Translate فتح الباري وتفسير بن كثير كيكي520.

الجمعة، 13 مايو 2022

مجلد 29. و مجلد 30.فتح الباري أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ)

 مجلد 29. و مجلد 30.فتح الباري أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ)

29.

مجلد 29.فتح الباري أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ) 

 =قوله: "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم من استطاع الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج" وقع في رواية السرخسي "لأنه" والأول أولى لأنه بقية لفظ الحديث، وإن كان تصرف فيه فاختصر منه لفظ: "منكم" وكأنه أشار إلى أن الشفاهي لا يخص، وهو كذلك اتفاقا، وإنما الخلاف هل يعم نصا أو استنباطا؟ ثم رأيته في الصيام أخرجه من وجه آخر عن الأعمش بلفظ: "من استطاع الباءة" كما ترجم به ليس فيه: "منكم". قوله:" وهل يتزوج من لا أرب له في النكاح" كأنه يشير إلى ما وقع بين ابن مسعود وعثمان، فعرض عليه عثمان فأجابه بالحديث، فاحتمل أن يكون لا أرب فيه له فلم يوافقه، واحتمل أن يكون وافقه وإن لم ينقل ذلك، ولعله رمز إلى ما بين العلماء فيمن لا يتوق إلى النكاح هل يندب إليه أم لا؟ وسأذكر ذلك بعد. قوله: "حدثني إبراهيم" هو النخعي، وهذا الإسناد مما ذكر أنه أصح الأسانيد، وهي ترجمة الأعمش عن إبراهيم النخعي عن علقمة عن ابن مسعود، وللأعمش في هذا الحديث إسناد آخر ذكره المصنف في الباب الذي يليه بإسناده بعينه إلى الأعمش. قوله: "كنت مع عبد الله" يعني ابن مسعود. قوله: "فلقيه عثمان بمنى" كذا وقع في أكثر الروايات. وفي رواية زيد بن أبي أنيسة عن الأعمش عند ابن حبان: "بالمدينة" وهي شاذة. قوله: "فقال: يا أبا عبد الرحمن" هي كنية ابن مسعود، وظن ابن المنير أن المخاطب بذلك ابن عمر لأنها كنيته المشهورة، وأكد ذلك عنده أنه وقع في نسخته من "شرح ابن بطال" عقب الترجمة "فيه ابن عمر، لقيه عثمان بمنى" وقص الحديث. فكتب ابن المنير في حاشيته: هذا يدل على أن ابن عمر شدد على نفسه في زمن الشباب، لأنه كان في زمن عثمان شابا، كذا قال، ولا مدخل لابن عمر في هذه القصة أصلا، بل القصة والحديث لابن مسعود، مع أن دعوى أن ابن عمر كان شابا إذ ذاك فيه نظر لما سأبينه قريبا. فإنه كان إذ ذاك جاوز الثلاثين. قوله: "فخليا" كذا للأكثر. وفي رواية الأصيلي: "فخلوا" قال ابن التين: وهي الصواب، لأنه واوي يعني من الخلوة مثل "دعوا" قال الله تعالى :{فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ} انتهى. ووقع في رواية جرير عن الأعمش عند مسلم. "إذ لقيه عثمان فقال: هلم يا أبا عبد الرحمن، فاستخلاه". قوله: "فقال عثمان: هل لك يا أبا عبد الرحمن في أن نزوجك بكرا تذكرك ما كنت تعهد" لعل عثمان رأى به قشفا ورثاثة هيئة فحمل ذلك على فقده الزوجة التي ترفهه، ووقع في رواية أبي معاوية عند أحمد ومسلم: "ولعلها أن تذكر ما مضى من زمانك" وفي رواية جرير عن الأعمش عند مسلم: "لعلك يرجع إليك من نفسك ما كنت تعهد" وفي رواية زيد بن أبي أنيسة عند ابن حبان: "لعلها أن تذكرك ما فاتك" ويؤخذ منه أن معاشرة الزوجة الشابة تزيد في القوة والنشاط، بخلاف عكسها فبالعكس. قوله: "فلما رأى عبد الله أن ليس له حاجة إلى هذا أشار إلي فقال: يا علقمة فانتهيت إليه وهو يقول أما لئن قلت ذلك لقد "هكذا عند الأكثر أن مراجعة عثمان لابن مسعود في أمر التزويج كانت قبل استدعائه لعلقمة. ووقع في رواية جرير عند مسلم وزيد بن أبي أنيسة عند ابن حبان بالعكس، ولفظ جرير بعد قوله فاستخلاه" فلما رأى عبد الله أن ليس له حاجة قال لي: تعال يا علقمة، قال فجئت، فقال له عثمان: ألا نزوجك"وفي رواية زيد "فلقي عثمان، فأخذ بيده فقاما، وتنحيت عنهما، فلما رأى عبد الله أن ليست له حاجة يسرها قال: ادن يا علقمة، فانتهيت إليه وهو يقول: ألا نزوجك" ويحتمل في الجمع بين الروايتين أن يكون عثمان أعاد علي ابن مسعود ما كان قال له بعد أن استدعى علقمة، لكونه فهم منه إرادة إعلام علقمة بما كان فيه. قوله: "لقد قال لنا النبي صلى الله عليه وسلم يا معشر الشباب" في رواية زيد "لقد كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم شبابا فقال لنا" وفي

(9/107)


رواية عبد الرحمن بن يزيد في الباب الذي يليه "دخلت مع علقمة والأسود على عبد الله، فقال عبد الله: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم شبابا لا نجد شيئا، فقال لنا: يا معشر الشباب" وفي رواية جرير عن الأعمش عند مسلم في هذه الطريق "قال عبد الرحمن وأنا يومئذ شاب، فحدث بحديث رأيت أنه حدث به من أجلي" وفي رواية وكيع عن الأعمش "وأنا أحدث القوم". قوله: "يا معشر الشباب" المعشر جماعة يشملهم وصف ما، والشباب جمع شاب ويجمع أيضا على شببة وشبان بضم أوله والتثقيل، وذكر الأزهري أنه لم يجمع فاعل على فعال غيره، وأصله الحركة والنشاط، وهو اسم لمن بلغ إلى أن يكمل ثلاثين، هكذا أطلق الشافعية. وقال القرطبي في "المفهم" يقال له حدث إلى ستة عشر سنة، ثم شاب إلى اثنتين وثلاثين ثم كهل، وكذا ذكر الزمخشري في الشباب أنه من لدن البلوغ إلى اثنتين وثلاثين. وقال ابن شاس المالكي في "الجواهر" إلى أربعين. وقال النووي: الأصح المختار أن الشاب من بلغ ولم يجاوز الثلاثين، ثم هو كهل إلى أن يجاوز الأربعين، ثم هو شيخ. وقال الروياني وطائفة: من جاوز الثلاثين سمى شيخا، زاد ابن قتيبة: إلى أن يبلغ الخمسين. وقال أبو إسحاق الأسفرايني عن الأصحاب: المرجع في ذلك إلى اللغة، وأما بياض الشعر فيختلف باختلاف الأمزجة. قوله: "من استطاع منكم الباءة" خص الشباب بالخطاب لأن الغالب وجود قوة الداعي فيهم إلى النكاح بخلاف الشيوخ. وإن كان المعنى معتبرا إذا وجد السبب في الكهول والشيوخ أيضا. قوله: "الباءة" بالهمز وتاء تأنيث ممدود، وفيها لغة أخرى بغير همز ولا مد، وقد يهمز ويمد بلا هاء، ويقال لها أيضا الباهة كالأول لكن بهاء بدل الهمزة، وقيل بالمد القدرة على مؤن النكاح وبالقصر الوطء، قال الخطابي: المراد بالباءة النكاح، وأصله الموضع الذي يتبوؤه ويأوي إليه. وقال المازري: اشتق العقد على المرأة من أصل الباءة، لأن من شأن من يتزوج المرأة أن يبوءها منزلا. وقال النووي: اختلف العلماء في المراد بالباءة هنا على قولين يرجعان إلى معنى واحد: أصحهما أن المراد معناها اللغوي وهو الجماع، فتقديره من استطاع منكم الجماع لقدرته على مؤنه - وهي مؤن النكاح - فليتزوج، ومن لم يستطع الجماع لعجزه عن مؤنه فعليه بالصوم ليدفع شهوته ويقطع شر منيه كما يقطعه الوجاء، وعلى هذا القول وقع الخطاب مع الشباب الذين هم مظنة شهوة النساء ولا ينفكون عنها غالبا. والقول الثاني أن المراد هنا بالباءة مؤن النكاح، سميت باسم ما يلازمها، وتقديره من استطاع منكم مؤن النكاح فليتزوج، ومن لم يستطع فليصم لدفع شهوته. والذي حمل القائلين بهذا على ما قالوه قوله: "ومن لم يستطع فعليه بالصوم" قالوا: والعاجز عن الجماع لا يحتاج إلى الصوم لدفع الشهوة، فوجب تأويل الباءة على المؤن. وانفصل القائلون بالأول عن ذلك بالتقدير المذكور انتهى. والتعليل المذكور للمازري. وأجاب عنه عياض بأنه لا يبعد أن تختلف الاستطاعتان، فيكون المراد بقوله: "من استطاع الباءة" أي بلغ الجماع وقدر عليه فليتزوج. ويكون قوله: "ومن لم يستطع" أي من لم يقدر على التزويج. قلت: وتهيأ له هذا لحذف المفعول في المنفي، فيحتمل أن يكون المراد ومن لم يستطع الباءة أو من لم يستطع التزويج، وقد وقع كل منهما صريحا، فعند الترمذي في رواية عبد الرحمن بن يزيد من طريق الثوري عن الأعمش "ومن لم يستطع منكم الباءة" وعند الإسماعيلي من هذا الوجه من طريق أبي عوانة عن الأعمش "من استطاع منكم أن يتزوج فليتزوج" ويؤيده ما وقع في رواية للنسائي من طريق أبي معشر عن إبراهيم النخعي "من كان ذا طول فلينكح" ومثله لابن ماجه من حديث عائشة، وللبزار من حديث أنس وأما تعليل المازري فيعكر عليه قوله في الرواية الأخرى التي في الباب

(9/108)


الذي يليه بلفظ: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم شبابا لا نجد شيئا" فإنه يدل على أن المراد بالباءة الجماع، ولا مانع من الحمل على المعنى الأعم بأن يراد بالباءة القدرة على الوطء ومؤن التزويج، والجواب عما استشكله المازري أنه يجوز أن يرشد من لا يستطيع الجماع من الشباب لفرط حياء أو عدم شهوة أو عنة مثلا إلى ما يهيئ له استمرار تلك الحالة، لأن الشباب مظنة ثوران الشهوة الداعية إلى الجماع فلا يلزم من كسرها في حالة أن يستمر كسرها، فلهذا أرشد إلى ما يستمر به الكسر المذكور، فيكون قسم الشباب إلى قسمين: قسم يتوقون إليه ولهم اقتدار عليه فندبهم إلى التزويج دفعا للمحذور، بخلاف الآخرين فندبهم إلى أمر تستمر به حالتهم، لأن ذلك أرفق بهم للعلة التي ذكرت في رواية عبد الرحمن بن يزيد وهي أنهم كانوا لا يجدون شيئا، ويستفاد منه أن الذي لا يجد أهبة النكاح وهو تائق إليه يندب له التزويج دفعا للمحذور. قوله: " فليتزوج" زاد في كتاب الصيام من طريق أبي حمزة عن الأعمش هنا "فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج" وكذا ثبتت هذه الزيادة عند جميع من أخرج الحديث المذكور من طريق الأعمش بهذا الإسناد، وكذا ثبت بإسناده الآخر في الباب الذي يليه، ويغلب على ظني أن حذفها من قبل حفص بن غياث شيخ شيخ البخاري. وإنما آثر البخاري روايته على رواية غيره لوقوع التصريح فيها من الأعمش بالتحديث، فاغتفر له اختصار المتن لهذه المصلحة. وقوله: "أغض" أي أشد غضا "وأحصن" أي أشد إحصانا له ومنعا من الوقوع في الفاحشة. وما ألطف ما وقع لمسلم حيث ذكر عقب حديث ابن مسعود هذا بيسير حديث جابر رفعه: "إذا أحدكم أعجبته المرأة فوقعت في قلبه فليعمد إلى امرأته فليواقعها؛ فإن ذلك يرد ما في نفسه" فإن فيه إشارة إلى المراد من حديث الباب. وقال ابن دقيق العيد: يحتمل أن تكون أفعل على بابها، فإن التقوى سبب لغض البصر وتحصين الفرج، وفي معارضتها الشهوية الداعية، وبعد حصول التزويج يضعف هذا العارض فيكون أغض وأحصن مما لم يكن، لأن وقوع الفعل مع ضعف الداعي أندر من وقوعه من وجود الداعي. ويحتمل أن يكون أفعل فيه لغير المبالغة بل إخبار عن الواقع فقط. قوله: "ومن لم يستطع فعليه بالصوم" في رواية مغيرة عن إبراهيم عند الطبراني "ومن لم يقدر على ذلك فعليه بالصوم" قال المازري: فيه إغراء بالغائب، ومن أصول النحويين أن لا يغري الغائب، وقد جاء شاذا قول بعضهم عليه رجلا ليسني على جهة الإغراء. وتعقبه عياض بأن هذا الكلام موجود لابن قتيبة والزجاجي، ولكن فيه غلط من أوجه: أما أولا فمن التعبير بقوله لا إغراء بالغائب، والصواب فيه إغراء الغائب، فأما الإغراء بالغائب فجائز، ونص سيبويه أنه لا يجوز دونه زيدا ولا يجوز عليه زيدا عند إرادة غير المخاطب، وإنما جاز للحاضر لما فيه من دلالة الحال، بخلاف الغائب فلا يجوز لعدم حضوره ومعرفته بالحالة الدالة على المراد. وأما ثانيا فإن المثال ما فيه حقيقة الإغراء وأن كانت صورته، فلم يرد القائل تبليغ الغائب وإنما أراد الإخبار عن نفسه بأنه قليل المبالاة بالغائب، ومثله قولهم: إليك عني، أي اجعل شغلك بنفسك، ولم يرد أن يغريه به وإنما مراده دعني وكن كمن شغل عني. وأما ثالثا فليس في الحديث إغراء الغائب بل الخطاب للحاضرين الذين خاطبهم أولا بقوله: "من استطاع منكم" فالخصاء في قوله: "فعليه" ليست لغائب وإنما هي للحاضر المبهم، إذ لا يصح خطابه بالكاف، ونظير هذا قوله: {كتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} إلى أن قال {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} ومثله لو قلت لاثنين من قام منكما فله درهم فالهاء للمبهم من المخاطبين لا لغائب ا ه ملخصا. وقد استحسنه القرطبي. وهو حسن بالغ، وقد تفطن له الطيبي فقال: قال أبو عبيد قوله

(9/109)


فعليه بالصوم إغراء غائب، ولا تكاد العرب تغري إلا الشاهد تقول عليك زيدا ولا تقول عليه زيدا إلا في هذا الحديث، قال: وجوابه أنه لما كان الضمير الغائب راجعا إلى لفظة "من" وهي عبارة عن المخاطبين في قوله: "يا معشر الشباب" وبيان لقوله: "منكم" جاز قوله: "عليه" لأنه بمنزلة الخطاب. وقد أجاب بعضهم بأن إيراد هذا اللفظ في مثال إغراء الغائب هو باعتبار اللفظ، وجواب عياض باعتبار المعنى، وأكثر كلام العرب اعتبار اللفظ. كذا قال، والحق مع عياض، فإن الألفاظ توابع للمعاني، ولا معنى لاعتبار اللفظ مجردا هنا. قوله: "بالصوم" عدل عن قوله فعليه بالجوع وقلة ما يثير الشهوة ويستدعي طغيان الماء من الطعام والشراب إلى ذكر الصوم إذ ما جاء لتحصيل عبادة هي برأسها مطلوبة. وفيه إشارة إلى أن المطلوب من الصوم في الأصل كسر الشهوة. قوله: "فإنه" أي الصوم. قوله: "له وجاء" بكسر الواو والمد، أصله الغمز، ومنه وجأه في عنقه إذا غمزه دافعا له، ووجأه بالسيف إذا طعنه به، ووجأ أنثييه غمزهما حتى رضهما. ووقع في رواية ابن حبان المذكورة "فإنه له وجاء وهو الإخصاء" وهي زيادة مدرجة في الخبر لم تقع إلا في طريق زيد بن أبي أنيسة هذه، وتفسير الوجاء بالإخصاء فيه نظر. فإن الوجاء رض الأنثيين والإخصاء سلهما، وإطلاق الوجاء على الصيام من مجاز المشابهة. وقال أبو عبيد قال بعضهم وجا بفتح الواو مقصور، والأول أكثر. وقال أبو زيد لا يقال وجاء إلا فيما لم يبرأ وكان قريب العهد بذلك. واستدل بهذا الحديث على أن من لم يستطع الجماع فالمطلوب منه ترك التزويج لأنه أرشده إلى ما ينافيه ويضعف دواعيه. وأطلق بعضهم أنه يكره في حقه. وقد قسم العلماء الرجل في الترويج إلى أقسام: الأول التائق إليه القادر على مؤنه الخائف على نفسه، فهذا يندب له النكاح عند الجميع، وزاد الحنابلة في رواية أنه يجب وبذلك قال أبو عوانة الأسفرايني من الشافعية وصرح به في صحيحه، ونقله المصيصي في "شرح مختصر الجويني" وجها، وهو قول داود وأتباعه. ورد عليهم عياض ومن تبعه بوجهين: أحدهما أن الآية التي احتجوا بها خيرت بين النكاح والتسري - يعني قوله تعالى :{فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} قالوا والتسري ليس واجبا اتفاقا فيكون التزويج غير واجب إذ لا يقع التخيير بين واجب ومندوب، وهذا الرد متعقب، فإن الذين قالوا بوجوبه قيدوه بما إذا لم يندفع التوقان بالتسري، فإذا لم يندفع تعين التزويج، وقد صرح بذلك ابن حزم فقال: وفرض على كل قادر على الوطء إن وجد ما يتزوج به أو يتسرى أن يفعل أحدهما، فإن عجز عن ذلك فليكثر من الصوم، وهو قول جماعة من السلف. الوجه الثاني أن الواجب عندهم العقد لا الوطء، والعقد بمجرده لا يدفع مشقة التوقان قال: فما ذهبوا إليه لم يتناوله الحديث، وما تناوله الحديث لم يذهبوا إليه، كذا قال، وقد صرح أكثر المخالفين بوجوب الوطء فاندفع الإيراد. وقال ابن بطال: احتج من لم يوجبه بقوله صلى الله عليه وسلم: "ومن لم يستطع فعليه بالصوم" قال: فلما كان الصوم الذي هو بدله ليس بواجب فمبدله مثله. وتعقب بأن الأمر بالصوم مرتب على عدم الاستطاعة ولا استحالة أن يقول القائل أوجبت عليك كذا فإن لم تستطع فأندبك إلى كذا. والمشهور عن أحمد أنه لا يجب للقادر التائق إلا إذا خشي العنت، وعلى هذه الرواية اقتصر ابن هبيرة. وقال المازري: الذي نطق به مذهب مالك أنه مندوب، وقد يجب عندنا في حق من لا ينكف عن الزنا إلا به. وقال القرطبي: المستطيع الذي يخاف الضرر على نفسه ودينه من العزوبة بحيث لا يرتفع عنه ذلك إلا بالتزويج لا يختلف في وجوب التزويج عليه. ونبه ابن الرفعة على صورة يجب فيها، وهي ما إذا نذره حيث كان مستحبا. وقال ابن دقيق العيد: قسم بعض الفقهاء النكاح

(9/110)


إلى الأحكام الخمسة، وجعل الوجوب فيما إذا خاف العنت وقدر على النكاح وتعذر التسري - وكذا حكاه القرطبي عن بعض علمائهم وهو المازري قال: فالوجوب في حق من لا ينكف عن الزنا إلا به كما تقدم. قال والتحريم في حق من يخل بالزوجة في الوطء والإنفاق مع عدم قدرته عليه وتوقانه إليه. والكراهة في حق مثل هذا حيث لا إضرار بالزوجة، فإن انقطع بذلك عن شيء من أفعال الطاعة من عبادة أو اشتغال بالعلم اشتدت الكراهة، وقيل الكراهة فيما إذا كان ذلك في حال العزوبة أجمع منه في حال التزويج. والاستحباب فيما إذا حصل به معنى مقصودا من كثر شهوة وإعفاف نفس وتحصين فرج ونحو ذلك. والإباحة فيما انتفت الدواعي والموانع. ومنهم من استمر بدعوى الاستحباب فيمن هذه صفته للظواهر الواردة في الترغيب فيه، قال عياض: هو مندوب في حق كل من يرجى منه النسل ولو لم يكن له في الوطء شهوة، لقوله صلى الله عليه وسلم: "فإني مكاثر بكم" ولظواهر الحض على النكاح والأمر به، وكذا في حق من له رغبة في نوع من الاستمتاع بالنساء غير الوطء، فأما من لا ينسل ولا أرب له في النساء ولا في الاستمتاع فهذا مباح في حقه إذا علمت المرأة بذلك ورضيت. وقد يقال: إنه مندوب أيضا لعموم قوله: "لا رهبانية في الإسلام". وقال الغزالي في الإحياء: من اجتمعت له فوائد النكاح وانتفت عنه آفاته فالمستحب في حقه التزويج، ومن لا فالترك له أفضل، ومن تعارض الأمر في حقه فليجتهد ويعمل بالراجح. قلت: الأحاديث الواردة في ذلك كثيرة، فأما حديث :" فإني مكاثر بكم" فصح من حديث أنس بلفظ: "تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم يوم القيامة" أخرجه ابن حبان، وذكره الشافعي بلاغا عن ابن عمر بلفظ: "تناكحوا تكاثروا فإني أباهي بكم الأمم" وللبيهقي من حديث أبي إمامة "تزوجوا، فإني مكاثر بكم الأمم، ولا تكونوا كرهبانية النصارى" وورد "فإني مكاثر بكم" أيضا من حديث الصنابحي وابن الأعسر ومعقل بن يسار وسهل بن حنيف وحرملة بن النعمان وعائشة وعياض بن غنم ومعاوية بن حيدة وغيرهم، وأما حديث: "لا رهبانية في الإسلام" فلم أره بهذا اللفظ، لكن في حديث سعد بن أبي وقاص عند الطبراني "إن الله أبدلنا بالرهبانية الحنيفية السمحة" وعن ابن عباس رفعه: "لا صرورة في الإسلام" أخرجه أحمد وأبو داود وصححه الحاكم، وفي الباب حديث النهي عن التبتل وسيأتي في باب مفرد، وحديث: "من موسرا فلم ينكح فليس منا" أخرجه الدارمي والبيهقي من حديث ابن أبا نجيح وجزم بأنه مرسل، وقد أورده البغوي في "معجم الصحابة" وحديث طاوس "قال عمر بن الخطاب لأبي الزوائد: إنما يمنعك من التزويج عجز أو فجور، أخرجه ابن أبي شيبة وغيره، وقد تقدم في الباب الأول الإشارة إلى حديث عائشة "النكاح سنتي، فمن رغب عن سنتي فليس مني" وأخرج الحاكم من حديث أنس رفعه: "من رزقه الله امرأة صالحة فقد أعانه على شطر دينه، فليتق الله في الشطر الثاني" وهذه الأحاديث وإن كان في الكثير منها ضعف فمجموعها يدل على أن لما يحصل به المقصود من الترغيب في التزويج أصلا، لكن في حق من يتأتى منه النسل كما تقدم، والله أعلم. وفي الحديث أيضا إرشاد العاجز عن مؤن النكاح إلى الصوم، لأن شهوة النكاح تابعة لشهوة الأكل تقوى بقوته وتضعف بضعفه، واستدل به الخطابي على جواز المعالجة لقطع شهوة النكاح بالأدوية، وحكاه البغوي في "شرح السنة"، وينبغي أن يحمل على دواء يسكن الشهوة دون ما يقطعها أصالة لأنه قد يقدر بعد فيندم لفوات ذلك في حقه، وقد صرح الشافعية بأنه لا يكسرها بالكافور ونحوه، والحجة فيه أنهم اتفقوا على منع الجب والخصاه فيلحق بذلك ما في معناه من التداوي بالقطع أصلا، واستدل به الخطابي

(9/111)


أيضا على أن المقصود من النكاح الوطء ولهذا شرع الخيار في العنة. وفيه الحث على غض البصر وتحصين الفرج بكل ممكن وعدم التكليف بغير المستطاع، ويؤخذ منه أن حظوظ النفوس والشهوات لا تتقدم على أحكام الشرع بل هي دائرة معها، واستنبط القرافي من قوله: "فإنه له وجاء" أن التشريك في العبادة لا يقدح فيها بخلاف الرياء، لأنه أمر بالصوم الذي هو قربة وهو بهذا القصد صحيح مثاب عليه، ومع ذلك فأرشد إليه لتحصيل غض البصر وكف الفرج عن الوقوع في المحرم ا ه. فإن أراد تشريك عبادة بعبادة أخرى فهو كذلك وليس محل النزاع. وإن أراد تشريك العبادة بأمر مباح فليس في الحديث ما يساعده. واستدل به بعض المالكية على تحريم الاستمناء لأنه أرشد عند العجز عن التزويج إلى الصوم الذي يقطع الشهوة، فلو كان الاستمناء مباحا لكان الإرشاد إليه أسهل. وتعقب دعوى كونه أسهل لأن الترك أسهل من الفعل. وقد أباح الاستمناء طائفة من العلماء، وهو عند الحنابلة وبعض الحنفية لأجل تسكين الشهوة، وفي قول عثمان لابن مسعود "ألا نزوجك شابة" استحباب نكاح الشابة ولا سيما إن كانت بكرا، وسيأتي بسط القول فيه بعد أبواب.

(9/112)


4- باب مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ الْبَاءَةَ فَلْيَصُمْ
5066- حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ حَدَّثَنِي عُمَارَةُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ دَخَلْتُ مَعَ عَلْقَمَةَ وَالأَسْوَدِ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَبَابًا لاَ نَجِدُ شَيْئًا فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنْ اسْتَطَاعَ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ"
قوله: "باب من لم يستطع الباءة فليصم" أورد فيه حديث ابن مسعود المذكور في الباب قبله، وهذا اللفظ ورد في رواية الثوري عن الأعمش في حديث الباب، فعند الترمذي عنه بلفظ: "فمن لم يستطع الباءة فعليه بالصوم" وعند النسائي عنه بلفظ: "ومن لا فليصم" وقد تقدمت مباحثه في الباب الذي قبله.

(9/112)


5- باب كَثْرَةِ النِّسَاءِ
5067- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ قَالَ أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ قَالَ حَضَرْنَا مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ جِنَازَةَ مَيْمُونَةَ بِسَرِفَ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ هَذِهِ زَوْجَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا رَفَعْتُمْ نَعْشَهَا فَلاَ تُزَعْزِعُوهَا وَلاَ تُزَلْزِلُوهَا وَارْفُقُوا فَإِنَّهُ كَانَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِسْعٌ كَانَ يَقْسِمُ لِثَمَانٍ وَلاَ يَقْسِمُ لِوَاحِدَةٍ"
5068- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَهُ تِسْعُ نِسْوَةٍ و قَالَ لِي خَلِيفَةُ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ أَنَسًا حَدَّثَهُمْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"

(9/112)


باب من هاجر أو عمل خيراً لتزويج امرأة فله مانوى
...
6- باب مَنْ هَاجَرَ أَوْ عَمِلَ خَيْرًا لِتَزْوِيجِ امْرَأَةٍ فَلَهُ مَا نَوَى
5070- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ قَزَعَةَ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الْعَمَلُ بِالنِّيَّةِ وَإِنَّمَا لِامْرِئٍ مَا نَوَى فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ"
قوله: "باب من هاجر أو عمل خيرا لتزويج امرأة فله ما نوى" ذكر فيه حديث عمر بلفظ: "العمل بالنية، وإنما لامرئ ما نوى" وقد تقدم شرحه مستوفى في أول الكتاب، وما ترجم به من الهجرة منصوص في الحديث، ومن عمل الخير مستنبط لأن الهجرة من جملة أعمال الخير، فكما عمم في الخير في شق المطلوب وتممه بلفظ: "فهجرته إلي ما هاجر إليه" فكذلك شق الطلب يشمل أعمال الخير هجرة أو حجا مثلا أو صلاة أو صدقة، وقصة مهاجر أم قيس أوردها الطبراني مسندة والآجري في كتاب الشريعة بغير إسناد، ويدخل في قوله: "أو عمل خيرا" ما وقع من أم سليم في امتناعها من التزويج بأبي طلحة حتى يسلم، وهو في الحديث الذي أخرجه النسائي بسند صحيح عن أنس قال: "خطب أبو طلحة أم سليم فقالت: والله ما مثلك يا أبا طلحة يرد، ولكنك رجل كافر وأنا امرأة مسلمة، ولا يحل لي أن أتزوجك، فإن تسلم فذاك مهري، فأسلم فكان ذلك مهرها" الحديث. ووجه دخوله أن أم سليم رغبت في تزويج أبي طلحة ومنعها من ذلك كفره، فتوصلت إلى بلوغ غرضها ببذل نفسها فظفرت بالخيرين، وقد استشكله

(9/115)


بعضهم بأن تحريم المسلمات على الكفار إنما وقع في زمن الحديبية وهو بعد قصة تزوج أبي طلحة بأم سليم بمدة، ويمكن الجواب بأن ابتداء تزوج الكافر بالمسلمة كان سابقا على الآية، والذي دلت عليه الآية الاستمرار، فلذلك وقع التفريق بعد أن لم يكن، ولا يحفظ بعد الهجرة أن مسلمة ابتدأت بتزوج كافر، والله أعلم

(9/116)


7- باب تَزْوِيجِ الْمُعْسِرِ الَّذِي مَعَهُ الْقُرْآنُ وَالإِسْلاَمُ. فِيهِ سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
5071- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي قَيْسٌ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنَّا نَغْزُو مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ لَنَا نِسَاءٌ فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلاَ نَسْتَخْصِي فَنَهَانَا عَنْ ذَلِكَ"
قوله: "باب تزويج المعسر الذي معه القرآن والإسلام. فيه سهل بن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم" يعني حديث سهل بن سعد في قصة التي وهبت نفسها. وما ترجم به مأخوذ من قوله: "التمس ولو خاتما من حديد" فالتمس فلم يجد شيئا ومع ذلك زوجه. قال الكرماني: لم يسق حديث سهل هنا لأنه ساقه قبل وبعد اكتفاء بذكره، أو لأن شيخه لم يروه له في سياق هذه الترجمة ا ه. والثاني بعيد جدا فلم أجد من قال إن البخاري يتقيد في تراجم كتابه بما يترجم به مشايخه، بل الذي صرح به الجمهور أن غالب تراجمه من تصرفه فلا وجه لهذا الاحتمال، وقد لهج الكرماني به في مواضع وليس بشيء. ثم ذكر طرفا من حديث ابن مسعود "كنا نغزو وليس لنا نساء، فقلنا: يا رسول الله نستخصي؟ فنهانا عن ذلك. وقد تلطف المصنف في استنباطه الحكم كأنه يقول: لما نهاهم عن الاختصاء مع احتياجهم إلى النساء - وهم مع ذلك لا شيء لهم كما صرح به في نفس هذا الخبر كما سيأتي تاما بعد باب واحد - وكان كل منهم لا بد وأن يكون حفظ شيئا من القرآن، فتعين التزويج بما معهم من القرآن، فحكمة الترجمة من حديث سهل بالتنصيص، ومن حديث ابن مسعود بالاستدلال. وقد أعرب المهلب فقال: في قوله تزويج المعسر دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزوج الرجل على أن يعلم المرأة القرآن، إذ لو كان كذلك ما سماه معسرا. قال: وكذلك قوله: "والإسلام" لأن الواهبة كانت مسلمة ا ه. والذي يظهر أن مراد البخاري المعسر من المال بدليل قول ابن مسعود "وليس لنا شيء" والله أعلم.

(9/116)


8- باب قَوْلِ الرَّجُلِ لِأَخِيهِ انْظُرْ أَيَّ زَوْجَتَيَّ شِئْتَ حَتَّى أَنْزِلَ لَكَ عَنْهَا، رَوَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ
5072- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ قَدِمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فَآخَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ الأَنْصَارِيِّ وَعِنْدَ الأَنْصَارِيِّ امْرَأَتَانِ فَعَرَضَ عَلَيْهِ أَنْ يُنَاصِفَهُ أَهْلَهُ وَمَالَهُ فَقَالَ بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ دُلُّونِي عَلَى السُّوقِ فَأَتَى السُّوقَ فَرَبِحَ شَيْئًا مِنْ أَقِطٍ وَشَيْئًا مِنْ سَمْنٍ فَرَآهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ أَيَّامٍ وَعَلَيْهِ وَضَرٌ مِنْ صُفْرَةٍ فَقَالَ مَهْيَمْ يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ فَقَالَ تَزَوَّجْتُ أَنْصَارِيَّةً قَالَ فَمَا سُقْتَ إِلَيْهَا قَالَ وَزْنَ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ قَالَ أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ"

(9/116)


باب مايكره من التبتل والخصاء
...
9- باب مَا يُكْرَهُ مِنْ التَّبَتُّلِ وَالْخِصَاءِ
5083- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ يَقُولُ سَمِعْتُ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ يَقُولُ رَدَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ التَّبَتُّلَ وَلَوْ أَذِنَ لَهُ لاَخْتَصَيْنَا"
[الحديث 5073- طرفه في: 5074]
5074- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ سَمِعَ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ يَقُولُ لَقَدْ رَدَّ ذَلِكَ يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ وَلَوْ أَجَازَ لَهُ التَّبَتُّلَ لاَخْتَصَيْنَا"
5075- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ إِسْمَاعِيلَ عَنْ قَيْسٍ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ كُنَّا نَغْزُو مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسَ لَنَا شَيْءٌ فَقُلْنَا أَلاَ نَسْتَخْصِي فَنَهَانَا عَنْ ذَلِكَ ثُمَّ رَخَّصَ لَنَا أَنْ نَنْكِحَ الْمَرْأَةَ بِالثَّوْبِ ثُمَّ قَرَأَ عَلَيْنَا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}
5076- وَقَالَ أَصْبَغُ أَخْبَرَنِي ابْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي رَجُلٌ شَابٌّ وَأَنَا أَخَافُ عَلَى نَفْسِي الْعَنَتَ وَلاَ أَجِدُ مَا أَتَزَوَّجُ بِهِ النِّسَاءَ فَسَكَتَ عَنِّي ثُمَّ قُلْتُ مِثْلَ ذَلِكَ فَسَكَتَ عَنِّي ثُمَّ قُلْتُ مِثْلَ ذَلِكَ فَسَكَتَ عَنِّي ثُمَّ قُلْتُ مِثْلَ ذَلِكَ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يَا أَبَا هُرَيْرَةَ جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا أَنْتَ لاَقٍ فَاخْتَصِ عَلَى ذَلِكَ أَوْ ذَرْ"

(9/117)


قوله: "باب ما يكره من التبتل" المراد بالتبتل هنا الانقطاع عن النكاح وما يتبعه من الملاذ إلى العبادة. وأما المأمور به في قوله تعالى :{وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} فقد فسره مجاهد فقال: أخلص له إخلاصا، وهو تفسير معنى، وإلا فأصل التبتل الانقطاع، والمعنى انقطع إليه انقطاعا. لكن لما كانت حقيقة الانقطاع إلى الله إنما تقع بإخلاص العبادة له فسرها بذلك، ومنه "صدقة بتلة" أي منقطعة عن الملك، ومريم البتول لانقطاعها عن التزويج إلى العبادة وقيل لفاطمة البتول إما لانقطاعها عن الأزواج غير على أو لانقطاعها عن نظرائها في الحسن والشرف. قوله: "والخصاء" هو الشق على الأنثيين وانتزاعهما، وإنما قال: "ما يكره من التبتل والخصاء للإشارة إلى أن الذي يكره من التبتل هو الذي يفضي إلى التنطع وتحريم ما أحل الله وليس التبتل من أصله مكرها، وعطف الخصاء عليه لأن بعضه يجوز في الحيوان المأكول، ثم أورد المصنف ثلاثة أحاديث. حديث سعد بن أبي وقاص في قصة عثمان بن مظعون أورده من طريقين إلى ابن شهاب الزهري، وقد أورده مسلم من طريق عقيل عن ابن شهاب بلفظ: "أراد عثمان بن مظعون أن يتبتل، فنهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم:" فعرف أن معنى قوله: "رد على عثمان" أي لم يأذن له بل نهاه. وأخرج الطبراني من حديث عثمان بن مظعون نفسه "أنه قال يا رسول الله إني رجل يشق على العزوبة، فأذن لي في الخصاء. قال: لا، ولكن عليك بالصيام" الحديث. ومن طريق سعيد ابن العاص "أن عثمان قال: يا رسول الله ائذن لي في الاختصاء، فقال : إن الله قد أبدلنا بالرهبانية الحنيفية السمحة" فيحتمل أن يكون الذي طلبه عثمان هو الاختصاء حقيقة فعبر عنه الراوي بالتبتل لأنه ينشأ عنه، فلذلك قال: "ولو أذن له لاختصينا" ويحتمل عكسه وهو أن المراد بقول سعد "ولو أذن له لاختصينا" لفعلنا فعل من يختصي وهو الانقطاع عن النساء. قال الطبري: التبتل الذي أراده عثمان بن مظعون تحريم النساء والطيب وكل ما يلتذ به، فلهذا أنزل في حقه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} وقد تقدم في الباب الأول من كتاب النكاح تسمية من أراد ذلك مع عثمان بن مظعون ومن وافقه، وكان عثمان من السابقين إلى الإسلام، وقد تقدمت قصته مع لبيد بن ربيعة في كتاب المبعث، وتقدمت قصة وفاته في كتاب الجنائز، وكانت في ذي الحجة سنة اثنتين من الهجرة، وهو أول من دفن بالبقيع. وقال الطيبي: قوله: "ولو أذن له لاختصينا" كان الظاهر أن يقول ولو أذن له لتبتلنا، لكنه عدل عن هذا الظاهر إلى قوله: "لاختصينا" لإرادة المبالغة، أي لبالغنا في التبتل حتى يفضي بنا الأمر إلى الاختصاء، ولم يرد به حقيقة الاختصاء لأنه حرام، وقيل بل هو على ظاهره، وكان ذلك قبل النهي عن الاختصاء، ويؤيده توارد استئذان جماعة من الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك كأبي هريرة وابن مسعود وغيرهما، وإنما كان التعبير بالخصاء أبلغ من التعبير بالتبتلي لأن وجود الآلة يقتضي استمرار وجود الشهوة، موجود الشهوة ينافي المراد من التبتل، فيتعين الخصاء طريقا إلى تحصيل المطلوب، وغايته أن فيه ألما عظيما في العاجل يغتفر في جنب ما يندفع به الآجل، فهو كقطع الإصبع إذا وقعت في اليد الأكلة صيانة لبقية اليد، وليس الهلاك بالخصاء محققا بل هو نادر، ويشهد له كثرة وجوده في البهائم مع بقائها، وعلى هذا فلعل الراوي عبر بالخصاء عن الجب لأنه هو الذي يحصل المقصود. والحكمة في منعهم من الاختصاء إرادة تكثير النسل ليستمر جهاد الكفار، وإلا لو أذن في ذلك لأوشك تواردهم عليه فينقطع النسل فيقل المسلمون بانقطاعه ويكثر الكفار، فهو خلاف المقصود من البعثة المحمدية. قوله: "جرير" هو ابن عبد الحميد وإسماعيل هو ابن أبي خالد وقيس هو ابن أبي حازم وعبد الله هو ابن

(9/118)


مسعود. وقد تقدم قبل بباب من وجه آخر عن إسماعيل بلفظ: "عن ابن مسعود" ووقع عند الإسماعيلي من طريق عثمان بن أبي شيبة عن جرير بلفظ: "سمعت عبد الله"، وكذا لمسلم من وجه آخر عن إسماعيل. قوله: "ألا نستخصي" أي ألا نستدعي من يفعل لنا الخصاء أو نعالج ذلك أنفسنا. وقوله: "فنهانا عن ذلك" هو نهى تحريم بلا خلاف في بني آدم، لما تقدم. وفيه أيضا من المفاسد تعذيب النفس والتشويه مع إدخال الضرر الذي قد يفضي إلى الهلاك. وفيه إبطال معنى الرجولية وتغيير خلق الله وكفر النعمة، لأن خلق الشخص رجلا من النعم العظيمة فإذا أزال ذلك فقد تشبه بالمرأة واختار النقص على الكمال. قال القرطبي: الخصاء في غير بني آدم ممنوع في الحيوان إلا لمنفعة حاصلة في ذلك كتطييب اللحم أو قطع ضرر عنه. وقال النووي: يحرم خصاء الحيوان غير المأكول مطلقا، وأما المأكول فيجوز في صغيره دون كبيره. وما أظنه يدفع ما ذكره القرطبي من إباحة ذلك في الحيوان الكبير عند إزالة الضرر. قوله: "ثم رخص لنا" في الرواية السابقة في تفسير المائدة "ثم رخص لنا بعد ذلك". قوله: "أن ننكح المرأة بالثوب" أي إلى أجل في نكاح المتعة. قوله: "ثم قرأ" في رواية مسلم: "ثم قرأ علينا عبد الله" وكذا وقع عند الإسماعيلي في تفسير المائدة. قوله : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ}. الآية" ساق الإسماعيلي إلى قوله: {الْمُعْتَدِينَ} وظاهر استشهاد ابن مسعود بهذه الآية هنا يشعر بأنه كان يرى بجواز المتعة، فقال القرطبي: لعله لم يكن حينئذ بلغه الناسخ، ثم بلغه فرجع بعد. قلت: يؤيده ما ذكره الإسماعيلي أنه وقع في رواية أبي معاوية عن إسماعيل بن أبي خالد "ففعله ثم ترك ذلك" قال: وفي رواية لابن عيينة عن إسماعيل "ثم جاء تحريمها بعد" وفي رواية معمر عن إسماعيل "ثم نسخ" وسيأتي مزيد البحث في حكم المتعة بعد أربعة وعشرين بابا. و قوله: "وقال أصبغ" كذا في جميع الروايات التي وقفت عليها، وكلام أبي نعيم في "المستخرج" يشعر بأنه قال فيه حديثا، وقد وصله جعفر الفريابي في كتاب القدر والجوزقي في "الجمع بين الصحيحين" والإسماعيلي من طرق عن أصبغ، وأخرجه أبو نعيم من طريق حرملة عن ابن وهب، وذكر مغلطاي أنه وقع عند الطبري رواه البخاري عن أصبغ بن محمد وهو غلط، هو أصبغ بن الفرج ليس في آبائه محمد. قوله: "إني رجل شاب وأنا أخاف" في رواية الكشميهني: "وإني أخاف" وكذا في رواية حرملة. قوله: "العنت" بفتح المهملة والنون ثم مثناة هو الزنا هنا، ويطلق الإثم والفجور والأمر الشاق والمكروه. وقال ابن الأنباري: أصل العنت الشدة. قوله: "ولا أجد ما أتزوج النساء، فسكت عني" كذا وقع. وفي رواية حرملة "ولا أجد ما أتزوج النساء، فائذن لي أختصي" وبهذا يرتفع الإشكال عن مطابقة الجواب للسؤال. قوله: "جف القلم بما أنت لاق" أي نفذ المقدور بما كتب في اللوح المحفوظ فبقي القلم الذي كتب به جافا لا مداد فيه لفراغ ما كتب به، قال عياض: كتابة الله ولوحه وقلمه من غيب علمه الذي نؤمن به ونكل علمه إليه. قوله: "فاختص على ذلك أو ذر" في رواية الطبري وحكاها الحميدي في الجمع ووقعت في المصابيح "فاقتصر على ذلك أو ذر" قال الطيبي: معناه اقتصر على الذي أمرتك به أو اتركه وافعل ما ذكرت من الخصاء ا ه. وأما اللفظ الذي وقع في الأصل فمعناه فافعل ما ذكرت أو اتركه واتبع ما أمرتك به، وعلى الروايتين فليس الأمر فيه لطلب الفعل بل هو للتهديد، وهو كقوله تعالى :{وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} والمعنى إن فعلت أو لم تفعل فلا بد من نفوذ القدر، وليس فيه تعرض لحكم الخصاء. ومحصل الجواب أن جميع الأمور بتقدير الله في الأزل، فالخصاء وتركه سواء، فإن الذي

(9/119)


قدر لا بد أن يقع. وقوله: "على ذلك" هي متعلقة بمقدر أي اختص حال استعلائك على العلم بأن كل شيء بقضاء الله وقدره، وليس إذنا في الخصاء، بل فيه إشارة إلى النهى عن ذلك، كأنه قال إذا علمت أن كل شيء بقضاء الله فلا فائدة في الاختصاء، وقد تقدم أنه صلى الله عليه وسلم نهى عثمان بن مظعون لما استأذنه في ذلك. وكانت وفاته قبل هجرة أبي هريرة بمدة. وأخرج الطبراني من حديث ابن عباس قال: "شكا رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العزوبة فقال ألا أختصي؟ قال: ليس منا من خصى أو اختصى" وفي الحديث ذم الاختصاء، وقد تقدم ما فيه وأن القدر إذا نفذ لا تنفع الحيل. وفيه مشروعية شكوى الشخص ما يقع له للكبير ولو كان مما يستهجن ويستقبح. وفيه إشارة إلى أن من لم يجد الصداق لا يتعرض للتزويج. وفيه جواز تكرار الشكوى إلى ثلاث، والجواب لمن لا يقنع بالسكوت، وجواز السكوت عن الجواب لمن يظن به أنه يفهم المراد من مجرد السكوت. وفيه استحباب أن يقدم طالب الحاجة بين يدي حاجته عذره في السؤال. وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة نفع الله به: ويؤخذ منه أن مهما أمكن المكلف فعل شيء من الأسباب المشروعة لا يتوكل إلا بعد عملها لئلا يخالف الحكمة، فإذا لم يقدر عليه وطن نفسه على الرضا بما قدره عليه مولاه ولا يتكلف من الأسباب ما لا طاقة به له. وفيه أن الأسباب إذا لم تصادف القدر لا تجدي. فإن قيل: لم لم يؤمر أبو هريرة بالصيام لكسر شهوته كما أمر غيره؟ فالجواب أن أبا هريرة كان الغالب من حاله ملازمة الصيام لأنه كان من أهل الصفة. قلت: ويحتمل أن يكون أبو هريرة سمع "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج" الحديث، لكنه إنما سأل عن ذلك في حال الغزو كما وقع لابن مسعود، وكانوا في حال الغزو يؤثرون الفطر على الصيام للتقوى على القتال، فأداه اجتهاده إلى حسم مادة الشهوة بالاختصاء كما ظهر لعثمان فمنعه صلى الله عليه وسلم من ذلك. وإنما لم يرشده إلى المتعة التي رخص فيها لغيره لأنه ذكر أنه لا يجد شيئا، ومن لم يجد شيئا أصلا لا ثوبا ولا غيره فكيف يستمتع والتي يستمتع بها لا بد لها من شيء.

(9/120)


10 - باب نِكَاحِ الأَبْكَارِ
وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِعَائِشَةَ لَمْ يَنْكِحْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكْرًا غَيْرَكِ
5077- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي أَخِي عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ لَوْ نَزَلْتَ وَادِيًا وَفِيهِ شَجَرَةٌ قَدْ أُكِلَ مِنْهَا وَوَجَدْتَ شَجَرًا لَمْ يُؤْكَلْ مِنْهَا فِي أَيِّهَا كُنْتَ تُرْتِعُ بَعِيرَكَ قَالَ فِي الَّذِي لَمْ يُرْتَعْ مِنْهَا تَعْنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَتَزَوَّجْ بِكْرًا غَيْرَهَا"
5078- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أُرِيتُكِ فِي الْمَنَامِ مَرَّتَيْنِ إِذَا رَجُلٌ يَحْمِلُكِ فِي سَرَقَةِ حَرِيرٍ فَيَقُولُ هَذِهِ امْرَأَتُكَ فَأَكْشِفُهَا فَإِذَا هِيَ أَنْتِ فَأَقُولُ إِنْ يَكُنْ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يُمْضِهِ"
قوله: "باب نكاح الأبكار" جمع بكر، وهي التي لم توطأ واستمرت على حالتها الأولى. قوله: "وقال ابن أبي

(9/120)


مليكة قال ابن عباس لعائشة: لم ينكح النبي صلى الله عليه وسلم بكرا غيرك" هذا طرف من حديث وصله المصنف في تفسير سورة النور. وقد تقدم الكلام عليه هناك. قوله: "حدثني أخي" هو عبد الحميد، وسليمان هو ابن بلال. قوله: "فيه شجرة قد أكل منها، ووجدت شجرا لم يؤكل منها" كذا لأبي ذر، ولغيره: "ووجدت شجرة" وذكره الحميدي بلفظ: "فيه شجرة قد أكل منها" وكذا أخرجه أبو نعيم في "المستخرج" بصيغة الجمع وهو أصوب لقوله بعد "في أيها" أي في أي الشجر، ولو أراد الموضعين لقال في أيهما. قوله: "ترتع" بضم أوله، أرتع بعيره إذا تركه يرعى ما شاء ورتع البعير في المرعى إذا أكل ما شاء ورتعه الله أي أنبت له ما يرعاه على سعة. قوله: "قال في التي لم يرتع منها" في رواية أبي نعيم "قال في الشجرة التي" وهو أوضح. وقوله: "يعني إلخ" زاد أبو نعيم قبل هذا "قالت فأنا هيه" بكسر الهاء وفتح التحتانية فسكون الهاء وهي للسكت، وفي هذا الحديث مشروعية ضرب المثل وتشبيه شيء موصوف بصفة بمثله مسلوب الصفة، وفيه بلاغة عائشة وحسن تأتيها في الأمور، ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: "في التي لم يرتع منها" أي أوثر ذلك في الاختيار على غيره، فلا يرد على ذلك كون الواقع منه أن الذي تزوج من الثيبات أكثر، ويحتمل أن تكون عائشة كنت بذلك عن المحبة بل عن أدق من ذلك. ذكر المصنف حديث عائشة "أريتك في المنام" سيأتي شرحه بعد ستة وعشرين بابا، ووقع في رواية الترمذي أن الملك الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بصورتها جبريل

(9/121)


11- باب تَزْوِيجِ الثَّيِّبَاتِ وَقَالَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ قَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ تَعْرِضْنَ عَلَيَّ بَنَاتِكُنَّ وَلاَ أَخَوَاتِكُنَّ
5079- حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ حَدَّثَنَا سَيَّارٌ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَفَلْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَزْوَةٍ فَتَعَجَّلْتُ عَلَى بَعِيرٍ لِي قَطُوفٍ فَلَحِقَنِي رَاكِبٌ مِنْ خَلْفِي فَنَخَسَ بَعِيرِي بِعَنَزَةٍ كَانَتْ مَعَهُ فَانْطَلَقَ بَعِيرِي كَأَجْوَدِ مَا أَنْتَ رَاءٍ مِنْ الإِبِلِ فَإِذَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مَا يُعْجِلُكَ قُلْتُ كُنْتُ حَدِيثَ عَهْدٍ بِعُرُسٍ قَالَ أَبِكْرًا أَمْ ثَيِّبًا قُلْتُ ثَيِّبًا قَالَ فَهَلاَ جَارِيَةً تُلاَعِبُهَا وَتُلاَعِبُكَ قَالَ فَلَمَّا ذَهَبْنَا لِنَدْخُلَ قَالَ أَمْهِلُوا حَتَّى تَدْخُلُوا لَيْلًا أَيْ عِشَاءً لِكَيْ تَمْتَشِطَ الشَّعِثَةُ وَتَسْتَحِدَّ الْمُغِيبَةُ"
5080- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا مُحَارِبٌ قَالَ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ تَزَوَّجْتُ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا تَزَوَّجْتَ فَقُلْتُ تَزَوَّجْتُ ثَيِّبًا فَقَالَ مَا لَكَ وَلِلْعَذَارَى وَلِعَابِهَا فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ فَقَالَ عَمْرٌو سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلاَ جَارِيَةً تُلاَعِبُهَا وَتُلاَعِبُكَ"
قوله: "باب تزويج الثيبات" جمع ثيبة بمثلثة ثم تحتانية ثقيلة مكسورة ثم موحدة، ضد البكر. قوله: "وقالت أم حبيبة قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: لا تعرضن على بناتكن ولا أخواتكن" هذا طرف من حديث سيأتي موصولا بعد عشرة أبواب، واستنبط المصنف الترجمة من قوله: "بناتكن" لأنه خاطب بذلك نساءه فاقتضى أن لهن بنات من غيره  فيستلزم أنهن ثيبات كما هو الأكثر الغالب. ذكر المصنف حديث جابر في قصة بعيره، وقد تقدم شرحه في الشروط فيما يتعلق بذلك. قوله: "ما يعجلك" بضم أوله، أي ما سبب إسراعك؟ قوله: "كنت حديث عهد بعرس" أي قريب عهد بالدخول على الزوجة. وفي رواية عطاء عن جابر في الوكالة "فلما دنونا من المدينة - على ساكنها أفضل الصلاة والسلام والتحية والإكرام - أخذت أرتحل، قال: أين تريد؟ قلت: تزوجت" وفي رواية أبي عقيل عن أبي المتوكل عن جابر "من أحب أن يتعجل إلى أهله فليتعجل" أخرجه مسلم. قوله: "قال أبكرا ثيبا؟ قلت: ثيبا" هو منصوب بفعل محذوف تقديره أتزوجت وتزوجت، وكذا وقع في ثاني حديث الباب: "فقلت تزوجت ثيبا" في رواية الكشميهني في الوكالة من طريق وهب بن كيسان عن جابر قال أتزوجت؟ قلت: نعم. قال بكرا أم ثيبا؟ قلت ثيبا. وفي المغازي عن قتيبة عن سفيان عن عمرو بن دينار عن جابر بلفظ: "هل نكحت يا جابر؟ قلت نعم قال: ماذا، أبكرا أم ثيبا؟ قلت: لا بل ثيبا" ووقع عند أحمد عن سفيان في هذا الحديث: "قلت: ثيب" وهو خبر مبتدأ محذوف تقديره التي تزوجتها ثيب، وكذا وقع لمسلم من طريق عطاء عن جابر. قوله: "فهلا جارية" في رواية وهب بن كيسان "أفلا جارية" وهما بالنصب أي فهلا تزوجت؟ وفي رواية يعقوب الدورقي عن هشام بإسناد حديث الباب: "هلا بكرا" ؟ وسيأتي قبيل أبواب الطلاق، وكذا لمسلم من طريق عطاء عن جابر، وهو معنى رواية محارب المذكورة في الباب بلفظ: "العذارى" وهو جمع عذراء بالمد. قوله: "تلاعبها وتلاعبك" زاد في رواية النفقات "وتضاحكها وتضاحكك" وهو مما يؤيد أنه من اللعب ووقع عند الطبراني من حديث كعب بن عجرة "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل" فذكر نحو حديث جابر وقال فيه: "وتعضها وتعضك" ووقع في رواية لأبي عبيدة "تداعبها وتداعبك" بالذال المعجمة بدل اللام، وأما ما وقع في رواية محارب بن دثار عن جابر ثاني حديثي الباب بلفظ: "مالك وللعذارى ولعابها" فقد ضبطه الأكثر بكسر اللام وهو مصدر من الملاعبة أيضا، يقال لاعب لعابا وملاعبة مثل قاتل قتالا ومقاتلة. ووقع في رواية المستملي بضم اللام والمراد به الريق، وفيه إشارة إلى مص لسانها ورشف شفتيها، وذلك يقع عند الملاعبة والتقبيل، وليس هو ببعيد كما قال القرطبي، ويؤيد أنه بمعنى آخر غير المعنى الأول قول شعبة في الباب أنه عرض ذلك على عمرو بن دينار فقال اللفظ الموافق للجماعة وفي رواية مسلم التلويح بإنكار عمرو رواية محارب بهذا اللفظ ولفظ: "إنما قال جابر تلاعبها وتلاعبك" فلو كانت الروايتان متحدتين في المعنى لما أنكر عمرو ذلك لأنه كان ممن يجيز الرواية بالمعنى، ووقع في رواية وهب بن كيسان من الزيادة "قلت كن لي أخوات فأحببت أن أتزوج امرأة تجمعهن وتمشطهن وتقوم عليهن" أي في غير ذلك من مصالحهن، وهو من العام بعد الخاص. وفي رواية عمرو عن جابر الآتية في النفقات "هلك أبي وترك سبع بنات - أو تسع بنات - فتزوجت ثيبا، كرهت أن أجيئهن بمثلهن. فقال: بارك الله لك" أو "قال خيرا" وفي رواية سفيان عن عمرو في المغازي "وترك تسع بنات كن لي تسع أخوات، فكرهت أن أجمع إليهن جارية خرقاء مثلهن، ولكن امرأة تقوم عليهن وتمشطهن. قال: أصبت" وفي رواية ابن جريج عن عطاء وغيره عن جابر "فأردت أن أنكح امرأة قد جربت خلا منها، قال فذلك" وقد تقدم التوفيق بين مختلف الروايات في عدد أخوات جابر في المغازي، ولم أقف على تسميتهن. وأما امرأة جابر المذكورة فاسمها سهلة بنت مسعود بن أوس بن مالك الأنصارية الأوسية ذكره ابن سعد. قوله: "فلما ذهبنا لندخل قال: امهلوا حتى تدخلوا ليلا أي عشاء" كذا هنا، ويعارضه الحديث الآخر الآتي

(9/122)


قبل أبواب الطلاق "لا يطرق أحدكم أهله ليلا" وهو من طريق الشعبي عن جابر أيضا، ويجمع بينهما أن الذي في الباب لمن علم مجيئه والعلم بوصوله، والآتي لمن قدم بغتة. ويؤيده قوله في الطريق الأخرى "يتخونهم بذلك" وسيأتي مزيد بحث فيه هناك. وفي الحديث الحث على نكاح البكر، وقد ورد بأصرح من ذلك عند ابن ماجه من طريق عبد الرحمن بن سالم بن عتبة بن عويم بن ساعدة عن أبيه عن جده بلفظ: "عليكم بالأبكار، فإنهن أعذب أفواها وأنتق أرحاما" أي أكثر حركة، والنتق بنون ومثناة الحركة، ويقال أيضا للرمي، فلعله يريد أنها كثيرة الأولاد. وأخرج الطبراني من حديث ابن مسعود نحوه وزاد: "وأرضى باليسير" ولا يعارضه الحديث السابق، "عليكم بالولود" من جهة أن كونها بكرا لا يعرف به كونها كثيرة الولادة، فإن الجواب عن ذلك أن البكر مظنة فيكون المراد بالولود من هي كثيرة الولادة بالتجربة أو بالمظنة، وأما من جربت فظهرت عقيما وكذا الآيسة فالخبران متفقان على مرجوحيتهما. وفيه فضيلة لجابر لشفقته على أخواته وإيثاره مصلحتهن على حظ نفسه. ويؤخذ منه أنه إذا تزاحمت مصلحتان قدم أهمهما لأن النبي صلى الله عليه وسلم صوب فعل جابر ودعا له لأجل ذلك. ويؤخذ منه الدعاء لمن فعل خيرا وإن لم يتعلق بالداعي. وفيه سؤال الإمام أصحابه عن أمورهم، وتفقده أحوالهم، وإرشاده إلى مصالحهم وتنبيههم على وجه المصلحة ولو كان في باب النكاح وفيما يستحيا من ذكره. وفيه مشروعية خدمة المرأة زوجها ومن كان منه بسبيل من ولد وأخ وعائلة، وأنه لا حرج على الرجل في قصده ذلك من امرأته وإن كان ذلك لا يجب عليها، لكن يؤخذ منه أن العادة جارية بذلك، فلذلك لم ينكره النبي صلى الله عليه وسلم. وقوله في الرواية المتقدمة "خرقاء" بفتح الخاء المعجمة وسكون الراء بعدها قاف، هي التي لا تعمل بيدها شيئا، وهي تأنيث الأخرق وهو الجاهل بمصلحة نفسه وغيره. قوله: "تمتشط الشعثة" بفتح المعجمة وكسر العين المهملة ثم مثلثة، أطلق عليها ذلك لأن التي يغيب زوجها في مظنة عدم التزين. قوله: "تستحد" بحاء مهملة أي تستعمل الحديدة وهي الموسى. والمغيبة بضم الميم وكسر المعجمة بعدها تحتانية ساكنة ثم موحدة مفتوحة أي التي غاب عنها زوجها، والمراد إزالة الشعر عنها وعبر بالاستحداد لأنه الغالب استعماله في إزالة الشعر، وليس في ذلك منع إزالته بغير الموسى، والله أعلم. قوله: "تزوجت، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تزوجت" ؟ هذا ظاهره أن السؤال وقع عقب تزوجه، وليس كذلك لما دل عليه سياق الحديث الذي قبله، وقد تقدم في الكلام على حديث جمل جابر في كتاب الشروط في آخره أن بين تزوجه والسؤال الذي دار بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم وفي ذلك مدة طويلة

(9/123)


12 - باب تَزْوِيجِ الصِّغَارِ مِنْ الْكِبَارِ
5081- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يَزِيدَ عَنْ عِرَاكٍ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ عَائِشَةَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ إِنَّمَا أَنَا أَخُوكَ فَقَالَ أَنْتَ أَخِي فِي دِينِ اللَّهِ وَكِتَابِهِ وَهِيَ لِي حَلاَلٌ"
قوله: "باب تزويج الصغار من الكبار" أي السن. قوله: "عن يزيد" هو ابن أبي حبيب، وعراك بكسر المهملة وتخفيف الراء ثم كاف هو ابن مالك تابعي شهير، وعروة هو ابن الزبير. قوله: "أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب

(9/123)


عائشة" قال الإسماعيلي: ليس في الرواية ما ترجم به الباب، وصغر عائشة عن كبر رسول الله صلى الله عليه وسلم معلوم من غير هذا الخبر، ثم الخبر الذي أورده مرسل، فإن كان يدخل مثل هذا في الصحيح فيلزمه في غيره من المراسيل. قلت: الجواب عن الأول يمكن أن يؤخذ من قول أبي بكر "إنما أنا أخوك" فإن الغالب في بنت الأخ أن تكون أصغر من عمها، وأيضا فيكفي ما ذكر في مطابقة الحديث للترجمة ولو كان معلوما من خارج. وعن الثاني أنه وإن كان صورة سياقه الإرسال فهو من رواية عروة في قصة وقعت لخالته عائشة وجده لأمه أبي بكر، فالظاهر أنه حمل ذلك عن خالته عائشة أو عن أمه أسماء بنت أبي بكر، وقد قال ابن عبد البر: إذا علم لقاء الراوي لمن أخبر عنه ولم يكن مدلسا حمل ذلك على سماعه ممن أخبر عنه ولو لم يأت بصيغة تدل على ذلك، ومن أمثلة ذلك رواية مالك عن ابن شهاب عن عروة في قصة سالم مولى أبي حذيفة، قال ابن عبد البر: هذا يدخل في المسند للقاء عروة عائشة وغيرها من نساء النبي صلى الله عليه وسلم وللقائه سهلة زوج أبي حذيفة أيضا. وأما الإلزام فالجواب عنه أن القصة المذكورة لا تشتمل على حكم متأصل، فوقع فيها التساهل في صريح الاتصال، فلا يلزم من ذلك إيراد جميع المراسيل في الكتاب الصحيح. نعم الجمهور على أن السياق المذكور مرسل، وقد صرح بذلك الدار قطني وأبو مسعود وأبو نعيم والحميدي. وقال ابن بطال. يجوز تزويج الصغيرة بالكبير إجماعا ولو كانت في المهد، لكن لا يمكن منها حتى تصلح للوطء، فرمز بهذا إلى أن لا فائدة للترجمة لأنه أمر مجمع عليه. قال: ويؤخذ من الحديث أن الأب يزوج البكر الصغيرة بغير استئذانها. قلت: كأنه أخذ ذلك من عدم ذكره، وليس بواضح الدلالة، بل يحتمل أن يكون ذلك قبل ورود الأمر باستئذان البكر وهو الظاهر، فإن القصة وقعت بمكة قبل الهجرة. وقول أبي بكر "إنما أنا أخوك" حصر مخصوص بالنسبة إلى تحريم نكاح بنت الأخ، وقوله صلى الله عليه وسلم في الجواب "أنت أخي في دين الله وكتابه" إشارة إلى قوله تعالى :{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} ونحو ذلك، وقوله: "وهي لي حلال" معناه وهي مع كونها بنت أخي يحل لي نكاحها لأن الأخوة المانعة من ذلك أخوة النسب والرضاع لا أخوة الدين. وقال مغلطاي: في صحة هذا الحديث نظر، لأن الخلة لأبي بكر إنما كانت بالمدينة، وخطبة عائشة كانت بمكة، فكيف يلتئم قوله: "إنما أنا أخوك". وأيضا فالنبي صلى الله عليه وسلم ما باشر الخطبة بنفسه كما أخرجه ابن أبي عاصم من طريق يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عن عائشة "أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل خولة بنت حكيم إلى أبي بكر يخطب عائشة، فقال لها أبو بكر: وهل تصلح له؟ إنما هي بنت أخيه، فرجعت فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال لها: أرجعي فقولي له أنت أخي في الإسلام وابنتك تصلح لي، فأتيت أبا بكر فذكرت ذلك له فقال: ادعى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء فأنكحه" قلت: اعتراضه الثاني يرد الاعتراض الأول من وجهين، إذ المذكور في الحديث الأخوة وهي أخوة الدين، والذي اعترض به الخلة وهي أخص من الأخوة. ثم الذي وقع بالمدينة إنما هو قوله صلى الله عليه وسلم: "لو كنت متخذا خليلا" الحديث الماضي في المناقب من رواية أبي سعيد، فليس فيه إثبات الخلة إلا بالقوة لا بالفعل. الوجه الثاني أن في الثاني إثبات ما نفاه في الأول، والجواب عن اعتراضه بالمباشرة إمكان الجمع بأنه خاطب بذلك بعد أن راسله

(9/124)


13- باب إِلَى مَنْ يَنْكِحُ وَأَيُّ النِّسَاءِ خَيْرٌ؟
وَمَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَخَيَّرَ لِنُطَفِهِ مِنْ غَيْرِ إِيجَابٍ

(9/124)


5082- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "خَيْرُ نِسَاءٍ رَكِبْنَ الإِبِلَ صَالِحُ نِسَاءِ قُرَيْشٍ أَحْنَاهُ عَلَى وَلَدٍ فِي صِغَرِهِ وَأَرْعَاهُ عَلَى زَوْجٍ فِي ذَاتِ يَدِهِ"
قوله: "باب إلى من ينكح، وأي النساء خير؟ وما يستحب أن يتخير لنطفه من غير إيجاب" اشتملت الترجمة على ثلاثة أحكام، وتناول الأول والثاني من حديث الباب واضح، وأن الذي يريد التزويج ينبغي أن ينكح إلى قريش لأن نساءهن خير النساء وهو الحكم الثاني، وأما الثالث فيؤخذ منه بطريق اللزوم لأن من ثبت أنهن خير من غيرهن استحب تخيرهن للأولاد، وقد ورد في الحكم الثالث حديث صريح أخرجه ابن ماجة وصححه الحاكم من حديث عائشة مرفوعا: "تخيروا لنطفكم وانكحوا الأكفاء" وأخرجه أبو نعيم من حديث عمر أيضا وفي إسناده مقال، ويقوى أحد الإسنادين بالآخر. قوله: "خير نساء ركبن الإبل" تقدم في أواخر أحاديث الأنبياء في ذكر مريم عليها السلام قول أبي هريرة في آخره: "ولم تركب مريم بنت عمران بعيرا قط" فكأنه أراد إخراج مريم من هذا التفضيل لأنها لم تركب بعيرا قط، فلا يكون فيه تفضيل نساء قريش عليها، ولا يشك أن لمريم فضلا وأنها أفضل من جميع نساء قريش إن ثبت أنها نبية أو من أكثرهن إن لم تكن نبية، وقد تقدم بيان ذلك في المناقب في حديث: "خير نسائها مريم وخير نسائها خديجة" وأن معناها أن كل واحدة منهما خير نساء الأرض في عصرها، ويحتمل أن لا يحتاج في إخراج مريم من هذا التفضيل إلى الاستنباط من قوله: "ركبن الإبل" لأن تفضيل الجملة لا يستلزم ثبوت كل فرد فرد منها، فإن قوله: "ركبن الإبل" إشارة إلى العرب لأنهم الذين يكثر منهم ركوب الإبل، وقد عرف أن العرب خير من غيرهم مطلقا في الجملة فيستفاد منه تفضيلهن مطلقا على نساء غيرهن مطلقا، ويمكن أن يقال أيضا: إن الظاهر أن الحديث سيق في معرض الترغيب في نكاح القرشيات، فليس فيه التعرض لمريم ولا لغيرها ممن انقضى زمنهن. قوله: "صالح نساء قريش" كذا للأكثر بالإفراد. وفي رواية غير الكشميهني: "صلح" بضم أوله وتشديد اللام بصيغة الجمع، وسيأتي في أواخر النفقات من وجه آخر عن أبي هريرة بلفظ: "نساء قريش" والمطلق محمول على المقيد. فالمحكوم له بالخيرية الصالحات من نساء قريش لا على العموم، والمراد بالصلاح هنا صلاح الدين، وحسن المخالطة مع الزوج ونحو ذلك. قوله: "أحناه" بسكون المهملة بعدها نون: أكثره شفقة، والحانية على ولدها هي التي تقوم عليهم في حال يتمهم فلا تتزوج، فإن تزوجت فليست بحانية قاله الهروي؛ وجاء الضمير مذكرا وكان القياس أحناهن، وكأنه ذكر باعتبار اللفظ والجنس أو الشخص أو الإنسان، وجاء نحو ذلك في حديث أنس "كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وجها وأحسنه خلقا، بالإفراد في الثاني وحديث ابن عباس في قول أبي سفيان عندي أحسن العرب وأجمله أم حبيبة بالإفراد في الثاني أيضا، قال أبو حاتم السجستاني: لا يكادون يتكلمون به إلا مفردا. قوله: "على ولده" في رواية الكشميهني: "على ولد" بلا ضمير وهو أوجه، ووقع في رواية لمسلم: "على يتيم" وفي أخرى "على طفل" والتقييد باليتم والصغر يحتمل أن يكون معتبرا من ذكر بعض أفراد العموم، لأن صفة الحنو على الولد ثابتة لها، لكن ذكرت الحالتان لكونهما أظهر في ذلك قوله: "وأرعاه على زوج" أي أحفظ وأصون لماله بالأمانة فيه والصيانة له وترك التبذير في الإنفاق. قوله: "في

(9/125)


ذات يده" أي في ماله المضاف إليه، ومنه قولهم فلان قليل ذات اليد أي قليل المال، وفي الحديث الحث على النكاح الأشراف خصوصا القرشيات، ومقتضاه أنه كلما كان نسبها أعلى تأكد الاستحباب. ويؤخذ منه اعتبار الكفاءة في النسب، وأن غير القرشيات ليس كفأ لهن، وفضل الحنو والشفقة وحسن التربية والقيام على الأولاد وحفظ مال الزوج وحسن التدبير فيه. ويؤخذ منه مشروعية إنفاق الزوج على زوجته، وسيأتي في أواخر النفقات بيان سبب هذا الحديث.

(9/126)


باب اتخاذ السراري ومن أعتق جارية ثم تزوجها
...
14- باب اتِّخَاذِ السَّرَارِيِّ وَمَنْ أَعْتَقَ جَارِيَتَهُ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا
5083- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا صَالِحُ بْنُ صَالِحٍ الْهَمْدَانِيُّ حَدَّثَنَا الشَّعْبِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَيُّمَا رَجُلٍ كَانَتْ عِنْدَهُ وَلِيدَةٌ فَعَلَّمَهَا فَأَحْسَنَ تَعْلِيمَهَا وَأَدَّبَهَا فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهَا ثُمَّ أَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا فَلَهُ أَجْرَانِ وَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمَنَ بِنَبِيِّهِ وَآمَنَ بِي فَلَهُ أَجْرَانِ وَأَيُّمَا مَمْلُوكٍ أَدَّى حَقَّ مَوَالِيهِ وَحَقَّ رَبِّهِ فَلَهُ أَجْرَانِ قَالَ الشَّعْبِيُّ خُذْهَا بِغَيْرِ شَيْءٍ قَدْ كَانَ الرَّجُلُ يَرْحَلُ فِيمَا دُونَهَا إِلَى الْمَدِينَةِ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ أَبِي حَصِينٍ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْتَقَهَا ثُمَّ أَصْدَقَهَا"
5084- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ تَلِيدٍ قَالَ أَخْبَرَنِي ابْنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم:" ح حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ إِلاَّ ثَلاَثَ كَذَبَاتٍ بَيْنَمَا إِبْرَاهِيمُ مَرَّ بِجَبَّارٍ وَمَعَهُ سَارَةُ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ فَأَعْطَاهَا هَاجَرَ قَالَتْ كَفَّ اللَّهُ يَدَ الْكَافِرِ وَأَخْدَمَنِي هآجَرَ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَتِلْكَ أُمُّكُمْ يَا بَنِي مَاءِ السَّمَاءِ"
5085- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ أَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ خَيْبَرَ وَالْمَدِينَةِ ثَلاَثًا يُبْنَى عَلَيْهِ بِصَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ فَدَعَوْتُ الْمُسْلِمِينَ إِلَى وَلِيمَتِهِ فَمَا كَانَ فِيهَا مِنْ خُبْزٍ وَلاَ لَحْمٍ أُمِرَ بِالأَنْطَاعِ فَأَلْقَى فِيهَا مِنْ التَّمْرِ وَالأَقِطِ وَالسَّمْنِ فَكَانَتْ وَلِيمَتَهُ فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ أَوْ مِمَّا مَلَكَتْ يَمِينُهُ فَقَالُوا إِنْ حَجَبَهَا فَهِيَ مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ وَإِنْ لَمْ يَحْجُبْهَا فَهِيَ مِمَّا مَلَكَتْ يَمِينُهُ فَلَمَّا ارْتَحَلَ وَطَّى لَهَا خَلْفَهُ وَمَدَّ الْحِجَابَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّاسِ"
قوله: "باب اتخاذ السراري" جمع سرية بضم السين وكسر الراء الثقيلة ثم تحتانية ثقيلة وقد تكسر السين أيضا سميت بذلك لأنها مشتقة من التسرر، وأصله من السر وهو من أسماء الجماع، ويقال له الاستسرار أيضا، أو أطلق عليها ذلك لأنها في الغالب يكتم أمرها عن الزوجة. والمراد بالاتخاذ الاقتناء، وقد ورد الأمر بذلك صريحا

(9/126)


في حديث أبي الدرداء مرفوعا: "عليكم بالسراري فإنهن مباركات الأرحام" أخرجه الطبراني وإسناده واه ولأحمد من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعا: "انكحوا أمهات الأولاد فإني أباهي بكم يوم القيامة" وإسناده أصلح من الأول. لكنه ليس بصريح في التسري. قوله: "ومن أعتق جارية ثم تزوجها" عطف هذا الحكم على الاقتناء لأنه قد يقع بعد التسري وقبله، وأول أحاديث الباب منطبق على هذا الشق الثاني. ثم ذكر في الباب ثلاثة أحاديث. حديث أبي موسى، قد تقدم شرحه في كتاب العلم. وقوله في هذه الطريق "أيما رجل كانت عنده وليدة" أي أمة، وأصلها ما ولد من الإماء في ملك الرجل، ثم أطلق ذلك على كل أمة. قوله: "فله أجران" ذكر ممن يحصل لهم تضعيف الأجر مرتين ثلاثة أصناف: متزوج الأمة بعد عتقها، ومؤمن أهل الكتاب وقد تقدم البحث فيه في كتاب العلم، والمملوك الذي يؤدي حق الله وحق مواليه وقد تقدم في العتق. ووقع في حديث أبي أمامة رفعه عند الطبراني "أربعة يؤتون أجرهم مرتين" فذكر الثلاثة كالذي هنا وزاد أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وتقدم في التفسير حديث الماهر بالقرآن، والذي يقرأ وهو عليه شاق، وحديث زينب امرأة ابن مسعود في التي تتصدق على قريبها لها أجران أجر الصدقة وأجر الصلة، وقد تقدم في الزكاة. وحديث عمرو بن العاص في الحاكم إذا أصاب له أجران وسيأتي في الأحكام؛ وحديث جرير "من سن سنة حسنة" وحديث أبي هريرة "من دعا إلى هدى" وحديث أبي مسعود "من دل على خير" والثلاثة بمعنى وهن في الصحيحين. ومن ذلك حديث أبي سعيد في الذي تيمم ثم وجد الماء فأعاد الصلاة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "لك الأجر مرتين" أخرجه أبو داود. وقد يحصل بمزيد التتبع أكثر من ذلك. وكل هذا دال على أن لا مفهوم للعدد المذكور في حديث أبي موسى. وفيه دليل على مزيد فضل من أعتق أمته ثم تزوجها سواء أعتقها ابتداء لله أو لسبب. وقد بالغ قوم فكرهوه فكأنهم لم يبلغهم الخبر، فمن ذلك ما وقع في رواية هشيم عن صالح بن صالح الراوي المذكور وفيه قال: "رأيت رجلا من أهل خراسان سأل الشعبي فقال: إن من قبلنا من أهل خراسان يقولون في الرجل إذا أعتق أمته ثم تزوجها فهو كالراكب بدنته. فقال الشعبي" فذكر هذا الحديث. وأخرج الطبراني بإسناد رجاله ثقات عن ابن مسعود أنه كان يقول ذلك. وأخرج سعيد بن منصور عن ابن عمر مثله: وعند ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن أنس أنه سئل عنه فقال: "إذا أعتق أمته لله فلا يعود فيها" ومن طريق سعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي أنهما كرها ذلك. وأخرج أيضا من طريق عطاء والحسن أنهما كانا لا يريان بذلك بأسا. قوله: "وقال أبو بكر" هو ابن عياش بتحتانية وآخره معجمة، وأبو حصين هو عثمان بن عاصم "عن أبي بردة" هو ابن أبي موسى. وهذا الإسناد مسلسل بالكوفيين وبالكنى. قوله: "عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أعتقها ثم أصدقها" كأنه أشار بهذه الرواية إلى أن المراد بالتزويج في الرواية الأخرى أن يقع بمهر جديد سوى العتق، لا كما وقع في قصة صفية كما سيأتي في الباب الذي بعده، فأفادت هذه الطريق ثبوت الصداق، فإنه لم يقع التصريح به في الطريق الأولى بل ظاهرها أن يكون العتق نفس المهر. وقد وصل طريق أبي بكر بن عياش هذه أبو داود الطيالسي في مسنده عنه فقال: "حدثنا أبو بكر الخياط" فذكره بإسناده بلفظ: "إذا أعتق الرجل أمته ثم أمهرها مهرا جديدا كان له أجران، وكأن أبا بكر كان يتعانى الخياطة في وقت، وهو أحد الحفاظ المشهورين في الحديث، والقراء المذكورين في القراءة، وأحد الرواة عن عاصم وله اختيار. وقد احتج به البخاري ووصله من طريقه أيضا الحسن بن سفيان وأبو بكر البزار في مسنديهما عنه، وأخرجه الإسماعيلي عن الحسن

(9/127)


ولفظه عنده "ثم تزوجها بمهر جديد" وكذا أخرجه يحيى بن عبد الحميد الحماني في مسنده عن أبي بكر بهذا اللفظ، ولم يقع لابن حزم إلا من رواية الحماني فضعف هذه الزيادة به ولم يصب. وذكر أبو نعيم أن أبا بكر تفرد بها عن أبي حصين، وذكر الإسماعيلي أن فيه اضطرابا على أبي بكر بن عياش، كأنه عنى في سياق المتن لا في الإسناد، وليس ذلك الاختلاف اضطرابا لأنه يرجع إلى معنى واحد وهو ذكر المهر، واستدل به على أن عتق الأمة لا يكون نفس الصداق، ولا دلالة فيه، بل هو شرط لما يترتب عليه الأجران المذكوران، وليس قيدا في الجواز. "تنبيه": وقع في رواية أبي زيد المروزي "عن أبي بردة عن أبيه عن أبي موسى" والصواب ما عند الجماعة "عن أبيه أبي موسى" بحذف عن التي قبل أبي موسى. قوله: "حدثنا سعد بن تليد" بفتح المثناة وكسر اللام الخفيفة وسكون التحتانية بعدها مهملة، مصري مشهور، وكذا شيخه، وبقية الإسناد إلى أبي هريرة من أهل البصرة، ومحمد هو ابن سيرين. وقوله في الرواية الثانية "عن أيوب عن محمد" كذا للأكثر، ووقع لأبي ذر بدله "عن مجاهد" وهو خطأ، وقد تقدم في أحاديث الأنبياء "عن محمد بن محبوب عن حماد بن زيد" على الصواب لكنه ساقه هناك موقوفا، واختلف هنا الرواة: فوقع في رواية كريمة والنسفي موقوفا أيضا، ولغيرهما مرفوعا، وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق سليمان بن حرب شيخ البخاري فيه موقوفا، وكذا ذكر أبو نعيم أنه وقع هنا للبخاري موقوفا، وبذلك جزم الحميدي، وأظنه الصواب في رواية حماد عن أيوب، وأن ذلك هو السر في إيراد رواية جرير بن حازم مع كونها نازلة، ولكن الحديث في الأصل ثابت الرفع، لكن ابن سيرين كان يقف كثيرا من حديثه تخفيفا. وأغرب المزي فعزا رواية حماد هذه هنا إلى رواية ابن رميح عن الفربري، وغفل عن ثبوتها في رواية أبي ذر والأصيلي وغيرهما من الرواة من طريق الفربري حتى في رواية أبي الوقت، وهي ثابتة أيضا في رواية النسفي. فما أدرى ما وجه تخصيص ذلك برواية ابن رميح. قوله: "لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات الحديث "ساقه مختصرا هنا، وقد تقدم شرحه مستوفى في ترجمة إبراهيم من أحاديث الأنبياء، قال ابن المنير: مطابقة حديث هاجر للترجمة أنها كانت مملوكة، وقد صح أن إبراهيم أولدها بعد أن ملكها فهي سرية. قلت: إن أراد أن ذلك وقع صريحا في الصحيح فليس بصحيح، وإنما الذي في الصحيح أن سارة ملكتها وأن إبراهيم أولدها إسماعيل، وكونه ما كان بالذي يستولد أمة امرأته إلا بملك مأخوذ من خارج الحديث غير الذي في الصحيح، وقد ساقه أبو يعلي في مسنده من طريق هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة في هذا الحديث قال في آخره: "فاستوهبها إبراهيم من سارة، فوهبتها له" ووقع في حديث حارثة بن مضرب عن علي عند الفاكهي "إن إبراهيم استوهب هاجر من سارة فوهبتها له وشرطت عليه أن لا يسرها فالتزم ذلك، ثم غارت منها فكان ذلك السبب في تحويلها مع ابنها إلى مكة" وقد تقدم شيء من ذلك في أحاديث الأنبياء. حديث أنس قال: "أقام النبي صلى الله عليه وسلم بين خيبر والمدينة ثلاثا" الحديث، وفيه "فقال المسلمون إحدى أمهات المؤمنين، أو مما ملكت يمينه" ووقع في رواية حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس عند مسلم: "فقال الناس: لا ندري أتزوجها أم اتخذها أم ولد" وشاهد الترجمة منه تردد الصحابة في صفية هل هي زوجة أو سرية فيطابق أحد ركني الترجمة، قال بعض الشراح: دل تردد الصحابة في صفية هل هي زوجة أو سرية على أن عتقها لم يكن نفس الصداق، كذا قال: وهو متعقب بأن التردد إنما كان في أول الحال ثم ظهر بعد ذلك أنها زوجة، وليس فيه دلالة لما ذكر. واستدل به على صحة النكاح بغير

(9/128)


شهود لأنه لو حضر في تزويج صفية شهود لما خفي عن الصحابة حتى يترددوا، ولا دلالة فيه أيضا لاحتمال أن الذين حضروا التزويج غير الذين ترددوا، وعلى تسليم أن يكون الجميع ترددوا فذلك مذكور من خصائصه صلى الله عليه وسلم أنه يتزوج بلا ولي ولا شهود كما وقع في قصة زينب بنت جحش، وقد سبق شرح أول الحديث في غزوة خيبر من كتاب المغازي، ويأتي ما يتعلق بالعتق في الذي بعده

(9/129)


15- باب مَنْ جَعَلَ عِتْقَ الأَمَةِ صَدَاقَهَا
5086- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ ثَابِتٍ وَشُعَيْبِ بْنِ الْحَبْحَابِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْتَقَ صَفِيَّةَ وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا"
قوله: "باب من جعل عتق الأمة صداقها" كذا أورده غير جازم بالحكم، وقد أخذ بظاهره من القدماء سعيد بن المسيب وإبراهيم وطاوس والزهري، ومن فقهاء الأمصار الثوري وأبو يوسف وأحمد وإسحاق، قالوا إذا أعتق أمته على أن يجعل عتقها صداقها صح العقد والعتق والمهر على ظاهر الحديث. وأجاب الباقون عن ظاهر الحديث بأجوبة أقربها أي لفظ الحديث أنه أعتقها بشرط أن يتزوجها فوجبت له عليها قيمتها وكانت معلومة فتزوجها بها. ويؤيده قوله في رواية عبد العزيز بن صهيب "سمعت أنسا قال: سبى النبي صلى الله عليه وسلم صفية فأعتقها وتزوجها. فقال ثابت لأنس: ما أصدقها قال نفسها، فأعتقها" هكذا أخرجه المصنف في المغازي. وفي رواية حماد عن ثابت وعبد العزيز عن أنس في حديث: "قال وصارت صفية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم تزوجها وجعل عتقها صداقها، فقال عبد العزيز لثابت: يا أبا محمد، أنت سألت أنسا ما أمهرها؟ قال: أمهرها نفسها. فتبسم. فهو ظاهر جدا في أن المجهول مهرا هو نفس العتق، فالتأويل الأول لا بأس به، فإنه لا منافاة بينه وبين القواعد حتى لو كانت القيمة مجهولة، فإن في صحة العقد بالشرط المذكور وجها عند الشافعية. وقال آخرون: بل جعل نفس العتق المهر، ولكنه من خصائصه وممن جزم بذلك الماوردي. وقال آخرون: قوله:" أعتقها وتزوجها، معناه أعتقها ثم تزوجها، فلما لم يعلم أنه ساق لها صداقا قال أصدقها نفسها، أي لم يصدقها شيئا فيما أعلم، ولم ينف أصل الصداق، ومن ثم قال أبو الطيب الطبري من الشافعية وابن المرابط من المالكية ومن تبغهما: أنه قول أنس، قاله ظنا من قبل نفسه ولم يرفعه. وربما تأيد ذلك عندهم بما أخرجه البيهقي من حديث أميمة - ويقال أمة الله - بنت رزينة عن أمها "أن النبي صلى الله عليه وسلم أعتق صفية وخطبها وتزوجها وأمهرها رزينة، وكان أتى بها مسبية من قريظة والنضير" وهذا لا يقوم به حجة لضعف إسناده، ويعارضه ما أخرجه الطبراني وأبو الشيخ من حديث صفية نفسها قالت: "أعتقني النبي صلى الله عليه وسلم وحصل عتقي صداقي" وهذا موافق لحديث أنس، وفيه رد على من قال إن أنسا قال ذلك بناء على ما ظنه. وقد خالف هذا الحديث أيضا ما عليه كافة أهل السير أن صفية من سبى خيبر. ويحتمل أن يكون أعتقها بشرط أن ينكحها بغير مهر فلزمها الوفاء بذلك، وهذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم غيره. وقيل يحتمل أنه أعتقها بغير عوض وتزوجها بغير مهر في الحال ولا في المال، قال ابن الصلاح: معناه أن العتق يحل محل الصداق وإن لم يكن صداقا، قال: وهذا كقولهم "الجوع زاد من لا زاد له" قال وهذا الوجه أصح الأوجه وأقربها إلى لفظ الحديث، وتبعه النووي في "الروضة". ومن المستغربات قول الترمذي بعد أن أخرج الحديث: وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق،

(9/129)


قال: وكره بعض أهل العلم أن يجعل عتقها صداقها حتى يجعل لها مهرا سوى العتق، والقول الأول أصح. وكذا نقل ابن حزم عن الشافعي. والمعروف عند الشافعية أن ذلك لا يصح، لكن لعل مراد من نقله عنه صورة الاحتمال الأول، ولا سيما نص الشافعي على أن من أعتق أمته على أن يتزوجها فقبلت عتقت ولم يلزمها أن تتزوج به، لكن يلزمها له قيمتها، لأنه لم يرض بعتقها مجانا فصار كسائر الشروط الفاسدة، فإن رضيت وتزوجته على مهر يتفقان عليه كان لها ذلك المسمى وعليها له قيمتها. فإن اتحدا تقاصا. وممن قال بقول أحمد من الشافعية ابن حبان صرح بذلك في صحيحه، قال ابن دقيق العيد: الظاهر مع أحمد ومن وافقه، والقياس مع الآخرين؛ فيتردد الحال بين ظن نشأ عن قياس وبين ظن نشأ عن ظاهر الخبر مع ما تحتمله الواقعة من الخصوصية، وهي وإن كانت على خلاف الأصل لكن يتقوى ذلك بكثرة خصائص النبي صلى الله عليه وسلم في النكاح، وخصوصا خصوصيته بتزويج الواهبة من قوله تعالى :{وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} الآية. وممن جزم بأن ذلك كان من الخصائص يحيى بن أكثم فيما أخرجه البيهقي قال: وكذا نقله المزني عن الشافعي. قال: وموضع الخصوصية أنه أعتقها مطلقا وتزوجها بغير مهر ولا ولي ولا شهود، وهذا بخلاف غيره. وقد أخرج عبد الرزاق جواز ذلك عن علي وجماعة من التابعين. ومن طريق إبراهيم النخعي قال: كانوا يكرهون أن يعتق أمته ثم يتزوجها، ولا يرون بأسا أن يجعل عتقها صداقها. وقال القرطبي: منع من ذلك مالك وأبو حنيفة لاستحالته، وتقرر استحالته بوجهين: أحدهما أن عقدها على نفسها إما أن يقع قبل عتقها وهو محال لتناقض الحكمين الحرية والرق، فإن الحرية حكمها الاستقلال والرق ضده، وأما بعد العتق فلزوال حكم الجبر عنها بالعتق، فيجوز أن لا ترضي وحينئذ لا تنكح إلا برضاها. الوجه الثاني أنا إذا جعلنا العتق صداقا فإما أن يتقرر العتق حالة الرق وهو محال لتناقضهما، أو حالة الحرية فيلزم أسبقيته على العقد، فيلزم وجود العتق حالة فرض عدمه وهو محال، لأن الصداق لا بد أن يتقدم تقرره على الزوج إما نصا وإما حكما حتى تملك الزوجة طلبه. فإن اعتلوا بنكاح التفويض فقد تحرزنا عنه بقولنا حكما، فإنها وإن لم يتعين لها حالة العقد شيء لكنها تملك المطالبة فثبت أنه يثبت لها حالة العقد شيء تطالب به الزوج، ولا يتأتى مثل ذلك في العتق فاستحال أن يكون صداقا. وتعقب ما ادعاه من الاستحالة بجواز تعليق الصداق على شرط إذا وجد استحقته المرأة كأن يقول تزوجتك على ما سيستحق لي عند فلان وهو كذا، فإذا حل المال الذي وقع العقد عليه استحقته. وقد أخرج الطحاوي من طريق نافع عن ابن عمر في قصة جويرية بنت الحارث "أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل عتقها صداقها" وهو مما يتأيد به حديث أنس، لكن أخرج أبو داود من طريق عروة عن عائشة في قصة جويرية "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها لما جاءت تستعين به في كتابتها: هل لك أن أقضي عنك كتابتك وأتزوجك؟ قالت: قد فعلت" وقد استشكله ابن حزم بأنه يلزم منه إن كان أدى عنها كتابتها أن يصير ولاؤها لمكاتبها. وأجيب بأنه ليس في الحديث التصريح بذلك، لأن معنى قولها "قد فعلت" رضيت، فيحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم عوض ثابت بن قيس عنها فصارت له فأعتقها وتزوجها كما صنع في قصة صفية، أو يكون ثابت لما بلغته رغبة النبي صلى الله عليه وسلم وهبها له، وفي الحديث: للسيد تزويج أمته إذا أعتقها من نفسه ولا يحتاج إلى ولي ولا حاكم. وفيه اختلاف يأتي في "باب إذا كان الولي هو الخاطب" بعد نيف وعشرين بابا. قال ابن الجوزي: فإن قيل ثواب العتق عظيم، فكيف فوته حيث جعله مهرا؟ وكان يمكن جعل المهر غيره، فالجواب أن صفية بنت ملك، ومثلها لا يقنع إلا بالمهر الكثير،

(9/130)


ولم يكن عنده صلى الله عليه وسلم إذ ذاك ما يرضيها به، ولم ير أن يقتصر، فجعل صداقها نفسها، وذلك عندها أشرف من المال الكثير

(9/131)


15 -باب تَزْوِيجِ الْمُعْسِرِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}
5087- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ جَاءَتْ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ جِئْتُ أَهَبُ لَكَ نَفْسِي قَالَ فَنَظَرَ إِلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَعَّدَ النَّظَرَ فِيهَا وَصَوَّبَهُ ثُمَّ طَأْطَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأْسَهُ فَلَمَّا رَأَتْ الْمَرْأَةُ أَنَّهُ لَمْ يَقْضِ فِيهَا شَيْئًا جَلَسَتْ فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكَ بِهَا حَاجَةٌ فَزَوِّجْنِيهَا فَقَالَ وَهَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَيْءٍ قَالَ لاَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ اذْهَبْ إِلَى أَهْلِكَ فَانْظُرْ هَلْ تَجِدُ شَيْئًا فَذَهَبَ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ لاَ وَاللَّهِ مَا وَجَدْتُ شَيْئًا فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: انْظُرْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ فَذَهَبَ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ لاَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلاَ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ وَلَكِنْ هَذَا إِزَارِي قَالَ سَهْلٌ مَا لَهُ رِدَاءٌ فَلَهَا نِصْفُهُ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا تَصْنَعُ بِإِزَارِكَ إِنْ لَبِسْتَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا مِنْهُ شَيْءٌ وَإِنْ لَبِسَتْهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ مِنْهُ شَيْءٌ فَجَلَسَ الرَّجُلُ حَتَّى إِذَا طَالَ مَجْلِسُهُ قَامَ فَرَآهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُوَلِّيًا فَأَمَرَ بِهِ فَدُعِيَ فَلَمَّا جَاءَ قَالَ مَاذَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ قَالَ مَعِي سُورَةُ كَذَا وَسُورَةُ كَذَا عَدَّدَهَا فَقَالَ تَقْرَؤُهُنَّ عَنْ ظَهْرِ قَلْبِكَ قَالَ نَعَمْ قَالَ اذْهَبْ فَقَدْ مَلَّكْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ"
قوله: "باب تزويج المعسر" تقدم في أوائل كتاب النكاح "باب تزويج المعسر الذي معه القرآن والإسلام، وهذه الترجمة أخص من تلك، وعلق هناك حديث سهل الذي أورده في هذا الباب مبسوطا، وسيأتي شرحه بعد ثلاثين بابا. قوله: "لقوله تعالى: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} هو تعليل لحكم الترجمة، ومحصله أن الفقر في الحال لا يمنع التزويج، لاحتمال حصول المال في المآل، والله أعلم

(9/131)


17- باب الأَكْفَاءِ فِي الدِّينِ
وَقَوْلُهُ: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنْ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا}
5088- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ أَبَا حُذَيْفَةَ بْنَ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ وَكَانَ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبَنَّى سَالِمًا وَأَنْكَحَهُ بِنْتَ أَخِيهِ هِنْدَ بِنْتَ الْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَهُوَ مَوْلًى لِامْرَأَةٍ مِنْ الأَنْصَارِ كَمَا تَبَنَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْدًا وَكَانَ مَنْ تَبَنَّى رَجُلًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ دَعَاهُ النَّاسُ إِلَيْهِ وَوَرِثَ مِنْ مِيرَاثِهِ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} إِلَى قَوْلِهِ:

(9/131)


18- باب الأَكْفَاءِ فِي الْمَالِ وَتَزْوِيجِ الْمُقِلِّ الْمُثْرِيَةَ
5092- حدثني يحيى بن بكير حدثنا الليث عن عقيل عن بن شهاب قال أخبرني عروة أنه ثم سأل عائشة رضي الله عنها {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} قالت يا بن أختي هذه اليتيمة تكون في حجر وليها فيرغب في جمالها ومالها ويريد أن ينتقص صداقها فنهوا عن نكاحهن إلا أن يقسطوا في إكمال

(9/136)


الصداق وامروا بنكاح من سواهن قالت واستفتى الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك فأنزل الله {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ} إلى {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} فأنزل الله لهم أن اليتيمة إذا كانت ذات جمال ومال رغبوا في نكاحها ونسبها في إكمال الصداق وإذا كانت مرغوبة عنها في قلة المال والجمال تركوها وأخذوا غيرها من النساء يتركونها حين يرغبون عنها فليس لهم أن ينكحوها إذا رغبوا فيها إلا أن يقسطوا لها ويعطوها حقها الأوفى في الصداق"
قوله: "باب الأكفاء في المال، وتزوج المقل المثرية" أما اعتبار الكفاءة بالمال فمختلف فيه عند من يشترط الكفاءة، والأشهر عند الشافعية أنه لا يعتبر، ونقل صاحب "الإفصاح" عن الشافعي أنه قال: الكفاءة في الدين والمال والنسب. وجزم باعتباره أبو الطيب والصيمري وجماعة. واعتبره الماوردي في أهل الأمصار، وخص الخلاف بأهل البوادي والقرى المتفاخرين بالنسب دون المال. وأما المثرية فبضم الميم وسكون المثلثة وكسر الراء وفتح التحتانية هي التي لها ثراء بفتح أوله والمد وهو الغني، ويؤخذ ذلك من حديث عائشة الذي في الباب من عموم التقسيم فيه لاشتماله على المثري والمقل من الرجال والمثرية والمقلة من النساء فدل على جواز ذلك، ولكنه لا يرد على من يشترطه لاحتمال إضمار رضا المرأة ورضا الأولياء، وقد تقدم شرح الحديث في تفسير سورة النساء، ومضى من وجه آخر في أوائل النكاح، واستدل به على أن للولي أن يزوج محجورته من نفسه، وسيأتي البحث فيه قريبا. وفيه أن للولي حقا في التزويج لأن الله خاطب الأولياء بذلك، والله أعلم

(9/137)


19- باب مَا يُتَّقَى مِنْ شُؤْمِ الْمَرْأَةِ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ}
5093- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ حَمْزَةَ وَسَالِمٍ ابْنَيْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "الشُّؤْمُ فِي الْمَرْأَةِ وَالدَّارِ وَالْفَرَسِ"
5094- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعَسْقَلاَنِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ ذَكَرُوا الشُّؤْمَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنْ كَانَ الشُّؤْمُ فِي شَيْءٍ فَفِي الدَّارِ وَالْمَرْأَةِ وَالْفَرَسِ"
5095- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إِنْ كَانَ فِي شَيْءٍ فَفِي الْفَرَسِ وَالْمَرْأَةِ وَالْمَسْكَنِ"
5096- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عُثْمَانَ النَّهْدِيَّ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرجال من النساء"
قوله: "باب ما يتقى من شؤم المرأة" الشؤم بضم المعجمة بعدها واو ساكنة وقد تهمز وهو ضد اليمن، يقال تشاءمت بكذا وتيمنت بكذا. قوله: "وقوله تعالى: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ} كأنه يشير إلى اختصاص

(9/137)


الشؤم ببعض النساء دون بعض مما دلت عليه الآية من التبعيض، وذكر في الباب حديث ابن عمر من وجهين وحديث سهل من وجه آخر وقد تقدم شرحهما مبسوطا في كتاب الجهاد. وقد جاء في بعض الأحاديث ما لعله يفسر ذلك وهو ما أخرجه أحمد وصححه ابن حبان والحاكم من حديث سعد مرفوعا: "من سعادة ابن آدم ثلاثة: المرأة الصالحة، والمسكن الصالح، والمركب الصالح. ومن شقاوة ابن آدم ثلاثة: المرأة السوء، والمسكن السوء، والمركب السوء" وفي رواية لابن حبان: "المركب الهني، والمسكن الواسع" وفي رواية للحاكم "وثلاثة من الشقاء: المرأة تراها فتسوؤك وتحمل لسانها عليك، والدابة تكون قطوفا فإن ضربتها أتعبتك وإن تركتها لم تلحق أصحابك، والدار تكون ضيقة قليلة المرافق". وللطبراني من حديث أسماء "إن من شقاء المرء في الدنيا سوء الدار والمرأة والدابة" وفيه سوء الدار ضيق مساحتها وخبث جيرانها وسوء الدابة منعها ظهرها وسوء طبعها، وسوء المرأة عقم رحمها وسوء خلقها. قوله: "عن أسامة بن زيد" زاد مسلم من طريق معتمر بن سليمان عن أبيه مع أسامة سعيد بن زيد، وقد قال الترمذي لا نعلم أحدا قال فيه: "عن سعيد بن زيد" غير معتمر بن سليمان. قوله: "ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء" قال الشيخ تقي الدين السبكي: في إيراد البخاري هذا الحديث عقب حديثي ابن عمر وسهل بعد ذكر الآية في الترجمة إشارة إلى تخصيص الشؤم بمن تحصل منها العداوة والفتنة، لا كما يفهمه بعض الناس من التشاؤم بكعبها أو أن لها تأثيرا في ذلك، وهو شيء لا يقول به أحد من العلماء، ومن قال إنها سبب في ذلك فهو جاهل، وقد أطلق الشارع على من ينسب المطر إلى النوء الكفر فكيف بمن ينسب ما يقع من الشر إلى المرأة مما ليس لها فيه مدخل، وإنما يتفق موافقة قضاء وقدر فتنفر النفس من ذلك، فمن وقع له ذلك فلا يضره أن يتركها من غير أن يعتقد نسبة الفعل إليها. قلت: وقد تقدم تقرير ذلك في كتاب الجهاد، وفي الحديث أن الفتنة بالنساء أشد من الفتنة بغيرهن، ويشهد له قوله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ} فجعلهن من حب الشهوات، وبدأ بهن قبل بقية الأنواع إشارة إلى أنهن الأصل في ذلك، ويقع في المشاهدة حب الرجل ولد من امرأته التي هي عنده أكثر من حبه ولده من غيرها، ومن أمثلة ذلك قصة النعمان بن بشير في الهبة، وقد قال بعض الحكماء: النساء شر كلهن وأشر ما فيهن عدم الاستغناء عنهن ومع أنها ناقصة العقل والدين تحمل الرجل على تعاطي ما فيه نقص العقل والدين كشغله عن طلب أمور الدين وحمله على التهالك على طلب الدنيا وذلك أشد الفساد وقد أخرج مسلم من حديث أبي سعيد في أثناء حديث : "واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء.

(9/138)


20 - باب الْحُرَّةِ تَحْتَ الْعَبْدِ
5097- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ كَانَ فِي بَرِيرَةَ ثَلاَثُ سُنَنٍ عَتَقَتْ فَخُيِّرَتْ وَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ وَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبُرْمَةٌ عَلَى النَّارِ فَقُرِّبَ إِلَيْهِ خُبْزٌ وَأُدْمٌ مِنْ أُدْمِ الْبَيْتِ فَقَالَ أَلَمْ أَرَ الْبُرْمَةَ فَقِيلَ لَحْمٌ تُصُدِّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ وَأَنْتَ لاَ تَأْكُلُ الصَّدَقَةَ قَالَ هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ وَلَنَا هَدِيَّةٌ"

(9/138)


قوله: "باب الحرة تحت العبد" أي جواز تزويج العبد الحرة إن رضيت به، وأورد فيه طرفا من قصة بريرة حيث خيرت حين عتقت، وسيأتي شرحه مستوفى في كتاب الطلاق، وهو مصير من المصنف إلى أن زوج بريرة حين عتقت كان عبدا، وسيأتي البحث فيه هناك إن شاء الله تعالى.

(9/139)


21- باب لاَ يَتَزَوَّجُ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ}
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ عَلَيْهِمَا السَّلاَم: يَعْنِي مَثْنَى أَوْ ثُلاَثَ أَوْ رُبَاعَ
وَقَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ: {أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ} يَعْنِي مَثْنَى أَوْ ثُلاَثَ أَوْ رُبَاعَ
5098- حدثنا محمد أخبرنا عبدة عن هشام عن أبيه" عن عائشة {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى}
قالت :هي اليتيمة تكون عند الرجل وهو وليها فيتزوجها على مالها ويسيء صحبتها ولا يعدل في مالها فليزوج ما طاب له من النساء سواها مثنى وثلاث ورباع"
قوله: "باب لا يتزوج أكثر من أربع لقوله تعالى :{مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ} أما حكم الترجمة فبالإجماع، إلا قول من لا يعتد بخلافه من رافضي ونحوه، وأما انتزاعه من الآية فلأن الظاهر منها التخيير بين الأعداد المذكورة بدليل قوله تعالى في الآية نفسها {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} ولأن من قال جاء القوم مثنى وثلاث ورباع أراد أنهم جاءوا اثنين اثنين وثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة، فالمراد تبيين حقيقة مجيئهم وأنهم لم يجيئوا جملة ولا فرادى، وعلى هذا فمعنى الآية انكحوا اثنتين اثنتين وثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة، فالمراد الجميع لا المجموع، ولو أريد مجموع العدد المذكور لكان قوله مثلا تسعا أرشق وأبلغ، وأيضا فإن لفظ: "مثنى" معدول عن اثنين اثنين كما تقدم تقريره في تفسير سورة النساء، فدل إيراده أن المراد التخيير بين الأعداد المذكورة، واحتجاجهم بأن الواو للجمع لا يفيد مع وجود القرينة الدالة على عدم الجمع، وبكونه صلى الله عليه وسلم جمع بين تسع معارض بأمره صلى الله عليه وسلم من أسلم على أكثر من أربع بمفارقة من زاد على الأربع، وقد وقع ذلك لغيلان بن سلمة وغيره كما خرج في كتب السنن فدل على خصوصيته صلى الله عليه وسلم بذلك، وقوله :{أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} تقدم الكلام عليه في تفسير فاطر، وهو ظاهر في أن المراد به تنويع الأعداد لا أن لكل واحد من الملائكة مجموع العدد المذكور. قوله: "وقال علي بن الحسين" أي ابن علي بن أبي طالب "يعني مثنى أو ثلاث أو رباع" أراد أن الواو بمعنى أو، فهي للتنوع، أو هي عاطفة على العامل والتقدير فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وانكحوا ما طاب من النساء ثلاث إلخ، وهذا من أحسن الأدلة في الرد على الرافضة لكونه من تفسير زين العابدين وهو من أئمتهم الذين يرجعون إلى قولهم ويعتقدون عصمتهم. ثم ساق المصنف طرفا من حديث عائشة في تفسير قوله تعالى :{وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} وقد سبق قبل هذا بباب أتم سياقا من الذي هنا وبالله التوفيق

(9/139)


باب (وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم) ويحرم من الرضاع ما يحرم من النسب
...
22- باب {وَأُمَّهَاتُكُمْ اللاَتِي أَرْضَعْنَكُمْ} وَيَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ"
5099- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَتْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عِنْدَهَا وَأَنَّهَا سَمِعَتْ صَوْتَ رَجُلٍ يَسْتَأْذِنُ فِي بَيْتِ

(9/139)


23- باب مَنْ قَالَ لاَ رَضَاعَ بَعْدَ حَوْلَيْنِ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} وَمَا يُحَرِّمُ مِنْ قَلِيلِ الرَّضَاعِ وَكَثِيرِهِ
5102- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الأَشْعَثِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَيْهَا وَعِنْدَهَا رَجُلٌ فَكَأَنَّهُ تَغَيَّرَ وَجْهُهُ كَأَنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ فَقَالَتْ إِنَّهُ أَخِي فَقَالَ انْظُرْنَ مَنْ إِخْوَانُكُنَّ فَإِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنْ الْمَجَاعَةِ"
قوله: "باب من قال لا رضاع بعد حولين، لقوله عز وجل: {حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} أشار بهذا إلى قول الحنفية إن أقصى مدة الرضاع ثلاثون شهرا وحجتهم قوله تعالى :{وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} أي المدة المذكورة لكل من الحمل والفصال، وهذا تأويل غريب. والمشهور عند الجمهور أنها تقدير مدة أقل الحمل وأكثر مدة الرضاع، وإلى ذلك صار أبو يوسف ومحمد بن الحسن، ويؤيد ذلك أن أبا حنيفة لا يقول إن أقصى الحمل سنتان ونصف. وعند المالكية رواية توافق قول الحنفية لكن منزعهم في ذلك أنه يغتفر بعد الحولين مدة يدمن الطفل فيها على الفطام، لأن العادة أن الصبي لا يفطم دفعة واحدة بل على التدريج في أيام قليلات، فللأيام التي يحاول فيها فطامه حكم الحولين. ثم اختلفوا في تقدير تلك المدة قيل يغتفر نصف سنة، وقيل شهران، وقيل شهر ونحوه، وقيل أيام يسيرة، وقيل شهر، وقيل لا يزاد على الحولين وهي رواية ابن وهب عن مالك وبه قال الجمهور ومن حجتهم حديث ابن عباس رفعه: "لا رضاع إلا ما كان في الحولين" أخرجه الدار قطني. وقال: لم يسنده عن ابن عيينة غير الهيثم بن جميل، وهو ثقة حافظ. وأخرجه ابن عدي. وقال غير الهيثم يوقفه على ابن عباس وهو المحفوظ، وعندهم متى وقع الرضاع بعد الحولين ولو بلحظة لم يترتب عليه حكم، وعند الشافعية لو ابتدأ الوضع في أثناء الشهر جبر المنكسر من شهر آخر ثلاثين يوما. وقال زفر: يستمر إلى ثلاث سنسن إذا كان يجتزئ باللبن ولا يجتزئ بالطعام، وحكى ابن عبد البر عنه أنه يشترط مع ذلك أن يكون يجتزئ باللبن، وحكى عن الأوزاعي مثله لكن قال. بشرط أن لا يفطم، فمتى فطم ولو قبل الحولين فما رضع بعده لا يكون رضاعا. قوله: "وما يحرم من قليل الرضاع وكثيره" هذا مصير منه إلى التمسك بالعموم الوارد في الأخبار مثل حديث الباب وغيره، وهذا قول مالك وأبي حنيفة والثوري والأوزاعي والليث، وهو المشهور عند أحمد. وذهب آخرون إلى أن الذي يحرم ما زاد على الرضعة الواحدة. ثم اختلفوا فجاء عن عائشة عشر رضعات أخرجه مالك في "الموطأ"، وعن حفصة كذلك، وجاء عن عائشة أيضا سبع رضعات أخرجه ابن أبي خيثمة بإسناد صحيح عن عبد الله بن الزبير عنها،

(9/146)


وعبد الرزاق من طريق عروة" كانت عائشة تقول لا يحرم دون سبع رضعات أو خمس رضعات "وجاء عن عائشة أيضا خمس رضعات، فعند مسلم عنها" كان فيما نزل من القرآن عشر رضعات معلومات، ثم نسخت بخمس رضعات معلومات فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن مما يقرأ: {وعند عبد الرزاق بإسناد صحيح عنها قالت: لا يحرم دون خمس رضعات معلومات، وإلى هذا ذهب الشافعي، وهي رواية عن أحمد. وقال به ابن حزم، وذهب أحمد في رواية وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور وابن المنذر وداود وأتباعه - إلا ابن حزم - إلى أن الذي يحرم ثلاث رضعات لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تحرم الرضعة والرضعتان" فإن مفهومه أن الثلاث تحرم، وأغرب القرطبي. فقال: لم يقل به إلا داود. ويخرج مما أخرجه البيهقي عن زيد بن ثابت بإسناد صحيح أنه يقول لا تحرم الرضعة والرضعتان والثلاث، وأن الأربع هي التي تحرم. والثابت من الأحاديث حديث عائشة في الخمس، وأما حديث: "لا تحرم الرضعة والرضعتان" فلعله مثال لما دون الخمس، وإلا فالتحريم بالثلاث فما فوقها إنما يؤخذ من الحديث بالمفهوم، وقد عارضه مفهوم الحديث الآخر المخرج عند مسلم وهو الخمس، فمفهوم "لا تحرم المصة ولا المصتان" أن الثلاث تحرم، ومفهوم خمس رضعات أن الذي دون الأربع لا يحرم فتعارضا، فيرجع إلى الترجيح بين المفهومين، وحديث الخمس جاء من طرق صحيحة، وحديث المصتان جاء أيضا من طرق صحيحة، لكن قد قال بعضهم إنه مضطرب لأنه اختلف فيه هل هو عن عائشة أو عن الزبير أو عن ابن الزبير أو عن أم الفضل، لكن لم يقدح الاضطراب عند مسلم فأخرجه من حديث أم الفضل زوج العباس "أن رجلا من بني عامر قال: يا رسول الله هل تحرم الرضعة الواحدة؟ قال لا" وفي رواية له عنها "لا تحرم الرضعة ولا الرضعتان ولا المصة ولا المصتان" قال القرطبي: هو أنص ما في الباب، إلا أنه يمكن حمله على ما إذا لم يتحقق وصوله إلى جوف الرضيع، وقوى مذهب الجمهور بأن الأخبار اختلفت في العدد، وعائشة التي روت ذلك قد اختلف عليها فيما يعتبر من ذلك فوجب الرجوع إلى أقل ما ينطلق عليه الاسم، ويعضده من حيث النظر أنه معنى طارئ يقتضي تأييد التحريم فلا يشترط فيه العدد كالصهر، أو يقال مائع يلج الباطن فيحرم فلا يشترط فيه العدد كالمني، والله أعلم. وأيضا فقول عائشة "عشر رضعات معلومات ثم نسخن بخمس معلومات فمات النبي صلى الله عليه وسلم وهن مما يقرأ: {لا ينتهض للاحتجاج على الأصح من قولي الأصوليين، لأن القرآن لا يثبت إلا بالتواتر، والراوي روى هذا على أنه قرآن لا خبر فلم يثبت كونه قرآنا ولا ذكر الراوي أنه خبر ليقبل قوله فيه، والله أعلم. قوله:" عن الأشعث" هو ابن أبي الشعثاء واسمه سليم بن الأسود المحاربي الكوفي. قوله: "أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها رجل" لم أقف على اسمه وأظنه ابنا لأبي القعيس، وغلط من قال هو عبد الله بن يزيد رضيع عائشة لأن عبد الله هذا تابعي باتفاق الأئمة، وكأن أمه التي أرضعت عائشة عاشت بعد النبي صلى الله عليه وسلم فولدته فلهذا قيل له رضيع عائشة. قوله: "فكأنه تغير وجهه كأنه كره ذلك" كذا فيه، ووقع في رواية مسلم من طريق أبي الأحوص عن أشعث "وعندي رجل قاعد فاشتد ذلك عليه، ورأيت الغضب في وجهه" وفي رواية أبي داود عن حفص بن عمر عن شعبة "فشق ذلك عليه وتغير وجهه" وتقدم من رواية سفيان الماضية في الشهادات "فقال: يا عائشة من هذا" ؟. قوله: "فقالت إنه أخي" في رواية غندر عن شعبة "إنه أخي من الرضاعة" أخرجه الإسماعيلي، وقد أخرجه أحمد عن غندر بدونها، وتقدم في الشهادات من طريق سفيان الثوري عن أشعث فذكرها، وكذا ذكرها أبو داود في روايته من طريق شعبة وسفيان جميعا عن الأشعث. قوله: "انظرن ما إخوانكن" في رواية الكشميهني: "من إخوانكن" وهي

(9/147)


أوجه، والمعنى تأملن ما وقع من ذلك هل هو رضاع صحيح بشرطه: من وقوعه في زمن الرضاعة، ومقدار الارتضاع فإن الحكم الذي ينشأ من الرضاع إنما يكون إذا وقع الرضاع المشترط. قال المهلب: معناه انظرن ما سبب هذه الأخوة، فإن حرمة الرضاع إنما هي في الصغر حتى تسد الرضاعة المجاعة. وقال أبو عبيد: معناه أن الذي جاع كان طعامه الذي يشبعه اللبن من الرضاع لا حيث يكون الغذاء بغير الرضاع. قوله: "فإنما الرضاعة من المجاعة" فيه تعليل الباعث على إمعان النظر والفكر، لأن الرضاعة تثبت النسب وتجعل الرضيع محرما. وقوله: "من المجاعة" أي الرضاعة التي تثبت بها الحرمة وتحل بها الخلوة هي حيث يكون الرضيع طفلا لسد اللبن جوعته، لأن معتده ضعيفة يكفيها اللبن وينبت بذلك لحمه فيصير كجزء من المرضعة فيشترك في الحرمة مع أولادها، فكأنه قال لا رضاعة معتبرة إلا المغنية عن المجاعة أو المطعمة من المجاعة، كقوله تعالى:{أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ} ومن شواهده حديث ابن مسعود "لا رضاع إلا ما شد العظم، وأنبت اللحم" أخرجه أبو داود مرفوعا وموقوفا، وحديث أم سلمة "لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء" أخرجه الترمذي وصححه. ويمكن أن يستدل به على أن الرضعة الواحدة لا تحرم لأنها لا تغني من جوع، وإذا كان يحتاج إلى تقدير فأولى ما يؤخذ به ما قدرته الشريعة وهو خمس رضعات، واستدل به على أن التغذية بلبن المرضعة يحرم سواء كان بشرب أم أكل بأي صفة كان، حتى الوجور والسعوط والثرد والطبخ وغير ذلك إذا وقع ذلك بالشرط المذكور من العدد لأن ذلك يطرد الجوع، وهو موجود في جميع ما ذكر فيوافق الخبر والمعنى وبهذا قال الجمهور. لكن استثنى الحنفية الحقنة وخالف في ذلك الليث وأهل الظاهر فقالوا إن الرضاعة المحرمة إنما تكون بالتقام الثدي ومص اللبن منه، وأورد على ابن حزم أنه يلزم على قولهم إشكال في التقام سالم ثدي سهلة وهي أجنبية منه، فإن عياضا أجاب عن الإشكال باحتمال أنها حلبته ثم شربه من غير أن يمس ثديها، قال النووي: وهو احتمال حسن، لكنه لا يفيد ابن حزم، لأنه لا يكتفي في الرضاع إلا بالتقام الثدي، لكن أجاب النووي بأنه عفي عن ذلك للحاجة. وأما ابن حزم فاستدل بقصة سالم على جواز مس الأجنبي ثدي الأجنبية والتقام ثديها إذا أراد أن يرتضع منها مطلقا؛ واستدل به على أن الرضاعة إنما تعتبر في حال الصغر لأنها الحال الذي يمكن طرد الجوع فيها باللبن بخلاف حال الكبر، وضابط ذلك تمام الحولين كما تقدم في الترجمة، وعليه دل حديث ابن عباس المذكور وحديث أم سلمة "لا رضاع إلا ما فتق الأمعاء وكان قبل الفطام" وصححه الترمذي وابن حبان، قال القرطبي: في قوله: "فإنما الرضاعة من المجاعة" تثبيت قاعدة كلية صريحة في اعتبار الرضاع في الزمن الذي يستغنى به الرضيع عن الطعام باللبن، ويعتضد بقوله تعالى :{لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} فأنه يدل على أن هذه المدة أقصى مدة الرضاع المحتاج إليه عادة المعتبر شرعا، فما زاد عليه لا يحتاج إليه عادة فلا يعتبر شرعا، إذ لا حكم للنادر وفي اعتبار إرضاع الكبير انتهاك حرمة المرأة بارتضاع الأجنبي منها لاطلاعه على عورتها ولو بالتقامه ثديها. قلت: وهذا الأخير على الغالب وعلى مذهب من يشترط التقام الثدي، وقد تقدم قبل خمسة أبواب أن عائشة كانت لا تفرق في حكم الرضاع بين حال الصغر والكبر، وقد استشكل ذلك مع كون هذا الحديث من روايتها واحتجت هي بقصة سالم موالي أبي حذيفة فلعلها فهمت من قوله: "إنما الرضاعة من المجاعة اعتبار مقدار ما يسد الجوعة من لبن المرضعة لمن يرتضع منها، وذلك أعم من أن يكون المرتضع صغيرا أو كبيرا فلا يكون الحديث نصا في منع اعتبار رضاع الكبير، وحديث ابن عباس مع تقدير ثبوته ليس نصا في ذلك ولا حديث أم سلمة

(9/148)


لجواز أن يكون المراد أن الرضاع بعد الفطام ممنوع، ثم لو وقع رتب عليه حكم التحريم، فما في الأحاديث المذكورة ما يدفع هذا الاحتمال، فلهذا عملت عائشة بذلك، وحكاه النووي تبعا لابن الصباغ وغيره عن داود. وفيه نظر. وكذا نقل القرطبي عن داود أن رضاع الكبير يفيد رفع الاحتجاب منه، ومال إلى هذا القول ابن المواز من المالكية. وفي نسبة لداود نظر فإن ابن حزم ذكر عن داود أنه مع الجمهور، وكذا نقل غيره من أهل الظاهر وهم أخبر بمذهب صاحبهم، وإنما الذي نصر مذهب عائشة هذا وبالغ في ذلك هو ابن حزم ونقله عن علي، وهو من رواية الحارث الأعور عنه، ولذلك ضعفه ابن عبد البر. وقال عبد الرزاق عن ابن جريج: قال رجل لعطاء أن امرأة سقتني من لبنها بعدما كبرت أفأنكحها؟ قال: لا. قال ابن جريج: فقلت له: هذا رأيك؟ قال: نعم. كانت عائشة تأمر بذلك بنات أخيها، وهو قول الليث بن سعد. وقال ابن عبد البر: لم يختلف عنه في ذلك. قلت: وذكر الطبري في" تهذيب الآثار" في مسند على هذه المسألة وساق بإسناده الصحيح عن حفصة مثل قول عائشة، وهو مما يخص به عموم قول أم سلمة "أبى سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يدخلن عليهن بتلك الرضاعة أحدا" أخرجه مسلم وغيره، ونقله الطبري أيضا عن عبد الله بن الزبير والقاسم بن محمد وعروة في آخرين، وفيه تعقب على القرطبي حيث خص الجواز بعد عائشة بداود، وذهب الجمهور إلى اعتبار الصغر في الرضاع المحرم وقد تقدم ضبطه، وأجابوا عن قصة سالم بأجوبة: منها أنه حكم منسوخ وبه جزم المحب الطبري في أحكامه، وقرره بعضهم بأن قصة سالم كانت في أوائل الهجرة والأحاديث الدالة على اعتبار الحولين من رواية أحداث الصحابة فدل على تأخرها، وهو مستند ضعيف إذ لا يلزم من تأخر إسلام الراوي ولا صغره أن لا يكون ما رواه متقدما، وأيضا ففي سياق قصة سالم ما يشعر بسبق الحكم باعتبار الحولين لقول امرأة أبي حذيفة في بعض طرقه حيث قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "أرضعيه، قالت: وكيف أرضعه وهو رجل كبير؟ فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: قد علمت أنه رجل كبير" وفي رواية لمسلم قالت: "إنه ذو لحية، قال: أرضعيه" وهذا يشعر بأنها كانت تعرف أن الصغر معتبر في الرضاع المحرم. ومنها دعوى الخصوصية بسالم وامرأة أبي حذيفة، والأصل فيه قول أم سلمة وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم: ما ترى هذا إلا رخصة أرخصها رسول الله صلى الله عليه وسلم لسالم خاصة، وقرره ابن الصباغ وغيره بأن أصل قصة سالم ما كان وقع من التبني الذي أدى إلى اختلاط سالم بسهلة، فلما نزل الاحتجاب ومنعوا من التبني شق ذلك على سهلة فوقع الترخيص لها في ذلك لرفع ما حصل لها من المشقة، وهذا فيه نظر لأنه يقتضي إلحاق من يساوي سهلة في المشقة والاحتجاج بها فتنفي الخصوصية ويثبت مذهب المخالف، لكن يفيد الاحتجاج. وقرره آخرون بأن الأصل أن الرضاع لا يحرم، فلما ثبت ذلك في الصغر خولف الأصل له وبقي ما عداه على الأصل، وقصة سالم واقعة عين يطرقها احتمال الخصوصية فيجب الوقوف عن الاحتجاج بها. ورأيت بخط تاج الدين السبكي أنه رأى في تصنيف لمحمد بن خليل الأندلسي في هذه المسألة أنه توقف في أن عائشة وإن صح عنها الفتيا بذلك لكن لم يقع منها إدخال أحد من الأجانب بتلك الرضاعة، قال تاج الدين: ظاهر الأحاديث ترد عليه، وليس عندي فيه قول جازم لا من قطع ولا من ظن غالب، كذا قال، وفيه غفلة عما ثبت عند أبي داود في هذه القصة "فكانت عائشة تأمر بنات إخوتها وبنات أخواتها أن يرضعن من أحبت أن يدخل عليها ويراها وإن كان كبيرا خمس رضعات ثم يدخل عليها" وإسناده صحيح، وهو صريح، فأي ظن غالب وراء هذا؟ والله سبحانه وتعالى أعلم. وفي الحديث أيضا جواز

(9/149)


دخول من اعترفت المرأة بالرضاعة معه عليها وأنه يصير أخا لها وقبول قولها فيمن اعترفت به، وأن الزوج يسأل زوجته عن سبب إدخال الرجال بيته والاحتياط في ذلك والنظر فيه، وفي قصة سالم جواز الإرشاد إلى الحيل. وقال ابن الرفعة يؤخذ منه جواز تعاطي ما يحصل الحل في المستقبل وإن كان ليس حلالا في الحال.

