وقد عاب ابن العربي ذلك وقال: هؤلاء وقفوا مع المعنى وأغفلوا المحافظة على التعبد بالمعين، والجمع بين التعبد والمعنى أولى. انتهى.
ـــــــ
(1) كذا في الأصلين . ولعله " لاعلى نفي الوجوب المجرد"

(2/363)


وعكس ذلك قول بعض الشافعية بالتيمم، فإنه تعبد دون نظر إلى المعنى، أما الاكتفاء بغير الماء المطلق فمردود لأنها عبادة لثبوت الترغيب فيها فيحتاج إلى النية ولو كان لمحض النظافة لم تكن كذلك، والله أعلم.

(2/364)


3 - باب الطِّيبِ لِلْجُمُعَةِ
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ حَدَّثَنَا حَرَمِيُّ بْنُ عُمَارَةَ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي بَكرِ بْنِ الْمُنكَدِرِ قَالَ حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ سُلَيْمٍ الأَنْصَارِيُّ قَالَ أَشْهَدُ عَلَى أَبِي سَعِيدٍ قَالَ أَشْهَدُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الْغُسْلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ وَأَنْ يَسْتَنَّ وَأَنْ يَمَسَّ طِيبًا إِنْ وَجَدَ قَالَ عَمْرٌو أَمَّا الْغُسْلُ فَأَشْهَدُ أَنَّهُ وَاجِبٌ وَأَمَّا الِاسْتِنَانُ وَالطِّيبُ فَاللَّهُ أَعْلَمُ أَوَاجِبٌ هُوَ أَمْ لاَ وَلَكِنْ هَكَذَا فِي الْحَدِيثِ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ هُوَ أَخُو مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ وَلَمْ يُسَمَّ أَبُو بَكْرٍ هَذَا رَوَاهُ عَنْهُ بُكَيْرُ بْنُ الأَشَجِّ وَسَعِيدُ بْنُ أَبِي هِلاَلٍ وَعِدَّةٌ وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ يُكْنَى بِأَبِي بَكْرٍ وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ
قوله: "باب الطيب للجمعة" لم يذكر حكمه أيضا لوقوع الاحتمال فيه كما سبق. قوله: "حدثنا علي بن عبد الله بن جعفر" كذا في رواية ابن عساكر، وهو ابن المديني، واقتصر الباقون على " حدثنا على". قوله: "قال أشهد على أبي سعيد" ظاهر في أنه سمعه منه، قال ابن التين: أراد بهذا اللفظ التأكيد للرواية. انتهى. وقد أدخل بعضهم بين عمرو بن سليم القائل " أشهد " وبين أبي سعيد رجلا كما سيأتي. قوله: "وأن يستن" أي يدلك أسنانه بالسواك. قوله: "وأن يمس" بفتح الميم في الأفصح. قوله: "إن وجد" متعلق بالطيب، أي إن وجد الطيب مسه، ويحتمل تعلقه بما قبله أيضا. وفي رواية مسلم: "ويمس من الطيب ما يقدر عليه " وفي رواية: "ولو من طيب المرأة " قال عياض: يحتمل قوله: "ما يقدر عليه " إرادة التأكيد ليفعل ما أمكنه، ويحتمل إرادة الكثرة، والأول أظهر. ويؤيده قوله: "ولو من طيب المرأة " لأنه يكره استعماله للرجل، وهو ما ظهر لونه وخفي ريحه، فإباحته للرجل لأجل عدم غيره يدل على تأكد الأمر في ذلك. ويؤخذ من اقتصاره على المس الأخذ بالتخفيف في ذلك. قال الزين ابن المنير: فيه تنبيه على الرفق، وعلى تيسير الأمر في التطيب بأن يكون بأقل ما يمكن حتى إنه يجزئ مسه من غير تناول قدر ينقصه تحريضا على امتثال الأمر فيه. قوله: "قال عمرو" أي ابن سليم راوي الخبر، وهو موصول بالإسناد المذكور إليه. قوله: "وأما الاستنان والطيب فالله أعلم" هذا يؤيد ما تقدم من أن العطف لا يقتضي التشريك من جميع الوجوه، وكأن القدر المشترك تأكيد الطلب للثلاثة، وكأنه جزم بوجوب الغسل دون غيره للتصريح به في الحديث، وتوقف فيما عداه لوقوع الاحتمال فيه. قال الزين بن المنير: يحتمل أن يكون قوله: "وأن يستن " معطوفا على الجملة المصرحة بوجوب الغسل فيكون واجبا أيضا، ويحتمل أن يكون مستأنفا فيكون التقدير وأن يستن ويتطيب استحبابا، ويؤيد الأول ما سيأتي في آخر الباب من رواية الليث عن خالد بن يزيد حيث قال فيها " إن الغسل واجب " ثم قال: "والسواك وأن يمس من الطيب " ويأتي في شرح " باب الدهن يوم الجمعة " حديث ابن عباس " وأصيبوا من الطيب " وفيه تردد ابن عباس في وجوب الطيب. وقال ابن الجوزي: يحتمل أن يكون قوله: "وأن يستن الخ " من كلام أبي سعيد خلطه الراوي بكلام النبي صلى الله عليه وسلم. انتهى. وإنما قال ذلك لأنه ساقه بلفظ: "قال

(2/364)


أبو سعيد وأن يستن " وهذا لم أره في شيء من نسخ الجمع بين الصحيحين الذي تكلم ابن الجوزي عليه. ولا في واحد من الصحيحين ولا في شيء من المسانيد والمستخرجات، بل ليس في جميع طرق هذا الحديث: "قال أبو سعيد " فدعوى الإدراج قيه لا حقيقة لها، ويلتحق بالاستنان والتطيب التزين باللباس، وسيأتي استعمال الخمس التي عدت من الفطرة، وقد صرح ابن حبيب من المالكية به فقال: يلزم الآتي الجمعة جميع ذلك، وسيأتي في " باب الدهن للجمعة " " ويدهن من دهنه وبمس من طيبه " والله أعلم. قوله: "قال أبو عبد الله" أي البخاري، ومراده بما ذكر أن محمد بن المنكدر وإن كان يكنى أيضا أبا بكر لكنه ممن كان مشهورا باسمه دون كنيته، بخلاف أخيه أبي بكر راوي هذا الخبر فإنه لا اسم له إلا كنيته، وهو مدني تابعي كشيخه. قوله: "روى عنه بكير بن الأشج وسعيد بن أبي هلال" كذا في رواية أبي ذر، ولغيره: "رواه عنه " وكأن المراد أن شعبة لم ينفرد برواية هذا الحديث عنه لكن بين رواية بكير وسعيد مخالفة في موضع من الإسناد، فرواية بكير موافقة لرواية شعبة ورواية سعيد أدخل فيها بين عمرو بن سليم وأبي سعيد واسطة كما أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي من طريق عمرو بن الحارث أن سعيد بن أبي هلال وبكير بن الأشج حدثاه عن أبي بكر بن المنكدر عن عمرو بن سليم عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري عن أبيه فذكر الحديث وقال في آخره: "إلا أن بكيرا لم يذكر عبد الرحمن " وكذلك أخرج أحمد من طريق ابن لهيعة عن بكير ليس فيه عبد الرحمن، وغفل الدار قطني في " العلل " عن هذا الكلام الأخير فجزم بأن بكيرا وسعيدا خالفا شعبة فزادا في الإسناد عبد الرحمن وقال: إنهما ضبطا إسناده وجوداه وهو الصحيح، وليس كما قال، بل المنفرد بزيادة عبد الرحمن هو سعيد بن أبي هلال، وقد وافق شعبة وبكيرا على إسقاطه محمد بن المنكدر أخو أبي بكر أخرجه ابن خزيمة من طريقه، والعدد الكثير أولى بالحفظ من واحد. والذي يظهر أن عمرو ابن سليم سمعه من عبد الرحمن بن أبي سعيد عن أبيه، ثم لقي أبا سعيد فحدثه، وسماعه منه ليس بمنكر لأنه قديم ولد في خلافة عمر بن الخطاب ولم يوصف بالتدليس. وحكى الدار قطني في " العلل " فيه اختلافا آخر على علي بن المديني شيخ البخاري فيه، فذكر أن الباغندي حدث به عنه بزيادة عبد الرحمن أيضا، وخالفه تمام عنه فلم يذكر عبد الرحمن، وفيما قال نظر، فقد أخرجه الإسماعيلي عن الباغندي بإسقاط عبد الرحمن، وكذا أخرجه أبو نعيم في المستخرج عن أبي إسحاق بن حمزة وأبي أحمد الغطريفي كلاهما عن الباغندي، فهؤلاء ثلاثة من الحفاظ حدثوا به عن الباغندي فلم يذكروا عبد الرحمن في الإسناد، فلعل الوهم فيه ممن حدث به الدار قطني عن الباغندي، وقد وافق البخاري على ترك ذكره محمد بن يحيى الذهلي عند الجوزقي ومحمد بن عبد الرحيم صاعقة عند ابن خزيمة وعبد العزيز بن سلام عند الإسماعيلي وإسماعيل القاضي عند ابن منده في " غرائب شعبة " كلهم عن علي بن المديني، ووافق علي بن المديني على ترك ذكره أيضا إبراهيم ابن محمد وإسماعيل بن عرعرة عن حرمي بن عمارة عند أبي بكر المروذي في " كتاب الجمعة " له ولم أقف عليه من حديث شعبة إلا من طريق حرمي وأشار ابن منده إلى أنه تفرد به عنه. "تنبيه" ذكر المزي في " الأطراف " أن البخاري قال عقب رواية شعبة هذه: وقال الليث عن خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال عن أبي بكر بن المنكدر عن عمرو بن سليم عن عبد الرحمن بن أبي سعيد عن أبيه، ولم أقف على هذا التعليق في شيء من النسخ التي وقعت لنا من الصحيح، ولا ذكره أبو مسعود ولا خلف، وقد وصله من طريق الليث كذلك أحمد والنسائي وابن خزيمة بلفظ: "أن الغسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم، والسواك، وأن يمس من الطيب ما يقدر عليه" .

(2/365)


4 - باب فَضْلِ الْجُمُعَةِ
881- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ سُمَيٍّ مَوْلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "مَنْ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ غُسْلَ الْجَنَابَةِ ثُمَّ رَاحَ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كَبْشًا أَقْرَنَ وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةً وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْخَامِسَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَيْضَةً فَإِذَا خَرَجَ الإِمَامُ حَضَرَتْ الْمَلاَئِكَةُ يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ "
قوله: "باب فضل الجمعة" أورد فيه حديث مالك عن سمي عن أبي صالح عن أبي هريرة " من اغتسل يوم الجمعة ثم راح " الحديث. وإسناده مدنيون، ومناسبته للترجمة من جهة ما اقتضاه الحديث من مساواة المبادر إلى الجمعة للمتقرب بالمال فكأنه جمع بين عبادتين بدنية ومالية، وهذه خصوصية للجمعة لم تثبت لغيرها من الصلوات. قوله: "من اغتسل" يدخل فيه كل من يصح التقرب منه من ذكر أو أنثى حر أو عبد. قوله: "غسل الجنابة" بالنصب على أنه نعت لمصدر محذوف أي غسلا كغسل الجنابة، وهو كقوله تعالى: {وهي تمر مر السحاب} وفي رواية ابن جريج عن سمي عند عبد الرزاق " فاغتسل أحدكم كما يغتسل من الجنابة " وظاهره أن التشبيه للكيفية لا للحكم وهو قول الأكثر، وقيل فيه إشارة إلى الجماع يوم الجمعة ليغتسل فيه من الجنابة، والحكمة فيه أن تسكن نفسه في الرواح إلى الصلاة ولا تمتد عينه إلى شيء يراه، وفيه حمل المرأة أيضا على الاغتسال ذلك اليوم، وعليه حمل قائل ذلك حديث: "من غسل واغتسل " المخرج في السنن على رواية من روى غسل بالتشديد، قال النووي: ذهب بعض أصحابنا إلى هذا وهو ضعيف أو باطل، والصواب الأول. انتهى. وقد حكاه ابن قدامة عن الإمام أحمد، وثبت أيضا عن جماعة من التابعين. وقال القرطبي: إنه أنسب الأقوال فلا وجه لادعاء بطلانه وإن كان الأول أرجح صلى الله عليه وسلم ولعله عنى أنه باطل في المذهب. قوله: "ثم راح" زاد أصحاب الموطأ عن مالك " في الساعة الأولى". قوله: "فكأنما قرب بدنة" أي تصدق بها متقربا إلى الله، وقيل المراد أن للمبادر في أول ساعة نظير ما لصاحب البدنة من الثواب ممن شرع له القربان، لأن القربان لم يشرع لهذه الأمة على الكيفية التي كانت للأمم السالفة. وفي رواية ابن جريج المذكورة " فله من الأجر مثل الجزور " وظاهره أن المراد أن الثواب لو تجسد لكان قدر الجزور صلى الله عليه وسلم. وقيل ليس المراد بالحديث إلا بيان تفاوت المبادرين إلى الجمعة، وأن نسبة الثاني من الأول نسبة البقرة إلى البدنة في القيمة مثلا، ويدل عليه أن في مرسل طاوس عند عبد الرزاق " كفضل صاحب الجزور على صاحب البقرة " ووقع في رواية الزهري الآتية في " باب الاستماع إلى الخطبة " بلفظ: "كمثل الذي يهدي بدنة " فكأن المراد بالقربان في رواية الباب الإهداء إلى الكعبة. قال الطيبي: في لفظ الإهداء إدماج بمعنى التعظيم للجمعة، وأن المبادر إليها كمن ساق الهدي،
ـــــــ
(1) في مخطوطةالرياض " راجحا"
(2) ليس هذا بشيء , والصواب أن معنى رواية ابن جريج موافق لمعنى بقية الروايات , وأن المراد بذلك بيان فضل المبادر إلى الجمعة , وأنه بمنزلة من قرب بدنة إلخ . والله أعلم

(2/366)


والمراد بالبدنة البعير ذكرا كان أو أنثى، والهاء فيها للوحدة لا للتأنيث، وكذا في باقي ما ذكر. وحكى ابن التين عن مالك أنه كان يتعجب ممن يخص البدنة بالأنثى. وقال الأزهري في شرح ألفاظ المختصر: البدنة لا تكون إلا من الإبل، وصح ذلك عن عطاء، وأما الهدي فمن الإبل والبقر والغنم، هذا لفظه. وحكى النووي عنه أنه قال: البدنة تكون من الإبل والبقر والغنم، وكأنه خطأ نشأ عن سقط. وفي الصحاح: البدنة ناقة أو بقرة تنحر بمكة، سميت بذلك لأنهم كانوا يسمنونها. انتهى. والمراد بالبدنة هنا الناقة بلا خلاف، واستدل به على أن البدنة تختص بالإبل لأنها قوبلت بالبقرة عند الإطلاق، وقسم الشيء لا يكون قسيمه، أشار إلى ذلك ابن دقيق العيد. وقال إمام الحرمين: البدنة من الإبل، ثم الشرع قد يقيم مقامها البقرة وسبعا من الغنم. وتظهر ثمرة هذا فيما إذا قال: لله علي بدنة، وفيه خلاف، الأصح تعين الإبل إن وجدت، وإلا فالبقرة أو سبع من الغنم. وقيل: تتعين الإبل مطلقا، وقيل يتخير مطلقا. قوله: "دجاجة" بالفتح، ويجوز الكسر، وحكى الليث الضم أيضا. وعن محمد بن حبيب أنها بالفتح من الحيوان وبالكسر من الناس. واستشكل التعبير في الدجاجة والبيضة بقوله في رواية الزهري " كالذي يهدى " لأن الهدي لا يكون منهما، وأجاب القاضي عياض تبعا لابن بطال بأنه لما عطفه على ما قبله أعطاه حكمه في اللفظ فيكون من الاتباع كقوله: "متقلدا سيفا ورمحا". وتعقبه ابن المنير في الحاشية بأن شرط الاتباع أن لا يصرح باللفظ في الثاني فلا يسوغ أن يقال متقلدا سيفا ومتقلدا رمحا. والذي يظهر أنه من باب المشاكلة، وإلى ذلك أشار ابن العربي بقوله: هو من تسمية الشيء باسم قرينه. وقال ابن دقيق العيد: قوله: "قرب بيضة " وفي الرواية الأخرى " كالذي يهدي " يدل على أن المراد بالتقريب الهدي، وينشأ منه أن الهدي يطلق على مثل هذا حتى لو التزم هديا هل يكفيه ذلك أو لا؟ انتهى. والصحيح عند الشافعية الثاني، وكذا عند الحنفية والحنابلة، وهذا ينبني على أن النذر هل يسلك به مسلك جائز الشرع أو واجبه؟ فعلى الأول يكفي أقل ما يتقرب به، وعلى الثاني يحمل على أقل ما يتقرب به من ذلك الجنس، ويقوي الصحيح أيضا أن المراد بالهدي هنا التصدق كما دل عليه لفظ التقرب، والله أعلم. قوله: "فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر" استنبط منه الماوردي أن التبكير لا يستحب للإمام، قال: ويدخل للمسجد من أقرب أبوابه إلى المنبر، وما قاله غير ظاهر لإمكان أن يجمع الأمرين بأن يبكر ولا يخرج من المكان المعد له في الجامع إلا إذا حضر الوقت، أو يحمل على من ليس له مكان معد. وزاد في رواية الزهري الآتية " طووا صحفهم " ولمسلم من طريقه " فإذا جلس الإمام طووا الصحف وجاءوا يستمعون الذكر " وكأن ابتداء طي الصحف عند ابتداء خروج الإمام وانتهاءه بجلوسه على المنبر، وهو أول سماعهم للذكر، والمراد به ما في الخطبة من المواعظ وغيرها. وأول حديث الزهري " إذا كان يوم الجمعة وقفت الملائكة على باب المسجد يكتبون الأول فالأول " ونحوه في رواية ابن عجلان عن سمي عند النسائي. وفي رواية العلاء عن أبيه عن أبي هريرة عند ابن خزيمة: "على كل باب من أبواب المسجد ملكان يكتبان الأول فالأول " فكأن المراد بقوله في رواية الزهري " على باب المسجد " حنس الباب، ويكون من مقابلة المجموع بالمجموع، فلا حجة فيه لمن أجاز التعبير عن الاثنين بلفظ الجمع. ووقع في حديث ابن عمر صفة الصحف المذكورة، أخرجه أبو نعيم في الحليلة مرفوعا بلفظ: "إذا كان يوم الجمعة بعث الله ملائكة بصحف من نور وأقلام من نور " الحديث، وهو دال على أن الملائكة المذكورين غير الحفظة، والمراد بطي الصحف طي صحف الفضائل المتعلقة بالمبادرة إلى الجمعة دون غيرها من سماع الخطبة وإدراك الصلاة

(2/367)


والذكر والدعاء والخشوع ونحو ذلك، فإنه يكتبه الحافظان قطعا، ووقع في رواية ابن عيينة عن الزهري في آخر حديثه المشار إليه عند ابن ماجه: "فمن جاء بعد ذلك فإنما يجيء لحق الصلاة " وفي رواية ابن جريج عن سمي من الزيادة في آخره: "ثم إذا استمع وأنصت غفر له ما بين الجمعتين وزيادة ثلاثة أيام" . وفي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عند ابن خزيمة: "فيقول بعض الملائكة لبعض: ما حبس فلانا؟ فتقول: اللهم إن كان ضالا فاهده، وإن كان فقيرا فأغنه، وإن كان مريضا فعافه" . وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدم الحض على الاغتسال يوم الجمعة وفضله، وفضل التبكير إليها، وأن الفضل المذكور إنما يحصل لمن جمعهما. وعليه يحمل ما أطلق في باقي الروايات من ترتب الفضل على التبكير من غير تقييد بالغسل. وفيه أن مراتب الناس في الفضل بحسب أعمالهم، وأن القليل من الصدقة غير محتقر في الشرع، وأن التقرب بالإبل أفضل من التقرب بالبقر وهو بالاتفاق في الهدي، واختلف في الضحايا، والجمهور على أنها كذلك. وقال الزين بن المنير: فرق مالك بين التقربين باختلاف المقصودين، لأن أصل مشروعية الأضحية التذكير بقصة الذبيح، وهو قد فدى بالغنم. والمقصود بالهدي التوسعة على المساكين فناسب البدن. واستدل به على أن الجمعة تصح قبل الزوال كما سيأتي نقل الخلاف فيه بعد أبواب، ووجه الدلالة منه تقسيم الساعة إلى خمس. ثم عقب بخروج الإمام، وخروجه عند أول وقت الجمعة، فيقتضي أنه يخرج في أول الساعة السادسة وهي قبل الزوال. والجواب أنه ليس في شيء من طرق هذا الحديث ذكر الإتيان من أول النهار، فلعل الساعة الأولى منه جعلت للتأهب بالاغتسال وغيره، ويكون مبدأ المجيء من أول الثانية فهي أولى بالنسبة للمجيء ثانية بالنسبة للنهار، وعلى هذا فآخر الخامسة أول الزوال فيرتفع الإشكال، وإلى هذا أشار الصيدلاني شارح المختصر حيث قال: إن أول التبكير يكون من ارتفاع النهار، وهو أول الضحى، وهو أول الهاجرة. ويؤيده الحث على التهجير إلى الجمعة. ولغيره من الشافعية في ذلك وجهان اختلف فيهما الترجيح، فقيل: أول التبكير طلوع الشمس، وقيل طلوع الفجر، ورجحه جمع، وفيه نظر إذ يلزم منه أن يكون التأهب قبل طلوع الفجر، وقد قال الشافعي: يجزئ الغسل إذا كان يعد الفجر فأشعر بأن الأولى أن يقع بعد ذلك. ويحتمل أن يكون ذكر الساعة السادسة لم يذكره الراوي، وقد وقع في رواية ابن عجلان عن سمي عند النسائي من طريق الليث عنه زيادة مرتبة بين الدجاجة والبيضة وهي العصفور، وتابعة صفوان بن عيسى عن ابن عجلان، أخرجه محمد بن عبد السلام الخشني، وله شاهد من حديث أبي سعيد أخرجه حميد بن زنجويه في الترغيب له بلفظ: "فكمهدي البدنة إلى البقرة إلى الشاة إلى علية الطير إلى العصفور " الحديث، ونحوه في مرسل طاوس عند سعيد بن منصور، ووقع عند النسائي أيضا في حديث الزهري من رواية عبد الأعلى عن معمر زيادة البطة بين الكبش والدجاجة، لكن خالفه عبد الرزاق، وهو أثبت منه في معمر فلم يذكرها، وعلى هذا فخروج الإمام يكون عند انتهاء السادسة، وهذا كله مبني على أن المراد بالساعات ما يتبادر الذهن إليه من العرف فيها، وفيه نظر إذ لو كان ذلك المراد لاختلف الأمر في اليوم الشاتي والصائف، لأن النهار ينتهي في القصر إلى عشر ساعات وفي الطول إلى أربع عشرة، وهذا الإشكال للقفال، وأجاب عنه القاضي حسين بأن المراد بالساعات ما لا يختلف عدده بالطول والقصر، فالنهار اثنتا عشرة ساعة لكن يزيد كل منها وينقص والليل كذلك، وهذه تسمى الساعات الآفاقية عند أهل الميقات وتلك التعديلية، وقد روى أبو داود والنسائي وصححه الحاكم من حديث جابر مرفوعا: "يوم الجمعة اثنتا عشرة ساعة " وهذا وإن لم يرد في حديث التبكير فيستأنس به في المراد

(2/368)


بالساعات، وقيل المراد بالساعات بيان مراتب المبكرين من أول النهار إلى الزوال وأنها تنقسم إلى خمس، وتجاسر الغزالي فقسمها برأيه فقال: الأولى من طلوع. الفجر إلى طلوع الشمس، والثانية إلى ارتفاعها، والثالثة إلى انبساطها، والرابعة إلى أن ترمض الأقدام، والخامسة إلى الزوال. واعترضه ابن دقيق العيد بأن الرد إلى الساعات المعروفة أولى وإلا لم يكن لتخصيص هذا العدد بالذكر معنى لأن المراتب متفاوتة جدا، وأولى الأجوبة الأول إن لم تكن زيادة ابن عجلان محفوظة، وإلا فهي المعتمدة. وانفصل المالكية إلا قليلا منهم وبعض الشافعية عن الإشكال بأن المراد بالساعات الخمس لحظات لطيفة أولها زوال الشمس وآخرها قعود الخطيب على المنبر، واستدلوا على ذلك بأن الساعة تطلق على جزء من الزمان غير محدود، تقول جئت ساعة كذا، وبأن قوله في الحديث: "ثم راح " يدل على أن أول الذهاب إلى الجمعة من الزوال، لأن حقيقة الرواح من الزوال إلى آخر النهار، والغدو من أوله إلى الزوال. قال المازري: تمسك مالك بحقيقة الرواح وتجوز في الساعة وعكس غيره. انتهى. وقد أنكر الأزهري على من زعم أن الرواح لا يكون إلا بعد الزوال، ونقل أن العرب تقول " راح " في جميع الأوقات بمعنى ذهب، قال: وهي لغة أهل الحجاز، ونقل أبو عبيد في " الغريبين " نحوه. قلت: وفيه رد على الزين بن المنير حيث أطلق أن الرواح لا يستعمل في المضي في أول النهار بوجه، وحيث قال إن استعمال الرواح بمعنى الغدو لم يسمع ولا ثبت ما يدل عليه. ثم إني لم أر التعبير بالرواح في شيء من طرق هذا الحديث إلا في رواية مالك هذه عن سمي، وقد رواه ابن جريج عن سمي بلفظ: "غدا " ورواه أبو سلمة عن أبي هريرة بلفظ: "المتعجل إلى الجمعة كالمهدي بدنة " الحديث وصححه ابن خزيمة، وفي حديث سمرة " ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل الجمعة في التبكير كناحر صلى الله عليه وسلم البدنة " الحديث، أخرجه ابن ماجه، ولأبي داود من حديث علي مرفوعا: "إذا كان يوم الجمعة غدت الشياطين براياتها إلى الأسواق، وتغدو الملائكة فتجلس على باب المسجد فتكتب الرجل من ساعة والرجل من ساعتين " الحديث، فدل مجموع هذه الأحاديث على أن المراد بالرواح الذهاب، وقيل: النكتة في التعبير بالرواح الإشارة إلى أن الفعل المقصود إنما يكون بعد الزوال، فيسمى الذاهب إلى الجمعة رائحا وإن لم يجيء وقت الرواح، كما سمي القاصد إلى مكة حاجا. وقد اشتد إنكار أحمد وابن حبيب من المالكية ما نقل عن مالك من كراهية التبكير إلى الجمعة وقال أحمد: هذا خلاف حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. واحتج بعض المالكية أيضا بقوله في رواية ا لزهري " مثل المهجر " لأنه مشتق من التهجر وهو السير في وقت الهاجرة، وأجيب بأن المراد بالتهجير هنا التبكير كما تقدم نقله عن الخليل في المواقيت. وقال ابن المنير في الحاشية: يحتمل أن يكون مشتقا من الهجير بالكسر وتشديد الجيم وهو ملازمة ذكر الشيء، وقيل: هو من هجر المنزل وهو ضعيف لأن مصدره الهجر لا التهجير. وقال القرطبي: الحق أن التهجير هنا من الهاجرة وهو السير وقت الحر، وهو صالح لما قبل الزوال وبعده، فلا حجة فيه لمالك. وقال التوربشتي: جعل الوقت الذي يرتفع فيه النهار ويأخذ الحر في الازدياد من الهاجرة تغليبا، بخلاف ما بعد زوال الشمس فإن الحر يأخذ في الانحطاط، ومما يدل على استعمالهم التهجير في أول النهار ما أنشد ابن الأعرابي في نوادره لبعض العرب تهجرون تهجير الفجر واحتجوا أيضا بأن الساعة لو لم تطل لزم تساوي الآتين فيها، والأدلة تقتضي رجحان السابق،
ـــــــ
(1) في مخطوطة الرياض " كأجر "
(2) في المخطوطة "تهجيرالعرب "

(2/369)


بخلاف ما إذا قلنا إنها لحظة لطيفة. والجواب ما قاله النووي في شرح المهذب تبعا لغيره. أن التساوي وقع في مسمى البدنة والتفاوت في صفاتها، ويؤيده أن في رواية ابن عجلان تكرير كل من المتقرب به مرتين حيث قال: "كرجل قدم بدنة، وكرجل قدم بدنة " الحديث ولا يرد على هذا أن في رواية ابن جريج صلى الله عليه وسلم: "وأول الساعة وآخرها سواء " لأن هذه التسوبة بالنسبة إلى البدنة كما تقرر. واحتج من كره التبكير أيضا بأنه يستلزم تخطي الرقاب في الرجوع لمن عرضت له حاجة فخرج لها ثم رجع، وتعقب بأنه لا حرج عليه في هذه الحالة لأنه قاصد للوصول لحقه. وإنما الحرج على من تأخر عن المجيء ثم جاء فتخطى، والله سبحانه وتعالى أعلم.

(2/370)


باب حدثنا أتو نعيم قال حدثنا شيبان عن يحي عن أبي هريرة
...
5 – باب
288 -حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيَى هُوَ ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَيْنَمَا هُوَ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِذْ دَخَلَ رَجُلٌ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِمَ تَحْتَبِسُونَ عَنْ الصَّلاَةِ فَقَالَ الرَّجُلُ مَا هُوَ إِلاَّ أَنْ سَمِعْتُ النِّدَاءَ تَوَضَّأْتُ فَقَالَ أَلَمْ تَسْمَعُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِذَا رَاحَ أَحَدُكُمْ إِلَى الْجُمُعَةِ فَلْيَغْتَسِلْ "
قوله: "باب" كذا في الأصل بغير ترجمة، وهو كالفصل من الباب الذي قبله، ووجه تعلقه به أن فيه إشارة إلى الرد على من ادعى إجماع أهل المدينة على ترك التبكير إلى الجمعة لأن عمر أنكر عدم التبكير بمحضر من الصحابة وكبار التابعين من أهل المدينة. ووجه دخوله في فضل الجمعة ما يلزم من إنكار عمر على الداخل احتباسه مع عظم شأنه، فإنه لولا عظم الفضل في ذلك لما أنكر عليه، وإذا ثبت الفضل في التبكير إلى الجمعة ثبت الفضل لها. قوله: "إذ دخل رجل" سماه عبيد الله بن موسى في روايته عن شيبان " عثمان بن عفان " أخرجه الإسماعيلي ومحمد بن سابق عن شيبان عند قاسم بن أصبغ، وكذا سماه الأوزاعي عند مسلم وحرب بن شداد عند الطحاوي كلاهما عن يحيى بن أبي كثير، وصرح مسلم في روايته بالتحديث في جميع الإسناد. وقد تقدمت بقية مباحثه في " باب فضل الغسل يوم الجمعة".

(2/370)


6 - باب الدُّهْنِ لِلْجُمُعَةِ
883- حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ ابْنِ وَدِيعَةَ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لاَ يَغْتَسِلُ رَجُلٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَيَتَطَهَّرُ مَا اسْتَطَاعَ مِنْ طُهْرٍ وَيَدَّهِنُ مِنْ دُهْنِهِ أَوْ يَمَسُّ مِنْ طِيبِ بَيْتِهِ ثُمَّ يَخْرُجُ فَلاَ يُفَرِّقُ بَيْنَ اثْنَيْنِ ثُمَّ يُصَلِّي مَا كُتِبَ لَهُ ثُمَّ يُنْصِتُ إِذَا تَكَلَّمَ الإِمَامُ إِلاَّ غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الأُخْرَى
[الحديث883- طرفه في: 910]
884- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ طَاوُسٌ قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ ذَكَرُوا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ اغْتَسِلُوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاغْسِلُوا رُءُوسَكُمْ وَإِنْ لَمْ تَكُونُوا جُنُبًا وَأَصِيبُوا مِنْ الطِّيبِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ
ـــــــ
(1) في المخطوطة"ابن عجلان"

(2/370)


7 - باب يَلْبَسُ أَحْسَنَ مَا يَجِدُ
886- حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن عمر بن الخطاب رأى حلة سيراء ثم باب المسجد فقال ثم يا رسول الله لو اشتريت هذه فلبستها يوم الجمعة وللوفد إذا قدموا عليك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة ثم جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم منها حلل فأعطى عمر بن الخطاب رضي الله عنه منها حلة فقال عمر يا رسول الله كسوتنيها وقد قلت في حلة

(2/373)


8 - باب السِّوَاكِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَنُّ
887- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي أَوْ عَلَى النَّاسِ لاَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ مَعَ كُلِّ صَلاَةٍ "
[الحديث887- طرفه في: 7240]
888- حدثنا أبو معمر قال حدثنا عبد الوارث قال حدثنا شعيب بن الحبحاب حدثنا أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أكثرت عليكم في السواك "

(2/374)


889- حدثنا محمد بن كثير قال أخبرنا سفيان عن منصور وحصين عن أبي وائل عن حذيفة قال " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام يشوص فاه "
قوله: "باب السواك يوم الجمعة" أورد فيه حديثا معلقا وثلاثة موصولة، والمعلق طرف من حديث أبي سعيد المذكور في " باب الطيب للجمعة " فإن فيه: "وأن يستن " أي يدلك أسنانه بالسواك." وأما الموصولة فأولها حديث أبي هريرة " لولا أن أشق " ومطابقته للترجمة من جهة اندراج الجمعة في عموم قوله: "كل صلاة " وقال الزين بن المنير: لما خصت الجمعة بطلب تحسين الظاهر من الغسل والتنظيف والتطيب ناسب ذلك تطيب الفم الذي هو محل الذكر والمناجاة، وإزالة ما يضر الملائكة وبني آدم. ثاني الموصولة حديث أنس " أكثرت عليكم في السواك " قال ابن رشيد مناسبته للذي قبله من جهة أن سبب منعه من إيجاب السواك واحتياجه إلى الاعتذار عن إكثاره عليهم فيه وجود المشقة، ولا مشقة في فعل ذلك في يوم واحد وهو يوم الجمعة. ثالث الموصولة حديث حذيفة " أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل يشوص فاه " ووجه. مناسبته أنه شرع في الليل لتجمل الباطن فيكون في الجمعة أحرى لأنه شرع لها التجمل في الباطن والظاهر، وقد تقدم الكلام على حديث حذيفة في آخر كتاب الوضوء وأما حديث أبي هريرة فلم يختلف على مالك في إسناده وإن كان له في أصل الحديث إسناد آخر بلفظ آخر سيأتي الكلام عليه في كتاب الصيام إن شاء الله تعالى. قوله: "أو لولا أن أشق على الناس" هو شك من الراوي، ولم أقف عليه بهذا اللفظ في شيء من الروايات عن مالك ولا عن غيره، وقد أخرجه الدار قطني في الموطآت من طريق الموطأ لعبد الله بن يوسف شيخ البخاري فيه بهذا الإسناد بلفظ: "أو على الناس " لم يعد قوله: "لولا أن أشق " وكذا رواه كثير من رواة الموطأ ورواه أكثرهم بلفظ: "المؤمنين " بدل " أمتي " ورواه يحيى بن يحيى الليثي بلفظ: "على أمتي " دون الشك. قوله: "لأمرتهم بالسواك" أي باستعمال السواك، لأن السواك هو الآلة، وقد قيل إنه يطلق على الفعل أيضا. فعلى هذا لا تقدير. والسواك مذكر على الصحيح، وحكى في الحكم تأنيثه، وأنكر ذلك الأزهري. قوله: "مع كل صلاة" لم أرها أيضا في شيء من روايات الموطأ إلا عن معن بن عيسى لكن بلفظ: "عند كل صلاة " وكذا النسائي عن قتيبة عن مالك، وكذا رواه مسلم من طريق ابن عيينة عن أبي الزناد، وخالفه سعيد بن أبي هلال عن الأعرج فقال: "مع الوضوء " بدل الصلاة أخرجه أحمد من طريقه، قال القاضي البيضاوي: "لولا " كلمة تدل على انتقاء الشيء لثبوت غيره، والحق أنها مركبة من " لو " الدالة على انتفاء الشيء لانتفاء غيره و " لا " النافية، فدل الحديث على انتفاء الأمر لثبوت المشقة لأن انتفاء النفي ثبوت فيكون الأمر منفيا لثبوت المشقة، وفيه دليل على أن الأمر للوجوب من وجهين: أحدهما أنه نفي الأمر مع ثبوت الندبية، ولو كان للندب لما جاز النفي، ثانيهما أنه جعل الأمر مشقة عليهم وذلك إنما يتحقق إذا كان الأمر للوجوب، إذ الندب لا مشقة فيه لأنه جائز الترك. وقال الشيخ أبو إسحاق في " اللمع " في هذا الحديث دليل على أن الاستدعاء على جهة الندب ليس بأمر حقيقة لأن السواك عند كل صلاة مندوب إليه، وقد أخبر الشارع أنه لم يأمر به ا هـ. ويؤكده قوله في رواية سعيد المقبري عن أبي هريرة عند النسائي بلفظ: "لفرضت عليهم " بدل لأمرتهم. وقال الشافعي: فيه دليل على أن السواك ليس بواجب لأنه لو كان واجبا لأمرهم شق عليهم به أو لم يشق ا هـ. وإلى القول بعدم وجوبه صار أكثر أهل العلم، بل ادعى بعضهم فيه الإجماع، لكن حكى الشيخ

(2/375)


أبو حامد وتبعه الماوردي عن إسحاق بن راهويه قال: هو واجب لكل صلاة، فمن تركه عامدا بطلت صلاته. وعن داود أنه قال: وهو واجب لكن ليس شرطا. واحتج من قال بوجوبه بورود الأمر به، فعند ابن ماجه من حديث أبي أمامة مرفوعا: "تسوكوا " ولأحمد نحوه من حديث العباس، وفي الموطأ في أثناء حديث: "عليكم بالسواك " ولا يثبت شيء منها، وعلى تقدير الصحة فالمنفي في مفهوم حديث الباب الأمر به مقيدا بكل صلاة لا مطلق الأمر، ولا يلزم من نفي المقيد نفي المطلق ولا من ثبوت المطلق التكرار كما سيأتي. واستدل بقوله: "كل صلاة " على استحبابه للفرائض والنوافل، ويحتمل أن يكون المراد الصلوات المكتوبة وما ضاهاها من النوافل التي ليست تبعا لغيرها كصلاة العيد، وهذا اختاره أبو شامة، ويتأيد بقوله في حديث أم حبيبة عند أحمد بلفظ: "لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة كما يتوضئون " وله من طريق أبي سلمة عن أبي هريرة بلفظ: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم عند كل صلاة بوضوء، ومع كل وضوء بسواك " فسوى بينهما. وكما أن الوضوء لا يندب للراتبة التي بعد الفريضة إلا إن طال الفصل مثلا، فكذلك السواك. ويمكن أن يفرق بينهما بأن الوضوء أشق من السواك، ويتأيد بما رواه ابن ماجه من حديث ابن عباس قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ركعتين، ثم ينصرف فيستاك " وإسناده صحيح، لكنه مختصر من حديث طويل أورده أبو داود، وبين فيه أنه تخلل بين الانصراف والسواك نوم. وأصل الحديث في مسلم مبينا أيضا. واستدل به على أن الأمر يقتضي التكرار، لأن الحديث دل على كون المشقة هي المانعة من الأمر بالسواك، ولا مشقة في وجوبه مرة، وإنما المشقة في وجوب التكرار. وفي هذا البحث نظر، لأن التكرار لم يؤخذ هنا من مجرد الأمر، وإنما أخذ من تقييده بكل صلاة. وقال المهلب: فيه أن المندوبات ترتفع إذا خشي منها الحرج. وفيه ما كان النبي صلى الله عليه وسلم عليه من الشفقة على أمته. وفيه جواز الاجتهاد منه فيما لم ينزل عليه فيه نص، لكونه جعل المشقة سببا لعدم أمره، فلو كان الحكم متوقفا على النص لكان سبب انتفاء الوجوب عدم ورود النص لا وجود المشقة. قال ابن دقيق العيد: وفيه بحث، وهو كما قال، ووجهه أنه يجوز أن يكون إخبارا منه صلى الله عليه وسلم بأن سبب عدم ورود النص وجود المشقة، فيكون معنى قوله: "لأمرتهم " أي عن الله بأنه واجب. واستدل به النسائي على استحباب السواك للصائم بعد الزوال، لعموم قوله: "كل صلاة"، وسيأتي البحث فيه في كتاب الصيام. "فائدة": قال ابن دقيق العيد: الحكمة في استحباب السواك عند القيام إلى الصلاة كونها حالا رب إلى الله، فاقتضى أن تكون حال كمال ونظافة إظهارا لشرف العبادة، وقد ورد من حديث علي عند البزار ما يدل على أنه لأمر يتعلق بالملك الذي يستمع القرآن من المصلي، فلا يزال يدنو منه حتى يضع فاه على فيه، لكنه لا ينافي ما تقدم. وأما حديث أنس فرجال إسناده بصريون، وقوله: "أكثرت " وقع في رواية الإسماعيلي: "لقد أكثرت الخ " أي بالغت في تكرير طلبه منكم، أو في إيراد الأخبار في الترغيب فيه. وقال ابن التين: معناه أكثرت عليكم، وحقيق أن أفعل، وحقيق أن تطيعوا. وحكى الكرماني أنه روى بضم أوله أي بولغت من عند الله بطلبه منكم. ولم أقف على هذه الرواية إلى الآن صريحة. "تنبيه" ذكره ابن المنير بلفظ: "عليكم بالسواك " ولم يقع ذلك في شيء من الروايات في صحيح البخاري، وقد تعقبه ابن رشيد. واللفظ المذكور وقع في الموطأ عن الزهري عن عبيد بن السباق مرسلا، وهو في أثناء حديث وصله ابن ماجه من طريق صالح بن أبي الأخضر عن الزهري يذكر ابن عباس فيه، وسبق الكلام عليه في آخر " باب الدهن للجمعة " ورواه معمر عن الزهري قال: "أخبرني من لا

(2/376)


أتهم من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أنهم سمعوه يقول ذلك".