(9/150)


24 - باب لَبَنِ الْفَحْلِ
5103- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ أَفْلَحَ أَخَا أَبِي الْقُعَيْسِ جَاءَ يَسْتَأْذِنُ عَلَيْهَا وَهُوَ عَمُّهَا مِنْ الرَّضَاعَةِ بَعْدَ أَنْ نَزَلَ الْحِجَابُ فَأَبَيْتُ أَنْ آذَنَ لَهُ فَلَمَّا جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي صَنَعْتُ فَأَمَرَنِي أَنْ آذَنَ لَهُ"
قوله: "باب لبن الفحل" بفتح الفاء وسكون المهملة، أي الرجل، ونسبة اللبن إليه مجازية لكونه السبب فيه. قوله: "عن ابن شهاب" لمالك فيه شيخ آخر وهو هشام بن عروة، وسياقه للحديث عن عروة أتم، وسيأتي قبيل كتاب الطلاق. قوله: "إن أفلح أخا أبي القعيس" بقاف وعين وسين مهملتين مصغر، وتقدم في الشهادات من طريق الحكم عن عروة "استأذن علي أفلح فلم آذن له" وفي رواية مسلم من هذا الوجه أفلح بن قعيس والمحفوظ أفلح أخو أبي القعيس، ويحتمل أن يكون اسم أبيه قعيسا أو اسم جده فنسب إليه فتكون كنية أبي القعيس وافقت اسم أبيه أو اسم جده، ويؤيده ما وقع في الأدب من طريق عقيل عن الزهري بلفظ: "فإن أخا بني القعيس" وكذا وقع عند النسائي من طريق وهب بن كيسان عن عروة، وقد مضى في تفسير الأحزاب من طريق شعيب عن ابن شهاب بلفظ: "إن أفلح أخا أبي القعيس" وكذا لمسلم من طريق يونس ومعمر عن الزهري، وهو المحفوظ عن أصحاب الزهري، لكن وقع عند مسلم من رواية ابن عيينة عن الزهري أفلح بن أبي القعيس، وكذا لأبي داود من طريق الثوري عن هشام بن عروة عن أبيه، ولمسلم من طريق ابن جريج عن عطاء "أخبرني عروة أن عائشة قالت استأذن علي عمي من الرضاعة أبو الجعد" قال فقال لي هشام: إنما هو أبو القعيس. وكذا وقع عند مسلم من طريق أبي معاوية عن هشام "استأذن عليها أبو القعيس" وسائر الرواة عن هشام قالوا أفلح أخو أبي القعيس كما هو المشهور، وكذا قال سائر أصحاب عروة، ووقع عند سعيد بن منصور من طريق القاسم بن محمد "أن أبا قعيس أتى عائشة يستأذن عليها" وأخرجه الطبراني في "الأوسط" من طريق القاسم عن أبي قعيس، والمحفوظ أن الذي استأذن هو أفلح وأبو القعيس هو أخوه، قال القرطبي: كل ما جاء من الروايات وهم إلا من قال أفلح أخو أبي القعيس أو قال أبو الجعد لأنها كنية أفلح. قلت: وإذا تدبرت ما حررت عرفت أن كثيرا من الروايات لا وهم فيه ولم يخطئ عطاء في قوله أبو الجعد فإنه يحتمل أن يكون حفظ كنية أفلح، وأما اسم أبي القعيس فلم أقف عليه إلا في كلام الدار قطني فقال: هو وائل بن أفلح الأشعري، وحكى هذا ابن عبد البر ثم حكى أيضا أن اسمه الجعد، فعلى هذا يكون أخوه وافق اسمه اسم أبيه، ويحتمل أن يكون أبو القعيس نسب لجده ويكون اسمه وائل بن قعيس بن أفلح بن القعيس، وأخوه أفلح بن قعيس بن أفلح أبو الجعد، قال ابن عبد البر في "الاستيعاب" : لا أعلم لأبي القعيس ذكرا إلا في هذا الحديث. قوله: "وهو عمها من الرضاعة" فيه التفات، وكان السياق يقتضي أن يقول: "وهو

(9/150)


عمي" وكذا وقع عند النسائي من طريق معن عن مالك. وفي رواية يونس عن الزهري عند مسلم: "وكان أبو القعيس أخا عائشة من الرضاعة". قوله: "فأبيت أن آذن له" في رواية عراك الماضية في الشهادات "فقال أتحتجبين مني وأنا عمك" ؟ وفي رواية شعيب عن الزهري كما مضى في تفسير سورة الأحزاب "فقلت: لا آذن له حتى أستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن أخاه أبا القعيس ليس هو أرضعني، ولكن أرضعتني امرأة أبي القعيس" وفي رواية معمر عن الزهري عن مسلم: "وكان أبو القعيس زوج المرأة التي أرضعت عائشة". قوله: "فأمرني أن آذن له" في رواية شعيب "ائذني له فإنه عمك تربت يمينك" وفي رواية سفيان يداك أو يمينك، وقد تقدم شرح هذه اللفظة في "باب الأكفاء في الدين" وفي رواية مالك عن هشام بن عروة "إنه عمك فليلج عليك" وفي رواية الحكم "صدق أفلح، ائذني له" ووقع في رواية سفيان الثوري عن هشام عند أبي داود "دخل علي أفلح فاستترت منه فقال أتستترين مني وأنا عمك؟ قلت: من أين؟ قال: أرضعتك امرأة أخي، قلت إنما أرضعتني المرأة ولم يرضعني الرجل" الحديث، ويجمع بأنه دخل عليها أولا فاستترت ودار بينهما الكلام، ثم جاء يستأذن ظنا منه أنها قبلت قوله فلم تأذن له حتى تستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ووقع في رواية شعيب في آخره من الزيادة "قال عروة: فبذلك كانت عائشة تقول حرموا من الرضاع ما يحرم من النسب" ووقع في رواية سفيان بن عيينة "ما تحرمون من النسب" وهذا ظاهره الوقف، وقد أخرجه مسلم من طريق يزيد بن أبي حبيب عن عراك عن عروة في هذه القصة "فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تحتجبي منه، فإنه يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب" وقد تقدمت هذه الزيادة عن عائشة أيضا مرفوعة من وجه آخر في أول أبواب الرضاع. وفي الحديث أن لبن الفحل يحرم فتنتشر الحرمة من ارتضع الصغير بلبنه، فلا تحل له بنت زوج المرأة التي أرضعته من غيرها مثلا، وفيه خلاف قديم حكي عن ابن عمر وابن الزبير ورافع بن خديج وزينب بنت أم سلمة وغيرهم، ونقله ابن بطال عن عائشة وفيه نظر، ومن التابعين عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة والقاسم وسالم وسليمان بن يسار وعطاء بن يسار والشعبي وإبراهيم النخعي وأبي قلابة وإياس بن معاوية أخرجها ابن أبي شيبة وعبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن المنذر، وعن ابن سيرين "نبئت أن ناسا من أهل المدينة اختلفوا فيه:" وعن زينب بنت أبي سلمة أنها سألت والصحابة متوافرون وأمهات المؤمنين فقالوا الرضاعة من قبل الرجل لا تحرم شيئا. وقال به من الفقهاء ربيعة الرأي وإبراهيم بن عليه وابن بنت الشافعي وداود وأتباعه، وأغرب عياض ومن تبعه في تخصيصهم ذلك بداود وإبراهيم مع وجود الرواية عمن ذكرنا بذلك، وحجتهم في ذلك قوله تعالى :{وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} ولم يذكر العمة ولا البنت كما ذكرهما في النسب، وأجيبوا بأن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي الحكم عما عداه، ولا سيما وقد جاءت الأحاديث الصحيحة. واحتج بعضهم من حيث النظر بأن اللبن لا ينفصل من الرجل وإنما ينفصل من المرأة فكيف تنتشر الحرمة إلى الرجل؟ والجواب أنه قياس في مقابلة النص فلا يلتفت إليه، وأيضا فإن سبب اللبن هو ماء الرجل والمرأة معا فوجب أن يكون الرضاع منهما كالجد لما كان سبب الولد أوجب تحريم ولد الولد به لتعلقه بولده، وإلى هذا أشار ابن عباس بقوله في هذه المسألة "اللقاح واحد" أخرجه ابن أبي شيبة. وأيضا فإن الوطء يدر اللبن فللفحل فيه نصيب. وذهب الجمهور من الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار كالأوزاعي في أهل الشام والثوري وأبي حنيفة وصاحبيه في أهل الكوفة وابن جريج في أهل مكة ومالك في أهل المدينة والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور وأتباعهم إلى أن لبن الفحل يحرم وحجتهم هذا الحديث

(9/151)


الصحيح، وألزم الشافعي المالكية في هذه المسألة برد أصلهم بتقديم عمل أهل المدينة ولو خالف الحديث الصحيح إذا كان من الآحاد لما رواه عن عبد العزيز بن محمد عن ربيعة من أن لبن الفحل لا يحرم، قال عبد العزيز بن محمد: وهذا رأي فقهائنا إلا الزهري فقال الشافعي: لا نعلم شيئا من علم الخاصة أولى بأن يكون عاما ظاهرا من هذا، وقد تركوه للخبر الوارد، فيلزمهم على هذا إما أن يردوا هذا الخبر وهم ولم يردوه أو يردوا ما خالف الخبر، وعلى كل حال هو المطلوب. قال القاضي عبد الوهاب: يتصور تجريد لبن الفحل برجل له امرأتان ترضع إحداهما صبيا والأخرى صبية فالجمهور قالوا يحرم على الصبي تزويج الصبية. وقال من خالفهم: يجوز، واستدل به على أن من ادعى الرضاع وصدقه الرضيع يثبت حكم الرضاع بينهما ولا يحتاج إلى بينه، لأن أفلح ادعى وصدقته عائشة وأذن الشارع بمجرد ذلك. وتعقب باحتمال أن يكون الشارع اطلع على ذلك من غير دعوى أفلح وتسليم عائشة، واستدل به على أن قليل الرضاع يحرم كما يحرم كثيره لعدم الاستفصال فيه، ولا حجة فيه لأن عدم الذكر لا يدل على العدم المحض وفيه أن من شك في حكم يتوقف عن العمل حتى يسأل العلماء عنه، وأن من اشتبه عليه الشيء طالب المدعي ببيانه ليرجع إليه أحدهما، وأن العالم إذا سئل يصدق من قال الصواب فيها، وفيه وجوب احتجاب المرأة من الرجال الأجانب ومشروعية استئذان المحرم على محرمه، وأن المرأة لا تأذن في بيت الرجل إلا بإذنه، وفيه جواز التسمية بأفلح، ويؤخذ منه أن المستفتي إذا بادر بالتعليل قبل سماع الفتوى أنكر عليه لقوله لها "تربت يمينك" فإن فيه إشارة إلى أنه كان من حقها أن تسأل عن الحكم فقط ولا تعلل، وألزم به بعضهم من أطلق من الحنفية القائلين أن الصحابي إذا روى عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثا وصح عنه ثم صح عنه العمل بخلافه أن العمل بما رأى لا بما روى، لأن عائشة صح عنها أن لا اعتبار بلبن الفحل ذكره مالك في الموطأ وسعيد بن منصور في السنن وأبو عبيد في كتاب النكاح بإسناد حسن، وأخذ الجمهور ومنهم الحنفية بخلاف ذلك وعملوا بروايتها في قصة أخي أبي القعيس وحرموه بلبن الفحل فكان يلزمهم على قاعدتهم أن يتبعوا عمل عائشة ويعرضوا عن روايتها، ولو كان روى هذا الحكم غير عائشة لكان لهم معذرة لكنه لم يروه غيرها، وهو إلزام قوي

(9/152)


25- باب شَهَادَةِ الْمُرْضِعَةِ
5104- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَخْبَرَنَا أَيُّوبُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ حَدَّثَنِي عُبَيْدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ قالَ وَقَدْ سَمِعْتُهُ مِنْ عُقْبَةَ لَكِنِّي لِحَدِيثِ عُبَيْدٍ أَحْفَظُ قَالَ تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً فَجَاءَتْنَا امْرَأَةٌ سَوْدَاءُ فَقَالَتْ أَرْضَعْتُكُمَا فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ تَزَوَّجْتُ فُلاَنَةَ بِنْتَ فُلاَنٍ فَجَاءَتْنَا امْرَأَةٌ سَوْدَاءُ فَقَالَتْ لِي إِنِّي قَدْ أَرْضَعْتُكُمَا وَهِيَ كَاذِبَةٌ فَأَعْرَضَ عَنِّي فَأَتَيْتُهُ مِنْ قِبَلِ وَجْهِهِ قُلْتُ إِنَّهَا كَاذِبَةٌ قَالَ كَيْفَ بِهَا وَقَدْ زَعَمَتْ أَنَّهَا قَدْ أَرْضَعَتْكُمَا دَعْهَا عَنْكَ وَأَشَارَ إِسْمَاعِيلُ بِإِصْبَعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى يَحْكِي أَيُّوبَ"
قوله: "باب شهادة المرضعة" أي وحدها، وقد تقدم بيان الاختلاف في ذلك في كتاب الشهادات. وأغرب ابن بطال هنا فنقل الإجماع على أن شهادة المرأة وحدها لا تجوز في الرضاع وشبهه، وهو عجيب منه فإنه قول جماعة

(9/152)


من السلف حتى إن عند المالكية رواية أنها تقبل وحدها لكن بشرط فشو ذلك في الجيران. قوله: "علي بن عبد الله" هو ابن المديني، وإسماعيل بن إبراهيم هو المعروف بابن علية، وعبيد بن أبي مريم مكي ماله في الصحيح سوى هذا الحديث، ولا أعرف من حاله شيئا إلا أن ابن حبان ذكره في ثقات التابعين، وقد أوضحت في الشهادات بيان الاختلاف في إسناده على ابن أبي مليكة، وأن العمدة فيه على سماع ابن أبي مليكة له من عقبة بن الحارث نفسه، وتقدم تسمية المرأة المعبر عنها هنا بفلانة بنت فلان وتسمية أبيها، وأما المرضعة السوداء فما عرفت اسمها بعد. قوله: "فأعرض عني" في رواية المستملي: "فأعرض عنه" وفيه التفات. قوله : "دعها عنك، وأشار بإصبعيه السبابة والوسطى يحكي أيوب" يعني يحكي إشارة أيوب، والقائل علي والحاكي إسماعيل، والمراد حكاية فعل النبي صلى الله عليه وسلم حيث أشار بيده وقال بلسانه "دعها عنك" فحكى ذلك كل راو لمن دونه. واستدل به على أن الرضاعة لا يشترط فيها عدد الرضعات وفيه نظر لأنه لا يلزم من عدم ذكرها عدم الاشتراط لاحتمال أن يكون ذلك قبل تقرير حكم اشتراط العدد، أو بعد اشتهاره فلم يحتج لذكره في كل واقعة، وقد تقدم بيان الاختلاف في ذلك. ويؤخذ من الحديث عند من يقول أن الأمر بفراقها لم يكن لتحريمها عليه بقول المرضعة بل للاحتياط أن يحتاط من يريد أن يتزوج أو يزوج ثم اطلع على أمر فيه خلاف بين العلماء كمن زنى بها أو باشرها بشهوة أو زنى بها أصله أو فرعه أو خلقت من زناه بأمها أو شك في تحريمها عليه بصهر أو قرابة ونحو ذلك، والله أعلم

(9/153)


باب مايحل من النساء وما يحرم
...
26- باب مَا يَحِلُّ مِنْ النِّسَاءِ وَمَا يَحْرُمُ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ} إِلَى آخِرِ الْآيَتَيْنِ إِلَى قَوْلِهِ {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} وَقَالَ أَنَسٌ {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ النِّسَاءِ} ذَوَاتُ الأَزْوَاجِ الْحَرَائِرُ حَرَامٌ {إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} لاَ يَرَى بَأْسًا أَنْ يَنْزِعَ الرَّجُلُ جَارِيَتَهُ مِنْ عَبْدِهِ وَقَالَ {وَلاَ تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَا زَادَ عَلَى أَرْبَعٍ فَهُوَ حَرَامٌ كَأُمِّهِ وَابْنَتِهِ وَأُخْتِهِ
5105- وَقَالَ لَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ سُفْيَانَ حَدَّثَنِي حَبِيبٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ حَرُمَ مِنْ النَّسَبِ سَبْعٌ وَمِنْ الصِّهْرِ سَبْعٌ ثُمَّ قَرَأَ {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} الْآيَةَ وَجَمَعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ بَيْنَ ابْنَةِ عَلِيٍّ وَامْرَأَةِ عَلِيٍّ وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ لاَ بَأْسَ بِهِ وَكَرِهَهُ الْحَسَنُ مَرَّةً ثُمَّ قَالَ لاَ بَأْسَ بِهِ وَجَمَعَ الْحَسَنُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ بَيْنَ ابْنَتَيْ عَمٍّ فِي لَيْلَةٍ وَكَرِهَهُ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ لِلْقَطِيعَةِ وَلَيْسَ فِيهِ تَحْرِيمٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} وَقَالَ عِكْرِمَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ إِذَا زَنَى بِأُخْتِ امْرَأَتِهِ لَمْ تَحْرُمْ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ وَيُرْوَى عَنْ يَحْيَى الْكِنْدِيِّ عَنْ الشَّعْبِيِّ وأَبِي جَعْفَرٍ فِيمَنْ يَلْعَبُ بِالصَّبِيِّ إِنْ أَدْخَلَهُ فِيهِ فَلاَ يَتَزَوَّجَنَّ أُمَّهُ وَيَحْيَى هَذَا غَيْرُ مَعْرُوفٍ وَلَمْ يُتَابَعْ عَلَيْهِ وَقَالَ عِكْرِمَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ إِذَا زَنَى بِهَا لَمْ تَحْرُمْ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي نَصْرٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ حَرَّمَهُ وَأَبُو نَصْرٍ هَذَا لَمْ يُعْرَفْ بِسَمَاعِهِ مِنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَيُرْوَى عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَالْحَسَنِ وَبَعْضِ أَهْلِ الْعِرَاقِ تَحْرُمُ عَلَيْهِ وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ لاَ تَحْرُمُ حَتَّى يُلْزِقَ بِالأَرْضِ يَعْنِي يُجَامِعَ وَجَوَّزَهُ ابْنُ الْمُسَيَّبِ وَعُرْوَةُ وَالزُّهْرِيُّ وَقَالَ الزُّهْرِيُّ قَالَ عَلِيٌّ لاَ تَحْرُمُ وَهَذَا مُرْسَلٌ
قوله: "باب ما يحل من النساء وما يحرم، وقوله تعالى :{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} الآية إلى {عَلِيماً حَكِيماً} كذا لأبي ذر، وساق في رواية كريمة إلى قوله: {وَبَنَاتُ الْأُخْتِ} ثم قال إلى قوله: {عَلِيماً حَكِيماً} وذلك يشمل الآيتين، فإن الأول إلى قوله: {غَفُوراً رَحِيماً}. قوله: "وقال أنس {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} ذوات الأزواج الحرائر حرام {إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} ، لا يرى بأسا أن ينزع الرجل جاريته" وفي رواية الكشميهني جارية "من عبده" وصله إسماعيل القاضي في كتاب "أحكام القرآن" بإسناد صحيح من طريق سليمان التيمي عن أبي مجلز عن أنس بن مالك أنه قال في قوله تعالى :{وَالْمُحْصَنَاتُ} ذوات الأزواج الحرائر {إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} فإذا هو لا يرى بما ملك اليمين بأسا أن ينزع الرجل الجارية من عبده فيطأها، وأخرجه ابن أبي شيبة من طريق أخرى عن التيمي بلفظ ذوات البعول وكان يقول بيعها طلاقها، والأكثر على أن المراد بالمحصنات ذوات الأزواج يعني أنهن حرام وأن المراد بالاستثناء في قوله : {إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} المسبيات إذا كن متزوجات فإنهن حلال لمن سباهن. قوله: "وقال" أي قال الله عز وجل: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} أشار بهذا إلى التنبيه على من حرم نكاحها زائدا على ما في الآيتين فذكر المشركة وقد استثنيت الكتابية والزائدة على الرابعة فدل ذلك على أن العدد الذي في قول ابن العباس الذي بعده لا مفهوم له وإنما أراد حصر ما في الآيتين. قوله: "وقال ابن عباس: ما زاد على أربع فهو حرام كأمه وابنته وأخته" وصله الفريابي وعبد بن حميد بإسناد صحيح عنه ولفظه في قوله تعالى :{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}: لا يحل له أن يتزوج فوق أربع نسوة، فما زاد منهن عليه حرام، والباقي مثله، وأخرجه البيهقي. قوله: "وقال لنا أحمد بن حنبل" هذا فيما قيل أخذه المصنف عن الإمام أحمد في المذاكرة أو الإجازة، والذي ظهر لي بالاستقراء أنه إنما استعمل هذه الصيغة في الموقوفات، وربما استعملها فيما فيه قصور ما عن شرطه، والذي هنا من الشق الأول، وليس للمصنف في هذا الكتاب رواية عن أحمد إلا في هذا الموضع. وأخرج عنه في آخر المغازي حديثا بواسطة وكأنه لم يكثر عنه لأنه في رحلته القديمة لقي كثيرا من مشايخ أحمد فاستغنى بهم، وفي رحلته الأخيرة كان أحمد قد قطع التحديث فكان لا يحدث إلا نادرا فمن ثم أكثر البخاري عن علي بن المديني دون أحمد، وسفيان المذكور هذا الإسناد هو الثوري، وحبيب هو ابن أبي ثابت. قوله: "حرم من النسب سبع، ومن الصهر سبع" في رواية ابن مهدي عن سفيان عن الإسماعيلي: "حرم عليكم" وفي لفظ: "حرمت عليكم". قوله: "ثم قرأ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} الآية" في رواية يزيد بن هارون عن سفيان عند الإسماعيلي: "قرأ الآيتين" وإلى هذه الرواية أشار المصنف بقوله في الترجمة "إلى {عَلِيماً حَكِيماً}" فإنها آخر الآيتين، ووقع عند الطبراني من طريق عمير مولى ابن عباس عن ابن عباس في آخر الحديث: "ثم قرأ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} حتى بلغ: {وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ} ، ثم قال: هذا النسب. ثم قرأ: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} حتى بلغ : {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} ، وقرأ: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} فقال: هذا الصهر" انتهى، فإذا جمع بين الروايتين كانت الجملة خمس عشرة امرأة، وفي تسمية ما هو بالرضاع صهرا تجوز، وكذلك امرأة الغير، وجميعهن على التأبيد إلا الجمع بين الأختين وامرأة الغير، ويلتحق بمن ذكر موطوءة الجد وإن علا وأم الأم ولو علت وكذا أم الأب وبنت الابن ولو سفلت وكذا بنت البنت وبنت بنت الأخت ولو سفلت وكذا بنت بنت الأخ وبنت ابن الأخ والأخت وعمة الأب ولو علت وكذا عمة الأم وخالة الأم ولو علت وكذا خالة الأب وجدة الزوجة ولو علت وبنت الربيبة ولو سفلت وكذا بنت الربيب وزوجة ابن الابن وابن البنت والجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها، وسيأتي في باب مفرد "ويحرم من الرضاع ما يحرم من النسب" وتقدم في باب مفرد، وبيان ما قيل إنه يستثنى من ذلك قوله: "وجمع عبد الله بن جعفر" أي ابن أبي طالب "بين بنت علي وامرأة علي" كأنه أشار بذلك إلى دفع من يتخيل أن العلة في منع الجمع بين الأختين ما يقع بينهما من القطيعة فيطرده إلى كل قريبتين ولو بالصهارة فمن ذلك الجمع بين المرأة وبنت زوجها، والأثر المذكور وصله البغوي في "الجعديات" من طريق عبد الرحمن بن مهران أنه قال: "جمع عبد الله بن جعفر بين زينب بنت علي وامرأة علي ليلى بنت مسعود" وأخرجه سعيد بن منصور من وجه آخر فقال: "ليلى بنت مسعود النهشلية وأم كلثوم بنت علي لفاطمة فكانتا امرأتيه" وقوله لفاطمة أي من فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تعارض بين الروايتين في زينب وأم كلثوم لأنه تزوجهما واحدة بعد أخرى مع بقاء ليلى في عصمته، وقد وقع ذلك مبينا عند ابن سعد. قوله: "وقال ابن سيرين لا بأس به" وصله سعيد بن منصور عنه بسند صحيح، وأخرجه ابن أبي شيبة مطولا من طريق أيوب عن عكرمة بن خالد "أن عبد الله بن صفوان تزوج امرأة رجل من ثقيف وابنته - أي من غيرها - قال أيوب: فسئل عن ذلك ابن سيرين فلم ير به بأسا وقال: نبئت أن رجل كان بمصر اسمه جبلة جمع بين امرأة رجل وبنته من غيرها" وأخرج الدار قطني من طريق أيوب أيضا عن ابن سيرين أن "رجلا من أهل مصر كانت له صحبة يقال له جبلة" فذكره قوله: "وكرهه الحسن مرة ثم قال لا بأس به" وصله الدار قطني في آخر الأثر الذي قبله بلفظ: "وكان الحسن يكرهه" وأخرجه أبو عبيد في كتاب النكاح من طريق سلمة بن علقمة قال: "إني لجالس عند الحسن إذ سأله رجل عن الجمع بين البنت وامرأة زوجها فكرهه، فقال له بعضهم: يا أبا سعيد، هل ترى به بأسا؟ فنظر ساعة ثم قال: ما أرى به بأسا" وأخرج ابن أبي شيبة عن عكرمة أنه كرهه، وعن سليمان بن يسار ومجاهد والشعبي أنهم قالوا لا بأس به. قوله: "وجمع الحسن بن الحسن بن علي بين بنتي عم في ليلة" وصله عبد الرزاق وأبو عبيد من طريق عمرو ابن دينار بهذا وزاد: "في ليلة واحدة بنت محمد بن علي وبنت عمر بن علي، فقال محمد بن علي هو أحب إلينا منهما" وأخرج عبد الرزاق أيضا والشافعي من وجه آخر عن عمرو بن دينار عن الحسن بن محمد بن علي فلم ينسب المرأتين ولم يذكر قول محمد بن علي وزاد: "فأصبح النساء لا يدرين أين يذهبن". قوله: "وكرهه جابر بن زيد للقطيعة" وصله أبو عبيد من طريقه. وأخرج عبد الرزاق نحوه عن قتادة وزاد وليس بحرام. قوله: "وليس فيه تحريم" لقوله تعالى :{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} هذا من تفقه المصنف، وقد صرح به قتادة قبله كما ترى، وقد قال ابن المنذر: لا أعلم أحدا أبطل هذا النكاح، قال: وكان يلزم من يقول بدخول القياس في مثل هذا أن يحرمه، وقد أشار جابر بن زيد إلى العلة بقوله: "للقطيعة" أي لأجل وقوع القطيعة بينهما، لما يوجبه التنافس بين الضرتين في العادة، وسيأتي التصريح بهذه العلة في حديث النهي عن الجمع بين المرأة وعمتها، بل جاء ذلك منصوصا في جميع القرابات، فأخرج أبو داود وابن أبي شيبة من مرسل عيسى بن طلحة "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تنكح المرأة على قرابتها مخافة القطيعة" وأخرج الخلال من طريق إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أبيه عن أبي بكر وعمر وعثمان أنهم كانوا يكرهون الجمع بين القرابة مخافة الضغائن، وقد نقل العمل بذلك عن ابن أبي ليلى وعن زفر أيضا ولكن انعقد الإجماع على خلافه وقاله ابن عبد البر وابن حزم وغيرهما. قوله: "وقال عكرمة عن ابن عباس: إذا زنى بأخت امرأته لم تحرم عليه امرأته" هذا مصير من ابن عباس إلى أن المراد بالنهي عن الجمع بين الأختين إذا كان الجمع بعقد التزويج وهذا الأثر وصله عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء "عن ابن عباس في رجل زنى بأخت امرأته قال: تخطى حرمة إلى حرمة ولم تحرم عليه امرأته" قال ابن جريج وبلغني عن عكرمة مثله، وأخرجه ابن أبي شيبة من طريق قيس بن سعد عن عطاء عن ابن عباس قال: "جاوز حرمتين إلى حرمة ولم تحرم عليه امرأته" وهذا قول الجمهور، وخالفت فيه طائفة كما سيجيء. قوله: "ويروى عن يحيى الكندي عن الشعبي وأبي جعفر فيمن يلعب بالصبي أن أدخله فيه فلا يتزوجن أمه" في رواية أبي ذر عن المستملي: "وابن جعفر" يدل قوله وأبي جعفر، والأول هو المعتمد، وكذا وقع في رواية ابن نصر بن مهدي عن المستملي كالجماعة، وهكذا وصله وكيع في مصنفه عن سفيان الثوري عن يحيى. قوله: "ويحيى هذا غير معروف ولم يتابع عليه" انتهى وهو ابن قيس، روى أيضا عن شريح روى عنه الثوري وأبو عوانة وشريك. فقول المصنف "غير معروف" أي غير معروف العدالة وإلا فاسم الجهالة ارتفع عنه برواية هؤلاء، وقد ذكره البخاري في تاريخه وابن أبي حاتم ولم يذكر فيه جرحا، وذكره ابن حبان في الثقات كعادته فيمن لم يجرح، والقول الذي رواه يحيى هذا قد نسب إلى سفيان الثوري والأوزاعي وبه قال أحمد وزاد: وكذا لو تلوط بأبي امرأته أو بأخيها أو بشخص ثم ولد للشخص بنت فإن كلا منهن تحرم على الواطئ لكونها بنت أو أخت من نكحه، وخالف ذلك الجمهور فخصوه بالمرأة المعقود عليها، وهو ظاهر القرآن لقوله: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} والذكر ليس من النساء ولا أختا، وعند الشافعية فيمن تزوج امرأة فلاط بها هل تحرم عليه بنتها أم لا؟ وجهان. والله أعلم. قوله: "وقال عكرمة عن ابن عباس: إذا زنى بها لا تحرم عليه امرأته" وصله البيهقي من طريق هشام عن قتادة عن عكرمة بلفظ في رجل غشى أم امرأته قال: "تخطى حرمتين ولا تحرم عليه امرأته" وإسناده صحيح. وفي الباب حديث مرفوع أخرجه الدار قطني والطبراني من حديث عائشة "إن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الرجل يتبع المرأة حراما ثم ينكح ابنتها أو البنت ثم ينكح أمها، قال : لا يحرم الحرام الحلال إنما يحرم ما كان بنكاح حلال" وفي إسنادهما عثمان بن عبد الرحمن الوقاصي وهو متروك، وقد أخرج ابن ماجه طرفا منه من حديث ابن عمر لا يحرم الحرام الحلال، وإسناده أصلح من الأول. قوله: "ويذكر عن أبي نصر عن ابن عباس أنه حرمه" وصله الثوري في جامعه من طريقه ولفظه أن رجلا قال أنه أصاب أم امرأته، فقال له ابن عباس: حرمت عليك امرأتك، وذلك بعد أن ولدت منه سبعة أولاد كلهم بلغ مبالغ الرجال". قوله: "وأبو نصر هذا لم يعرف بسماعه من ابن عباس" كذا للأكثر. وفي رواية ابن المهدي عن المستملي لا يعرف سماعه وهي أوجه وأبو نصر هذا بصري أسدي، وثقه أبو زرعة. وفي الباب حديث ضعيف أخرجه ابن أبي شيبة من حديث أم هانئ مرفوعا: "من نظر إلى فرج امرأة لم تحل له أمها ولا بنتها" وإسناده مجهول قاله البيهقي. قوله: "ويروى عن عمران بن حصين والحسن وجابر بن زيد وبعض أهل العراق أنها تحرم عليه" أما قول عمران فوصله عبد الرزاق من طريق الحسن البصري عنه، قال فيمن فجر بأم امرأته حرمتا عليه جميعا، ولا بأس بإسناده، وأخرجه ابن أبي شيبة من طريق قتادة عن عمران وهو منقطع، وأما قول جابر بن زيد والحسن فوصله ابن أبي شيبة من طريق قتادة

(9/156)


عنهما قال: حرمت عليه امرأته. قال قتادة: لا تحرم غير أنه لا يغشى امرأته حتى تنقضي عدة التي زنى بها. وأخرجه أبو عبيد من وجه آخر عن الحسن بلفظ: إذا فجر بأم امرأته أو ابنة امرأته حرمت عليه امرأته. وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: قال يحيى بن يعمر للشعبي: والله ما حرم حرام قط حلالا قط، فقال الشعبي: بلى لو صببت خمرا على ماء حرم شرب ذلك الماء. قال قتادة: وكان الحسن يقول مثل قول الشعبي. وأما قوله: "وقال بعض أهل العراق" فلعله عنى به الثوري، فإنه ممن قال بذلك من أهل العراق. وقد أخرج ابن أبي شيبة من طريق حماد عن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود قال: لا ينظر الله إلى رجل نظر إلى فرج امرأة وبنتها. ومن طريق مغيرة عن إبراهيم وعامر هو الشعبي في رجل وقع على أم امرأته قال: حرمتا عليه كلتاهما، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، قالوا إذا زنى بامرأة حرمت عليه أمها وبنتها، وبه قال من غير أهل العراق عطاء والأوزاعي وأحمد وإسحاق، وهي رواية عن مالك، وأبى ذلك الجمهور وحجتهم أن النكاح في الشرع إنما يطلق على المعقود عليها لا على مجرد الوطء، وأيضا فالزنا لا صداق فيه ولا عدة ولا ميراث، قال ابن عبد البر: وقد أجمع أهل الفتوى من الأمصار على أنه لا يحرم على الزاني تزوج من زنى بها، فنكاح أمها وابنتها أجوز. قوله: "وقال أبو هريرة: لا تحرم عليه حتى يلزق بالأرض، يعني حتى يجامع" قال ابن التين يلزق بفتح أوله وضبطه غيره بالضم وهو أوجه، وبالفتح لازم وبالضم متعد يقال لزق به لزوقا وألزقه بغيره، وهو كناية عن الجماع كما قال المصنف وكأنه أشار إلى خلاف الحنفية فأنهم قالوا: تحرم عليه امرأته بمجرد لمس أمها والنظر إلى فرجها، فالحاصل أن ظاهر كلام أبي هريرة أنها لا تحرم إلا إن وقع الجماع، فيكون في المسألة ثلاثة آراء: فمذهب الجمهور لا تحرم إلا بالجماع مع العقد، والحنفية وهو قول عن الشافعي تلتحق المباشرة بشهوة بالجماع لكونه استمتاعا ومحل ذلك إذا كانت المباشرة بسبب مباح أما المحرم فلا يؤثر كالزنا، والمذهب الثالث إذا وقع الجماع حلالا أو زنا أثر بخلاف مقدماته. قوله: "وجوزه سعيد بن المسيب وعروة والزهري" أي أجازوا للرجل أن يقيم مع امرأته ولو زنى بأمها أو أختها سواء فعل مقدمات الجماع أو جامع ولذلك أجازوا له أن يتزوج بنت أو أم من فعل بها ذلك، وقد روى عبد الرزاق من طريق الحارث بن عبد الرحمن قال: سألت سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير عن الرجل يزني بالمرأة هل تحل له أمها؟ فقالا: لا يحرم الحرام الحلال، وعن معمر عن الزهري مثله، وعند البيهقي من طريق يونس بن يزيد عن الزهري أنه سئل عن الرجل يفجر بالمرأة أيتزوج ابنتها؟ فقال: قال بعض العلماء لا يفسد الله حلالا بحرام. قوله: "وقال الزهري قال علي: لا يحرم وهذا مرسل" أما قول الزهري فوصله البيهقي من طريق يحيى بن أيوب عن عقيل عنه أنه سئل عن رجل وطئ أم امرأته، فقال: قال علي بن أبي طالب لا يحرم الحرام الحلال. وأما قوله: وهذا مرسل، ففي رواية الكشميهني وهو مرسل أي منقطع، فأطلق المرسل على المنقطع كما تقدم في فضائل القرآن والخطب فيه سهل، والله أعلم

(9/157)


27- باب {وَرَبَائِبُكُمْ اللاَتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ اللاَتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ الدُّخُولُ وَالْمَسِيسُ وَاللِّمَاسُ هُوَ الْجِمَاعُ وَمَنْ قَالَ بَنَاتُ وَلَدِهَا مِنْ بَنَاتِهِ فِي التَّحْرِيمِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمِّ حَبِيبَةَ لاَ تَعْرِضْنَ عَلَيَّ بَنَاتِكُنَّ وَلاَ أَخَوَاتِكُنَّ وَكَذَلِكَ حَلاَئِلُ وَلَدِ الأَبْنَاءِ هُنَّ حَلاَئِلُ الأَبْنَاءِ وَهَلْ تُسَمَّى الرَّبِيبَةَ

(9/157)


وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِي حَجْرِهِ وَدَفَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَبِيبَةً لَهُ إِلَى مَنْ يَكْفُلُهَا وَسَمَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْنَ ابْنَتِهِ ابْنًا"
5106- حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ زَيْنَبَ عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ قَالَتْ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ لَكَ فِي بِنْتِ أَبِي سُفْيَانَ قَالَ فَأَفْعَلُ مَاذَا قُلْتُ تَنْكِحُ قَالَ أَتُحِبِّينَ قُلْتُ لَسْتُ لَكَ بِمُخْلِيَةٍ وَأَحَبُّ مَنْ شَرِكَنِي فِيكَ أُخْتِي قَالَ إِنَّهَا لاَ تَحِلُّ لِي قُلْتُ بَلَغَنِي أَنَّكَ تَخْطُبُ قَالَ ابْنَةَ أُمِّ سَلَمَةَ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ لَوْ لَمْ تَكُنْ رَبِيبَتِي مَا حَلَّتْ لِي أَرْضَعَتْنِي وَأَبَاهَا ثُوَيْبَةُ فَلاَ تَعْرِضْنَ عَلَيَّ بَنَاتِكُنَّ وَلاَ أَخَوَاتِكُنَّ وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنَا هِشَامٌ دُرَّةُ بِنْتُ أَبِي سَلَمَةَ"
قوله: "باب {وَرَبَائِبُكُمْ اللاَتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ اللاَتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} هذه الترجمة معقودة لتفسير الربيبة وتفسير المراد بالدخول. فأما الربيبة فهي بنت امرأة الرجل، قيل لها ذلك لأنها مربوبة، وغلط من قال هو من التربية. وأما الدخول ففيه قولان: أحدهما أن المراد به الجماع وهو أصح قولي الشافعي، والقول الآخر وهو قول الأئمة الثلاثة المراد به الخلوة. قوله: "وقال ابن عباس: الدخول والمسيس واللماس هو الجماع" تقدم ذكر من وصله عنه في تفسير المائدة، وفيه زيادة. وروى عبد الرزاق من طريق بكر بن عبد الله المزني قال قال ابن عباس: الدخول والتغشي والإفضاء والمباشرة والرفث واللمس الجماع، إلا أن الله حيي كريم يكنى بما شاء عما شاء. قوله: "ومن قال بنات ولدها هن من بناتها في التحريم" سقط من هنا إلى آخر الترجمة من رواية أبي ذر عن السرخسي، وقد تقدم حكم ذلك في الباب الذي قبله. قوله: "لقول النبي صلى الله عليه وسلم لأم حبيبة إلخ" قد وصله في الباب، ووجه الدلالة من عموم قوله: "بناتكن" لأن الابن بنت. قوله: "وكذلك حلائل ولد الأبناء هن حلائل الأبناء" أي مثلهن في التحريم، وهذا بالاتفاق، فكذلك بنات الأبناء وبنات البنات. قوله: "وهل تسمى الربيبة وإن لم تكن في حجره" أشار بهذا إلى أن التقييد بقوله: "في حجوركم" هل هو للغالب، أو يعتبر فيه مفهوم المخالفة؟ وقد ذهب الجمهور إلى الأول، وفيه خلاف قديم أخرجه عبد الرزاق وابن المنذر وغيرهما من طريق إبراهيم بن عبيد عن مالك بن أوس قال: كانت عندي امرأة قد ولدت لي، فماتت فوجدت عليها، فلقيت علي بن أبي طالب فقال لي: مالك؟ فأخبرته، فقال: ألها ابنة؟ يعني من غيرك، قلت: نعم قال: كانت في حجرك؟ قلت: لا، هي في الطائف، قال: فانكحها، قلت: فأين قوله تعالى :{وَرَبَائِبُكُمُ} قال إنها لم تكن في حجرك. وقد دفع بعض المتأخرين هذا الأثر وادعى نفي ثبوته بأن إبراهيم بن عبيد لا يعرف، وهو عجيب، فإن الأثر المذكور عند ابن أبي حاتم في تفسيره من طريق إبراهيم بن عبيد بن رفاعة، وإبراهيم ثقة تابعي معروف، وأبوه وجده صحابيان، والأثر صحيح عن علي. وكذا صح عن عمر أنه أفتى من سأله إذ تزوج بنت رجل كانت تحته جدتها ولم تكن البنت في حجره أخرجه أبو عبيد، وهذا وإن كان الجمهور على خلافه فقد احتج أبو عبيد للجمهور بقوله صلى الله عليه وسلم: "فلا تعرضن علي بناتكن" قال نعم ولم يقيد بالحجر، وهذا فيه نظر لأن المطلق محمول على المقيد، ولولا الإجماع الحادث في المسألة وندرة المخالف لكان الأخذ به أولى. لأن التحريم جاء مشروطا بأمرين: أن تكون في الحجر وأن يكون الذي يريد التزويج قد دخل بالأم، فلا تحرم بوجود أحد الشرطين.

(9/158)


واحتجوا أيضا بقوله صلى الله عليه وسلم: "لو لم تكن ربيبتي ما حلت لي" وهذا وقع في بعض طرق الحديث ما تقدم، وفي أكثر طرقه: "لو لم تكن ربيبتي في حجري" فقيد بالحجر كما قيد به القرآن فقوي اعتباره، والله أعلم. قوله: "ودفع النبي صلى الله عليه وسلم ربيبة له إلى من يكفلها" هذا طرف من حديث وصله البزار والحاكم من طريق أبي إسحاق عن فروة بن نوفل الأشجعي عن أبيه "وكان النبي صلى الله عليه وسلم دفع إليه زينب بنت أم سلمة وقال: إنما أنت ظئري، قال فذهب بها ثم جاء، فقال: ما فعلت الجويرة به؟ قال: عند أمها - يعني من الرضاعة - وجئت لتعلمني" فذكر حديثا فيما يقرأ عند النوم، وأصله عند أصحاب السنن الثلاثة بدون القصة، وأصل قصة زينب بنت أم سلمة عند أحمد وصححه ابن حبان من طريق أبي بكر بن عبد الرحمن ابن الحارث أن أم سلمة أخبرته أنها "لما قدمت المدينة - فذكرت القصة في هجرتها ثم موت أبي سلمة - قالت فلما وضعت زينب جاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم فخطبني - الحديث وفيه - فجعل يأتينا فيقول أين زناب؟ حتى جاء عمار هو ابن ياسر فاختلجها وقال: هذه تمنع رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجته، وكانت ترضعها، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال أين زناب؟ فقالت قريبة بنت أبي أمية وهي أخت أم سلمة: وافقتها عندما أخذها عمار بن ياسر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إني آتيكم الليلة" وفي رواية لأحمد "فجاء عمار وكان أخاها لأمها - يعني أم سلمة - فدخل علها فانتشطها من حجرها وقال: دعي هذه المقبوحة" الحديث. قوله: "وسمى النبي صلى الله عليه وسلم ابن ابنته ابنا" هذا طرف من حديث تقدم موصولا في المناقب من حديث أبي بكرة وفيه: "إن ابني هذا سيد" يعني الحسن بن علي، وأشار المصنف بهذا إلى تقوية ما تقدم ذكره في الترجمة أن بنت ابن الزوجة في حكم بنت الزوجة ثم ساق حديث أم حبيبة "قلت يا رسول الله هل لك في بنت أبي سفيان" وقد تقدم شرحه مستوفى قبل هذا، وقوله: "أرضعتني وأباها ثويبة" هو بفتح الهمزة والموحدة الخفيفة، وثويبة بالرفع الفاعل والضمير لبنت أم سلمة، والمعنى أرضعتني ثويبة وأرضعت والد درة بنت أبي سلمة، وقد تقدم في الباب الماضي التصريح بذلك فقال: "أرضعتني وأبا سلمة" وإنما نبهت على ذلك لأن صاحب "المشارق" نقل أن بعض الرواة عن أبي ذر رواها بكسر الهمزة وتشديد التحتانية فصحف، ويكفي في الرد عليه قوله الرواية في الأخرى "إنها ابنة أخي من الرضاعة" ووقع في رواية لمسلم: "أرضعتني وأباها أبا سلمة". قوله:" وقال الليث حدثنا هشام درة بنت أم سلمة "يعني أن الليث رواه عن هشام بن عروة بالإسناد المذكور فسمى بنت أم سلمة درة، وكأنه رمز بذلك إلى غلط من سماها زينب، وقد قدمت أنها في رواية الحميدي عن سفيان؛ وأن المصنف أخرجه عن الحميدي فلم يسمها، وقد ذكر المصنف الحديث أيضا في الباب الذي بعده من طريق الليث أيضا عن ابن شهاب عن عروة فسماها أيضا درة

(9/159)


باب وأن تجمعوا بين الأختين إلا ماقد سلف
...
28- باب {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ }
5107- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ أَخْبَرَهُ أَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ قَالَتْ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ انْكِحْ أُخْتِي بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ قَالَ وَتُحِبِّينَ قُلْتُ نَعَمْ لَسْتُ لَكَ بِمُخْلِيَةٍ وَأَحَبُّ مَنْ شَارَكَنِي فِي خَيْرٍ أُخْتِي فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ ذَلِكِ لاَ يَحِلُّ لِي قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَوَاللَّهِ إِنَّا لَنَتَحَدَّثُ أَنَّكَ تُرِيدُ أَنْ تَنْكِحَ دُرَّةَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ بِنْتَ أُمِّ سَلَمَةَ

(9/159)


فَقُلْتُ نَعَمْ قَالَ فَوَاللَّهِ لَوْ لَمْ تَكُنْ فِي حَجْرِي مَا حَلَّتْ لِي إِنَّهَا لاَبْنَةُ أَخِي مِنْ الرَّضَاعَةِ أَرْضَعَتْنِي وَأَبَا سَلَمَةَ ثُوَيْبَةُ فَلاَ تَعْرِضْنَ عَلَيَّ بَنَاتِكُنَّ وَلاَ أَخَوَاتِكُنَّ"
قوله: "باب {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} أورد فيه حديث أم حبيبة المذكور لقوله: "فلا تعرضن علي بناتكن ولا أخواتكن" والجمع بين الأختين في التزويج حرام بالإجماع، سواء كانتا شقيقتين أم من أب أم من أم، وسواء النسب والرضاع. واختلف فيما إذا كانتا بملك اليمين، فأجازه بعض السلف وهو رواية عن أحمد والجمهور، وفقهاء الأمصار على المنع، ونظيره الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها، وحكاه الثوري عن الشيعة.

(9/160)


29 - باب لاَ تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا
5108- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا عَاصِمٌ عَنْ الشَّعْبِيِّ سَمِعَ جَابِرًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُنْكَحَ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا وَقَالَ دَاوُدُ وَابْنُ عَوْنٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ"
5109- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال : "لاَ يُجْمَعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا وَلاَ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا"
[الحديث 5109- طرفه في: 5110]
5110- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ حَدَّثَنِي قَبِيصَةُ بْنُ ذُؤَيْبٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُنْكَحَ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَالْمَرْأَةُ وَخَالَتُهَا فَنُرَى خَالَةَ أَبِيهَا بِتِلْكَ الْمَنْزِلَةِ"
5111- لِأَنَّ عُرْوَةَ حَدَّثَنِي عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ حَرِّمُوا مِنْ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ"
قوله: "باب لا تنكح المرأة على عمتها" أي ولا على خالتها وهذا اللفظ رواية أبي بكر ابن أبي شيبة عن عبد الله ابن المبارك بإسناد حديث الباب، وكذا هو عند مسلم من طريق يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة ومن طريق هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة. قوله: "عاصم" هو ابن سليمان البصري الأحول. قوله: "الشعبي سمع جابرا" كذا قال عاصم وحده. قوله: "وقال داود وابن عون عن الشعبي عن أبي هريرة" أما رواية داود وهو ابن أبي هند فوصلها أبو داود والترمذي والدارمي من طريقه قال: "حدثنا عامر هو الشعبي أنبأنا أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن تنكح المرأة على عمتها. أو المرأة على خالتها، أو العمة على بنت أخيها، أو الخالة على بنت أختها لا الصغرى على الكبرى ولا الكبرى على الصغرى" لفظ الدارمي والترمذي نحوه، ولفظ أبي داود "لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها" وأخرجه مسلم من وجه آخر عن داود بن أبي هند فقال: "عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة فكان لداود فيه شيخين، وهو محفوظ لابن سيرين عن أبي هريرة من غير هذا الوجه. وأما رواية ابن عون وهو عبد الله فوصلها النسائي من طريق خالد بن الحارث

(9/160)


عنه بلفظ :" لا تزوج المرأة على عمتها ولا على خالتها" ووقع لنا في "فوائد أبي محمد بن أبي شريح" من وجه آخر عن ابن عون بلفظ: "نهى أن تنكح المرأة على ابنة أخيها أو ابنة أختها" والذي يظهر أن الطريقين محفوظان، وقد رواه حماد بن سلمة عن عاصم عن الشعبي عن جابر أو أبي هريرة لكن نقل البيهقي عن الشافعي أن هذا الحديث لم يرو من وجه يثبته أهل الحديث إلا عن أبي هريرة، وروى من وجوه لا يثبتها أهل العلم بالحديث، قال البيهقي هو كما قال، قد جاء من حديث علي وابن مسعود وابن عمر وابن عباس وعبد الله بن عمرو وأنس وأبي سعيد وعائشة، وليس فيها شيء على شرط الصحيح، وإنما اتفقا على إثبات حديث أبي هريرة. وأخرج البخاري رواية عاصم عن الشعبي عن جابر وبين الاختلاف على الشعبي فيه، قال: والحفاظ يرون رواية عاصم خطأ، والصواب رواية ابن عون وداود بن أبي هند ا هـ. وهذا الاختلاف لم يقدح عند البخاري، لأن الشعبي أشهر بجابر منه بأبي هريرة، وللحديث طرق أخرى عن جابر بشرط الصحيح أخرجها النسائي من طريق ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر، والحديث محفوظ أيضا من أوجه عن أبي هريرة، فلكل من الطريقين ما يعضده، وقول من نقل البيهقي عنهم تضعيف حديث جابر معارض بتصحيح الترمذي وابن حبان وغيرهما له، وكفى بتخريج البخاري له موصولا قوة. قال ابن عبد البر: كان بعض أهل الحديث يزعم أنه لم يرو هذا الحديث غير أبي هريرة - يعني من وجه يصح - وكأنه لم يصحح حديث الشعبي عن جابر وصححه عن أبي هريرة، والحديثان جميعا صحيحان. وأما من نقل البيهقي أنهم رووه من الصحابة غير هذين فقد ذكر مثل ذلك الترمذي بقوله: "وفي الباب:" لكن لم يذكر ابن مسعود ولا ابن عباس ولا أنسا، وزاد بدلهم أبا موسى وأبا أمامة وسمرة. ووقع لي أيضا من حديث أبي الدرداء ومن حديث عتاب بن أسيد ومن حديث سعد بن أبي وقاص ومن حديث زينب امرأة ابن مسعود فصار عدة من رواه غير الأولين ثلاثة عشر نفسا، وأحاديثهم موجودة عند ابن أبي شيبة وأحمد وأبي داود والنسائي وابن ماجه وأبي يعلى والبزار والطبراني وابن حبان وغيرهم، ولولا خشية التطويل لأوردتها مفصلة، لكن في لفظ حديث ابن عباس عند ابن أبي داود أنه كره أن يجمع بين العمة والخالة وبين العمتين والخالتين، وفي روايته عند ابن حبان: "نهي أن تزوج المرأة على العمة والخالة. وقال: إنكن إذا فعلتن ذلك قطعتن أرحامكن، قال الشافعي: تحريم الجمع بين من ذكر هو قول من لقيته من المفتين لا اختلاف بينهم في ذلك. وقال الترمذي بعد تخريجه: العمل على هذا عند عامة أهل العلم لا نعلم بينهم اختلافا أنه لا يحل للرجل أن يجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها ولا أن تنكح المرأة على عمتها أو خالتها. وقال ابن المنذر: لست أعلم في منع ذلك اختلافا اليوم، وإنما قال بالجواز فرقة من الخوارج، وإذا ثبت الحكم بالسنة واتفق أهل العلم على القول به لم يضره خلاف من خالفه، وكذا نقل الإجماع ابن عبد البر وابن حزم والقرطبي والنووي، لكن استثنى ابن حزم عثمان البتي وهو أحد الفقهاء القدماء من أهل البصرة وهو بفتح الموحدة وتشديد المثناة، واستثنى النووي طائفة من الخوارج والشيعة، واستثنى القرطبي الخوارج ولفظه: اختار الخوارج الجمع بين الأختين وبين المرأة وعمتها وخالتها، ولا يعتد بخلافهم لأنهم مرقوا من الدين ا هـ. وفي نقله عنهم جواز الجمع بين الأختين غلط بين، فإن عمدتهم التمسك بأدلة القرآن لا يخالفونها البتة وإنما يردون الأحاديث لاعتقادهم عدم الثقة بنقلتها، وتحريم الجمع بين الأختين بنصوص القرآن. ونقل ابن دقيق العيد تحريم الجمع بين المرأة وعمتها عن جمهور العلماء ولم يعين المخالف. قوله: "لا يجمع ولا ينكح" كله في الروايات بالرفع على الخبر عن المشروعية وهو يتضمن النهي

(9/161)


قاله القرطبي. قوله: "على عمتها" ظاهره تخصيص المنع بما إذا تزوج إحداهما على الأخرى، ويؤخذ منه منع تزويجهما معا، فإن جمع بينهما بعقد بطلا أو مرتبا بطل الثاني. قوله في الرواية الأخيرة "فنرى" بضم النون أي نظن، وبفتحها أي نعتقد. قوله: "خالة أبيها بتلك المنزلة" أي من التحريم. قوله: "لأن عروة حدثني إلخ" في أخذ هذا الحكم من هذا الحديث نظر، وكأنه أراد إلحاق ما يحرم بالصهر بما يحرم بالنسب كما يحرم بالرضاع ما يحرم بالنسب، ولما كانت خالة الأب من الرضاع لا يحل نكاحها فكذلك خالة الأب لا يجمع بينها وبين بنت ابن أخيها، وقد تقدم شرح حديث عائشة المذكور. قال النووي: احتج الجمهور بهذه الأحاديث وخصوا بها عموم القرآن في قوله تعالى :{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} وقد ذهب الجمهور إلى جواز تخصيص عموم القرآن بخبر الآحاد، وانفصل صاحب الهداية من الحنفية عن ذلك بأن هذا من الأحاديث المشهورة التي تجوز الزيادة على الكتاب بمثلها، والله أعلم

(9/162)


30- باب الشِّغَارِ
5112- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الشِّغَارِ وَالشِّغَارُ أَنْ يُزَوِّجَ الرَّجُلُ ابْنَتَهُ عَلَى أَنْ يُزَوِّجَهُ الْآخَرُ ابْنَتَهُ لَيْسَ بَيْنَهُمَا صَدَاقٌ"
[الحديث 5112- طرفه في: 6960]
قوله: "باب الشغار" بمعجمتين مكسور الأول. قوله: "نهى عن الشغار" في رواية ابن وهب عن مالك "نهى عن نكاح الشغار، ذكره ابن عبد البر، وهو مراد من حذفه. قوله: "والشغار أن يزوج الرجل ابنته إلخ" قال ابن عبد البر: ذكر تفسير الشغار جميع رواة مالك عنه. قلت: ولا يرد على إطلاقه أن أبا داود أخرجه عن القعنبي فلم يذكر التفسير، وكذا أخرجه الترمذي من طريق معن بن عيسى لأنهما اختصرا ذلك في تصنيفهما، وإلا فقد أخرجه النسائي من طريق معن بالتفسير، وكذا أخرجه الخطيب في "المدرج" من طريق القعنبي. نعم اختلف الرواة عن مالك فيمن ينسب إليه تفسير الشغار، فالأكثر لم ينسبوه لأحد، ولهذا قال الشافعي فيما حكاه البيهقي في "المعرفة" : لا أدري التفسير عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن ابن عمر أو عن نافع أو عن مالك، ونسبه محرز بن عون وغيره لمالك. قال الخطيب: تفسير الشغار ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم وإنما هو قول مالك وصل بالمتن المرفوع، وقد بين ذلك ابن مهدي والقعنبي ومحرز بن عون، ثم ساقه كذلك عنهم، ورواية محرز بن عون عند الإسماعيلي والدار قطني في "الموطآت" وأخرجه الدار قطني أيضا من طريق خالد بن مخلد عن مالك قال: سمعت أن الشغار أن يزوج الرجل إلخ، وهذا دال على أن التفسير من منقول مالك لا من مقوله. ووقع عند المصنف - كما سيأتي في كتاب ترك الحيل - من طريق عبيد الله بن عمر عن نافع في هذا الحديث تفسير الشغار من قول نافع ولفظه: "قال عبيد الله بن عمر قلت لنافع: ما الشغار؟ فذكره" فلعل مالكا أيضا نقله عن نافع. وقال أبو الوليد الباجي: الظاهر أنه من جملة الحديث، وعليه يحمل حتى يتبين أنه من قول الراوي وهو نافع. قلت: قد تبين ذلك، ولكن لا يلزم من كونه لم يرفعه أن لا يكون في نفس الأمر مرفوعا، فقد ثبت ذلك من غير روايته، فعند مسلم من رواية أبي أسامة وابن نمير عن عبيد الله بن عمر أيضا عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة مثله سواء، قال: وزاد ابن نمير

(9/162)


"والشغار أن يقول الرجل للرجل زوجني ابنتك وأزوجك ابنتي وزوجني أختك وأزوجك أختي" وهذا يحتمل أن يكون من كلام عبيد الله بن عمر فيرجع إلى نافع، ويحتمل أن يكون تلقاه عن أبي الزناد، ويؤيد الاحتمال الثاني وروده في حديث أنس وجابر وغيرهما أيضا، فأخرج عبد الرزاق عن معمر عن ثابت وأبان عن أنس مرفوعا: "لا شغار في الإسلام، والشغار أن يزوج الرجل الرجل أخته بأخته" وروى البيهقي من طريق نافع بن يزيد عن ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر مرفوعا: "نهي عن الشغار، والشغار أن ينكح هذه بهذه بغير صداق، بضع هذه صداق هذه وبضع هذه صداق هذه. وأخرج أبو الشيخ في كتاب النكاح من حديث أبي ريحانة "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المشاغرة، والمشاغرة أن يقول زوج هذا من هذه وهذه من هذا بلا مهر" قال القرطبي: تفسير الشغار صحيح موافق لما ذكره أهل اللغة فإن كان مرفوعا فهو المقصود، وإن كان من قول الصحابي فمقبول أيضا لأنه أعلم بالمقال وأقعد بالحال ا هـ. وقد اختلف الفقهاء هل يعتبر في الشغار الممنوع ظاهر الحديث في تفسيره، فإن فيه وصفين أحدهما تزويج من الوليين وليته للآخر بشرط أن يزوجه وليته، والثاني خلو بضع كل منهما من الصداق، فمنهم من اعتبرهما معا حتى لا يمنع مثلا إذا زوج كل منهما الآخر بغير شرط وإن لم يذكر الصداق، أو زوج كل منهما الآخر بالشرط وذكر الصداق. وذهب أكثر الشافعية إلى أن علة النهي الاشتراك في البضع لأن بضع كل منهما يصير مورد العقد، وجعل البضع صداقا مخالف لا يراد عقد النكاح، وليس المقتضي للبطلان ترك ذكر الصداق لأن النكاح يصح بدون تسمية الصداق. واختلفوا فيما إذا لم يصرحا بذكر البضع فالأصح عندهم الصحة، ولكن وجد نص الشافعي على خلافه ولفظه: إذا زوج الرجل ابنته أو المرأة يلي أمرها من كانت لآخر على أن صداق كل واحدة بضع الأخرى أو على أن ينكحه الأخرى ولم يسم أحد منهما لواحدة منهما صداقا فهذا الشغار الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو منسوخ، هكذا ساقه البيهقي بإسناده الصحيح عن الشافعي، قال: وهو الموافق للتفسير المنقول في الحديث، واختلف نص الشافعي فيما إذا سمي مع ذلك مهرا فنص في "الإملاء" على البطلان، وظاهر نصه في "المختصر" الصحة، وعلى ذلك اقتصر في النقل عن الشافعي من ينقل الخلاف من أهل المذاهب. وقال القفال: العلة في البطلان التعليق والتوقيف، فكأنه يقول لا ينعقد لك نكاح بنتي حتى ينعقد لي نكاح بنتك. وقال الخطابي: كان ابن أبي هريرة يشبه برجل تزوج امرأة ويستثنى عضوا من أعضائها وهو مما لا خلاف في فساده، وتقرير ذلك أنه يزوج وليته ويستثنى بضعها حيث يجعله صداقا للأخرى. وقال الغزالي في "الوسيط" : صورته الكاملة أن يقول زوجتك ابنتي على أن تزوجني ابنتك على أن يكون بضع كل واحدة منهما صداقا للأخرى، ومهما انعقد نكاح ابنتي انعقد نكاح ابنتك. قال شيخنا في "شرح الترمذي" ينبغي أن يزاد: ولا يكون مع البضع شيء آخر ليكون متفقا على تحريمه في المذهب. ونقل الخرقي أن أحمد نص على أن علة البطلان ترك ذكر المهر، ورجح ابن تيمية في "المحرر" أن العلة التشريك في البضع. وقال ابن دقيق العيد: ما نص عليه أحمد هو ظاهر التفسير المذكور في الحديث لقوله فيه ولا صداق بينهما، فإنه يشعر بأن جهة الفساد ذلك، وإن كان يحتمل أن يكون ذلك ذكر لملازمته لجهة الفساد، ثم قال: وعلى الجملة ففيه شعور بأن عدم الصداق له مدخل في النهي، ويؤيده حديث أبي ريحانة الذي تقدم ذكره. وقال ابن عبد البر: أجمع العلماء على أن نكاح الشغار لا يجوز، ولكن اختلفوا في صحته فالجمهور على البطلان. وفي رواية عن مالك يفسخ قبل الدخول لا بعده، وحكاه ابن المنذر عن الأوزاعي. وذهب الحنفية

(9/163)


إلى صحته ووجوب مهر المثل، وهو قول الزهري ومكحول والثوري والليث ورواية عن أحمد وإسحاق وأبي ثور، وهو قول على مذهب الشافعي، لاختلاف الجهة. لكن قال الشافعي: إن النساء محرمات إلا ما أحل الله أو ملك يمين، فإذا ورد النهي عن نكاح تأكد التحريم.
"تنبيه": ذكر البنت في تفسير الشغار مثال، وقد تقدم في رواية أخرى ذكر الأخت، قال النووي: أجمعوا على أن غير البنات من الأخوات وبنات الأخ وغيرهن كالبنات في ذلك، والله أعلم

(9/164)


31- باب هَلْ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَهَبَ نَفْسَهَا لِأَحَدٍ
5113- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ قَالَ كَانَتْ خَوْلَةُ بِنْتُ حَكِيمٍ مِنْ اللاَئِي وَهَبْنَ أَنْفُسَهُنَّ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ عَائِشَةُ أَمَا تَسْتَحِي الْمَرْأَةُ أَنْ تَهَبَ نَفْسَهَا لِلرَّجُلِ فَلَمَّا نَزَلَتْ {تُرْجِئُ مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَرَى رَبَّكَ إِلاَّ يُسَارِعُ فِي هَوَاكَ رَوَاهُ أَبُو سَعِيدٍ الْمُؤَدِّبُ وَمُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ وَعَبْدَةُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ يَزِيدُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ"
قوله: "باب هل للمرأة أن تهب نفسها لأحد" أي فيحل له نكاحها بذلك، وهذا يتناول صورتين: إحداهما مجرد الهبة من غير ذكر مهر، والثاني العقد بلفظ الهبة. فالصورة الأولى ذهب الجمهور إلى بطلان النكاح، وأجازه الحنفية والأوزاعي، ولكن قالوا يجب مهر المثل. وقال الأوزاعي: إن تزوج بلفظ الهبة وشرط أن لا مهر لم يصح النكاح. وحجة الجمهور قوله تعالى :{خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} فعدوا ذلك من خصائصه صلى الله عليه وسلم وأنه يتزوج بلفظ الهبة بغير مهر في الحال ولا في المآل. وأجاب المجيزون عن ذلك بأن المراد أن الواهبة تختص به لا مطلق الهبة. والصورة الثانية ذهب الشافعية وطائفة إلى أن النكاح لا يصح إلا بلفظ النكاح أو التزويج، لأنهما الصريحان اللذان ورد بهما القرآن والحديث. وذهب الأكثر إلى أنه يصح بالكنايات، واحتج الطحاوي لهم بالقياس على الطلاق فإنه يجوز بصرائحه وبكناياته مع القصد. قوله: "حدثنا هشام" هو ابن عروة عن أبيه "قال كانت خولة" هذا مرسل، لأن عروة لم يدرك زمن القصة، لكن السياق يشعر بأنه حمله عن عائشة. وقد ذكر المصنف عقب هذه الطريق رواية من صرح فيه بذكر عائشة تعليقا، وقد تقدم في تفسير الأحزاب من طريق أبي أسامة عن هشام كذلك موصولا. قوله: "بنت حكيم" أي ابن أمية بن الأوقص السلمية، وكانت زوج عثمان بن مظعون، وهي من السابقات إلى الإسلام، وأمها من بني أمية. قوله: "من اللائي وهبن" وكذا وقع في رواية أبي أسامة المذكورة "قالت كنت أغار من اللائي وهبن أنفسهن" وهذا يشعر بتعدد الواهبات وقد تقدم تفسيرهن في تفسير سورة الأحزاب، ووقع في رواية أبي سعيد المؤدب الآتي ذكرها في المعلقات عن عروة عن عائشة "قالت التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم خولة بنت حكيم" وهذا محمول على تأويل أنها السابقة إلى ذلك، أو نحو ذلك من الوجوه التي لا تقتضي الحصر المطلق. قوله: "فقالت عائشة: أما تستحي المرأة أن تهب نفسها" وفي رواية محمد بن بشر الموصولة عن عائشة أنها كانت تعير اللائي التقبيح وهبن أنفسهن. قوله: "أن تهب نفسها" زاد في رواية محمد بن بشر "بغير صداق". قوله: "فلما نزلت: ترجئ من تشاء" في رواية عبدة بن سليمان" فأنزل الله ترجئ" وهذا

(9/164)


أظهر في أن نزول الآية بهذا السبب، قال القرطبي حملت عائشة على هذا القبيح الغيرة التي طبعت عليها النساء وإلا فقد علمت أن الله أباح لنبيه ذلك وأن جميع النساء لو ملكن له رقهن لكان قليلا. قوله: "ما أرى ربك إلا يسارع في هواك" في رواية محمد بن بشر "إني لأرى ربك يسارع لك في هواك" أي في رضاك، قال القرطبي: هذا قول أبرزه الدلال والغيرة، وهو من نوع قولها ما أحمدكما ولا أحمد إلا الله، وإلا فإضافة الهوى إلى النبي صلى الله عليه وسلم لا تحمل على ظاهره، لأنه لا ينطق عن الهوى ولا يفعل بالهوى، ولو قالت إلى مرضاتك لكان أليق، ولكن الغيرة يغتفر لأجلها إطلاق مثل ذلك. قوله: "رواه أبو سعيد المؤدب ومحمد بن بشر وعبدة عن هشام عن أبيه عن عائشة يزيد بعضهم على بعض" أما رواية أبي سعيد واسمه محمد بن مسلم بن أبي الوضاح فوصلها ابن مردويه في التفسير والبيهقي من طريق منصور بن أبي مزاحم عنه مختصرا كما نبهت عليه "قالت التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم خولة بنت حكيم" حسب، وأما رواية محمد بن بشر فوصلها الإمام أحمد عنه بتمام الحديث، وقد بينت ما فيه من زيادة وفائدة، وأما رواية عبدة وهو ابن سليمان فوصلها مسلم وابن ماجه من طريقه وهي نحو رواية محمد بن بشر.

(9/165)


32- باب نِكَاحِ الْمُحْرِمِ
5114- حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ أَخْبَرَنَا عَمْرٌو حَدَّثَنَا جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ قَالَ أَنْبَأَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا تَزَوَّجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ"
قوله: "باب نكاح المحرم" كأنه يحتج إلى الجواز، لأنه لم يذكر في الباب شيئا غير حديث ابن عباس في ذلك، ولم يخرج حديث المنع كأنه لم يصح عنده على شرطه. قوله: "أخبرنا عمرو" هو ابن دينار، وجابر بن زيد هو أبو الشعثاء. قوله: "تزوج النبي صلى الله عليه وسلم وهو محرم" تقدم في أواخر الحج من طريق الأوزاعي عن عطاء عن ابن عباس بلفظ: "تزوج ميمونة وهو محرم" وفي رواية عطاء المذكورة عن ابن عباس عند النسائي: "تزوج النبي صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو محرم جعلت أمرها إلى العباس فأنكحها إياه" وتقدم في عمرة القضاء من رواية عكرمة بلفظ حديث الأوزاعي وزاد: "وبنا بها وهي حلال" وماتت بسرف، قال الأثرم: قلت لأحمد إن أبا ثور يقول بأي شيء يدفع حديث ابن عباس - أي مع صحته - قال فقال: الله المستعان، ابن المسيب يقول: وهم ابن عباس، وميمونة تقول تزوجني وهو حلال ا هـ. وقد عارض حديث ابن عباس حديث عثمان "لا ينكح المحرم ولا ينكح" أخرجه مسلم، ويجمع بينه وبين حديث ابن عباس يحمل حديث ابن عباس على أنه من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم. وقال ابن عبد البر: اختلفت الآثار في هذا الحكم؛ لكن الرواية أنه تزوجها وهو حلال، جاءت من طرق شتى، وحديث ابن عباس صحيح الإسناد، لكن الوهم إلى الواحد أقرب إلى الوهم من الجماعة فأقل أحوال الخبرين أن يتعارضا فتطلب الحجة من غيرهما وحديث عثمان صحيح في منع نكاح المحرم فهو المعتمد ا هـ، وقد تقدم في أواخر كتاب الحج البحث في ذلك ملخصا وأن منهم من حمل حديث عثمان على الوطء، وتعقب بأنه ثبت فيه: "لا ينكح بفتح أوله ولا ينكح بضم أوله ولا يخطب" ووقع في صحيح ابن حبان زيادة "ولا يخطب عليه" ويترجح حديث عثمان بأنه تقعيد قاعدة، وحديث ابن عباس واقعة عين تحتمل أنواعا من الاحتمالات: فمنها أن ابن عباس كان يرى أن من قلد الهدي يصير محرما كما تقدم تقرير ذلك عنه في كتاب الحج، والنبي صلى الله عليه وسلم كان قلد الهدي في عمرته تلك التي تزوج فيها ميمونة، فيكون

(9/165)


إطلاقه أنه صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو محرم أي عقد عليها بعد أن قلد الهدي وإن لم يكن تلبس بالإحرام، وذلك أنه كان أرسل إليها أبا رافع يخطبها فجعلت أمرها إلى العباس فزوجها من النبي صلى الله عليه وسلم. وقد أخرج الترمذي وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما من طريق مطر الوراق عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن سليمان بن يسار عن أبي رافع "أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو حلال، وبنى بها وهو حلال، وكنت أنا الرسول بينهما" قال الترمذي: لا نعلم أحدا أسنده غير حماد بن زيد عن مطر، ورواه مالك عن ربيعة عن سليمان مرسلا. ومنها أن قول ابن عباس تزوج ميمونة وهو محرم أي داخل الحرام أو في الشهر الحرام، قال الأعشى "قتلوا كسرى بليل محرما" أي في الشهر الحرام.وقال آخر "قتلوا ابن عفان الخليفة محرما" أي في البلد الحرام، وإلى هذا التأويل جنح ابن حبان فجزم به في صحيحه. وعارض حديث ابن عباس أيضا حديث يزيد بن الأصم "أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو حلال" أخرجه مسلم من طريق الزهري قال: "وكانت خالته كما كانت خالة ابن عباس" وأخرج مسلم من وجه آخر عن يزيد ابن الأصم قال: "حدثتني ميمونة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو حلال، قال: وكانت خالتي وخالة ابن عباس" وأما أثر ابن المسيب الذي أشار إليه أحمد فأخرجه أبو داود. وأخرج البيهقي من طريق الأوزاعي عن عطاء عن ابن عباس الحديث قال: وقال سعيد بن المسيب ذهل ابن عباس وإن كانت خالته ما تزوجها إلا بعدما أحل، قال الطبري: الصواب من القول عندنا أن نكاح المحرم فاسد لصحة حديث عثمان، وأما قصة ميمونة فتعارضت الأخبار فيها ثم ساق من طريق أيوب قال: أنبئت أن الاختلاف في زواج ميمونة إنما وقع لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان بعث إلى العباس لينكحها إياه فأنكحه، فقال بعضهم أنكحها قبل أن يحرم النبي صلى الله عليه وسلم. وقال بعضهم بعدما أحرم، وقد ثبت أن عمر وعليا وغيرهما من الصحابة فرقوا بين محرم نكح وبين امرأته ولا يكون هذا إلا عن ثبت. "تنبيه": قدمت في الحج أن حديث ابن عباس جاء مثله صحيحا عن عائشة وأبي هريرة، فأما حديث عائشة فأخرجه النسائي من طريق أبي سلمة عنه، وأخرجه الطحاوي والبزار من طريق مسروق عنها وصححه ابن حبان، وأكثر ما أعل بالإرسال وليس ذلك بقادح فيه. وقال النسائي: "أخبرنا عمرو بن علي أنبأنا أبو عاصم عن عثمان بن الأسود عن ابن أبي مليكة عن عائشة مثله" قال عمرو بن علي قلت لأبي عاصم: أنت أمليت علينا من الرقعة ليس فيه عائشة، فقال: دع عائشة حتى أنظر فيه، وهذا إسناد صحيح لولا هذه القصة، لكن هو شاهد قوي أيضا وأما حديث أبي هريرة أخرجه الدار قطني وفي إسناده كامل أبو العلاء وفيه ضعف، لكنه يعتضد بحديثي ابن عباس وعائشة، وفيه رد على قول ابن عبد البر أن ابن عباس تفرد من بين الصحابة بأن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج وهو محرم، وجاء عن الشعبي ومجاهد مرسلا مثله أخرجهما ابن أبي شيبة. وأخرج الطحاوي من طريق عبد الله بن محمد بن أبي بكر قال: سألت أنسا عن نكاح المحرم فقال: لا بأس به وهل هو [إلا] كالبيع وإسناده قوي لكنه قياس في مقابل النص فلا عبرة به، وكان أنسا لم يبلغه حديث عثمان

(9/166)


باب نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نكاح المتعة أخيراً
...
33- باب نَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ آخِرًا
5115- حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ أَنَّهُ سَمِعَ الزُّهْرِيَّ يَقُولُ أَخْبَرَنِي الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ وَأَخُوهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِمَا أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الْمُتْعَةِ وَعَنْ لُحُومِ

(9/166)


الْحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ زَمَنَ خَيْبَرَ"
5116- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي جَمْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ سُئِلَ عَنْ مُتْعَةِ النِّسَاءِ فَرَخَّصَ فَقَالَ لَهُ مَوْلًى لَهُ إِنَّمَا ذَلِكَ فِي الْحَالِ الشَّدِيدِ وَفِي النِّسَاءِ قِلَّةٌ أَوْ نَحْوَهُ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ نَعَمْ"
5117، 5118- حَدَّثَنَا عَلِيٌّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ عَمْرٌو عَنْ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَسَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ قَالاَ كُنَّا فِي جَيْشٍ فَأَتَانَا رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ إِنَّهُ قَدْ أُذِنَ لَكُمْ أَنْ تَسْتَمْتِعُوا فَاسْتَمْتِعُوا"
5119- وَقَالَ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ حَدَّثَنِي إِيَاسُ بْنُ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّمَا رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ تَوَافَقَا فَعِشْرَةُ مَا بَيْنَهُمَا ثَلاَثُ لَيَالٍ فَإِنْ أَحَبَّا أَنْ يَتَزَايَدَا أَوْ يَتَتَارَكَا تَتَارَكَا فَمَا أَدْرِي أَشَيْءٌ كَانَ لَنَا خَاصَّةً أَمْ لِلنَّاسِ عَامَّةً قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ وَبَيَّنَهُ عَلِيٌّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ"
قوله: "باب نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن نكاح المتعة أخيرا" يعني تزويج المرأة إلى أجل فإذا انقضى وقعت الفرقة. وقوله في الترجمة "أخيرا" يفهم منه أنه كان مباحا وأن النهي عنه وقع في آخر الأمر. وليس في أحاديث الباب التي أوردها التصريح بذلك، لكن قال في آخر الباب: "أن عليا بين أنه منسوخ" وقد وردت عدة أحاديث صحيحة صريحة بالنهي عنها بعد الإذن فيها، وأقرب ما فيها عهدا بالوفاة النبوية ما أخرجه أبو داود من طريق الزهري قال: "كنا عند عمر بن عبد العزيز فتذاكرنا متعة النساء، فقال رجل يقال له ربيع بن سبرة" أشهد على أبي أنه حدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها في حجة الوداع، وسأذكر الاختلاف في حديث سبرة هذا - وهو ابن معبد - بعد هذا. قوله: "أخبرني الحسن بن محمد بن علي" أي ابن أبي طالب، وأبوه محمد هو الذي يعرف بابن الحنفية، وأخوه عبد الله بن محمد. أما الحسن فأخرج له البخاري غير هذا، منها ما تقدم له في الغسل من روايته عن جابر، ويأتي له في هذا الباب آخر عن جابر وسلمة بن الأكوع، وأما أخوه عبد الله بن محمد فكنيته أبو هاشم وليس له في البخاري سوى هذا الحديث، ووثقه ابن سعد والنسائي والعجلي، وقد تقدمت له طريق أخرى في غزوة خيبر من كتاب المغازي، وتأتي أخرى في كتاب الذبائح، وأخرى في ترك الحيل؛ وقرنه في المواضع الثلاثة بأخيه الحسن، وذكر في التاريخ عن ابن عيينة عن الزهري "أخبرنا الحسن وعبد الله ابنا محمد بن علي وكان الحسن أوثقهما" ولأحمد عن سفيان "وكان الحسن أرضاهما إلى أنفسنا، وكان عبد الله يتبع السبئية" ا هـ والسبئية بمهملة ثم موحدة ينسبون إلى عبد الله بن سبأ، وهو من رؤساء الروافض، وكان المختار بن أبي عبيد على رأيه، ولما غلب على الكوفة وتتبع قتلة الحسين فقتلهم أحبته الشيعة ثم فارقه أكثرهم لما ظهر منه من الأكاذيب، وكان من رأي السبئية موالاة محمد بن علي بن أبي طالب. وكانوا يزعمون أنه المهدي وأنه لا يموت حتى يخرج في آخر الزمان. ومنهم من أقر بموته وزعم أن الأمر بعده صار إلى ابنه أبي هاشم هذا. ومات أبو هاشم في آخر ولاية سليمان بن

(9/167)


عبد الملك سنة ثمان أو تسع وتسعين. قوله: "عن أبيهما" في رواية الدار قطني في "الموطآت" من طريق يحيى بن سعيد الأنصاري "عن مالك عن الزهري أن عبد الله والحسن ابني محمد أخبراه أن أباهما محمد بن علي بن أبي طالب أخبرهما". قوله: "أن عليا قال لابن عباس" سيأتي بيان تحديثه له بهذا الحديث في ترك الحيل بلفظ: "أن عليا قيل له أن ابن عباس لا يرى بمتعة النساء بأسا" وفي رواية الثوري ويحيى بن سعيد كلاهما عن مالك عند الدار قطني "أن عليا سمع ابن عباس وهو يفتي في متعة النساء فقال: أما علمت" وأخرجه سعيد بن منصور عن هشيم "عن يحيى بن سعيد عن الزهري بدون ذكر مالك ولفظه: "أن عليا مر بابن عباس وهو يفتي في متعة النساء أنه لا بأس بها"، ولمسلم من طريق جويرية عن مالك يسنده أنه "سمع علي بن أبي طالب يقول لفلان إنك رجل تائه" وفي رواية الدار قطني من طريق الثوري أيضا: "تكلم علي وابن عباس في متعة النساء فقال له علي: إنك امرؤ تائه" ولمسلم من وجه آخر أنه "سمع ابن عباس يلين في متعة النساء فقال له: مهلا يا ابن عباس" ولأحمد من طريق معمر "رخص في متعة النساء". قوله:" أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المتعة" في رواية أحمد عن سفيان نهى عن نكاح المتعة. قوله: "وعن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر" هكذا لجميع الرواة عن الزهري "خيبر" بالمعجمة أوله والراء آخره إلا ما رواه عبد الوهاب الثقفي عن يحيى بن سعيد عن مالك في هذا الحديث فإنه قال: "حنين" بمهملة أوله ونونين أخرجه النسائي والدار قطني ونبها على أنه وهم تفرد به عبد الوهاب، وأخرجه الدار قطني من طريق أخرى عن يحيى بن سعيد فقال خيبر على الصواب، وأغرب من ذلك رواية إسحاق بن راشد عن الزهري عنه بلفظ: "نهى في غزوة تبوك عن نكاح المتعة" وهو خطأ أيضا. قوله: "زمن خيبر" الظاهر أنه ظرف للأمرين، وحكى البيهقي عن الحميدي أن سفيان بن عيينة كان يقول: قوله: "يوم خيبر" يتعلق بالحمر الأهلية لا بالمتعة، قال البيهقي: وما قاله محتمل يعني في روايته هذه، وأما غيره فصرح أن الظرف يتعلق بالمتعة، وقد مضى في غزوة خيبر من كتاب المغازي ويأتي في الذبائح من طريق مالك بلفظ: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر عن متعة النساء وعن لحوم الحمر الأهلية" وهكذا أخرجه مسلم من رواية ابن عيينة أيضا، وسيأتي في ترك الحيل في رواية عبيد الله بن عمر عن الزهري "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها يوم خيبر" وكذا أخرجه مسلم وزاد من طريقه "فقال مهلا يا ابن عباس "ولأحمد من طريق معمر بسنده أنه "بلغه أن ابن عباس رخص في متعة النساء، فقال له: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها يوم خيبر، وعن لحوم الحمر الأهلية" وأخرجه مسلم من رواية يونس بن يزيد عن الزهري مثل رواية مالك، والدار قطني من طريق ابن وهب عن مالك ويونس وأسامة بن زيد ثلاثتهم عن الزهري كذلك، وذكر السهيلي أن ابن عيينة رواه عن الزهري بلفظ: "نهى عن أكل الحمر الأهلية عام خيبر، وعن المتعة بعد ذلك أو في غير ذلك اليوم" ا هـ وهذا اللفظ الذي ذكره لم أره من رواية ابن عيينة، فقد أخرجه أحمد وابن أبي عمر والحميدي وإسحاق في مسانيدهم عن ابن عيينة باللفظ الذي أخرجه البخاري من طريقه، لكن منهم من زاد لفظ: "نكاح" كما بينته، وكذا أخرجه الإسماعيلي من طريق عثمان بن أبي شيبة وإبراهيم بن موسى والعباس بن الوليد، وأخرجه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة ومحمد بن عبد الله بن نمير وزهير بن حرب جميعا عن ابن عيينة بمثل لفظ مالك، وكذا أخرجه سعيد بن منصور عن ابن عيينة لكن قال: "زمن" بدل "يوم" قال السهيلي: ويتصل بهذا الحديث تنبيه على إشكال لأن فيه النهي عن نكاح المتعة يوم خيبر، وهذا شيء لا يعرفه أحد من أهل السير ورواة الأثر، قال: فالذي يظهر

(9/168)


أنه وقع تقديم وتأخير لفظ الزهري، وهذا الذي قاله سبقه إليه غيره في النقل عن ابن عيينة، فذكر ابن عبد البر من طريق قاسم بن أصبغ أن الحميدي ذكر عن ابن عيينة أن النهي زمن خيبر عن لحوم الحمر الأهلية، وأما المتعة فكان في غير يوم خيبر، ثم راجعت "مسند الحميدي" من طريق قاسم بن أصبغ عن أبي إسماعيل السلمي عنه فقال بعد سياق الحديث: "قال ابن عيينة: يعني أنه نهى عن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر، ولا يعني نكاح المتعة" قال ابن عبد البر: وعلى هذا أكثر الناس. وقال البيهقي: يشبه أن يكون كما قال لصحة الحديث في أنه صلى الله عليه وسلم رخص فيها بعد ذلك ثم نهى عنها، فلا يتم احتجاج علي إلا إذا وقع النهي أخيرا لتقوم به الحجة على ابن عباس. وقال أبو عوانة في صحيحه سمعت أهل العلم يقولون: معنى حديث علي أنه نهى يوم خيبر عن لحوم الحمر، وأما المتعة فسكت عنها وإنما نهى عنها يوم الفتح ا هـ. والحامل لهؤلاء على هذا ما ثبت من الرخصة فيها بعد زمن خيبر كما أشار إليه البيهقي، لكن يمكن الانفصال عن ذلك بأن عليا لم تبلغه الرخصة فيها يوم الفتح لوقوع النهي عنها عن قرب كما سيأتي بيانه، ويؤيد ظاهر حديث على ما أخرجه أبو عوانة وصححه من طريق سالم بن عبد الله "أن رجلا سأل ابن عمر عن المتعة فقال: حرام. فقال: إن فلانا يقول فيها. فقال: والله لقد علم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرمها يوم خيبر وما كنا مسافحين" قال السهيلي: وقد اختلف في وقت تحريم نكاح المتعة فأغرب ما روي في ذلك رواية من قال في غزوة تبوك، ثم رواية الحسن أن ذلك كان في عمرة القضاء، والمشهور في تحريمها أن ذلك في غزوة الفتح كما أخرجه مسلم من حديث الربيع بن سبرة عن أبيه وفي رواية عن الربيع أخرجها أبو داود أنه كان في حجة الوداع، قال ومن قال من الرواة كان في غزوة أوطاس فهو موافق لمن قال عام الفتح ا هـ. فتحصل مما أشار إليه ستة مواطن: خيبر، ثم عمرة القضاء، ثم الفتح، ثم أوطاس، ثم تبوك، ثم حجة الوداع. وبقي عليه حنين لأنها وقعت في رواية قد نبهت عليها قبل، فأما أن يكون ذهل عنها أو تركها عمدا لخطأ رواتها، أو لكون غزوة أوطاس وحنين واحدة. فأما رواية تبوك فأخرجها إسحاق بن راهويه وابن حبان من طريقه من حديث أبي هريرة "أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل بثنية الوداع رأى مصابيح وسمع نساء يبكين، فقال: ما هذا؟ فقالوا: يا رسول الله، نساء كانوا تمتعوا منهن. فقال: هدم المتعة النكاح والطلاق والميراث" وأخرجه الحازمي من حديث جابر قال: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غزوة تبوك حتى إذا كنا عند العقبة مما يلي الشام جاءت نسوة قد كنا تمتعنا بهن يطفن برحالنا، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا ذلك له، قال فغضب وقام خطيبا فحمد الله وأثنى عليه ونهى عن المتعة، فتوادعنا يومئذ فسميت ثنية الوداع". وأما رواية الحسن وهو البصري فأخرجها عبد الرزاق من طريقه وزاد: "ما كانت قبلها ولا بعدها" وهذه الزيادة منكرة من راويها عمرو بن عبيد، وهو ساقط الحديث، وقد أخرجه سعيد بن منصور من طريق صحيحة عن الحسن بدون هذه الزيادة. وأما غزوة الفتح فثبتت في صحيح مسلم كما قال: وأما أوطاس فثبتت في مسلم أيضا من حديث سلمة بن الأكوع. وأما حجة الوداع فوقع عند أبي داود من حديث الربيع بن سبرة عن أبيه. وأما قوله لا مخالفة بين أوطاس والفتح ففيه نظر، لأن الفتح كان في رمضان ثم خرجوا إلى أوطاس في شوال، وفي سياق مسلم أنهم لم يخرجوا من مكة حتى حرمت، ولفظة "إنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الفتح، فأذن لنا في متعة النساء، فخرجت أنا ورجل من قومي - فذكر قصة المرأة، إلى أن قال - ثم استمتعت منها، فلم أخرج حتى حرمها" وفي لفظ له "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما بين الركن والباب وهو يقول: "بمثل حديث ابن نمير وكان تقدم في حديث

(9/169)


ابن نمير أنه قال: يا أيها الناس إني قد كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، وأن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة" وفي رواية: "أمرنا بالمتعة عام الفتح حين دخلنا مكة، ثم لم نخرج حتى نهانا عنها" وفي رواية له "أمر أصحابه بالتمتع من النساء - فذكر القصة قال - فكن معنا ثلاثا، ثم أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بفراقهن" وفي لفظ: "فقال إنها حرام من يومكم هذا إلى يوم القيامة" فأما أوطاس فلفظ مسلم: "رخص لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عام أوطاس في المتعة ثلاثا، ثم نهى عنها" وظاهر الحديثين المغايرة، لكن يحتمل أن يكون أطلق على عام الفتح عام أوطاس لتقاربهما، ولو وقع في سياقه أنهم تمتعوا من النساء في غزوة أوطاس لما حسن هذا الجمع، نعم ويبعد أن يقع الإذن في غزوة أوطاس بعد أن يقع التصريح قبلها في غزوة الفتح بأنها حرمت إلى يوم القيامة، وإذا تقرر ذلك فلا يصح من الروايات شيء بغير علة إلا غزوة الفتح. وأما غزوة خيبر وإن كانت طرق الحديث فيها صحيحة ففيها من كلام أهل العلم ما تقدم. وأما عمرة القضاء فلا يصح الأثر فيها لكونه من مرسل الحسن ومراسيله ضعيفة لأنه كان يأخذ عن كل أحد، وعلى تقدير ثبوته فلعله أراد أيام خيبر لأنهما كانا في سنة واحدة في الفتح وأوطاس سواء. وأما قصة تبوك فليس في حديث أبي هريرة التصريح بأنهم استمتعوا منهن في تلك الحالة، فيحتمل أن يكون ذلك وقع قديما ثم وقع التوديع منهن حينئذ والنهي، أو كان النهي وقع قديما فلم يبلغ بعضهم فاستمر على الرخصة، فلذلك قرن النهي بالغضب لتقدم النهي في ذلك، على أن في حديث أبي هريرة مقالا، فإنه من رواية مؤمل بن إسماعيل عن عكرمة بن عمار وفي كل منهما مقال. وأما حديث جابر فلا يصح فإنه من طريق عباد بن كثير وهو متروك. وأما حجة الوداع فهو اختلاف على الربيع بن سبرة، والرواية عنه بأنها في الفتح أصح وأشهر، فإن كان حفظه فليس في سياق أبي داود سوى مجرد النهي، فلعله صلى الله عليه وسلم أراد إعادة النهي ليشيع ويسمعه من لم يسمعه قبل ذلك. فلم يبق من المواطن كما قلنا صحيحا صريحا سوى غزوة خيبر وغزوة الفتح، وفي غزوة خيبر من كلام أهل العلم ما تقدم، وزاد ابن القيم في "الهدي" أن الصحابة لم يكونوا يستمتعون باليهوديات، يعني فيقوى أن النهي لم يقع يوم خيبر أو لم يقع هناك نكاح متعة، لكن يمكن أن يجاب بأن يهود خيبر كانوا يصاهرون الأوس والخزرج قبل الإسلام فيجوز أن يكون هناك من نسائهم من وقع التمتع بهن فلا ينهض الاستدلال بما قال، قال الماوردي في "الحاوي" : في تعيين موضع تحريم المتعة وجهان أحدهما أن التحريم تكرر ليكون أظهر وأنشر حتى يعلمه من لم يكن علمه لأنه قد يحضر في بعض المواطن من لا يحضر في غيرها، والثاني أنها أبيحت مرارا، ولهذا قال في المرة الأخيرة "إلى يوم القيامة" إشارة إلى أن التحريم الماضي كان مؤذنا بأن الإباحة تعقبه، بخلاف هذا فإنه تحريم مؤبد لا تعقبه إباحة أصلا، وهذا الثاني هو المعتمد، ويرد الأول التصريح بالأذن فيها في الموطن المتأخر عن الموطن الذي وقع التصريح فيه بتحريمها كما في غزوة خيبر ثم الفتح. وقال النووي: الصواب أن تحريمها وإباحتها وقعا مرتين فكانت مباحة قبل خيبر ثم حرمت فيها ثم أبيحت عام الفتح وهو عام أوطاس ثم حرمت تحريما مؤبدا، قال: ولا مانع من تكرير الإباحة. ونقل غيره عن الشافعي أن المتعة نسخت مرتين، وقد تقدم في أوائل النكاح حديث ابن مسعود في سبب الإذن في نكاح المتعة وأنهم كانوا إذا غزوا اشتدت عليهم العزبة فأذن لهم في الاستمتاع فلعل النهي كان يتكرر في كل مواطن بعد الإذن، فلما وقع في المرة الأخيرة أنها حرمت إلى يوم القيامة لم يقع بعد ذلك إذن والله أعلم. والحكمة في جمع علي بين النهي عن الحمر والمتعة أن ابن عباس كان يرخص في الأمرين معا،

(9/170)


وسيأتي النقل عنه في الرخصة في الحمر الأهلية في أوائل كتاب الأطعمة، فرد عليه علي في الأمرين معا وأن ذلك يوم خيبر، فإما أن يكون على ظاهره وأن النهي عنهما وقع في زمن واحد. وإما أن يكون الإذن الذي وقع عام الفتح لم يبلغ عليا لقصر مدة الإذن وهو ثلاثة أيام كما تقدم. والحديث في قصة تبوك على نسخ الجواز في السفر لأنه نهى عنها في أوائل إنشاء السفر مع أنه كان سفرا بعيدا والمشقة فيه شديدة كما صرح به في الحديث في توبة كعب، وكان علة الإباحة وهي الحاجة الشديدة انتهت من بعد فتح خيبر وما بعدها والله أعلم. والجواب عن قول السهيلي أنه لم يكن في خيبر نساء يستمتع بهن ظاهر مما بينته من الجواب عن قول ابن القيم لم تكن الصحابة يتمتعون باليهوديات، وأيضا فيقال كما تقدم لم يقع في الحديث التصريح بأنهم استمتعوا في خيبر، وإنما فيه مجرد النهي، فيؤخذ منه أن التمتع من النساء كان حلالا وسبب تحليله ما تقدم في حديث ابن مسعود حيث قال: "كنا نغزو وليس لنا شيء - ثم قال - فرخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب" فأشار إلى سبب ذلك وهو الحاجة مع قلة الشيء، وكذا في حديث سهل بن سعد الذي أخرجه ابن عبد البر بلفظ: "إنما رخص النبي صلى الله عليه وسلم في المتعة لعزبة كانت بالناس شديدة، ثم نهى عنها" فلما فتحت خيبر وسع عليهم من المال ومن السبي فناسب النهي عن المتعة لارتفاع سبب الإباحة، وكان ذلك من تمام شكر نعمة الله على التوسعة بعد الضيق، أو كانت الإباحة إنما تقع في المغازي التي يكون في المسافة إليها بعد ومشقة، وخيبر بخلاف ذلك لأنها بقرب المدينة فوقع النهي عن المتعة فيها إشارة إلى ذلك من غير تقدم إذن فيها، ثم لما عادوا إلى سفرة بعيدة المدة وهي غزاة الفتح وشقت عليهم العزوبة أذن لهم في المتعة لكن مقيدا بثلاثة أيام فقط دفعا للحاجة، ثم نهاهم بعد انقضائها عنها كما سيأتي من رواية سلمة، وهكذا يجاب عن كل سفرة ثبت فيها النهي بعد الإذن، وأما حجة الوداع فالذي يظهر أنه وقع فيها النهي مجردا إن ثبت الخبر في ذلك، لأن الصحابة حجوا فيها بنسائهم بعد أن وسع عليهم فلم يكونوا في شدة ولا طول عزبة، وإلا فمخرج حديث سبرة راوية هو من طريق ابنه الربيع عنه، وقد اختلف عليه في تعيينها؛ والحديث واحد في قصة واحدة فتعين الترجيح، والطريق التي أخرجها مسلم مصرحة بأنها في زمن الفتح أرجح فتعين المصير إليها والله أعلم. قوله: "عن أبي جمرة" هو الضبعي بالجيم والراء، ورأيته بخط بعض من شرح هذا الكتاب بالمهملة والزاي وهو تصحيف. قوله: "سمعت ابن عباس يسأل" بضم أوله. قوله: "فرخص" أي فيا، وثبتت في رواية الإسماعيلي. قوله: "فقال له مولى له" لم أقف على اسمه صريحا، وأظنه عكرمة. قوله: "إنما ذلك في الحال الشديد، وفي النساء قلة أو نحوه" في رواية الإسماعيلي: "إنما كان ذلك في الجهاد والنساء قليل". قوله: "فقال ابن عباس نعم" في رواية الإسماعيلي: "صدق". وعند مسلم من طريق الزهري عن خالد بن المهاجر أو ابن أبي عمرة الأنصاري "قال رجل - يعني لابن عباس، وصرح به البيهقي في روايته - إنما كانت - يعني المتعة - رخصة في أول الإسلام لمن اضطر إليها كالميتة والدم ولحم الخنزير" ويؤيده ما أخرجه الخطابي والفاكهي من طريق سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس لقد سارت بفتياك الركبان. وقال فيها الشعراء، يعني في المتعة. فقال: والله ما بهذا أفتيت وما هي إلا كالميتة لا تحل إلا للمضطر. وأخرجه البيهقي من وجه آخر عن سعيد بن جبير وزاد في آخره: ألا إنما هي كالميتة والدم ولحم الخنزير. وأخرجه محمد بن خلف المعروف بوكيع في كتاب "الغرر من الأخبار" بإسناد أحسن منه عن سعيد بن جبير بالقصة، لكن ليس في آخره قول ابن عباس المذكور. وفي حديث سهل بن سعد الذي أشرت

(9/171)


إليه قريبا نحوه فهذه أخبار يقوي بعضها ببعض، وحاصلها أن المتعة إنما رخص فيها بسبب العزبة في حال السفر وهو يوافق حديث ابن مسعود الماضي في أوائل النكاح. وأخرج البيهقي من حديث أبي ذر بإسناد حسن "إنما كانت المتعة لحربنا وخوفنا" وأما ما أخرجه الترمذي من طريق محمد بن كعب عن ابن عباس قال: "إنما كانت المتعة في أول الإسلام، كان الرجل يقدم البلد ليس له فيها معرفة، فيتزوج المرأة بقدر ما يقيم فتحفظ له متاعه" فإسناده ضعيف، وهو شاذ مخالف لما تقدم من علة إباحتها. قوله: "قال عمرو" هو ابن دينار، في رواية الإسماعيلي من طريق ابن أبي الوزير عن سفيان "عن عمرو بن دينار" وهو غريب من حديث ابن عيينة قل من رواه من أصحابه عنه، وإنما أخرجه البخاري مع كونه معنعنا لوروده عن عمرو بن دينار من غير طريق سفيان، نبه على ذلك الإسماعيلي، وهو كما قال قد أخرجه مسلم من طريق شعبة وروح بن القاسم، وأخرجه عبد الرزاق عن ابن جريج كلهم عن عمرو. قوله: "عن الحسن بن محمد" أي ابن علي بن أبي طالب، ووقع في رواية ابن جريج "الحسن بن محمد بن علي، وهو الماضي ذكره في الحديث الأول. وفي رواية شعبة المذكورة عن عمرو" سمعت الحسن بن محمد". قوله: "عن جابر بن عبد الله وسلمة بن الأكوع" في رواية روح بن القاسم تقديم سلمة على جابر، وقد أدركهما الحسن بن محمد جميعا لكن روايته عن جابر أشهر. قوله: "كنا في جيش" لم أقف على تعيينه، لكن عند مسلم من طريق أبي العميس عن إياس بن سلمة بن الأكوع عن أبيه قال: "رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم عام أوطاس في المتعة ثلاثا ثم نهى عنها". "تنبيه": ضبط جيش في جميع الروايات بفتح الجيم وسكون التحتانية بعدها معجمة، وحكى الكرماني أن في بعض الروايات "حنين" بالمهملة ونونين باسم مكان الوقعة المشهورة ولم أقف عليه. قوله: "فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم" لم أقف على اسمه، لكن في رواية شعبة "خرج علينا منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم:" فيشبه أن يكون هو بلال. قوله: "إنه قد إذن لكم أن تستمتعوا فاستمتعوا" زاد شعبة في روايته: "يعني متعة النساء" وضبط فاستمتعوا بفتح المثناة وكسرها بلفظ الأمر وبلفظ الفعل الماضي. وقد أخرج مسلم حديث جابر من طرق أخرى، منها عن أبي نضرة عن جابر أنه سئل عن المتعة فقال: "فعلناها مع سول الله صلى الله عليه وسلم:" ومن طريق عطاء عن جابر "استمتعنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر" وأخرج عن محمد ابن رافع عن عبد الرزاق عن ابن جريج "أخبرني أبو الزبير سمعت جابرا" نحوه وزاد: "حتى نهى عنها عمر في شأن عمرو بن حريث" وقصة عمرو بن حريث أخرجها عبد الرزاق في مصنفه بهذا الإسناد عن جابر قال: "قدم عمرو ابن حريث الكوفة فاستمتع بمولاة فأتى بها عمرو حبلى، فسأله فاعترف، قال فذلك حين نهى عنها عمر" قال البيهقي في رواية سلمة بن الأكوع التي حكيناها عن تخريج مسلم: "ثم نهى عنها" ضبطناه "نهى" بفتح النون ورأيته في رواية معتمدة "نها" بالألف قال: فإن قيل بل هي بضم النون والمراد بالناهي في حديث سلمة عمر كما في حديث جابر قلنا هو محتمل، لكن ثبت نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها في حديث الربيع بن سبرة ابن معبد عن أبيه بعد الإذن فيه، ولم نجد عنه الإذن فيه بعد النهي عنه، فنهى عمر موافق لنهيه صلى الله عليه وسلم. قلت: وتمامه أن يقال: لعل جابرا ومن نقل عنه استمرارهم على ذلك بعده صلى الله عليه وسلم إلى أن نهى عنها عمر لم يبلغهم النهي. ومما يستفاد أيضا أن عمر لم ينه عنها اجتهادا وإنما نهى عنها مستندا إلى نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد وقع التصريح عنه بذلك فيما أخرجه ابن ماجه من طريق أبي بكر بن حفص عن ابن عمر قال: "لما ولي عمر خطب فقال: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لنا في المتعة ثلاثا ثم حرمها"

(9/172)


وأخرج ابن المنذر والبيهقي من طريق سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال: "صعد عمر المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ما بال رجال ينكحون هذه المتعة بعد نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها"، وفي حديث أبي هريرة الذي أشرت إليه في صحيح ابن حبان: "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هدم المتعة النكاح والطلاق والعدة والميراث" وله شاهد صحيح عن سعيد بن المسيب أخرجه البيهقي. قوله: "وقال ابن أبي ذئب إلخ" وصله الطبراني والإسماعيلي وأبو نعيم من طرق عن ابن أبي ذئب. قوله: "أيما رجل وامرأة توافقا فعشرة ما بينهما ثلاث ليال" وقع في رواية المستملي: "بعشرة" بالموحدة المكسورة بدل الفاء المفتوحة، وبالفاء أصح، وهي رواية الإسماعيلي وغيره. والمعنى أن إطلاق الأجل محمول على التقييد بثلاثة أيام بلياليهن. قوله: "فإن أحبا" أي بعد انقضاء الثلاث "أن يتزايدا" أي في المدة؛ يعني تزايدا. ووقع في رواية الإسماعيلي التصريح بذلك، وكذا في قوله أن يتتاركا أي يتفارقا تتاركا. وفي رواية أبي نعيم "أن يتناقضا تناقضا" والمراد به التفارق. قوله: "فما أدري أشيء كان لنا خاصة أم للناس عامة" ووقع في حديث أبي ذر التصريح بالاختصاص أخرجه البيهقي عنه قال: "إنما أحلت لنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متعة النساء ثلاثة أيام، ثم نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم". قوله: "وقد بينه علي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه منسوخ" يريد بذلك تصريح علي عن النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي عنها بعد الإذن فيها، وقد بسطناه في الحد الأول. وأخرج عبد الرزاق من وجه آخر عن علي قال: "نسخ رمضان كل صوم، ونسخ المتعة الطلاق والعدة والميراث" وقد اختلف السلف في نكاح المتعة، قال ابن المنذر: جاء عن الأوائل الرخصة فيها، ولا أعلم اليوم أحدا يجيزها إلا بعض الرافضة، ولا معنى لقول يخالف كتاب الله وسنة رسوله. وقال عياض: ثم وقع الإجماع من جميع العلماء على تحريمها إلا الروافض. وأما ابن عباس فروي عنه أنه أباحها، وروي عنه أنه رجع عن ذلك. قال ابن بطال: روى أهل مكة واليمن عن ابن عباس إباحة المتعة، وروي عنه الرجوع بأسانيد ضعيفة وإجازة المتعة عنه أصح، وهو مذهب الشيعة. قال: وأجمعوا على أنه متى وقع الآن أبطل سواء كان قبل الدخول أم بعده، إلا قول زفر إنه جعلها كالشروط الفاسدة، ويرده قوله صلى الله عليه وسلم: "فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيلها". قلت: وهو في حديث الربيع بن سبرة عن أبيه عند مسلم. وقال الخطابي: تحريم المتعة كالإجماع إلا عن بعض الشيعة، ولا يصح على قاعدتهم في الرجوع في المختلفات إلى علي وآل بيته فقد صح عن علي أنها نسخت. ونقل البيهقي عن جعفر بن محمد أنه سئل عن المتعة فقال: "هي الزنا بعينه" قال الخطابي: ويحكى عن ابن جريج جوازها ا هـ. وقد نقل أبو عوانة في صحيحه عن ابن جريج أنه رجع عنها بعد أن روى بالبصرة في إباحتها ثمانية عشر حديثا. وقال ابن دقيق العيد: ما حكاه بعض الحنفية عن مالك من الجواز خطأ، فقد بالغ المالكية في منع النكاح المؤقت حتى أبطلوا توقيت الحل بسببه فقالوا: لو علق على وقت لا بد من مجيئه وقع الطلاق الآن لأنه توقيت للحل فيكون في معنى نكاح المتعة. قال عياض: وأجمعوا على أن شرط البطلان التصريح بالشرط، فلو نوى عند العقد أن يفارق بعد مدة صح نكاحه، إلا الأوزاعي فأبطله. واختلفوا هل يحد ناكح المتعة أو يعزر؟ على قولين مأخذهما أن الاتفاق بعد الخلاف هل يرفع الخلاف المتقدم. وقال القرطبي: الروايات كلها متفقة على أن زمن إباحة المتعة لم يطل وأنه حرم، ثم أجمع السلف والخلف على تحريمها إلا من لا يلتفت إليه من الروافض. وجزم جماعة من الأئمة بتفرد ابن عباس بإباحتها فهي من المسألة المشهورة وهي ندرة المخالف، ولكن قال ابن عبد البر: أصحاب ابن عباس

(9/173)


من أهل مكة واليمن على إباحتها، ثم اتفق فقهاء الأمصار على تحريمها. وقال ابن حزم: ثبت على إباحتها بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن مسعود ومعاوية وأبو سعيد وابن عباس وسلمة ومعبد ابنا أمية بن خلف وجابر وعمرو ابن حريث ورواه جابر عن جميع الصحابة مدة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر إلى قرب آخر خلافة عمر، قال: ومن التابعين طاوس وسعيد بن جبير وعطاء وسائر فقهاء مكة. قلت: وفي جميع ما أطلقه نظر، أما ابن مسعود فمستنده فيه الحديث الماضي في أوائل النكاح، وقد بينت فيه ما نقله الإسماعيلي من الزيادة فيه المصرحة عنه بالتحريم، وقد أخرجه أبو عوانة من طريق أبي معاوية عن إسماعيلي بن أبي خالد وفي آخره: "ففعلنا ثم ترك ذلك". وأما معاوية فأخرجه عبد الرزاق من طريق صفوان بن يعلى بن أمية "أخبرني يعلى أن معاوية استمتع بامرأة بالطائف" وإسناده صحيح، لكن في رواية أبي الزبير عن جابر عند عبد الرزاق أيضا أن ذلك كان قديما ولفظه: "استمتع معاوية مقدمه الطائف بمولاة لبني الحضرمي يقال لها معانة، قال جابر: ثم عاشت معانة إلى خلافة معاوية فكان يرسل إليها بجائزة كل عام" وقد كان معاوية متبعا لعمر مقتديا به فلا يشك أنه عمل بقوله بعد النهي، ومن ثم قال الطحاوي: خطب عمر فنهى عن المتعة، ونقل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم فلم ينكر عليه ذلك منكر، وفي هذا دليل على متابعتهم له على ما نهى عنه. وأما أبو سعيد فأخرج عبد الرزاق عن ابن جريج أن عطاء قال: "أخبرني من شئت عن أبي سعيد قال: لقد كان أحدنا يستمتع بملء القدح سويقا" وهذا - مع كونه ضعيفا للجهل بأحد رواته - ليس فيه التصريح بأنه كان بعد النبي صلى الله عليه وسلم. وأما ابن عباس فتقدم النقل عنه والاختلاف هل رجع أو لا. وأما سلمة ومعبد فقصتهما واحدة اختلف فيها هل وقعت لهذا أو لهذا، فروى عبد الرزاق بسند صحيح عن عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس قال: "لم يرع عمر إلا أم أراكة قد خرجت حبلى، فسألها عمر فقالت: استمتع بي سلمة بن أمية" وأخرج من طريق أبي الزبير عن طاوس فسماه معبد بن أمية. وأما جابر فمستنده قوله: "فعلناها" وقد بينته قبل، ووقع في رواية أبي نصرة عن جابر عند مسلم: "فنهانا عمر فلم نفعله بعد" فإن كان قوله فعلنا يعم جميع الصحابة فقوله ثم لم نعد يعم جميع الصحابة فيكون إجماعا، وقد ظهر أن مستنده الأحاديث الصحيحة التي بيناها. وأما عمرو بن حريث وكذا قوله رواه جابر عن جميع الصحابة فعجيب، وإنما قال جابر "فعلناها" وذلك لا يقتضي تعميم جميع الصحابة بل يصدق على فعل نفسه وحده، وأما ما ذكره عن التابعين فهو عند عبد الرزاق عنهم بأسانيد صحيحة، وقد ثبت عن جابر عند مسلم: "فعلناها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نهانا عمر فلم نعد لها" فهذا يرد عده جابرا فيمن ثبت على تحليلها، وقد اعترف ابن حزم مع ذلك بتحريمها لثبوت قوله صلى الله عليه وسلم: "إنها حرام إلى يوم القيامة" قال فأمنا بهذا القول نسخ التحريم. والله أعلم

(9/174)


34- باب عَرْضِ الْمَرْأَةِ نَفْسَهَا عَلَى الرَّجُلِ الصَّالِحِ
5120- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا مَرْحُومُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مِهْرَانَ قَالَ سَمِعْتُ ثَابِتًا الْبُنَانِيَّ قَالَ كُنْتُ عِنْدَ أَنَسٍ وَعِنْدَهُ ابْنَةٌ لَهُ قَالَ أَنَسٌ جَاءَتْ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعْرِضُ عَلَيْهِ نَفْسَهَا قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَكَ بِي حَاجَةٌ فَقَالَتْ بِنْتُ أَنَسٍ مَا أَقَلَّ حَيَاءَهَا وَا سَوْأَتَاهْ وَا سَوْأَتَاهْ قَالَ هِيَ خَيْرٌ مِنْكِ رَغِبَتْ فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَرَضَتْ عَلَيْهِ نَفْسَهَا"
[الحديث 5120- طرفه في: 6123]

(9/174)


5121- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ امْرَأَةً عَرَضَتْ نَفْسَهَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ زَوِّجْنِيهَا فَقَالَ مَا عِنْدَكَ قَالَ مَا عِنْدِي شَيْءٌ قَالَ اذْهَبْ فَالْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ فَذَهَبَ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ لاَ وَاللَّهِ مَا وَجَدْتُ شَيْئًا وَلاَ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ وَلَكِنْ هَذَا إِزَارِي وَلَهَا نِصْفُهُ قَالَ سَهْلٌ وَمَا لَهُ رِدَاءٌ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وَمَا تَصْنَعُ بِإِزَارِكَ إِنْ لَبِسْتَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا مِنْهُ شَيْءٌ وَإِنْ لَبِسَتْهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ مِنْهُ شَيْءٌ فَجَلَسَ الرَّجُلُ حَتَّى إِذَا طَالَ مَجْلِسُهُ قَامَ فَرَآهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَاهُ أَوْ دُعِيَ لَهُ فَقَالَ لَهُ مَاذَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ فَقَالَ مَعِي سُورَةُ كَذَا وَسُورَةُ كَذَا لِسُوَرٍ يُعَدِّدُهَا فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَمْلَكْنَاكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ"
قوله: "باب عرض المرأة نفسها على الرجل الصالح" قال ابن المنير في الحاشية، من لطائف البخاري أنه لما علم الخصوصية في قصة الواهبة استنبط من الحديث ما لا خصوصية فيه وهو جواز عرض المرأة نفسها على الرجل الصالح رغبة في صلاحه فيجوز لها ذلك، وإذا رغب فيها تزوجها بشرطه. قوله: "حدثنا مرحوم" زاد أبو ذر "ابن عبد العزيز بن مهران" وهو بصري مولى آل أبي سفيان ثقة مات سنة سبع وثمانين ومائة، وليس له في البخاري سوى هذا الحديث، وقد أورده عنه في كتاب الأدب أيضا، وذكر البزار أنه تفرد به عن ثابت. قوله: "وعنده ابنة له" لم أقف على اسمها وأظنها أمينة بالتصغير. قوله: "جاءت امرأة" لم أقف على تعينها، وأشبه من رأيت بقصتها ممن تقدم ذكر اسمهن في الواهبات ليلى بنت قيس بن الخطيم، ويظهر لي أن صاحبة هذه القصة غير التي في حديث سهل. قوله: "واسوأتاه" أصل السوءة - وهي بفتح المهملة وسكون الواو بعدها همزة - الفعلة القبيحة، وتطلق على الفرج، والمراد هنا الأول، والألف للندبة والهاء للسكت. ذكر المصنف حديث سهل بن سعد في قصة الواهبة مطولا، وسيأتي شرحه بعد ستة عشر بابا، وفي الحديثين جواز عرض المرأة نفسها على الرجل وتعريفه رغبتها فيه وأن لا غضاضة عليها في ذلك، وأن الذي تعرض المرأة نفسها عليه بالاختيار لكن لا ينبغي أن يصرح لها بالرد بل يكفي السكوت. وقال المهلب: فيه أن على الرجل أن ينكحها إلا إذا وجد في نفسه رغبة فيها، ولذلك صعد النظر فيها وصوبه انتهى. وليس في القصة دلالة لما ذكره قال: وفيه جواز سكوت العالم ومن سئل حاجة إذا لم يرد الإسعاف، وأن ذلك ألين في صرف السائل وأأدب من الرد بالقول

(9/175)


35- باب عَرْضِ الإِنْسَانِ ابْنَتَهُ أَوْ أُخْتَهُ عَلَى أَهْلِ الْخَيْرِ
5122- حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يُحَدِّثُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ حِينَ تَأَيَّمَتْ حَفْصَةُ بِنْتُ عُمَرَ مِنْ خُنَيْسِ بْنِ حُذَافَةَ السَّهْمِيِّ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتُوُفِّيَ بِالْمَدِينَةِ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَتَيْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ حَفْصَةَ فَقَالَ سَأَنْظُرُ فِي أَمْرِي فَلَبِثْتُ لَيَالِيَ ثُمَّ لَقِيَنِي فَقَالَ

(9/175)


قَدْ بَدَا لِي أَنْ لاَ أَتَزَوَّجَ يَوْمِي هَذَا قَالَ عُمَرُ فَلَقِيتُ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ فَقُلْتُ إِنْ شِئْتَ زَوَّجْتُكَ حَفْصَةَ بِنْتَ عُمَرَ فَصَمَتَ أَبُو بَكْرٍ فَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيَّ شَيْئًا وَكُنْتُ أَوْجَدَ عَلَيْهِ مِنِّي عَلَى عُثْمَانَ فَلَبِثْتُ لَيَالِيَ ثُمَّ خَطَبَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْكَحْتُهَا إِيَّاهُ فَلَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ لَعَلَّكَ وَجَدْتَ عَلَيَّ حِينَ عَرَضْتَ عَلَيَّ حَفْصَةَ فَلَمْ أَرْجِعْ إِلَيْكَ شَيْئًا قَالَ عُمَرُ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ فَإِنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أَرْجِعَ إِلَيْكَ فِيمَا عَرَضْتَ عَلَيَّ إِلاَّ أَنِّي كُنْتُ عَلِمْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ ذَكَرَهَا فَلَمْ أَكُنْ لِأُفْشِيَ سِرَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ تَرَكَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبِلْتُهَا"
5123- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّا قَدْ تَحَدَّثْنَا أَنَّكَ نَاكِحٌ دُرَّةَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَعَلَى أُمِّ سَلَمَةَ لَوْ لَمْ أَنْكِحْ أُمَّ سَلَمَةَ مَا حَلَّتْ لِي إِنَّ أَبَاهَا أَخِي مِنْ الرَّضَاعَةِ"
قوله: "باب عرض الإنسان ابنته أو أخته على أهل الخير" أورد عرض البنت في الحديث الأول، وعرض الأخت في الحديث الثاني. قوله: "حين تأيمت" بهمزة مفتوحة وتحتانية ثقيلة أي صارت أيما، وهي التي يموت زوجها أو تبين منه وتنقضي عدتها، وأكثر ما تطلق على من مات زوجها. وقال ابن بطال: العرب تطلق على كل امرأة لا زوج لها وكل رجل لا امرأة له أيما، زاد في "المشارق" وإن كان بكرا. وسيأتي مزيدا لهذا في "باب لا ينكح الأب وغيره البكر ولا الثيب إلا برضاها". قوله: "من خنيس" بخاء معجمة ونون وسين مهملة مصغر. قوله: "ابن حذافة" عند أحمد عن عبد الرزاق عن معمر عن ابن شهاب وهي رواية يونس عن الزهري "ابن حذافة أو حذيفة" والصواب حذافة، وهو أخو عبد الله بن حذافة الذي تقدم ذكره في المغازي. ومن الرواة من فتح أول خنيس وكسر ثانيه، والأول هو المشهور بالتصغير، وعند معمر كالأول لكن بحاء مهملة وموحدة وشين معجمة. وقال الدار قطني: اختلف على عبد الرزاق فروى عنه علي الصواب وروى عنه بالشك. قوله: "وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم" زاد في رواية معمر كما سيأتي بعد أبواب "من أهل بدر". قوله: "فتوفي بالمدينة" قالوا مات بعد غزوة أحد من جراحة أصابته بها، وقيل بل بعد بدر ولعله أولى، فإنهم قالوا أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها بعد خمسة وعشرين شهرا من الهجرة. وفي رواية بعد ثلاثين شهرا. وفي رواية بعد عشرين شهرا، وكانت أحد بعد بدر بأكثر من ثلاثين شهرا، ولكنه يصح على قول من قال بعد ثلاثين على إلغاء الكسر، وجزم ابن سعد بأنه مات عقب قدوم النبي صلى الله عليه وسلم من بدر وبه جزم ابن سيد الناس، وهو قول ابن عبد البر أنه شهد أحدا ومات من جراحة بها، وكانت حفصة أسن من أخيها عبد الله فإنها ولدت قبل البعثة بخمس سنين وعبد الله ولد بعد البعثة بثلاث أو أربع. قوله: "فقال عمر بن الخطاب" أعاد ذلك لوقوع الفصل، وإلا فقوله أولا "إن عمر بن الخطاب" لا بد له من تقدير، قال ووقع في رواية معمر عند النسائي وأحمد عن ابن عمر عن عمر قال: "تأيمت حفصة". قوله:" أتيت عثمان فعرضت عليه حفصة؟ فقال: سأنظر في أمري، إلى أن قال قد بدا لي أن لا أتزوج "هذا هو الصحيح، ووقع في رواية

(9/176)


ربعي بن حراش عن عثمان عند الطبري وصححه هو والحاكم "أن عثمان خطب إلى عمر بنته فرده، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فلما راح إليه عمر قال: يا عمر ألا أدلك على ختن خير من عثمان، وأدل عثمان على ختن خير منك؟ قال: نعم يا نبي الله. قال: تزوجني بنتك وأزوج عثمان بنتي" قال الحافظ الضياء: إسناده لا بأس به، لكن في الصحيح أن عمر عرض على عثمان حفصة فرد عليه "قد بدا لي أن لا أتزوج". قلت: أخرج ابن سعد من مرسل الحسن نحو حديث ربعي، ومن مرسل سعيد بن المسيب أتم منه، وزاد في آخره: "فخار الله لهما جميعا". ويحتمل في الجمع بينهما أن يكون عثمان خطب أولا إلى عمر فرده كما في رواية ربعي، وسبب رده يحتمل أن يكون من جهتها وهي أنها لم ترغب في التزوج عن قرب من وفاة زوجها، ويحتمل غير ذلك من الأسباب التي لا غضاضة فيها على عثمان في رد عمر له، ثم لما ارتفع السبب بادر عمر فعرضها على عثمان رعاية لخاطره كما في حديث الباب، ولعل عثمان بلغه ما بلغ أبا بكر من ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لها فصنع كما صنع من ترك إفشاء ذلك، ورد على عمر بجميل. ووقع في رواية ابن سعد "فقال عثمان: مالي في النساء من حاجة" وذكر ابن سعد عن الواقدي بسند له "أن عمر عرض حفصة على عثمان حين توفيت رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعثمان يومئذ يريد أم كلثوم بنت النبي صلى الله عليه وسلم. قلت: وهذا مما يؤيد أن موت خنيس كان بعد بدر فإن رقية ماتت ليالي بدر وتخلف عثمان عن بدر لتمريضها. وقد أخرج إسحاق في مسنده وابن سعد من مرسل سعيد بن المسيب قال: "تأيمت حفصة من زوجها وتأيم عثمان من رقية، فمر عمر بعثمان وهو حزين فقال: هل لك في حفصة؟ فقد انقضت عدتها من فلان" واستشكل أيضا بأنه لو كان مات بعد أحد للزم أن لا تنقضي عدتها إلا في سنة أربع، وأجيب باحتمال أن تكون وضعت عقب وفاته ولو سقطا فحلت. قوله: "سأنظر في أمري" أي أتفكر، ويستعمل النظر أيضا بمعنى الرأفة لكن تعديته باللام، وبمعنى الرؤية وهو الأصل ويعدى بإلى. وقد يأتي بغير صلة وهو بمعنى الانتظار. قوله: "قال عمر فلقيت أبا بكر" هذا يشعر بأنه عقب رد عثمان له بعرضها على أبي بكر. قوله: "فصمت أبو بكر" أي سكت وزنا ومعنى، وقوله بعد ذلك "فلم يرجع إلي شيئا" تأكيد لرفع المجاز، لاحتمال أن يظن أنه صمت زمانا ثم تكلم وهو بفتح الياء من يرجع. قوله: "وكنت أوجد عليه" أي أشد موجدة أي غضبا على أبى بكر من غضبي على عثمان، وذلك لأمرين: أحدهما ما كان بينهما من أكيد المودة، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان آخى بينهما، وأما عثمان فلعله كان تقدم من عمر رده فلم يعتب عليه حيث لم يجبه لما سبق منه في حقه، والثاني لكون عثمان أجابه أولا ثم اعتذر له ثانيا، ولكون أبي بكر لم يعد عليه جوابا. ووقع في رواية ابن سعد "فغضب على أبي بكر وقال فيها: كنت أشد غضبا حين سكت مني على عثمان". قوله: "لقد وجدت علي" في رواية الكشميهني: "لعلك وجدت" وهي أوجه. قوله: "فلم أرجع" بكسر الجيم أي أعد عليك الجواب. قوله: "إلا أني كنت علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ذكرها" في رواية ابن سعد "فقال أبو بكر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد كان ذكر منها شيئا وكان سرا. قوله: "فلم أكن لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم" في رواية ابن سعد "وكرهت أن أفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم". قوله: "ولو تركها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلتها" في رواية معمر المذكورة "نكحتها". وفيه أنه لولا هذا العذر لقبلها، فيستفاد منه عذره في كونه لم يقل كما قال عثمان قد بدا لي أن لا أتزوج، وفيه فضل كتمان السر فإذا أظهره صاحبه ارتفع الحرج عمن سمعه. وفيه عتاب الرجل لأخيه وعتبة عليه واعتذاره إليه وقد جبلت الطباع البشرية على ذلك، ويحتمل أن يكون سبب كتمان أبي بكر ذلك أنه خشي أن يبدو لرسول

(9/177)


الله صلى الله عليه وسلم أن لا يتزوجها فيقع في قلب عمر انكسار، ولعل اطلاع أبي بكر على أن النبي صلى الله عليه وسلم قصد خطبة حفصة كان بإخباره له صلى الله عليه وسلم إما على سبيل الاستشارة وإما لأنه كان لا يكتم عنه شيئا مما يريده حتى ولا ما في العادة عليه غضاضة وهو كون ابنته عائشة عنده، ولم يمنعه ذلك من اطلاعه على ما يريد لوثوقه بإيثاره إياه على نفسه، ولهذا اطلع أبو بكر على ذلك قبل اطلاع عمر الذي يقع الكلام معه في الخطبة. ويؤخذ منه أن الصغير لا ينبغي له أن يخطب امرأة أراد الكبير أن يتزوجها ولو لم تقع الخطبة فضلا عن الركون. وفيه الرخصة في تزويج من عرض النبي صلى الله عليه وسلم بخطبتها أو أراد أن يتزوجها لقول الصديق: لو تركها لقبلتها. وفيه عرض الإنسان بنته وغيرها من مولياته على من يعتقد خيره وصلاحه لما فيه من النفع العائد على المعروضة عليه، وأنه لا استحياء في ذلك. وفيه أنه لا بأس بعرضها عليه ولو كان متزوجا لأن أبا بكر كان حينئذ متزوجا. وفيه أن من حلف لا يفشي سر فلان فأفشى فلان سر نفسه ثم تحدث به الحالف لا يحنث لأن صاحب السر هو الذي أفشاه فلم يكن الإفشاء من قبل الحالف، وهذا بخلاف ما لو حدث واحد آخر بشيء واستحلفه ليكتمه فلقيه رجل فذكر له أن صاحب الحديث حدثه بمثل ما حدثه به فأظهر التعجب وقال ما ظننت أنه حدث بذلك غيري فإن هذا يحنث، لأن تحليفه وقع على أنه يكتم أنه حدثه وقد أفشاه. وفيه أن الأب يخطب إليه بنته الثيب كما يخطب إليه البكر ولا تخطب إلى نفسها كذا قال ابن بطال، وقوله لا تخطب إلى نفسها ليس في الخبر ما يدل عليه. قال وفيه أنه يزوج بنته الثيب من غير أن يستأمرها إذا علم أنها لا تكره ذلك وكان الخاطب كفوا لها، وليس في الحديث تصريح بالنفي المذكور إلا أنه يؤخذ من غيره، وقد ترجم له النسائي: "أنكاح الرجل بنته الكبيرة" فإن أراد بالرضا لم يخالف القواعد، وأن أراد بالإخبار فقد يمنع، والله أعلم. ذكر المصنف طرفا من حديث أم حبيبة في قصة بنت أم سلمة، وقد تقدم شرحه قريبا ولم يذكر فيه هنا مقصود الترجمة استغناء بالإشارة إليه وهو قولها "انكح أختي بنت أبي سفيان" والله أعلم

(9/178)


باب قول الله عز وجل (ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء )الآية
...
36- باب قَوْلِ اللَّهِ عز وجَلَّ : {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ} الْآيَةَ إِلَى قَوْلِهِ: {غَفُورٌ حَلِيمٌ} أَوْ أَكْنَنْتُمْ أَضْمَرْتُمْ وَكُلُّ شَيْءٍ صُنْتَهُ وَأَضْمَرْتَهُ فَهُوَ مَكْنُونٌ.
5124- وَقَالَ لِي طَلْقٌ حَدَّثَنَا زَائِدَةُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ {فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} يَقُولُ إِنِّي أُرِيدُ التَّزْوِيجَ وَلَوَدِدْتُ أَنَّهُ تَيَسَّرَ لِي امْرَأَةٌ صَالِحَةٌ وَقَالَ الْقَاسِمُ يَقُولُ إِنَّكِ عَلَيَّ كَرِيمَةٌ وَإِنِّي فِيكِ لَرَاغِبٌ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَائِقٌ إِلَيْكِ خَيْرًا أَوْ نَحْوَ هَذَا وَقَالَ عَطَاءٌ يُعَرِّضُ وَلاَ يَبُوحُ يَقُولُ إِنَّ لِي حَاجَةً وَأَبْشِرِي وَأَنْتِ بِحَمْدِ اللَّهِ نَافِقَةٌ وَتَقُولُ هِيَ قَدْ أَسْمَعُ مَا تَقُولُ وَلاَ تَعِدُ شَيْئًا وَلاَ يُوَاعِدُ وَلِيُّهَا بِغَيْرِ عِلْمِهَا وَإِنْ وَاعَدَتْ رَجُلًا فِي عِدَّتِهَا ثُمَّ نَكَحَهَا بَعْدُ لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا وَقَالَ الْحَسَنُ لاَ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا الزِّنَا وَيُذْكَرُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ {حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ"
قوله: "باب قول الله عز وجل: {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ}

(9/178)


الآية إلى قوله: {غَفُورٌ حَلِيمٌ} كذا للأكثر، وحذف ما بعد {أَكْنَنْتُمْ} من رواية أبي ذر، ووقع في شرح ابن بطال سياق الآية والتي بعدها إلى قوله: "أجله" الآية. قال ابن التين: تضمنت الآية أربعة أحكام: اثنان مباحان التعريض والإكنان، واثنان ممنوعان النكاح في العدة والمواعدة فيها. قوله: "أضمرتم في أنفسكم، وكل شيء صنته وأضمرته فهو مكنون" كذا للجميع، وعند أبي ذر بعده إلى آخر الآية. والتفسير المذكور لأبي عبيدة. قوله: "وقال لي طلق" هو ابن غنام بفتح المعجمة وتشديد النون. قوله: "عن ابن عباس فيما عرضتم" أي أنه قال في تفسير هذه الآية. قوله: "يقول إني أريد التزويج إلخ" وهو تفسير للتعريض المذكور في الآية، قال الزمخشري: التعريض أن يذكر المتكلم شيئا يدل به على شيء لم يذكره. وتعقب بأن هذا التعريف لا يخرج المجاز، وأجاب سعد الدين بأنه لم يقصد التعريف، ثم حقق التعريض بأنه ذكر شيء مقصود بلفظ حقيقي أو مجازي أو كنائي ليدل به على شيء آخر لم يذكر في الكلام، مثل أن يذكر المجيء للتسليم ومراده التقاضي، فالسلام مقصوده والتقاضي عرض، أي أميل إليه الكلام عن عرض أي جانب. وامتاز عن الكناية فلم يشتمل على جميع أقسامها. والحاصل أنهما يجتمعان ويفترقان، فمثل جئت لأسلم عليك كناية وتعريض، ومثل طويل النجاد كناية لا تعريض، ومثل آذيتني فستعرف خطابا لغير المؤذى تعريض بتهديد المؤذى لا كناية انتهى ملخصا. وهو تحقيق بالغ. قوله: "ولوددت أنه ييسر" بضم التحتانية وفتح أخرى مثلها بعدها وفتح المهملة. وفي رواية الكشميهني: "يسر" بتحتانية واحدة وكسر المهملة، وهكذا اقتصر المصنف في هذا الباب على حديث ابن عباس الموقوف. وفي الباب حديث صحيح مرفوع وهو قوله صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس "إذا حللت فآذنيني" وهو عند مسلم، وفي لفظ: "لا تفوتينا بنفسك" أخرجه أبو داود. واتفق العلماء على أن المراد بهذا الحكم من مات عنها زوجها، واختلفوا في المعتدة من الطلاق البائن، وكذا من وقف نكاحها، وأما الرجعية فقال الشافعي: لا يجوز لأحد أن يعرض لها بالخطبة فيها. والحاصل أن التسريح بالخطبة حرام لجميع المعتدات والتعريض مباح للأولى، حرام في الأخيرة، مختلف فيه في البائن. قوله: "وقال القاسم" يعني ابن محمد "إنك على كريمة" أي يقول ذلك، وهو تفسير آخر للتعريض، وكلها أمثلة، ولهذا قال في آخره أو نحو وهذا الأثر وصله مالك عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه أنه كان يقول قول الله عز وجل :{وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} أن يقول الرجل للمرأة وهي في عدتها من وفاة زوجها: إن إلى آخره. وقوله في الأمثلة إني فيك لراغب يدل على أن تصريحه بالرغبة فيها لا يمتنع ولا يكون صريحا في خطبتها حتى يصرح بمتعلق الرغبة كأن يقول: إنى في نكاحك لراغب، وقد نص الشافعي على أن ذلك من صور التعريض أعنى ما ذكره القاسم، وأما ما مثلت به فحكى الروياني فيه وجها، وعبر النووي في الروضة بقوله رب راغب فيك، فأوهم أنه لا يصرح بالرغبة مطلقا، وليس كذلك. وأخرج البيهقي من طريق مجاهد من صور التصريح: لا تسبقيني بنفسك فإني ناكحك، ولو لم يقل فإني ناكحك فهو من صور التعريض لحديث فاطمة بنت قيس كما بينته قريبا. وقد ذكر الرافعي من صور التصريح لا تفوتي على نفسك وتعقبوه. وروى الدار قطني من طريق عبد الرحمن بن سليمان بن الغسيل عن عمته سكينة قالت: استأذن على أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين ولم تنقض عدتي من مهلك زوجي فقال: قد عرفت قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن على وموضعي في العرب فقلت: غفر الله لك يا أبا جعفر، أنت رجل يؤخذ عنك تخطبني في عدتي؟ قال: إنما أخبرتك بقرابتي من

(9/179)


رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن على. قوله: "وقال عطاء يعرض ولا يبوح" أي لا يصرح "يقول إن لي حاجة وأبشري". قوله: "نافقة" بنون وفاء وقاف أي رائجة بالتحتانية والجيم. قوله: "ولا تعد شيئا" بكسر المهملة وتخفيف الدال، وأثر عطاء هذا وصله عبد الرزاق عن ابن جريج عنه مفرقا، وأخرجه الطبري من طريق ابن المبارك عن ابن جريج قال: قلت لعطاء كيف يقول الخاطب؟ قال يعرض تعريضا ولا يبوح بشيء، فذكر مثله إلى قوله ولا تعد شيئا. قوله: "وإن واعدت رجلا في عدتها ثم نكحها" أي تزوجها "بعد" أي عند انقضاء العدة "لم يفرق بينهما" أي لم يقدح ذلك في صحة النكاح وإن وقع الإثم. وذكر عبد الرزاق عن ابن جريج عقب أثر عطاء قال: وبلغني عن ابن عباس قال خير لك أن تفارقها. واختلف فيمن صرح بالخطبة في العدة لكن لم يعقد إلا بعد انقضائها "فقال مالك: يفارقها دخل بها أو لم يدخل. وقال الشافعي: صح العقد وإن ارتكب النهي بالتصريح المذكور لاختلاف الجهة. وقال المهلب: علة المنع من التصريح في العدة أن ذلك ذريعة إلى الموافقة في العدة التي هي محبوسة فيها على ماء الميت أو المطلق ا هـ. وتعقب بأن هذه العلة تصلح أن تكون لمنع العقد لا لمجرد التصريح، إلا أن يقال التصريح ذريعة إلى العقد والعقد ذريعة إلى الوقاع. وقد اختلفوا لو وقع العقد في العدة ودخل فاتفقوا على أنه يفرق بينهما. وقال مالك والليث والأوزاعي: لا يحل له نكاحها بعد. وقال الباقون بل يحل له إذا انقضت العدة أن يتزوجها إذا شاء. قوله: "وقال الحسن لا تواعدوهن سرا الزنا" وصله عبد بن حميد من طريق عمران بن حدير عنه بلفظه، وأخرجه عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن الحسن قال: هو الفاحشة. قال قتادة قوله: "سرا" أي لا تأخذ عهدها في عدتها أن لا تتزوج غيره. وأخرجه إسماعيل القاضي في "الأحكام" وقال: هذا أحسن من قول من فسره بالزنا، لأن ما قبل الكلام وما بعده لا يدل عليه، ويجوز في اللغة أن يسمى الجماع سرا فلذلك ويجوز إطلاقه على العقد، ولا شك أن المواعدة على ذلك تزيد على التعريض المأذون فيه، واستدل بالآية على أن التعريض في القذف لا يوجب الحد لأن خطة المعتدة حرام، وفرق فيها بين التصريح والتعريض فمنع التصريح وأجيز التعريض، مع أن المقصود مفهوم منهما، فكذلك فرق في إيجاب حد القذف بين التصريح والتعريض. واعترض ابن بطال فقال: يلزم الشافعية على هذا أن يقولوا بإباحة التعريض بالقذف، وهذا ليس بلازم لأن المراد أن التعريض دون التصريح في الإفهام فلا يلتحق به في إيجاب الحد، لأن للذي يعرض أن يقول لم أرد القذف بخلاف المصرح. قوله: "ويذكر عن ابن عباس حتى يبلغ الكتاب أجله انقضاء العدة" وصله الطبري من طريق عطاء الخراساني عن ابن عباس في قوله تعالى :{وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} يقول: حتى تنقضي العدة

(9/180)


37- باب النَّظَرِ إِلَى الْمَرْأَةِ قَبْلَ التَّزْوِيجِ
5125- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَيْتُكِ فِي الْمَنَامِ يَجِيءُ بِكِ الْمَلَكُ فِي سَرَقَةٍ مِنْ حَرِيرٍ فَقَالَ لِي هَذِهِ امْرَأَتُكَ فَكَشَفْتُ عَنْ وَجْهِكِ الثَّوْبَ فَإِذَا أَنْتِ هِيَ فَقُلْتُ إِنْ يَكُ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يُمْضِهِ"
5126- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ رَسُولَ اللَّهِ

(9/180)


صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ جِئْتُ لِأَهَبَ لَكَ نَفْسِي فَنَظَرَ إِلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَعَّدَ النَّظَرَ إِلَيْهَا وَصَوَّبَهُ ثُمَّ طَأْطَأَ رَأْسَهُ فَلَمَّا رَأَتْ الْمَرْأَةُ أَنَّهُ لَمْ يَقْضِ فِيهَا شَيْئًا جَلَسَتْ فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ أَيْ رَسُولَ اللَّهِ إِنْ لَمْ تَكُنْ لَكَ بِهَا حَاجَةٌ فَزَوِّجْنِيهَا فَقَالَ هَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَيْءٍ قَالَ لاَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ اذْهَبْ إِلَى أَهْلِكَ فَانْظُرْ هَلْ تَجِدُ شَيْئًا فَذَهَبَ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ لاَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا وَجَدْتُ شَيْئًا قَالَ انْظُرْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ فَذَهَبَ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ لاَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلاَ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ وَلَكِنْ هَذَا إِزَارِي قَالَ سَهْلٌ مَا لَهُ رِدَاءٌ فَلَهَا نِصْفُهُ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا تَصْنَعُ بِإِزَارِكَ إِنْ لَبِسْتَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا مِنْهُ شَيْءٌ وَإِنْ لَبِسَتْهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ مِنْهُ شَيْءٌ فَجَلَسَ الرَّجُلُ حَتَّى طَالَ مَجْلِسُهُ ثُمَّ قَامَ فَرَآهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُوَلِّيًا فَأَمَرَ بِهِ فَدُعِيَ فَلَمَّا جَاءَ قَالَ مَاذَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ قَالَ مَعِي سُورَةُ كَذَا وَسُورَةُ كَذَا وَسُورَةُ كَذَا عَدَّدَهَا قَالَ أَتَقْرَؤُهُنَّ عَنْ ظَهْرِ قَلْبِكَ قَالَ نَعَمْ قَالَ اذْهَبْ فَقَدْ مَلَّكْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ"
قوله: "باب النظر إلى المرأة قبل التزويج" استنبط البخاري جواز ذلك من حديثي الباب، لكون التصريح الوارد في ذلك ليس على شرطه، وقد ورد ذلك في أحاديث أصحها حديث أبي هريرة "قال رجل إنه تزوج امرأة من الأنصار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنظرت إليها؟ قال: لا. قال: فاذهب فانظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئا" أخرجه مسلم والنسائي. وفي لفظ له صحيح "أن رجلا أراد أن يتزوج امرأة" فذكره قال الغزالي في "الإحياء" : اختلف في المراد بقوله شيئا فقيل عمش وقيل صغر. قلت: الثاني وقع في رواية أبي عوانة في مستخرجه فهو المعتمد وهذا الرجل يحتمل أن يكون المغيرة، فقد أخرج الترمذي والنسائي من حديثه أنه "خطب امرأة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: انظر إليها، فإنه أحرى أن يدوم بينكما" وصححه ابن حبان. وأخرج أبو داود والحاكم من حديث جابر مرفوعا: "إذا خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل" وسنده حسن، وله شاهد من حديث محمد بن مسلمة، وصححه ابن حبان والحاكم، وأخرجه أحمد وابن ماجه. ومن حديث أبي حميد أخرجه أحمد والبزار. ثم ذكر المصنف فيه حديثين. حديث عائشة.قوله: "أريتك" بضم الهمزة "في المنام" زاد في رواية أبي أسامة في أوائل النكاح "مرتين". قوله: "يجيء بك الملك" وقع في رواية أبي أسامة "إذا رجل يحملك" فكأن الملك تمثل له حينئذ رجلا. ووقع في رواية ابن حبان من طريق أخرى عن عائشة "جاء بي جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم". قوله: "في سرقة من حرير" السرقة بفتح المهملة والراء والقاف هي القطعة، ووقع في رواية ابن حبان: "في خرقة حرير" وقال الداودي: السرقة الثوب، فإن أراد تفسيره هنا فصحيح، وإلا فالسرقة أعم. وأغرب المهلب فقال: السرقة كالكلة أو كالبرقع. وعند الآجري من وجه آخر عن عائشة "لقد نزل جبريل بصورتي في راحته حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزوجني" ويجمع بين هذا وبين ما قبله بأن المراد أن صورتها كانت في الخرقة والخرقة في راحته، ويحتمل أن يكون نزل بالكيفيتين لقولها في نفس الخبر "نزل مرتين" قوله: "فكشفت عن وجهك الثوب" في رواية أبي أسامة "فأكشفها" فعبر بلفظ المضارع استحضارا لصورة

(9/181)


الحال. قال ابن المنير: يحتمل أن يكون رأى منها ما يجوز للخاطب أن يراه، ويكون الضمير في "أكشفها" للسرقة أي أكشفها عن الوجه، وكأنه حمله على ذلك أن رؤيا الأنبياء وحي، وأن عصمتهم في المنام كاليقظة، وسيأتي في اللباس في الكلام على تحريم التصوير ما يتعلق بشيء من هذا: وقال أيضا: في الاحتجاج بهذا الحديث للترجمة نظر، لأن عائشة كانت إذ ذاك في سن الطفولية فلا عورة فيها البتة، ولكن يستأنس به في الجملة في أن النظر إلى المرأة قبل العقد فيه مصلحة ترجع إلى العقد. قوله: "فإذا أنت هي" في رواية الكشميهني: "فإذا هي أنت" وكذا تقدم من رواية أبي أسامة. قوله: "يمضه" بضم أوله، قال عياض: يحتمل أن يكون ذلك قبل البعثة فلا إشكال فيه، وإن كان بعدها ففيه ثلاث احتمالات: أحدها التردد هل هي زوجته في الدنيا والآخرة أو في الآخرة فقط، ثانيها أنه لفظ شك لا يراد به ظاهره وهو أبلغ في التحقق، ويسمى في البلاغة مزج الشك باليقين، ثالثها وجه التردد هل هي رؤيا وحي على ظاهرها وحقيقتها أو هي رؤيا وحي لها تعبير؟ وكلا الأمرين جائز في حق الأنبياء. قلت: الأخير هو المعتمد، وبه جزم السهيلي عن ابن العربي، ثم قال: وتفسيره باحتمال غيرها لا أرضاه، والأول يرده أن السياق يقتضي أنها كانت قد وجدت فإن ظاهر قوله: "فإذا هي أنت" مشعر بأنه كان قد رآها وعرفها قبل ذلك، والواقع أنها ولدت بعد البعثة. ويرد أول الاحتمالات الثلاث رواية ابن حبان في آخر حديث الباب: "هي زوجتك في الدنيا والآخرة" والثاني بعيد، والله أعلم. حديث سهل في قصة الواهبة، والشاهد منه للترجمة قوله فيه: "فصعد النظر إليها وصوبه" وسيأتي شرحه في "باب التزويج على القرآن وبغير صداق". قوله: "ثم طأطأ رأسه" وذكر الحديث كله، كذا في رواية أبي ذر عن السرخسي، وساق الباقون الحديث بطوله، قال الجمهور: لا بأس أن ينظر الخاطب إلى المخطوبة. قالوا: ولا ينظر إلى غير وجهها وكفيها. وقال الأوزاعي: يجتهد وينظر إلى ما يريد منها إلا العورة. وقال ابن حزم. ينظر إلى ما أقبل وما أدبر منها. وعن أحمد ثلاث روايات: الأولى كالجمهور، والثانية ينظر إلى ما يظهر غالبا، والثالثة ينظر إليها متجردة وقال الجمهور أيضا: يجوز أن ينظر إليها إذا أراد ذلك بغير إذنها. وعن مالك رواية يشترط إذنها. ونقل الطحاوي عن قوم أنه لا يجوز النظر إلى المخطوبة قبل العقد بحال لأنها حينئذ أجنبية، ورد عليهم بالأحاديث المذكورة

(9/182)


38- باب مَنْ قَالَ لاَ نِكَاحَ إِلاَّ بِوَلِيٍّ
لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ} فَدَخَلَ فِيهِ الثَّيِّبُ وَكَذَلِكَ الْبِكْرُ وَقَالَ {وَلاَ تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} وَقَالَ {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ}
5127- قَالَ يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ ح و حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا عَنْبَسَةُ حَدَّثَنَا يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ النِّكَاحَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَنْحَاءٍ فَنِكَاحٌ مِنْهَا نِكَاحُ النَّاسِ الْيَوْمَ يَخْطُبُ الرَّجُلُ إِلَى الرَّجُلِ وَلِيَّتَهُ أَوْ ابْنَتَهُ فَيُصْدِقُهَا ثُمَّ يَنْكِحُهَا وَنِكَاحٌ آخَرُ كَانَ الرَّجُلُ يَقُولُ لِامْرَأَتِهِ إِذَا طَهُرَتْ مِنْ طَمْثِهَا أَرْسِلِي إِلَى فُلاَنٍ فَاسْتَبْضِعِي مِنْهُ وَيَعْتَزِلُهَا زَوْجُهَا وَلاَ يَمَسُّهَا أَبَدًا حَتَّى يَتَبَيَّنَ حَمْلُهَا مِنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ الَّذِي تَسْتَبْضِعُ مِنْهُ فَإِذَا تَبَيَّنَ حَمْلُهَا أَصَابَهَا

(9/182)


زَوْجُهَا إِذَا أَحَبَّ وَإِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ رَغْبَةً فِي نَجَابَةِ الْوَلَدِ فَكَانَ هَذَا النِّكَاحُ نِكَاحَ الِاسْتِبْضَاعِ وَنِكَاحٌ آخَرُ يَجْتَمِعُ الرَّهْطُ مَا دُونَ الْعَشَرَةِ فَيَدْخُلُونَ عَلَى الْمَرْأَةِ كُلُّهُمْ يُصِيبُهَا فَإِذَا حَمَلَتْ وَوَضَعَتْ وَمَرَّ عَلَيْهَا لَيَالٍ بَعْدَ أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا أَرْسَلَتْ إِلَيْهِمْ فَلَمْ يَسْتَطِعْ رَجُلٌ مِنْهُمْ أَنْ يَمْتَنِعَ حَتَّى يَجْتَمِعُوا عِنْدَهَا تَقُولُ لَهُمْ قَدْ عَرَفْتُمْ الَّذِي كَانَ مِنْ أَمْرِكُمْ وَقَدْ وَلَدْتُ فَهُوَ ابْنُكَ يَا فُلاَنُ تُسَمِّي مَنْ أَحَبَّتْ بِاسْمِهِ فَيَلْحَقُ بِهِ وَلَدُهَا لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَمْتَنِعَ بِهِ الرَّجُلُ وَنِكَاحُ الرَّابِعِ يَجْتَمِعُ النَّاسُ الْكَثِيرُ فَيَدْخُلُونَ عَلَى الْمَرْأَةِ لاَ تَمْتَنِعُ مِمَّنْ جَاءَهَا وَهُنَّ الْبَغَايَا كُنَّ يَنْصِبْنَ عَلَى أَبْوَابِهِنَّ رَايَاتٍ تَكُونُ عَلَمًا فَمَنْ أَرَادَهُنَّ دَخَلَ عَلَيْهِنَّ فَإِذَا حَمَلَتْ إِحْدَاهُنَّ وَوَضَعَتْ حَمْلَهَا جُمِعُوا لَهَا وَدَعَوْا لَهُمْ الْقَافَةَ ثُمَّ أَلْحَقُوا وَلَدَهَا بِالَّذِي يَرَوْنَ فَالْتَاطَ بِهِ وَدُعِيَ ابْنَهُ لاَ يَمْتَنِعُ مِنْ ذَلِكَ فَلَمَّا بُعِثَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَقِّ هَدَمَ نِكَاحَ الْجَاهِلِيَّةِ كُلَّهُ إِلاَّ نِكَاحَ النَّاسِ الْيَوْمَ"
5128- حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ {وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللاَتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} قَالَتْ هَذَا فِي الْيَتِيمَةِ الَّتِي تَكُونُ عِنْدَ الرَّجُلِ لَعَلَّهَا أَنْ تَكُونَ شَرِيكَتَهُ فِي مَالِهِ وَهُوَ أَوْلَى بِهَا فَيَرْغَبُ عَنْهَا أَنْ يَنْكِحَهَا فَيَعْضُلَهَا لِمَالِهَا وَلاَ يُنْكِحَهَا غَيْرَهُ كَرَاهِيَةَ أَنْ يَشْرَكَهُ أَحَدٌ فِي مَالِهَا"
5129- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا هِشَامٌ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ قَالَ أَخْبَرَنِي سَالِمٌ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَخْبَرَهُ أَنَّ عُمَرَ حِينَ تَأَيَّمَتْ حَفْصَةُ بِنْتُ عُمَرَ مِنْ ابْنِ حُذَافَةَ السَّهْمِيِّ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ تُوُفِّيَ بِالْمَدِينَةِ فَقَالَ عُمَرُ لَقِيتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ فَقُلْتُ إِنْ شِئْتَ أَنْكَحْتُكَ حَفْصَةَ فَقَالَ سَأَنْظُرُ فِي أَمْرِي فَلَبِثْتُ لَيَالِيَ ثُمَّ لَقِيَنِي فَقَالَ بَدَا لِي أَنْ لاَ أَتَزَوَّجَ يَوْمِي هَذَا قَالَ عُمَرُ فَلَقِيتُ أَبَا بَكْرٍ فَقُلْتُ إِنْ شِئْتَ أَنْكَحْتُكَ حَفْصَةَ"
5130- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ ابْنُ أَبِي عَمْرٍو قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ عَنْ يُونُسَ عَنْ الْحَسَنِ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ قَالَ حَدَّثَنِي مَعْقِلُ بْنُ يَسَارٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيهِ قَالَ زَوَّجْتُ أُخْتًا لِي مِنْ رَجُلٍ فَطَلَّقَهَا حَتَّى إِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا جَاءَ يَخْطُبُهَا فَقُلْتُ لَهُ زَوَّجْتُكَ وَفَرَشْتُكَ وَأَكْرَمْتُكَ فَطَلَّقْتَهَا ثُمَّ جِئْتَ تَخْطُبُهَا لاَ وَاللَّهِ لاَ تَعُودُ إِلَيْكَ أَبَدًا وَكَانَ رَجُلًا لاَ بَأْسَ بِهِ وَكَانَتْ الْمَرْأَةُ تُرِيدُ أَنْ تَرْجِعَ إِلَيْهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ {فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ} فَقُلْتُ الْآنَ أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ فَزَوَّجَهَا إِيَّاهُ"
قوله: "باب من قال لا نكاح إلا بولي" استنبط المصنف هذا الحكم من الآيات والأحاديث التي ساقها،

(9/183)


لكون الحديث الوارد بلفظ الترجمة على غير شرطه، والمشهور فيه حديث أبي موسى مرفوعا بلفظه أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه وصححه ابن حبان والحاكم، لكن قال الترمذي بعد أن ذكر الاختلاف فيه: وأن من جملة من وصله إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي بردة عن أبيه، ومن جملة من أرسله شعبة وسفيان الثوري عن أبي إسحاق عن أبي بردة ليس فيه أبو موسى رواية، ومن رواه موصولا أصح لأنهم سمعوه في أوقات مختلفة، وشعبة وسفيان وإن كان أحفظ وأثبت من جميع من رواه عن أبي إسحاق لكنهما سمعاه في وقت واحد. ثم ساق من طريق أبي داود الطيالسي عن شعبة قال: "سمعت سفيان الثوري يسأل أبا إسحاق أسمعت أبا بردة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا نكاح إلا بولي؟ قال نعم" قال: وإسرائيل ثبت في أبي إسحاق. ثم ساق من طريق ابن مهدى قال: ما فاتني الذي فاتني من حديث الثوري عن أبي إسحاق إلا لما اتكلت به على إسرائيل لأنه كان يأتي به أتم. وأخرج ابن عدي عن عبد الرحمن بن مهدي قال: إسرائيل في أبي إسحاق أثبت من شعبة وسفيان. وأسند الحاكم من طريق علي بن المديني ومن طريق البخاري والذهلي وغيرهم أنهم صححوا حديث إسرائيل. ومن تأمل ما ذكرته عرف أن الذين صححوا وصله لم يستندوا ذلك إني كونه زيادة ثقة فقط، بل للقرائن المذكورة المقتضية لترجيح رواية إسرائيل الذي وصله على غيره، وسأشير إلى بقية طرق هذا الحديث بعد ثلاثة أبواب. على أن في الاستدلال بهذه الصيغة في منع النكاح بغير ولي نظرا، لأنها تحتاج إلى تقدير: فمن قدره نفي الصحة استقام له، ومن قدره نفي الكمال عكر عليه، فيحتاج إلى تأييد الاحتمال الأول بالأدلة المذكورة في الباب وما بعده. قوله: "لقول الله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ} أي لا تمنعوهن. وسيأتي في حديث معقل آخر أحاديث الباب بيان سبب نزول هذه الآية، ووجه الاحتجاج منها للترجمة. قوله: "فدخل فيه الثيب وكذلك البكر" ثبت هذا في رواية الكشميهني وعليه شرح ابن بطال، وهو ظاهر لعموم لفظ النساء. قوله: "وقال: {وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} ووجه الاحتجاج من الآية والتي بعدها أنه تعالى خاطب بإنكاح الرجال ولم يخاطب به النساء، فكأنه قال: لا تنكحوا أيها الأولياء مولياتكم للمشركين. قوله: "وقال {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} والأيامى جمع أيم، وسيأتي القول فيه بعد ثلاثة أبواب. ثم ذكر المصنف في الباب أربعة أحاديث. حديث عائشة ذكره من طريق ابن وهب ومن طريق عنبسة بن خالد جميعا عن يونس بن يزيد عن ابن شهاب الزهري، وقوله: "وقال، يحيى بن سليمان" هو الجعفي من شيوخ البخاري، وقد ساقه المصنف على لفظ عنبسة. وأما لفظ ابن وهب فلم أره من رواية يحيى بن سليمان إلى الآن لكن أخرجه الدار قطني من طريق أصبغ وأبو نعيم في "المستخرج" من طريق أحمد بن عبد الرحمن بن وهب والإسماعيلي والجوزقي من طريق عثمان بن صالح ثلاثتهم عن ابن وهب. قوله: "على أربعة أنحاء" جمع نحو أي ضرب وزنا ومعنى، ويطلق النحو أيضا على الجهة والنوع، وعلى العلم المعروف اصطلاحا. قوله: "أربعة" قال الداودي وغيره بقي عليها أنحاء لم تذكرها: الأول نكاح الخدن وهو في قوله تعالى :{وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} كانوا يقولون: ما استتر فلا بأس به، وما ظهر فهو لوم. الثاني نكاح المتعة وقد تقدم بيانه. الثالث نكاح البدل، وقد أخرج الدار قطني من حديث أبي هريرة "كان البدل في الجاهلية أن يقول الرجل للرجل أنزل لي عن امرأتك وأنزل لك عن امرأتي وأزيدك" ولكن إسناده ضعيف جدا. قلت والأول لا يرد لأنها أرادت ذكر بيان نكاح من لا زوج لها أو من أذن لها زوجها في ذلك، والثاني يحتمل أن لا يرد لأن الممنوع منه كونه مقدرا بوقت

(9/184)


لا أن عدم الولي فيه شرط وعدم ورود الثالث أظهر من الجميع. قوله: "وليته أو ابنته" هو للتنويع لا للشك. قوله: "فيصدقها" بضم أوله "ثم ينكحها" أي يعين صداقها ويسمى مقداره ثم يعقد عليها. قوله: "ونكاح الآخر" كذا لأبي ذر بالإضافة أي ونكاح المصنف الآخر، وهو من إضافة الشيء لنفسه على رأي الكوفيين. ووقع في رواية الباقين "ونكاح آخر" بالتنوين بغير لام وهو الأشهر في الاستعمال. قوله: "إذا طهرت من طمثها" بفتح المهملة وسكون الميم بعدها مثلثة أي حيضها، وكأن السر في ذلك أن يسرع علوقها منه. قوله: "فاستبضعي منه" بموحدة بعدها ضاد معجمة أي اطلبي منه المباضعة وهو الجماع. ووقع في رواية أصبغ عند الدار قطني استرضعي "براء بدل الموحدة. قال راوية محمد بن إسحاق الصغاني: الأول هو الصواب يعني بالموحدة، والمعنى اطلبي منه الجماع لتحملي منه، والمباضعة المجامعة مشتقة من البضع وهو الفرج. قوله: "وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد" أي اكتسابا من ماء الفحل لأنهم كانوا يطلبون ذلك من أكابرهم ورؤسائهم في الشجاعة أو الكرم أو غير ذلك. قوله: "فكان هذا النكاح نكاح الاستبضاع" بالنصب والتقدير يسمى وبالرفع أي هو. قوله: "ونكاح آخر يجتمع الرهط ما دون العشرة" تقدم تفسير الرهط في أوائل الكتاب، ولما كان هذا النكاح يجتمع عليه أكثر من واحد كان لا بد من ضبط العدد الزائد لئلا ينتشر. قوله: "كلهم يصيبها" أي يطؤها، والظاهر أن ذلك إنما يكون عن رضا منها وتواطؤ بينهم وبينها. قوله: "ومر ليال" كذا لأبي ذر. وفي رواية غيره: "ومر عليها ليال". قوله: "قد عرفتم" كذا للأكثر بصيغة الجمع. وفي رواية الكشميهني: "عرفت" على خطاب الواحد. قوله: "وقد ولدت" بالضم لأنه كلامها. قوله: "فهو ابنك" أي إن كان ذكرا، فلو كانت أنثى لقالت هي ابنتك، لكن يحتمل أن يكون لا تفعل ذلك إلا إذا كان ذكرا لما عرف من كراهتهم في البنت، وقد كان منهم من يقتل بنته التي يتحقق أنها بنت فضلا عمن تجيء بهذه الصفة. قوله: "فيلحق به ولدها" كذا لأبي ذر، ولغيره: "فيلتحق" بزيادة مثناة. قوله: "لا يستطيع أن يمتنع به" في رواية الكشميهني منه. قوله: "ونكاح الرابع" تقدم توجيهه. قوله: "لا تمنع من جاءها" وللأكثر لا تمتنع ممن جاءها. قوله: "وهن البغايا كن ينصبن على أبوابهن رايات تكون علما" بفتح اللام أي علامة. وأخرج الفاكهي من طريق ابن أبي مليكة قال: "تبرز عمر بأجياد، فدعا بماء، فأتته أم مهزول - وهي من البغايا التسع اللاتي كن في الجاهلية - فقالت: هذا ماء ولكنه في إناء لم يدبغ، فقال: هلم فإن الله جعل الماء طهورا" ومن طريق القاسم بن محمد عن عبد الله بن عمر "أن امرأة كانت يقال لها أم مهزول تسافح في الجاهلية، فأراد بعض الصحابة أن يتزوجها فنزلت: الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة" ومن طريق مجاهد في هذه الآية قال: "هن بغايا، كن في الجاهلية معلومات لهن رايات يعرفن بها" ومن طريق عاصم بن المنذر عن عروة بن الزبير مثله وزاد: "كرايات البيطار" وقد ساق هشام بن الكلبي في "كتاب المثالب" أسامي صواحبات الرايات في الجاهلية فسمى منهن أكثر من عشر نسوة مشهورات تركت ذكرهن اختيارا. قوله: "لمن أرادهن" في رواية الكشميهني: "فمن أرادهن". قوله: "القافة" جمع قائف بقاف ثم فاء وهو الذي يعرف شبه الولد بالوالد بالآثار الخفية. قوله: "فالتاطته" في رواية الكشميهني: "فالتاط" بغير مثناة أي استلحقته به، وأصل اللوط بفتح اللام اللصوق. قوله: "هدم نكاح الجاهلية" في رواية الدار قطني "نكاح أهل الجاهلية". قوله: "كله" دخل فيه ما ذكرت وما استدرك عليها. قوله: "إلا نكاح الناس اليوم" أي الذي بدأت بذكره، وهو أن يخطب الرجل إلى الرجل فيزوجه. احتج بهذا على

(9/185)


اشتراط الولي، وتعقب بأن عائشة وهي التي روت هذا الحديث كانت تجيز النكاح بغير ولي، كما روى مالك أنها زوجت بنت عبد الرحمن أخيها وهو غائب فلما قدم قال: مثلي يفتات عليه في بناته؟ وأجيب بأنه لم يرد في الخبر التصريح بأنها باشرت العقد، فقد يحتمل أن تكون البنت المذكورة ثيبا ودعت إلى كفء وأبوها غائب فانتقلت الولاية إلا الولي الأبعد أو إلى السلطان. وقد صح عن عائشة أنها "أنكحت رجلا من بني أخيها فضربت بينهم بستر ثم تكلمت حتى إذا لم يبق إلا العقد أمرت رجلا فأنكح ثم قالت: ليس إلى النساء نكاح" أخرجه عبد الرزاق. قوله: "حدثنا يحيى" هو ابن موسى أو ابن جعفر كما بينته في المقدمة، وساق الحديث عن عائشة مختصرا وقد تقدم شرحه في كتاب التفسير. حديث ابن عمر "تأيمت حفصة" تقدم شرحه قريبا ووجه الدلالة منه اعتبار الولي في الجملة. حديث معقل بن يسار. قوله: "حدثنا أحمد بن أبي عمرو" وهو النيسابوري قاضيها يكنى أبا علي، واسم أبي عمرو حفص بن عبد الله بن راشد. قوله: "حدثني إبراهيم" هو ابن طهمان: ويونس هو ابن عبيد، والحسن هو البصري. قوله: {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ} أي في تفسير هذه الآية. ووقع في تفسير الطبري من حديث ابن عباس أنها نزلت في ولي النكاح أن يضار وليته فيمنعها من النكاح. قوله: "حدثني معقل بن يسار أنها نزلت فيه" هذا صريح في رفع هذا الحديث ووصله، وقد تقدم في تفسير البقرة معلقا لإبراهيم بن طهمان، وموصولا أيضا لعباد بن راشد عن الحسن، وبصورة الإرسال من طريق عبد الوارث بن سعيد عن يونس، وقويت رواية إبراهيم بن طهمان بوصله بمتابعة عباد بن راشد على تصريح الحسن بقوله: "حدثني معقل بن يسار". قوله: "زوجت أختا لي" اسمها جميل بالجيم مصغر بنت يسار، وقع في تفسير الطبري من طريق ابن جريج وبه جزم ابن ماكولا، وسماها ابن فتحون كذلك لكن بغير تصغير وسيأتي مستنده، وقيل اسمها ليلى حكاه السهيلي في "مبهمات القرآن" وتبعه البدري، وقيل فاطمة وقع ذلك عند ابن إسحاق، ويحتمل التعدد بأن يكون لها اسمان ولقب أو لقبان واسم. قوله: "من رجل" قيل هو أبو البداح بن عاصم الأنصاري، هكذا وقع في "أحكام القرآن لإسماعيلي القاضي" من طريق ابن جريج "أخبرني عبد الله بن معقل أن جميل بنت يسار أخت معقل كانت تحت أبي البداح بن عاصم فطلقها فانقضت عدتها. فخطبها" وذكر ذلك أبو موسى في "ذيل الصحابة" وذكره أيضا الثعلبي ولفظه: "نزلت في جميلة بنت يسار أخت معقل وكانت تحت أبي البداح بن عاصم بن عدي بن العجلان" واستشكله الذهلي بأن البداح تابعي على الصواب، فيحتمل أن يكون صحابيا آخر. وجزم بعض المتأخرين بأنه البداح بن عاصم وكنيته أبو عمرو فإن كان محفوظا فهو أخو البداح التابعي. ووقع لنا في "كتاب المجاز" للشيخ عز الدين بن عبد السلام أن اسم زوجها عبد الله بن رواحة، ووقع في رواية عباد بن راشد عن الحسن عن البزار والدار قطني "فأتاني ابن عم لي فخطبها مع الخطاب "وفي هذا نظر لأن معقل بن يسار مزني وأبو البداح أنصاري فيحتمل أنه ابن عمه لأمه أو من الرضاعة. قوله: "حتى إذا انقضت عدتها" في رواية عباد بن راشد "فاصطحبا ما شاء الله ثم طلقها طلاقا له رجعة ثم تركها حتى انقضت عدتها فخطبها. قوله: "فجاء يخطبها" أي من وليها وهو أخوها كما قال أولا "زوجت أختا لي من رجل". قوله: "وأفرشتك" أي جعلتها لك فراشا، في رواية الثعلبي "وأفرشتك كريمتي وآثرتك بها على قومي". وهذا مما يبعد أنه ابن عمه. قوله: "لا والله لا تعود إليك أبدا" في رواية عباد بن راشد "لا أزوجك أبدا" زاد الثعلبي وحمزة "آنفا" وهو بفتح الهمزة والنون والفاء. قوله: "وكان رجلا لا بأس

(9/186)


به" في رواية الثعلبي "وكان رجل صدق" قال ابن التين: أي كان جيدا. وهذا مما غيرته العامة فكنوا به عمن لا خير فيه كذا قال. ووقع في رواية مبارك بن فضالة عن الحسن عند أبي مسلم الكجي "قال الحسن علم الله حاجة الرجل إلى امرأته وحاجة المرأة إلى زوجها، فأنزل الله هذه الآية". قوله: "فأنزل الله هذه الآية: {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ} هذا صريح في نزول هذه الآية في هذه القصة، ولا يمنع ذلك كون ظاهر الخطاب في السياق للأزواج حيث وقع فيها {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} ، لكن قوله في بقيتها {أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} ظاهر في أن العضل يتعلق بالأولياء، وقد تقدم التفسير بيان العضل الذي يتعلق بالأولياء في قوله تعالى: {لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ} فيستدل في كل مكان بما يليق به. قوله: "فقلت الآن أفعل يا رسول الله. قال فزوجها إياه" أي أعادها إليه بعقد جديد. وفي رواية أبي نعيم في المستخرج "فقلت الآن أقبل أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم:" وفي رواية أبي مسلم الكجي من طريق مبارك بن فضالة عن الحسن "فسمع ذلك معقل بن يسار فقال: سمعا لربي وطاعة، فدعا زوجها فزوجها إياه" ومن رواية الثعلبي "فإني أومن بالله" فأنكحها إياه وكفر عن يمينه "وفي رواية عباد بن راشد "فكفرت عن يميني وأنكحتها إياه" قال الثعلبي: ثم هذا قول أكثر المفسرين. وعن السدي: نزلت في جابر بن عبد الله زوج بنت عمه فطلقها زوجها تطليقة وانقضت عدتها ثم أراد تزويجها، وكانت المرأة تريده فأبي جابر، فنزلت، قال ابن بطال: اختلفوا في الولي فقال الجمهور ومنهم مالك والثوري والليث والشافعي وغيرهم: الأولياء في النكاح هم العصبة، وليس للخال ولا والد الأم ولا الإخوة من الأم ونحو هؤلاء ولاية. وعن الحنفية هم من الأولياء، واحتج الأبهري بأن الذي يرث الولاء هم العصبة دون ذوي الأرحام قال: فذلك عقدة النكاح. واختلفوا فيما إذا مات الأب فأوصى رجلا على أولاده هل يكون أولى من الولي القريب في عقدة النكاح أو مثله أو لا ولاية له؟ فقال ربيعة وأبو حنيفة ومالك: الوصي أولى، واحتج لهم بأن الأب لو جعل ذلك لرجل بعينه في حياته لم يكن لأحد من الأولياء أن يعترض عليه، فكذلك بعد موته. وتعقب بأن الولاية انتقلت بالموت فلا يقاس بحال الحياة وقد اختلف العلماء اشتراط الولي في النكاح فذهب الجمهور إلى ذلك وقالوا: لا تزوج المرأة نفسها أصلا، واحتجوا بالأحاديث المذكورة، ومن أقواها هذا السبب المذكور في نزول الآية المذكورة، وهي أصرح دليل على اعتبار الولي وإلا لما كان لعضله معنى، ولأنها لو كان لها أن تزوج نفسها لم تحتج إلى أخيها، ومن كان أمره إليه لا يقال إن غيره منعه منه. وذكر ابن المنذر أنه لا يعرف عن أحد من الصحابة خلاف ذلك، وعن مالك رواية أنها إن كانت غيره شريفة زوجت نفسها. وذهب أبو حنيفة إلى أنه لا يشترط الولي أصلا، ويجوز أن تزوج نفسها ولو بغير إذن وليها إذا تزوجت كفؤا، واحتج بالقياس على البيع فإنها تستقل به، وحمل الأحاديث الواردة في اشتراط الولي على الصغيرة وخص بهذا القيام عمومها، وهو عمل سائغ في الأصول، وهو جواز تخصيص العموم بالقياس، لكن حديث معقل المذكور رفع هذا القياس، ويدل على اشتراط الولي في النكاح دون غيره ليندفع عن موليته العار باختيار الكفء، وانفصل بعضهم عن هذا الإيراد بالتزامهم اشتراط الولي ولكن لا يمنع ذلك تزويجها نفسها، ويتوقف ذلك إجازة الولي كما قالوا لما في البيع، وهو مذهب الأوزاعي. وقال أبو ثور نحوه لكن قال: يشترط إذن الولي لها في تزويج نفسها. وتعقب بأن إذن الولي لا يصح إلا لمن ينوب عنه والمرأة لا تنوب عنه في ذلك لأن الحق لها، ولو أذن لها في إنكاح نفسها صارت كمن أذن لها في البيع من نفسها ولا

(9/187)


يصح. وفي حديث معقل أن الولي إذا عضل لا يزوج السلطان إلا بعد أن يأمره بالرجوع عن العضل، فإن أجاب فذاك، وإن أصر زوج عليه الحاكم، والله أعلم.
37- باب إِذَا كَانَ الْوَلِيُّ هُوَ الْخَاطِبَ وَخَطَبَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ امْرَأَةً هُوَ أَوْلَى النَّاسِ بِهَا فَأَمَرَ رَجُلًا فَزَوَّجَهُ وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ لِأُمِّ حَكِيمٍ بِنْتِ قَارِظٍ أَتَجْعَلِينَ أَمْرَكِ إِلَيَّ قَالَتْ نَعَمْ فَقَالَ قَدْ زَوَّجْتُكِ وَقَالَ عَطَاءٌ لِيُشْهِدْ أَنِّي قَدْ نَكَحْتُكِ أَوْ لِيَأْمُرْ رَجُلًا مِنْ عَشِيرَتِهَا وَقَالَ سَهْلٌ قَالَتْ امْرَأَةٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهَبُ لَكَ نَفْسِي فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ لَمْ تَكُنْ لَكَ بِهَا حَاجَةٌ فَزَوِّجْنِيهَا.
5131- حَدَّثَنَا ابْنُ سَلاَمٍ أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي قَوْلِهِ تعالى " وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ " إِلَى آخِرِ الْآيَةِ قَالَتْ هِيَ الْيَتِيمَةُ تَكُونُ فِي حَجْرِ الرَّجُلِ قَدْ شَرِكَتْهُ فِي مَالِهِ فَيَرْغَبُ عَنْهَا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا وَيَكْرَهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا غَيْرَهُ فَيَدْخُلَ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ فَيَحْبِسُهَا فَنَهَاهُمْ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ"
5132- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمِقْدَامِ حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا أَبُو حَازِمٍ حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جُلُوسًا فَجَاءَتْهُ امْرَأَةٌ تَعْرِضُ نَفْسَهَا عَلَيْهِ فَخَفَّضَ فِيهَا النَّظَرَ وَرَفَعَهُ فَلَمْ يُرِدْهَا فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ زَوِّجْنِيهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ أَعِنْدَكَ مِنْ شَيْءٍ قَالَ مَا عِنْدِي مِنْ شَيْءٍ قَالَ وَلاَ خَاتَمٌ مِنْ حَدِيدٍ قَالَ وَلاَ خَاتَمٌ مِنْ حَدِيدٍ وَلَكِنْ أَشُقُّ بُرْدَتِي هَذِهِ فَأُعْطِيهَا النِّصْفَ وَآخُذُ النِّصْفَ قَالَ لاَ هَلْ مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ شَيْءٌ قَالَ نَعَمْ قَالَ اذْهَبْ فَقَدْ زَوَّجْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ"
قوله: "باب إذا كان الولي" أي النكاح "هو الخاطب" أي هل يزوج نفسه، أو يحتاج إلى ولي آخر؟ قال ابن المنير: ذكر في الترجمة ما يدل على الجواز والمنع معا ليكل الأمر ذلك إلى نظر المجتهد. كذا قال، وكأنه أخذه من تركه الجزم بالحكم، لكن الذي يظهر من صنيعه أنه يرى الجواز، فإن الآثار التي فيها أمر الولي غيره أن يزوجه ليس فيها التصريح بالمنع من تزويجه نفسه. وقد أورد في الترجمة أثر عطاء الدال على الجواز، وإن كان الأولى عنده أن لا يتولى أحد طرفي العقد. وقد اختلف السلف في ذلك، فقال الأوزاعي وربيعة والثوري ومالك وأبو حنيفة أكثر أصحابه والليث: يزوج الولي نفسه، ووافقهم أبو ثور. وعن مالك لو قالت الثيب لوليها زوجني بمن رأيت فزوجها من نفسه أو ممن اختار لزمها ذلك ولو لم تعلم عين الزوج. وقال الشافعي: يزوجهما السلطان أو ولي آخر مثله أو أقعد منه. ووافقه زفر وداود. وحجتهم أن الولاية شرط في العقد، فلا يكون الناكح منكحا كما لا يبيع من نفسه. قوله: "وخطب المغيرة بن شعبة امرأة هو أولى الناس بها فأمر رجلا فزوجه" هذا الأثر وصله وكيع في مصنفه والبيهقي من طريقه عن الثوري عن عبد الملك بن عمير "أن المغيرة بن شعبة أراد أن يتزوج امرأة وهو وليها، فجعل أمرها إلى رجل المغيرة أولى منه فزوجه" وأخرجه عبد الرزاق عن الثوري وقال فيه: "فأمر أبعد منه فزوجه" وأخرجه سعيد بن منصور من طريق الشعبي ولفظه: "إن المغيرة خطب بنت عمه عروة بن مسعود،

(9/188)


فأرسل إلى عبد الله بن أبي عقيل فقال: زوجنيها، فقال: ما كنت لأفعل، أنت أمير البلد وابن عمها، فأرسل المغيرة إلى عثمان بن أبي العاص فزوجها منه" انتهى. والمغيرة هو ابن شعبة بن مسعود بن معتب من ولد عوف بن ثقيف فهي بنت عمه لحا. وعبد الله بن أبي عقيل هو ابن عمهما معا أيضا لأن جده هو مسعود المذكور. وأما عثمان بن أبي العاص فهو وإن كان ثقفيا أيضا لكنه لا يجتمع معهم إلا في جدهم الأعلى ثقيف لأنه من ولد جشم بن ثقيف، فوضح المراد بقوله هو أولى الناس، وعرف اسم الرجل المبهم في الأثر المعلق. قوله: "وقال عبد الرحمن بن عوف لأم حكيم بنت قارظ: أتجعلين أمرك إلى؟ قالت: نعم فقال: فقد تزوجتك" وصله ابن سعد من طريق ابن أبي ذئب "عن سعيد بن خالد أن أم حكيم بنت قارظ قالت لعبد الرحمن بن عوف: إنه قد خطبني غير واحد، فزوجني أيهم رأيت. قال: وتجعلين ذلك إلي؟ فقالت: نعم. قال قد تزوجتك" قال ابن أبي ذئب: فجاز نكاحه. وقد ذكر ابن سعد أم حكيم في النساء اللواتي لم يروين عن النبي صلى الله عليه وسلم وروين عن أزواجه، ولم يزد في التعريف بها على ما في هذا الخبر، وذكرها في تسمية أزواج عبد الرحمن بن عوف ترجمته فنسبها فقال: أم حكيم بنت قارظ بن خالد بن عبيد حليف بني زهرة. قوله: "وقال عطاء: ليشهد أني قد نكحتك، أو ليأمر رجلا من عشيرتها" وصله عبد الرزاق عن ابن جريج قال: "قلت لعطاء: امرأة خطبها ابن عم لها لا رجل لها غيره، قال: فلتشهد أن فلانا حطبها وإني أشهدكم أني قد نكحته، أو لتأمر رجلا من عشيرتها". قوله: "وقال سهل: قالت امرأة للنبي صلى الله عليه وسلم أهب لك نفسي، فقال رجل: يا رسول الله إن لم يكن لك بها حاجة فزوجنيها" هذا طرف من حديث الواهية، وقد تقدم موصولا في "باب تزويج المعسر" وفي "باب النظر إلى المرأة قبل التزويج" وغيرها، ووصله في الباب بلفظ آخبر، وأقربها إلى لفظ هذا التعليق رواية يعقوب بن عبد الرحمن عن أبي حازم بلفظ: "إن امرأة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله جئت لأهب لك نفسي وفيه - فقام رجل من أصحابه فقال: أي رسول الله" مثله. ذكر المصنف حديث عائشة في قوله تعالى :{وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ} أورده مختصرا، وقد تقدم شرحه مستوفى في التفسير، ووجه الدلالة منه أن قوله: "فرغب عنها أن يتزوجها" أعم من أن يتولى ذلك بنفسه أو يأمر غيره فيزوجه، وبه احتج محمد بن الحسن على الجواز، لأن الله لما عاتب الأولياء في تزويج من كانت من أهل المال والجمال بدون سنتها من الصداق وعاتبهم على ترك تزويج من كانت قليلة المال والجمال دل على أن الولي يصح منه. تزويجها من نفسه، إذ لا يعاتب أحد على ترك ما هو حرام عليه، ودل ذلك أيضا على أنه يتزوجها ولو كانت صغيرة لأنه أمر أن يقسط لها في الصداق، ولو كانت بالغا لما منع أن يتزوجها بما تراضيا عليه، فعلم أن المراد من لا أمر لها في نفسها. وقد أجيب باحتمال أن يكون المراد بذلك السفيهة فلا أثر لرضاها بدون مهر مثلها كالبكر. ذكر المصنف حديث سهل بن سعد في الواهبة، وسيأتي شرحه قريبا، ووجه الأخذ منه الإطلاق أيضا، لكن انفصل من منع ذلك بأنه معدود من خصائصه صلى الله عليه وسلم أن يزوج نفسه وبغير ولي ولا شهود. ولا استئذان وبلفظ الهبة كما يأتي تقريره، وقوله فيه: "فلم يردها" بسكون الدال من الإرادة، وحكى بعض الشراح تشديد الدال وفتح أوله وهو محتمل

(9/189)


39- باب إِنْكَاحِ الرَّجُلِ وَلَدَهُ الصِّغَارَ
لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَاللاَئِي لَمْ يَحِضْنَ} فَجَعَلَ عِدَّتَهَا ثَلاَثَةَ أَشْهُرٍ قَبْلَ الْبُلُوغِ

(9/189)


5133- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَهَا وَهِيَ بِنْتُ سِتِّ سِنِينَ وَأُدْخِلَتْ عَلَيْهِ وَهِيَ بِنْتُ تِسْعٍ وَمَكَثَتْ عِنْدَهُ تِسْعًا"
قوله: "باب إنكاح الرجل ولده الصغار" ضبط ولده بضم الواو وسكون اللام على الجمع وهو واضح، وبفتحهما على أنه اسم جنس، وهو أعم من الذكور والإناث. قوله: "لقول الله تعالى: {وَاللاَئِي لَمْ يَحِضْنَ} ، فجعل عدتها ثلاثة أشهر قبل البلوغ" أي فدل على أن نكاحها قبل البلوغ جائز، وهو استنباط حسن، لكن ليس في الآية تخصيص ذلك بالوالد ولا بالبكر. ويمكن أن يقال الأصل في الإيضاع التحريم إلا ما دل عليه الدليل، وقد ورد حديث عائشة في تزويج أبي بكر لها وهي دون البلوغ فبقي ما عداه على الأصل، ولهذا السر أورد حديث عائشة، قال المهلب: أجمعوا أنه يجوز للأب تزويج ابنته الصغيرة البكر ولو كانت لا يوطأ مثلها، إلا أن الطحاوي حكى عن ابن شبرمة منعه فيمن لا توطأ، وحكى ابن حزم عن ابن شبرمة مطلقا أن الأب لا يزوج بنته البكر الصغيرة حتى تبلغ وتأذن، وزعم أن تزويج النبي صلى الله عليه وسلم عائشة وهي بنت ست سنين كان من خصائصه، ومقابله وتجويز الحسن والنخعي للأب إجبار بنته كبيرة كانت أو صغيرة بكرا كانت أو ثيبا. "تنبيه": وقع في حديث عائشة من هذا الوجه إدراج يظهر من الطريق التي في الباب الذي بعده.

(9/190)


40- باب تَزْوِيجِ الأَبِ ابْنَتَهُ مِنْ الإِمَامِ وَقَالَ عُمَرُ خَطَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيَّ حَفْصَةَ فَأَنْكَحْتُهُ
5134- حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَهَا وَهِيَ بِنْتُ سِتِّ سِنِينَ وَبَنَى بِهَا وَهِيَ بِنْتُ تِسْعِ سِنِينَ قَالَ هِشَامٌ وَأُنْبِئْتُ أَنَّهَا كَانَتْ عِنْدَهُ تِسْعَ سِنِينَ"
قوله: "باب تزويج الأب ابنته من الإمام" في هذه الترجمة إشارة إلى أن الولي الخاص يقدم على الولي العام، وقد اختلف فيه عن المالكية. قوله: "وقال عمر إلخ" هو طرف من حديثه الذي تقدم موصولا قريبا. ذكر حديث عائشة وقوله فيه: "قال هشام" يعني ابن عروة، وهو موصول بالإسناد المذكور. وقوله وأنبئت إلخ لم يسم من أنبأه بذلك، ويشبه أن يكون حمله عن امرأته فاطمة بنت المنذر عن جدتها أسماء، قال ابن بطال: دل حديث الباب على أن الأب أولى في تزويج ابنته من الإمام، وأن السلطان ولى من لا ولي لها، وأن الولي من شروط النكاح. قلت: ولا دلالة في الحديثين على اشتراط شيء من ذلك، وإنما فيهما وقوع ذلك، ولا يلزم منه منع ما عداه، وإنما يؤخذ ذلك من أدلة أخرى. وقال: وفيه أن النهي عن إنكاح البكر حتى تستأذن مخصوص بالبالغ حتى يتصور منها الإذن، وأما الصغرة فلا إذن لها، وسيأتي الكلام على ذلك في باب مفرد.

(9/190)


41- باب السُّلْطَانُ وَلِيٌّ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَوَّجْنَاكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ
5135- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ جَاءَتْ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ إِنِّي وَهَبْتُ مِنْ نَفْسِي فَقَامَتْ طَوِيلًا فَقَالَ رَجُلٌ زَوِّجْنِيهَا إِنْ لَمْ تَكُنْ لَكَ بِهَا حَاجَةٌ قَالَ هَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَيْءٍ تُصْدِقُهَا قَالَ مَا عِنْدِي إِلاَّ إِزَارِي فَقَالَ إِنْ أَعْطَيْتَهَا إِيَّاهُ جَلَسْتَ لاَ إِزَارَ لَكَ

(9/190)


42- باب لاَ يُنْكِحُ الأَبُ وَغَيْرُهُ الْبِكْرَ وَالثَّيِّبَ إِلاَّ بِرِضَاهَا
5136- حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ حَدَّثَهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لاَ تُنْكَحُ الأَيِّمُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ وَلاَ تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ إِذْنُهَا قَالَ أَنْ تَسْكُتَ"
[الحديث 5136- طرفاه في: 6968، 6970]
5137- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ الرَّبِيعِ بْنِ طَارِقٍ قَالَ أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو مَوْلَى عَائِشَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ الْبِكْرَ تَسْتَحِي قَالَ رِضَاهَا صَمْتُهَا"
[الحديث 5137- طرفاه في: 6946، 6971]
قوله: "باب لا ينكح الأب وغيره البكر والثيب إلا برضاهما" في هذه الترجمة أربع صور: تزويج الأب البكر، وتزويج الأب الثيب، وتزويج غير الأب البكر، وتزويج غير الأب الثيب. وإذا اعتبرت الكبر والصغر زادت الصور، فالثيب البالغ لا يزوجها الأب ولا غيره إلا برضاها اتفاقا إلا من شذ كما تقدم، والبكر الصغيرة يزوجها أبوها اتفاقا إلا من شذ كما تقدم، والثيب غير البالغ اختلف فيها فقال مالك وأبو حنيفة: يزوجها أبوها كما يزوج البكر. وقال الشافعي وأبو يوسف ومحمد: لا يزوجها إذا زالت البكارة بالوطء لا بغيره، والعلة عندهم أن إزالة البكارة تزيل الحياء الذي في البكر، والبكر البالغ يزوجها أبوها وكذا غيره من الأولياء، واختلف في استئمارها والحديث دال على أنه لا إجبار للأب عليها إذا امتنعت، وحكاه الترمذي عن أكثر أهل العلم. وسأذكر مزيد بحث فيه. وقد ألحق الشافعي الجد بالأب. وقال أبو حنيفة والأوزاعي في الثيب الصغيرة يزوجها كل ولي، فإذا بلغت ثبت الخيار. وقال أحمد: إذا بلغت تسعا جاز للأولياء غير الأب نكاحها، وكأنه أقام المظنة مقام المئنة، وعن مالك يلتحق بالأب في ذلك وصى الأب دون بقية الأولياء لأنه إقامة مقامه كما تقدمت الإشارة إليه. ثم إن الترجمة معقودة

(9/191)


لاشتراط رضا المزوجة بكرا كانت أو ثيبا صغيرة كانت أو كبيرة، وهو الذي يقتضيه ظاهر الحديث، لكن تستثنى الصغيرة من حيث المعنى لأنها لا عبارة لها. قوله: "حدثنا هشام" هو الدستوائي، ويحيى هو ابن أبي كثير. قوله: "عن أبي سلمة" في رواية مسلم من طريق خالد بن الحارث عن هشام عن يحيى "حدثنا أبو سلمة". قوله: "لا تنكح "بكسر الحاء للنهي، وبرفعها للخبر وهو أبلغ في المنع، وتقدم تفسير الأيم في "باب عرض الإنسان ابنته "وظاهر هذا الحدث أن الأيم هي الثيب التي فارقت زوجها بموت أو طلاق لمقابلتها بالبكر، وهذا هو الأصل في الأيم، ومنه قولهم "الغزو مأيمة "أي يقتل الرجال فتصير النساء أيامى، وقد تطلق على من لا زوج لها أصلا، ونقله عياض عن إبراهيم الحربي وإسماعيل القاضي وغيرهما أنه يطلق على كل من لا زوج لها صغيرة كانت أو كبيرة بكرا كانت أو ثيبا، وحكى الماوردي القولين لأهل اللغة. وقد وقع في رواية الأوزاعي عن يحيى في هذا الحديث عند ابن المنذر والدارمي والدار قطني "لا تنكح الثيب "ووقع عند ابن المنذر في رواية عمر بن أبي سلمة عن أبيه في هذا الحديث الثيب تشاور. قوله: "حتى تستأمر" أصل الاستئمار طلب الأمر، فالمعنى لا يعقد عليها حتى يطلب الأمر منها، ويؤخذ من قوله تستأمر أنه لا يعقد إلا بعد أن تأمر بذلك، وليس فيه دلالة على عدم اشتراط الولي في حقها، بل فيه إشعار باشتراطه. قوله: "ولا تنكح البكر حتى تستأذن" كذا وقع في هذه الرواية التفرقة بين الثيب والبكر، فعبر للثيب بالاستئمار وللبكر بالاستئذان، فيؤخذ منه فرق بينهما من جهة أن الاستئمار يدل على تأكيد المشاورة وجعل الأمر إلى المستأمرة، ولهذا يحتاج الولي إلى صريح إذنها في العقد، فإذا صرحت بمنعه امتنع اتفاقا والبكر بخلاف ذلك، والإذن دائر بين القول والسكوت بخلاف الأمر فإنه صريح في القول وإنما جعل السكوت إذنا في حق البكر لأنها قد تستحي أن تفصح. قوله: "قالوا يا رسول الله" في رواية عمر بن أبي سلمة "قلنا" وحديث عائشة صريح في أنها هي السائلة عن ذلك. قوله: "كيف إذنها" في حديث عائشة "قلت إن البكر تستحي" وستأتي ألفاظه. قوله: "حدثنا عمرو بن الربيع بن طارق" أي ابن قرة الهلالي أبو حفص المصري وأصله كوفي سمع من مالك والليث ويحيى بن أيوب وغيرهم، روى عنه القدماء مثل يحيى بن معين وإسحاق الكوسج وأبي عبيد وإبراهيم بن هانئ، وهو من قدماء شيوخ البخاري ولم أر له عنه في الجامع إلا هذا الحديث، وقد وثقه العجلي والدار قطني ومات سننه تسع عشرة ومائتين. قوله: "حدثنا الليث" في رواية الكشميهني: "أنبأنا". قوله:" عن أبي عمرو مولى عائشة "في رواية ابن جريج" عن ابن أبي مليكة عن ذكوان" وسيأتي في ترك الحيل، ويأتي في الإكراه من هذا الوجه بلفظ: "عن أبي عمرو هو ذكوان". قوله: "أنها قالت: يا رسول الله إن البكر تستحي" هكذا أورده من طريق الليث مختصرا، ووقع في رواية ابن جريج في ترك الحيل "قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: البكر تستأذن، قلت" فذكر مثله. وفي الإكراه بلفظ: "قلت: يا رسول الله، تستأمر النساء في أبضاعهن؟ قال: نعم. قلت: فإن البكر تستأمر فتستحي فتسكت" وفي رواية مسلم من هذا الوجه "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجارية ينكحها أهلها، أتستأمر أم لا؟ قال : نعم تستأمر. قلت: فإنها تستحي". قوله: "قال رضاها صمتها" في رواية ابن جريج "قال سكاتها إذنها" وفي لفظ له "قال إذنها صماتها" وفي رواية مسلم من طريق ابن جريج أيضا: "قال فذلك إذنها إذا هي سكتت" ودلت رواية البخاري على أن المراد بالجارية في رواية مسلم البكر دون الثيب. وعند مسلم أيضا من حديث ابن عباس والبكر تستأذن في نفسها، وإذنها صماتها "وفي لفظ له" والبكر يستأذنها أبوها في نقسها "قال ابن المنذر:

(9/192)


يستحب إعلام البكر أن سكوتها إذن، لكن لو قالت بعد العقد ما علمت أن صمتي إذن لم يبطل العقد بذلك عند الجمهور، وأبطله بعض المالكية. وقال ابن شعبان منهم: يقال لها ذلك ثلاثا إن رضيت فاسكتي وإن كرهت فانطقي. وقال بعضهم: يطال المقام عندها لئلا تخجل فيمنعها ذلك من المسارعة. واختلفوا فيما إذا لم تتكلم بل ظهرت منها قرينة السخط أو الرضا بالتبسم مثلا أو البكاء، فعند المالكية إن نفرت أو بكت أو قامت أو ظهر منها ما يدل على الكراهة لم تزوج، وعند الشافعية لا أثر لشيء من ذلك في المنع إلا إن قرنت مع البكاء الصياح ونحوه، وفرق بعضهم بين الدمع فإن كان حارا دل على المنع وإن كان باردا دل على الرضا. قال: وفي هذا الحديث إشارة إلى أن البكر التي أمر باستئذانها هي البالغ، إذ لا معنى لاستئذان من لا تدري ما الإذن، ومن يستوي سكوتها وسخطها. ونقل ابن عبد البر عن مالك أن سكوت البكر اليتيمة قبل إذنها وتفويضها لا يكون رضا منها، بخلاف ما إذا كان بعد تقويضها إلى وليها. وخص بعض الشافعية الاكتفاء بسكوت البكر البالغ بالنسبة إلى الأب والجد دون غيرهما، لأنها تستحي منهما أكثر من غيرهما. والصحيح الذي عليه الجمهور استعمال الحديث في جميع الأبكار بالنسبة لجميع الأولياء، واختلفوا في الأب يزوج البكر البالغ بغير إذنها فقال الأوزاعي والثوري والحنفية ووافقهم أبو ثور: يشترط استئذانها، فلو عقد عليها بغير استئذان لم يصح. وقال الآخرون: يجوز للأب أن يزوجها ولو كانت بالغا بغير استئذان، وهو قول ابن أبي ليلى ومالك والليث والشافعي وأحمد وإسحاق، ومن حجتهم مفهوم حديث الباب لأنه جعل الثيب أحق بنفسها من وليها، فدل على أن ولي البكر أحق بها منها. واحتج بعضهم بحديث يونس بن أبي إسحاق عن أبي بردة عن أبي موسى مرفوعا: "تستأمر اليتيمة في نفسها، فإن سكتت فهو إذنها" قال فقيد ذلك باليتيمة فيحمل المطلق عليه، وفيه نظر لحديث ابن عباس الذي ذكرته بلفظ: "يستأذنها أبوها" فنص على ذكر الأب. وأجاب الشافعي بأن المؤامرة قد تكون عن استطابة النفس، ويؤيده حديث ابن عمر رفعه: "وأمروا النساء في بناتهن" أخرجه أبو داود، قال الشافعي: لا خلاف أنه ليس للأم أمر، لكنه على معنى استطابة النفس. وقال البيهقي: زيادة ذكر الأب في حديث ابن عباس غير محفوظة، قال الشافعي: زادها ابن عيينة في حديثه، وكان ابن عمر والقاسم وسالم يزوجون الأبكار لا يستأمرونهن؛ قال البيهقي: والمحفوظ في حديث ابن عباس "البكر تستأمر" ورواه صالح بن كيسان بلفظ: "واليتيمة تستأمر" وكذلك رواه أبو بردة عن أبي موسى ومحمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة فدل على أن المراد بالبكر اليتيمة. قلت. وهذا لا يدفع زيادة الثقة الحافظ بلفظ الأب، ولو قال قائل: بل المراد باليتيمة البكر لم يدفع. وتستأمر بضم أوله يدخل فيه الأب وغيره فلا تعارض بين الروايات، ويبقى النظر في أن الاستئمار هل هو شرط في صحة العقد أو مستحب على معنى استطابة النفس كما قال الشافعي؟ كل من الأمرين محتمل، وسيأتي مزيد بحث فيه في الباب الذي يليه إن شاء الله تعالى. واستدل به على أن الصغيرة الثيب لا إجبار عليها لعموم كونها أحق بنفسها من وليها، وعلى أن من زالت بكارتها بوطء ولو كان زنا لا إجبار عليها لأب ولا غيره لعموم قوله: "الثيب أحق بنفسها" وقال أبو حنيفة: هي كالبكر، وخالفه حتى صاحباه، واحتج له بأن علة الاكتفاء بسكوت البكر هو الحياء وهو باق في هذه لأن المسألة مفروضة فيمن زالت بكارتها بوطء لا فيمن اتخذت الزنا ديدنا وعادة وأجيب بأن الحديث نص على أن الحياء يتعلق بالبكر وقابلها بالثيب فدل على أن حكمهما مختلف، وهذه ثيب لغة وشرعا بدليل أنه لو أوصى بعتق كل ثيب في ملكه دخلت إجماعا، وأما بقاء حيائها

(9/193)


كالبكر فممنوع لأنها تستحي من ذكر وقوع الفجور منها، وأما ثبوت الحياء من أصل النكاح فليست فيه كالبكر التي لم تجربه قط، والله أعلم. واستدل به لمن قال: إن للثيب أن تتزوج بغير ولي، ولكنها لا تزوج نفسها بل تجعل أمرها إلى رجل فيزوجها، حكاه ابن حزم عن داود، وتعقبه بحديث عائشة "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل" وهو حديث صحيح كما تقدم، وهو يبين أن معنى قوله: "أحق بنفسها من وليها أنه لا ينفذ عليها أمره بغير إذنها ولا يجبرها، فإذا أرادت أن تتزوج لم يجز لها إلا بإذن وليها واستدل به على أن البكر إذا أعلنت بالمنع لم يجز النكاح، وإلى هذا أشار المصنف في الترجمة، وإن أعلنت بالرضا فيجوز بطريق الأولى، وشذ بعض أهل الظاهر فقال: لا يجوز أيضا وقوفا عند ظاهر قوله: "وإذنها أن تسكت"

(9/194)


43- باب إِذَا زَوَّجَ الرجل ابْنَتَهُ وَهِيَ كَارِهَةٌ فَنِكَاحُهُ مَرْدُودٌ
5138- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَمُجَمِّعٍ ابْنَيْ يَزِيدَ بْنِ جَارِيَةَ عَنْ خَنْسَاءَ بِنْتِ خِذَامٍ الأَنْصَارِيَّةِ أَنَّ أَبَاهَا زَوَّجَهَا وَهْيَ ثَيِّبٌ فَكَرِهَتْ ذَلِكَ فَأَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَدَّ نِكَاحَهُ"
[الحديث 5138- أطرافه في: 5139، 6945، 6969]
5139- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا يَزِيدُ أَخْبَرَنَا يَحْيَى أَنَّ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ حَدَّثَهُ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ يَزِيدَ وَمُجَمِّعَ بْنَ يَزِيدَ حَدَّثَاهُ أَنَّ رَجُلًا يُدْعَى خِذَامًا أَنْكَحَ ابْنَةً لَهُ نَحْوَهُ"
قوله: "باب إذا زوج الرجل ابنته وهي كارهة فنكاحه مردود" هكذا أطلق، فشمل البكر والثيب، لكن حديث الباب مصرح فيه بالثيوبة، فكأنه أشار إلى ما ورد في بعض طرقه كما سأبينه، ورد النكاح إذا كانت ثيبا فزوجت بغير رضاها إجماع، إلا ما نقل عن الحسن أنه أجاز إجبار الأب للثيب ولو كرهت كما تقدم. وعن النخعي إن كانت في عياله جاز وإلا رد، واختلفوا إذا وقع العقد بغير رضاها، فقالت الحنفية إن أجازته جاز، وعن المالكية إن أجازته عن قرب جاز وإلا فلا، ورده الباقون مطلقا.
قوله: "ومجمع" بضم الميم وفتح الجيم وكسر الميم الثقيلة ثم عين مهملة. قوله: "ابني يزيد بن جارية" بالجيم أي ابن عامر بن العطاف الأنصاري الأوسي من بني عمرو بن عوف، وهو ابن أخي مجمع بن جارية الصحابي الذي جمع القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأخرج له أصحاب السنن، وقد وهم من زعم أنهما واحد، ومنه قيل إن لمجمع بن يزيد صحبة ليس كذلك، وإنما الصحبة لعمه مجمع بن جارية، وليس لمجمع بن يزيد في البخاري سوى هذا الحديث، وقد قرنه فيه بأخيه عبد الرحمن بن يزيد، وعبد الرحمن ولد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فيما جزم به العسكري وغيره، وهو أخو عاصم بن عمر بن الخطاب لأمه، قال ابن سعد: ولي القضاء لعمر بن عبد العزيز يعني لما كان أمير المدينة، ومات سنة ثلاث وتسعين وقيل سنة ثمان، ووثقه جماعة، وما له في البخاري أيضا سوى هذا الحديث. وقد وافق مالكا على إسناد هذا الحديث سفيان بن عيينة عن عبد الرحمن بن القاسم وإن اختلف الرواة عنهما في وصل هذا الحديث عن خنساء وفي إرساله حيث قال بعضهم عن عبد الرحمن ومجمع أن خنساء زوجت، وكذا اختلفوا عنهما في نسب عبد الرحمن ومجمع: فمنهم من أسقط يزيد وقال

(9/194)


ابني جارية والصواب وصله وإثبات يزيد في نسبهما، وقد أخرج طريق ابن عيينة المصنف في ترك الحيل بصورة الإرسال كما سيأتي، وأخرجها أحمد عنه كذلك، وأوردها الطبراني من طريقه موصولة، وأخرجه الدار قطني في "الموطئات" من طريق معلى بن منصور عن مالك بصورة الإرسال أيضا والأكثر وصلوه عنه، وخالفهما معا سفيان الثوري في راو من السند فقال: "عن عبد الرحمن بن القاسم عن عبد الله بن يزبد بن وديعة عن خنساء" أخرجه النسائي في "الكبرى" والطبراني من طريق ابن المبارك عنه، وهي رواية شاذة لكن يبعد أن ويكون لعبد الرحمن بن القاسم فيه شيخان، وعبد الله بن يزيد بن وديعة هذا لم أر من ترجم له، ولم يذكر البخاري ولا ابن أبي حاتم ولا ابن حبان إلا عبد الله بن وديعة بن خدام الذي روى عن سلمان الفارسي في غسل الجمعة وعنه المقبري، وهو تابعي غير مشهور إلا في هذا الحديث، ووثقه الدار قطني وابن حبان، وقد ذكره ابن منده في "الصحابة" وخطاه أبو نعيم في ذلك، وأظن شيخ عبد الرحمن بن القاسم ابن أخيه، وعبد الله بن يزيد بن وديعة هذا ممن أغفله المزي ومن تبعه فلم يذكروه في رجال الكتب الستة. قوله: "عن خنساء بنت خدام" بمعجمة ثم نون ثم مهملة وزن حمراء، وأبوها بكسر المعجمة وتخفيف المهملة، قيل اسم أبيه وديعة، والصحيح أن اسم أبيه خالد ووديعة اسم جده فيما أحسب، وقع ذلك في رواية لأحمد من طريق محمد بن إسحاق عن الحجاج بن السائب مرسلا في هذه القصة، ولكن قال في تسميتها خناس بتخفيف النون وزن فلان، ووقع في رواية الدار قطني والطبراني وابن السكن خنساء، ووصل الحديث عنها فقال: "عن حجاج بن السائب بن أبي لبابة عن أبيه عن جدته خنساء" وخناس مشتق من خنساء كما يقال في زينب زناب، وكنية خدام والد خنساء أبو وديعة كناه أبو نعيم، وقد وقع ذلك عند عبد الرزاق من حديث ابن عباس "أن خداما أبا وديعة أنكح ابنته رجلا" الحديث، ووقع عند المستغفري من طريق ربيعة بن عبد الرحمن بن يزيد ابن جارية أن وديعة بن خدام زوج ابنته، وهو وهم في اسمه، ولعله كان: أن خداما أبا وديعة، فانقلب. وقد ذكرت في كتاب الصحابة ما يدل على أن لوديعة بن خدام أيضا صحبة، وله قصة مع عمر في ميراث سالم مولى أبي حذيفة ذكرها البخاري في تاريخه، وقد أطلت في هذا الموضع، لكن جر الكلام بعضه بعضا ولا يخلو من فائدة. قوله: "إن أباها زوجها وهي ثيب فكرهت ذلك" ووقع في رواية الثوري المذكورة "قالت أنكحني أبي وأنا كارهة وأنا بكر" والأول أرجح، فقد ذكر الحديث الإسماعيلي من طرق شعبة عن يحيى بن سعيد عن القاسم فقال في روايته: "وأنا أريد أن أتزوج عم ولدي" وكذا أخرج عبد الرزاق عن معمر عن سعيد بن عبد الرحمن الجحشي عن أبي بكر بن محمد "أن رجلا من الأنصار تزوج خنساء بنت خدام فقتل عنها يوم أحد، فأنكحها أبوها رجلا، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أبي أنكحني، وإن عم ولدي أحب إلي" فهذا يدل على أنها كانت ولدت من زوجها الأول، واستفدنا من هذه الرواية نسبة زوجها الأول واسمه أنيس بن قتادة سماه الواقدي في روايته من وجه آخر عن خنساء، ووقع في "المبهمات للقطب القسطلاني" أن اسمه أسير وأنه استشهد ببدر ولم يذكر له مستندا، وأما الثاني الذي كرهته فلم أقف على اسمه إلا أن الواقدي ذكر بإسناد له أنه من بني مزينة، ووقع في رواية ابن إسحاق عن الحجاج بن السائب بن أبي لبابة عن أبيه عنها أنه من بني عمرو بن عوف، وروى عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء الخراساني عن ابن عباس "أن خداما أبا وديعة أنكح ابنته رجلا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لا تكرهوهن، فنكحت بعد ذلك أبا لبابة وكانت ثيبا" وروى الطبراني بإسناد آخر عن ابن عباس فذكر نحو

(9/195)


القصة قال فيه: "فنزعها من زوجها وكانت ثيبا، فنكحت بعده أبا لبابة" وروى عبد الرزاق أيضا عن الثوري عن أبي الحويرث عن نافع بن جبير قال: "تأيمت خنساء، فزوجها أبوها" الحديث نحوه وفيه: "فرد نكاحه، ونكحت أبا لبابة" وهذه أسانيد يقوى بعضها ببعض. كلها دالة على أنها كانت ثيبا. نعم أخرج النسائي من طريق الأوزاعي عن عطاء عن جابر "أن رجلا زوج ابنته وهي بكر من غير أمرها، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم ففرق بينهما" وهذا سند ظاهره الصحة، ولكن له علة أخرجه النسائي من وجه آخر عن الأوزاعي فأدخل بينه وبين عطاء إبراهيم بن مرة وفيه مقال، وأرسله فلم يذكر في إسناده جابرا. وأخرج النسائي أيضا وابن ماجه من طريق جرير بن حازم عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس "أن جارية بكرا أتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة، فخيرها" ورجاله ثقات، لكن قال أبو حاتم وأبو زرعة إنه خطأ وأن الصواب إرساله. وقد أخرجه الطبراني والدار قطني من وجه آخر عن يحيى بن أبي كثير عن عكرمة عن ابن عباس بلفظ: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد نكاح بكر وثيب أنكحهما أبوهما وهما كارهتان" قال الدار قطني: تفرد به عبد الملك الدماري وفيه ضعف، والصواب عن يحيى بن أبي كثير عن المهاجر بن عكرمة مرسل. وقال البيهقي: إن ثبت الحديث في البكر حمل على أنها زوجت بغير كفء والله أعلم قلت: وهذا الجواب هو المعتمد، فإنها واقعة عين فلا يثبت الحكم فيها تعميما، وأما الطعن في الحديث فلا معنى له فإن طرقه يقوى بعضها ببعض، ولقصة خنساء بنت خدام طريق أخرى أخرجها الدار قطني والطبراني من طريق هشيم عن عمر بن أبي سلمة عن أبيه عن أبي هريرة "أن خنساء بنت خدام زوجها أبوها وهي كارهة، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فرد نكاحها" ولم يقل فيه بكرا ولا ثيبا، قال الدار قطني: رواه أبو عوانة عن عمر مرسلا لم يذكر أبا هريرة. قوله: "حدثنا إسحاق" هو ابن راهويه ويزيد هو ابن هارون ويحيى هو ابن سعيد الأنصاري. قوله: "إن رجلا يدعى خداما أنكح ابنه له نحوه" ساق أحمد لفظه عن يزيد بن هارون بهذا الإسناد "أن رجلا منهم يدعى خداما أنكح ابنته، فكرهت نكاح أبيها، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فرد عنها نكاح أبيها، فتزوجت أبا لبابة بن عبد المنذر" فذكر يحيى بن سعيد أنه بلغه أنها كانت ثيبا، وهذا يوافق ما تقدم. وكذا أخرجه ابن ماجه عن أبي بكر بن شيبة عن يزيد بن هارون، وأخرجه الإسماعيلي من طرق عن يزيد كذلك، وأخرجه الطبراني والإسماعيلي من طريق محمد بن فضيل عن يحيى بن سعيد نحوه. وأخرجه الطبراني من طريق عيسى بن يونس عن يحيى كذلك. وأخرجه أحمد عن أبي معاوية عن يحيى كذلك، لكن اقتصر على ذكر مجمع بن يزيد، والذي بلغ يحيى ذلك يحتمل أن يكون عبد الرحمن بن القاسم، فسيأتي في ترك الحيل من طريق ابن عيينة عن يحيى بن سعيد عن القاسم "إن امرأة من ولد جعفر تخوفت أن يزوجها وليها وهي كارهة فأرسلت إلى شيخين من الأنصار عبد الرحمن ومجمع ابني جارية قالا: فلا تخشين فإن خنساء بنت خدام أنكحها أبوها وهي كارهة فرد النبي صلى الله عليه وسلم ذلك قال سفيان: وأما عبد الرحمن بن القاسم فسمعته يقول عن أبيه أن خنساء انتهى، وقد أخرجه الطبراني من وجه آخر عن سفيان بن عيينة عن عبد الرحمن عن أبيه عن خنساء موصولا، والمرأة التي من ولد جعفر هي أم جعفر بنت القاسم بن محمد بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، ووليها هو عم أبيها معاوية بن عبد الله بن جعفر، أخرجه المستغفري من طريق يزيد بن الهاد عن ربيعة بإسناده أنها تأيمت من زوجها حمزة بن عبد الله بن الزبير، فأرسلت إلى القاسم بن محمد وإلى عبد الرحمن بن يزيد فقالت: إني لا آمن معاوية أن يضعني حيث لا يوافقني، فقال لها عبد الرحمن: ليس له ذلك

(9/196)


ولو صنع ذلك لم يجز، فذكر الحديث إلا أنه لم يضبط اسم والد خنساء ولا سمي بنته كما قدمته. وكنت ذكرت في المقدمة في تسمية المرأة من ولد جعفر ومن ذكر معها غير الذي هنا، والمذكور هنا هو المعتمد، وقد حصل من تحرير ذلك ما لا أظن أنه يزاد عليه، فلله الحمد على جميع مننه

(9/197)


44- باب تَزْوِيجِ الْيَتِيمَةِ لِقَوْلِهِ {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا} وَإِذَا قَالَ لِلْوَلِيِّ زَوِّجْنِي فُلاَنَةَ فَمَكُثَ سَاعَةً أَوْ قَالَ مَا مَعَكَ فَقَالَ مَعِي كَذَا وَكَذَا أَوْ لَبِثَا ثُمَّ قَالَ زَوَّجْتُكَهَا فَهُوَ جَائِزٌ فِيهِ سَهْلٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
5140- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَ لَهَا يَا أُمَّتَاهْ {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} إِلَى قَوْلِهِ {مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} قَالَتْ عَائِشَةُ يَا ابْنَ أُخْتِي هَذِهِ الْيَتِيمَةُ تَكُونُ فِي حَجْرِ وَلِيِّهَا فَيَرْغَبُ فِي جَمَالِهَا وَمَالِهَا وَيُرِيدُ أَنْ يَنْتَقِصَ مِنْ صَدَاقِهَا فَنُهُوا عَنْ نِكَاحِهِنَّ إِلاَّ أَنْ يُقْسِطُوا لَهُنَّ فِي إِكْمَالِ الصَّدَاقِ وَأُمِرُوا بِنِكَاحِ مَنْ سِوَاهُنَّ مِنْ النِّسَاءِ قَالَتْ عَائِشَةُ اسْتَفْتَى النَّاسُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ} إِلَى قَوْلِهِ {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْيَتِيمَةَ إِذَا كَانَتْ ذَاتَ مَالٍ وَجَمَالٍ رَغِبُوا فِي نِكَاحِهَا وَنَسَبِهَا وَالصَّدَاقِ وَإِذَا كَانَتْ مَرْغُوبًا عَنْهَا فِي قِلَّةِ الْمَالِ وَالْجَمَالِ تَرَكُوهَا وَأَخَذُوا غَيْرَهَا مِنْ النِّسَاءِ قَالَتْ فَكَمَا يَتْرُكُونَهَا حِينَ يَرْغَبُونَ عَنْهَا فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَنْكِحُوهَا إِذَا رَغِبُوا فِيهَا إِلاَّ أَنْ يُقْسِطُوا لَهَا وَيُعْطُوهَا حَقَّهَا الأَوْفَى مِنْ الصَّدَاقِ"
قوله: "باب تزويج اليتيمة" لقول الله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا} ذكر فيه حديث عائشة في تفسير الآية المذكورة، وقد تقدم شرحه في التفسير، وفي دلالة على تزويج الولي غير الأب التي دون البلوغ بكرا كانت أو ثيبا، لأن حقيقة اليتيمة من كانت دون البلوغ ولا أب لها، وقد أذن في تزويجها بشرط أن لا يبخس من صداقها، فيحتاج من منع ذلك إلى دليل قوي. وقد احتج بعض الشافعية بحديث: "لا تنكح اليتيمة حتى تستأمر" قال فإن قيل الصغيرة لا تستأمر، قلنا فيه إشارة إلى تأخير تزويجها حتى تبلغ فتصير أهلا للاستثمار، فإن قيل لا تكون بعد البلوغ يتيمة قلنا التقدير لا تنكح اليتيمة حتى تبلغ فتستأمر، جمعا بين الأدلة. قوله: "وإذا قال للولي زوجني فلانة فمكث ساعة أو قال ما معك؟ فقال معي كذا وكذا أو لبثا، ثم قال زوجتكها فهو جائز، فيه سهل عن النبي صلى الله عليه وسلم" يعني حديث الواهبة، وقد تقدم مرارا ويأتي شرحه قريبا، ومراده منه أن التفريق بين الإيجاب والقبول إذا كان في المجلس لا يضر ولو تخلل بينهما كلام آخر، وفي أخذه من هذا الحديث نظر لأنها واقعة عين يطرقها احتمال أن يكون قبل عقب الإيجاب قوله: "حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري. وقال الليث حدثني عقيل عن ابن شهاب" تقدم طريق الليث موصولا في "باب الأكفاء في المال" وساق المتن هناك على لفظه

(9/197)


وهنا على لفظ شعيب، وقد أفرده بالذكر في كتاب الوصايا كما تقدم، والله أعلم.

(9/198)


45- باب إِذَا قَالَ الْخَاطِبُ لِلْوَلِيِّ زَوِّجْنِي فُلاَنَةَ فَقَالَ قَدْ زَوَّجْتُكَ بِكَذَا وَكَذَا
جَازَ النِّكَاحُ وَإِنْ لَمْ يَقُلْ لِلزَّوْجِ أَرَضِيتَ أَوْ قَبِلْتَ.
5141- حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ امْرَأَةً أَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَرَضَتْ عَلَيْهِ نَفْسَهَا فَقَالَ مَا لِي الْيَوْمَ فِي النِّسَاءِ مِنْ حَاجَةٍ فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ زَوِّجْنِيهَا قَالَ مَا عِنْدَكَ قَالَ مَا عِنْدِي شَيْءٌ قَالَ أَعْطِهَا وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ قَالَ مَا عِنْدِي شَيْءٌ قَالَ فَمَا عِنْدَكَ مِنْ الْقُرْآنِ قَالَ كَذَا وَكَذَا قَالَ فَقَدْ مَلَّكْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ"
قوله: "باب إذا قال الخاطب زوجني فلانة فقال قد زوجتك بكذا وكذا جاز النكاح وإن لم يقل للزوج أرضيت أو قبلت" في رواية الكشميهني: "إذا قال الخاطب للولي" وبه يتم الكلام، وهو الفاعل في قوله: "وإن لم يقل" وأورد المصنف فيه حديث سهل بن سعد في قصة الواهبة أيضا وهذه الترجمة معقودة لمسألة هل يقوم الالتماس مقام القبول فيصير كما لو تقدم القبول على الإيجاب كأن يقول تزوجت فلانة على كذا فيقول الولي زوجتكها بذلك، أو لا بد من إعادة القبول؟ فاستنبط المصنف من قصة الواهبة أنه لم ينقل بعد قول النبي صلى الله عليه وسلم: "زوجتكها بما معك من القرآن" أن الرجل قال قد قبلت، لكن اعترضه المهلب فقال: بساط الكلام في هذه القصة أغني عن توقيف الخاطب على القبول لما تقدم من المراوضة والطلب والمعاودة في ذلك، فمن كان في مثل حال هذا الرجل الراغب لم يحتج إلى تصريح منه بالقبول لسبق العلم برغبته، بخلاف غيره ممن لم تقم القرائن على رضاه انتهى. وغايته أنه يسلم الاستدلال لكن يخصه بخاطب دون خاطب، وقد قدمت في الذي قبله وجه الخدش في أصل الاستدلال. قوله في هذه الرواية "فقال مالي اليوم في النساء من حاجة" فيه إشكال من جهة أن في حديث: "فصعد النظر إليها وصوبه" فهذا دال على أنه كان يريد التزويج لو أعجبته، فكان معنى الحديث مالي في النساء إذا كن بهذه الصفة من حاجة. ويحتمل أن يكون جواز النظر مطلقا من خصائصه وإن لم يرد التزويج، وتكون فائدته احتمال أنها تعجبه فيتزوجها مع استغنائه حينئذ عن زيادة على من عنده من النساء صلى الله عليه وسلم.

(9/198)


46- باب لاَ يَخْطُبُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ حَتَّى يَنْكِحَ أَوْ يَدَعَ
5142- حَدَّثَنَا مَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ سَمِعْتُ نَافِعًا يُحَدِّثُ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانَ يَقُولُ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَبِيعَ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ وَلاَ يَخْطُبَ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ حَتَّى يَتْرُكَ الْخَاطِبُ قَبْلَهُ أَوْ يَأْذَنَ لَهُ الْخَاطِبُ"
5143- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ الأَعْرَجِ قَالَ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَأْثُرُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : "إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ تَحَسَّسُوا وَلاَ تَبَاغَضُوا

(9/198)


47- باب تَفْسِيرِ تَرْكِ الْخِطْبَةِ
5145- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يُحَدِّثُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ حِينَ تَأَيَّمَتْ حَفْصَةُ قَالَ عُمَرُ لَقِيتُ أَبَا بَكْرٍ فَقُلْتُ إِنْ شِئْتَ أَنْكَحْتُكَ حَفْصَةَ بِنْتَ عُمَرَ فَلَبِثْتُ لَيَالِيَ ثُمَّ خَطَبَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ إِنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أَرْجِعَ إِلَيْكَ فِيمَا عَرَضْتَ إِلاَّ أَنِّي قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ ذَكَرَهَا فَلَمْ أَكُنْ لِأُفْشِيَ سِرَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ تَرَكَهَا لَقَبِلْتُهَا تَابَعَهُ يُونُسُ وَمُوسَى بْنُ عُقْبَةَ وَابْنُ أَبِي عَتِيقٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ"
قوله: "باب تفسير ترك الخطبة" ذكر فيه طرفا من حديث عمر حين تأيمت حفصة، وفي آخره قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه "ولو تركها لقبلتها" وقد تقدم شرحه مستوفي قبل أبواب. قال ابن بطال ما ملخصه: تقدم في الباب الذي قبله تفسير ترك الخطبة صريحا في قوله: "حتى ينكح أو يترك" وحديث عمر في قصة حفصة لا يظهر منه تفسير ترك الخطبة لأن عمر لم يكن علم أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب حفصة، قال: ولكنه قصد معنى دقيقا يدل على ثقوب ذهنه ورسوخه في الاستنباط، وذل أن أبا بكر علم أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب إلى عمر أنه لا يرده بل يرغب فيه ويشكر الله على ما أنعم عليه به من ذلك، فقام علم أبي بكر بهذا الحال مقام الركون والتراضي، فكأنه يقول: كل من علم أنه لا يصرف إذا خطب لا ينبغي لأحد أن يخطب على خطبته. وقال ابن المنير الذي يظهر لي أن البخاري أراد أن يحقق امتناع الخطبة على الخطبة مطلقا، لأن أبا بكر امتنع ولم يكن انبرم الأمر بين الخاطب والولي فكيف لو انبرم وتركنا فكأنه استدلال منه بالأولى. قلت: وما أبداه ابن بطال أدق وأولى والله أعلم. قوله: "تابعه يونس وموسى بن عقبة وابن أبي عتيق عن الزهري" أي بإسناده، أما متابعة يونس وهو ابن يزيد فوصلها الدار قطني في "العلل" من طريق أصبغ عن ابن وهب عنه، وأما متابعة الآخرين فوصلها الذهلي في "الزهريات" من طريق سليمان بن بلال عنهما، وقد تقدم للمصنف هذا الحديث من رواية معمر من رواية صالح بن كيسان أيضا عن الزهري أيضا.

(9/201)


48- باب الْخُطْبَةِ
5146- حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ جَاءَ رَجُلاَنِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَخَطَبَا فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ مِنْ الْبَيَانِ لَسِحْرًا"
[الحديث 5146، طرفه في: 5767]

(9/201)


49- باب ضَرْبِ الدُّفِّ فِي النِّكَاحِ وَالْوَلِيمَةِ
5147- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ ذَكْوَانَ قَالَ قَالَتْ الرُّبَيِّعُ بِنْتُ مُعَوِّذِ بْنِ عَفْرَاءَ جَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلَ حِينَ بُنِيَ عَلَيَّ فَجَلَسَ عَلَى فِرَاشِي كَمَجْلِسِكَ مِنِّي فَجَعَلَتْ جُوَيْرِيَاتٌ لَنَا يَضْرِبْنَ بِالدُّفِّ وَيَنْدُبْنَ مَنْ قُتِلَ مِنْ آبَائِي يَوْمَ بَدْرٍ إِذْ قَالَتْ إِحْدَاهُنَّ وَفِينَا نَبِيٌّ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ فَقَالَ دَعِي هَذِهِ وَقُولِي بِالَّذِي كُنْتِ تَقُولِينَ"
قوله: "باب ضرب الدف في النكاح والوليمة" يجوز في الدف ضم الدال وفتحها، وقوله: "والوليمة" معطوف على النكاح أي ضرب الدف في الوليمة وهو من العام بعد الخاص، ويحتمل أن يريد وليمة النكاح خاصة وأن ضرب الدف يشرع في النكاح عند العقد وعند الدخول مثلا وعند الوليمة كذلك، والأول أشبه، وكأنه أشار بذلك إلى ما في بعض طرقه على ما سأبينه. قوله: "حدثنا خالد بن ذكوان" هو المدني يكنى أبا الحسن، وهو من صغار التابعين قوله: "جاء النبي صلى الله عليه وسلم يدخل على" في رواية الكشميهني: "فدخل على" ووقع عند ابن ماجه في أوله قصة من طريق

(9/202)


حماد بن سلمة عن أبي، الحسين واسمه خالد المدني قال: "كنا بالمدينة يوم عاشوراء والجواري يضربن بالدف ويتغنين، فدخلنا على الربيع بنت معوذ فذكرنا ذلك لها، فقالت: دخل على" الحديث، هكذا أخرجه من طريق يزيد بن هارون عنه، وأخرجه الطبراني من طريق عن حماد بن سلمة فقال: "عن أبي جعفر الخطمي" بدل أبي الحسين. قوله: "حين بنى على" في رواية حماد بن سلمة صبيحة عرسي، والبناء الدخول بالزوجة، وبين ابن سعد أنها تزوجت حينئذ إياس بن البكير الليثي وأنها ولدت له محمد بن إياس قيل له صحبة. قوله: "كمجلسك" بكسر اللام أي مكانك. قال الكرماني: هو محمول على أن ذلك كان من وراء حجاب، أو كان قبل نزول آية الحجاب، أو جاز النظر للحاجة أو عند الأمن من الفتنة ا هـ. والأخير هو المعتمد، والذي وضح لنا بالأدلة القوية أن من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم جواز الخلوة بالأجنبية والنظر إليها، وهو الجواب الصحيح عن قصة أم حرام بنت ملحان في دخوله عليها ونومه عندها وتفليتها رأسه ولم يكن بينهما محرمية ولا زوجية، وجوز الكرماني أن تكون الرواية: "مجلسك" بفتح اللام أي جلوسك ولا إشكال فيها. قوله: "فجعلت جويريات لنا" لم أقف على اسمهن، ووقع في رواية حماد بن سلمة بلفظ جاريتان تغنيان، فيحتمل أن كون الثنتان هما المغنيتان ومعهما من يتبعهما أو يساعدهما في ضرب الدف من غير غناء، وسيأتي في "باب النسوة اللاتي يهدين المرأة إلى زوجها" زيادة في هذا. قوله: "ويندبن" من الندبة بضم النون وهي ذكر أوصاف الميت بالثناء عليه وتعديد محاسنه بالكرم والشجاعة ونحوها. قوله: "من قتل من آبائي يوم بدر" تقدم بيان ذلك في المغازي وإن الذي قتل من آبائها إنما قتل بأحد، وآباؤها الذين شهدوا بدرا معوذ ومعاذ وعوف وأحدهم أبوها والآخران عماها أطلقت الأبوة عليهما تغليبا. قوله: "فقال دعي هذه" أي اتركي ما يتعلق بمدحي الذي فيه الإطراء المنهي عنه، زاد في رواية حماد بن سلمة "لا يعلم ما في غد إلا الله" فأشار إلى علة المنع. قوله: "وقولي بالذي كنت تقولين" فيه إشارة إلى جواز سماع المدح والمرثية مما ليس فيه مبالغة تفضي إلى الغلو. وأخرج الطبراني في "الأوسط" بإسناد حسن من حديث عائشة "أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بنساء من الأنصار في عرس لهن وهن يغنين:
وأهدى لها كبشا تنحنح في المربد
وزوجك في البادي وتعلم ما في غد
فقال: لا يعلم ما في غد إلا الله" قال المهلب: في هذا الحديث إعلان النكاح بالدف وبالغناء المباح، وفيه إقبال الإمام إلى العرس وإن كان فيه لهو ما لم يخرج عن حد المباح. وفيه جواز مدح الرجل في وجهه ما لم يخرج إلى ما ليس فيه. وأغرب ابن التين فقال: إنما نهاها لأن مدحه حق والمطلوب في النكاح اللهو فما أدخلت الجد في اللهو منعها، كذا قال، وتمام الخبر الذي أشرت إليه يرد عليه، وسياق القصة يشعر بأنهما لو استمرتا على المرائي لم ينههما، وغالب حسن المرائي جد لا لهو، وإنما أنكر عليها ما ذكر من الإطراء حيث أطلق علم الغيب له وهو صفة تختص بالله تعالى قال تعالى :{قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله} وقوله لنبيه {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ} وسائر ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يخبر به من الغيوب بإعلام الله تعالى إياه لا أنه يستقل بعلم ذلك كما قال تعالى :{عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} وسيأتي مزيد بحث مسألة الغناء في العرس بعد اثنى عشر بابا

(9/203)


50- باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً}
وَكَثْرَةِ الْمَهْرِ وَأَدْنَى مَا يَجُوزُ مِنْ الصَّدَاقِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلاَ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} وَقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ {أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} وَقَالَ سَهْلٌ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ
5148- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى وَزْنِ نَوَاةٍ فَرَأَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَشَاشَةَ الْعُرْسِ فَسَأَلَهُ فَقَالَ إِنِّي تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً عَلَى وَزْنِ نَوَاةٍ وَعَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى وَزْنِ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ"
قوله: "باب قول الله تعالى :{وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} وكثرة المهر، وأدنى ما يجوز من الصداق، وقوله تعالى :{وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً} وقوله جل ذكره: {أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً}. هذه الترجمة معقودة لأن المهر لا يتقدر أقله، والمخالف في ذلك المالكية والحنفية، ووجه الاستدلال مما ذكره الإطلاق من قوله: "صدقاتهن" ومن قوله: "فريضة" وقوله في حديث سهل "ولو خاتما من حديد". وأما قوله: "وكثرة المهر" فهو بالجر عطف على قول الله في الآية التي تلاها وهو قوله: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً} فيه إشارة إلى جواز كثرة المهر. وقد استدلت بذلك المرأة التي نازعت عمر رضي الله تعالى عنه في ذلك، وهو ما أخرجه عبد الرزاق من طريق أبي عبد الرحمن السلمي قال قال عمر: لا تغالوا في مهور النساء: فقالت امرأة ليس ذلك لك يا عمر، إن الله يقول وآتيتم إحداهن قنطارا من ذهب، قال وكذلك هي في قراءة ابن مسعود "فقال عمر: امرأة خاصمت عمر فخصمته" وأخرجه الزبير بن بكار من وجه آخر منقطع "فقال عمر: امرأة أصابت رجل أخطأ" وأخرجه أبو يعلى من وجه آخر عن مسروق عن عمر فذكره متصلا مطولا، وأصل قول عمر "لا تغالوا في صدقات النساء" عند أصحاب السنن وصححه ابن حبان والحاكم، لكن ليس فيه قصة المرأة، ومحصل الاختلاف أنه أقل ما يتمول، وقيل أقله ما يجب فيه القطع، وقيل أربعون وقيل خمسون، وأقل ما يجب فيه القطع مختلف فيه فقيل ثلاثة دراهم وقيل خمسة وقيل عشرة. قوله: "وقال سهل قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ولو خاتما من حديد" هذا طرف من حديث الواهبة وسيأتي شرحه مستوفى بعد هذا، ويأتي مزيد في هذه المسألة بعد قليل أيضا، ثم ذكر حديث أنس في قصة تزويج عبد الرحمن بن عوف وفيه قوله: "تزوجت امرأة على وزن نواة" وسيأتي شرحه مستوفى في "باب الوليمة ولو بشاة" بعد بضعة عشر بابا. قوله: "وعن قتادة عن أنس" هو معطوف على قوله عن عبد العزيز بن صهيب، وهو من رواية شعبة عنهما، فبين أن عبد العزيز بن صهيب أطلق عن أنس النواة وقتادة زاد أنها من ذهب، ويحتمل أن يكون قوله: "وعن قتادة" معلقا. وقد أخرج الإسماعيلي الحديث عن يوسف القاضي عن سليمان بن حرب بطريق عبد العزيز فقط. وأخرج طريق قتادة من رواية علي بن الجعد وعاصم بن علي كلاهما عن شعبة، وكذا صنع أبو نعيم أخرج من رواية سليمان طريق عبد العزيز وحده وأخرج طريق قتادة من رواية أبي داود الطيالسي عن شعبة، والله أعلم

(9/204)


51- باب التَّزْوِيجِ عَلَى الْقُرْآنِ وَبِغَيْرِ صَدَاقٍ
5149- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ سَمِعْتُ أَبَا حَازِمٍ يَقُولُ سَمِعْتُ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ السَّاعِدِيَّ يَقُولُ إِنِّي لَفِي الْقَوْمِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ قَامَتْ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهَا قَدْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لَكَ فَرَ فِيهَا رَأْيَكَ فَلَمْ يُجِبْهَا شَيْئًا ثُمَّ قَامَتْ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهَا قَدْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لَكَ فَرَ فِيهَا رَأْيَكَ فَلَمْ يُجِبْهَا شَيْئًا ثُمَّ قَامَتْ الثَّالِثَةَ فَقَالَتْ إِنَّهَا قَدْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لَكَ فَرَ فِيهَا رَأْيَكَ فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْكِحْنِيهَا قَالَ هَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَيْءٍ قَالَ لاَ قَالَ اذْهَبْ فَاطْلُبْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ فَذَهَبَ فَطَلَبَ ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ مَا وَجَدْتُ شَيْئًا وَلاَ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ فَقَالَ هَلْ مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ شَيْءٌ قَالَ مَعِي سُورَةُ كَذَا وَسُورَةُ كَذَا قَالَ اذْهَبْ فَقَدْ أَنْكَحْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ"
قوله: "باب التزويج على القران وبغير صداق" أي على تعليم القرآن وبغير صداق مالي عيني، ويحتمل غير ذلك كما سيأتي البحث فيه. قوله: "حدثنا سفيان" هو ابن عيينة، وقد ذكره المصنف من رواية سفيان الثوري بعد هذا لكن باختصار، وأخرجه ابن ماجه من روايته أتم منه، والإسماعيلي أتم من ابن ماجه، والطبراني مقرونا برواية معمر؛ وأخرج رواية ابن عيينة أيضا مسلم والنسائي. وهذا الحديث مداره على أبي حازم سلمة بن دينار المدني وهو من صغار التابعين، حدث به كبار الأئمة عنه مثل مالك، وقد تقدمت روايته في الوكالة وقبل أبواب هنا، ويأتي في التوحيد، وأخرجه أيضا أبو داود والترمذي والنسائي والثوري كما ذكرته، وحماد بن زيد وروايته في فضائل القرآن، وتقدمت قبل أبواب هنا أيضا وأخرجها مسلم، وفضيل بن سليمان ومحمد بن مطرف أبي غسان، وقد تقدمت روايتهما قريبا في النكاح ولم يخرجهما مسلم، ويعقوب بن عبد الرحمن الإسكندراني وعبد العزيز بن أبي حازم وروايتهما في النكاح أيضا، ويعقوب أيضا في فضائل القرآن وعبد العزيز يأتي في اللباس وأخرجها مسلم، وعبد العزيز بن محمد الدراوردي وزائدة بن قدامة وروايتهما عند مسلم، ومعمر وروايته عند أحمد والطبراني، وهشام بن سعد وروايته في "صحيح أبي عوانة" والطبراني، ومبشر بن مبشر وروايته عند الطبراني، وعبد الملك بن جريج وروايته عند أبي الشيخ في كتاب النكاح، وقد روى طرفا منه سعيد بن المسيب عن سهل بن سعد أخرجه الطبراني. وجاءت القصة أيضا من حديث أبي هريرة عند أبي داود باختصار والنسائي مطولا، وابن مسعود عند الدار قطني، ومن حديث ابن عباس عند أبي عمر بن حيوة في فوائده، وضميرة جد حسين بن عبد الله عند الطبراني، وجاءت مختصرة من حديث أنس كما تقدم قبل أبواب، وعند الترمذي طرف منه آخر، ومن حديث أبي أمامة عند تمام في فوائده، ومن حديث جابر وابن عباس عند أبي الشيخ في كتاب النكاح، وسأذكر ما في هذه الروايات من فائدة زائدة إن شاء الله تعالى. قوله: "عن سهل بن سعد" في رواية ابن جريج حدثني أبو حازم أن سهل بن سعد أخبره. قوله: "إني لفي القوم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قامت امرأة" في رواية فضيل بن سليمان "كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم جلوسا فجاءته امرأة. وفي رواية هشام بن سعد "بينما نحن عند النبي صلى الله عليه وسلم أتت إليه امرأة" وكذا

(9/205)


في معظم الروايات "أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم:" ويمكن رد رواية سفيان إليها بأن يكون معنى قوله: "قامت" وقفت، والمراد أنها جاءت إلى أن وقفت عندهم، لا أنها كانت جالسة في المجلس فقامت. وفي رواية سفيان الثوري عند الإسماعيلي: "جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد" فأفاد تعيين المكان الذي وقعت فيه القصة. وهذه المرأة لم أقف على اسمها، ووقع في "الأحكام لابن القصاع" أنها خولة بنت حكيم أو أم شريك، وهذا نقل من اسم الواهبة الوارد في قوله تعالى:{وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} وقد تقدم بيان اسمها في تفسير الأحزاب وما يدل على تعدد الواهبة. قوله: "فقالت يا رسول الله إنها قد وهبت نفسها لك" كذا فيه على طريق الالتفات، وكذا في رواية حماد ابن زيد لكن قال: "إنها قد وهبت نفسها لله ولرسوله" وكان السياق يقتضي أن تقول إني قد وهبت نفسي لك، وبهذا اللفظ وقع في رواية مالك، وكذا في رواية زائدة عند الطبراني. وفي رواية يعقوب، وكذا الثوري عند الإسماعيلي: "فقالت يا رسول الله جئت أهب نفسي لك" وفي رواية فضيل بن سليمان "فجاءته امرأة تعرض نفسها عليه" وفي كل هذه الروايات حذف مضاف تقديره أمر نفسي أو نحوه، وإلا فالحقيقة غير مرادة لأن رقبة الحر لا تملك، فكأنها قالت أتزوجك من غير عوض. قوله: "فر فيها رأيك" كذا للأكثر براء واحدة مفتوحة بعدها فاء التعقيب، وهي فعل أمر من الرأي، ولبعضهم بهمزة ساكنة بعد الراء وكل صواب، ووقع بإثبات الهمزة في حديث ابن مسعود أيضا. قوله: "فلم يجبها شيئا" في رواية معمر والثوري وزائدة "فصمت". وفي رواية يعقوب وابن حازم وهشام بن سعد "فنظر إليها فصعد النظر إليها وصوبه" وهو بتشديد العين من صعد والواو من صوب، والمراد أنه نظر أعلاها وأسفلها، والتشديد إما للمبالغة في التأمل وإما للتكرير، وبالثاني جزم القرطبي في "المفهم" قال: أي نظر أعلاها وأسفلها مرارا. ووقع في رواية فضيل بن سليمان "فخفض فيها البصر ورفعه:" وهما بالتشديد أيضا ووقع في رواية الكشميهني من هذا الوجه "النظر" بدل البصر. وقال في هذه الرواية: "ثم طأطأ رأسه" وهو بمعنى قوله: "فصمت" وقال في رواية فضيل بن سليمان "فلم يردها" وقد قدمت ضبط هذه اللفظة في "باب إذا كان الولي هو الخاطب". قوله: "ثم قامت فقالت" وقع هذا في رواية المستملي والكشميهني وسياق لفظها كالأول، وعندهما أيضا: "ثم قامت الثالثة" وسياقها كذلك. وفي رواية معمر والثوري معا عند الطبراني "فصمت، ثم عرضت نفسها عليه فصمت، فلقد رأيتها قائمة مليا تعرض نفسها عليه وهو صامت" وفي رواية مالك "فقامت طويلا" ومثله للثوري عنه وهو نعت مصدر محذوف أي قياما طولا، أو لظرف محذوف أي زمانا طويلا. وفي رواية مبشر "فقامت حتى رئينا لها من طول القيام، زاد في رواية يعقوب وابن أبي حازم "فلما رأت المرأة أنه لم يقض فيها شيئا جلست" ووقع في رواية حماد بن زيد أنها "وهبت نفسها لله ولرسوله فقال: مالي في النساء حاجة" ويجمع بينها وبين ما تقدم أنه قال ذلك في آخر الحال، فكأنه صمت أولا لتفهم أنه لم يردها، فلما أعادت الطلب أفصح لها بالواقع. ووقع في حديث أبي هريرة عند النسائي: "جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرضت نفسها عليه، فقال لها اجلسي، فجلست ساعة ثم قامت، فقال : اجلسي بارك الله فيك، أما نحن فلا حاجة لنا فيك" فيؤخذ منه وفور أدب المرأة مع شدة رغبتها لأنها لم تبالغ في الإلحاح في الطلب، وفهمت من السكوت عدم الرغبة، لكنها لما لم تيأس من الرد جلست تنتظر الفرج، وسكوته صلى الله عليه وسلم إما حياء من مواجهتها بالرد وكان صلى الله عليه وسلم شديد الحياء جدا كما تقدم في صفته أنه كان أشد حياء

(9/206)


لشركها النبي صلى الله عليه وسلم فيه، وهذا بعيد إذ ليس في كلام النبي ولا الرجل ما يدل على شيء من ذلك، قال ويمكن أن يقال أن مراد سهل أنه لو كان عليه رداء مضاف إلى الإزار لكان للمرأة نصف ما عليه الذي هو إما الرداء وإما الإزار لتعليله المنع بقوله: "إن لبسته لم يكن عليك منه شيء" فكأنه قال لو كان عليك ثوب تنفرد أنت بلبسه وثوب آخر تأخذه هي تنفرد بلبسه لكان لها أخذه، فإما إذا لم يكن ذلك فلا انتهى. وقد أخذ كلامه هذا بعض المتأخرين فذكره ملخصا، وهو كلام صحيح لكنه مبني على الفهم الذي دخله الوهم، والذي قال: "فلها نصفه" هو الرجل صاحب القصة، وكلام سهل إنما هو قوله: "ماله رداء فقط" وهي جملة معترضة، وتقدير الكلام: ولكن هذا إزاري فلها نصفه، وقد جاء ذلك صريحا في رواية أبي غسان محمد بن مطرف ولفظه: "ولكن هذا إزاري ولها نصفه" قال سهل: وماله رداء. ووقع في رواية الثوري عند الإسماعيلي: "فقام رجل عليه إزار وليس عليه رداء" ومعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن لبسته إلخ" أي إن لبسته كاملا وإلا فمن المعلوم من ضيق حالهم وقلة الثياب عندهم أنها لو لبسته بعد أن تشقه لم يسترها، ويحتمل أن يكون المراد بالنفي نفي الكمال لأن العرب قد تنفي جملة الشيء إذا انتفى كماله والمعنى لو شققته بينكما نصفين لم يحصل كمال سترك بالنصف إذا لبسته ولا هي. وفي رواية معمر عند الطبراني ما وجدت والله شيئا غير ثوبي هذا اشققه بيني وبينها قال ما في ثوبك فضل عنك. وفي رواية فضيل بن سليمان "ولكني أشق بردتي هذه فأعطيها النصف وآخذ النصف" وفي رواية الدراوردي "قال ما أملك إلا إزاري هذا، قال: أرأيت إن لبسته فأي شيء تلبس" وفي رواية مبشر" هذه الشملة التي علي ليس عندي غيرها" وفي رواية هشام بن سعد "ما عليه إلا ثوب وأحد عاقد طرفيه على عنقه" وفي حديث ابن عباس وجابر "والله ما لي ثوب إلا هذا الذي علي" وكل هذا مما يرجح الاحتمال الأول والله أعلم. ووقع في رواية حماد بن زيد "فقال أعطها ثوبا، قال لا أجد، قال أعطها ولو خاتما من حديد فاعتل له" ومعنى قوله: "فاعتل له" أي اعتذر بعدم وجدانه كما دلت عليه رواية غيره، ووقع في رواية أبي غسان قبل قوله: هل معك من القرآن شيء "فجلس الرجل حتى إذا طال مجلسه قام فرآه النبي صلى الله عليه وسلم فدعاه أو دعي له" وفي رواية الثوري عند الإسماعيلي: "فقام طويلا ثم ولي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "علي الرجل" وفي رواية عبد العزيز بن أبي حازم ويعقوب مثله لكن قال: "فرآه النبي صلى الله عليه وسلم موليا فأمر به فدعي له، فلما جاء قال: ماذا معك من القرآن؟" ويحتمل أن كون هذا بعد قوله كما في رواية مالك "هل معك من القرآن شيء" فاستفهمه حينئذ عن كميته، ووقع الأمران في رواية معمر قال: "فهل تقرأ من القرآن شيئا؟ قال: نعم، قال: ماذا؟ قال: سورة كذا" وعرف بهذا المراد بالمعية وأن معناها الحفظ عن ظهر قلبه، وقد تقدم تقرير ذلك في فضائل القرآن وبيان من زاد فيه: "أتقرؤهن عن ظهر قلبك" وكذا وقع في رواية الثوري عند الإسماعيلي: "قال معي سورة كذا ومعي سورة كذا، قال عن ظهر قلبك؟ قال نعم". قوله: "سورة كذا وسورة كذا" زاد مالك تسميتها. وفي رواية يعقوب وابن أبي حازم "عدهن" وفي رواية أبي غسان "لسور يعددها" وفي رواية سعيد بن المسيب عن سهل بن سعد "أن النبي صلى الله عليه وسلم زوج رجلا امرأة على سورتين من القرآن يعلمها إياهما" ووقع في حديث أبي هريرة قال: "ما تحفظ من القرآن؟ قال: سورة البقرة أو التي تليها" كذا في كتابي أبي داود والنسائي بلفظ: "أو" وزعم بعض من لقيناه أنه عند أبي داود بالواو وعند النسائي بلفظ: "أو" ووقع في حديث ابن مسعود "قال نعم سورة البقرة وسورة المفصل" وفي حديث ضميرة "أن النبي صلى الله عليه وسلم زوج رجلا على سورة البقرة لم يكن عنده شيء" وفي حديث

(9/208)


أبي أمامة "زوج النبي صلى الله عليه وسلم رجلا من أصحابه امرأة على سورة من المفصل جعلها مهرها وأدخلها عليه وقال: علمها" وفي حديث أبي هريرة المذكور "فعلمها عشرين آية وهي امرأتك" وفي حديث ابن عباس "أزوجها منك على أن تعلمها أربع - أو خمس - سور من كتاب الله" وفي مرسل أبي النعمان الأزدي عند سعيد بن منصور "زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة على سورة من القرآن" وفي حديث ابن عباس وجابر "هل تقرأ من لقرآن شيئا؟ قال: نعم، إنا أعطيناك الكوثر. قال: أصدقها إياها" ويجمع بين هذه الألفاظ بأن بعض الرواة حفظ ما لم يحفظ بعض، أو أن القصص متعددة. قوله: "اذهب فقد أنكحتكها بما معك من القرآن" في رواية زائدة مثله، لكن قال في آخره: "فعلمها من القرآن" وفي رواية مالك "قال له قد زوجتكها بما معك من القرآن" ومثله في رواية الدراوردي عن إسحاق بن راهويه، وكذا في رواية فضيل بن سليمان ومبشر. وفي رواية الثوري عند ابن ماجه: "قد زوجتكها على ما معك من القرآن" ومثله في رواية هشام بن سعد وفي رواية الثوري عند الإسماعيلي: "أنكحتكها بما معك من القرآن" وفي رواية الثوري ومعمر عند الطبراني "قد ملكتكها بما معك من القرآن"، وكذا في رواية يعقوب وابن أبي حازم وابن جريج وحماد بن زيد في إحدى الروايتين عنه. وفي رواية معمر عند أحمد "قد أملكتكها" والباقي مثله. وقال في أخرى "فرأيته يمضي وهي تتبعه" وفي رواية أبي غسان "أمكناكها" والباقي مثله، وفي حديث ابن مسعود "قد أنكحتكها على أن تقرئها وتعلمها، وإذا رزقك الله عوضتها، فتزوجها الرجل على ذلك". وفي هذا الحديث من الفوائد أشياء غير ما ترجم به البخاري في كتاب الوكالة وفضائل القرآن وعدة تراجم في كتاب النكاح، وقد بينت في كل واحد توجيه الترجمة ومطابقتها للحديث ووجه الاستنباط منها. وترجم عليه أيضا في كتاب اللباس والتوحيد كما سيأتي تقريره. وفيه أيضا أن لا حد لأقل المهر، قال ابن المنذر: فيه رد على من زعم أن أقل المهر عشرة دراهم وكذا من قال ربع دينار، قال: لأن خاتما من حديد لا يساوي ذلك. وقال المازري تعلق به من أجاز النكاح بأقل من ربع دينار لأنه خرج مخرج التعليل ولكن مالك قاسه على القطع في السرقة. قال عياض: تفرد بهذا مالك عن الحجازيين، لكن مستنده الالتفات إلى قوله تعالى :{انْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} وبقوله: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً} فإنه يدل على أن المراد ماله بال من المال وأقله ما استبيح به قطع العضو المحترم، قال: وأجازه الكافة بما تراضى عليه الزوجان أو من العقد إليه بما فيه منفعة كالسوط والنعل إن كانت قيمته أقل من درهم، وبه قال يحيى ابن سعيد الأنصاري وأبو الزناد وربيعة وابن أبي ذئب وغيرهم من أهل المدينة غير مالك ومن تبعه وابن جريج ومسلم بن خالد وغيرهما من أهل مكة والأوزاعي في أهل الشام والليث في أهل مصر والثوري وابن أبي ليلى وغيرهما من العراقيين غير أبي حنيفة ومن تبعه والشافعي وداود وفقهاء أصحاب الحديث وابن وهب من المالكية. وقال أبو حنيفة: أقله عشرة، وابن شبرمة أقله خمسة، ومالك أقله ثلاثة أو ربع دينار بناء على اختلافهم في مقدار ما يجب فيه القطع. وقد قال الدراوردي لمالك لما سمعه يذكر هذه المسألة: تعرقت يا أبا عبد الله، أي سلكت سبيل أهل العراق في قياسهم مقدار الصداق على مقدار نصاب السرقة وقال القرطبي: استدل من قاسه بنصاب السرقة بأنه عضو آدمي محترم فلا يستباح بأقل من كذا قياسا على يد السارق، وتعقبه الجمهور بأنه قياس في مقابل النص فلا يصح، وبأن اليد تقطع وتبين ولا كذلك الفرج، وبأن القدر المسروق يجب على السارق رده مع القطع ولا كذلك الصداق. وقد ضعف جماعة من المالكية أيضا هذا

(9/209)


القياس، فقال أبو الحسن اللخمي: قياس قدر الصداق بنصاب السرقة ليس بالبين، لأن اليد إنما قطعت في ربع دينار نكالا للمعصية، والنكاح مستباح بوجه جائز، ونحوه لأبي عبد الله بن الفخار منهم. نعم قوله تعالى : {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً} يدل على أن صداق الحرة لا بد وأن يكون ما ينطلق عليه اسم مال له قدر ليحصل الفرق بينه وبين مهر الأمة، وأما قوله تعالى :{أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} فإنه يدل على اشتراط ما يسمى مالا في الجملة قل أو كثر وقد حده بعض المالكية بما تجب فيه الزكاة، وهو أقوى من قياسه على نصاب السرقة، وأقوى من ذلك رده إلى المتعارف. وقال ابن العربي: وزن الخاتم من الحديد لا يساوي ربع دينار، وهو مما لا جواب عنه ولا عذر فيه، لكن المحققين من أصحابنا نظروا إلى قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً} فمنع الله القادر على الطول من نكاح الأمة، فلو كان الطول درهما ما تعذر على أحد. ثم تعقبه بأن ثلاثة دراهم كذلك، يعني فلا حجة فيه للتحديد ولا سيما مع الاختلاف في المراد بالطول. وفيه أن الهبة النكاح خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم لقول الرجل "زوجنيها" ولم يقل هبها لي. ولقولها هي "وهبت نفسي لك" وسكت صلى الله عليه وسلم على ذلك، فدل على جوازه له خاصة، مع قوله تعالى :{خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} وفيه جواز انعقاد نكاحه صلى الله عليه وسلم بلفظ الهبة دون غيره من الأمة على أحد الوجهين للشافعية، والآخر لا بد من لفظ النكاح أو التزويج. وسيأتي البحث فيه. وفيه أن الإمام يزوج من ليس لها ولي خاص لمن يراه كفؤا لها ولكن لا بد من رضاها بذلك. وقال الداودي: ليس في الخبر أنه استأذنها ولا أنها وكلته وإنما هو من قوله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} يعني فيكون خاصا به صلى الله عليه وسلم أنه يزوج من شاء من النساء بغير استئذانها لمن شاء، وبنحوه قال ابن أبي زيد. وأجاب ابن بطال بأنها لما قالت له "وهبت نفسي لك" كان كالأذن منها في تزويجها لمن أراد، لأنها لا تملك حقيقة، فيصير المعنى جعلت لك أن تتصرف في تزويجي ا هـ. ولو راجعا حديث أبي هريرة لما احتاجا إلى هذا التكلف، فإن فيه كما قدمته "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمرأة: إني أريد أن أزوجك هذا إن رضيت، فقالت: ما رضيت لي فقد رضيت. وفيه جواز تأمل محاسن المرأة لإرادة تزويجها وإن لم تتقدم الرغبة في تزويجها ولا وقعت خطبتها، لأنه صلى الله عليه وسلم صعد فيها النظر وصوبه، وفي الصيغة ما يدل على المبالغة في ذلك ولم يتقدم منه رغبة فيها ولا خطبة، ثم قال: "لا حاجة لي في النساء" ولو لم يقصد أنه إذا رأى منها ما يعجبه أنه يقبلها ما كان للمبالغة في تأملها فائدة. ويمكن الانفصال عن ذلك بدعوى الخصوصية له لمحل العصمة. والذي تحرر عندنا أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يحرم عليه النظر إلى المؤمنات الأجنبيات بخلاف غيره. وسلك ابن العربي في الجواب مسلكا آخر فقال: يحتمل أن ذلك قبل الحجاب، أو بعده لكنها كانت متلففة، وسياق الحديث يبعد ما قال. وفيه أن الهبة لا تتم إلا بالقبول، لأنها لما قالت: "وهبت نفسي لك" ولم يقل قبلت لم يتم مقصودها ولو قبلها لصارت زوجا له ولذلك لم ينكر على القائل "زوجنيها" وفيه جواز الخطبة على خطبة من خطب إذا لم يقع بينهما ركون ولا سيما إذا لاحت مخايل الرد، قاله أبو الوليد الباجي، وتعقبه عياض وغيره بأنه لم يتقدم عليها خطبة لأحد ولا ميل، بل هي أرادت أن يتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم فعرضت نفسها مجانا مبالغة منها في تحصيل مقصودها فلم يقبل، ولما قال: "ليس لي حاجة في النساء" عرف الرجل أنه لم يقبلها فقال: "زوجنيها" ثم بالغ في الاحتراز فقال: "إن لم يكن لك بها حاجة" وإنما قال ذلك بعد تصريحه بنفي الحاجة لاحتمال أن يبدو له بعد ذلك ما يدعوه إلى إجابتها، فكان ذلك دالا على وفور فطنة الصحابي المذكور وحسن أدبه. قلت: ويحتمل أن يكون الباجي أشار إلى أن الحكم

(9/210)


الذي ذكره يستنبط من هذه القصة، لأن الصحابي لو فهم أن للنبي صلى الله عليه وسلم فيها رغبة لم يطلبها، فكذلك من فهم أن له رغبة في تزويج امرأة لا يصلح لغيره أن يزاحمه فيها حتى يظهر عدم رغبته فيها إما بالتصريح أو ما في حكمه. وفيه أن النكاح لا بد فيه من الصداق لقوله : "هل عندك من شيء تصدقها" ؟ وقد أجمعوا على أنه لا يجوز لأحد أن يطأ فرحا وهب له دون الرقبة بغير صداق. وفيه أن الأولى أن يذكر الصداق في العقد لأنه أقطع للنزاع وأنفع للمرأة، فلو عقد بغير ذكر صداق صح ووجب لها مهر المثل بالدخول على الصحيح، وقيل بالعقد. ووجه كونه أنفع لها أنه يثبت لها نصف المسمى أن لو طلقت قبل الدخول. وفيه استحباب تعجيل تسليم المهر. وفيه جواز الحلف بغير استحلاف للتأكيد، لكنه يكره لغير ضرورة وفي قوله: "أعندك شيء؟ فقال: لا" دليل على تخصيص العموم بالقرينة، لأن لفظ شيء يشمل الخطير والتافه، وهو كان لا يعدم شيئا تافها كالنواة ونحوها، لكنه فهم أن المراد ما له قيمة في الجملة، فلذلك نفي أن يكون عنده. ونقل عياض الإجماع على أن مثل الشيء الذي لا يتمول ولا له قيمة لا يكون صداقا ولا يحل به النكاح، فإن ثبت نقله فقد خرق هذا الإجماع أبو محمد بن حزم فقال: يجوز بكل ما يسمى شيئا ولو كان حبة من شعير، ويؤيد ما ذهب إليه الكافة قوله صلى الله عليه وسلم: "التمس ولو خاتما من حديد" لأنه أورده مورد التقليل بالنسبة لما فوقه، ولا شك أن الخاتم من الحديد له قيمة وهو أعلى خطرا من النواة وحبة الشعير، ومساق الخبر يدل على أنه لا شيء دونه يستحل به البضع، وقد وردت أحاديث في أقل الصداق لا يثبت منها شيء، منها عند ابن أبي شيبة من طريق أبي لبيبة رفعه: "من استحل بدرهم في النكاح فقد استحل ومنها عند أبي داود عن جابر رفعه: "من أعطى في صداق امرأة سويقا أو تمرا فقد استحل"، وعند الترمذي من حديث عامر بن ربيعة "أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز نكاح امرأة على نعلين" وعند الدار قطني من حديث أبي سعيد في أثناء حديث المهر "ولو على سواك من أراك" وأقوى شيء ورد في ذلك حديث جابر عند مسلم كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نهى عنها عمر" قال البيهقي: إنما نهى عمر عن النكاح إلى أجل لا عن قدر الصداق، وهو كما قال. وفيه دليل للجمهور لجواز النكاح بالخاتم الحديد وما هو نظير قيمته، قال ابن العربي من المالكية كما تقدم: لا شك أن خاتم الحديد لا يساوي ربع دينار، وهذا لا جواب عنه لأحد ولا عذر فيه، وانفصل بعض المالكية عن هذا الإيراد مع قوته بأجوبة: منها أن قوله: "ولو خاتما من حديد". خرج مخرج المبالغة في طلب التيسير عليه ولم يرد عين الخاتم الحديد ولا قدر قيمته حقيقة، لأنه لما قال لا أجد شيئا عرف أنه فهم أن المراد بالشيء ما له قيمة فقيل له ولو أقل ما له قيمة كخاتم الحديد، ومثله "تصدقوا ولو بظلف محرق ولو بفرسن شاة" مع أن الظلف والفرسن لا ينتفع به ولا يتصدق به، ومنها احتمال أنه طلب منه ما يعجل نقده قبل الدخول لا أن ذلك جميع الصداق، وهذا جواب ابن القصار، وهذا يلزم منه الرد عليهم حيث استحبوا تقديم ربع دينار أو قيمته قبل الدخول لا أقل، ومنها دعوى اختصاص الرجل المذكور بهذا القدر دون غيره وهذا جواب الأبهري، وتعقب بأن الخصوصية تحتاج إلى دليل خاص. ومنها احتمال أن تكون قيمته إذ ذاك ثلاثة دراهم أو ربع دينار. وقد وقع عند الحاكم والطبراني من طريق الثوري عن أبي حازم عن سهل بن سعد "أن النبي صلى الله عليه وسلم زوج رجلا بخاتم من حديد فصه فضة" واستدل به على جواز اتخاذ الخاتم من الحديد، وسيأتي البحث فيه في كتاب اللباس إن شاء الله تعالى، وعلى وجوب تعجيل الصداق قبل الدخول، إذ لو ساغ تأخيره لسأله هل يقدر

(9/211)


على تحصيل ما يمهرها بعد أن يدخل عليها ويتقرر ذلك في ذمته، ويمكن الانفصال عن ذلك بأنه صلى الله عليه وسلم أشار بالأولى، والحامل على هذا التأويل ثبوت جواز نكاح المفوضة وثبوت جواز النكاح على مسمى في الذمة والله أعلم. وفيه أن إصداق ما يتمول يخرجه عن يد مالكه حتى أن من أصدق جارية مثلا حرم عليه وطؤها وكذا استخدامها بغير إذن من أصدقها، وأن صحة المبيع تتوقف على صحة تسليمه فلا يصح ما تعذر إما حسا كالطير في الهواء وإما شرعا كالمرهون، وكذا الذي لو زال إزاره لانكشفت عورته، كذا قال عياض وفيه نظر، واستدل به على جواز جعل المنفعة صداقا ولو كان تعليم القرآن، قال المازري: هذا ينبني على أن الباء للتعويض كقولك بعتك ثوبي بدينار وهذا هو الظاهر وإلا لو كانت بمعنى اللام على معنى تكريمه لكونه حاملا للقرآن لصارت المرأة بمعنى الموهوبة والموهوبة خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم ا هـ. وانفصل الأبهري - وقبله الطحاوي ومن تبعهما كأبي محمد بن أبي زيد - عن ذلك بأن هذا خاص بذلك الرجل، لكون النبي صلى الله عليه وسلم كان يجوز له نكاح الواهبة فكذلك يجوز له أن ينكحها لمن شاء بغير صداق، ونحوه للداودي وقال: إنكاحها إياه بغير صداق لأنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وقواه بعضهم بأنه لما قال له "ملكتكها" لم يشاورها ولا استأذنها، وهذا ضعيف لأنها هي أولا فوضت أمرها إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم في رواية الباب: "فر في رأيك" وغير ذلك من ألفاظ الخبر التي ذكرناها، فلذلك لم يحتج إلى مراجعتها في تقدير المهر وصارت كمن قالت لوليها زوجني بما ترى من قليل الصداق وكثيره، واحتج لهذا القول بما أخرجه سعيد بن منصور من مرسل أبي النعمان الأزدي قال: "زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة على سورة من القرآن وقال: لا تكون لأحد بعدك مهرا" وهذا مع إرساله فيه من لا يعرف. وأخرج أبو داود من طريق مكحول قال. ليس هذا لأحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم. وأخرج أبو عوانة من طريق الليث بن سعد نحوه. وقال عياض: يحتمل قوله: "بما معك من القرآن" وجهين أظهرهما أن يعلمها ما معه من القرآن أو مقدارا معينا منه ويكون ذلك صداقها وقد جاء هذا التفسير عن مالك، ويؤيده قوله في بعض طرقه الصحيحة "فعلمها من القرآن" كما تقدم، وعين في حديث أبي هريرة مقدار ما يعلمها وهو عشرون آية، ويحتمل أن تكون الباء بمعنى اللام أي لأجل ما معك من القرآن فأكرمه بأن زوجه المرأة بلا مهر لأجل كونه حافظا للقرآن أو لبعضه، ونظيره قصة أبي طلحة مع أم سليم وذلك فيما أخرجه النسائي وصححه من طريق جعفر بن سليمان عن ثابت عن أنس قال: "خطب أبو طلحة مع أم سليم، فقالت والله ما مثلك يرد، ولكنك كافر وأنا مسلمة ولا يحل لي أن أتزوجك، فإن تسليم فذاك مهري ولا أسألك غيره، فأسلم، فكان ذلك مهرها". وأخرج النسائي من طريق عبد الله بن عبيد الله بن أبي طلحة عن أنس قال: "تزوج أبو طلحة أم سليم فكان صداق ما بينهما الإسلام، فذكر القصة وقال في آخره: فكان ذلك صداق ما بينهما ترجم عليه النسائي: "التزويج على الإسلام" ثم ترجم على حديث سهل "التزويج على سورة من القرآن" فكأنه مال إلى ترجيح الاحتمال الثاني. ويؤيد أن الباء للتعويض لا للسببية ما أخرجه ابن أبي شيبة والترمذي من حديث أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل رجلا من أصحابه: يا فلان هل تزوجت؟ قال: لا، وليس عندي ما أتزوج به، قال: أليس معك قل هو الله أحد" الحديث. واستدل الطحاوي للقول الثاني من طريق النظر بأن النكاح إذا وقع على مجهول كان كما لم يسم فيحتاج إلى الرجوع إلى المعلوم، قال: والأصل المجمع عليه لو أن رجلا استأجر رجلا على أن يعلمه سورة من القرآن بدرهم لم يصح لأن الإجازة لا تصح إلا على عمل معين كغسل الثوب أو وقت معين،

(9/212)


والتعليم قد لا يعلم مقدار وقته، فقد يتعلم في زمان يسير وقد يحتاج إلى زمان طويل، ولهذا لو باعه داره على أن يعلمه سورة من القرآن لم يصح، قال: فإذا كان التعليم لا تملك به الأعيان لا تملك به المنافع. والجواب عما ذكره أن المشروط تعليمه معين كما تقدم في بعض طرقه، وأما الاحتجاج بالجهل بمدة التعليم فيحتمل أن يقال اغتفر ذلك في باب الزوجين لأن الأصل استمرار عشرتهما، ولأن مقدار تعليم عشرين آية لا تختلف فيه أفهام النساء غالبا، خصوصا مع كونها عربية من أهل لسان الذي يتزوجها كما تقدم. وانفصل بعضهم بأنه زوجها إياه لأجل ما معه من القرآن الذي حفظه وسكت عن المهر فيكون ثابتا لها في ذمته إذا أيسر كنكاح التفويض، وإن ثبت حديث ابن عباس المتقدم حيث قال فيه: "فإذا رزقك الله فعوضها" كان فيه تقوية لهذا القول، لكنه غير ثابت. وقال بعضهم يحتمل أن يكون زوجه لأجل ما حفظه من القرآن وأصدق عنه كما كفر عن الذي وقع على امرأته في رمضان ويكون ذكر القرآن وتعليمه على سبيل التحريض؛ على تعلم القرآن وتعليمه وتنويها بفضل أهله، قالوا: ومما يدل على أنه لم يجعل التعليم صداقا أنه لم يقع معرفة الزوج بفهم المرأة وهل فيها قابلية التعليم بسرعة أو ببطء، ونحو ذلك مما تتفاوت فيه الأغراض، والجواب عن ذلك قد تقدم في بحث الطحاوي، ويؤيد قول الجمهور قوله صلى الله عليه وسلم أولا "هل معك شيء تصدقها" ولو قصد استكشاف فضله لسأله عن نسبه وطريقته ونحو ذلك. فإن قيل: كيف يصح جعل تعليمها القرآن مهرا وقد لا تتعلم؟ أجيب: كما يصح جعل تعليمها الكتابة مهرا وقد لا تتعلم، وإنما وقع الاختلاف عند من أجاز جعل المنفعة مهرا هل يشترط أن يعلم حذق المتعلم أو لا كما تقدم، وفيه جواز كون الإجارة صداقا ولو كانت المصدوقة المستأجرة، فتقوم المنفعة من الإجارة مقام الصداق، وهو قول الشافعي وإسحاق والحسن بن صالح، وعند المالكية فيه خلاف، ومنعه الحنفية في الحر وأجازوه العبد إلا في الإجارة في تعليم القرآن فمنعوه مطلقا بناء على أصلهم في أن أخذ الأجرة على تعليم القرآن لا يجوز، وقد نقل عياض جواز الاستئجار لتعليم القرآن عن العلماء كافة إلا الحنفية. وقال ابن العربي: من العلماء من قال زوجه على أن يعلمها من القرآن فكأنها كانت إجارة، وهذا كرهه مالك ومنعه أبو حنيفة وقال ابن القاسم: يفسخ قبل الدخول ويثبت بعده، قال: والصحيح جوازه بالتعليم. وقد روى يحيى بن مضر عن مالك في هذه القصة أن ذلك أجرة على تعليمها وبذلك جاز أخذ الأجرة على تعليم القرآن، وبالوجهين قال الشافعي وإسحاق، وإذا جاز أن يؤخذ عنه العوض جاز أن يكون عوضا، وقد أجازه مالك من إحدى الجهتين فيلزم أن يجيزه من الجهة الأخرى وقال القرطبي: قوله: "علمها" نص في الأمر بالتعليم، والسياق يشهد بأن ذلك لأجل النكاح فلا يلتفت لقول من قال إن ذلك كان إكراما للرجل فإن الحديث يصرح بخلافه، وقولهم أن الباء بمعنى اللام ليس بصحيح لغة ولا مساقا، واستدل به على أن من قال زوجني فلانة فقال زوجتكها بكذا كفى ذلك ولا يحتاج إلى قول الزوج قبلت قاله أبو بكر الرازي من الحنفية وذكره الرافعي من الشافعية، وقد استشكل من جهة طول الفصل بين الاستيجاب والإيجاب وفراق الرجل المجلس لالتماس ما يصدقها إياه، وأجاب المهلب بأن بساط القصة أغنى عن ذلك، وكذا كل راغب في التزويج إذا استوجب فأجيب بشيء معين وسكت كفى إذا ظهر قرينة القبول، وإلا فيشترط معرفة رضاه بالقدر المذكور. واستدل به على جواز ثبوت العقد بدون لفظ النكاح والتزويج، وخالف ذلك الشافعي ومن المالكية ابن دينار وغيره. والمشهور عن المالكية جوازه بكل لفظ دل على معناه إذا قرن بذكر الصداق أو قصد النكاح كالتمليك

(9/213)


والهبة والصدقة والبيع، ولا يصح عندهم بلفظ الإجارة ولا العارية ولا الوصية، واختلف عندهم في الإحلال والإباحة، وأجازه الحنفية بكل لفظ يقتضي التأبيد مع القصد، وموضع الدليل من هذا الحديث ورود قوله صلى الله عليه وسلم: "ملكتكها" ، لكن ورد أيضا بلفظ: "زوجتكها" قال ابن دقيق العيد: هذه لفظة واحدة في قصة واحدة واختلف فيها مع اتحاد مخرج الحديث، فالظاهر أن الواقع من النبي صلى الله عليه وسلم أحد الألفاظ المذكورة، فالصواب في مثل هذا النظر إلى الترجيح، وقد نقل عن الدار قطني أن الصواب رواية من روى "زوجتكها" وأنهم أكثر وأحفظ، قال: وقال بعض المتأخرين يحتمل صحة اللفظين ويكون قال لفظ التزويج أولا ثم قال اذهب فقد ملكتكها بالتزويج السابق، قال ابن دقيق العيد: وهذا بعيد لأن سياق الحديث يقتضي تعيين لفظة قبلت لا تعددها وأنها هي التي انعقد بها النكاح، وما ذكره يقتضي وقوع أمر آخر انعقد به النكاح، والذي قاله بعيد جدا، وأيضا فلخصمه أن يعكس ويدعى أن العقد وقع بلفظ التمليك ثم قال زوجتكها بالتمليك السابق. قال ثم إنه لم يتعرض لرواية: "أمكناكها" مع ثبوتها، وكل هذا يقتضي تعين المصير إلى الترجيح ا هـ. وأشار بالمتأخر إلى النووي فإنه كذلك قال في شرح مسلم، وقد قال ابن التين لا يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم عقد بلفظ التمليك والتزويج معا في وقت واحد فليس أحد اللفظين بأولى من الآخر فسقط الاحتجاج به، هذا على تقدير تساوي الروايتين فكيف مع الترجيح؟ قال: ومن زعم أن معمرا وهم فيه ورد عليه أن البخاري أخرجه في غير موضع من رواية غير معمر مثل معمر ا هـ. وزعم ابن الجوزي في "التحقيق" أن رواية أبي غسان "أنكحتكها" ورواية الباقين "زوجتكها" إلا ثلاثة أنفس وهم معمر ويعقوب وابن أبي حازم، قال ومعمر كثير الغلط والآخران لم يكونا حافظين ا هـ. وقد غلط في رواية أبي غسان فإنها بلفظ: "أمكناكها" في جميع نسخ البخاري، نعم وقعت بلفظ: "زوجتكها" عند الإسماعيلي من طريق حسين بن محمد عن أبي غسان، والبخاري أخرجه عن سعيد بن أبي مريم عن أبي غسان بلفظ: "أمكناكها"، وقد أخرجه أبو نعيم في" المستخرج "من طريق يحيى بن عثمان بن صالح عن سعيد شيخ البخاري فيه بلفظ: "أنكحتكها" فهذه ثلاثة ألفاظ عن أبي غسان، ورواية: "أنكحتكها" في البخاري لابن عيينة كما حررته، وما ذكره من الطعن في الثلاثة مردود ولا سيما عبد العزيز فإن روايته تترجح يكون الحديث عن أبيه وآل المرء أعرف بحديثه من غيرهم، نعم الذي تحرر مما قدمته أن الذين رووه بلفظ التزويج أكثر عددا ممن رواه بغير لفظ التزويج، ولا سيما وفيهم من الحفاظ مثل مالك، ورواية سفيان بن عيينة "أنكحتكها" مساوية لروايتهم، ومثلها رواية زائدة، وعد ابن الجوزي فيمن رواه بلفظ التزويج حماد بن زيد وروايته بهذا اللفظ في فضائل القرآن، وأما في النكاح فبلفظ: "ملكتكها" وقد تبع الحافظ صلاح الدين العلائي ابن الجوزي فقال في ترجيح رواية التزويج: ولا سيما وفيهم مالك وحماد بن زيد ا هـ. وقد تحرر أنه اختلف على حماد فيها كما اختلف على الثوري فظهر أن رواية التمليك وقعت في إحدى الروايتين عن الثوري وفي رواية عبد العزيز بن أبي حازم ويعقوب بن عبد الرحمن وحماد بن زيد. وفي رواية معمر "ملكتكها" وهي بمعناها، وانفرد أبو غسان برواية: "أمكناكها" وأخلق بها أن تكون تصحيفا من ملكناكها فرواية التزويج أو الإنكاح أرجح، وعلى تقدير أن تساوي الروايات يقف الاستدلال بها لكل من الفريقين، وقد قال البغوي في "شرح السنة" لا حجة في هذا الحديث لمن أجاز انعقاد النكاح بلفظ التمليك لأن العقد كان واحدا فلم يكن اللفظ إلا واحدا، واختلف الرواة في

(9/214)


اللفظ الواقع، والذي يظهر أنه كان بلفظ التزويج على وفق قول الخاطب زوجنيها إذ هو الغالب في أمر العقود إذ قلما يختلف فيه لفظ المتعاقدين؛ وم روى بلفظ غير لفظ التزويج لم يقصد مراعاة اللفظ الذي انعقد به العقد، وإنما أراد الخبر عن جريان العقد على تعليم القرآن. وقيل إن بعضهم رواه بلفظ الإمكان، وقد اتفقوا على أن هذا العقد بهذا اللفظ لا يصح، كذا قال، وما ذكر كاف في دفع احتجاج المخالف بانعقاد النكاح بالتمليك ونحوه. وقال العلائي: من المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل هذه الألفاظ كلها تلك الساعة، فلم يبق إلا أن يكون قال لفظة منها وعبر عنه بقية الرواة بالمعنى، فمن قال بأن النكاح ينعقد بلفظ التمليك ثم احتج بمجيئه في هذا الحديث إذا عورض ببقية الألفاظ لم ينتهض احتجاجه، فإن جزم بأنه هو الذي تلفظ به النبي صلى الله عليه وسلم ومن قال غيره ذكره بالمعنى قلبه عليه مخالفه وادعى ضد دعواه فلم يبق إلا الترجيح بأمر خارجي، ولكن القلب إلى ترجيح رواية التزويج أميل لكونها رواية الأكثرين، ولقرينة قول الرجل الخاطب "زوجنيها يا رسول الله"، قلت: وقد تقدم النقل عن الدار قطني أنه رجح رواية من قال زوجتكها، وبالغ ابن التين فقال. أجمع أهل الحديث على أن الصحيح رواية زوجتكها وأن رواية ملكتكها وهم، وتعلق بعض المتأخرين بأن الذين اختلفوا في هذه اللفظة أئمة فلولا أن هذه الألفاظ عندهم مترادفة ما عبروا بها فدل على أن كان لفظ منها يقوم مقام الآخر عند ذلك الإمام، وهذا لا يكفي في الاحتجاج بجواز انعقاد النكاح بكل لفظة منها، إلا أن ذلك لا يدفع مطالبهم بدليل الحصر في اللفظين مع الاتفاق على إيقاع الطلاق بالكنايات بشرطها ولا حصر في الصريح، وقد ذهب جمهور العلماء إلى أن النكاح ينعقد بكل لفظ يدل عليه وهو قول الحنفية والمالكية وإحدى الروايتين عن أحمد، واختلف الترجيح في مذهبه فأكثر نصوصه تدل على موافقة الجمهور، واختار ابن حامد وأتباعه الرواية الأخرى الموافقة للشافعية، واستدل ابن عقيل منهم لصحة الرواية الأولى بحديث: "أعتق صفية وجعل عتقها صداقها" فإن أحمد نص على أن من قال عتقت أمتي وجعلت عتقها صداقها أنه ينعقد نكاحها بذلك، واشترط من ذهب إلى الرواية الأخرى بأنه لا بد أن يقول في مثل هذه الصورة تزوجتها، وهي زيادة على ما في الخبر وعلى نص أحمد، وأصوله تشهد بأن العقود تنعقد بما يدل على مقصودها من قول أو فعل. وفيه أن من رغب تزويج من هو أعلى قدرا منه لا لوم عليه لأنه بصدد أن يجاب إلا إن كان مما تقطع العادة برده كالسوقي يخطب من السلطان بنته أو أخته. وأن من رغبت في تزويج من هو أعلى منها لا عار عليها أصلا ولا سيما إن كان هناك غرض صحيح أو قصد صالح إما لفضل ديني في المخطوب أو لهوى فيه يخشى من السكوت عنه الوقوع في محذور. واستدل به على صحة قول من جعل عتق الأمة عوضا عن بضعها، كذا ذكره الخطابي، ولفظه: إن من أعتق أمة كان له أن يتزوجها ويجعل عتقها عوضا عن بضعها، وفي أخذه من هذا الحديث بعد، وقد تقدم البحث فيه مفصلا قبل هذا. وفيه أن سكوت من عقد عليها وهي ساكتة لازم إذا لم يمنع من كلامها خوف أو حياء أو غيرهما. وفيه جواز نكاح المرأة دون أن تسأل هل لها ولي خاص أو لا، ودون أن تسأل هل هي في عصمه رجل أو في عدته، قال الخطابي: ذهب إلى ذلك جماعة حملا على ظاهر الحال، ولكن الحكام يحتاطون في ذلك ويسألونها قلت: وفي أخذ هذا الحكم م هذه القصة نظر، لاحتمال أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم اطلع على جلية أمرها أو أخبره بذلك من حضر مجلسه ممن يعرفها ومع هذا الاحتمال لا ينتهض الاستدلال به، وقد نص الشافعي على أنه ليس للحاكم أن يزوج امرأة حتى يشهد عدلان أنها ليس لها ولي خاص

(9/215)


ولا أنها في عصمة رجل ولا في عدته، لكن اختلف أصحابه هل هذا على سبيل الاشتراط أو الاحتياط، والثاني المصحح عندهم. وفيه أنه لا يشترط في صحة العقد تقدم الخطبة إذ لم يقع في شيء من طريق هذا الحديث وقوع حمد ولا تشهد ولا غيرهما من أركان الخطبة، وخالف في ذلك الظاهرية فجعلوها واجبة، ووافقهم من الشافعية أبو عوانة فترجم في صحيحه "باب وجوب الخطبة عند العقد" وفيه أن الكفاءة في الحرية وفي الدين وفي النسب لا في المال، لأن الرجل كان لا شيء له وقد رضيت به، كذا قاله ابن بطال، وما أدري من أين له أن المرأة كانت ذات مال. وفيه أن طالب الحاجة لا ينبغي له أن يلح في طلبها بل يطلبها برفق وتأن، ويدخل في ذلك طالب الدنيا والدين من مستفت وسائل وباحث عن علم. وفيه أن الفقير يجوز له نكاح من علمت بحاله ورضيت به إذا كان واجدا للمهر وكان عاجزا عن غيره من الحقوق، لأن المراجعة وقعت في وجدان المهر وفقده لا في قدر زائد قاله الباجي، وتعقب باحتمال أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم اطلع من حال الرجل على أنه يقدر على اكتساب قوته وقوت امرأته، ولا سيما مع ما كان عليه أهل ذلك العصر من قلة الشيء والقناعة باليسير. واستدل به على صحة النكاح بغير شهود، ورد بأن ذلك وقع بحضرة جماعة من الصحابة كما تقدم ظاهرا في أول الحديث. وقال ابن حبيب: هو منسوخ بحديث: "لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل" وتعقب. واستدل به على صحة النكاح بغير ولي وتعقب باحتمال أنه لم يكن لها ولي خاص والإمام ولي من لا ولي له. واستدل به على جواز استمتاع الرجل بشورة امرأته وما يشتري بصداقها لقوله: "إن لبسته" من أن النصف لها، ولم يمنعه مع ذلك من الاستمتاع بنصفه الذي وجب لها بل جوز له لبسه كله، وإنما وقع المنع لكونه لم يكن له ثوب آخر قاله أبو محمد بن أبي زيد، وتعقبه عياض وغيره بأن السياق يرشد إلى أن المراد تعذر الاكتفاء بنصف الإزار لا في إباحة لبسه كله، وما المانع أن يكون المراد أن كلا منهما يلبسه مهايأة لثبوت حقه فيه، لكن لما لم يكن للرجل ما يستتر به إذا جاءت نوبتها في لبسه قال له "إن لبسته جلست ولا إزار لك" وفيه نظر الإمام في مصالح رعيته وإرشاده إلى ما يصلحهم. وفي الحديث أيضا المراوضة في الصداق، وخطبة المرء لنفسه، وأنه لا يجب إعفاف المسلم بالنكاح كوجوب إطعامه الطعام والشراب؛ قال ابن التين بعد أن ذكر فوائد الحديث: فهذه إحدى وعشرون فائدة بوب البخاري على أكثرها. قلت: وقد فصلت ما ترجم به البخاري من غيره، ومن تأمل ما جمعته هنا علم أنه يزيد على ما ذكره مقدار ما ذكر أو أكثر. ووقع التنصيص على أن النبي صلى الله عليه وسلم زوج رجلا امرأة بخاتم من حديد، وهذا هو النكتة في ذكر الخاتم دون غيره من العروض أخرجه البغوي في "معجم الصحابة" من طريق القعنبي عن حسين بن عبد الله بن ضميرة عن أبيه عن جده "أن رجلا قال يا رسول الله أنكحني فلانة، قال: ما تصدقها؟ قال: ما معي شيء. قال: لمن هذا الخاتم؟ قال: لي، قال: فأعطها إياه، فأنكحه" وهذا وإن كان ضعيف السند لكنه يدخل في مثل هذه الأمهات.