(2/377)


9 - باب مَنْ تَسَوَّكَ بِسِوَاكِ غَيْرِهِ
890- حدثنا إسماعيل قال حدثني سليمان بن بلال قال قال هشام بن عروة أخبرني أبي عن عائشة رضي الله عنها قالت ثم دخل عبد الرحمن بن أبي بكر ومعه سواك يستن به فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت له أعطني هذا السواك يا عبد الرحمن فأعطانيه فقصمته ثم مضغته فأعطيته رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستن به وهو مستسند إلى صدري "
[الحديث 890- أطرافه في :
[6510.5217.4451.4450.4449.4446.4438.3774.3100.1389]
قوله: "باب من تسوك بسواك غيره" أورد فيه حديث عائشة في قصة دخول عبد الرحمن بن أبي بكر على النبي صلى الله عليه وسلم ومعه سواك، وأنها أخذته منه فاستاك به النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن مضغته. وهو مطابق لما ترجم له، والكلام عليه يذكر مستوفى إن شاء الله تعالى في أواخر المغازي عند ذكر وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فإن القصة كانت في مرض موته. وقولها فيه: "فقصمته " بقاف وصاد مهملة للأكثر، أي كسرته، وفي رواية كريمة وابن السكن بضاد معجمة، والقضم بالمعجمة الأكل بأطراف الأسنان، قال ابن الجوزي: وهو أصح. قلت: ويحمل الكسر على كسر موضع الاستياك، فلا ينافي الثاني، والله أعلم. وقد أورد الزين بن المنير على مطابقة الترجمة بأن تعيين عائشة موضع الاستياك بالقطع، وأجاب أن استعماله بعد أن مضغته واف بالمقصود. وتعقب بأنه إطلاق في موضع التقييد، فينبغي تقييد الغير بأن يكون ممن لا يعاف أثر فمه، إذ لولا ذلك ما غيرته عائشة. ولا يقال لم يتقدم فيه استعمال، لأن في نفس الخبر يستن به، وفيه دلالة على تأكد أمر السواك لكونه صلى الله عليه وسلم لم يخل به مع ما هو فيه من شاغل المرض. "فائدة": رجال الإسناد مدنيون، وإسماعيل شيخ البخاري هو ابن أبي أويس، ولم أره في شيء من الروايات من غير طريق البخاري عنه بهذا الإسناد، وقد ضاق على الإسماعيلي مخرجه فاستخرجه من طريق البخاري نفسه عن إسماعيل، وكأن إسماعيل تفرد به أيضا فإنني لم أره من رواية غيره عن سليمان ابن بلال، إلا أن أبا نعيم أورده في المستخرج من طريق محمد بن الحسن المدني عن سليمان، ومحمد ضعيف جدا. فكان ما صنعه الإسماعيلي أولى. وقد سمع إسماعيل من سليمان ويروى عنه أيضا بواسطة كثيرا.

(2/377)


3 - باب مَا يُقْرَأُ فِي صَلاَةِ الْفَجْرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
891- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ هُوَ ابْنُ هُرْمُزَ الأَعْرَجُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الْجُمُعَةِ فِي صَلاَةِ الْفَجْرِ {الم تَنْزِيلُ السَّجْدَةَ } وَ {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ}
[الحديث 891 – طرفه في 1068]
قوله: "باب ما يقرأ" بضم الياء - ويجوز فتحها أي الرجل - ولم يقع قوله: "يوم الجمعة" في أكثر الروايات

(2/377)


11 - باب الْجُمُعَةِ فِي الْقُرَى وَالْمُدُنِ
892- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ عَنْ أَبِي جَمْرَةَ الضُّبَعِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ إِنَّ أَوَّلَ جُمُعَةٍ جُمِّعَتْ بَعْدَ جُمُعَةٍ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَسْجِدِ عَبْدِ الْقَيْسِ بِجُوَاثَى مِنْ الْبَحْرَيْنِ "
[الحديث 893- طرفه في: 4317

(2/379)


893- حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَرْوَزِيُّ قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنَا سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "كُلُّكُمْ رَاعٍ وَزَادَ اللَّيْثُ قَالَ يُونُسُ كَتَبَ رُزَيْقُ بْنُ حُكَيْمٍ إِلَى ابْنِ شِهَابٍ وَأَنَا مَعَهُ يَوْمَئِذٍ بِوَادِي الْقُرَى هَلْ تَرَى أَنْ أُجَمِّعَ وَرُزَيْقٌ عَامِلٌ عَلَى أَرْضٍ يَعْمَلُهَا وَفِيهَا جَمَاعَةٌ مِنْ السُّودَانِ وَغَيْرِهِمْ وَرُزَيْقٌ يَوْمَئِذٍ عَلَى أَيْلَةَ فَكَتَبَ ابْنُ شِهَابٍ وَأَنَا أَسْمَعُ يَأْمُرُهُ أَنْ يُجَمِّعَ يُخْبِرُهُ أَنَّ سَالِمًا حَدَّثَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ الإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا وَالْخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ قَالَ وَحَسِبْتُ أَنْ قَدْ قَالَ وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي مَالِ أَبِيهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ "
[الحديث 893- أطرافه في: 7138.5200.5188.2751.2558.2554]
قوله: "باب الجمعة في القرى والمدن" في هذه الترجمة إشارة إلى خلاف من خص الجمعة بالمدن دون القرى، وهو مروي عن الحنفية. وأسنده ابن أبي شيبة عن حذيفة وعلى وغيرهما وعن عمر أنه كتب إلى أهل البحرين أن جمعوا حيثما كنتم. وهذا يشمل المدن والقرى. أخرجه ابن أبي شيبة أيضا من طريق أبي رافع عن أبي هريرة عن عمر، وصححه ابن خزيمة. وروى البيهقي من طريق الوليد بن مسلم سألت الليث ابن سعد فقال: كل مدينة أو قرية فيها جماعة أمروا بالجمعة، فإن أهل مصر وسواحلها كانوا يجمعون الجمعة على عهد عمر وعثمان بأمرهما وفيهما رجال من الصحابة. وعند عبد الرزاق بإسناد صحيح عن ابن عمر أنه كان يرى أهل المياه بين مكة والمدينة يجمعون فلا يعيب عليهم، فلما اختلف الصحابة وجب الرجوع إلى المرفوع صلى الله عليه وسلم. قوله: "عن ابن عباس" كذا رواه الحفاظ من أصحاب إبراهيم بن طهمان عنه، وخالفهم المعافى ابن عمران فقال: عن ابن طهمان عن محمد بن زياد عن أبي هريرة، أخرجه النسائي، وهو خطأ من المعافى، ومن ثم تكلم محمد بن عبد الله بن عمار في إبراهيم بن طهمان ولا ذنب له فيه كما قاله صالح جزرة، وإنما الخطأ في إسناده من المعافى. ويحتمل أن يكون لإبراهيم فيه إسنادان. قوله: "إن أول جمعة جمعت" زاد وكيع عن ابن طهمان " في الإسلام " أخرجه أبو داود. قوله: "بعد جمعة" زاد المصنف في أواخر المغازي " جمعت". قوله: "في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم" في رواية وكيع " بالمدينة " ووقع في رواية المعافى المذكورة " بمكة " وهو خطأ بلا مرية. قوله: "بجواثى" بضم الجيم وتخفيف الواو وقد تهمز ثم مثلثة خفيفة. قوله: "من البحرين" في رواية وكيع " قرية من قرى البحرين " وفي أخرى عنه " من قرى عبد القيس " وكذا للإسماعيلي من رواية محمد بن أبي حفصة عن ابن طهمان، وبه يتم مراد الترجمة. ووجه الدلالة منه أن الظاهر أن عبد القيس لم يجمعوا إلا بأمر النبي صلى الله عليه وسلم لما عرف من عادة الصحابة من عدم الاستبداد بالأمور الشرعية في زمن نزول الوحي، ولأنه لو كان ذلك لا يجوز لنزل فيه القرآن كما استدل جابر وأبو سعيد على جواز العزل بأنهم فعلوه والقرآن ينزل فلم
ـــــــ
(1) وهو فصل الجمعة كما فعل أهل جواثي في حياة النبي صلى الله عليه وسلم , وذلك يدل على مشروعية إقامة الجمعة بالقرى . والله أعلم

(2/380)


ينهوا عنه. وحكى الجوهري والزمخشري وابن الأثير أن جوائي اسم حصن بالبحرين، وهذا لا ينافي كونها قرية. وحكى ابن التين صلى الله عليه وسلم عن أبي الحسن اللخمي أنها مدينة، وما ثبت في نفس الحديث من كونها قرية أصح مع احتمال أن تكون في الأول قرية ثم صارت مدينة، وفيه إشعار بتقدم إسلام عبد القيس على غيرهم من أهل القرى، وهو كذلك كما قررته في أواخر كتاب الإيمان. قوله: "أخبرنا عبد الله" هو ابن المبارك، ويونس هو ابن يزيد الأيلي. قوله: "كلكم راع وزاد الليث الخ" فيه إشارة إلى أن رواية الليث متفقة مع ابن المبارك إلا في القصة فإنها مختصة برواية الليث، ورواية الليث معلقة، وقد وصلها الذهلي عن أبي صالح كاتب الليث عنه، وقد ساق المصنف رواية ابن المبارك بهذا الإسناد في كتاب الوصايا فلم يخالف رواية الليث إلا في إعادة قوله في آخره: "وكلكم راع الخ". قوله: "وكتب رزيق بن حكيم" هو بتقديم الراء على الزاي، والتصغير في اسمه واسم أبيه في روايتنا، وهذا هو المشهور في غيرها، وقيل بتقديم الزاي وبالتصغير فيه دون أبيه. قوله: "أجمع" أي أصلي بمن معي الجمعة. قوله: "على أرض يعملها" أي يزرع فيها. قوله: "ورزيق يومئذ على أيلة" بفتح الهمزة وسكون التحتانية بعدها لام بلدة معروفة في طريق الشام بين المدينة ومصر على ساحل القلزم، وكان رزيق أميرا عليها من قبل عمر بن عبد العزيز، والذي يظهر أن الأرض التي كان يزرعها من أعمال أيلة، ولم يسأل عن أيلة نفسها لأنها كانت مدينة كبيرة ذات قلعة وهي الآن خراب ينزل بها الحاج المصري والغزي صلى الله عليه وسلم وبعض آثارها ظاهر. قوله: "وأنا أسمع" هو قول يونس، والجملة حالية، وقوله: "يأمره " حالة أخرى، وقوله: "يخبره " حال من فاعل يأمره، والمكتوب هو الحديث، والمسموع المأمور به قاله الكرماني. والذي يظهر أن المكتوب هو عين المسموع، وهو الأمر والحديث معا. وفي قوله: "كتب " تجوز كأن ابن شهاب أملاه على كاتبه فسمعه يونس منه، ويحتمل أن يكون الزهري كتبه بخطه وقرأه بلفظه فيكون فيه حذف تقديره فكتب ابن شهاب وقرأه وأنا أسمع، ووجه ما احتج به على التجميع من قوله صلى الله عليه وسلم: "كلكم راع " أن على من كان أميرا إقامة الأحكام الشرعية - والجمعة منها - وكان رزيق عاملا على الطائفة التي ذكرها، وكان عليه أن يراعي حقوقهم ومن جملتها إقامة الجمعة. قال الزين بن المنير: في هذه القصة إيماء إلى أن الجمعة تنعقد بغير إذن من السلطان إذا كان في القوم من يقوم بمصالحهم. وفيه إقامة الجمعة في القرى خلافا لمن شرط لها المدن، فإن قيل؛ قوله: "كلكم راع " يعم جميع الناس فيدخل فيه المرعي أيضا، فالجواب أنه مرعي باعتبار، راع باعتبار، حتى ولو لم يكن له أحد كان راعيا لجوارحه وحواسه، لأنه يجب عليه أن يقوم بحق الله وحق عباده، وسيأتي الكلام على بقية فوائد هذا الحديث في كتاب الأحكام إن شاء الله تعالى. قوله فيه "قال وحسبت أن قد قال" جزم الكرماني بأن فاعل " قال: "هنا هو يونس، وفيه نظر، والذي يظهر أنه سالم، ثم ظهر لي أنه ابن عمر. وسيأتي في كتاب الاستقراض بيان ذلك إن شاء الله تعالى. وقد رواه الليث أيضا عن نافع عن ابن عمر بدون هذه الزيادة، أخرجه مسلم.

(2/381)


12 - باب هَلْ عَلَى مَنْ لَمْ يَشْهَدْ الْجُمُعَةَ غُسْلٌ مِنْ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَغَيْرِهِمْ
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ إِنَّمَا الْغُسْلُ عَلَى مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ

(2/381)


894- حدثنا أبو اليمان قال أخبرنا شعيب عن الزهري قال حدثني سالم بن عبد الله أنه سمع عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "من جاء منكم الجمعة فليغتسل "
895- حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن صفوان بن سليم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ثم غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم "
896- حدثنا مسلم بن إبراهيم قال حدثنا وهيب قال حدثنا بن طاوس عن أبيه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم نحن الآخرون السابقون يوم القيامة أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله فغدا لليهود وبعد غد للنصارى فسكت
897- ثم قال حق على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام يوما يغسل فيه رأسه وجسده "
[الحديث897 – طرفاه في :3487.898]
898- رواه أبان بن صالح عن مجاهد عن طاوس عن أبي هريرة قال قال النبي صلى الله عليه وسلم لله تعالى على كل مسلم حق أن يغتسل في كل سبعة أيام يوما.

(2/382)


باب حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا شبابة
...
13- باب 899 - حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا شبابة حدثنا ورقاء عن عمرو بن دينار عن مجاهد عن بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ثم ائذنوا للنساء بالليل إلى المساجد "
900- حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ كَانَتْ امْرَأَةٌ لِعُمَرَ تَشْهَدُ صَلاَةَ الصُّبْحِ وَالْعِشَاءِ فِي الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ فَقِيلَ لَهَا لِمَ تَخْرُجِينَ وَقَدْ تَعْلَمِينَ أَنَّ عُمَرَ يَكْرَهُ ذَلِكَ وَيَغَارُ قَالَتْ وَمَا يَمْنَعُهُ أَنْ يَنْهَانِي قَالَ يَمْنَعُهُ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ "
قوله: "باب هل على من لم يشهد الجمعة غسل من النساء والصبيان وغيرهم" تقدم التنبيه على ما تضمنته هذه الترجمة في " باب فضل الغسل " ويدخل في قوله: "وغيرهم " العبد والمسافر والمعذور، وكأنه استعمل الاستفهام في الترجمة للاحتمال الواقع في حديث أبي هريرة " حق على كل مسلم أن يغتسل " فإنه شامل للجميع، والتقييد في حديث ابن عمر بمن حاء منكم يخرج من لم يجيء، والتقييد في حديث أبي سعيد بالمحتلم يخرج الصبيان، والتقييد في النهي عن منع النساء المساجد بالليل يخرج الجمعة. وعرف بهذا وجه إيراد هذه الأحاديث في هذه الترجمة، وقد تقدم الكلام على أكثرها. قوله: "وقال ابن عمر إنما الغسل على من تجب عليه الجمعة" وصله البيهقي بإسناد صحيح عنه وزاد: "والجمعة على من يأتي أهله " ومعنى هذه الزيادة أن الجمعة تجب عنده على من يمكنه الرجوع إلى موضعه قبل دخول الليل، فمن كان فوق هذه المسافة لا تجب عليه عنده. وسيأتي البحث فيه بعد باب. وقد تقرر أن الآثار التي يوردها البخاري في

(2/382)


التراجم تدل على اختيار ما تضمنته عنده، فهذا مصير منه إلى أن الغسل للجمعة لا يشرع إلا لمن وجبت عليه. قوله في حديث أبي هريرة "فسكت ثم قال: حق على كل مسلم الخ" فاعل " سكت " هو النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أورده المصنف في ذكر بني إسرائيل من وجه آخر عن وهيب بهذا الإسناد دون قوله: "فسكت ثم قال: "ويؤكد كونه مرفوعا رواية مجاهد عن طاوس المقتصرة على الحديث الثاني، ولهذه النكتة أورده بعده فقال: "رواه أبان بن صالح الخ " وكذا أخرجه مسلم من وجه آخر عن وهيب مقتصرا، وهذا التعليق عن مجاهد قد وصله البيهقي من طريق سعيد بن أبي هلال عن أبان المذكور، وأخرجه الطحاوي من وجه آخر عن طاوس وصرح فيه بسماعه له من أبي هريرة، أخرجه من طريق عمرو بن دينار عن طاوس وزاد فيه: "ويمس طيبا إن كان لأهله " واستدل بقوله: "لله على كل مسلم حق " للقائل بالوجوب، وقد تقدم البحث فيه. قوله: "في كل سبعة أيام يوما" هكذا أبهم في هذه الطريق، وقد عينه جابر في حديثه عند النسائي بلفظ: "الغسل واجب على كل مسلم في أسبوع يوما وهو يوم الجمعة " وصححه ابن خزيمة. ولسعيد بن منصور وأبي بكر بن أبي شيبة من حديث البراء بن عازب مرفوعا نحوه ولفظه: "إن من الحق على المسلم أن يغتسل يوم الجمعة " الحديث، ونحوه للطحاوي من طريق محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن رجل من الصحابة أنصاري مرفوعا. قوله في رواية نافع عن ابن عمر "قال كانت امرأة لعمر" هي عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل أخت سعيد بن زيد أحد العشرة مما سماها الزهري فيما أخرجه عبد الرزاق عن معمر عنه قال: "كانت عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل عند عمر بن الخطاب، وكانت تشهد الصلاة في المسجد، وكان عمر يقول لها: والله إنك لتعلمين أني ما أحب هذا. قالت: والله لا أنتهي حتى تنهاني. قال: فلقد طعن عمرو وإنها لفي المسجد " كذا ذكره مرسلا، ووصله عبد الأعلى عن معمر بذكر سالم بن عبد الله عن أبيه، لكن أبهم المرأة. أخرجه أحمد عنه، وسماها أحمد من وجه آخر عن سالم قال: "كان عمر رجلا غيورا وكان إذا خرج إلى الصلاة اتبعته عاتكة بنت زيد " الحديث، وهو مرسل أيضا، وعرف من هذا أن قوله في حديث الباب: "فقيل لها لم تخرجين الخ " أن قائل ذلك كله هو عمر بن الخطاب، ولا مانع أن يعبر عن نفسه بقوله: "إن عمر الخ " فيكون من باب التجريد أو الالتفات، وعلى هذا فالحديث من مسند عمر كما صرح به في رواية سالم

(2/383)


المرسلة، ويحتمل أن تكون المخاطبة دارت بينها وبين ابن عمر أيضا لأن الحديث مشهور من روايته، ولا مانع أن يعبر عن نفسه بقيل لها الخ، وهذا مقتضى ما صنع الحميدي وأصحاب الأطراف، فإنهم أخرجوا هذا الحديث من هذا الوجه في مسند ابن عمر، وقد تقدم الكلام على فوائده مستوفى قبيل كتاب الجمعة. "تنبيه": قال الإسماعيلي: أورد البخاري حديث مجاهد عن ابن عمر بلفظ: "ائذنوا للنساء بالليل إلى المساجد " وأراد بذلك أن الإذن إنما وقع لهن بالليل فلا تدخل فيه الجمعة. قال: ورواية أبي أسامة التي أوردها بعد ذلك تدل على خلاف ذلك، يعني قوله فيها " لا تمنعوا إماء الله مساجد الله " انتهى. والذي يظهر أنه جنح إلى أن هذا المطلق يحمل على ذلك المقيد. والله أعلم.

(2/384)


14 - باب الرُّخْصَةِ إِنْ لَمْ يَحْضُرْ الْجُمُعَةَ فِي الْمَطَرِ
901- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ أَخْبَرَنِي عَبْدُ الْحَمِيدِ صَاحِبُ الزِّيَادِيِّ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ ابْنُ عَمِّ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِمُؤَذِّنِهِ فِي يَوْمٍ مَطِيرٍ إِذَا قُلْتَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَلاَ تَقُلْ حَيَّ عَلَى الصَّلاَةِ قُلْ صَلُّوا فِي بُيُوتِكُمْ فَكَأَنَّ النَّاسَ اسْتَنْكَرُوا قَالَ فَعَلَهُ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي إِنَّ الْجُمْعَةَ عَزْمَةٌ وَإِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أُحْرِجَكُمْ فَتَمْشُونَ فِي الطِّينِ وَالدَّحَضِ "
قوله: "باب الرخصة إن لم يحضر الجمعة في المطر" ضبط في روايتنا بكسر إن وهي الشرطية، ويحضر بفتح أوله أي الرجل. وضبطه الكرماني بفتح أن ويحضر بلفظ المبني للمفعول، وهو متجه أيضا. وأورد المصنف هنا حديث ابن عباس من رواية إسماعيل وهو المعروف بابن علية، وهو مناسب لما ترجم له، وبه قال الجمهور ومنهم من فرق بين قليل المطر وكثيره. وعن مالك: لا يرخص في تركها بالمطر. وحديث ابن عباس هذا حجة في الجواز. وقال الزين بن المنير: الظاهر أن ابن عباس لا يرخص في ترك الجمعة، وأما قوله: "صلوا في بيوتكم " فإشارة منه إلى العصر، فرخص لهم في ترك الجماعة فيها، وأما الجمعة فقد جمعهم لها فالظاهر أنه جمع بهم فيها. قال: ويحتمل أن يكون جمعهم للجمعة ليعلمهم بالرخصة في تركها في مثل ذلك ليعملوا به في المستقبل. انتهى. والذي يظهر أنه لم يجمعهم، وإنما أراد بقوله صلوا في بيوتكم مخاطبة من لم يحضر وتعليم من حضر. قوله: "إن الجمعة عزمة" استشكله الإسماعيلي فقال: لا أخا له صحيحا، فإن أكثر الروايات بلفظ: "إنما عزمة " أي كلمة المؤذن وهي " حي على الصلاة " لأنها دعاء إلى الصلاة تقتضي لسامعه الإجابة، ولو كان معنى الجمعة عزمة لكانت العزيمة لا تزول بترك بقية الأذان. انتهى. والذي يظهر أنه لم يترك بقية الأذان، وإنما أبدل قوله: "حي على الصلاة " بقوله: "صلوا في بيوتكم " والمراد بقوله: "إن الجمعة عزمة " أي فلو تركت المؤذن يقول حي على الصلاة لبادر من سمعه إلى المجيء في المطر فيشق عليهم فأمرته أن يقول صلوا في بيوتكم لتعلموا أن المطر من الأعذار التي تصير العزيمة رخصة. قوله: "والدحض" بفتح الدال المهملة وسكون الحاء المهملة - ويجوز فتحها - وآخره ضاد معجمة هو الزلق، وحكى ابن التين أن في رواية القابسي بالراء بدل الدال وهو الغسل، قال: ولا معنى له هنا إلا إن حمل على أن الأرض حين أصابها المطر كالمغتسل والجامع بينهما الزلق. وقد تقدمت بقية مباحث الحديث في أبواب الأذان. "تنبيه": وقع في السياق عن عبد الله بن الحارث ابن عم محمد بن سيربن، وأنكره الدمياطي فقال: كان زوج

(2/384)


بنت سيرين فهو صهر ابن سيربن لا ابن عمه. قلت: ما المانع أن يكون بين سيرين والحارث أخوة من رضاع ونحوه، فلا ينبغي تغليط الرواية الصحيحة مع وجود الاحتمال المقبول.

(2/385)


15 - باب مِنْ أَيْنَ تُؤْتَى الْجُمُعَةُ وَعَلَى مَنْ تَجِبُ
لِقَوْلِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (الجمعة: من الآية9)
وَقَالَ عَطَاءٌ إِذَا كُنْتَ فِي قَرْيَةٍ جَامِعَةٍ فَنُودِيَ بِالصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَحَقٌّ عَلَيْكَ أَنْ تَشْهَدَهَا سَمِعْتَ النِّدَاءَ أَوْ لَمْ تَسْمَعْهُ وَكَانَ أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قَصْرِهِ أَحْيَانًا يُجَمِّعُ وَأَحْيَانًا لاَ يُجَمِّعُ وَهُوَ بِالزَّاوِيَةِ عَلَى فَرْسَخَيْنِ .
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ حَدَّثَهُ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ كَانَ النَّاسُ يَنْتَابُونَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مِنْ مَنَازِلِهِمْ وَالْعَوَالِيِّ فَيَأْتُونَ فِي الْغُبَارِ يُصِيبُهُمْ الْغُبَارُ وَالْعَرَقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُمْ الْعَرَقُ فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْسَانٌ مِنْهُمْ وَهُوَ عِنْدِي
فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لَوْ أَنَّكُمْ تَطَهَّرْتُمْ لِيَوْمِكُمْ هَذَا "
قوله: "باب من أين تؤتي الجمعة، وعلى من تجب؟ لقول الله تعالى: {إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله} يعني أن الآية ليست صريحة في وجوب بيان الحكم المذكور، فلذلك أتى في الترجعة بصيغة الاستفهام.والذي ذهب إليه الجمهور أنها تجب على من سمع النداء أو كان في قوة السامع سواء كان داخل البلد أو خارجه، ومحله كما صرح به الشافعي ما إذا كان المنادي صيتا والأصوات هادئة والرجل سميعا.وفي السنن لأبي داود من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعا: "إنما الجمعة على من سمع النداء " وقال: إنه اختلف في رفعه ووقفه.وأخرجه الدار قطني من وجه آخر عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا، ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم لابن أم مكتوم " أتسمع النداء؟ قال: نعم.قال: فأجب " وقد تقدم في صلاة الجماعة ذكر من احتج به على وجوبها، فيكون في الجمعة أولى لثبوت الأمر بالسعي إليها.وأما حديث: "الجمعة على من آواه الليل إلى أهله " فأخرجه الترمذي، ونقل عن أحمد أنه لم يره شيئا.وقال لمن ذكره: "استغفر ربك".وقد تقدم قبل بباب من قول ابن عمر نحوه، والمعنى أنها تجب على من يمكنه الرجوع إلى أهله قبل دخول الليل، واستشكل بأنه يلزم منه أنه يجب السعي من أول النهار وهو بخلاف الآية. قوله: "وقال عطاء الخ" وصله عبد الرزاق عن ابن جريج عنه، وقوله: "سمعت النداء أو لم تسمعه، يعني إذا كنت داخل البلد، وبهذا صرح أحمد، ونقل النووي أنه لا خلاف فيه، وزاد عبد الرزاق في هذا الأثر عن ابن جريح أيضا قلت لعطاء: ما القرية الجامعة؟ قال: ذات الجماعة والأمير والقاضي والدور المجتمعة الآخذ بعضها ببعض مثل جدة. قوله: "وكان أنس - إلى قوله - لا يجمع" وصله مسدد في مسنده الكبير عن أبي عوانة عن حميد بهذا. وقوله: "يجمع " أي يصلي بمن معه الجمعة، أو يشهد الجمعة بجامع البصرة. قوله: "وهو" أي القصر، والزاوية موضع ظاهر البصرة معروف كانت فيه وقعة كبيرة بين الحجاج وابن الأشعث. قال أبو عبيد البكري: هو بكسر الواو موضع دان من البصرة. وقوله: "على فرسخين " أي من البصرة. وهذا وصله ابن أبي شيبة من وجه آخر عن

(2/385)


أنس أنه كان يشهد الجمعة من الزاوية وهي على فرسخين من البصرة، وهذا يرد على من زعم أن الزاوية موضع بالمدينة النبوية كان فيه قصر لأنس على فرسخين منها ويرجح الاحتمال الثاني، وعرف بهذا أن التعليق المذكور ملفق من أثرين، ولا يعارض ذلك ما رواه عبد الرزاق عن معمر عن ثابت قال: "كان أنس يكون في أرضه وبينه وبين البصرة ثلاثة أميال فيشهد الجمعة بالبصرة " لكون الثلاثة أميال فرسخا واحدا لأنه يجمع بأن الأرض المذكورة غير القصر، وبأن أنسا كان يرى التجميع حتما إن كان على فرسخ ولا يراه حتما إذا كان أكثر من ذلك، ولهذا لم يقع في رواية ثابت التخيير في رواية حميد.قوله."حدثنا أحمد بن صالح" كذا في رواية أبي ذر، ووافقه ابن السكن، وعن غيرهما: "حدثنا أحمد " غير منسوب، وجزم أبو نعيم في المستخرج بأنه ابن عيسى، والأول أصوب وفي هذا الإسناد لطيفة، وهو أن فيه ثلاثة دون عبيد الله بن أبي جعفر من أهل مصر وثلاثة فوقه من أهل المدينة. قوله: "ينتابون الجمعة" أي يحضرونها نوبا، والانتياب افتعال من النوبة. وفي رواية: "يتناوبون". قوله: "والعوالي" تقدم تفسيرها في المواقيت وأنها على أربعة أميال فصاعدا من المدينة. قوله: "فيأتون في الغبار فيصيبهم الغبار" كذا وقع للأكثر، وعند القابسي " فيأتون في العباء " بفتح المهملة والمد وهو أصوب، وكذا هو عند مسلم والإسماعيلي وغيرهما من طريق ابن وهب. قوله: "إنسان منهم" لم أقف على اسمه، وللإسماعيلي: "ناس منهم". قوله: "لو أنكم تطهرتم ليومكم هذا" لو للتمني فلا تحتاج إلى جواب، أو للشرط والجواب محذوف تقديره لكان حسنا. وقد وقع في حديث ابن عباس عند أبي داود أن هذا كان مبدأ الأمر بالغسل للجمعة، ولأبي عوانة من حديث ابن عمر نحوه، وصرح في آخره بأنه صلى الله عليه وسلم قال حينئذ " من جاء منكم الجمعة فليغتسل " وقد استدلت به عمرة على أن غسل الجمعة شرع للتنظيف لأجل الصلاة كما سيأتي في الباب الذي بعده، فعلى هذا فمعنى قوله: "ليومكم هذا " أي في يومكم هذا. وفي هذا الحديث من الفوائد أيضا رفق العالم بالمتعلم، واستحباب التنظيف لمجالسة أهل الخير، واجتناب أذى المسلم بكل طريق، وحرص الصحابة على امتثال الأمر ولو شق عليهم. وقال القرطبي: فيه رد على الكوفيين حيث لم يوجبوا الجمعة على من كان خارج المصر، كذا قال. وفيه نظر لأنه لو كان واجبا على أهل العوالي ما تناوبوا ولكانوا يحضرون جميعا، والله أعلم.

(2/386)


16 - باب وَقْتُ الْجُمُعَةِ إِذَا زَالَتْ الشَّمْسُ
وَكَذَلِكَ يُرْوَى عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَالنُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ وَعَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
903- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ أَنَّهُ سَأَلَ عَمْرَةَ عَنْ الْغُسْلِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَالَتْ قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَانَ النَّاسُ مَهَنَةَ أَنْفُسِهِمْ وَكَانُوا إِذَا رَاحُوا إِلَى الْجُمُعَةِ رَاحُوا فِي هَيْئَتِهِمْ فَقِيلَ لَهُمْ لَوْ اغْتَسَلْتُمْ "
[الحديث 903 – طرفه في 2071]
904- حَدَّثَنَا سُرَيْجُ بْنُ النُّعْمَانِ قَالَ حَدَّثَنَا فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُثْمَانَ التَّيْمِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ حِينَ تَمِيلُ الشَّمْسُ "

(2/386)


905- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ أَخْبَرَنَا حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ كُنَّا نُبَكِّرُ بِالْجُمُعَةِ وَنَقِيلُ بَعْدَ الْجُمُعَةِ "
[الحديث905- طرفه في:940]
قوله: "باب وقت الجمعة" أي أوله "إذا زالت الشمس" جزم بهذه المسألة مع وقوع الخلاف فيها لضعف دليل المخالف عنده. قوله: "وكذا يذكر عن عمر وعلي والنعمان بن بشير وعمرو بن حريث" قيل إنما اقتصر على هؤلاء من الصحابة دون غيرهم لأنه نقل عنهم خلاف ذلك، وهذا فيه نظر لأنه لا خلاف عن علي ومن بعده في ذلك، وأغرب ابن العربي فنقل الإجماع على أنها لا تجب حتى تزول الشمس، إلا ما نقل عن أحمد أنه إن صلاها قبل الزوال أجزأ ا هـ. وقد نقله ابن قدامة وغيره عن جماعة من السلف كما سيأتي، فأما الأثر عن عمر فروى أبو نعيم شيخ البخاري في كتاب الصلاة له وابن أبي شيبة من رواية عبد الله بن سيدان قال: "شهدت الجمعة مع أبي بكر فكانت صلاته وخطبته قبل نصف النهار، وشهدتها مع عمر رضي الله عنه فكانت صلاته وخطبته إلى أن أقول قد انتصف النهار " رجاله ثقات إلا عبد الله بن سيدان وهو بكسر المهملة بعدها تحتانية ساكنة فإنه تابعي كبير إلا أنه غير معروف العدالة، قال ابن عدي شبه المجهول. وقال البخاري لا يتابع على حديثه، بل عارضه ما هو أقوى منه فروى ابن أبي شيبة من طريق سويد بن غفلة أنه صلى مع أبي بكر وعمر حين زالت الشمس إسناده قوي، وفي الموطأ عن مالك بن أبي عامر قال: "كنت أرى طنفسة لعقيل بن أبي طالب تطرح يوم الجمعة إلى جدار المسجد الغربي، فإذا غشيها ظل الجدار خرج عمر " إسناده صحيح، وهو ظاهر في أن عمر كان يخرج بعد زوال الشمس، وفهم منه بعضهم عكس ذلك، ولا يتجه إلا إن حمل على أن الطنفسة كانت تفرش خارج المسجد وهو بعيد، والذي يظهر أنها كانت تفرش له داخل المسجد، وعلى هذا فكان عمر يتأخر بعد الزوال قليلا، وفي حديث السقيفة عن ابن عباس قال: "فلما كان يوم الجمعة وزالت الشمس خرج عمر فجلس على المنبر؛ وأما علي فروى ابن أبي شيبة من طريق أبي إسحاق أنه " صلى خلف علي الجمعة بعد ما زالت الشمس " إسناده صحيح، وروى أيضا من طريق أبي رزين قال: "كنا نصلي مع علي الجمعة فأحيانا نجد فيئا وأحيانا لا نجد " وهذا محمول على المبادرة عند الزوال أو التأخير قليلا، وأما النعمان بن بشير فروى ابن أبي شيبه بإسناد صحيح عن سماك بن حرب قال: "كان النعمان بن بشير يصلي بنا الجمعة بعد ما تزول الشمس". قلت: وكان النعمان أميرا على الكوفة في أول خلافة يزيد بن معاوية، وأما عمرو بن حريث فأخرجه ابن أبي شيبة أيضا من طريق الوليد بن العيزار قال: "ما رأيت إماما كان أحسن صلاة للجمعة من عمرو بن حريث، فكان يصليها إذا زالت الشمس " إسناده صحيح أيضا، وكان عمرو ينوب عن زياد وعن ولده في الكوفة أيضا. وأما ما يعارض ذلك عن الصحابة فروى ابن أبي شيبة من طريق عبد الله بن سلمة وهو بكسر اللام قال: "صلى بنا عبد الله - يعني ابن مسعود - الجمعة ضحى وقال: خشيت عليكم الحر " وعبد الله صدوق إلا أنه ممن تغير لما كبر قاله شعبة وغيره، ومن طريق سعيد بن سويد قال: "صلى بنا معاوية الجمعة ضحى " وسعيد ذكره ابن عدي في الضعفاء واحتج بعض الحنابلة بقوله صلى الله عليه وسلم: "إن هذا يوم جعله الله عيد للمسلمين " قال فلما سماه عيدا جازت الصلاة فيه وقت العيد كالفطر والأضحى، وتعقب بأنه لا يلزم من تسمية يوم الجمعة عيدا أن يشتمل على جميع أحكام العيد، بدليل أن يوم العيد يحرم صومه مطلقا سواء صام قبله أو بعده بخلاف يوم الجمعة باتفاقهم. قوله: "أخبرنا عبد الله" هو

(2/387)


ابن المبارك، ويحيى بن سعيد هو الأنصاري. قوله: "كان الناس مهنة" بنون وفتحات جمع ما هن ككتبة وكاتب أي خدم أنفسهم، وحكى ابن التين أنه روى بكسر أوله وسكون الهاء ومعناه بإسقاط محذوف أي ذوي مهنة. ولمسلم من طريق الليث عن يحيى بن سعيد " كان الناس أهل عمل ولم يكن لهم كفأة " أي لم يكن لهم من يكفيهم العمل من الخدم. قوله: "وكانوا إذا راحوا إلى الجمعة راحوا في هيئتهم" استدل البخاري بقوله: "راحوا " على أن ذلك كان بعد الزوال لأنه حقيقة الرواح كما تقدم عن أكثر أهل اللغة، ولا يعارض هذا ما تقدم عن الأزهري أن المراد بالرواح في قوله: "من اغتسل يوم الجمعة ثم راح " الذهاب مطلقا لأنه إما أن يكون مجازا أو مشتركا، وعلى كل من التقديرين فالقرينة مخصصه وهي في قوله: "من راح في الساعة الأولى " قائمة في إرادة مطلق الذهاب، وفي هذا قائمة في الذهاب بعد الزوال لما جاء في حديث عائشة المذكور في الطريق التي في آخر الباب الذي قبل هذا حيث قالت: "يصيبهم الغبار والعرق " لأن ذلك غالبا إنما يكون بعد ما يشتد الحر، وهذا في حال مجيئهم من العوالي، فالظاهر أنهم لا يصلون إلى المسجد إلا حين الزوال أو قريبا من ذلك، وعرف بهذا توجيه إيراد حديث عائشة في هذا الباب. "تنبيه": أورد أبو نعيم في المستخرج طريق عمرة هذه في الباب الذي قبله وعلى هذا فلا إشكال فيه أصلا. قوله: "عن أنس" صرح في رواية الإسماعيلي من طريق زيد بن الحباب عن فليح بسماع عثمان له من أنس. قوله: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الجمعة حين تميل الشمس" فيه إشعار بمواظبته صلى الله عليه وسلم على صلاة الجمعة إذا زالت الشمس. أما رواية حميد التي بعد هذا عن أنس " كنا نبكر بالجمعة ونقيل بعد الجمعة " فظاهره أنهم كانوا يصلون الجمعة باكر النهار، لكن طريق الجمع أولى من دعوى التعارض، وقد تقرر فيما تقدم أن التبكير يطلق على فعل الشيء في أول وقته أو تقديمه على غيره وهو المراد هنا، والمعنى أنهم كانوا يبدؤون بالصلاة قبل القيلولة، بخلاف ما جرت به عادتهم في صلاة الظهر في الحر فإنهم كانوا يقيلون ثم يصلون لمشروعية الإيراد، ولهذه النكتة أورد البخاري طريق حميد عن أنس عقب طريق عثمان بن عبد الرحمن عنه، وسيأتي في الترجمة التي بعد هذه التعبير بالتبكير والمراد به الصلاة في أول الوقت وهو يؤيد ما قلناه. قال الزين بن المنير في الحاشية: فسر البخاري حديث أنس الثاني بحديث أنس الأول إشارة منه إلى أنه لا تعارض بينهما. "تنبيهان" الأول: حكى ابن التين عن أبي عبد الملك أنه قال: إنما أورد البخاري الآثار عن الصحابة لأنه لم يجد حديثا مرفوعا في ذلك، وتعقبه بحديث أنس هذا وهو كما قال الثاني: لم يقع التصريح عند المصنف برفع حديث أنس الثاني، وقد أخرجه الطبراني في الأوسط من طريق فضيل بن عياض عن حميد فزاد فيه: "مع النبي صلى الله عليه وسلم: "وكذا أخرجه ابن حبان في صحيحه من طريق محمد بن إسحاق حدثني حميد الطويل، وله شاهد من حديث سهل بن سعد يأتي في آخر كتاب الجمعة، وفيه رد على من زعم أن الساعات المطلوبة في الذهاب إلى الجمعة من عند الزوال لأنهم يتبادرون إلى الجمعة قبل القائلة.

(2/388)


17 - باب إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
906- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا حَرَمِيُّ بْنُ عُمَارَةَ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو خَلْدَةَ هُوَ خَالِدُ بْنُ دِينَارٍ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا اشْتَدَّ الْبَرْدُ بَكَّرَ بِالصَّلاَةِ وَإِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ أَبْرَدَ بِالصَّلاَةِ يَعْنِي الْجُمُعَةَ "

(2/388)


قَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ أَخْبَرَنَا أَبُو خَلْدَةَ فَقَالَ بِالصَّلاَةِ وَلَمْ يَذْكُرْ الْجُمُعَةَ وَقَالَ بِشْرُ بْنُ ثَابِتٍ حَدَّثَنَا أَبُو خَلْدَةَ قَالَ صَلَّى بِنَا أَمِيرٌ الْجُمُعَةَ ثُمَّ قَالَ لِأَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَيْفَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الظُّهْرَ
قوله: "باب إذا اشتد الحر يوم الجمعة" لما اختلف ظاهر النقل عن أنس وتقرر أن طريق الجمع أن يحمل الأمر على اختلاف الحال بين الظهر والجمعة كما قدمناه، جاء عن أنس حديث آخر يوهم خلاف ذلك فترجم المصنف هذه الترجمة لأجله. قوله: "حدثنا أبو خلدة" بفتح المعجمة وسكون اللام، والإسناد كله بصريون. قوله: "بكر بالصلاة" أي صلاها في أول وقتها. قوله: "وإذا اشتد الحر أبرد بالصلاة يعني الجمعة" لم يجزم المصنف بحكم الترجمة للاحتمال الواقع في قوله: "يعني الجمعه " لاحتمال أن يكون من كلام التابعي أو من دونه، وهو ظن ممن قاله، والتصريح عن أنس في رواية حميد الماضية أنه كان يبكر بها مطلقا من غير تفصيل، ويؤيده الرواية المعلقة الثانية فإن فيها البيان بأن قوله: "يعني الجمعة " إنما أخذه قائله مما فهمه من التسوية بين الجمعة والظهر عند أنس حيث استدل لما سئل عن الجمعة بقوله: "كان يصلي الظهر"، وأوضح من ذلك رواية الإسماعيلي من طريق أخرى عن حرمي ولفظه: "سمعت أنسا - وناداه يزيد الضبي يوم جمعة: يا أبا حمزة قد شهدت الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف كان يصلي الجمعة؟ - " فذكره ولم يقل بعده يعني الجمعة. قوله: "وقال يونس بن بكير" وصله المصنف في " الأدب المفرد " ولفظه: "سمعت أنس بن مالك وهو مع الحكم أمير البصرة على السرير يقول: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان الحر أبرد بالصلاة، وإذا كان البرد بكر بالصلاة " وأخرجه الإسماعيلي من وجه آخر عن يونس وزاد: "يعني الظهر". والحكم المذكور هو ابن أبي عقيل الثقفي كان نائبا عن ابن عمه الحجاج بن يوسف، وكان على طريقة ابن عمه في تطويل الخطبة يوم الجمعة حتى يكاد الوقت أن يخرج. وقد أورد أبو يعلى قصة يزيد الضبي المذكور وإنكاره على الحكم هذا الصنيع واستشهاده بأنس واعتذار أنس عن الحكم بأنه أخر للإبراد، فساقها مطولة في نحو ورقة. وعرف بهذا أن الإبراد بالجمعة عند أنس إنما هو بالقياس على الظهر لا بالنص، لكن أكثر الأحاديث تدل على التفرقة بينهما. قوله: "وقال بشر بن ثابت" وصله الإسماعيلي والبيهقي بلفظ: "كان إذا كان الشتاء بكر بالظهر، وإذا كان الصيف أبرد بها " وعرف من طريق " الأدب المفرد " تسمية الأمير المبهم في هذه الرواية المعلقة، ومن رواية الإسماعيلي وغيره سبب تحديث أنس بن مالك بذلك حتى سمعه أبو خلدة. وقال الزين بن المنير: نحا البخاري إلى مشروعية الإبراد بالجمعة ولم يبت الحكم بذلك، لأن قوله: "يعني الجمعة " يحتمل أن يكون قول التابعي مما فهمه، ويحتمل أن يكون من نقله، فرجح عنده إلحاقها بالظهر، لأنها إما ظهر وزيادة أو بدل عن الظهر، وأيد ذلك قول أمير البصرة لأنس يوم الجمعة " كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر " وجواب أنس من غير إنكار ذلك. وقال أيضا: إذا تقرر أن الإبراد يشرع في الجمعة أحذ منه أنها لا تشرع قبل الزوال، لأنه لو شرع لما كان اشتداد الحر سببا لتأخيرها، بل كان يستغني عنه بتعجيلها قبل الزوال. واستدل به ابن بطال على أن وقت الجمعة وقت الظهر لأن أنسا سوى بينهما في جوابه، خلافا لمن أجاز الجمعة قبل الزوال، وقد تقدم الكلام عليه في الباب الذي قبله. وفيه إزالة التشويش عن المصلي بكل طريق محافظة على الخشوع لأن ذلك هو السبب في مراعاة الإبراد في الحر دون البرد.

(2/389)


18 - باب الْمَشْيِ إِلَى الْجُمُعَةِ
وَقَوْلِ اللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ {فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}
وَمَنْ قَالَ السَّعْيُ الْعَمَلُ وَالذَّهَابُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا}
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَحْرُمُ الْبَيْعُ حِينَئِذٍ وَقَالَ عَطَاءٌ تَحْرُمُ الصِّنَاعَاتُ كُلُّهَا وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ إِذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَهُوَ مُسَافِرٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يَشْهَدَ
907-حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ قَالَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ الأَنْصَارِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا عَبَايَةُ بْنُ رِفَاعَةَ قَالَ أَدْرَكَنِي أَبُو عَبْسٍ وَأَنَا أَذْهَبُ إِلَى الْجُمُعَةِ فَقَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مَنْ اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ "
[الحديث907- طرفه في : 2811]
908- حدثنا آدم قال حدثنا بن أبي ذئب قال الزهري عن سعيد وأبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم وحدثنا أبو اليمان قال أخبرنا شعيب عن الزهري قال أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أن أبا هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون وأتوها تمشون عليكم السكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا
990- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو قُتَيْبَةَ قَالَ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ لاَ أَعْلَمُهُ إِلاَّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لاَ تَقُومُوا حَتَّى تَرَوْنِي وَعَلَيْكُمْ السَّكِينَةُ
قوله: "باب المشي إلى الجمعة وقول الله جل ذكره فاسعوا إلى ذكر الله" ومن قال السعي العمل والذهاب لقوله تعالى وسعى لها سعيها".قال ابن المنير في الحاشية: لما قابل الله بين الأمر بالسعي والنهي عن البيع دل أن المراد بالسعي العمل الذي هو الطاعة لأنه هو الذي يقابل بسعي الدنيا كالبيع والصناعة، والحاصل أن المأمور به سعي الآخرة، والمنهي عنه سعي الدنيا.وفي الموطأ عن مالك أنه سأل ابن شهاب عن هذه الآية فقال: كان عمر يقرؤها " إذا نودي للصلاة فامضوا " وكأنه فسر السعي بالذهاب، قال مالك: وإنما السعي العمل لقول الله تعالى: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ} وقال: {وأما من جاءك يسعى} قال مالك: وليس السعي الاشتداد ا هـ. وقراءة عمر المذكورة سيأتي الكلام عليها في التفسير. وقد أورد المصنف في الباب حديث: "لا تأتوها وأنتم تسعون " إشارة منه إلى أن السعي المأمور به في الآية غير السعي المنهي عنه في الحديث، والحجة فيه أن السعي في الآية فسر بالمضي، والسعي في الحديث فسر بالعدو. لمقابلته بالمشي حيث قال: لا تأتوها تسعون وأتوها تمشون. قوله: "وقال ابن عباس يحرم البيع حينئذ" أي إذا نودي بالصلاة، وهذا الأثر ذكره ابن حزم من طريق عكرمة عن ابن عباس بلفظ: "لا يصلح البيع يوم الجمعة حين ينادي للصلاة، فإذا قضيت الصلاة فاشتر وبع " ورواه ابن مردويه من وجه آخر عن ابن عباس مرفوعا، وإلى القول بالتحريم ذهب الجمهور، وابتداؤه عندهم من حين الأذان بين يدي

(2/390)


الإمام لأنه الذي كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كما سيأتي قريبا. وروى عمر بن شبة في " أخبار المدينة " من طريق مكحول أن النداء كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤذن يوم الجمعة مؤذن واحد حين يخرج الإمام، وذلك النداء الذي يحرم عنده البيع، وهو مرسل يعتضد بشواهد تأتي قريبا. وأما الأذان الذي عند الزوال فيجوز عندهم البيع فيه مع الكراهة، وعن الحنفية يكره مطلقا ولا يحرم، وهل يصح البيع مع القول بالتحريم؟ قولان مبنيان على أن النهي هل يقتضي الفساد مطلقا أو لا؟ قوله: "وقال عطاء تحرم الصناعات كلها" وصله عبد بن حميد في تفسيره بلفظ: "إذا نودي بالأذان حرم اللهو والبيع والصناعات كلها والرقاد وأن يأتي الرجل أهله وأن يكتب كتابا " وبهذا قال الجمهور أيضا. قوله: "وقال إبراهيم بن سعد عن الزهري الخ" لم أره من رواية إبراهيم، وقد ذكره ابن المنذر عن الزهري وقال: إنه اختلف عليه فيه فقيل عنه هكذا، وقيل عنه مثل قول الجماعة إنه لا جمعة على مسافر، كذا رواه الوليد بن مسلم عن الأوزاعي عن الزهري، قال ابن المنذر: وهو كالإجماع من أهل العلم على ذلك، لأن الزهري اختلف عليه فيه ا هـ. ويمكن حمل كلام الزهري على حالين، فحيث قال: "لا جمعة على مسافر " أراد على طريق الوجوب، وحيث قال: "فعليه أن يشهد " أراد على طريق الاستحباب. ويمكن أن تحمل رواية إبراهيم بن سعد هذه على صورة مخصوصة، وهو إذا اتفق حضوره في موضع تقام فيه الجمعة فسمع النداء لها، لا أنها تلزم المسافر مطلقا حتى يحرم عليه السفر قبل الزوال من البلد الذي يدخلها مجتازا مثلا، وكأن ذلك رجح عند البخاري، ويتأيد عنده بعموم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} فلم يخص مقيما من مسافر، وأما ما احتج به ابن المنذر على سقوط الجمعة عن المسافر بكونه صلى الله عليه وسلم صلى الظهر والعصر جميعا بعرفة وكان يوم جمعة فدل ذلك من فعله على أنه لا جمعة على مسافر فهو عمل صحيح، إلا أنه لا يدفع الصورة التي ذكرتها. وقال الزين بن المنير: قرر البخاري في هذه الترجمة إثبات المشي إلى الجمعة مع معرفته بقول من فسرها بالذهاب الذي يتناول المشي والركوب، وكأنه حمل الأمر بالسكينة والوقار على عمومه في الصلوات كلها فتدخل الجمعة كما هو مقتضى حديث أبي هريرة، وأما حديث أبي قتادة فيؤخذ من قوله: "وعليكم السكينة " فإنه يقتضي عدم الإسراع في حال السعي إلى الصلاة أيضا. قوله: "حدثني علي بن عبد الله" هو ابن المديني. قوله: "يزيد" بالتحتانية والزاي، و "عباية" بفتح المهملة بعدها موحدة وهو ابن رفاعة بن رافع ابن خديج. قوله: "أدركني أبو عبس" بفتح المهملة وسكون الموحدة، وهو ابن جبر بفتح الجيم وسكون الموحدة واسمه عبد الرحمن على الصحيح، وليس له في البخاري سوى هذا الحديث الواحد. قوله: "وأنا أذهب" كذا وقع عند البخاري أن القصة وقعت لعباية مع أبي عبس، وعند الإسماعيلي من رواية علي بن بحر وغيره عن الوليد بن مسلم أن القصة وقعت ليزيد بن أبي مريم مع عباية، وكذا أخرجه النسائي عن الحسين بن حريث عن الوليد ولفظه: "حدثني يزيد قال: لحقني عباية بن رفاعة وأنا ماش إلى الجمعة " زاد الإسماعيلي في روايته: "وهو راكب، فقال: احتسب خطاك هذه " وفي رواية النسائي: "فقال أبشر فإن خطاك هذه في سبيل الله، فإني سمعت أبا عبس بن جبر " فذكر الحديث، فإن كان محفوظا احتمل أن تكون القصة وقعت لكل منهما، وسيأتي الكلام على المتن في كتاب الجهاد، وأورده هنا لعموم قوله: "في سبيل الله " فدخلت فيه الجمعة، ولكون راوي الحديث استدل به على ذلك. وقال ابن المنير في الحاشية: وجه دخول حديث أبي عبس في الترجمة من قوله: "أدركني أبو عبس " لأنه لو كان يعدو لما احتمل وقت المحادثة لتعذرها مع الجري، ولأن أبا عبس

(2/391)


جعل حكم السعي إلى الجمعة حكم الجهاد. وليس العدو من مطالب الجهاد فكذلك الجمعة، انتهى. وحديث أبي هريرة تقدم الكلام عليه في أواخر أبواب الأذان، وقد سبق في أول هذا الباب توجيه إيراده هنا. قوله: "عن عبد الله بن أبي قتادة قال أبو عبد الله: لا أعلمه إلا عن أبيه" انتهى. أبو عبد الله هذا هو المصنف. وقع قوله: "قال أبو عبد الله " في رواية المستملي وحده، وكأنه وقع عنده توقف في وصله لكونه كتبه من حفظه أو لغير ذلك، وهو في الأصل موصول لا ريب فيه، فقد أخرجه الإسماعيلي عن ابن ناجية عن أبي حفص - وهو عمرو بن علي شيخ البخاري فيه - فقال: "عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه " ولم يشك، وأغرب الكرماني فقال: إن هذا الإسناد منقطع وإن حكم البخاري بكونه موصولا لأن شيخه لم يروه إلا منقطعا، انتهى. وقد تقدم في أواخر الأذان أن البخاري علق هذه الطريق من جهة على ابن المبارك ولم يتعرض للشك الذي هنا، وتقدم الكلام على المتن أيضا، وموضع الحاجة منه هنا قوله: "وعليكم السكينة " قال ابن رشيد: والنكتة في النهي عن ذلك لئلا يكون مقامهم سببا لإسراعه في الدخول إلى الصلاة فينافي مقصوده من هيئة الوقار، قال: وكأن البخاري استشعر إيراد الفرق بين الساعي إلى الجمعة وغيرها بأن السعي إلى الصلاة غير الجمعة منهي لأجل ما يلحق الساعي من التعب وضيق النفس فيدخل في الصلاة وهو منبهر فينافي ذلك خشوعه، وهذا بخلاف الساعي إلى الجمعة فإنه في العادة يحضر قبل إقامة الصلاة فلا تقام حتى يستريح مما يلحقه من الانبهار وغيره، وكأنه استشعر هذا الفرق فأخذ يستدل على أن كل ما آل إلى إذهاب الوقار منع منه، فاشتركت الجمعة مع غيرها في ذلك، والله أعلم.

(2/392)


19 - باب لاَ يُفَرِّقُ بَيْنَ اثْنَيْنِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
910- حدثنا عبدان قال أخبرنا عبد الله قال أخبرنا بن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبيه عن بن وديعة عن قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم من اغتسل يوم الجمعة وتطهر بما استطاع من طهر ثم ادهن أو مس من طيب ثم راح فلم يفرق بين اثنين فصلى ما كتب له ثم إذا خرج الإمام أنصت غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى "
قوله: "باب لا يفرق" أي الداخل "بين اثنين" كذا ترجم ولم يثبت الحكم، وقد نقل الكراهة عن الجمهور ابن المنذر واختار التحريم، وبه جزم النووي في " زوائد الروضة " والأكثر على أنها كراهة تنزيه، ونقله الشيخ أبو حامد عن النص، والمشهور عند الشافعية الكراهة كما جزم به الرافعي، والأحاديث الواردة في الزجر عن التخطي مخرجة في المسند والسنن وفي غالبها ضعف، وأقوى ما ورد فيه ما أخرجه أبو داود والنسائي من طريق أبي الزاهرية قال: "كنا مع عبد الله بن بسر صاحب النبي صلى الله عليه وسلم فذكر أن رجلا جاء يتخطى والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقال: اجلس فقد آذيت " ولأبي داود من طريق عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده رفعه: "ومن تخطى رقاب الناس كانت له ظهرا " وقيد مالك والأوزاعي الكراهة بما إذا كان الخطيب على المنبر، قال الزين بن المنير: التفرقة بين اثنين يتناول القعود بينهما وإخراج أحدهما والقعود مكانه، وقد يطلق على مجرد التخطي، وفي التخطي زيادة رفع رجليه على رءوسهما أو أكتافهما، وربما تعلق بثيابهما شيء مما برجليه، وقد استثنى من كراهة التخطي ما إذا كان في الصفوف الأول

(2/392)


فرجة فأراد الداخل سدها فيغتفر له لتقصيرهم. أورد فيه حديث سلمان، وقد تقدم الكلام عليه مستوفى في " باب الدهن للجمعة".

(2/393)


20 - باب لاَ يُقِيمُ الرَّجُلُ أَخَاهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَيَقْعُدُ فِي مَكَانِهِ
911- حدثنا محمد قال أخبرنا مخلد بن يزيد قال أخبرنا بن جريج قال سمعت نافعا يقول سمعت بن عمر رضي الله عنهما يقول ثم نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يقيم الرجل أخاه من مقعده ويجلس فيه قلت لنافع الجمعة قال الجمعة وغيرها
[الحديث911- طرفاه في: 6370.6369]
قوله باب لا يقيم الرجل أخاه يوم الجمعة ويقعد مكانه هذه الترجمة المقيدة بيوم الجمعة ورد فيها حديث صحيح لكنه ليس على شرط البخاري أخرجه مسلم من طريق أبي الزبير عن جابر بلفظ لا يقيمن أحدكم أخاه يوم الجمعة ثم يخالف إلى مقعده فيقعد فيه ولكن يقول تفسحوا ويؤخذ منه أن الذي يتخطى بعد الاستئذان خارج عن حكم الكراهة وقوله في الحديث لا يقيم الرجل أخاه لا مفهوم له بل ذكر لمزيد التنفير عن ذلك لقبحه لأنه إن فعله من جهة الكبر كان قبيحا وأن فعله من جهة الأثره كان أقبح وكأن البخاري اغتنى عنه بعموم حديث بن عمر المذكور فى الباب وبالعموم المذكور احتج نافع حين سأله بن جريج عن الجمعة وسيأتي الكلام عليه مستوفى في كتاب الاستئذان إن شاء الله تعالى وقد تقدم بيان دخول هذه الصورة في التفرقة التي قبلها وشيخ البخاري فيه هو محمد بن سلام كما وقع منسوبا في رواية أبي ذر

(2/393)


21 - باب الأَذَانِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ كَانَ النِّدَاءُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَوَّلُهُ إِذَا جَلَسَ الإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَلَمَّا كَانَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَثُرَ النَّاسُ زَادَ النِّدَاءَ الثَّالِثَ عَلَى الزَّوْرَاءِ "
[الحديث912- أطرافه في :916.915.913]
قوله: "باب الأذان يوم الجمعة" أي متى يشرع. قوله: "عن السائب بن يزيد" في رواية عقيل عن ابن شهاب أن السائب بن يزيد أخبره. وفي رواية يونس عن الزهري سمعت السائب، وسيأتيان بعد هذا. قوله: "كان النداء يوم الجمعة" في رواية أبي عامر عن ابن أبي ذئب عند ابن خزيمة كان ابتداء النداء الذي ذكره الله في القرآن يوم الجمعة، وله في رواية وكيع عن ابن أبي ذئب " كان الأذان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر أذانين يوم الجمعة " قال ابن خزيمة: قوله أذانين يريد الأذان والإقامة، يعني تغليبا أو لاشتراكهما في الإعلام كما تقدم في أبواب الأذان. قوله: "إذا جلس الإمام على المنبر" في رواية أبي عامر المذكورة " إذا خرج الإمام وإذا أقيمت الصلاة " وكذا للبيهقي من طريق ابن أبي فديك عن ابن أبي ذئب، وكذا في رواية الماجشون الآتية عن الزهري ولفظه: "وكان التأذين يوم الجمعة حين يجلس الإمام، يعني على المنبر " وأخرجه الإسماعيلي من وجه آخر عن الماجشون بدون قوله:

(2/393)


باب الؤذن الواحد يوم الجمعة
...
22 - باب الْمُؤَذِّنِ الْوَاحِدِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
913- حدثنا أبو نعيم قال حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون عن الزهري عن السائب بن يزيد " أن الذي زاد التأذين الثالث يوم الجمعة عثمان بن عفان رضي الله عنه حين كثر أهل المدينة ولم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم , واحد وكان التأذين يوم الجمعة حين يجلس الإمام ,يعني على المنبر
قوله: "باب المؤذن الواحد يوم الجمعة" أورد فيه حديث السائب بن يزيد المذكور في الباب قبله وزاد فيه: "ولم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم مؤذن غير واحد " ومثله للنسائي وأبي داود من رواية صالح ابن كيسان، ولأبى داود وابن خزيمة من رواية ابن إسحاق كلاهما عن الزهري، وفي مرسل مكحول المتقدم نحوه، وهو ظاهر في إرادة نفي تأذين اثنين معا، والمراد أن الذي كان يؤذن هو الذي كان يقيم. قال الإسماعيلي لعل قوله: "مؤذن " يريد به التأذين فعبر عنه بلفظ المؤذن لدلالته عليه. انتهى. وما أدرى ما الحامل له على هذا التأويل؟ فإن المؤذن الراتب هو بلال، وأما أبو محذورة وسعد القرظ فكان كل منهما بمسجده الذي رتب فيه، وأما ابن أم مكتوم فلم يرد أنه كان يؤذن إلا في الصبح كما تقدم في الأذان، فلعل الإسماعيلي استشعر إيراد أحد هؤلاء فقال ما قال، ويمكن أن يكون المراد بقوله: "مؤذن واحد " أي في الجمعة

(2/395)


فلا ترد الصبح مثلا، وعرف بهذا الرد على ما ذكر ابن حبيب أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا رقى المنبر وجلس أذن المؤذنون وكانوا ثلاثة واحد بعد واحد، فإذا فرغ الثالث قام فخطب، فإنه دعوى تحتاج لدليل، ولم يرد ذلك صريحا من طريق متصلة يثبت مثلها. ثم وجدته في مختصر البويطي صلى الله عليه وسلم عن الشافعي.
ـــــــ
(1) في المخطوطة الرياض " المزني"

(2/396)


23 - باب يُجِيبُ الإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ إِذَا سَمِعَ النِّدَاءَ
914- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ قَالَ سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ وَهُوَ جَالِسٌ عَلَى الْمِنْبَرِ أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ قَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ قَالَ مُعَاوِيَةُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ قَالَ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ وَأَنَا فَقَالَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ وَأَنَا فَلَمَّا أَنْ قَضَى التَّأْذِينَ قَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى هَذَا الْمَجْلِسِ حِينَ أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ يَقُولُ مَا سَمِعْتُمْ مِنِّي مِنْ مَقَالَتِي "
قوله: "باب يجيب الإمام على المنبر إذا سمع النداء" في رواية كريمة: "يؤذن " بدل يجيب، فكأنه سماه أذانا لكونه بلفظه. قوله: "عن أبي أمامة" في رواية الإسماعيلي من طريق حبان وعبدان عن عبد الله - وهو ابن المبارك - سمعت أبا أمامة. قوله: "وأنا" أي أشهد، أو أنا أقول مثله. قوله: "فلما أن قضى" أي فرغ " وأن " زائده، وسقطت في رواية الأصيلي، وللكشميهني: "فلما أن انقضى " أي انتهى. وفي هذا الحديث من الفوائد تعلم العلم وتعليمه من الإمام وهو على المنبر، وأن الخطيب يجيب المؤذن وهو على المنبر، وأن قول المجيب " وأنا كذلك " ونحوه يكفي في إجابة المؤذن، وفيه إباحة الكلام قبل الشروع في الخطبة، وأن التكبير في أول الأذان غير مرجع وفيهما نظر، وفيه الجلوس قبل الخطبة. وبقية مباحثه تقدمت في أبواب الأذان.

(2/396)


24 - باب الْجُلُوسِ عَلَى الْمِنْبَرِ عِنْدَ التَّأْذِينِ
915- حدثنا يحيى بن بكير قال حدثنا الليث عن عقيل عن بن شهاب أن السائب بن يزيد أخبره أن التأذين الثاني يوم الجمعة أمر به عثمان حين كثر أهل المسجد وكان التأذين يوم الجمعة حين يجلس الإمام"
قوله: "باب الجلوس على المنبر عند التأذين" تقدمت مباحث حديث السائب قريبا، ومناسبته للذي قبله ظاهرة جدا، وأشار الزين بن المنير إلى أن مناسبة هذه الترجمة الإشارة إلى خلاف من قال الجلوس على المنبر عند التأذين غير مشروع وهو عن بعض الكوفيين. وقال مالك والشافعي والجمهور: هو سنة. قال الزين: والحكمة فيه سكون اللفظ، والتهيؤ للإنصات، والاستنصات لسماع الخطبة، وإحضار الذهن للذكر.

(2/396)


25 - باب التَّأْذِينِ عِنْدَ الْخُطْبَةِ
916- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ سَمِعْتُ السَّائِبَ بْنَ

(2/396)


26 - باب الْخُطْبَةِ عَلَى الْمِنْبَرِ
وَقَالَ أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَطَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ
917- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدٍ الْقَارِيُّ الْقُرَشِيُّ الإِسْكَنْدَرَانِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو حَازِمِ بْنُ دِينَارٍ أَنَّ رِجَالًا أَتَوْا سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ السَّاعِدِيَّ وَقَدْ امْتَرَوْا فِي الْمِنْبَرِ مِمَّ عُودُهُ فَسَأَلُوهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ وَاللَّهِ إِنِّي لاَعْرِفُ مِمَّا هُوَ وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ أَوَّلَ يَوْمٍ وُضِعَ وَأَوَّلَ يَوْمٍ جَلَسَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى فُلاَنَةَ امْرَأَةٍ مِنْ الأَنْصَارِ قَدْ سَمَّاهَا سَهْلٌ مُرِي غُلاَمَكِ النَّجَّارَ أَنْ يَعْمَلَ لِي أَعْوَادًا أَجْلِسُ عَلَيْهِنَّ إِذَا كَلَّمْتُ النَّاسَ فَأَمَرَتْهُ فَعَمِلَهَا مِنْ طَرْفَاءِ الْغَابَةِ ثُمَّ جَاءَ بِهَا فَأَرْسَلَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَ بِهَا فَوُضِعَتْ هَا هُنَا ثُمَّ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَيْهَا وَكَبَّرَ وَهُوَ عَلَيْهَا ثُمَّ رَكَعَ وَهُوَ عَلَيْهَا ثُمَّ نَزَلَ الْقَهْقَرَى فَسَجَدَ فِي أَصْلِ الْمِنْبَرِ ثُمَّ عَادَ فَلَمَّا فَرَغَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا صَنَعْتُ هَذَا لِتَأْتَمُّوا وَلِتَعَلَّمُوا صَلاَتِي "
918- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ أَخْبَرَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ أَخْبَرَنِي ابْنُ أَنَسٍ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ كَانَ جِذْعٌ يَقُومُ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا وُضِعَ لَهُ الْمِنْبَرُ سَمِعْنَا لِلْجِذْعِ مِثْلَ أَصْوَاتِ الْعِشَارِ حَتَّى نَزَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ "
قَالَ سُلَيْمَانُ عَنْ يَحْيَى أَخْبَرَنِي حَفْصُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ
919- حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ مَنْ جَاءَ إِلَى الْجُمُعَةِ فَلْيَغْتَسِلْ "
قوله: "باب الخطبة على المنبر" أي مشروعيتها، ولم يقيدها بالجمعة ليتناولها ويتناول غيرها. قوله: "وقال أنس خطب النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر" هذا طرف من حديث أورده المصنف في الاعتصام وفي الفتن مطولا وفيه قصة عبد الله بن حذافة، ومن حديثه أيضا في الاستسقاء في قصة الذي قال: "هلك المال " وسيأتي ثم. قوله: "أن رجالا أتوا سهل بن سعد" لم أقف على أسمائهم. قوله: "امتروا" من المماراة وهي المجادلة. وقال الكرماني: من الامتراء وهو

(2/397)


الشك، ويؤيد الأول قوله في رواية عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه عند مسلم: "أن تماروا " فإن معناه تجادلوا، قال الراغب: الامتراء والمماراة المجادلة، ومنه "فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا". وقال أيضا: المرية التردد في الشيء، ومنه "فلا تكن في مرية من لقائه". قوله: "والله إني لأعرف مما هو" فيه القسم على الشيء لإرادة تأكيده للسامع. وفي قوله: "ولقد رأيته أول يوم وضع، وأول يوم جلس عليه " زيادة على السؤال، لكن فائدته إعلامهم بقوه معرفته بما سألوه عنه، وقد تقدم في باب الصلاة على المنبر أن سهلا قال: "ما بقي أحد أعلم به مني". قوله: "أرسل الخ" هو شرح الجواب. قوله: "إلى فلانة امرأة من الأنصار" في رواية أبي غسان عن أبي حازم " امرأة من المهاجرين " كما سيأتي في الهبة، وهو وهم من أبي غسان لإطباق أصحاب أبي حازم على قولهم " من الأنصار"، وكذا قال أيمن عن جابر كما سيأتي في علامات النبوة، وقد تقدم الكلام على اسمها في " باب الصلاة على المنبر " في أوائل الصلاة. قوله: "مري غلامك النجار" سماه عباس بن سهل عن أبيه فيما أخرجه قاسم بن أصبغ وأبو سعد في " شرف المصطفي " جميعا من طريق يحيى بن بكير عن ابن لهيعة حدثني عمارة بن غزية عنه ولفظه: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب إلى خشبة، فلما كثر الناس قيل له: لو كنت جعلت منبرا. قال وكان بالمدينة نجار واحد يقال له ميمون " فذكر الحديث، وأخرجه ابن سعد من رواية سعيد بن سعد الأنصاري عن ابن عباس نحو هذا السياق ولكن لم يسمه، وفي الطبراني من طريق أبي عبد الله الغفاري " سمعت سهل بن سعد يقول: كنت جالسا مع خال لي من الأنصار. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: اخرج إلى الغابة، وآتني من خشبها، فاعمل لي منبرا " الحديث. وجاء في صانع المنبر أقوال أخرى: أحدها اسمه إبراهيم، أخرجه الطبراني في الأوسط من طريق أبي نضرة عن جابر. وفي إسناده العلاء بن مسلمة الرواس وهو متروك، ثانيها باقول بموحدة وقاف مضمومة، رواه عبد الرزاق بإسناد ضعيف منقطع، ووصله أبو نعيم في المعرفة لكن قال باقوم آخره ميم وإسناده ضعيف أيضا. ثالثها صباح بضم المهملة بعدها موحدة خفيفة وآخره مهملة أيضا ذكره ابن بشكوال بإسناد شديد الانقطاع. رابعها قبيصة أو قبيصة المخزومي مولاهم، ذكره عمر بن شبة في " الصحابة " بإسناد مرسل. خامسها كلاب مولى العباس كما سيأتي. سادسها تميم الداري رواه أبو داود مختصرا والحسن بن سفيان والبيهقي من طريق أبي عاصم عن عبد العزيز ابن أبي رواد " عن نافع عن ابن عمر أن تميما الداري قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما كثر لحمه: ألا نتخذ لك منبرا يحمل عظامك؟ قال: بلى، فاتخذ له منبرا " الحديث وإسناده جيد، وسيأتي ذكره في علامات النبوة، فإن البخاري أشار إليه ثم، وروى ابن سعد في " الطبقات " من حديث أبي هريرة " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب وهو مستند إلى جذع فقال: إن القيام قد شق على . فقال له تميم الداري: ألا أعمل لك منبرا كما رأيت يصنع بالشام؟ فشاور النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين في ذلك فرأوا أن يتخذه، فقال العباس بن عبد المطلب: إن لي غلاما يقال له كلاب أعمل الناس، فقال: مره أن يعمل " الحديث رجاله ثقات إلا المواقدي. سابعها ميناء ذكره ابن بشكوال عن الزبير بن بكار " حدثني إسماعيل - هو ابن أبي أويس - عن أبيه قال: عمل المنبر غلام لامرأة من الأنصار من بني سلمة - أو من بني ساعدة أو امرأة لرجل منهم - يقال له ميناء " انتهى. وهذا يحتمل أن يعود الضمير فيه على الأقرب فيكون ميناء اسم زوج المرأة، وهو بخلاف ما حكيناه في " باب الصلاة على المنبر والسطوح " عن ابن التين أن المنبر عمله غلام سعد بن عبادة، وجوزنا أن تكون المرأة زوج سعد. وليس في جميع هذه الروايات التي سمي فيها النجار شيء قوي السند إلا حديث ابن عمر، وليس فيه التصريح بأن الذي اتخذ المنبر تميم الداري، بل قد تبين من رواية ابن