(9/216)


52- باب الْمَهْرِ بِالْعُرُوضِ وَخَاتَمٍ مِنْ حَدِيدٍ
5150- حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِرَجُلٍ تَزَوَّجْ وَلَوْ بِخَاتَمٍ مِنْ حَدِيدٍ"
قوله: "باب المهر بالعروض وخاتم من حديد" العروض بضم العين والراء المهملتين جمع عرض بفتح أوله

(9/216)


وسكون ثانيه والضاد معجمة: ما يقابل النقد، وقوله بعده "وخاتم من حديد" هو من الخاص بعد العام، فإن الخاتم من حديد من جملة العروض، والترجمة مأخوذة من حديث الباب للخاتم بالتنصيص والعروض بالإلحاق، وتقدم في أوائل النكاح حديث ابن مسعود "فأرخص لنا أن تنكح المرأة بالثوب" وتقدم في الباب قبله عدة أحاديث في ذلك. قوله: "حدثنا يحيى" هو ابن موسى كما صح به ابن السكن وسفيان هو الثوري. قوله: "قال الرجل: تزوج ولو بخاتم من حديد" هذا مختصر من الحديث الطويل الذي قبله، وقد ذكرت من ساقه عن الثوري مطولا وهو عبد الرزاق، لكنه قرنه في روايته بمعمر، وأخرجه ابن ماجه من رواية سفيان الثوري أتم مما هنا، وقد ذكرت ما في روايته من فائدة زائده في الحديث الذي قبله، وتقدم من الكلام فيه ما يغني عن إعادته، والله أعلم.

(9/217)


53- باب الشُّرُوطِ فِي النِّكَاحِ
وَقَالَ عُمَرُ مَقَاطِعُ الْحُقُوقِ عِنْدَ الشُّرُوطِ وَقَالَ الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ صِهْرًا لَهُ فَأَثْنَى عَلَيْهِ فِي مُصَاهَرَتِهِ فَأَحْسَنَ قَالَ حَدَّثَنِي فَصَدَقَنِي وَوَعَدَنِي فَوَفَى لِي"
5151- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ حَدَّثَنَا لَيْثٌ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ عَنْ عُقْبَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : "أَحَقُّ مَا أَوْفَيْتُمْ مِنْ الشُّرُوطِ أَنْ تُوفُوا بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ"
قوله: "باب الشروط في النكاح" أي التي تحل وتعتبر، وقد ترجم في كتاب الشروط "الشروط في المهر عند عقدة النكاح" وأورد الأثر المعلق، والحديث الموصول المذكور هنا. قوله: "وقال عمر: مقاطع الحقوق عند الشروط" وصله سعيد بن منصور من طريق إسماعيل بن عبيد الله وهو ابن أبي المهاجر عن عبد الرحمن بن غنم قال: "كنت مع عمر حيث تمس ركبتي ركبته. فجاءه رجل فقال: يا أمير المؤمنين تزوجت هذه وشرطت لها دارها، وإني أجمع لأمري - أو لشأني - أن أنتقل إلى أرض كذا وكذا، فقال: لها شرطها. فقال الرجل: هلك الرجال إذ لا تشاء امرأة أن تطلق زوجها إلا طلقت. فقال عمر: المؤمنون على شروطهم، عند مقاطع حقوقهم" وتقدم في الشروط من وجه آخر عن ابن أبي المهاجر نحوه وقال في آخر "فقال عمر: إن مقاطع الحقوق عند الشروط، ولها ما اشترطت". قوله:" وقال المسور بن مخرمة سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ذكر صهرا له فأثنى عليه" تقدم موصولا في المناقب في ذكر أبي العاص بن الربيع وهو الصهر المذكور وبينت هناك نسبه والمراد بقوله حدثني فصدقني" وسيأتي شرحه مستوفى في أبواب الغيرة في أواخر كتاب النكاح، والغرض منه هنا ثناء النبي صلى الله عليه وسلم عليه لأجل وفائه بما شرط له. قوله: "حدثنا أبو الوليد" هو الطيالسي. قوله: "عن يزيد بن أبي حبيب" تقدم في الشروط عن عبد الله بن يوسف عن الليث "حدثني يزيد بن أبي حبيب". قوله: "عن أبي الخير" هو مرثد بن عبد الله اليزني، وعقبة هو ابن عامر الجهني. قوله: "أحق ما أوفيتم من الشروط أن توفوا به" في رواية عبد الله بن يوسف "أحق الشروط أن توفوا به" وفي رواية مسلم من طريق عبد الحميد بن جعفر عن يزيد بن أبي حبيب أنه "أحق الشروط أن يوفى به". قوله: "ما استحللتم به الفروج" أي أحق الشروط بالوفاء شروط النكاح لأن أمره أحوط وبابه أضيق. وقال الخطابي: الشروط في النكاح مختلفة، فمنها ما يجب الوفاء به اتفاقا وهو ما أمر الله به من إمساك بمعروف

(9/217)


أو تسريح بإحسان، وعليه حمل بعضهم هذا الحديث. ومنها ما لا يوفى به اتفاقا كسؤال طلاق أختها، وسيأتي حكمه في الباب الذي يليه. ومنها ما اختلف فيه كاشتراط أن لا يتزوج عليها أو لا يتسرى أو لا ينقلها من منزلها إلى منزله. وعند الشافعية الشروط في النكاح على ضربين: منها ما يرجع إلى الصداق فيجب الوفاء به، وما يكون خارجا عنه فيختلف الحكم فيه، فمنه ما يتعلق الزوج وسيأتي بيانه، ومنه ما يشترطه العاقد لنفسه خارجا عن الصداق وبعضهم يسميه الحلوان، فقيل هو للمرأة مطلقا وهو قول عطاء وجماعة من التابعين وبه قال الثوري وأبو عبيد، وقيل هو لمن شرطه قاله مسروق وعلي بن الحسين، وقيل يختص ذلك بالأب دون غيره من الأولياء. وقال الشافعي إن وقع نفس العقد وجب للمرأة مهر مثلها، وإن وقع خارجا عنه لم يجب. وقال مالك إن وقع في حال العقد فهو من جملة المهر، أو خارجا عنه فهو لمن وهب له، وجاء ذلك في حديث مرفوع أخرجه النسائي من طريق ابن جريج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو بن العاص "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أيما امرأة نكحت على صداق أو حياء أو عدة قبل عصمة النكاح فهو لها، فما كان بعد عصمة النكاح فهو لمن أعطيه، وأحق ما أكرم به الرجل ابنته أو أخته، وأخرجه البيهقي من طريق حجاج بن أرطاة عن عمرو بن شعيب عن عروة عن عائشة نحوه. وقال الترمذي بعد تخريجه: والعمل على هذا عند بعض أهل العلم من الصحابة منهم عمر قال: "إذا تزوج الرجل المرأة وشرط أن لا يخرجها لزم" وبه يقول الشافعي وأحمد وإسحاق، كذا قال، والنقل في هذا عن الشافعي غريب، بل الحديث عندهم محمول على الشرط التي لا تنافي مقتضى النكاح بل تكون من مقتضياته ومقاصده كاشتراطه العشرة بالمعروف والإنفاق والكسوة والسكنى وأن لا يقصر في شيء من حقها من قسمة ونحوها، وكشرطه عليها ألا تخرج إلا بإذنه ولا تمنعه نفسها ولا تتصرف في متاعه إلا برضاه ونحو ذلك، وأما شرط ينافي مقتضى النكاح كأن لا يقسم لها أو لا يتسرى عليها أو لا ينفق أو نحو ذلك فلا يجب الوفاء به بل إن وقع في صلب العقد كفى وصح النكاح بمهر المثل، وفي وجه يجب المسمى ولا أثر للشرط، وفي قول للشافعي يبطل النكاح. وقال أحمد وجماعة: يجب الوفاء بالشرط مطلقا. وقد استشكل ابن دقيق العيد حمل الحديث على الشروط التي هي من مقتضيات النكاح قال: تلك الأمور لا تؤثر الشروط في إيجابها، فلا تشتد الحاجة إلى تعليق الحكم باشتراطها، وسياق الحديث يقتضي خلاف ذلك، لأن لفظ: "أحق الشروط" "يقتضي أن يكون بعض الشروط يقتضي الوفاء بها وبعضها أشد اقتضاء، والشروط هي من مقتضى العقد مستوية في وجوب الوفاء بها. قال الترمذي: وقال علي سبق شرط الله شرطها، قال: وهو قول الثوري وبعض أهل الكوفة، والمراد في الحديث الشروط الجائزة لا المنهي عنها ا هـ. وقد اختلف عن عمر، فروى ابن وهب بإسناد جيد عن عبيد بن السباق "أن رجلا تزوج امرأة فشرط لها أن لا يخرجها من دارها، فارتفعوا إلى عمر فوضع الشرط وقال: المرأة مع زوجها" قال أبو عبيد: تضادت الروايات عن عمر في هذا، وقد قال بالقول الأول عمرو بن العاص، ومن التابعين طاوس وأبو الشعثاء وهو قول الأوزاعي وقال الليث والثوري والجمهور بقول علي حتى لو كان صداق مثلها مائة مثلا فرضيت بخمسين على أن لا يخرجها فله إخراجها ولا يلزمه إلا المسمى وقالت الحنفية: لها أن ترجع عليه بما نقصته له من الصداق. وقال الشافعي: يصح النكاح ويلغو الشرط ويلزمه مهر المثل وعنه يصح وتستحق الكل. وقال أبو عبيد: والذي نأخذ به أنا نأمره بالوفاء بشرطه من غير أن يحكم عليه بذلك. قال: وقد أجمعوا على أنها لو اشترطت عليه أن لا يطأها لم يجب الوفاء بذلك الشرط فكذلك هذا

(9/218)


ومما يقوي حمل حديث عقبة على الندب ما سيأتي في حديث عائشة في قصة بريرة "كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل" والوطء والإسكان وغيرهما من حقوق الزوج إذا شرط عليه إسقاط شيء منها كان شرطا ليس في كتاب الله فيبطل، وقد تقدم في البيوع الإشارة إلى حديث: "المسلمون عند شروطهم، إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا" وحديث: "المسلمون عند شرطهم ما وافق الحق" وأخرج الطبراني في "الصغير" بإسناد حسن عن جابر "أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب أم مبشر بنت البراء بن معرور فقالت: إني شرطت لزوجي أن لا أتزوج بعده، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن هذا لا يصلح" وقد ترجم المحب الطبري على هذا الحديث: "استحباب تقدمة شيء من المهر قبل الدخول" وفي انتزاعه من الحديث المذكور غموض، والله أعلم.

(9/219)


54- باب الشُّرُوطِ الَّتِي لاَ تَحِلُّ فِي النِّكَاحِ، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ لاَ تَشْتَرِطْ الْمَرْأَةُ طَلاَقَ أُخْتِهَا
5152- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ زَكَرِيَّاءَ هُوَ ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لاَ يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تَسْأَلُ طَلاَقَ أُخْتِهَا لِتَسْتَفْرِغَ صَحْفَتَهَا فَإِنَّمَا لَهَا مَا قُدِّرَ لَهَا"
قوله: "باب الشروط التي لا تحل في النكاح" في هذه الترجمة إشارة إلى تخصيص الحديث الماضي في عموم الحث على الوفاء بالشرط بما يباح لا بما نهى عنه، لأن الشروط الفاسدة لا يحل الوفاء بها فلا يناسب الحث عليها. قوله: "وقال ابن مسعود لا تشترط المرأة طلاق أختها" كذا أورده معلقا عن ابن مسعود، وسأبين أن هذا اللفظ بعينه وقع في بعض طرق الحديث المرفوع عن أبي هريرة، ولعله لما لم يقع له اللفظ مرفوعا أشار إليه في المعلق إيذانا بأن المعنى واحد. قوله: "لا يحل لامرأة تسأل طلاق أختها لتستفرغ صحفتها، فإنما لها ما قدر لها" هكذا أورده البخاري بهذا اللفظ، وقد أخرجه أبو نعيم في "المستخرج" من طريق ابن الجنيد عن عبيد الله بن موسى شيخ البخاري فيه بلفظ: "لا يصلح لامرأة أن تشترط طلاق أختها لتكفئ إناءها" وكذلك أخرجه البيهقي من طريق أبي حاتم الرازي عن عبيد الله بن موسى لكن قال: "لا ينبغي" بدل "لا يصلح" وقال: "لتكفئ"، وأخرجه الإسماعيلي من طريق يحيى بن زكرياء بن أبي زائدة عن أبيه بلفظ ابن الجنيد لكن قال: "لتكفئ" فهذا هو المحفوظ من هذا الوجه من رواية أبي سلمة عن أبي هريرة. وأخرج البيهقي من طريق أحمد بن إبراهيم بن ملحان عن الليث عن جعفر بن ربيعة عن الأعرج عن أبي هريرة في حديث طويل أوله "إياكم والظن - وفيه - ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتستفرغ إناء صاحبتها ولتنكح، فإنما لها ما قدر لها" وهذا قريب من اللفظ الذي أورده البخاري هنا. وقد أخرج البخاري من أول الحديث إلى قوله: "حتى ينكح أو يترك" ونبهت على ذلك فيما تقدم قريبا في "باب لا يخطب على خطبة أخيه" فإما أن يكون عبيد الله بن موسى حدث به على اللفظين أو انتقل الذهن من متن إلى متن، وسيأتي في كتاب القدر من رواية أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة بلفظ: "لا تسأل المرأة طلاق أختها لتستفرغ صحفتها ولتنكح، فإنما لها ما قدر لها" وتقدم في البيوع من رواية الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة في حديث أوله "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيع حاضر لباد - وفي آخره - ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكفئ ما في إنائها".

(9/219)


قوله: "لا يحل" ظاهر في تحريم ذلك، وهو محمول على ما إذا لم يكن هناك سبب يجوز ذلك كريبة في المرأة لا ينبغي معها أن تستمر في عصمة الزوج ويكون ذلك على سبيل النصيحة المحضة أو لضرر يحصل لها من الزوج أو للزوج منها أو يكون سؤالها ذلك بعوض وللزوج رغبة في ذلك فيكون كالخلع مع الأجنبي إلى غير ذلك من المقاصد المختلفة. وقال ابن حبيب: حمل العلماء هذا النهي على الندب، فلو فعل ذلك لم يفسخ النكاح وتعقبه ابن بطال بأن نفي الحل صريح في التحريم، ولكن لا يلزم منه فسخ النكاح، وإنما فيه التغليظ على المرأة أن تسأل طلاق الأخرى، ولترض بما قسم الله لها. قوله: "أختها" قال النووي: معنى هذا الحديث نهي المرأة الأجنبية أن تسأل رجلا طلاق زوجته وأن يتزوجها هي فيصير لها من نفقته ومعروفه ومعاشرته ما كان للمطلقة، فعبر عن ذلك بقوله: "تكفئ ما في صحفتها، قال والمراد بأختها غيرها سواء كانت أختها من النسب أو الرضاع أو الدين، ويلحق بذلك الكافرة في الحكم وإن لم تكن أختا في الدين إما لأن المراد الغالب أو أنها أختها في الجنس الآدمي، وحمل ابن عبد البر الأخت هنا على الضرة فقال: فيه من الفقه أنه لا ينبغي أن تسأل المرأة زوجها أن يطلق ضرتها لتنفرد به، وهذا يمكن في الرواية التي وقعت بلفظ: "لا تسأل المرأة طلاق أختها"، وأما الرواية التي فيها لفظ الشرط فظاهرها أنها في الأجنبية ويؤيده قوله فيها "ولتنكح" أي ولتتزوج الزوج المذكور من غير أن يشترط أن يطلق التي قبلها، وعلى هذا فالمراد هنا بالأخت الأخت في الدين؛ ويؤيده زيادة ابن حبان في آخره من طريق أبي كثير عن أبي هريرة بلفظ: "لا تسأل المرأة طلاق أختها لتستفرغ صحفتها فإن المسلمة أخت المسلمة" وقد تقدم في "باب لا يخطب الرجل على خطبة أخيه" نقل الخلاف عن الأوزاعي وبعض الشافعية أن ذلك مخصوص بالمسلمة، وبه جزم أبو الشيخ في كتاب النكاح، ويأتي مثله هنا، ويجيء على رأي ابن القاسم أن يستثنى ما إذا كان المسئول طلاقها فاسقة، وعند الجمهور لا فرق. قوله: "لتستفرغ صحفتها" يفسر المراد بقوله: "تكتفئ" وهو بالهمز افتعال من كفأت الإناء إذا قلبته وأفرغت ما فيه، وكذا يكفأ وهو بفتح أوله وسكون الكاف وبالهمز، وجاء أكفأت الإناء إذا أملته وهو في رواية ابن المسيب "لتكفئ" بضم أوله من أكفأت وهي بمعنى أملته ويقال بمعنى أكببته أيضا، والمراد بالصحفة ما يحصل من الزوج كما تقدم من كلام النووي. وقال صاحب النهاية: الصحفة إناء كالقصعة المبسوطة، قال: وهذا مثل، يريد الاستئثار عليها بحظها فيكون كمن قلب إناء غيره في إنائه. وقال الطيبي: هذه استعارة مستملحة تمثيلية، شبه النصيب والبخت بالصحفة وحظوظها وتمتعاتها بما يوضع في الصحفة من الأطعمة اللذيذة، وشبه الافتراق المسبب عن الطلاق باستفراغ الصحفة عن تلك الأطعمة، ثم أدخل المشبه في جنس المشبه به واستعمل في المشبه ما كان مستعملا في المشبه به. قوله: "ولتنكح" بكسر اللام وبإسكانها وبسكون الحاء على الأمر، ويحتمل النصب عطفا على قوله: "لتكتفئ" فيكون تعليلا لسؤال طلاقها، ويتعين على هذا كسر اللام، ثم يحتمل أن المراد ولتنكح ذلك الرجل من غير أن تتعرض لإخراج الضرة من عصمته بل تكل الأمر في ذلك إلى ما يقدره الله، ولهذا ختم بقوله: "فإنما لها ما قدر لها" إشارة إلى أنها وإن سألت ذلك وألحت فيه واشترطته فإنه لا يقع من ذلك إلا ما قدره الله، فينبغي أن لا تتعرض هي لهذا المحذور الذي لا يقع منه شيء بمجرد إرادتها، وهذا مما يؤيد أن الأخت من النسب أو الرضاع لا تدخل في هذا، ويحتمل أن يكون المراد ولتنكح غيره وتعرض عن هذا الرجل، أو المراد ما يشمل الأمرين، والمعنى ولتنكح من تيسر لها فإن كانت التي قبلها أجنبية فلتنكح

(9/220)


الرجل المذكور وإن كانت أختها فلتنكح غيره، والله أعلم.

(9/221)


55- باب الصُّفْرَةِ لِلْمُتَزَوِّجِ، وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
5153- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِهِ أَثَرُ صُفْرَةٍ فَسَأَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ تَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنْ الأَنْصَارِ قَالَ كَمْ سُقْتَ إِلَيْهَا قَالَ زِنَةَ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ"
قوله: "باب الصفرة للمتزوج" كذا قيده بالمتزوج إشارة إلى الجمع بين حديث الباب وحديث النهي عن التزعفر للرجال، وسيأتي البحث فيه بعد أبواب. قوله: "رواه عبد الرحمن بن عوف عن النبي صلى الله عليه وسلم" يشير إلى حديثه الذي تقدم موصولا في أول البيوع قال: "لما قدمنا المدينة - فذكر الحديث بطوله وفيه - جاء عبد الرحمن بن عوف وعليه أثر صفرة فقال: تزوجت؟ قال نعم". أورد المصنف هذه القصة في هذا الباب من طريق مالك عن حميد مختصرة، وسيأتي شرحها في "باب الوليمة ولو بشاة" مستوفى إن شاء الله تعالى.

(9/221)


باب أولم النبي صلى الله عليه وسلم بزينب فأوسع المسلمين خيراً
...
56- باب 5154- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ أَوْلَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِزَيْنَبَ فَأَوْسَعَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا فَخَرَجَ كَمَا يَصْنَعُ إِذَا تَزَوَّجَ فَأَتَى حُجَرَ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ يَدْعُو وَيَدْعُونَ لَهُ ثُمَّ انْصَرَفَ فَرَأَى رَجُلَيْنِ فَرَجَعَ لاَ أَدْرِي آخْبَرْتُهُ أَوْ أُخْبِرَ بِخُرُوجِهِمَا"
قوله: "باب" كذا لهم بغير ترجمة "وسقط لفظ باب من رواية النسفي، وكذا من شرح ابن بطال، ثم استشكله بأن الحديث المذكور لا يتعلق بترجمة الصفرة للمتزوج، وأجيب بما ثبت في أكثر الروايات من لفظ: "باب" والسؤال باق فإن الإتيان بلفظ باب وإن كان بغير ترجمة لكنه كالفصل من الباب الذي قبله كما تقرر غير مرة، والحديث المذكور هنا حديث أنس "أولم النبي صلى الله عليه وسلم بزينب" يعني بنت جحش أورده مختصرا، وقد تقدم مطولا في تفسير سورة الأحزاب مع شرحه، ومناسبته للترجمة من جهة أنه لم يقع في قصة تزويج زينب بنت جحش ذكر للصفرة، فكأنه يقول: الصفرة للمتزوج من الجائز لا من المشروط لكل متزوج

(9/221)


57- باب كَيْفَ يُدْعَى لِلْمُتَزَوِّجِ
5155- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ هُوَ ابْنُ زَيْدٍ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَثَرَ صُفْرَةٍ قَالَ مَا هَذَا قَالَ إِنِّي تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً عَلَى وَزْنِ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ قَالَ بَارَكَ اللَّهُ لَكَ أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ"
قوله: "باب كيف يدعى للمتزوج" ذكر فيه قصة تزويج عبد الرحمن بن عوف مختصرة من طريق ثابت عن أنس وفيه: "قال بارك الله لك" قال ابن بطال: إنما أراد بهذا الباب والله أعلم رد قول العامة عند العرس بالرفاء والبنين

(9/221)


58- باب الدُّعَاءِ لِلنِّسَاءِ اللاَتِي يَهْدِينَ الْعَرُوسَ وَلِلْعَرُوسِ
5156- حَدَّثَنَا فَرْوَةُ بْنُ أَبِي الْمَغْرَاءِ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَزَوَّجَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَتْنِي أُمِّي فَأَدْخَلَتْنِي الدَّارَ فَإِذَا نِسْوَةٌ مِنْ الأَنْصَارِ فِي الْبَيْتِ فَقُلْنَ عَلَى الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ وَعَلَى خَيْرِ طَائِرٍ"
قوله: "باب الدعاء للنسوة اللاتي يهدين العروس وللعروس" في رواية الكشميهني للنساء بدل النسوة، وأورد

(9/222)


فيه حديث عائشة "تزوجني صلى الله عليه وسلم فأتتني أمي فأدخلتني الدار، فإذا نسوة من الأنصار فقلن: على الخير والبركة" وهو مختصر من حديث مطول تقدم بتمامه بهذا السند بعينه في "باب تزويج عائشة" قبيل أبواب الهجرة إلى المدينة، وظاهر هذا الحديث مخالف للترجمة فإن فيه دعاء النسوة لمن أهدى العروس لا الدعاء لهن، وقد استشكله ابن التين فقال: لم يذكر في الباب الدعاء للنسوة، ولعله أراد كيف صفة دعائهن للعروس، لكن اللفظ لا يساعد على ذلك. وقال الكرماني: الأم هي الهادية للعروس المجهزة فهن دعون لها ولمن معها وللعروس حيث قلن على الخير جئتن أو قدمتن على الخير، قال: ويحتمل أن تكون اللام في النسوة للاختصاص أي الدعاء المختص بالنسوة اللاتي يهدين، ولكن يلزم منه المخالفة بين اللام التي للعروس لأنها بمعنى المدعو لها والتي في النسوة لأنها الداعية، وفي جواز مثله خلاف، انتهى. والجواب الأول أحسن ما توجه به الترجمة، وحاصله أن مراد البخاري بالنسوة من يهدي العروس سواء كن قليلا أو كثيرا وأن من حضر ذلك يدعو لمن أحضر العروس، ولم يرد الدعاء للنسوة الحاضرات في البيت قبل أن تأتي العروس، ويحتمل أن تكون اللام بمعنى الباء على حذف أي المختص بالنسوة، ويحتمل أن الألف واللام بدل من المضاف إليه والتقدير دعاء النسوة الداعيات للنسوة المهديات، ويحتمل أن تكون بمعنى من أي الدعاء الصادر من النسوة، وعند أبي الشيخ في كتاب النكاح من طريق يزيد بن حفصة عن أبيه عن جده "أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بجوار بناحية بني جدرة وهن يقلن: فحيونا نحييكم، فقال: قلن حيانا الله وحياكم" فهذا فيه دعاء للنسوة اللاتي يهدين العروس وقوله: "يهدين" بفتح أوله من الهداية وبضمه من الهدية، ولما كانت العروس تجهز من عند أهلها إلى الزوج احتاجت إلى من يهديها الطريق إليه أو أطلقت عليها أنها هدية فالضبط بالوجهين على هذين المعنيين وأما قوله: "وللعروس" فهو اسم للزوجين عند أول اجتماعهما يشمل الرجل والمرأة، وهو داخل في قول النسوة على الخير والبركة فإن ذلك يشمل المرأة وزوجها، ولعله أشار إلى ما ورد في بعض طرق حديث عائشة كما نبهت عليه هناك، وفيه أن أمها لما أجلستها في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: هؤلاء أهلك يا رسول الله، بارك الله لك فيهم. وقوله في حديث الباب: "فإذا نسوة من الأنصار" سمى منهن أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية فقد أخرج جعفر المستغفري من طريق يحيى بن أبي كثير عن كلاب بن تلاد عن تلاد عن أسماء مقينة عائشة قالت: "لما أقعدنا عائشة لنجليها على رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءنا فقرب إلينا تمرا ولبنا الحديث". وأخرج أحمد والطبراني هذه القصة من حديث أسماء بنت يزيد بن السكن، ووقع في رواية للطبراني أسماء بنت عميس ولا يصح لأنها حينئذ كانت مع زوجها جعفر بن أبي طالب بالحبشة، والمقينة بقاف ونون التي تزين العروس عند دخولها على زوجها.

(9/223)


59- باب مَنْ أَحَبَّ الْبِنَاءَ قَبْلَ الْغَزْوِ
5157- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "غَزَا نَبِيٌّ مِنْ الأَنْبِيَاءِ فَقَالَ لِقَوْمِهِ لاَ يَتْبَعْنِي رَجُلٌ مَلَكَ بُضْعَ امْرَأَةٍ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَبْنِيَ بِهَا وَلَمْ يَبْنِ بِهَا"
قوله: "باب من أحب البناء" أي بزوجته التي لم يدخل بها "قبل الغزو" أي إذا حضر الجهاد ليكون فكره

(9/223)


مجتمعا. حديث أبي هريرة الماضي في كتاب الجهاد ثم في فرض الخمس، وقد شرحته فيه وبينت الاختلاف في اسم النبي الذي غزا هل هو يوشع أو داود، قال ابن المنير. يستفاد منه الرد على العامة في تقديمهم الحج على الزواج ظنا منهم أن التعفف إنما يتأكد بعد الحج، بل الأولى أن يتعفف ثم يحج.

(9/224)


60- باب مَنْ بَنَى بِامْرَأَةٍ وَهِيَ بِنْتُ تِسْعِ سِنِينَ
5158- حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ بْنُ عُقْبَةَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ عُرْوَةَ تَزَوَّجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَائِشَةَ وَهِيَ بِنْتُ سِتِّ سِنِينَ وَبَنَى بِهَا وَهِيَ بِنْتُ تِسْعٍ وَمَكَثَتْ عِنْدَهُ تِسْعًا"
قوله: "باب من بنى بامرأة وهي بنت تسع سنين" ذكر فيه حديث عائشة في ذلك، وقد تقدم شرحه في مناقبها حديث عائشة في ذلك، قد تقدم شرحه في مناقبها"

(9/224)


61 - باب الْبِنَاءِ فِي السَّفَرِ
5159- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ أَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ خَيْبَرَ وَالْمَدِينَةِ ثَلاَثًا يُبْنَى عَلَيْهِ بِصَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ فَدَعَوْتُ الْمُسْلِمِينَ إِلَى وَلِيمَتِهِ فَمَا كَانَ فِيهَا مِنْ خُبْزٍ وَلاَ لَحْمٍ أَمَرَ بِالأَنْطَاعِ فَأُلْقِيَ فِيهَا مِنْ التَّمْرِ وَالأَقِطِ وَالسَّمْنِ فَكَانَتْ وَلِيمَتَهُ فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ أَوْ مِمَّا مَلَكَتْ يَمِينُهُ فَقَالُوا إِنْ حَجَبَهَا فَهِيَ مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ وَإِنْ لَمْ يَحْجُبْهَا فَهِيَ مِمَّا مَلَكَتْ يَمِينُهُ فَلَمَّا ارْتَحَلَ وَطَّى لَهَا خَلْفَهُ وَمَدَّ الْحِجَابَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّاسِ"
قوله: "باب البناء" أي بالمرأة "في السفر" ذكر فيه حديث أنس في قصة صفية بنت حيي، وقد تقدم في أول النكاح. حديث أنس في قصة صفية بنت حيي، وقد تقدم في أول النكاح. وقوله: "ثلاثا يبنى عليه بصفية" أي تجلى عليه، وفيه إشارة إلى أن سنة الإقامة عند الثيب لا تختص بالحضر ولا تتقيد بمن له امرأة غيرها. ويؤخذ منه جواز تأخير الأشغال العامة للشغل الخاص إذا كان لا يفوت به غرض، والاهتمام بوليمة العرس وإقامة سنة النكاح بإعلامه وغير ذلك مما تقدم ويأتي إن شاء الله تعالى.

(9/224)


62- باب الْبِنَاءِ بِالنَّهَارِ بِغَيْرِ مَرْكَبٍ وَلاَ نِيرَانٍ
5160- حَدَّثَنِي فَرْوَةُ بْنُ أَبِي الْمَغْرَاءِ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ تَزَوَّجَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَتْنِي أُمِّي فَأَدْخَلَتْنِي الدَّارَ فَلَمْ يَرُعْنِي إِلاَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضُحًى"
قوله: "باب البناء بالنهار بغير مركب ولا نيران" ذكر فيه طرفا من حديث عائشة في تزويج النبي بها، وأشار بقوله بالنهار إلى أن الدخول على الزوجة لا يختص بالليل، وبقوله: "وبغير مركب ولا نيران" إلى ما أخرجه سعيد بن منصور - ومن طريقه أبو الشيخ في كتاب النكاح - من طريق عروة بن رويم "أن عبد الله بن قرظ الثمالي وكان عامل عمر على حمص مرت به عروس وهم يوقدون النيران بين يديها فضربهم بدرته حتى تفرقوا عن عروسهم، ثم خطب فقال: أن عروسكم أوقدوا النيران وتشبهوا بالكفرة والله مطفئ نورهم

(9/224)


63- باب الأَنْمَاطِ وَنَحْوِهَا لِلنِّسَاءِ
5161- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هَلْ اتَّخَذْتُمْ أَنْمَاطًا قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَنَّى لَنَا أَنْمَاطٌ قَالَ إِنَّهَا سَتَكُونُ"
قوله: "باب الأنماط ونحوه للنساء" أي من الكلل والأستار والفرش وما في معناه، والأنماط جمع نمط بفتح النون والميم تقدم بيانه في علامات النبوة، وقوله: "ونحوه" أعاد الضمير مفردا على مفرد الأنماط، وتقدم بيان وجه الاستدلال على الجواز من هذا الحديث، ولعل المصنف أشار إلى ما أخرجه مسلم من حديث عائشة قالت: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاته فأخذت نمطا فنشرته على الباب فلما قدم فرأى النمط عرفت الكراهة في وجهه فجذبه حتى هتكه فقال: إن الله لم يأمرنا أن نكسو الحجارة والطين، قال فقطعت منه وسادتين فلم يعب ذلك علي" فيؤخذ منه أن الأنماط لا يكره اتخاذها لذاتها بل لما يصنع بها، وسيأتي البحث في ستر الجدر في "باب هل يرجع إذا رأى منكرا" من أبواب الوليمة قال ابن بطال: يؤخذ من الحديث إن المشورة للمرأة دون الرجل، لقول جابر لامرأته "أخري عني أنماطك" كذا قال، ولا دلالة في ذلك لأنها كانت لامرأة جابر حقيقة فلذلك أضافها لها، وإلا ففي نفس الحديث أنه "ستكون لكم أنماط" فأضافها إلى أعم من ذلك، وهو الذي استدلت به امرأة جابر على الجواز، قال: وفيه أن مشورة النساء للبيوت من الأمر القديم المتعارف، كذا قال، وبعكر عليه حديث عائشة وسيأتي البحث فيه.

(9/225)


باب النسوة التي يهدين المرأة إلى زوجها ودعائهن بالبركة
...
64- باب النِّسْوَةِ اللاَتِي يَهْدِينَ الْمَرْأَةَ إِلَى زَوْجِهَا وَدُعَائِهِنَّ بِالْبَرَكَةِ
5162- حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ يَعْقُوبَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَابِقٍ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا زَفَّتْ امْرَأَةً إِلَى رَجُلٍ مِنْ الأَنْصَارِ فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا عَائِشَةُ مَا كَانَ مَعَكُمْ لَهْوٌ فَإِنَّ الأَنْصَارَ يُعْجِبُهُمْ اللَّهْوُ"
قوله: "باب النسوة التي يهدين المرأة إلى زوجها" في رواية الكشميهني: "اللاتي" بصيغة الجمع وهو أولى. قوله: "ودعائهن بالبركة" ثبتت هذه الزيادة في رواية أبي ذر وحده وسقطت لغيره، ولم يذكر هنا الإسماعيلي ولا أبو نعيم ولا وقع في حديث عائشة الذي ذكره المصنف في الباب ما يتعلق بها، لكن إن كانت محفوظة فلعله أشار إلى ما ورد في بعض طرق حديث عائشة، وذلك فيما أخرجه أبو الشيخ في كتاب النكاح من طريق بهية "عن عائشة أنها زوجت يتيمة كانت في حجرها رجلا من الأنصار، قالت وكنت فيمن أهداها إلى زوجها، فلما رجعنا قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما قلتم يا عائشة؟ قالت قلت سلمنا ودعونا الله بالبركة ثم انصرفنا". قوله: "إنها زفت امرأة إلى رجل من الأنصار" لم أقف على اسمها صريحا وقد تقدم أن المرأة كانت يتيمة في حجر عائشة، وكذا للطبراني في "الأوسط" من طريق شريك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، ووقع عند ابن ماجه من حديث ابن عباس "أنكحت عائشة قرابة لها" ولأبي الشيخ من حديث جابر "أن عائشة زوجت بنت أخيها أو ذات قرابة منها" وفي "أمالي

(9/225)


المحاملي" من وجه آخر عن جابر "نكح بعض أهل الأنصار بعض أهل عائشة فأهدتها إلى قباء" وكنت ذكرت في المقدمة تبعا لابن الأثير في "أسد الغابة" فإنه قال إن اسم هذه اليتيمة المذكورة في حديث عائشة الفارعة بنت أسعد بن زرارة، وأن اسم زوجها نبيط بن جابر الأنصاري. وقال في ترجمة الفارعة: أن أباها أسعد بن زرارة أوصى بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم نبيط بن جابر، ثم ساق من طريق المعافى بن عمران الموصلي حديث عائشة الذي ذكرته أولا من طريق بهية عنها ثم قال: "هذه اليتيمة هي الفارعة المذكورة" كذا قال، وهو محتمل، لكن منع من تفسيرها بها ما وقع من الزيادة أنها كانت قرابة عائشة فيجوز التعدد، ولا يبعد تفسير المبهمة في حديث الباب بالفارعة إذ ليس فيه تقييد بكونها قرابة عائشة. قوله: "ما كان معكم لهو" في رواية شريك فقال: فهل بعثتم معها جارية تضرب بالدف وتغني؟ قلت: تقول ماذا؟ قال تقول:
أتيناكم أتيناكم
فحيانا وحياكم
ولولا الذهب الأحم
ر ما حلت بواديكم
ولولا الحنطة السمرا
ء ما سمنت عذاريكم
وفي حديث جابر بعضه، وفي حديث ابن عباس أوله إلى قوله: "وحياكم". قوله: "فإن الأنصار يعجبهم اللهو" في حديث ابن عباس وجابر "قوم فيهم غزل" وفي حديث جابر عند المحاملي" أدركيها يا زينب، امرأة كانت تغني بالمدينة، ويستفاد منه تسمية المغنية الثانية في القصة التي وقعت في حديث عائشة الماضي في العيدين حيث جاء فيه: "دخل عليها وعندها جاريتان تغنيان" وكنت ذكرت هناك أن اسم إحداهما حمامة كما ذكره ابن أبي الدنيا في "كتاب العيدين" له بإسناد حسن، وأني لم أقف على اسم الأخرى، وقد جوزت الآن أن تكون هي زينب هذه. وأخرج النسائي من طريق عامر بن سعد عن قرظة بن كعب وأبي مسعود الأنصاريين قال: "أنه رخص لنا في اللهو عند العرس" الحديث وصححه الحاكم، وللطبراني من حديث السائب بن يزيد عن النبي صلى الله عليه وسلم: "وقيل له أترخص في هذا؟ قال: نعم، إنه نكاح لا سفاح، أشيدوا النكاح" وفي حديث عبد الله بن الزبير عند أحمد وصححه ابن حبان والحاكم "أعلنوا النكاح" زاد الترمذي وابن ماجه من حديث عائشة "واضربوا عليه بالدف" وسنده ضعيف، ولأحمد والترمذي والنسائي من حديث محمد بن حاطب "فصل ما بين الحلال والحرام الضرب بالدف" واستدل بقوله: "واضربوا" على أن ذلك لا يختص بالنساء لكنه ضعيف، والأحاديث القوية فيها الإذن في ذلك للنساء فلا يلتحق بهن الرجال لعموم النهي عن التشبه بهن.

(9/226)


65- باب الْهَدِيَّةِ لِلْعَرُوسِ
5163- وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ واسْمُهُ الْجَعْدُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ مَرَّ بِنَا فِي مَسْجِدِ بَنِي رِفَاعَةَ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا مَرَّ بِجَنَبَاتِ أُمِّ سُلَيْمٍ دَخَلَ عَلَيْهَا فَسَلَّمَ عَلَيْهَا ثُمَّ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرُوسًا بِزَيْنَبَ فَقَالَتْ لِي أُمُّ سُلَيْمٍ لَوْ أَهْدَيْنَا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَدِيَّةً فَقُلْتُ لَهَا افْعَلِي فَعَمَدَتْ إِلَى تَمْرٍ وَسَمْنٍ وَأَقِطٍ فَاتَّخَذَتْ حَيْسَةً فِي بُرْمَةٍ فَأَرْسَلَتْ بِهَا مَعِي إِلَيْهِ فَانْطَلَقْتُ بِهَا إِلَيْهِ فَقَالَ لِي ضَعْهَا ثُمَّ أَمَرَنِي فَقَالَ:

(9/226)


ادْعُ لِي رِجَالًا سَمَّاهُمْ وَادْعُ لِي مَنْ لَقِيتَ قَالَ فَفَعَلْتُ الَّذِي أَمَرَنِي فَرَجَعْتُ فَإِذَا الْبَيْتُ غَاصٌّ بِأَهْلِهِ فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى تِلْكَ الْحَيْسَةِ وَتَكَلَّمَ بِهَا مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ جَعَلَ يَدْعُو عَشَرَةً عَشَرَةً يَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَقُولُ لَهُمْ اذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ وَلْيَأْكُلْ كُلُّ رَجُلٍ مِمَّا يَلِيهِ قَالَ حَتَّى تَصَدَّعُوا كُلُّهُمْ عَنْهَا فَخَرَجَ مِنْهُمْ مَنْ خَرَجَ وَبَقِيَ نَفَرٌ يَتَحَدَّثُونَ قَالَ وَجَعَلْتُ أَغْتَمُّ ثُمَّ خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَ الْحُجُرَاتِ وَخَرَجْتُ فِي إِثْرِهِ فَقُلْتُ إِنَّهُمْ قَدْ ذَهَبُوا فَرَجَعَ فَدَخَلَ الْبَيْتَ وَأَرْخَى السِّتْرَ وَإِنِّي لَفِي الْحُجْرَةِ وَهُوَ يَقُولُ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لاَ يَسْتَحْيِي مِنْ الْحَقِّ} قَالَ أَبُو عُثْمَانَ قَالَ أَنَسٌ إِنَّهُ خَدَمَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ سِنِينَ"
قوله: "باب الهدية للعروس" أي صبيحة بنائه بأهله. قوله: "وقال إبراهيم" ابن طهمان "عن أبي عثمان واسمه الجعد عن أنس بن مالك قال: مر بنا في مسجد بني رفاعة" يعني بالبصرة قال: "فسمعته يقول: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا مر بجنبات أم سليم" كذا فيه، والجنبات بفتح الجيم والنون ثم موحدة جمع جنبة وهي الناحية. قوله: "دخل عليها فسلم عليها" هذا القدر من هذا الحديث مما تفرد به إبراهيم بن طهمان عن أبي عثمان في هذا الحديث، وشاركه في بقيته جعفر بن سليمان ومعمر بن راشد كلاهما عن أبي عثمان أخرجه مسلم من حديثهما، ولم يقع لي موصولا من حديث إبراهيم بن طهمان إلا أن بعض من لقيناه من الشراح زعم أن النسائي أخرجه عن أحمد بن حفص بن عبد الله بن راشد عن أبيه عنه، ولم أقف على ذلك بعد. قوله: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عروسا بزينب" يعني بنت جحش، وقد تقدم بيان آيته صلى الله عليه وسلم في تكثير الطعام واضحا في علامات النبوة، وقد استشكل عياض ما وقع في هذا الحديث من أن الوليمة بزينب بنت جحش كانت من الحيس الذي أهدته أم سليم، وأن المشهور من الروايات أنه أولم عليها بالخبز واللحم، ولم يقع في القصة تكثير ذلك الطعام وإنما فيه: "أشبع المسلمين خبزا ولحما" وذكر في حديث الباب أن أنسا قال: "فقال لي ادع رجالا سماهم وادع من لقيت، وأنه أدخلهم ووضع صلى الله عليه وسلم يده على تلك الحيسة وتكلم بما شاء الله، ثم جعل يدعو عشرة عشرة حتى تصدعوا كلهم عنها" يعني تفرقوا، قال عياض: هذا وهم من راويه وتركيب قصة على أخرى. وتعقبه القرطبي بأنه لا مانع من الجمع بين الروايتين، والأولى أن يقال لا وهم في ذلك، فلعل الذين دعوا إلى الخبز واللحم فأكلوا حتى شبعوا وذهبوا لم يرجعوا، ولما بقي النفر الذين كانوا يتحدثون جاء أنس بالحيسة فأمر بأن يدعو ناسا آخرين ومن لقي فدخلوا فأكلوا أيضا حتى شبعوا، واستمر أولئك النفر يتحدثون. وهو جمع لا بأس به، وأولى منه أن يقال إن حضور الحيسة صادف حضور الخبز واللحم فأكلوا كلهم من كل ذلك. وعجبت من إنكار عياض وقوع تكثير الطعام في قصة الخبز واللحم مع أن أنسا يقول إنه أولم عليها بشاة كما سيأتي قريبا ويقول إنه أشبع المسلمين خبزا ولحما. وما الذي يكون قدر الشاة حتى يشبع المسلمين جميعا وهم يومئذ نحو الألف لولا البركة التي حصلت من جملة آياته صلى الله عليه وسلم في تكثير الطعام. وقوله فيه: "وبقي نفر يتحدثون"

(9/227)


تقدم بيان عدتهم في تفسير سورة الأحزاب. وقوله: "وجعلت أغتم" هو من الغم، وسببه ما فهمه من النبي صلى الله عليه وسلم من حيائه من أن يأمرهم بالقيام ومن غفلتهم بالتحدث عن العمل عما يليق من التخفيف حينئذ، وقوله في آخره: "قال أبو عثمان قال أنس: إنه خدم النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين" تقدم بيانه قبل قليل، وسيأتي الإلمام به أيضا في كتاب الأدب إن شاء الله تعالى.

(9/228)


66- باب اسْتِعَارَةِ الثِّيَابِ لِلْعَرُوسِ وَغَيْرِهَا
5164- حَدَّثَنِي عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا اسْتَعَارَتْ مِنْ أَسْمَاءَ قِلاَدَةً فَهَلَكَتْ فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِهِ فِي طَلَبِهَا فَأَدْرَكَتْهُمْ الصَّلاَةُ فَصَلَّوْا بِغَيْرِ وُضُوءٍ فَلَمَّا أَتَوْا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَكَوْا ذَلِكَ إِلَيْهِ فَنَزَلَتْ آيَةُ التَّيَمُّمِ فَقَالَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ جَزَاكِ اللَّهُ خَيْرًا فَوَاللَّهِ مَا نَزَلَ بِكِ أَمْرٌ قَطُّ إِلاَّ جَعَلَ اللَّهُ لَكِ مِنْهُ مَخْرَجًا وَجُعِلَ لِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ بَرَكَةٌ"
قوله: "باب استعارة الثياب للعروس وغيرها" أي وغير الثياب، ذكر فيه حديث عائشة أنها استعارت من أسماء قلادة، وقد تقدم شرحه مستوفى في كتاب التيمم، ووجه الاستدلال به من جهة المعنى الجامع بين القلادة وغيرها من أنواع الملبوس الذي يتزين به للزوج أعم من أن يكون عند العرس أو بعده، وقد تقدم في كتاب الهبة لعائشة حديث أخص من هذا وهو قولها "كان لي منهن - أي من الدروع القطنية - درع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما كانت امرأة تقين بالمدينة - أي تتزين - إلا أرسلت إلى تستعيره" وترجم عليه "الاستعارة للعرس عند البناء" وينبغي استحضار هذه الترجمة وحديثها هنا. حديث عائشة أنها استعارت من أسماء قلادة، قد تقدم شرحه مستوفى في كتاب التيمم، ووجه الاستدلال به من جهة المعنى الجامع بين القلادة وغيرها من أنواع الملبوس الذي يتزين به للزوج أعم من أن يكون عند العرس أو بعده، وقد تقدم في كتاب الهبة لعائشة حديث أخص من هذا وهو قولها "كان لي منهن - أي من الدروع القطنية - درع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما كانت امرأة تقين بالمدينة - أي تتزين - إلا أرسلت إلى تستعيره" وترجم عليه "الاستعارة للعرس عند البناء" وينبغي استحضار هذه الترجمة وحديثها هنا.

(9/228)


باب مايقول الرجل إذا أتى أهله
...
67- باب مَا يَقُولُ الرَّجُلُ إِذَا أَتَى أَهْلَهُ
5165- حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ كُرَيْبٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَمَا لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ يَقُولُ حِينَ يَأْتِي أَهْلَهُ بِاسْمِ اللَّهِ اللَّهُمَّ جَنِّبْنِي الشَّيْطَانَ وَجَنِّبْ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا ثُمَّ قُدِّرَ بَيْنَهُمَا فِي ذَلِكَ أَوْ قُضِيَ وَلَدٌ لَمْ يَضُرَّهُ شَيْطَانٌ أَبَدًا"
قوله: "باب ما يقول الرجل إذا أتى أهله" أي جامع. قوله: "عن شيبان" هو ابن عبد الرحمن النحوي، ومنصور هو ابن المعتمر، وفي الإسناد ثلاثة من التابعين في نسق هو أولهم. قوله: "أما لو أن أحدهم" كذا للكشميهني هنا، ولغيره بحذف "أن" وتقدم في بدء الخلق من رواية همام عن منصور بحذف "لو" ولفظه: "أما أن أحدكم إذا أتى أهله" وفي رواية جرير عن منصور عند أبي داود وغيره: "لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله" وهي مفسرة لغيرها من الروايات دالة على أن القول قبل الشروع. قوله: "حين يأتي أهله" في رواية إسرائيل عن منصور عند الإسماعيلي: "أما أن أحدكم لو يقول حين يجامع أهله" وهو ظاهر أن القول يكون مع الفعل، لكن يمكن حمله على المجاز، وعنده في رواية روح بن القاسم عن منصور "لو أن أحدهم إذا جامع امرأته ذكر الله". قوله:

(9/228)


68- باب الْوَلِيمَةُ حَقٌّ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ قَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ"

(9/229)


5166- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ ابْنَ عَشْرِ سِنِينَ مَقْدَمَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ فَكَانَ أُمَّهَاتِي يُوَاظِبْنَنِي عَلَى خِدْمَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَدَمْتُهُ عَشْرَ سِنِينَ وَتُوُفِّيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا ابْنُ عِشْرِينَ سَنَةً فَكُنْتُ أَعْلَمَ النَّاسِ بِشَأْنِ الْحِجَابِ حِينَ أُنْزِلَ وَكَانَ أَوَّلَ مَا أُنْزِلَ فِي مُبْتَنَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِزَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ أَصْبَحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا عَرُوسًا فَدَعَا الْقَوْمَ فَأَصَابُوا مِنْ الطَّعَامِ ثُمَّ خَرَجُوا وَبَقِيَ رَهْطٌ مِنْهُمْ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَطَالُوا الْمُكْثَ فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَرَجَ وَخَرَجْتُ مَعَهُ لِكَيْ يَخْرُجُوا فَمَشَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَشَيْتُ حَتَّى جَاءَ عَتَبَةَ حُجْرَةِ عَائِشَةَ ثُمَّ ظَنَّ أَنَّهُمْ خَرَجُوا فَرَجَعَ وَرَجَعْتُ مَعَهُ حَتَّى إِذَا دَخَلَ عَلَى زَيْنَبَ فَإِذَا هُمْ جُلُوسٌ لَمْ يَقُومُوا فَرَجَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَجَعْتُ مَعَهُ حَتَّى إِذَا بَلَغَ عَتَبَةَ حُجْرَةِ عَائِشَةَ وَظَنَّ أَنَّهُمْ خَرَجُوا فَرَجَعَ وَرَجَعْتُ مَعَهُ فَإِذَا هُمْ قَدْ خَرَجُوا فَضَرَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ بِالسِّتْرِ وَأُنْزِلَ الْحِجَابُ"
قوله: "باب الوليمة حق" هذه الترجمة لفظ حديث أخرجه الطبراني من حديث وحشي بن حرب رفعه: "الوليمة حق، والثانية معروف، والثالثة فخر" ولمسلم من طريق الزهري عن الأعرج وعن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: "شر الطعام طعام الوليمة يدعى الغني ويترك المسكين وهي حق" الحديث. ولأبي الشيخ والطبراني في "الأوسط" من طريق، مجاهد عن أبي هريرة رفعه: "الوليمة حق وسنة، فمن دعي فلم يجب فقد عصى" الحديث، وسأذكر حديث زهير ابن عثمان في ذلك وشواهده بعد ثلاثة أبواب. وروى أحمد من حديث بريدة قال: "لما خطب علي فاطمة قال رسول صلى الله عليه وسلم: أنه لا بد للعروس من وليمة" وسنده لا بأس به، قال ابن بطال قوله: "الوليمة حق" أي ليست بباطل بل يندب إليها وهي سنة فضيلة، وليس المراد بالحق الوجوب. ثم قال: ولا أعلم أحدا أوجبها. كذا قال، وغفل عن رواية في مذهبه بوجوبها نقلها القرطبي وقال: إن مشهور المذهب أنها مندوبة. وابن التين عن أحمد لكن الذي في "المغني" أنها سنة، بل وافق ابن بطال في نفي الخلاف بين أهل العلم في ذلك، قال وقال بعض الشافعية: هي واجبة لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بها عبد الرحمن بن عوف، ولأن الإجابة إليها واجبة فكانت واجبة. وأجاب بأنه طعام لسرور حادث فأشبه سائر الأطعمة، والأمر محمول على الاستحباب بدليل ما ذكرناه، ولكونه أمره بشاة وهي غير واجبة اتفاقا، وأما البناء فلا أصل له. قلت: وسأذكر مزيدا في "باب إجابة الداعي" قريبا. والبعض الذي أشار إليه من الشافعية هو وجه معروف عندهم، وقد جزم به سليم الرازي وقال: إنه ظاهر نص "الأم" ونقله عن النص أيضا الشيخ أبو إسحاق في المهذب، وهو قول أهل الظاهر كما صرح به ابن حزم، وأما سائر الدعوات غيرها فسيأتي البحث فيه بعد ثلاثة أبواب. قوله: "وقال عبد الرحمن بن عوف قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: أولم ولو بشاة" هذا طرف من حديث طويل وصله المصنف في أول البيوع من حديث عبد الرحمن بن عوف نفسه، ومن حديث أنس أيضا وسأذكر شرحه مستوفى إن شاء الله تعالى في الباب الذي يليه، والمراد منه ورود صيغة الأمر بالوليمة، وأنه لو رخص في تركها لما وقع الأمر باستدراكها بعد انقضاء الدخول. وقد اختلف السلف في وقتها هل هو عند العقد

(9/230)


أو عقبه أو عند الدخول أو عقبه أو موسع من ابتداء العقد إلى انتهاء الدخول على أقوال: قال النووي: اختلفوا فحكى عياض أن الأصح عند المالكية استحبابه بعد الدخول، وعن جماعة منهم أنه عند العقد، وعند ابن حبيب عند العقد وبعد الدخول. وقال له موضع آخر: يجوز قبل الدخول وبعده. وذكر ابن السبكي أن أباه قال: لم أر في كلام الأصحاب تعين وقتها، وأنه استنبط من قول البغوي: ضرب الدف في النكاح جائز في العقد والزفاف قبل وبعد قريبا منه، أن وقتها موسع من حين العقد، قال: والمنقول من فعل النبي صلى الله عليه وسلم أنها بعد الدخول كأنه يشير إلى قصة زينب بنت جحش، وقد ترجم عليه البيهقي في وقت الوليمة ا هـ، وما نفاه من تصريح الأصحاب متعقب بأن الماوردي صرح بأنها عند الدخول، وحديث أنس في هذا الباب صريح في أنها بعد الدخول لقوله فيه: "أصبح عروسا بزينب فدعا القوم" واستحب بعض المالكية أن تكون عند البناء ويقع الدخول عقبها وعليه عمل الناس اليوم، ويؤيد كونها للدخول لا للإملاك أن الصحابة بعد الوليمة ترددوا هل هي زوجة أو سرية، فلو كانت الوليمة عند الإملاك لعرفوا أنها زوجة لأن السرية لا وليمة لها فدل على أنها عند الدخول أو بعده. قوله في حديث أنس "مقدم النبي صلى الله عليه وسلم" بالنصب على الظرف أي زمان قدومه، وسيأتي في الأشربة من طريق شعيب عن الزهري عن أنس "قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وأنا ابن عشر سنين، ومات وأنا ابن عشرين" وتقدم قبل بابين في الحديث المعلق عن أبي عثمان عن أنس أنه خدم النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين، ويأتي في كتاب الآداب من طريق سلام بن مسكين عن ثابت عن أنس قال: "خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين، والله ما قال لي أف قط" الحديث. ولمسلم من رواية إسحاق بن أبي طلحة عن أنس في حديث آخره: "قال أنس والله لقد خدمته تسع سنين" ولا منافاة بين الروايتين، فإن مدة خدمته كانت تسع سنين وبعض أشهر فألغى الزيادة تارة وجبر الكسر أخرى. قوله: "فكن أمهاتي" يعني أمه وخالته ومن في معناهما، وإن ثبت كون مليكة جدته فهي مرادة هنا لا محالة. قوله: "يواظبنني" كذا للأكثر بظاء مشالة وموحدة ثم نونين من المواظبة، وللكشميهني بطاء مهملة بعدها تحتانية مهموزة بدل الموحدة من المواطأة وهي الموافقة. وفي رواية الإسماعيلي يوطنني بتشديد الطاء المهملة ونونين الأولى مشددة بغير ألف بعد الواو ولا حرف آخر بعد الطاء من التوطين، وفي لفظ له مثله لكن بهمزة ساكنة بعدها النونان من التوطئة تقول وطأته على كذا أي حرضته عليه. قوله: "وكنت أعلم الناس بشأن الحجاب" تقدم البحث فيه وبسط شرحه في تفسير سورة الأحزاب

(9/231)


69- باب الْوَلِيمَةِ وَلَوْ بِشَاةٍ
5167- حَدَّثَنَا عَلِيٌّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ حَدَّثَنِي حُمَيْدٌ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَأَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ وَتَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنْ الأَنْصَارِ كَمْ أَصْدَقْتَهَا قَالَ وَزْنَ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ وَعَنْ حُمَيْدٍ سَمِعْتُ أَنَسًا قَالَ لَمَّا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ نَزَلَ الْمُهَاجِرُونَ عَلَى الأَنْصَارِ فَنَزَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ عَلَى سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ فَقَالَ أُقَاسِمُكَ مَالِي وَأَنْزِلُ لَكَ عَنْ إِحْدَى امْرَأَتَيَّ قَالَ بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ فَخَرَجَ إِلَى السُّوقِ فَبَاعَ وَاشْتَرَى فَأَصَابَ شَيْئًا مِنْ أَقِطٍ وَسَمْنٍ فَتَزَوَّجَ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ"

(9/231)


5168- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ مَا أَوْلَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ نِسَائِهِ مَا أَوْلَمَ عَلَى زَيْنَبَ أَوْلَمَ بِشَاةٍ"
5169- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ شُعَيْبٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْتَقَ صَفِيَّةَ وَتَزَوَّجَهَا وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا وَأَوْلَمَ عَلَيْهَا بِحَيْسٍ"
5170- حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ عَنْ بَيَانٍ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسًا يَقُولُ بَنَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِامْرَأَةٍ فَأَرْسَلَنِي فَدَعَوْتُ رِجَالًا إِلَى الطَّعَامِ"
قوله: "باب الوليمة ولو بشاة" أي لمن كان موسرا كما سيأتي البحث فيه، وذكر المصنف في الباب خمسة أحاديث كلها عن أنس: الأول والثاني قصة عبد الرحمن بن عوف، قطعها قطعتين. قوله: "حدثنا علي" هو ابن المديني، وسفيان هو ابن عيينة، وقد صرح بتحديث حميد له وسماع حميد عن أنس فأمن تدليسهما، لكنه فرقه حديثين: فذكر في الأول سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن عن قدر الصداق، وفي الثاني أول القصة قال: "لما قدموا المدينة نزل المهاجرون على الأنصار" وعبر في هذا بقوله: "وعن حميد قال سمعت أنسا" وفي رواية الكشميهني أنه سمع أنسا كما قال في الذي قبله، وهذا معطوف فيما جزم به المزي وغيره على الأول، ويحتمل أن يكون معلقا والأول هو المعتمد. وقد أخرجه الإسماعيلي: "عن الحسن بن سفيان عن محمد بن خلاد عن سفيان حدثنا حميد سمعت أنسا" وساق الحديثين معا، وأخرجه الحميدي في مسنده ومن طريقه أبو نعيم في "المستخرج" عن سفيان بالحديث كله مفرقا وقال في كل منهما "حدثنا حميد أنه سمع أنسا" وقد أخرجه ابن أبي عمر في مسنده عن سفيان، ومن طريقه الإسماعيلي فقال عن حميد عن أنس وساق الجميع حديثا واحدا، وقدم القصة الثانية على الأولى كما في وراية غير سفيان؛ فقد تقدم في أوائل النكاح من طريق الثوري وفي "باب الصفرة للمتزوج" من رواية مالك وفي "فضل الأنصار" من طريق إسماعيل بن جعفر، وفي أول البيوع من رواية زهير بن معاوية، ويأتي في الأدب من رواية يحيى القطان كلهم عن حميد. وأخرجه محمد بن سعد في "الطبقات" عن محمد بن عبد الله الأنصاري عن حميد، وتقدم في "باب ما يدعى للمتزوج" من رواية ثابت، وفي "باب وآتوا النساء صدقاتهن" من رواية عبد العزيز بن صهيب وقتادة كلهم عن أنس، وأورده في أول كتاب البيوع من حديث عبد الرحمن بن عوف نفسه، وسأذكر ما في رواياتهم من فائدة زائدة. وتقدم في البيوع في الكلام على حديث أنس بيان من زاد في روايته فجعله من حديث أنس عن عبد الرحمن بن عوف، وأكثر الطرق تجعله من مسند أنس، والذي يظهر من مجموع الطرق أنه حضر القصة وإنما نقل عن عبد الرحمن منها ما لم يقع له عن النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: "لما قدموا المدينة" أي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. وفي رواية ابن سعد "لما قدم عبد الرحمن ابن عوف المدينة". قوله: "نزل المهاجرون على الأنصار" تقدم بيان ذلك في أول الهجرة. قوله: "فنزل عبد الرحمن بن عوف على سعد بن الربيع" في رواية زهير "لما قدم عبد الرحمن بن عوف المدينة آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع الأنصاري" وفي رواية إسماعيل بن جعفر "قدم علينا عبد الرحمن فآخى" ونحوه في حديث عبد الرحمن بن عوف نفسه. وفي رواية يحيى بن سعيد الأنصاري عن حميد عند النسائي والطبراني "آخى

(9/232)


"سأل النبي صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن عوف وتزوج امرأة من الأنصار "هذه الجملة حالية أي سأله حين تزوج، وهذه المرأة جزم الزبير بن بكار في "كتاب النسب" أنها بنت أبي الحيسر أنس بن رافع بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشهل، وفي ترجمة عبد الرحمن بن عوف من "طبقات ابن سعد" أنها بنت أبي الحشاش وساق نسبه، وأظنهما ثنتين، فإن في رواية الزبير قال: "ولدت لعبد الرحمن القاسم وعبد الله" وفي رواية ابن سعد "ولدت له إسماعيل وعبد الله" وذكر ابن القداح في "نسب الأوس" أنها أم إياس بنت أبي الحيسر بفتح المهملتين بينهما تحتانية ساكنة وآخره راء واسمه أنس بن رافع الأوسي. وفي رواية مالك "فسأله فأخبره أنه تزوج امرأة من الأنصار" وفي رواية زهير وابن علية وابن سعد وغيرهم "فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: مهيم" ؟ ومعناه ما شأنك أو ما هذا؟ وهي كلمة استفهام مبنية على السكون، وهل هي بسيطة أو مركبة؟ قولان لأهل اللغة. وقال ابن مالك: هي اسم فعل بمعنى أخبر، ووقع في رواية للطبراني في الأوسط "فقال له مهيم؟ وكانت كلمته إذا أراد أن يسأل عن الشيء" ووقع في رواية ابن السكن "مهين" بنون آخره بدل الميم والأول هو المعروف. ووقع في رواية حماد بن زيد عن ثابت عند المصنف وكذا في رواية عبد العزيز بن صهيب عند أبي عوانة "قال ما هذا" وقال في جوابه "تزوجت امرأة من الأنصار" وللطبراني في "الأوسط" من حديث أبي هريرة بسند فيه ضعف "أن عبد الرحمن بن عوف أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد خضب بالصفرة فقال: ما هذا الخضاب، أعرست؟ قال نعم" الحديث. قوله: "كم أصدقتها" كذا في رواية حماد بن سلمة ومعمر عن ثابت وفي رواية الطبراني "على كم". وفي رواية الثوري وزهير "ما سقت إليها" وكذا في رواية عبد الرحمن نفسه. وفي رواية مالك "كم سقت إليها". قوله: "وزن نواة" بنصب النون على تقدير فعل أي أصدقتها، ويجوز الرفع على تقدير مبتدأ أي الذي أصدقتها هو. قوله: "من ذهب" كذا وقع الجزم به في رواية ابن عيينة والثوري، وكذا في رواية حماد بن سلمة عن ثابت وحميد. وفي رواية زهير وابن علية "نواة من ذهب، أو وزن نواة من ذهب" وكذا في رواية عبد الرحمن نفسه بالشك. وفي رواية شعبة عن عبد العزيز بن صهيب "على وزن نواة" وعن قتادة "على وزن نواة من ذهب" ومثل الأخير في رواية حماد بن زيد عن ثابت، وكذا أخرجه مسلم من طريق أبي عوانة عن قتادة، ولمسلم من رواية شعبة عن أبي حمزة عن أنس "على وزن نواة. قال فقال رجل من ولد عبد الرحمن: من ذهب" ورجح الداودي رواية من قال: "على نواة من ذهب" واستنكر رواية من روى "وزن نواة" واستنكاره هو المنكر لأن الذين جزموا بذلك أئمة حفاظ، قال عياض لا وهم في الرواية لأنها إن كانت نواة تمر أو غيره أو كان للنواة قدر معلوم صلح أن يقال في كل ذلك وزن نواة، واختلف في المراد بقوله: "نواة" فقيل المراد واحدة نوى التمر كما يوزن بنوى الخروب وأن القيمة عنها يومئذ كانت خمسة دراهم، وقيل كان قدرها يومئذ ربع دينار، ورد بأن نوى التمر يختلف في الوزن فكيف يجعل معيارا لما يوزن به؟ وقيل: لفظ النواة من ذهب عبارة عما قيمته خمسة دراهم من الورق، وجزم به الخطابي واختاره الأزهري ونقله عياض عن أكثر العلماء، ويؤيده أن في رواية للبيهقي من طريق سعيد بن بشر عن قتادة "وزن نواة من ذهب قومت خمسة دراهم" وقيل وزنها من الذهب خمسة دراهم حكاه ابن قتيبة وجزم به ابن فارس، وجعله البيضاوي الظاهر، واستبعد لأنه يستلزم أن يكون ثلاثة مثاقيل ونصفا. ووقع في رواية حجاج بن أرطاة عن قتادة عند البيهقي "قومت ثلاثة دراهم وثلثا "وإسناده

(9/234)


ضعيف، ولكن جزم به أحمد، وقيل ثلاثة ونصف، وقيل ثلاثة وربع، وعن بعض المالكية النواة عند أهل المدينة ربع دينار، ويؤيد هذا ما وقع عند الطبراني في الأوسط في آخر حديث قال أنس جاء وزنها ربع دينار، وقد قال الشافعي: النواة ربع النش والنش نصف أوقية والأوقية أربعون درهما فيكون خمسة دراهم، وكذا قال أبو عبيد: إن عبد الرحمن بن عوف دفع خمسة دراهم، وهي تسمى نواة كما تسمى الأربعون أوقية، وبه جزم أبو عوانة وآخرون. قوله آخر الرواية الثانية "فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أولم ولو بشاة" ليست "لو" هذه الامتناعية وإنما هي التي للتقليل، وزاد في رواية حماد بن زيد "فقال بارك الله لك" قبل قوله: "أولم" ، وكذا في رواية حماد بن سلمة عن ثابت وحميد وزاد في آخر الحديث: "قال عبد الرحمن: فلقد رأيتني ولو رفعت حجرا لرجوت أن أصيب ذهبا أو فضة، فكأنه قال ذلك إشارة إلى إجابة الدعوة النبوية بأن يبارك الله له. ووقع في حديث أبي هريرة بعد قوله أعرست" قال نعم. قال: أولمت؟ قال: لا. فرمى إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بنواة من ذهب فقال: أولم ولو بشاة" وهذا لو صح كان فيه أن الشاة من إعانة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يعكر على من استدل به على أن الشاة أقل ما يشرع للموسر، ولكن الإسناد ضعيف كما تقدم. وفي رواية معمر عن ثابت "قال أنس: فلقد رأيته قسم لكل امرأة من نسائه بعد موته مائة ألف". قلت: مات عن أربع نسوة فيكون جميع تركته ثلاثة آلاف ألف ومائتي ألف، وهذا بالنسبة لتركة الزبير التي تقدم شرحها في فرض الخمس قليل جدا، فيحتمل أن تكون هذه دنانير وتلك دراهم لأن كثرة مال عبد الرحمن مشهورة جدا، واستدل به على توكيد أمر الوليمة وقد تقدم البحث فيه. وعلى أنها تكون بعد الدخول، ولا دلالة فيه وإنما فيه أنها تستدرك إذا فاتت بعد الدخول، وعلى أن الشاة أقل ما تجزئ عن الموسر، ولولا ثبوت أنه صلى الله عليه وسلم أولم على بعض نسائه كما سيأتي بأقل من الشاة لكان يمكن أن يستدل به على أن الشاة أقل ما تجزئ في الوليمة، ومع ذلك فلا بد من تقييده بالقادر عليها، وأيضا فيعكر على الاستدلال أنه خطاب واحد، وفيه اختلاف هل يستلزم العموم أو لا، وقد أشار إلى ذلك الشافعي فيما نقله البيهقي عنه قال: لا أعمله أمر بذلك غير عبد الرحمن، ولا أعلمه أنه صلى الله عليه وسلم ترك الوليمة فجعل ذلك مستندا في كون الوليمة ليست بحتم، ويستفاد من السياق طلب تكثير الوليمة لمن يقدر، قال عياض: وأجمعوا على أن لا حد لأكثرها، وأما أقلها فكذلك، ومهما تيسر أجزأ، والمستحب أنها على قدر حال الزوج، وقد تيسر على الموسر الشاة فما فوقها، وسيأتي البحث في تكرارها في الأيام بعد قليل. وفي الحديث أيضا منقبة لسعد بن الربيع في إيثاره على نفسه بما ذكر، ولعبد الرحمن بن عوف في تنزهه عن شيء يستلزم الحياء والمروءة اجتنابه ولو كان محتاجا إليه. وفيه استحباب المؤاخاة وحسن الإيثار من الغني للفقير حتى بإحدى زوجتيه، واستحباب رد مثل ذلك على من آثر به لما يغلب في العادة من تكلف مثل ذلك، فلو تحقق أنه لم يتكلف جاز. وفيه أن من ترك ذلك بقصد صحيح عوضه الله خيرا منه وفيه استحباب التكسب، وأن لا نقص على من يتعاطى من ذلك ما يليق بمروءة مثله، وكراهة قبول ما يتوقع منه الذل من هبة وغيرها، وأن العيش من عمل المرء بتجارة أو حرفة أولى لنزاهة الأخلاق من العيش بالهبة ونحوها. وفيه استحباب الدعاء للمتزوج، وسؤال الإمام والكبير أصحابه وأتباعه عن أحوالهم، ولا سيما إذا رأى منهم ما لم يعهد. وجواز خروج العروس وعليه أثر العرس من خلوق وغيره، واستدل به على جواز التزعفر للعروس، وخص به عموم النهي عن التزعفر للرجال كما سيأتي بيانه في كتاب اللباس، وتعقب باحتمال أن تكون تلك الصفرة

(9/235)


كانت في ثيابه دون جسده، وهذا الجواب للمالكية على طريقتهم في جوازه في الثوب دون البدن، وقد نقل ذلك مالك عن علماء المدينة، وفيه حديث أبي موسى رفعه: "لا يقبل الله صلاة رجل في جسده شيء من خلوق" أخرجه أبو داود، فإن مفهومه أن ماعدا الجسد لا يتناوله الوعيد، ومنع من ذلك أبو حنيفة والشافعي ومن تبعهما في الثوب أيضا، وتمسكوا بالأحاديث في ذلك وهي صحيحة، وفيها ما هو صريح في المدعي كما سيأتي بيانه، وعلى هذا فأجيب عن قصة عبد الرحمن بأجوبة: أحدها أن ذلك كان قبل النهي وهذا يحتاج إلى تاريخ، ويؤيده أن سياق قصة عبد الرحمن يشعر بأنها كانت في أوائل الهجرة، وأكثر من روى النهي ممن تأخرت هجرته. ثانيها أن أثر الصفرة التي كانت على عبد الرحمن تعلقت به من جهة زوجته فكان ذلك غير مقصود له، ورجحه النووي وعزاه للمحققين، وجعله البيضاوي أصلا رد إليه أحد الاحتمالين أبداهما في قوله: "مهيم" فقال: معناه ما السبب في الذي أراه عليك؟ فلذلك أجاب بأنه تزوج قال ويحتمل أن يكون استفهام إنكار لما تقدم من النهي عن التضمخ بالخلوق، فأجاب بقوله تزوجت، أي فتعلق بي منها ولم أقصد إليه. ثالثها أنه كان قد احتاج إلى التطيب للدخول على أهله فلم يجد من طيب الرجال حينئذ شيئا فتطيب من طيب المرأة، وصادف أنه كان فيه صفرة فاستباح القليل منه عند عدم غيره جمعا بين الدليلين، وقد ورد الأمر في التطيب للجمعة ولو من طيب المرأة فبقي أثر ذلك عليه. رابعها كان يسيرا ولم يبق إلا أثره فلذلك لم ينكر. خامسها وبه جزم الباجي أن الذي يكره من ذلك ما كان من زعفران وغيره من أنواع الطيب، وأما ما كان ليس بطيب فهو جائز. سادسها أن النهي عن التزعفر للرجال ليس على التحريم بدلالة تقريره لعبد الرحمن بن عوف في هذا الحديث. سابعها أن العروس يستثنى من ذلك ولا سيما إذا كان شابا، ذكر ذلك أبو عبيد قال: وكانوا يرخصون للشاب في ذلك أيام عرسه، قال وقيل: كان في أول الإسلام من تزوج لبس ثوبا مصبوغا علامة لزواجه ليعان على وليمة عرسه، قال وهذا غير معروف. قلت: وفي استفهام النبي صلى الله عليه وسلم له عن ذلك دلالة على أنه لا يختص بالتزويج، لكن وقع في بعض طرقه عند أبي عوانة من طريق شعبة عن حميد بلفظ: "فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فرأى علي بشاشة العرس فقال: أتزوجت؟ قلت: تزوجت امرأة من الأنصار" فقد يتمسك بهذا السياق للمدعي ولكن القصة واحدة، وفي أكثر الروايات أنه قال له "مهيم أو ما هذا" فهو المعتمد، وبشاشة العرس أثره وحسنه أو فرحه وسروره، يقال بش فلان بفلان أي أقبل عليه فرحا به ملطفا به، واستدل به على أن النكاح لا بد فيه من صداق لاستفهامه على الكمية، ولم يقل هل أصدقها أو لا؟ ويشعر ظاهره بأنه يحتاج إلى تقدير لإطلاق لفظ: "كم" الموضوعة للتقدير، كذا قال بعض المالكية، وفيه نظر لاحتمال أن يكون المراد الاستخبار عن الكثرة أو القلة فيخبره بعد ذلك بما يليق بحال مثله، فلما قال له القدر لم ينكر عليه بل أقره، واستدل به على استحباب تقليل الصداق لأن عبد الرحمن بن عوف كان من مياسير الصحابة وقد أقره النبي صلى الله عليه وسلم على إصداقه وزن نواة من ذهب، وتعقب بأن ذلك كان في أول الأمر حين قدم المدينة وإنما حصل له اليسار بعد ذلك من ملازمة التجارة حتى ظهرت منه من الإعانة في بعض الغزوات ما اشتهر، وذلك ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له كما تقدم. واستدل به على جواز المواعدة لمن يريد أن يتزوج بها إذا طلقها زوجها وأوفت العدة، لقول سعد بن الربيع "انظر أي زوجتي أعجب إليك حتى أطلقها فإذا انقضت عدتها تزوجتها" ووقع تقرير ذلك، ويعكر على هذا أنه لم ينقل أن المرأة علمت بذلك ولا سيما ولم يقع تعيينها، لكن الاطلاع على أحوالهم إذ ذاك يقتضي أنهما علمتا معا لأن ذلك كان قبل نزول آية الحجاب

(9/236)


فكانوا يجتمعون، ولولا وثوق سعد بن الربيع من كل منهما بالرضا ما جزم بذلك. وقال ابن المنير: لا يستلزم المواعدة بين الرجلين وقوع المواعدة بين الأجنبي والمرأة، لأنها إذا منع وهي في العدة من خطبتها تصريحا ففي هذا يكون بطريق الأولى لأنها إذا طلقت دخلت العدة قطعا، قال: ولكنها وإن اطلعت على ذلك فهي بعد انقضاء عدتها بالخيار، والنهي إنما وقع عن المواعدة بين الأجنبي والمرأة أو وليها لا مع أجنبي آخر. وفيه جواز نظر الرجل إلى المرأة قبل أن يتزوجها. "تنبيه": حقه أن يذكر في مكانه من كتاب الأدب، لكن تعجلته هنا لتكميل فوائد الحديث، وذلك أن البخاري ترجم في كتاب الأدب "باب الإخاء والحلف" ثم ساق حديث الباب من طريق يحيى بن سعيد القطان عن حميد واختصره فاقتصر منه على قوله: "عن أنس قال: لما قدم علينا عبد الرحمن بن عوف فآخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أولم ولو بشاة" فرأى ذلك المحب الطبري فظن أنه حديث مستقل فترجم في أبواب الوليمة: ذكر الوليمة للإخاء، ثم ساق هذا الحديث بهذا اللفظ وقال: أخرجه البخاري. وكون هذا طرفا من حديث الباب لا يخفى على من له أدنى ممارسة بهذا الفن، والبخاري يصنع ذلك كثيرا، والأمر لعبد الرحمن بن عوف بالوليمة إنما كان لأجل الزواج لا لأجل الإخاء، وقد تعرض المحب لشيء من ذلك لكنه أبداه احتمالا، ولا يحتمل جريان هذا الاحتمال ممن يكون محدثا، فالله أعلم بالصواب. حديث: "ما أولم النبي صلى الله عليه وسلم على شيء من نسائه ما أولم على زينب" هي بنت جحش كما في الباب الذي بعده، وحماد المذكور في إسناده هو ابن زيد وهذا الذي ذكره بحسب الاتفاق لا التحديد كما سأبينه في الباب الذي بعد، وقد يؤخذ من عبارة صاحب "التنبيه" من الشافعية أن الشاة حد لأكثر الوليمة لأنه قال: وأكملها شاة، لكن نقل عياض الإجماع على أنه لا حد لأكثرها. وقال ابن أبي عصرون: أقلها للموسر شاة، وهذا موافق لحديث عبد الرحمن بن عوف الماضي وقد تقدم ما فيه. قوله: "حدثنا عبد الوارث" في رواية الكشميهني: "عن عبد الوارث" وشعيب هو ابن الحبحاب، وقد تقدم شرح الحديث في "باب من جعل عتق الأمة صداقها" وقوله في آخره: "وأولم عليها بحيس" تقدم في "باب اتخاذ السراري" من طريق حميد عن أنس "أنه أمر بالأنطاع فألقى فيها من التمر والأقط والسمن فكانت وليمته" ولا مخالفة بينهما لأن هذه من أجزاء الحيس، قال أهل اللغة: الحيس يؤخذ التمر فينزع نواه ويخلط بالأقط أو الدقيق أو السويق ا ه. ولو جعل فيه السمن لم يخرج عن كونه حيسا. قوله: "زهير" هو ابن معاوية الجعفي. قوله: "عن بيان" هو ابن بشر الأحمسي، ووقع في رواية ابن خزيمة عن موسى بن عبد الرحمن المسروقي عن مالك بن إسماعيل شيخ البخاري فيه عن زهير "حدثنا بيان". قوله: "بامرأة" يغلب على الظن أنها زينب بنت جحش لما تقدم قريبا في رواية أبي عثمان عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه يدعو رجالا إلى الطعام، ثم تبين ذلك واضحا من رواية الترمذي لهذا الحديث تاما من طريق أخرى عن بيان بن بشر فزاد بعد قوله إلى الطعام "فلما أكلوا وخرجوا قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى رجلين جالسين" فذكر قصة نزول {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ} الآية، وهذا في قصة زينب بنت جحش لا محالة كما تقدم سياقه مطولا وشرحه في تفسير الأحزاب

(9/237)


70- باب مَنْ أَوْلَمَ عَلَى بَعْضِ نِسَائِهِ أَكْثَرَ مِنْ بَعْضٍ
5171- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ ثَابِتٍ قَالَ ذُكِرَ تَزْوِيجُ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ عِنْدَ أَنَسٍ

(9/237)


فَقَالَ مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَمَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ نِسَائِهِ مَا أَوْلَمَ عَلَيْهَا أَوْلَمَ بِشَاةٍ"
قوله: "باب من أولم على بعض نسائه أكثر من بعض" ذكر فيه حديث أنس في زينب بنت جحش أولم عليها بشاة، وهو ظاهر فيما ترجم لما يقتضيه سياقه، وأشار ابن بطال إلى أن ذلك لم يقع قصدا لتفضيل بعض النساء على بعض بل باعتبار ما اتفق، وأنه لو وجد الشاة في كل منهن لأولم بها، لأنه كان أجود الناس، ولكن كان لا يبالغ فيما يتعلق بأمور الدنيا في التأنق، وجوز غيره أن يكون فعل ذلك لبيان الجواز. وقال الكرماني: لعل السبب في تفضيل زينب في الوليمة على غيرها كان للشكر لله على ما أنعم به عليه من تزويجه إياها بالوحي. قلت: ونفى أنس أن يكون لم يولم على غير زينب بأكثر مما أولم عليها محمول على ما انتهى إليه علمه، أو لما وقع من البركة في وليمتها حيث أشبع المسلمين خبزا ولحما من الشاة الواحدة، وإلا فالذي يظهر أنه لما أولم على ميمونة بنت الحارث لما تزوجها في عمرة القضية بمكة وطلب من أهل مكة أن يحضروا وليمتها فامتنعوا أن يكون ما أولم به عليها أكثر من شاة لوجود التوسعة عليه في تلك الحالة لأن ذلك كان بعد فتح خيبر، وقد وسع الله على المسلمين منذ فتحها عليهم. وقال ابن المنير: يؤخذ من تفضيل بعض النساء على بعض في الوليمة جواز تخصيص بعضهن دون بعض بالأتحاف والألطاف والهدايا. قلت: وقد تقدم البحث في ذلك في كتاب الهبة.

(9/238)


71- باب مَنْ أَوْلَمَ بِأَقَلَّ مِنْ شَاةٍ
5172- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورِ بْنِ صَفِيَّةَ عَنْ أُمِّهِ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ قَالَتْ أَوْلَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَعْضِ نِسَائِهِ بِمُدَّيْنِ مِنْ شَعِيرٍ"
قوله: "باب من أولم بأقل من شاة" هذه الترجمة وإن كان حكمها مستفادا من التي قبلها، لكن الذي وقع في هذه بالتنصيص. قوله: "حدثنا محمد بن يوسف" هو الفريابي كما جزم به الإسماعيلي وأبو نعيم في مستخرجيهما ومن تبعهما، وسفيان هو الثوري لما سيأتي من كلام أهل النقد، وجوز الكرماني أن يكون سفيان هو ابن عيينة ومحمد ابن يوسف هو البيكندي، وأيد ذلك أن السفيانين رويا عن منصور بن عبد الرحمن، والمجزوم به عندنا أنه الفريابي عن الثوري. قال البرقاني: روى هذا الحديث عبد الرحمن بن مهدي ووكيع والفريابي وروح بن عبادة عن الثوري فجعلوه من رواية صفية بنت شيبة، ورواه أبو أحمد الزبيري ومؤمل بن إسماعيل ويحيى بن اليمان عن الثوري فقالوا فيه عن صفية بنت شيبة عن عائشة، قال: والأول أصح، وصفية ليست بصحابية وحديثها مرسل، قال: وقد نصر النسائي قول من لم يقل عن عائشة، وأورده عن بندار عن ابن مهدي وقال إنه مرسل ا هـ. ورواية وكيع أخرجها ابن أبي شيبة في مصنفه عنه، وأصلح في بعض النسخ بذكر عائشة، وهو وهم من فاعله. وأخرجه الإسماعيلي من رواية يزيد بن أبي حكيم العدني، وأخرجه إسماعيل القاضي في "كتاب أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم:" عن محمد بن كثير العبدي كلاهما عن الثوري كما قال الفريابي، وأخرجه الإسماعيلي أيضا من رواية يحيى ابن زكريا بن أبي زائدة عن الثوري بذكر عائشة فيه، وزعم ابن المواق أن النسائي أخرجه من رواية يحيى بن آدم عن الثوري وقال: ليس هو بدون الفريابي، كذا قال، ولم يخرجه النسائي إلا من رواية يحيى بن اليمان وهو ضعيف، وكذلك مؤمل

(9/238)


ابن إسماعيل في حديثه عن الثوري ضعف، وأقوى من زاد فيه عائشة أبو أحمد الزبيري أخرجه أحمد في مسنده عنه ويحيى بن أبي زائدة، والذين لم يذكروا فيه عائشة أكثر عددا وأحفظ وأعرف بحديث الثوري ممن زاد، فالذي يظهر على قواعد المحدثين أنه من المزيد في متصل الأسانيد، وذكر الإسماعيلي أن عمر بن محمد بن الحسن بن التل رواه عن أبيه عن الثوري فقال فيه: "عن منصور بن صفية عن صفية بنت حيي" قال وهو غلط لا شك فيه، ويحتمل أن يكون مراد بعض من أطلق أنه مرسل يعني من مراسيل الصحابة، لأن صفية بنت شيبة ما حضرت قصة زواج المرأة المذكورة في الحديث لأنها كانت بمكة طفلة أو لم تولد بعد؛ وتزويج المرأة كان بالمدينة كما سيأتي بيانه، وأما جزم البرقاني بأنه إذا كان بدون ذكر عائشة يكون مرسلا فسبقه إلى ذلك النسائي ثم الدار قطني فقال هذا من الأحاديث التي تعد فيما أخرج البخاري من المراسيل وكذا جزم ابن سعد وابن حبان بأن صفية بنت شيبة تابعية، لكن ذكر المزي في "الأطراف" أن البخاري أخرج في كتاب الحج عقب حديث أبي هريرة وابن عباس في تحريم مكة قال: "وقال أبان بن صالح عن الحسن بن مسلم عن صفية بنت شيبة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم:" مثله، قال: ووصله ابن ماجه من هذا الوجه. قلت: وكذا وصله البخاري في التاريخ. ثم قال المزي: لو صح هذا لكان صريحا في صحبتها، لكن أبان بن صالح ضعيف، كذا أطلق هنا ولم ينقل في ترجمة أبان بن صالح في التهذيب تضعيفه عن أحد، بل نقل توثيقه عن يحيى بن معين وأبي حاتم وأبي زرعة وغيرهم. وقال الذهبي في "مختصر التهذيب" : ما رأيت أحدا ضعف أبان بن صالح، وكأنه لم يقف على قول ابن عبد البر في "التمهيد" لما ذكر حديث جابر في استقبال قاضي الحاجة القبلة من رواية أبان بن صالح المذكور: هذا ليس صحيحا لأن أبان بن صالح ضعيف، كذا قال وكأنه التبس عليه بأبان بن أبي عياش البصري صاحب أنس فإنه ضعيف باتفاق، وهو أشهر وأكثر حديثا ورواة من أبان بن صالح؛ ولهذا لما ذكر ابن حزم الحديث المذكور عن جابر قال: أبان بن صالح ليس بالمشهور. قلت: ولكن يكفي توثيق ابن معين ومن ذكر له، وقد روى عنه أيضا ابن جريج وأسامة بن زيد الليثي وغيرهما، وأشهر من روى عنه محمد بن إسحاق. وقد ذكر المزي أيضا حديث صفية بنت شيبة قالت: "طاف النبي صلى الله عليه وسلم على بعير يستلم الحجر بمحجن وأنا أنظر إليه" أخرجه أبو داود وابن ماجه، قال المزي: هذا يضعف قول من أنكر أن يكون لها رؤية، فإن إسناده حسن. قلت: وإذا ثبتت رؤيتها له صلى الله عليه وسلم وضبطت ذلك فما المانع أن تسمع خطبته ولو كانت صغيرة. قوله: "عن منصور بن صفية" هي أمه واسم أبيه عبد الرحمن بن طلحة بن الحارث بن طلحة بن أبي طلحة القرشي العبدري الحجبي، قتل جده الأعلى الحارث يوم أحد كافرا وكذا أبوه طلحة بن أبي طلحة، ولجده الأدنى طلحة بن الحارث رؤية، وقد أغفل ذكره من صنف في الصحابة وهو وارد عليهم، ووقع في "رجال البخاري للكلاباذي" أنه منصور بن عبد الرحمن بن طلحة بن عمر بن عبد الرحمن التيمي، ووهم في ذلك كما نبه عليه الرضى الشاطبي فيما قرأت بخطه. قوله: "أولم النبي صلى الله عليه وسلم على بعض نسائه" لم أقف على تعيين اسمها صريحا، وأقرب ما يفسر به أم سلمة، فقد أخرج ابن سعد عن شيخه الواقدي بسند له إلى أم سلمة قالت: "لما خطبني النبي صلى الله عليه وسلم - فذكر قصة تزويجه بها - فأدخلني بيت زينت بنت خزيمة، فإذا جرة فيها شيء من شعير، فأخذته فطحنته ثم عصدته في البرمة وأخذت شيئا من إهالة فأدمته فكان ذلك طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم:" وأخرج ابن سعد أيضا وأحمد بإسناد صحيح إلى أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث أن أم سلمة أخبرته فذكر قصة خطبتها وتزويجها وفيه قالت: "فأخذت

(9/239)


ثفالي وأخرجت حبات من شعير كانت في جرتي وأخرجت شحما فعصدته له ثم بات ثم أصبح" الحديث، وأخرجه النسائي أيضا لكن لم يذكر المقصود هنا وأصله في مسلم من وجه آخر بدونه، وأما ما أخرجه الطبراني في "الأوسط" من طريق شريك عن حميد عن أنس قال: "أولم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أم سلمة بتمر وسمن" فهو وهم من شريك لأنه كان سيء الحفظ، أو من الراوي عنه وهو جندل بن والق فإن مسلما والبزار ضعفاه وقواه أبو حاتم الرازي والبستي، وإنما هو المحفوظ من حديث حميد عن أنس أن ذلك قصة صفية كذلك أخرجه النسائي من رواية سليمان بن بلال وغيره عن حميد عن أنس مختصرا، وقد تقدم مطولا في أوائل النكاح للبخاري من وجه آخر عن حميد عن أنس. وأخرج أصحاب السنن من رواية الزهري عن أنس نحوه في قصة صفية ويحتمل أن يكون المراد بنسائه ما هو أعم من أزواجه، أي من ينسب إليه من النساء في الجملة، فقد أخرج الطبراني من حديث أسماء بنت عميس قالت : "لقد أولم علي بفاطمة فما كانت وليمة في ذلك الزمان أفضل من وليمته، رهن درعه عند يهودي بشطر شعير" ولا شك أن المدين نصف الصاع؛ فكأنه قال: شطر صاع، فينطبق على القصة التي في الباب، وتكون نسبه الوليمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مجازية إما لكونه الذي وفى اليهودي ثمن شعيره أو لغير ذلك. قوله: "بمدين من شعير" كذا وقع في رواية كل من رواه عن الثوري فيما وقفت عليه ممن قدمت ذكره، إلا عبد الرحمن بن مهدي فوقع في روايته: "بصاعين من شعير" أخرجه النسائي والإسماعيلي من روايته، وهو وإن كان أحفظ من رواه عن الثوري لكن العدد الكثير أولى بالضبط من الواحد كما قال الشافعي في غير هذا، والله أعلم.

(9/240)


72- باب حَقِّ إِجَابَةِ الْوَلِيمَةِ وَالدَّعْوَةِ
وَمَنْ أَوْلَمَ سَبْعَةَ أَيَّامٍ وَنَحْوَهُ وَلَمْ يُوَقِّتْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا وَلاَ يَوْمَيْنِ
5173- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إِلَى الْوَلِيمَةِ فَلْيَأْتِهَا"
[الحديث 5173- طرفه في: 5179]
5174- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ سُفْيَانَ قَالَ حَدَّثَنِي مَنْصُورٌ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : "فُكُّوا الْعَانِيَ وَأَجِيبُوا الدَّاعِيَ وَعُودُوا الْمَرِيضَ"
5175- حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الرَّبِيعِ حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ عَنْ الأَشْعَثِ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ سُوَيْدٍ قَالَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَمَرَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبْعٍ وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ أَمَرَنَا بِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَاتِّبَاعِ الْجِنَازَةِ وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ وَإِبْرَارِ الْقَسَمِ وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ وَإِفْشَاءِ السَّلاَمِ وَإِجَابَةِ الدَّاعِي وَنَهَانَا عَنْ خَوَاتِيمِ الذَّهَبِ وَعَنْ آنِيَةِ الْفِضَّةِ وَعَنْ الْمَيَاثِرِ وَالْقَسِّيَّةِ وَالإِسْتَبْرَقِ وَالدِّيبَاجِ تَابَعَهُ أَبُو عَوَانَةَ وَالشَّيْبَانِيُّ عَنْ أَشْعَثَ فِي إِفْشَاءِ السَّلاَمِ"
5176- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ دَعَا

(9/240)


أَبُو أُسَيْدٍ السَّاعِدِيُّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عُرْسِهِ وَكَانَتْ امْرَأَتُهُ يَوْمَئِذٍ خَادِمَهُمْ وَهِيَ الْعَرُوسُ قَالَ سَهْلٌ تَدْرُونَ مَا سَقَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْقَعَتْ لَهُ تَمَرَاتٍ مِنْ اللَّيْلِ فَلَمَّا أَكَلَ سَقَتْهُ إِيَّاهُ"
[الحديث 5176- أطرافه في: 5182، 5183، 5591، 5597، 6685]
قوله: "باب حق إجابة الوليمة والدعوة" كذا عطف الدعوة على الوليمة فأشار بذلك إلى أن الوليمة مختصة بطعام العرس ويكون عطف الدعوة عليها من العام بعد الخاص، وقد تقدم بيان الاختلاف في وقته، وأما اختصاص اسم الوليمة به فهو قول أهل اللغة فيما نقله عنهم ابن عبد البر، وهو المنقول عن الخليل بن أحمد وثعلب وغيرهما وجزم به الجوهري وابن الأثير. وقال صاحب "المحكم" : الوليمة طعام العرس والإملاك وقيل كل طعام صنع لعرس وغيره. وقال عياض في "المشارق" : الوليمة طعام النكاح، وقيل الإملاك وقيل طعام العرس خاصة. وقال الشافعي وأصحابه: تقع الوليمة على كل دعوة تتخذ لسرور حادث من نكاح أو ختان وغيرهما، لكن الأشهر استعمالها عند الإطلاق في النكاح وتقيد في غيره فيقال وليمة الختان ونحو ذلك. وقال الأزهري: الوليمة مأخوذة من الولم وهو الجمع وزنا ومعنى لأن الزوجين يجتمعان. وقال ابن الأعرابي: أصلها من تتميم الشيء واجتماعه، وجزم الماوردي ثم القرطبي بأنها لا تطلق في غير طعام العرس إلا بقرينة، وأما الدعوة فهي أعم من الوليمة، وهي بفتح الدال على المشهور، وضمها قطرب في مثلثته وغلطوه في ذلك على ما قال النووي، قال ودعوة النسب بكسر الدال وعكس ذلك بنو تيم الرباب ففتحوا دال دعوة النسب وكسروا دال دعوة الطعام ا ه. وما نسبه لبني تيم الرباب نسبه صاحبا "الصحاح" و "المحكم" لبني عدي الرباب. فالله أعلم. وذكر النووي تبعا لعياض أن الولائم ثمانية: الإعذار بعين مهملة وذال معجمة للختان، والعقيقة للولادة، والخرس بضم المعجمة وسكون الراء ثم سين مهملة لسلامة المرأة من الطلق وقيل هو طعام الولادة، والعقيقة تختص بيوم السابع. والنقيعة لقدوم المسافر مشتقة من النقع وهو الغبار. والوكيرة للسكن المتجدد، مأخوذ من الوكر وهو المأوى والمستقر. والوضيمة بضاد معجمة لما يتخذ عند المصيبة، والمأدبة لما يتخذ بلا سبب ودالها مضمومة ويجوز فتحها، انتهى. والإعذار يقال فيه أيضا العذرة بضم ثم سكون، والخرس يقال فيه أيضا بالصاد المهملة بدل السين، وقد تزاد في آخرها هاء فيقال خرسة وخرصة وقيل إنها لسلامة المرأة من الطلق، وأما التي للولادة بمعنى الفرح بالمولود فهي العقيقة. واختلف في النقيعة هل التي يصنعها القادم من السفر أو تصنع له؟ قولان. وقيل النقيعة التي يصنعها القادم، والتي تصنع له تسمى التحفة. وقيل إن الوليمة خاص بطعام الدخول، وأما طعام الإملاك فيسمى الشندخ بضم المعجمة وسكون النون وفتح الدال المهملة وقد تضم وآخره خاء معجمة مأخوذ من قولهم فرس شندخ أي يتقدم غيره سمي طعام الإملاك بذلك لأنه يتقدم الدخول. وأغرب شيخنا في "التدريب" فقال: الولائم سبع وهو وليمة الإملاك وهو التزوج ويقال لها النقيعة بنون وقاف، ووليمة الدخول وهو العرس وقل من غاير بينهما انتهى. وموضع إغرابه تسمية وليمة الإملاك نقيعة، ثم رأيته تبع في ذلك المنذري في حواشيه وقد شذ بذلك. وقد فاتهم ذكر الحذاق بكسر المهملة وتخفيف الدال المعجمة وآخره قاف: الطعام الذي يتخذ عند حذق الصبي ذكره ابن الصباغ في "الشامل". وقال ابن الرفعة هو الذي يصنع عند الختم أي ختم القرآن كذا قيده، ويحتمل ختم ختم قدر مقصود منه، ويحتمل أن يطرد ذلك

(9/241)


في حذقه لكل صناعة. وذكر المحاملي في "الرونق" في الولائم العتيرة بفتح المهملة ثم مثناة مكسورة وهي شاة تذبح في أول رجب وتعقب بأنها في معنى الأضحية فلا معنى لذكرها مع الولائم، وسيأتي حكمها في أواخر كتاب العقيقة وإلا فلتذكر في الأضحية، وأما المأدبة ففيها تفصيل لأنها إن كانت لقوم مخصوصين فهي النقري بفتح النون والقاف مقصور، وإن كانت عامة فهي الجفلى بجيم وفاء بوزن الأول، قال الشاعر:
نحن في المشتاة ندعو الجفلى
لا ترى الآدب منا ينتقر
وصف قومه بالجود وأنهم إذا صنعوا مأدبة دعوا إليها عموما لا خصوصا، وخص الشتاء لأنها مظنة قلة الشيء وكثرة احتياج من يدعي، والآدب بوزن اسم الفاعل من المأدبة، وينتقر مشتق من النقري. وقد وقع في آخر حديث أبي هريرة الذي أوله "الوليمة حق وسنة" كما أشرت في "باب الوليمة حق" قال: والخرس والإعذار والتوكير أنت فيه بالخيار وفيه تفسير ذلك، وظاهر سياقه الرفع ويحتمل الوقف. وفي مسند أحمد من حديث عثمان بن أبي العاص في وليمة الختان "لم يكن يدعى لها" وأما قول المصنف "حق إجابة" فيشير إلى وجوب الإجابة، وقد نقل ابن عبد البر ثم عياض ثم النووي الاتفاق على القول بوجوب الإجابة لوليمة العرس وفيه نظر، نعم المشهور من أقوال العلماء الوجوب، وصرح جمهور الشافعية والحنابلة بأنها فرض عين ونص عليه مالك، وعن بعض الشافعية والحنابلة أنها مستحبة، وذكر اللخمي من المالكية أنه المذهب، وكلام صاحب الهداية يقتضي الوجوب مع تصريحه بأنها سنة، فكأنه أراد أنها وجبت بالسنة وليست فرضا كما عرف من قاعدتهم، وعن بعض الشافعية والحنابلة هي فرض كفاية، وحكى ابن دقيق العيد في "شرح الإلمام" أن محل ذلك إذا عمت الدعوة أما لو خص كل واحد بالدعوة فإن الإجابة تتعين، وشرط وجوبها أن يكون الداعي مكلفا حرا رشيدا، وأن لا يخص الأغنياء دون الفقراء، وسيأتي البحث فيه في الباب الذي يليه، وأن لا يظهر قصد التودد لشخص بعينه لرغبة فيه أو رهبة منه، وأن يكون الداعي مسلما على الأصح وأن يختص باليوم الأول على المشهور، وسيأتي البحث فيه، وأن لا يسبق فمن سبق تعينت الإجابة له دون الثاني، وإن جاءا معا قدم الأقرب رحما على الأقرب جوارا على الأصح، فإن استويا أقرع، وأن لا يكون هناك من يتأذى بحضوره من منكر وغيره كما سيأتي البحث فيه بعد أربعة أبواب وأن لا يكون له عذر وضبطه الماوردي بما يرخص به في ترك الجماعة، هذا كله في وليمة العرس فإما الدعوة في غير العرس فسيأتي البحث فيها بعد بابين. قوله: "ومن أولم سبعة أيام ونحوه" يشير إلى ما أخرجه ابن أبي شيبة من طريق حفصة بنت سيرين قالت: "لما تزوج أبي دعا الصحابة سبعة أيام، فلما كان يوم الأنصار دعا أبي بن كعب وزيد بن ثابت وغيرهما فكان أبي صائما فلما طعموا دعا أبي وأثنى" وأخرجه البيهقي من وجه آخر أتم سياقا منه، وأخرجه عبد الرزاق من وجه آخر إلى حفصة وقال فيه ثمانية أيام، وإليه أشار المصنف بقوله: "ونحوه" لأن القصة واحدة وهذا وإن لم يذكره المصنف لكنه جنح إلى ترجيحه لإطلاق الأمر بإجابة الدعوة بغير تقييد كما سيظهر من كلامه الذي سأذكره، وقد نبه على ذلك ابن المنير. قوله: "ولم يوقت النبي صلى الله عليه وسلم يوما ولا يومين" أي لم يجعل للوليمة وقتا معينا يختص به الإيجاب أو الاستحباب وأخذ ذلك من الإطلاق، وقد أفصح بمراده في تاريخه فإنه أورد في ترجمة زهير بن عثمان الحديث الذي أخرجه أبو داود والنسائي من طريق قتادة عن عبد الله بن عثمان الثقفي عن رجل من ثقيف كان

(9/242)


يثنى عليه إن لم يكن اسمه زهير بن عثمان فلا أدري ما اسمه يقوله قتادة قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الوليمة أول يوم حق، والثاني معروف، والثالث رياء وسمعة" قال البخاري: لا يصح إسناده ولا يصح له صحبة يعني لزهير، قال وقال ابن عمر وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا دعي أحدكم إلى الوليمة فليجب" ولم يخص ثلاثة أيام ولا غيرها وهذا أصح، قال وقال ابن سيرين عن أبيه "أنه لما بنى بأهله أولم سبعة أيام فدعا في ذلك أبي بن كعب فأجابه" ا هـ. وقد خالف يونس بن عبيد قتادة في إسناده فرواه عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا أو معضلا لم يذكر عبد الله بن عثمان ولا زهيرا أخرجه النسائي ورجحه على الموصول، وأشار أبو حاتم إلى ترجيحه، ثم أخرج النسائي عقبه حديث أنس "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام على صفية ثلاثة أيام حتى أعرس بها" فأشار إلى تضعيفه أو إلى تخصيصه، وأصرح من ذلك ما أخرجه أبو يعلى بسند حسن عن أنس قال: "تزوج النبي صلى الله عليه وسلم صفية وجعل عتقها صداقها، وجعل الوليمة ثلاثة أيام" الحديث. وقد وجدنا لحديث زهير بن عثمان شواهد، منها عن أبي هريرة مثله أخرجه ابن ماجه وفيه عبد الملك بن حسين وهو ضعيف جدا، وله طريق أخرى عن أبي هريرة أشرت إليها في "باب الوليمة حق" وعن أنس مثله أخرجه ابن عدي والبيهقي وفيه بكر بن خنيس وهو ضعيف، وله طريق أخرى ذكر ابن أبي حاتم أنه سأل أباه عن حديث رواه مروان بن معاوية عن عوف عن الحسن عن أنس نحوه فقال إنما هو عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسل، وعن ابن مسعود أخرجه الترمذي بلفظ: "طعام أول يوم حق، وطعام يوم الثاني سنة، وطعام يوم الثالث سمعة، ومن سمع سمع الله به" وقال لا نعرفه إلا من حديث زياد بن عبد الله البكائي وهو كثير الغرائب والمناكير. قلت: وشيخه فيه عطاء بن السائب وسماع زياد منه بعد اختلاطه فهذه علته. وعن ابن عباس رفعه: "طعام في العرس يوم سنة، وطعام يومين فضل، وطعام ثلاثة أيام رياء وسمعة" أخرجه الطبراني بسند ضعيف، وهذه الأحاديث وإن كان كل منها لا يخلو عن مقال فمجموعها يدل على أن للحديث أصلا، وقد وقع في رواية أبي داود والدارمي في آخر حديث زهير بن عثمان "قال قتادة: بلغني عن سعيد بن المسيب أنه دعي أول يوم وأجاب، ودعي ثاني يوم فأجاب، ودعي ثالث يوم فلم يجب وقال: أهل رياء وسمعة. فكأنه بلغه الحديث فعمل بظاهره إن ثبت ذلك عنه، وقد عمل به الشافعية والحنابلة، قال النووي إذا أولم ثلاثا فالإجابة في اليوم الثالث مكروهة وفي الثاني لا تجب قطعا ولا يكون استحبابها فيه كاستحبابها في اليوم الأول، وقد حكى صاحب "التعجيز" في وجوبها في اليوم الثاني وجهين وقال في شرحه: أصحهما الوجوب، وبه قطع الجرجاني لوصفه بأنه معروف أو سنة، واعتبر الحنابلة الوجوب في اليوم الأول وأما الثاني فقالوا سنة تمسكا بظاهر لفظ حديث ابن مسعود وفيه بحث، وأما الكراهة في اليوم الثالث فأطلقه بعضهم لظاهر الخبر. وقال العمراني: إنما تكره إذا كان المدعو في الثالث هو المدعو في الأول، وكذا صوره الروياني واستبعده بعض المتأخرين وليس ببعيد لأن إطلاق كونه رياء وسمعة يشعر بأن ذلك صنع للمباهاة وإذا كثر الناس فدعا في كل يوم فرقة لم يكن في ذلك مباهاة غالبا، وإلى ما جنح إليه البخاري ذهب المالكية، قال عياض استحب أصحابنا لأهل السعة كونها أسبوعا، قال وقال بعضهم محله إذا دعا في كل يوم من لم يدع قبله ولم يكرر عليهم، وهذا شبيه بما تقدم عن الروياني، وإذا حملنا الأمر في كراهة الثالث على ما إذا كان هناك رياء وسمعة ومباهاة كان الرابع وما بعده كذلك فيمكن حمل ما وقع من السلف من الزيادة على اليومين عند الأمن من ذلك وإنما أطلق ذلك على الثالث لكونه الغالب والله أعلم. ثم ذكر المصنف في الباب أربعة أحاديث. حديث ابن عمر أورده

(9/243)


من طريق مالك عن نافع بلفظ: "إذا دعي أحدكم إلى الوليمة فليأتها" سيأتي البحث فيه بعد بابين، وقوله: "فليأتها" أي فليأت مكانها، والتقدير إذا دعي إلى مكان وليمة فليأتها ولا يضر إعادة الضمير مؤنثا. حديث أبي موسى أورده لقوله فيه: "وأجيبوا الداعي" قد تقدم في الجهاد، قال ابن التين: قوله: "وأجيبوا الداعي" يريد إلى وليمة العرس كما دل عليه حديث ابن عمر الذي قبله يعني في تخصيص الأمر بالإتيان بالدعاء إلى الوليمة. وقال الكرماني: قوله: "الداعي" عام، وقد قال الجمهور تجب في وليمة النكاح وتستحب في غيرها فيلزم استعمال اللفظ في الإيجاب والندب وهو ممتنع قال والجواب أن الشافعي أجازه، وحمله غيره على عموم المجاز ا ه. ويحتمل أن يكون هذا اللفظ وإن كان عاما فالمراد به خاص، وأما استحباب إجابة طعام غير العرس فمن دليل آخر. حديث البراء بن عازب "أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بسبع ونهانا - وفي آخره - وإجابة الداعي" أورده من طريق أبي الأحوص عن الأشعث وهو ابن أبي الشعثاء سليم المحاربي ثم قال بعده "تابعه أبو عوانة والشيباني عن أشعث في إفشاء السلام" فأما متابعة أبي عوانة فوصلها المؤلف في الأشربة عن موسى بن إسماعيل عن أبي عوانة عن أشعث بن سليم به، وأما متابعة الشيباني وهو أبو إسحاق فوصلها المؤلف في كتاب الاستئذان عن قتيبة عن جرير عن الشيباني عن أشعث بن أبي الشعثاء به، وسيأتي شرحه مستوفى في أواخر كتاب الأدب إن شاء الله تعالى، وقد أخرجه في مواضع أخرى من غير رواية هؤلاء الثلاثة فذكره بلفظ: "رد السلام" بدل إفشاء السلام فهذه نكتة الاقتصار. حديث سهل بن سعد. قوله: "حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه" في رواية المستملي عن أبي حازم، وذكر الكرماني أنه وقع في رواية عن عبد العزيز بن أبي حازم عن سهل، وهو سهو إذ لا بد من واسطة بينهما إما أبوه أو غيره، قلت: لعل الرواية عن عبد العزيز عن أبي حازم فتصحفت "عن" فصارت "ابن" وسيأتي شرح الحديث بعد خمسة أبواب.

(9/244)


73- باب مَنْ تَرَكَ الدَّعْوَةَ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ
5177- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ شَرُّ الطَّعَامِ طَعَامُ الْوَلِيمَةِ يُدْعَى لَهَا الأَغْنِيَاءُ وَيُتْرَكُ الْفُقَرَاءُ وَمَنْ تَرَكَ الدَّعْوَةَ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
قوله: "باب من ترك الدعوة فقد عصى الله ورسوله" أورد فيه حديث ابن شهاب عن الأعرج عن أبي هريرة أنه كان يقول: "شر الطعام الوليمة يدعى لها الأغنياء ويترك الفقراء، ومن ترك الدعوة فقد عصى الله ورسوله" حديث ابن شهاب عن الأعرج عن أبي هريرة أنه كان يقول: "شر الطعام الوليمة يدعى لها الأغنياء ويترك الفقراء، ومن ترك الدعوة فقد عصى الله ورسوله" ووقع في رواية الإسماعيلي من طريق معن بن عنسي عن مالك "المساكين" بدل الفقراء، وأول هذا الحديث موقوف ولكن آخره يقتضي رفعه، ذكر ذلك ابن بطال قال: ومثله حديث أبي الشعثاء "أن أبا هريرة أبصر رجلا خارجا من المسجد بعد الأذان فقال: أما هذا فقد عصى أبا القاسم" قال: ومثل هذا لا يكون رأيا، ولهذا أدخله الأئمة في مسانيدهم انتهى. وذكر ابن عبد البر أن جل رواة مالك لم يصرحوا برفعه. وقال فيه روح بن القاسم عن مالك بسنده "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" انتهى. وكذا أخرجه الدار قطني في "غرائب مالك" من طريق إسماعيل بن مسلمة ابن قعنب عن مالك، وقد أخرجه مسلم من رواية معمر وسفيان بن عيينة عن الزهري شيخ مالك كما قال مالك ومن

(9/244)


رواية أبي الزناد عن الأعرج كذلك، والأعرج شيخ الزهري فيه هو عبد الرحمن كما وقع في رواية سفيان قال: "سألت الزهري فقال: حدثني عبد الرحمن الأعرج أنه سمع أبا هريرة" فذكره. ولسفيان فيه شيخ آخر بإسناد آخر إلى أبي هريرة صرح فيه برفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أخرجه مسلم أيضا من طريق سفيان "سمعت زياد بن سعد يقول سمعت ثابتا الأعرج يحدث عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" فذكر نحوه، وكذا أخرجه أبو الشيخ من طريق محمد بن سيرين عن أبي هريرة مرفوعا صريحا. وأخرج له شاهدا من حديث ابن عمر كذلك، والذي يظهر أن اللام في "الدعوة" للعهد من الوليمة المذكورة أولا، وقد نقدم أن الوليمة إذا أطلقت حملت على طعام العرس بخلاف سائر الولائم فإنها تقيد، وقوله: "يدعى لها الأغنياء" أي أنها تكون شر الطعام إذا كانت بهذه الصفة، ولهذا قال ابن مسعود "إذا خص الغني وترك الفقير أمرنا أن لا نجيب" قال قال ابن بطال: وإذا ميز الداعي بين الأغنياء والفقراء فأطعم كلا على حدة لم يكن به بأس، وقد فعله ابن عمر. وقال البيضاوي "من" مقدرة كما يقال: "شر الناس من أكل وحده" أي من شرهم، وإنما سماه شرا لما ذكر عقبه فكأنه قال: شر الطعام الذي شأنه كذا. وقال الطيبي: اللام في الوليمة للعهد الخارجي، إذ كان من عادة الجاهلية أن يدعوا الأغنياء ويتركوا الفقراء. وقوله: "يدعى إلخ" استئناف وبيان لكونها شر الطعام، وقوله: "ومن ترك إلخ" حال والعامل يدعى، أي يدعى الأغنياء والحال أن الإجابة واجبة فيكون دعاؤه سببا لأكل المدعو شر الطعام، ويشهد له ما ذكره ابن بطال أن ابن حبيب روى عن أبي هريرة أنه كان يقول: أنتم العاصون في الدعوة، تدعون من لا يأتي وتدعون من يأتي، يعني بالأول الأغنياء وبالثاني الفقراء. قوله: "شر الطعام" في رواية مسلم عن يحيى بن يحيى عن مالك "بئس الطعام" والأول رواية الأكثر، وكذا في بقية الطرق. قوله: "يدعى لها الأغنياء" في رواية ثابت الأعرج "يمنعها من يأتيها ويدعى إليها من يأباها" والجملة في موضع الحال لطعام الوليمة؛ فلو دعا الداعي عاما لم يكن طعامه شر الطعام. ووقع في رواية للطبراني من حديث ابن عباس "بئس الطعام طعام الوليمة يدعى إليه الشبعان ويحبس عنه الجيعان". قوله: "ومن ترك الدعوة" أي ترك إجابة الدعوة. وفي رواية ابن عمر المذكورة "ومن دعي فلم يجب" وهو تفسير للرواية الأخرى. قوله: "فقد عصى الله ورسوله" هذا دليل وجوب الإجابة، لأن العصيان لا يطلق إلا على ترك الواجب. ووقع في رواية لابن عمر عند أبي عوانة "من دعي إلى وليمة فلم يأتها فقد عصى الله ورسوله"

(9/245)


باب من دعى الى كراع
...
74- باب مَنْ أَجَابَ إِلَى كُرَاعٍ
5178- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَوْ دُعِيتُ إِلَى كُرَاعٍ لاَجَبْتُ وَلَوْ أُهْدِيَ إِلَيَّ كُرَاعٌ لَقَبِلْتُ"
قوله: "باب من أجاب إلى كراع" بضم الكاف وتخفيف الراء وآخره عين مهملة: هو مستدق الساق من الرجل ومن حد الرسغ من اليد، وهو من البقر والغنم بمنزلة الوظيف من الفرس والبعير، وقيل الكراع ما دون الكعب من الدواب. وقال ابن فارس: كراع كل شيء طرفه. قوله: "حدثنا عبدان" هو عبد الله بن عثمان، وأبو حمزة بالمهملة والزاي هو اليشكري. قوله: "عن أبي حازم" تقدم في الهبة من رواية شعبة عن الأعمش، وهو لا يروي عن مشايخه إلا ما ظهر له سماعهم فيه وأبو حازم هذا هو سلمان بسكون اللام مولى عزة بفتح المهملة وتشديد

(9/245)


الزاي، ووهم من زعم أنه سلمة بن دينار الراوي عن سهل بن سعد المقدم ذكره قريبا، فإنهما وإن كانا مدنيين لكن راوي حديث الباب أكبر من ابن دينار. قوله: "ولو أهدي إلي كراع لقبلت" كذا للأكثر من أصحاب الأعمش، وتقدم في الهبة من طريق شعبة عن الأعمش بلفظ: "ذراع وكراع" بالتغيير، والذراع أفضل من الكراع، وفي المثل "أنفق العبد كراعا وطلب ذراعا" وقد زعم بعض الشراح وكذا وقع للغزالي أن المراد بالكراع في هذا الحديث المكان المعروف بكراع الغميم بفتح المعجمة هو موضع بين مكة والمدينة تقدم ذكره في المغازي، وزعم أنه أطلق ذلك على سبيل المبالغة في الإجابة ولو بعد المكان، لكن المبالغة في الإجابة مع حقارة الشيء أوضح في المراد، ولهذا ذهب الجمهور إلى أن المراد بالكراع هنا كراع الشاة، وقد تقدم توجيه ذلك في أوائل الهبة في حديث: "يا نساء المسلمات، لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة" وأغرب الغزالي في "الإحياء" فذكر الحديث بلفظ: "ولو دعيت إلى كراع الغميم" ولا أصل لهذه الزيادة. وقد أخرج الترمذي من حديث أنس وصححه مرفوعا: "لو أهدي إلي كراع لقبلت، ولو دعيت لمثله لأجبت" وأخرج الطبراني من حديث أم حكيم بنت وادع أنها "قالت يا رسول الله أتكره الهدية؟ فقال: ما أقبح رد الهدية" فذكر الحديث، ويستفاد سببه من هذه الرواية. وفي الحديث دليل على حسن خلقه صلى الله عليه وسلم وتواضعه وجبره لقلوب الناس، وعلى قبول الهدية وإجابة من يدعو الرجل إلى منزله ولو علم أن الذي يدعوه إليه شيء قليل، قال المهلب: لا يبعث على الدعوة إلى الطعام إلا صدق المحبة وسرور الداعي بأكل المدعو من طعامه والتحبب إليه بالمؤاكلة وتوكيد الذمام معه بها، فلذلك حض صلى الله عليه وسلم على الإجابة ولو نزر المدعو إليه. وفيه الحض على المواصلة والتحاب والتآلف، وإجابة الدعوة لما قل أو كثر، وقبول الهدية كذلك

(9/246)


75- باب إِجَابَةِ الدَّاعِي فِي الْعُرْسِ وَغَيْرِهِ
5179- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَجِيبُوا هَذِهِ الدَّعْوَةَ إِذَا دُعِيتُمْ لَهَا قَالَ وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ يَأْتِي الدَّعْوَةَ فِي الْعُرْسِ وَغَيْرِ الْعُرْسِ وَهُوَ صَائِمٌ"
قوله: "باب إجابة الداعي في العرس وغيره" ذكر فيه حديث ابن عمر "أجيبوا هذه الدعوة" وهذه اللام يحتمل أن تكون للعهد، والمراد وليمة العرس، ويؤيده رواية ابن عمر الأخرى "إذا دعي أحدكم إلى الوليمة فليأتها" وقد تقرر أن الحديث الواحد إذا تعددت ألفاظه وأمكن حمل بعضها على بعض تعين ذلك، ويحتمل أن تكون اللام للعموم وهو الذي فهمه راوي الحديث فكان يأتي الدعوة للعرس ولغيره. قوله: "حدثنا علي بن عبد الله بن إبراهيم" هو البغدادي، أخرج عنه البخاري هنا فقط، وقد تقدم في فضائل القرآن روايته عن علي بن إبراهيم عن روح بن عبادة فقيل: هو هذا نسبه إلى جده، وقيل غيره كما تقدم بيانه، وذكر أبو عمرو والمستملي أن البخاري لما حدث عن علي بن عبد الله بن إبراهيم هذا سئل عنه فقال: متقن. قوله: "عن نافع" في رواية فضيل بن سليمان عن موسى بن عقبة "حدثني نافع" أخرجه الإسماعيلي. قوله: "قال كان عبد الله" القائل هو نافع وقد أخرج مسلم من طريق عبد الله بن نمير عن عبد الله ابن عمر العمري عن نافع بلفظ: "إذا دعي أحدكم إلى وليمة

(9/246)


عرس فليجب" وأخرجه مسلم وأبو داود من طريق أيوب عن نافع بلفظ: "إذا دعا أحدكم أخاه فليجب عرسا كان أو نحوه" ولمسلم من طريق الزبيدي عن نافع بلفظ: "من دعي إلى عرس أو نحوه فليجب" وهذا يؤيد ما فهمه ابن عمر وأن الأمر بالإجابة لا يختص بطعام العرس، وقد أخذ بظاهر الحديث بعض الشافعية فقال بوجوب الإجابة إلى الدعوة مطلقا عرسا كان أو غيره بشرطه؛ ونقله ابن عبد البر عن عبيد الله بن الحسن العنبري قاضي البصرة وزعم ابن حزم أنه قول جمهور الصحابة والتابعين، ويعكر عليه ما نقلناه عن عثمان بن أبي العاص وهو من مشاهير الصحابة أنه قال في وليمة الختان لم يكن يدعى لها، لكن يمكن الانفصال عنه بأن ذلك لا يمنع القول بالوجوب لو دعوا، وعند عبد الرزاق بإسناد صحيح عن ابن عمر أنه دعا بالطعام فقال رجل من القوم: اعفني، فقال ابن عمر: إنه لا عافية لك من هذا، فقم. وأخرج الشافعي وعبد الرزاق بسند صحيح عن ابن عباس أن ابن صفوان دعاه فقال: إني مشغول، وإن لم تعفني جئته. وجزم بعدم الوجوب في غير وليمة النكاح المالكية والحنفية والحنابلة وجمهور الشافعية؛ وبالغ السرخسي منهم فنقل فيه الإجماع، ولفظ الشافعي: إتيان دعوة الوليمة حق، والوليمة التي تعرف وليمة العرس، وكل دعوة دعي إليها رجل وليمة فلا أرخص لأحد في تركها، ولو تركها لم يتبين أنه عاص في تركها كما تبين لي في وليمة العرس. قوله: "في العرس وغير العرس وهو صائم" في رواية مسلم عن هارون بن عبد الله عن حجاج بن محمد "ويأتيها وهو صائم" ولأبي عوانة من وجه آخر عن نافع "وكان ابن عمر يجيب صائما ومفطرا" ووقع عند أبي داود من طريق أبي أسامة عن عبيد الله بن عمر عن نافع في آخر الحديث المرفوع "فإن كان مفطرا فليطعم، وإن كان صائما فليدع" ولمسلم من حديث أبي هريرة "فإن كان صائما فليصل" ووقع في رواية هشام بن حسان في آخره: "والصلاة الدعاء" وهو من تفسير هشام راويه، ويؤيده الرواية الأخرى، وحمله بعض الشراح على ظاهره فقال: إن كان صائما فليشتغل بالصلاة ليحصل له فضلها، ويحصل لأهل المنزل والحاضرين بركتها. وفيه نظر لعموم قوله: "لا صلاة بحضرة طعام" لكن يمكن تخصيصه بغير الصائم، وقد تقدم في "باب حق إجابة الوليمة" أن أبي بن كعب لما حضر الوليمة وهو صائم أثنى ودعا، وعند أبي عوانة من طريق عمر بن محمد عن نافع: كان ابن عمر إذ ادعى أجاب، فإن كان مفطرا أكل، إن كان صائما دعا لهم وبرك ثم انصرف. وفي الحضور فوائد أخرى كالتبرك بالمدعو والتجمل به والانتفاع بإشارته والصيانة عما لا يحصل له الصيانة لو لم يحضر، وفي الإخلال بالإجابة تفويت ذلك، ولا يخفى ما يقع للداعي من ذلك من التشويش، وعرف من قوله: "فليدع لهم" حصول المقصود من الإجابة بذلك وأن المدعو لا يجب عليه الأكل، وهل يستحب له أن يفطر إن كان صومه تطوعا؟ قال أكثر الشافعية وبعض الحنابلة: إن كان يشق على صاحب الدعوة صومه فالأفضل الفطر وإلا فالصوم، وأطلق الروياني وابن الفراء استحباب الفطر، وهذا على رأي من يجوز الخروج من صوم النفل، وأما من يوجبه فلا يجوز عنده الفطر كما في صوم الفرض، ويبعد إطلاق استحباب الفطر مع وجود الخلاف ولا سيما إن كان وقت الإفطار قد قرب. ويؤخذ من فعل ابن عمر أن الصوم ليس عذرا في ترك الإجابة ولا سيما مع ورود الأمر للصائم بالحضور والدعاء، نعم لو اعتذر به المدعو فقبل الداعي عذره لكونه يشق عليه أن لا يأكل إذا حضر أو لغير ذلك كان ذلك عذرا له في التأخر. ووقع في حديث جابر عند مسلم: "إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب، فإن شاء طعم وإن شاء ترك" فيؤخذ منه أن المفطر ولو حضر لا يجب عليه الأكل، وهو أصح الوجهين

(9/247)


عند الشافعية. وقال ابن الحاجب في مختصره: ووجوب أكل المفطر محتمل، وصرح الحنابلة بعدم الوجوب، واختار النووي الوجوب، وبه قال أهل الظاهر، والحجة لهم قوله في إحدى روايات ابن عمر عند مسلم: "فإن كان مفطرا فليطعم" قال النووي: وتحمل رواية جابر على من كان صائما، ويؤيده رواية ابن ماجه فيه بلفظ: "من دعي إلى طعام وهو صائم فليجب، فإن شاء طعم وإن شاء ترك" ويتعين حمله على من كان صائما نفلا، ويكون فيه حجة لمن استحب له أن يخرج من صيامه لذلك، ويؤيده ما أخرجه الطيالسي والطبراني في "الأوسط" عن أبي سعيد قال: "دعا رجل إلى طعام، فقال رجل: إني صائم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دعاكم أخاكم وتكلف لكم، أفطر وصم يوما مكانه إن شئت" في إسناده واو ضعيف لكنه توبع، والله أعلم.

(9/248)


76- باب ذَهَابِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ إِلَى الْعُرْسِ
5180- حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْمُبَارَكِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ أَبْصَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءً وَصِبْيَانًا مُقْبِلِينَ مِنْ عُرْسٍ فَقَامَ مُمْتَنًّا فَقَالَ اللَّهُمَّ أَنْتُمْ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ"
قوله: "باب ذهاب النساء والصبيان إلى العرس" كأنه ترجم بهذا لئلا يتخيل أحد كراهة ذلك، فأراد أنه مشروع بغير كراهة. قوله: "حدثنا عبد الرحمن بن المبارك" هو العيشي بالتحتانية والشين، وليس هو أخا عبد الله بن المبارك المشهور، وعبد الوارث هو ابن سعيد، والإسناد كله بصريون. قوله : "فقام ممتنا" بضم الميم بعدها ميم ساكنة ومثناة مفتوحة ونون ثقيلة بعدها ألف، أي قام قياما قويا، مأخوذ من المنة بضم الميم وهي القوة، أي قام إليهم مسرعا مشتدا في ذلك فرحا بهم. وقال أبو مروان بن سراج ورجحه القرطبي أنه من الامتنان لأن من قام له النبي صلى الله عليه وسلم وأكرمه بذلك فقد امتن عليه بشيء لا أعظم منه، قال: ويؤيده قوله بعد ذلك "أنتم أحب الناس إلي" ونقل ابن بطال عن القابسي قال: قوله: "ممتنا" يعني متفضلا عليهم بذلك، فكأنه قال: يمتن عليهم بمحبته. ووقع في رواية أخرى "متينا" بوزن عظيم، أي قام قياما مستويا منتصبا طويلا، ووقع في رواية ابن السكن "فقام يمشي" قال عياض: وهو تصحيف. قلت: ويؤيد التأويل الأول ما تقدم في "فضائل الأنصار" عن أبي معمر عن عبد الوارث بسند حديث الباب بلفظ: "فقام ممثلا" بضم أوله وسكون الميم الثانية بعدها مثلثة مكسورة وقد تفتح، وضبط أيضا بفتح الميم الثانية وتشديد المثلثة والمعنى منتصبا قائما، قال ابن التين: كذا وقع في البخاري، والذي في اللغة: مثل بفتح أوله وضم المثلثة وبفتحها قائما يمثل بضم المثلثة مثولا فهو ماثل إذا انتصب قائما، قال عياض: وجاء هنا ممثلا يعني بالتشديد أي مكلفا نفسه ذلك ا هـ. ووقع في رواية الإسماعيلي عن الحسن بن سفيان عن إبراهيم بن الحجاج عن عبد الوارث "فقام النبي صلى الله عليه وسلم لهم مثيلا" بوزن عظيم وهو فعيل من ماثل، وعن إبراهيم بن هاشم عن إبراهيم ابن الحجاج مثله وزاد: "يعني ماثلا". قوله: "اللهم أنتم من أحب الناس إلي" زاد في رواية أبي معمر "قالها ثلاث مرات" وتقديم لفظ اللهم يقع للتبرك أو للاستشهاد بالله في صدقه، ووقع في رواية مسلم من طريق ابن علية عن عبد العزيز "اللهم إنهم" والباقي مثله وأعادها ثلاث مرات، وقد اتفقا كما تقدم في

(9/248)


فضائل القرآن على رواية هشام بن زيد عن أنس "جاءت امرأة من الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعها صبي لها فكلمها وقال: والذي نفسي بيده إنكم لأحب الناس إلي مرتين" وفي رواية تأتي في كتاب النذور "ثلاث مرات" و "من" في هذه الرواية مقدرة بدليل رواية حديث الباب.

(9/249)


77 - باب هَلْ يَرْجِعُ إِذَا رَأَى مُنْكَرًا فِي الدَّعْوَةِ
وَرَأَى أَبُو مَسْعُودٍ صُورَةً فِي الْبَيْتِ فَرَجَعَ وَدَعَا ابْنُ عُمَرَ أَبَا أَيُّوبَ فَرَأَى فِي الْبَيْتِ سِتْرًا عَلَى الْجِدَارِ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ غَلَبَنَا عَلَيْهِ النِّسَاءُ فَقَالَ مَنْ كُنْتُ أَخْشَى عَلَيْهِ فَلَمْ أَكُنْ أَخْشَى عَلَيْكَ وَاللَّهِ لاَ أَطْعَمُ لَكُمْ طَعَامًا فَرَجَعَ
5181- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا اشْتَرَتْ نُمْرُقَةً فِيهَا تَصَاوِيرُ فَلَمَّا رَآهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ عَلَى الْبَابِ فَلَمْ يَدْخُلْ فَعَرَفْتُ فِي وَجْهِهِ الْكَرَاهِيَةَ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ مَاذَا أَذْنَبْتُ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا بَالُ هَذِهِ النُّمْرُقَةِ قَالَتْ فَقُلْتُ اشْتَرَيْتُهَا لَكَ لِتَقْعُدَ عَلَيْهَا وَتَوَسَّدَهَا" فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الصُّوَرِ يُعَذَّبُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيُقَالُ لَهُمْ أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ وَقَالَ إِنَّ الْبَيْتَ الَّذِي فِيهِ الصُّوَرُ لاَ تَدْخُلُهُ الْمَلاَئِكَةُ"
قوله: "باب هل يرجع إذا رأى منكرا في الدعوة" هكذا أورد الترجمة بصورة الاستفهام، ولم يبت الحكم لما قيها من الاحتمال كما سأبينه إن شاء الله تعالى. قوله: "ورأى ابن مسعود صورة في البيت فرجع" كذا في رواية المستملي والأصيلي والقابسي وعبدوس. وفي رواية الباقي "أبو مسعود" والأول تصحيف فيما أظن فإنني لم أر الأثر المعلق إلا عن أبي مسعود عقبة بن عمرو، وأخرجه البيهقي من طريق عدي بن ثابت عن خالد بن سعد عن أبي مسعود "أن رجلا صنع طعاما فدعاه فقال: أفي البيت صورة؟ قال: نعم. فأبى أن يدخل حتى تكسر الصورة" وسنده صحيح. وخالد بن سعد هو مولى أبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري ولا أعرف له عن عبد الله بن مسعود رواية، ويحتمل أن يكون ذلك وقع لعبد الله بن مسعود أيضا لكن لم أقف عليه. قوله: "ودعا ابن عمر أبا أيوب فرأى في البيت سترا على الجدار فقال ابن عمر: غلبنا عليه النساء. فقال: من كنت أخشى عليه فلم أكن أخشى عليك، والله لا أطعم لكم طعاما. فرجع" وصله أحمد في "كتاب الورع" ومسدد في مسنده ومن طريقه الطبراني من رواية عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر قال: "أعرست في عهد أبي، فآذن أبي الناس، فكان أبو أيوب فيمن آذنا وقد ستروا بيتي ببجاد أخضر، فأقبل أبو أيوب فاطلع فرآه فقال: يا عبد الله أتسترون الجدر؟ فقال أبي واستحيا: غلبنا عليه النساء يا أبا أيوب، فقال: من خشيت أن تغلبه النساء" فذكره ووقع لنا من وجه آخر من طريق الليث عن بكير ابن عبد الله بن الأشج عن سالم بمعناه وفيه: "فأقبل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يدخلون الأول فالأول، حتى أقبل أبو أيوب" وفيه: "فقال عبد الله: أقسمت عليك لترجعن، فقال: وأنا أعزم على نفسي أن لا أدخل يومي هذا، ثم انصرف" وقد وقع نحو ذلك لابن عمر فيما بعد فأنكره وأزال ما أنكر ولم يرجع كما صنع أبو أيوب، فروينا في "كتاب الزهد لأحمد" من طريق عبد الله بن عتبة قال: "دخل ابن عمر

(9/249)


بيت رجل دعاه إلى عرس فإذا بيته قد ستر بالكرور، فقال ابن عمر: يا فلان متى تحولت الكعبة في بيتك؟ ثم قال لنفر معه من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: ليهتك كل رجل ما يليه". وأخرج ابن وهب ومن طريقه البيهقي "أن عبيد الله بن عبد الله بن عمر دعي لعرس فرأى البيت قد ستر فرجع، فسئل فذكر قصة أبي أيوب". ثم ذكر المصنف حديث عائشة في الصور وسيأتي شرحه وبيان حكم الصور مستوفى في كتاب اللباس، وموضع الترجمة منه قولها "قام على الباب فلم يدخل" قال ابن بطال: فيه أنه لا يجوز الدخول في الدعوة يكون فيها منكر مما نهى الله ورسوله عنه لما في ذلك من إظهار الرضا بها، ونقل مذاهب القدماء في ذلك، وحاصله إن كان هناك محرم وقدر على إزالته فأزاله فلا بأس، وإن لم يقدر فليرجع، وإن كان مما يكره كراهة تنزيه فلا يخفى الورع، ومما يؤيد ذلك ما وقع في قصة ابن عمر من اختلاف الصحابة في دخول البيت الذي سترت جدره، ولو كان حراما ما قعد الذين قعدوا ولا فعله ابن عمر، فيحمل فعل أبي أيوب على كراهة التنزيه جمعا بين الفعلين، ويحتمل أن يكون أبو أيوب كان يرى التحريم والذين لم ينكروا كانوا يرون الإباحة، وقد فصل العلماء ذلك على ما أشرت إليه، قالوا إن كان لهوا مما اختلف فيه فيجوز الحضور، والأولى الترك. وإن كان حراما كشرب الخمر نظر فإن كان المدعو ممن إذا حضر رفع لأجله فليحضر، وإن لم يكن كذلك ففيه للشافعية وجهان: أحدهما يحضر وينكر بحسب قدرته، وإن كان الأولى أن لا يحضر. قال البيهقي: وهو ظاهر نص الشافعي، وعليه جرى العراقيون من أصحابه. وقال صاحب "الهداية" من الحنفية: لا بأس أن يقعد ويأكل إذا لم يكن يقتدى به، فإن كان ولم يقدر على منعهم فليخرج لما فيه من شين الدين وفتح باب المعصية. وحكي عن أبي حنيفة أنه قعد، وهو محمول على أنه وقع له ذلك قبل أن يصير مقتدى به، قال: وهذا كله بعد الحضور، فإن علم قبله لم تلزمه الإجابة، والوجه الثاني للشافعية تحريم الحضور لأنه كالرضا بالمنكر وصححه المراوزة، فإن لم يعلم حتى حضر فلينههم، فإن لم ينتهوا فليخرج إلا إن خاف على نفسه من ذلك، وعلى ذلك جرى الحنابلة. وكذا اعتبر المالكية في وجوب الإجابة أن لا يكون هناك منكر، وإذا كان من أهل الهيئة لا ينبغي له أن يحضر موضعا فيه لهو أصلا حكاه ابن بطال وغيره عن مالك، ويؤيد منع الحضور حديث عمران بن حصين "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إجابة طعام الفاسقين" أخرجه الطبراني في "الأوسط"، ويؤيده مع وجود الأمر المحرم ما أخرجه النسائي من حديث جابر مرفوعا: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقعد على مائدة يدار عليها الخمر" وإسناده جيد، وأخرجه الترمذي من وجه آخر فيه ضعف عن جابر، وأبو داود من حديث ابن عمر بسند فيه انقطاع، وأحمد من حديث عمر. وأما حكم ستر البيوت والجدران ففي جوازه اختلاف قديم، وجزم جمهور الشافعية بالكراهة، وصرح الشيخ أبو نصر المقدسي منهم بالتحريم، واحتج بحديث عائشة "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله لم يأمرنا أن نكسو الحجارة والطين، وجذب الستر حتى هتكه" وأخرجه مسلم. قال البيهقي هذه اللفظة تدل على كراهة ستر الجدار، وإن كان في بعض ألفاظ الحديث أن المنع كان بسبب الصورة. وقال غيره: ليس في السياق ما يدل على التحريم، وإنما فيه نفي الأمر لذلك، ونفي الأمر لا يستلزم ثبوت النهي، لكن يمكن أن يحتج بفعله صلى الله عليه وسلم في هتكه. وجاء النهي عن ستر الجدر صريحا، منها في حديث ابن عباس عند أبي داود وغيره: "ولا تستروا الجدر بالثياب" وفي إسناده ضعف، وله شاهد مرسل عن علي بن الحسين أخرجه ابن وهب ثم البيهقي من طريقه، وعند سعيد بن منصور من حديث سلمان موقوفا "أنه أنكر ستر البيت وقال: أمحموم بيتكم أو تحولت الكعبة

(9/250)


عندكم؟ قال لا أدخله حتى يهتك" وتقدم قريبا خبر أبي أيوب وابن عمر في ذلك. وأخرج الحاكم والبيهقي من حديث محمد بن كعب عن عبد الله بن يزيد الخطمي أنه رأى بيتا مستورا فقعد وبكى وذكر حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه: "كيف بكم إذا سترتم بيوتكم" الحديث وأصله في النسائي.

(9/251)


78- باب قِيَامِ الْمَرْأَةِ عَلَى الرِّجَالِ فِي الْعُرْسِ وَخِدْمَتِهِمْ بِالنَّفْسِ
5182- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ عَنْ سَهْلٍ قَالَ لَمَّا عَرَّسَ أَبُو أُسَيْدٍ السَّاعِدِيُّ دَعَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ فَمَا صَنَعَ لَهُمْ طَعَامًا وَلاَ قَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ إِلاَّ امْرَأَتُهُ أُمُّ أُسَيْدٍ بَلَّتْ تَمَرَاتٍ فِي تَوْرٍ مِنْ حِجَارَةٍ مِنْ اللَّيْلِ فَلَمَّا فَرَغَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الطَّعَامِ أَمَاثَتْهُ لَهُ فَسَقَتْهُ تُتْحِفُهُ بِذَلِكَ"
قوله: "باب قيام المرأة على الرجال في العرس وخدمتهم بالنفس" أي بنفسها، ذكر فيه حديث سهل بن سعد في قصة عرس أبي أسيد، وترجم عليه في الذي بعده "النقيع والشراب الذي لا يسكر في العرس" وتقدم قبل أبواب في "إجابة الدعوة" قوله: "عن سهل" في الرواية التي بعدها "سمعت سهل بن سعد". قوله: "لما عرس" كذا وقع بتشديد الراء، وقد أنكره الجوهري فقال: أعرس ولا تقل عرس. قوله: "أبو أسيد" في الرواية الماضية "دعا أبو أسيد النبي صلى الله عليه وسلم في عرسه" وزاد في هذه الرواية: "وأصحابه" ولم يقع ذلك في الروايتين الأخريين. قوله: "فما صنع لهم طعاما ولا قربه إليهم إلا امرأته أم أسيد" بضم الهمزة، وهي ممن وافقت كنيتها كنية زوجها، واسمها سلامة بنت وهيب. قوله: "بلت تمرات" بموحدة ثم لام ثقيلة أي أنقعت كما في الرواية التي بعدها، وإنما ضبطته لأني رأيته في شرح ابن التين "ثلاث" بلفظ العدد وهو تصحيف، وزاد في الرواية التي بعدها "فقالت أو قال:" كذا بالشك لغير الكشميهني وله "فقالت أو ما تدرون" بالجزم وتقدم في الرواية الماضية "قال سهل" وهي المعتمدة، فالحديث من رواية سهل وليس لأم أسيد فيه رواية، وعلى هذا فقوله: "أتدرون ما أنقعت" يكون بفتح العين وسكون التاء في الموضعين، وعلى رواية الكشميهني يكون بسكون العين وضم التاء. قوله: "في تور" بالمثناة إناء يكون من نحاس وغيره، وقد بين هنا أنه كان من حجارة. قوله: "أماثته" بمثلثة ثم مثناة، قال ابن التين: كذا وقع رباعيا وأهل اللغة يقولونه ثلاثيا "ماثته" بغير ألف أي مرسته بيدها، يقال ماثه يموثه ويميثه بالواو وبالياء وقال الخليل: مثت الملح في الماء ميثا أذبته وقد انماث هو ا هـ، وقد أثبت الهروي اللغتين ماثه وأماثه ثلاثيا ورباعيا. قوله: "تحفة بذلك" كذا للمستملي والسرخسي تحفة بوزن لقمة، وللأصيلي مثله، وعنه بوزن تخصه، وهو كذلك لابن السكن بالخاء والصاد الثقيلة، وكذا هو لمسلم. وفي رواية الكشميهني أتحفته بذلك. في رواية. النسفي تتحفه بذلك. وفي الحديث جواز خدمة المرأة زوجها ومن يدعوه، ولا يخفى أن محل ذلك عند أمن الفتنة ومراعاة ما يجب عليها من الستر، وجواز استخدام الرجل امرأته في مثل ذلك، وشرب ما لا يسكر في الوليمة، وفيه جواز إيثار كبير القوم في الوليمة بشيء دون من معه

(9/251)


79- باب النَّقِيعِ وَالشَّرَابِ الَّذِي لاَ يُسْكِرُ فِي الْعُرْسِ
5183- حدثنا يحيى بن بكير حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن القاري عن أبي حازم قال سمعت سهل

(9/251)


80- بَاب الْمُدَارَاةِ مَعَ النِّسَاءِ وَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا الْمَرْأَةُ كَالضِّلَعِ
5184- حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال : "الْمَرْأَةُ كَالضِّلَعِ إِنْ أَقَمْتَهَا كَسَرْتَهَا وَإِنْ اسْتَمْتَعْتَ بِهَا اسْتَمْتَعْتَ بِهَا وَفِيهَا عِوَجٌ"
قوله: "عن أبي الزناد عن الأعرج" في رواية سعيد بن داود عن الدار قطني في "الغرائب" عن مالك "أخبرني أبو الزناد أن عبد الرحمن بن هرمز وهو الأعرج أخبره أنه سمع أبا هريرة" وساق المتن بنحو لفظ سفيان لكن قال: "على خليقة واحدة إنما هي كالضلع" الحديث. ووقع لنا بلفظ المداراة من حديث سمرة رفعه: "خلقت المرأة من ضلع، فإن تقمها تكسرها، فدارها تعش بها" أخرجه ابن حبان والحاكم والطبراني في الأوسط وقوله: "وفيها عوج" بكسر العين وفتح الواو بعدها جيم للأكثر وبالفتح لبعضهم. وقال أهل اللغة: العوج بالفتح في كل منتصب كالحائط والعود وشبهه، وبالكسر ما كان في بساط أو أرض أو معاش أو دين. ونقل ابن قرقول عن أهل اللغة أن الفتح في الشخص المرئي والكسر فيما ليس بمرئي. وقال القرطبي: بالفتح في الأجسام وبالكسر في المعاني، وهو نحو الذي قبله. وانفرد أبو عمرو الشيباني فقال: كلاهما بالكسر ومصدرهما بالفتح.

(9/252)


81- باب الْوَصَاةِ بِالنِّسَاءِ
5185- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ الْجُعْفِيُّ عَنْ زَائِدَةَ عَنْ مَيْسَرَةَ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلاَ يُؤْذِي جَارَهُ..."
[الحديث 5185- أطرافه في: 6018، 6136، 6138، 6475]

(9/252)


يسأل عما عهد قالت السادسة زوجي إن أكل لف وإن شرب اشتف وإن اضطجع التف ولا يولج الكف ليعلم البث قالت السابعة زوجي غياياء أو عياياء طباقاء كل داء له داء شجك أو فلك أو جمع كلا لك قالت الثامنة زوجي المس مس أرنب والريح ريح زرنب قالت التاسعة زوجي رفيع النجاد عظيم الرماد قريب البيت من الناد قالت العاشرة زوجي مالك وما مالك مالك خير من ذلك له إبل كثيرات المبارك قليلات المسارح وإذا المزهر أيقن أنهن هوالك قالت الحادية عشرة زوجي أبو زرع فما أبو زرع أناس من حلي أذني وملأ من شحم عضدي وبجحني فبجحت إلى نفسي وجدني في أهل غنيمة بشق فجعلني في أهل صهيل وأطيط ودائس ومنق فعنده أقول فلا أقبح وأرقد فأتصبح وأشرب فأتقنح أم أبي زرع فما أم أبي زرع عكومها رداح وبيتها فساح بن أبي زرع فما بن أبي زرع مضجعه كمسل شطبة ويشبعه ذراع الجفرة بنت أبي زرع فما بنت أبي زرع طوع أبيها وطوع أمها وملء كسائها وغيظ جارتها جارية أبي زرع فما جارية أبي زرع لا تبث حديثنا تبثيثا ولا تنفث ميرتنا تنقيثا ولا تملأ بيتنا تعشيشا قالت خرج أبو زرع والأوطاب تمخض فلقى امرأة معها ولدان لها كالفهدين يلعبان من تحت خصرها برمانتين فطلقني ونكحها فنكحت بعده رجلا سريا ركب شريا وأخذ خطيا وأراح علي نعما ثريا وأعطاني من كل رائحة زوجا وقال كلي أم زرع وميري أهلك قالت فلو جمعت كل شيء أعطانيه ما بلغ أصغر آنية أبي زرع قالت عائشة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كنت لك كأبي زرع لأم زرع قال أبو عبد الله قال سعيد بن سلمة عن هشام ولا تعشش بيتنا تعشيشا قال أبو عبد الله وقال بعضهم فأتقمح بالميم وهذا أصح"
5190- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا هِشَامٌ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ الْحَبَشُ يَلْعَبُونَ بِحِرَابِهِمْ فَسَتَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أَنْظُرُ فَمَا زِلْتُ أَنْظُرُ حَتَّى كُنْتُ أَنَا أَنْصَرِفُ فَاقْدُرُوا قَدْرَ الْجَارِيَةِ الْحَدِيثَةِ السِّنِّ تَسْمَعُ اللَّهْوَ"
قوله: "باب حسن المعاشرة مع الأهل" قال ابن المنير: نبه بهذه الترجمة على أن إيراد النبي صلى الله عليه وسلم هذه الحكاية - يعني حديث أم زرع - ليس خليا عن فائدة شرعية، وهي الإحسان في معاشرة الأهل. قلت: وليس فيما ساقه البخاري التصريح بأن النبي صلى الله عليه وسلم أورد الحكاية، وسيأتي بيان الاختلاف في رفعه ووقفه، وليست الفائدة من الحديث محصورة فيما ذكر، بل سيأتي له فوائد أخرى: منها ما ترجم عليه النسائي والترمذي، وقد شرح حديث أم زرع إسماعيل بن أبي أويس شيخ البخاري، روينا ذلك في جزء إبراهيم ابن ديزيل الحافظ من روايته عنه، وأبو

(9/255)


عبيد القاسم بن سلام في "غريب الحديث:" وذكر أنه نقل عن عدة من أهل العلم لا يحفظ عددهم، وتعقب عليه فيه مواضع أبو سعيد الضرير النيسابوري وأبو محمد بن قتيبة كل منهما في تأليف مفرد، والخطابي في "شرح البخاري" وثابت بن قاسم، وشرحه أيضا الزبير بن بكار ثم أحمد بن عبيد بن ناصح ثم أبو بكر بن الأنباري ثم إسحاق الكاذي في جزء مفرد وذكر أنه جمعه عن يعقوب بن السكيت وعن أبي عبيدة وعن غيرهما، ثم أبو القاسم عبد الحكيم بن حبان المصري ثم الزمخشري في "الفائق" ثم القاضي عياض وهو أجمعها وأوسعها، وأخذ منه غالب الشراح بعده وقد لخصت جميع ما ذكروه. قوله حدثنا سليمان بن عبد الرحمن في رواية أبي ذر حدثني وهو المعروف بابن بنت شرحبيل الدمشقي وعلى بن حجر بضم المهملة وسكون الجيم ونصف بن يونس أي بن أبي إسحاق السبيعي ووقع منسوبا كذلك عن الإسماعيلي قوله حدثنا هشام بن عروة عن عبد الله بن عروة في رواية مسلم وأبي يعلى عن أحمد بن جناب بجيم ونون خفيفة عن عيسى بن يونس عن هشام أخبرني أخي عبد الله بن عروة وهذا من نوادر ما وقع لهشام بن عروة في حديثه عن أبيه حيث ادخل بينهما أخا له واسطة ومثله ما سيأتي في اللباس من طريق وهيب عن هشام بن عروة عن أخيه عثمان عن عروة ومضت له في رواية بواسطة اثنين بينه وبين أبيه ولم يختلف علي عيسى بن يونس في إسناده وسياقه لكن حكى عياض عن أحمد بن داود الحراني أنه رواه عن عيسى فقال في أوله عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم وساقه بطوله مرفوعا كله وكذا حكاه أبو عبيد أنه بلغه عن عيسى بن يونس وتابع عيسى بن يونس على رواية مفصلا فيما حكاه الخطيب سويد بن عبد العزيز وكذا سعيد بن سلمة عن أبي الحسام كلاهما عن هشام وستأتي روايته تعليقا وأذكر من وصلها من شرح الحديث وخالفهم الهيثم بن عدي فيما أخرجه الدارقطني في الجزء الثاني من الأفراد فرواه عن هشام بن عروة عن أخيه يحيى بن عروة عن أبيه وخطأه الدارقطني في العلل وصوب أنه عبد الله بن عروة وقال عقبة بن خالد وعباد بن منصور وروايتهما ثم النسائي والدراوردي وعبد الله بن مصعب وروايتهما ثم الزبير بن بكار وأبو أويس فيما أخرجه ابنه عنه وعبد الرحمن بن أبي الزناد وروايته ثم الطبراني وأبو معاوية وروايته ثم أبي عوانة في صحيحه كلهم عن هشام بن عروة عن أبيه بغير واسطة وأدخل بينهما واسطة أيضا عقبة بن خالد أيضا فرواه عن هشام بن عروة عن يزيد بن رومان عن عروة لكن اقتصر على المرفوع وبين ذلك البزار قال الدارقطني وليس ذلك بمدفوع فقد رواه أبو أويس أيضا وإبراهيم بن أبي يحيى عن يزيد بن رومان اه ورواه عن عروة أيضا حفيده عمر بن عبد الله بن عروة وأبو الزناد وأبو الأسود محمد بن عبد الرحمن بن نوفل الا أنه كان يقتصر على المرفوع منه وينكر على هشام بن عروة سياقه بطوله ويقول إنما كان عروة يحدثنا بذلك في السفر بقطعة منه ذكره أبو عبيد الآجري في اسئلته عن أبي داود قلت ولعل هذا هو السبب في ترك أحمد تخريجه في مسنده مع كبره وقد حدث به الطبراني عن عبد الله بن أحمد لكن أبيه وقال إذنه قال أبو الأسود لم يرفعه الا هشام بن عروة قلت المرفوع منه في الصحيحين "كنت لك كأبي زرع لام زرع" وباقيه من قول عائشة وجاء خارج الصحيح مرفوعا كله من رواية عباد بن منصور ثم النسائي وساقه بسياق لا يقبل التأويل ولفظه قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم كنت لك كأبي زرع لأم زرع قالت عائشة بأبي وأمي يا رسول الله ومن كان أبو زرع قال اجتمع نساء فساق الحديث كله وجاء مرفوعا أيضا من رواية عبد الله

(9/256)


بن مصعب والدراوردي ثم الزبير بن بكار وكذا رواه أبو معشر عن هشام وغيره من أهل المدينة عن عروة وهي رواية الهيثم بن عدي أيضا وكذا أخرجه النسائي من رواية القاسم بن عبد الواحد عن عمر بن عبد الله بن عروة وقد قدمت ذكر رواية أحمد بن داود عن عيسى بن يونس كذلك قال عياض وكذا ظاهر رواية حنبل بن إسحاق عن موسى بن إسماعيل عن سعيد بن سلمة بسنده المتقدم فإن أوله عنده قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم "كنت لك كأبي زرع لام زرع" ثم أنشأ يحدث حديث أم زرع قال عياض يحتمل أن يكون فاعل أنشأ هو عروة فلا يكون مرفوعا وأخذ القرطبي هذا الاحتمال فجزم به وزعم أن ما عداه وهم وسبقه إلى ذلك بن الجوزي لكن يعكر عليه أن في بعض الإشارة الصحيحة ثم أنشأ رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث وذلك في رواية القاسم بن عبد الواحد التي أشرت إليها ولفظه "كنت لك كأبي زرع لام زرع" ثم أنشأ رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث فانتفي الاحتمال ويقوى رفع جميعه أن التشبيه المتفق على رفعه يقتضي أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم سمع القصة وعرفها فأقرها فيكون كله مرفوعا من هذه الحيثية ويكون المراد بقول الدارقطني والخطيب وغيرهما من النقاد أن المرفوع منه ما ثبت في الصحيحين والباقي موقوف من قول عائشة هو أن الذي تلفظ به النبي صلى الله وسلم لما سمع القصة من عائشة هو التشبيه فقط ولم يريدوا أنه ليس بمرفوع حكما ويكون من عكس ذلك فنسب قص القصة من ابتدائها إلى انتهائها إلي النبي صلى الله عليه وسلم واهما كما سيأتي بيانه قوله جلس إحدى عشرة قال بن التين التقدير جلس جماعة إحدى عشرة وهو مثل {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ} وفي رواية أبي عوانة جلست وفي رواية أبي على الطبري في مسلم جلسن بالنون وفي رواية للنسائي اجتمع وفي رواية أبي عبيد اجتمعت وفي رواية أبي يعلى اجتمعن قال القرطبي زيادة النون على لغة اكلوني البراغيث وقد أثبتها جماعة من أئمة العربية واستشهدوا لها بقوله تعالى: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} وقوله تعالى: {ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ} وحديث ملائكة وقول الشاعر: بحوران يعصرون السليط أقاربه وقوله:
يلومونني في اشتراء النخيـ ... ـل قومي فكلهم يعذل
وقد تكلف بعض النحاة رد هذه اللغة إلى اللغة المشهورة وهي أن لا يلحق علامة الجمع ولا التثنية ولا التأنيث في الفعل إذا تقدم على الأسماء وخرج لها وجوها وتقديرات في غالبها نظر ولا يحتاج إلى ذلك بعد ثبوتها نقلا وصحتها استعمالا والله أعلم وقال عياض الأشهر ما وقع في الصحيحين وهو توحيد الفعل مع الجمع قال سيبويه حذف اكتفاء بما ظهر تقول مثلا قام قومك فلو تقدم الاسم لم يحذف فتقول قومك قام بل قاموا ومما يوجه ما وقع هنا أن يكون إحدى عشرة بدلا من الضمير في اجتمعن والنون على هذا ضمير لا حرف علامة أو على أنه خبر مبتدأ محذوف كأنه قيل من هن فقيل إحدى عشرة أو بإضمار أعني وذكر عياض أن في بعض الروايات إحدى عشرة نسوة قال فإن كان بالنصب أحتاج إلى إضمار أعني أو بالرفع فهو بدل من إحدى عشرة ومنه قوله تعالى وقطعناهم اثنتي عشرة اسباطا هو بدل من قطعناهم وليس بتمييز اه وقد لصاحب غيره أن يكون تمييزا بتأويل المطلوب شرحه ووقع لهذا الحديث سبب ثم انسائي من طريق عمر بن عبد الله بن عروة عن عروة عن عائشة قالت فخرت بمال أبي في الجاهلية وكان ألف ألف أوقية وفيه فقال النبي صلى الله عليه وسلم اسكتي " يا عائشة فإني كنت لك كأبي زرع لام زرع" ووقع له سبب آخر فيما أخرجه أبو القاسم عبد الحكيم بن حبان بسند

(9/257)


له مرسل من طريق سعيد بن عفير عن القاسم بن الحسن عن عمرو بن الحارث عن الأسود بن جبر المغافري1 قال دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على عائشة وفاطمة وقد جرى بينهما كلام فقال ما أنت بمنتهية يا حميراء عن ابنتي أن مثلي ومثلك كأبي زرع مع أم زرع فقالت يا رسول الله حدثنا عنهما فقال كانت قرية فيها إحدى عشرة امرأة وكان الرجال خلوفا فقلن تعالين نتذاكر أزواجنا بما فيهم ولا نكذب ووقع في رواية أبي معاوية عن هشام بن عروة ثم أبي عوانة في صحيحه بلفظ كان رجل الغرماء أبا زرع وامرأته أم زرع فتقول أحسن لي أبو زرع وأعطاني أبو زرع وأكرمني أبو زرع وفعل بي أبو زرع ووقع في رواية الزبير بن بكار دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي بعض نسائه فقال يخصني بذلك يا عائشة أنا لك كأبي زرع لام زرع قلت يا رسول الله ما حديث أبي زرع وأم زرع قال أن قرية من قرى اليمن كان بها بطن من بطون اليمن وكان منهن إحدى عشرة امرأة وإنهن خرجن إلى مجلس فقلن تعالين فلنذكر بعولتنا بما فيهم ولا نكذب فيستفاد من هذه الرواية معرفة جهة قبيلتهن وبلادهن لكن وقع في رواية الهيثم إنهن كن بمكة وأفاد أبو محمد بن حزم فيما نقله عياض انه نكن من خثعم وهو يوافق رواية الزبير إنهن من أهل اليمن ووقع في رواية بن أبي أويس عن أبيه إنهن كن في الجاهلية وكذا ثم النسائي في رواية عقبة بن خالد عن هشام وحكى عياض ثم النووي قول الخطيب في المبهمات لا أعلم أحدا سمي النسوة المذكورات في حديث أم زرع الا من الطريق الذي أذكره وهو غريب جدا ثم ساقه من طريق الزبير بن بكار قلت وقد ساقه أيضا أبو القاسم عبد الحكيم المذكور من الطريق المرسلة التي قدمت ذكرها فإنه ساقه من طريق الزبير بن بكار بسنده ثم ساقه من الطريق المرسلة وقال فذكر الحديث نحوه وسمي بن دريد في الوشاح أم زرع عاتكة ثم قال النووي وفيه يعني سياق الزبير بن بكار أن الثانية عدا عمرة بنت عمرو واسم الثالثة حبى بضم المهملة وتشديد الموحدة مقصور بنت كعب والرابعة مهدد بنت أبي هزومة والخامسة كبشة والسادسة هند والسابعة حبى بنت علقمة والثامنة بنت أوس بن عبد2 والعاشرة كبشة بنت الأرقم اه ولم يسم الأولى ولا التاسعة ولا أزواجهن ولا ابنة أبي زرع ولا أمه ولا الجارية ولا المرأة التي تزوجها أبو زرع ولا الرجل الذي تزوجته أم زرع وقد تبعه جماعة من الشراح بعده وكلامهم يوهم أن ترتيبهن في رواية الزبير كترتيب رواية الصحيحين وليس كذلك فإن الأولى ثم الزبير وهي التي لم يسمها هي الرابعة هنا والثانية في رواية الزبير هي الثامنة هنا والثالثة ثم الزبير هي العاشرة هنا والرابعة ثم الزبير هي الأولى هنا والخامسة عنده هي التاسعة هنا والسادسة عنده هي السابعة هنا والسابعة عنده هي الخامسة هنا والثامنة عنده هي السادسة هنا والتاسعة عنده هي الثانية هنا والعاشرة عنده هي الثالثة هنا وقد اختلف كثير من رواة الحديث في ترتيبهن ولا ضير في ذلك ولا أثر للتقديم والتأخير فيه إذ لم يقع تسميتهن نعم في رواية سعيد بن سلمة مناسبة وهي سياق الخمسة اللاتي ذممن أزواجهن على حدة والخمسة اللاتي مدحن أزواجهن على حدة وسأشير إلى ترتيبهن في الكلام على قول السادسة هنا وقد أشار إلى ذلك في قول عروة ثم ذكر الخامسة فهؤلاء خمس يشكون وإنما نبهت على رواية الزبير بخصوصها لما فيها من التسمية مع المخالفة في سياق الاعداد فيظن من
ـــــــ
1- الأسود بن جبير غير مذكور في الإصابة وسائر السند يحتاج إلى تحقيق.
(2 ) في نسخة أخرى: عبد ود.

(9/258)


لم يقف على حقيقة ذلك أن الثانية التي سميت عمرة بنت عمرو هي التي قالت زوجي لا أبث خبره وليس كذلك بل هي التي قالت زوجي المس مس أرنب وهكذا الخ فللتنبيه عليه فائدة من هذه الحيثية قوله "فتعاهدن وتعاقدن" أي ألزمن أنفسهن عهدا وعقدن على الصدق من ضمائرهن عقدا قوله أن لا يكتمن في رواية بن أبي أويس وعقبة أن يتصادقن بينهن ولا يكتمن وفي رواية سعيد بن سلمة ثم الطبراني أن ينعتن أزواجهن ويصدقن وفي رواية الزبير فتبايعن على ذلك قوله قالت الأولى زوجي لحم جمل غث بفتح المعجمة وتشديد المثلثة ويجوز جره صفة للجمل ورفعه صفة للحم قال بن الجوزي المشهور في الرواية الخفض وقال بن ناصر الجيد الرفع ونقله عن التبريزي وغيره والغث الهزيل الذي يستغث من هزاله أي يستترك ويستكره مأخوذ من قولهم غث الجرح غثا وغثيثا إذا سأل منه القيح واستغثه صاحبه ومنه اغث الحديث ومنه غث فلان في خلقه وكثر استعماله في مقابلة السمين فيقال للحديث المختلط فيه الغث والسمين قوله على رأس جبل في رواية أبي عبيد والترمذي وعر وفي رواية الزبير بن بكار وعث وهي اوفق للسجع والأول ظاهر أي كثير الضجر شديد الغلظة يصعب الرقي إليه والوعث بالمثلثة الصعب المرتقي بحيث توحل فيه الأقدام فلا يتخلص منه ويشق فيه المشي ومنه وعثاء السفر قوله لا سهل بالفتح بلا تنوين وكذا ولا سمين ويجوز فيهما الرفع على خبر مبتدأ مضمر أي لا هو سهل ولا سمين ويجوز الجر على إنهما صفة جمل وجبل ووقع في رواية عقبة بن خالد عن هشام ثم النسائي بالنصب منونا فيهما لا سهلا ولا سمينا وفي رواية عمر بن عبد الله بن عروة عنده لا بالسمين ولا بالسهل قال عياض أحسن الأوجه عندي الرفع في الكلمتين من جهة سياق الكلام وتصحيح المعنى لا من جهة تقويم اللفظ وذلك أنها أودعت كلامها تشبيه شيئين بشيئين شبهت زوجها باللحم الغث وشبهت سوء خلقه بالجبل الوعر ثم فسرت ما أجملت فكأنها قالت لا الجبل سهلا ارتقاؤه لأخذ اللحم ولو كان هزيلا لأن الشيء المزهود فيه أن يؤخذ إذا وجد بغير نصب ثم قالت ولا اللحم سمين فيتحمل المشقة في صعود الجبل لأجل تحصيله قوله فيرتقي أي فيصعد فيه وهو وصف للجبل وفي رواية للطبراني لا سهل فيرتقي إليه قوله ولا سمين فينتقل في رواية أبي عبيد فينتقي وهذا وصف اللحم والأول من الانتقال أي أنه لهزاله لا يرغب أحد فيه فينتقل إليه يقال انتقلت الشيء أي نقلته ومعنى ينتقي ليس له نقي يستخرج والنقى المخ يقال نقوت العظم ونقيته وأنتقيته إذا استخرجت مخه وقد كثر استعماله في اختيار الجيد من الرديء قال عياض أرادت أنه ليس له نقي فطلب لأجل ما فيه من النقي وليس المراد أنه فيه نقي يطلب استخراجه قالوا آخر ما يبقى في الجمل مخ عظم المفاصل ومخ العين وإذا نفدا لم يبق فيه خير قالوا وصفته بقلة الخير وبعده مع القلة فشبهته باللحم الذي صغرت عظامه من النقي وخبث طعمه وريحه مع كونه في الوصول إليه فلا يرغب أحدا في طلبه لينقله إليه مع توفر دواعي أكثر الناس على الراوي الشيء المبذول مجانا وقال النووي فسره الجمهور بأنه قليل الخير من أوجه منها كونه كلحم الجمل لا كلحم الضأن مثلا ومنها أنه مع ذلك مهزول رديء ويؤيده قول أبي سعيد الضرير ليس في اللحوم أشد غثاثة من لحم الجمل لأنه يجمع خبث الطعم وخبث الريح ومنه أنه صعب التناول لا يوصل إليه الا بمشقة شديدة وذهب الخطابي إلى أن تشبيهها بالجبل الوعر إشارة إلى سوء خلقة وأنه يترفع ويتكبر ويسمو بنفسه فوق موضعها في فيجمع البخل وسوء الخلق وقال عياض شبهت وعورة خلقه بالجبل

(9/259)


وبعد خيره ببعد اللحم على رأس الجبل والزهد فيما يرجى منه مع قلته وتعذره بالزهد في لحم الجمل الهزيل فأعطت التشبيه حقه ووفته قسطه قوله "قالت الثانية زوجي لا أبث خبره" بالموحدة ثم المثلثة وفي رواية حكاها عياض انث بالنون بدل الموحدة أي لا أظهر حديثه وعلى رواية النون فمرادها حديثه الذي لا خير فيه لأن النث بالنون أكثر ما يستعمل في الشر ووقع في رواية للطبراني لا أنم بنون وميم من النميمة قوله "إني أخاف أن لا أذره" أي أخاف أن لا أترك من خبره شيئا فالضمير للخبر أي أنه لطوله وكثرته أن بدأته لم أقدر على تكميله فاكتفت بالاشار إلى معيابه خشية أن المطلوب الخطب ووقع في رواية عباد بن منصور ثم النسائي أخشى أن لا أذره من سوء وهذا تفسير بن السكيت ويؤيده أن في رواية عقبة بن خالد أني أخاف أن لا أذره أذكره وأذكر عجره وبجره وقال غيره الضمير لزوجها وعليه يعود ضمير عجره وبجره بلا شك كأنها خشيت إذا ذكرت ما فيه أن يبلغه فيفارقها فكأنها قالت أخاف أن لا أقدر على تركه لعلاقتي به وأولادي منه وأذره بمعنى أفارقه فاكتفت بالإشارة إلى أنه له معايب وفاء بما التزمته من الصدق وسكتت عن تفسيرها للمعنى الذي اعتذرت به ووقع في رواية الزبير زوجي من لا أذكره ولا أبث خبره والأول أليق بالسجع قوله "عجره وبجره" بضم أوله وفتح الجيم فيهما الأول بعين مهملة والثاني بموحدة جمع عجرة وبجرة بضم ثم سكون فالعجر تعقد العصب والعروق في الجسد حتى تصير ناتئة والبجر مثلها الا أنها مختصة بالتي تكون في البطن قاله الأصمعي وغيره وقال بن الأعرابي العجرة نفخة في الظهر والبجرة نفخة في السرة وقال بن أبي أويس العجر العقد التي تكون في البطن واللسان والبجر العيوب وقيل العجر في الجنب والبطن والبجر في السرة هذا أصلهما ثم استعملا في الهموم والأحزان ومنه قول علي يوم الجمل اشكو إلى الله عجري وبجري وقال الأصمعي استعملا في المعايب وبه جزم بن حبيب وأبو عبيد الهروي وقال أبو عبيد بن سلام ثم بن السكيت استعملا فيما يكتمه المر ويخفيه عن غيره وبه جزم المبرد قال الخطاب أرادت عيوبه الظاهرة وأسراره الكامنة قال ولعله كان مستور الظاهر رديء الباطن وقال أبو سعيد الضرير عنت أن زوجها كثير المعايب متعقد النفس عن المكارم وقال الأخفش العجر العقد تكون في سائر البدن والبجر تكون في القلب وقال بن فارس يقال في المثل افضيت إليه بعجري وبجري أي بأمري كله قوله "قالت الثالثة زوجي العشنق" بفتح المهملة ثم المعجمة وتشديد النون المفتوحة وآخره قاف قال أبو عبيد وجماعة هو الطويل زاد الثعالبي المذموم الطول وقال الخليل هو الطويل العنق وقال بن أبي أويس الصقر من الرجال المقدام الجريء وحكى بن الدفع عن بن قتيبة انه قال هو القصير ثم قال كأنه عنده من الأضداد قال ولم أره لغيره انتهى والذي يظهر أنه تصحف عليه بما قال بن أبي أويس قاله عياض وقد قال بن حبيب هو المقدام على ما يريد الشرس في أموره وقيل السيء الخلق وقال الأصمعي أرادت أنه ليس عنده أكثر من طوله بغير نفع وقال غيره هو المستكره الطول وقيل ذمته بالطول لأن الطول في الغالب دليل السفه وعلل ببعد الدماغ عن القلب وأغرب من قال مدحته بالطول لأن العرب تتمدح بذلك وتعقب بأن سياقها يقتضي أنها ذمته وأجاب عنه بن الدفع باحتمال أن تكون أرادت مدح خلقه وذم خلقه فكأنها قالت له منظر بلا مخبر وهو محتمل وقال أبو سعيد الضرير الصحيح أن العشنق الطويل النجيب الذي يملك أمر نفسه ولا تحكم النساء فيه بل يحكم فيهن بما شاء فزوجته تهابه

(9/260)


أن تنطق بحضرته فهي تسكت على مضض قال الزمخشري وهي من الشكاية البليغة انتهى ويؤيده ما وقع في رواية يعقوب بن السكيت من الزيادة في آخره وهو على حد السنان المذلق بفتح المعجمة وتشديد اللام أي المجرد بوزنه ومعناه تشير إلى أنها منه على حذر ويحتمل أن تكون أرادت بهذا أنه أهوج لا يستقر على حال كالسنان الشديدة الحدة قوله إن أنطق أطلق وأن اسكت اعلق أي أن ذكرت عيوبه فيبلغه طلقني وأن سكت عنها فأنا عنده معلقة لا ذات زوج ولا أيم كما وقع في تفسير قوله تعالى :{فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} فكأنها قالت أنا عنده لا ذات بعل فأنتفع به ولا مطلقة فاتفرغ لغيره فهمي كالمعلقة بين العلو والسفل لا تستقر بأحدهما هكذا توارد عليه أكثر الشراح تبعا لأبي عبيد وفي الشق الثاني عندي نظر لأنه لو كان ذلك مرادها لانطلقت ليطلقها فتستريح والذي يظهر لي أيضا أنها أرادت وصف سوء حالها عنده فأشارت إلى سوء خلقه وعدم احتماله لكلامها أن شكت له حالها وإنها تعلم أنهى متى ذكرت له شيئا من ذلك بادر إلى طلاقها وهي لا تؤثر تطليقه لمحبتها فيه ثم عبرت بالجملة الثانية إشارة إلى أنها أن سكتت صابرة على تلك الحال كانت عنده كالمعلقة التي لا ذات زوج ولا ايم ويحتمل أن يكون قولها اعلق مشتقا من علاقة الحب أو من علاقة الوصلة أي أن نطقت طلقني وأن سكت استمر لي زوجة وأنا لا أوثر تطليقه لي فلذلك اسكت قال عياض أوضحت بقولها على حد السنان المذلق مرادها بقولها قبل أن اسكت اعلق وأن أنطق أطلق أي أنها أن حادت عن السنان سقطت فهلكت وأن استمرت عليه أهلكها قوله "قالت الرابعة زوجي كليل تهامة لا حر ولا قر ولا مخافة ولا سآمة" بالفتح بغير تنوين مبنية مع لا على الفتح وجاء الرفع مع التنوين فيها وهي رواية أبي عبيد قال أبو البقاء وكأنه أشبع بالمعنى أي ليس في حر فهو اسم ليس وخبرها محذوف قال ويقويه ما وقع من التكرير كذا قال وقد وقع في القراءات المشهورة البناء على الفتح في الجميع والرفع مع التوين وفتح البعض ورفع البعض وذلك في مثل قوله تعالى {لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} ومثل {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} ووقع في رواية عمر بن عبد الله ثم النسائي ولا برد بدل ولا قر زاد في رواية الهيثم ولا خامة بالخاء المعجمة أي لا ثقل عنده تصف زوجها بذلك وأنه لين الجانب خفيف الوطأة على الصاحب ويحتمل أن يكون ذلك من بقية صفة الليل وفي رواية الزبير بن بكار والغيث غيث غمامة قال أبو عبيد أرادت أنه لا شر فيه يخاف وقال بن الدفع أرادت بقولها ولا مخافة أي أن أهل تهامة لا يخافون لتحصنهم بجبالها أو أرادت وصف زوجها بأنه حامي الذمار مانع لداره وجاره ولا مخافة ثم من يأوي إليه ثم وصفته بالجود وقال غيره قد ضربوا المثل بليل تهامة في الطيب لأنها بلاد حارة في غالب الزمان وليس فيها رياح باردة فإذا كان الليل كان وهج الحر ساكنا فيطيب الليل لأهلها بالنسبة لما كانوا فيه من أذى حر النهار فوصفت زوجها بجميل العشرة واعتدال الحال وسلامة الباطن فكأنها قالت لا أذى عنده ولا مكروه وأنا آمنة منه فلا أخاف من شره ولا ملل عنده فيسأم من عشرتي أو ليس بسيء الخلق فأسأم من عشرته فأنا لذيذة العيش عنده كلذة أهل تهامة بليلهم المعتدل قوله "قالت الخامسة زوجي أن دخل فهد وأن خرج أسد ولا يسأل عما عهد" قال أبو عبيد فهد بفتح الفاء وكسر الهاء مشتق من الفهد وصفته بالغفلة ثم دخول البيت على وجه المدح له وقال بن حبيب شبهته في لينه وغفلته بالفهد لأنه يوصف بالحياء وقلة الشر وكثرة النوم وقوله أسد بفتح الالف وكسر السين مشتق من الأسد أي

(9/261)


يصير بين الناس مثل الأسد وقال بن السكيت تصفه بالنشاط في الغزو وقال بن أبي أويس معناه أن دخل البيت وثب علي وثوب الفهد وأن خرج كان في الأقدام مثل الأسد فعلى هذا يحتمل قوله وثب على المدح والذم فالأول تشير إلى كثرة جماعة لها إذا دخل فينطوي تحت ذلك تمدحها بأنها محبوبة لديه بحيث لا يصير عنها إذا رآها والذم أما من جهة أنه غليظ الطبع ليست عنده مداعبة ولا ملاعبة قبل المواقعة بل يثبت وثوبا كالوحش أو من جهة أنه كان سيء الخلق يبطش بها ويضربها وإذا خرج على الناس كان أمره أشد في الجرأة والإقدام والمهابة كالأسد قال عياض فيه مطابقة بين خرج ودخل لفظية وبين فهد وأسد معنوية ويسمى أيضا المقابلة وقولها ولا يسأل عما عهد يحتمل المدح والذم أيضا فالمدح بمعنى أنه شديد الكرم كثير التغاضي لا يتفقد ما ذهب من ماله وإذا جاء بشيء لبيته لا يسأل عنه بعد ذلك أو لا يلتفت إلى ما يرى في البيت من المعايب بل يسامح ويغضي ويحتمل الذم بمعنى مبال بحالها حتى لو عرف أنها مريضة أو معوزة وغاب ثم جاء لا يسأل عن شيء من ذلك ولا يتفقد حال أهله ولا بيته بل أن عرضت له بشيء من ذلك وثب عليها بالبطش والضرب وأكثر الشراح شرحوه على المدح فالتمثيل بالفهد من جهة كثرة التكرم أو الوثوب وبالأسد من جهة الشجاعة وبعدم السؤال من جهة المسامحة وقال عياض حمله الأكثر على الاشتقاق من خلق الفهد أما من جهة قوة وثوبه وأما من كثرة نومه ولهذا ضربوا المثل به فقالوا انوم من فهد قال ويحتمل أن يكون من جهة كثرة كسبه لأنهم قالوا في المثل أيضا اكسب من فهد وأصله أن الفهود الهرمة تجتمع على فهد منها فتي فيتصيد عليها كل يوم حتى يشبعها فكأنها قالت إذا دخل المنزل دخل معه بالكسب لأهله كما يجيء الفهد لمن يلوذ به من الفهود الهرمة ثم لما كان في وصفها له بخلق الفهد ما قد يحتمل الذم من جهة كثرة النوم رفعت اللبس بوصفها له بخلق الأسد فأفصحت أن الأول سجية كرم ونزاهة شمائل ومسامحة في العشرة لا سجية جبن وجور في الطبع قال عياض وقد قلب الوصف بعض الرواة يعني كما وقع في رواية الزبير بن بكار فقال إذا دخل أسد وإذا خرج فهد فإن كان محفوظا فمعناه أنه إذا خرج إلى مجلسه كان على غاية الرزانة والوقار وحسن السمت أو على الغاية من تحصيل الكسب وإذا دخل منزله كان متفضلا مواسيا لأن الأسد يوصف بأنه إذا افترس أكل من فريسته بعضا وترك الباقي لمن حوله من الوحوش ولم يهاوشهم عليها وزاد في رواية الزبير بن بكار في آخره ولا يرفع اليوم لغد يعني لا يدخر ما حصل عنده اليوم من أجل الغد فكنت بذلك عن غاية جوده ويحتمل أن يكون المراد أنه يأخذ بالحزم في جميع أموره فلا يؤخر ما يجب عمله اليوم إلى غده قوله "قالت السادسة زوجي أن أكل لف وأن شرب اشتف وأن اضطجع التف ولا يولج الكف ليعلم البث" في رواية عمر بن عبد الله ثم النسائي إذا أكل اقتف وفيه وإذا نام بدل اضجع وزاد وإذا ذبح اغتث أي تحرى الغث وهو الهزيل كما تقدم في شرح كلام الأولى وفي رواية الطبراني" ولا يدخل" بدل "يولج" وإذا رقد بدل "اضطجع" وفي رواية الترمذي والطبراني "فيعلم" بالفاء بدل اللام في رواية غيره والمراد باللف الإكثار منه واستقصاؤه حتى لا يترك منه شيئا وقال أبو عبيد الإكثار مع التخليط يقال لف الكتيبة بالأخرى إذا خلطها في الحرب ومنه اللفيف من الناس فأرادت أنه يخلط صنوف الطعام من نهمته وشرهه ثم لا يبقى منه شيئا وحكى عياض رواية من رواه رف بالراء بدل اللام قال وهي بمعناها ورواية من رواه اقتف بالقاف قال ومعناه التجميع قال الخليل قفاف

(9/262)


كل شيء جماعة واستيعابه ومنه سميت القفة لجمعها ما وضع فيها والاشتفاف في الشرب استقصاؤه مأخوذ من الشفافة بالضم والتخفيف وهي البقية تبقى في الإناء فإذا شربها الذي شرب الإناء قيل اشتفها ومنهم من رواها بالمهملة وهي بمعناها وقوله التف أي رقد ناحية وتلفف بكسائه وحده وانقبض عن أهله إعراضا فهي كئيبة حزينة لذلك ولذلك قالت ولا يولج الكف ليعلم البث أي لا يمد يده ليعلم ما هي عليه من الحزن فيزيله ويحتمل أن تكون أرادت أنه ينام نوم العاجز الفشل الكسل والمراد بالبث الحزن ويقال شدة الحزن ويطلق البث أيضا على الشكوى وعلى المرض وعلى الأمر الذي لا يصبر عليه فأرادت أنه لا يسأل عن الأمر الذي يقع اهتمامها به فوصفته بقلة الشفقة عليها وأنه أن لو رآها عليلة لم يدخل يده في ثوبها ليتفقد خبرها كعادة الأجانب فضلا عن الأزواج أو هو كناية عن ترك الملاعبة أو عن ترك الجماع كما سيأتي وقد اختلفوا في هذا فقال أبو عبيد كان في جسدها عيب فكان لا يدخل يده في ثوبها ليلمس ذلك العيب عليها فمدحته بذلك وقد تعقبه كل من جاء بعده الا النادر وقالوا إنما شكت منه وذمته واستقصرت حظها منه ودل على ذلك قولها قبل وإذا اضطجع التف كأنها قالت أنه يتجنبها ولا يدنيها منه ولا يدخل يده في جنبها فيلمسها ولا يباشرها ولا يكون منه ما يكون من الرجال فيعلم بذلك محبتها له وحزنها لقلة حظها منه وقد جمعت في وصفها له بين اللؤم والبخل والهمة والمهانة وسوء العشرة مع أهله فإن العرب تذم بكثرة الأكل والشرب وتتمدح بقلتهما وبكثرة الجماع لدلالتها على صحة الذكورية والفحولية وانتصر بن الدفع لأبي عبيد فقال لا مانع من أن تجمع المرأة بين مثالب زوجها ومناقبه لأنهن كن تعاهدن أن لا يكتمن من صفاتهم شيئا فمنهن من وصفت زوجها بالخير في جميع أموره ومنهن من وصفته بضد ذلك ومنهن من جمعت وارتضى القرطبي هذا الانتصار واستدل عياض للجمهور بما وقع في رواية سعيد بن سلمة عن أبي الحسام ان عروة ذكر هذه في الخمس اللاتي يشكون أزواجهن فإنه ذكر في روايته الثلاث المذكورات هنا أولا على الولاء ثم السابعة المذكورة عقب هذا ثم السادسة هذه فهي خامسة عنده والسابعة رابعة قال ويؤيد أيضا قول الجمهور كثرة استعمال العرب لهذه الكناية عن ترك الجماع والملاعبة وقد سبق في فضائل القرآن في قصة عمرو بن العاص مع زوج ابنه عبد الله بن عمرو حيث سألها عن حالها مع زوجها فقال هو كخير الرجال من رجل لم يفتش لنا كنفا وسبق أيضا في حديث الإفك قول صفوان بن المعطل ما كشفت كنف أنثى قط فعبر عن الاشتغال بالنساء بكشف الكتف وهو الغطاء ويحتمل أن يكون معنى قوله ولا يولج الكف كناية عن ترك تفقده أمورها وما تهتم به من مصالحها وهو كقولهم لم يدخل يده في الأمر أي لم يشتغل به ولم يتفقده وهذا الذي ذكره احتمالا بن أبي أويس فإنه قال معناه لا ينظر في أمر أهله ولا يبالي أن يجوعوا وقال أحمد بن عبيد بن ناصح معناه لا يتفقد أموري ليعلم ما أكرهه فيزيله يقال ما أدخل يده في الأمر أي لم يتفقده قوله "قالت السابعة زوجي غياياء أو عياياء" كذا في الصحيحين بفتح المعجمة بعدها تحتانية خفيفة ثم أخرى بعد الألف الأولى ملكا بعدها بمهملة وهو شك من راوي الخبر عيسى بن يونس وقد صرح بذلك أبو يعلى في روايته عن احمد بن خباب عنه ووقع في رواية عمر بن عبد الله ثم النسائي غياياء بمعجمة بغير شك والغياياء الطباقاء الأحمق الذي ينطبق عليه أمره وقال أبو عبيد العياياء بالمهلمة الذي لا يضرب ولا يلقح من الإبل وبالمعجمة ليس بشيء والطباقاء الأحمق الفدم وقال بن فارس الطباقاء الذي لا

(9/263)


يحسن الضراب فعلى هذا يكون تأكيدا لاختلاف اللفظ كقولهم بعدا وسحقا وقال الداودي قوله غياياء بالمعجمة مأخوذ من الغي بفتح المعجمة وبالمهملة مأخوذ من العي بكسر المهملة وقال أبو عبيد العياياء بالمهملة العي الذي تعيبه مباضعة النساء وأراه مبالغة من العي في ذلك وقال بن السكيت هو العي الذي لا يهتدي وقال عياض وغيره الغياياء بالمعجمة يحتمل أن يكون مشتقا من الغياية وهو كل شيء اظل الشخص فوق رأسه فكأنه مغطى عليه من جهله وهذا الذي ذكره احتمالا جزم به الزمخشري في الفائق وقال النووي قال عياض وغيره غياياء بالمعجمة صحيح وهو مأخوذ من الغياية وهي الظلمة وكل ما اظل الشخص ومعناه لا يهتدي إلى مسلك أو أنها وصفته بثقل الروح وأنه كالظل المتكاثف الظلمة الذي لا أشراق فيه أو أنها أرادت أنه غطيت عليه أموره أو يكون غياياء من الغي وهو الانهماك في الشر أو من الغي الذي هو الخيبة قال تعالى {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} وقال بن الأعرابي الطباقاء المطبق عليه حمقا وقال بن دريد الذي تنطبق عليه أموره وعن الجاحظ الثقيل الصدر عند الجماع ينطبق صدره على صدر المرأة فيرتفع سفله عنها وقد ذمت امرأة أمرا آلاف فقالت له ثقيل الصدر خفيف العجر سريع الإراقة بطيء الإفاقة قال عياض ولا منافاة بين وصفها له بالعجز ثم الجماع وبين وصفها بثقل الصدر فيه لاحتمال تنزيله على حالتين كل منهما مذموم أو يكون أطباق صدره من جملة عيبة وعجزه وتعاطيه ما لا قدرة له عليه لكن كل ذلك يرد على عياياء بأنه العنين وقولها كل داء له داء أي كل شيء تفرق في الناس من المعايب موجود فيه وقال الزمخشري يحتمل أن يكون قولها "له داء" خبرا لكل" أي أن كل داء تفرق في الناس فهو فيه ويحتمل أن يكون له صفة لداء و داء خير لكل أي كل داء فيه في غاية التناهي كما يقال أن زيدا لزيد وأن هذا الفرس لفرس قال عياض وفيه من لطيف الوحي والإشارة الغاية لأنه انطوى تحت هذه الكلمة كلام كثير وقولها "شجك" بمعجمة أوله وجيم ثقيله أي جرحك في رأسك وجراحات الرأس تسمى شجاجا وقولها أو فلك بفاء ثم لام ثقيلة أي جرح جسدك ومنه قول الشاعر بهن فلول أي ثلم جمع ثلمة ويحتمل أن يكون المراد نزع منك كل ما عندك أو كسرك بسلاطه لسانه وشدة خصومته زاد بن السكيت في روايته أو بجك بموحدة ثم جيم أي طعنك في جراحتك فشقتها والبج شق القرحة وقيل هو الطعنة وقولها أو جمع كلالك وقع في رواية الزبير "أن حدثته سبك"وأن مازحته فلك وإلا جمع كلا لك وهي توضح أن أو في رواية الأصيلي للتقسيم لا للتخيير وقال الزمخشري يحتمل أن تكون أرادت أنه ضروب للنساء فإذا ضرب إما أن يكسر عظما أو يشج رأسها أو يجمعهما ويحتمل أن يريد بالفل الطرد والابعاد وبالشج الكسر عند الضرب وأن كان الشج إنما يستعمل فر جراحة الرأس قال عياض وصفته بالحمق والتناهي في سوء العشرة وجمع النقائص بان يعجز عن قضاء وطرها مع الأذى فإذا حدثته سبها وإذا مازحته شجها وإذا اغضبته كسر عضوا من أعضائها أو شق جلدها أو أغار على مالها أو جمع كل ذلك من الضرب والجرح وكسر العضو وموجع الكلام وأخذ المال قوله "قالت الثامنة زوجي المس مس ارنب والريح ريح زرنب" زاد الزبير في روايته وأنا اغلبه والناس يغلب وكذا في رواية عقبة ثم النسائي وفي رواية عمر عنده وكذا الطبراني لكن بلفظ وتغلبه بنون الجمع والارنب دويبة لينة المس ناعمة الوبر جدا والزرنب بوزن الأرنب لكن أوله زاي وهو نبت طيب الريح وقيل هو شجرة عظيمة بالشام بجبل لبنان لا تثمر لها ينوي بين الخضرة والصفرة كذا ذكره

(9/264)


عياض واستنكره بن البيطار وغيره من أصحاب المفردات وقيل هو حشيشة دقيقة طيبة الرائحة وليست ببلاد العرب وأن كانوا ذكروها قال الشاعر:
يا بأبي أنت وفوك الاشنب ... كأنما ذر عليه الزرنب
وقيل هو الزعفران وليس بشيء واللام في المس والريح نائبة عن الضمير أي مسه وريحه أو فيهما حذف تقديره الريح منه والمس منه كقولهم السمن منوان بدرهم وصفته بأنه لين الجسد ناعمه ويحتمل أن تكون كنت بذلك عن حسن خلقه ولين عريكته بأنه طيب العرق لكثرة نظافته واستعماله الطيب تظرفا ويحتمل أن تكون كنت بذلك عن طيب حديثه أو طيب الثناء عليه لجميل معاشرته وأما قولها وأنا اغلبه والناس يغلب فوصفته مع جميل عشرته لها وصبره عليها بالشجاعة وهو كما قال معاوية يغلبن الكرام ويغلبهن اللئام قال عياض هذا من التشبيه بغير أداة وفيه حسن المناسبة والموازنة والتسجيع وأما قولها والناس يغلب ففيه نوع من البديع يسمى التنميم لأنها لو اقتصرت على قولها وأنا اغلبه لظن أنه جبان ضعيف فلما قالت والناس يغلب دل على أن غلبها إياه إنما هو من كرم سجاياه فتممت بهذه الكلمة المبالغة في حسن اوصافه قوله "قالت التاسعة زوجي رفيع النجاد عظيم الرماد قريب البيت من الناد" زاد الزبير بن بكار في روايته لا يشبع ليله يضاف ولا ينام ليلة يخاف وصفته بطول البيت وعلوه فإن بيوت الأشراف كذلك يعلونها ويضربونها في المواضع المرتفعة ليقصدهم الطارقون والوافدون فطول بيوتهم أما لزيادة شرفهم أو لطول قاماتهم وبيوت غيرهم قصار وقد لهج الشعراء بمدح الأول وذم الثاني "كقوله قصار البيوت لا ترى صهواتها" وقال آخر:
إذا دخلوا بيوتهم اكبوا ... على الركبات من قصر العماد
ومن لازم طول البيت أن يكون متسعا فيدل على كثرة الحاشية والغاشية وقيل كنت بذلك عن شرفه ورفعه قدره والنجاد بكسر النون وجيم خفيفة حمالة السيف تريد القامة يحتاج إلى طول نجاده وفي ضمن كلامها أنه صاحب سيف فأشارت إلى شجاعته وكانت العرب تتمادح بالطول وتذم بالقصر وقولها عظيم الرماد تعني أن نار قراه للاضياف لا تطفأ لنهتدي الضيفان إليها فيصير رماد النار كثيرا لذلك وقولها قريب البيت من الناد وقفت عليها بالسكون لمؤاخاه السجع والنادي والندى مجلس القوم وصفته بالشرف في قومه فهم إذا تفاوضوا واتشوروا في أمر وأتوا فجلسوا قريبا من بيته فاعتمدوا على رأيه وامتثلوا أمره أو أنه وضع بيته في وسط الناس ليسهل لقاؤه ويكون أقرب إلى الوارد وطالب القرى قال زهير:
بسط البيوت لكي يكون مظنة ... من حيث توضع جفنة المسترفد
ويحتمل أن تريد أن أهل النادي إذا أتوه لم يصعب عليهم لقاؤه لكونه لا يحتجب عنهم ولا يتباعد منهم بل يقرب ويتلقاهم ويبادر لاكرامهم وضد من يتوارى بأطراف الحلل وأغوار المنازل ويبعد عن سمت الضيف لئلا يهتدوا إلى مكانه فإذا استبعدوا موضعه صدوا عنه ومالوا إلى غيره ومحصل كلامها أنه وصفته بالسيادة والكرم وحسن الخلق وطيب المعاشرة قوله "قالت العاشرة زوجي مالك وما مالك مالك خير من ذلك" له إبل

(9/265)


كثيرات المبارك قليلات المسارح وإذا المزهر ايقن انهن هوالك" وقع في رواية عمر بن عبد الله ثم النسائي والزبير المبارح بدل المبارك وفي رواية أبي يعلى المزاهر بصيغة الجمع وعند الزبير الضيف بدل المزهر والمبارك بفتحتين جمع مبرك وهو موضع نزول الإبل والمسارح جمع مسرح وهو الموضع الذي تطلق لترعى فيه والمزهر بكسر الميم وسكون الزاي وفتح الهاء آلة من الات اللهو وقيل هي العود وقيل دف مربع وأنكر أبو سعيد الضرير تفسير المزهر بالعود فقال ما كانت العرب تعرف العود الا من خالط الحضر منهم وإنما هو بضم الميم وكسر الهاء وهو الذي يوقد النار فيزهرها للضيف فإذا سمعت الإبل صوته ومعمعان النار عرفت أن ضيفا طرق فتيقنت الهلاك بالإجماع عياض بان الناس كلهم رووه بكسر الميم وفتح الهاء ثم قال ومن الذي أخبره أن مالكا المذكور لم يخالط الحضر ولا سيما مع ما جاء في بعض طرق هذا الحديث انهن كن من قرية من قرى اليمن وفي الأخرى انهن من أهل مكة وقد كثر ذكر المزهر في اشعار العرب جاهليتها واسلامها ببدويها وحضريها اه ويرد عليه أيضا وروده بصيغة الجمع فإنه بعينه للآلة ووقع في رواية يعقوب بن السكيت وابن الدفع من الزيادة وهو إمام القوم في المهالك فجمعت في وصفها له بين الثروة والكرم وكثرة القرى والاستعداد له والمبالغة في صفاته ووصفته أيضا مع ذلك بالشجاعة لأن المراد بالمهالك الحروب وهو لثقته بشجاعته يتقدم رفقته وقيل أرادت أنه هاد في السبل الخفية عالم بالطرق في البيداء فالمراد على هذا بالمهالك المفاوز والأول أليق والله أعلم و"ما" في قولها و"ما مالك" استفهامية يقال للتعظيم والتعجب والمعنى ونصف شيء هو مالك ما اعظمه واكرمه وتكرير الاسم ادخل في باب التعظيم وقولها مالك خير من ذلك زيادة في الاعظام وتفسير لبعض الإبهام وأنه خير مما اشير إليه من ثناء وطيب ذكر وفوق ما اعتقد فيه من سؤدد وفخر وهو أجل ممن اصفه لشهرة فضله وهذا بناء على أن الإشارة بقولها ذلك إلى ما تعتقده فيه من صفات المدح ويحتمل أن يكون المراد مالك خير من كل مالك والتعميم يستفاد من المقام كما قيل تمرة خير من جرادة أي كل تمرة خير من كل جرادة وهذا إشارة إلى ما في ذهن المخاطب أي مالك خير مما في ذهنك من مالك الأموال وهو خير مما سأصفه به ويحتمل أن تكون الإشارة إلى ما تقدم من الثناء على الذين قبله وأن مالكا أجمع من الذين قبله لخصال السيادة والفضل ومعنى قولها قليلات المسارح أنه لاستعداده للضيفان بها لا يوجه منهن إلى المسارح الا قليلا ويترك سائرهن بفنائه فإن فاجأه ضيف وجد عنده ما يقريه به من لحومها وألبانها ومنه قول الشاعر:
حبسنا ولم نسرح لكي لا يلومنا ... على حكمه صبرا معودة الحبس
ويحتمل أن تريد بقولها قليلات المسارح الإشارة إلى كثرة طروق الضيفان فاليوم الذي يطرقه الضيف فيه لا تسرح حتى يأخذ منها حاجته للضيفان واليوم الذي لا يطرقه فيه أحد أو يكون هو فيه غائبا تسرح كلها فأيام الطروق أكثر من أيام عدمه فهي لذلك قليلات المسارح وبهذا يندفع اعتراض من قال لو كانت قليلات المسارح لكانت في غاية الهزال وقيل المراد بكثرة المبارك أنها كثيرا ما تثار فتحلب ثم تترك فتكثر مباركها لذلك وقال بن السكيت أن المراد أن مباركها على العطايا والحمالات وأداء الحقوق وقرى الاضياف كثيرة وإنما يسرح منها ما فضل عن ذلك فالحاصل أنها في الأصل كثيرة ولذلك كانت مباركها كثيرة ثم إذا سرحت

(9/266)


صارت قليلة لأجل ما ذهب منها وأما رواية من روى عظيمات المبارك فيحتمل أن يكون المعنى أنها من سمنها وعظم جثتها تعظم مباركها وقيل المراد أنها إذا بركت كانت كثيرة لكثر من ينضم إليها ممن يلتمس القرى وإذا سرحت سرحت وحدها فكانت قليلة بالنسبة لذلك ويحتمل أن يكون المراد بقلة مسارحها قلة الامكنة التي ترعى فيها من الأرض وإنها لا تمكن من الرعي الا بقرب المنازل طلبها إذا احتيج إليها ويكون ما قرب من المنزل كثير الخصب لئلا تهزل ووقع في رواية سعيد بن سلمة ثم الطبراني أبو مالك وما أبو مالك ذو إبل كثيرة المسالك قليلة المبارك قال عياض أن لم تكن هذه الرواية وهما فالمعنى أنها كثيرة في حال رعيها إذا ذهبت قليلة في حال مباركها إذا قامت لكثرة ما ينحر منها وما يسلك منها فيه من مسالك الجود من رفد ومعونة وحمل وحمالة ونحو ذلك وأما قولها ايقن انهن هوالك فالمعنى أنه الغرماء عادته بنحر الإبل لقرى الضيفان ومن عادته أن يسقيهم ويلهيهم أو يتلقاهم بالغناء مبالغة في الفرح بهم صارت الإبل إذا الغناء عرفت أنها تنحر ويحتمل أنها لم ترد فهم الإبل لهلاكها ولكن لما كان من يعقل اضيف إلى الإبل والأول أولي قوله "قالت الحادية عشرة" قال النووي وفي بعض النسخ الحادي عشرة وفي بعضها الحادية عشر والصحيح الأول وفي رواية الزبير وهي أم زرع بنت اكيمل بن ساعدة "قوله زوجي أبو زرع" في رواية النسائي "نكحت أبا زرع" قوله "فما أبو زرع" في رواية أبي ذر وما "أبو زرع" وهو المحفوظ للأكثر زاد الطبراني في رواية "صاحب نعم وزرع" قوله "أناس" بفتح الهمزة وتخفيف النون وبعد الألف مهملة أي حرك قوله "من حلى" بضم المهملة وكسر اللام "أذني" بالتثنية والمراد أنه ملأ أذنيها بما جرت عادة النساء من التحلي به من قرط وشنف من ذهب ولؤلؤ ونحو ذلك وقال بن السكيت أناس أي اثقل حتى تدلى واضطرب والنوس حركة كل شيء متدل وقد تقدم حديث بن عمر أنه دخل على حفصة وساتها تنطف مع شرح المراد به في المغازي ووقع في رواية بن السكيت أذني وفرعي بالتثنية قال عياض يحتمل أن تريد بالفرعين اليدين لأنهما كالفرعين من الجسد تعني أنه حلى اذنيها ومعصميها أو أرادت العنق واليدين وأقامت اليدين مقام فرع واحد أو أرادت اليدين والرجلين كذلك أو الغديرتين وقرني الرأس فقد جرت عادة المترفات بتنظيم غدائرهن وتحلية نواصيهن وقرونهن ووقع في رواية بن أبي أويس فرعى بالافراد أي حلى رأسي فصار يتدلى من كثرته وثقله والعرب تسمى شعر الرأس فرعا قال امرؤ آلاف وفرع يغشى المتن اسود فاحم قوله "وملأ من شحم عضدي" قال أبو عبيد لم ترد العضد وحده وإنما أرادت الجسد كله لأن العضد إذا سمنت سمن سائر الجسد وخصت العضد لأنه أقرب ما يلي بصر الإنسان من جسده قوله "وبجحنى" بموحدة ثم جيم خفيفة وفي رواية النسائي ثقيلة ثم مهملة قوله "فبجحت" بسكون الشاة وفي رواية لمسلم فتبجحت إلي بالتشديد نفسي هذا هو المشهور في الروايات وفي رواية النسائي وبجح نفسي فبجحت إلي وفي أخرى له ولأبي عبيد فبجحت بضم التاء وإلى بالتخفيف والمعنى أنه فرحها ففرحت وقال بن الدفع المعنى عظمني فعظمت إلى نفسي وقال بن السكيت المعنى فخرني ففخرت وقال بن أبي أويس معناه وسع علي وترفني قوله "وجدني في أهل غنيمة" بالمعجمة والنون مصغر قوله "بشق" بكسر المعجمة قال الخطابي هكذا الرواية والصواب بفتح الشين وهو موضع بعينه وكذا قال أبو عبيد وصوبه الهروي وقال بن الدفع هو بالفتح والكسر موضع

(9/267)


وقال بن أبي أويس وابن حبيب هو بالكسر والمراد شق جبل كانوا فيه لقلتهم وسعهم سكنى شق الجبل أي ناحيته وعلى رواية الفتح فالمراد شق في الجبل كالغار ونحوه وقال بن قتيبة وصوبه نفطويه المعنى بالشق بالكسر إنهم كانوا في شظف من العيش يقال هو بشق من العيش أي بشظف وجهد ومنه {لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ} وبهذا جزم الزمخشري وضعف غيره قوله "فجعلني في أهل صهيل" أي خيل "وأطيط" أي إبل زاد في رواية النسائي وجامل وهو جمع جمل والمراد اسم فاعل لمالك الجمال كقوله لابن وتأمر واصل أعواد المحامل والرجال على الجمال فأرادت إنهم أصحاب محامل تشير بذلك إلى رفاهيتهم ويطلق الاطيط على نشأ عن ضغط كما في حديث باب الجنة ليأتين عليه زمان وله اطيط ويقال المراد الجوف من الجوع قوله "ودائس" اسم فاعل من الدوس وفي رواية للنسائي ودياس قال بن السكيت الدائس الذي يدوس الطعام وقال أبو عبيد تأوله بعضهم من دياس الطعام وهو دراسه وأهل العراق يقولون الدياس وأهل الشام الدراس فكأنها أرادت إنهم أصحاب زرع وقال أبو سعيد المراد أن عندهم طعاما منتقى وهم في دياس شيء آخر فخيرهم متصل قوله "ومنق" بكسر النون وتشديد القاف قال أبو عبيد لا أدرى معناه وأظنه بالفتح من تنقى الطعام وقال بن أبي أويس المنق بالكسر نقيق أصوات المواشي تصف كثرة ماله وقال أبو سعيد الضرير هو بالكسر من نقيقة الدجاج يقال انق الرجل إذا كان له دجاج قال القرطبي لا يقال لشيء من أصوات المواشي نق وإنما يقال نق الضفدع والعقرب والدجاج ويقال في الهر بقلة وأما قول أبي سعيد فبعيد لأن العرب لا تتمدح بالدجاج ولا تذكرها في الأموال وهذا الذي أنكره القرطبي لم يرده أبو سعيد وإنما أراد ما فهمه الزمخشري فقال كأنها أرادت من يطرد الدجاج عن الحب فينق وحكى الهروي أن المنق بالفتح الغربال وعن بعض المغاربة يجوز أن يكون بسكون النون وتخفيف القاف أي له أنعام ذات نقي أي سمان والحاصل أنها ذكرت أنه نقلها من شظف عيش أهلها إلى الثروة الواسعة من الخيل والإبل والزرع وغير ذلك ومن أمثالهم أن كنت كاذبا فحلبت قاعدا أي صار مالك غنما يحلبها القاعد وبالضد أهل الإبل والخيل قوله "فعنده أقول" في رواية للنسائي "أنطق" وفي رواية الزبير "أتكلم" قوله "فلا أقبح" أي فلا يقال لي قبحك الله أو لا يقبح قولي ولا يرد علي أي لكثرة إكرامه لها وتدللها عليه لا يرد لها قولا ولا يقبح عليها ما تأتي به ووقع في رواية الزبير فبينما أنا عنده أنام الخ قوله "وأرقد فاتصبح" أي أنام الصبحة وهي نوم أول النهار فلا اوقظ إشارة إلى أن لها من بيتها ومهنة أهلها قوله "واشرب فاتقنح" كذا وقع بالقاف والنون الثقيلة ثم المهملة قال عياض لم يقع في الصحيحين الا بالنون ورواه الأكثر في غيرهما بالميم قلت وسيأتي بيان ذلك في آخر الكلام على هذا الحديث حيث نقل البخاري أن بعضهم رواه بالميم قال أبو عبيد اتقمح أي أروى حتى لا أحب الشرب مأخوذ من الناقة القامح وهي التي ترد الحوض فلا تشرب وترفع رأسها ريا وأما بالنون فلا أعرفه انتهى وأثبت بعضهم أن معنى اتقنح بمعنى اتقمح لأن النون والميم يتعاقبان مثل امتقع لونه وانتقع وحكى شمر عن أبي زيد التقنح الشرب بعد الري وقال بن حبيب الري بعد الري وقال أبو سعيد هو الشرب على مهل لكثرة اللبن لأنها كانت آمنة من قلته فلا تبادر إليه مخافة عجزه وقال أبو حنيفة الدينوري قنحت من الشراب تكارهت عليه بعد الري وحكى القالي قنحت الإبل تقنح بفتح النون في الماضي والمستقبل قنحا

(9/268)


بسكون النون وبفتحها أيضا إذا تكارهت الشرب بعد الري وقال أبو زيد وابن السكيت أكثر كلامهم تقنحت تقنحا بالتشديد وقال بن السكيت معنى قولها فأتقنح أي لا يقطع على شربي فتوارد هؤلاء كلهم على أن المعنى أنها تشرب حتى لا تجد مساغا أو أنها لا يقلل مشروبها ولا يقطع عليها حتى تتم شهوتها منه وأغرب أبو عبيد فقال لا أراها قالت ذلك الا لعزة الماء عندهم أي فلذلك فخرت بالري من الماء وتعقبوه بان السياق ليس فيه التقييد بالماء فيحتمل أن تريد أنواع الأشربة من لبن وخمر ونبيذ وسويق وغير ذلك ووقع في رواية الإسماعيلي عن البغوي فانفتح بالفاء والمثناة قال عياض أن لم يكن وهما فمعناه التكبر والزهو يقال في فلان فتحه إذا تاه وتكبر ويكون ذلك تحصل لها من نشأة الشراب أو يكون راجعا إلى جميع ما تقدم أشارت به إلى عزتها عنده وكثرة الخير لديها فهي تزهو لذلك أو معنى اتقنح كناية عن سمن جسمها ووقع في رواية الهيثم وآكل فاتمنح أي أطعم غيري يقال منحه يمنحه إذا أعطاه واتت بالألفاظ كلها بوزن اتفعل إشارة إلى تكرار الفعل وملازمته ومطالبة نفسها أو غيرها بذلك فإن ثبتت هذه الرواية وإلا ففي الاقتصار على ذكر الشرب إشارة إلى أن المراد به اللبن لأنه هو الذي يقوم مقام الشراب والطعام قوله "أم أبي زرع فما أم أبي زرع عكومها رداح وبيتها فساح" في رواية أبي عبيد "فياح" بتحتانية خفيفة من فاح يفيح إذا اتسع ووقع في رواية أبي العباس العذري فيما حكاه عياض أم زرع وما أم زرع بحذف أداة الكنية قال عياض وعلى هذا فتكون كنت بذلك عن نفسها قلت والأول هو الذي تضافرت به الروايات وهو المعتمد وأما قوله فما أم أبي زرع فتقدم بيانه في قول العاشرة والعكوم بضم المهملة جمع عكم بكسرها وسكون الكاف هي الاعدال والاحمال التي تجمع فيها الامتعة وقيل هي نمط تجعل المرأة فيها ذخيرتها حكاه الزمخشري ورداح بكسر الراء وبفتحها وآخره مهملة أي عظام كثيرة الحشو قاله أبو عبيد وقال الهروي معناه ثقيلة يقال للكتيبة الكبيرة رداح إذا كانت بطيئة السير لكثرة من فيها ويقال للمرأة إذا كانت عظيمة الكفل ثقيلة الورك رداح وقال بن حبيب إنما هو رداح أي ملأى قال عياض رأيته مضبوطا وذكر أنه سمعه من بن أبي أويس كذلك قال وليس كما قاله شراح العراقيين قال عياض وما أدري ما أنكره بن حبيب مع أنه فسره بما فسره به أبو عبيد مع مساعدة سائر الرواة له قال ويحتمل أن يكون مراده أن يضبطها بكسر الراء لا بفتحها جمع رادح كقائم وقيام ويصح أن يكون رداح خبر عكوم فيخبر عن الجمع بالجمع ويصح أن يكون خبر المبتدأ محذوف أي عكومها كلها رداح على أن رداح واحد كم ردح بضمتين وقد سمع الخبر عن الجمع بالواحد مثل ادرع دلاص فيحتمل أن يكون هذا منه ومنه {أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ} أشار إلى ذلك عياض قال ويحتمل أن يكون مصدرا مثل طلاق وكمال أو على أي عكومها ذات رداح قال الزمخشري لو جاءت الرواية في عكوم بفتح العين لكان الوجه على أن يكون المراد بها الجفنة التي لا ينعقد عن مكانها أما لعظمها وأما لأن القرى متصل دائم من قولهم ورد ولم يعكم أي لم يقف أو التي كثر طعامها وتراكم كما يقال اعتكم الشيء وارتكم قال والرداح حينئذ تكون واقعة في مصابها من كون الجفنة موصوفة بها وفساح بفتح الفاء والمهملة أي واسع يقال بيت فسيح وفساح ومنهم من شدد الياء مبالغة والمعنى أنها وصفت والدة زوجها بأنها كثيرة الآلات والأثاث والقماش واسعة المال كبيرة البيت أما حقيقة فيدل ذلك على عظم الثروة وأما كناية عن كثرة الخير ورغد العيش والبر بمن ينزل بهم لأنهم يقولون فلان رحب المنزل أي يكرم من ينزل عليه

(9/269)


وأشارت بوصف والدة زوجها إلى أن زوجها كثير البر لأمه وأنه لم يطعن في السن لأن ذلك هو الغالب ممن يكون له والدة توصف بمثل ذلك قوله "ابن أبي زرع فما ابن أبي زرع مضجعه كمسل شطبة ويشبعه ذراع الجفرة" زاد في رواية لابن الدفع وترويه فيقة اليعرة ويميس في حلق النترة فأما مسل الشطبة فقال أبو عبيد أصل الشطبة ما شطب من الجريد وهو سعفه فيشق منه قضبان رقاق تنسج منه الحصر وقال بن السكيت الشطبة من سدى الحصير وقال بن حبيب هي العود المحدد كالمسلة وقال بن الأعرابي أرادت بمسل الشطبة سيفا سل من غمده فمضجعه الذي ينام فيه في الصغر كقدر مسل شطبة واحدة أما على ما قال الأولون فعلى قدر ما يسل من الحصير فيبقى مكانه فارغا وأما على قول بن الأعرابي فيكون كغمد السيف وقال أبو سعيد الضرير شبهته بسيف مسلول ذي شطب وسيوف اليمن كلها ذات شطب وقد شبهت العرب الرجال بالسيوف أما لخشونة الجانب وشدة المهابة واما لجمال الرونق وكمال اللألاء وأما لكمال صورتها في اعتدالها واستوائها وقال الزمخشري المسل مصدر بمعنى السل يقام مقام المسلول والمعنى كمسلول الشطبة وأما الجفرة بفتح الجيم وسكون الفاء فهي الأنثى من ولد المعز إذا كان بن أربعة أشهر وفصل عن أمة وأخذ في الرعي قاله أبو عبيد وغيره وقال بن الدفع وابن دريد ويقال لولد الضأن أيضا إذا كان ثنيا وقال الخليل الجفر من أولاد الشاة ما استجفر أي صار له بطن والفيقة بكسر الفاء وسكون التحتانية بعدها قاف ما يجتمع في الضرع بين الحلبتين والفواق بضم الفاء الزمان الذي بين الحلبتين واليعرة بفتح التحتانية وسكون المهملة بعدها راء العناق ويميس بالمهملة أي يتبختر والمراد يحلق النترة وهي بالنون المفتوحة ثم الشاة الساكنة الدرع اللطيفة أو القصيرة وقيل اللينة الملمس وقيل الواسعة والحاصل أنها وصفته بهيف القد وأنه ليس ببطين ولا جاف قليل الأكل والشرب ملازم لآلة الحرب يختال في موضع القتال وكل ذلك مما تتمادح به العرب ويظهر لي أنها وصفته بأنه خفيف الوطأة عليها لأن زوج الأب غالبا يستثقل ولده من غيرها فكان هذا يخفف عنها فإذا دخل بيتها فانفق أنه قال فيه مثلا لم يضطجع الا قدر ما يسل السيف من غمده ثم يستيقظ مبالغة في التخفيف عنها وكذا قولها يشبعه ذراع الجفرة أنه لا يحتاج ما عندها بالأكل فضلا عن الأخذ بل لو طعم عندها لاقتنع باليسير الذي يسد الرمق من المأكول والمشروب قوله "بنت أبي زرع فما بنت أبي زرع" في رواية مسلم "وما" بالواو بدل الفاء قوله "طوع أبيها وطوع أمها" أي انها بارة بهما زاد في رواية الزبير وزين أهلها ونسائها أي يتجملون بها وفي رواية للنسائي زين أمها وزين أبيها بدل طوع في الموضعين وفي رواية للطبراني وقرة عين لأمها وأبيها وزين لأهلها وزاد الكاذي في روايته عن بن السكيت وصفر ردائها وزاد في رواية قباء هضيمة الحشا جائلة الوشاح عكناء فعماء تجلاء دعجاء رجاء فنواء مؤنقة مفنقة قوله "وملء كسائها" كناية عن كمال شخصها ونعمة جسمها قوله "وغيظ جارتها" في رواية سعيد بن سلمة ثم مسلم "وعقر جارتها" بفتح المهملة وسكون القاف أي دهشها أو قتلها وفي رواية للنسائي والطبراني "وحير جارتها" بالمهملة ثم التحتانية من الحيرة وفي أخرى له وحين جارتها بفتح المهملة وسكون التحتانية بعدها نون أي هلاكها وفي رواية الهيثم بن عدي وعبر جارتها بضم المهملة وسكون الموحدة وهو من العبرة بالفتح أي تبكي حسدا لما تراه منها أو بالكسر أي تعتبر بذلك وفي رواية سعيد بن سلمة وحبر نسائها واختلف في ضبطه فقيل بالمهملة والموحدة من التحبير وقيل بالمعجمة والتحتانية من الخيرية والمراد

(9/270)


بجارتها ضرتها أو هو على حقيقته لأن الجارات من شأنهن ذلك ويؤيد الأول أن في رواية حنبل وغير جارتها بالغين المعجمة وسكون التحتانية من الغيرة وسيأتي قريبا قول عمر لحفصة "لا يغرنك أن كانت جارتك اضوأ منك" يعني عائشة وقولها "صفر" بكسر الصاد المهملة وسكون الفاء أي خال فارغ والمعنى أن رداءها كالفارغ الخالي لأنه لا يمس من جسمها شيئا لأن ردفها وكتفيها يمنع مسه من خلفها شيئا من جسمها ونهدها يمنع مسه شيئا من مقدمها وفي كلام بن أبي أويس وغيره معنى قولها بنو ردائها تصفها بأنها خفيفة موضع التردية وهو أعلى بدنها ومعنى قوله "ملء كسائها" أي ممتلئة موضع الازرة وهو أسفل بدنها والصفر الشيء الفارغ قال عياض والأولى أنه أراد أن امتلاء منكبيها وقيام نهديها يرفعان الرداء عن أعلى جسدها فهو لا يمسه فيصير كالفارغ منها بخلاف أسفلها ومنه قول الشاعر:
أبت الروادف والنهود لقمصها ... من أن تمس بطونها وظهورها
وقولها قباء بفتح القاف وبتشديد الموحدة أي ضامرة البطن و هضيمة الحسا هو بمعنى الذي قبله و جائلة الوشاح أي يدور وشاحها و عكناء أي ذات اعكان و فعماء بالمهملة أي ممتلئة الجسم و نجلاء بنون وجين أي واسعة العين و دعجاء أي شديدة يخلو العين ورجاء بتشديد الجيم أي كبيرة الكفل ترتج من عظمة أن كانت الرواية بالراء فإن كانت بالزاي فالمراد في حاجبيها تقويس ومونقة بنون ثقيلة وقاف و مفنقة بوزنه أي مغذية بالعيش الناعم وكلها أوصاف حسان وفي رواية بن الدفع برود الظل أي أنها حسنة العشرة كريمة الجوار وفي الألي بتشديد التحتانية والالى بكسر الهمزة أي العهد أو القرابة كريم الخل بكسر المعجمة أي الصاحب زوجا كان أو غيره وإنما ذكرت هذه الأوصاف مع أن الموصوف مؤنث لأنها ذهبت به مذهب التشبيه أي هي كرجل في هذه الأوصاف أو حملته على المعنى كشخص أو شيء ومنه قول عروة بن حرام وعفراء عني الممرض المتواني قال الزمخشري ويحتمل أن يكون بعض الرواة نقل هذه الصفة من الابن إلى البنت وفي أكثر هذه الأوصاف رد على الزجاجي في إنكاره مثل قولهم مررت برجل حسن وجهه وزعم أن سيبويه انفرد باجازة مثل ذلك وهو ممتنع لأنه أضاف الشيء إلى نفسه قال القرطبي أخطأ الزجاجي في مواضع في منعه وتعليله وتخطئته ودعواه الشذوذ وقد نقل بن خروف أن القائلين به لا يحصى عددهم وكيف يخطىء من تمسك بالسماع الصحيح كما جاء في هذا الحديث الصحيح المتفق على صحته وكما جاء في صفة النبي صلى الله عليه وسلم شئن أصابعه تنبيه سقط من رواية الزبير ذكر بن أبي زرع ووصف بنت أبي زرع فجعل وصف بن أبي زرع لبنت أبي زرع ورواية الجماعة أولي وأتم قوله جارية أبي زرع فما جارية أبي زرع في رواية الطبراني خادم أي زرع وفي رواية الزبير وليد أبي زرع والوليد الخادم يطلق على الذكر والأنثى قوله لا تبث حديثنا تبثيثا بالموحدة ثم المثلثة وفي رواية بالنون بدل الموحدة وهما بمعنى بث الحديث ونث الحديث اظهره ويقال بالنون في الشر خاصة كما تقدم في كلام الأولى وقال بن الأعرابي النثاث المغتاب ووقع في رواية الزبير لولا تخرج قوله ولا تنفث بتشديد القاف بعدها مثلثة أي تسرع فيه بالخيانة تذهبه بالسرقة كذا في البخاري وضبطه عياض في مسلم بفتح أوله وسكون القاف قال وجاء تنقيثا مصدرا الأصل وهو جائز كما في قوله تعالى {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً} ووقع ثم مسلم في

(9/271)


الطريق التي بعد هذه وهي رواية سعيد بن سلمة ولا تنقث بالتشديد كما في رواية البخاري انتهى وضبطه الزمخشري بالفاء الثقيلة بدل القاف وقال في شرحه النفث والتفل بمعنى وأرادت المبالغة في براءتها من الخيانة فيحتمل أن كان محفوظا أن تكون إحدى الروايتين في مسلم بالقاف كما في رواية البخاري والأخرى بالفاء والميرة بكسر الميم وسكون التحتانية بعدها راء الزاد وأصله ما يحصله البدوي من الحضر ويحمله إلى منزله لينتفع به أهله وقال أبو سعيد التنقيث إخراج ما أهلها إلى غيرهم وقال بن حبيب معناه لا تفسده ويؤيده أن رواية الزبير ولا تفسد وذكر مسلم أن في رواية سعيد بن سلمة بالفاء في الموضعين وفي رواية أبي عبيد ولا تنقل وكذا للزبير عن عمه مصعب ولأبي عوانة ولا تنتقل وفي رواية عن بن الدفع ولا تغث بمعجمة ومثلثة أي تفسد وأصله من الغثة بالضم وهي الوسوسة وفي رواية للنسائي ولا تفتش ميرتنا تفشيشا بفاء ومعجمتين من الافشاش طلب الأكل من هنا وهنا ويقال فش ما على الخوان إذا أكله أجمع ووقع ثم الخطابي ولا تفسد ميرتنا تغشيشا بمعجمات وقال مأخوذ من غشيش الخبر إذا فسد تريد أنها تحسن مراعاة الطعام وتتعاهده بأن تطعم منه أولا طريا ولا تغفله فيفسد وقال القرطبي فسره الخطابي بأنها لا تفسد الطعام المخبوز بل تتعهده بأن تطعمهم منه أولا المازري وهذا إنما يتمشى على الرواية التي وقعت للخطابي وأما على رواية الصحيح ولا تملأ فلا يستقيم وإنما معناه أنها تتعهده بالتنظيف والحاصل أن الرواية في الأولى كما في الأصل ولا تنقث ميرتنا تنقيثا وعند الخطابي ولا تفسد ميرتنا تغشيشا بالغين المعجمة واتفقتا في الثانية على ولا تملأ بيتنا تعشيشا وهي بالعين المهملة وعلى رواية الخطابي هي أقعد بالسجع أعني تعشيشا من تنقيثا والله أعلم قوله ولا تملأ بيتنا تعشيشا بالمهملة ثم معجمتين أي أنها مصلحة للبيت مهتمة بتنظيفه وإلقاء كناسته وابعادها منه وإنها لا تكتفي بقم كناسته وتركها في جوانبه كأنها الاعشاش وفي رواية الطبراني ولا تعش بدل ولا تملأ ووقع في رواية سعيد بن سلمة التي علقها البخاري بعد بالغين المعجمة بدل المهملة وهو من الغش ضد الخالص أي لا تملؤه بالخيانة بل هي ملازمة للنصيحة فيما هي فيه وقال بعضهم هو كناية عن عفة فرجها والمراد أنها لا تملأ البيت وسخا بأطفالها من الزنا وقال بعضهم كناية عن وصفها بأنها لا تأتيهم بشر ولا تهمة وقال الزمخشري في تعشيشا بالعين المهملة يحتمل أن يكون من عششت النخلة إذا قل سعفها أي لا تملؤه اختزالا وتقليلا لما فيه ووقع في رواية الهيثم ولا تنجث اخبارنا تنجيثا بنون وجيم ومثلثة أي تستخرجها وأصل التنجثة ما يخرج من البئر من تراب ويقال أيضا بالموحدة بدل الجيم زاد الحارث بن أبي أسامة عن محمد بن جعفر الوكاني عن عيسى بن يونس قالت عائشة حتى ذكرت كلب أبي زرع وكذا ذكره الإسماعيلي عن البغوي عن الوركاني وزاد الهيثم بن عدي في روايته ضيف أبي زرع فما ضيف أبي زرع في شبع ورى ورتع طهاة أبي زرع فما طهاة أبي زرع لا تفتر ولا تعدى تقدح قدرا وتنصب أخرى فتلحق الآخرة بالأولى مال أبي زرع فما مال أبي زرع على الجمم معكوس وعلى العفاة محبوس وقوله ري ورتع بفتح الراء وبالمثناة أي تنعم ومسرة والطهاة بضم المهملة الطباخون وقوله لا تفتر بالفاء الساكنة ثم الشاة المضمومة
ـــــــ
(1) كذا، والصواب: في كلام الثانية.

(9/272)


أي لا تسكن ولا تضعف وقوله ولا تعدى بمهملة أي تصرف وتقدح بالقاف والحاء المهملة أي تفرق وتنصب أي ترفع على النار والجمم بالجيم جمع جمة هم القوم يسألون في الدية ومعكوس أي مردود والعفاة السائلون ومحبوس أي موقوف عليهم قوله "قالت خرج أبو زرع" في رواية النسائي خرج من عندي وفي رواية الحارث بن أبي أسامة ثم خرج من عندي قوله والأوطاب تمخض الاوطاب جمع وطب بفتح أوله وهو وعاء اللبن وذكر أبو سعيد أن كم على اوطاب على خلاف قياس العربية لأن فعلا لا يجمع على افعال بل على فعال وتعقب بأنه قال الخليل جمع الوطب وطاب وأوطاب وقد جمع فرد على افراد فبطل الحصر الذي ادعاه نعم القياس في فعل أفعل في القلة وفعال أو فعول في الكثرة قال عياض ورأيت في رواية حمزة عن النسائي والأوطاب بغير واو فإن كان مضبوطا فهو على إبدال الواو همزة كما قالوا اكاف ووكاف قال يعقوب بن السكيت أرادت أنه يبكر بخروجه من منزلها غدوة وقت قيام الخدم والعبيد لاشغالهم وانطوى في خبرها كثرة خير داره وغزر لبنه وأن عندهم ما يكفيهم ويفضل حتى يمخضوه ويستخرجوا زبده ويحتمل أن يكون أنها أرادت أن الوقت الذي خرج فيه كان في زمن الخصب وطيب الربيع قلت وكأن سبب ذكر ذلك توطئة للباعث على رؤية أبي زرع للمرأة على الحالة التي رآها عليها أي أنها من مخض اللبن تعبت فاستلقت تستريح فرآها أبو زرع على ذلك قوله فلقى امرأة معها ولدان لها كالفهدين في رواية الطبراني فأبصر امرأة لها ابنان كالفهدين وفي رواية بن الدفع كالصقرين وفي رواية الكاذي كالشبلين ووقع في رواية إسماعيل بن أبي أويس سارين حسنين نفيسين وفائدة وصفها لهما التنبيه تزويج أبي زرع لها لأنهم كانوا يرغبون في أن تكون أولادهم من النساء المنجبات فلذلك حرص أبو زرع عليها لما رآها وفي رواية للنسائي فإذا هو بأم غلامين ووصفها لهما بذلك للإشارة إلى صغر سنهما واشداد خلقهما وتواردت الروايات على إنهما ابناها الا ما رواه أبو معاوية عن هشام فإنه قال فمر على جارية معها اخواها قال عياض يتأول بأن المراد إنهما ولداها ولكنهما جعلا اخويها في حسن الصورة وكمال الخلقة فإن حمل على ظاهره كان أدل على صغر سنها ويؤيده قوله في رواية غندر فمر بجارية شابة كذا قال وليس لغندر في هذا الحديث رواية وإنما هذه رواية الحارث بن أبي أسامة عن محمد بن جعفر وهو الوركاني ولم يدرك الحارث محمد بن جعفر غندرا ويؤيد أنه الوركاني أن غندرا ما له رواية عن عيسى بن يونس وقد أخرجه الإسماعيلي عن البغوي عن محمد بن جعفر الوركاني ولكن لم يسق لفظه ثم أن كونهما اخويها يدل على صغر سنها فيه نظر لاحتمال أن يكونا من أبيها وولدا له بعد أن طعن في السن وهي بكر أولاده فلا تكون شابة ويمكن الجمع بين كونهما اخويها وولديها بأن تكون لما وضعت ولديها كانت أمها ترضع فأرضعتهما قوله يلعبان من تحت خصرها برمانتين في رواية الحارث من تحت درعها وفي رواية الهيثم من تحت صدرها قال أبو عبيد يريد أنها ذات كفل عظيم فإذا استلقت ارتفع كفلها بها من الأرض حتى يصير تحتها فجوة تجري فيها الرمانة قال وذهب بعض الناس إلى الثديين وليس هذا موضعه اه وأشار بذلك إلى ما جزم به إسماعيل بن أبي أويس ويؤيد قول أبي عبيد ما وقع في رواية أبي معاوية وهي مستلقية على قفاها ومعهما رمانة يرميان بها من تحتها فتخرج من الجانب الآخر من عظم اليتيها لكن رجح عياض تأويل الرمانتين بالنهدين من جهة أن سياق أبي معاوية هذا لا يشبه كلام أم زرع قال فلعله من كلام بعض رواته أورده على

(9/273)


سبيل التفسير الذي ظنه فأدرج في الخبر وإلا لم تجر العادة ورميهم الرمان تحت أصلاب أمهاتهم وما الحامل لها على الاستلقاء حتى يصفان ذلك ويرى الرجال منها ذلك بل الاشبه أن يكون قولها يلعبان من تحت خصرها أو صدرها أي أن ذلك مكان الولدين منها وأنهما كانا في حضنيها أو جنبيها وفي تشبيه النهدين بالرمانتين إشارة إلى صغر سنها وإنها لم تترهل حتى تنكسر ثدياها وتتدلى اه وما رده ليس ببعيد أما نفي العادة فمسلم لكن من أين له أن ذلك لم يقع اتفاقا بأن تكون لما استلقت وولداها معها شغلتهما عنها بالرمانة يلعبان بها ليتركاها تستريح فاتفق إنهما لعبا بالهيئة التي حكيت وأما الحامل لها على الاستلقاء فقد قدمت احتمال أن يكون من التعب الذي حصل لها من المخض وقد يقع ذلك للشخص فيستلقي موضع الاستلقاء والأصل عدم الادراج الذي تخيله وأن كان ما اختاره من أن المراد بالرمانة ثديها أولي لأنه ادخل في وصف المرأة بصغر سنها والله أعلم قوله فطلقني ونكحها في رواية الحارث فأعجبته فطلقني وفي رواية أبي معاوية فخطبها أبو زرع فتزوجها فلم تزل به حتى طلق أم زرع فأفاد السبب في رغبة أبي زرع فيها ثم في تطليقه أم زرع قوله فنكحت بعده رجلا في رواية النسائي فاستبدلت وكل بدل أعور وهو مثل معناه أن البدل من الشيء غالبا لا يقوم مقام المبدل منه بل هو دونه وأنزل منه والمراد بالاعور المعيب قال ثعلب الأعور الرديء من كل شيء كما يقال كلمة عوراء أي قبيحة وهذا إنما هو على الغالب وبالنسبة فأخبرت أم زرع أن الزوج الثاني لم يسد مسد أبي زرع قوله سريا بمهملة ثم راء ثم تحتانية ثقيلة أي من سراة الناس وهم كبراؤهم في حسن الصورة والهيئة والسري من كل شيء خياره وفسره الحربي بالسخى ووقع في رواية الزبير شابا سريا قوله ركب شريا بمعجمة ثم راء ثم تحتانية ثقيلة قال بن السكيت تعني فرسا خيارا فائقا وفي رواية الحارث ركب فرسا عربيا وفي رواية الزبير اعوجيا وهو منسوب إلى اعوج فرس مشهور تنسب إليه العرب جياد الخيل كان لبني كندة ثم لبني سليم ثم لبني هلال وقيل لبني غنى وقيل لبني كلاب وكل هذه القبائل بعد كندة من قيس قال بن خالويه كان لبعض ملوك كندة فغزا قوما من قيس فقتلوه وأخذوا فرسه وقيل أنه ركب صغيرا رطبا قبل أن يشتد فاعوج وكبر على ذلك والشرى الذي يستشرى في سيره أي يمضي فيه بلا فتور وشري الرجل في الأمر إذا لج فيه وتمادى وشري البرق إذا كثر لمعانه قوله وأخذ خطيا بفتح الخاء المعجمة وكسر الطاء المهملة نسبة إلى الخط صفة موصوف وهو الرمح ووقع في رواية الحارث وأخذ رمحا خطيا والخط موضع بنواحي البحرين تجلب منه الرماح ويقال أصلها من الهند تحمل في البحر إلى الخط المكان المذكور وقيل أن سفينة في أول الزمان كانت مملوءة رماحا قذفها البحر إلى الخط فخرجت رماحها فيها فنسبت إليها وقيل أن الرماح إذا كانت على جانب البحر تصير كالخط بين البر والبحر فقيل لها الخطية لذلك وقيل الخط منبت الرماح قال عياض ولا يصح وقيل الخط الساحل وكل ساحل خط قوله الرواح بمهملتين من الرواح ومعناه أتى بها إلى المراح وهو موضع مبيت الماشية قال بن أبي أويس معناه أنه غزا فغنم فأتى بالنعم الكثيرة قوله علي بالتشديد وفي رواية الطبراني وأراح على بيتي قوله نعما بفتحتين وهو جمع لا واحد له من لفظه وهو الإبل خاصة ويطلق على جميع المواشي إذا كان فيها إبل وفي رواية حكاها عياض نعما بكسر أوله جمع نعمة والاشهر الأول قوله ثريا بمثلثة أي كثيرة والثرى المال الكثير من الإبل وغيرها يقال اثرى فلان فلانا إذا كثره فكان

(9/274)


في شيء من الأشياء أكثر منه وذكر ثريا وأن كان وصف مؤنث لمراعاة السجع ولان كل ما ليس تأنيثه حقيقيا يجوز فيه التذكير والتأنيث قوله "وأعطاني من كل رائحة" براء وتحتانية ومهملة في رواية لمسلم ذابحة بمعجمة ثم موحدة ثم مهملة أي مذبوحة مثل عيشة راضية أي مرضية فالمعنى أعطاني من كل شيء يذبح زوجا وفي رواية الطبراني من كل سائمة والسائمة الراعية والرائحة الآتية وقت الرواح وهو آخر النهار قوله "زوجا" أي اثنين من كل شيء من الحيوان الذي يرعى والزوج يطلق على الإثنين وعلى الواحد أيضا وأرادت بذلك كثرة ما أعطاها وأنه لم يقتصر على الفرد من ذلك قوله "وقال كلي أم زرع وميرى أهلك" أي صليهم وأوسعي عليهم بالميرة بكسر الميم وهي الطعام والحاصل أنها وصفته بالسؤدد في ذاته والشجاعة والفضل والجود بكونه أباح لها أن تأكل ما شاءت من ماله وتهدي منه ما شاءت لأهلها مبالغة في اكرامها ومع ذلك فكانت أحواله عندها محتقرة بالنسبة لأبي زرع وكان سبب ذلك أن أبا زرع كان أول ازواجها فسكنت محبته في قلبها كما قيل ما الحب الا للحبيب الأول زاد أبي معاوية في روايته فتزوجها رجل آخر فأكرمها أيضا فكانت تقول أكرمني وفعل لي وتقول في آخر ذلك لو جمع ذلك كله قوله "قالت فلو جمعت" في رواية الهيثم فجمعت ذلك كله وفي رواية الطبراني فقلت لو كان هذا أجمع في أصغر قوله "كل شيء" في رواية للنسائي كل الذي قوله أعطانيه في رواية مسلم أعطاني بلا هاء قوله "ما بلغ أصغر آنية أبي زرع" في رواية بن أبي أويس ما ملأ إناء من آنية أبي زرع وفي رواية للنسائي ما بلغت إناء وفي رواية الطبراني فلو جمعت كل شيء أصبته منه فجعلته في أصغر وعاء من أوعية أبي زرع ما ملأه لأن الإناء أو الوعاء لا يسع ما ذكرت أنه أعطاها من أصناف النعم ويظهر لي حمله على مستحيل وهي أنها أرادت أن الذي أعطاها جملة أراد أنها توزعه على المدة إلى أن يجيء أوان الغزو فلو وزعته لكان حظ كل يوم مثلا لا يملأ أصغر آنية أبي زرع التي كان يطبخ فيها في كل يوم على الدوام والاستمرار بغير نقص ولا قطع قوله "قالت عائشة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" في رواية الترمذي فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم زاد الكاذي في روايته يا عائش وفي رواية بن أبي أويس يا عائشة قوله "كنت لك" في رواية للنسائي فكنت لك وفي رواية الزبير أنا لك وهي تفسير المراد برواية كنت كما جاء في تفسير قوله تعالى {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} أي أنتم ومنه {مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ} أي من هو في المهد ويحتمل أن تكون كان هنا على بابها والمراد بها الاتصال كما في قوله تعالى {وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} إذ المراد بيان زمان ماض في الجملة أي كنت لك في سابق علم الله قوله كأبي زرع لام زرع زاد في رواية الهيثم بن عدي في الألفة والوفاء لا في الفرقة والجلاء وزاد الزبير في آخره الا أنه طلقها وإني لا اطلقك ومثله في رواية للطبراني وزاد النسائي في رواية له والطبراني قالت عائشة يا رسول الله بل أنت خير من أبي زرع وفي أول رواية للزبير بأبي وأمي لانت خير لي من أبي زرع لام زرع وكأنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك تطييبا لها وطمأنينة لقلبها ودفعا لإيهام عموم التشبيه بجملة أحوال أبي زرع إذ لم يكن فيه ما تذمه النساء سوى ذلك وقد وقع الإفصاح بذلك وأجابت هي عن ذلك جواب مثلها في فضلها وعلمها تنبيه وقع ثم أبي يعلى عن سويد بن سعيد عن سفيان بن عيينة عن داود بن شابور عن عمر بن عبد الله بن عروة عن جده عروة عن عائشة أنها حدثت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبي زرع وأم زرع وذكرت شعر أبي زرع في أم زرع كذا فيه ولم يسق لفظه ولم اقف في شيء من

(9/275)


طرقه على هذا الشعر وأخرجه أبو عوانة من طريق عبد الله بن عمران والطبراني من طريق بن أبي عمر كلاهما عن بن عيينة بإسناده ولم يسق لفظه أيضا قوله "قال سعيد بن سلمة" هو بن أبي الحسام وهو مدني صدوق ما له في البخاري الا هذا الموضع قوله قال هشام هو بن عروة يعني بهذا الإسناد وقد وصله مسلم عن الحسن بن علي عن موسى بن إسماعيل عنه ولم يسق لفظه بتمامه بل ذكر أن عنده عيانا ولم يشك وأنه قال وصفر ردائها وخير نسائها وعقر جارتها وقال ولا تنقث ميرتنا تنقيثا وقال وأعطاني من كل رائحة وقد بينت ذلك كله وهذا الذي نبه عليه البخاري من قوله ولا تعشش بيتنا تعشيشا اختلف في ضبطه فقيل بالغين المعجمة وقيل بالمهملة وقد تقدم بيانه وقد وصله أبو عوانة في صحيحه والطبراني بطوله وإسناده موافق لعيسى بن يونس وأشرت إلى ما في روايته من المخالفة فيما تقدم مفصلا وذكر الجياني أنه وقع ثم أبي زيد المروزي بلفظ قال سعيد بن سلمة عن أبي سلمة وعشش بيتنا تعشيشا وهو خطأ في السند والمتن والصواب ولا تعشش وقال موسى حدثنا سعيد عن هشام قوله "قال أبو عبد الله وقال بعضهم فانقمح بالميم وهذا أصح" أبو عبد الله المذكور هو البخاري المصنف وهو يوضح أن الذي وقع في أصل روايته انقنح بالنون وقد رواه انقمح بالميم من طريق عيسى بن يونس أيضا النسائي وأبو يعلى وابن حبان والجوزقي وغيرهم وكذا وقع في رواية سعيد بن سلمة المذكورة وفي رواية أبي عبيد أيضا وقد تقدم بيان الاختلاف في ضبطها ومعناها وفي هذا الحديث من ما تقدم حسن عشرة المرء أهله بالتأنيس والمحادثة بالأمور المباحة ما لم يفض ذلك إلى ما يمنع وفيه المزح أحيانا وبسط النفس به ومداعبة الرجل أهله واعلامه بمحبته لها ما لم يؤد ذلك إلى مفسدة تترتب على ذلك من تجنيها عليه واعراضها عنه وفيه منع الفخر بالمال وبيان جواز ذكر الفضل بأمور الدين وأخبار الرجل أهله بصورة حاله معهم وتذكيرهم بذلك لا سيما ثم وجود ما طبعن عليه من كفر الإحسان وفيه ذكر المرأة إحسان زوجها وفيه إكرام الرجل بعض نسائه بحضور ضرائرها بما يخصها به من قول أو فعل ومحله ثم السلامة من الميل المفضي إلى الجور وقد تقدم في أبواب الهبة جواز تخصيص بعض الزوجات بالتحف واللطف إذا استوفى للأخرى حقها وفيه جواز تحدث الرجل مع زوجته نوبتها وفيه الحديث عن الأمم الخالية وضرب الأمثال بهم اعتبارا وجواز الانبساط بذكر طرف الأخبار ومستطابات النوادر تنشيطا للنفوس وفيه حض النساء على الوفاء لبعولتهن وقصر الطرف عليهم والشكر لجميلهم ووصف المرأة زوجها بما تعرفه من حسن وسوء وجواز المبالغة في الأوصاف ومحله إذا لم يصر ذلك ديدنا لأنه يفضي إلى خرم المروءة وفيه تفسير ما يجمله المخبر من الخبر أما بالسؤال عنه وأما ابتداء من تلقاء نفسه وفيه أن ذكر المرء بما فيه من العيب جائز إذا قصد التنفير عن ذلك الفعل ولا يكون ذلك غيبة أشار إلى ذلك الخطابي بالإجماع أبو عبد الله التميمي شيخ عياض بأن الاستدلال بذلك إنما يتم أن لو كان النبي صلى الله عليه وسلم سمع المرأة تغتاب زوجها فأقرها واما الحكاية عمن ليس بحاضر فليس كذلك وإنما هو نظير من قال في الناس شخص يسيء ولعل هذا هو الذي أراده الخطابي فلا تعقب عليه وقال المازري قال بعضهم ذكر بعض هؤلاء النسوة أزواجهن بما يكرهون ولم يكن ذلك غيبة لكونهم لا يعرفون بأعيانهم وأسمائهم قال المازري وإنما يحتاج إلى هذا الاعتذار لو كان من تحدث عنده بهذا الحديث سمع كلامهن في اغتياب أزواجهن فأقرهن على ذلك فأما والواقع خلاف ذلك وهو أن عائشة حكت قصة عن نساء مجهولات غائبات فلا ولو أن

(9/276)


امرأة وصفت زوجها بما يكرهه لكان غيبة مجرمة على من يقوله ويسمعه الا أن كانت في مقام الشكوى منه ثم الحاكم وهذا في حق المعين فأما المجهول الذي لا يعرف فلا حرج في سماع الكلام فيه لأنه لا يتأذى الا إذا عرف أن من ذكر ثم أن هؤلاء الرجال مجهولون لا تعرف أسماؤهم ولا أعيانهم فضلا عن أسمائهم ولم يثبت النسوة إسلام حتى يجري عليهم حكم الغيبة فبطل الاستدلال به لما ذكر وفيه تقوية لمن كره نكاح من كان لها زوج لما ظهر من اعتراف أم زرع بإكرام زوجها الثاني لها بقدر طاقته ومع ذلك فحقرته وصغرته بالنسبة إلى الزوج الأول وفيه أن الحب يستر الإساءة لأن أبا زرع مع اساءته لها بتطليقها لم يمنعها ذلك من المبالغة في وصفه إلى أن بلغت حد الأفراط والغلو وقد وقع في بعض الإشارة إشارة إلى أن أبا زرع ندم على طلاقها وقال في ذلك شعرا ففي رواية عمر بن عبد الله بن عروة عن جده عن عائشة أنها حدثت عن النبي صلى الله عليه وسلم عن أبي زرع وأم زرع وذكرت شعر أبي زرع على أم زرع وفيه جواز وصف النساء ومحاسنهن للرجل لكن محله إذا كن مجهولات والذي يمنع من ذلك وصف المرأة المعينة بحضرة الرجل أو أن يذكر من وصفها ما لا يجوز للرجال تعمد النظر إليه وفيه أن التشبيه لا يستلزم مساواة المشبه بالمشبه به من كل جهة لقوله صلى الله عليه وسلم كنت لك كأبي زرع والمراد ما بينه بقوله في رواية الهيثم في الألفة إلى آخره لا في جميع ما وصف به أبو زرع من الثروة الزائدة والابن والخادم وغير ذلك وما لم يذكر من أمور الدين كلها وفه أن كناية الطلاق لا توقعه الا مع مصاحبة النية فإنه صلى الله عليه وسلم تشبه بأبي زرع وأبو زرع قد طلق فلم يستلزم ذلك وقوع الطلاق لكونه لم يقصد إليه وفيه جواز التأسي بأهل الفضل من كل أمة لأن أم زرع أخبرت عن أبي زرع بجميل عشرته فامتثله النبي صلى الله عليه وسلم كذا قال المهلب واعترضه عياض فأجاد وهو أنه ليس في السياق ما يقتضي أنه تأسى به بل فيه أنه أخبر انحاله معها مثل حال أم زرع نعم ما استنبطه صحيح باعتبار أن الخبر إذا سيق وظهر من الشارع تقريره مع الاستحسان له جاز التأسي به ونحو مما قاله المهلب قول آخر أن فيه قبول خبر الواحد لأن أم زرع أخبرت بحال أبي زرع فامتثله النبي صلى الله عليه وسلم بالإجماع عياض أيضا فأجاد نعم يؤخذ منه القبول بطريق أن النبي صلى الله عليه وسلم اقره ولم ينكره وفيه جواز قول بأبي وأمي ومعناه فداك أبي وأمي وسيأتي تقريره في كتاب الأدب أن شاء الله تعالى وفيه مدح الرجل في وجهه إذا علم أن ذلك لا يفسده وفه جواز القول للمتزوج بالرفاء والبنين أن ثبتت اللفظة الزائدة أخيرا وقد تقدم البحث فيه قبل بأبواب وفيه أن من شأن النساء إذا تحدثن أن لا يكون حديثهن غالبا الا في الرجال وهذا بخلاف الرجال فإن غالب حديثهم إنما هو فيما يتعلق بأمور المعاش وفيه جواز الكلام بالألفاظ الغريبة واستعمال السجع في الكلام إذا لم يكن مكلفا قال عياض ما ملخصه في كلام هؤلاء النسوة من فصاحة الألفاظ وبلاغة العبارة والبديع ما لا مزيد عليه ولا سيما كلام أم زرع فإنه مع كثرة فصوله وقلة فضوله مختار الكلمات واضح السمات نير النسمات قد قدرت ألفاظه قدر معانيه وقررت قواعده وشيدت مبانيه وفي كلامهن ولا سيما الأولى والعاشرة أيضا من فنون التشبيه والاستعارة والكناية والإشارة والموازنة والترصيع والمناسبة والتوسيع والمبالغة والتسجيع والتوليد وضرب المثل وأنواع المجانسة والزام ما لا يلزم والايغال والمقابلة والمطابقة والاحتراس وحسن التفسير والترديد وغرابة التقسيم وغير ذلك أشياء ظاهرة لمن تأملها وقد اشرنا إلى بعضها فيما تقدم وكمل ذلك أن غالب ذلك افرغ في قالب الانسجام وأتى به الخاطر بغير تكلف وجاء لفظه تابعا لمعناه منقادا مستكره ولا منافر والله يمن على من يشاء بما شاء لا إله إلا هو قوله "حدثنا

(9/277)


هشام" هو ابن يوسف الصنعاني. قوله: "قدر الجارية الحديثة السن" أي القريبة العهد بالصغر، وقد بينت في شرح المتن في العيدين أنها كانت يومئذ بنت خمس عشرة سنة أو أزيد، ووقع عند مسلم من رواية عمرو بن الحارث عن الزهري "الجارية العربة" وهي بفتح المهملة كسر الراء بعدها موحدة، وتقدم تفسيره في صفة الجنة من بدء الخلق.