(2/398)


سعد أن تميما لم يعمله. وأشبه الأقوال بالصواب قول من قال هو ميمون لكون الإسناد من طريق سهل بن سعد أيضا وأما الأقوال الأخرى فلا اعتداد بها لوهائها. ويبعد جدا أن يجمع بينها بأن النجار كانت له أسماء متعددة. وأما احتمال كون الجميع اشتركوا في عمله فيمنع منه قوله في كثير من الروايات السابقة " لم يكن بالمدينة إلا نجار واحد " إلا إن كان يحمل على أن المراد بالواحد الماهر في صناعته والبقية أعوانه فيمكن والله أعلم. ووقع عند الترمذي وابن خزيمة وصححاه من طريق عكرمة بن عمار عن إسحاق بن أبي طلحة عن أنس " كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم يوم الجمعة فيسند ظهره إلى جذع منصوب في المسجد يخطب، فجاء إليه رومي فقال: ألا أصنع لك منبرا " الحديث، ولم يسمه يحتمل أن يكون المراد بالرومي تميم الداري لأنه كان كثير السفر إلى أرض الروم. وقد عرف مما تقدم سبب عمل المنبر، وجزم ابن سعد بأن ذلك كان في السنة السابعة، وفيه نظر لذكر العباس وتميم فيه وكان قدوم العباس بعد الفتح في آخر سنة ثمان، وقدوم تميم سنة تسع. وجزم ابن النجار بأن عمله كان سنة ثمان، وفيه نظر أيضا لما ورد في حديث الإفك في الصحيحين عن عائشة قالت: "فثار الحيان الأوس والخزرج حتى كادوا أن يقتتلوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، فنزل فخفضهم حتى سكتوا " فإن حمل على التجوز في ذكر المنبر وإلا فهو أصح مما مضى. وحكى بعض أهل السير أنه صلى الله عليه وسلم كان يخطب على منبر من طين قبل أن يتخذ المنبر الذي من خشب، ويعكر عليه أن في الأحاديث الصحيحة أنه كان يستند إلى الجذع إذا خطب، ولم يزل المنبر على حاله ثلاث درجات حتى زاده مروان في خلافة معاوية ست درجات من أسفله، وكان سبب ذلك ما حكاه الزبير بن بكار في أخبار المدينة بإسناده إلى حميد ابن عبد الرحمن بن عوف قال: "بعث معاوية إلى مروان - وهو عامله على المدينة - أن يحمل إليه المنبر، فأمر به فقلع، فأظلمت المدينة، فخرج مروان فخطب وقال: إنما أمرني أمير المؤمنين أن أرفعه، فدعا نجارا، وكان ثلاث درجات فزاد فيه الزيادة التي هي عليها اليوم"، ورواه من وجه آخر قال: فكسفت الشمس حتى رأينا النجوم وقال: "فزاد فيه ست درجات وقال: إنما زدت فيه حين كثر الناس " قال ابن النجار وغيره: استمر على ذلك إلا ما أصلح منه إلى أن احترق مسجد المدينة سنة أربع وخمسين وستمائة فاحترق، ثم جدد المظفر صاحب اليمن سنة ست وخمسين منبرا، ثم أرسل الظاهر بيبرس بعد عشر سنين صلى الله عليه وسلم منبرا فأزيل منبر المظفر، فلم يزل إلى هذا العصر فأرسل الملك المؤيد سنة عشرين وثمانمائة منبرا جديدا، وكان أرسل في سنة ثماني عشرة منبرا جديدا إلى مكة أيضا، شكر الله له صالح عمله آمين. قوله: "فعملها من طرفاء الغابة" في رواية سفيان عن أبي حازم " من أثلة الغابة " كما تقدم في أوائل الصلاة، ولا مغايرة بينهما فإن الأثل هو الطرفاء وقيل يشبه الطرفاء وهو أعظم منه، والغابة بالمعجمة وتخفيف الموحدة موضع من عوالي المدينة جهة الشام، وهي اسم قرية بالبحرين أيضا، وأصلها كل شجر ملتف. قوله: "فأرسلت" أي المرأة تعلم بأنه فرغ. قوله: "فأمر بها فوصعت" أنث لإرادة الأعواد والدرجات، ففي رواية مسلم من طريق عبد العزيز ابن أبي حازم " فعمل له هذا الدرجات الثلاث". قوله: "ثم رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى عليها" أي على الأعواد، وكانت صلاته على الدرجة العليا من المنبر. قوله: "وكبر وهو عليها ثم ركع وهو عليها ثم نزل القهقري" لم يذكر القيام بعد الركوع في هذه الرواية وكذا لم يذكر القراءة بعد التكبيرة، وقد تبين ذلك في رواية سفيان عن أبي حازم ولفظه: "كبر فقرأ وركع
ـــــــ
(1) في هامش طبعة بولاق"في نسخة أخرى : بعد عشرين سنة"

(2/399)


ثم رفع رأسه ثم رجع القهقري " القهقرى بالقصر المشي إلى خلف. والحامل عليه المحافظة على استقبال القبلة. وفي رواية هشام بن سعد عن أبي حازم عند الطبراني " فخطب الناس عليه ثم أقيمت الصلاة فكبر وهو على المنبر " فأفادت هذه الرواية تقدم الخطبة على الصلاة. قوله: "في أصل المنبر" أي على الأرض إلى جنب الدرجة السفلى منه. قوله: "ثم عاد" زاد مسلم من رواية عبد العزيز حتى فرغ من صلاته قوله: "ولتعلموا" بكسر اللام وفتح المثناة وتشديد اللام أي لتتعلموا، وعرف منه أن الحكمة في صلاته في أعلى المنبر ليراه من قد يخفي عليه رؤيته إذا صلى على الأرض ويستفاد منه أن من فعل شيئا يخالف العادة أن يبين حكمته لأصحابه. وفيه مشروعية الخطبة على المنبر لكل خطيب خليفة كان أو غيره. وفيه جواز قصد تعليم المأمومين أفعال الصلاة بالفعل، وجواز العمل اليسير في الصلاة، وكذا الكثير إن تفرق، وقد تقدم البحث فيه وكذا في جواز ارتفاع الإمام في " باب الصلاة في السطوح " وفيه استحباب اتخاذ المنبر لكونه أبلغ في مشاهدة الخطيب والسماع منه، واستحباب الافتتاح بالصلاة في كل شيء جديد صلى الله عليه وسلم إما شكرا وإما تبركا. وقال ابن بطال: إن كان الخطيب هو الخليفة فسنته أن يخطب على المنبر، وإن كان غيره يخير بين أن يقوم على المنبر أو على الأرض. وتعقبه الزين بن المنير بأن هذا خارج عن مقصود الترجمة ولأنه إخبار عن شيء أحدثه بعض الخلفاء، فإن كان من الخلفاء الراشدين فهو سنة متبعة، وإن كان من غيرهم فهو بالبدعة أشبه منه بالسنة. قلت: ولعل هذا هو حكمة هذه الترجمة، أشار بها إلى أن هذا التفصيل غير مستحب، ولعل مراد من استحبه أن الأصل أن لا يرتفع الإمام عن المأمومين. ولا يلزم من مشروعية ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ثم لمن ولى الخلافة أن يشرع لمن جاء بعدهم، وحجة الجمهور وجود الاشتراك في وعظ السامعين وتعليمهم بعض أمور الدين، والله الموفق. قوله: "أخبرني يحيى بن سعيد" هو الأنصاري، وابن أنس هو حفص بن عبيد الله بن أنس كما سيأتي في الرواية المعلقة، ونسب في هذه إلى جده، قال أبو مسعود الدمشقي في " الأطراف ": إنما أبهم البخاري حفصا لأن محمد بن جعفر بن أبي كثير يقول: "عبيد الله بن حفص " فيقلبه. قلت: كذا رواه أبو نعيم في المستخرج من طريق محمد بن مسكين عن ابن أبي مريم شيخ البخاري فيه، ولكن أخرجه الإسماعيلي من طريق أبي الأحوص محمد بن الهيثم عن ابن أبي مريم فقال: "عن حفص بن عبيد الله " على الصواب، وقلبه أيضا عبد الله بن يعقوب بن إسحاق عن يحيى بن سعيد أخرجه الإسماعيلي من طريقه وقال: الصواب فيه حفص بن عبيد الله. روفي تاريخ البخاري " حفص بن عبيد الله بن أنس. وقال بعضهم: عبيد الله بن حفص، ولا يصح عبيد الله". قوله: "أصوات العشار" بكسر المهملة بعدها معجمة قال الجوهري: العشار جمع عشراء بالضم ثم الفتح وهي الناقة الحامل التي مضت لها عشرة أشهر ولا يزال ذلك اسمها إلى أن تلد. وقال الخطابي: العشار الحوامل من الإبل التي قاربت الولادة. ويقال: اللواتي أتى على حملهن عشرة أشهر، يقال ناقة عشراء ونوق عشار على غير قياس. وسيأتي الكلام علي حديث الجذع في علامات النبوة إن شاء الله تعالى. قوله: "وقال سليمان عن يحيى أخبرني حفص بن عبيد الله" أما سليمان فهو ابن بلال، وأما يحي فهو ابن سعيد، وقد وصله المصنف في علامات النبوة بهذا الإسناد، وزعم بعضهم أنه سليمان بن كثير لأنه رواه عن يحيى بن سعيد، لكن فيه نظر لأن سليمان بن كثير قال فيه عن يحيى عن سعيد بن المسيب عن جابر كذلك
ـــــــ
(1) في هذا الإستنباط نظر , لأن النبي صلى الله عليه وسلم صرح في هذا الحديث أنه صلى على المنبر ليأتم به الناس ويتعلموا منه ولو كان صلى عليه للذي استنبطه الشارح لبينه . والله أعلم

(2/400)


أخرجه الدارمي عن محمد بن كثير عن أخيه سليمان، فإن كان محفوظا فليحيى بن سعيد فيه شيخان والله أعلم. قوله: "يخطب على المنبر" هذا القدر هو المقصود إيراده في هذا الباب، وقد تقدم الكلام على المتن في " باب فضل الغسل يوم الجمعة " ويستفاد منه أن للخطيب تعليم الأحكام على المنبر.

(2/401)


27 - باب الْخُطْبَةِ قَائِمًا
وَقَالَ أَنَسٌ بَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ قَائِمًا
920- حدثنا عبيد الله بن عمر القواريري قال حدثنا خالد بن الحارث قال حدثنا عبيد الله عن نافع عن بن عمر رضي الله عنهما قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب قائما يباع يقوم كما تفعلون الآن "
[الحديث920 - طرفه في 928]
قوله: "باب الخطبة قائما" قال ابن المنذر الذي حمل عليه جل أهل العلم من علماء الأمصار ذلك، ونقل غيره عن أبي حنيفة أن القيام في الخطبة سنة وليس بواجب، وعن مالك رواية أنه واجب، فإن تركه أساء وصحت الخطبة، وعند الباقين أن القيام في الخطبة يشترط للقادر كالصلاة، واستدل للأول بحديث أبي سعيد الآتي في المناقب " أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس ذات يوم على المنبر وجلسنا حوله " وبحديث سهل الماضي قبل " مري غلامك يعمل لي أعوادا أجلس عليها " والله الموفق. وأجيب عن الأول أنه كان في غير خطبة الجمعة، وعن الثاني باحتمال أن تكون الإشارة إلى الجلوس أول ما يصعد وبين الخطبتين، واستدل للجمهور بحديث جابر بن سمرة المذكور وبحديث كعب بن عجرة أنه دخل المسجد وعبد الرحمن بن أبي الحكم يخطب قاعدا، فأنكر عليه وتلا "وتركوك قائما" وفي رواية ابن خزيمة ما رأيت كاليوم قط إماما يؤم المسلمين يخطب وهو جالس، يقول ذلك مرتين " وأخرج ابن أبي شيبة عن طاوس " خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما وأبو بكر وعمر وعثمان، وأول من جلس على المنبر معاوية " وبمواظبة النبي صلى الله عليه وسلم على القيام، وبمشروعية الجلوس بين الخطبتين، فلو كان القعود مشروعا في الخطبتين ما احتيج إلى الفصل بالجلوس، ولأن الذي نقل عنه القعود كان معذورا. فعند ابن أبي شيبة من طريق الشعبي أن معاوية إنما خطب قاعدا لما كثر شحم بطنه ولحمه، وأما من احتج بأنه لو كان شرطا ما صلى من أنكر ذلك مع القاعد فجوابه أنه محمول على أن من صنع ذلك خشي الفتنة، أو أن الذي قعد قعد باجتهاد كما قالوا في إتمام عثمان الصلاة في السفر، وقد أنكر ذلك ابن مسعود ثم إنه صلى خلفه فأتم معه واعتذر بأن الخلاف شر. قوله: "وقال أنس الخ" هو طرف من حديث الاستسقاء أيضا وسيأتي في بابه. ثم أورد في الباب حديث ابن عمر، وقد ترجم له بعد بابين " القعدة بين الخطبتين " وسيأتي الكلام عليه ثم. وفي الباب حديث جابر بن سمره " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخطب قائما ثم يجلس ثم يقوم فيخطب قائما، فمن نبأك أنه كان يخطب جالسا فقد كذب " أخرجه مسلم، وهو أصرح في المواظبة من حديث ابن عمر إلا أن إسناده ليس على شرط البخاري. وروى ابن أبي شيبه من طريق طاوس قال: "أول من خطب قاعدا معاوية حين كثر شحم بطنه " وهذا مرسل، يعضده ما روى سعيد بن منصور عن الحسن قال: "أول من استراح في الخطبة يوم الجمعة عثمان، وكان إذا أعي جلس ولم يتكلم حتى يقوم، وأول من خطب جالسا معاوية " وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة " أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وعثمان كانوا يخطبون يوم الجمعة، حتى شق على عثمان القيام فكان يخطب قائما ثم يجلس، فلما كان معاوية خطب الأولى جالسا والأخرى قائما " ولا حجة في ذلك

(2/401)


لمن أجاز الخطبة قاعدا لأنه تبين أن ذلك للضرورة.

(2/402)


28 - باب يَسْتَقْبِلُ الإِمَامُ الْقَوْمَ وَاسْتِقْبَالِ النَّاسِ الإِمَامَ إِذَا خَطَبَ
وَاسْتَقْبَلَ ابْنُ عُمَرَ وَأَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ الإِمَامَ
921- حدثنا معاذ بن فضالة قال حدثنا هشام عن يحيى عن هلال بن أبي ميمونة حدثنا عطاء بن يسار أنه سمع أبا سعيد الخدري قال إن النبي صلى الله عليه وسلم جلس ذات يوم على المنبر وجلسنا حوله "
[الحديث921- أطرافه في : 6427.2842.1465]
قوله: "باب استقبال الناس الإمام إذا خطب" زاد في رواية كريمة في أول الترجمة " يستقبل الإمام القوم " ولم يبت الحكم وهو مستحب عند الجمهور، وفي وجه يجب، جزم به أبو الطيب الطبري من الشافعية فإن فعل أجزأ، وقيل لا، ذكره الشاشي، ونقل في شرح المهذب أن الالتفات يمينا وشمالا مكروه اتفاقا إلا ما حكى عن بعض الحنفية فقال أكثرهم: لا يصح، ومن لازم الاستقبال استدبار الإمام القبلة، واغتفر لئلا يصير مستدبر القوم الذين يعظهم ومن حكمة استقبالهم للإمام التهيؤ لسماع كلامه وسلوك الأدب معه في استماع كلامه، فإذا استقبله بوجهه وأقبل عليه بجسده وبقلبه وحضور ذهنه كان أدعى لتفهم موعظته وموافقته فيما شرع له القيام لأجله. قوله: "واستقبل ابن عمر وأنس الإمام" أما ابن عمر فرواه البيهقي من طريق الوليد بن مسلم قال: ذكرت لليث بن سعد فأخبرني عن ابن عجلان أنه أخبره عن نافع أن ابن عمر كان يفرغ من سبحته يوم الجمعة قبل خروج الإمام، فإذا خرج لم يقعد الإمام حتى يستقبله. وأما أنس فرويناه في نسخة نعيم صلى الله عليه وسلم ابن حماد بإسناد صحيح عنه أنه كان إذا أخذ الإمام في الخطبة يوم الجمعة يستقبله بوجهه حتى يفرغ من الخطبة، ورواه ابن المنذر من وجه آخر " عن أنس أنه جاء يوم الجمعة فاستند إلى الحائط واستقبل الإمام " قال ابن المنذر: لا أعلم في ذلك خلافا بين العلماء. وحكى غيره عن سعيد بن المسيب والحسن شيئا محتملا. وقال الترمذي: لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه شيء، يعني صريحا. وقد استنبط المصنف من حديث أبي سعيد " أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس ذات يوم على المنبر وجلسنا حوله " مقصود الترجمة، وهو طرف من حديث طويل سيأتي بهذا الإسناد في كتاب الزكاة في باب الصدقة على اليتامى، ويأتي الكلام عليه في الرقاق إن شاء الله تعالى. ووجه الدلالة منه أن جلوسهم حوله لسماع كلامه يقتضي نظرهم إليه غالبا، ولا يعكر على ذلك ما تقدم من القيام في الخطبة لأن هذا محمول على أنه كان يتحدث وهو جالس على مكان عال وهم جلوس أسفل منه، إذا كان ذلك في غير حال الخطبة كان حال الخطبة أولى لورود الأمر بالاستماع لها والإنصات عندها، والله أعلم.

(2/402)


29 - باب مَنْ قَالَ فِي الْخُطْبَةِ بَعْدَ الثَّنَاءِ أَمَّا بَعْدُ
رَوَاهُ عِكْرِمَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
922- وَقَالَ مَحْمُودٌ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ قَالَ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ قَالَ أَخْبَرَتْنِي فَاطِمَةُ بِنْتُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَسْمَاءَ
ـــــــ
(1) في طبعة بولاق : في نسخة أخرى " من نسخة شيخة نعيم"

(2/402)


30 - باب الْقَعْدَةِ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
928- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ خُطْبَتَيْنِ يَقْعُدُ بَيْنَهُمَا
قوله: "باب القعدة بين الخطبتين" قال الزين بن المنير: لم يصرح بحكم الترجمة لأن مستند ذلك الفعل ولا عموم له ا هـ. ولا اختصاص بذلك لهذه الترجمة فإنه لم يصرح بحكم غيرها من أحكام الجمعة، وظاهر صنيعه أنه يقول بوجوبها كما يقول به في أصل الخطبة. قوله: "يخطب خطبتين يقعد بينهما" مقتضاه أنه كان يخطبهما قائما، وصرح به في رواية خالد بن الحارث المتقدمة قبل ببابين ولفظه: "كان يخطب قائما ثم يقعد ثم يقوم " وللنسائي والدار قطني من هذا الوجه " كان يخطب خطبتين قائما يفصل بينهما بجلوس " وغفل صاحب العمدة فعزا هذا اللفظ للصحيحين، ورواه أبو داود بلفظ: "كان يخطب خطبتين: كان يجلس إذا صعد المنبر حتى يفرغ المؤذن، ثم يقوم فيخطب، ثم يجلس فلا يتكلم، ثم يقوم فيخطب " واستفيد من هذا أن حال الجلوس بين الخطبتين لا كلام فيه، لكن ليس فيه نفي أن يذكر الله أو يدعوه سرا. واستدل به الشافعي في إيجاب الجلوس بين الخطبتين لمواظبته صلى الله عليه وسلم على ذلك مع قوله: "صلوا كما رأيتموني أصلي" . قال ابن دقيق العيد: يتوقف ذلك على ثبوت أن إقامة الخطبتين داخل تحت كيفية الصلاة، وإلا فهو استدلال بمجرد الفعل. وزعم الطحاوي أن الشافعي تفرد بذلك، وتعقب بأنه محكي عن مالك أيضا في رواية، وهو المشهور عن أحمد نقله شيخنا في شرح الترمذي، وحكى ابن المنذر أن بعض العلماء عارض الشافعي بأنه صلى الله عليه وسلم واظب على الجلوس قبل الخطبة الأولى، فإن كانت مواظبته دليلا على شرطية الجلسة الوسطى فلتكن دليلا على شرطية الجلسة الأولى، وهذا متعقب بأن جل الروايات عن ابن عمر ليست فيها هذه الجلسة الأولى وهي من رواية عبد الله العمري المضعف فلم تثبت المواظبة عليها، بخلاف التي بين الخطبتين. وقال صاحب " المغني ": لم يوجبها أكثر أهل العلم لأنها جلسة ليس فيها ذكر مشروع فلم تجب، وقدرها من قال بوجوبها بقدر جلسة الاستراحة وبقدر ما يقرأ سورة الإخلاص. واختلف في حكمتها فقيل: للفصل بين الخطبتين، وقيل للراحة وعلى الأول - وهو الأظهر - يكفي السكوت بقدرها، ويظهر أثر الخلاف أيضا فيمن خطب قاعدا لعجزه عن القيام. وقد ألزم الطحاوي من قال بوجوب الجلوس بين الخطبتين أن يوجب القيام في الخطبتين، لأن كلا منهما اقتصر على فعل شيء واحد. وتعقبه الزين بن المنير. وبالله التوفيق.
ـــــــ
(1) يشير الشارح بهذا إلى قوله تعالى في سورة ص {هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ} ومقصوة أن قوله تعالى {هذا وإن } بمنزلة " أما بعد " والله أعلم

(2/406)


31 - باب الِاسْتِمَاعِ إِلَى الْخُطْبَةِ
930- حدثنا آدم قال حدثنا بن أبي ذئب عن الزهري عن أبي عبد الله الأغر عن أبي هريرة قال قال النبي صلى الله عليه وسلم "إذا كان يوم الجمعة وقفت الملائكة على باب المسجد يكتبون الأول فالأول ومثل المهجر كمثل الذي يهدي بدنة ليث يهدي بقرة كبشا دجاجة بيضة فإذا خرج الإمام طووا صحفهم ويستمعون الذكر "
[الحديث929- طرفه في : 3211]
قوله: "باب الاستماع" أي الإصغاء للسماع، فكل مستمع سامع من غير عكس، وأورد المصنف فيه حديث كتابة الملائكة من يبكر يوم الجمعة، وفيه: "فإذا خرج الإمام طووا صحفهم ويستمعون الذكر " وقد تقدم الكلام عليه مستوفي في " باب فضل الجمعة " وفيه إشارة إلى أن من الكلام من ابتداء الإمام في الخطبة لأن الاستماع لا يتجه إلا إذا تكلم. وقالت الحنفية: يحرم الكلام من ابتداء خروج الإمام، وورد فيه حديث ضعيف سنذكره في الباب الذي بعده إن شاء الله تعالى.

(2/407)


3 - باب إِذَا رَأَى الإِمَامُ رَجُلًا جَاءَ وَهُوَ يَخْطُبُ أَمَرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ
930- حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ النَّاسَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَالَ أَصَلَّيْتَ يَا فُلاَنُ قَالَ لاَ قَالَ قُمْ فَارْكَعْ"
[الحديث930-طرفاه في:1166.931]
قوله: "باب إذا رأى الإمام رجلا جاء وهو يخطب أمره أن يصلي ركعتين" أي إذا كان لم يصلهما قبل أن يراه.
قوله: "عن جابر بن عبد الله" صرح في الباب الذي يليه بسماع عمرو له من جابر. قوله: "جاء رجل" هو سليك بمهملة مصغرا ابن هدية وقيل ابن عمرو الغطفاني بفتح المعجمة ثم المهملة بعدها فاء من غطفان بن سعد بن قيس عيلان، ووقع مسمى في هذه القصة عند مسلم من رواية الليث بن سعد عن أبي الزبير عن جابر بلفظ: "جاء سليك الغطفاني يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر، فقعد سليك قبل أن يصلي، فقال له: أصليت ركعتين؟ فقال: لا. فقال: قم فاركعهما " ومن طريق الأعمش عن أبي سفيان عن جابر نحوه وفيه: "فقال له: يا سليك، قم فاركع ركعتين وتجوز فيهما " هكذا رواه حفاظ أصحاب الأعمش عنه، ووافقه الوليد أبو بشر عن أبي سفيان عند أبي داود والدار قطني، وشذ منصور أبي الأسود عن الأعمش بهذا الإسناد فقال: "جاء النعمان بن نوفل " فذكر الحديث أخرجه الطبراني، قال أبو حاتم الرازي: وهم فيه منصور يعني في تسمية الآتي، وقد رواه الطحاوي من طريق حفص بن غياث عن الأعمش قال: سمعت أبا صالح يحدث بحديث سليك الغطفاني، ثم سمعت أبا سفيان يحدث به عن جابر، فتحرر أن هذه القصة لسليك. وروى الطبراني أيضا من طريق أبي صالح عن أبي ذر " أنه أتى النبي

(2/407)


صلى الله عليه وسلم وهو يخطب فقال لأبي ذر: صليت ركعتين؟ قال: لا " الحديث، وفي إسناده ابن لهيعة، وشذ بقوله: "وهو يخطب " فإن الحديث مشهور عن أبي ذر أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد، أخرجه ابن حبان وغيره. وأما ما رواه الدار قطني من حديث أنس قال: "دخل رجل من قيس المسجد " فذكر نحو قصة سليك، فلا يخالف كونه سليكا فإن غطفان من قيس كما تقدم، وإن كان بعض شيوخنا غاير بينهما وجوز أن تكون الواقعة تعددت فإنه لم يتبين لي ذلك. واختلف فيه على الأعمش اختلافا آخر رواه. الثوري عنه عن أبي سفيان عن جابر عن سليك فجعل الحديث من مسند سليك، قال ابن عدي: لا أعلم أحدا قاله عن الثوري هكذا غير الفريابي وإبراهيم بن خالد ا هـ. وقد قاله عنه أيضا عبد الرزاق، أخرجه هكذا في مصنفه وأحمد عنه وأبو عوانة والدار قطني من طريقه، ونقل ابن هدي عن النسائي أنه قال: هذا خطأ ا هـ. والذي يظهر لي أنه ما عني أن جابرا حمل القصة عن سليك، وإنما معناه أن جابرا حدثهم عن قصة سليك، ولهذا نظير سأذكره في حديث أبي مسعود في قصة أبي شعيب اللحام في كتاب البيوع إن شاء الله تعالى. ومن المستغربات ما حكاه ابن بشكوال في المبهمات أن الداخل المذكور يقال له أبو هدية، فإن كان محفوظا فلعلها كنية سليك صادفت اسم أبيه. قوله: "فقال صليت؟" كذا للأكثر بحذف همزة الاستفهام وثبت في رواية الأصيلي. قوله: "قم فاركع" زاد المستملي والأصيلي: "ركعتين " وكذا في رواية سفيان في الباب الذي بعده " فصل ركعتين"، واستدل به على أن الخطبة لا تمنع الداخل من صلاة تحية المسجد، وتعقب بأنها واقعة عين لا عموم لها فيحتمل اختصاصها بسليك، ويدل عليه قوله في حديث أبي سعيد الذي أخرجه أصحاب السنن وغيرهم " جاء رجل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب والرجل في هيئة بذة، فقال له: أصليت؟ قال: لا. قال: صل ركعتين، وحض الناس على الصدقة " الحديث فأمره أن يصلي ليراه بعض الناس وهو قائم فيتصدق عليه، ويؤيده أن في هذا الحديث عند أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن هذا الرجل دخل المسجد في هيئه بذة فأمرته أن يصلي ركعتين وأنا أرجو أن يفطن له رجل فيتصدق عليه " وعرف بهذه الرواية الرد على من طعن في هذا التأويل فقال: لو كان كذلك لقال لهم: إذا رأيتم ذا بذة فتصدقوا عليه، أو إذا كان أحد ذا بذة فليقم فليركع حتى يتصدق الناس عليه. والذي يظهر أنه صلى الله عليه وسلم كان يعتني في مثل هذا بالإجمال دون التفصيل كما كان يصنع عند المعاتبة، ومما يضعف الاستدلال به أيضا على جواز التحية في تلك الحال أنهم أطلقوا أن التحية تفوت بالجلوس، وورد أيضا ما يؤكد الخصوصية وهو قوله صلى الله عليه وسلم لسليك في آخر الحديث: "لا تعودن لمثل هذا " أخرجه ابن حبان، انتهى ما اعتل به من طعن في الاستدلال بهذه القصة على جواز التحية، وكله مردود، لأن الأصل عدم الخصوصية. والتعليل بكونه صلى الله عليه وسلم قصد التصدق عليه لا يمنع القول بجواز التحية، فإن المانعين منها لا يجيزون التطوع لعلة التصدق، قال ابن المنير في الحاشية: لو ساغ ذلك لساغ مثله في التطوع عند طلوع الشمس وسائر الأوقات المكروهة ولا قائل به، ومما يدل على أن أمره بالصلاة لم ينحصر في قصد التصدق معاودته صلى الله عليه وسلم بأمره بالصلاة أيضا في الجمعة الثانية بعد أن حصل له في الجمعة الأولى ثوبين فدخل بهما في الثانية فتصدق بأحدهما فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك أخرجه النسائي وابن خزيمة من حديث أبي سعيد أيضا، ولأحمد وابن حبان أنه كرر أمره بالصلاة ثلاث مرات في ثلاث جمع، فدل على أن قصد التصدق عليه جزء عله لا علة كاملة. وأما إطلاق من أطلق أن التحية تفوت بالجلوس فقد حكى النووي في شرح مسلم عن المحققين أن ذلك في حق العامد العالم، أما الجاهل أو الناسي فلا، وحال هذا الداخل محمولة في الأولى على أحدهما وفي المرتين

(2/408)


الأخريين على النسيان، والحامل للمانعين على التأويل المذكور أنهم زعموا أن ظاهره معارض للأمر بالإنصات والاستماع للخطبة، قال ابن العربي: عارض قصة سليك ما هو أقوى منها كقوله تعالى: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا} وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا قلت لصاحبك أنصت والإمام يخطب يوم الجمعة فقد لغوت " متفق عليه، قال: فإذا امتنع الأمر بالمعروف وهو أمر اللاغي بالإنصات مع قصر زمنه فمنع التشاغل بالتحية مع طول زمنها أولى. وعارضوا أيضا بقوله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب الذي دخل يتخطى رقاب الناس: "اجلس فقد آذيت " أخرجه أبو داود والنسائي وصححه ابن خزيمة وغيره من حديث عبد الله بن بشر، قالوا: فأمره بالجلوس ولم يأمره بالتحية. وروى الطبراني من حديث ابن عمر رفعه: "إذا دخل أحدكم والإمام على المنبر فلا صلاة ولا كلام حتى يفرغ الإمام " والجواب عن ذلك كله أن المعارضة التي تئول إلى إسقاط أحد الدليلين إنما يعمل بها عند تعذر الجمع، والجمع هنا ممكن أما الآية فليست الخطبة كلها قرآنا، وأما ما فيها من القرآن فالجواب عنه كالجواب عن الحديث وهو تخصيص عمومه بالداخل، وأيضا فمصلي التحية يجوز أن يطلق عليه أنه منصت، فقد تقدم في افتتاح الصلاة من حديث أبي هريرة أنه قال: "يا رسول الله سكوتك بين التكبير والقراءة ما تقول فيه؟ " فأطلق على القول: سرا السكوت، وأما حديث ابن بشر فهو أيضا واقعة عين لا عموم فيها، فيحتمل أن يكون ترك أمره بالتحية قبل مشروعيتها، وقد عارض بعضهم في قصة سليك بمثل ذلك، ويحتمل أن يجمع بينهما بأن يكون قوله له " اجلس " أي بشرطه، وقد عرف قوله للداخل " فلا تجلس حتى تصلي ركعتين " فمعنى قوله اجلس أي لا تتخط، أو ترك أمره بالتحية لبيان الجواز فإنها ليست واجبة، أو لكون دخوله وقع في أواخر الخطبة بحيث ضاق الوقت عن التحية، وقد اتفقوا على استثناء هذه الصورة. ويحتمل أن يكون صلى التحية في مؤخر المسجد ثم تقدم ليقرب من سماع الخطبة فوقع منه التخطي فأنكر عليه. والجواب عن الحديث ابن عمر بأنه ضعيف فيه أيوب بن نهيك وهو منكر الحديث، قاله أبو زرعة وأبو حاتم الأحاديث الصحيحة لا تعارض بمثله. وأما قصة سليك فقد ذكر الترمذي أنها أصح شيء روى في هذا الباب وأقوى، وأجاب المانعون أيضا بأجوبة غير ما تقدم، اجتمع لنا منها زيادة على عشرة أوردتها ملخصة مع الجواب عنها لتستفاد: "الأول" قالوا: إنه صلى الله عليه وسلم لما خاطب سليكا سكت عن خطبته حتى فرغ سليك من صلاته، فعلى هذا فقد جمع سليك بين سماع الخطبة وصلاة التحية، فليس فيه حجة لمن أجاز التحية والخطيب يخطب، والجواب أن الدار قطني الذي أخرجه من حديث أنس قد ضعفه وقال: إن الصواب أنه من رواية سليمان التيمي مرسلا أو معضلا، وقد تعقبه ابن المنير في الحاشية بأنه لو ثبت لم يسغ على قاعدتهم، لأنه يستلزم جواز قطع الخطبة لأجل الداخل، والعمل عندهم لا يجوز قطعه بعد الشروع فيه لا سيما إذا كان واجبا. "الثاني" قيل: لما تشاغل النبي صلى الله عليه وسلم بمخاطبة سليك سقط فرض الاستماع عنه، إذ لم يكن منه حينئذ خطبة لأجل تلك المخاطبة، قاله ابن العربي وادعى أنه أقوى الأجوبة. وتعقب بأنه من أضعفها لأن المخاطبة لما انقضت رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خطبته، وتشاغل سليك بامتثال ما أمره به من الصلاة، فصح أنه صلى في حال الخطبة. "الثالث": قيل كانت هذه القصة قبل شروعه صلى الله عليه وسلم في الخطبة، ويدل عليه قوله في رواية الليث عند مسلم: "والنبي صلى الله عليه وسلم قاعد على المنبر " وأجيب بأن القعود على المنبر لا يختص بالابتداء، بل يحتمل أن يكون بين الخطبتين أيضا، فيكون كلمه بذلك وهو قاعد، فلما قام ليصلي قام النبي صلى الله عليه وسلم لخطبة لأن زمن القعود بين الخطبتين لا يطول. ويحتمل أيضا أن يكون الراوي تجوز في قوله: "قاعد "

(2/409)