(9/278)


83- باب مَوْعِظَةِ الرَّجُلِ ابْنَتَهُ لِحَالِ زَوْجِهَا
5191- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي ثَوْرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ لَمْ أَزَلْ حَرِيصًا عَلَى أَنْ أَسْأَلَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ عَنْ الْمَرْأَتَيْنِ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّتَيْنِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} حَتَّى حَجَّ وَحَجَجْتُ مَعَهُ وَعَدَلَ وَعَدَلْتُ مَعَهُ بِإِدَاوَةٍ فَتَبَرَّزَ ثُمَّ جَاءَ فَسَكَبْتُ عَلَى يَدَيْهِ مِنْهَا فَتَوَضَّأَ فَقُلْتُ لَهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ الْمَرْأَتَانِ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّتَانِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} قَالَ وَاعَجَبًا لَكَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ هُمَا عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ ثُمَّ اسْتَقْبَلَ عُمَرُ الْحَدِيثَ يَسُوقُهُ قَالَ كُنْتُ أَنَا وَجَارٌ لِي مِنْ الأَنْصَارِ فِي بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ وَهُمْ مِنْ عَوَالِي الْمَدِينَةِ وَكُنَّا نَتَنَاوَبُ النُّزُولَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَنْزِلُ يَوْمًا وَأَنْزِلُ يَوْمًا فَإِذَا نَزَلْتُ جِئْتُهُ بِمَا حَدَثَ مِنْ خَبَرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنْ الْوَحْيِ أَوْ غَيْرِهِ وَإِذَا نَزَلَ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ وَكُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ نَغْلِبُ النِّسَاءَ فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى الأَنْصَارِ إِذَا قَوْمٌ تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ فَطَفِقَ نِسَاؤُنَا يَأْخُذْنَ مِنْ أَدَبِ نِسَاءِ الأَنْصَارِ فَصَخِبْتُ عَلَى امْرَأَتِي فَرَاجَعَتْنِي فَأَنْكَرْتُ أَنْ تُرَاجِعَنِي قَالَتْ وَلِمَ تُنْكِرُ أَنْ أُرَاجِعَكَ فَوَاللَّهِ إِنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيُرَاجِعْنَهُ وَإِنَّ إِحْدَاهُنَّ لَتَهْجُرُهُ الْيَوْمَ حَتَّى اللَّيْلِ فَأَفْزَعَنِي ذَلِكَ وَقُلْتُ لَهَا قَدْ خَابَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكِ مِنْهُنَّ ثُمَّ جَمَعْتُ عَلَيَّ ثِيَابِي فَنَزَلْتُ فَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ فَقُلْتُ لَهَا أَيْ حَفْصَةُ أَتُغَاضِبُ إِحْدَاكُنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْيَوْمَ حَتَّى اللَّيْلِ قَالَتْ نَعَمْ فَقُلْتُ قَدْ خِبْتِ وَخَسِرْتِ أَفَتَأْمَنِينَ أَنْ يَغْضَبَ اللَّهُ لِغَضَبِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَهْلِكِي لاَ تَسْتَكْثِرِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلاَ تُرَاجِعِيهِ فِي شَيْءٍ وَلاَ تَهْجُرِيهِ وَسَلِينِي مَا بَدَا لَكِ وَلاَ يَغُرَّنَّكِ أَنْ كَانَتْ جَارَتُكِ أَوْضَأَ مِنْكِ وَأَحَبَّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ عَائِشَةَ قَالَ عُمَرُ وَكُنَّا قَدْ تَحَدَّثْنَا أَنَّ غَسَّانَ تُنْعِلُ الْخَيْلَ لِغَزْوِنَا فَنَزَلَ صَاحِبِي الأَنْصَارِيُّ يَوْمَ نَوْبَتِهِ فَرَجَعَ إِلَيْنَا عِشَاءً فَضَرَبَ بَابِي ضَرْبًا شَدِيدًا وَقَالَ أَثَمَّ هُوَ فَفَزِعْتُ فَخَرَجْتُ إِلَيْهِ فَقَالَ قَدْ حَدَثَ الْيَوْمَ أَمْرٌ عَظِيمٌ قُلْتُ مَا هُوَ أَجَاءَ غَسَّانُ قَالَ لاَ بَلْ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ وَأَهْوَلُ طَلَّقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءَهُ وَقَالَ عُبَيْدُ بْنُ حُنَيْنٍ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ عُمَرَ فَقَالَ اعْتَزَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَزْوَاجَهُ فَقُلْتُ خَابَتْ حَفْصَةُ وَخَسِرَتْ قَدْ كُنْتُ أَظُنُّ هَذَا يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ فَجَمَعْتُ عَلَيَّ ثِيَابِي فَصَلَّيْتُ صَلاَةَ الْفَجْرِ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَشْرُبَةً لَهُ فَاعْتَزَلَ

(9/278)


فِيهَا وَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ فَإِذَا هِيَ تَبْكِي فَقُلْتُ مَا يُبْكِيكِ أَلَمْ أَكُنْ حَذَّرْتُكِ هَذَا أَطَلَّقَكُنَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ لاَ أَدْرِي هَا هُوَ ذَا مُعْتَزِلٌ فِي الْمَشْرُبَةِ فَخَرَجْتُ فَجِئْتُ إِلَى الْمِنْبَرِ فَإِذَا حَوْلَهُ رَهْطٌ يَبْكِي بَعْضُهُمْ فَجَلَسْتُ مَعَهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَجِدُ فَجِئْتُ الْمَشْرُبَةَ الَّتِي فِيهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ لِغُلاَمٍ لَهُ أَسْوَدَ اسْتَأْذِنْ لِعُمَرَ فَدَخَلَ الْغُلاَمُ فَكَلَّمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ كَلَّمْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرْتُكَ لَهُ فَصَمَتَ فَانْصَرَفْتُ حَتَّى جَلَسْتُ مَعَ الرَّهْطِ الَّذِينَ عِنْدَ الْمِنْبَرِ ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَجِدُ فَجِئْتُ فَقُلْتُ لِلْغُلاَمِ اسْتَأْذِنْ لِعُمَرَ فَدَخَلَ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ قَدْ ذَكَرْتُكَ لَهُ فَصَمَتَ فَرَجَعْتُ فَجَلَسْتُ مَعَ الرَّهْطِ الَّذِينَ عِنْدَ الْمِنْبَرِ ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَجِدُ فَجِئْتُ الْغُلاَمَ فَقُلْتُ اسْتَأْذِنْ لِعُمَرَ فَدَخَلَ ثُمَّ رَجَعَ إِلَيَّ فَقَالَ قَدْ ذَكَرْتُكَ لَهُ فَصَمَتَ فَلَمَّا وَلَّيْتُ مُنْصَرِفًا قَالَ إِذَا الْغُلاَمُ يَدْعُونِي فَقَالَ قَدْ أَذِنَ لَكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا هُوَ مُضْطَجِعٌ عَلَى رِمَالِ حَصِيرٍ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ فِرَاشٌ قَدْ أَثَّرَ الرِّمَالُ بِجَنْبِهِ مُتَّكِئًا عَلَى وِسَادَةٍ مِنْ أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ ثُمَّ قُلْتُ وَأَنَا قَائِمٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَطَلَّقْتَ نِسَاءَكَ فَرَفَعَ إِلَيَّ بَصَرَهُ فَقَالَ لاَ فَقُلْتُ اللَّهُ أَكْبَرُ ثُمَّ قُلْتُ وَأَنَا قَائِمٌ أَسْتَأْنِسُ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ رَأَيْتَنِي وَكُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ نَغْلِبُ النِّسَاءَ فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ إِذَا قَوْمٌ تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ فَتَبَسَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ رَأَيْتَنِي وَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ فَقُلْتُ لَهَا لاَ يَغُرَّنَّكِ أَنْ كَانَتْ جَارَتُكِ أَوْضَأَ مِنْكِ وَأَحَبَّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ عَائِشَةَ فَتَبَسَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبَسُّمَةً أُخْرَى فَجَلَسْتُ حِينَ رَأَيْتُهُ تَبَسَّمَ فَرَفَعْتُ بَصَرِي فِي بَيْتِهِ فَوَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ فِي بَيْتِهِ شَيْئًا يَرُدُّ الْبَصَرَ غَيْرَ أَهَبَةٍ ثَلاَثَةٍ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ فَلْيُوَسِّعْ عَلَى أُمَّتِكَ فَإِنَّ فَارِسَ وَالرُّومَ قَدْ وُسِّعَ عَلَيْهِمْ وَأُعْطُوا الدُّنْيَا وَهُمْ لاَ يَعْبُدُونَ اللَّهَ فَجَلَسَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ مُتَّكِئًا فَقَالَ أَوَفِي هَذَا أَنْتَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ إِنَّ أُولَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلُوا طَيِّبَاتِهِمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ اسْتَغْفِرْ لِي فَاعْتَزَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءَهُ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ الْحَدِيثِ حِينَ أَفْشَتْهُ حَفْصَةُ إِلَى عَائِشَةَ تِسْعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً وَكَانَ قَالَ مَا أَنَا بِدَاخِلٍ عَلَيْهِنَّ شَهْرًا مِنْ شِدَّةِ مَوْجِدَتِهِ عَلَيْهِنَّ حِينَ عَاتَبَهُ اللَّهُ فَلَمَّا مَضَتْ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ لَيْلَةً دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ فَبَدَأَ بِهَا فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ كُنْتَ قَدْ أَقْسَمْتَ أَنْ لاَ تَدْخُلَ عَلَيْنَا شَهْرًا وَإِنَّمَا أَصْبَحْتَ مِنْ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ لَيْلَةً أَعُدُّهَا عَدًّا فَقَالَ الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ لَيْلَةً فَكَانَ ذَلِكَ الشَّهْرُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً قَالَتْ عَائِشَةُ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى آيَةَ التَّخَيُّرِ فَبَدَأَ بِي أَوَّلَ امْرَأَةٍ مِنْ نِسَائِهِ فَاخْتَرْتُهُ ثُمَّ خَيَّرَ نِسَاءَهُ كُلَّهُنَّ فَقُلْنَ مِثْلَ مَا قَالَتْ عَائِشَةُ"
قوله: "باب موعظة الرجل ابنته لحال زوجها" أي لأجل زوجها. قوله: "عن ابن عباس قال لم أزل حريصا على أن أسأل عمر" في رواية عبيد بن حنين الماضية في تفسير التحريم عن ابن عباس "مكثت سنة أريد أن أسأل عمر". قوله:" عن

(9/279)


المرأتين" في رواية عبيد "عن آية". قوله: "اللتين" كذا في جميع النسخ، ووقع عند ابن التين "التي" بالإفراد وخطأها فقال: الصواب "اللتين" بالتثنية. قلت: ولو كانت محفوظة لأمكن توجيهها. قوله: "حتى حج وحججت معه" في رواية عبيد "فما أستطيع أن أسأله هيبة له، حتى خرج حاجا" وفي رواية يزيد بن رومان عند ابن مردويه عن ابن عباس "أردت أن أسأل عمر فكنت أهابه، حتى حججنا معه، فلما قضينا حجنا قال: مرحبا بابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما حاجتك" ؟ قوله: "وعدل" أي عن الطريق الجادة المسلوكة إلى طريق لا يسلك غالبا ليقضي حاجته، ووقع في رواية عبيد "فخرجت معه، فلما رجعنا وكنا ببعض الطريق عدل إلى الأراك لحاجة له" وبين مسلم في رواية عبيد بن حنين من طريق حماد بن سلمة وابن عيينة أن المكان المذكور هو مر الظهران، وقد تقدم ضبطه في المغازي. قوله: "وعدلت معه بإداوة فتبرز" أي قضى حاجته، وتقدم ضبط الإداوة وتفسيرها في كتاب الطهارة، وأصل تبرز من البراز وهو الموضع الخالي البارز عن البيوت، ثم أطلق على نفس الفعل. وفي رواية حماد بن سلمة المذكورة عند الطيالسي "فدخل عمر الأراك فقضى حاجته، وقعدت له حتى خرج" فيؤخذ منه أن المسافر إذا يجد الفضاء لقضاء حاجته استتر بما يمكنه الستر به من شجر البادية. قوله: "فسكبت على يديه منها فتوضأ" في رواية عقيل عن الزهري الماضية في المظالم "فسكبت من الإداوة". قوله:" فقلت له: يا أمير المؤمنين من المرأتان "في رواية الطيالسي" فقلت يا أمير المؤمنين أريد أن أسألك عن حديث منذ سنة فتمنعني هيبتك أن أسألك "وتقدم في التفسير من رواية عبيد بن حنين" فوقفت له حتى فرغ ثم سرت معه فقلت: يا أمير المؤمنين من اللتان تظاهرتا على النبي صلى الله عليه وسلم من أزواجه؟ قال: تلك حفصة وعائشة. فقلت: والله إن كنت لأريد أن أسألك عن هذا منذ سنة فما أستطيع هيبة لك. قال: فلا تفعل، ما ظننت أن عندي من علم فاسألني، فإن كان لي علم خبرتك به "وفي رواية يزيد بن رومان المذكورة فقال: "ما تسأل عنه أحدا أعلم بذلك مني". قوله: "اللتان" كذا في الأصول، وحكى ابن التين أنه وقع عنده "التي" بالإفراد، قال والصواب "اللتان" بالتثنية. وقوله قال الله تعالى :{إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا}" أي قال الله تعالى لهما إن تتوبا من التعاون على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويدل عليه قوله بعد {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ}" أي تتعاونا كما تقدم تفسيره في تفسير السورة، ومعنى تظاهرهما أنهما تعاونتا حتى حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفسه ما حرم كما سيأتي بيانه، وقوله: {قُلُوبُكُمَا}" كثر استعمالهم في موضع التثنية بلفظ الجمع كقولهم وضعا رحالهما أي رحلي راحلتيهما. قوله: "واعجبا لك يا ابن عباس" تقدم شرحه في العلم وأن عمر تعجب من ابن عباس مع شهرته بعلم التفسير كيف خفي عليه هذا القدر مع شهرته وعظمته في نفس عمر وتقدمه في العلم على غيره كما تقدم بيان ذلك واضحا في تفسير سورة النصر، ومع ما كان ابن عباس مشهورا به من الحرص على طلب العلم ومداخلة كبار الصحابة وأمهات المؤمنين فيه، أو تعجب من حرصه على طلب فنون التفسير حتى معرفة المبهم، ووقع في "الكشاف" كأنه كره ما سأله عنه. قلت: وقد جزم بذلك الزهري في هذه القصة بعينها فيما أخرجه مسلم من طريق معمر عنه قال بعد قوله: "قال عمر واعجبا لك يا ابن عباس" : قال الزهري كره والله ما سأله عنه ولم يكتمه ولا يستبعد القرطبي ما فهمه الزهري، ولا بعد فيه. قلت: ويجوز في "عجبا" التنوين وعدمه، قال ابن مالك: "وا" في قوله: "وا عجبا" إن كان منونا فهو اسم فعل بمعنى أعجب، ومثله واها ووي، وقوله بعده عجبا جيء بها تعجبا توكيدا، وإن كان بغير تنوين فالأصل فيه وا عجبي فأبدلت الكسرة فتحة فصارت

(9/280)


قصة أخرى، فأخرج ابن سعد من طريق عمرة عن عائشة قالت: "أهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم هدية، فأرسل إلى كل امرأة من نسائه نصيبها، فلم ترض زينب بنت جحش بنصيها فزادها مرة أخرى، فلم ترض فقالت عائشة: لقد أقمأت وجهك ترد عليك الهدية، فقال: لأنتن أهون على الله من أن تقمئنني، لا أدخل عليكن شهرا" الحديث. ومن طريق الزهري عن عروة عن عائشة نحوه وفيه: "ذبح ذبحا فقسمه بين أزواجه، فأرسل إلى زينب بنصيبها فردته، فقال زيدوها ثلاثا، كل ذلك ترده" فذكر نحوه. وفيه قول قول آخر أخرجه مسلم من حديث جابر قال: "جاء أبو بكر والناس جلوس بباب النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤذن لأحد منهم فأذن لأبي بكر فدخل ثم جاء عمر فاستأذن فأذن له فوجد النبي صلى الله عليه وسلم جالسا وحوله نساؤه" فذكر الحديث وفيه: "هن حولي كما ترى يسألنني النفقة، فقام أبو بكر إلى عائشة وقام عمر إلى حفصة، ثم اعتزلهن شهرا" فذكر نزول آية التخيير، ويحتمل أن يكون مجموع هذه الأشياء كان سببا لاعتزالهن. وهذا هو اللائق بمكارم أخلاقه صلى الله عليه وسلم وسعة صدره وكثرة صفحه، وأن ذلك لم يقع منه حتى تكرر موجبه منهن صلى الله عليه وسلم ورضى عنهن. وقصر ابن الجوزي فنسب قصة الذبح لابن حبيب بغير إسناد وهي مسندة عند ابن سعد، وأبهم قصة النفقة وهي في صحيح مسلم، والراجح من الأقوال كلها قصة مارية لاختصاص عائشة وحفصة بها بخلاف العسل فإنه اجتمع فيه جماعة منهن كما سيأتي، ويحتمل أن تكون الأسباب جميعها اجتمعت فأشير إلى أهمها، ويؤيده شمول الحلف للجميع ولو كان مثلا في قصة مارية فقط لاختص بحفصة وعائشة. ومن اللطائف أن الحكمة في الشهر مع أن مشروعية الهجر ثلاثة أيام أن عدتهن كانت تسعة فإذا ضربت في ثلاثة كانت سبعة وعشرين واليومان لمارية لكونها كانت أمة فنقصت عن الحرائر والله أعلم. قوله: "فاعتزل النبي نساءه من أجل ذلك الحديث الذي أفشته حفصة إلى عائشة تسعا وعشرين ليلة" العدد متعلق بقوله فاعتزل نساءه. قوله: "وكان قال ما أنا بداخل عليهن شهرا" في رواية حماد بن سلمة عند مسلم في طريق عبيد بن حنين "وكان آلى منهن شهرا" أي حلف أو أقسم، وليس المراد به الإيلاء الذي في عرف الفقهاء اتفاقا، وسيأتي بعد سبعة أبواب من حديث أنس قال: "آلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من نسائه شهرا" وهذا موافق للفظ رواية حماد بن سلمة هنا، وإن كان أكثر الرواة في حديث عمر لم يعبروا بلفظ الإيلاء. قوله: "من شدة موجدته عليهن" أي غضبه. قوله: "دخل على عائشة" فيه أن من غاب عن أزواجه ثم حضر يبدأ بمن شاء منهن، ولا يلزمه أن يبدأ من حيث بلغ ولا أن يقرع، كذا قيل، ويحتمل أن تكون البداءة بعائشة لكونه اتفق أنه كان يومها. قوله: "فقالت له عائشة: يا رسول الله إنك كنت قد أقسمت أن لا تدخل علينا شهرا" تقدم أن في رواية سماك بن الوليد أن عمر ذكره صلى الله عليه وسلم بذلك، ولا منافاة بينهما لأن في سياق حديث عمر أنه ذكره بذلك عند نزوله من الغرفة وعائشة ذكرته بذلك حين دخل عليها فكأنهما تواردا على ذلك، وقد أخرج مسلم من حديث جابر في هذه القصة قال: "فقلنا" فظاهر هذا السياق يوهم أنه من تتمة حديث عمر فيكون عمر حضر ذلك من عائشة، وهو محتمل عندي، لكن يقوى أن يكون هذا من تعاليق الزهري في هذه الطريق، فإن هذا القدر عنده عن عروة عن عائشة أخرجه مسلم من رواية معمر عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم أقسم أنه لا يدخل على نسائه شهرا، قال الزهري: فأخبرني عروة عن عائشة قالت. فذكره". قوله: "وإنما أصبحت من تسع وعشرين ليلة" في رواية عقيل "لتسع" باللام. وفي رواية السرخسي فيها "بتسع" بالموحدة وهي متقاربة، قال الإسماعيلي: من هنا إلى آخر الحديث وقع مدرجا في رواية

(9/290)


شعيب عن الزهري، ووقع مفصلا في رواية معمر "قال الزهري فأخبرني عروة عن عائشة قالت: لما مضت تسع وعشرون ليلة دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم:" الحديث. قلت: ونسبة الإدراج إلى شعيب فيه نظر، فقد تقدم في المظالم من رواية عقيل عن الزهري كذلك. وأخرج مسلم طريق معمر كما قال الإسماعيلي مفصلة، والله أعلم. وقد تقدم في تفسير الأحزاب أن البخاري حكى الاختلاف على الزهري في قصة التخيير هل هي عن عروة عن عائشة أو عن أبي سلمة عن عائشة. قوله: "فقال: الشهر تسع وعشرون ليلة وكان ذلك الشهر تسعا وعشرين ليلة" في هذا إشارة إلى تأويل الكلام الذي قبله وأنه لا يراد به الحصر، أو أن اللام في قوله: "الشهر" للعهد من الشهر المحلوف عليه ولا يلزم من ذلك أن تكون الشهور كلها كذلك، وقد أنكرت عائشة على ابن عمر روايته المطلقة أن الشهر تسع وعشرون، فأخرج أحمد من طريق يحيى بن عبد الرحمن عن ابن عمر رفعه: "الشهر تسع وعشرون" قال فذكروا ذلك لعائشة فقالت: يرحم الله أبا عبد الرحمن، إنما قال: الشهر يكون تسعا وعشرين. وقد أخرجه مسلم من وجه آخر عن عمر بهذا اللفظ الأخير الذي جزمت به عائشة وبينته قبل هذا عند الكلام على ما وقع في رواية سماك ابن الوليد من الإشكال. قوله: "قالت عائشة: ثم أنزل الله آية التخيير" في رواية عقيل "فأنزلت: وسيأتي الكلام عليه مستوفى في كتاب الطلاق إن شاء الله تعالى. وفي الحديث سؤال العالم عن بعض أمور أهله وإن كان عليه فيه غضاضة إذا كان في ذلك سنة تنقل ومسألة تحفظ قاله المهلب، قال: وفيه توقير العالم ومهابته عن استفسار ما يخشى من تغيره عند ذكره، وترقب خلوات العالم يسأل عما لعله لو سئل عنه بحضرة الناس أنكره على السائل، ويؤخذ من ذلك مراعاة المروءة. وفيه أن شدة الوطأة على النساء مذموم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بسيرة الأنصار في نسائهم وترك سيرة قومه. وفيه تأديب الرجل ابنته وقرابته بالقول لأجل إصلاحها لزوجها، وفيه سياق القصة على وجهها وإن لم يسأل السائل عن ذلك إذا كان في ذلك مصلحة من زيادة شرح وبيان، وخصوصا إذا كان العالم يعلم أن الطالب يؤثر ذلك. وفيه مهابة الطالب للعالم وتواضع العالم له وصبره على مساءلته وإن كان عليه في شيء من ذلك غضاضة. وفيه جواز ضرب الباب ودقه إذا لم يسمع الداخل بغير ذلك. ودخول الآباء على البنات ولو كان بغير إذن الزوج، والتنقيب عن أحوالهن لا سيما ما يتعلق بالمتزوجات. وفيه حسن تلطف ابن عباس وشدة حرصه على الإطلاع على فنون التفسير. وفيه طلب علو الإسناد لأن ابن عباس أقام مدة طويلة ينتظر خلوة عمر ليأخذ عنه؛ وكان يمكنه أخذ ذلك بواسطة عنه ممن لا يهاب سؤاله كما كان يهاب عمر. وفيه حرص الصحابة على طلب العلم والضبط بأحوال الرسول صلى الله عليه وسلم. وفيه أن طالب العلم يجعل لنفسه وقتا يتفرغ فيه لأمر معاشه وحال أهله. وفيه البحث في العلم في الطرق والخلوات وفي حال القعود والمشي. وفيه إيثار الاستجمار في الأسفار وإبقاء الماء للوضوء. وفيه ذكر العالم ما يقع من نفسه وأهله بما يترتب عليه فائدة دينية وإن كان في ذلك حكاية ما يستهجن، وجواز ذكر العمل الصالح لسياق الحديث على وجهه، وبيان ذكر وقت التحمل. وفيه الصبر على الزوجات والإغضاء عن خطابهن والصفح عما يقع منهن من زلل في حق المرء دون ما يكون من حق الله تعالى. وفيه جواز اتخاذ الحاكم عند الخلوة بوابا يمنع من يدخل إليه بغير إذنه، ويكون قول أنس الماضي في كتاب الجنائز في المرأة التي وعظها النبي صلى الله عليه وسلم فلم تعرفه "ثم جاءت إليه فلم تجد له بوابين" محمولا على الأوقات التي يجلس فيها للناس، قال المهلب: وفيه أن للإمام أن يحتجب عن بطانته وخاصته عند الأمر بطرقه من جهة أهله حتى يذهب غيظه ويخرج إلى الناس وهو منبسط

(9/291)


إليهم، فإن الكبير إذا احتجب لم يحسن الدخول إليه بغير إذن ولو كان الذي يريد أن يدخل جليل القدر عظيم المنزلة عنده. وفيه الرفق بالأصهار والحياء منهم إذا وقع للرجل من أهله ما يقتضى معاتبتهم. وفيه أن السكوت قد يكون أبلغ من الكلام وأفضل في بعض الأحايين، لأنه عليه الصلاة والسلام لو أمر غلامه برد عمر لم يجز لعمر العود إلى الاستئذان مرة بعد أخرى، فلما سكت فهم عمر من ذلك أنه لم يؤثر رده مطلقا، أشار إلى ذلك المهلب. وفيه أن الحاجب إذا علم منع الإذن بسكوت المحجوب لم يأذن. وفيه مشروعية الاستئذان على الإنسان وإن كان وحده لاحتمال أن يكون على حالة يكره الاطلاع عليها. وفيه جواز تكرار الاستئذان لمن لم يؤذن له إذا رجا حصول الإذن، وأن لا يتجاوز به ثلاث مرات كما سيأتي إيضاحه في كتاب الاستئذان في قصة أبي موسى مع عمر، والاستدراك على عمر من هذه القصة لأن الذي وقع من الإذن له في المرة الثالثة وقع اتفاقا، ولو لم يؤذن له فالذي يظهر أنه كان يعود إلى الاستئذان لأنه صرح كما سيأتي بأنه لم يبلغه ذلك الحكم. وفيه أن كل لذة أو شهوة قضاها المرء في الدنيا فهو استعجال له من نعيم الآخرة، وأنه لو ترك ذلك لادخر له في الآخرة، أشار إلى ذلك الطبري واستنبط منه بعضهم إيثار الفقر على الغنى وخصه الطبري بمن لم يصرفه في وجوهه ويفرقه في سبله التي أمر الله بوضعه فيها، قال: وأما من فعل ذلك فهو من منازل الامتحان، والصبر على المحن مع الشكر أفضل من الصبر على الضراء وحده انتهى. قال عياض: هذه القصة مما يحتج به من يفضل الفقير على الغني لما في مفهوم قوله: "إن من تنعم في الدنيا يفوته في الآخرة بمقداره"، قال وحاوله الآخرون بأن المراد من الآية أن حظ الكفار هو ما نالوه من نعيم الدنيا إذ لا حظ لهم في الآخرة انتهى، وفي الجواب نظر، وهي مسألة اختلف فيها السلف والخلف، وهي طويلة الذيل سيكون لنا بها إلمام إن شاء الله تعالى في كتاب الرقاق. وفيه أن المرء إذا رأى صاحبه مهموما استحب له أن يحدثه بما يزيل همه ويطيب نفسه، لقول عمر: لأقولن شيئا يضحك النبي صلى الله عليه وسلم. ويستحب أن يكون ذلك بعد استئذان الكبير في ذلك كما فعل عمر. وفيه جواز الاستعانة في الوضوء بالصب على المتوضئ، وخدمة الصغير الكبير وإن كان الصغير أشرف نسبا من الكبير. وفيه التجمل بالثوب والعمامة عند لقاء الأكابر. وفيه تذكير الحالف بيمينه إذا وقع منه ما ظاهره نسيانها لا سيما ممن له تعلق بذلك، لأن عائشة خشيت أن يكون صلى الله عليه وسلم نسى مقدار ما حلف عليه وهو شهر والشهر ثلاثون يوما أو تسعة وعشرون يوما، فلما نزل في تسعة وعشرين ظنت أنه ذهل عن القدر أو أن الشهر لم يهل، فأعلمها أن الشهر استهل فإن الذي كان الحلف وقع فيه جاء تسعا وعشرين يوما. وفيه تقوية لقول من قال إن يمينه صلى الله عليه وسلم اتفق أنها كانت في أول الشهر ولهذا اقتصر على تسعة وعشرين وإلا فلو اتفق ذلك في أثناء الشهر فالجمهور على أنه لا يقع البر إلا بثلاثين، وذهبت طائفة في الاكتفاء بتسعة وعشرين أخذا بأقل ما ينطلق عليه الاسم، قال ابن بطال: يؤخذ منه أن من حلف على فعل شيء يبر بفعل أقل ما ينطلق عليه الاسم، والقصة محمولة عند الشافعي ومالك على أنه دخل أول الهلال وخرج به فلو دخل في أثناء الشهر لم يبر إلا بثلاثين. وفيه سكنى الغرفة ذات الدرج واتخاذ الخزانة لأثاث البيت والأمتعة. وفيه التناوب في مجلس العالم إذا لم تتيسر المواظبة على حضوره لشاغل شرعي من أمر ديني أو دنيوي. وفيه قبول خبر الواحد ولو كان الآخذ فاضلا والمأخوذ عنه مفضولا، ورواية الكبير عن الصغير، وأن الأخبار التي تشاع ولو كثر ناقلوها إن لم يكن مرجعها إلى أمر حسي من مشاهدة أو سماع لا تستلزم الصدق، فإن جزم الأنصاري في

(9/292)


رواية بوقوع التطليق وكذا جزم الناس الذين رآهم عمر عند المنبر بذلك محمول على أنهم شاع بينهم ذلك من شخص بناء على التوهم الذي توهمه من اعتزال النبي صلى الله عليه وسلم نساءه فظن لكونه لم تجر عادته بذلك أنه طلقهن فأشاع أنه طلقهن فشاع ذلك فتحدث الناس به، وأخلق بهذا الذي ابتدأ بإشاعة ذلك أن يكون من المنافقين كما تقدم، وفيه الاكتفاء بمعرفة الحكم بأخذه عن القرين مع إمكان أخذه عاليا عمن أخذه عنه القرين، وأن الرغبة في العلو حيث لا يعوق عنه عائق شرعي، ويمكن أن يكون المراد بذلك أن يستفيد منه أصول ما يقع في غيبته ثم يسأل عنه بعد ذلك مشافهة، وهذا أحد فوائد كتابة أطراف الحديث. وفيه ما كان الصحابة عليه من محبة الاطلاع على أحوال النبي صلى الله عليه وسلم جلت أو قلت، واهتمامهم بما يهتم له لإطلاق الأنصاري اعتزاله نساءه الذي أشعر عنده بأنه طلقهن المقتضي وقوع غمه صلى الله عليه وسلم بذلك أعظم من طروق ملك الشام الغساني بجيوشه المدينة لغزو من بها، وكان ذلك بالنظر إلى أن الأنصاري كان يتحقق أن عدوهم ولو طرقهم مغلوب ومهزوم واحتمال خلاف ذلك ضعيف، بخلاف الذي وقع بما توهمه من التطليق الذي يتحقق معه حصول الغم وكانوا في الطرف الأقصى من رعاية خاطره صلى الله عليه وسلم أن يحصل له تشويش ولو قل والقلق لما يقلقه والغضب لما يغضبه والهم لما يهمه رضي الله عنهم. وفيه أن الغضب والحزن يحمل الرجل الوقور على ترك التأني المألوف منه لقول عمر: ثم غلبني ما أجد ثلاث مرات. وفيه شدة الفزع والجزع للأمور المهمة، وجواز نظر الإنسان إلى نواحي بيت صاحبه وما فيه إذا علم أنه لا يكره ذلك، وبهذا يجمع بين ما وقع لعمر وبين ما ورد من النهي عن فضول النظر، أشار إلى ذلك النووي. ويحتمل أن يكون نظر عمر في بيت النبي صلى الله عليه وسلم وقع أولا اتفاقا فرأى الشعير والقرظ مثلا فاستقله فرفع رأسه لينظر هل هناك شيء أنفس منه فلم ير إلا الأهب فقال ما قال، ويكون النهي محمولا على من تعمد النظر في ذلك والتفتيش ابتداء. وفيه كراهة سخط النعمة واحتقار ما أنعم الله به ولو كان قليلا والاستغفار من وقوع ذلك وطلب الاستغفار من أهل الفضل وإيثار القناعة وعدم الالتفات إلى ما خص به الغير من أمور الدنيا الفانية. وفيه المعاقبة على إفشاء السر بما يليق بمن أفشاه.

(9/293)


84- باب صَوْمِ الْمَرْأَةِ بِإِذْنِ زَوْجِهَا تَطَوُّعًا
5192- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ تَصُومُ الْمَرْأَةُ وَبَعْلُهَا شَاهِدٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ"
قوله: "باب صوم المرأة بإذن زوجها تطوعا" هذا الأصل لم يذكره البخاري في كتاب الصيام، وذكره أبو مسعود في أفراد البخاري من حديث أبى هريرة، وليس كذلك فإن مسلما ذكره في أثناء حديث في كتاب الزكاة، ووقع للمزي في "الأطراف" فيه وهم بينته فيما كتبته عليه. قوله: "لا تصوم" كذا للأكثر وهو بلفظ الخبر والمراد به النهي، وأغرب ابن التين والقرطبي فخطآ رواية الرفع، ووقع في رواية للمستملي: "لا تصومن" بزيادة نون التوكيد، ولمسلم من طريق عبد الرزاق عن معمر بلفظ: "لا تصم" وسيأتي شرحه مستوفى بعد باب واحد.

(9/293)


85- باب إِذَا بَاتَتْ الْمَرْأَةُ مُهَاجِرَةً فِرَاشَ زَوْجِهَا
5193- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ

(9/293)


86- باب لاَ تَأْذَنِ الْمَرْأَةُ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا لِأَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِهِ
5195- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لاَ يَحِلُّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَصُومَ وَزَوْجُهَا شَاهِدٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ وَلاَ تَأْذَنَ فِي بَيْتِهِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ وَمَا أَنْفَقَتْ مِنْ نَفَقَةٍ عَنْ غَيْرِ أَمْرِهِ فَإِنَّهُ يُؤَدَّى إِلَيْهِ شَطْرُهُ"
وَرَوَاهُ أَبُو الزِّنَادِ أَيْضًا عَنْ مُوسَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الصَّوْمِ"
قوله: "باب لا تأذن المرأة في بيت زوجها لأحد إلا بإذنه" المراد ببيت زوجها سكنه سواء كان ملكه أو لا. قوله: "عن الأعرج" كذا يقول شعيب عن أبي الزناد. وقال ابن عيينة عن أبي الزناد "عن موسى بن أبي عثمان عن أبيه عن أبي هريرة" وقد بينه المصنف بعد. قوله: "لا يحل للمرأة أن تصوم وزوجها" يلتحق به السيد بالنسبة لأمته التي يحل له وطؤها، ووقع في رواية همام "وبعلها" وهي أفيد لأن ابن حزم نقل عن أهل اللغة أن البعل اسم للزوج والسيد، فإن ثبت وإلا ألحق السيد بالزوج للاشتراك في المعنى. قوله: "شاهد" أي حاضر. قوله: "إلا بإذنه" يعني في غير صيام أيام رمضان، وكذا في غير رمضان من الواجب إذا تضيق الوقت، وقد خصه المصنف في الترجمة الماضية قبل باب بالتطوع، وكأنه تلقاه من رواية الحسن بن علي عن عبد الرزاق فإن فيها "لا تصوم المرأة غير رمضان" وأخرج الطبراني من حديث ابن عباس مرفوعا في أثناء حديث: "ومن حق الزوج على زوجته أن لا

(9/295)


تصوم تطوعا إلا بإذنه، فإن فعلت لم يقبل منها" وقد قدمت اختلاف الروايات في لفظ: "ولا تصوم"، ودلت رواية الباب على تحريم الصوم المذكور عليها وهو قول الجمهور، قال النووي في "شرح المهذب" : وقال بعض أصحابنا يكره، والصحيح الأول، قال: فلو صامت بغير إذنه صح وأثمت لاختلاف الجهة وأمر قبوله إلى الله، قاله العمراني. قال النووي: ومقتضى المذهب عدم الثواب، ويؤكد التحريم ثبوت الخبر بلفظ النهي، ووروده بلفظ الخبر لا يمنع ذلك، بل هو أبلغ، لأنه يدل على تأكد الأمر فيه فيكون تأكده بحمله على التحريم. قال النووي في "شرح مسلم:" : وسبب هذا التحريم أن للزوج حق الاستمتاع بها في كل وقت، وحقه واجب على الفور فلا يفوته بالتطوع ولا بواجب على التراخي، وإنما لم يجز لها الصوم بغير إذنه وإذا أراد الاستمتاع بها جاز ويفسد صومها لأن العادة أن المسلم يهاب انتهاك الصوم بالإفساد، ولا شك أن الأولى له خلاف ذلك إن لم يثبت دليل كراهته، نعم لو كان مسافرا فمفهوم الحديث في تقييده بالشاهد يقتضي جواز التطوع لها إذا كان زوجها مسافرا، فلو صامت وقدم في أثناء الصيام فله إفساد صومها ذلك من غير كراهة، وفي معنى الغيبة أن يكون مريضا بحيث لا يستطيع الجماع، وحمل المهلب النهي المذكور على التنزيه فقال: هو من حسن المعاشرة، ولها أن تفعل من غير الفرائض بغير إذنه ما لا يضره ولا يمنعه من واجباته، وليس له أن يبطل شيئا من طاعة الله إذا دخلت فيه بغير إذنه ا هـ، وهو خلاف الظاهر. وفي الحديث أن حق الزوج آكد على المرأة من التطوع بالخير، لأن حقه واجب والقيام بالواجب مقدم على القيام بالتطوع. قوله: "ولا تأذن في بيته" زاد مسلم من طريق همام عن أبي هريرة "وهو شاهد إلا بإذنه" وهذا القيد لا مفهوم له بل خرج مخرج الغالب، وإلا فغيبة الزوج لا تقتضي الإباحة للمرأة أن تأذن لمن يدخل بيته، بل يتأكد حينئذ عليها المنع لثبوت الأحاديث الواردة في النهي عن الدخول على المغيبات أي من غاب عنها زوجها، ويحتمل أن يكون له مفهوم، وذلك أنه إذا حضر تيسر استئذانه وإذا غاب تعذر فلو دعت الضرورة إلى الدخول عليها لم تفتقر إلى استئذانه لتعذره. ثم هذا كله فيما يتعلق بالدخول عليها، أما مطلق دخول البيت بأن تأذن لشخص في دخول موضع من حقوق الدار التي هي فيها أو إلى دار منفردة عن سكنها فالذي يظهر أنه ملتحق بالأول. وقال النووي: في هذا الحديث إشارة إلى أنه لا يفتات على الزوج بالإذن في بيته إلا بإذنه، وهو محمول على ما لا تعلم رضا الزوج به، أما لو علمت رضا الزوج بذلك فلا حرج عليها، كمن جرت عادته بإدخال الضيفان موضعا معدا لهم سواء كان حاضرا أم غائبا فلا يفتقر إدخالهم إلى إذن خاص لذلك، وحاصله أنه لا بد من اعتبار إذنه تفصيلا أو إجمالا. قوله: "إلا بإذنه" أي الصريح، وهل يقوم ما يقترن به علامة رضاه مقام التصريح بالرضا؟ فيه نظر. قوله: "وما أنفقت من نفقة عن غير أمره فإنه يؤدي إليه شطره" أي نصفه، والمراد نصف الأجر كما جاء واضحا في رواية همام عن أبي هريرة في البيوع، ويأتي في النفقات بلفظ: "إذا أنفقت المرأة من كسب زوجها عن غير أمره فله نصف أجره" في رواية أبي داود "فلها نصف أجره" وأغرب الخطابي فحمل قوله: "يؤدي إليه شطره" على المال المنفق، وأنه يلزم المرأة إذا أنفقت بغير أمر زوجها زيادة على الواجب لها أن تغرم القدر الزائد، وأن هذا هو المراد بالشطر في الخبر لأن الشطر يطلق على النصف وعلى الجزء، قال: ونفقتها معاوضة فتقدر بما يوازيها من الفرض وترد الفضل عن مقدار الواجب، وإنما جاز لها في قدر الواجب لقصة هند "خذي من ماله بالمعروف" ا هـ. وما ذكرناه من الرواية الأخرى يرد عليه. وقد استشعر الإيراد فحمل الحديث الآخر على معنى آخر وجعلهما حديثين

(9/296)


مختلفي الدلالة، والحق أنهما حديث واحد رويا بألفاظ مختلفة. وأما تقييده بقوله: "عن غير أمره" فقال النووي: عن غير أمره الصريح في ذلك القدر المعين، ولا ينفي ذلك وجود إذا سابق عام يتناول هذا القدر وغيره إما بالصريح وإما بالعرف. قال: ويتعين هذا التأويل لجعل الأجر بينهما نصفين، ومعلوم أنها إذا أنفقت من ماله بغير إذنه لا الصريح ولا المأخوذ من العرف لا يكون لها أجر بل عليها وزر، فيتعين تأويله. قال: وأعلم أن هذا كله مفروض في قدر يسير يعلم رضا المالك به عرفا، فإن زاد على ذلك لم يجز. ويؤيده قوله - يعني كما مر في حديث عائشة في كتاب الزكاة والبيوع - "إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها غير مفسدة" فأشار إلى أنه قدر يعلم رضا الزوج به في العادة، قال: ونبه بالطعام أيضا على ذلك لأنه مما يسمح به عادة، بخلاف النقدين في حق كثير من الناس وكثير من الأحوال. قلت: وقد تقدمت في شرح حديث عائشة في الزكاة مباحث لطيفة وأجوبة في هذا، ويحتمل أن يكون المراد بالتنصيف في حديث الباب الحمل على المال الذي يعطيه الرجل في نفقة المرأة، فإذا أنفقت منه بغير علمه كان الأجر بينهما: للرجل لكونه الأصل في اكتسابه ولكونه يؤجر على ما ينفقه على أهله كما ثبت من حديث سعد بن أبي وقاص وغيره، وللمرأة لكونه من النفقة التي تختص بها. ويؤيد هذا الحمل ما أخرجه أبو داود عقب حديث أبي هريرة هذا قال في المرأة تصدق من بيت زوجها؟ قال: لا إلا من قوتها والأجر بينهما، ولا يحل لها أن تصدق من مال زوجها إلا بإذنه. قال أبو داود في رواية أبي الحسن بن العبد عقبه: هذا يضعف حديث همام ا هـ، ومراده أنه يضعف حمله على التعميم، أما الجمع بينهما بما دل عليه هدا الثاني فلا، وأما ما أخرجه أبو داود وابن خزيمة من حديث سعد قال: "قالت امرأة يا نبي الله إنا كل على آبائنا وأزواجنا وأبنائنا، فما يحل لنا من أموالهم؟ قال: الرطب تأكلنه وتهدينه". وأخرج الترمذي وابن ماجه عن أبي أمامة رفعه:" لا تنفق امرأة شيئا من بيت زوجها إلا بإذنه، قيل: ولا الطعام؟ قال: ذاك أفضل أموالنا" وظاهرهما التعارض، ويمكن الجمع بأن المراد بالرطب ما يتسارع إليه الفساد فأذن فيه، بخلاف غيره ولو كان طعاما والله أعلم. قوله: "ورواه أبو الزناد أيضا عن موسى عن أبيه عن أبي هريرة في الصوم" يشير إلى أن رواية شعيب عن أبي الزناد عن الأعرج اشتملت على ثلاثة أحكام، وأن لأبي الزناد في أحد الثلاثة وهو صيام المرأة إسنادا آخر، وموسى المذكور هو ابن أبي عثمان، وأبوه أبو عثمان يقال له التبان بمثناة ثم موحدة ثقيلة واسمه سعد ويقال عمران، وهو مولى المغيرة بن شعبة، ليس له في البخاري سوى هذا الموضع، وقد وصل حديثه المذكور أحمد والنسائي والدارمي والحاكم من طريق الثوري عن أبي الزناد عن موسى بن أبي عثمان بقصة الصوم فقط، والدارمي أيضا وابن خزيمة وأبو عوانة وابن حبان من طريق سفيان بن عيينة عن أبي الزناد عن الأعرج به، قال أبو عوانة في رواية على ابن المديني: حدثنا به سفيان بعد ذلك عن أبي الزناد عن موسى بن أبي عثمان، فراجعته فيه فثبت على موسى ورجع عن الأعرج. ورويناه عاليا في "جزء إسماعيل بن نجيد" من رواية المغيرة بن عبد الرحمن عن أبي الزناد. وفي الحديث حجة على المالكية في تجويز دخول الأب ونحوه بيت المرأة بغير إذن زوجها، وأجابوا عن الحديث بأنه معارض بصلة الرحم، وإن بين الحديثين عموما وخصوصا وجهيا فيحتاج إلى مرجح، ويمكن أن يقال: صلة الرحم إنما تندب بما بملكه الواصل، والتصرف في بيت الزوج لا تملكه المرأة إلا بإذن الزوج، فكما لأهلها أن لا تصلهم بماله إلا بإذنه فإذنها لهم في دخول البيت كذلك.

(9/297)


باب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (قمت على باب الجنة فكان عامة من دخلها المساكين....)
...
87- باب 5196- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ أَخْبَرَنَا التَّيْمِيُّ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ عَنْ أُسَامَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "قُمْتُ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ فَكَانَ عَامَّةَ مَنْ دَخَلَهَا الْمَسَاكِينُ وَأَصْحَابُ الْجَدِّ مَحْبُوسُونَ غَيْرَ أَنَّ أَصْحَابَ النَّارِ قَدْ أُمِرَ بِهِمْ إِلَى النَّارِ وَقُمْتُ عَلَى بَابِ النَّارِ فَإِذَا عَامَّةُ مَنْ دَخَلَهَا النِّسَاءُ"
[الحديث 5196- طرفه في: 6547]
قوله: "باب" كذا لهم بغير ترجمة، وأورد فيه حديث أسامة لقوله فيه: "وقفت على باب النار فإذا عامة من دخلها النساء" وسقط للنسفي لفظ: "باب" فصار الحديث الذي فيه من جملة الباب الذي قبله، ومناسبته له من جهة الإشارة إلى أن النساء غالبا يرتكبن النهي المذكور، ومن ثم كن أكثر من دخل النار، والله أعلم.

(9/298)


88- باب كُفْرَانِ الْعَشِيرِ وَهُوَ الزَّوْجُ وَهُوَ الْخَلِيطُ مِنْ الْمُعَاشَرَةِ فِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
5197- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ خَسَفَتْ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّاسُ مَعَهُ فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلًا نَحْوًا مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا ثُمَّ رَفَعَ فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلًا وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الأَوَّلِ ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ ثُمَّ سَجَدَ ثُمَّ قَامَ فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلًا وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الأَوَّلِ ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ ثُمَّ رَفَعَ فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلًا وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الأَوَّلِ ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ ثُمَّ رَفَعَ ثُمَّ سَجَدَ ثُمَّ انْصَرَفَ وَقَدْ تَجَلَّتْ الشَّمْسُ فَقَالَ إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لاَ يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلاَ لِحَيَاتِهِ فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ رَأَيْنَاكَ تَنَاوَلْتَ شَيْئًا فِي مَقَامِكَ هَذَا ثُمَّ رَأَيْنَاكَ تَكَعْكَعْتَ فَقَالَ إِنِّي رَأَيْتُ الْجَنَّةَ أَوْ أُرِيتُ الْجَنَّةَ فَتَنَاوَلْتُ مِنْهَا عُنْقُودًا وَلَوْ أَخَذْتُهُ لاَكَلْتُمْ مِنْهُ مَا بَقِيَتْ الدُّنْيَا وَرَأَيْتُ النَّارَ فَلَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ مَنْظَرًا قَطُّ وَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ قَالُوا لِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ بِكُفْرِهِنَّ قِيلَ يَكْفُرْنَ بِاللَّهِ قَالَ يَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ وَيَكْفُرْنَ الإِحْسَانَ لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا قَالَتْ مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ"
5198- حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ الْهَيْثَمِ حَدَّثَنَا عَوْفٌ عَنْ أَبِي رَجَاءٍ عَنْ عِمْرَانَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "اطَّلَعْتُ فِي الْجَنَّةِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا الْفُقَرَاءَ وَاطَّلَعْتُ فِي النَّارِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ" تَابَعَهُ أَيُّوبُ وَسَلْمُ بْنُ زَرِيرٍ
قوله: "باب كفران العشير وهو الزوج والعشير هو الخليط من المعاشرة" أي أن لفظ العشير يطلق بإزاء شيئين، فالمراد به هنا الزوج، والمراد به في الآية وهي قوله تعالى :{وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ}" المخالط، وهذا تفسير أبي

(9/298)


عبيدة قال في قوله تعالى :{لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ}": المولى هنا ابن العم والعشير المخالط المعاشر، وقد تقدم شيء من هذا في كتاب الإيمان. ذكر حديث ابن عباس في خسوف الشمس بطوله وقد تقدم شرحه مستوفى في آخر أبواب الكسوف، وقوله فيه: "لو أحسنت إلى إحداهن الدهر" فيه إشارة إلى وجود سبب التعذيب لأنها بذلك كالمصرة على كفر النعمة، والإصرار على المعصية من أسباب العذاب، أشار إلى ذلك المهلب. حديث عمران بن حصين بمعنى حديث أسامة الماضي في الباب قبله. وقوله: "تابعه أيوب وسلم بن زرير" يعني أنهما تابعا عوفا عن أبي رجاء وهو العطاردي في رواية هذا الحديث عن عمران بن حصين، وسيأتي في "باب فضل الفقر" من الرقاق أن حماد بن نجيح وصخر بن جويرية خالفا في ذلك عن أبي رجاء فقالا "عنه عن ابن عباس". ومتابعة أيوب وصلها النسائي واختلف فيه على أيوب فقال عبد الوارث عنه هكذا. وقال الثقفي وابن علية وغيرهما:" عن أيوب عن أبي رجاء عن ابن عباس". وأما متابعة سلم بن زرير فوصلها المصنف في صفة الجنة من بدء الخلق وفي "باب فضل الفقر" من الرقاق، ويأتي شرح الحديث مع حديث أسامة في "باب صفة الجنة والنار" من كتاب الرقاق إن شاء الله تعالى.

(9/299)


89- باب لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقٌّ قَالَهُ أَبُو جُحَيْفَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
5199- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا الأَوْزَاعِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَا عَبْدَ اللَّهِ أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ النَّهَارَ وَتَقُومُ اللَّيْلَ قُلْتُ بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ فَلاَ تَفْعَلْ صُمْ وَأَفْطِرْ وَقُمْ وَنَمْ فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَإِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا"
قوله: "باب لزوجك عليك حق، قاله أبو جحيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم" وهو طرف من حديثه في قصة سلمان وأبي الدرداء، وقد مضى موصولا مشروحا في كتاب الصيام، ثم ذكر بعده حديث عبد الله بن عمرو في ذلك وقد تقدم شرحه أيضا قال ابن بطال: لما ذكر في الباب قبله حق الزوج على الزوجة ذكر في هذا عكسه وأنه لا ينبغي له أن يجهد بنفسه في العبادة حتى يضعف عن القيام بحقها من جماع واكتساب. واختلف العلماء فيمن كف عن جماع زوجته فقال مالك: إن كان بغير ضرورة ألزم به أو يفرق بينهما، ونحوه عن أحمد، والمشهور عند الشافعية أنه لا يجب عليه، وقيل يجب مرة، وعن بعض السلف في كل أربع ليلة، وعن بعضهم في كل طهر مرة.

(9/299)


90- باب الْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا
5200- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَالأَمِيرُ رَاعٍ وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ زَوْجِهَا وَوَلَدِهِ فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ"

(9/299)


باب قوله تعالى (الرجال قوامون على النساء .....) الآية
...
91- باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} إِلَى قَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا}
5201- حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ قَالَ حَدَّثَنِي حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ آلَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ نِسَائِهِ شَهْرًا وَقَعَدَ فِي مَشْرُبَةٍ لَهُ فَنَزَلَ لِتِسْعٍ وَعِشْرِينَ فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ آلَيْتَ عَلَى شَهْرٍ قَالَ إِنَّ الشَّهْرَ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ"
قوله: "باب قول الله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ}" إلى هنا عند أبي ذر، زاد غيره {بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} إلى قوله :{عَلِيّاً كَبِيراً}" وبسياق الآية تظهر مطابقة الترجمة، لأن المراد منها قوله تعالى :{فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ}" فهو الذي يطابق قوله: "آلى النبي صلى الله عليه وسلم من نسائه شهرا" لأن مقتضاه أنه هجرهن. وخفي ذلك على الإسماعيلي فقال: لم يتضح لي دخول هذا الحديث في هذا الباب ولا تفسير الآية التي ذكرها. قد تقدم شرح حديث أنس المذكور قريبا في آخر حديث عمر الطويل وقوله فيه: "إنك آليت شهرا" في رواية المستملي والكشميهني: "آليت على شهر" وقوله: "فقيل يا رسول الله" قائل ذلك عائشة كما تقدم واضحا في آخر حديث عمر المذكور، وتقدم فيه أن عمر وغيره أيضا سألوه عن ذلك.

(9/300)


92- باب هِجْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءَهُ فِي غَيْرِ بُيُوتِهِنَّ
وَيُذْكَرُ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ رَفْعُهُ غَيْرَ أَنْ لاَ تُهْجَرَ إِلاَّ فِي الْبَيْتِ وَالأَوَّلُ أَصَحُّ
5202- حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ ح و حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَيْفِيٍّ أَنَّ عِكْرِمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ أَخْبَرَهُ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَلَفَ لاَ يَدْخُلُ عَلَى بَعْضِ أَهْلِهِ شَهْرًا فَلَمَّا مَضَى تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا غَدَا عَلَيْهِنَّ أَوْ رَاحَ فَقِيلَ لَهُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ حَلَفْتَ أَنْ لاَ تَدْخُلَ عَلَيْهِنَّ شَهْرًا قَالَ إِنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا"
5203- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ حَدَّثَنَا أَبُو يَعْفُورٍ قَالَ تَذَاكَرْنَا عِنْدَ أَبِي الضُّحَى فَقَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ أَصْبَحْنَا يَوْمًا وَنِسَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَبْكِينَ عِنْدَ كُلِّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ أَهْلُهَا فَخَرَجْتُ إِلَى الْمَسْجِدِ فَإِذَا هُوَ مَلْآنُ مِنْ النَّاسِ فَجَاءَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَصَعِدَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي غُرْفَةٍ لَهُ فَسَلَّمَ فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ ثُمَّ سَلَّمَ فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ ثُمَّ سَلَّمَ فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ فَنَادَاهُ فَدَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَطَلَّقْتَ نِسَاءَكَ فَقَالَ لاَ وَلَكِنْ آلَيْتُ مِنْهُنَّ شَهْرًا فَمَكَثَ تِسْعًا وَعِشْرِينَ ثُمَّ دَخَلَ عَلَى نِسَائِهِ"

(9/300)


باب مايكره من ضرب النساء
...
93 - باب مَا يُكْرَهُ مِنْ ضَرْبِ النِّسَاءِ وَقَوْلِ اللَّهِ: {وَاضْرِبُوهُنَّ} أَيْ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ
5024- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَمْعَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لاَ يَجْلِدُ أَحَدُكُمْ امْرَأَتَهُ جَلْدَ الْعَبْدِ ثُمَّ يُجَامِعُهَا فِي آخِرِ الْيَوْمِ"
قوله: "باب ما يكره من ضرب النساء" فيه إشارة إلى أن ضربهن لا يباح مطلقا، بل فيه ما يكره كراهة تنزيه

(9/302)


أو تحريم على ما سنفصله. قوله: "وقول الله تعالى: {وَاضْرِبُوهُنَّ}" أي ضربا غير مبرح" هذا التفسير منتزع من المفهوم من حديث الباب من قوله: "ضرب العبد" كما سأوضحه، وقد جاء ذلك صريحا في حديث عمرو بن الأحوص أنه شهد حجة الوداع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر حديثا طويلا وفيه: "فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع، واضربوهن ضربا غير مبرح" الحديث أخرجه أصحاب السنن وصححه الترمذي واللفظ له، وفي حديث جابر الطويل عند مسلم: "فإن فعلن فاضربوهن ضربا غير مبرح". قلت: وسبق التنصيص في حديث معاوية بن حيدة على النهي عن ضرب الوجه. قوله: "سفيان" هو الثوري، وهشام هو ابن عروة، وعبد الله بن زمعة تقدم بيان نسبه في تفسير سورة والشمس. قوله: "لا يجلد أحدكم" كذا في نسخ البخاري بصيغة النهي، وقد أخرجه الإسماعيلي من رواية أحمد بن سفيان النسائي عن الفريابي - وهو محمد بن يوسف شيخ البخاري فيه - بصيغة الخبر وليس في أوله صيغة النهي، وكذا أخرجه أبو نعيم من وجه آخر عن الفريابي، وكذا توارد عليه أصحاب هشام بن عروة، وتقدم في التفسير من رواية وهيب، ويأتي في الأدب من رواية ابن عيينة، وكذا أخرجه أحمد عن ابن عيينة وعن وكيع وعن أبي معاوية وعن ابن نمير، وأخرجه مسلم وابن ماجه من رواية ابن نمير، والترمذي والنسائي من رواية عبدة بن سليمان، ففي رواية أبي معاوية وعبدة "إلام يجلد" وفي رواية وكيع وابن نمير "علام يجلد" وفي رواية ابن عيينة "وعظهم في النساء فقال: يضرب أحدكم امرأته" وهو موافق لرواية أحمد بن سفيان، وليس عند واحد منهم صيغة النهي. قوله: "جلد العبد" أي مثل جلد العبد، وفي إحدى روايتي ابن نمير عند مسلم: "ضرب الأمة" وللنسائي من طريق ابن عيينة "كما يضرب العبد والأمة" وفي رواية أحمد بن سفيان "جلد البعير أو العبد" وسيأتي في الأدب من رواية ابن عيينة "ضرب الفحل أو العبد" والمراد بالفحل البعير، وفي حديث لقيط بن صبرة عند أبي داود "ولا تضرب ظعينتك ضربك أمتك". قوله: "ثم يجامعها" في رواية أبي معاوية "ولعله أن يضاجعها" وهي رواية الأكثر. وفي رواية لابن عيينة في الأدب "ثم لعله يعانقها". وقوله: "في آخر اليوم" في رواية ابن عيينة عند أحمد "من آخر الليل" وله عند النسائي: "آخر النهار" وفي رواية ابن نمير والأكثر "في آخر يومه" وفي رواية وكيع "آخر الليل أو من آخر الليل" وكلها متقاربة. وفي الحديث جواز تأديب الرقيق بالضرب الشديد، والإيماء إلى جواز ضرب النساء دون ذلك وإليه أشار المصنف بقوله: "غير مبرح"، وفي سياقه استبعاد وقوع الأمرين من العاقل: أن يبالغ في ضرب امرأته ثم يجامعها من بقية يومه أو ليلته، والمجامعة أو المضاجعة إنما تستحسن مع ميل النفس والرغبة في العشرة، والمجلود غالبا ينفر ممن جلده، فوقعت الإشارة إلى ذم ذلك وأنه إن كان ولا بد فليكن التأديب بالضرب اليسير بحيث لا يحصل منه النفور التام فلا يفرط في الضرب ولا يفرط في التأديب، قال المهلب: بين صلى الله عليه وسلم بقوله: "جلد العبد" أن ضرب الرقيق فوق ضرب الحر لتباين حالتيهما، ولأن ضرب المرأة إنما أبيح من أجل عصيانها زوجها فيما يجب من حقه عليها ا هـ. وقد جاء النهي عن ضرب النساء مطلقا، فعند أحمد وأبي داود والنسائي وصححه ابن حبان والحاكم من حديث إياس بن عبد الله بن أبي ذباب بضم المعجمة وبموحدتين الأولى خفيفة "لا تضربوا إماء الله" فجاء عمر فقال: قد ذئر النساء على أزواجهن، فأذن لهم فضربوهن، فأطاف بآل رسول الله صلى الله عليه وسلم نساء كثير فقال: لقد أطاف بآل رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعون امرأة كلهن يشكين أزواجهن، ولا تجدون أولئك خياركم" وله شاهد من حديث ابن عباس في صحيح ابن حبان، وآخر مرسل من حديث أم كلثوم بنت أبي بكر عند=

30.

مجلد 30 . أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ)


 = =البيهقي، وقوله: "ذئر" بفتح المعجمة وكسر الهمزة بعدها راء أي نشز بنون ومعجمة وزاي، وقيل معناه غضب واستب، قال الشافعي: يحتمل أن يكون النهي على الاختيار والإذن فيه على الإباحة، ويحتمل أن يكون قبل نزول الآية بضربهن ثم أذن بعد نزولها فيه. وفي قوله: "لن يضرب خياركم" دلالة على أن ضربهن مباح في الجملة، ومحل ذلك أن يضربها تأديبا إذا رأى منها ما يكره فيما يجب عليها فيه طاعته، فإن اكتفى بالتهديد ونحوه كان أفضل، ومهما أمكن الوصول إلى الغرض بالإيهام لا يعدل إلى الفعل، لما في وقوع ذلك من النفرة المضادة لحسن المعاشرة المطلوبة في الزوجية، إلا إذا كان في أمر يتعلق بمعصية الله. وقد أخرج النسائي في الباب حديث عائشة "ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة له ولا خادما قط، ولا ضرب بيده شيئا قط إلا في سبيل الله أو تنتهك حرمات الله فينتقم لله" وسيأتي مزيد في ذلك في كتاب الأدب إن شاء الله تعالى.

(9/304)


94- باب لاَ تُطِيعُ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا فِي مَعْصِيَةٍ
5205- حَدَّثَنَا خَلاَدُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ نَافِعٍ عَنْ الْحَسَنِ هُوَ ابْنُ مُسْلِمٍ عَنْ صَفِيَّةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ الأَنْصَارِ زَوَّجَتْ ابْنَتَهَا فَتَمَعَّطَ شَعَرُ رَأْسِهَا فَجَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَتْ إِنَّ زَوْجَهَا أَمَرَنِي أَنْ أَصِلَ فِي شَعَرِهَا فَقَالَ لاَ إِنَّهُ قَدْ لُعِنَ الْمُوصِلاَتُ"
[الحديث 5205- طرفه في: 5934]
قوله: "باب لا تطيع المرأة زوجها في معصية الله" لما كان الذي قبله يشعر بندب المرأة إلى طاعة زوجها في كل ما يرومه خصص ذلك بما لا يكون فيه معصية الله، فلو دعاها الزوج إلى معصية فعليها أن تمتنع، فإن أدبها على ذلك كان الإثم عليه. ذكر طرفا من حديث التي طلبت أن تصل شعر ابنتها، وسيأتي شرحه في كتاب اللباس إن شاء الله تعالى. قوله : "إنه قد لعن الموصلات" كذا بالبناء للمجهول، والموصلات بتشديد الصاد المكسورة ويجوز فتحها. وفي رواية الكشميهني: "الموصلات" وهو يؤيد رواية الفتح

(9/304)


باب (وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً....) الآية
...
95- باب {وَإِنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا}
5206- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا {وَإِنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} قَالَتْ هِيَ الْمَرْأَةُ تَكُونُ عِنْدَ الرَّجُلِ لاَ يَسْتَكْثِرُ مِنْهَا فَيُرِيدُ طَلاَقَهَا وَيَتَزَوَّجُ غَيْرَهَا تَقُولُ لَهُ أَمْسِكْنِي وَلاَ تُطَلِّقْنِي ثُمَّ تَزَوَّجْ غَيْرِي فَأَنْتَ فِي حِلٍّ مِنْ النَّفَقَةِ عَلَيَّ وَالْقِسْمَةِ لِي فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَصَّالَحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ}"
قوله: "باب وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا" ليس في رواية أبي ذر "أو إعراضا" وقد تقدم الباب وحديثه في تفسير سورة النساء، وسياقه هنا أتم، وذكرت هناك سبب نزولها وفيمن نزلت. واختلف السلف فيما إذا تراضيا على أن لا قسمة لها هل لها أن ترجع في ذلك؟ فقال الثوري والشافعي وأحمد وأخرجه البيهقي عن علي وحكاه ابن المنذر عن عبيدة بن عمرو وإبراهيم ومجاهد وغيرهم: إن رجعت فعليه أن يقسم لها وإن شاء

(9/304)


96- باب الْعَزْلِ
5207- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ كُنَّا نَعْزِلُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
[الحديث 5207- طرفاه في: 5208، 5209]
5028- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ عَمْرٌو أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ سَمِعَ جَابِرًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنَّا نَعْزِلُ وَالْقُرْآنُ يَنْزِلُ"
5209- وَعَنْ عَمْرٍو عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ كُنَّا نَعْزِلُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقُرْآنُ يَنْزِلُ"
5210- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءَ حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ ابْنِ مُحَيْرِيزٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ أَصَبْنَا سَبْيًا فَكُنَّا نَعْزِلُ فَسَأَلْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَوَإِنَّكُمْ لَتَفْعَلُونَ قَالَهَا ثَلاَثًا مَا مِنْ نَسَمَةٍ كَائِنَةٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِلاَّ هِيَ كَائِنَةٌ"
قوله: "باب العزل" أي النزع بعد الإيلاج لينزل خارج الفرج، والمراد هنا بيان حكمه وذكر فيه حديثين. قوله: "يحيى بن سعيد" هو القطان. قوله: "عن ابن جريج عن عطاء عن جابر: كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم" في رواية أحمد عن بن يحيى بن سعيد الأموي عن ابن جريج عن عطاء أنه "سمع جابرا سئل عن العزل فقال: كنا نصنعه". قوله: "حدثنا علي بن عبد الله حدثنا سفيان" هو ابن عيينة" قال قال عمرو "هو ابن دينار" أخبرني عطاء أنه سمع جابرا يقول "هذا مما نزل فيه عمرو بن دينار، فإنه سمع الكثير من جابر نفسه؛ ثم أدخل في هذا بينهما واسطة، وقد تواردت الروايات من أصحاب سفيان على ذلك إلا ما وقع في "مسند أحمد" في النسخ المتأخرة فإنه ليس في الإسناد عطاء، لكنه أخرجه أبو نعيم من طريق المسند بإثباته وهو المعتمد. قوله: "كنا نعزل والقرآن ينزل، وعن عمرو عن عطاء عن جابر كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن ينزل" وقع في رواية الكشميهني: "كان يعزل" بضم أوله وفتح الزاي على البناء للمجهول، وكأن ابن عيينة حدث به مرتين: فمرة ذكر فيها الأخبار والسماع فلم يقل فيها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومرة ذكره بالعنعنة فذكرها، وقد أخرجه الإسماعيلي من طرق عن سفيان صرح فيها بالتحديث قال: "حدثنا عمرو بن دينار" وزاد ابن أبي عمر في روايته عن سفيان "على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم:" وزاد إبراهيم بن موسى في روايته عن سفيان أنه قال حين روى هذا الحديث: "أي لو كان حراما لنزل فيه:" وقد أخرج مسلم هذه الزيادة عن إسحاق بن راهويه عن سفيان فساقه بلفظ: "كنا نعزل والقرآن ينزل" قال سفيان: لو كان شيئا ينهى عنه لنهانا عنه القرآن، فهذا ظاهر في أن سفيان قاله استنباطا، وأوهم كلام صاحب "العمدة" ومن تبعه أن هذه الزيادة من نفس الحديث فأدرجها، وليس الأمر كذلك فإني تتبعته من المسانيد فوجدت أكثر رواته عن سفيان لا يذكرون هذه الزيادة، وشرحه ابن دقيق العيد على ما وقع

(9/305)


في "العمدة" فقال: استدلال جابر بالتقرير من الله غريب، ويمكن أن يكون استدل بتقرير الرسول لكنه مشروط بعلمه بذلك انتهى. ويكفي في علمه به قول الصحابي إنه فعله في عهده، والمسألة مشهورة في الأصول وفي علم الحديث وهي أن الصحابي إذا أضافه إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم كان له حكم الرفع عند الأكثر، لأن الظاهر أن النبي صلى الله عليه وسلم اطلع على ذلك وأقره لتوفر دواعيهم على سؤالهم إياه عن الأحكام، وإذا لم يضفه فله حكم الرفع عند قوم، وهذا من الأول فإن جابرا صرح بوقوعه في عهده صلى الله عليه وسلم وقد وردت عدة طرق تصرح باطلاعه على ذلك، والذي يظهر لي أن الذي استنبط ذلك سواء كان هو جابرا أو سفيان أراد بنزول القرآن ما يقرأ، أعم من المتعبد بتلاوته أو غيره مما يوحى إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فكأنه يقول: فعلناه في زمن التشريع ولو كان حراما لم نقر عليه، وإلى ذلك يشير قول ابن عمر "كنا نتقي الكلام والانبساط إلى نسائنا هيبة أن ينزل فينا شيء على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فلما مات النبي صلى الله عليه وسلم تكلمنا وانبسطنا" أخرجه البخاري. وقد أخرجه مسلم أيضا من طريق أبي الزبير عن جابر قال: "كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فبلغ ذلك نبي الله صلى الله عليه وسلم فلم ينهنا" ومن وجه آخر عن أبي الزبير عن جابر "أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن لي جارية وأنا أطوف عليها وأنا أكره أن تحمل، فقال: اعزل عنها إن شئت، فإنه سيأتيها ما قدر لها. فلبث الرجل ثم أتاه فقال: إن الجارية قد حبلت، قال: قد أخبرتك" ووقعت هذه القصة عنده من طريق سفيان بن عيينة بإسناد له آخر إلى جابر وفي آخره: "فقال أنا عبد الله ورسوله" وأخرجه أحمد وابن ماجه وابن أبي شيبة بسند آخر على شرط الشيخين بمعناه، ففي هذه الطرق ما أغنى عن الاستنباط، فإن في إحداها التصريح باطلاعه صلى الله عليه وسلم وفي الأخرى إذنه في ذلك وإن كان السياق يشعر بأنه خلاف الأولى كما سأذكر البحث فيه. قوله: "جويرية" هو ابن أسماء الضبعي يشارك مالكا في الرواية عن نافع وتفرد عنه بهذا الحديث وبغيره، وهو من الثقات الأثبات، قال الدار قطني بعد أن أخرجه من طريقه: صحيح غريب تفرد به جويرية عن مالك. قلت: ولم أره إلا من رواية ابن أخيه عبد الله بن محمد بن أسماء عنه. قوله: "عن الزهري" لمالك فيه إسناد آخر أخرجه المصنف في العتق، وأبو داود وابن حبان من طريق عنه عن ربيعة عن محمد بن يحيى بن حبان عن ابن محيريز، وكذا هو في "الموطأ". قوله:" عن ابن محيريز" بحاء مهملة ثم راء ثم زاي مصغرا، اسمه عبد الله، ووقع كذلك في رواية يونس كما سيأتي في القدر عن الزهري "أخبرني عبد الله بن محيريز الجمحي" وهو مدني سكن الشام، ومحيريز أبوه هو ابن جنادة بن وهب وهو من رهط أبي محذورة المؤذن وكان يتيما في حجره، ووافق مالكا على هذا السند شعيب كما مضى في البيوع، ويونس كما سيأتي في القدر، وعقيل والزبيدي كلاهما عند النسائي، وخالفهم معمر فقال: "عن الزهري عن عطاء بن يزيد عن أبي سعيد" أخرجه النسائي، وخالف الجميع إبراهيم بن سعد فقال: "عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن أبي سعيد" أخرجه النسائي أيضا، قال النسائي: رواية مالك ومن وافقه أولى بالصواب. قوله: "عن أبي سعيد" في رواية يونس "أن أبا سعيد الخدري أخبره" وفي رواية ربيعة في المغازي "عن محمد ابن يحيى بن حبان عن ابن محيريز أنه قال: دخلت المسجد فرأيت أبا سعيد الخدري فجلست إليه فسألته عن العزل" كذا عند البخاري، ووقع عند مسلم من هذا الوجه "دخلت أنا وأبو صرمة على أبي سعيد فسأله أبو صرمة فقال: يا أبا سعيد هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر العزل" ؟ وأبو صرمة بكسر المهملة وسكون الراء اسمه مالك وقيل قيس صحابي مشهور من الأنصار، وقد وقع في رواية للنسائي من طريق الضحاك ابن

(9/306)


عثمان "عن محمد بن يحيى عن ابن محيريز عن أبي سعيد وأبي صرمة قالا: أصبنا سبايا" والمحفوظ الأول. قوله: "أصبنا سبيا" في رواية شعيب في البيوع ويونس المذكورة أنه "بينما هو جالس عند النبي صلى الله عليه وسلم:" زاد يونس "جاء رجل من الأنصار" وفي رواية ربيعة المذكورة "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بني المصطلق فسبينا كرائم العرب، وطالت علينا العزبة ورغبنا في الفداء فأردنا أن نستمتع ونعزل، فقلنا نفعل ذلك ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا لا نسأله، فسألناه". قوله: "فكنا نعزل" في رواية يونس وشعيب فقال: "إنا نصيب سبيا ونحب المال فكيف ترى في العزل" ووقع عند مسلم من طريق عبد الرحمن بن بشر "عن أبي سعيد قال: ذكر العزل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وما ذلكم؟ قالوا: الرجل تكون له المرأة ترضع له فيصيب منها ويكره أن تحمل منه، والرجل تكون له الأمة فيصيب منها ويكره أن تحمل منه، ففي هذه الرواية إشارة إلى أن سبب العزل شيئان أحدهما كراهة مجيء الولد من الأمة وهو إما أنفة من ذلك وإما لئلا يتعذر بيع الأمة إذا صارت أم ولد وإما لغير ذلك كما سأذكره بعده، والثاني كراهة أن تحمل الموطوءة وهي ترضع فيضر ذلك بالولد المرضع. قوله: "أوإنكم لتفعلون" ؟ هذا الاستفهام يشعر بأنه صلى الله عليه وسلم ما كان اطلع على فعلهم ذلك، ففيه تعقب على من قال إن قول الصحابي كنا نفعل كذا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مرفوع معتلا بأن الظاهر اطلاع النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم، ففي هذا الخبر أنهم فعلوا العزل ولم يعلم به حتى سألوه عنه، نعم للقائل أن يقول كانت دواعيهم متوفرة على سؤاله عن أمور الدين، فإذا فعلوا الشيء وعلموا أنه لم يطلع عليه بادرا إلى سؤاله عن الحكم فيه فيكون الظهور من هذه الحيثية. ووقع في رواية ربيعة "لا عليكم أن لا تفعلوا"، ووقع في رواية مسلم من طريق أخرى عن محمد بن سيرين عن عبد الرحمن بن بشر عن أبي سعيد "لا عليكم أن لا تفعلوا ذلك" قال ابن سيرين: قوله: "لا عليكم" أقرب إلى النهي، وله من طريق ابن عون عن محمد بن سيرين نحوه دون قول محمد، قال ابن عون فحدثت به الحسن فقال: والله لكأن هذا زجر، قال القرطبي: كأن هؤلاء فهموا من "لا" النهي عما سألوه عنه فكأن عندهم بعد "لا" حذفا تقديره لا تعزلوا وعليكم أن لا تفعلوا، ويكون قوله: "وعليكم إلخ" تأكيدا للنهي. وتعقب بأن الأصل عدم هذا التقدير، وإنما معناه: ليس عليكم أن تتركوا، وهو الذي يساوي أن لا تفعلوا. وقال غيره: قوله: "لا عليكم أن لا تفعلوا" أي لا حرج عليكم أن لا تفعلوا، ففيه نفي الحرج عن عدم الفعل فأفهم ثبوت الحرج في فعل العزل، ولو كان المراد نفي الحرج عن الفعل لقال: لا عليكم أن تفعلوا إلا إن ادعى أن "لا" زائدة فيقال الأصل عدم ذلك؛ ووقع في رواية مجاهد الآتية في التوحيد تعليقا ووصلها مسلم وغيره: "ذكر العزل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ولم يفعل ذلك أحدكم" ؟ ولم يقل لا يفعل ذلك، فأشار إلى أنه لم يصرح لهم بالنهي، وإنما أشار أن الأولى ترك ذلك، لأن العزل إنما كان خشية حصول الولد فلا فائدة في ذلك، لأن الله إن كان قدر خلق الولد لم يمنع العزل ذلك فقد يسبق الماء ولا يعشر العازل فيحصل العلوق ويلحقه الولد ولا راد لما قضى الله، والفرار من حصول الولد يكون لأسباب: منها خشية علوق الزوجة الأمة لئلا يصير الولد رقيقا، أو خشية دخول الضرر على الولد المرضع إذا كانت الموطوءة ترضعه، أو فرارا من كثرة العيال إذا كان الرجل مقلا فيرغب عن قلة الولد لئلا يتضرر بتحصيل الكسب، وكل ذلك لا يغني شيئا. وقد أخرج أحمد والبزار وصححه ابن حبان من حديث أنس "أن رجلا سأل عن العزل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو أن الماء الذي يكون منه الولد أهرقته على صخرة لأخرج الله منها ولدا" وبه شاهدان في "الكبير للطبراني" عن

(9/307)


ابن عباس وفي "الأوسط" له عن ابن مسعود، وسيأتي مزيد لذلك في كتاب القدر إن شاء الله تعالى، وليس في جميع الصور التي يقع العزل بسببها ما يكون العزل فيه راجحا سوى الصورة المتقدمة من عند مسلم في طريق عبد الرحمن بن بشر عن أبي سعيد وهي خشية أن يضر الحمل بالولد المرضع لأنه مما جرب فضر غالبا، لكن وقع في بقية الحديث عند مسلم أن العزل بسبب ذلك لا يفيد لاحتمال أن يقع الحمل بغير الاختيار، ووقع عند مسلم في حديث أسامة بن زيد "جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أعزل عن امرأتي شفقة على ولدها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن كان كذلك فلا، ما ضر ذلك فارس ولا الروم". وفي العزل أيضا إدخال ضرر على المرأة لما فيه من تفويت لذتها. وقد اختلف السلف في حكم العزل قال ابن عبد البر: لا خلاف بين العلماء أنه لا يعزل عن الزوجة الحرة إلا بإذنها، لأن الجماع من حقها، ولها المطالبة به وليس الجماع المعروف إلا ما لا يلحقه عزل. ووافقه في نقل هذا الإجماع ابن هبيرة، وتعقب بأن المعروف عند الشافعية أن المرأة لا حق لها في الجماع أصلا، ثم في خصوص هذه المسألة عند الشافعية خلاف مشهور في جواز العزل عن الحرة بغير إذنها، قال الغزالي وغيره: يجوز، وهو المصحح عند المتأخرين، واحتج الجمهور لذلك بحديث عن عمر أخرجه أحمد وابن ماجه بلفظ: "نهى عن العزل عن الحرة إلا بإذنها" وفي إسناده ابن لهيعة، والوجه الآخر للشافعية الجزم بالمنع إذا امتنعت، وفيما إذا رضيت وجهان أصحهما الجواز، وهذا كله في الحرة وأما الأمة فإن كانت زوجة فهي مرتبة على الحرة إن جاز فيها ففي الأمة أولى، وإن امتنع فوجهان أصحهما الجواز تحرزا من إرقاق الولد، وإن كانت سرية جاز بلا خلاف عندهم إلا في وجه حكاه الروياني في المنع مطلقا كمذهب ابن حزم، وإن كانت السرية مستولدة فالراجح الجواز فيه مطلقا لأنها ليست راسخة في الفراش، وقيل حكمها حكم الأمة المزوجة. هذا واتفقت المذاهب الثلاثة على أن الحرة لا يعزل عنها إلا بإذنها وأن الأمة يعزل عنها بغير إذنها، واختلفوا في المزوجة فعند المالكية يحتاج إلى إذن سيدها، وهو قول أبي حنيفة، والراجح عن محمد. وقال أبو يوسف وأحمد: الإذن لها، وهي رواية عن أحمد، وعنه بإذنها، وعنه يباح العزل مطلقا، وعنه المنع مطلقا. والذي احتج به من جنح إلى التفصيل لا يصح إلا عند عبد الرزاق عنه بسند صحيح عن ابن عباس قال: تستأمر الحرة في العزل ولا تستأمر الأمة السرية فإن كانت أمة تحت حر فعليه أن يستأمرها وهذا نص في المسألة، فلو كان مرفوعا لم يجز العدول عنه. وقد استنكر ابن العربي القول بمنع العزل عمن يقول بأن المرأة لا حق لها في الوطء، ونقل عن مالك أن لها حق المطالبة به إذا قصد بتركه إضرارها. وعن الشافعي وأبي حنيفة لا حق لها فيه إلا في وطئة واحدة يستقر بها المهر، قال فإذا كان الأمر كذلك فكيف يكون لها حق في العزل، فإن خصوه بالوطئة الأولى فيمكن وإلا فلا يسوغ فيما بعد ذلك إلا على مذهب مالك بالشرط المذكور ا هـ. وما نقله عن الشافعي غريب، والمعروف عند أصحابه أنه لا حق لها أصلا، نعم جزم ابن حزم بوجوب الوطء وبتحريم العزل، واستند إلى حديث جذامة بنت وهب "أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن العزل فقال : ذلك الوأد الخفي" أخرجه مسلم، وهذا معارض بحديثين أحدهما أخرجه الترمذي والنسائي وصححه من طريق معمر عن يحيى بن أبي كثير عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن جابر قال: "كانت لنا جواري وكنا نعزل، فقالت اليهود إن تلك الموءودة الصغرى، فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال : كذبت اليهود، لو أراد الله خلقه لم تستطع رده" وأخرجه النسائي من طريق هشام وعلي بن المبارك وغيرهما عن يحيى عن محمد بن عبد الرحمن عن أبي مطيع بن رفاعة عن أبي

(9/308)


سعيد نحوه، ومن طريق أبي عامر عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة نحوه، ومن طريق سليمان الأحول أنه سمع عمرو بن دينار يسأل أبا سلمة بن عبد الرحمن عن العزل فقال: زعم أبو سعيد، فذكر نحوه، قال فسألت أبا سلمة أسمعته من أبي سعيد؟ قال لا، ولكن أخبرني رجل عنه. والحديث الثاني في النسائي من وجه آخر عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة، وهذه طرق يقوى بعضها ببعض، وجمع بينها وبين حديث جذامة بحمل حديث جذامة على التنزيه وهذه طريقة البيهقي، ومنهم من ضعف حديث جذامة بأنه معارض بما هو أكثر طرقا منه، وكيف يصرح بتكذيب اليهود في ذلك ثم يثبته؟ وهذا دفع للأحاديث الصحيحة بالتوهم، والحديث صحيح لا ريب فيه والجمع ممكن، ومنهم من ادعى أنه منسوخ، ورد بعدم معرفة التاريخ. وقال الطحاوي: يحتمل أن يكون حديث جذامة على وفق ما كان عليه الأمر أولا من موافقة أهل الكتاب، وكان صلى الله عليه وسلم يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم ينزل عليه، ثم أعلمه الله بالحكم فكذب اليهود فيما كانوا يقولونه. وتعقبه ابن رشد ثم ابن العربي بأنه لا يجزم بشيء تبعا لليهود ثم يصرح بتكذيبهم فيه، ومنهم من رجح حديث جذامة بثبوته في الصحيح، وضعف مقابله بأنه حديث واحد اختلف في إسناده فاضطرب، ورد بأن الاختلاف إنما يقدح حيث لا يقوى بعض الوجوه فمتى قوى بعضها عمل به، وهو هنا كذلك والجمع ممكن. ورجح ابن حزم العمل بحديث جذامة بأن أحاديث غيرها توافق أصل الإباحة وحديثها يدل على المنع قال: فمن ادعى أنه أبيح بعد أن منع فعليه البيان. وتعقب بأن حديثها ليس صريحا في المنع إذ لا يلزم من تسميته وأدا خفيا على طريق التشبيه أن يكون حراما، وخصه بعضهم بالعزل عن الحامل لزوال المعنى الذي كان يحذره الذي يعزل من حصول الحمل، لكن فيه تضييع الحمل لأن المني يغذوه فقد يؤدي العزل إلى موته أو إلى ضعفه المفضي إلى موته فيكون وأدا خفيا، وجمعوا أيضا بين تكذيب اليهود في قولهم الموءودة الصغرى وبين إثبات كونه وأدا خفيا في حديث جذامة بأن قولهم الموءودة الصغرى يقتضي أنه وأد ظاهر، لكنه صغير بالنسبة إلى دفن المولود بعد وضعه حيا، فلا يعارض قوله إن العزل وأد خفي فإنه يدل على أنه ليس في حكم الظاهر أصلا فلا يترتب عليه حكم، وإنما جعله وأدا من جهة اشتراكهما في قطع الولادة. وقال بعضهم: قوله الوأد الخفي ورد على طريق التشبيه لأنه قطع طريق الولادة قبل مجيئه فأشبه قتل الولد بعد مجيئه، قال ابن القيم: الذي كذبت فيه اليهود زعمهم أن العزل لا يتصور معه الحمل أصلا وجعلوه بمنزلة قطع النسل بالوأد، فأكذبهم وأخبر أنه لا يمنع الحمل إذا شاء الله خلقه، وإذا لم يرد خلقه لم يكن وأدا حقيقة، وإنما سماه وأدا خفيا في حديث جذامة لأن الرجل إنما يعزل هربا من الحمل فأجرى قصده لذلك مجرى الوأد، لكن الفرق بينهما أن الوأد ظاهر بالمباشرة اجتمع فيه القصد والفعل، والعزل يتعلق بالقصد صرفا فلذلك وصفه بكونه خفيا، فهذه عدة أجوبة يقف معها الاستدلال بحديث جذامة على المنع. وقد جنح إلى المنع من الشافعية ابن حبان فقال في صحيحه "ذكر الخبر الدال على أن هذا الفعل مزجور عنه لا يباح استعماله" ثم ساق حديث أبي ذر رفعه: "ضعه في حلاله وجنبه حرامه وأقرره، فإن شاء الله أحياه وإن شاء أماته ولك أجر" ا هـ. ولا دلالة فيما ساقه على ما ادعاه من التحريم بل هو أمر إرشاد لما دلت عليه بقية الأخبار والله أعلم. ومن عند عبد الرزاق وجه آخر عن ابن عباس أنه أنكر أن يكون العزل وأدا وقال: المني يكون نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظما ثم يكسى لحما، قال: والعزل قبل ذلك كله. وأخرج الطحاوي من طريق عبد الله بن عدي بن

(9/309)


الخيار عن علي نحوه في قصة حرب عند عمر وسنده جيد. واختلفوا في علة النهي عن العزل: فقيل لتفويت حق المرأة، وقيل لمعاندة القدر، وهذا الثاني هو الذي يقتضيه معظم الأخبار الواردة في ذلك، والأول مبني على صحة الخبر المفرق بين الحرة والأمة. وقال إمام الحرمين: موضع المنع أنه ينزع بقصد الإنزال خارج الفرج خشية العلوق ومتى فقد ذلك لم يمنع، وكأنه راعى سبب المنع فإذا فقد بقي أصل الإباحة فله أن ينزع متى شاء حتى لو نزع فأنزل خارج الفرج اتفاقا لم يتعلق به النهي والله أعلم. وينتزع من حكم العزل حكم معالجة المرأة إسقاط النطفة قبل نفخ الروح، فمن قال بالمنع هناك ففي هذه أولى، ومن قال بالجواز يمكن أن يلتحق به هذا، ويمكن أن يفرق بأنه أشد لأن العزل لم يقع فيه تعاطي السبب ومعالجة السقط تقع بعد تعاطي السبب، ويلتحق بهذه المسألة تعاطي المرأة ما يقطع الحبل من أصله، وقد أفتى بعض متأخري الشافعية بالمنع، وهو مشكل على قولهم بإباحة العزل مطلقا. والله أعلم. واستدل بقوله في حديث أبي سعيد "وأصبنا كرائم العرب وطالت علينا العزبة وأردنا أن نستمتع وأحببنا الفداء" لمن أجاز استرقاق العرب وقد تقدم بيانه في "باب من ملك من العرب رقيقا" في كتاب العتق، ولمن أجاز وطء المشركات بملك اليمين وإن لم يكن من أهل الكتاب لأن بني المصطلق كانوا أهل أوثان، وقد انفصل عنه من منع باحتمال أن يكونوا ممن دان بدين أهل الكتاب وهو باطل، وباحتمال أن يكون ذلك في أول الأمر ثم نسخ، وفيه نظر إذ النسخ لا يثبت بالاحتمال، وباحتمال أن تكون المسبيات أسلمن قبل الوطء وهذا لا يتم مع قوله في الحديث وأحببنا الفداء فإن المسلمة لا تعاد للمشرك، نعم يمكن حمل الفداء على معنى أخص وهو أنهن يفدين أنفسهن فيعتقن من الرق، ولا يلزم منه إعادتهن للمشركين، وحمله بعضهم على إرادة الثمن لأن الفداء المتخوف من فوته هو الثمن، ويؤيد هذا الحمل قوله في الرواية الأخرى "فقال يا رسول الله إنا أصبنا سبيا ونحب الأثمان فكيف ترى في العزل" ؟ وهذا أقوى من جميع ما تقدم، والله أعلم.

(9/310)


97- باب الْقُرْعَةِ بَيْنَ النِّسَاءِ إِذَا أَرَادَ سَفَرًا
5211- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَيْمَنَ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا خَرَجَ أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ فَطَارَتْ الْقُرْعَةُ لِعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كَانَ بِاللَّيْلِ سَارَ مَعَ عَائِشَةَ يَتَحَدَّثُ فَقَالَتْ حَفْصَةُ أَلاَ تَرْكَبِينَ اللَّيْلَةَ بَعِيرِي وَأَرْكَبُ بَعِيرَكِ تَنْظُرِينَ وَأَنْظُرُ فَقَالَتْ بَلَى فَرَكِبَتْ فَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى جَمَلِ عَائِشَةَ وَعَلَيْهِ حَفْصَةُ فَسَلَّمَ عَلَيْهَا ثُمَّ سَارَ حَتَّى نَزَلُوا وَافْتَقَدَتْهُ عَائِشَةُ فَلَمَّا نَزَلُوا جَعَلَتْ رِجْلَيْهَا بَيْنَ الإِذْخِرِ وَتَقُولُ يَا رَبِّ سَلِّطْ عَلَيَّ عَقْرَبًا أَوْ حَيَّةً تَلْدَغُنِي وَلاَ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقُولَ لَهُ شَيْئًا"
قوله: "باب القرعة بين النساء إذا أراد سفرا" تقدم في حديث الإفك في التفسير مثل ذلك من حديث عائشة أيضا، وساق المصنف في الباب قصة أخرى ولعلها كانت أيضا في تلك السفرة، ولكن بينت في شرح حديث الإفك في التفسير أنه لم يكن معه في غزوة المريسيع إلا عائشة، وقد تقدم في الهبة والشهادات مثل ذلك في أول حديث آخر عن عائشة أيضا. قوله: "ابن أبي مليكة عن القاسم" هو ابن أبي بكر، وابن أبي مليكة يروي عن عائشة تارة بالواسطة وتارة بغيرها. قوله: "إذا أراد سفرا" مفهومه اختصاص القرعة بحالة السفر، وليس على

(9/310)


عمومه بل لتعين القرعة من يسافر بها، وتجري القرعة أيضا فيما إذا أراد أن يقسم بين زوجاته فلا يبدأ بأيهن شاء بل يقرع بينهن فيبدأ بالتي تخرج لها القرعة، إلا أن يرضين بشيء فيجوز بلا قرعة. قوله: "أقرع بين نسائه" زاد ابن سعد من وجه آخر عن القاسم عن عائشة "فكان إذا خرج سهم غيري عرف فيه الكراهية" واستدل به على مشروعية القرعة في القسمة بين الشركاء وغير ذلك كما تقدم في أواخر الشهادات، والمشهور عن الحنفية والمالكية عدم اعتبار القرعة، قال عياض: هو مشهور عن مالك وأصحابه لأنه من باب الخطر والقمار، وحكي عن الحنفية إجازتها ا هـ، وقد قالوا به في مسألة الباب. واحتج من منع من المالكية بأن بعض النسوة قد تكون أنفع في السفر من غيرها فلو خرجت القرعة للتي لا نفع بها في السفر لأضر بحال الرجل، وكذا بالعكس قد يكون بعض النساء أقوم ببيت الرجل من الأخرى. وقال القرطبي: ينبغي أن يختلف ذلك باختلاف أحوال النساء، وتختص مشروعية القرعة بما إذا اتفقت أحوالهن لئلا تخرج واحدة معه فيكون ترجيحا بغير مرجح ا هـ. وفيه مراعاة للمذهب مع الأمن من رد الحديث أصلا لحمله على التخصيص، فكأنه خصص العموم بالمعنى. قوله: "فطارت القرعة لعائشة وحفصة" أي في سفرة من السفرات، والمراد بقولها طارت أي حصلت، وطير كل إنسان نصيبه، وقد تقدم في الجنائز قول أم العلاء لما اقتسم الأنصار المهاجرين قالت: "وطار لنا عثمان ابن مظعون" أي حصل في نصيبنا من المهاجرين. قوله: "وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان بالليل سار مع عائشة يتحدث" استدل به المهلب على أن القسم لم يكن واجبا على النبي صلى الله عليه وسلم، ولا دلالة فيه لأن عماد القسم الليل في الحضر، وأما في السفر فعماد القسم فيه النزول، وأما حالة السير فليست منه لا ليلا ولا نهارا، وقد أخرج أبو داود والبيهقي واللفظ له من طريق ابن أبي الزناد عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة "قل يوم إلا ورسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف علينا جميعا فيقبل ويلمس ما دون الوقاع، فإذا جاء إلى التي هو يومها بات عندها". قوله: "فقالت حفصة" أي لعائشة. قوله: "ألا تركبين الليلة بعيري إلخ" كأن عائشة أجابت إلى ذلك لما شوقتها إليه من النظر إلى ما لم تكن هي تنظر، وهذا مشعر بأنهما لم يكونا حال السير متقاربتين بل كانت كل واحدة منهما من جهة كما جرت العادة من السير قطارين، وإلا فلو كانتا معا لم تختص إحداهما بنظر ما لم تنظره الأخرى، ويحتمل أن تريد بالنظر وطأة البعير وجودة سيره. قوله: "فجاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى جمل عائشة وعليه" في رواية حكاها الكرماني "وعليها" وكأنه على إرادة الناقة. قوله: "فسلم عليها" لم يذكر في الخبر أنه تحدث معها فيحتمل أن يكون ألهم ما وقع، ويحتمل أن يكون وقع ذلك اتفاقا، ويحتمل أن يكون تحدث ولم ينقل. قوله: "وافتقدته عائشة" أي حالة المسايرة، لأن قطع المألوف صعب. قوله: "فلما نزلوا جعلت رجليها بين الإذخر" كأنها لما عرفت أنها الجانية فيما أجابت إليه حفصة عاتبت نفسها على تلك الجناية. والإذخر نبت معروف توجد فيه الهوام غالبا في البرية. قوله: "وتقول رب سلط" في رواية المستملي: "يا رب سلط" بإثبات حرف النداء وهي رواية مسلم. قوله: "تلذغني" بالغين المعجمة. قوله: "ولا أستطيع أن أقول له شيئا" قال الكرماني الظاهر أنه كلام حفصة، ويحتمل أن يكون كلام عائشة، ولم يظهر لي هذا الظاهر بل هو كلام عائشة، وقد وقع في رواية مسلم في جميع ما وقفت عليه من طرقه إلا ما سأذكره بعد قوله تلدغني "رسولك لا أستطيع أن أقول له شيئا" ورسولك بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره هو رسولك، ويجوز النصب على تقدير فعل، وإنما لم تتعرض لحفصة لأنها هي التي أجابتها طائعة فعادت على نفسها باللوم، ووقع عند الإسماعيلي من وجهين عن أبي نعيم شيخ

(9/311)


البخاري فيه بعد قوله تلدغني "ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر ولا أستطيع أن أقول له شيئا" وعلى هذا فيحتمل أن يكون المراد بالقول في قولها أن أقول أي أحكي له الواقعة لأنه ما كان يعذرني في ذلك، وظاهر رواية غيره تفهم أن مرادها بالقول أنها لا تستطيع أن تقول في حقه شيئا كما تقدم، قال الداودي: يحتمل أن تكون المسايرة في ليلة عائشة ولذلك غلبت عليها الغيرة فدعت على نفسها بالموت، ويعقب بأنه يلزم منه أنه يوجب القسم في المسايرة، وليس كذلك إذ لو كان لما كان يخص عائشة بالمسايرة دون حفصة حتى تحتاج حفصة تتحيل على عائشة، ولا يتجه القسم في حالة السير إلا إذا كانت الخلوة لا تحصل إلا فيه بأن يركب معها في الهودج وعند النزول يجتمع الكل في الخيمة فيكون حينئذ عماد القسم السير، أما المسايرة فلا، وهذا كله مبني على أن القسم كان واجبا على النبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي يدل عليه معظم الأخبار، ويؤيد القول بالقرعة أنهم اتفقوا على أن مدة السفر لا يحاسب بها المقيمة بل يبتدئ إذا رجع بالقسم فيما يستقبل، فلو سافر بمن شاء بغير قرعة فقدم بعضهن في القسم للزم منه إذا رجع أن يوفي من تخلف حقها، وقد نقل ابن المنذر الإجماع على أن ذلك لا يجب، فظهر أن للقرعة فائدة وهي أن لا يؤثر بعضهن بالتشهي لما يترتب على ذلك من ترك العدل بينهن، وقد قال الشافعي في القديم: لو كان المسافر يقسم لمن خلف لما كان للقرعة معنى بل معناها أن تصير هذه الأيام لمن خرج سهمها خالصة انتهى. ولا يخفى أن محل الإطلاق في ترك القضاء في السفر ما دام اسم السفر موجودا، فلو سافر إلى بلدة فأقام بها زمانا طويلا ثم سافر راجعا فعليه قضاء مدة الإقامة وفي مدة الرجوع خلاف عند الشافعية والمعنى في سقوط القضاء أن التي سافرت وفازت بالصحبة لحقها من تعب السفر ومشقته ما يقابل ذلك والمقيمة عكسها في الأمرين معا

(9/312)


98- باب الْمَرْأَةِ تَهَبُ يَوْمَهَا مِنْ زَوْجِهَا لِضَرَّتِهَا وَكَيْفَ يَقْسِمُ ذَلِكَ
5212- حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ وَهَبَتْ يَوْمَهَا لِعَائِشَةَ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْسِمُ لِعَائِشَةَ بِيَوْمِهَا وَيَوْمِ سَوْدَةَ"
قوله: "باب المرأة تهب يومها من زوجها لضرتها" "من" يتعلق بيومها لا بيهب، أي يومها الذي يختص بها. قوله: "وكيف يقسم ذلك" قال العلماء: إذا وهبت يومها لضرتها قسم الزوج لها يوم ضرتها، فإن كان تاليا ليومها فذاك وإلا لم يقدمه عن رتبته في القسم إلا برضا من بقي. وقالوا إذا وهبت المرأة يومها لضرتها فإن قبل الزوج لم يكن للموهوبة أن تمتنع وإن لم يقبل لم يكره على ذلك، وإذا وهبت يومها لزوجها ولم تتعرض للضرة فهل له أن يخص واحدة إن كان عنده أكثر من اثنتين، أو يوزعه بين من بقي؟ وللواهبة في جميع الأحوال الرجوع عن ذلك متى أحبت لكن فيما يستقبل لا فيما مضى، وأطلق ابن بطال أنه لم يكن لسودة الرجوع في يومها الذي وهبته لعائشة. قوله: "حدثنا مالك بن إسماعيل" هو أبو غسان النهدي، وزهير هو ابن معاوية. قوله: "أن سودة بنت زمعة" هي زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وكان تزوجها وهو بمكة بعد موت خديجة ودخل عليها بها وهاجرت معه، ووقع لمسلم من طريق شريك عن هشام في آخر حديث الباب: "قالت عائشة: وكانت أول امرأة تزوجها بعدي" ومعناه عقد عليها بعد أن عقد على عائشة، وأما دخوله عليها فكان قبل دخوله على عائشة بالاتفاق، وقد نبه على ذلك ابن الجوزي. قوله: "وهبت يومها لعائشة" تقدم في الهبة من طريق الزهري عن عروة بلفظ: "يومها وليلتها" وزاد في آخره:

(9/312)


"تبتغي بذلك رضا رسول الله صلى الله عليه وسلم". ووقع في رواية مسلم من طريق عقبة بن خالد عن هشام "لما أن كبرت سودة وهبت" وله نحوه من رواية جرير عن هشام. وأخرج أبو داود هذا الحديث وزاد فيه بيان سببه أوضح من رواية مسلم، فروى عن أحمد بن يونس عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن هشام بن عروة بالسند المذكور "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفضل بعضنا على بعض في القسم" الحديث، وفيه: "ولقد قالت سودة بنت زمعة حين أسنت وخافت أن يفارقها رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله يومي لعائشة، فقبل ذلك منها، ففيها وأشباهها نزلت: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً}" الآية" وتابعه ابن سعد عن الواقدي عن ابن أبي الزناد في وصله، ورواه سعيد بن منصور عن ابن أبي الزناد مرسلا لم يذكر فيه عن عائشة، وعند الترمذي من حديث ابن عباس موصولا نحوه، وكذا قال عبد الرزاق عن معمر بمعنى ذلك، فتواردت هذه الروايات على أنها خشيت الطلاق فوهبت. وأخرج ابن سعد بسند رجاله ثقات من رواية القاسم ابن أبي بزة مرسلا "أن النبي صلى الله عليه وسلم طلقها فقعدت له على طريقه فقالت: والذي بعثك بالحق ما لي في الرجال حاجة، ولكن أحب أن أبعث مع نسائك يوم القيامة، فأنشدك بالذي أنزل عليك الكتاب هل طلقتني لموجدة وجدتها علي؟ قال: لا. قالت: فأنشدك لما راجعتني، فراجعها. قالت: فإني قد جعلت يومي وليلتي لعائشة حبة رسول الله صلى الله عليه وسلم". قوله: "وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم لعائشة بيومها ويوم سودة" في رواية جرير عن هشام عند مسلم: "فكان يقسم لعائشة يومين يومها ويوم سودة" وقد بينت كلامهم في كيفية هذا القسم أول الباب

(9/313)


99- باب الْعَدْلِ بَيْنَ النِّسَاءِ {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ} إِلَى قَوْلِهِ {وَاسِعًا حَكِيمًا}
قوله: "باب العدل بين النساء، ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء" أشار بذكر الآية إلى أن المنتهى فيها العدل بينهن من كل جهة، وبالحديث إلى أن المراد بالعدل التسوية بينهن بما يليق بكل منهن، فإذا وفى لكل واحدة منهن كسوتها ونفقتها والإيواء إليها لم يضره ما زاد على ذلك من ميل قلب أو تبرع بتحفة، وقد روى الأربعة وصححه ابن حبان والحاكم من طريق حماد بن سلمة عن أيوب عن أبي قلابة عن عبد الله بن يزيد عن عائشة "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقسم بين نسائه فيعدل ويقول: اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك" قال الترمذي يعني به الحب والمودة، كذلك فسره أهل العلم، قال الترمذي: رواه غير واحد عن حماد بن زيد عن أيوب عن أبي قلابة مرسلا وهو أصح من رواية حماد بن سلمة، وقد أخرج البيهقي من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: "ولن تستطيعوا" الآية، قال: في الحب والجماع، وعن عبدة ابن عمرو السلماني مثله.

(9/313)


100-باب إذا تزوج البكر على الثيب
5213- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا بِشْرٌ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلَوْ شِئْتُ أَنْ أَقُولَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "وَلَكِنْ قَالَ السُّنَّةُ إِذَا تَزَوَّجَ الْبِكْرَ أَقَامَ عِنْدَهَا سَبْعًا وَإِذَا تَزَوَّجَ الثَّيِّبَ أَقَامَ عِنْدَهَا ثَلاَثًا"
[الحديث 5213- طرفه في: 5212]

(9/313)


101- باب إِذَا تَزَوَّجَ الثَّيِّبَ عَلَى الْبِكْرِ
5214- حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ رَاشِدٍ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ سُفْيَانَ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ وَخَالِدٌ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ مِنْ السُّنَّةِ إِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ الْبِكْرَ عَلَى الثَّيِّبِ أَقَامَ عِنْدَهَا سَبْعًا وَقَسَمَ وَإِذَا تَزَوَّجَ الثَّيِّبَ عَلَى الْبِكْرِ أَقَامَ عِنْدَهَا ثَلاَثًا ثُمَّ قَسَمَ قَالَ أَبُو قِلاَبَةَ وَلَوْ شِئْتُ لَقُلْتُ إِنَّ أَنَسًا رَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَيُّوبَ وَخَالِدٍ قَالَ خَالِدٌ وَلَوْ شِئْتُ قُلْتُ رَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
قوله: "باب إذا تزوج الثيب على البكر" أي أو عكس كيف يصنع؟ قوله: "حدثنا يوسف بن راشد" هو يوسف بن موسى بن راشد نسب لجده. قوله: "حدثنا أبو أسامة عن سفيان" في رواية نعيم من طريق حمزة بن عون عن أبي أسامة "حدثنا سفيان". قوله: "حدثنا أيوب" هو السختياني وخالد هو الحذاء. قوله: "عن أبي قلابة" أي أنهما جميعا روياه عن أبي قلابة. لكن الذي يظهر أنه ساقه على لفظ خالد. قوله: "قال من السنة" أي سنة النبي صلى الله عليه وسلم، هذا الذي يتبادر للفهم من قول الصحابي، وقد مضى في الحج قول سلام بن عبد الله بن عمر لما سأله الزهري عن قول ابن عمر للحجاج "إن كنت تريد السنة هل تريد سنة النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال له سالم: وهل يعنون بذلك إلا سنته". قوله: "إذا تزوج الرجل البكر على الثيب" أي يكون عنده امرأة فيتزوج معها بكرا كما سيأتي البحث عنه. قوله: "أقام عندها سبعا وقسم، ثم قال: أقام عندها ثلاثا ثم قسم" كذا في البخاري بالواو في الأولى وبلفظ: "ثم" في الثانية، ووقع عند الإسماعيلي وأبي نعيم من طريق حمزة بن عون عن أبي أسامة بلفظ: "ثم" في الموضعين. قوله: "قال أبو قلابة: ولو شئت لقلت أن أنسا رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم" كأنه يشير إلى أنه لو صرح برفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم لكان صادقا ويكون روى بالمعنى وهو جائز عنده، لكنه رأى أن المحافظة على اللفظ أولى. وقال ابن دقيق العيد: قول أبي قلابة يحتمل وجهين أحدهما أن يكون ظن أنه سمعه عن أنس مرفوعا لفظا فتحرز عنه تورعا، والثاني أن يكون رأى أن قول أنس "من السنة" في حكم المرفوع، فلو عبر عنه بأنه مرفوع على حسب اعتقاده لصح لأنه في حكم المرفوع، قال: والأول أقرب، لأن قوله: "من السنة" يقتضي أن يكون مرفوعا بطريق اجتهادي محتمل، وقوله: "أنه رفعه:" نص في رفعه وليس للراوي أن ينقل ما هو ظاهر محتمل إلى ما هو نص غير محتمل انتهى، وهو بحث متجه، ولم يصب من رده بأن الأكثر على أن قول الصحابي "من السنة كذا" في حكم المرفوع لاتجاه الفرق بين ما هو مرفوع وما هو في حكم المرفوع، لكن باب الرواية بالمعنى متسع، وقد وافق هذه الرواية ابن علية عن خالد في نسبة هذا القول إلى أبي قلابة أخرجه الإسماعيلي ونسبه بشر بن المفضل وهشيم

(9/314)


إلى خالد، ولا منافاة بينهما كما تقدم لاحتمال أن يكون كل منهما قال ذلك. قوله: "وقال عبد الرزاق أخبرنا سفيان عن أيوب وخالد" يعني بهذا الإسناد والمتن. قوله: "قال خالد ولو شئت لقلت رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم" كأن البخاري أراد أن يبين أن الرواية عن سفيان الثوري اختلفت في نسبة هذا القول هل هو قول أبي قلابة أو قول خالد، ويظهر لي أن هذه الزيادة في رواية خالد عن أبي قلابة دون رواية أيوب، ويؤيده أنه أخرجه في الباب الذي قبله من وجه آخر عن خالد وذكر الزيادة في صدر الحديث، وقد وصل طريق عبد الرزاق المذكورة مسلم فقال: "حدثني محمد بن رافع حدثنا عبد الرزاق ولفظه: من السنة أن يقيم عند البكر سبعا، قال خالد إلخ" وقد رواه أبو داود الحفري والقاسم ابن يزيد الجرمي عن الثوري عنهما أخرجه الإسماعيلي، ورواه عبد الله بن الوليد العدني عن سفيان كذلك أخرجه البيهقي، وشذ أبو قلابة الرقاشي فرواه عن أبي عاصم عن سفيان عن خالد وأيوب جميعا وقال فيه: "قال صلى الله عليه وسلم:" أخرجه أبو عوانة في صحيحه عنه وقال: "حدثناه الصغاني عن أبي قلابة وقال: هو غريب لا أعلم من قاله غير أبي قلابة" انتهى. وقد أخرج الإسماعيلي من طريق أيوب من رواية عبد الوهاب الثقفي عنه عن أبي قلابة عن أنس قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" فصرح برفعه، وهو يؤيد ما ذكرته أن السياق في رواية سفيان لخالد، ورواية أيوب هذه إن كانت محفوظة احتمل أن يكون أبو قلابة لما حدث به أيوب جزم برفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أخرجه ابن خزيمة في صحيحه وأخرجه ابن حبان أيضا عنه عن عبد الجبار بن العلاء عن سفيان بن عيينة عن أيوب وصرح برفعه، وأخرجه الدارمي والدار قطني من طريق محمد بن إسحاق عن أيوب مثله، فبينت أن رواية خالد هي التي قال فيها "من السنة" وأن رواية أيوب قال فيها "قال النبي صلى الله عليه وسلم:" واستدل به على أن هذا العدل يختص بمن له زوجة قبل الجديدة. وقال ابن عبد البر: جمهور العلماء على أن ذلك حق للمرأة بسبب الزفاف وسواء كان عنده زوجة أم لا، وحكى النووي أنه يستحب إذا لم يكن عنده غيرها وإلا فيجب. وهذا يوافق كلام أكثر الأصحاب، واختار النووي أن لا فرق، وإطلاق الشافعي يعضده، ولكن يشهد للأول قوله في حديث الباب: "إذا تزوج البكر على الثيب" ويمكن أن يتمسك للآخر بسياق بشر عن خالد الذي في الباب قبله فإنه قال: "إذا تزوج البكر أقام عندها سبعا" الحديث ولم يقيده بما إذا تزوجها على غيرها، لكن القاعدة أن المطلق محمول على المقيد، بل ثبت في رواية خالد التقييد، فعند مسلم من طريق هشيم عن خالد "إذا تزوج البكر على الثيب" الحديث. ويؤيده أيضا قوله في حديث الباب: "ثم قسم" لأن القسم إنما يكون لمن عنده زوجة أخرى، وفيه حجة على الكوفيين في قولهم: أن البكر والثيب سواء في الثلاث، وعلى الأوزاعي في قوله للبكر ثلاث وللثيب يومان، وفيه حديث مرفوع عن عائشة أخرجه الدار قطني بسند ضعيف جدا وخص من عموم حديث الباب ما لو أرادت الثيب أن يكمل لها السبع فإنه إذا أجابها سقط حقها من الثلاث وقضى السبع لغيرها، لما أخرجه مسلم من حديث أم سلمة "أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تزوجها أقام عندها ثلاثا وقال: إنه ليس بك على أهلك هوان، إن شئت سبعت لك، وإن سبعت لك سبعت لنسائي" وفي رواية له "إن شئت ثلثت ثم درت، قالت ثلث" وحكى الشيخ أبو إسحاق في "المهذب" وجهين في أنه يقضي السبع أو الأربع المزيدة، والذي قطع به الأكثر إن اختار السبع قضاها كلها وإن أقامها بغير اختيارها قضى الأربع المزيدة. "تنبيه": يكره أن يتأخر في السبع أو الثلاث عن صلاة الجماعة وسائر أعمال البر التي كان يفعلها؛ نص عليه الشافعي. وقال الرافعي: هذا في النهار، وأما في الليل فلا، لأن المندوب لا يترك

(9/315)


له الواجب، وقد قال الأصحاب: يسوي بين الزوجات في الخروج إلى الجماعة وفي سائر أعمال البر، فيخرج في ليالي الكل أو لا يخرج أصلا، فإن خصص حرم عليه، وعدوا هذا من الأعذار في ترك الجماعة. وقال ابن دقيق العيد: أفرط بعض الفقهاء فجعل مقامه عندها عذرا في إسقاط الجمعة، وبالغ في التشنيع. وأجيب بأنه قياس قول من يقول بوجوب المقام عندها وهو قول الشافعية، ورواه ابن القاسم عن مالك، وعنه يستحب وهو وجه للشافعية، فعلى الأصح يتعارض عنده الواجبان، فقدم حق الآدمي، هذا توجيهه، فليس بشنيع وإن كان مرجوحا، وتجب الموالاة في السبع وفي الثلاث، فلو فرق لم يحسب على الراجح لأن الحشمة لا تزول به، ثم لا فرق في ذلك بين الحرة والأمة، وقيل هي على النصف من الحرة ويجبر الكسر.

(9/316)


102- باب مَنْ طَافَ عَلَى نِسَائِهِ فِي غُسْلٍ وَاحِدٍ
5215- حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى بْنُ حَمَّادٍ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ حَدَّثَهُمْ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ فِي اللَّيْلَةِ الْوَاحِدَةِ وَلَهُ يَوْمَئِذٍ تِسْعُ نِسْوَةٍ"
قوله:" باب من طاف على نسائه في غسل واحد" ذكر فيه حديث أنس في ذلك، وقد تقدم سندا ومتنا في كتاب الغسل مع شرحه وفوائده والاختلاف على قتادة في كونهن تسعا أو إحدى عشرة وبيان الجمع بين الحديثين. وتعلق به من قال إن القسم لم يكن واجبا عليه، وتقدم أن ابن العربي نقل أنه كانت له ساعة من النهار لا يجب عليه فيها القسم وهي بعد العصر وقلت: إن لم أجد لذلك دليلا، ثم وجدت حديث عائشة الذي في الباب بعد هذا بلفظ: "كان إذا انصرف من العصر دخل على نسائه فيدنو من إحداهن" الحديث، وليس فيه بقية ما ذكر من أن تلك الساعة هي التي لم يكن القسم واجبا عليه فيها وأنه ترك إتيان نسائه كلهن في ساعة واحدة على تلك الساعة1 ويرد عليه قوله في حديث أنس "كان يطوف على نسائه في الليلة الواحدة" وقد تقدمت له توجيهات غير هذه هناك، وذكر عياض في "الشفا" أن الحكمة في طوافه عليهن في الليلة الواحدة كان لتحصينهن، وكأنه أراد به عدم تشوفهن للأزواج، إذ الإحصان له معان منها الإسلام والحرية والعفة، والذي يظهر أن ذلك إنما كان لإرادة العدل بينهن في ذلك وإن لم يكن واجبا، كما تقدم شيء من ذلك في "باب كثرة النساء". وفي التعليل الذي ذكره نظر لأنهن حرم عليهن التزويج بعده وعاش بعضهن بعده خمسين سنة فما دونها وزادت آخرهن موتا على ذلك.

(9/316)


103- باب دُخُولِ الرَّجُلِ عَلَى نِسَائِهِ فِي الْيَوْمِ
5216- حَدَّثَنَا فَرْوَةُ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا انْصَرَفَ مِنْ الْعَصْرِ دَخَلَ عَلَى نِسَائِهِ فَيَدْنُو مِنْ إِحْدَاهُنَّ فَدَخَلَ عَلَى حَفْصَةَ فَاحْتَبَسَ أَكْثَرَ مِمَّا كَانَ يَحْتَبِسُ"
ـــــــ
(1) قال مصحح طبعة بولاق: لعل فيه سقطا وتحريفا، ولعل الأصل: وإن ترك نسائه كلهن في ساعة واحدة محمول على تلك الساعة أو نحو ذلك.

(9/316)


104- باب إِذَا اسْتَأْذَنَ الرَّجُلُ نِسَاءَهُ فِي أَنْ يُمَرَّضَ فِي بَيْتِ بَعْضِهِنَّ فَأَذِنَّ لَهُ
5217- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ بِلاَلٍ قَالَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسْأَلُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ أَيْنَ أَنَا غَدًا أَيْنَ أَنَا غَدًا يُرِيدُ يَوْمَ عَائِشَةَ فَأَذِنَ لَهُ أَزْوَاجُهُ يَكُونُ حَيْثُ شَاءَ فَكَانَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ حَتَّى مَاتَ عِنْدَهَا قَالَتْ عَائِشَةُ فَمَاتَ فِي الْيَوْمِ الَّذِي كَانَ يَدُورُ عَلَيَّ فِيهِ فِي بَيْتِي فَقَبَضَهُ اللَّهُ وَإِنَّ رَأْسَهُ لَبَيْنَ نَحْرِي وَسَحْرِي وَخَالَطَ رِيقُهُ رِيقِي"
قوله: "باب إذا استأذن الرجل نساءه في أن يمرض في بيت بعضهن فأذن له" ذكر فيه حديث عائشة في ذلك وقد تقدم شرحه في الوفاة النبوية في آخر المغازي حديث عائشة في ذلك قد تقدم شرحه في الوفاة النبوية في آخر المغازي، والغرض منه هنا أن القسم لهن يسقط بإذنهن في ذلك، فكأنهن وهبن أيامهن تلك للتي هو في بيتها، وقد تقدم في بعض طرقه التصريح بذلك.

(9/317)


105- باب حُبِّ الرَّجُلِ بَعْضَ نِسَائِهِ أَفْضَلَ مِنْ بَعْضٍ
5218- حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ عَنْ يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ بْنِ حُنَيْنٍ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ دَخَلَ عَلَى حَفْصَةَ فَقَالَ يَا بُنَيَّةِ لاَ يَغُرَّنَّكِ هَذِهِ الَّتِي أَعْجَبَهَا حُسْنُهَا حُبُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهَا يُرِيدُ عَائِشَةَ فَقَصَصْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَبَسَّمَ"
قوله: "باب حب الرجل بعض نسائه أفصل من بعض" ذكر فيه طرفا من حديث ابن عباس عن عمر الذي تقدم في "باب موعظة الرجل ابنته" وهو ظاهر فيما ترجم له، وقد تقدم شرحه هناك. حديث ابن عباس عن عمر تقدم في "باب موعظة الرجل ابنته "وهو ظاهر فيما ترجم له، وقد تقدم شرحه هناك.

(9/317)


106- باب الْمُتَشَبِّعِ بِمَا لَمْ يَنَلْ وَمَا يُنْهَى مِنْ افْتِخَارِ الضَّرَّةِ
5219- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ هِشَامٍ عَنْ فَاطِمَةَ عَنْ أَسْمَاءَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ح حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ هِشَامٍ حَدَّثَتْنِي فَاطِمَةُ عَنْ أَسْمَاءَ أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي ضَرَّةً فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ إِنْ تَشَبَّعْتُ مِنْ زَوْجِي غَيْرَ الَّذِي يُعْطِينِي فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الْمُتَشَبِّعُ بِمَا لَمْ يُعْطَ كَلاَبِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ"
قوله: "باب المتشبع بما لم ينل، وما ينهى من افتخار الضرة" أشار بهذا إلى ما ذكره أبو عبيد في تفسير الخبر قال: قوله: "المتشبع" أي المتزين بما ليس عنده يتكثر بذلك ويتزين بالباطل؛ كالمرأة تكون عند الرجل ولها ضرة

(9/317)


107- باب الْغَيْرَةِ وَقَالَ وَرَّادٌ عَنْ الْمُغِيرَةِ قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ لَوْ رَأَيْتُ رَجُلًا مَعَ امْرَأَتِي لَضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ غَيْرَ مُصْفَحٍ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ لاَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ وَاللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّي"
5220- حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ شَقِيقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَا مِنْ أَحَدٍ أَغْيَرُ مِنْ اللَّهِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ وَمَا أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ الْمَدْحُ مِنْ اللَّهِ"
5221- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ مَا أَحَدٌ أَغْيَرَ مِنْ اللَّهِ أَنْ يَرَى عَبْدَهُ أَوْ أَمَتَهُ تَزْنِي يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا"
5222- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ حَدَّثَهُ عَنْ أُمِّهِ أَسْمَاءَ أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "لاَ شَيْءَ أَغْيَرُ مِنْ اللَّهِ"
5223- وَعَنْ يَحْيَى أَنَّ أَبَا سَلَمَةَ حَدَّثَهُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ح حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ إِنَّ اللَّهَ يَغَارُ وَغَيْرَةُ اللَّهِ أَنْ يَأْتِيَ الْمُؤْمِنُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ"
5224- حَدَّثَنَا مَحْمُودٌ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَتْ تَزَوَّجَنِي الزُّبَيْرُ وَمَا لَهُ فِي الأَرْضِ مِنْ مَالٍ وَلاَ مَمْلُوكٍ وَلاَ شَيْءٍ غَيْرَ نَاضِحٍ وَغَيْرَ فَرَسِهِ فَكُنْتُ أَعْلِفُ فَرَسَهُ وَأَسْتَقِي الْمَاءَ وَأَخْرِزُ غَرْبَهُ وَأَعْجِنُ وَلَمْ أَكُنْ أُحْسِنُ أَخْبِزُ وَكَانَ يَخْبِزُ جَارَاتٌ لِي مِنْ الأَنْصَارِ وَكُنَّ نِسْوَةَ صِدْقٍ وَكُنْتُ أَنْقُلُ النَّوَى مِنْ أَرْضِ الزُّبَيْرِ الَّتِي أَقْطَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَأْسِي وَهِيَ مِنِّي عَلَى ثُلُثَيْ فَرْسَخٍ فَجِئْتُ يَوْمًا وَالنَّوَى عَلَى رَأْسِي فَلَقِيتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنْ الأَنْصَارِ

(9/319)


فَدَعَانِي ثُمَّ قَالَ إِخْ إِخْ لِيَحْمِلَنِي خَلْفَهُ فَاسْتَحْيَيْتُ أَنْ أَسِيرَ مَعَ الرِّجَالِ وَذَكَرْتُ الزُّبَيْرَ وَغَيْرَتَهُ وَكَانَ أَغْيَرَ النَّاسِ فَعَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنِّي قَدْ اسْتَحْيَيْتُ فَمَضَى فَجِئْتُ الزُّبَيْرَ فَقُلْتُ لَقِيَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى رَأْسِي النَّوَى وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَأَنَاخَ لِأَرْكَبَ فَاسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ وَعَرَفْتُ غَيْرَتَكَ فَقَالَ وَاللَّهِ لَحَمْلُكِ النَّوَى كَانَ أَشَدَّ عَلَيَّ مِنْ رُكُوبِكِ مَعَهُ قَالَتْ حَتَّى أَرْسَلَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ بَعْدَ ذَلِكَ بِخَادِمٍ تَكْفِينِي سِيَاسَةَ الْفَرَسِ فَكَأَنَّمَا أَعْتَقَنِي"
5225- حَدَّثَنَا عَلِيٌّ حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ فَأَرْسَلَتْ إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ بِصَحْفَةٍ فِيهَا طَعَامٌ فَضَرَبَتْ الَّتِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِهَا يَدَ الْخَادِمِ فَسَقَطَتْ الصَّحْفَةُ فَانْفَلَقَتْ فَجَمَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِلَقَ الصَّحْفَةِ ثُمَّ جَعَلَ يَجْمَعُ فِيهَا الطَّعَامَ الَّذِي كَانَ فِي الصَّحْفَةِ وَيَقُولُ غَارَتْ أُمُّكُمْ ثُمَّ حَبَسَ الْخَادِمَ حَتَّى أُتِيَ بِصَحْفَةٍ مِنْ عِنْدِ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا فَدَفَعَ الصَّحْفَةَ الصَّحِيحَةَ إِلَى الَّتِي كُسِرَتْ صَحْفَتُهَا وَأَمْسَكَ الْمَكْسُورَةَ فِي بَيْتِ الَّتِي كَسَرَتْ فيه"
5226- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "دَخَلْتُ الْجَنَّةَ أَوْ أَتَيْتُ الْجَنَّةَ فَأَبْصَرْتُ قَصْرًا فَقُلْتُ لِمَنْ هَذَا قَالُوا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَدْخُلَهُ فَلَمْ يَمْنَعْنِي إِلاَّ عِلْمِي بِغَيْرَتِكَ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَوَعَلَيْكَ أَغَارُ"
5227- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ عَنْ يُونُسَ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي ابْنُ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جُلُوسٌ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بَيْنَمَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُنِي فِي الْجَنَّةِ فَإِذَا امْرَأَةٌ تَتَوَضَّأُ إِلَى جَانِبِ قَصْرٍ فَقُلْتُ لِمَنْ هَذَا قَالُوا هَذَا لِعُمَرَ فَذَكَرْتُ غَيْرَتَكَ فَوَلَّيْتُ مُدْبِرًا فَبَكَى عُمَرُ وَهُوَ فِي الْمَجْلِسِ ثُمَّ قَالَ أَوَعَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغَارُ"
قوله: "باب الغيرة" بفتح المعجمة وسكون التحتانية بعدها راء، قال عياض وغيره: هي مشتقة من تغير القلب وهيجان الغضب بسبب المشاركة فيما به الاختصاص، وأشد ما يكون ذلك بين الزوجين. هذا في حق الآدمي، وأما في حق الله فقال الخطابي: أحسن ما يفسر به ما فسر به في حديث أبي هريرة، يعني الآتي في هذا الباب وهو قوله: "وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم الله عليه" قال عياض: ويحتمل أن تكون الغيرة في حق الله الإشارة إلى تغير حال فاعل ذلك، وقيل الغيرة في الأصل الحمية والأنفة، وهو تفسير بلازم التغير فيرجع إلى الغضب، وقد نسب سبحانه وتعالى إلى نفسه في كتابه الغضب والرضا. وقال ابن العربي: التغير محال على الله بالدلالة القطعية

(9/320)


فيجب تأويله بلازمه كالوعيد أو إيقاع العقوبة بالفاعل ونحو ذلك ا هـ. وقد تقدم في كتاب الكسوف شيء من هذا ينبغي استحضاره هنا. ثم قال: ومن أشرف وجوه غيرته تعالى اختصاصه قوما بعصمته، يعني فمن ادعى شيئا من ذلك لنفسه عاقبه، قال وأشد الآدميين غيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه كان يغار لله ولدينه، ولهذا كان لا ينتقم لنفسه ا هـ. وأورد المصنف في الباب تسعة أحاديث: الحديث الأول. قوله: "وقال وراد" بفتح الواو وتشديد الراء هو كاتب المغيرة بن شعبة ومولاه، وحديثه هذا المعلق عن المغيرة سيأتي موصولا في كتاب الحدود من طريق عبد الملك بن عمير عنه بلفظه لكن فيه: "فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم:" واختصرها هنا، ويأتي أيضا في كتاب التوحيد من هذا الوجه أتم سياقا، وأغفل المزي التنبيه على هذا التعليق في النكاح. قوله: "قال سعد بن عبادة" هو سيد الخزرج وأحد نقبائهم.قوله: "لو رأيت رجلا مع امرأتي لضربته" عند مسلم من حديث أبي هريرة ولفظه : "قال سعد: يا رسول الله لو وجدت مع أهلي رجلا أمهله حتى آتي بأربعة شهداء؟ قال: نعم" وزاد في رواية من هذا الوجه "قال كلا والذي بعثك بالحق، إن كنت لأعاجله بالسيف قبل ذلك" وفي حديث ابن عباس عند أحمد واللفظ له وأبي داود والحاكم" لما نزلت هذه الآية {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} الآية، قال سعد بن عبادة: أهكذا أنزلت؟ فلو وجدت لكاع متفخذها رجل لم يكن لي أن أحركه ولا أهيجه حتى آتي بأربعة شهداء؟ فوالله لا آتي بأربعة شهداء حتى يقضي حاجته. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا معشر الأنصار ألا تسمعون ما يقول سيدكم؟ قالوا: يا رسول الله لا تلمه فإنه رجل غيور، والله ما تزوج امرأة قط إلا عذراء، ولا طلق امرأة فاجترأ رجل منا أن يتزوجها من شدة غيرته، فقال سعد: والله إني لأعلم يا رسول الله أنها لحق وأنها من عند الله، ولكني عجبت. قوله: "غير مصفح" قال عياض: هو بكسر الفاء وسكون الصاد المهملة، قال: ورويناه أيضا بفتح الفاء، فمن فتح جعله وصفا للسيف وحالا منه، ومن كسر جعله وصفا للضارب وحالا منه ا هـ. وزعم ابن التين أنه وقع في سائر الأمهات بتشديد الفاء وهو من صفح السيف أي عرضه وحده، ويقال له غرار بالغين المعجمة، وللسيف صفحان وحدان، وأراد أنه يضربه بحده لا بعرضه، والذي يضرب بالحد يقصد إلى القتل بخلاف الذي يضرب بالصفح فإنه يقصد التأديب. ووقع عند مسلم من رواية أبي عوانة "غير مصفح عنه" وهذه يترجح فيها كسر الفاء ويجوز الفتح أيضا على البناء للمجهول، وقد أنكرها ابن الجوزي وقال: ظن الراوي أنه من الصفح الذي هو بمعنى العفو، وليس كذلك إنما هو من صفح السيف، قلت: ويمكن توجيهها على المعنى الأول، والصفح والصفحة بمعنى. وقد أورده مسلم من طريق زائدة عن عبد الملك بن عمير وبين أنه ليس في روايته لفظه: "عنه" وكذا سائر من رواه عن أبي عوانة في البخاري وغيره لم يذكروها. قوله: "أتعجبون من غيرة سعد" تمسك بهذا التقرير من أجاز فعل ما قال سعد وقال: إن وقع ذلك ذهب دم المقتول هدرا، نقل ذلك عن ابن المواز من المالكية، وسيأتي بسط ذلك وبيانه في كتاب الحدود إن شاء الله تعالى. قوله: "شقيق" هو أبو وائل الأسدي وعبد الله هو ابن مسعود. قوله: "ما من أحد أغير من الله" "من" زائدة بدليل الحديث الذي بعده، ويجوز في "أغير" الرفع والنصب على اللغتين الحجازية والتميمية في "ما" ويجوز في النصب أن يكون "أغير" في موضع خفض على النعت لأحد، وفي الرفع أن يكون صفة لأحد، والخبر محذوف في الحالين تقديره موجود ونحوه، والكلام على غيره الله ذكر في الذي قبله، وبقية شرح الحديث يأتي في كتاب التوحيد إن شاء الله تعالى. "تنبيه": وقع عند

(9/321)


الإسماعيلي قبل حديث ابن مسعود ترجمة صورتها "في الغيرة والمدح" وما رأيت ذلك في شيء من نسخ البخاري. حديث عائشة. قوله: "يا أمة محمد، ما أحد أغير من الله أن يزني عبده أو أمته تزني" كذا وقع عنده هنا عن عبد الله بن سلمة وهو القعنبي عن مالك، ووقع في سائر الروايات عن مالك "أو تزني أمته" على وزان الذي قبله، وقد تقدم في كتاب الكسوف عن عبد الله بن مسلمة هذا بهذا الإسناد كالجماعة، فيظهر أنه من سبق القلم هنا، ولعل لفظة "تزني" سقطت غلطا من الأصل ثم ألحقت فأخرها الناسخ عن محلها. وهذا القدر الذي أورده المصنف من هذا الحديث هو طرف من الخطبة المذكورة في كتاب الكسوف، وقد تقدم شرحه مستوفى هناك بحمد الله تعالى. قوله: "عن يحيى" هو ابن أبي كثير. قوله: "عن أبي سلمة" هو ابن عبد الرحمن. قوله: "أن عروة" في رواية حجاج بن أبي عثمان عن يحيى بن أبي كثير عند مسلم: "حدثني عروة" ورواية أبي سلمة عن عروة من رواية القرين عن القرين لأنهما متقاربان في السن واللقاء، وإن كان عروة أسن من أبي سلمة قليلا. قوله: "عن أمه أسماء" هي بنت أبي بكر، ووقع في رواية مسلم المذكورة "أن أسماء بنت أبي بكر الصديق حدثته". قوله: "لا شيء أغير من الله" في رواية حجاج المذكورة "ليس شيء أغير من الله" وهما بمعنى. قوله: "وعن يحيى أن أبا سلمة حدثه أن أبا هريرة حدثه" هكذا أورده، وهو معطوف على السند الذي قبله فهو موصول، ولم يسق البخاري المتن من رواية همام بل تحول إلى رواية شيبان فساقه على روايته، والذي يظهر أن لفظهما واحد، وقد وقع في رواية حجاج بن أبي عثمان عند مسلم بتقديم حديث أبي سلمة عن عروة على حديثه عن أبي هريرة عكس ما وقع في رواية همام عند البخاري، وأورده مسلم أيضا من رواية حرب بن شداد عن يحيى بحديث أبي هريرة فقط مثل ما أورده البخاري من رواية شيبان عن يحيى، ثم أورده مسلم من رواية هشام الدستوائي عن يحيى بحديث أسماء فقط، فكأن يحيى كان يجمعهما تارة ويفرد أخرى، وقد أخرجه الإسماعيلي من رواية الأوزاعي عن يحيى بحديث أسماء فقط وزاد في أوله "على المنبر". قوله: "إن الله يغار" زاد في رواية حجاج عند مسلم: "وإن المؤمن يغار". قوله: "وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم الله" كذا للأكثر وكذا هو عند مسلم لكن بلفظ: "ما حرم عليه" على البناء للفاعل وزيادة "عليه" والضمير للمؤمن، ووقع في رواية أبي ذر "وغيرة الله أن لا يأتي" بزيادة "لا" وكذا رأيتها ثابتة في رواية النسفي، وأفرط الصغاني فقال: كذا للجميع والصواب حذف "لا"، كذا قال وما أدري ما أراد بالجميع، بل أكثر رواة البخاري على حذفها وفاقا لمن رواه غير البخاري كمسلم والترمذي وغيرهما، وقد وجهها الكرماني وغيره بما حاصله: أن غيرة الله ليست هي الإتيان ولا عدمه، فلا بد من تقدير مثل لأن لا يأتي أي غيرة الله على النهي عن الإتيان أو نحو ذلك. وقال الطيبي: التقدير غيرة الله ثابتة لأجل أن لا يأتي. قال الكرماني: وعلى تقدير أن لا يستقيم المعنى بإثبات "لا" فذلك دليل على زيادتها وقد عهدت زيادتها في الكلام كثيرا مثل قوله: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ} – {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} وغير ذلك. قوله: "حدثني محمود" هو ابن غيلان المروزي. قوله: "أخبرني أبي عن أسماء" هي أمه المقدم ذكرها قبل. قوله: "تزوجني الزبير" أي ابن العوام "وما له في الأرض من مال ولا مملوك ولا شيء غير ناضح وغير فرسه" أما عطف المملوك على المال فعلى أن المراد بالمال الإبل أو الأراضي التي تزرع، وهو استعمال معروف للعرب يطلقون المال على كل من ذلك، والمراد بالمملوك على هذا الرقيق من العبيد

(9/322)


والإماء، وقولها بعد ذلك "ولا شيء" من عطف العام على الخاص يشمل كل ما يتملك أو يتمول لكن الظاهر أنها لم ترد إدخال ما لا بد له منه من مسكن وملبس ومطعم ورأس مال تجارة، ودل سياقها على أن الأرض التي يأتي ذكرها لم تكن مملوكة للزبير وإنما كانت إقطاعا، فهو يمللك منفعتها لا رقبتها، ولذلك لم تستثنها كما استثنت الفرس والناضح، وفي استثنائها الناضح والفرس نظر استشكله الداودي، لأن تزويجها كان بمكة قبل الهجرة، وهاجرت وهي حامل بعبد الله بن الزبير كما تقدم ذلك صريحا في كتاب الهجرة، والناضح وهو الجمل الذي يسقى عليه الماء إنما حصل له بسبب الأرض التي أقطعها، قال الداودي: ولم يكن له بمكة فرس ولا ناضح، والجواب منع هذا النفي وأنه لا مانع أن يكون الفرس والجمل كانا له بمكة قبل أن يهاجر، فقد ثبت أنه كان في يوم بدر على فرس ولم يكن قبل بدر غزوة حصلت لهم منها غنيمة، والجمل يحتمل أن يكون كان له بمكة ولما قدم به المدينة وأقطع الأرض المذكورة أعده لسقيها وكان ينتفع به قبل ذلك في غير السقي فلا إشكال. قوله: "فكنت أعلف فرسه" زاد مسلم عن أبي كريب عن أبي أسامة "وأكفيه مؤنته وأسوسه وأدق النوى لناصحه وأعلفه" ولمسلم أيضا من طريق ابن أبي مليكة عن أسماء "كنت أخدم الزبير خدمة البيت وكان له فرس وكنت أسوسه فلم يكن من خدمته شيء أشد علي من سياسة الفرس كنت أحش له وأقوم عليه". قوله: "وأستقي الماء" كذا للأكثر، وللسرخسي "وأسقي" بغير مثناة وهو على حذف المفعول أي وأسقي الفرس أو الناضح الماء، والأول أشمل معنى وأكثر فائدة. قوله: "وأخرز" بخاء معجمة ثم راء ثم زاي "غربه" بفتح المعجمة وسكون الراء بعدها موحدة هو الدلو. قوله: "وأعجن" أي الدقيق وهو يؤيد ما حملنا عليه المال، إذ لو كان المراد نفي أنواع المال لانتفى الدقيق الذي يعجن، لكن ليس ذلك مرادها، وقد تقدم في حديث الهجرة أن الزبير لاقى النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر راجعا من الشام بتجارة وأنه كساهما ثيابا. قوله: "ولم أكن أحسن أخبز فكان يخبز جارات لي" في رواية مسلم: "فكان يخبز لي" وهذا محمول على أن في كلامها شيئا محذوفا تقديره تزوجني الزبير بمكة وهو بالصفة المذكورة، واستمر على ذلك حتى قدمنا المدينة، وكنت أصنع كذا إلخ، لأن النسوة من الأنصار إنما جاورنها بعد قدومها المدينة قطعا، وكذلك ما سيأتي من حكاية نقلها النوى من أرض الزبير. قوله: "وكن نسوة صدق" أضافتهن إلى الصدق مبالغة في تلبسهن به في حسن العشرة والوفاء بالعهد. قوله: "وكنت أنقل النوى من أرض الزبير التي أقطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم" تقدم في كتاب فرض الخمس بيان حال الأرض المذكورة وأنها كانت مما أفاء الله على رسوله من أموال بني النضير، وكان ذلك في أوائل قدومه المدينة كما تقدم بيان ذلك هناك. قوله: "وهي مني" أي من مكان سكناها. قوله: "فدعاني ثم قال إخ إخ" بكسر الهمزة وسكون الخاء، كلمة تقال للبعير لمن أراد أن ينيخه. قوله: "ليحملني خلفه" كأنها فهمت ذلك من قرينة الحال، وإلا فيحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم أراد أن يركبها وما معها ويركب هو شيئا آخر غير ذلك. قوله: "فاستحييت أن أسير مع الرجال" هذا بنته على ما فهمته من الارتداف، وإلا فعلى الاحتمال الآخر ما تتعين المرافقة. قوله: "وذكرت الزبير وغيرته، وكان أغير الناس" هو بالنسبة إلى من علمته، أي أرادت تفضيله على أبناء جنسه في ذلك، أو "من" مرادة، ثم رأيتها ثابتة في رواية الإسماعيلي ولفظه: "وكان من أغير الناس". قوله: "والله لحملك النوى على رأسك كان أشد علي من ركوبك معه" كذا للأكثر. وفي رواية السرخسي كان أشد عليك وسقطت هذه اللفظة من رواية مسلم، ووجه المفاضلة التي أشار إليها الزبير أن ركوبها مع النبي صلى الله عليه وسلم لا ينشأ منه

(9/323)


كبير أمر من الغيرة لأنها أخت امرأته، فهي في تلك الحالة لا يحل له تزويجها أن لو كانت خلية من الزوج، وجواز أن يقع لها ما وقع لزينب بنت جحش بعيد جدا لأنه يزيد عليه لزوم فراقه لأختها، فما بقي إلا احتمال أن يقع لها من بعض الرجال مزاحمة بغير قصد، وأن ينكشف منها حالة السير ما لا تريد انكشافه ونحو ذلك، وهذا كله أخف مما تحقق من تبذلها بحمل النوى على رأسها من مكان بعيد لأنه قد يتوهم خسة النفس ودناءة الهمة وقلة الغيرة ولكن كان السبب الحامل على الصبر على ذلك شغل زوجها وأبيها بالجهاد وغيره مما يأمرهم به النبي صلى الله عليه وسلم ويقيمهم فيه، وكانوا لا يتفرغون للقيام بأمور البيت بأن يتعاطوا ذلك بأنفسهم، ولضيق ما بأيديهم على استخدام من يقوم بذلك عنهم، فانحصر الأمر في نسائهم فكن يكفينهم مؤنة المنزل ومن فيه ليتوفروا هم على ما هم فيه من نصر الإسلام مع ما ينضم إلى ذلك من العادة المانعة من تسمية ذلك عارا محضا. قوله: "حتى أرسل إلي أبو بكر بخادم تكفيني سياسة الفرس فكأنما أعتقني" في رواية مسلم: "فكفتني" وهي أوجه، لأن الأولى تقتضي أنه أرسلها لذلك خاصة، بخلاف رواية مسلم وقد وقع عنده في رواية ابن أبي مليكة "جاء النبي صلى الله عليه وسلم سبى فأعطاها خادما، قالت كفتني سياسة الفرس فألقت عني مؤنته" ويجمع بين الروايتين بأن السبي لما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم أعطى أبا بكر منه خادما ليرسله إلى ابنته أسماء فصدق أن النبي صلى الله عليه وسلم هو المعطي، ولكن وصل ذلك إليها بواسطة. ووقع عنده في هذه الرواية أنها باعتها بعد ذلك وتصدقت بثمنها، وهو محمول على أنها استغنت عنها بغيرها. واستدل بهذه القصة على أن على المرأة القيام بجميع ما يحتاج إليه زوجها من الخدمة، وإليه ذهب أبو ثور، وحمله الباقون على أنها تطوعت بذلك ولم يكن لازما، أشار إليه المهلب وغيره. والذي يظهر أن هذه الواقعة وأمثالها كانت في حال ضرورة كما تقدم فلا يطرد الحكم في غيرها ممن لم يكن في مثل حالهم، وقد تقدم أن فاطمة سيدة نساء العالمين شكت ما تلقى يداها من الرحى وسألت أباها خادما فدلها على خير من ذلك وهو ذكر الله تعالى، والذي يترجح حمل الأمر في ذلك على عوائد البلاد فإنها مختلفة في هذا الباب، قال المهلب: وفيه أن المرأة الشريفة إذا تطوعت بخدمة زوجها بشيء لا يلزمها لم ينكر عليها ذلك أب ولا سلطان، وتعقب بأنه بناه على ما أصله من أن ذلك كان تطوعا، ولخصمه أن يعكس فيقول لو لم يكن لازما ما سكت أبوها مثلا على ذلك مع ما فيه من المشقة عليه وعليها، ولا أقر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك مع عظمة الصديق عنده؛ قال: وفيه جواز ارتداف المرأة خلف الرجل في موكب الرجال، قال: وليس في الحديث أنها استترت ولا أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها بذلك، فيؤخذ منه أن الحجاب إنما هو في حق أزواج النبي صلى الله عليه وسلم خاصة ا هـ. والذي يظهر أن القصة كانت قبل نزول الحجاب ومشروعيته، وقد قالت عائشة كما تقدم في تفسير سورة النور "لما نزلت : {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ}" أخذن أزرهن من قبل الحواشي فشققنهن فاختمرن بها" ولم تزل عادة النساء قديما وحديثا يسترن وجوههن عن الأجانب، والذي ذكر عياض أن الذي اختص به أمهات المؤمنين ستر شخوصهن زيادة على ستر أجسامهن، وقد ذكرت البحث معه في ذلك في غير هذا الموضع. قال المهلب: وفيه غيرة الرجل عند ابتذال أهله فيما يشق من الخدمة وأنفة نفسه من ذلك لا سيما إذا كانت ذات حسب انتهى. وفيه منقبة لأسماء وللزبير ولأبي بكر ولنساء الأنصار. قوله: "حدثنا علي" هو ابن المديني، وابن علية اسمه إسماعيل. وقوله عن أنس تقدم في المظالم بيان من صرح عن حميد بسماعه له من أنس، وكذا تسمية المرأتين المذكورتين، وأن التي كانت في بيتها هي عائشة وأن التي هي أرسلت الطعام

(9/324)


زينب بنت جحش وقيل غير ذلك. قوله: "غارت أمكم" الخطاب لمن حضر، والمراد بالأم هي التي كسرت الصحفة وهي من أمهات المؤمنين كما تقدم بيانه، وأغرب الداودي فقال: المراد بقوله: "أمكم" سارة، وكأن معنى الكلام عنده لا تتعجبوا مما وقع من هذه من الغيرة فقد غارت قبل ذلك أمكم حتى أخرج إبراهيم ولده إسماعيل وهو طفل مع أمه إلى واد غير ذي زرع، وهذا وإن كان له بعض توجيه لكن المراد خلافه وأن المراد كاسرة الصحفة وعلى هذا حمله جميع من شرح هذا الحديث وقالوا: فيه إشارة إلى عدم مؤاخذة الغيراء بما يصدر منها لأنها في تلك الحالة يكون عقلها محجوبا بشدة الغضب الذي أثارته الغيرة. وقد أخرج أبو يعلى بسند لا بأس به عن عائشة مرفوعا: "أن الغيراء لا تبصر أسفل الوادي من أعلاه" قاله في قصة. وعن ابن مسعود رفعه: "إن الله كتب الغيرة على النساء، فمن صبر منهن كان لها أجر شهيد" أخرجه البزار وأشار إلى صحته ورجاله ثقات، لكن اختلف في عبيد بن الصباح منهم. وفي إطلاق الداودي على سارة أنها أم المخاطبين نظر أيضا، فإنهم إن كانوا من بني إسماعيل فأمهم هاجر لا سارة، ويبعد أن يكونوا من بني إسرائيل حتى يصح أن أمهم سارة. قوله: "معتمر" هو ابن سليمان التيمي وعبيد الله هو ابن عمر العمري، وقد تقدم الحديث عن جابر مطولا في مناقب عمر مع شرحه. قوله: "بينما أنا نائم رأيتني في الجنة" هذا يعين أحد الاحتمالين في الحديث الذي قبله حيث قال فيه: "دخلت الجنة أو أتيت الجنة" وأنه يحتمل أن ذلك كان في اليقظة أو في النوم فبين هذا الحديث أن ذلك كان في النوم. قوله: "فإذا امرأة تتوضأ" تقدم النقل عن الخطابي في زعمه أن هذه اللفظة تصحيف وأن القرطبي عزا هذا الكلام لابن قتيبة، وهو كذلك أورده في "غريب الحديث:" من طريق أخرى عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة وتلقاه عنه الخطابي فذكره في شرح البخاري وارتضاه ابن بطال فقال يشبه أن تكون هذه الرواية الصواب. وتتوضأ تصحيف، لأن الحور طاهرات لا وضوء عليهن، وكذا كل من دخل الجنة لا تلزمه طهارة، وقد قدمت البحث مع الخطابي في هذا في مناقب عمر بما أغنى عن إعادته، وقد استدل الداودي بهذا الحديث على أن الحور في الجنة يتوضئان ويصلين قلت: ولا يلزم من كون الجنة لا تكليف فيها بالعبادة أن لا يصدر من أحد من العباد باختياره ما شاء من أنواع العبادة. ثم قال ابن بطال: يؤخذ من الحديث أن من علم من صاحبه خلقا لا ينبغي أن يتعرض لما ينافره ا هـ. وفيه أن من نسب إلى من اتصف بصفة صلاح ما يغاير ذلك ينكر عليه. وفيه أن الجنة موجودة وكذلك الحور، وقد تقدم تقرير ذلك في بدء الخلق، وسائر فوائده تقدمت في مناقب عمر.