لأن الروايات الصحيحة كلها مطبقة على أنه دخل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب. "الرابع" قيل: كانت هذه القصة قبل تحريم الكلام في الصلاة، وتعقب بأن سليكا متأخر الإسلام جدا وتحريم الكلام متقدم جدا كما سيأتي في موضعه في أواخر الصلاة، فكيف يدعي نسخ المتأخر بالمتقدم مع أن النسخ لا يثبت بالاحتمال، وقيل: كانت قبل الأمر بالإنصات، وقد تقدم الجواب عنه، وعورض هذا الاحتمال بمثله في الحديث الذي استدلوا به وهو ما أخرجه الطبراني عن ابن عمر " إذا خرج الإمام فلا صلاة ولا كلام " لاحتمال أن يكون ذلك قبل الأمر بصلاة التحية، والأولى في هذا أن يقال على تقدير تسليم ثبوت رفعه: يخص عمومه بحديث الأمر بالتحية خاصة كما تقدم. "الخامس" قيل: اتفقوا على أن منع الصلاة في الأوقات المكروهة يستوي فيه من كان داخل المسجد أو خارجه، وقد اتفقوا على أن من كان داخل المسجد يمتنع عليه التنفل حال الخطبة فليكن الآتي كذلك قاله الطحاوي، وتعقب بأنه قياس في مقابلة النص فهو فاسد، وما نقله من الاتفاق وافقه عليه الماوردي وغير، وقد شذ بعض الشافعية فقال: ينبني على وجوب الإنصات، فإن قلنا به امتنع التنفل وإلا فلا. "السادس" قيل: اتفقوا على أن الداخل والإمام في الصلاة تسقط عنه التحية، ولا شك أن الخطبة صلاة فتسقط عنه فيها أيضا، وتعقب بأن الخطبة ليست صلاة من كل وجه والفرق بينهما ظاهر من وجوه كثيرة، والداخل في حال الخطبة مأمور بشغل البقعة بالصلاة قبل جلوسه، بخلاف الداخل في حال الصلاة فإن إتيانه بالصلاة التي أقيمت يحصل المقصود، هذا مع تفريق الشارع بينهما فقال: "إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة " وقد وقع في بعض طرقه: "فلا صلاة إلا التي أقيمت " ولم يقل ذلك في حال الخطبة بل أمرهم فيها بالصلاة. "السابع" قيل: اتفقوا على سقوط التحية عن الإمام مع كونه يجلس على المنبر مع أن له ابتداء الكلام في الخطبة دون المأموم، فيكون ترك المأموم التحية بطريق الأولى، وتعقب بأنه أيضا قياس في مقابلة النص فهو فاسد، ولأن الأمر وقع مقيدا بحال الخطبة فلم يتناول الخطيب. وقال الزين بن المنير: منع الكلام إنما هو لمن شهد الخطبة لا لمن خطب، فكذلك الأمر بالإنصات واستماع الخطبة. "الثامن" قيل: لا نسلم أن المراد بالركعتين المأمور بهما تحية المسجد، بل يحتمل أن تكون صلاة فائته كالصبح مثلا قاله بعض الحنفية وقواه ابن المنير في الحاشية وقال: لعله صلى الله عليه وسلم كان كشف له عن ذلك، وإنما استفهمه ملاطفة له في الخطاب، قال: ولو كان المراد بالصلاة التحية لم يحتج إلى استفهامه لأنه قد رآه لما دخل. وقد تولى رده ابن حبان في صحيحه فقال: لو كان كذلك لم يتكرر أمره له بذلك مرة بعد أخرى. ومن هذه المادة قولهم: إنما أمره بسنة الجمعة التي قبلها، ومستندهم قوله في قصة سليك عند ابن ماجه: "أصليت قبل أن تجيء " لأن ظاهره قبل أن تجيء من البيت، ولهذا قال الأوزاعي: إن كان صلى في البيت قبل أن يجيء فلا يصلي إذا دخل المسجد. وتعقب بأن المانع من صلاة التحية لا يجيز التنفل حال الخطبة مطلقا، ويحتمل أن يكون معنى قبل أن تجيء أي إلى الموضع الذي أنت به الآن وفائدة الاستفهام احتمال أن يكون صلاها في مؤخر المسجد ثم تقدم ليقرب من سماع الخطبة كما تقدم في قصة الذي تخطى، ويؤكده أن في رواية لمسلم: "أصليت الركعتين " بالألف واللام وهو للعهد ولا عهد هناك أقرب من تحية المسجد. وأما سنة الجمعة التي قبلها فلم يثبت فيها شيء كما سيأتي في بابه. "التاسع" قيل: لا نسلم أن الخطبة المذكورة كانت للجمعة، ويدل عل أنها كانت لغيرها قوله للداخل " أصليت " لأن وقت الصلاة لم يكن دخل اهـ. وهذا ينبني على أن الاستفهام وقع عن صلاة الفرض فيحتاج إلى ثبوت ذلك، وقد وقع في حديث الباب وفي الذي بعده أن ذلك

(2/410)


كان يوم الجمعة فهو ظاهر في أن الخطبة كانت لصلاة الجمعة. "العاشر" قال جماعة منهم القرطبي: أقوى ما اعتمده المالكية في هذه المسألة عمل أهل المدينة خلفا عن سلف من لدن الصحابة إلى عهد مالك أن التنفل في حال الخطبة ممنوع مطلقا، وتعقب بمنع اتفاق أهل المدينة على ذلك، فقد ثبت فعل التحية عن أبي سعيد الخدري وهو من فقهاء الصحابة من أهل المدينة وحمله عنه أصحابه من أهل المدينة أيضا، فروى الترمذي وابن خزيمة وصححاه عن عياض بن أبي سرح " أن أبا سعيد الخدري دخل ومروان يخطب فصلى الركعتين، فأراد حرس مروان أن يمنعوه فأبى حتى صلاهما ثم قال: ما كنت لأدعهما بعد أن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بهما " انتهى. ولم يثبت عن أحد من الصحابة صريحا ما يخالف ذلك. وأما ما نقله ابن بطال عن عمر وعثمان وغير واحد من الصحابة من المنع مطلقا فاعتماده في ذلك على روايات عنهم فيها احتمال، كقول ثعلبة بن أبي مالك " أدركت عمر وعثمان - وكان الإمام - إذا خرج تركنا الصلاة " ووجه الاحتمال أن يكون ثعلبة عني بذلك من كان داخل المسجد خاصة، قال شيخنا الحافظ أبو الفضل في شرح الترمذي: كل من نقل عنه - يعني من الصحابة - منع الصلاة والإمام يخطب محمول على من كان داخل المسجد لأنه لم يقع عن أحد منهم التصريح بمنع التحية، وقد ورد فيها حديث يخصها فلا تترك بالاحتمال، انتهى. ولم أقف على ذلك صريحا عن أحد من الصحابة. وأما ما رواه الطحاوي " عن عبد الله بن صفوان أنه دخل المسجد وابن الزبير يخطب فاستلم الركن ثم سلم عليه ثم جلس ولم يركع " وعبد الله بن صفوان وعبد الله بن الزبير صحابيان صغيران فقد استدل به الطحاوي فقال: لما لم ينكر ابن الزبير على ابن صفوان ولا من حضرهما من الصحابة ترك التحية دل على صحة ما قلناه، وتعقب بأن تركهم النكير لا يدل على تحريمها بل يدل على عدم وجوبها، ولم يقل به مخالفوهم. وسيأتي في أواخر الكلام على هذا الحديث البحث في أن صلاة التحية هل تعم كل مسجد، أو يستثنى المسجد الحرام لأن تحيته الطواف؟ فلعل ابن صفوان كان يرى أن تحيته استلام الركن فقط. وهذه الأجوبة التي قد قدمناها تندفع من أصلها بعموم قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي قتادة " إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين " متفق عليه، وقد تقدم الكلام عليه. وورد أخص منه في حال الخطبة، ففي رواية شعبة عن عمرو بن دينار قال: "سمعت جابر بن عبد الله يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وهو يخطب: إذا جاء أحدكم والإمام يخطب - أو قد خرج - فليصل ركعتين " متفق عليه أيضا، ولمسلم من طريق أبي سفيان عن جابر أنه قال ذلك في قصة سليك ولفظه بعد قوله فاركعهما وتجوز فيهما " ثم قال: إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما " قال النووي: هذا نص لا يتطرق إليه التأويل ولا أظن عالما يبلغه هذا اللفظ ويعتقده صحيحا فيخالفه. وقال أبو محمد بن أبي جمرة: هذا الذي أخرجه مسلم نص في الباب لا يحتمل التأويل. وحكى ابن دقيق العيد أن بعضهم تأول هذا العموم بتأويل مستكره، وكأنه يشير إلى بعض ما تقدم من ادعاء النسخ أو التخصيص. وقد عارض بعض الحنفية الشافعية بأنهم لا حجة لهم في قصة سليك، لأن التحية عندهم تسقط بالجلوس، وقد تقدم جوابه. وعارض بعضهم بحديث أبي سعيد رفعه: "لا تصلوا والإمام يخطب " وتعقب بأنه لا يثبت، وعلى تقدير ثبوته فيخص عمومه بالأمر بصلاة التحية. وبعضهم بأن عمر لم يأمر عثمان بصلاة التحية مع أنه أنكر عليه الاقتصار على الوضوء، وأجيب باحتمال أن يكون صلاهما. وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدم جواز صلاة التحية في الأوقات المكروهة، لأنها إذا لم تسقط

(2/411)


في الخطبة مع الأمر بالإنصات لها فغيرها أولى. وفيه أن التحية لا تفوت بالقعود، لكن قيده بعضهم بالجاهل أو الناسي كما تقدم، وأن للخطيب أن يأمر في خطبته وينهي ويبين الأحكام المحتاج إليها، ولا يقطع ذلك التوالي المشترط فيها، بل لقائل أن يقول كل ذلك بعد من الخطبة. واستدل به على أن المسجد شرط للجمعة للاتفاق على أنه لا تشرع التحية لغير المسجد وفيه نطر. واستدل به على جواز رد السلام وتشميت العاطس في حال الخطبة لأن أمرهما أخف وزمنهما أقصر ولا سيما رد السلام فإنه واجب، وسيأتي البحث في ذلك بعد ثلاثة أبواب. "فائدة": قيل يخص عموم حديث الباب بالداخل في آخر الخطبة كما تقدم، قال الشافعي: أرى للإمام أن يأمر الآتي بالركعتين ويزيد في كلامه ما يمكنه الإتيان بهما قبل إقامة الصلاة، فإن لم يفعل كرهت ذلك. وحكى النووي عن المحققين أن المختار إن لم يفعل أن يقف حتى تقام الصلاة لئلا يكون جالسا بغير تحيه أو متنفلا حال إقامة الصلاة. واستثنى المحاملي المسجد الحرام لأن تحيته الطواف، وفيه نظر لطول زمن الطواف بالنسبة إلى الركعتين. والذي يظهر من قولهم إن تحية المسجد الحرام الطواف إنما هو في حق القادم ليكون أول شيء يفعله الطواف، وأما المقيم فحكم المسجد الحرام وغيره في ذلك سواء، ولعل قول من أطلق أنه يبدأ في المسجد الحرام بالطواف لكون الطواف يعقبه صلاة الركعتين فيحصل شغل البقعة بالصلاة غالبا وهو المقصود، ويختص المسجد الحرام بزيادة الطواف، والله أعلم.

(2/412)


33 - باب مَنْ جَاءَ وَالإِمَامُ يَخْطُبُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ
931- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو سَمِعَ جَابِرًا قَالَ "دَخَلَ رَجُلٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ فَقَالَ أَصَلَّيْتَ قَالَ لاَ قَالَ قُمْ فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ"
قوله: "باب من جاء والإمام يخطب صلى ركعتين خفيفتين" قال الإسماعيلي: لم يقع في الحديث الذي ذكره التقييد بكونهما خفيفتين. قلت: هو كما قال، إلا أن المصنف جرى على عادته في الإشارة إلى ما في بعض طرق الحديث وهو كذلك، وقد أخرجه أبو قرة في السنن عن الثوري عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر بلفظ: "قم فاركع ركعتين خفيفتين " وقد تقدم أنه عند مسلم بلفظ: "وتجوز فيهما". وقال الزين بن المنير ما ملخصه: في الترجمة الأولى أن الأمر بالركعتين يتقيد برؤية الإمام الداخل في حال الخطبة بعد أن يستفسره هل صلي أم لا؟ وذلك كله خاص بالخطيب، وأما حكم الداخل فلا يتقيد بشيء من ذلك، بل يستحب له أن يصلي تحية المسجد، فأشار المصنف إلى ذلك كله بالترجمة الثانية بعد الأولى، مع أن الحديث فيهما واحد. قوله: "عن عمرو" هو ابن دينار، ووقع التصريح بسماع سفيان منه في هذا الحديث في مسند الحميدي، وهو عند أبي نعيم في المستخرج. قوله: "صليت" كذا للأكثر أيضا بحذف الهمزة، وثبتت لكريمة وللمستملي. قوله: "قال فصل" زاد في رواية أبي ذر " قال قم فصل".

(2/412)


34 - باب رَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي الْخُطْبَةِ
932- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ عَنْ أَنَسٍ وَعَنْ يُونُسَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ " بَيْنَمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِذْ قَامَ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكَ الْكُرَاعُ وَهَلَكَ الشَّاءُ

(2/412)


35 - باب الِاسْتِسْقَاءِ فِي الْخُطْبَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
933- حدثنا إبراهيم بن المنذر قال حدثنا الوليد قال حدثنا أبو عمرو قال حدثني إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك قال أصابت الناس سنة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فبينا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب في يوم جمعة قام أعرابي فقال يا رسول الله هلك الماء وجاع العيال فادع الله لنا فرفع يديه وما نرى في السماء قزعة فوالذي نفسي بيده ما وضعها حتى ثار السحاب أمثال الجبال ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته صلى الله عليه وسلم فمطرنا يومنا ذلك ومن الغد وبعد الغد والذي يليه حتى الجمعة الأخرى وقام ذلك الأعرابي أو قال غيره فقال يا رسول الله تهدم البناء وغرق المال فادع الله لنا فرفع يديه فقال اللهم حوالينا ولا علينا فما يشير بيده إلى ناحية من السحاب إلا انفرجت وصارت المدينة مثل الجوبة وسال الوادي قناة شهرا ولم يجئ أحد من ناحية إلا حدث بالجود
قوله: "باب الاستسقاء في الخطبة يوم الجمعة" أورد فيه الحديث المذكور مطولا من وجه آخر عن أنس، وهو مطابق للترجمة أيضا وفيه الاكتفاء في الاستسقاء بخطبة الجمعة وصلاتها، ويأتي الكلام عليه مستوفي في كتاب الاستسقاء إن شاء الله تعالى. واستدل به على جواز الكلام في الخطبة كما سيأتي في الباب الذي بعده.

(2/413)


36 - باب الإِنْصَاتِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالإِمَامُ يَخْطُبُ
وَإِذَا قَالَ لِصَاحِبِهِ أَنْصِتْ فَقَدْ لَغَا وَقَالَ سَلْمَانُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنْصِتُ إِذَا تَكَلَّمَ الإِمَامُ

(2/413)


37 - باب السَّاعَةِ الَّتِي فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ
935-حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَالَ فِيهِ سَاعَةٌ لاَ يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي يَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى شَيْئًا إِلاَّ أَعْطَاهُ إِيَّاهُ وَأَشَارَ بِيَدِهِ يُقَلِّلُهَا
[الحديث 935 – طرفاه في:6400.5294]

(2/415)


قوله: "باب الساعة التي في يوم الجمعة" أي التي يجاب فيها الدعاء. قوله: "عن أبي الزناد" كذا رواه أصحاب مالك في الموطأ، وثم فيه إسناد آخر إلى أبي هريرة وفيه قصة له مع عبد الله بن سلام. قوله: "فيه ساعة" كذا فيه مبهمة، وعينت في أحاديث أخر كما سيأتي. قوله: "لا يوافقها" أي يصادفها، وهو أعم من أن يقصد لها أو يتفق له وقوع الدعاء فيها. قوله: "وهو قائم يصلي يسأل الله" هي صفات لمسلم أعربت حالا، ويحتمل أن يكون يصلي حالا منه لاتصافه بقائم، ويسأل حال مترادفة أو متداخلة، وأفاد ابن عبد البر أن قوله: "وهو قائم " سقط من رواية أبي مصعب وابن أبي أويس ومطرف والتنيسي وقتيبة وأثبتها الباقون، قال: وهي زيادة محفوظة عن أبي الزناد من رواية مالك وورقاء وغيرهما عنه، وحكى أبو محمد بن السيد عن محمد بن وضاح أنه كان يأمر بحذفها من الحديث، وكان السبب في ذلك أنه يشكل على أصح الأحاديث الواردة في تعيين هذه الساعة، وهما حديثان أحدهما أنها من جلوس الخطيب على المنبر إلى انصرافه من الصلاة، والثاني أنها من بعد العصر إلى غروب الشمس. وقد احتج أبو هريرة على عبد الله بن سلام لما ذكر له القول الثاني بأنها ليست ساعة صلاة وقد ورد النص بالصلاة فأجابه بالنص الآخر أن منتظر الصلاة في حكم المصلي، فلو كان قوله: "وهو قائم " عند أبي هريرة ثابتا لاحتج عليه بها لكنه سلم له الجواب وارتضاه وأفتى به بعده. وأما إشكاله على الحديث الأول فمن جهة أنه يتناول حال الخطبة كله وليست صلاة على الحقيقة، وقد أجيب عن هذا الإشكال بحمل الصلاة على الدعاء أو الانتظار، ويحمل القيام على الملازمة والمواظبة، ويؤيد ذلك أن حال القيام في الصلاة غير حال السجود والركوع والتشهد مع أن السجود مظنة إجابة الدعاء، فلو كان المراد بالقيام حقيقته لأخرجه، فدل على أن المراد مجاز القيام وهو المواظبة ونحوها ومنه قوله تعالى: { إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً } فعلى هذا يكون التعبير عن المصلي بالقائم من باب التعبير عن الكل بالجزء، والنكتة فيه أنه أشهر أحوال الصلاة. قوله: "شيئا" أي مما يليق أن يدعو به المسلم ويسأل ربه تعالى. وفي رواية سلمة بن علقمة عن محمد ابن سيرين عن أبي هريرة عند المصنف في الطلاق " يسال الله خبرا " ولمسلم من رواية محمد بن زياد عن أبي هريرة مثله، وفي حديث أبى لبابة عند ابن ماجه: "ما لم يسأل حراما " وفي حديث سعد بن عبادة عند أحمد " ما لم يسأل إثما أو قطيعة رحم " وهو نحو الأول، وقطيعة الرحم من جملة الإثم فهو من عطف الخاص على العام للاهتمام به. قوله: "وأشار بيده" كذا هنا بإبهام الفاعل. وفي رواية أبي مصعب عن مالك " وأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وفي رواية سلمة بن علقمة التي أشرت إليها " ووضع أنملته على بطن الوسطى أو الخنصر قلنا يزهدها " وبين أبو مسلم الكجي أن الذي وضع هو بشر بن المفضل راويه عن سلمة بن علقمة، وكأنه فسر الإشارة بذلك، وأنها ساعة لطيفة تتنقل ما بين وسط النهار إلى قرب آخره، وبهذا يحصل الجمع بينه وبين قوله: "يزهدها " أى يقللها، ولمسلم من رواية محمد بن زياد عن أبي هريرة " وهي ساعة خفيفة " وللطبراني في الأوسط في حديث أنس " وهي قدر هذا، يعني قبضة " قال الزين بن المنير: الإشارة لتقليلها هو للترغيب فيها والحض عليها ليسارة وقتها وغزارة فضلها. وقد اختلف أهل العلم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم في هذه الساعة هل هي باقية أو رفعت؟ وعلى البقاء هل هي في كل جمعة أو في جمعة واحدة من كل سنة؟ وعلى الأول هل هي وقت من اليوم معين أو مبهم؟ وعلى التعيين هل تستوعب الوقت أو تبهم فيه؟ وعلى الإبهام ما ابتداؤه وما انتهاؤه؟ وعلى كل ذلك هل تستمر أو تنتقل؟ وعلى الانتقال هل تستغرق اليوم أو بعضه؟ وها أنا أذكر تلخيص ما اتصل إلى من الأقوال مع أدلتها، ثم أعود إلى الجمع بينها والترجيح. فالأول: أنها رفعت، حكاه ابن عبد البر عن قوم وزيفه. وقال عياض: رده السلف

(2/416)


على قائله. وروى عبد الرزاق عن ابن جريج أخبرني داود بن أبي عاصم عن عبد الله بن عبس مولى معاوية قال: "قلت لأبي هريرة: إنهم زعموا أن الساعة التي في يوم الجمعة يستجاب فيها الدعاء رفعت، فقال: كذب من قال ذلك. قلت: فهي في كل جمعة؟ قال نعم " إسناده قوي. وقال صاحب الهدى: إن أراد قائله أنها كانت معلومة فرفع علمها عن الأمة فصارت مبهمة احتمل، وإن أراد حقيقتها فهو مردود على قائله، القول الثاني: أنها موجودة لكن في جمعة واحدة من كل سنة، قاله كعب الأحبار لأبي هريرة، فرد عليه فرجع إليه، رواه مالك في الموطأ وأصحاب السنن. الثالث: أنها مخفية في جميع اليوم كما أخفيت ليله القدر في العشر. روى ابن خزيمة والحاكم من طريق سعيد بن الحارث عن أبي سلمة " سألت أبا سعيد عن ساعة الجمعة فقال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عنها فقال: قد أعلمتها ثم أنسيتها كما أنسيت ليلة القدر". وروى عبد الرزاق عن معمر أنه سأل الزهري فقال: لم أسمع فيها بشيء، إلا أن كعبا كان يقول لو أن إنسانا قسم جمعة في جمع لأتى على تلك الساعة، قال ابن المنذر: معناه أنه يبدأ فيدعو في جمعة من الجمع من أول النهار إلى وقت معلوم، ثم في جمعة أخرى يبتدئ من ذلك الوقت إلى وقت آخر حتى بأتي على آخر النهار. قالة: وكعب هذا هو كعب الأحبار، قال: وروينا عن ابن عمر أنه قال: إن طلب حاجة في يوم ليسير، قال: معناه أنه ينبغي المداومة على الدعاء يوم الجمعة كله ليمر بالوقت الذي يستجاب فيه الدعاء انتهى. والذي قاله ابن عمر يصلح لمن يقوى على ذلك، وإلا فالذي قاله كعب سهل على كل أحد، وقضية ذلك أنهما كانا يريان أنها غير معينة، وهو قضية كلام جمع من العلماء كالرافعي وصاحب المغني وغيرهما حيث قالوا: يستحب أن يكثر من الدعاء يوم الجمعة رجاء أن يصادف ساعة الإجابة، ومن حجة هذا القول تشبيهها بليلة القدر والاسم الأعظم في الأسماء الحسنى، والحكمة في ذلك حث العباد على الاجتهاد في الطلب واستيعاب الوقت بالعبادة، بخلاف ما لو تحقق الأمر في شيء من ذلك لكان مقتضيا للاقتصار عليه وإهمال ما عداه. الرابع: أنها تنتقل في يوم الجمعة ولا تلزم ساعة معينه لا ظاهرة ولا مخفية، قال الغزالي: هذا أشبه الأقوال، وذكره الأثرم احتمالا، وجزم به ابن عساكر وغيره. وقال المحب الطبري إنه الأظهر، وعلى هذا لا يتأتى ما قاله كعب في الجزم بتحصيلها. الخامس: إذا أذن المؤذن لصلاة الغداة، ذكره شيخنا الحافظ أبو الفضل في " شرح الترمذي " وشيخنا سراج الدين بن الملقن في " شرحه على البخاري " ونسباه لتخريج ابن أبي شيبة عن عائشة، وقد رواه الروياني في مسنده عنها فأطلق الصلاة ولم يقيدها. رواه ابن المنذر فقيدها بصلاة الجمعة، والله أعلم. السادس: من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، رواه ابن عساكر من طريق أبي جعفر الرازي عن ليث بن أبي سليم عن مجاهد عن أبي هريرة، وحكاه القاضي أبو الطيب الطبري وأبو نصر بن الصباغ وعياض والقرطبي وغيرهم وعبارة بعضهم: ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس. السابع مثله وزاد: ومن العصر إلى الغروب. رواه سعيد بن منصور عن خلف بن خليفة عن ليث ابن أبي سليم عن مجاهد عن أبي هريرة، وتابعه فضيل بن عياض عن ليث عند ابن المنذر، وليث ضعيف وقد اختلف عليه فيه كما ترى. الثامن مثله وزاد: وما بين أن ينزل الإمام من المنبر إلى أن يكبر رواه حميد بن زنجويه في الترغيب له من طريق عطاء بن قرة عن عبد الله بن ضمرة عن أبي هريرة قال: "التمسوا الساعة التي يجاب فيها الدعاء يوم الجمعة في هذه الأوقات الثلاثة " فذكرها. التاسع: أنها أول ساعة بعد طلوع الشمس حكاه الجبلي في " شرح التنبيه " وتبعه المحب الطبري في شرحه. العاشر: عند طلوع الشمس حكاه الغزالي في الإحياء وعبر عنه الزين بن المنير في شرحه بقوله: هي ما بين أن ترتفع الشمس شبرا إلى ذراع، وعزاه لأبي ذر.

(2/417)


الحادي عشر: أنها في آخر الساعة الثالثة من النهار حكاه صاحب " المغني " وهو في مسند الإمام أحمد من طريق على بن أبي طلحة عن أبي هريرة مرفوعا: "يوم الجمعة فيه طبعت طينة آدم، وفي آخر ثلاث ساعات منه ساعة من دعا الله فيها استجيب له " وفي إسناده فرج بن فضالة وهو ضعيف، وعلي لم يسمع من أبي هريرة، قال المحب الطبري: قوله: "في آخر ثلاث ساعات " يحتمل أمرين: أحدهما أن يكون المراد الساعة الأخيرة من الثلاث الأول، ثانيهما أن يكون المراد أن في آخر كل ساعة من الثلاث ساعة إجابة، فيكون فيه تجوز لإطلاق الساعة على بعض الساعة. الثاني عشر: من الزوال إلى أن يصير الظل نصف ذراع حكاه المحب الطبري في الأحكام وقبله الزكي المنذري. الثالث عشر: مثله لكن قال أن يصير الظل ذراعا حكاه عياض والقرطبي والنووي. الرابع عشر: بعد زوال الشمس بشبر إلى ذراع رواه ابن المنذر وابن عبد البر بإسناد قوي إلى الحارث بن يزيد الحضرمي عن عبد الرحمن بن حجيرة عن أبي ذر أن امرأته سألته عنها فقال ذلك، ولعله مأخذ القولين اللذين قبله. الخامس عشر: إذا زالت الشمس حكاه ابن المنذر عن أبي العالية، وورد نحوه في أثناء حديث عن علي، وروى عبد الرزاق من طريق الحسن أنه كان يتحراها عند زوال الشمس بسبب قصة وقعت لبعض أصحابه في ذلك، وروى ابن سعد في الطبقات عن عبيد الله بن نوفل نحو القصة، وروى ابن عساكر من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة قال: كانوا يرون الساعة المستجاب فيها الدعاء إذا زالت الشمس، وكأن مأخذهم في ذلك أنها وقت اجتماع الملائكة وابتداء دخول وقت الجمعة وابتداء الأذان ونحو ذلك. السادس عشر: إذا أذن المؤذن لصلاة الجمعة رواه ابن المنذر عن عائشة قالت: "يوم الجمعة مثل يوم عرفة تفتح فيه أبواب السماء، وفيه ساعة لا يسأل الله فيها العبد شيئا إلا أعطاه. قيل: أية ساعة؟ قالت: إذا أذن المؤذن لصلاة الجمعة " وهذا يغاير الذي قبله من حيث أن الأذان قد يتأخر عن الزوال، قال الزين بن المنير: ويتعين حمله على الأذان الذي بين يدي الخطيب. السابع عشر: من الزوال إلى أن يدخل الرجل في الصلاة ذكره ابن المنذر عن أبي السوار العدوي، وحكاه ابن الصباغ بلفظ: إلى أن يدخل الإمام الثامن عشر: من الزوال إلى خروج الإمام حكاه القاضي أبو الطيب الطبري. التاسع عشر: من الزوال إلى غروب الشمس حكاه أبو العباس أحمد بن علي بن كشاسب الدزماري وهو بزاي ساكنة وقبل ياء النسب راء مهملة في نكته على التنبيه عن الحسن ونقله عنه شيخنا سراج الدين ابن الملقن في شرح البخاري، وكان الدزماري المذكور في عصر ابن الصلاح. العشرون: ما بين خروج الإمام إلى أن تقام الصلاة رواه ابن المنذر عن الحسن. وروى أبو بكر المروزي في " كتاب الجمعة " بإسناد صحيح إلى الشعبي عن عوف بن حصيرة رجل من أهل الشام مثله. الحادي والعشرون: عند خروج الإمام رواه حميد بن زنجويه في " كتاب الترغيب " عن الحسن أن رجلا مرت به وهو ينعس في ذلك الوقت. الثاني والعشرون: ما بين خروج الإمام إلى أن تنقضي الصلاة رواه ابن جرير من طريق إسماعيل بن سالم عن الشعبي قوله. ومن طريق معاوية بن قرة عن أبي بردة عن أبى موسى قوله، وفيه أن ابن عمر استصوب ذلك. الثالث والعشرون: ما بين أن يحرم البيع إلى أن يحل رواه سعيد بن منصور وابن المنذر عن الشعبي قوله أيضا، قال الزين بن المنير: ووجهه أنه أخص أحكام الجمعة لأن العقد باطل عند الأكثر فلو اتفق ذلك في غير هذه الساعة بحيث ضاق الوقت فتشاغل اثنان بعقد البيع فخرج وفاتت تلك الصلاة لأثما ولم يبطل البيع. الرابع والعشرون: ما بين الأذان إلى انقضاء الصلاة رواه حميد بن زنجويه عن ابن عباس وحكاه البغوي في شرح السنة عنه. الخامس والعشرون: ما بين أن يجلس الإمام

(2/418)


على المنبر إلى أن تقضي الصلاة رواه مسلم وأبو داود من طريق مخرمة بن بكير عن أبيه عن أبي بردة بن أبي موسى أن ابن عمر سأله عما سمع من أبيه في ساعة الجمعة فقال: سمعت أبي يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره، وهذا القول يمكن أن يتخذ من اللذين قبله. السادس والعشرون: عند التأذين وعند تذكير الإمام وعند الإقامة رواه حميد بن زنجويه من طريق سليم بن عامر عن عوف بن مالك الأشجعي الصحابي. السابع والعشرون: مثله لكن قال: إذا أذن وإذا رقي المنبر إذا أقيمت الصلاة رواه ابن أبي شيبة وابن المنذر عن أبي أمامة الصحابي قوله، قال الزين بن المنير: ما ورد عند الأذان من إجابة الدعاء فيتأكد يوم الجمعة وكذلك الإقامة، وأما زمان جلوس الإمام على المنبر فلأنه وقت استماع الذكر، والابتداء في المقصود من الجمعة. الثامن والعشرون: من حين يفتتح الإمام الخطبة حتى يفرغ رواه ابن عبد البر من طريق محمد بن عبد الرحمن عن أبيه عن ابن عمر مرفوعا وإسناده ضعيف. التاسع والعشرون. إذا بلغ الخطيب المنبر وأخذ في الخطبة حكاه الغزالي في الإحياء. الثلاثون: عند الجلوس بين الخطبتين حكاه الطيبي عن بعض شراح المصابيح. الحادي والثلاثون: أنها عند نزول الإمام من المنبر رواه ابن أبي شيبة وحميد بن زنجويه وابن جرير وابن المنذر بإسناد صحيح إلى أبي إسحاق عن أبي بردة قوله، وحكاه الغزالي قولا بلفظ: إذا قام الناس إلى الصلاة. الثاني والثلاثون: حين تقام الصلاة حتى يقوم الإمام في مقامه حكاه ابن المنذر عن الحسن أيضا، وروى الطبراني من حديث ميمونة بنت سعد نحوه مرفوعا بإسناد ضعيف، الثالث والثلاثون: من إقامة الصف إلى تمام الصلاة رواه الترمذي وابن ماجه من طريق كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده مرفوعا وفيه: قالوا أية ساعة يا رسول الله؟ قال: حين تقام الصلاة إلى الانصراف منها، وقد ضعف كثير رواية كثير، ورواه البيهقي في الشعب من هذا الوجه بلفظ ما بين أن ينزل الإمام من المنبر إلى أن تنقضي الصلاة ورواه ابن أبي شيبة من طريق مغيرة عن واصل الأحدب عن أبي بردة قوله، وإسناده قوى إليه، وفيه أن ابن عمر استحسن ذلك منه وبرك عليه ومسح على رأسه، وروى ابن جرير وسعيد بن منصور عن ابن سيرين نحوه. الرابع والثلاثون: هي الساعة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فيها الجمعة رواه ابن عساكر بإسناد صحيح عن ابن سيرين، وهذا يغاير الذي قبله من جهة إطلاق ذاك وتقييد هذا، وكأنه أخذه من جهة أن صلاة الجمعه أفضل صلوات ذلك اليوم، وأن الوقت الذي كان يصلي فيه النبي صلى الله عليه وسلم أفضل الأوقات، وأن جميع ما تقدم من الأذان والخطبة وغيرهما وسائل وصلاة الجمعة هي المقصودة بالذات، ويؤيده ورود الأمر في القرآن بتكثير الذكر حال الصلاة كما ورد الأمر بتكثير الذكر حال القتال وذلك في قوله تعالى: { إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } وفي قوله: { إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ } - إلى أن ختم الآية بقوله – {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } وليس المراد إيقاع الذكر بعد الانتشار وإن عطف عليه، وإنما المراد تكثير المشار إليه أول الآية صلى الله عليه وسلم والله أعلم. الخامس والثلاثون: من صلاة العصر إلى غروب الشمس رواه ابن جرير من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس موقوفا، ومن طريق صفوان بن سليم عن أبي سلمة عن أبي سعيد مرفوعا بلفظ: "فالتمسوها بعد العصر " وذكر ابن عبد البر أن قوله: "فالتمسوها الخ " مدرج في الخبر من قول أبي سلمة، ورواه ابن منده من هذا الوجه وزاد: "أغفل ما يكون الناس " ورواه أبو نعيم في الحلية من طريق الشيباني عن عون بن عبد الله بن عتبة عن أخيه عبيد الله
ـــــــ
(1)هذا فيه نظر , وسياق الآية مخالفة. والله أعلم

(2/419)


كقول ابن عباس، ورواه الترمذي من طريق موسى بن وردان عن أنس مرفوعا بلفظ: "بعد العصر إلى غيبوبة الشمس " وإسناده ضعيف. السادس والثلاثون: في صلاة العصر رواه عبد الرزاق عن عمر بن ذر عن يحي بن إسحاق بن أبي طلحة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا وفيه قصة. السابع والثلاثون: بعد العصر إلى آخر وقت الاختيار حكاه الغزالي في الإحياء. الثامن والثلاثون: بعد العصر كما تقدم عن أبي سعيد مطلقا، ورواه ابن عساكر من طريق محمد بن سلمة الأنصاري عن أبي سلمة عن أبي هريرة وأبي سعيد مرفوعا بلفظ: "وهي بعد العصر " ورواه ابن المنذر عن مجاهد مثله، ورواه ابن جريج صلى الله عليه وسلم من طريق إبراهيم بن ميسرة عن رجل أرسله عمرو بن أويس إلى أبي هريرة فذكر مثله قال: وسمعته عن الحكم عن ابن عباس مثله، ورواه أبو بكر المروذي من طريق الثوري وشعبة جميعا عن يونس بن خباب قال الثوري: عن عطاء. وقال شعبة: عن أبيه عن أبي هريرة. مثله " وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه أنه كان يتحراها بعد العصر، وعن ابن جريج عن بعض أهل العلم قال: لا أعلمه إلا من ابن عباس مثله، فقيل له: لا صلاة بعد العصر، فقال: بلى، لكن من كان في مصلاه لم يقم منه فهو في صلاة". التاسع والثلاثون: من وسط النهار إلى قرب آخر النهار كما تقدم أول الباب عن سلمة بن علقمة. الأربعون: من حين تصفر الشمس إلى أن تغيب رواه عبد الرزاق عن ابن جريج عن إسماعيل بن كيسان عن طاوس قوله، وهو قريب من الذي بعده. الحادي والأربعون: آخر ساعة بعد العصر رواه أبو داود والنسائي والحاكم بإسناد حسن عن أبي سلمة عن جابر مرفوعا وفي أوله " أن النهار اثنتا عشرة ساعة " ورواه مالك وأصحاب السنن وابن خزيمة وابن حبان من طريق محمد بن إبراهيم عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن عبد الله ابن سلام قوله، وفيه مناظرة أبي هريرة له في ذلك واحتجاج عبد الله بن سلام بأن منتظر الصلاة في صلاة، وروى ابن جرير صلى الله عليه وسلم من طريق العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعا مثله ولم يذكر عبد الله ابن سلام قوله ولا القصة، ومن طريق ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة عن كعب الأحبار قوله. وقال عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج أخبرني موسى بن عقبة أنه سمع أبا سلمة يقول: حدثنا عبد الله بن عامر فذكر مثله، وروى البزار وابن جرير من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن عبد الله بن سلام مثله، وروى ابن أبي خيثمة من طريق يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة وأبي سعيد فذكر الحديث وفيه: قال أبو سلمة فلقيت عبد الله بن سلام فذكرت له ذلك فلم يعرض بذكر النبي صلى الله عليه وسلم بل قال: النهار اثنتا عشرة ساعة، وإنها لفي آخر ساعة من النهار. ولابن خزيمة من طريق أبي النضر عن أبي سلمة عن عبد الله بن سلام قال: قلت - ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس - إنا لنجد في كتاب الله أن في الجمعة ساعة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو بعض ساعة، قلت: نعم أو بعض ساعة الحديث، وفيه: قلت أي ساعة؟ فذكره. وهذا يحتمل أن يكون القائل " قلت " عبد الله بن سلام فيكون مرفوعا، ويحتمل أن يكون أبا سلمة فيكون موقوفا وهو الأرجح لتصريحه في رواية يحيى بن أبي كثير بأن عبد الله بن سلام لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الجواب. الثاني والأربعون: من حين يغيب نصف قرص الشمس، أو من حين تدلي الشمس للغروب إلى أن يتكامل غروبها رواه الطبراني في الأوسط والدار قطني في العلل والبيهقي في الشعب وفضائل الأوقات من طريق زيد بن علي
ـــــــ
(1)في مخطوطة الرياض"ابن جرير"
(2) في مخطوطة الرياض " ابن حزم"

(2/420)


ابن الحسين بن علي حدثتني مرجانة مولاة فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: حدثتني فاطمة عليها السلام عن أبيها فذكر الحديث، وفيه: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم أي ساعة هي؟ قال: إذا تدلى نصف الشمس للغروب. فكانت فاطمة إذا كان يوم الجمعة أرسلت غلاما لها يقال له زيد ينظر لها الشمس فإذا أخبرها أنها تدلت للغروب أقبلت على الدعاء إلى أن تغيب، في إسناده اختلاف على زيد بن علي، وفي بعض رواته من لا يعرف حاله. وقد أخرج إسحاق بن راهويه في مسنده من طريق سعيد بن راشد عن زيد بن على عن فاطمة لم يذكر مرجانة وقال فيه: إذا تدلت الشمس للغروب وقال فيه: تقول لغلام يقال له أربد: اصعد على الظراب، فإذا تدلت الشمس للغروب فأخبرني، والباقي نحوه، وفي آخره: ثم تصلي يعني المغرب. فهذا جميع ما اتصل إلى من الأقوال في ساعة الجمعة مع ذكر أدلتها وبيان حالها في الصحة والضعف والرفع والوقف والإشارة إلى مأخذ بعضها، وليست كلها متغايرة من كل جهة بل كثير منها يمكن أن يتحد مع غيره. ثم طفرت بعد كتابة هذا بقول زائد على ما تقدم وهو غير منقول، استنبطه صاحبنا العلامة الحافظ شمس الدين الجزري وأذن لي في روايته عنه في كتابه المسمى " الحصن الحصين " في الأدعية لما ذكر الاختلاف في ساعة الجمعه واقتصر على ثمانية أقوال مما تقدم ثم قال ما نصه: والذي أعتقده أنها وقت قراءة الإمام الفاتحة في صلاة الجمعة إلى أن يقول آمين، جمعا بين الأحاديث التي صحت. كذا قال، ويخدش فيه أنه يفوت على الداعي حينئذ الإنصات لقراءة الإمام، فليتأمل. قال الزين بن المنير: يحسن جمع الأقوال، وكان قد ذكر مما تقدم عشرة أقوال تبعا لابن بطال. قال: فتكون ساعة الإجابة واحدة منها لا بعينها، فيصادفها من اجتهد في الدعاء في جميعها والله المستعان. وليس المراد من أكثرها أنه يستوعب جميع الوقت الذي عين، بل المعنى أنها تكون في أثنائه لقوله فيما مضى " يقللها " وقوله: "وهي ساعة خفيفة". وفائدة ذكر الوقت أنها تنتقل فيه فيكون ابتداء مظنتها ابتداء الخطبة مثلا وانتهاؤه انتهاء الصلاة. وكأن كثيرا من القائلين عين ما اتفق له وقوعها فيه من ساعة في أثناء وقت من الأوقات المذكورة، فبهذا التقرير يقل الانتشار جدا. ولا شك أن أرجح الأقوال المذكورة حديث أبي موسى وحديث عبد الله بن سلام كما تقدم. قال المحب الطبري: أصح الأحاديث فيها حديث أبي موسى، وأشهر الأقوال فيها قول عبد الله بن سلام ا هـ. وما عداهما إما موافق لهما أو لأحدهما أو ضعيف الإسناد أو موقوف استند قائله إلى اجتهاد دون توقيف، ولا يعارضهما حديث أبي سعيد في كونه صلى الله عليه وسلم أنسيها بعد أن علمها لاحتمال أن يكونا سمعا ذلك منه قبل أن أنسى، أشار إلى ذلك البيهقي وغيره. وقد اختلف السلف في أيهما أرجح، فروى البيهقي من طريق أبي الفضل أحمد بن سلمه النيسابوري أن مسلما قال: حديث أبي موسى أجود شيء في هذا الباب وأصحه، بذلك قال البيهقي وابن العربي وجماعة. وقال القرطبي: هو نص في موضع الخلاف فلا يلتفت إلى غيره. وقال النووي: هو الصحيح، بل الصواب. وجزم في الروضة بأنه الصواب، ورجحه أيضا بكونه مرفوعا صريحا وفي أحد الصحيحين، وذهب آخرون إلى ترجيح قول عبد الله بن سلام فحكى الترمذي عن أحمد أنه قال: أكثر الأحاديث على ذلك. وقال ابن عبد البر: إنه أثبت شيء في هذا الباب. وروى سعيد بن منصور بإسناد صحيح إلى أبي سلمة بن عبد الرحمن أن ناسا من الصحابة اجتمعوا فتذاكروا ساعة الجمعة ثم افترقوا فلم يختلفوا أنها آخر ساعة من يوم الجمعة. ورجحه كثير من الأئمة أيضا كأحمد وإسحاق ومن المالكية الطرطوشي، وحكى العلائي أن شيخه ابن الزملكاني شيخ الشافعية في وقته كان يختاره ويحكيه عن نص الشافعي. وأجابوا عن كونه ليس في أحد الصحيحين

(2/421)


بأن الترجيح بما في الصحيحين أو أحدهما إنما هو حيث لا يكون مما انتقده الحفاظ، كحديث أبي موسى هذا فإنه أعل بالانقطاع والاضطراب: أما الانقطاع فلأن مخرمة بن بكير لم يسمع من أبيه، قاله أحمد عن حماد بن خالد عن مخرمة نفسه، وكذا قال سعيد بن أبي مريم عن موسى بن سلمة عن مخرمة وزاد: إنما هي كتب كانت عندنا. وقال علي بن المديني: لم أسمع أحدا من أهل المدينة يقول عن مخرمة إنه قال في شيء من حديثه سمعت أبي، ولا يقال مسلم يكتفي في المعنعن بإمكان اللقاء مع المعاصرة وهو كذلك هنا، لأنا نقول: وجود التصريح عن مخرمة بأنه لم يسمع من أبيه كاف في دعوى الانقطاع. وأما الاضطراب فقد رواه أبو إسحاق وواصل الأحدب ومعاوية بن قرة وغيرهم عن أبي بردة من قوله، وهؤلاء من أهل الكوفة وأبو بردة كوفي فهم أعلم بحديثه من بكير المدني، وهم عدد وهو واحد. وأيضا فلو كان عند أبي بردة مرفوعا لم يفت فيه برأيه بخلاف المرفوع، ولهذا جزم الدار قطني بأن الموقوف هو الصواب، وسلك صاحب الهدي مسلكا آخر فاختار أن ساعة الإجابة منحصرة في أحد الوقتين المذكورين، وأن أحدهما لا يعارض الآخر لاحتمال أن يكون صلى الله عليه وسلم دل على أحدهما في وقت وعلى الآخر في وقت آخر، وهذا كقول ابن عبد البر: الذي ينبغي الاجتهاد في الدعاء في الوقتين المذكورين. وسبق إلى نحو ذلك الإمام أحمد، وهو أولى في طريق الجمع. وقال ابن المنير في الحاشية: إذا علم أن فائدة الإبهام لهذه الساعة ولليلة القدر بعث الداعي على الإكثار من الصلاة والدعاء، ولو بين لاتكل الناس على ذلك وتركوا ما عداها، فالعجب بعد ذلك ممن يجتهد في طلب تحديدها. وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدم فضل يوم الجمعة لاختصاصه بساعة الإجابة، وفي مسلم أنه خير يوم طلعت عليه الشمس. وفيه فضل الدعاء واستحباب الإكثار منه، واستدل به على بقاء الإجمال بعد النبي صلى الله عليه وسلم وتعقب بأن لا خلاف في بقاء الإجمال في الأحكام الشرعية لا في الأمور الوجودية كوقت الساعة، فهذا الاختلاف في إجماله، والحكم الشرعي المتعلق بساعة الجمعة وليلة القدر - وهو تحصيل الأفضلية - يمكن الوصول إليه والعمل بمقتضاه باستيعاب اليوم أو الليلة، فلم يبق في الحكم الشرعي إجمال والله أعلم. فإن قيل: ظاهر الحديث حصول الإجابة لكل داع بالشرط المتقدم، مع أن الزمان يختلف باختلاف البلاد والمصلي فيتقدم بعض على بعض، وساعة الإجابة متعلقة بالوقت، فكيف تتفق مع الاختلاف؟ أجيب باحتمال أن تكون ساعة الإجابة متعلقة بفعل كل مصل، كما قيل نظيره في ساعة الكراهة، ولعل هذا فائدة جعل الوقت الممتد مظنة لها وإن كانت هي خفيفة، ويحتمل أن يكون عبر عن الوقت بالفعل فيكون التقدير وقت جواز الخطبة أو الصلاة ونحو ذلك، والله أعلم.

(2/422)


38 - باب إِذَا نَفَرَ النَّاسُ عَنْ الإِمَامِ فِي صَلاَةِ الْجُمُعَةِ فَصَلاَةُ الإِمَامِ وَمَنْ بَقِيَ جَائِزَةٌ
936- حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ حَدَّثَنَا زَائِدَةُ عَنْ حُصَيْنٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ قَالَ حَدَّثَنَا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ بَيْنَمَا نَحْنُ نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ أَقْبَلَتْ عِيرٌ تَحْمِلُ طَعَامًا فَالْتَفَتُوا إِلَيْهَا حَتَّى مَا بَقِيَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلاَّ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ { وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا }
[الحديث936-أطرافه في:4899.2064.2058]
قوله: "باب إذا نفر الناس عن الإمام في صلاة الجمعة الخ" ظاهر الترجمة أن استمرار الجماعة الذين تنعقد بهم الجمعة إلى تمامها ليس بشرط في صحتها، بل الشرط أن تبقى منهم بقية ما. ولم يتعرض البخاري لعدد من تقوم بهم

(2/422)


الجمعة لأنه لم يثبت منه شيء على شرطه، وجملة ما للعلماء فيه خمسة عشر قولا: أحدها تصح من الواحد، نقله ابن حزم. الثاني اثنان كالجماعة، وهو قول النخعي وأهل الظاهر والحسن بن حي. الثالث اثنان مع الإمام، عند أبي يوسف ومحمد. الرابع ثلاثة معه، عند أبي حنيفة. الخامس سبعة، عند عكرمة. السادس تسعة، عند ربيعة. السابع اثنا عشر عنه في رواية. الثامن مثله غير الإمام عند إسحاق. التاسع عشرون في رواية ابن حبيب عن مالك. العاشر ثلاثون كذلك. الحادي عشر أربعون بالإمام عند الشافعي. الثاني عشر غير الإمام عنه وبه قال عمر بن عبد العزيز وطائفة. الثالث عشر خمسون عن أحمد في رواية وحكى عن عمر بن عبد العزيز. الرابع عشر ثمانون حكاه المازري. الخامس عشر جمع كثير بغير قيد. ولعل هذا الأخير أرجحها من حيث الدليل، ويمكن أن يزداد العدد باعتبار زيادة شرط كالذكورة والحرية والبلوغ والإقامة والاستيطان فيكمل بذلك عشرون قولا. قوله: "جائزة" في رواية الأصيلي: "تامة". قوله: "عن حصين" هو ابن عبد الرحمن الواسطي ومدار هذا الحديث في الصحيحين عليه، وقد رواه تارة عن سالم بن أبي الجعد وحده كما هنا وهي رواية أكثر أصحابه، وتارة عن أبي سفيان طلحة بن نافع وحده وهي رواية قيس بن الربيع وإسرائيل عند ابن مردويه، وتارة جمع بينهما عن جابر وهي رواية خالد بن عبد الله عند المصنف في التفسير وعند مسلم، وكذا رواية هشيم عنده أيضا. قوله: "بينما نحن نصلي" في رواية خالد المذكورة عند أبي نعيم في المستخرج " بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة " وهذا ظاهر في أن انفضاضهم وقع بعد دخولهم في الصلاة، لكن وقع عند مسلم من رواية عبد الله بن إدريس عن حصين " ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب " وله في رواية هشيم " بينا النبي صلى الله عليه وسلم قائم - زاد أبو عوانة في صحيحه والترمذي والدار قطني من طريقه - يخطب " ومثله لأبي عوانة من طريق عباد بن العوام، ولعبد بن حميد من طريق سليمان بن كثير كلاهما عن حصين، وكذا وقع في رواية قيس بن الربيع وإسرائيل، ومثله في حديث ابن عباس عند البزار. وفي حديث أبي هريرة عند الطبراني في الأوسط وفي مرسل قتادة عند الطبراني وغيره. فعلى هذا فقوله: "نصلي " أي ننتظر الصلاة. وقوله: "في الصلاة " أي في الخطبة مثلا وهو من تسمية الشيء بما قاربه، فبهذا يجمع بين الروايتين، ويؤيده استدلال ابن مسعود على القيام في الخطبة بالآية المذكورة كما أخرجه ابن ماجه بإسناد صحيح، وكذا استدل به كعب بن عجرة في صحيح مسلم، وحمل ابن الجوزي قوله: "يخطب قائما " على أنه خبر آخر غير خبر كونهم كانوا معه في الصلاة فقال: التقدير صلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يخطب قائما الحديث، ولا يخفى تكلفه. قوله: "إذ أقبلت عير" بكسر المهملة هي الإبل التي تحمل التجارة طعاما كانت أو غيره، وهي مؤنثة لا واحد لها من لفظها. ونقل ابن عبد الحق في جمعه أن البخاري لم يخرج قوله إذ أقبلت عير تحمل طعاما وهو ذهول منه، نعم سقط ذلك في التفسير وثبت هنا وفي أوائل البيوع وزاد فيه أنها أقبلت من الشام، ومثله لمسلم من طريق جرير عن حصين، ووقع عند الطبري من طريق السدي عن أبي مالك ومرة فرقهما أن الذي قدم بها من الشام دحية بن خليفة الكلبي، ونحوه في حديث ابن عباس عند البزار، ولابن مردويه من طريق الضحاك عن ابن عباس " جاءت عير لعبد الرحمن بن عوف " وجمع بين هاتين الروايتين بأن التجارة كانت لعبد الرحمن بن عوف وكان دحية السفير فيها أو كان مقارضا. ووقع في رواية ابن وهب عن الليث أنها كانت لوبرة الكلبي، ويجمع بأنه كان رفيق دحية. قوله: "فالتفتوا إليها" في رواية ابن فضيل في البيوع "
ـــــــ
(1)في المخطوطة" الطبري

(2/423)


"فانفض الناس " وهو موافق للفظ القرآن ودال على أن المراد بالالتفات الانصراف، وفيه رد على من حمل الالتفات على ظاهره فقال: لا يفهم من هذا الانصراف عن الصلاة وقطعها، وإنما يفهم منه التفاتهم بوجوههم أو بقلوبهم، وأما هيئة الصلاة المجزئة فباقية. ثم هو مبني على أن الانفضاض وقع في الصلاة، وقد ترجح فيما مضى أنه إنما كان في الخطبة، فلو كان كما قيل لما وقع هذا الإنكار الشديد، فإن الالتفات فيها لا ينافي الاستماع، وقد غفل قائله عن بقية ألفاظ الخبر. وفي قوله: "فالتفتوا " الحديث التفات، لأن السياق يقتضى أن يقول فالتفتنا، وكأن الحكمة في عدول جابر عن ذلك أنه هو لم يكن ممن التفت كما سيأتي. قوله: "إلا اثني عشر" قال الكرماني ليس هذا الاستثناء مفرغا فيجب رفعه، بل هو من ضمير بقى الذي يعود إلى المصلى فيجوز فيه الرفع والنصب، قال: وقد ثبت الرفع في بعض الروايات ا ه. ووقع في تفسير الطبري وابن أبي حاتم بإسناد صحيح إلى أبي قتادة قال: "قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كم أنتم؟ فعدوا أنفسهم، فإذا هم اثنا عشر رجلا وامرأة " وفي تفسير إسماعيل بن أبي زياد الشامي " وامرأتان " ولابن مردويه من حديث ابن عباس " وسبع نسوة " لكن إسناده ضعيف. واتفقت هذه الروايات كلها على اثني عشر رجلا إلا ما رواه علي بن عاصم عن حصين بالإسناد المذكور فقال: "إلا أربعين رجلا " أخرجه الدار قطني وقال: تفرد به على بن عاصم وهو ضعيف الحفظ، وخالفه أصحاب حصين كلهم. وأما تسميتهم فوقع في رواية خالد الطحان عند مسلم أن جابرا قال: "أنا فيهم"، وله في رواية هشيم " فيهم أبو بكر وعمر"، وفي الترمذي أن هذه الزيادة في رواية حصين عن أبي سفيان دون سالم، وله شاهد عند عبد بن حميد عن الحسن مرسلا ورجال إسناده ثقات، وفي تفسير إسماعيل بن أبي زياد الشامي " أن سالما مولى أبي حذيفة منهم " وروى العقيلي عن ابن عباس " أن منهم الخلفاء الأربعة وابن مسعود وأناسا من الأنصار " وحكى السهيلي أن أسد بن عمرو روى بسند منقطع " أن الاثني عشر هم العشرة المبشرة وبلال وابن مسعود " قال وفي رواية: "عمار " بدل ابن مسعود ا هـ. ورواية العقيلي أقوى وأشبه بالصواب، ثم وجدت رواية أسد بن عمرو عند العقيلي بسند متصل لا كما قال السهيلي أنه منقطع أخرجه من رواية أسد عن حصين عن سالم. قوله: "فنزلت هذه الآية" ظاهر في أنها نزلت بسبب قدوم العير المذكورة، والمراد باللهو على هذا ما ينشأ من رؤية القادمين وما معهم. ووقع عند الشافعي من طريق جعفر بن محمد عن أبيه مرسلا " كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة، وكانت لهم سوق كانت بنو سليم يجلبون إليها الخيل والإبل السمن، فقدموا فخرج إليهم الناس وتركوه، وكان لهم لهو يضربونه فنزلت: " ووصله أبو عوانة في صحيحه والطبري بذكر جابر فيه: "أنهم كانوا إذا نكحوا تضرب الجواري بالمزامير فيشتد الناس إليهم ويدعون رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما فنزلت هذه الآية " وفي مرسل مجاهد عن عبد بن حميد " كان رجال يقومون إلى نواضحهم، وإلى السفر يقدمون يبتغون التجارة واللهو، فنزلت: " ولا بعد في أن تنزل في الأمرين معا وأكثر، وسيأتي الكلام على ذلك مستوفي مع تفسير الآية المذكورة في كتاب التفسير إن شاء الله تعالى. والنكتة في قوله: "انفضوا إليها" دون قوله إليهما أو إليه أن اللهو لم يكن مقصودا لذاته وإنما كان تبعا للتجارة، أو حذف لدلالة أحدهما على الآخر. وقال الزجاج: أعيد الضمير إلى المعنى، أي انفضوا إلى الرؤية أي ليروا ما سمعوه. "فائدة": ذكر الحميدي في الجمع أن أبا مسعود الدمشقي ذكر في آخر هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لو تتابعتم حتى لم يبق منكم أحد لسال بكم الوادي نارا " قال: وهذا لم أجده في الكتابين ولا في مستخرجي الإسماعيلي والبرقاني، قال: وهي فائدة من أبي مسعود،

(2/424)


ولعلنا نجدها بالإسناد فيما بعد انتهى. ولم أر هذه الزيادة في الأطراف لأبي مسعود ولا هي في شيء من طرق حديث جابر المذكورة، وإنما وقعت في مرسلي الحسن وقتادة المتقدم ذكرهما، وكذا في حديث ابن عباس عند ابن مردويه وفي حديث أنس عند إسماعيل بن أبي زياد وسنده ساقط. وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدم أن الخطبة تكون عن قيام كما تقدم، وأنها مشترطة في الجمعة حكاه القرطبي واستبعده، وأن البيع وقت الجمعة ينعقد ترجم عليه سعيد بن منصور، وكأنه أخذه من كونه صلى الله عليه وسلم لم يأمرهم بفسخ ما تبايعوا فيه من العير المذكورة ولا يخفى ما فيه. وفيه كراهية ترك سماع الخطبة بعد الشروع فيها، واستدل به على جواز انعقاد الجمعة باثني عشر نفسا وهو قول ربيعة، ويجئ أيضا على قول مالك، ووجه الدلالة منه أن العدد المعتبر في الابتداء يعتبر في الدوام فلما لم تبطل الجمعة بانفضاض الزائد على الاثني عشر دل على أنه كاف. وتعقب بأنه يحتمل أنه تمادى حتى عادوا أو عاد من تجزئ بهم، إذ لم يرد في الخبر أنه أتم الصلاة. ويحتمل أيضا أن يكون أتمها ظهرا. وأيضا فقد فرق كثير من العلماء بين الابتداء والدوام في هذا فقيل: إذا انعقدت لم يضر ما طرأ بعد ذلك ولو بقي الإمام وحده. وقيل: يشترط بقاء واحد معه، وقيل اثنين، وقيل يفرق بين ما إذا انفضوا بعد تمام الركعة الأولى فلا يضر بخلاف ما قبل ذلك، وإلى ظاهر هذا الحديث صار إسحاق بن راهويه فقال: إذا تفرقوا بعد الانعقاد فيشترط بقاء اثني عشر رجلا. وتعقب بأنها واقعة عين لا عموم فيها، وقد تقدم أن ظاهر ترجمة البخاري تقتضي أن لا يتقيد الجمع الذي يبقى مع الإمام بعدد معين، وتقدم ترجيح كون الانفضاض وقع في الخطبة لا في الصلاة، وهو اللائق بالصحابة تحسينا للظن بهم، وعلى تقدير أن يكون في الصلاة حمل على أن ذلك وقع قبل النهي كآية "لا تبطلوا أعمالكم"، وقبل النهي عن الفعل الكثير في الصلاة. وقول المصنف في الترجمة " فصلاة الإمام ومن بقي جائزة " يؤخذ منه أنه يرى أن الجميع لو انفضوا في الركعة الأولى ولم يبق إلا الإمام وحده أنه لا تصح له الجمعة، وهو كذلك عند الجمهور كما تقدم قريبا. وقيل تصح إن بقي واحد، وقيل إن بقي اثنان، وقيل ثلاثة، وقيل إن كان صلى بهم الركعة الأولى صحت لمن بقي، وقيل يتمها ظهرا مطلقا. وهذا الخلاف كله أقوال مخرجة في مذهب الشافعي إلا الأخير فهو قوله في الجديد، وإن ثبت قول مقاتل بن حيان الذي أخرجه أبو داود في المراسيل أن الصلاة كانت حينئذ قبل الخطبة زال الإشكال، لكنه مع شذوذه معضل. وقد استشكل الأصيلي حديث الباب فقال: إن الله تعالى قد وصف أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بأنهم "لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله" ثم أجاب باحتمال أن يكون هذا الحديث كان قبل نزول الآية. انتهى. وهذا الذي يتعين المصير إليه مع أنه ليس في آية النور التصريح بنزولها في الصحابة، وعلى تقدير ذلك فلم يكن تقدم لهم نهي عن ذلك، فلما نزلت آية الجمعة. وفهموا منها ذم ذلك اجتنبوه فوصفوا بعد ذلك بما في آية النور. والله أعلم.

(2/425)


39- باب الصَّلاَةِ بَعْدَ الْجُمُعَةِ وَقَبْلَهَا
حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر ثم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي قبل الظهر ركعتين وبعدها ركعتين وبعد المغرب ركعتين في بيته وبعد العشاء ركعتين وكان لا يصلي بعد الجمعة حتى ينصرف فيصلي ركعتين "
[الحديث937- أطرافه في 1180.1172.1165]

(2/425)


قوله: "باب الصلاة بعد الجمعة وقبلها" أورد فيه حديث ابن عمر في التطوع بالرواتب وفيه: "وكان لا يصلي بعد الجمعة حتى ينصرف فيصلي ركعتين " ولم يذكر شيئا في الصلاة قبلها. قال ابن المنير في الحاشية: كأنه يقول الأصل استواء الظهر والجمعة حتى يدل دليل على خلافه، لأن الجمعة بدل الظهر. قال: وكانت عنايته بحكم الصلاة بعدها أكثر، ولذلك قدمه في الترجمة على خلاف العادة في تقديم القبل على البعد انتهى. ووجه العناية المذكورة ورود الخبر في البعد صريحا دون القبل. وقال ابن بطال: إنما أعاد ابن عمر ذكر الجمعة بعد الظهر من أجل. أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي سنة الجمعة في بيته بخلاف الظهر، قال: والحكمة فيه أن الجمعة لما كانت بدل الظهر واقتصر فيها على ركعتين ترك التنفل بعدها في المسجد خشية أن يظن أنها التي حذفت. انتهى. وعلى هذا فينبغي أن لا يتنفل قبلها ركعتين متصلتين بها في المسجد لهذا المعنى. وقال ابن التين: لم يقع ذكر الصلاة قبل الجمعة في هذا الحديث، فلعل البخاري أراد إثباتها قياسا على الظهر. انتهى. وقواه الزين بن المنير بأنه قصد التسوية بين الجمعة والظهر في حكم التنفل كما قصد التسوية بين الإمام والمأموم في الحكم، وذلك يقتضي أن النافلة لهما سواء. انتهى. والذي يظهر أن البخاري أشار إلى ما وقع في بعض طرق حديث الباب، وهو ما رواه أبو داود وان حبان من طريق أيوب عن نافع قال: "كان ابن عمر يطيل الصلاة قبل الجمعة ويصلي بعدها ركعتين في بيته ويحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك " احتج به النووي في الخلاصة على إثبات سنة الجمعة التي قبلها، وتعقب بأن قوله: "وكان يفعل ذلك " عائد على قوله: "ويصلي بعد الجمعة ركعتين في بيته " ويدل عليه رواية الليث عن نافع عن عبد الله أنه كان إذا صلى الجمعة انصرف فسجد سجدتين في بيته ثم قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع لك " أخرجه مسلم. وأما قوله: "كان يطيل الصلاة قبل الجمعة " فإن كان المراد بعد دخول الوقت فلا يصح أن يكون مرفوعا لأنه صلى الله عليه وسلم كان يخرج إذا زالت الشمس فيشتغل بالخطبة ثم بصلاة الجمعة، وإن كان المراد قبل دخول الوقت فذلك مطلق نافلة لا صلاة راتبة فلا حجة فيه لسنة الجمعة التي قبلها بل هو تنفل مطلق، وقد ورد الترغيب فيه كما تقدم في حديث سلمان وغيره حيث قال فيه: "ثم صلى ما كتب له". وورد في سنة الجمعة التي قبلها أحاديث أخرى ضعيفة منها عن أبي هريرة رواه البزار بلفظ: "كان يصلي قبل الجمعة ركعتين وبعدها أربعا " وفي إسناده ضعف، وعن علي مثله رواه الأثرم والطبراني في الأوسط بلفظ: "كان يصلي قبل الجمعة أربعا وبعدها أربعا " وفيه محمد بن عبد الرحمن السهمي وهو ضعيف عند البخاري وغيره. وقال الأثرم إنه حديث واه. ومنها عن ابن عباس مثله وزاد: "لا يفصل في شيء منهن " أخرجه ابن ماجه بسند واه، قال النووي في الخلاصة: إنه حديث باطل. وعن ابن مسعود عند الطبراني أيضا مثله وفي إسناده ضعف وانقطاع. ورواه عبد الرزاق عن ابن مسعود موقوفا وهو الصواب. وروى ابن سعد عن صفية زوج النبي صلى الله عليه وسلم موقوفا نحو حديث أبي هريرة، وقد تقدم في أثناء الكلام على حديث جابر في قصة سليك قبل سبعة أبواب قول من قال: إن المراد بالركعتين اللتين أمره بهما النبي صلى الله عليه وسلم سنة الجمعة، والجواب عنه، وقد تقدم نقل المذاهب في كراهة التطوع نصف النهار ومن استثنى يوم الجمعة دون بقية الأيام في " باب من لم يكره الصلاة إلا بعد العصر والفجر " في أواخر المواقيت. وأقوى ما يتمسك به في مشروعية ركعتين قبل الجمعة عموم ما صححه ابن حبان من حديث عبد الله بن الزبير مرفوعا: "ما من صلاة مفروضة إلا وبين يديها ركعتان " ومثله حديث عبد الله بن مغفل الماضي في وقت المغرب بين كل أذانين صلاة، وسيأتي الكلام على بقية حديث ابن عمر في أبواب التطوع إن شاء الله تعالى

(2/426)


باب قول الله تعالى (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض ... الآية)
...
40 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى "فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاَةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ"
938- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ كَانَتْ فِينَا امْرَأَةٌ تَجْعَلُ عَلَى أَرْبِعَاءَ فِي مَزْرَعَةٍ لَهَا سِلْقًا فَكَانَتْ إِذَا كَانَ يَوْمُ جُمُعَةٍ تَنْزِعُ أُصُولَ السِّلْقِ فَتَجْعَلُهُ فِي قِدْرٍ ثُمَّ تَجْعَلُ عَلَيْهِ قَبْضَةً مِنْ شَعِيرٍ تَطْحَنُهَا فَتَكُونُ أُصُولُ السِّلْقِ عَرْقَهُ وَكُنَّا نَنْصَرِفُ مِنْ صَلاَةِ الْجُمُعَةِ فَنُسَلِّمُ عَلَيْهَا فَتُقَرِّبُ ذَلِكَ الطَّعَامَ إِلَيْنَا فَنَلْعَقُهُ وَكُنَّا نَتَمَنَّى يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِطَعَامِهَا ذَلِكَ "
[الحديث938- أطرافه في :6279.6248.5403.2349.941.939]
939- حدثنا عبد الله بن مسلمة قال حدثنا بن أبي حازم عن أبيه عن سهل بهذا وقال ثم "ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة "
قوله: "باب قول الله عز وجل: { فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ } الآية". أورد فيه حديث سهل بن سعد في قصة المرأة التي كانت تطعمهم بعد الجمعة، فقيل أراد بذلك بيان أن الأمر في قوله: "فانتشروا - وابتغوا" للإباحة لا للوجوب لأن انصرافهم إنما كان للغداء ثم للقائلة عوضا مما فاتهم من ذلك في وقته المعتاد لاشتغالهم بالتأهب للجمعة ثم بحضورها ووهم من زعم أن الصارف للأمر عن الوجوب هنا كونه ورد بعد الحظر لأن ذلك لا يستلزم عدم الوجوب، بل الإجماع هو الدال على أن الأمر المذكور للإباحة، وقد جنح الداودي إلى أنه على الوجوب في حق من يقدر على الكسب، وهو قول شاذ نقل عن بعض الظاهرية. وقيل هو في حق من لا شيء عنده ذلك اليوم فأمر بالطلب بأي صورة اتفقت ليفرح عياله ذلك اليوم لأنه يوم عيد، والذي يترجح أن في قوله: "انتشروا - وابتغوا" إشارة إلى استدراك ما فاتكم من الذي انفضضتم إليه فتنحل إلى أنها قضية شرطية، أي من وقع له في حال خطبة الجمعة وصلاتها زمان يحصل فيه ما يحتاج إليه من أمر دنياه ومعاشه فلا يقطع العبادة لأجله بل يفرغ منها ويذهب حينئذ لتحصيل حاجته، وبالله التوفيق. قوله: "حدثنا أبو غسان" هو محمد بن مطرف المدني، وأبو حازم هو سلمة بن دينار، ووهم من زعم أنه سلمان مولى عزة صاحب أبي هريرة. قوله: "كانت فينا امرأة" لم أقف على اسمها. قوله: "تجعل" في رواية الكشميهني تحقل بمهملة بعدها قاف أي تزرع، والأربعاء جمع ربيع كأنصباء ونصيب، والربيع الجدول وقيل الصغير وقيل الساقية الصغيرة وقيل حافات الأحواض، والمزرعة بفتح الراء وحكى ابن مالك جواز تثليثها، والسلق بكسر المهملة معروف وحكم الكرماني أنه وقع هنا سلق بالرفع وتكلف في توجيهه. قوله: "تطحنها" في رواية المستملي: "تطبخها " بتقديم الموحدة بعدها معجمة وكلاهما صحيح. قوله: "فتكون أصول السلق عرقه" بفتح المهملة وسكون الراء بعدها قاف ثم هاء ضمير أي عرق الطعام، والعرق اللحم الذي على العظم، والمراد أن السلق يقوم مقامه عندهم. وسيأتي في الأطعمة من وجه آخر في آخر الحديث: "والله ما فيه شحم ولا ودك " وفي رواية الكشميهني: "غرقة " بفتح المعجمة وكسر الراء وبعد القاف هاء التأنيث، والمراد أن السلق يغرق في المرقة لشدة نضجه، وفي هذا الحديث جواز السلام على النسوة الأجانب، واستحباب التقرب بالخير ولو بالشيء الحقير، وبيان ما كان الصحابة عليه من القناعة وشدة العيش والمبادرة إلى الطاعة رضي الله عنهم. قوله: "بهذا" أي بالحديث الذي

(2/427)


قبله، وظاهره أن أبا غسان وعبد العزيز بن أبي حازم اشتركا في رواية هذا الحديث عن أبي حازم، وزاد عبد العزيز الزيادة المذكورة وهي قوله: "ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة " وقد رواها أبو غسان مفردة كما في الباب الذي بعده، لكن ليس فيه ذكر الغداء، وبين رواية أبي غسان وعبد العزيز تفاوت يأتي بيانه في " باب تسليم الرجال على النساء " من كتاب الاستئذان إن شاء الله تعالى. واستدل بهذا الحديث لأحمد على جواز صلاة الجمعة قبل الزوال وترجم عليه ابن أبي شيبة: "باب من كان يقول الجمعة أول النهار " وأورد فيه حديث سهل هذا وحديث أنس الذي بعده وعن ابن عمر مثله وعن عمر وعثمان وسعد وابن مسعود مثله من قولهم، وتعقب بأنه لا دلالة فيه على أنهم كانوا يصلون الجمعة قبل الزوال، بل فيه أنهم كانوا يتشاغلون عن الغداء والقاثلة بالتهيؤ للجمعة ثم بالصلاة، ثم ينصرفون فيتداركون ذلك. بل ادعى الزين بن المنير أنه يؤخذ منه أن الجمعة تكون بعد الزوال لأن العادة في القائلة أن تكون قبل الزوال فأخبر الصحابي أنهم كانوا يشتغلون بالتهيؤ للجمعة عن القائلة ويؤخرون القائلة حتى تكون بعد صلاة الجمعة.

(2/428)


باب القئلة بعد الجمعة
...
41 - باب الْقَائِلَةِ بَعْدَ الْجُمُعَةِ
940- حدثنا محمد بن عقبة الشيباني قال حدثنا أبو إسحاق الفزاري عن حميد قال سمعت أنسا يقول "كنا نبكر إلى الجمعة ثم نقيل "
941- حدثنا سعيد بن أبي مريم قال حدثنا أبو غسان قال حدثني أبو حازم عن سهل قال كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم الجمعة ثم تكون القائلة "
قوله: "باب القائلة بعد الجمعة" أورد فيه حديث أنس، وقد تقدم في " باب وقت الجمعة " وحديث سهل وقد تقدم في الباب الذي قبله والله الموفق. "خاتمة": اشتمل كتاب الجمعة من الأحاديث المرفوعة على تسعة وسبعين حديثا الموصول منها أربعه وستون حديثا، والمعلق والمتابعة خمسة عشر حديثا، المكرر منها فيها وفيما مضى ستة وثلاثون حديثا، والخالص ثلاثة وأربعون حديثا كلها موصولة، وافقه مسلم على تخريجها إلا حديث سليمان في الاغتسال والدهن والطيب، وحديث عمر وامرأة عمر في النهي عن منع النساء المساجد، وحديث أنس في صلاة الجمعة حين تميل الشمس، وحديثه في القائلة بعدها وحديثه " كان إذا اشتد البرد بكر بالصلاة " وحديث أبي عبس " من اغبرت قدماه " وحديث السائب بن يزيد في النداء يوم الجمعة، وحديث أنس في الجذع، وحديث عمرو بن تغلب " إني أكل أقواما " وحديث ابن عباس في الوصية بالإنصات، وحديث سهل بن سعد الأخير في قصة المرأة والقائلة بعد الجمعة. وفيه من الآثار عن الصحابة والتابعين أربعة عشر أثرا.