(9/325)


108- باب غَيْرَةِ النِّسَاءِ وَوَجْدِهِنَّ
5228- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنِّي لاَعْلَمُ إِذَا كُنْتِ عَنِّي رَاضِيَةً وَإِذَا كُنْتِ عَلَيَّ غَضْبَى قَالَتْ فَقُلْتُ مِنْ أَيْنَ تَعْرِفُ ذَلِكَ فَقَالَ أَمَّا إِذَا كُنْتِ عَنِّي رَاضِيَةً فَإِنَّكِ تَقُولِينَ لاَ وَرَبِّ مُحَمَّدٍ وَإِذَا كُنْتِ عَلَيَّ غَضْبَى قُلْتِ لاَ وَرَبِّ إِبْرَاهِيمَ قَالَتْ قُلْتُ أَجَلْ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَهْجُرُ إِلاَّ اسْمَكَ"
[الحديث 5228- طرفه في: 6078]

(9/325)


109- باب ذَبِّ الرَّجُلِ عَنْ ابْنَتِهِ فِي الْغَيْرَةِ وَالإِنْصَافِ
5230- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ إِنَّ بَنِي هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ اسْتَأْذَنُوا فِي أَنْ يُنْكِحُوا ابْنَتَهُمْ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ فَلاَ آذَنُ ثُمَّ لاَ آذَنُ ثُمَّ لاَ آذَنُ إِلاَّ أَنْ يُرِيدَ ابْنُ أَبِي طَالِبٍ أَنْ يُطَلِّقَ ابْنَتِي وَيَنْكِحَ ابْنَتَهُمْ فَإِنَّمَا هِيَ بَضْعَةٌ مِنِّي يُرِيبُنِي مَا أَرَابَهَا وَيُؤْذِينِي مَا آذَاهَا"
قوله: "باب ذب الرجل عن ابنته في الغيرة والإنصاف" أي في دفع الغيرة عنها وطلب الإنصاف لها. قوله: "عن ابن أبي مليكة عن المسور" كذا رواه الليث وتابعه عمرو بن دينار وغير واحد، وخالفهم أيوب فقال: "عن ابن أبي مليكة عن عبد الله بن الزبير" أخرجه الترمذي وقال حسن، وذكر الاختلاف فيه ثم قال: يحتمل أن يكون ابن أبي مليكة حمله عنهما جميعا ا هـ. والذي يظهر ترجيح رواية الليث لكونه توبع ولكون الحديث قد جاء عن المسور من غير رواية ابن أبي مليكة، فقد تقدم في فرض الخمس وفي المناقب من طريق الزهري عن علي بن الحسين بن علي عن المسور وزاد فيه في الخمس قصة سيف النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك سبب تحديث المسور لعلي بن الحسين بهذا الحديث، وقد ذكرت ما يتعلق بقصة السيف عنه هناك، ولا أزال أتعجب من المسور كيف بالغ في تعصبه لعلي بن الحسين حتى قال: إنه لو أودع عنده السيف لا يمكن أحدا منه حتى تزهق روحه، رعاية لكونه ابن ابن فاطمة محتجا بحديث الباب، ولم يراع خاطره في أن ظاهر سياق الحديث المذكور غضاضة على علي بن الحسين لما فيه من إيهام غض من جده علي بن أبي طالب حيث أقدم على خطبة بنت أبي جهل على فاطمة حتى اقتضى أن يقع من النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك من الإنكار ما وقع، بل أتعجب من المسور تعجبا آخر أبلغ من ذلك وهو أن يبذل نفسه دون السيف رعاية لخاطر ولد ابن فاطمة، وما بذل نفسه دون ابن فاطمة نفسه أعني الحسين والد علي الذي وقعت له معه القصة حتى قتل بأيدي ظلمة الولاة، لكن يحتمل أن يكون عذره أن الحسين لما خرج إلى العراق ما كان المسور وغيره من أهل الحجاز يظنون أن أمره يئول إلى ما آل إليه والله أعلم. وقد تقدم في فرض الخمس وجه المناسبة بين قصة السيف وقصة الخطبة بما يغني عن إعادته. قوله: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو على المنبر" في رواية الزهري عن علي بن حسين عن المسور الماضية في فرض الخمس "يخطب الناس على منبره هذا وأنا يومئذ محتلم" قال ابن سيد الناس: هذا غلط. والصواب ما وقع عند الإسماعيلي بلفظ: "كالمحتلم" أخرجه من طريق يحيى بن معين عن يعقوب بن إبراهيم بسنده المذكور إلى علي بن الحسين قال: والمسور لم يحتلم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه ولد بعد ابن الزبير، فيكون عمره عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ثماني سنين. قلت: كذا جزم به، وفيه نظر، فإن الصحيح أن ابن الزبير ولد في السنة الأولى فيكون عمره عند الوفاة النبوية تسع سنين فيجوز أن يكون احتلم في أول سني الإمكان، أو يحمل قوله محتلم على المبالغة والمراد التشبيه فتلتئم الروايتان، وإلا فابن ثمان سنين لا يقال له محتلم ولا كالمحتلم إلا أن يريد بالتشبيه أنه كان كالمحتلم في الحذق

(9/327)


110- باب يَقِلُّ الرِّجَالُ وَيَكْثُرُ النِّسَاءُ وَقَالَ أَبُو مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَرَى الرَّجُلَ الْوَاحِدَ يَتْبَعُهُ أَرْبَعُونَ امْرَأَةً يَلُذْنَ بِهِ مِنْ قِلَّةِ الرِّجَالِ وَكَثْرَةِ النِّسَاءِ
5231- حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ الْحَوْضِيُّ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لاَحَدِّثَنَّكُمْ حَدِيثًا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ يُحَدِّثُكُمْ بِهِ أَحَدٌ غَيْرِي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يُرْفَعَ الْعِلْمُ وَيَكْثُرَ الْجَهْلُ وَيَكْثُرَ الزِّنَا وَيَكْثُرَ شُرْبُ الْخَمْرِ وَيَقِلَّ الرِّجَالُ وَيَكْثُرَ النِّسَاءُ حَتَّى يَكُونَ لِخَمْسِينَ امْرَأَةً الْقَيِّمُ الْوَاحِدُ"
قوله: "باب يقل الرجال ويكثر النساء" أي في آخر الزمان. قوله: "وقال أبو موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم: وترى الرجل الواحد يتبعه أربعون نسوة" في رواية الكشميهني امرأة "والأول على حذف الموصوف، وقوله: "يلذن به" قيل لكونهن نساءه وسراريه أو لكونهن قراباته أو من الجميع. وروى علي بن معبد في كتاب الطاعة والمعصية من حديث حذيفة قال: إذا عمت الفتنة ميز الله أولياءه، حتى يتبع الرجل خمسون امرأة تقول: يا عبد الله استرني يا عبد الله آوني" وقد تقدم حديث أبي موسى موصولا في "باب الصدقة قبل الرد" من كتاب الزكاة في حديث أوله "ليأتين على الناس زمان يطوف الرجل فيه بالصدقة" الحديث. قوله: "حدثنا هشام" هو الدستوائي كذا للأكثر، ووقع في رواية أبي أحمد الجرجاني "همام" والأول أولى، وهمام وهشام كلاهما من شيوخ حفص بن عمر المذكور وهو الحوضي، وسيأتي في الأشربة عن مسلم بن إبراهيم عن هشام. قوله: "إن من أشراط الساعة" الحديث تقدم في كتاب العلم من رواية شعبة عن قتادة كذلك. قوله: "حتى يكون لخمسين امرأة" هذا لا ينافي الذي قبله لأن الأربعين داخلة في الخمسين، ولعل العدد بعينه غير مراد بل أريد المبالغة في كثرة النساء بالنسبة للرجال، ويحتمل أن يجمع بينهما بأن الأربعين عدد من يلذن به والخمسين عدد من يتبعه وهو أعم من أنهن يلذن به فلا منافاة. قوله: "القيم الواحد" أي الذي يقوم بأمورهن، ويحتمل أن يكنى به عن اتباعهن له لطلب النكاح حلالا أو حراما. وفي الحديث الإخبار بما سيقع فوقع كما أخبر، والصحيح من ذلك ما ورد مطلقا، وأما ما ورد مقدرا بوقت معين فقال أحمد لا يصح منه شيء، وقد تقدم كثير من مباحث هذا الحديث في كتاب العلم.

(9/330)


باب لايخلون رجل بامرأة إلا ذو محرم والدخول على المغيبة
...
111- باب لاَ يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلاَّ ذُو مَحْرَمٍ وَالدُّخُولُ عَلَى الْمُغِيبَةِ
5232- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا لَيْثٌ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إِيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ عَلَى النِّسَاءِ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَرَأَيْتَ الْحَمْوَ قَالَ الْحَمْوُ الْمَوْتُ"
5233- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا عَمْرٌو عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

(9/330)


باب مايجوز أن يخلو الرجل بالمرأة عند الناس
...
5234- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ هِشَامٍ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ جَاءَتْ امْرَأَةٌ مِنْ الأَنْصَارِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَلاَ بِهَا فَقَالَ وَاللَّهِ إِنَّكُنَّ لاَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ"
قوله: "باب ما يجوز أن يخلو الرجل بالمرأة عند الناس" أي لا يخلو بها بحيث تحتجب أشخاصهما عنهم بل بحيث لا يسمعون كلامهما إذا كان بما يخافت به كالشيء الذي تستحي المرأة من ذكره بين الناس. وأخذ المصنف قوله في الترجمة "عند الناس" من قوله في بعض طرق الحديث: "فخلا بها في بعض الطرق أو في بعض السكك" وهي الطرق المسلوكة التي لا تنفك عن مرور الناس غالبا. قوله: "عن هشام" هو ابن زيد بن أنس، وقد تقدم في "فضائل الأبصار" من طريق بهز بن أسد عن شعبة "أخبرني هشام بن زيد" وكذا وقع في رواية مسلم. قوله: "جاءت امرأة من الأنصار إلى النبي صلى الله عليه وسلم" زاد في رواية بهز بن أسد "ومعها صبي لها فكلمها رسول الله صلى الله عليه وسلم". قوله: "فخلا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي في بعض الطرق، قال المهلب: لم يرد أنس أنه خلا بها بحيث غاب عن أبصار من كان معه، وإنما خلا بها بحيث لا يسمع من حضر شكواها ولا ما دار بينهما من الكلام، ولهذا سمع أنس آخر الكلام فنقله ولم ينقل ما دار بينهما لأنه لم يسمعه ا هـ. ووقع عند مسلم من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس "أن امرأة كان في عقلها شيء قالت: يا رسول الله إن لي إليك حاجة، فقال: يا أم فلان انظري أي السكك شئت حتى أقضي لك حاجتك" وأخرج أبو داود نحو هذا السياق من طريق حميد عن أنس لكن ليس فيه أنه كان في عقلها شيء. قوله: "فقال والله إنكم لأحب الناس إلي" زاد في رواية بهز "مرتين" وأخرجه في الأيمان والنذور من طريق وهب بن جرير عن شعبة بلفظ: "ثلاث مرات" وفي الحديث منقبة للأنصار، وقد تقدم في فضائل الأنصار توجيه قوله: "أنتم أحب الناس إلي". وقد تقدم فيه حديث عبد العزيز بن صهيب عن أنس مثل هذا اللفظ أيضا في حديث آخر، وفيه سعة حلمه وتواضعه صلى الله عليه وسلم وصبره على قضاء حوائج الصغير والكبير، وفيه أن مفاوضة المرأة الأجنبية سرا لا يقدح في الدين عند أمن الفتنة، ولكن الأمر كما قالت عائشة "وأيكم يملك أربه كما كان صلى الله عليه وسلم يملك أربه".

(9/333)


باب ماينهى من دخول المتشبهين بالنساء على المرأة
...
113- باب مَا يُنْهَى مِنْ دُخُولِ الْمُتَشَبِّهِينَ بِالنِّسَاءِ عَلَى الْمَرْأَةِ
5235- حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا عَبْدَةُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عِنْدَهَا وَفِي الْبَيْتِ مُخَنَّثٌ فَقَالَ الْمُخَنَّثُ لِأَخِي أُمِّ سَلَمَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ إِنْ فَتَحَ اللَّهُ لَكُمْ الطَّائِفَ غَدًا أَدُلُّكَ عَلَى بِنْتِ غَيْلاَنَ فَإِنَّهَا تُقْبِلُ بِأَرْبَعٍ وَتُدْبِرُ بِثَمَانٍ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لاَ يَدْخُلَنَّ هَذَا عَلَيْكُم"
قوله "باب ما ينهى من دخول المتشبهين بالنساء على المرأة أي بغير إذن زوجها وحيث تكون مسافرة مثلا قوله: "حدثنا عبدة" هو ابن سليمان "عن هشام" هو ابن عروة "عن أبيه عن زينب بنت أم سلمة عن أم سلمة" في رواية سفيان "عن هشام في غزوة الطائف عن أمها أم سلمة" هكذا قال أصحاب هشام بن عروة وهو المحفوظ

(9/333)


وسيأتي في اللباس من طريق زهير بن معاوية "عن هشام أن عروة أخبره أن زينب بنت أم سلمة أخبرته أن أم سلمة أخبرتها" وخالفهم حماد بن سلمة عن هشام فقال عن أبيه عن عمرو بن أبي سلمة "وقال معمر" عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة" ورواه معمر أيضا عن الزهري عن عروة، وأرسله مالك فلم يذكر فوق عروة أحدا أخرجها النسائي، ورواية معمر عن الزهري عند مسلم وأبي داود أيضا. قوله: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عندها وفي البيت" أي التي هي فيه.قوله: "مخنث" تقدم في غزوة الطائف أن اسمه هيت، وأن ابن عيينة ذكره عن ابن جريج بغير إسناد، وذكر ابن حبيب في "الواضحة" عن حبيب كاتب مالك قال: "قلت لمالك أن سفيان بن عيينة زاد في حديث بنت غيلان أن المخنث هيت وليس في كتابك هيت، فقال: صدق هو كذلك" وأخرج الجوزجاني في تاريخه من طريق الزهري عن علي بن الحسين بن علي قال: "كان محنث يدخل على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يقال له هيت" وأخرج أبو يعلى وأبو عوانة وابن حبان كلهم من طريق يونس "عن الزهري عن عروة عن عائشة أن هيتا كان يدخل" الحديث. وروى المستغفري من مرسل محمد بن المنكدر "أن النبي صلى الله عليه وسلم نفى هيتا في كلمتين تكلم بهما من أمر النساء، قال لعبد الرحمن بن أبي بكر: إذا افتتحتم الطائف غدا فعليك بابنة غيلان" فذكر نحو حديث الباب وزاد: "اشتد غضب الله على قوم رغبوا عن خلق الله وتشبهوا بالنساء" وروى ابن أبي شيبة والدورقي وأبو يعلى والبزار من طريق عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه أن اسم المخنث هيت أيضا، لكن ذكر فيه قصة أخرى. وذكر ابن إسحاق المغازي أن اسم المخنث في حديث الباب ماتع وهو بمثناة وقيل بنون، فروي عن محمد بن إبراهيم التيمي قال: "كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الطائف مولى لخالته فاختة بنت عمرو بن عائد مخنث يقال له ماتع يدخل على نساء النبي صلى الله عليه وسلم ويكون في بيته لا يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يفطن لشيء من أمر النساء مما يفطن له الرجال ولا أن له أربة في ذلك، فسمعه يقول لخالد بن الوليد: يا خالد إن افتتحتم الطائف فلا تنفلتن منك بادية بنت غيلان بن سلمة، فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حين سمع ذلك منه: لا أرى هذا الخبيث يفطن لما أسمع، ثم قال لنسائه: لا تدخلن هذا عليكن، فحجب عن بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم:" وحكى أبو موسى المديني في كون ماتع لقب هيت أو بالعكس أو أنهما اثنان خلافا، وجزم الواقدي بالتعدد فإنه قال: كان هيت مولى عبد الله بن أبي أمية، وكان ماتع مولى فاختة، وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم نفاهما معا إلى الحمى، وذكر الباوردي في "الصحابة" من طريق إبراهيم بن مهاجر عن أبي بكر بن حفص "أن عائشة قالت لمخنث كان بالمدينة يقال له أنة بفتح الهمزة وتشديد النون: ألا تدلنا على امرأة نخطبها على عبد الرحمن بن أبي بكر؟ قال: بلى، فوصف امرأة تقبل بأربع وتدبر بثمان، فسمعه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا أنة أخرج من المدينة إلى حمراء الأسد وليكن بها منزلك" والراجح أن اسم المذكور في حديث الباب هيت، ولا يمتنع أن يتواردوا في الوصف المذكور، وقد تقدم في غزوة الطائف ضبط هيت، ووقع في أول رواية الزهري عن عروة عن عائشة عند مسلم: "كان يدخل على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مخنث وكانوا يعدونه من غير أولى الإربة؛ فدخل النبي صلى الله عليه وسلم يوما وهو عند بعض نسائه وهو ينعت امرأة" الحديث، وعرف من حديث الباب تسمية المرأة وأنها أم سلمة والمخنث بكسر النون وبفتحها من يشبه خلقه النساء في حركاته وكلامه وغير ذلك، فإن كان من أصل الخلقة لم يكن عليه لوم وعليه أن يتكلف إزالة ذلك، وإن كان بقصد منه وتكلف له فهو المذموم ويطلق عليه اسم مخنث سواء فعل الفاحشة أو لم يفعل، قال ابن حبيب: المخنث هو المؤنث من الرجال

(9/334)


وإن لم تعرف منه الفاحشة، مأخوذ من التكسر في المشي وغيره، وسيأتي في كتاب الأدب لعن من فعل ذلك. وأخرج أبو داود من حديث أبي هريرة "أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بمخنث قد خضب يديه ورجليه فقيل: يا رسول الله إن هذا يتشبه بالنساء، فنفاه إلى النقيع، فقيل ألا تقتله فقال: إني نهيت عن قتل المصلين". قوله: "فقال لأخي أم سلمة" تقدم شرح حاله في غزوة الطائف، ووقع في مرسل ابن المنكدر أنه قال ذلك لعبد الرحمن بن أبي بكر فيحمل على تعدد القول منه لكل منهما: لأخي عائشة ولأخي أم سلمة. والعجب أنه لم يقدر أن المرأة الموصوفة حصلت لواحد منهما، لأن الطائف لم يفتح حينئذ، وقتل عبد الله بن أبي أمية في حال الحصار، ولما أسلم غيلان بن سلمة وأسلمت بنته بادية تزوجها عبد الرحمن بن عوف فقدر أنها استحيضت عنده وسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن المستحاضة، وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك في كتاب الطهارة، وتزوج عبد الرحمن بن أبي بكر ليلى بنت الجودي وقصته معها مشهورة، وقد وقع حديث في سعد بن أبي وقاص أنه خطب امرأة بمكة فقال: من يخبرني عنها؟ فقال مخنث يقال له هيت: أنا أصفها لك. فهذه قصص وقعت لهيت. قوله: "إن فتح الله لكم الطائف غدا" وقع في رواية أبي أسامة عن هشام في أوله "وهو محاصر الطائف يومئذ" وقد تقدم ذلك في غزوة الطائف واضحا. قوله: "فعليك" هو إغراء معناه أحرص على تحصيلها وإلزامها. قوله: "غيلان" في رواية حماد بن سلمة "لو قد فتحت لكم الطائف لقد أريتك بادية بنت غيلان" واختلف في ضبط بادية فالأكثر بموحدة ثم تحتانية وقيل بنون بدل التحتانية حكاه أبو نعيم، ولبادية ذكر في المغازي، ذكر ابن إسحاق أن خولة بنت حكيم قالت للنبي صلى الله عليه وسلم إن فتح الله عليك الطائف أعطني حلي بادية بنت غيلان وكانت من أحلى نساء ثقيف، وغيلان هو ابن سلمة بن معتب بمهملة ثم مثناة ثقيلة ثم موحدة ابن مالك الثقفي، وهو الذي أسلم وتحته عشر نسوة فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يختار أربعا، وكان من رؤساء ثقيف وعاش إلى أواخر خلافة عمر رضي الله عنه. قوله: "تقبل بأربع وتدبر بثمان" قال ابن حبيب عن مالك معناه أن أعكانها ينعطف بعضها على بعض وهي في بطنها أربع طرائق وتبلغ أطرافها إلى خاصرتها في كل جانب أربع، ولإرادة العكن ذكر الأربع والثمان. فلو أراد الأطراف لقال بثمانية. ثم رأيت في "باب إخراج المتشبهين بالنساء من البيوت" عقب هذا الحديث من وجه آخر عن هشام بن عروة في غير رواية أبي ذر: قال أبو عبد الله تقبل بأربع يعني بأربع عكن ببطنها فهي تقبل بهن، وقوله وتدبر بثمان يعني أطراف هذه العكن الأربع لأنها محيطة بالجنب حين يتجعد. ثم قال: وإنما قال بثمان ولم يقل بثمانية - وواحد الأطراف مذكر - لأنه لم يقل ثمانية أطراف ا هـ. وحاصله أن لقوله ثمان بدون الهاء توجيهين إما لكونه لم يصرح بلفظ الأطراف وإما لأنه أراد العكن، وتفسير مالك المذكور تبعه فيه الجمهور، قال الخطابي: يريد أن لها في بطنها أربع عكن فإذا أقبلت رؤيت مواضعها بارزة متكسرا بعضها على بعض وإذا أدبرت كانت أطراف هذه العكن الأربع عند منقطع جنبيها ثمانية. وحاصله أنه وصفها بأنها مملوءة البدن بحيث يكون لبطنها عكن وذلك لا يكون إلا للسمينة من النساء، وجرت عادة الرجال غالبا في الرغبة فيمن تكون بتلك الصفة، وعلى هذا فقوله في حديث سعد "إن أقبلت قلت تمشي بست، وإن أدبرت قلت تمشي بأربع" كأنه يعني يديها ورجليها وطرفي ذاك منها مقبلة ورد فيها مدبرة، وإنما نقص إذا أدبرت لأن الثديين يحتجبان حينئذ. وذكر ابن الكلبي في الصفة المذكورة زيادة بعد قوله وتدبر بثمان "بثغر كالأقحوان، إن قعدت تثنت، وإن تكلمت تغنت. وبين رجليها مثل الإناء المكفوء" مع شعر آخر. وزاد المديني من طريق يزيد بن رومان عن عروة مرسلا في هذه القصة "أسفلها

(9/335)


114- باب نَظَرِ الْمَرْأَةِ إِلَى الْحَبَشِ وَنَحْوِهِمْ مِنْ غَيْرِ رِيبَةٍ
5236- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ عَنْ عِيسَى عَنْ الأَوْزَاعِيِّ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتُرُنِي بِرِدَائِهِ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَى الْحَبَشَةِ يَلْعَبُونَ فِي الْمَسْجِدِ حَتَّى أَكُونَ أَنَا الَّتِي أَسْأَمُ فَاقْدُرُوا قَدْرَ الْجَارِيَةِ الْحَدِيثَةِ السِّنِّ الْحَرِيصَةِ عَلَى اللَّهْوِ"
قوله: "باب نظر المرأة إلى الحبشة ونحوهم من غير ريبة" وظاهر الترجمة أن المصنف كان يذهب إلى جواز نظر المرأة إلى الأجنبي بخلاف عكسه، وهي مسألة شهيرة، واختلف الترجيح فيها عند الشافعية، وحديث الباب يساعد من أجاز، وقد تقدم في أبواب العيد جواب النووي عن ذلك بأن عائشة كانت صغيرة دون البلوغ أو كان قبل الحجاب، وقواه بقوله في هذه الرواية: "فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن" لكن تقدم ما يعكر عليه وأن في بعض طرقه أن ذلك بعد قدوم وفد الحبشة وأن قدومهم كان سنة سبع ولعائشة يومئذ ست عشرة سنة،

(9/326)


115- باب خُرُوجِ النِّسَاءِ لِحَوَائِجِهِنَّ
5237- حَدَّثَنَا فَرْوَةُ بْنُ أَبِي الْمَغْرَاءِ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ خَرَجَتْ سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ لَيْلًا فَرَآهَا عُمَرُ فَعَرَفَهَا فَقَالَ إِنَّكِ وَاللَّهِ يَا سَوْدَةُ مَا تَخْفَيْنَ عَلَيْنَا فَرَجَعَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ وَهُوَ فِي حُجْرَتِي يَتَعَشَّى وَإِنَّ فِي يَدِهِ لَعَرْقًا فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَرُفِعَ عَنْهُ وَهُوَ يَقُولُ قَدْ أَذِنَ اللَّهُ لَكُنَّ أَنْ تَخْرُجْنَ لِحَوَائِجِكُنَّ"
قوله: "باب خروج النساء لحوائجهن" قال الداودي: في صيغة هذا الجمع نظر لأن جمع الحاجة حاجات وجمع الجمع حاج ولا يقال حوائج، وتعقبه ابن التين فأجاد وقال: الحوائج جمع حاجة أيضا، ودعوى أن حاج جمع الجمع ليس بصحيح. ذكر المصنف حديث عائشة "خرجت سودة لحاجتها" وقد تقدم شرحه وتوجيه الجمع بينه وبين حديثها الآخر في نزول الحجاب في تفسير سورة الأحزاب، وذكرت هناك التعقب على عياض في زعمه أن أمهات المؤمنين كان يحرم عليهن إبراز أشخاصهن ولو كن منتقبات متلففات، والحاصل في رد قوله كثرة الأخبار الواردة أنهن كن يحججن ويطفن ويخرجن إلى المساجد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبعده

(9/337)


116- باب اسْتِئْذَانِ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا فِي الْخُرُوجِ إِلَى الْمَسْجِدِ وَغَيْرِهِ
5238- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا اسْتَأْذَنَتْ امْرَأَةُ أَحَدِكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَلاَ يَمْنَعْهَا"
قوله: "باب استئذان المرأة زوجها في الخروج إلى المسجد وغيره" قال ابن التين: ترجم بالخروج إلى المسجد وغيره واقتصر في الباب على حديث المسجد، وأجاب الكرماني بأنه قاسه عليه، والجامع بينهما ظاهر، ويشترط

(9/337)


117- باب مَا يَحِلُّ مِنْ الدُّخُولِ وَالنَّظَرِ إِلَى النِّسَاءِ فِي الرَّضَاعِ
5239- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ جَاءَ عَمِّي مِنْ الرَّضَاعَةِ فَاسْتَأْذَنَ عَلَيَّ فَأَبَيْتُ أَنْ آذَنَ لَهُ حَتَّى أَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ إِنَّهُ عَمُّكِ فَأْذَنِي لَهُ قَالَتْ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا أَرْضَعَتْنِي الْمَرْأَةُ وَلَمْ يُرْضِعْنِي الرَّجُلُ قَالَتْ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّهُ عَمُّكِ فَلْيَلِجْ عَلَيْكِ قَالَتْ عَائِشَةُ وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ ضُرِبَ عَلَيْنَا الْحِجَابُ قَالَتْ عَائِشَةُ يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنْ الْوِلاَدَةِ"
قوله: "باب ما يحل من الدخول والنظر إلى النساء في الرضاع" ذكر فيه حديث عائشة قالت: "جاء عمي من الرضاعة فاستأذن علي" وقد تقدمت مباحثه مستوفاة في أوائل النكاح، وهو أصل في أن للرضاع حكم النسب من إباحة الدخول على النساء وغير ذلك من الأحكام. حديث عائشة قالت: "جاء عمي من الرضاعة فاستأذن علي" قد تقدمت مباحثه مستوفاة في أوائل النكاح، وهو أصل في أن للرضاع حكم النسب من إباحة الدخول على النساء وغير ذلك من الأحكام.

(9/338)


118- باب لاَ تُبَاشِرْ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ فَتَنْعَتَهَا لِزَوْجِهَا
5240- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لاَ تُبَاشِرُ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ فَتَنْعَتَهَا لِزَوْجِهَا كَأَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا"
[الحديث 5240- طرفه في: 5241]
5241- حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ حَدَّثَنِي شَقِيقٌ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لاَ تُبَاشِرْ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ فَتَنْعَتَهَا لِزَوْجِهَا كَأَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا"
قوله: "باب لا تباشر المرأة المرأة فتنعتها لزوجها" كذا استعمل لفظ الحديث في الترجمة بغير زيادة، وذكر الحديث من وجهين: منصور عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود، والأعمش، حدثني شقيق سمعت عبد الله وهو ابن مسعود، وشقيق هو أبو وائل. قوله: "لا تباشر المرأة المرأة" زاد النسائي في روايته: "في الثوب الواحد". قوله: "فتنعتها لزوجها كأنه ينظر إليها" قال القابسي هذا أصل لمالك في سد الذرائع، فإن الحكمة في هذا النهي خشية أن يعجب الزوج الوصف المذكور فيفضي ذلك إلى تطليق الواصفة أو الافتتان بالموصوفة، ووقع في رواية النسائي من طريق مسروق عن ابن مسعود بلفظ : "لا تباشر المرأة المرأة ولا الرجل الرجل" وهذه الزيادة ثبتت في حديث ابن عباس عنده وعند مسلم وأصحاب السنن من حديث أبي سعيد بأبسط من هذا ولفظه: "لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل ولا تنظر المرأة إلى عورة المرأة ولا يفض الرجل إلى الرجل في الثوب الواحد ولا تفضي المرأة إلى المرأة في الثوب الواحد" قال النووي: فيه تحريم نظر الرجل إلى عورة الرجل والمرأة إلى عورة المرأة، وهذا مما لا خلاف فيه، وكذا الرجل إلى عورة المرأة والمرأة إلى عورة الرجل حرام بالإجماع، ونبه صلى الله عليه وسلم بنظر الرجل إلى عورة الرجل

(9/338)


باب قول الرجل لأطوفن اليوم على نسائي
...
119- باب قَوْلِ الرَّجُلِ لاَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى نِسَائِي
5242- حَدَّثَنِي مَحْمُودٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ عَلَيْهِمَا السَّلاَم لاَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ بِمِائَةِ امْرَأَةٍ تَلِدُ كُلُّ امْرَأَةٍ غُلاَمًا يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَالَ لَهُ الْمَلَكُ قُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَلَمْ يَقُلْ وَنَسِيَ فَأَطَافَ بِهِنَّ وَلَمْ تَلِدْ مِنْهُنَّ إِلاَّ امْرَأَةٌ نِصْفَ إِنْسَانٍ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لَوْ قَالَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ يَحْنَثْ وَكَانَ أَرْجَى لِحَاجَتِهِ"
قوله: "باب قول الرجل لأطوفن الليلة على نسائي" تقدم في كتاب الطهارة "باب من دار على نسائه في غسل واحد" وهو قريب من معنى هذه الترجمة، والحكم في الشريعة المحمدية أن ذلك لا يجوز في الزوجات إلا أن ابتدأ الرجل القسم بأن تزوج دفعة واحدة أو يقدم من سفر، وكذا يجوز إذا أذن له ورضين بذلك. قوله: "حدثنا محمود" هو ابن غيلان وقد رواه عن عبد الرزاق شيخه عبد بن حميد عند مسلم وعباس العنبري عند النسائي فقالا "تسعين امرأة" وتقدم في ترجمة سليمان بن داود عليهما السلام من أحاديث الأنبياء بيان الاختلاف في ذلك مستوفى وكيفية الجمع بين المختلف مع شرح بقية الحديث. قال ابن التين: قوله في هذه الرواية: "لم يحنث" أي لم يتخلف مراده، لأن الحنث لا يكون إلا عن يمين، قال: ويحتمل أن يكون سليمان حلف على ذلك. قلت: أو نزل التأكيد المستفاد من قوله: "لأطوفن" منزلة اليمين، واستدل به على جواز الاستثناء بعد تخلل الكلام اليسير، وفيه نظر سيأتي إيضاحه في كتاب الأيمان والنذور إن شاء الله تعالى. وقال ابن الرفعة: يستفاد منه أن اتصال الاستثناء بالحلف يؤثر فيه وإن لم يقصده قبل فراغ اليمين

(9/339)


120- باب لاَ يَطْرُقْ أَهْلَهُ لَيْلًا إِذَا أَطَالَ الْغَيْبَةَ مَخَافَةَ أَنْ يُخَوِّنَهُمْ أَوْ يَلْتَمِسَ عَثَرَاتِهِمْ
5243- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا مُحَارِبُ بْنُ دِثَارٍ قَالَ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكْرَهُ أَنْ يَأْتِيَ الرَّجُلُ أَهْلَهُ طُرُوقًا"
5244- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا عَاصِمُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ

(9/339)


121- باب طَلَبِ الْوَلَدِ
5245- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ عَنْ هُشَيْمٍ عَنْ سَيَّارٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ جَابِرٍ قَالَ كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةٍ فَلَمَّا قَفَلْنَا تَعَجَّلْتُ عَلَى بَعِيرٍ قَطُوفٍ فَلَحِقَنِي رَاكِبٌ مِنْ خَلْفِي فَالْتَفَتُّ فَإِذَا أَنَا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَا يُعْجِلُكَ قُلْتُ إِنِّي حَدِيثُ عَهْدٍ بِعُرْسٍ قَالَ فَبِكْرًا تَزَوَّجْتَ أَمْ ثَيِّبًا قُلْتُ بَلْ ثَيِّبًا قَالَ فَهَلاَ جَارِيَةً تُلاَعِبُهَا وَتُلاَعِبُكَ قَالَ فَلَمَّا قَدِمْنَا ذَهَبْنَا لِنَدْخُلَ فَقَالَ أَمْهِلُوا حَتَّى تَدْخُلُوا لَيْلًا أَيْ عِشَاءً لِكَيْ تَمْتَشِطَ الشَّعِثَةُ وَتَسْتَحِدَّ الْمُغِيبَةُ قَالَ وَحَدَّثَنِي الثِّقَةُ أَنَّهُ قَالَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْكَيْسَ الْكَيْسَ يَا جَابِرُ يَعْنِي الْوَلَدَ"
5246- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سَيَّارٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِذَا دَخَلْتَ لَيْلًا فَلاَ تَدْخُلْ عَلَى أَهْلِكَ حَتَّى تَسْتَحِدَّ الْمُغِيبَةُ وَتَمْتَشِطَ الشَّعِثَةُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فَعَلَيْكَ بِالْكَيْسِ الْكَيْسِ تَابَعَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ وَهْبٍ عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْكَيْسِ"
قوله: "باب طلب الولد" أي بالاستكثار من جماع الزوجة، أو المراد الحث على قصد الاستيلاد بالجماع لا الاقتصار على مجرد اللذة، وليس ذلك في حديث الباب صريحا لكن البخاري أشار إلى تفسير الكيس كما سأذكره. وقد أخرج أبو عمرو النوقاني في "كتاب معاشرة الأهلين" من وجه آخر عن محارب رفعه قال : "اطلبوا الولد والتمسوه فإنه ثمرة القلوب وقرة الأعين، وإياكم والعاقر" وهو مرسل قوي الإسناد. قوله: "عن سيار" بفتح المهملة وتشديد التحتانية، وقد تقدم في باب تزويج الثيبات عن أبي النعمان عن هشيم "قال حدثنا سيار" وكذا في الباب الذي بعده "حدثنا يعقوب الدورقي حدثنا هشيم أنبأنا سيار".قوله: "عن الشعبي" في رواية أبي عوانة من طريق شريح بن النعمان عن هشيم "حدثنا سيار حدثنا الشعبي" ولأحمد من وجه آخر "سمعت الشعبي" قوله: "قفلنا مع النبي صلى الله عليه وسلم" بفتح القاف وتخفيف الفاء أي رجعنا، وقد تقدم شرحه في باب "تزويج الثيبات" قوله: "حتى تدخلوا ليلا أي عشاء" هذا التفسير في نفس الخبر، وفيه إشارة إلى الجمع بين هذا الأمر بالدخول ليلا والنهي عن الطروق

(9/341)


ليلا بأن المراد بالأمر الدخول في أول الليل وبالنهي الدخول في أثنائه؛ وقد تقدم في أواخر أبواب العمرة في طريق الجمع بينهما أن الأمر بالدخول ليلا لمن أعلم أهله بقدومه فاستعدوا له، والنهي عمن لم يفعل ذلك. قوله: "وحدثني الثقة أنه قال في هذا الحديث: الكيس الكيس يا جابر، يعني الولد " القائل" وحدثني "هو هشيم، قال الإسماعيلي: كأن البخاري أشار إلى أن هشيما حمل هذه الزيادة عن شعبة لأنه أورد طريق شعبة على أثر حديث هشيم. وأغرب الكرماني فقال: القائل" وحدثني "هو هشيم أو البخاري ا هـ وهو جار على ظاهر اللفظ، والمعتمد أن القائل هشيم كما أشار إليه الإسماعيلي. قوله: "إذا دخلت ليلا فلا تدخل على أهلك" معنى الدخول الأول القدوم أي إذا دخلت البلد فلا تدخل البيت. قوله: "قال قال" في رواية النسائي عن أحمد بن عبد الله بن الحكم عن محمد بن جعفر "قال وقال:" بإثبات الواو، وكذا أخرجه أحمد عن محمد بن جعفر ولفظه: "قال وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا دخلت فعليك بالكيس الكيس" . قوله: "تابعه عبيد الله عن وهب عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم في الكيس" عبيد الله هو ابن عمر العمري، ووهب هو ابن كيسان، والمتابع في الحقيقة هو وهب لكنه نسبها إلى عبيد الله لتفرده بذلك عن وهب، نعم قد روى محمد بن إسحاق عن وهب بن كيسان هذا الحديث مطولا وفيه مقصود الباب، لكن بلفظ آخر كما سأبينه، ورواية عبيد الله بن عمر تقدمت موصولة في أوائل البيوع في أثناء حديث أوله "كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة فأبطأ بي جملي" فذكر الحديث في قصة الجمل بطولها، وفيه قصة تزويج جابر وقوله: "أفلا جارية تلاعبها وتلاعبك" وفيه: "أما إنك قادم، فإذا قدمت فالكيس الكيس" وقوله فالكيس بالفتح فيهما على الإغراء وقيل على التحذير من ترك الجماع، قال الخطابي: الكيس هنا بمعنى الحذر، وقد يكون الكيس بمعنى الرفق وحسن التأتي. وقال ابن الأعرابي: الكيس العقل، كأنه جعل طلب الولد عقلا. وقال غيره: أراد الحذر من العجز عن الجماع فكأنه حث على الجماع. قلت: جزم ابن حبان في صحيحه بعد تخريج هذا الحديث بأن الكيس الجماع وتوجيهه على ما ذكر، ويؤيده قوله في رواية محمد بن إسحاق "فإذا قدمت فاعمل عملا كيسا" وفيه: "قال جابر: فدخلنا حين أمسينا، فقلت للمرأة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني أن أعمل عملا كيسا، قالت: سمعا وطاعة، فدونك. قال: فبت معها حتى أصبحت" أخرجه ابن خزيمة في صحيحه. قال عياض: فسر البخاري وغيره الكيس بطلب الولد والنسل، وهو صحيح، قال صاحب "الأفعال" : كاس الرجل في عمله حذق، وكاس ولد ولدا كيسا. وقال الكسائي: كاس الرجل ولد له ولد كيس ا هـ. وأصل الكيس العقل كما ذكر الخطابي، لكنه بمجرده ليس المراد هنا، والشاهد لكون الكيس يراد به العقل قول الشاعر:
وإنما الشعر لب المرء يعرضه
...
على الرجال فإن كيسا وإن حمقا
فقابله بالحمق وهو ضد العقل، ومنه حديث: "الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والأحمق من أتبع نفسه هواها" وأما حديث: "كل شيء بقدر، حتى العجز والكيس" فالمراد به الفطنة.

(9/342)


122- باب تَسْتَحِدُّ الْمُغِيبَةُ وَتَمْتَشِطُ الشَّعِثَةُ
حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ أَخْبَرَنَا سَيَّارٌ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةٍ فَلَمَّا قَفَلْنَا كُنَّا قَرِيبًا مِنْ الْمَدِينَةِ تَعَجَّلْتُ عَلَى بَعِيرٍ لِي قَطُوفٍ فَلَحِقَنِي رَاكِبٌ مِنْ خَلْفِي

(9/342)


فَنَخَسَ بَعِيرِي بِعَنَزَةٍ كَانَتْ مَعَهُ فَسَارَ بَعِيرِي كَأَحْسَنِ مَا أَنْتَ رَاءٍ مِنْ الإِبِلِ فَالْتَفَتُّ فَإِذَا أَنَا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي حَدِيثُ عَهْدٍ بِعُرْسٍ قَالَ أَتَزَوَّجْتَ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ أَبِكْرًا أَمْ ثَيِّبًا قَالَ قُلْتُ بَلْ ثَيِّبًا قَالَ فَهَلاَ بِكْرًا تُلاَعِبُهَا وَتُلاَعِبُكَ قَالَ فَلَمَّا قَدِمْنَا ذَهَبْنَا لِنَدْخُلَ فَقَالَ أَمْهِلُوا حَتَّى تَدْخُلُوا لَيْلًا أَيْ عِشَاءً لِكَيْ تَمْتَشِطَ الشَّعِثَةُ وَتَسْتَحِدَّ الْمُغِيبَةُ"
قوله (باب تستحد المغيبة وتمتشط الشعثة ) ضبط ذلك في آواخر أبواب العمرة وتقدم شرح الحديث في الباب الذي قبله

(9/343)


باب (ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن إلى قوله ـ لم يظهروا على عورات النسا)
...
123- باب {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ} إِلَى قَوْلِهِ {لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ}
5248- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي حَازِمٍ قَالَ اخْتَلَفَ النَّاسُ بِأَيِّ شَيْءٍ دُووِيَ جُرْحُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ فَسَأَلُوا سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ السَّاعِدِيَّ وَكَانَ مِنْ آخِرِ مَنْ بَقِيَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ فَقَالَ وَمَا بَقِيَ مِنْ النَّاسِ أَحَدٌ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي كَانَتْ فَاطِمَةُ عَلَيْهَا السَّلاَم تَغْسِلُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ وَعَلِيٌّ يَأْتِي بِالْمَاءِ عَلَى تُرْسِهِ فَأُخِذَ حَصِيرٌ فَحُرِّقَ فَحُشِيَ بِهِ جُرْحُهُ"
قوله: "باب {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ}" في رواية أبي ذر إلى قوله: "عورات النساء" وبهذه الزيادة تظهر المطابقة بين الحديث والترجمة. قوله: "سفيان" هو ابن عيينة. قوله: "عن أبي حازم" هو سلمة بن دينار. ووقع في رواية علي بن عبد الله عن سفيان "حدثنا أبو حازم" تقدم في أواخر الجهاد. قوله: "اختلف الناس إلخ" فيه إشعار بأن الصحابة والتابعين كانوا يتبعون أحوال النبي صلى الله عليه وسلم في كل شيء حتى في مثل هذا، فإن الذي يداوي به الجرح لا يختلف الحكم فيه إذا كان طاهرا، ومع ذلك فترددوا فيه حتى سألوا من شاهد ذلك. قوله: "وكان من آخر من بقي من الصحابة بالمدينة" فيه احتراز عمن بقي من الصحابة بالمدينة وبغير المدينة، فأما المدينة فكان بها في آخر حياة سهل بن سعد محمود بن الربيع ومحمد بن لبيد، وكلاهما له رؤية وعد في الصحابة، وأما من الصحابة الذين ثبت سماعهم من النبي صلى الله عليه وسلم فما كان بقي بالمدينة حينئذ إلا سهل بن سعد على الصحيح، وأما بغير المدينة فبقي أنس بن مالك بالبصرة وغيره بغيرها، وقد استوعبت الكلام على ذلك في الكلام على "علوم الحديث لابن صلاح". قوله: "ما بقي للناس أحد أعلم به منى" ظاهره أنه نفى أن يكون بقي أحد أعلم منه فلا ينفي أن يكون بقي مثله، ولكن كثر استعمال هذا التركيب في نفي المثل أيضا، وقد تقدم الكلام على شرح الحديث في "باب غزوة أحد" والغرض منه هنا كون فاطمة عليها السلام باشرت ذلك من أبيها صلى الله عليه وسلم فيطابق الآية وهي جواز إبداء المرأة زينتها لأبيها وسائر من ذكر في الآية. وقد استشكل مغلطاي الاحتجاج بقصة فاطمة هذه لأنها صدرت قبل الحجاب، وأجيب بأن التمسك منها بالاستصحاب، ونزول الآية كان متراخيا عن ذلك وقد وقع مطابقا. فإن قيل لم يذكر في الآية العم والخال، فالجواب أنه استغنى عن ذكرهما بالإشارة إليهما لأن العم منزل منزلة الأب والخال منزلة الأم. وقيل لأنهما ينعتانها لولديهما، قاله عكرمة والشعبي، وكرها لذلك أن تضع المرأة خمارها عند عمها وخالها، أخرجه ابن أبي شيبة عنهما

(9/343)


وخالفهما الجمهور. قوله: "فأخذ حصير فحرق" بضم المهملة وتشديد الراء، وضبطه بعضهم بالتخفيف

(9/344)


124- باب {وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ}
5249- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَابِسٍ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا سَأَلَهُ رَجُلٌ شَهِدْتَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعِيدَ أَضْحًى أَوْ فِطْرًا قَالَ نَعَمْ وَلَوْلاَ مَكَانِي مِنْهُ مَا شَهِدْتُهُ يَعْنِي مِنْ صِغَرِهِ قَالَ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى ثُمَّ خَطَبَ وَلَمْ يَذْكُرْ أَذَانًا وَلاَ إِقَامَةً ثُمَّ أَتَى النِّسَاءَ فَوَعَظَهُنَّ وَذَكَّرَهُنَّ وَأَمَرَهُنَّ بِالصَّدَقَةِ فَرَأَيْتُهُنَّ يَهْوِينَ إِلَى آذَانِهِنَّ وَحُلُوقِهِنَّ يَدْفَعْنَ إِلَى بِلاَلٍ ثُمَّ ارْتَفَعَ هُوَ وَبِلاَلٌ إِلَى بَيْتِهِ"
قوله: "باب {وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ}" كذا للجميع، والمراد بيان حكمهم بالنسبة إلى الدخول على النساء ورؤيتهم إياهن. قوله: "حدثنا أحمد بن محمد" هو المروزي، وعبد الله هو ابن المبارك، وسفيان هو الثوري. قوله: "ولولا مكاني منه" أي منزلتي من النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: "يعني من صغره" فيه التفات، ووقع في رواية السرخسي "من صغري" وهو على الأصل. قوله: "فرأيتهن يهوين" بكسر الواو وبفتح أوله هوي بفتح الواو ويهوي بكسرها. قوله: "إلى آذانهن وحلوقهن" أي يخرجن الحلي. قوله: "يدفعن" أي ذلك "إلى بلال". قوله: "ثم ارتفع هو وبلال إلى بيته" أي رجع: وقد تقدم شرح الحديث مستوفى في كتاب العيدين، والحجة منه هنا مشاهدة ابن عباس ما وقع من النساء حينئذ وكان صغيرا فلم يحتجبن منه، وأما بلال فكان من ملك اليمين، كذا أجاب بعض الشراح، وفيه نظر لأنه كان حينئذ حرا. والجواب أنه يجوز أن لا يكون في تلك الحالة يشاهدهن مسفرات. وقد أخذ بعض الظاهرية بظاهره فقال: يجوز للأجنبي رؤية وجه الأجنبية وكفيها، واحتج بأن جابرا روى الحديث وبلال بسط ثوبه للأخذ منهم، وظاهر الحال لحال أنه لا يتأتى ذلك إلا بظهور وجوههن وأكفهن.

(9/344)


125- باب قول الرجل لصاحبه : هل أعرستم الليلة وطَعْنِ الرَّجُلِ ابْنَتَهُ فِي الْخَاصِرَةِ عِنْدَ الْعِتَابِ
5250- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ عَاتَبَنِي أَبُو بَكْرٍ وَجَعَلَ يَطْعُنُنِي بِيَدِهِ فِي خَاصِرَتِي فَلاَ يَمْنَعُنِي مِنْ التَّحَرُّكِ إِلاَّ مَكَانُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَأْسُهُ عَلَى فَخِذِي"
قوله: "باب طعن الرجل ابنته في الخاصرة عند العتاب" زاد ابن بطال في شرحه هنا "وقول الرجل لصاحبه هل أعرستم الليلة" قال ابن المنير: ذكر فيه حديث عائشة في قصة أبي بكر معها، وهو مطابق للركن الأول من الترجمة. قال: ويستفاد الركن الثاني منها من جهة أن الجامع بينهما أن كلا الأمرين مستثنى في بعض الحالات، فإمساك الرجل خاصرة ابنته ممنوع في غير حالة التأديب، وسؤال الرجل عما جرى له مع أهله ممنوع في غير حالة

(9/344)


كتاب الطلاق
باب قوله تعالى:(ياأيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة)
...
3- كِتَاب الطَّلاَقِ
1- باب قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} أَحْصَيْنَاهُ حَفِظْنَاهُ وَعَدَدْنَاهُ وَطَلاَقُ السُّنَّةِ أَنْ يُطَلِّقَهَا طَاهِرًا مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ وَيُشْهِدَ شَاهِدَيْنِ
5251- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمَّ لِيُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ ثُمَّ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدُ

(9/345)


وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ تُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ"
قوله: " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ - كتاب الطلاق" الطلاق في اللغة حل الوثاق مشتق من الإطلاق وهو الإرسال والترك. وفلان طلق اليد بالخير أي كثير البذل وفي الشرع حل عقدة التزويج فقط، وهو موافق لبعض أقراد مدلوله اللغوي. قال إمام الحرمين: هو لفظ جاهلي ورد الشرع بتقريره. وطلقت المرأة بفتح الطاء وضم اللام وبفتحها أيضا وهو أفصح، وطلقت أيضا بضم أوله وكسر اللام الثقيلة، فإن خففت فهو خاص بالولادة والمضارع فيهما بضم اللام، والمصدر في الولادة طلقا ساكنة اللام، فهي طالق فيهما. ثم الطلاق قد يكون حراما أو مكروها أو واجبا أو مندوبا أو جائزا، أما الأول ففيما إذا كان بدعيا وله صور، وأما الثاني ففيما إذا وقع بغير سبب مع استقامة الحال، وأما الثالث ففي صور منها الشقاق إذا رأى ذلك الحكمان، وأما الرابع ففيما إذا كانت غير عفيفة، وأما الخامس فنفاه النووي وصوره غيره بما إذا كان لا يريدها ولا تطيب نفسه أن يتحمل مؤنتها من غير حصول غرض الاستمتاع، فقد صرح الإمام أن الطلاق في هذه الصورة لا يكره. قوله: "وقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ}" أما قوله تعالى :{إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} "فخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم بلفظ الجمع تعظيما أو على إرادة ضم أمته إليه، والتقدير يا أيها النبي وأمته. وقيل هو على إضمار قل أي قل لأمتك، والثاني أليق، فخص النبي عليه الصلاة والسلام بالنداء لأنه إمام أمته اعتبارا بتقدمه وعم بالخطاب كما يقال لأمير القوم يا فلان افعلوا كذا، وقوله: {إِذَا طَلَّقْتُمُ} أي إذا أردتم التطليق جزما، ولا يمكن حمله على ظاهره. وقوله: {لِعِدَّتِهِنَّ} أي عند ابتداء شروعهن في العدة، واللام للتوقيت كما يقال لقيته لليلة بقيت من الشهر، قال مجاهد في قوله تعالى :{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}" قال ابن عباس: في قبل عدتهن، أخرجه الطبري بسند صحيح. ومن وجه آخر أنه قرأها كذلك، وكذا وقع عند مسلم من رواية أبي الزبير عن ابن عمر في آخر حديثه قال ابن عمر "وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن في قبل عدتهن" ونقلت هذه القراءة أيضا عن أبي وعثمان وجابر وعلي بن الحسين وغيرهم، وسيأتي في حديث ابن عمر في الباب مزيد بيان في ذلك. قوله: "أحصيناه حفظناه" هو تفسير أبي عبيدة. وأخرج الطبري معناه عن السدي، والمراد الأمر بحفظ ابتداء وقت العدة لئلا يلتبس الأمر بطول العدة فتتأذى بذلك المرأة. قوله: "وطلاق السنة أن يطلقها طاهرا من غير جماع" روى الطبري بسند صحيح عن ابن مسعود في قوله تعالى :{فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} قال: في الطهر من غير جماع، وأخرجه عن جمع من الصحابة ومن بعدهم كذلك، وهو عند الترمذي أيضا. قوله: "ويشهد شاهدين" مأخوذ من قوله تعالى :{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} وهو واضح، وكأنه لمح بما أخرجه ابن مردويه عن ابن عباس قال: "كان نفر من المهاجرين يطلقون لغير عدة ويراجعون بغير شهود فنزلت: {وقد قسم الفقهاء الطلاق إلى سني، وبدعي، وإلى قسم ثالث لا وصف له. فالأول ما تقدم. والثاني أن يطلق في الحيض أو في طهر جامعها فيه ولم يتبين أمرها أحملت أم لا، ومنهم من أضاف له أن يزيد على طلقة ومنهم من أضاف له الخلع. والثالث تطليق الصغيرة والآيسة والحامل التي قربت ولادتها، وكذا إذا وقع السؤال منها في وجه بشرط أن تكون عالمة بالأمر، وكذا إذا وقع الخلع بسؤالها وقلنا إنه طلاق، ويستثنى من تحريم طلاق الحائض صور: مها ما لو كانت حاملا ورأت الدم وقلنا الحامل تحيض

(9/346)


فلا يكون طلاقها بدعيا ولا سيما إن وقع بقرب الولادة، ومنها إذا طلق الحاكم على المولى واتفق وقوع ذلك في الحيض، وكذا في صورة الحكمين إذا تعين ذلك طريقا لرفع الشقاق، وكذلك الخلع والله أعلم. قوله: "أنه طلق امرأته" في مسلم من رواية الليث عن نافع "أن ابن عمر طلق امرأة له" وعنده من رواية عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر "طلقت امرأتي" وكذا في رواية شعبة عن أنس بن سيرين عن ابن عمر، قال النووي في تهذيبه: اسمها آمنة بنت غفار قاله ابن باطيش، ونقله عن النووي جماعة ممن بعده منهم الذهبي في "تجريد الصحابة" لكن قال في مبهماته: فكأنه أراد مبهمات التهذيب. وأوردها الذهبي في آمنة بالمد وكسر الميم ثم نون وأبوها غفار ضبطه ابن يقظة بكسر المعجمة وتخفيف الفاء، ولكني رأيت مستند ابن باطيش في أحاديث قتيبة جمع سعيد العيار بسند فيه ابن لهيعة أن ابن عمر طلق امرأته آمنة بنت عمار؛ كذا رأيتها في بعض الأصول بمهملة مفتوحة ثم ميم ثقيلة والأول أولى، وأقوى من ذلك ما رأيته في مسند أحمد قال: " حدثنا يونس حدثنا الليث عن نافع أن عبد الله طلق امرأته وهي حائض، فقال عمر: يا رسول الله إن عبد الله طلق امرأته النوار، فأمره أن يراجعها" الحديث، وهذا الإسناد على شرط الشيخين، ويونس شيخ أحمد هو ابن محمد المؤدب من رجالهما، وقد أخرجه الشيخان عن قتيبة عن الليث ولكن لم تسم عندهما، ويمكن الجمع بأن يكون اسمها آمنة ولقبها النوار. قوله: "وهي حائض" في رواية قاسم بن أصبغ من طريق عبد الحميد بن جعفر عن نافع عن ابن عمر أنه طلق امرأته وهي في دمها حائض، وعند البيهقي من طريق ميمون بن مهران عن ابن عمر أنه طلق امرأته في حيضها. قوله: "على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم" كذا في رواية مالك ومثله عند مسلم من رواية أبي الزبير عن ابن عمر، وأكثر الرواة لم يذكروا ذلك استغناء بما في الخبر أن عمر سأل عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستلزم أن ذلك وقع في عهده، وزاد الليث عن نافع "تطليقة واحدة" أخرجه مسلم. وقال في آخره: "جود الليث في قوله تطليقة واحدة" ا هـ، وكذا وقع عند مسلم من طريق محمد بن سيرين قال: "مكثت عشرين سنة يحدثني من لا أتهم أن ابن عمر طلق امرأته ثلاثا وهي حائض فأمر أن يراجعها، فكنت لا أتهمهم ولا أعرف وجه الحديث، حتى لقيت أبا غلاب يونس بن جبير وكان ذا ثبت، فحدثني أنه سأل ابن عمر فحدثه أنه "طلق امرأته تطليقة وهي حائض" وأخرجه الدار قطني والبيهقي من طريق الشعبي قال: "طلق ابن عمر امرأته وهي حائض واحدة" ومن طريق عطاء الخراساني عن الحسن عن ابن عمر أنه "طلق امرأته تطليقة وهي حائض". قوله:" فسأل عمر بن الخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك" في رواية ابن أبي ذئب عن نافع "فأتى عمر النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك" أخرجه الدار قطني، وكذا سيأتي للمصنف من رواية قتادة عن يونس بن حبير عن ابن عمر، وكذا عند مسلم من رواية يونس بن عبيد عن محمد بن سيرين عن يونس بن جبير، وكذا عنده في رواية طاوس عن ابن عمر، وكذا في رواية الشعبي المذكورة، وزاد فيه الزهري في روايته كما تقدم في التفسير "عن سالم أن ابن عمر أخبره، فتغيظ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم:" ولم أر هذه الزيادة في رواية غير سالم، وهو أجل من روى الحديث عن ابن عمر، وفيه إشعار بأن الطلاق في الحيض كان تقدم النهي عنه. وإلا لم يقع التغيظ على أمر لم يسبق النهي عنه. ولا يعكر على ذلك مبادرة عمر بالسؤال عن ذلك لاحتمال أن يكون عرف حكم الطلاق في الحيض وأنه منهي عنه ولم يعرف ماذا يصنع من وقع له ذلك، قال ابن العربي: سؤال عمر محتمل لأن يكون أنهم لم يروا قبلها مثلها فسأل ليعلم، ويحتمل أن يكون لما رأى في القرآن قوله: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} وقوله: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ

(9/347)


ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} أراد أن يعلم إن هذا قرء أم لا؟ ويحتمل أن يكون سمع من النبي صلى الله عليه وسلم النهي فجاء ليسأل عن الحكم بعد ذلك. وقال ابن دقيق العيد: وتغيظ النبي صلى الله عليه وسلم إما لأن المعنى الذي يقتضي المنع كان ظاهرا فكان مقتضى الحال التثبت في ذلك، أو لأنه كان مقتضى الحال مشاورة النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك إذا عزم عليه. قوله: "مره فليراجعها" قال ابن دقيق العيد: يتعلق به مسألة أصولية، وهي أن الأمر بالأمر بالشيء هل هو أمر بذلك أم لا؟ فإنه صلى الله عليه وسلم قال لعمر مره، فأمره بأن يأمره. قلت: هذه المسألة ذكرها ابن الحاجب فقال: الأمر بالأمر بالشيء ليس أمرا بذلك الشيء، لنا لو كان لكان مر عبدك بكذا تعديا، ولكان يناقض قولك للعبد لا تفعل. قالوا: فهم ذلك من أمر الله ورسوله ومن قول الملك لوزيره قل لفلان افعل. قلنا للعلم بأنه مبلغ. قلت: والحاصل أن النفي إنما هو حيث تجرد الأمر، وأما إذا وجدت قرينة تدل على أن الآمر الأول أمر المأمور الأول أن يبلغ المأمور الثاني فلا، وينبغي أن ينزل كلام الفريقين على هذا التفصيل فيرتفع الخلاف. ومنهم من فرق بين الأمرين فقال: إن كان الأمر الأول بحيث يسوغ له الحكم على المأمور الثاني فهو آمر له وإلا فلا، وهذا قوي، وهو مستفاد من الدليل الذي استدل به ابن الحاجب على النفي، لأنه لا يكون متعديا إلا إذا أمر من لا حكم له عليه لئلا يصير متصرفا في ملك غيره بغير إذنه، والشارع حاكم على الآمر والمأمور فوجد فيه سلطان التكليف على الفريقين، ومنه قوله تعالى :{وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ} فإن كل أحد يفهم منه أمر الله لأهل بيته بالصلاة، ومثله حديث الباب، فإن عمر إنما استفتى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ليمتثل ما يأمره به ويلزم ابنه به، فمن مثل بهذا الحديث لهذه المسألة فهو غالط، فإن القرينة واضحة في أن عمر في هذه الكائنة كان مأمورا بالتبليغ، ولهذا وقع في رواية أيوب عن نافع "فأمره أن يراجعها" وفي رواية أنس بن سيرين ويونس بن جبير وطاوس عن ابن عمر وفي رواية الزهري عن سالم "فليراجعها" وفي رواية لمسلم: "فراجعها عبد الله كما أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم:" وفي رواية أبي الزبير عن ابن عمر "ليراجعها" وفي رواية الليث عن نافع عن ابن عمر "فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمرني بهذا" وقد اقتضى كلام سليم الرازي في "التقريب" أنه يجب على الثاني الفعل جزما وإنما الخلاف في تسميته آمرا فرجع الخلاف عنده لفظيا. وقال الفخر الرازي في "المحصول" : الحق أن الله تعالى إذا قال لزيد أوجبت على عمرو كذا وقال لعمرو كل ما أوجب عليك زيد فهو واجب عليك كان الأمر بالأمر بالشيء أمرا بالشيء. قلت: وهذا يمكن أن يؤخذ منه التفرقة بين الأمر الصادر من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن غيره، فمهما أمر الرسول أحدا أن يأمر به غيره وجب لأن الله أوجب طاعته وهو أوجب طاعة أميره كما ثبت في الصحيح "من أطاعني فقد أطاع الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني" وأما غيره ممن بعده فلا، وفيهم تظهر صورة التعدي التي أشار إليها ابن الحاجب. وقال ابن دقيق العيد: لا ينبغي أن يتردد في اقتضاء ذلك الطلب، وإنما ينبغي أن ينظر في أن لوازم صيغة الأمر هل هي لوازم صيغة الأمر بالأمر أو لا؟ بمعنى أنهما يستويان في الدلالة على الطلب من وجه واحد أو لا. قلت: وهو حسن، فإن أصل المسألة التي انبنى عليها هذا الخلاف حديث: "مروا أولادكم بالصلاة لسبع" فإن الأولاد ليسوا بمكلفين فلا يتجه عليهم الوجوب، وإنما الطلب متوجه على أوليائهم أن يعلموهم ذلك، فهو مطلوب من الأولاد بهذه الطريق وليس مساويا للأمر الأول، وهذا إنما عرض من أمر خارج وهو امتناع توجه الأمر على غير المكلف، وهو بخلاف القصة التي في حديث الباب. والحاصل أن الخطاب إذا توجه لمكلف أن يأمر مكلفا آخر بفعل شيء كان المكلف الأول مبلغا محضا والثاني مأمور من قبل

(9/348)


الشارع، وهذا كقوله لمالك بن الحويرث وأصحابه "ومروهم بصلاة كذا في حين كذا" وقوله لرسول ابنته صلى الله عليه وسلم: "مرها فلتصبر ولتحتسب" ونظائره كثيرة، فإذا أمر الأول الثاني بذلك فلم يمتثله كان عاصيا، وإن توجه الخطاب من الشارع لمكلف أن يأمر غير مكلف أو توجه الخطاب من غير الشارع بأمر من له عليه الأمر أن يأمر من لا أمر للأول عليه لم يكن الأمر بالأمر بالشيء أمرا بالشيء فالصورة الأولى هي التي نشأ عنها الاختلاف وهو أمر أولياء الصبيان أن يأمروا الصبيان، والصورة الثانية هي التي يتصور فيها أن يكون الأمر متعديا بأمره للأول أن يأمر الثاني، فهذا فصل الخطاب في هذه المسألة والله المستعان. واختلف في وجوب المراجعة، فذهب إليه مالك وأحمد في رواية، والمشهور عنه - وهو قول الجمهور - أنها مستحبة، واحتجوا بأن ابتداء النكاح لا يجب فاستدامته كذلك، لكن صحح صاحب "الهداية" من الحنفية أنها واجبة، والحجة، لمن قال بالوجوب ورود الأمر بها، ولأن الطلاق لما كان محرما في الحيض كانت استدامة النكاح فيه واجبة، فلو تمادى الذي طلق في الحيض حتى طهرت قال مالك وأكثر أصحابه: يجبر على الرجعة أيضا. وقال أشهب منهم إذا طهرت انتهى الأمر بالرجعة، واتفقوا على أنها إذا انقضت عدتها أن لا رجعة، وأنه لو طلق في طهر قد مسها فيه لا يؤمر بمراجعتها، كذا نقله ابن بطال وغيره، لكن الخلاف فيه ثابت قد حكاه الحناطي من الشافعية وجها، واتفقوا على أنه لو طلق قبل الدخول وهي حائض لم يؤمر بالمراجعة إلا ما نقل عن زفر فطرد الباب. قوله: "ثم ليمسكها" أي يستمر بها في عصمته. قوله: "حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر" في رواية عبيد الله بن عمر عن نافع "ثم ليدعها حتى تطهر، ثم تحيض حيضة أخرى فإذا طهرت فليطلقها" ونحوه في رواية الليث وأيوب عن نافع، وكذا عند مسلم من رواية عبد الله بن دينار، وكذا عندهما من رواية الزهري عن سالم، وعند مسلم من رواية محمد بن عبد الرحمن عن سالم بلفظ: "مره فليراجعها، ثم ليطلقها طاهرا أو حاملا" قال الشافعي: غير نافع إنما روى "حتى تطهر من الحيضة التي طلقها فيها. ثم إن شاء أمسك وإن شاء طلق" رواه يونس بن جبير وأنس بن سيرين وسالم قلت: وهو كما قال، لكن رواية الزهري عن سالم موافقة لرواية نافع، وقد نبه على ذلك أبو داود، والزيادة من الثقة مقبولة ولا سيما إذا كان حافظا. وقد اختلف في الحكمة في ذلك فقال الشافعي: يحتمل أن يكون أراد بذلك - أي بما في رواية نافع - أن يستبرئها بعد الحيضة التي طلقها فيها بطهر تام ثم حيض تام ليكون تطليقها وهي تعلم عدتها إما بحمل أو بحيض، أو ليكون تطليقها بعد علمه بالحمل وهو غير جاهل بما صنع إذ يرغب فيمسك للحمل أو ليكون إن كانت سألت الطلاق غير حامل أن تكف عنه. وقيل: الحكمة فيه أن لا تصير الرجعة لغرض الطلاق، فإذا أمسكها زمانا يحل له فيه طلاقها ظهرت فائدة الرجعة، لأنه قد يطول مقامه معها، فقد يجامعها فيذهب ما في نفسه من سبب طلاقها فيمسكها. وقيل: إن الطهر الذي يلي الحيض الذي طلقها فيه كقرء واحد، فلو طلقها قيه لكان كمن طلق في الحيض، وهو ممتنع من الطلاق في الحيض، فلزم أن يتأخر إلى الطهر الثاني. واختلف في جواز تطليقها في الطهر الذي يلي الحيضة التي وقع فيها الطلاق والرجعة. وفيه للشافعية وجهان أصحهما المنع، وبه قطع المتولي، وهو الذي يقتضيه ظاهر الزيادة التي في الحديث. وعبارة الغزالي في "الوسيط" وتبعه مجلي: هل يجوز أن يطلق في هذا الطهر؟ وجهان. وكلام المالكية يقتضي أن التأخير مستحب. وقال ابن تيمية في "المحرر" : ولا يطلقها في الطهر المتعقب له فإنه بدعة، وعنه - أي عن أحمد - جواز ذلك. وفي كتب الحنفية

(9/349)


عن أبي حنيفة الجواز، وعن أبي يوسف ومحمد المنع، ووجه الجواز أن التحريم إنما كان لأجل الحيض، فإذا طهرت زال موجب التحريم فجاز طلاقها في هذا الطهر كما يجوز في الطهر الذي بعده، وكما يجوز طلاقها في الطهر إن لم يتقدم طلاق في الحيض، وقد ذكرنا حجج المانعين، ومنها أنه لو طلقها عقب تلك الحيضة كان قد راجعها ليطلقها، وهذا عكس مقصود الرجعة فإنها شرعت لإيواء المرأة ولهذا سماها إمساكا فأمره أن يمسكها في ذلك الطهر وأن لا يطلق فيه حتى تحيض حيضة أخرى ثم تطهر لتكون الرجعة للإمساك لا للطلاق، ويؤيد ذلك أن الشارع أكد هذا المعنى حيث أمر بأن يمسكها في الطهر الذي يلي الحيض الذي طلقها فيه، لقوله في رواية عبد الحميد بن جعفر "مره أن يراجعها فإذا طهرت أمسكها حتى إذا طهرت أخرى فإن شاء طلقها وإن شاء أمسكها" فإذا كان قد أمره بأن يمسكها في ذلك الطهر فكيف يبيح له أن يطلقها فيه؟ وقد ثبت النهي عن الطلاق في طهر جامعها فيه. قوله: "ثم إن شاء أمسك بعد وإن شاء طلق قبل أن يمس" في رواية أيوب "ثم يطلقها قبل أن يمسها" وفي رواية عبيد الله بن عمر "فإذا طهرت فليطلقها قبل أن يجامعها أو يمسكها" ونحوه في رواية الليث. وفي رواية الزهري عن سالم "فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهرا قبل أن يمسها" وفي رواية محمد بن عبد الرحمن عن سالم "ثم ليطلقها طاهرا أو حاملا" وتمسك بهذه الزيادة من استثنى من تحرم الطلاق في طهر جامع فيه ما إذا ظهر الحمل فإنه لا يحرم. والحكمة فيه أنه إذا ظهر الحمل فقد أقدم على ذلك على بصيرة فلا يندم على الطلاق، وأيضا فإن زمن الحمل زمن الرغبة في الوطء فإقدامه على الطلاق فيه يدل على رغبته عنها، ومحل ذلك أن يكون الحمل من المطلق، فلو كان من غيره بأن نكح حاملا من زنا ووطئها ثم طلقها أو وطئت منكوحة بشبهة ثم حملت منه فطلقها زوجها فإن الطلاق يكون بدعيا، لأن عدة الطلاق تقع بعد وضع الحمل والنقاء من النفاس، فلا تشرع عقب الطلاق في العدة كما في الحامل منه، قال الخطابي: في قوله: "ثم إن شاء أمسك وإن شاء طلق" دليل على أن من قال لزوجته وهي حائض: إذا طهرت فأنت طالق لا يكون مطلقا للسنة، لأن المطلق للسنة هو الذي يكون مخيرا عند وقوع طلاقه بين إيقاع الطلاق وتركه، واستدل بقوله: "قبل أن يمس" على أن الطلاق في طهر جامع فيه حرام، وبه صرح الجمهور، فلو طلق هل يجبر على الرجعة كما يجبر عليها إذا طلقها وهي حائض؟ طرده بعض المالكية فيهما، والمشهور عنهم إجباره في الحائض دون الطاهر. وقالوا فيما إذا طلقها وهي حائض: يجبر على الرجعة، فإن امتنع أدبه الحاكم، فإن أصر ارتجع الحاكم عليه. وهل يجوز له وطؤها؟ بذلك روايتان لهم أصحهما الجواز، وعن داود يجبر على الرجعة إذا طلقها حائضا ولا يجبر إذا طلقها نفساء؛ وهو جمود. ووقع فيه رواية مسلم من طريق محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة عن سالم عن ابن عمر "ثم ليطلقها طاهرا أو حاملا" وفي روايته من طريق ابن أخي الزهري عن الزهري "فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهرا من حيضها" واختلف الفقهاء في المراد بقوله طاهرا هل المراد به انقطاع الدم أو التطهر بالغسل؟ على قولين، وهما روايتان عن أحمد، والراجح الثاني، لما أخرجه النسائي من طريق معتمر بن سليمان عن عبيد الله بن عمر عن نافع في هذه القصة قال: "مر عبد الله فليراجعها، فإذا اغتسلت من حيضتها الأخرى فلا يمسها حتى يطلقها، وإن شاء يمسكها فليمسكها" وهذا مفسر لقوله: "فإذا طهرت" فليحمل عليه، ويتفرغ من هذا أن العدة هل تنقضي بانقطاع الدم وترتفع الرجعة، أو لا بد من الاغتسال؟ فيه خلاف أيضا. والحاصل أن الأحكام المرتبة على الحيض نوعان: الأول يزول بانقطاع الدم كصحة الغسل والصوم وترتب الصلاة في الذمة،

(9/350)


والثاني لا يزول إلا بالغسل كصحة الصلاة والطواف وجواز اللبث في المسجد، فهل يكون الطلاق من النوع الأول أو من الثاني؟ وتمسك بقوله: "ثم ليطلقها طاهرا أو حاملا" من ذهب إلى أن طلاق الحامل سني، وهو قول الجمهور، وعن أحمد رواية أنه ليس بسني ولا بدعي. قوله: "فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء" أي أذن، وهذا بيان لمراد الآية وهي قوله تعالى :{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} وصرح معمر في روايته عن أيوب عن نافع بأن هذا الكلام عن النبي صلى الله عليه وسلم. وفي رواية الزبير عند مسلم قال ابن عمر "وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} الآية" واستدل به من ذهب إلى أن الإقراء طهار للأمر بطلاقها في الطهر، وقوله: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}" أي وقت ابتداء عدتهن، وقد جعل للمطلقة تربص ثلاثة قروء، فلما نهى عن الطلاق في الحيض وقال إن الطلاق في الطهر هو الطلاق المأذون فيه علم أن الإقراء الإطهار، قاله ابن عبد البر. وسأذكر بقية فوائد حديث ابن عمر في الباب الذي يلي هذا إن شاء الله تعالى.

(9/351)


2- باب إِذَا طُلِّقَتْ الْحَائِضُ تَعْتَدُّ بِذَلِكَ الطَّلاَقِ
5252- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ قَالَ طَلَّقَ ابْنُ عُمَرَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ فَذَكَرَ عُمَرُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِيُرَاجِعْهَا قُلْتُ تُحْتَسَبُ قَالَ فَمَهْ"
وَعَنْ قَتَادَةَ عَنْ يُونُسَ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا قُلْتُ تُحْتَسَبُ قَالَ أَرَأَيْتَ إِنْ عَجَزَ وَاسْتَحْمَقَ"
5253- حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ حُسِبَتْ عَلَيَّ بِتَطْلِيقَةٍ"
قوله: "باب إذا طلقت الحائض تعتد بذلك الطلاق" كذا بت الحكم بالمسألة، وفيها خلاف قديم عن طاوس وعن خلاس بن عمرو وغيرهما أنه لا يقع، ومن ثم نشأ سؤال من سأل ابن عمر عن ذلك. قوله: "شعبة عن أنس بن سيرين قال سمعت ابن عمر قال: طلق ابن عمر امرأته وهي حائض، فذكر ذلك عمر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: ليراجعها. قلت: تحتسب؟ قال: فمه" ؟ القائل "قلت" هو أنس بن سيرين والمقول له ابن عمر بين ذلك أحمد في روايته عن محمد بن جعفر عن شعبة، وكذا أخرجه مسلم من طريق محمد بن جعفر، وقد ساقه مسلم من طريق عبد الملك بن أبي سليمان عن ابن سيرين مطولا كما سأذكره بعد ذلك. قوله: "وعن قتادة عن يونس بن جبير" هو معطوف على قوله: "عن أنس بن سيرين" فهو موصول، وهو من رواية شعبة عن قتادة، ولقد أفرده مسلم من رواية محمد بن جعفر عن شعبة عن قتادة "سمعت يونس بن جبير". قوله: "عن ابن عمر قال: مره فليراجعها" هكذا اختصره، ومراده أن يونس بن جبير حكى القصة نحو ما ذكرها أنس بن سيرين سوى ما بين من سياقه. قوله: "قلت تحتسب" هو بضم أوله، والقائل هو يونس بن جبير. قوله: "قال أرأيته" في رواية الكشميهني: "أرأيت إن عجز واستحمق" وقد اختصره البخاري اكتفاء بسياق أنس بن سيرين، وقد ساقه مسلم حيث أفرده

(9/351)


ولفظه: "سمعت ابن عمر يقول: طلقت امرأتي وهي حائض، فأتى عمر النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال: ليراجعها، فإذا طهرت فإن شاء فليطلقها. قال قلت لابن عمر: أفيحسب بها؟ قال: ما يمنعه؟ أرأيت إن عجز واستحمق". وقال أحمد "حدثنا محمد بن جعفر وعبد الله بن بكير قالا حدثنا شعبة" فذكره أتم منه وفي أوله أنه "سأل ابن عمر عن رجل طلق امرأته وهي حائض - وفيه - فقال مره فليراجعها ثم إن بدا له طلاقها طلقها في قبل عدتها وفي قبل طهرها. قال قلت لابن عمر: أفتحتسب طلاقها ذلك طلاقا؟ قال: نعم، أرأيت إن عجز واستحمق" وقد ساقه البخاري في آخر الباب الذي بعد هذا نحو هذا السياق من رواية همام عن قتادة بطوله وفيه: "قلت: فهل عد ذلك طلاقا؟ قال: أرأيت أن عجز واستحمق" وسيأتي في أبواب العدد في "باب مراجعة الحائض" من طريق محمد بن سيرين عن يونس ابن جبير مختصرا وفيه: "قلت: فتعتد بتلك التطليقة؟ قال: أرأيت إن عجز واستحمق" وأخرجه مسلم من وجه آخر عن محمد بن سيرين مطولا ولفظه: "فقلت له: إذا طلق الرجل امرأته وهي حائض أيعتد بتلك التطليقة؟ قال: فمه؟ أو إن عجز واستحمق" وفي رواية له "فقلت: أفتحتسب عليه" والباقي مثله. وقوله: "فمه" أصله فما، وهو استفهام فيه اكتفاء أي فما يكون إن لمن تحتسب، ويحتمل أن تكون الهاء أصلية وهي كلمة تقال للزجر أي كف عن هذا الكلام فإنه لا بد من وقوع الطلاق بذلك، قال ابن عبد البر: قول ابن عمر "فمه" معناه فأي شيء يكون إذا لم يعتد بها؟ إنكارا لقول السائل "أيعتد بها" فكأنه قال: وهل من ذلك بد؟ وقوله: "أرأيت إن عجز واستحمق" أي إن عجز عن فرض فلم يقمه، أو استحمق فلم يأت به أيكون ذلك عذرا له؟ وقال الخطابي: في الكلام حذف، أي أرأيت إن عجز واستحمق أيسقط عنه الطلاق حمقه أو يبطله عجزه؟ وحذف الجواب لدلالة الكلام عليه. وقال الكرماني يحتمل أن تكون "إن" نافية بمعنى ما أي لم يعجر ابن عمر ولا استحمق، لأنه ليس بطفل ولا مجنون. قال: وإن كانت الرواية بفتح ألف أن فمعناه أظهر، والتاء من استحمق مفتوحة قاله ابن الخشاب وقال: المعنى فعل فعلا يصيره أحمق عاجزا فيسقط عنه حكم الطلاق عجزه أو حمقة، والسين والتاء فيه إشارة إلى أنه تكلف الحمق بما فعله من تطليق امرأته وهي حائض. وقد وقع في بعض الأصول بضم التاء مبنيا للمجهول، أي إن الناس استحمقوه بما فعل، وهو موجه. وقال المهلب: معنى قوله: "إن عجز واستحمق" يعني عجز في المراجعة التي أمر بها عن إيقاع الطلاق أو فقد عقله فلم تمكن منه الرجعة أتبقى المرأة معلقة لا ذات بعل ولا مطلقة؟ وقد نهى الله عن ذلك، فلا بد أن تحتسب بتلك التطليقة التي أوقعها على غير وجهها، كما أنه لو عجز عن فرض آخر لله فلم يقمه واستحمق فلم يأت به ما كان يعذر بذلك ويسقط عنه. قوله: "حدثنا أبو معمر" كذا في رواية أبي ذر، وهو ظاهر كلام أبي نعيم في "المستخرج" وللباقين "وقال أبو معمر" وبه جزم الإسماعيلي، وسقط هذا الحديث من رواية النسفي أصلا. قوله: "عن ابن عمر قال: حسبت علي بتطليقة" هو بضم أوله من الحساب، وقد أخرجه أبو نعيم من طريق عبد الصمد بن عبد الوارث عن أبيه مثل ما أخرجه البخاري مختصرا وزاد: "يعني حين طلق امرأته فسأل عمر النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك" قال النووي: شذ بعض أهل الظاهر فقال إذا طلق الحائض لم يقع الطلاق لأنه غير مأذون فيه فأشبه طلاق الأجنبية وحكاه الخطابي عن الخوارج والروافض. وقال ابن عبد البر: لا يخالف في ذلك إلا أهل البدع والضلال يعني الآن. قال: وروى مثله عن بعض التابعين وهو شذوذ وحكاه ابن العربي وغيره عن ابن علية يعني إبراهيم بن

(9/352)


إسماعيل بن علية الذي قال الشافعي في حقه: إبراهيم ضال، جلس في باب الضوال يضل الناس. وكان بمصر، وله مسائل ينفرد بها. وكان من فقهاء المعتزلة. وقد غلط فيه من ظن أن المنقول عنه المسائل الشاذة أبوه، وحاشاه، فإنه من كبار أهل السنة. وكأن النووي أراد ببعض الظاهرية ابن حزم، فإنه ممن جرد القول بذلك وانتصر له وبالغ، وأجاب عن أمر ابن عمر بالمراجعة بأن ابن عمر كان اجتنبها فأمره أن يعيدها إليه على ما كانت عليه من المعاشرة فحمل المراجعة على معناها اللغوي، وتعقب بأن الحمل على الحقيقة الشرعية مقدم على اللغوية اتفاقا، وأجاب عن قول ابن عمر "حسبت علي بتطليقة" بأنه لم يصرح بمن حسبها عليه، ولا حجة في أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعقب بأنه مثل قول الصحابي "أمرنا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا" فإنه ينصرف إلى من له الأمر حينئذ وهو النبي صلى الله عليه وسلم، كذا قال بعض الشراح، وعندي أنه لا ينبغي أن يجئ فيه الخلاف الذي في قول الصحابي أمرنا بكذا فإن ذاك محله حيث يكون اطلاع النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك ليس صريحا، وليس كذلك في قصة ابن عمر هذه فإن النبي صلى الله عليه وسلم هو الآمر بالمراجعة وهو المرشد لابن عمر فيما يفعل إذا أراد طلاقها بعد ذلك، وإذا أخبر ابن عمر أن الذي وقع منه حسبت عليه بتطليقة كان احتمال أن يكون الذي حسبها عليه غير النبي صلى الله عليه وسلم بعيدا جدا مع احتفاف القرائن في هذه القصة بذلك، كيف يتخيل أن ابن عمر يفعل في القصة شيئا برأيه وهو ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم تغيظ من صنيعه كيف لم يشاوره فيما يفعل في القصة المذكورة، وقد أخرج ابن وهب في مسنده عن ابن أبي ذئب أن نافعا أخبره "أن ابن عمر طلق امرأته وهي حائض، فسأل عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: مره فليراجعها ثم يمسكها حتى تطهر" قال ابن أبي ذئب في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: "وهي واحدة" قال ابن أبي ذئب: وحدثني حنظلة بن أبي سفيان أنه سمع سالما يحدث عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وأخرجه الدار قطني من طريق يزيد بن هارون عن ابن أبي ذئب وابن إسحاق جميعا عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "هي واحدة"، وهذا نص في موضع الخلاف فيجب المصير إليه. وقد أورده بعض العلماء على ابن حزم فأجابه بأن قوله: "هي واحدة" لعله ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، فألزمه بأنه نقض أصله لأن الأصل لا يدفع بالاحتمال. وعند الدار قطني في رواية شعبة عن أنس بن سيرين عن ابن عمر في القصة "فقال عمر: يا رسول الله أفتحتسب بتلك التطليقة؟ قال: نعم". ورجاله إلى شعبة ثقات. وعنده من طريق سعيد ابن عبد الرحمن الجمحي عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر "أن رجلا قال: إني طلقت امرأتي البتة وهي حائض، فقال: عصيت ربك، وفارقت امرأتك. قال فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر ابن عمر أن يراجع امرأته، قال: إنه أمر ابن عمر أن يراجعها بطلاق بقي له، وأتت لم تبق ما ترتجع به امرأتك" وفي هذا السياق رد على من حمل الرجعة في قصة ابن عمر على المعنى اللغوي، وقد وافق ابن حزم على ذلك من المتأخرين ابن تيمية، وله كلام طويل في تقرير ذلك والانتصار له. وأعظم ما احتجوا به ما وقع في رواية أبي الزبير عن ابن عمر عند مسلم وأبي داود والنسائي وفيه: "فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليراجعها، فردها وقال: إذا طهرت فليطلق أو يمسك" لفظ مسلم، وللنسائي وأبي داود "فردها علي" زاد أبو داود "ولم يرها شيئا" وإسناده على شرط الصحيح فإن مسلما أخرجه من رواية حجاج بن محمد عن ابن جريج، وساقه على لفظه ثم أخرجه من رواية أبي عاصم عنه وقال نحو هذه القصة، ثم أخرجه من رواية عبد الرزاق عن ابن جريج قال مثل حديث حجاج وفيه بعض الزيادة، فأشار إلى هذه الزيادة، ولعله طوى ذكرها عمدا. وقد أخرج أحمد الحديث عن روح بن

(9/353)


عبادة عن ابن جريج فذكرها، فلا يتخيل انفراد عبد الرزاق بها. قال أبو داود: روى هذا الحديث عنه ابن عمر جماعة، وأحاديثهم كلها على خلاف ما قال أبو الزبير وقال ابن عبد البر: قوله: "ولم يرها شيئا" منكر لم يقله غير أبي الزبير، وليس بحجة فيما خالفه فيه مثله فكيف بمن هو أثبت منه، ولو صح فمعناه عندي والله أعلم: ولم يرها شيئا مستقيما لكونها لم تقع على السنة. وقال الخطابي قال أهل الحديث: لم يرو أبو الزبير حديثا أنكر من هذا، وقد يحتمل أن يكون معناه: ولم يرها شيئا تحرم معه المراجعة، أو لم يرها شيئا جائزا في السنة ماضيا في الاختيار وإن كان لازما له مع الكراهة. ونقل البيهقي في "المعرفة" عن الشافعي أنه ذكر رواية أبي الزبير فقال: نافع أثبت من أبي الزبير والأثبت من الحديثين أولى أن يؤخذ به إذا تخالفا، وقد وافق نافعا غيره من أهل الثبت. قال: وبسط الشافعي القول في ذلك وحمل قوله لم يرها شيئا على أنه لم يعدها شيئا صوابا غير خطأ، بل يؤمر صاحبه أن لا يقيم عليه لأنه أمره بالمراجعة، ولو كان طلقها طاهرا لم يؤمر بذلك، فهو كما يقال للرجل إذا أخطأ في فعله أو أخطأ في جوابه لم يصنع شيء أي لم يصنع شيئا صوابا، قال ابن عبد البر: واحتج بعض من ذهب إلى أن الطلاق لا يقع بما روي عن الشعبي قال: إذا طلق الرجل امرأته وهي حائض لم يعتد بها في قول ابن عمر، قال ابن عبد البر: وليس معناه ما ذهب إليه، وإنما معناه لم تعتد المرأة بتلك الحيضة في العدة، كما روى ذلك عنه منصوصا أنه قال: يقع عليها الطلاق ولا تعتد بتلك الحيضة ا هـ. وقد روى عبد الوهاب الثقفي عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر نحوا ما نقله ابن عبد البر عن الشعبي أخرجه ابن حزم بإسناد صحيح، والجواب عنه مثله. وروى سعيد بن منصور من طريق عبد الله بن مالك "عن ابن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس ذلك بشيء" وهذه متابعات لأبي الزبير، إلا أنها قابلة للتأويل، وهو أولى من إلغاء الصريح في قول ابن عمر إنها حسبت عليه بتطليقة. وهذا الجمع الذي ذكره ابن عبد البر وغيره يتعين، وهو أولى من تغليظ بعض الثقات وأما قول ابن عمر "إنها حسبت عليه بتطليقة" فإنه وإن لم يصرح برفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإن فيه تسليم أن ابن عمر قال إنها حسبت عليه، فكيف يجتمع مع هذا قوله إنه لم يعتد بها أو لم يرها شيئا على المعنى الذي ذهب إليه المخالف؟ لأنه إن جعل الضمير للنبي صلى الله عليه وسلم لزم منه أن ابن عمر خالف ما حكم به النبي صلى الله عليه وسلم في هذه القصة بخصوصها لأنه قال إنها حسبت عليه بتطليقة فيكون من حسبها عليه خالف كونه لم يرها شيئا، وكيف يظن به ذلك مع اهتمامه واهتمام أبيه بسؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ليفعل ما يأمره به؟ وإن جعل الضمير في لم يعتد بها أو لم يرها لابن عمر لزم منه التناقض في القصة الواحدة فيفتقر إلى الترجيح، ولا شك أن الأخذ بما رواه الأكثر والأحفظ أولى من مقابله عند تعذر الجمع عند الجمهور والله أعلم. واحتج ابن القيم لترجيح ما ذهب إليه شيخه بأقيسة ترجع إلى مسألة أن النهي يقتضي الفساد فقال: الطلاق ينقسم إلى حلال وحرام، فالقياس أن حرامه باطل كالنكاح وسائر العقود، وأيضا فكما أن النهي يقتضي التحريم فكذلك يقتضي الفساد، وأيضا فهو طلاق منع منه الشرع فأفاد منعه عدم جواز إيقاعه فكذلك يفيد عدم نفوذه وإلا لم يكن للمنع فائدة، لأن الزوج لو وكل رجلا أن يطلق امرأته على وجه فطلقها على غير الوجه المأذون فيه لم ينفذ، فكذلك لم يأذن الشارع للمكلف في الطلاق إلا إذا كان مباحا، فإذا طلق طلاقا محرما لم يصح. وأيضا فكل ما حرمه الله من العقود مطلوب الإعدام، فالحكم ببطلان ما حرمه أقرب إلى

(9/354)


تحصيل هذا المطلوب من تصحيحه، ومعلوم أن الحلال المأذون فيه ليس الحرام الممنوع منه. ثم أطال من هذا الجنس بمعارضات كثيرة لا تنهض مع التنصيص على صريح الأمر بالرجعة فإنها فرع وقوع الطلاق على تصريح صاحب القصة بأنها حسبت عليه تطليقة، والقياس في معارضة النص فاسد الاعتبار والله أعلم. وقد عورض بقياس أحسن من قياسه فقال ابن عبد البر: ليس الطلاق من أعمال البر التي يتقرب بها، وإنما هو إزالة عصمة فيها حق آدمي، فكيفما أوقعه وقع، سواء أجر في ذلك أم أثم، ولو لزم المطيع ولم يلزم العاصي لكان العاصي أخف حالا من المطيع. ثم قال ابن القيم: لم يرد التصريح بأن ابن عمر احتسب بتلك التطليقة إلا في رواية سعيد بن جبير عنه عند البخاري، وليس فيها تصريح بالرفع، قال: فانفراد سعيد بن جبير بذلك كانفراد أبي الزبير بقوله لم يرها شيئا، فإما أن يتساقطا وإما أن ترجح رواية أبي الزبير لتصريحها بالرفع، وتحمل رواية سعيد بن جبير على أن أباه هو الذي حسبها عليه بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم في الوقت الذي ألزم الناس فيه بالطلاق الثلاث بعد أن كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لا يحتسب عليهم به ثلاثا إذا كان بلفظ واحد. قلت: وغفل رحمه الله عما ثبت في صحيح مسلم من رواية أنس بن سيرين على وفاق ما روى سعيد بن جبير، وفي سياقه ما يشعر بأنه إنما راجعها في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولفظه: "سألت ابن عمر عن امرأته التي طلق فقال: طلقتها وهي حائض، فذكر ذلك عمر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : مره فليراجعها فإذا طهرت فليطلقها لطهرها، قال فراجعتها ثم طلقها لطهرها قلت فاعتددت بتلك التطليقة وهي حائض؟ فقال ما لي لا اعتد بها وإن كنت عجزت واستحمقت" وعند مسلم أيضا من طريق ابن أخي ابن شهاب عن عمه عن سالم في حديث الباب: "وكان عبد الله بن عمر طلقها تطليقة فحسبت من طلاقها فراجعها كما أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم:" وله من رواية الزبيدي عن ابن شهاب "قال ابن عمر فراجعتها وحسبت لها التطليقة التي طلقتها" وعند الشافعي عن مسلم بن خالد عن ابن جريج "أنهم أرسلوا إلى نافع يسألونه: هل حسبت تطليقة ابن عمر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: نعم". وفي حديث ابن عمر من الفوائد غير ما تقدم أن الرجعة يستقل بها الزوج دون الولي ورضا المرأة، لأنه جعل ذلك إليه دون غيره، وهو كقوله تعالى :{وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} وفيه أن الأب يقوم عن ابنه البالغ الرشيد في الأمور التي تقع له مما يحتشم الابن من ذكره، ويتلقى عنه ما لعله يلحقه من العتاب على فعله شفقة منه وبرا. وفيه أن طلاق الطاهرة لا يكره لأنه أنكر إيقاعه في الحيض لا في غيره، ولقوله في آخر الحديث:" فإن شاء أمسك وإن شاء طلق". وفيه أن الحامل لا تحيض لقوله في طريق سالم المتقدمة "ثم ليطلقها طاهرا أو حاملا" فحرم صلى الله عليه وسلم الطلاق في زمن الحيض وأباحه في زمن الحمل، فدل على أنهما لا يجتمعان. وأجيب بأن حيض الحامل لما لم يكن له تأثير في تطويل العدة ولا تخفيفها لأنها بوضع الحمل فأباح الشارع طلاقها حاملا مطلقا، وأما غير الحامل ففرق بين الحائض والطاهر لأن الحيض يؤثر في العدة فالفرق بين الحامل وغيرها إنما هو بسبب الحمل لا بسبب الحيض ولا الطهر. وفيه أن الأقراء في العدة هي الأطهار، وسيأتي تقرير ذلك في كتاب العدة. وفيه تحريم الطلاق في طهر جامعها فيه وبه قال الجمهور. وقال المالكية لا يحرم؛ وفي رواية كالجمهور، ورجحها الفاكهاني لكونه شرط في الإذن في الطلاق عدم المسيس، والمعلق بشرط معدوم عند عدمه

(9/355)


5254- حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ قَالَ سَأَلْتُ الزُّهْرِيَّ أَيُّ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعَاذَتْ مِنْهُ قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ ابْنَةَ الْجَوْنِ لَمَّا أُدْخِلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَنَا مِنْهَا قَالَتْ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ فَقَالَ لَهَا لَقَدْ عُذْتِ بِعَظِيمٍ الْحَقِي بِأَهْلِكِ"
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ رَوَاهُ حَجَّاجُ بْنُ أَبِي مَنِيعٍ عَنْ جَدِّهِ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَنَّ عُرْوَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ:
5255- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ غَسِيلٍ عَنْ حَمْزَةَ بْنِ أَبِي أُسَيْدٍ عَنْ أَبِي أُسَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى انْطَلَقْنَا إِلَى حَائِطٍ يُقَالُ لَهُ الشَّوْطُ حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى حَائِطَيْنِ فَجَلَسْنَا بَيْنَهُمَا فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اجْلِسُوا هَا هُنَا وَدَخَلَ وَقَدْ أُتِيَ بِالْجَوْنِيَّةِ فَأُنْزِلَتْ فِي بَيْتٍ فِي نَخْلٍ فِي بَيْتِ أُمَيْمَةَ بِنْتِ النُّعْمَانِ بْنِ شَرَاحِيلَ وَمَعَهَا دَايَتُهَا حَاضِنَةٌ لَهَا فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ هَبِي نَفْسَكِ لِي قَالَتْ وَهَلْ تَهَبُ الْمَلِكَةُ نَفْسَهَا لِلسُّوقَةِ قَالَ فَأَهْوَى بِيَدِهِ يَضَعُ يَدَهُ عَلَيْهَا لِتَسْكُنَ فَقَالَتْ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ فَقَالَ قَدْ عُذْتِ بِمَعَاذٍ ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْنَا فَقَالَ يَا أَبَا أُسَيْدٍ اكْسُهَا رَازِقِيَّتَيْنِ وَأَلْحِقْهَا بِأَهْلِهَا"
[الحديث 5255- طرفه في: 5257]
5256، 5257- وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْوَلِيدِ النَّيْسَابُورِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَبَّاسِ بْنِ سَهْلٍ عَنْ أَبِيهِ وَأَبِي أُسَيْدٍ قَالاَ تَزَوَّجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَيْمَةَ بِنْتَ شَرَاحِيلَ فَلَمَّا أُدْخِلَتْ عَلَيْهِ بَسَطَ يَدَهُ إِلَيْهَا فَكَأَنَّهَا كَرِهَتْ ذَلِكَ فَأَمَرَ أَبَا أُسَيْدٍ أَنْ يُجَهِّزَهَا وَيَكْسُوَهَا ثَوْبَيْنِ رَازِقِيَّيْنِ"
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي الْوَزِيرِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَنْ حَمْزَةَ عَنْ أَبِيهِ وَعَنْ عَبَّاسِ بْنِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ بِهَذَا"
[الحديث 5256- طرفه في: 5637]
5258- حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي غَلاَبٍ يُونُسَ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ رَجُلٌ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ فَقَالَ تَعْرِفُ ابْنَ عُمَرَ إِنَّ ابْنَ عُمَرَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ فَأَتَى عُمَرُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَأَمَرَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا فَإِذَا طَهُرَتْ فَأَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا فَلْيُطَلِّقْهَا قُلْتُ فَهَلْ عَدَّ ذَلِكَ طَلاَقًا قَالَ أَرَأَيْتَ إِنْ عَجَزَ وَاسْتَحْمَقَ"
قوله: "باب من طلق، وهل يواجه الرجل امرأته بالطلاق" كذا للجميع وحذف ابن بطال من الترجمة قوله: "من طلق" فكأنه لم يظهر له وجهه، وأظن المصنف قصد إثبات مشروعية جواز الطلاق وحمل حديث: "أبغض الحلال إلى الله الطلاق" على ما إذا وقع من غير سبب، وهو حديث أخرجه أبو داود وغيره، وأعل بالإرسال، وأما المواجهة فأشار إلى أنها خلاف الأولى لأن ترك المواجهة أرفق وألطف إلا أن احتيج إلى ذكر ذلك. ثم ذكر

(9/356)


المصنف في الباب ثلاثة أحاديث. قوله: "إن ابنة الجون" زاد في نسخة الصغاني "الكلبية" وهو بعيد على ما سأبينه، ووقع في "كتاب الصحابة لأبي نعيم" من طريق عبيد بن القاسم عن هشام بن عروة عن أبيه "عن عائشة أن عمرة بنت الجون تعوذت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أدخلت عليه، قال: لقد عذت بمعاذ" الحديث. وعبيد متروك. والصحيح أن أسمها أميمة بنت النعمان بن شراحيل كما في حديث أبي أسيد. وقال مرة: أميمة بنت شراحيل فنسبت لجدها، وقيل اسمها أسماء كما سأبينه في حديث أبي أسيد مع شرحه مستوفى، وروى ابن سعد عن الواقدي عن ابن أخي الزهري عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: "تزوج النبي صلى الله عليه وسلم الكلابية" فذكر مثل حديث الباب، وقوله الكلابية غلط وإنما هي الكندية، فكأنما الكلمة تصحفت. نعم للكلابية قصة أخرى ذكرها ابن سعد أيضا بهذا السند إلى الزهري وقال: اسمها فاطمة بنت الضحاك بن سفيان، فاستعاذت منه فطلقها، فكانت تلقط البعر وتقول: أنا الشقية. قال وتوفيت سنة ستين. ومن طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده "أن الكندية لما وقع التخيير اختارت قومها ففارقها، فكانت تقول: أنا الشقية". ومن طريق سعيد بن أبي هند أنها استعاذت منه فأعاذها. ومن طريق الكلبي اسمها العالية بنت ظبيان بن عمرو، وحكى ابن سعد أيضا أن اسمها عمرة بنت يزيد بن عبيد، وقيل بنت يزيد بن الجون. وأشار ابن سعد إلى أنها واحدة اختلف في اسمها، والصحيح أن التي استعاذت منه هي الجونية. وروى ابن سعد من طريق سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى قال: لم تستعذ منه امرأة غيرها. قلت: وهو الذي يغلب على الظن، لأن ذلك إنما وقع للمستعيذة بالخديعة المذكورة فيبعد أن تخدع أخرى بعدها بمثل ما خدعت به بعد شيوع الخبر بذلك. قال ابن عبد البر: أجمعوا على أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج الجونية. واختلفوا في سبب فراقه فقال قتادة: لما دخل عليها دعاها فقالت: تعالى أنت. فطلقها. وقيل كان بها وضح كالعامرية قال وزعم بعضهم أنها قالت أعوذ بالله منك فقال قد عذت بمعاذ وقد أعاذك الله مني فطلقها. قال وهذا باطل إنما قال له هذا امرأة من بني العنبر وكانت جميلة فحاف نساؤه أن تغلبهن عليه فقلن لها إنه يعجبه أن يقال له نعوذ بالله منك ففعلت فطلقها، كذا قال، وما أدري لم حكم ببطلان ذلك مع كثرة الروايات الواردة فيه وثبوته في حديث عائشة في صحيح البخاري، وسيأتي مزيد لذلك في الحديث الذي بعده. والقول الذي نسبه لقتادة ذكر مثله أبو سعيد النيسابوري عن شرقي ابن قطامي. قوله: "رواه حجاج بن أبي منيع عن جده" هو حجاج بن يوسف بن أبي منيع وأبو منيع هو عبيد الله بن أبي زياد الوصافي بفتح الواو وتشديد المهملة وبالفاء وكان يكون بحلب، ولم يخرج له البخاري إلا معلقا وكذا لجده. وهذه الطريق وصلها الذهلي في "الزهريات" ورواه ابن أبي ذئب أيضا عن الزهري نحوه وزاد في آخره: "قال الزهري جعلها تطليقة" أخرجه البيهقي، وقوله: "الحقي بأهلك" بكسر الألف من الحقي وفتح الحاء بخلاف قوله في الحديث الثاني ألحقها فإنه بفتح الهمزة وكسر الحاء. قوله: "حدثنا عبد الرحمن بن غسيل" كذا في رواية الأكثر بغير ألف ولام وفي رواية النسفي "ابن الغسيل" وهو أوجه ولعلها كانت ابن غسيل الملائكة فسقط لفظ الملائكة، والألف واللام بدل الإضافة، وعبد الرحمن ينسب إلى جد أبيه وهو عبد الرحمن بن سليمان بن عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر الأنصاري، وحنظلة هو غسيل الملائكة استشهد بأحد وهو جنب فغسلته الملائكة وقصته مشهورة، ووقع في رواية الجرجاني عبد الرحيم والصواب عبد الرحمن كما نبه عليه الجياني. قوله: "إلى حائط يقال له الشوط" بفتح المعجمة وسكون الواو بعدها مهملة وقيل معجمة هو بستان في المدينة معروف. قوله:

(9/357)


"حتى انتهينا إلى حائطين جلسنا بينهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اجلسوا هاهنا ودخل" أي إلى الحائط. له رواية لابن سعد عن أبي أسيد قال: "تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة من بني الجون فأمرني أن آتيه بها فأتيته بها فأنزلتها بالشوط من وراء ذباب في أطم، ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فخرج يمشي ونحن معه. وذباب بضم المعجمة وموحدتين مخففا جبل معروف بالمدينة، والأطم الحصون وهو الأجم أيضا والجمع آطام وآجام كعنق وأعناق. وفي رواية لابن سعد أن النعمان بن الجون الكندي أتى النبي صلى الله عليه وسلم مسلما فقال: ألا أزوجك أجمل أيم في العرب؟ فتزوجها وبعث معه أبا أسيد الساعدي، قال أبو أسيد: فأنزلتها في بني ساعدة فدخل عليها نساء الحي فرحين بها وخرجن فذكرن من جمالها. قوله: "فأنزلت في بيت في نخل في بيت أميمة بنت النعمان بن شراحيل" هو بالتنوين في الكل، وأميمة بالرفع إما بدلا عن الجونية وإما عطف بيان، وظن بعض الشراح أنه بالإضافة فقال في الكلام على الرواية التي بعدها: تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أميمة بنت شراحيل ولعل التي نزلت في بيتها بنت أخيها؛ وهو مردود فإن مخرج الطريقين واحد، وإنما جاء الوهم من إعادة لفظ: "في بيت" وقد رواه أبو بكر بن أبي قتيبة في مسنده عن أبي نعيم شيخ البخاري فيه فقال: "في بيت في النخل أميمة إلخ" وجزم هشام بن الكلبي بأنها أسماء بنت النعمان بن شراحيل بن الأسود بن الجون الكندية، وكذا جزم بتسميتها أسماء محمد بن إسحاق ومحمد بن حبيب وغيرهما، فلعل اسمها أسماء ولقبها أميمة. ووقع في المغازي رواية يونس بن بكير عن ابن إسحاق "أسماء بنت كعب الجونية" فلعل في نسبها من اسمه كعب نسبها إليه، وقيل هي أسماء بنت الأسود بن الحارث بن النعمان. قوله: "ومعها دايتها حاضنة لها" الداية بالتحتانية الظئر المرضع وهي معربة، ولم أقف على تسمية هذه الحاضنة. قوله: "هبي نفسك لي إلخ" السوقة بضم السين المهملة يقال للواحد من الرعية والجمع، قيل لهم ذلك لأن الملك يسوقهم فيساقون إليه ويصرفهم على مراده، وأما أهل السوق فالواحد منهم سوقي، قال ابن المنير: هذا من بقية ما كان فيها من الجاهلية، والسوقة عندهم من ليس بملك كائنا من كان، فكأنها استبعدت أن يتزوج الملكة من ليس بملك، وكان صلى الله عليه وسلم قد خير أن يكون ملكا نبيا فاختار أن يكون عبدا نبيا تواضعا منه صلى الله عليه وسلم لربه. ولم يؤاخذها النبي صلى الله عليه وسلم بكلامها معذرة لها لقرب عهدها بجاهليتها. وقال غيره يحتمل أنها لم تعرفه صلى الله عليه وسلم فخاطبته بذلك، وسياق القصة من مجموع طرقها يأبى هذا الاحتمال، نعم سيأتي في أواخر الأشربة من طريق أبي حازم عن سهل بن سعد قال: "ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم امرأة من العرب، فأمر أبا أسيد الساعدي أن يرسل إليها فقدمت، فنزلت في أجم بني ساعدة، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم حتى جاء بها فدخل عليها فإذا امرأة منكسة رأسها، فلما كلمها قالت: أعوذ بالله منك، قال: لقد أعذتك مني. فقالوا لها أتدرين من هذا؟ هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء ليخطبك، قالت كنت أنا أشقى من ذلك. فإن كانت القصة واحدة فلا يكون قوله في حديث الباب ألحقها بأهلها ولا قوله في حديث عائشة الحقي بأهلك تطليقا، ويتعين أنها لم تعرفه. وإن كانت القصة متعددة ولا مانع من ذلك فلعل هذه المرأة هي الكلابية التي وقع فيها الاضطراب. وقد ذكر ابن سعد بسند فيه العزرمي الضعيف عن ابن عمر قال: "كان في نساء النبي صلى الله عليه وسلم سنا بنت سفيان بن عوف بن كعب بن أبي بكر بن كلاب، قال: وكان النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا أسيد الساعدي يخطب عليه امرأة من بني عامر يقال لها عمرة بنت يزيد بن عبيد بن رؤاس بن كلاب بن ربيعة بن عامر، قال ابن سعد: اختلف علينا اسم الكلابية فقيل فاطمة بنت الضحاك بن سفيان وقيل عمرة بنت يزيد بن عبيد وقيل سنا بنت سفيان بن عوف وقيل العالية بنت ظبيان بن

(9/358)


عمرو بن عوف، فقال بعضهم هي واحدة اختلف في اسمها. وقال بعضهم بل كن جمعا ولكن لكل واحدة منهن قصة غير قصة صاحبتها". ثم ترجم الجونية فقال: أسماء بنت النعمان. ثم أخرج من طريق عند الواحد بن أبي عون قال: "قدم النعمان بن أبي الجون الكندي على رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلما فقال: يا رسول الله ألا أزوجك أجمل أيم في العرب، كانت تحت ابن عم لها فتوفي وقد رغبت فيك؟ قال: نعم. قال: فابعث من يحملها إليك. فبعث معه أبا أسيد الساعدي. قال أبو أسيد فأقمت ثلاثة أيام ثم تحملت معي في محفة فأقبلت بها حتى قدمت المدينة فأنزلتها في بني ساعدة، ووجهت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بني عمرو بن عوف فأخبرته" الحديث. قال ابن أبي عون: وكان ذلك في ربيع الأول سنة تسع. ثم أخرج من طريق أخرى عن عمر بن الحكم عن أبي أسيد قال: "بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الجونية فحملتها حتى نزلت بها في أطم بني ساعدة، ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فخرج يمشي على رجليه حتى جاءها" الحديث. ومن طريق سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى قال: اسم الجونية أسماء بنت النعمان بن أبي الجون، قيل لها استعيذي منه فإنه أحظى لك عنده، وخدعت لما رؤى من جمالها، وذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم من حملها على ما قالت فقال: إنهن صواحب يوسف وكيدهن. فهذه تتنزل قصتها على حديث أبي حازم عن سهل بن سعد، وأما القصة التي في حديث الباب من رواية عائشة فيمكن أن تنزل على هذه أيضا فإنه ليس فيها إلا الاستعاذة، والقصة التي في حديث أبي أسيد فيها أشياء مغايرة لهذه القصة، فيقوى التعدد، ويقوى أن التي في حديث أبي أسيد اسمها أميمة والتي في حديث سهل اسمها أسماء والله أعلم. وأميمة كان قد عقد عليها ثم فارقها وهذه لم يعقد عليها بل جاء ليخطبها فقط. قوله: "فأهوى بيده" أي أمالها إليها. ووقع في رواية ابن سعد "فأهوى إليها ليقبلها، وكان إذا اختلى النساء أقعى وقبل" وفي رواية لابن سعد "فدخل عليها داخل من النساء وكانت من أجمل النساء فقالت: إنك من الملوك فإن كنت تريدين أن تحظي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا جاءك فاستعيذي منه" ووقع عنده عن هشام بن محمد عن عبد الرحمن بن الغسيل بإسناد حديث الباب: "إن عائشة وحفصة دخلتا عليها أول ما قدمت فمشطتاها وخضبتاها. وقالت لها إحداهما: إن النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه من المرأة إذا دخل عليها أن تقول أعوذ بالله منك". قوله: "فقال : قد عذت بمعاذ" هو بفتح الميم ما يستعاذ به، أو اسم مكان العوذ، والتنوين فيه للتعظيم. وفي رواية ابن سعد "فقال بكمه على وجهه وقال: عذت معاذا. ثلاث مرات" وفي أخرى له "فقال أمن عائذ الله". قوله: "ثم خرج علينا فقال: يا أبا أسيد اكسها رازقيين" براء ثم زاي ثم قاف بالتثنية صفة موصوف محذوف للعلم به، والرازقية ثياب من كتان بيض طوال قاله أبو عبيدة. وقال غيره. يكون في داخل بياضها زرقة، والرازقي الصفيق. قال ابن التين: متعها بذلك إما وجوبا وإما تفضلا. قلت: وسيأتي حكم المتعة في كتاب النفقات. قوله: "وألحقها بأهلها" قال ابن بطال: ليس في هذا أنه واجهها بالطلاق. وتعقبه ابن المنير بأن ذلك ثبت في حديث عائشة أول أحاديث الباب، فيحمل على أنه قال لها الحقي بأهلك، ثم لما خرج إلى أبي أسيد قال له ألحقها بأهلها، فلا منافاة، فالأول قصد به الطلاق والثاني أراد به حقيقة اللفظ وهو أن يعيدها إلى أهلها، لأن أبا أسيد هو الذي كان أحضرها كما ذكرناه. ووقع في رواية لابن سعد عن أبي أسيد قال: "فأمرني فرددتها إلى قومها" وفي أخرى له "فلما وصلت بها تصايحوا وقالوا: إنك لغير مباركة، فما دهاك؟ قالت: خدعت. قال فتوفيت في خلافة عثمان". قال: "وحدثني هشام بن محمد عن أبي خيثمة زهير بن معاوية أنها ماتت كمدا" ثم روي بسند فيه الكلبي "أن المهاجرين

(9/359)


أبي أمية تزوجها، فأراد عمر معاقبتها فقالت: ما ضرب علي الحجاب، ولا سميت أم المؤمنين. فكف عنها "وعن الواقدي: سمعت من يقول إن عكرمة بن أبي جهل خلف عليها، قال: وليس ذلك بثبت. ولعل ابن بطال أراد أنه لم يواجهها بلفظ الطلاق. وقد أخرج ابن سعد من طريق هشام بن عروة عن أبيه أن الوليد بن عبد الملك كتب إليه يسأله، فكتب إليه: ما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم كندية إلا أخت بني الجون فملكها. فلما قدمت المدينة نظر إليها فطلقها ولم يبن بها. فقوله فطلقها يحتمل أن يكون باللفظ المذكور قبل ويحتمل أن يكون واجهها بلفظ الطلاق، ولعل هذا هو السر في إيراد الترجمة بلفظ الاستفهام دون بت الحكم. واعترض بعضهم بأنه لم يتزوجها إذ لم يجر ذكر صورة العقد، وامتنعت أن تهب له نفسها فكيف يطلقها؟ والجواب أنه صلى الله عليه وسلم كان له أن يزوج من نفسه بغير إذن المرأة وبغير إذن وليها، فكان مجرد إرساله إليها وإحضارها ورغبته فيها كافيا في ذلك، ويكون قوله: "هبي لي نفسك" تطييبا لخاطرها واستمالة لقلبها، ويؤيده قوله في رواية لابن سعد "إنه اتفق مع أبيها على مقدار صداقها، وأن أباها قال له: إنها رغبت فيك وخطبت إليك". قوله: "وقال الحسين بن الوليد النيسابوري عن عبد الرحمن "هو ابن الغسيل" عن عباس بن سهل عن أبيه وأبي أسيد" هذا التعليق وصله أبو نعيم في "المستخرج" من طريق أبي أحمد الفراء عن الحسين، ومراد البخاري منه أن الحسين بن الوليد شارك أبا نعيم في روايته لهذا الحديث عن عبد الرحمن بن الغسيل، لكن اختلفا في شيخ عبد الرحمن فقال أبو نعيم حمزة وقال الحسين عباس بن سهل، ثم ساقه من طريق ثالثة عن عبد الرحمن فبين أنه عند عبد الرحمن بالإسنادين، لكن طريق أبي أسيد عن حمزة ابنه عنه وطريق سهل بن سعد عن عباس ابنه عنه، وكأن حمزة حذف في رواية الحسين بن الوليد فصار الحديث من رواية عباس بن سهل عن أبي أسيد وليس كذلك، والتحرير ما وقع في الرواية الثالثة وهي رواية إبراهيم بن أبي الوزير واسم أبي الوزير عمر بن مطرف، وهو حجازي نزل البصرة، وقد أدركه البخاري ولم يلقه فحدث عنه بواسطة، وذكره في تاريخه فقال: مات بعد أبي عاصم سنة اثنتي عشرة، وليس له في البخاري سوى هذا الموضع، وقد وافقه على إقامة إسناده أبو أحمد الزبيري أخرجه أحمد في مسنده عنه. "تنبهان": الأول قال القاضي عياض في أوائل كتاب الجهاد من "شرح مسلم:" قال البخاري في تاريخه: الحسين بن الوليد بن علي النيسابوري القرشي مات سنة ثلاث ومائتين، ولم يذكر في باب الحسن مكبرا من اسمه الحسن بن الوليد، وذكر في صحيحه في كتاب الطلاق الحسن بن الوليد النيسابوري عن عبد الرحمن عن عباس ابن سهل عن أبيه وأبي أسيد "تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أميمة بنت شراحيل" كذا ذكره مكبرا. قلت: لم أره في شيء من النسخ المعتمدة من البخاري إلا مصغرا، ويؤيده اقتصاره عليه في تاريخه والله أعلم. الثاني وقع في رواية أبي أحمد الجرجاني في السند الأول "عن حمزة بن أبي أسيد عن عباس بن سهل عن أبيه" وهو خطأ سقطت الواو من قوله: "وعن عباس" وقد ثبتت عند جميع الرواة، وفي الحديث أن من قال لامرأته الحقي بأهلك وأراد الطلاق طلقت، فإن لم يرد الطلاق لم تطلق على ما وقع في حديث كعب بن مالك الطويل في قصة توبته "أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أرسل إليه أن يعتزل امرأته قال لها الحقي بأهلك فكوني فيهم حتى يقضي الله هذا الأمر" وقد مضى الكلام عليه مستوفى في شرحه. حديث ابن عمر في طلاق امرأته، وقد مضى شرحه مستوفى قبل، وقوله في هذه الرواية: "أتعرف ابن عمر" إنما قال له ذلك مع أنه يعرف أنه يعرفه وهو الذي يخاطبه ليقرره على اتباع السنة، وعلى القبول من ناقلها، وأنه يلزم العامة الاقتداء بمشاهير العلماء، فقرره على

(9/360)


ما يلزمه من ذلك لا أنه ظن أنه لا يعرفه، قال ابن المنير: ليس فيه مواجهة ابن عمر المرأة بالطلاق، وإنما فيه: "طلق ابن عمر امرأته" لكن الظاهر من حاله المواجهة لأنه إنما طلقها عن شقاق ا هـ. ولم يذكر مستنده في الشقاق المذكور، فقد يحتمل أن لا يكون عن شقاق بل عن سبب آخر، وقد روى أحمد والأربعة وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم من طريق حمزة بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال: "كان تحتي امرأة أحبها، وكان عمر يكرهها فقال: طلقها، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أطع أباك" فيحتمل أن تكون هي هذه، ولعل عمر لما أمره بطلاقها وشاور النبي صلى الله عليه وسلم فامتثل أمره اتفق أن الطلاق وقع وهي في الحيض فعلم عمر بذلك فكان ذلك هو السر في توليه السؤال عن ذلك لكونه وقع من قبله.