(2/428)


كتاب الخوف
باب صلاة الخوف
...
12- كتاب الخوف
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
1- باب صَلاَةِ الْخَوْفِ
وقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوّاً مُبِيناً } { َإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً } [النساء101-102]
942- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ سَأَلْتُهُ هَلْ صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْنِي صَلاَةَ الْخَوْفِ قَالَ أَخْبَرَنِي سَالِمٌ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِبَلَ نَجْدٍ فَوَازَيْنَا الْعَدُوَّ فَصَافَفْنَا لَهُمْ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي لَنَا فَقَامَتْ طَائِفَةٌ مَعَهُ تُصَلِّي وَأَقْبَلَتْ طَائِفَةٌ عَلَى الْعَدُوِّ وَرَكَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَنْ مَعَهُ وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ انْصَرَفُوا مَكَانَ الطَّائِفَةِ الَّتِي لَمْ تُصَلِّ فَجَاءُوا فَرَكَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِمْ رَكْعَةً وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ فَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَرَكَعَ لِنَفْسِهِ رَكْعَةً وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ "
[الحديث 942-أطرافه في: 4535.4133.4132.943]
قوله: "وقول الله عز وجل" {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة} ثبت سياق الآيتين بلفظهما إلى قوله: "مهينا" في رواية كريمة، واقتصر في رواية الأصيلي على ما هنا وقال: إلى قوله: "عذابا مهينا". وأما أبو ذر فساق الأولى بتمامها ومن الثانية إلى قوله: "معك" ثم قال إلى قوله: "عذابا مهينا". قال الزين بن المنير: ذكر صلاة الخوف أثر صلاة الجمعة لأنهما من جملة الخمس، لكن خرج كل منهما عن قياس حكم باقي الصلوات، ولما كان خروج الجمعة أخف قدمه تلو الصلوات الخمس، وعقبه بصلاة الخوف لكثرة المخالفة ولا سيما عند شدة الخوف، وساق الآيتين في هذه الترجمة مشيرا إلى أن خروج صلاة الخوف عن هيئة بقية الصلوات ثبت بالكتاب قولا وبالسنة فعلا. انتهى ملخصا. ولما كانت الآيتان قد اشتملتا على مشروعية القصر في صلاة الخوف وعلى كيفيتها ساقهما معا وآثر تخريج حديث ابن عمر لقوة شبه الكيفية التي ذكرها فيه بالآية. ومعنى قوله تعالى: { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ } أي سافرتم، ومفهومه أن القصر مختص بالسفر وهو كذلك. وأما

(2/429)


قوله: "إن خفتم" فمفهومه اختصاص القصر بالخوف أيضا، وقد سأل يعلى بن أمية الصحابي عمر بن الخطاب عن ذلك فذكر أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: "صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته " أخرجه مسلم، فثبت القصر في الأمن ببيان السنة، واختلف في صلاة الخوف في الحضر فمنعه ابن الماجشون أخذا بالمفهوم أيضا وأجازه الباقون. وأما قوله: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ} فقد أخذ بمفهومه أبو يوسف في إحدى الروايتين عنه والحسن بن زياد اللؤلؤي من أصحابه وإبراهيم بن علية، وحكى عن المزني صاحب الشافعي، واحتج عليهم بإجماع الصحابة على فعل ذلك بعد النبي صلى الله عليه وسلم وبقوله صلى الله عليه وسلم: "صلوا كما رأيتموني أصلي " فعموم منطوقه مقدم على ذلك المفهوم. وقال ابن العربي وغيره: شرط كونه صلى الله عليه وسلم فيهم إنما ورد لبيان الحكم لا لوجوده، والتقدير: بين لهم بفعلك لكونه أوضح من القول. ثم إن الأصل أن كل عذر طرأ على العبادة فهو على التساوي كالقصر، والكيفية وردت لبيان الحذر من العدو، وذلك لا يقتضي التخصيص بقوم دون قوم. وقال الزين المنير: الشرط إذا خرج مخرج التعليم لا يكون له مفهوم كالخوف في قوله تعالى: { أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ} وقال الطحاوي: كان أبو يوسف قد قال مرة: لا تصلي صلاة الخوف بعد رسول صلى الله عليه وسلم وزعم أن الناس إنما صلوها معه لفضل الصلاة معه صلى الله عليه وسلم، قال: وهذا القول عندنا ليس بشيء، وقد كان محمد بن شجاع يعيبه ويقول: إن الصلاة خلف النبي صلى الله عليه وسلم وإن كانت أفضل من الصلاة مع الناس جميعا إلا أنه يقطعها ما يقطع الصلاة خلف غيره انتهى. وسيأتي سبب النزول وبيان أول صلاة صليت في الخوف في كتاب المغازي إن شاء الله تعالى. قوله: "عن الزهري سألته" القائل هو شعيب والمسئول هو الزهري وهو القائل " أخبرني سالم " أي ابن عبد الله بن عمر، ووقع بخط بعض من نسخ الحديث عن الزهري قال سألته فأثبت قال ظنا أنها حذفت خطأ على العادة، وهو محتمل، ويكون حذف فاعل قال، لا أن الزهري هو الذي قال: والمتجه حذفها وتكون الجملة حالية أي أخبرني الزهري حال سؤالي إياه. وقد رواه النسائي من طريق بقية عن شعيب حدثني الزهري عن سالم بن عبد الله عن أبيه، وأخرجه السراج عن محمد بن يحيى عن أبي اليمان شيخ البخاري فيه فزاد فيه ولفظه: "سألته هل صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف أم لا؟ وكيف صلاها إن كان صلاها؟ وفي أي مغازيه كان ذلك؟ " فأفاد بيان المسئول عنه وهو صلاة الخوف. قوله: "غزوت مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل نجد" بكسر القاف وفتح الموحدة أي جهة نجد، ونجد كل ما ارتفع من بلاد العرب، وسيأتي بيان هذه الغزوة في الكلام على غزوة ذات الرقاع من المغازي. قوله: "فوازينا" بالزاي أي قابلنا، قال صاحب الصحاح: يقال آزيت، يعني بهمزة ممدودة لا بالواو. والذي يظهر أن أصله الهمزة فقلبت واوا. قوله: "فصاففناهم" في رواية المستملي والسرخسي " فصاففنا لهم " وقوله: "فصلي لنا " أي لأجلنا أو بنا. قوله: "ثم انصرفوا مكان الطائفة التي لم تصل" أي فقاموا في مكانهم، وصرح به في رواية بقية المذكورة، ولمالك في الموطأ عن نافع عن ابن عمر " ثم استأخروا مكان الذين لم يصلوا ولا يسلمون " وسيأتي عند المصنف في التفسير. قوله: "ركعة وسجد سجدتين" زاد عبد الرزاق عن ابن جريج عن الزهري " مثل نصف صلاة الصبح " وفي قوله مثل نصف صلاة الصبح إشارة إلى أن الصلاة المذكورة كانت غير الصبح، فعلى هذا فهي رباعية، وسيأتي في المغازي ما يدل على أنها كانت العصر، وفيه دليل على أن الركعة المقضية لا بد فيها من القراءة لكل من الطائفتين خلافا لمن أجاز للثانية ترك القراءة. قوله: "فقام كل واحد منهم فركع لنفسه" لم تختلف الطرق عن ابن عمر في هذا، وظاهره أنهم

(2/430)


أتموا لأنفسهم في حالة واحدة، ويحتمل أنهم أتموا على التعاقب وهو الراجح من حيث المعنى وإلا فيستلزم تضييع الحراسة المطلوبة، وإفراد الإمام وحده. ويرجحه ما رواه أبو داود من حديث ابن مسعود ولفظه: "ثم سلم فقام هؤلاء أي الطائفة الثانية فقضوا لأنفسهم ركعة ثم سلموا، ثم ذهبوا ورجع أولئك إلى مقامهم فصلوا لأنفسهم ركعة ثم سلموا " ا هـ. وظاهره أن الطائفة الثانية والت بين ركعتيها ثم أتمت الطائفة الأولى بعدها، ووقع في الرافعي تبعا لغيره من كتب الفقه أن في حديث ابن عمر هذا أن الطائفة الثانية تأخرت وجاءت الطائفة الأولى فأتموا ركعة، ثم تأخروا وعادت الطائفة الثانية فأتموا، ولم نقف على ذلك في شيء من الطرق، وبهذه الكيفية أخذ الحنفية، واختار الكيفية التي في حديث ابن مسعود أشهب والأوزاعي، وهي الموافقة لحديث سهل بن أبي حثمة من رواية مالك عن يحيى بن سعيد، واستدل بقوله طائفة على أنه لا يشترط استواء الفريقين في العدد، لكن لا بد أن تكون التي تحرس يحصل الثقة بها في ذلك، والطائفة تطلق على الكثير والقليل حتى على الواحد، فلو كانوا ثلاثة ووقع لهم الخوف جاز لأحدهم أن يصلي بواحد. ويحرس واحد ثم يصلي الآخر، وهو أقل ما يتصور في صلاة الخوف جماعة على القول بأقل الجماعة مطلقا، لكن قال الشافعي: أكره أن تكون كل طائفة أقل من ثلاثة لأنه أعاد عليهم ضمير الجمع بقوله: "أسلحتهم" ذكره النووي في شرح مسلم وغيره، واستدل به على عظم أمر الجماعة، بل على ترجيح القول بوجوبها لارتكاب أمور كثيرة لا تغتفر في غيرها، ولو صلى كل امرئ منفردا لم يقع الاحتياج إلى معظم ذلك، وقد ورد في كيفية صلاة الخوف صفات كثيرة، ورجح ابن عبد البر هذه الكيفية الواردة في حديث ابن عمر على غيرها لقوة الإسناد لموافقة الأصول في أن المأموم لا يتم صلاته قبل سلام إمامه، وعن أحمد قال: ثبت في صلاة الخوف ستة أحاديث أو سبعة أيها فعل المرء جاز، ومال إلى ترجيح حديث سهل ابن أبي حثمة الآتي في المغازي، وكذا رجحه الشافعي، ولم يختر إسحاق شيئا على شيء، وبه قال الطبري وغير واحد منهم ابن المنذر وسرد ثمانية أوجه، وكذا ابن حبان في صحيحه وزاد تاسعا. وقال ابن حزم: صح فيها أربعة عشر وجها، وبينها في جزء مفرد. وقال ابن العربي في " القبس ": جاء فيها روايات كثيرة أصحها ستة عشر رواية مختلفة، ولم يبينها. وقال النووي نحوه في شرح مسلم ولم يبينها أيضا، وقد بينها شيخنا الحافظ أبو الفضل في شرح الترمذي وزاد وجها آخر فصارت سبعة عشر وجها، لكن يمكن أن تتداخل. قال صاحب الهدى: أصولها ست صفات، وبلغها بعضهم أكثر، وهؤلاء كلما رأوا اختلاف الرواة في قصة جعلوا ذلك وجها من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هو من اختلاف الرواة ا هـ. وهذا هو المعتمد، وإليه أشار شيخنا بقوله: يمكن تداخلها. وحكى ابن القصار المالكي أن النبي صلى الله عليه وسلم صلاها عشر مرات. وقال ابن العربي: صلاها أربعا وعشرين مرة. وقال الخطابي: صلاها النبي صلى الله عليه وسلم في أيام مختلفة بأشكال متباينة يتحرى فيها ما هو الأحوط للصلاة والأبلغ للحراسة، فهي على اختلاف صورها متفقة المعنى ا هـ. وفي كتب الفقه تفاصيل لها كثيرة وفروع لا يتحمل هذا الشرح بسطها والله المستعان.

(2/431)


2 - باب صَلاَةِ الْخَوْفِ رِجَالًا وَرُكْبَانًا رَاجِلٌ قَائِمٌ
943- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقُرَشِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ نَحْوًا مِنْ قَوْلِ مُجَاهِدٍ إِذَا اخْتَلَطُوا قِيَامًا وَزَادَ ابْنُ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَلْيُصَلُّوا قِيَامًا وَرُكْبَانًا"

(2/431)


قوله: "باب صلاة الخوف رجالا وركبانا" قيل: مقصوده أن الصلاة لا تسقط عند العجز عن النزول عن الدابة ولا تؤخر عن وقتها، بل تصلي على أي وجه حصلت القدرة عليه بدليل الآية. قوله: "راجل: قائم" يريد أن قوله: "رجالا " جمع راجل والمراد به هنا القائم، ويطلق على الماشي أيضا وهو المراد في سورة الحج بقوله تعالى: {يأتوك رجالا} أي مشاة، وفي تفسير الطبري بسند صحيح عن مجاهد {فإن خفتم فرجالا أو ركبانا} إذا وقع الخوف فليصل الرجل على كل جهة قائما أو راكبا. قوله: "عن نافع عن ابن عمر نحوا من قول مجاهد إذا اختلطوا قياما، وزاد ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: "وإن كانوا أكثر من ذلك فليصلوا قياما وركبانا "" هكذا أورده البخاري مختصرا وأحال على قول مجاهد، ولم يذكره هنا ولا في موضع آخر من كتابه، فأشكل الأمر فيه فقال الكرماني: معناه أن نافعا روى عن ابن عمر نحوا مما روى مجاهد عن ابن عمر، المروي المشترك بينهما هو ما إذا اختلطوا قياما، وزيادة نافع على مجاهد قوله: "وإن كانوا أكثر من ذلك الخ " قال: ومفهوم كلام ابن بطال أن ابن عمر قال مثل قول مجاهد، وأن قولهما مثلا في الصورتين، أي في الاختلاط وفي الأكثرية، وأن الذي زاد هو ابن عمر لا نافع ا هـ. وما نسبه لابن بطال بين في كلامه إلا المثلية في الأكثرية فهي مختصة بابن عمر وكلام ابن بطال هو الصواب وإن كان لم يذكر دليله. والحاصل أنهما حديثان: مرفوع وموقوف، فالمرفوع من رواية ابن عمر وقد يروى كله أو بعضه موقوفا عليه أيضا، والموقوف من قول مجاهد لم يروه عن ابن عمر ولا غيره، ولم أعرف من أين وقع للكرماني أن مجاهدا روى هذا الحديث عن ابن عمر فإنه لا وجود لذلك في شيء من الطرق، وقد رواه الطبري عن سعيد بن يحيى شيخ البخاري فيه بإسناده المذكور عن ابن عمر قال: "إذا اختلطوا " يعني في القتال " فإنما هو الذكر وإشارة الرأس " قال ابن عمر: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فإن كانوا أكثر من ذلك فيصلون قياما وركبانا " هكذا اقتصر على حديث ابن عمر، وأخرجه الإسماعيلي عن الهيثم بن خلف عن سعيد المذكور مثل ما ساقه البخاري سواء، وزاد بعد قوله: "اختلطوا: فإنما هو الذكر وإشارة الرأس " ا هـ. وتبين من هذا أن قوله في البخاري " قياما " الأولى تصحيف من قوله: "فإنما " وقد ساقه الإسماعيلي من طريق أخرى بين لفظ مجاهد وبين فيها الواسطة بين ابن جريج وبينه، فأخرجه من رواية حجاج بن محمد عن ابن جريج عن عبد الله بن كثير عن مجاهد قال: "إذا اختلطوا فإنما هو الإشارة بالرأس " قال ابن جريج " حدثني موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر بمثل قول مجاهد إذا اختلطوا فإنما هو الذكر وإشارة الرأس " وزاد عن النبي صلى الله عليه وسلم: "فإن كثروا فليصلوا ركبانا أو قياما على أقدامهم " فتبين من هذا سبب التعبير بقوله: "نحو قول مجاهد " لأن بين لفظه وبين لفظ ابن عمر مغايرة، وتبين أيضا أن مجاهدا إنما قاله برأيه لا من روايته عن ابن عمر والله أعلم. وقد أخرج مسلم حديث ابن عمر من طريق سفيان الثوري عن موسى بن عقبة فذكر صلاة الخوف نحو سياق الزهري عن سالم وقال في آخره: "قال ابن عمر: فإذا كان خوف أكثر من ذلك فليصل راكبا أو قائما يومئ إيماء " ورواه ابن المنذر من طريق داود بن عبد الرحمن عن موسى بن عقبة موقوفا لكن قال في آخره: "وأخبرنا نافع أن عبد الله بن عمر كان يخبر بهذا عن النبي صلى الله عليه وسلم: "فاقتضى ذلك رفعه كله. وروى مالك في الموطأ عن نافع كذلك لكن قال في آخره: "قال نافع: لا أرى عبد الله بن عمر ذكر ذلك إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم: "وزاد في آخره: "مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها". وقد أخرجه المصنف من هذا الوجه في تفسير سورة البقرة، ورواه عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر مرفوعا كله بغير شك أخرجه ابن ماجه ولفظه: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "في صلاة

(2/432)


الخوف: أن يكون الإمام يصلي بطائفة " فذكر نحو سياق سالم عن أبيه وقال في آخره: "فإن كان خوف أشد من ذلك فرجالا وركبانا " وإسناده جيد. والحاصل أنه اختلف في قوله: "فإن كان خوف أشد من ذلك " هل هو مرفوع أو موقوف على ابن عمر، والراجح رفعه، والله أعلم. قوله: "وإن كانوا أكثر من ذلك" أي إن كان العدو، والمعنى أن الخوف إذا اشتد والعدو إذا كثر فخيف من الانقسام لذلك جازت الصلاة حينئذ بحسب الإمكان، وجاز ترك مراعاة ما لا يقدر عليه من الأركان، فينتقل عن القيام إلى الركوع، وعن الركوع والسجود إلى الإيماء إلى غير ذلك، وبهذا قال الجمهور، ولكن قال المالكية: لا يصنعون ذلك حتى يخشى فوات الوقت، وسيأتي مذهب الأوزاعي في ذلك بعد باب. "تنبيه": ابن جريج سمع الكثير من نافع، وقد أدخل في هذا الحديث بينه وبين نافع موسى بن عقبة، ففي هذا التقوية لمن قال إنه أثبت الناس في نافع، ولابن جريج فيه إسناد آخر أخرجه عبد الرزاق عنه عن الزهري عن سالم عن أبيه.

(2/433)


3 - باب يَحْرُسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي صَلاَةِ الْخَوْفِ
944-حَدَّثَنَا حَيْوَةُ بْنُ شُرَيْحٍ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ عَنْ الزُّبَيْدِيِّ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ فَكَبَّرَ وَكَبَّرُوا مَعَهُ وَرَكَعَ وَرَكَعَ نَاسٌ مِنْهُمْ مَعَهُ ثُمَّ سَجَدَ وَسَجَدُوا مَعَهُ ثُمَّ قَامَ لِلثَّانِيَةِ فَقَامَ الَّذِينَ سَجَدُوا وَحَرَسُوا إِخْوَانَهُمْ وَأَتَتْ الطَّائِفَةُ الأُخْرَى فَرَكَعُوا وَسَجَدُوا مَعَهُ وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ فِي صَلاَةٍ وَلَكِنْ يَحْرُسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا "
قوله: "باب يحرس بعضهم بعضا في الخوف" قال ابن بطال: محل هذه الصورة إذا كان العدو في جهة القبلة فلا يفترقون والحالة هذه، بخلاف الصورة الماضية في حديث ابن عمر. وقال الطحاوي: ليس هذا بخلاف القرآن لجواز أن يكون قوله تعالى: {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى} إذا كان العدو في غير القبلة، وذلك ببيانه صلى الله عليه وسلم. ثم بين كيفية الصلاة إذا كان العدو في جهة القبلة، والله أعلم. قوله: "عن الزبيدي" في رواية الإسماعيلي: "حدثنا الزبيدي " ولم أره من حديثه إلا من رواية محمد ابن حرب عنه، وافقه عليه النعمان بن راشد عن الزهري أخرجه البزار وقال: لا نعلم رواه عن الزهري إلا النعمان، ولا عنه إلا وهيب يعني ابن خالد ا هـ. ورواية الزبيدي ترد عليه. قوله: "وركع ناس منهم" زاد الكشميهني: "معه". قوله: "ثم قام للثانية فقام الذين سجدوا معه" في رواية النسائي والإسماعيلي: "ثم قام إلى الركعة الثانية فتأخر الذين سجدوا معه". قوله: "فركعوا وسجدوا" في روايتهما أيضا: "فركعوا مع النبي صلى الله عليه وسلم". قوله: "في صلاة" زاد الإسماعيلي: "يكبرون " ولم يقع في رواية الزهري هذه هل أكملوا الركعة الثانية أم لا، وقد رواه النسائي من طريق أبي بكر بن أبي الجهم من شيخه عبيد الله بن عبد الله بن عتبة فزاد في آخره: "ولم يقضوا " وهذا كالصريح في اقتصارهم على ركعة ركعة. وفي الباب عن حذيفة وعن زيد ابن ثابت عند أبي داود والنسائي وابن حبان، وعن جابر عند النسائي، ويشهد له ما رواه مسلم وأبو داود والنسائي من طريق مجاهد عن ابن عباس قال: "فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة " وبالاقتصار في الخوف على ركعة واحدة يقول إسحاق والثوري ومن تبعهما. وقال به أبو هريرة وأبو موسى الأشعري وغير واحد

(2/433)


من التابعين، ومنهم من قيد ذلك بشدة الخوف، وسيأتي عن بعضهم في شدة الخوف أسهل من ذلك. وقال الجمهور: قصر الخوف قصر هيئة لا قصر عدد، وتأولوا رواية مجاهد هذه على أن المراد به ركعة مع الإمام، وليس فيه نفي الثانية. وقالوا: يحتمل أن يكون قوله في الحديث السابق " لم يقضوا " أي لم يعيدوا الصلاة بعد الأمن والله أعلم. "فائدة": لم يقع في شيء من الأحاديث المروية في صلاة الخوف تعرض لكيفية صلاة المغرب، وقد أجمعوا على أنه لا يدخلها قصر، واختلفوا هل الأولى أن يصلي بالأولى ثنتين والثانية واحدة أو العكس.

(2/434)


4 - باب الصَّلاَةِ عِنْدَ مُنَاهَضَةِ الْحُصُونِ وَلِقَاءِ الْعَدُوِّ
وَقَالَ الأَوْزَاعِيُّ إِنْ كَانَ تَهَيَّأَ الْفَتْحُ وَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الصَّلاَةِ صَلَّوْا إِيمَاءً كُلُّ امْرِئٍ لِنَفْسِهِ فَإِنْ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الإِيمَاءِ أَخَّرُوا الصَّلاَةَ حَتَّى يَنْكَشِفَ الْقِتَالُ أَوْ يَأْمَنُوا فَيُصَلُّوا رَكْعَتَيْنِ فَإِنْ لَمْ يَقْدِرُوا صَلَّوْا رَكْعَةً وَسَجْدَتَيْنِ فَإِنْ لَمْ يَقْدِرُوا لاَ يُجْزِئُهُمْ التَّكْبِيرُ وَيُؤَخِّرُوهَا حَتَّى يَأْمَنُوا وَبِهِ قَالَ مَكْحُولٌ وَقَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ حَضَرْتُ عِنْدَ مُنَاهَضَةِ حِصْنِ تُسْتَرَ عِنْدَ إِضَاءَةِ الْفَجْرِ وَاشْتَدَّ اشْتِعَالُ الْقِتَالِ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الصَّلاَةِ فَلَمْ نُصَلِّ إِلاَّ بَعْدَ ارْتِفَاعِ النَّهَارِ فَصَلَّيْنَاهَا وَنَحْنُ مَعَ أَبِي مُوسَى فَفُتِحَ لَنَا وَقَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَمَا يَسُرُّنِي بِتِلْكَ الصَّلاَةِ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا
945- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ جَعْفَرٍ الْبُخَارِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُبَارَكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ جَاءَ عُمَرُ يَوْمَ الْخَنْدَقِ فَجَعَلَ يَسُبُّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ وَيَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا صَلَّيْتُ الْعَصْرَ حَتَّى كَادَتْ الشَّمْسُ أَنْ تَغِيبَ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وَأَنَا وَاللَّهِ مَا صَلَّيْتُهَا بَعْدُ قَالَ فَنَزَلَ إِلَى بُطْحَانَ فَتَوَضَّأَ وَصَلَّى الْعَصْرَ بَعْدَ مَا غَابَتْ الشَّمْسُ ثُمَّ صَلَّى الْمَغْرِبَ بَعْدَهَا "
قوله: "باب الصلاة عند مناهضة الحصون" أي عند إمكان فتحها، وغلبة الظن على القدرة على ذلك. قوله: "ولقاء العدو" وهو من عطف الأعم على الأخص، قال الزين بن المنير: كأن المصنف خص هذه الصورة لاجتماع الرجاء والخوف في تلك الحالة، فإن الخوف يقتضي مشروعية صلاة الخوف والرجاء بحصول الظفر يقتضي اغتفار التأخير لأجل استكمال مصلحة الفتح، فلهذا خالف الحكم في هذه الصورة الحكم في غيرها عند من قال به. قوله: "وقال الأوزاعي الخ" كذا ذكره الوليد بن مسلم عنه في كتاب السير. قوله: "إن كان تهيأ الفتح" أي تمكن. وفي رواية القابسي " إن كان بها الفتح " بموحدة وهاء الضمير وهو تصحيف. قوله: "فإن لم يقدروا على الإيماء" قيل: فيه إشكال لأن العجز عن الإيماء لا يتعذر مع حصول العقل، إلا أن تقع دهشة فيعزب استحضاره ذلك، وتعقب. قال ابن رشيد: من باشر الحرب واشتغال القلب والجوارح إذا اشتغلت عرف كيف يتعذر الإيماء، وأشار ابن بطال إلى أن عدم القدرة على ذلك يتصور بالعجز عن الوضوء أو التيمم للاشتغال بالقتال، ويحتمل أن الأوزاعي كان يرى استقبال القبلة شرطا في الإيماء فيتصور العجز عن الإيماء إليها حينئذ. قوله: "فلا يجزيهم التكبير" فيه إشارة إلى
ـــــــ
(1)هذا الجواب من الجمهور فيه نظر . والصواب قول من قال : يجوز الإقتصار على ركعة واحدة في الخوف لصحة الأحاديث بذلك . والله أعلم.

(2/434)


خلاف من قال يجزئ كالثوري، وروى ابن أبي شيبة من طريق عطاء وسعيد بن جبير وأبي البختري في آخرين قالوا " إذا التقى الزحفان وحضرت الصلاة فقولوا: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، فتلك صلاتهم بلا إعادة " وعن مجاهد والحكم: إذا كان عند الطراد والمسابقة يجزئ أن تكون صلاة الرجل تكبيرا، فإن لم يكن إلا تكبيرة واحدة أجزأته أين كان وجهه. وقال إسحاق بن راهويه: يجزئ عند المسابقة ركعة واحدة يومئ بها إيماء، فإن لم يقدر فسجدة، فإن لم يقدر فتكبيرة. قوله: "وبه قال مكحول" قال الكرماني: يحتمل أن يكون بقية من كلام الأوزاعي، ويحتمل أن يكون من تعليق البخاري. انتهى. وقد وصله عبد بن حميد في تفسيره عنه من غير طريق الأوزاعي بلفظ: "إذا لم يقدر القوم على أن يصلوا على الأرض صلوا على ظهر الدواب ركعتين، فإن لم يقدروا فركعة وسجدتين، فإن لم يقدروا أخروا الصلاة حتى يأمنوا فيصلوا بالأرض". "تنبيه": ذكر ابن رشيد أن سياق البخاري لكلام الأوزاعي مشوش، وذلك أنه جعل الإيماء مشروطا بتعذر القدرة، والتأخير مشروطا بتعذر الإيماء، وجعل غاية التأخير انكشاف القتال، ثم قال: "أو يأمنوا فيصلوا ركعتين " فجعل الأمن قسيم الانكشاف يحصل الأمن فكيف يكون قسيمه؟ وأجاب الكرماني عن هذا بأن الانكشاف قد يحصل ولا يحصل الأمن لخوف المعاودة، كما أن الأمن يحصل بزيادة القوة واتصال المدد بغير انكشاف، فعلى هذا فالأمن قسيم الانكشاف أيهما حصل اقتضى صلاة ركعتين. وأما قوله: "فإن لم يقدروا " فمعناه على صلاة ركعتين بالفعل أو بالإيماء " فواحدة " وهذا يؤخذ من كلامه الأول قال: "فإن لم يقدروا عليها أخروا " أي حتى يحصل الأمن التام. والله أعلم. قوله: "وقال أنس" وصله ابن سعد وابن أبي شيبة من طريق قتادة عنه، وذكره " خليفة في تاريخه " وعمر بن شبة في " أخبار البصرة " من وجهين آخرين عن قتادة، ولفظ عمر " سأل قتادة عن الصلاة إذا حضر القتال فقال: حدثني أنس بن مالك أنهم فتحوا تستر وهو يومئذ على مقدمة الناس وعبد الله بن قيس - يعني أبا موسى الأشعري - أميرهم". قوله: "تستر" بضم المثناة الفوقانية وسكون المهملة وفتح المثناة أيضا بلد معروف من بلاد الأهواز، وذكر خليفة أن فتحها كان في سنة عشرين في خلافة عمر، وسيأتي الإشارة إلى كيفيته في أواخر الجهاد إن شاء الله تعالى. قوله: "اشتعال القتال" بالعين المهملة. قوله: "فلم يقدروا على الصلاة" يحتمل أن يكون للعجز عن النزول، ويحتمل أن يكون للعجر عن الإيماء أيضا، فيوافق ما تقدم عن الأوزاعي، وجزم الأصيلي بأن سببه أنهم لم يجدوا إلى الوضوء سبيلا من شدة القتال. قوله: "إلا بعد ارتفاع النهار" في رواية عمر بن شبة " حتى انتصف النهار". قوله: "ما يسرني بتلك الصلاة" أي بدل تلك الصلاة. وفي رواية الكشميهني: "من تلك الصلاة". قوله: "الدنيا وما فيها" في رواية خليفة: الدنيا كلها، والذي يتبادر إلى الذهن من هذا أن مراده الاغتباط بما وقع، فالمراد بالصلاة على هذا هي المقضية التي وقعت، ووجه اغتباطه كونهم لم يشتغلوا عن العبادة إلا بعبادة أهم منها عندهم، ثم تداركوا ما فاتهم منها فقضوه، وهو كقول أبي بكر الصديق " لو طلعت لم تجدنا غافلين " وقيل: مراد أنس الأسف على التفويت الذي وقع لهم، والمراد بالصلاة على هذه الفائتة ومعناه: لو كانت في
ـــــــ
(1) كذا في الأصول " ولعلها " المسايفة "
(2)في المخطوطة " من طريق"
(3) قوله " أهم منها " يعني في ذلك الوقت , لأن الفتح قد يفوت بالصلاة , والصلاة لاتفوت لإمكان قضائها بعد الفتح , وإلا فمعلوم من الأدلة الشرعية أن الشرعية أن الصلاة أهم وأعظم من الجهاد . فتنبه. والله أعلم

(2/435)


وقتها كانت أحب إلي فالله أعلم، وممن جزم بهذا الزين بن المنير فقال: إيثار أنس الصلاة على الدنيا وما فيها يشعر بمخالفته لأبي موسى في اجتهاده المذكور، وأن أنسا كان يرى أن يصلي للوقت وإن فات الفتح، وقوله هذا موافق لحديث: "ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها " انتهى، وكأنه أراد الموافقة في اللفظ، وإلا فقصة أنس في المفروضة والحديث في النافلة، ويخدش فيما ذكره عن أنس من مخالفة اجتهاد أبي موسى أنه لو كان كذلك لصلى أنس وحده ولو بالإيماء، لكنه وافق أبا موسى ومن معه فكيف يعد مخالفا؟ والله أعلم. قوله: "حدثنا يحيى حدثنا وكيع" كذا في معظم الروايات، ووقع في رواية أبي ذر في نسخة " يحيى ابن موسى " وفي أخرى " يحيى بن جعفر " وهذا المعتمد، وهي نسخة صحيحة بعلامة المستملي، وفي بعض النسخ " يحيى بن موسى بن جعفر " وهو غلط ولعله كان فيه يحيى بن موسى وفي الحاشية ابن جعفر على أنها نسخة فجمع بينهما بعض من نسخ الكتاب، واسم جد يحيى بن موسى عبد ربه بن سالم وهو الملقب خت بفتح المعجمة بعدها مثناة فوقانية ثقيلة، واسم جد يحيى بن جعفر أعين وكلاهما من شيوخ البخاري وكلاهما من أصحاب وكيع. قوله: "عن جابر" تقدم الكلام على حديثه في أواخر المواقيت، ونقل الاختلاف في سبب تأخير الصلاة يوم الخندق هل كان نسيانا أو عمدا، وعلى الثاني هل كان للشغل بالقتال أو لتعذر الطهارة أو قبل نزول آية الخوف؟ وإلى الأول وهو الشغل جنح البخاري في هذا الموضع ونزل عليه الآثار التي ترجم لها بالشروط المذكورة، ولا يرده ما تقدم من ترجيح كون آية الخوف نزلت قبل الخندق لأن وجهه أنه أقر على ذلك، وآية الخوف التي في البقرة لا تخالفه لأن التأخير مشروط بعدم القدرة على الصلاة مطلقا، وإلى الثاني جنح المالكية والحنابلة لأن الصلاة لا تبطل عندهم بالشغل الكثير في الحرب إذا احتيج إليه، وإلى الثالث جنح الشافعية كما تقدم في الموضع المذكور، وعكس بعضهم فادعى أن تأخيره صلى الله عليه وسلم للصلاة يوم الخندق دال على نسخ صلاة الخوف، قال ابن القصار: وهو قول من لا يعرف السنن، لأن صلاة الخوف أنزلت بعد الخندق فكيف ينسخ الأول الآخر؟ فالله المستعان.

(2/436)


5 - باب صَلاَةِ الطَّالِبِ وَالْمَطْلُوبِ رَاكِبًا وَإِيمَاءً
وَقَالَ الْوَلِيدُ ذَكَرْتُ لِلْأَوْزَاعِيِّ صَلاَةَ شُرَحْبِيلَ بْنِ السِّمْطِ وَأَصْحَابِهِ عَلَى ظَهْرِ الدَّابَّةِ فَقَالَ كَذَلِكَ الأَمْرُ عِنْدَنَا إِذَا تُخُوِّفَ الْفَوْتُ وَاحْتَجَّ الْوَلِيدُ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "لاَ يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلاَّ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ "
946- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءَ قَالَ حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لَنَا لَمَّا رَجَعَ مِنْ الأَحْزَابِ لاَ يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلاَّ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ فَأَدْرَكَ بَعْضَهُمْ الْعَصْرُ فِي الطَّرِيقِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لاَ نُصَلِّي حَتَّى نَأْتِيَهَا وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَلْ نُصَلِّي لَمْ يُرَدْ مِنَّا ذَلِكَ فَذُكِرَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدًا مِنْهُمْ "
[الحديث946- طرفه في:4119]
قوله: "باب صلاة الطالب والمطلوب راكبا وإيماء" كذا للأكثر. وفي رواية الحموي من الطريقين، إليه " وقائما " قال ابن المنذر: كل من أحفظ عنه من أهل العلم يقول: إن المطلوب يصلي على دابته يومئ إيماء، وإن كان طالبا

(2/436)


باب التبكير والغلس بالصبح والصلاة عند الإغارة والحرب
...
6 - باب التَّكْبِيرِ وَالْغَلَسِ بِالصُّبْحِ وَالصَّلاَةِ عِنْدَ الإِغَارَةِ وَالْحَرْبِ
947- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ وَثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الصُّبْحَ بِغَلَسٍ ثُمَّ رَكِبَ فَقَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ خَرِبَتْ خَيْبَرُ إِنَّا إِذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ فَخَرَجُوا يَسْعَوْنَ فِي السِّكَكِ وَيَقُولُونَ مُحَمَّدٌ وَالْخَمِيسُ قَالَ وَالْخَمِيسُ الْجَيْشُ فَظَهَرَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَتَلَ الْمُقَاتِلَةَ وَسَبَى الذَّرَارِيَّ فَصَارَتْ صَفِيَّةُ لِدِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ وَصَارَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا وَجَعَلَ صَدَاقَهَا عِتْقَهَا فَقَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ لِثَابِتٍ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ أَنْتَ سَأَلْتَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ مَا أَمْهَرَهَا قَالَ أَمْهَرَهَا نَفْسَهَا فَتَبَسَّمَ
قوله: "باب التكبير" كذا للأكثر، وللكشميهني من الطريقين " التبكير " بتقديم الموحدة وهو أوجه. قوله: "والصلاة عند الإغارة" بكسر الهمزة بعدها معجمة، وهي متعلقة بالصلاة وبالتكبير أيضا. أورد فيه حديث أنس أنه صلى الله عليه وسلم صلى الصبح بغلس ثم ركب، وقد تقدم في أوائل الصلاة في " باب ما يذكر في الفخذ " من طريق أخرى عن أنس وأوله " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا خيبر فصلى عندها صلاة الغداة " الحديث بطوله، وهو أتم سياقا مما هنا، وقوله: "ويقولون: محمد والخميس " فيه حمل لرواية عبد العزيز بن صهيب على رواية ثابت، فقد تقدم في الباب المذكور أن عبد العزيز لم يسمع من أنس قوله: "والخميس " وأنها في رواية ثابت عند مسلم. قوله: "فصارت صفية لدحية الكلبي، وصارت لرسول الله صلى الله عليه وسلم" ظاهره أنها صارت لهما معا، وليس كذلك بل صارت لدحية أولا ثم صارت بعده لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقدم إيضاحه في الباب المذكور، وسيأتي بقية الكلام عليه في المغازي وفي النكاح إن شاء الله تعالى. ووجه دخول هذه الترجمة في أبواب صلاة الخوف للإشارة إلى أن صلاة الخوف لا يشترط فيها التأخير إلى آخر الوقت كما شرطه من شرطه في صلاة شدة الخوف عند التحام المقاتلة، أشار إلى ذلك الزين بن المنير. ويحتمل أن يكون للإشارة إلى تعين المبادرة إلى الصلاة في أول وقتها قبل الدخول في الحرب والاشتغال بأمر العدو. وأما التكبير فلأنه ذكر مأثور عند كل أمر مهول، وعند كل حادث سرور، شكرا لله تعالى وتبرئة له من كل ما نسب إليه أعداؤه ولا سيما اليهود قبحهم الله تعالى. "خاتمة": اشتملت أبواب صلاة الخوف على ستة أحاديث مرفوعة موصولة، تكرر منها فيما مضى حديثان والأربعة خالصة وافقه مسلم على تخريجها إلا حديث ابن عباس. وفيها من الآثار عن الصحابة والتابعين ستة آثار، منها واحد موصول وهو أثر مجاهد، والله أعلم.

(2/438)


كتاب العيدين
باب في العيدين والتجمل فيه
...
بسم الله الرحمن الرحيم
13- كتاب العيدين
1 - باب فِي الْعِيدَيْنِ وَالتَّجَمُّلِ فِيهِ
948- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ أَخَذَ عُمَرُ جُبَّةً مِنْ إِسْتَبْرَقٍ تُبَاعُ فِي السُّوقِ فَأَخَذَهَا فَأَتَى بِهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ابْتَعْ هَذِهِ تَجَمَّلْ بِهَا لِلْعِيدِ وَالْوُفُودِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا هَذِهِ لِبَاسُ مَنْ لاَ خَلاَقَ لَهُ فَلَبِثَ عُمَرُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَلْبَثَ ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِجُبَّةِ دِيبَاجٍ فَأَقْبَلَ بِهَا عُمَرُ فَأَتَى بِهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ قُلْتَ إِنَّمَا هَذِهِ لِبَاسُ مَنْ لاَ خَلاَقَ لَهُ وَأَرْسَلْتَ إِلَيَّ بِهَذِهِ الْجُبَّةِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبِيعُهَا أَوْ تُصِيبُ بِهَا حَاجَتَكَ "
قوله: "باب في العيدين والتجمل فيه" كذا في رواية أبي علي بن شبويه، ونحوه لابن عساكر، وسقطت البسملة لأبي ذر، وله في رواية المستملي: "أبواب " بدل " كتاب". واقتصر في رواية الأصيلي والباقين على قوله: "باب الخ " والضمير في " فيه: "راجع إلى جنس العيد. وفي رواية الكشميهني: "فيهما". قوله: "أخذ عمر جبة من استبرق تباع في السوق، فأخذها فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم" كذا للأكثر " أخذ " بهمزة وخاء وذال معجمتين في الموضعين، وفي بعض النسخ " وجد " بواو وجيم في الأول وهو أوجه، وكذا أخرجه الإسماعيلي والطبراني في مسند الشاميين وغير واحد من طرق إلى أبي اليمان شيخ البخاري فيه.ووجه الكرماني الأول بأنه أراد ملزوم الأخذ وهو الشراء وفيه نظر لأنه لم يقع منه ذلك، فلعله أراد السوم. قوله: "ابتع هذه تجمل بها" كذا للأكثر بصيغة الأمر مجزوما وكذا جوابه. ووقع في رواية أبي ذر عن المستملي والسرخسي " ابتاع هذه تجمل " وضبط في نسخ معتمدة بهمزة استفهام ممدودة ومقصورة وضم لام تجمل على أن أصله تتجمل فحذفت إحدى التاءين كأن عمر استأذن أن يبتاعها ليتجمل بها النبي صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يكون بعض الرواة أشبع فتحة التاء فطنت ألفا. وقال الكرماني قوله: "هذه " إشارة إلى نوع الجبة، كذا قال، والذي يظهر إشارة إلى عينها ويلتحق بها جنسها، وقد تقدم في كتاب الجمعة توجيه الترجمة وأنها مأخوذة من تقريره صلى الله عليه وسلم على أصل التجمل، وإنما زجره عن الجبة لكونها كانت حريرا. قوله: "للعيد والوفود" تقدم في كتاب الجمعة بلفظ: "للجمعة " بدل للعيد وهي رواية نافع، وهذه رواية سالم، وكلاهما صحيح. وكأن ابن عمر ذكرهما معا فاقتصر كل راو على أحدهما. قوله: "تبيعها وتصيب بها حاجتك" في رواية الكشميهني: "أو تصيب " ومعنى الأول وتصيب بثمنها، والثاني يحتمل أن " أو " بمعنى الواو فهو كالأول أو التقسيم، والمراد المقايضة أو أعم من ذلك والله أعلم. وسيأتي الكلام على بقية فوائد هذا الحديث في كتاب اللباس، إن شاء الله تعالى. "فائدة": روى ابن أبي الدنيا والبيهقي بإسناد صحيح إلى ابن عمر أنه كان يلبس أحسن ثيابه في العيدين.

(2/439)


2 - باب الْحِرَابِ وَالدَّرَقِ يَوْمَ الْعِيدِ
949- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنَا عَمْرٌو أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَسَدِيَّ حَدَّثَهُ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدِي جَارِيَتَانِ تُغَنِّيَانِ بِغِنَاءِ بُعَاثَ فَاضْطَجَعَ عَلَى الْفِرَاشِ وَحَوَّلَ وَجْهَهُ وَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ فَانْتَهَرَنِي وَقَالَ مِزْمَارَةُ الشَّيْطَانِ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلاَم فَقَالَ دَعْهُمَا فَلَمَّا غَفَلَ غَمَزْتُهُمَا فَخَرَجَتَا "
[الحديث949- أطرافه في:3931.3530.2907.987.952]
950- وَكَانَ يَوْمَ عِيدٍ يَلْعَبُ السُّودَانُ بِالدَّرَقِ وَالْحِرَابِ فَإِمَّا سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِمَّا قَالَ تَشْتَهِينَ تَنْظُرِينَ فَقُلْتُ نَعَمْ فَأَقَامَنِي وَرَاءَهُ خَدِّي عَلَى خَدِّهِ وَهُوَ يَقُولُ دُونَكُمْ يَا بَنِي أَرْفِدَةَ حَتَّى إِذَا مَلِلْتُ قَالَ حَسْبُكِ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ فَاذْهَبِي "
قوله: "باب الحراب والدرق يوم العيد" الحراب بكسر المهملة جمع حربة، والدرق جمع درقة وهي الترس. قال ابن بطال: حمل السلاح في العيد لا مدخل له في سنة العيد ولا في صفة الخروج إليه، ويمكن أن يكون صلى الله عليه وسلم كان محاربا خائفا فرأى الاستظهار بالسلاح، لكن ليس في حديث الباب أنه صلى الله عليه وسلم خرج بأصحاب الحراب معه يوم العيد، ولا أمر أصحابه بالتأهب بالسلاح، يعني فلا يطابق الحديث الترجمة. وأجاب ابن المنير في الحاشية بأن مراد البخاري الاستدلال على أن العيد يغتفر فيه من الانبساط ما لا يغتفر في غيره ا هـ. وليس في الترجمة أيضا تقييده بحال الخروج إلى العيد، بل الظاهر أن لعب الحبشة إنما كان بعد رجوعه صلى الله عليه وسلم من المصلى، لأنه كان يخرج أول النهار فيصلي ثم يرجع. قوله: "حدثنا أحمد" كذا للأكثر غير منسوب. وفي رواية أبي ذر وابن عساكر: "حدثنا أحمد ابن عيسى " وبه جزم أبو نعيم في المستخرج، ووقع في رواية أبي علي بن شبويه " حدثنا أحمد بن صالح " وهو مقتضى إطلاق أبي علي بن السكن حيث قال: كل ما في البخاري " حدثنا أحمد " غير منسوب فهو ابن صالح. قوله: "أخبرنا عمرو" هو ابن الحارث المصري، وشطر هذا الإسناد الأول مصريون والثاني مدنيون. قوله: "دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم" زاد في رواية الزهري عن عروة " في أيام منى " وسيأتي بعد ثلاثة وعشرين بابا. قوله: "جاريتان" زاد في الباب الذي بعده " من جواري الأنصار " وللطبراني من حديث أم سلمة أن إحداهما كانت لحسان بن ثابت، وفي الأربعين للسلمي أنهما كانتا لعبد الله بن سلام، وفي العيدين لابن أبي الدنيا من طريق فليح عن هشام بن عروة " وحمامة وصاحبتها تغنيان " وإسناده صحيح، ولم أقف على تسمية الأخرى، لكن يحتمل أن يكون اسم الثانية زينب وقد ذكره في كتاب النكاح، ولم يذكر حمامة الذين صنفوا في الصحابة وهي على شرطهم. قوله: "تغنيان" زاد في رواية الزهري " تدففان " بفاءين أي تضربان بالدف، ولمسلم في رواية هشام أيضا: "تغنيان بدف " وللنسائي: "بدفين " والدف بضم الدال على الأشهر وقد تفتح، ويقال له أيضا الكربال بكسر الكاف وهو
ـــــــ
(1)في المخطوطة "ذكرته"

(2/440)


الذي لا جلاجل فيه، فإن كانت فيه فهو المزهر، وفي حديث الباب الذي بعده " بما تقاولت به الأنصار يوم بعاث " أي قال بعضهم لبعض من فخر أو هجاء، وللمصنف في الهجرة " بما تعازفت " بمهملة وزاي وفاء من العزف وهو الصوت الذي له دوي. وفي رواية: "تقاذفت " بقاف بدل العين وذال معجمة بدل الزاي وهو من القذف وهو هجاء بعضهم لبعض، ولأحمد من رواية حماد ابن سلمة عن هشام يذكر أن يوم بعاث يوم قتل فيه صناديد الأوس والخزرج ا هـ. وبعاث بضم الموحدة وبعدها مهملة وآخره مثلثة قال عياض ومن تبعه: أعجمها أبو عبيدة وحده. وقال ابن الأثير في الكامل: أعجمها صاحب العين يعني الخليل وحده، وكذا حكى أبو عبيد البكري في معجم البلدان عن الخليل، وجزم أبو موسى في ذيل الغريب بأنه تصحيف وتبعه صاحب النهاية، قال البكري: هو موضع من المدينة على ليلتين. وقال أبو موسى وصاحب الهداية: هو اسم حصن للأوس، وفي كتاب أبي الفرج الأصفهاني في ترجمة أبي قيس بن الأسلت: هو موضع في دار بني قريظة فيه أموال لهم، وكان موضع الوقعة في مزرعة لهم هناك. ولا منافاة بين القولين. وقال صاحب المطالع: الأشهر فيه ترك الصرف. قال الخطابي: يوم بعاث يوم مشهور من أيام العرب كانت فيه مقتلة عظيمة للأوس على الخزرج، وبقيت الحرب قائمة مائة وعشرين سنة إلى الإسلام على ما ذكر ابن إسحاق وغيره. قلت: تبعه على هذا جماعة من شراح الصحيحين، وفيه نظر لأنه يوهم أن الحرب التي وقعت يوم بعاث دامت هذه المدة، وليس كذلك فسيأتي في أوائل الهجرة قول عائشة " كان يوم بعاث يوما قدمه الله لرسوله فقدم المدينة وقد افترق ملؤهم وقتلت سراتهم " وكذا ذكره ابن إسحاق والواقدي وغيرهما من أصحاب الأخبار، وقد روى ابن سعد بأسانيده أن النفر الستة أو الثمانية الذين لقوا النبي صلى الله عليه وسلم بمنى أول من لقيه من الأنصار - وكانوا قد قدموا إلى مكة ليحالفوا قريشا - كان في جملة ما قالوه له لما دعاهم إلى الإسلام والنصر له: واعلم إنما كانت وقعة بعاث عام الأول، فموعدك الموسم القابل، فقدموا في السنة التي تليها فبايعوه، وهي البيعة الأولى، ثم قدموا الثانية فبايعوه وهم سبعون نفسا، وهاجر النبي صلى الله عليه وسلم في أوائل التي تليها. فدل ذلك على أن وقعة بعاث كانت قبل الهجرة بثلاث سنين، وهو المعتمد، وهو أصح من قول ابن عبد البر في ترجمة زيد ابن ثابت من الاستيعاب: إنه كان يوم بعاث ابن ست سنين، وحين قدم النبي صلى الله عليه وسلم كان ابن إحدى عشرة، فيكون يوم بعاث قبل الهجرة بخمس سنين. نعم دامت الحرب بين الحيين الأوس والخزرج المدة التي ذكرها في أيام كثيرة شهيرة، وكان أولها فيما ذكر ابن إسحاق وهشام بن الكلبي وغيرهما أن الأوس والخزرج لما نزلوا المدينة وجدوا اليهود مستوطنين بها فحالفوهم وكانوا تحت قهرهم، ثم غلبوا على اليهود في قصة طويلة بمساعدة أبي جبلة ملك غسان، فلم يزالوا على اتفاق بينهم حتى كانت أول حرب وقعت بينهم حرب سمير - بالمهملة مصغرا - بسبب رجل يقال له كعب من بني ثعلبة نزل على مالك ابن عجلان الخزرجي فحالفه، فقتله رجل من الأوس يقال له سمير فكان ذلك سبب الحرب بين الحيين، ثم كانت بينهم وقائع من أشهرها يوم السرارة بمهملات، ويوم فارع بفاء ومهملة، ويوم الفجار الأول والثاني، وحرب حصين بن الأسلت، وحرب حاطب بن قيس، إلى أن كان آخر ذلك يوم بعاث وكان رئيس الأوس فيه حضير والد أسيد وكان يقال له حضير الكتائب، وجرح يومئذ ثم مات بعد مدة من جراحته، وكان رئيس الخزرج عمرو بن النعمان، وجاءه سهم في القتال فصرعه فهزموا بعد أن كانوا قد ستظهروا، ولحسان وغيره من الخزرج وكذا لقيس بن الحطيم وغيره من الأوس في ذلك أشعار كثيرة مشهورة في دواوينهم. قوله: "فاضطجع على الفراش" في رواية الزهري

(2/441)


المذكورة أنه " تغشى بثوبه " وفي رواية مسلم: "تسجى " أي التف بثوبه. قوله: "وجاء أبو بكر" في رواية هشام بن عروة في الباب الذي بعده " دخل على أبو بكر وكأنه جاء زائرا لها بعد أن دخل النبي صلى الله عليه وسلم بيته". قوله: "فانتهرني" في رواية الزهري " فانتهرهما " أي الجاريتين، ويجمع بأنه شرك بينهن في الانتهار والزجر، أما عائشة فلتقريرها، وأما الجاريتان فلفعلهما. قوله: "مزمارة الشيطان" بكسر الميم يعني الغناء أو الدف، لأن المزمارة أو المزمار مشتق من الزمير وهو الصوت الذي له الصفير، ويطلق على الصوت الحسن وعلى الغناء، وسميت به الآلة المعروفة التي يزمر بها، وإضافتها إلى الشيطان من جهة أنها تلهي، فقد تشغل القلب عن الذكر. وفي رواية حماد بن سلمة عند أحمد " فقال: يا عباد الله أبمزمور الشيطان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال القرطبي: المزمور الصوت، ونسبته إلى الشيطان ذم على ما ظهر لأبي بكر، وضبطه عياض بضم الميم وحكى فتحها. قوله: "فأقبل عليه" في رواية الزهري " فكشف النبي صلى الله عليه وسلم عن وجهه " وفي رواية فليح " فكشف رأسه " وقد تقدم أنه كان ملتفا. قوله: "دعهما" زاد في رواية هشام " يا أبا بكر إن لكل قوم عيدا وهذا عيدنا " ففيه تعليل الأمر بتركهما، وإيضاح خلاف ما ظنه الصديق من أنهما فعلتا ذلك بغير علمه صلى الله عليه وسلم لكونه دخل فوجده مغطى بثوبه فظنه نائما فتوجه له الإنكار على ابنته من هذه الأوجه مستصحبا لما تقرر عنده من منع الغناء واللهو، فبادر إلى إنكار ذلك قياما عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك مستندا إلى ما ظهر له، فأوضح له النبي صلى الله عليه وسلم الحال، وعرفه الحكم مقرونا ببيان الحكمة بأنه يوم عيد، أي يوم سرور شرعي، فلا ينكر فيه مثل هذا كما لا ينكر في الأعراس، وبهذا يرتفع الإشكال عمن قال: كيف ساغ للصديق إنكار شيء أقره النبي صلى الله عليه وسلم؟ وتكلف جوابا لا يخفى تعسفه. وفي قوله: "لكل قوم " أي من الطوائف وقوله: "عيد " أي كالنيروز والمهرجان، وفي النسائي وابن حبان بإسناد صحيح عن أنس " قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال: قد أبدلكم الله تعالى بهما خيرا منهما: يوم الفطر والأضحى " واستنبط منه كراهة الفرح في أعياد المشركين والتشبه بهم، وبالغ الشيخ أبو حفص الكبير النسفي من الحنفية فقال: من أهدى فيه بيضة إلى مشرك تعظيما لليوم فقد كفر بالله تعالى. استنبط من تسمية أيام منى بأنها أيام عيد مشروعية قضاء صلاة العيد فيها لمن فاتته كما سيأتي بعد. واستدل جماعة من الصوفية بحديث الباب على إباحة الغناء وسماعه بآلة وبغير آلة، ويكفي في رد ذلك تصريح عائشة في الحديث الذي في الباب بعده بقولها " وليستا بمغنيتين " فنفت عنهما من طريق المعنى ما أثبته لهما باللفظ، لأن الغناء يطلق على رفع الصوت وعلى الترنم الذي تسميه العرب النصب بفتح النون وسكون المهملة على الحداء. ولا يسمى فاعله مغنيا وإنما يسمى بذلك من ينشد بتمطيط وتكسير وتهييج وتشويق بما فيه تعريض بالفواحش أو تصريح، قال القرطبي: قولها " ليستا بمغنيتين " أي ليستا ممن يعرف الغناء كما يعرفه المغنيات المعروفات بذلك، وهذا منها تحرز عن الغناء المعتاد عند المشتهرين به، وهو الذي يحرك الساكن ويبعث الكامن، وهذا النوع إذا كان في شعر فيه وصف محاسن النساء والخمر وغيرهما من الأمور المحرمة لا يختلف في تحريمه، قال: وأما ما ابتدعه الصوفية في ذلك فمن قبيل ما لا يختلف في تحريمه، لكن النفوس الشهوانية غلبت على كثير ممن ينسب إلى الخير، حتى لقد ظهرت من كثير منهم فعلات المجانين والصبيان، حتى رقصوا بحركات متطابقة وتقطيعات متلاحقة، وانتهى التواقح بقوم منهم إلى أن جعلوها من باب القرب وصالح الأعمال، وأن ذلك يثمر سني الأحوال وهذا - على التحقيق - من آثار الزندقة، وقول أهل المخرفة والله المستعان ا هـ. وينبغي أن يعكس مرادهم ويقرأ:

(2/442)


" سيء " عوض النون الخفيفة المكسورة بغير همز بمثناة تحتانية ثقيلة مهموزا. وأما الآلات فسيأتي الكلام على اختلاف العلماء فيها عند الكلام على حديث المعازف في كتاب الأشربة، وقد حكى قوم الإجماع على تحريمها، وحكى بعضهم عكسه، وسنذكر بيان شبهة الفريقين إن شاء الله تعالى. ولا يلزم من إباحة الضرب بالدف في العرس ونحوه إباحة غيره من الآلات كالعود ونحوه كما سنذكر ذلك في وليمة العرس إن شاء الله تعالى. وأما التفافه صلى الله عليه وسلم بثوبه ففيه إعراض عن ذلك لكون مقامه يقتضي أن يرتفع عن الإصغاء إلى ذلك، لكن عدم إنكاره دال على تسويغ مثل ذلك على الوجه الذي أقره إذ لا يقر على باطل، والأصل التنزه عن اللعب واللهو فيقتصر على ما ورد فيه النص وقتا وكيفية تقليلا لمخالفة الأصل والله أعلم. وفي هذا الحديث من الفوائد مشروعية التوسعة على العيال في أيام الأعياد بأنواع ما يحصل لهم بسط النفس وترويح البدن من كلف العبادة، وأن الإعراض عن ذلك أولى. وفيه أن إظهار السرور في الأعياد من شعار الدين. وفيه جواز دخول الرجل على ابنته وهي عند زوجها إذا كان له بذلك عادة، وتأديب الأب بحضرة الزوج وإن تركه الزوج، إذ التأديب وظيفة الآباء، والعطف مشروع من الأزواج للنساء. وفيه الرفق بالمرأة واستجلاب مودتها، وأن مواضع أهل الخير تنزه عن اللهو واللغو وإن لم يكن فيه إثم إلا بإذنهم. وفيه أن التلميذ إذا رأى عند شيخه ما يستكره مثله بادر إلى إنكاره، ولا يكون في ذلك افتئات على شيخه، بل هو أدب منه ورعاية لحرمته وإجلال لمنصبه، وفيه فتوى التلميذ بحضرة شيخه بما يعرف من طريقته، ويحتمل أن يكون أبو بكر ظن أن النبي صلى الله عليه وسلم نام فخشي أن يستيقظ فيغضب على ابنته فبادر إلى سد هذه الذريعة. وفي قول عائشة في آخر هذا الحديث: "فلما غفل غمزتهما فخرجتا " دلالة على أنها مع ترخيص النبي صلى الله عليه وسلم لها في ذلك راعت خاطر أبيها وخشيت غضبه عليها فأخرجتهما، واقتناعها في ذلك بالإشارة فيما يظهر للحياء من الكلام بحضرة من هو أكبر منها والله أعلم. واستدل به على جواز سماع صوت الجارية بالغناء ولو لم تكن مملوكة لأنه صلى الله عليه وسلم لم ينكر على أبي بكر سماعه بل أنكر إنكاره، واستمرتا إلى أن أشارت إليهما عائشة بالخروج. ولا يخفى أن محل الجواز ما إذا أمنت الفتنة بذلك، والله أعلم. قوله: "وكان يوم عيد" هذا حديث آخر وقد جمعهما بعض الرواة وأفردهما بعضهم، وقد تقدم هذا الحديث الثاني من وجه آخر عن الزهري عن عروة في أبواب المساجد، ووقع عند الجوزقي في حديث الباب هنا " وقالت - أي عائشة - كان يوم عيد " فتبين بهذا أنه موصول كالأول. قوله: "يلعب فيه السودان" في رواية الزهري المذكورة " والحبشة يلعبون في المسجد " وزاد في رواية معلقة ووصلها مسلم: "بحرابهم " ولمسلم من رواية هشام عن أبيه " جاء حبش يلعبون في المسجد"، قال المحب الطبري: هذا السياق يشعر بأن عادتهم ذلك في كل عيد، ووقع في رواية ابن حبان: "لما قدم وفد الحبشة قاموا يلعبون في المسجد " وهذا يشعر بأن الترخيص لهم في ذلك بحال القدوم، ولا تنافي بينهما لاحتمال أن يكون قدومهم صادف يوم عيد وكان من عادتهم اللعب في الأعياد ففعلوا ذلك كعادتهم ثم صاروا يلعبون يوم كل عيد، ويؤيده ما رواه أبو داود عن أنس قال: "لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة لعبت الحبشة فرحا بذلك لعبوا بحرابهم"؛ ولا شك أن يوم قدومه صلى الله عليه وسلم كان عندهم أعظم من يوم العيد، قال الزين بن المنير: سماه لعبا وإن كان أصله التدريب على الحرب وهو من الجد لما فيه من شبه اللعب، لكونه يقصد إلى الطعن ولا يفعله ويوهم بذلك قرنه ولو كان أباه أو ابنه. قوله: "فإما سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم وإما قال: تشتهين تنظرين" هذا تردد منها فيما كان وقع له هل كان أذن لها في ذلك ابتداء منه أو عن سؤال منها، وهذا

(2/443)


بناء على أن سألت بسكون اللام على أنه كلامها، ويحتمل أن يكون بفتح اللام فيكون كلام الراوي فلا ينافي مع ذلك قوله: "وإما قال تشتهين تنظرين " وقد اختلفت الروايات عنها في ذلك: ففي رواية النسائي من طريق يزيد بن رومان عنها " سمعت لغطا وصوت صبيان، فقام النبي صلى الله عليه وسلم فإذا حبشية تزفن - أي ترقص - والصبيان حولها فقال: يا عائشة، تعالي فانظري " ففي هذا أنه ابتدأها. وفي رواية عبيد بن عمير عنها عند مسلم أنها قالت للعابين " وددت أني أراهم " ففي هذا أنها سألت، ويجمع بينهما بأنها التمست منه ذلك فأذن لها. وفي رواية النسائي من طريق أبي سلمة عنها " دخل الحبشة يلعبون، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم يا حميراء أتحبين أن تنظري إليهم؟ فقلت: نعم " إسناده صحيح ولم أر في حديث صحيح ذكر الحميراء إلا في هذا. وفي رواية أبي سلمة هذه من الزيادة عنها قالت: "ومن قولهم يومئذ: أبا القاسم طيبا " كذا فيه بالنصب، وهو حكاية قول الحبشة، ولأحمد والسراج وابن حبان من حديث أنس " أن الحبشة كانت تزفن بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ويتكلمون بكلام لهم، فقال: ما يقولون؟ قال يقولون: محمد عبد صالح". قوله: "فأقامني وراءه خدي على خده" أي متلاصقين وهي جملة حالية بدون واو كما قيل في قوله تعالى: { اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ} وفي رواية هشام عن أبيه عند مسلم: "فوضعت رأسي على منكبه " وفي رواية أبي سلمة المذكورة " فوضعت ذقني على عاتقه وأسندت وجهي إلى خده " وفي رواية عبيد ابن عمير عنها " أنظر بين أذنيه وعاتقه " ومعانيها متقاربة، ورواية أبي سلمة أبينها. وفي رواية الزهري الآتية بعد عن عروة " فيسترني وأنا أنظر " وقد تقدم في أبواب المساجد بلفظ: "يسترني بردائه " ويتعقب به على الزين بن المنير في استنباطه من لفظ حديث الباب جواز اكتفاء المرأة بالتستر بالقيام خلف من تستر به من زوج أو ذي محرم إذا قام ذلك مقام الرداء، لأن القصة واحدة، وقد وقع فيها التنصيص على وجود التستر بالرداء. قوله: "وهو يقول: دونكم" بالنصب على الظرفية بمعنى الإغراء والمغري به محذوف وهو لعبهم بالحراب، وفيه إذن وتنهيض لهم وتنشيط. قوله: "يا بني أرفدة" بفتح الهمزة وسكون الراء وكسر الفاء وقد تفتح، قيل هو لقب للحبشة، وقيل هو اسم جنس لهم، وقيل اسم جدهم الأكبر وقيل المعنى يا بني الإماء، زاد في رواية الزهري عن عروة " فزجرهم عمر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أمنا بني أرفدة " وبين الزهري أيضا عن سعيد عن أبي هريرة وجه الزجر حيث قال: "فأهوى إلى الحصباء فحصبهم بها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "دعهم يا عمر " وسيأتي في الجهاد، وزاد أبو عوانة في صحيحه " فإنهم بنو أرفدة " كأنه يعني أن هذا شأنهم وطريقتهم وهو من الأمور المباحة فلا إنكار عليهم. قال المحب الطبري: فيه تنبيه على أنه يغتفر لهم ما لا يغتفر لغيرهم، لأن الأصل في المساجد تنزيهها عن اللعب فيقتصر على ما ورد فيه النص، انتهى. وروى السراج من طريق أبي الزناد عن عروة عن عائشة أنه صلى الله عليه وسلم قال يومئذ " لتعلم يهود أن في ديننا فسحة، إني بعثت بحنيفية سمحة " وهذا يشعر بعدم التخصيص، وكأن عمر بنى على الأصل في تنزيه المساجد فبين له النبي صلى الله عليه وسلم وجه الجواز فيما كان هذا سبيله كما سيأتي تقريره، أو لعله لم يكن علم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يراهم. قوله: "حتى إذا مللت" بكسر اللام الأولى -. وفي رواية الزهري " حتى أكون أنا الذي أسأم " ولمسلم من طريقه " ثم يقوم من أجلي حتى أكون أنا الذي أنصرف " وفي رواية يزيد بن رومان عند النسائي: "أما شبعت؟ أما شبعت؟ قالت: فجعلت أقول: لا، لأنظر منزلتي عنده "
ـــــــ
(1) في مخطوطة الرياض " أذنه"

(2/444)


وله من رواية أبي سلمة عنها: "قلت: يا رسول الله لا تعجل، فقام لي ثم قال: حسبك؟ قلت: لا تعجل. قال: وما بي حب النظر إليهم ولكن أحببت أن يبلغ النساء مقامه لي ومكاني منه " وزاد في النكاح في رواية الزهري " فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن الحريصة على اللهو " وقولها " اقدروا " بضم الدال من التقدير ويجوز كسرها، وأشارت بذلك إلى أنها كانت حينئذ شابة، وقد تمسك به من ادعى نسخ هذا الحكم وأنه كان في أول الإسلام كما تقدمت حكايته في أبواب المساجد، ورد بأن قولها: "يسترني بردائه " دال على أن ذلك كان بعد نزول الحجاب، وكذا قولها " أحببت أن يبلغ النساء مقامه لي " مشعر بأن ذلك وقع بعد أن صارت لها ضرائر، أرادت الفخر عليهن، فالظاهر أن ذلك وقع بعد بلوغها، وقد تقدم من رواية ابن حبان أن ذلك وقع لما قدم وفد الحبشة وكان قدومهم سنة سبع فيكون عمرها حينئذ خمس عشرة سنة، وقد تقدم في أبواب المساجد شيء نحو هذا والجواب عنه واستدل به على جواز اللعب بالسلاح على طريق التواثب للتدريب على الحرب والتنشيط عليه، واستنبط منه جواز المثاقفة لما فيها من تمرين الأيدي على آلات الحرب، قال عياض: وفيه جواز نظر النساء إلى فعل الرجال الأجانب لأنه إنما يكره لهن النظر إلى المحاسن والاستلذاذ بذلك، ومن تراجم البخاري عليه " باب نظر المرأة إلى الحبش ونحوهم من غير ريبة " وقال النووي: أما النظر بشهوة وعند خشية الفتنة فحرام اتفاقا، وأما بغير شهوة فالأصح أنه محرم. وأجاب عن هذا الحديث بأنه يحتمل أن يكون ذلك قبل بلوغ عائشة، وهذا قد تقدمت الإشارة إلى ما فيه، قال: أو كانت تنظر إلى لعبهم بحرابهم لا إلى وجوههم وأبدانهم، وإن وقع بلا قصد أمكن أن تصرفه في الحال. انتهى. وقد تقدمت بقية فوائده في أبواب المساجد. وسيأتي بعد ستة أبواب وجه الجمع بين ترجمة البخاري هذا الباب والباب الآتي هناك حيث قال: "باب ما يكره من حمل السلاح في العيد " إن شاء الله تعالى.

(2/445)


3 - باب سُنَّةِ الْعِيدَيْنِ لِأَهْلِ الإِسْلاَمِ
951- حدثنا حجاج قال حدثنا شعبة قال أخبرني زبيد قال سمعت الشعبي عن البراء قال ثم سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقال إن أول ما نبدأ من يومنا هذا أن نصلي ثم نرجع فننحر فمن فعل فقد أصاب سنتنا
[الحديث951-أطرافه في:6673.5563.5560.5557.5556.5545.983.976.968.965.955]
952- حدثنا عبيد بن إسماعيل قال حدثنا أبو أسامة عن هشام عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت ثم دخل أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيان بما تقاولت الأنصار يوم بعاث قالت وليستا بمغنيتين فقال أبو بكر أمزامير الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك في يوم عيد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبا بكر إن لكل قوم عيدا وهذا عيدنا
قوله: "باب سنة العيد لأهل الإسلام" كذا للأكثر، وقد اقتصر عليه الإسماعيلي في المستخرج وأبو نعيم وزاد أبو ذر عن الحموي في أول الترجمة " الدعاء في العيد " قال ابن رشيد أراه تصحيفا، وكأنه كان فيه اللعب في العيد، يعني فيناسب حديث عائشة وهو الثاني من حديثي الباب، ويحتمل أن يوجه بأن الدعاء بعد صلاة العيد يؤخذ حكمه من

(2/445)


جواز اللعب بعدها بطريق الأولى. وقد روى ابن عدي من حديث واثلة أنه " لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عيد فقال: تقبل الله منا ومنك، فقال: نعم تقبل الله منا ومنك " وفي إسناده محمد بن إبراهيم الشامي وهو ضعيف، وقد تفرد به مرفوعا، وخولف فيه، فروى البيهقي من حديث عبادة بن الصامت أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: "ذلك فعل أهل الكتابين " وإسناده ضعيف أيضا، وكأنه أراد أنه لم يصح فيه شيء. وروينا في " المحامليات " بإسناد حسن عن جبير بن نفير قال: "كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا التقوا يوم العيد يقول بعضهم لبعض: تقبل الله منا ومنك " وأما مناسبة حديث عائشة للترجمة التي اقتصر عليها الأكثر فقد قيل: إنها من قوله: "وهذا عيدنا " لإشعاره بالندب إلى ذلك، وفيه نظر لأن اللعب لا يوصف بالندبية، لكن يقربه أن المباح قد يرتفع بالنية إلى درجة ما يثاب عليه، ويحتمل أن يكون المراد أن تقديم العبادة على اللعب سنة أهل الإسلام، أو تحمل " السنة " في الترجمة على المعنى اللغوي. وأما حديث البراء فهو طرف من حديث سيأتي بتمامه بعد باب، وحجاج المذكور في الإسناد هو ابن منهال. واستشكل الزين بن المنير مناسبته للترجمة من حيث أنه قال فيها العيدين بالتثنية مع أنها لا تتعلق إلا بعيد النحر، وأجاب بأن في قوله: "إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي " إشعارا بأن الصلاة ذلك اليوم هي الأمر المهم، وأن ما سواها من الخطبة والنحر والذكر وغير ذلك من أعمال البر يوم النحر فبطريق التبع، وهذا القدر مشترك بين العيدين، فحسن أن لا تفرد الترجمة بعيد النحر. انتهى. وقد تقدم الكلام على حديث عائشة مستوفي في الباب الذي قبله.

(2/446)


4 - باب الأَكْلِ يَوْمَ الْفِطْرِ قَبْلَ الْخُرُوجِ
953- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ قَالَ أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ يَغْدُو يَوْمَ الْفِطْرِ حَتَّى يَأْكُلَ تَمَرَاتٍ وَقَالَ مُرَجَّأُ بْنُ رَجَاءٍ حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي أَنَسٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَأْكُلُهُنَّ وِتْرًا "
قوله: "باب الأكل يوم الفطر قبل الخروج" أي إلى صلاة العيد. قوله: "أخبرنا عبيد الله" هو بالتصغير، وفي نسخة الصغاني " حدثنا عبد الله بن أنس " بحذف أبي بكر، هكذا رواه سعيد بن سليمان عن هشيم، وتابعه أبو الربيع الزهراني عند الإسماعيلي، وجبارة ابن المغلس عند ابن ماجه، ورواه عن هشيم قتيبة عند الترمذي، وأحمد بن منيع عند ابن خزيمة، وأبو بكر ابن أبي شيبة عند ابن حبان والإسماعيلي، وعمرو بن عون عند الحاكم فقالوا كلهم " عن هشيم عن محمد ابن إسحاق عن حفص بن عبيد الله بن أنس عن أنس " قال الترمذي صحيح غريب، وأعله الإسماعيلي بأن هشيما مدلس، وقد اختلف عليه فيه، وابن إسحاق ليس من شرط البخاري. قلت: وهي علة غير قادحة لأن هشيما قد صرح فيه بالإخبار فأمن تدليسه، ولهذا نزل فيه البخاري درجة لأن سعيد بن سليمان من شيوخه، وقد أخرج هذا الحديث عنه بواسطة لكونه لم يسمعه منه ولم يلق من أصحاب هشيم مع كثرة من لقيه منهم من يحدث به مصرحا عنه فيه بالإخبار، وقد جزم أبو مسعود الدمشقي بأنه كان عند هشيم على الوجهين، وأن أصحاب هشيم القدماء كانوا يروونه عنه على الوجه الأول فلا تضر طريق ابن إسحاق المذكورة، قال البيهقي: ويؤكد ذلك أن سعيد بن سليمان قد رواه عن هشيم على الوجهين، ثم ساقه من رواية معاذ بن المثنى عنه عن هشيم بالإسنادين المذكورين فرجح

(2/446)


صنيع البخاري، ويؤيد ذلك متابعة مرجى بن رجاء لهشيم على روايته له عن عبيد الله بن أبي بكر، وقد علقها البخاري هنا، وأفادت ثلاث فوائد: الأولى هذه، والثانية تصريح عبيد الله فيه بالإخبار عن أنس، والثالثة تقييد الأكل بكونه وترا. وقد وصلها ابن خزيمة والإسماعيلي وغيرهما من طريق أبي النضر عن مرجى بلفظ: "يخرج " بدل " يغدو " والباقي مثل لفظ هشيم وفيه الزيادة، وكذا وصله أبو ذر في زياداته في الصحيح عن أبي حامد بن نعيم عن الحسين بن محمد بن مصعب عن أبي داود السنجي عن أبي النضر، وأخرجه الإمام أحمد عن حرمي بن عمارة عن مرجى بلفظ: "ويأكلهن أفرادا " ومن هذا الوجه أخرجه البخاري في تاريخه، وله راو ثالث عن عبيد الله بن أبي بكر أخرجه الإسماعيلي أيضا وابن حبان والحاكم من رواية عتبة بن حميد عنه بلفظ: "ما خرج يوم فطر حتى يأكل تمرات ثلاثا أو خمسا أو سبعا أو أقل من ذلك أو أكثر وترا، وهي أصرح في المداومة على ذلك، قال المهلب: الحكمة في الأكل قبل الصلاة أن لا يظن ظان لزوم الصوم حتى يصلي العيد، فكأنه أراد سد هذه الذريعة. وقال غيره: لما وقع وجوب الفطر عقب وجوب الصوم استحب تعجيل الفطر مبادرة إلى امتثال أمر الله تعالى، ويشعر بذلك اقتصاره على القليل من ذلك، ولو كان لغير الامتثال لأكل قدر الشبع، وأشار إلى ذلك ابن أبي جمرة. وقال بعض المالكية: لما كان المعتكف لا يتم اعتكافه حتى يغدو إلى المصلى قبل انصرافه إلى بيته خشي أن يعتمد في هذا الجزء من النهار باعتبار استصحاب الصائم ما يعتمد من استصحاب الاعتكاف، ففرق بينهما بمشروعية الأكل قبل الغدو. وقيل لأن الشيطان الذي يحبس في رمضان لا يطلق إلا بعد صلاة العيد، فاستحب تعجيل الفطر بدارا إلى السلامة من وسوسته. وسيأتي توجيه آخر لابن المنير في الباب الذي بعده. وقال ابن قدامة: لا نعلم في استحباب تعجيل الأكل يوم الفطر اختلافا. انتهى. وقد روى ابن أبي شيبة عن ابن مسعود التخيير فيه، وعن النخعي أيضا مثله. والحكمة في استحباب التمر لما في الحلو من تقوية البصر الذي يضعفه الصوم، ولأن الحلو مما يوافق الإيمان ويعبر به المنام ويرق به القلب وهو أيسر من غيره، ومن ثم استحب بعض التابعين أنه يفطر على الحلو مطلقا كالعسل رواه ابن أبي شيبة عن معاوية بن قرة وابن سيرين وغيرهما، وروى فيه معنى آخر عن ابن عون أنه سأل عن ذلك فقال: إنه يحبس البول، هذا كله في حق من يقدر على ذلك وإلا فينبغي أن يفطر ولو على الماء ليحصل له شبه ما من الاتباع أشار إليه ابن أبي جمرة. وأما جعلهن وترا فقال المهلب: فللإشارة إلى وحدانية الله تعالى، وكذلك كان صلى الله عليه وسلم يفعله في جميع أموره تبركا بذلك. "تنبيه": مرجى بوزن معلى، وأبوه بلفظ رجاء ضد الخوف بصري مختلف في الاحتجاج به، وليس له في البخاري غير هذا الموضع الواحد.

(2/447)


5 - باب الأَكْلِ يَوْمَ النَّحْرِ
954- حدثنا مسدد قال حدثنا إسماعيل عن أيوب عن محمد عن أنس قال قال النبي صلى الله عليه وسلم ثم من ذبح قبل الصلاة فليعد فقام رجل فقال هذا يوم يشتهي فيه اللحم وذكر من جيرانه بالحق النبي صلى الله عليه وسلم صدقه قال وعندي جذعة أحب إلي من شاتي لحم فرخص له النبي صلى الله عليه وسلم فلا أدري أبلغت الرخصة من سواه أم لا "
[الحديث954-أطرافه في:5561.5549.5546.984]
955- حدثنا عثمان قال حدثنا جرير عن منصور عن الشعبي عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال =

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أشعار النساء - ط عالم الكتب المؤلف المرزباني

  أشعار النساء للمرزباني ثالث ما ألف من الكتب في أشعار النساء، بعد (أشعار الجواري) للمفجع البصري المتوفى سنة 327هـ و(الإماء الشواعر)...