(9/361)


باب من جوز الطلاق الثلاث
...
4- باب مَنْ أَجَازَ طَلاَقَ الثَّلاَثِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} وَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ فِي مَرِيضٍ طَلَّقَ لاَ أَرَى أَنْ تَرِثَ مَبْتُوتَتُهُ وَقَالَ الشَّعْبِيُّ تَرِثُهُ وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ تَزَوَّجُ إِذَا انْقَضَتْ الْعِدَّةُ قَالَ نَعَمْ قَالَ أَرَأَيْتَ إِنْ مَاتَ الزَّوْجُ الْآخَرُ فَرَجَعَ عَنْ ذَلِكَ
5259- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ السَّاعِدِيَّ أَخْبَرَهُ أَنَّ عُوَيْمِرًا الْعَجْلاَنِيَّ جَاءَ إِلَى عَاصِمِ بْنِ عَدِيٍّ الأَنْصَارِيِّ فَقَالَ لَهُ يَا عَاصِمُ أَرَأَيْتَ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ أَمْ كَيْفَ يَفْعَلُ سَلْ لِي يَا عَاصِمُ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَ عَاصِمٌ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسَائِلَ وَعَابَهَا حَتَّى كَبُرَ عَلَى عَاصِمٍ مَا سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا رَجَعَ عَاصِمٌ إِلَى أَهْلِهِ جَاءَ عُوَيْمِرٌ فَقَالَ يَا عَاصِمُ مَاذَا قَالَ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ عَاصِمٌ لَمْ تَأْتِنِي بِخَيْرٍ قَدْ كَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسْأَلَةَ الَّتِي سَأَلْتُهُ عَنْهَا قَالَ عُوَيْمِرٌ وَاللَّهِ لاَ أَنْتَهِي حَتَّى أَسْأَلَهُ عَنْهَا فَأَقْبَلَ عُوَيْمِرٌ حَتَّى أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسْطَ النَّاسِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ أَمْ كَيْفَ يَفْعَلُ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيكَ وَفِي صَاحِبَتِكَ فَاذْهَبْ فَأْتِ بِهَا قَالَ سَهْلٌ فَتَلاَعَنَا وَأَنَا مَعَ النَّاسِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا فَرَغَا قَالَ عُوَيْمِرٌ كَذَبْتُ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ أَمْسَكْتُهَا فَطَلَّقَهَا ثَلاَثًا قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ فَكَانَتْ تِلْكَ سُنَّةَ الْمُتَلاَعِنَيْنِ"
5260- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ قَالَ حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ امْرَأَةَ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ جَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ رِفَاعَةَ طَلَّقَنِي فَبَتَّ طَلاَقِي وَإِنِّي نَكَحْتُ بَعْدَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الزُّبَيْرِ الْقُرَظِيَّ وَإِنَّمَا مَعَهُ مِثْلُ الْهُدْبَةِ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَعَلَّكِ تُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إِلَى رِفَاعَةَ لاَ حَتَّى يَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ وَتَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ"

(9/361)


5261- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَجُلًا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلاَثًا فَتَزَوَّجَتْ فَطَلَّقَ فَسُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَحِلُّ لِلْأَوَّلِ قَالَ لاَ حَتَّى يَذُوقَ عُسَيْلَتَهَا كَمَا ذَاقَ الأَوَّلُ"
قوله: "باب من جوز الطلاق الثلاث" كذا لأبي ذر، وللأكثر "من أجاز". وفي الترجمة إشارة إلى أن من السلف من لم يجز وقوع الطلاق الثلاث، فيحتمل أن يكون مراده بالمنع من كره البينونة الكبرى، وهي بإيقاع الثلاث أعم من أن تكون مجموعة أو مفرقة، ويمكن أن يتمسك له بحديث: "أبغض الحلال إلى الله الطلاق" وقد تقدم في أوائل الطلاق. وأخرج سعيد بن منصور عن أنس "أن عمر كان إذا أتى برجل طلق امرأته ثلاثا أوجع ظهره" وسنده صحيح. ويحتمل أن يكون مراده بعدم الجواز من قال لا يقع الطلاق إذا أوقعها مجموعة للنهي عنه وهو قول للشيعة وبعض أهل الظاهر، وطرد بعضهم ذلك في كل طلاق منهي كطلاق الحائض وهو شذوذ، وذهب كثير منهم إلى وقوعه مع منع جوازه، واحتج له بعضهم بحديث محمود بن لبيد قال: "أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعا، فقال: أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم" ؟ الحديث أخرجه النسائي ورجاله ثقات، لكن محمود بن لبيد ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يثبت له منه سماع، وإن ذكره بعضهم في الصحابة فلأجل الرؤية، وقد ترجم له أحمد في مسنده وأخرج له عدة أحاديث ليس فيها شيء صرح فيه بالسماع، وقد قال النسائي بعد تخريجه: لا أعلم أحدا رواه غير مخرمة بن بكير يعني ابن الأشج عن أبيه ا هـ. ورواية مخرمة عن أبيه عند مسلم في عدة أحاديث، وقد قيل إنه لم يسمع من أبيه، وعلى تقدير صحة حديث محمود فليس فيه بيان أنه هل أمضى عليه الثلاث مع إنكاره عليه إيقاعها مجموعة أو لا؟ فأقل أحواله أن يدل على تحريم ذلك وإن لزم، وقد تقدم في الكلام على حديث ابن عمر في طلاق الحائض "أنه قال لمن طلق ثلاثا مجموعة: عصيت ربك، وبانت منك امرأتك" وله ألفاظ أخرى نحو هذه عند عبد الرزاق وغيره. وأخرج أبو داود بسند صحيح من طريق مجاهد قال: "كنت عند ابن عباس، فجاءه رجل فقال: إنه طلق امرأته ثلاثا، فسكت حتى ظننت أنه سيردها إليه فقال: ينطلق أحدكم فيركب الأحموقة ثم يقول: يا ابن عباس يا ابن عباس، إن الله قال: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} وإنك لم تتق الله فلا أجد لك مخرجا، عصيت ربك وبانت منك امرأتك" وأخرج أبو داود له متابعات عن ابن عباس بنحوه. ومن القائلين بالتحريم واللزوم من قال: إذا طلق ثلاثا مجموعة وقعت واحدة، وهو قول محمد بن إسحاق صاحب المغازي، واحتج بما رواه عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس قال: "طلق ركانة بن عبد يزيد امرأته ثلاثا في مجلس واحد، فحزن عليها حزنا شديدا، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم: كيف طلقتها؟ قال: ثلاثا في مجلس واحد فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنما تلك واحدة، فارتجعها إن شئت. فارتجعها" وأخرجه أحمد وأبو يعلى وصححه من طريق محمد ابن إسحاق. وهذا الحديث نص في المسألة لا يقبل التأويل الذي في غيره من الروايات الآتي ذكرها. وقد أجابوا عنه بأربعة أشياء: أحدها أن محمد بن إسحاق وشيخه مختلف فيهما، وأجيب بأنهم احتجوا في عدة من الأحكام بمثل هذا الإسناد كحديث: "أن النبي صلى الله عليه وسلم رد على أبي العاص بن الربيع زينب ابنته بالنكاح الأول" وليس كل مختلف فيه مردودا. والثاني معارضته بفتوى ابن عباس بوقوع الثلاث كما تقدم من رواية مجاهد وغيره؛ فلا يظن بابن

(9/362)


عباس أنه كان عنده هذا الحكم عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم يفتي بخلافه إلا بمرجح ظهر له، وراوي الخبر أخبر من غيره بما روى. وأجيب بأن الاعتبار برواية الراوي لا برأيه لما يطرق رأيه من احتمال النسيان وغير ذلك، وأما كونه تمسك بمرجح فلم ينحصر في المرفوع لاحتمال التمسك بتخصيص أو تقييد أو تأويل، وليس قول مجتهد حجة على مجتهد آخر. الثالث أن أبا داود رجح أن ركانة إنما طلق امرأته البتة كما أخرجه هو من طريق آل بيت ركانة، وهو تعليل قوي لجواز أن يكون بعض رواته حمل البتة على الثلاث فقال طلقها ثلاثا، فهذه النكتة يقف الاستدلال بحديث ابن عباس. الرابع أنه مذهب شاذ فلا يعمل به، وأجيب بأنه نقل عن علي وابن مسعود وعبد الرحمن بن عوف والزبير مثله، نقل ذلك ابن مغيث في "كتاب الوثائق" له وعزاه لمحمد بن وضاح، ونقل الغنوي ذلك عن جماعة من مشايخ قرطبة كمحمد بن تقي بن مخلد ومحمد بن عبد السلام الخشني وغيرهما، ونقله ابن المنذر عن أصحاب ابن عباس كعطاء وطاوس وعمرو بن دينار. ويتعجب من ابن التين حيث جزم بأن لزوم الثلاث لا اختلاف فيه، وإنما الاختلاف في التحريم مع ثبوت الاختلاف كما ترى، ويقوى حديث ابن إسحاق المذكور ما أخرجه مسلم من طريق عبد الرزاق عن معمر عن عبد الله بن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال: "كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم" ومن طريق عبد الرزاق عن ابن جريج عن ابن طاوس عن أبيه "أن أبا الصهباء قال لابن عباس: أتعلم إنما كانت الثلاث تجعل واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وثلاثا من إمارة عمر؟ قال ابن عباس نعم" ومن طريق حماد بن زيد عن أيوب عن إبراهيم بن ميسرة عن طاوس "أن أبا الصهباء قال لابن عباس: ألم يكن طلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدة؟ قال: قد كان ذلك، فلما كان في عهد عمر تتابع الناس في الطلاق فأجازه عليهم" وهذه الطريق الأخيرة أخرجها أبو داود، لكن لم يسم إبراهيم بن ميسرة وقال بدله "عن غير واحد" ولفظ المتن "أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة" الحديث، فتمسك بهذا السياق من أعل الحديث وقال: إنما قال ابن عباس ذلك في غير المدخول بها، وهذا أحد الأجوبة عن هذا الحديث وهي متعددة، وهو جواب إسحاق بن راهويه وجماعة، وبه جزم زكريا الساجي من الشافعية، ووجهوه بأن غير المدخول بها تبين إذا قال لها زوجها أنت طالق، فإذا قال ثلاثا لغا العدد لوقوعه بعد البينونة. وتعقبه القرطبي بأن قوله أنت طالق ثلاثا كلام متصل غير منفصل، فكيف يصح جعله كلمتين وتعطى كل كلمة حكما؟ وقال النووي: أنت طالق معناه أنت ذات الطلاق، وهذا اللفظ يصح تفسيره بالواحدة وبالثلاث وغير ذلك. الجواب الثاني دعوى شذوذ رواية طاوس، وهي طريقة البيهقي، فإنه ساق الروايات عن ابن عباس بلزوم الثلاث ثم نقل عن ابن المنذر أنه لا يظن بابن عباس أنه يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئا ويفتي بخلافه، فيتعين المصير إلى الترجيح، والأخذ بقول الأكثر أولى من الأخذ بقول الواحد إذا خالفهم. وقال ابن العربي: هذا حديث مختلف في صحته، فكيف يقدم على الإجماع؟ قال: ويعارضه حديث محمود بن لبيد - يعني الذي تقدم أن النسائي أخرجه - فإن فيه التصريح بأن الرجل طلق ثلاثا مجموعة ولم يرده النبي صلى الله عليه وسلم بل أمضاه، كذا قال، وليس في سياق الخبر تعرض لإمضاء ذلك ولا لرده. الجواب الثالث دعوى النسخ، فنقل البيهقي عن الشافعي أنه قال: يشبه أن يكون ابن عباس علم شيئا نسخ ذلك، قال البيهقي: ويقويه ما

(9/363)


أخرجه أبو داود من طريق يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس قال: كان الرجل إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها وإن طلقها ثلاثا، فنسخ ذلك. وقد أنكر المازري ادعاء النسخ فقال: زعم بعضهم أن هذا الحكم منسوخ وهو غلط فإن عمر لا ينسخ، ولو نسخ - وحاشاه - لبادر الصحابة إلى إنكار. وإن أراد القائل أنه نسخ في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فلا يمتنع لكن يخرج عن ظاهر الحديث، لأنه لو كان كذلك لم يجز للراوي أن يخبر ببقاء الحكم في خلافة أبي بكر وبعض خلافة عمر. فإن قيل فقد يجمع الصحابة ويقبل منهم ذلك، قلنا إنما يقبل ذلك لأنه يستدل بإجماعهم على ناسخ، وأما أنهم ينسخون من تلقاء أنفسهم فمعاذ الله لأنه إجماع على الخطأ وهم معصومون عن ذلك. فإن قيل فلعل النسخ إنما ظهر في زمن عمر، قلنا: هذا أيضا غلط لأنه يكون قد حصل الإجماع على الخطأ في زمن أبي بكر، وليس انقراض العصر شرطا في صحة الإجماع على الراجح. قلت: نقل النووي هذا ا الفصل في شرح مسلم وأقره، وهو متعقب في مواضع: أحدها أن الذي ادعى نسخ الحكم لم يقل إن عمر هو الذي نسخ حتى يلزم منه ما ذكر، وإنما قال ما تقدم يشبه أن يكون علم شيئا من ذلك نسخ، أي اطلع على ناسخ للحكم الذي رواه مرفوعا، ولذلك أفتى بخلافه. وقد سلم المازري في أثناء كلامه أن جماعهم يدل على ناسخ، وهذا هو مراد من ادعى النسخ. الثاني إنكاره الخروج عن الظاهر عجيب، فإن الذي يحاول الجمع بالتأويل يرتكب خلاف الظاهر حتما. الثالث أن تغليطه من قال المراد ظهور النسخ عجيب أيضا، لأن المراد بظهوره انتشاره، وكلام ابن عباس أنه كان يفعل في زمن أبي بكر محمول على أن الذي كان يفعله من لم يبلغه النسخ فلا يلزم ما ذكر من إجماعهم على الخطأ، وما أشار إليه من مسألة انقراض العصر لا يجئ هنا، لأن عصر الصحابة لم ينقرض في زمن أبي بكر بل ولا عمر، فإن المراد بالعصر الطبقة من المجتهدين وهم في زمن أبي بكر وعمر بل وبعدهما طبقة واحدة. الجواب الرابع دعوى الاضطراب قال القرطبي في "المفهم" : وقع فيه مع الاختلاف على ابن عباس الاضطراب في لفظه، وظاهر سياقه يقتضي النقل عن جميعهم أن معظمهم كانوا يرون ذلك، والعادة في مثل هذا أن يفشو الحكم وينتشر فكيف ينفرد به واحد عن واحد؟ قال: فهذا الوجه يقتضي التوقف عن العمل بظاهره إن لم يقتض القطع ببطلانه. الجواب الخامس دعوى أنه ورد في صورة خاصة، فقال ابن سريج وغيره: يشبه أن يكون. ورد في تكرير اللفظ كأن يقول أنت طالق أنت طالق أنت طالق، وكانوا أولا على سلامة صدورهم يقبل منهم أنهم أرادوا التأكيد، فلما كثر الناس في زمن عمر وكثر فيهم الخداع ونحوه مما يمنع قبول من ادعى التأكيد حمل عمر اللفظ على ظاهر التكرار فأمضاه عليهم، وهذا الجواب ارتضاه القرطبي وقواه بقول عمر: إن الناس استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، وكذا قال النووي إن هذا أصح الأجوبة. الجواب السادس تأويل قوله: "واحدة" وهو أن معنى قوله: "كأن الثلاث واحدة" إن الناس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يطلقون واحدة فلما كان زمن عمر كانوا يطلقون ثلاثا، ومحصله أن المعنى أن الطلاق الموقع في عهد عمر ثلاثا كان يوقع قبل ذلك واحدة لأنهم كانوا لا يستعملون الثلاث أصلا أو كانوا يستعملونها نادرا، وأما في عصر عمر فكثر استعمالهم لها، ومعنى قوله فأمضاه عليهم وأجازه وغير ذلك أنه صنع فيه من الحكم بإيقاع الطلاق ما كان يصنع قبله، ورجح هذا التأويل ابن العربي ونسبه إلى أبي زرعة الرازي، وكذا أورده البيهقي بإسناده الصحيح إلى أبي زرعة أنه قال: معنى هذا الحديث عندي أن ما تطلقون أنتم ثلاثا كانوا يطلقون واحدة، قال النووي: وعلى هذا فيكون الخبر وقع عن اختلاف عادة الناس خاصة لا عن تغير الحكم في الواحدة فالله أعلم. الجواب السابع

(9/364)


دعوى وقفه، فقال بعضهم: ليس في هذا السياق أن ذلك كان يبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فيقره، والحجة إنما هي في تقريره. وتعقب بأن قول الصحابي "كنا نفعل كذا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم:" في حكم الرفع على الراجح حملا على أنه اطلع على ذلك فأقره لتوفر دواعيهم على السؤال عن جليل الأحكام وحقيرها. الجواب الثامن حمل قوله: "ثلاثا" على أن المراد بها لفظ البتة كما تقدم في حديث ركانة سواء. وهو من رواية ابن عباس أيضا، وهو قوي ويؤيده إدخال، البخاري في هذا الباب الآثار التي فيها البتة والأحاديث التي فيها التصريح بالثلاث كأنه يشير إلى عدم الفرق بينهما وأن البتة إذا أطلقت حمل على الثلاث إلا إن أراد المطلق واحدة فيقبل، فكأن بعض رواته حمل لفظ البتة على الثلاث لاشتهار التسوية بينهما فرواها بلفظ الثلاث وإنما المراد لفظ البتة، وكانوا في العصر الأول يقبلون ممن قال أردت بالبتة الواحدة فلما كان عهد عمر أمضى الثلاث في ظاهر الحكم. قال القرطبي: وحجة الجمهور في اللزوم من حيث النظر ظاهرة جدا، وهو أن المطلقة ثلاثا لا تحل للمطلق حتى تنكح زوجا غيره، ولا فرق بين مجموعها ومفرقها لغة وشرعا، وما يتخيل من الفرق صوري ألغاه الشرع اتفاقا في النكاح والعتق والأقارير، فلو قال الولي أنكحتك هؤلاء الثلاث في كلمة واحدة انعقد كما لو قال أنكحتك هذه وهذه وهذه، وكذا في العتق والإقرار وغير ذلك من الأحكام، واحتج من قال إن الثلاث إذا وقعت مجموعة حملت على الواحدة بأن من قال أحلف بالله ثلاثا لا يعد حلفه إلا يمينا واحدة، فليكن المطلق مثله. وتعقب باختلاف الصيغتين فإن المطلق ينشئ طلاق امرأته وقد جعل أمد طلاقها ثلاثا، فإذا قال أنت طالق ثلاثا فكأنه قال أنت طالق جميع الطلاق، وأما الحلف فلا أمد لعدد أيمانه فافترقا. وفي الجملة فالذي وقع في هذه المسألة نظير ما وقع في مسألة المتعة سواء، أعني قول جابر إنها كانت تفعل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر، قال: ثم نهانا عمر عنها فانتهينا، فالراجح في الموضعين تحريم المتعة وإيقاع الثلاث للإجماع الذي انعقد في عهد عمر على ذلك، ولا يحفظ أن أحدا في عهد عمر خالفه في واحدة منهما، وقد دل إجماعهم على وجود ناسخ وإن كان خفي عن بعضهم قبل ذلك حتى ظهر لجميعهم في عهد عمر، فالمخالف بعد هذا الإجماع منابذ له والجمهور على عدم اعتبار من أحدث الاختلاف بعد الاتفاق والله أعلم. وقد أطلت في هذا الموضع لالتماس من التمس ذلك مني والله المستعان. قوله: "لقول الله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} قد استشكل وجه استدلال المصنف بهذه الآية على ما ترجم به من تجويز الطلاق الثلاث، والذي يظهر لي أنه كان أراد بالترجمة مطلق وجود الثلاث مفرقة كانت أو مجموعة، فالآية واردة على المانع لأنها دلت على مشروعية ذلك من غير نكير، وإن كان أراد تجويز الثلاث مجموعة وهو الأظهر فأشار بالآية إلى أنها مما احتج به المخالف للمنع من الوقوع لأن ظاهرها أن الطلاق المشروع لا يكون بالثلاث دفعة بل على الترتيب المذكور، فأشار إلى أن الاستدلال بذلك على منع جميع الثلاث غير متجه إذ ليس في السياق المنع من غير الكيفية المذكورة، بل انعقد الإجماع على أن إيقاع المرتين ليس شرطا ولا راجحا، بل اتفقوا على أن إيقاع الواحدة أرجح من إيقاع الثنتين كما تقدم تقريره في الكلام على حديث ابن عمر، فالحاصل أن مراده دفع دليل المخالف بالآية لا الاحتجاج بها لتجويز الثلاث، هذا الذي ترجح عندي. وقال الكرماني: وجه استدلاله بالآية أنه تعالى قال: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} فدل على جواز جمع الثنتين وإذا جاز جمع الثنتين دفعة جاز جمع الثلاث دفعة كذا، قال: وهو قياس مع وضوح الفارق، لأن جمع الثنتين لا يستلزم البينونة الكبرى بل تبقى له الرجعة إن كانت رجعية وتجديد العقد بغير

(9/365)


انتظار عدة إن كانت بائنا، بخلاف جمع الثلاث. ثم قال الكرماني: أو التسريح بإحسان عام يتناول إيقاع الثلاث دفعة. قلت: وهذا لا بأس به لكن التسريج في سياق الآية إنما هو فيما بعد إيقاع الثنتين فلا يتناول إيقاع الطلقات الثلاث، فإن معنى قوله تعالى :{الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} فيما ذكر أهل العلم بالتفسير أي أكثر الطلاق الذي يكون بعده الإمساك أو التسريح مرتان، ثم حينئذ إما أن يختار استمرار العصمة فيمسك الزوجة أو المفارقة فيسرحها بالطلقة الثالثة، وهذا التأويل نقله الطبري وغيره عن الجمهور، ونقلوا عن السدي والضحاك أن المراد بالتسريج في الآية ترك الرجعة حتى تنقضي العدة فتحصل البينونة، ويرجح الأول ما أخرجه الطبري وغيره من طريق إسماعيل بن سميع عن أبي رزين قال: "قال رجل: يا رسول الله الطلاق مرتان، فأين الثالثة؟ قال: إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان" وسنده حسن، لكنه مرسل لأن أبا رزين لا صحبة له، وقد وصله الدار قطني من وجه آخر عن إسماعيل فقال: "عن أنس" لكنه شاذ، والأول هو المحفوظ، وقد رجح الكيا الهراسي من الشافعية في كتاب "أحكام القرآن" له قول السدي، ودفع الخبر لكونه مرسلا، وأطال في تقرير ذلك بما حاصله أن فيه زيادة فائدة، وهي بيان حال المطلقة وأنها تبين إذا انقضت عدتها، قال: وتؤخذ الطلقة الثالثة من قوله تعالى:{فإن طلقها" ا هـ والأخذ بالحديث أولى فإنه مرسل حسن يعتضد بما أخرجه الطبري من حديث ابن عباس بسند صحيح قال: "إذا طلق الرجل امرأته تطليقتين فليتق الله في الثالثة، فإما أن يمسكها فيحسن صحبتها أو يسرحها فلا يظلمها من حقها شيئا" وقال القرطبي في تفسيره: ترجم البخاري على هذه الآية من أجاز الطلاق الثلاث لقوله تعالى :{الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} وهذه إشارة منه إلى أن هذا العدد إنما هو بطريق الفسحة لهم، فمن ضيق على نفسه لزمه، كذا قال ولم يظهر لي وجه اللزوم المذكور، والله المستعان. قوله: "وقال ابن الزبير: لا أرى أن ترث مبتوتة" كذا لأبي ذر، ولغيره: "مبتوتته" بزيادة ضمير للرجل، وكأنه حذف للعلم به، وهذا التعليق عن عبد الله بن الزبير وصله الشافعي وعبد الرزاق من طريق ابن أبي مليكة قال: سألت عبد الله بن الزبير عن الرجل يطلق امرأته فيبتها ثم يموت وهي في عدتها، قال: أما عثمان فورثها، وأما أنا فلا أرى أن أورثها لبينونته إياها. قوله: "وقال الشعبي ترثه" وصله سعيد بن منصور عن أبي عوانة عن مغيرة عن إبراهيم والشعبي في رجل طلق ثلاثا في مرضه قال: تعتد عدة المتوفي عنها زوجها وترثه ما كانت في العدة. قوله: "وقال ابن شبرمة" هو عبد الله قاضي الكوفة.قوله: "تزوج" بفتح أوله وضم آخره، وهو استفهام محذوف الأداة. قوله: "إذا انقضت العدة؟ قال: نعم" هذا ظاهره أن الخطاب دار بين الشعبي وابن شبرمة، لكن الذي رأيت في "سنن سعيد بن منصور" أنه كان مع غيره فقال سعيد: حدثنا حماد بن زيد عن أبي هاشم في الرجل يطلق امرأته وهو مريض إن مات في مرضه ذلك ورثته؟ فقال له ابن شبرمة: أرأيت إن انقضت العدة. قوله: "قال أرأيت إن مات الزوج الآخر فرجع عن ذلك" هكذا وقع عند البخاري مختصرا، والذي في رواية سعيد بن منصور المذكورة فقال ابن شبرمة: أتتزوج؟ قال: نعم. قال: فإن مات هذا ومات الأول أترث زوجين؟ قال: لا. فرجع إلى العدة فقال ترثه ما كانت في العدة. ولعله سقط ذكر الشعبي من الرواية. وأبو هاشم المذكور هو الرماني بضم الراء وتشديد الميم اسمه يحيى، وهو واسطي كان يتردد إلى الكوفة، وهو ثقة. ومحل المسألة المذكورة كتاب الفرائض، وإنما ذكرت هنا استطرادا. والمبتوتة بموحدة ومثناتين من قيل لها أنت طالق البتة وتطلق على من أبينت بالثلاث، ثم أورد المصنف في الباب ثلاثة أحاديث. الحديث الأول

(9/366)


حديث سهل ابن سعد في قصة المتلاعنين وسيأتي شرحه مستوفى في كتاب اللعان، والغرض منه هنا قوله في آخر الحديث، "فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم:" الحديث، وقد تعقب بأن المفارقة في الملاعنة وقعت بنفس اللعان فلم يصادف تطليقه إياها ثلاثا موقعا، وأجيب بأن الاحتجاج به من كون النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليه إيقاع الثلاث مجموعة، فلو كان ممنوعا لأنكره، ولو وقعت الفرقة بنفس اللعان. حديث عائشة في قصة رفاعة القرظي وامرأته، سيأتي شرحه مستوفى في "باب إذا طلقها ثلاثا ثم تزوجت بعد العدة زوجا غيره فلم يمسها" وشاهد الترجمة منه قوله: "فبت طلاقي" فإنه ظاهر في أنه قال لها أنت طالق البتة، ويحتمل أن يكون المراد أنه طلقها طلاقا حصل به قطع عصمتها منه، وهو أعم من أن يكون طلقها ثلاثا مجموعة أو مفرقة، ويؤيد الثاني أنه سيأتي في كتاب الأدب من وجه آخر أنها قالت طلقني آخر ثلاث تطليقات، وهذا يرجح أن المراد بالترجمة بيان من أجاز الطلاق الثلاث ولم يكرهه، ويحتمل أن يكون مراد الترجمة أعم من ذلك، وكل حديث يدل على حكم فرد من ذلك. حديث عائشة أيضا: "أن رجلا طلق امرأته ثلاثا، فسئل النبي صلى الله عليه وسلم: أتحل للأول؟ قال: لا" الحديث، وهو وإن كان مختصرا من قصة رفاعة فقد ذكرت توجيه المراد به، وإن كان في قصة أخرى فالتمسك بظاهر قوله: "طلقها ثلاثا" فإنه ظاهر في كونها مجموعة، وسيأتي في شرح قصة رفاعة أن غيره وقع له مع امرأة نظير ما وقع لرفاعة، فليس التعدد في ذلك ببعيد.

(9/367)


5- باب مَنْ خَيَّرَ نِسَاءَهُ
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا}
5262- حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ خَيَّرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاخْتَرْنَا اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَلَمْ يَعُدَّ ذَلِكَ عَلَيْنَا شَيْئًا"
[الحديث 5262- طرفه في: 5263]
5263- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَامِرٌ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنْ الْخِيَرَةِ فَقَالَتْ خَيَّرَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفَكَانَ طَلاَقًا قَالَ مَسْرُوقٌ لاَ أُبَالِي أَخَيَّرْتُهَا وَاحِدَةً أَوْ مِائَةً بَعْدَ أَنْ تَخْتَارَنِي"
قوله: "باب من خير أزواجه، وقول الله تعالى: {قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} تقدم في تفسير الأحزاب بيان سبب التخيير المذكور، وفيما إذا وقع التخيير، ومتى كان التخيير؟ وأذكر هنا بيان حكم من خير امرأته مع بقية شرح حديث الباب. ووقع هنا في نسخة الصغاني قبل حديث مسروق عن عائشة حديث أبي سلمة عنها في المعنى، قال فيه: "حدثنا أبو اليمان أنبأنا شعيب عن الزهري. وقال الليث حدثنا يونس عن ابن شهاب أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أن عائشة قالت: لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتخيير أزواجه" الحديث وساقه على لفظ يونس، وقد تقدم الطريقان في تفسير سورة الأحزاب، وساق رواية شعيب وأولها "أن عائشة أخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء لها حين أمره الله بتخيير أزواجه" الحديث. ثم ساق رواية الليث معلقة أيضا في ترجمة

(9/367)


أخرى. قوله: "حدثنا عمر بن حفص" أي ابن غياث الكوفي، وقوله: "مسلم:" هو ابن صبيح بالتصغير أبو الضحى مشهور بكنيته أكثر من اسمه، وفي طبقته مسلم البطين وهو من رجال البخاري لكنه وإن روى عنه الأعمش لا يروي عن مسروق، وفي طبقتهما مسلم بن كيسان الأعور وليس هو من رجال الصحيح ولا له رواية عن مسروق. قوله: "خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم" في رواية الشعبي عن مسروق "خير نساءه" أخرجه مسلم. قوله: "فاخترنا الله ورسوله، فلم يعد" بتشديد الدال وضم العين من العدد. وفي رواية فلم "يعدد" بفك الإدغام وفي أخرى "فلم يعتد" بسكون العين وفتح المثناة وتشديد الدال من الاعتداد، وقوله: "فلم يعد ذلك علينا شيئا" في رواية مسلم: "فلم يعده طلاقا". قوله:" إسماعيل "هو ابن أبي خالد. قوله: "سألت عائشة عن الخيرة" بكسر المعجمة وفتح التحتانية بمعنى الخيار. قوله: "أفكان طلاقا؟" هو استفهام إنكار، ولأحمد عن وكيع عن إسماعيل "فهل كان طلاقا؟" وكذا للنسائي من رواية يحيى القطان عن إسماعيل. قوله: "قال مسروق: لا أبالي أخيرتها واحدة أو مائة بعد أن تختارني" هو موصول بالإسناد المذكور، وقد أخرجه مسلم من رواية علي بن مسهر عن إسماعيل فقدم كلام مسروق المذكور ولفظه عن مسروق "قال ما أبالي" فذكر مثله وزاد: "أو ألفا، ولقد سألت عائشة" فذكر حديثها، وبقول عائشة المذكور بقول جمهور الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار، وهو أن من خير زوجته فاختارته لا يقع عليه بذلك طلاق، لكن اختلفوا فيما إذا اختارت نفسها هل يقع طلقة واحدة رجعية أو بائنا أو يقع ثلاثا؟ وحكى الترمذي عن علي: إن اختارت نفسها فواحدة بائنة، وإن اختارت زوجها فواحدة رجعية، وعن زيد بن ثابت: إن اختارت نفسها فثلاث وإن اختارت زوجها فواحدة بائنة، وعن عمر وابن مسعود: إن اختارت نفسها فواحدة بائنة، وعنهما رجعية، وإن اختارت زوجها فلا شيء. ويؤيد قول الجمهور من حيث المعنى أن التخيير ترديد بين شيئين، فلو كان اختيارها لزوجها طلاقا لاتحدا، فدل على أن اختيارها لنفسها بمعنى الفراق واختيارها لزوجها بمعنى البقاء في العصمة، وقد أخرج ابن أبي شيبة من طريق زاذان قال: "كنا جلوسا عند علي فسئل عن الخيار فقال: سألني عنه عمر فقلت: إن اختارت نفسها فواحدة بائن، وإن اختارت زوجها فواحدة رجعية، قال: ليس كما قلت، إن اختارت زوجها فلا شيء، قال: فلم أجد بدا من متابعته، فلما وليت رجعت إلى ما كنت أعرف، قال علي: وأرسل عمر إلى زيد بن ثابت فقال: "فذكر مثل ما حكاه عنه الترمذي. وأخرج ابن أبي شيبة من طرق عن علي نظير ما حكاه عنه زاذان من اختياره، وأخذ مالك بقول زيد بن ثابت واحتج بعض أتباعه لكونها إذا اختارت نفسها يقع ثلاثا بأن معنى الخيار بت أحد الأمرين: إما الأخذ، وإما الترك، فلو قلنا إذا اختارت نفسها تكون طلقة رجعية لم يعمل بمقتضى اللفظ لأنها تكون بعد في أسر الزوج وتكون كمن خير بين شيئين فاختار غيرهما، وأخذ أبو حنيفة بقول عمر وابن مسعود فيما إذا اختارت نفسها فواحدة بائنة ولا يرد عليه الإيراد السابق. وقال الشافعي: التخيير كناية، فإذا خير الزوج امرأته وأراد بذلك تخييرها بين أن تطلق منه وبين أن تستمر في عصمته فاختارت نفسها وأرادت بذلك الطلاق طلقت، فلو قالت: لم أرد باختيار نفسي الطلاق صدقت، ويؤخذ من هذا أنه لو وقع التصريح في التخيير بالتطليق أن الطلاق يقع جزما، نبه على ذلك شيخنا حافظ الوقت أبو الفضل العراقي في "شرح الترمذي" ونبه صاحب. "الهداية" من الحنفية على اشتراط ذكر النفس في التخيير، فلو قال مثلا اختاري فقالت اخترت لم يكن تخييرا بين الطلاق وعدمه وهو ظاهر، لكن

(9/368)


محله الإطلاق فلو قصد ذلك بهذا اللفظ ساغ. وقال صاحب "الهداية" أيضا إن قال: "اختاري" ينوي به الطلاق فلها أن تطلق نفسها ويقع بائنا، فلو لم ينو فهو باطل، وكذا لو قال اختاري فقالت اخترت فلو نوى فقالت اخترت نفسي وقعت طلقة رجعية. وقال الخطابي: يؤخذ من قول عائشة "فاخترناه فلم يكن ذلك طلاقا" أنها لو اختارت نفسها لكان ذلك طلاقا، ووافقه القرطبي في "المفهم" فقال: في الحديث أن المخيرة إذا اختارت نفسها أن نفس ذلك الاختيار يكون طلاقا من غير احتياج إلى نطق بلفظ يدل على الطلاق، قال: وهو مقتبس من مفهوم قول عائشة المذكور. قلت: لكن ظاهر الآية أن ذلك بمجرده لا يكون طلاقا، بل لا بد من إنشاء الزوج الطلاق؛ لأن فيها {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ} أي بعد الاختيار، ودلالة المنطوق مقدمه على دلالة المفهوم. واختلفوا في التخيير هل بمعنى التمليك أو بمعنى التوكيل؟ وللشافعي فيه قولان المصحح عند أصحابه أنه تمليك، وهو قول المالكية بشرط مبادرتها له حتى لو أخرت بقدر ما ينقطع القبول عن الإيجاب في العقد ثم طلقت لم يقع، وفي وجه لا يضر التأخير ما داما في المجلس وبه جزم ابن القاص، وهو الذي رجحه المالكية والحنفية، وهو قول الثوري والليث والأوزاعي. وقال ابن المنذر: الراجح أنه لا يتقيد ولا يشترط فيه الفور، بل متى طلقت نفذ، وهو قول الحسن والزهري، وبه قال أبو عبيد ومحمد بن نصر من الشافعية والطحاوي من الحنفية، وتمسكوا بحديث الباب حيث وقع فيه: "إني ذاكر لك أمرا فلا تعجلي حتى تستأمري أبويك" الحديث، فإنه ظاهر في أنه فسخ لها إذ أخبرها أن لا تختار شيئا حتى تستأذن أبويها ثم تفعل ما يشيران به عليها، وذلك يقتضي عدم اشتراط الفور في جواب التخيير. قلت: ويمكن أن يقال يشترط الفور أو ما داما في المجلس عند الإطلاق، فأما لو صرح الزوج بالفسحة في تأخيره بسبب يقتضي ذلك فيتراخى، وهذا الذي وقع في قصة عائشة، ولا يلزم من ذلك أن يكون كل خيار كذلك، والله أعلم.

(9/369)


باب إذا قال فارقتك أو سرحتك أو الخلية أو البرية أو ماعني به الطلاق فهو على نيته
...
6- باب إِذَا قَالَ فَارَقْتُكِ أَوْ سَرَّحْتُكِ أَوْ الْخَلِيَّةُ أَوْ الْبَرِيَّةُ أَوْ مَا عُنِيَ بِهِ الطَّلاَقُ فَهُوَ عَلَى نِيَّتِهِ وَقَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} وَقَالَ: {وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} وَقَالَ {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} وَقَالَ: {أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} وَقَالَتْ عَائِشَةُ قَدْ عَلِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ أَبَوَيَّ لَمْ يَكُونَا يَأْمُرَانِي بِفِرَاقِهِ
قوله: "باب إذا قال فارقتك أو سرحتك أو الخلية أو البرية أو ما عنى به الطلاق فهو على نيته" هكذا بت المصنف الحكم في هذه المسألة، فاقتضى أن لا صريح عنده إلا لفظ الطلاق أو ما تصرف منه، وهو قول الشافعي في القديم، ونص في الجديد على أن الصريح لفظ الطلاق والفراق والسراح لورود ذلك في القرآن بمعنى الطلاق. وحجة القديم أنه ورد في القرآن لفظ الفراق والسراح لغير الطلاق بخلاف الطلاق فإنه لم يرد إلا للطلاق، وقد رجح جماعة القديم كالطبري في "العدة" والمحاملي وغيرهما، وهو قول الحنفية، واختاره القاضي عبد الوهاب من المالكية، وحكى الدارمي عن ابن خير أن من لم يعرف إلا الطلاق فهو صريح في حقه فقط، وهو تفصيل قوي، ونحوه للروياني فإنه قال: لو قال عربي فارقتك ولم يعرف أنها صريحة لا يكون صريحا في حقه. واتفقوا على أن لفظ

(9/369)


الطلاق وما تصرف منه صريح، لكن أخرج أبو عبيد في "غريب الحديث:" من طريق عبد الله بن شهاب الخولاني عن عمر أنه "رفع إليه رجل قالت له امرأته. شبهني، فقال: كأنك ظبية، قالت: لا. قال: كأنك حمامة قالت: لا أرضى حتى تقول أنت خلية طالق، فقالها، فقال له عمر: خد بيدها فهي امرأتك" قال أبو عبيد قوله خلية طالق أي ناقة كانت معقولة ثم أطلقت من عقالها وخلى عنها فتسمى خلية لأنها خليت عن العقال؛ وطالق لأنها طلقت منه، فأراد الرجل أنها تشبه الناقة ولم يقصد الطلاق بمعنى الفراق أصلا، فأسقط عنه عمر الطلاق. قال أبو عبيد: وهذا أصل لكل من تكلم بشيء من ألفاظ الطلاق ولم يرد الفراق بل أراد غيره فالقول قوله فيه فيما بينه وبين الله تعالى ا هـ. وإلى هذا ذهب الجمهور، لكن المشكل من قصة عمر كونه رفع إليه وهو حاكم، فإن كان أجراه مجرى الفتيا ولم يكن هناك حكم فيوافق وإلا فهو من النوادر. وقد نقل الخطابي الإجماع على خلافه، لكن أثبت غيره الخلاف وعزاه لداود. وفي البويطي ما يقتضيه، وحكاه الروياني، ولكن أوله الجمهور وشرطوا قصد لفظ الطلاق لمعنى الطلاق ليخرج العجمي مثلا إذا لقن كلمة الطلاق فقالها وهو لا يعرف معناها أو العربي بالعكس، وشرطوا مع النطق بلفظ الطلاق تعمد ذلك احترازا عما يسبق به اللسان والاختيار ليخرج المكره، لكن إن أكره فقالها مع القصد إلى الطلاق وقع في الأصح. قوله: "وقول الله تعالى: {وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} كأنه يشير إلى أن في هذه الآية لفظ التسريح بمعنى الإرسال لا بمعنى الطلاق لأنه أمر من طلق قبل الدخول أن يمتع ثم يسرح، وليس المراد من الآية تطليقها بعد التطليق قطعا. قوله: "وقال: {وَأُسَرِّحْكُنَّ} يعني قوله تعالى :{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} والتسريح في هذه الآية محتمل للتطليق والإرسال، وإذا كانت صالحة للأمرين انتفى أن تكون صريحة في الطلاق، وذلك راجع إلى الاختلاف فيما خير به النبي صلى الله عليه وسلم نساءه: هل كان في الطلاق والإقامة، فإذا اختارت نفسها طلقت وإن اختارت الإقامة لم تطلق كما تقدم تقريره في الباب قبله؟ أو كان في التخيير بين الدنيا والآخرة، فمن اختارت الدنيا طلقها ثم متعها ثم سرحها، ومن اختارت الآخرة أقرها في عصمته؟ قوله: "وقال تعالى :{فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} تقدم في الباب قبله بيان الاختلاف في المراد بالتسريح هنا وأن الراجح أن المراد به التطليق. قوله: "وقال: {أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} يريد أن هذه الآية وردت بلفظ الفراق في موضع ورودها في البقرة بلفظ السراح؛ والحكم فيهما واحد لأنه ورد في الموضعين بعد وقوع الطلاق، فليس المراد به الطلاق بل الإرسال. وقد اختلف السلف قديما وحديثا في هذه المسألة: فجاء عن علي بأسانيد يعضد بعضها بعضا وأخرجها ابن أبي شيبة والبيهقي وغيرهما قال: "البرية والخلية والبائن والحرام والبت ثلاث ثلاث" وبه قال مالك وابن أبي ليلى والأوزاعي، لكن قال في الخلية إنها واحدة رجعية، ونقله عن الزهري وعن زيد بن ثابت في البرية والبتة والحرام ثلاث ثلاث، وعن ابن عمر في الخلية والبرية ثلاث وبه قال قتادة، ومثله عن الزهري في البرية فقط، واحتج بعض المالكية بأن قول الرجل لامرأته أنت بائن وبتة وبتلة وخلية وبرية يتضمن إيقاع الطلاق لأن معناه أنت طالق مني طلاقا تبينين به مني، أو تبت أي يقطع عصمتك مني، والبتلة بمعناه، أو تخلين به من زوجيتي أو تبرين منها، قال: وهذا لا يكون في المدخول بها إلا ثلاثا إذا لم يكن هناك خلع، وتعقب بأن الحمل على ذلك ليس صريحا والعصمة الثابتة لا ترفع بالاحتمال، وبأن من يقول إن من قال لزوجته أنت طالق طلقة بائنة إذا لم يكن هناك خلع أنها تقع رجعية مع التصريح كيف لا يقول يلغو مع التقدير

(9/370)


وبأن كل لفظة من المذكورات إذا قصد بها الطلاق ووقع وانقضت العدة أنه يتم المعنى المذكور، فلم ينحصر الأمر فيما ذكروا وإنما النظر عند الإطلاق، فالذي يترجح أن الألفاظ المذكورات وما في معناها كنايات لا يقع الطلاق بها إلا مع القصد إليه، وضابط ذلك أن كل كلام أفهم الفرقة ولو مع دقته يقع به الطلاق مع القصد، فأما إذا لم يفهم الفرقة من اللفظ فلا يقع الطلاق ولو قصد إليه، كما لو قال كلي أو اشربي أو نحو ذلك، وهذا تحرير مذهب الشافعي في ذلك. وقاله قبله الشعبي وعطاء وعمرو بن دينار وغيرهم، وبهذا قال الأوزاعي وأصحاب الرأي، واحتج لهم الطحاوي بحديث أبي هريرة الآتي قريبا "تجاوز الله عن أمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تعمل به أو تكلم" فإنه يدل على أن النية وحدها لا تؤثر إذا تجردت عن الكلام أو الفعل. وقال مالك: إذا خاطبها بأي لفظ كان وقصد الطلاق طلقت حتى لو قال يا فلانة يريد به الطلاق، وبه قال الحسن بن صالح بن حي. قوله: "وقالت عائشة: قد علم النبي صلى الله عليه وسلم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقه" هذا التعليق طرف من حديث التخيير، وقد تقدم عن عائشة في آخر حديث عمر في "باب موعظة الرجل ابنته" من كتاب النكاح، وبيان الاختلاف على الزهري في إسناده، وأرادت عائشة بالفراق هنا الطلاق جزما، ولا نزاع في الحمل عليه إذا قصد إليه، وإنما النزاع في الإطلاق إذا تقدم1

(9/371)


7- باب مَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ
وَقَالَ الْحَسَنُ نِيَّتُهُ وَقَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ إِذَا طَلَّقَ ثَلاَثًا فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ فَسَمَّوْهُ حَرَامًا بِالطَّلاَقِ وَالْفِرَاقِ وَلَيْسَ هَذَا كَالَّذِي يُحَرِّمُ الطَّعَامَ لِأَنَّهُ لاَ يُقَالُ لِطَعَامِ الْحِلِّ حَرَامٌ وَيُقَالُ لِلْمُطَلَّقَةِ حَرَامٌ وَقَالَ فِي الطَّلاَقِ ثَلاَثًا {لاَ تَحِلُّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ}
5264- وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي نَافِعٌ قَالَ كَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا سُئِلَ عَمَّنْ طَلَّقَ ثَلاَثًا قَالَ لَوْ طَلَّقْتَ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَنِي بِهَذَا فَإِنْ طَلَّقْتَهَا ثَلاَثًا حَرُمَتْ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَكَ "
5265- حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ طَلَّقَ رَجُلٌ امْرَأَتَهُ فَتَزَوَّجَتْ زَوْجًا غَيْرَهُ فَطَلَّقَهَا وَكَانَتْ مَعَهُ مِثْلُ الْهُدْبَةِ فَلَمْ تَصِلْ مِنْهُ إِلَى شَيْءٍ تُرِيدُهُ فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ طَلَّقَهَا فَأَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ زَوْجِي طَلَّقَنِي وَإِنِّي تَزَوَّجْتُ زَوْجًا غَيْرَهُ فَدَخَلَ بِي وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ إِلاَّ مِثْلُ الْهُدْبَةِ فَلَمْ يَقْرَبْنِي إِلاَّ هَنَةً وَاحِدَةً لَمْ يَصِلْ مِنِّي إِلَى شَيْءٍ فَأَحِلُّ لِزَوْجِي الأَوَّلِ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لاَ تَحِلِّينَ لِزَوْجِكِ الأَوَّلِ حَتَّى يَذُوقَ الْآخَرُ عُسَيْلَتَكِ وَتَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ"
قوله: "باب من قال لامرأته: أنت علي حرام. وقال الحسن: نيته" أي يحمل على نيته. وهذا التعليق وصله البيهقي، ووقع لنا عاليا في "جزء محمد بن عبد الله الأنصاري" شيخ البخاري قال: "حدثنا الأشعث عن الحسن في الحرام إن نوى يمينا فيمين، وإن طلاقا فطلاق" وأخرجه عبد الرزاق من وجه آخر عن الحسن، وبهذا قال النخعي

(9/371)


والشافعي وإسحاق، وروى نحوه عن ابن مسعود وابن عمر وطاوس، وبه قال النووي لكن قال: إن نوى واحدة فهي بائن. وقال الحنفية مثله لكن قالوا: إن نوى ثنتين فهي واحدة بائنة، وإن لم ينو طلاقا فهي يمين ويصير موليا، وهو عجيب والأول أعجب. وقال الأوزاعي وأبو ثور: يمين الحرام تكفر، وروى نحوه عن أبي بكر وعمر وعائشة وسعيد بن المسيب وعطاء وطاوس، واحتج أبو ثور بظاهر قوله تعالى :{لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} وسيأتي بيانه في الباب الذي بعده. وقال أبو قلابة وسعيد بن جبير: من قال لامرأته أنت علي حرام لزمته كفارة الظهار. ومثله عن أحمد. وقال الطحاوي: يحتمل أنهم أرادوا أن من أراد به الظهار كان مظاهرا، وإن لم ينوه كان عليه كفارة يمين مغلظة وهي كفارة الظهار، لا أنه يصير مظاهرا ظهارا حقيقة، وفيه بعد. وقال أبو حنيفة وصاحباه: لا يكون مظاهرا ولو أراده. وروي عن علي وزيد بن ثابت وابن عمر والحكم وابن أبي ليلى: في الحرام ثلاث تطليقات ولا يسأل عن نيته، وبه قال مالك، وعن مسروق والشعبي وربيعة: لا شيء فيه، وبه قال أصبغ من المالكية. وفي المسألة اختلاف كثير عن السلف بلغها القرطبي المفسر إلى ثمانية عشر قولا، وزاد غيره عليها. وفي مذهب مالك فيها تفاصيل أيضا يطول استيعابها. قال القرطبي: قال بعض علمائنا سبب الاختلاف أنه لم يقع في القرآن صريحا ولا في السنة نص ظاهر صحيح يعتمد عليه في حكم هذه المسألة، فتجاذبها العلماء، فمن تمسك بالبراءة الأصلية قال لا يلزمه شيء، ومن قال إنها يمين أخذ بظاهر قوله تعالى :{قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} بعد قوله تعالى :{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ}، ومن قال تجب الكفارة وليست بيمين بناه على أن معنى اليمين التحريم فوقعت الكفارة على المعنى، ومن قال تقع به طلقة رجعية حمل اللفظ على أقل وجوهه الظاهرة وأقل ما تحرم به المرأة طلقة تحرم الوطء ما لم يرتجعها، ومن قال بائنة فلاستمرار ا التحريم بها ما لم يجدد العقد، ومن قال ثلاث حمل اللفظ على منتهى وجوهه، ومن قال ظهار نظر إلى معنى التحريم وقطع النظر عن الطلاق فانحصر الأمر عنده في الظهار، والله أعلم. قوله: "وقال أهل العلم: إذا طلق ثلاثا فقد حرمت عليه فسموه حراما بالطلاق والفراق" أي فلا بد أن يصرح القائل بالطلاق أو يقصد إليه، فلو أطلق أو نوى عير الطلاق فهو محل النظر. قوله: "وليس هذا كالذي يحرم الطعام، لأنه لا يقال للطعام الحل حرام ويقال للمطلقة حرام. وقال في الطلاق ثلاثا: لا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره" قال المهلب: من نعم الله على هذه الأمة فيما خفف عنهم أن من قبلهم كانوا إذا حرموا على أنفسهم شيئا حرم عليهم كما وقع ليعقوب عليه السلام، فخفف الله ذلك عن هذه الأمة، ونهاهم أن يحرموا على أنفسهم شيئا مما أحل لهم فقال تعالى :{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} ا هـ. وأظن البخاري أشار إلى ما تقدم عن أصبغ وغيره ممن سوى بين الزوجة وبين الطعام والشراب كما تقدم نقله عنهم، فبين أن الشيئين وإن استويا من جهة فقد يفترقان من جهة أخرى، فالزوجة إذا حرمها الرجل على نفسه وأراد بذلك تطليقها حرمت، والطعام والشراب إذا حرمه على نفسه لم يحرم، ولهذا احتج باتفاقهم على أن المرأة بالطلقة الثالثة تحرم على الزوج لقوله تعالى :{فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} وورد عن ابن عباس ما يؤيد ذلك، فأخرج يزيد بن هارون في كتاب النكاح ومن طريقه البيهقي بسند صحيح عن يوسف بن ماهك "أن أعرابيا أتى ابن عباس فقال: إني جعلت امرأتي حراما، قال: ليست عليك بحرام. قال: أرأيت قول الله تعالى :{كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرائيلُ

(9/372)


عَلَى نَفْسِهِ} الآية؟ فقال ابن عباس: إن إسرائيل كان به عرق النسا فجعل على نفسه إن شفاه الله أن لا يأكل العروق من كل شيء، وليست بحرام يعني على هذه الأمة". وقد اختلف العلماء فيمن حرم على نفسه شيئا، فقال الشافعي: إن حرم زوجته أو أمته ولم يقصد الطلاق ولا الظهار ولا العتق فعليه كفارة يمين، وإن حرم طعاما أو شرابا فلغو. وقال أحمد: عليه في الجميع كفارة يمين. وتقدم بيان بقية الاختلاف في الباب الذي قبله. قال البيهقي بعد أن أخرج الحديث الذي أخرجه الترمذي وابن ماجه بسند رجاله ثقات من طريق داود بن أبي هند عن الشعبي عن مسروق "عن عائشة قالت: آلى النبي صلى الله عليه وسلم من نسائه وحرم، فجعل الحرام حلالا، وجعل في اليمين كفارة" قال فإن في هذا الخبر تقوية لقول من قال إن لفظ الحرام لا يكون بإطلاقه طلاقا ولا ظهارا ولا يمينا. قوله: "وقال الليث عن نافع قال: كان ابن عمر إذا سئل عمن طلق ثلاثا قال: لو طلقت مرة أو مرتين، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمرني بهذا، فإن طلقها ثلاثا حرمت عليك حتى تنكح زوجا غيرك" كذا للأكثر وفي رواية الكشميهني: "فإن طلقها وحرمت عليه" بضمير الغائب في الموضعين، وهذا الحديث مختصر من قصة تطليق ابن عمر امرأته وقد سبق شرحه في أول الطلاق، وظن ابن التين أن هذا جملة الخبر فاستشكل على مذهب مالك قولهم إن الجمع بين تطليقتين بدعة، قال والنبي صلى الله عليه وسلم لا يأمر بالبدعة، وجوابه أن الإشارة في قول ابن عمر "فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمرني بذلك" إلى ما أمره من ارتجاع امرأته في آخر الحديث، ولم يرد ابن عمر أنه أمره أن يطلق امرأته مرة أو مرتين وإنما هو كلام ابن عمر، ففصل لسائله حال المطلق. وقد روينا الحديث المذكور من طريق الليث التي علقها البخاري مطولا موصولا عاليا في "جزء أبي الجهم العلاء بن موسى الباهلي" رواية أبي القاسم البغوي عنه عن الليث، وفي أوله قصة ابن عمر في طلاق امرأته، وبعده "قال نافع وكان ابن عمر" إلخ وأخرج مسلم الحديث من طريق الليث لكن ليس بتمامه. وقال الكرماني: قوله: "لو طلقت" جزاؤه محذوف تقديره لكان خيرا أو هو للتمني فلا يحتاج إلى جواب وليس كما قال بل الجواب: لكان لك الرجعة لقوله: "فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمرني بهذا" والتقدير فإن كان في طهر لم يجامعها فيه كان طلاق سنة، وإن وقع في الحيض كان طلاق بدعة، ومطلق البدعة ينبغي أن يبادر إلى الرجعة. ولهذا قال: "فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمرني بهذا" أي بالمراجعة لما طلقت الحائض، وقسيم ذلك وله "وإن طلقت ثلاثا" وكأن ابن عمر ألحق الجمع بين المرتين بالواحدة فسوى بينهما، وإلا فالذي وقع منه إنما هو واحدة كما تقدم بيانه صريحا هناك وأراد البخاري بإيراد هذا هنا الاستشهاد بقول ابن عمر "حرمت عليك" فسماها حراما بالتطليق ثلاثا كأنه يريد أنها لا تصير حراما بمجرد قوله أنت علي حرام حتى يريد به الطلاق أو يطلقها بائنا، وخفي هذا على الشيخ مغلطاي ومن تبعه فنفوا مناسبة هذا الحديث للترجمة، ولكن عرج شيخنا ابن الملقن تلويحا على شيء مما أشرت إليه. ذكر المصنف حديث عائشة في قصة امرأة رفاعة لقوله فيه: "لا تحلين لزوجك الأول حتى يذوق الآخر عسيلتك" وسيأتي شرحه قريبا. وقوله في هذه الرواية: "فلم يقربني إلا هنة واحدة" هو بلفظ حرف الاستثناء، والتي بعده بفتح الهاء وتخفيف النون، وحكى الهروي تشديدها وقد أنكره الأزهري قبله. وقال الخليل: هي كلمة يكني بها عن الشيء يستحيا من ذكره باسمه، قال ابن التين معناه لم يطأني إلا مرة واحدة يقال هن امرأته إذا غشيها. ونقل الكرماني أنه في أكثر النسخ بموحدة ثقيلة أي مرة، والذي ذكر صاحب "المشارق" أن الذي رواه بالموحدة هو ابن السكن قال: وعند الكافة بالنون، وحكى في معنى هبة بالموحدة ما تقدم وهو أن المراد بها مرة واحدة،

(9/373)


قال وقيل المراد بالهبة الوقعة يقال حدر هبة السيف أي وقعته، وقيل هي من هب إذا احتاج إلى الجماع يقال هب التيس يهب هبيبا. "تنبيه": زعم ابن بطال أن البخاري يرى أن التحريم يتنزل منزلة الطلاق الثلاث، وشرح كلامه على ذلك فقال بعد أن ساق الاختلاف في المسألة: وفي قول مسروق ما أبالي حرمت امرأتي أو جفنة ثريد، وقول الشعبي أنت علي حرام أهون من فعلي هذا القول شذوذ، وعليه رد البخاري، قال واحتج من ذهب أن من حرم زوجته أنها ثلاث تطليقات بالإجماع على أن من طلق امرأته ثلاثا أنها تحرم عليه، قال فلما كانت الثلاث تحرمها كان التحريم ثلاثا، قال وإلى هذه الحجة أشار البخاري بإيراد حديث رفاعة لأنه طلق امرأته ثلاثا فلم تحل له مراجعتها إلا بعد زوج، فكذلك من حرم على نفسه امرأته فهو كمن طلقها ا هـ. وقيما قاله نظر، والذي يظهر من مذهب البخاري أن الحرام ينصرف إلى نية القائل، ولذلك صدر الباب بقول الحسن البصري، وهذه عادته في موضع الاختلاف مهما صدر به من النقل عن صحابي أو تابعي فهو اختياره، وحاشا البخاري أن يستدل بكون الثلاث تحرم أن كل تحريم له حكم الثلاث مع ظهور منع الحصر، لأن الطلقة الواحدة تحرم غير المدخول بها مطلقا والبائن تحرم المدخول بها إلا بعد عقد جديد، وكذلك الرجعية إذا انقضت عدتها فلم ينحصر التحريم في الثلاث، وأيضا فالتحريم أعم من التطليق ثلاثا فكيف يستدل بالأعم على الأخص؟ ومما يؤيد ما اخترناه أولا تعقيب البخاري الباب بترجمة {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} وساق فيه قول ابن عباس "إذا حرم امرأته فليس بشيء" كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

(9/374)


باب لم تحرم ماأحل الله لك
...
8- باب {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ}
5266- حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ صَبَّاحٍ سَمِعَ الرَّبِيعَ بْنَ نَافِعٍ حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ يَعْلَى بْنِ حَكِيمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ إِذَا حَرَّمَ امْرَأَتَهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ وَقَالَ {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}"
5267- حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ صَبَّاحٍ حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ زَعَمَ عَطَاءٌ أَنَّهُ سَمِعَ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ يَقُولُ سَمِعْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَمْكُثُ عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ وَيَشْرَبُ عِنْدَهَا عَسَلًا فَتَوَاصَيْتُ أَنَا وَحَفْصَةُ أَنَّ أَيَّتَنَا دَخَلَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلْتَقُلْ إِنِّي أَجِدُ مِنْكَ رِيحَ مَغَافِيرَ أَكَلْتَ مَغَافِيرَ فَدَخَلَ عَلَى إِحْدَاهُمَا فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ لاَ بَلْ شَرِبْتُ عَسَلًا عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ وَلَنْ أَعُودَ لَهُ فَنَزَلَتْ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ إِلَى إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ لِعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ} لِقَوْلِهِ بَلْ شَرِبْتُ عَسَلًا"
5268- حَدَّثَنَا فَرْوَةُ بْنُ أَبِي الْمَغْرَاءِ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ الْعَسَلَ وَالْحَلْوَاءَ وَكَانَ إِذَا انْصَرَفَ مِنْ الْعَصْرِ دَخَلَ عَلَى نِسَائِهِ

(9/374)


فَيَدْنُو مِنْ إِحْدَاهُنَّ فَدَخَلَ عَلَى حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ فَاحْتَبَسَ أَكْثَرَ مَا كَانَ يَحْتَبِسُ فَغِرْتُ فَسَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ فَقِيلَ لِي أَهْدَتْ لَهَا امْرَأَةٌ مِنْ قَوْمِهَا عُكَّةً مِنْ عَسَلٍ فَسَقَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ شَرْبَةً فَقُلْتُ أَمَا وَاللَّهِ لَنَحْتَالَنَّ لَهُ فَقُلْتُ لِسَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ إِنَّهُ سَيَدْنُو مِنْكِ فَإِذَا دَنَا مِنْكِ فَقُولِي أَكَلْتَ مَغَافِيرَ فَإِنَّهُ سَيَقُولُ لَكِ لاَ فَقُولِي لَهُ مَا هَذِهِ الرِّيحُ الَّتِي أَجِدُ مِنْكَ فَإِنَّهُ سَيَقُولُ لَكِ سَقَتْنِي حَفْصَةُ شَرْبَةَ عَسَلٍ فَقُولِي لَهُ جَرَسَتْ نَحْلُهُ الْعُرْفُطَ وَسَأَقُولُ ذَلِكِ وَقُولِي أَنْتِ يَا صَفِيَّةُ ذَاكِ قَالَتْ تَقُولُ سَوْدَةُ فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلاَّ أَنْ قَامَ عَلَى الْبَابِ فَأَرَدْتُ أَنْ أُبَادِيَهُ بِمَا أَمَرْتِنِي بِهِ فَرَقًا مِنْكِ فَلَمَّا دَنَا مِنْهَا قَالَتْ لَهُ سَوْدَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَكَلْتَ مَغَافِيرَ قَالَ لاَ قَالَتْ فَمَا هَذِهِ الرِّيحُ الَّتِي أَجِدُ مِنْكَ قَالَ سَقَتْنِي حَفْصَةُ شَرْبَةَ عَسَلٍ فَقَالَتْ جَرَسَتْ نَحْلُهُ الْعُرْفُطَ فَلَمَّا دَارَ إِلَيَّ قُلْتُ لَهُ نَحْوَ ذَلِكَ فَلَمَّا دَارَ إِلَى صَفِيَّةَ قَالَتْ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ فَلَمَّا دَارَ إِلَى حَفْصَةَ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلاَ أَسْقِيكَ مِنْهُ قَالَ لاَ حَاجَةَ لِي فِيهِ قَالَتْ تَقُولُ سَوْدَةُ وَاللَّهِ لَقَدْ حَرَمْنَاهُ قُلْتُ لَهَا اسْكُتِي"
قوله: "باب {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} كذا للأكثر وسقط من رواية النسفي لفظ: "باب" ووقع بدله "قوله تعالى". قوله: "حدثني الحسن بن الصباح" هو البزار آخره راء مهملة وهو واسطي نزل بغداد، وثقه الجمهور ولينه النسائي قليلا. وأخرج عنه البخاري في الإيمان والصلاة وغيرهما فلم يكثر. وأخرج البخاري عن الحسن بن الصباح الزعفراني، لكن إذا وقع هكذا يكون نسب لجده فهو الحسن بن محمد بن الصباح وهو المروي عنه في الحديث الثاني من هذا الباب، وفي الرواة من شيوخ البخاري ومن في طبقتهم محمد بن الصباح الدولابي أخرج عنه البخاري في الصلاة والبيوع وغيرهما، وليس هو أخا للحسن بن الصباح ومحمد بن الصباح الجرجرائي أخرج عنه أبو داود وابن ماجه، وهو غير الدولابي، وعبد الله بن الصباح العطار أخرج عنه البخاري في البيوع وغيره وليس أحد من هؤلاء أخا للآخر. قوله: "سمع الربيع بن نافع" أي أنه سمع ولفظ: "أنه" يحذف خطا وينطق به، وقل من نبه عليه كما وقع التنبيه على لفظ: "قال". والربيع بن نافع هو أبو توبة بفتح المثناة وسكون الواو بعدها موحدة مشهور بكنيته أكثر من اسمه، حلبي نزل طرسوس، أخرج عنه الستة إلا الترمذي بواسطة إلا أبا داود فأخرج عنه الكثير بغير واسطة وأخرج عنه بواسطة أيضا. وأدركه البخاري ولكن لم أر له عنه في هذا الكتاب شيئا بغير واسطة. وأخرج عنه بواسطة إلا الموضع المتقدم في المزارعة فإنه قال فيه: "قال الربيع بن نافع" ولم يقل "حدثنا" فما أدري لقيه أو لم يلقه، وليس له عنده إلا هذان الموضعان. قوله: "حدثنا معاوية" هو ابن سلام بتشديد اللام وشيخه يحيى ومن فوقه ثلاثة من التابعين في نسق. قوله: "إذا حرم امرأته ليس بشيء" كذا للكشمهيني وللأكثر "ليست" أي الكلمة وهي قوله أنت علي حرام أو محرمة أو نحو ذلك. قوله: "وقال" أي ابن عباس مستدلا على ما ذهب إليه بقوله تعالى :{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} يشير بذلك إلى قصة التحريم، وقد وقع بسط ذلك في تفسير سورة التحريم، وذكرت في "باب موعظة الرجل ابنته" في كتاب النكاح في شرح الحديث المطول في ذلك من رواية ابن عباس عن عمر بيان الاختلاف هل المراد تحريم العسل أو تحريم ماريه وأنه قيل في

(9/375)


السبب غير ذلك، واستوعبت ما يتعلق بوجه الجمع بين تلك الأقوال بحمد الله تعالى. وقد أخرج النسائي بسند صحيح عن أنس " أن النبي صلى الله عليه وسلم كانت له أمة يطؤها، فلم تزل به حفصة وعائشة حتى حرمها، فأنزل الله تعالى هذه الآية : {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} وهذا أصح طرق هذا السبب، وله شاهد مرسل أخرجه الطبري بسند صحيح عن زيد بن أسلم التابعي الشهير قال: "أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أم إبراهيم ولده في بيت بعض نسائه، فقالت: يا رسول الله في بيتي وعلى فراشي، فجعلها عليه حراما، فقالت: يا رسول الله كيف تحرم عليك الحلال! فحلف لها بالله لا يصيبها، فنزلت {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} قال زيد بن أسلم: فقول الرجل لامرأته أنت علي حرام لغو، وإنما تلزمه كفارة يمين إن حلف. وقوله: "ليس بشيء" يحتمل أن يريد بالنفي التطليق، ويحتمل أن يريد به ما هو أعم من ذلك والأول أقرب، ويؤيده ما تقدم في التفسير من طريق هشام الدستوائي عن يحيى بن أبي كثير بهذا الإسناد موضعها "في الحرام يكفر" وأخرجه الإسماعيلي من طريق محمد بن المبارك الصوري عن معاوية بن سلام بإسناد حديث الباب بلفظ: "إذا حرم الرجل امرأته فإنما هي يمين يكفرها" فعرف أن المراد بقوله: "ليس بشيء" أي ليس بطلاق. وأخرج النسائي وابن مردويه من طريق سالم الأفطس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس "أن رجلا جاءه فقال: إني جعلت امرأتي علي حراما، قال: كذبت ما هي بحرام، ثم تلا: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} ثم قال له "عليك رقبة"، ا هـ وكأنه أشار عليه بالرقبة لأنه عرف أنه موسر، فأراد أن يكفر بالأغلظ من كفارة اليمين لا أنه تعين عليه عتق الرقبة، ويدل عليه ما تقدم عنه من التصريح بكفارة اليمين. ثم ذكر المصنف حديث عائشة في قصة شرب النبي صلى الله عليه وسلم العسل عند بعض نسائه فأورده من وجهين: أحدهما من طريق عبيد بن عمير عن عائشة وفيه أن شرب العسل كان عند زينب بنت جحش، والثاني من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة وفيه أن شرب العسل كان عند حفصة بنت عمر، فهذا ما في الصحيحين. وأخرج ابن مردويه من طريق ابن أبي مليكة عن ابن عباس أن شرب العسل كان عند سودة، وأن عائشة وحفصة هما اللتان تواطأتا على وفق ما في رواية عبيد بن عمير وإن اختلفا في صاحبة العسل. وطريق الجمع بين هذا الاختلاف الحمل على التعدد فلا يمتنع تعدد السبب للأمر الواحد، فإن جنح إلى الترجيح فرواية عبيد بن عمير أثبت لموافقة ابن عباس لها على أن المتظاهرتين حفصة وعائشة على ما تقدم في التفسير وفي الطلاق من جزم عمر بذلك، فلو كانت حفصة صاحبة العسل لم تقرن في التظاهر بعائشة، لكن يمكن تعدد القصة في شرب العسل وتحريمه واختصاص النزول بالقصة التي فيها أن عائشة وحفصة هما المتظاهرتان، ويمكن أن تكون القصة التي وقع فيها شرب العسل عند حفصة كانت سابقة. ويؤيد هذا الحمل أنه لم يقع في طريق هشام بن عروة التي فيها أن شرب العسل كان عند حفصة تعرض للآية ولا لذكر سبب النزول، والراجح أيضا أن صاحبة العسل زينب لا سودة لأن طريق عبيد بن عمير أثبت من طريق ابن أبي مليكة بكثير، ولا جائز أن تتحد بطريق هشام بن عروة لأن فيها أن سودة كانت ممن وافق عائشة على قولها "أجد ريح مغافير" ويرجحه أيضا ما مضى في كتاب الهبة عن عائشة "إن نساء النبي صلى الله عليه وسلم كن حزبين: أنا وسودة وحفصة وصفية في حزب، وزينب بنت جحش وأم سلمة والباقيات في حزب" فهذا يرجح أن زينب هي صاحبة العسل ولهذا غارت عائشة منها لكونا من غير حزبها والله أعلم، وهذا أولى من جزم الداودي بأن تسمية التي شربت العسل حفصة غلط وإنما هي صفية بنت حيي أو زينب بنت جحش، وممن جنح إلى الترجيح عياض،

(9/376)


ومنه تلقف القرطبي، وكذا نقله النووي عن عياض وأقره فقال عياض: رواية عبيد بن عمير أولى لموافقتها ظاهر كتاب الله، لأن فيه {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ} فهما ثنتان لا أكثر، ولحديث ابن عباس عن عمر، قال فكأن الأسماء انقلبت على راوي الرواية الأخرى، وتعقب الكرماني مقالة عياض فأجاد فقال: متى جوزنا هذا ارتفع الوثوق بأكثر الروايات. وقال القرطبي: الرواية التي فيها أن المتظاهرات عائشة وسودة وصفية ليست بصحيحة لأنها مخالفة للتلاوة لمجيئها بلفظ خطاب الاثنين ولو كانت كذلك لجاءت بخطاب جماعة المؤنث. ثم نقل عن الأصيلي وغيره أن رواية عبيد بن عمير أصح وأولى، وما المانع أن تكون قصة حفصة سابقة، فلما قيل له ما قيل ترك الشرب من غير تصريح بتحريم ولم ينزل في ذلك شيء، ثم لما شرب في بيت زينب تظاهرت عائشة وحفصة على ذلك القول فحرم حينئذ العسل فنزلت الآية. قال: وأما ذكر سودة مع الجزم بالتثنية فيمن تظاهر منهن فباعتبار أنها كانت كالتابعة لعائشة ولهذا وهبت يومها لها، فإن كان ذلك قبل الهبة فلا اعتراض بدخوله عليها، وإن كان بعده فلا يمتنع هبتها يومها لعائشة أن يتردد إلى سودة. قلت: لا حاجة إلى الاعتذار عن ذلك، فإن ذكر سودة إنما جاء في قصة شرب العسل عند حفصة ولا تثنية فيه ولا نزول على ما تقدم من الجمع الذي ذكره، وأما قصة العسل عند زينب بنت جحش فقد صرح فيه بأن عائشة قالت: "تواطأت أنا وحفصة" فهو مطابق لما جزم به عمر من أن المتظاهرتين عائشة وحفصة وموافق لظاهر الآية والله أعلم. ووجدت لقصة شرب العسل عند حفصة شاهدا في تفسير ابن مردويه من طريق يزيد بن رومان عن ابن عباس ورواته لا بأس بهم، وقد أشرت إلى غالب ألفاظه، ووقع تفسير السدي أن شرب العسل كان عند أم سلمة أخرجه الطبري وغيره وهو مرجوح لإرساله وشذوذه، والله أعلم. قوله: "حدثنا حجاج" هو ابن محمد المصيصي. قوله: "زعم عطاء" هو ابن أبي رباح، وأهل الحجاز يطلقون الزعم على مطلق القول. ووقع في رواية هشام ابن يوسف عن ابن جريج عن عطاء وقد مضى في التفسير. قوله: "إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمكث عند زينب بنت جحش ويشرب عندها عسلا" في رواية هشام "يشرب عسلا عند زينب ثم يمكث عندها" ولا مغايرة بينهما لأن الواو لا ترتب. قوله: "فتواصيت" كذا هنا بالصاد من المواصاة. وفي رواية هشام "فتواطيت" بالطاء من المواطأة، وأصله تواطأت بالهمزة فسهلت الهمزة فصارت ياء، وثبت كذلك في رواية أبي ذر. قوله: "أن أيتنا دخل" في رواية أحمد عن حجاج بن محمد "أن أيتنا ما دخل" بزيادة ما وهي زائدة. قوله: "إني لأجد ريح مغافير، أكلت مغافير" في رواية هشام بتقديم أكلت مغافير وتأخير إني أجد. وأكلت استفهام محذوف الأداة، والمغافير بالغين المعجمة والفاء وبإثبات التحتانية بعد الفاء في جميع نسخ البخاري، ووقع في بعض النسخ عن مسلم في بعض المواضع من الحديث بحذفها، قال عياض والصواب إثباتها لأنها عوض من الواو التي في المفرد وإنما حذفت في ضرورة الشعر ا هـ، ومراده أن المغافير جمع مغفور بضم أوله ويقال بثاء مثلثة بدل الفاء حكاه أبو حنيفة الدينوري في النبات، قال ابن قتيبة: ليس في الكلام مفعول بضم أوله إلا مغفور ومغزول بالغين المعجمة من أسماء الكمأة ومنخور بالخاء المعجمة من أسماء الأنف ومغلوق بالغين المعجمة واحد المغاليق، قال: والمغفور صمغ حلو له رائحة كريهة، وذكر البخاري أن المغفور شبيه بالصمغ يكون في الرمث يكسر الراء وسكون الميم بعدها مثلثة وهو من الشجر التي ترعاها الإبل وهو من الحمض، وفي الصمغ المذكور حلاوة، يقال أغفر الرمث إذا ظهر ذلك فيه. وذكر أبو زيد الأنصاري أن المغفور يكون

(9/377)


أيضا في العشر بضم المهملة وفتح المعجمة، وفي الثمام والسلم والطلح. واختلف في ميم مغفور فقيل زائدة وهو قول الفراء وعند الجمهور أنها من أصل الكلمة، ويقال له أيضا مغفار بكسر أوله ومغفر بضم أوله وبفتحه وبكسره عن الكسائي والفاء مفتوحة في الجميع. وقال عياض: زعم المهلب أن رائحة المغافير والعرفط حسنة وهو خلاف ما يقتضيه الحديث وخلاف ما قاله أهل اللغة ا هـ، ولعل المهلب قال: "خبيثة" بمعجمة ثم موحدة ثم تحتانية ثم مثلثة فتصحفت أو استند إلى ما نقل عن الخليل وقد نسبه ابن بطال إلى العين أن العرفط شجر العضاه والعضاه كل شجر له شوك وإذا استيك به كانت له رائحة حسنة تشبه رائحة طيب النبيذ ا هـ، وعلى هذا فيكون ريح عيدان العرفط طيبا وريح الصمغ الذي يسيل منه غير طيبة ولا منافاة في ذلك ولا تصحيف، وقد حكى القرطبي في "المفهم" أن رائحة ورق العرفط طيبة فإذا رعته الإبل خبثت رائحته، وهذا طريق آخر في الجمع حسن جدا. قوله: "فدخل على إحداهما" لم أقف على تعيينها، وأظنها حفصة. قوله: "فقال لا بأس شربت عسلا" كذا وقع هنا في رواية أبي ذر عن شيوخه، ووقع للباقين "لا بل شربت عسلا" وكذا وقع كتاب الأيمان والنذور للجميع حيث ساقة المصنف من هذا الوجه إسنادا ومتنا، كذا أخرجه أحمد عن حجاج ومسلم وأصحاب السنن والمستخرجات من طريق حجاج، فظهر أن لفظة "بأس" هنا مغيرة من لفظه: "بل" وفي رواية هشام "فقال لا ولكني كنت أشرب عسلا عند زينب بنت جحش". قوله: "ولن أعود له" زاد في رواية هشام "وقد حلفت لا تخبري بذلك أحدا" وبهذه الزيادة تظهر مناسبة قوله في رواية حجاج بن محمد فنزلت: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ}" قال عياض حذفت هذه الزيادة من رواية حجاج بن محمد فصار النظم مشكلا، فزال الإشكال برواية هشام بن يوسف. واستدل القرطبي وغيره بقوله: "حلفت" على أن الكفارة التي أشير إليها في قوله تعالى :{قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} هي عن اليمين التي أشار إليها بقوله: "حلفت" فتكون الكفارة لأجل اليمين لا لمجرد التحريم، وهو استدلال قوي لمن يقول إن التحريم لغو لا كفارة فيه بمجرده، وحمل بعضهم قوله: "حلفت" على التحريم ولا يخفى بعده، والله أعلم قوله: "إن تتوبا إلى الله" أي تلا من أول السورة إلى هذا الموضع "فقال لعائشة وحفصة" أي الخطاب لهما، ووقع في رواية غير أبي ذر "فنزلت: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} إلى قوله : {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ} وهذا أوضح من رواية أبي ذر. قوله: "وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا، لقوله بل شربت عسلا" هذا القدر بقية الحديث، كنت أظنه من ترجمة البخاري على ظاهر ما سأذكره عن رواية النسفي حتى وجدته مذكورا في آخر الحديث عند مسلم وكأن المعنى: وأما المراد بقوله تعالى :{وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً} "فهو لأجل قوله: "بل شربت عسلا"، والنكتة فيه أن هذه الآية داخلة في الآيات الماضية لأنها قبل قوله: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ} واتفقت الروايات عن البخاري على هذا إلا النسفي فوقع عنده بعد قوله: "فنزلت: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} ما صورته: قوله تعالى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ} لعائشة وحفصة {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً} لقوله: "بل شربت عسلا" فجعل بقية الحديث ترجمة للحديث الذي يليه، والصواب ما وقع عند الجماعة لموافقة مسلم وغيره على أن ذلك من بقية حديث ابن عمير. قوله: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب العسل والحلوى" قد أفرد هذا القدر من هذا الحديث كما سيأتي في الأطعمة وفي الأشربة وفي غيرهما من طريق أبي أسامة عن هشام بن عروة، وهو عنده بتقديم الحلوى على العسل، ولتقديم كل منهما على الآخر جهة من جهات التقديم، فتقديم العسل لشرفه

(9/378)


ولأنه أصل من أصول الحلوى ولأنه مفرد والحلوى مركبة، وتقديم الحلوى لشمولها وتنوعها لأنها تتخذ من العسل ومن غيره، وليس ذلك من عطف العام على الخاص كما زعم بعضهم وإنما العام الذي يدخل الجميع فيه، الحلو بضم أوله وليس بعد الواو شيء، ووقعت الحلواء في أكثر الروايات عن أبي أسامة بالمد وفي بعضها بالقصر وهي رواية علي بن مسهر، وذكرت عائشة هذا القدر في أول الحديث تمهيدا لما سيذكره من قصة العسل، وسأذكر ما يتعلق بالحلوى والعسل مبسوطا في كتاب الأطعمة إن شاء الله تعالى. قوله: "وكان إذا انصرف من العصر" كذا للأكثر، وخالفهم حماد بن سلمة عن هشام بن عروة فقال: "الفجر" أخرجه عبد بن حميد في تفسيره عن أبي النغمان عن حماد، ويساعده رواية يزيد بن رومان عن ابن عباس ففيها "وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الصبح جلس في مصلاه وجلس الناس حوله حتى تطلع الشمس، ثم يدخل على نسائه امرأة امرأة يسلم عليهن ويدعو لهن، فإذا كان يوم إحداهن كان عندها" الحديث أخرجه ابن مردويه، ويمكن الجمع بأن الذي كان يقع في أول النهار سلاما ودعاء محضا، والذي في آخره معه جلوس واستئناس ومحادثة، لكن المحفوظ في حديث عائشة ذكر العصر ورواية حماد بن سلمة شاذة. قوله: "دخل على نسائه" في رواية أبي أسامة أجاز إلى نسائه أي مشى، ويجيء بمعنى قطع المسافة ومنه فأكون أنا وأمتي أول من يجيز أي أول من يقطع مسافة الصراط. قوله: "فيدنو منهن" أي فيقبل ويباشر من غير جماع كما في الرواية الأخرى. قوله: "فاحتبس" أي أقام، زاد أبو أسامة "عندها". قوله:" فسألت عن ذلك" ووقع في حديث ابن عباس بيان ذلك ولفظه: "فأنكرت عائشة احتباسه عند حفصة فقالت لجويرية حبشيه عندها يقال لها خضراء: إذا دخل على حفصة فادخلي عليها فانظري ما يصنع". قوله: "أهدت لها امرأة من قومها عكة عسل" لم أقف على اسم هذه المرأة ووقع في حديث ابن عباس "أنها أهديت لحفصة عكة فيها عسل من الطائف". قوله: "فقلت لسودة بنت زمعة أنه سيدنو منك" في رواية أبي أسامة "فذكرت ذلك لسودة وقلت لها: إنه إذا دخل عليك سيدنو منك" وفي رواية حماد بن سلمة "إذا دخل على إحداكن فلتأخذ بأنفها، فإذا قال: ما شأنك؟ فقولي: ريح المغافير" وقد تقدم شرح المغافير قبل. قوله: "سقتني حفصة شربة عسل" في رواية حماد بن سلمة "إنما هي عسيلة سقتنيها حفصة". قوله: "جرست" بفتح الجيم والراء بعدها مهملة أي رعت نحل هذا العسل الذي شربته الشجر المعروف بالعرفط، وأصل الجرس الصوت الخفي، ومنه في حديث صفة الجنة "يسمع جرس الطير" ولا يقال جرس بمعنى رعي إلا للنحل. وقال الخليل جرست النحل العسل تجرسه جرسا إذا لحسته. وفي رواية حماد بن سلمة "جرست نحلها العرفط إذا" والضمير للعسيلة على ما وقع في روايته. قوله: "العرفط" بضم المهملة والفاء بينهما راء ساكنة وآخره طاء مهملة هو الشجر الذي صمغه المغافير، قال ابن قتيبة: هو نبات مر له ورقة عريضة تفرش بالأرض وله شوكة وثمرة بيضاء كالقطن مثل زر القميص، وهو خبيث الرائحة. قلت: وقد تقدم في حكاية عياض عن المهلب ما يتعلق برائحة العرفط والبحث معه فيه قبل. قوله: "وقولي أنت يا صفية" أي بنت حيي أم المؤمنين. وفي رواية أبي أسامة "وقوليه أنت يا صفية" أي قولي، الكلام الذي علمته لسودة، زاد أبو أسامة في روايته: "وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتد عليه أن يوجد منه الريح" أي الغير الطيب. وفي رواية يزيد بن رومان عن ابن عباس "وكان أشد شيء عليه أن يوجد منه ريح سيئ" وفي رواية حماد بن سلمة "وكان يكره أن يوجد منه ريح كريهة لأنه يأتيه الملك" وفي رواية ابن أبي مليكة عن ابن عباس "وكان يعجبه أن يوجد منه الريح الطيب". قوله:

(9/379)


"قالت تقول سودة: فوالله ما هو إلا أن قام على الباب فأردت أن أبادئه بالذي أمرتني به فرقا منك" أي خوفا. وفي رواية أبي أسامة "فلما دخل على سودة قالت تقول سودة: والله لقد كدت أن أبادره بالذي قلت لي" وضبط "أبادئه" في أكثر الروايات بالموحدة من المبادأة وهي بالهمزة، وفي بعضها بالنون بغير همزة من المناداة، وأما أبادره في رواية أبي أسامة فمن المبادرة، ووقع فيها عند الكشميهني والأصيلي وأبي الوقت كالأول بالهمزة بدل الراء. وفي رواية ابن عساكر بالنون. قوله: "فلما دار إلى قلت نحو ذلك، فلما دار إلى صفية قالت له مثل ذلك" كذا في هذه الرواية بلفظ نحو عند إسناد القول لعائشة وبلفظ مثل عند إسناده لصفية، ولعل السر فيه أت عائشة لما كانت المبتكرة لذلك عبرت عنه بأي لفظ حسن ببالها حينئذ فلهذا قالت نحو ولم تقل مثل، وأما صفية فإنها مأمورة بقول شيء فليس لها فيه تصرف، إذ لو تصرفت فيه لخشيت من غضب الآمرة لها، فلهذا عبرت عنه بلفظ مثل، هذا الذي ظهر لي في الفرق أو لا، ثم راجعت سياق أبي أسامة فوجدته عبر بالمثل في الموضعين، فغلب على الظن أن تغيير ذلك من تصرف الرواة والله أعلم. قوله: "فلما دار إلى حفصة" أي في اليوم الثاني. قوله: "لا حاجة لي فيه" كأنه اجتنبه لما وقع عنده من توارد النسوة الثلاث على أنه نشأت من شربه له ريح منكرة فتركه حسما للمادة. قوله: "تقول سودة" زاد ابن أبي أسامة في روايته: "سبحان الله". قوله: "والله لقد حرمناه" بتخفيف الراء أي منعناه. قوله: "قلت لها اسكتي" كأنها خشيت أن يفشو ذلك فيظهر ما دبرته من كيدها لحفصة. وفي الحديث من الفوائد ما جبل عليه النساء من الغيرة، وأن الغيراء تعذر فيما يقع منها من الاحتيال فيما يدفع عنها ترفع ضرتها عليها بأي وجه كان، وترجم عليه المصنف في كتاب ترك الحيل "ما يكره من احتيال المرأة من الزوج والضرائر" وفيه الأخذ بالحزم في الأمور وترك ما يشتبه الأمر فيه من المباح خشية من الوقوع في المحذور. وفيه ما يشهد بعلو مرتبة عائشة عند النبي صلى الله عليه وسلم حتى كانت ضرتها تهابها وتطيعها في كل شيء تأمرها به حتى في مثل هذا الأمر مع الزوج الذي هو أرفع الناس قدرا. وفيه إشارة إلى ورع سودة لما ظهر منها من التندم على ما فعلت لأنها وافقت أولا على دفع ترفع حفصة عليهن بمزيد الجلوس عندها بسبب العسل، ورأت أن التوصل إلى بلوغ المراد من ذلك لحسم مادة شرب العسل الذي هو سبب الإقامة، لكن أنكرت بعد ذلك أنه يترتب عليه منع النبي صلى الله عليه وسلم من أمر كان يشتهيه وهو شرب العسل مع ما تقدم من اعتراف عائشة الآمرة لها بذلك في صدر الحديث، فأخذت سودة تتعجب مما وقع منهن في ذلك، ولم تجسر على التصريح بالإنكار، ولا راجعت عائشة بعد ذلك لما قالت لها "اسكتي" بل أطاعتها وسكتت لما تقدم من اعتذارها في أنها كانت تهابها وإنما كانت تهابها لما تعلم من مزيد حب النبي صلى الله عليه وسلم لها أكثر منهن، فخشيت إذا خالفتها أن تغضبها، وإذا أغضبتها لا تأمن أن تغير عليها خاطر النبي صلى الله عليه وسلم ولا تحتمل ذلك، فهذا معنى خوفها منها. وفيه أن عماد القسم الليل، وأن النهار يجوز الاجتماع فيه بالجميع لكن بشرط أن لا تقع المجامعة إلا مع التي هو في نوبتها كما تقدم تقريره. وفيه استعمال الكنايات فيما يستحيا من ذكره لقوله في الحديث: "فيدنو منهن" والمراد فيقبل ونحو ذلك، ويحقق ذلك قول عائشة لسودة "إذا دخل عليك فإنه سيدنو منك، فقولي له إني أجد كذا" وهذا إنما يتحقق بقرب الفم من الأنف، ولا سيما إذا لم تكن الرائحة طافحة، بل المقام يقتضي أن الرائحة لم تكن طافحة لأنها لو كانت طافحة لكانت بحيث يدركها النبي صلى الله عليه وسلم ولأنكر عليها عدم وجودها منه، فلما أقر على ذلك دل على ما قررناه أنها لو قدر وجودها لكانت خفية وإذا كانت خفية لم تدرك بمجرد المجالسة والمحادثة

(9/380)


من غير قرب الفم من الأنف، والله أعلم.

(9/381)


باب لاطلاق قبل نكاح
...
9- باب لاَ طَلاَقَ قَبْلَ النِّكَاحِ، وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمْ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا}
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ جَعَلَ اللَّهُ الطَّلاَقَ بَعْدَ النِّكَاحِ وَيُرْوَى فِي ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ وَأَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ وَعَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ وَشُرَيْحٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالقَاسِمِ وَسَالِمٍ وَطَاوُسٍ وَالْحَسَنِ وَعِكْرِمَةَ وَعَطَاءٍ وَعَامِرِ بْنِ سَعْدٍ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَنَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ وَمُجَاهِدٍ وَالْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَعَمْرِو بْنِ هَرِمٍ وَالشَّعْبِيِّ أَنَّهَا لاَ تَطْلُقُ"
قوله: "باب لا طلاق قبل نكاح، وقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمْ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} سقط من رواية أبي ذر "لا طلاق قبل نكاح" وثبت عنده {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} فساق من الآية إلى قوله: {مِنْ عِدَّةٍ} وحذف الباقي وقال: الآية. واقتصر النسفي على قوله: "باب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} الآية" قال ابن التين: احتجاج البخاري بهذه الآية على عدم الوقوع لا دلالة فيه. وقال ابن المنير: ليس فيها دليل لأنها إخبار عن صورة وقع فيها الطلاق بعد النكاح، ولا حصر هناك، وليس في السياق ما يقتضيه. قلت: المحتج بالآية لذلك قبل البخاري ترجمان القرآن عبد الله بن عباس كما سأذكره. قوله: "وقال ابن عباس جعل الله الطلاق بعد النكاح" هذا التعليق طرف من أثر أخرجه أحمد فيما رواه عنه حرب من مسائله من طريق قتادة عن عكرمة عنه وقال: سنده جيد. وأخرج الحاكم من طريق يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس قال: ما قالها ابن مسعود وإن يكن قالها فزلة من عالم في الرجل يقول إذا تزوجت فلانة فهي طالق، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} ولم يقل إذا طلقتم المؤمنات ثم نكحتموهن؛ وروى ابن خزيمة والبيهقي من طريقه من وجه آخر عن سعيد بن جبير "سئل ابن عباس عن الرجل يقول: إذا تزوجت فلانة فهي طالق، قال: ليس بشيء، إنما الطلاق لما ملك. قالوا فابن مسعود قال إذا وقت وقتا فهو كما قال، قال: يرحم الله أبا عبد الرحمن لو كان كما قال لقال الله إذا طلقتم المؤمنات ثم نكحتموهن" وروى عبد الرزاق عن الثوري عن عبد الأعلى عن سعيد بن جبير "عن ابن عباس قال سأله مروان عن نسيب له وقت امرأة إن أتزوجها فهي طالق، فقال ابن عباس: لا طلاق حتى تنكح، ولا عتق حتى تملك" وأخرج ابن أبي حاتم من طريق آدم مولى خالد عن سعيد بن جبير "عن ابن عباس فيمن قال كل امرأة أتزوجها فهي طالق: ليس بشيء، من أجل أن الله يقول يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات الآية" وأخرجه ابن أبي شيبة من هذا الوجه بنحوه، ورويناه مرفوعا في "فوائد أبي إسحاق بن أبي ثابت" بسنده إلى أبي أمية أيوب بن سليمان قال: حججت سنة ثلاث عشرة ومائة فدخلت على عطاء فسئل عن رجل عرضت عليه امرأة ليتزوجها فقال: هي يوم أتزوجها طالق البتة قال لا طلاق فيما لا يملك عقدته يؤثر ذلك عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفي إسناده من لا يعرف. قوله: "وروى في ذلك عن علي وسعيد بن المسيب وعروة

(9/381)


بن الزبير وأبي بكر بن عبد الرحمن وعبيد الله ابن عبد الله بن عتبة وأبان بن عثمان وعلي بن حسين وشريح وسعيد بن جبير والقاسم وسالم وطاوس والحسن وعكرمة وعطاء وعامر بن سعد وجابر بن زيد ونافع بن جبير ومحمد بن كعب وسليمان بن يسار ومجاهد والقاسم بن عبد الرحمن وعمرو بن هرم والشعبي أنها لا تطلق" قلت: اقتصر البخاري في هذا الباب على الآثار التي ساقها فيه ولم يذكر فيه خبرا مرفوعا صريحا، رمزا منه إلى ما سأبينه في ضمنها من ذلك، فأما الأثر عن علي في ذلك فرواه عبد الرزاق من طريق الحسن البصري قال: "سأل رجل عليا قال: قلت إن تزوجت فلانة فهي طالق، فقال علي: ليس بشيء" ورجاله ثقات إلا أن الحسن لم يسمع من على. وأخرجه البيهقي من وجه آخر عن الحسن عن علي، ومن طريق النزال بن سبرة عن علي، وقد روى مرفوعا أيضا أخرجه البيهقي وأبو داود من طريق سعيد بن عبد الرحمن بن رقيش أنه سمع خاله عبد الله بن أبي أحمد بن جحش يقول: "قال علي بن أبي طالب: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا طلاق إلا من بعد نكاح، ولا يتم بعد احتلام" الحديث لفظ البيهقي، ورواية أبي داود مختصرة. وأخرجه سعيد بن منصور من وجه آخر عن علي مطولا، وأخرجه ابن ماجه مختصرا وفي سنده ضعف، وأما سعيد بن المسيب فرواه عبد الرزاق عن ابن جريج" أخبرني عبد الكريم الجزري أنه سأل سعيد بن المسيب سعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح عن طلاق الرجل ما لم ينكح، فكلهم قال: لا طلاق قبل أن ينكح إن سماها وان لم يسمها" وإسناده صحيح. وروى سعيد بن منصور من طريق داود بن أبي هند "عن سعيد بن المسيب قال: لا طلاق قبل نكاح" وسنده صحيح أيضا، ويأتي له طريق أخرى مع مجاهد. وقال سعيد بن منصور حدثنا هشيم حدثنا محمد بن خالد قال: "جاء رجل إلى سعيد بن المسيب فقال: ما تقول في رجل قال إن تزوجت فلانة فهي طالق، فقال له سعيد: كم أصدقها؟ قال له الرجل، لم يتزوجها بعد فكيف يصدقها؟ فقال له سعيد: فكيف يطلق من لم يتزوج" ؟ وأما عروة بن الزبير فقال سعيد بن منصور حدثنا حماد بن زيد "عن هشام بن عروة أن أباه كان يقول: كل طلاق أو عتق قبل الملك فهو باطل" وهذا سند صحيح. وأما أبو بكر بن عبد الرحمن وعبيد الله بن عبد الله فجاء في أثر واحد مجموعا عن سعيد بن المسيب والثلاثة المذكورين بعده وزيادة أبي سلمة بن عبد الرحمن، فرواه يعقوب بن سفيان والبيهقي من طريقه من رواية يزيد بن الهاد "عن المنذر بن علي بن أبي الحكم أن ابن أخيه خطب بنت عمه فتشاجروا في بعض الأمر. فقال الفتى: هي طالق إن نكحتها حتى آكل الغضيض، قال: والغضيض طلع النخل الذكر، ثم ندموا على ما كان من الأمر، فقال المنذر: أنا آتيكم بالبيان من ذلك فانطلق إلى سعيد بن المسيب فذكر له فقال ابن المسيب: ليس عليه شيء، طلق ما لم يملك. قال ثم إني سألت عروة بن الزبير فقال مثل ذلك. ثم سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن فقال مثل ذلك. ثم سألت أبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام فقال مثل ذلك. ثم سألت عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود فقال مثل ذلك. ثم سألت عمر بن عبد العزيز فقال: هل سألت أحدا؟ قلت نعم، فسماهم، قال: ثم رجعت إلى القوم فأخبرتهم" وقد روى عن عروة مرفوعا فذكر الترمذي في "العلل" أنه سأل البخاري: أي حديث في الباب أصح؟ فقال: حديث عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده، وحديث هشام بن سعد عن الزهري عن عروة عن عائشة. قلت: إن البشر بن السري وغيره قالوا عن هشام بن سعد عن الزهري عن عروة مرسلا، قال: فإن حماد بن خالد رواه عن هشام بن سعد فوصله. قلت: أخرجه ابن أبي شيبة عن حماد بن خالد كذلك، وخالفهم علي بن الحسين بن واقد

(9/382)


فرواه عن هشام بن سعد عن الزهري عن عروة عن المسور بن مخرمة مرفوعا أخرجه ابن ماجه وابن خزيمة في صحيحه، لكن هشام بن سعد أخرجا له في المتابعات ففيه ضعف، وقد ذكر ابن عدي هذا الحديث في مناكيره، وله طريق أخرى عن عروة عن عائشة أخرجه الدار قطني من طريق معمر بن بكار السعدي عن إبراهيم بن سعد عن الزهري فذكره بلفظ: "أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا سفيان على نجران" فذكر قصة وفي آخره: "فكان فيها عهد إلى أبي سفيان أوصاه بتقوى الله وقال: لا يطلقن رجل ما لم ينكح، ولا يعتق ما لم يملك، ولا نذر في معصية الله" ومعمر ليس بالحافظ. وأخرجه الدار قطني أيضا من رواية الوليد بن سلمة الأردني عن يونس عن الزهري. والوليد واه، ولما أورد الترمذي في الجامع حديث عمرو بن شعيب قال: ليس بصحيح. وفي الباب عن علي ومعاذ وجابر وابن عباس وعائشة. وقد ذكرت أثناء الكلام على تخريج أقوال من علق عنهم البخاري في هذا الباب روايات هؤلاء المرفوعة. وفات الترمذي أنه ورد من حديث المسور بن مخرمة وعائشة كما تقدم، ومن حديث عبد الله بن عمر؛ ومن حديث أبي ثعلبة الخشني، فحديث ابن عمر يأتي ذكره في أثر سعيد بن جبير، وحديث أبي ثعلبة أخرجه الدار قطني بسند شامي فيه بقية بن الوليد وقد عنعنه وأظن فيه إرسالا أيضا، وأما أبان ابن عثمان فلم أقف إلى الآن على الإسناد إليه بذلك، وأما علي بن الحسن فرويناه في "الغيلانيات" من طريق شعبة عن الحكم هو ابن عتيبة "سمعت علي بن الحسن يقول: لا طلاق إلا بعد نكاح" وكذا أخرجه ابن أبي شيبة عن غندر عن شعبة، وروينا في "فوائد عبد الله بن أيوب المخرمي" من طريق أبي إسحاق السبيعي عن علي ابن الحسين مثله وكلا السندين صحيح، وله طريق أخرى عنه تأتي مع سعيد بن جبير، ورواه سعيد بن منصور عن حماد بن شعيب عن حبيب بن أبي ثابت قال: "جاء رجل إلى علي بن الحسين فقال: إني قلت يوم أتزوج فلانة فهي طلاق، فقرأ هذه الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} قال علي بن الحسين: لا أرى الطلاق إلا بعد نكاح". وأما شريح فرواه سعيد بن منصور وابن أبي شيبة من طريق سعيد بن جبير عنه قال: "لا طلاق قبل نكاح" وسنده صحيح ولفظ ابن أبي شيبة عن رجل قال يوم أتزوج فلانة فهي طالق ثلاثا". وأما سعيد بن جبير فرواه أبو بكر بن أبي شيبة عن عبد الله بن نمير عن عبد الملك بن أبي سليمان عن سعيد بن جبير "في الرجل يقول يوم أتزوج فلانة فهي طلاق، قال: ليس بشيء، إنما الطلاق بعد النكاح" وسنده صحيح. وله طريق أخرى تأتي مع مجاهد. وقال سعيد بن منصور حدثنا سفيان عن سليمان بن أبي المغيرة "سألت سعيد بن جبير وعلي بن حسين عن الطلاق قبل النكاح فلم يرياه شيئا" وقد روى مرفوعا أخرجه الدار قطني من طريق أبي هاشم الرماني عن سعيد بن جبير "عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن رجل قال يوم أتزوج فلانة فهي طالق، فقال: طلق ما لا يملك" وفي سنده أبو خالد الواسطي، وهو واه. ولحديث ابن عمر طريق أخرى أخرجها ابن عدي من رواية عاصم بن هلال "عن أيوب عن نافع عن ابن عمر رفعه لا طلاق إلا بعد نكاح" قال ابن عدي قال ابن صاعد لما حدث به: لا أعلم له علة. قلت: استنكروه على ابن صاعد ولا ذنب له فيه وإنما علته ضعف حفظ عاصم. وأما القاسم وهو ابن محمد بن أبي بكر الصديق وسالم وهو ابن عبد الله بن عمر فرواه أبو عبيد في كتاب النكاح له عن هشيم ويزيد بن هارون كلاهما عن يحيى بن سعيد قال: "كان القاسم بن محمد وسالم بن عبد الله وعمر بن عبد العزيز لا يرون الطلاق قبل النكاح" وهذا إسناد صحيح أيضا. وأخرجه ابن أبي شيبة من وجه آخر عن سالم والقاسم

(9/383)


وقوعه في المعينة. وقال ابن أبي شيبة حدثنا حفص هو ابن غياث عن حنظلة قال: "سئل القاسم وسالم عن رجل قال: يوم أتزوج فلانة فهي طالق، قالا: هي كما قال: "وعن أبي أسامة" عن عمر بن حمزة أنه سأل سالما والقاسم وأبا بكر بن عبد الرحمن وأبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وعبد الله بن عبد الرحمن عن رجل قال: يوم أتزوج فلانة فهي طالق البتة، فقال كلهم: لا يتزوجها" وهو محمول على الكراهة دون التحريم، لما أخرجه إسماعيل القاضي في "أحكام القرآن" من طريق جرير بن حازم عن يحيى بن سعيد أن القاسم سئل عن ذلك فكرهه، فهذا طريق التوفيق بين ما نقل عنه من ذلك. وأما طاوس فأخرجه عبد الرزاق عن معمر قال: "كتب الوليد بن يزيد إلى أمراء الأمصار أن يكتبوا إليه بالطلاق قبل النكاح وكان قد ابتلى بذلك، فكتب إلى عامله باليمن فدعا ابن طاوس وإسماعيل بن شروس وسماك بن الفضل فأخبرهم ابن طاوس عن أبيه وإسماعيل بن شروس عن عطاء وسماك بن الفضل عن وهب بن منبه أنهم قالوا: لا طلاق قبل النكاح. قال سماك من عنده: إنما النكاح عقدة تعقد والطلاق يحلها، فكيف يحل عقدة قبل أن تعقد" وأخرجه سعيد بن منصور من طريق خصيف وابن أبي شيبة من طريق الليث بن أبي سليم كلاهما عن عطاء وطاوس جميعا، وقد روى مرفوعا، قال عبد الرزاق عن الثوري عن ابن المنكدر عمن سمع طاوسا يحدث "عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا طلاق لمن لم ينكح" وكذا أخرجه ابن أبي شيبة عن وكيع عن الثوري، وهذا مرسل وفيه راو لم يسم، وقيل فيه عن طاوس عن ابن عباس أخرجه الدار قطني وابن عدي بسندين ضعيفين عن طاوس، وأخرجه الحاكم والبيهقي من طريق ابن جريج" عن عمرو بن شعيب عن طاوس عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا طلاق إلا بعد نكاح، ولا عتق إلا بعد ملك" ورجاله ثقات إلا أنه منقطع بين طاوس ومعاذ، وقد اختلف فيه على عمرو بن شعيب فرواه عامر الأحول ومطر الوراق وعبد الرحمن بن الحارث وحسين المعلم كلهم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده والأربعة ثقات وأحاديثهم في السنن، ومن ثم صححه من يقوى حديث عمرو بن شعيب وهو قوي لكن فيه علة الاختلاف، وقد أختلف عليه فيه اختلافا أخر فأخرج سعيد بن منصور من وجه آخر" عن عمرو ابن شعيب أنه سئل عن ذلك فقال: كان أبي عرض على امرأة يزوجنيها، فأبيت أن أتزوجها وقلت: هي طالق البتة يوم أتزوجها، ثم ندمت، فقدمت المدينة فسألت سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير فقالا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا طلاق إلا بعد نكاح" وهذا يشعر بأن من قال فيه عن أبيه عن جده سلك الجادة، وإلا فلو كان عنده عن أبيه عن جده لما احتاج أن يرحل فيه إلى المدينة ويكتفي فيه بحديث مرسل، وقد تقدم أن الترمذي حكى عن البخاري أن حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أصح شيء في الباب، وكذلك نقل ما هنا عن الإمام أحمد فالله أعلم. وأما الحسن فقال عبد الرزاق "عن معمر عن الحسن وقتادة قالا: لا طلاق قبل النكاح، ولا عتق قبل الملك" وعن هشام عن الحسن مثله. وأخرج ابن منصور عن هشيم عن منصور ويونس "عن الحسن أنه كان يقول: لا طلاق إلا بعد الملك" وقال ابن أبي شيبة حدثنا خلف بن خليفة "سألت منصورا عمن قال يوم أتزوجها فهي طالق فقال: كان الحسن لا يراه طلاقا" وأما عكرمة فرواه أبو بكر الأثرم عن الفضل بن دكين عن سويد بن نجيح قال: "سألت عكرمة مولى ابن عباس قلت: رجل قالوا له تزوج فلانة قال هي يوم أتزوجها طالق كذا وكذا، قال: إنما الطلاق بعد النكاح" وأما عطاء فتقدم مع طاوس ويأتي له طريق مع مجاهد، وجاء من طريقه مرفوعا أخرجه الطبراني في "الأوسط" عن موسى بن هارون حدثنا

(9/384)


محمد بن المنهال حدثنا أبو بكر الحنفي عن ابن أبي ذئب عن عطاء "عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا طلاق إلا بعد النكاح، ولا عتق إلا بعد ملك" قال الطبراني: لم يروه عن ابن أبي ذئب إلا أبو بكر الحنفي ووكيع ولا رواه عن أبي بكر الحنفي إلا محمد بن المنهال ا هـ. وأخرجه أبو يعلى عن محمد بن المنهال أيضا وصرح فيه بتحديث عطاء من ابن أبي ذئب، ولذلك قال أيوب بن سويد عن ابن أبي ذئب "حدثنا عطاء" لكن أيوب بن سويد ضعيف. وكذا أخرجه الحاكم في "المستدرك" من طريق محمد بن سنان القزاز عن أبي بكر الحنفي وصرح فيه بتحديث عطاء لابن أبي ذئب وتحديث جابر لعطاء وفي كل من ذلك نظر، والمحفوظ فيه العنعنة، فقد أخرجه الطيالسي في مسنده عن ابن أبي ذئب عمن سمع عطاء، وكذلك رويناه في "الغيلانيات" من طريق حسين بن محمد المروزي عن ابن أبي ذئب، وكذلك أخرجه أبو قرة في السنن عن ابن أبي ذئب، ورواية وكيع التي أشار إليها الطبراني أخرجها ابن أبي شيبة عنه عن ابن أبي ذئب عن عطاء وعن محمد بن المنكدر "عن جابر قال: لا طلاق قبل نكاح" ولرواية محمد بن المنكدر عن جابر طريق أخرى أخرجها البيهقي من طريق صدقة بن عبد الله قال: "جئت محمد بن المنكدر وأنا مغضب فقلت: أنت أحللت للوليد بن يزيد أم سلمة؟ قال: ما أنا، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حدثني جابر بن عبد الله أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا طلاق لمن لا ينكح، ولا عتق لمن لا يملك" وأما عامر بن سعد فهو البجلي الكوفي من كبار التابعين، وجزم الكرماني في شرحه بأنه ابن سعد بن أبي وقاص وفيه نظر، وأما جابر بن زيد وهو أبو الشعثاء البصري فأخرجه سعيد بن منصور من طريقه وفي سنده رجل لم يسم، وأما نافع بن جبير أي ابن مطعم ومحمد بن كعب أي القرظي: فأخرجه ابن أبي شيبة عن جعفر بن عون عن أسامة بن زيد عنهما قالا لا طلاق إلا بعد نكاح، وأما سليمان بن يسار فأخرجه سعيد بن منصور عن عتاب بن بشير عن خصيف عن سليمان بن يسار أنه حلف في امرأة إن أتزوجها فهي طالق فتزوجها، فأخبر بذلك عمر بن عبد العزيز وهو أمير على المدينة، فأرسل إليه: بلغني أنك حلفت في كذا؛ قال نعم، قال: أفلا تخلي سبيلها؟ قال: لا، فتركه عمر ولم يفرق بينهما. وأما مجاهد فرواه ابن أبي شيبه من طريق الحسن بن الرماح سألت سعيد بن المسيب ومجاهدا وعطاء عن رجل قال يوم أتزوج فلانة فهي طالق، فكلهم قال ليس بشيء، زاد سعيد: أيكون سيل قبل مطر؟ وقد روي عن مجاهد خلافه أخرجه أبو عبيد عن طريق خصيف أن أمير مكة قال لامرأته كل امرأة أتزوجها فهي طالق، قال خصيف فذكرت ذلك لمجاهد وقلت له إن سعيد بن جبير قال: ليس بشيء، طلق ما لم يملك. قال: فكره ذلك مجاهد وعابه. وأما القاسم بن عبد الرحمن وهو ابن عبد الله بن مسعود فرواه ابن أبي شيبة عن وكيع عن معروف بن واصل قال سألت القاسم بن عبد الرحمن فقال: لا طلاق إلا بعد نكاح. وأما عمرو بن هرم وهو الأزدي من أتباع التابعين فلم أقف على مقالته موصولة، إلا أن في كلام بعض الشراح أن أبا عبيد أخرجه من طريقه. وأما الشعبي فرواه وكيع في مصنفه عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي قال: إن قال كل امرأة أتزوجها فهي طالق فليس بشيء، وإذا وقت لزمه، وكذلك أخرجه عبد الرزاق عن الثوري عن زكريا بن أبي زائدة وإسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي قال: إذا عمم فليس بشيء. وممن رأى وقوعه في المعينة دون التعميم - غير من تقدم - إبراهيم النخعي أخرجه ابن أبي شيبة عن وكيع عن سفيان عن منصور عنه قال: إذا وقت وقع، وبإسناده إذا قال: "كل" فليس بشيء، ومن طريق حماد بن أبي سليمان مثل قول إبراهيم، وأخرجه من طريق الأسود بن يزيد عن ابن مسعود، وإلى ذلك أشار ابن

(9/385)


عباس كما تقدم. فابن مسعود أقدم من أفتى بالوقوع، وتبعه من أخذ بمذهبه كالنخعي ثم حماد، وأما ما أخرجه ابن أبي شيبة عن القاسم أنه قال هي طالق، واحتج بأن عمر سئل عمن قال يوم أتزوج فهي علي كظهر أمي، قال: لا يتزوجها حتى يكفر فلا يصح عنه، فإنه من رواية عبد الله بن عمر العمري عن القاسم والعمري ضعيف والقاسم لم يدرك عمر، وكأن البخاري تبع أحمد في تكثير النقل عن التابعين، فقد ذكر عبد الله بن أحمد بن حنبل في "العلل" أن سفيان بن وكيع حدثه قال: احفظ عن أحمد منذ أربعين سنة أنه سئل عن الطلاق قبل النكاح فقال: يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن علي وابن عباس وعلي بن حسين وابن المسيب ونيف وعشرين من التابعين أنهم لم يروا به بأسا، قال عبد الله فسألت أبي عن ذلك فقال: أنا قلته. قلت: وقد تجوز البخاري في نسبة جميع من ذكر عنهم إلى القول بعدم الوقوع مطلقا، مع أن بعضهم يفصل وبعضهم يختلف عليه، ولعل ذلك هو النكتة في تصديره النقل عنهم بصيغة التمريض، وهذه المسألة من الخلافيات الشهيرة، وللعلماء فيها مذاهب: الوقوع مطلقا، وعدم الوقوع مطلقا، والتفصيل بين ما إذا عين أو عمم، ومنهم من توقف: فقال بعدم الوقوع الجمهور كما تقدم وهو قول الشافعي وابن مهدي وأحمد وإسحاق وداود وأتباعهم وجمهور أصحاب الحديث. وقال بالوقوع مطلقا أبو حنيفة وأصحابه. وقال بالتفصيل ربيعة والثوري والليث والأوزاعي وابن أبي ليلى ومن قبلهم ممن تقدم ذكره وهو ابن مسعود وأتباعه ومالك في المشهور عنه، وعنه عدم الوقوع مطلقا ولو عين، وعن ابن القاسم مثله، وعنه أنه توقف، كذا عن الثوري وأبي عبيد. وقال جمهور المالكية بالتفصيل، فإن سمى امرأة أو طائفة أو قبيلة أو مكانا أو زمانا يمكن أن يعيش إليه لزمه الطلاق والعتق، وجاء عن عطاء مذهب آخر مفصل بين أن يشرط ذلك في عقد نكاح امرأته أو لا، فإن شرطه لم يصح تزويج من عينها وإلا صح أخرجه ابن أبي شيبة، وتأول الزهري ومن تبعه قوله: "لا طلاق قبل نكاح" أنه محمول على من لم يتزوج أصلا، فإذا قيل له مثلا تزوج فلانة فقال هي طالق البتة لم يقع بذلك شيء وهو الذي ورد فيه الحديث وأما إذا قال إن تزوجت فلانة فهي طالق فإن الطلاق إنما يقع حين تزوجها، وما ادعاه من التأويل ترده الآثار الصريحة عن سعيد بن المسيب وغيره من مشايخ الزهري في أنهم أرادوا عدم وقوع الطلاق عمن قال إن تزوجت فهي طالق سواء خصص أم عمم أنه لا يقع، ولشهرة الاختلاف كره أحمد مطلقا وقال إن تزوج لا آمره أن يفارق، وكذا قال إسحاق في المعينة. قال البيهقي بعد أن أخرج كثيرا من الأخبار، ثم من الآثار الواردة في عدم الوقوع: هذه الآثار تدل على أن معظم الصحابة والتابعين فهموا من الأخبار أن الطلاق أو العتاق الذي علق قبل النكاح والملك لا يعمل بعد وقوعهما، وأن تأويل المخالف في حمله عدم الوقوع على ما إذا وقع قبل الملك، والوقوع فيما إذا وقع بعده، ليس بشيء. لأن كل أحد يعلم بعدم الوقوع قبل وجود عقد النكاح أو الملك فلا يبقى في الإخبار فائدة، بخلاف ما إذا حملناه على ظاهره فإن فيه فائدة وهو الإعلام بعدم الوقوع ولو بعد وجود العقد، فهذا يرجح ما ذهبنا إليه من حمل الأخبار على ظاهرها والله أعلم. وأشار البيهقي بذلك إلى ما تقدم عن الزهري وإلى ما ذكره مالك في الموطأ أن قوما بالمدينة كانوا يقولون إذا حلف الرجل بطلاق امرأة قبل أن ينكحها ثم حنث لزم إذا نكحها، حكاه ابن بطال قال: وتأولوا حديث: "لا طلاق قبل نكاح" على من يقول امرأة فلان طالق، وعورض من ألزم بذلك بالاتفاق على أن من قال لامرأة: إذا قدم فلان فأذني لوليك أن يزوجنيك، فقالت: إذا قدم فلان فقد أذنت لوليي في ذلك، أن فلانا إذا قدم لم ينعقد التزويج حتى تنشئ عقدا جديدا. وعلى

(9/386)


أن من باع سلعة لا يملكها ثم دخلت في ملكه لم يلزم ذلك البيع. ولو قال لامرأته: إن طلقتك فقد راجعتك فطلقها لا تكون مرتجعة، فكذلك الطلاق، ومما احتج به من أوقع الطلاق قوله تعالى :{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} قال: والتعليق عقد التزمه بقوله وربطه بنيته وعلقه بشرطه، فإن وجد الشرط نفذ واحتج آخر بقوله تعالى :{يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} وآخر بمشروعية الوصية، وكل ذلك لا حجة فيه لأن الطلاق ليس من العقود، والنذر يتقرب به إلى الله بخلاف الطلاق فإنه أبغض الحلال إلى الله، ومن ثم فرق أحمد بين تعليق العتق وتعليق الطلاق فأوقعه في العتق دون الطلاق، ويؤيده أن من قال: لله علي عتق لزمه، ولو قال: لله علي طلاق كان لغوا. والوصية إنما تنفذ بعد الموت. ولو علق الحي الطلاق بما بعد الموت لم ينفذ. واحتج بعضهم بصحة تعليق الطلاق؛ وأن من قال لامرأته: إن دخلت الدار فأنت طالق، فدخلت طلقت. والجواب أن الطلاق حق ملك الزوج، فله أن ينجزه ويؤجله وأن يعلقه بشرط وأن يجعله بيد غيره كما يتصرف المالك في ملكه، فإذا لم يكن زوجا فأي شيء ملك حتى يتصرف؟ وقال ابن العربي من المالكية: الأصل في الطلاق أن يكون في المنكوحة المقيدة بقيد النكاح، وهو الذي يقتضيه مطلق اللفظ، لكن الورع يقتضي التوقف عن المرأة التي يقال فيها ذلك وإن كان الأصل تجويزه وإلغاء التعليق، قال: ونظر مالك ومن قال بقوله في مسالة الفرق بين المعينة وغيرها أنه إذا عم سد على نفسه باب النكاح الذي ندب الله إليه فعارض عنده المشروع فسقط، قال: وهذا على أصل مختلف فيه وهو تخصيص الأدلة بالمصالح، وإلا فلو كان هذا لازما في الخصوص للزم في العموم والله أعلم.

(9/387)


باب إذا قال لامرأته وهو مكره : هذه أختي فلا شئ عليه
...
10- باب إِذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ وَهُوَ مُكْرَهٌ هَذِهِ أُخْتِي فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ
قال النبي صلى الله عليه وسلم: "قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِسَارَةَ هَذِهِ أُخْتِي وَذَلِكَ فِي ذَاتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ"
قوله: "باب إذا قال لامرأته وهو مكره: هذه أختي، فلا شيء عليه. قال النبي صلى الله عليه وسلم: قال إبراهيم لسارة هذه أختي، وذلك في ذات الله" قال ابن بطال: أراد بذلك رد من كره أن يقول لامرأته يا أختي، وقد روى عبد الرزاق من طريق أبي تميمة الهجيمي "مر النبي صلى الله عليه وسلم على رجل وهو يقول لامرأته. يا أخية، فزجره" قال ابن بطال: ومن ثم قال جماعة من العلماء: يصير بذلك مظاهرا إذا قصد ذلك، فأرشده النبي صلى الله عليه وسلم إلى اجتناب اللفظ المشكل. قال: وليس بين هذا الحديث وبين قصة إبراهيم معارضة، لأن إبراهيم إنما أراد بها أخته في الدين، فمن قال ذلك ونوى أخوة الدين لم يضره. قلت: حديث أبي تميمة مرسل، وقد أخرجه أبو داود من طريق مرسلة، وفي بعضها "عن أبي تميمة عن رجل من قومه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم:" وهذا متصل، وذكر أبو داود قبله حديث أبي هريرة في قصة إبراهيم وسارة، فكأنه وافق البخاري، وقد قيد البخاري بكون قائل ذلك إذا كان مكرها لم يضره وتعقبه بعض الشراح بأنه لم يقع في قصة إبراهيم إكراه، وهو كذلك لكن لا تعقب على البخاري لأنه أراد بذكر قصة إبراهيم الاستدلال على أن من قال ذلك في حالة الإكراه لا يضره قياسا على ما وقع في قصة إبراهيم، لأنه إنما قال ذلك خوفا من الملك أن يغلبه على سارة، وكان من شأنهم أن لا يقربوا الخلية إلا بخطبة ورضا، بخلاف المتزوجة فكانوا يغتصبونها من زوجها إذا أحبوا ذلك كما تقدم تقريره في الكلام على الحديث في المناقب، فلخوف إبراهيم على سارة قال إنها أخته وتأول أخوة الدين، والله أعلم. "تنبيه": أورد النسفي في هذا الباب جميع ما في الترجمة

(9/387)


التي بعده، وعكس ذلك أبو نعيم في المستخرج" والله أعلم.

(9/388)


11- باب الطَّلاَقِ فِي الإِغْلاَقِ وَالْكُرْهِ وَالسَّكْرَانِ وَالْمَجْنُونِ وَأَمْرِهِمَا وَالْغَلَطِ وَالنِّسْيَانِ فِي الطَّلاَقِ وَالشِّرْكِ وَغَيْرِهِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "الأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى" وَتَلاَ الشَّعْبِيُّ {لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} وَمَا لاَ يَجُوزُ مِنْ إِقْرَارِ الْمُوَسْوِسِ وَقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لِلَّذِي أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ أَبِكَ جُنُونٌ وَقَالَ عَلِيٌّ بَقَرَ حَمْزَةُ خَوَاصِرَ شَارِفَيَّ فَطَفِقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلُومُ حَمْزَةَ فَإِذَا حَمْزَةُ قَدْ ثَمِلَ مُحْمَرَّةٌ عَيْنَاهُ ثُمَّ قَالَ حَمْزَةُ هَلْ أَنْتُمْ إِلاَّ عَبِيدٌ لِأَبِي فَعَرَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَدْ ثَمِلَ فَخَرَجَ وَخَرَجْنَا مَعَهُ وَقَالَ عُثْمَانُ لَيْسَ لِمَجْنُونٍ وَلاَ لِسَكْرَانَ طَلاَقٌ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ طَلاَقُ السَّكْرَانِ وَالْمُسْتَكْرَهِ لَيْسَ بِجَائِزٍ وَقَالَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ لاَ يَجُوزُ طَلاَقُ الْمُوَسْوِسِ وَقَالَ عَطَاءٌ إِذَا بَدَا بِالطَّلاَقِ فَلَهُ شَرْطُهُ وَقَالَ نَافِعٌ طَلَّقَ رَجُلٌ امْرَأَتَهُ الْبَتَّةَ إِنْ خَرَجَتْ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ إِنْ خَرَجَتْ فَقَدْ بُتَّتْ مِنْهُ وَإِنْ لَمْ تَخْرُجْ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ وَقَالَ الزُّهْرِيُّ فِيمَنْ قَالَ إِنْ لَمْ أَفْعَلْ كَذَا وَكَذَا فَامْرَأَتِي طَالِقٌ ثَلاَثًا يُسْأَلُ عَمَّا قَالَ وَعَقَدَ عَلَيْهِ قَلْبُهُ حِينَ حَلَفَ بِتِلْكَ الْيَمِينِ فَإِنْ سَمَّى أَجَلًا أَرَادَهُ وَعَقَدَ عَلَيْهِ قَلْبُهُ حِينَ حَلَفَ جُعِلَ ذَلِكَ فِي دِينِهِ وَأَمَانَتِهِ وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ إِنْ قَالَ لاَ حَاجَةَ لِي فِيكِ نِيَّتُهُ وَطَلاَقُ كُلِّ قَوْمٍ بِلِسَانهِمْ وَقَالَ قَتَادَةُ إِذَا قَالَ إِذَا حَمَلْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلاَثًا يَغْشَاهَا عِنْدَ كُلِّ طُهْرٍ مَرَّةً فَإِنْ اسْتَبَانَ حَمْلُهَا فَقَدْ بَانَتْ مِنْهُ وَقَالَ الْحَسَنُ إِذَا قَالَ الْحَقِي بِأَهْلِكِ نِيَّتُهُ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ الطَّلاَقُ عَنْ وَطَرٍ وَالْعَتَاقُ مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ وَقَالَ الزُّهْرِيُّ إِنْ قَالَ مَا أَنْتِ بِامْرَأَتِي نِيَّتُهُ وَإِنْ نَوَى طَلاَقًا فَهُوَ مَا نَوَى وَقَالَ عَلِيٌّ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الْقَلَمَ رُفِعَ عَنْ ثَلاَثَةٍ عَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ وَعَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يُدْرِكَ وَعَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ وَقَالَ عَلِيٌّ وَكُلُّ الطَّلاَقِ جَائِزٌ إِلاَّ طَلاَقَ الْمَعْتُوهِ"
5269- حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَعْمَلْ أَوْ تَتَكَلَّمْ قَالَ قَتَادَةُ إِذَا طَلَّقَ فِي نَفْسِهِ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ"
5270- حدثنا أصبغ أخبرنا بن وهب عن يونس عن بن شهاب قال أخبرني أبو سلمة عن جابر أن رجلا من أسلم أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد فقال إنه قد زنى فأعرض عنه فتنحى لشقه الذي أعرض فشهد على نفسه أربع شهادات فدعاه فقال "هل بك جنون، هل أحصنت؟ قال نعم فأمر به أن يرجم بالمصلى فلما أذلقته الحجارة جمز حتى أدرك بالحرة فقتل"
[الحديث 5270- أطرافه في: 5272، 6814، 6816، 6820، 6826، 7168]

(9/388)


5271- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ أَتَى رَجُلٌ مِنْ أَسْلَمَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ فَنَادَاهُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ الأَخِرَ قَدْ زَنَى يَعْنِي نَفْسَهُ فَأَعْرَضَ عَنْهُ فَتَنَحَّى لِشِقِّ وَجْهِهِ الَّذِي أَعْرَضَ قِبَلَهُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ الأَخِرَ قَدْ زَنَى فَأَعْرَضَ عَنْهُ فَتَنَحَّى لِشِقِّ وَجْهِهِ الَّذِي أَعْرَضَ قِبَلَهُ فَقَالَ لَهُ ذَلِكَ فَأَعْرَضَ عَنْهُ فَتَنَحَّى لَهُ الرَّابِعَةَ فَلَمَّا شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ دَعَاهُ فَقَالَ هَلْ بِكَ جُنُونٌ قَالَ لاَ، فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اذْهَبُوا بِهِ فَارْجُمُوهُ وَكَانَ قَدْ أُحْصِنَ"
[الحديث 5271- أطرافه في: 6815، 6825، 7167]
5272- وَعَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي مَنْ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيَّ قَالَ كُنْتُ فِيمَنْ رَجَمَهُ فَرَجَمْنَاهُ بِالْمُصَلَّى بِالْمَدِينَةِ فَلَمَّا أَذْلَقَتْهُ الْحِجَارَةُ جَمَزَ حَتَّى أَدْرَكْنَاهُ بِالْحَرَّةِ فَرَجَمْنَاهُ حَتَّى مَاتَ"
قوله: "باب الطلاق في الإغلاق والكره والسكران والمجنون وأمرهما، والغلط والنسيان في الطلاق، والشرك وغيره لقول النبي صلى الله عليه وسلم: الأعمال بالنية ولكل امرئ ما نوى" اشتملت هذه الترجمة على أحكام يجمعها أن الحكم إنما يتوجه على العاقل المختار العامد الذاكر، وشمل ذلك الاستدلال بالحديث لأن غير العاقل المختار لا نية له فيما يقول أو يفعل، وكذلك الغالط والناسي والذي يكره على الشيء. وحديث الأعمال بهذا اللفظ وصله المؤلف في كتاب الإيمان أول الكتاب، ووصله بألفاظ أخرى في أماكن أخرى، وتقدم شرحه مستوفي هناك. وقوله الإغلاق هو بكسر الهمزة وسكون المعجمة الإكراه على المشهور، قيل له ذلك لأن المكره يتغلق عليه أمره ويتضيق عليه تصرفه، وقيل هو العمل في الغضب، وبالأول جزم أبو عبيد وجماعة، وإلى الثاني أشار أبو داود فإنه أخرج حديث عائشة "لا طلاق ولا إعتاق في غلاق" قال أبو داود: والغلاق أظنه الغضب، وترجم على الحديث: "الطلاق على غيظ" ووقع عنده بغير ألف في أوله، وحكى البيهقي أنه روى على الوجهين، ووقع عند ابن ماجه في هذا الحديث الإغلاق بالألف وترجم عليه "طلاق المكره" فإن كانت الرواية بغير أنف هي الراجحة فهو غير الإغلاق، قال المطرزي: قولهم إياك والغلق أي الضجر والغضب، ورد الفارسي في "مجمع الغرائب" على من قال الإغلاق الغضب وغلطه في ذلك وقال: إن طلاق الناس غالبا إنما هو في حال الغضب. وقال ابن المرابط: الإغلاق حرج النفس، وليس كل من وقع له فارق عقله، ولو جاز عدم وقوع طلاق الغضبان لكان لكل أحد أن يقول فيما جناه: كنت غضبانا ا هـ. وأراد بذلك الرد على من ذهب إلى أن الطلاق في الغضب لا يقع، وهو مروي عن بعض متأخري الحنابلة ولم يوجد عن أحد من متقدميهم إلا ما أشار إليه أبو داود، وأما قوله في "المطالع" الإغلاق الإكراه وهو من أغلقت الباب، وقيل الغضب وإليه ذهب أهل العراق، فليس بمعروف عن الحنفية، وعرف بعلة الاختلاف المطلق إطلاق أهل العراق على الحنفية، وإذا أطلقه الفقيه الشافعي فمراده مقابل المراوزة منهم. ثم قال: وقيل معناه النهي عن إيقاع الطلاق البدعي مطلقا، والمراد النفي عن فعله لا النفي لحكمه، كأنه يقول بل يطلق للسنة كما أمره الله. وقول البخاري "والكره" هو في النسخ بضم الكاف وسكون الراء، وفي عطفه

(9/389)


على الإغلاق نظر، إلا إن كان يذهب إلى أن الإغلاق الغضب، ويحتمل أن يكون قبل الكاف ميم لأنه عطف عليه السكران فيكون التقدير باب حكم الطلاق في الإغلاق وحكم المكره والسكران والمجنون إلخ. وقد اختلف السلف في طلاق المكره، فروى ابن أبي شيبه وغيره عن إبراهيم النخعي أنه يقع، قال لأنه شيء افتدى به نفسه، وبه قال أهل الرأي، وعن إبراهيم النخعي تفصيل آخر إن ورى المكره لم يقع وإلا وقع. وقال الشعبي: إن أكرهه اللصوص وقع وإن أكرهه السلطان فلا أخرجه ابن أبي شيبة، ووجه بأن اللصوص من شأنهم أن يقتلوا من يخالفهم غالبا بخلاف السلطان. وذهب الجمهور إلى عدم اعتبار ما يقع فيه، واحتج عطاء بآية النحل {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ} قال عطاء: الشرك أعظم من الطلاق، أخرجه سعيد بن منصور بسند صحيح، وقرره الشافعي بأن الله لما وضع الكفر عمن تلفظ به حال الإكراه وأسقط عنه أحكام الكفر فكذلك يسقط عن المكره ما دون الكفر لأن الأعظم إذا سقط سقط ما هو دونه بطريق الأولى، وإلى هذه النكتة أشار البخاري بعطف الشرك على الطلاق في الترجمة. وأما قوله: "والسكران" فسيأتي ذكر حكمه في الكلام على أثر عثمان في هذا الباب، وقد يأتي السكران في كلامه وفعله بما لا يأتي به وهو صاح لقوله تعالى :{حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} فإن فيها دلالة على أن من علم ما يقول لا يكون سكرانا، وأما المجنون فسيأتي في أثر علي مع عمر، وقوله: "وأمرهما" فمعناه هل حكمهما واحد أو يختلف؟ وقوله: "والغلط والنسيان في الطلاق والشرك وغيره:" أي إذا وقع من المكلف ما يقتضي الشرك غلطا أو نسيانا هل يحكم عليه به وإذا كان لا يحكم عليه به فليكن الطلاق كذلك، وقوله: "وغيره:" أي وغير الشرك مما هو دونه، وذكر شيخنا ابن الملقن أنه لا بعض النسخ "والشك" بدل الشرك، قال: وهو الصواب، وتبعه الزركشي لكن قال: وهو أليق، وكأن مناسبة لفظ الشرك خفيت عليهما، ولم أره في شيء من النسخ التي وقفت عليها بلفظ الشك، فإن ثبتت فتكون معطوفة على النسيان لا على الطلاق. ثم رأيت سلف شيخنا وهو قول ابن بطال وقع في كثير من النسخ "والنسيان في الطلاق والشرك" وهو خطأ والصواب "والشك" مكان الشرك ا هـ، ففهم شيخنا من قوله في كثير من النسخ أن في بعضها للفظ الشك فجزم بذلك. واختلف السلف في طلاق الناسي فكان الحسن سراه كالعمد إلا إن اشترط فقال إلا أن أنسى أخرجه ابن أبي شيبة. وأخرج ابن أبي شيبة أيضا عن عطاء أنه كان لا يراه شيئا ويحتج بالحديث المرفوع الآتي كما سأقرره بعد وهو قول الجمهور، وكذلك اختلف في طلاق المخطئ فذهب الجمهور إلى أنه لا يقع، وعن الحنفية ممن أراد أن يقول لامرأته شيئا فسبقه لسانه فقال أنت طالق يلزمه الطلاق، وأشار البخاري بقوله: "الغلط والنسيان" إلى الحديث الوارد عن ابن عباس مرفوعا: "إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" فإنه سوى بين الثلاثة في التجاوز، فمن حمل التجاوز على رفع الإثم خاصة دون الوقوع في الإكراه لزم أن قول مثل ذلك في النسيان، والحديث قد أخرجه ابن ماجة وصححه ابن حبان. واختلف أيضا في طلاق المشرك فجاء عن الحسن وقتادة وربيعة أنه لا يقع، ونسب إلى مالك وداود. وذهب الجمهور إلى أنه يقع كما يصح نكاحه وعتقه وغير ذلك من أحكامه. قوله: "وتلا الشعبي: لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا" ورويناه موصولا في "فوائد هناد بن السري الصغير" من رواية سليم مولى الشعبي عنه بمعناه. قوله: "وما لا يجوز من إقرار الموسوس" بمهملتين والواو الأولى مفتوحة والثانية مكسورة. قوله: "وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "للذي أقر على نفسه: أبك جنون" ؟ هو طرف من حديث ذكره المصنف في هذا الباب بلفظ:

(9/390)


"هل بك جنون" وأورده في الحدود، ويأتي شرحه هناك مستوفى إن شاء الله تعالى. ووقع في بعض طرقه ذكر السكر. قوله: "وقال علي: بقر حمزة خواصر شارفي" الحديث هو طرف من الحديث الطويل في قصة الشارفين وقد تقدم شرحه مستوفى في غزوة بدر من كتاب المغازي. و "بقر" بفتح الموحدة وتخفيف القاف أي شق، والخواصر بمعجمة ثم مهملة جمع خاصرة، وقوله في آخره: "إنه ثمل" بفتح المثلثة وكسر الميم بعدها لأم أي سكران، وهو من أقوى أدلة من لم يؤاخذ السكران بما يقع منه في حال سكره من طلاق وغيره، واعترض المهلب بأن الخمر حينئذ كانت مباحة، قال: فبذلك سقط عنه حكم ما نطق به في تلك الحال، قال: وبسبب هذه القصة كان تحريم الخمر ا هـ. وفيما قاله نظر، أما أولا فإن الاحتجاج من هذه القصة إنما هو بعد مؤاخذة السكران بما يصدر منه، ولا يفترق الحال بين أن يكون الشرب مباحا أو لا، وأما ثانيا فدعواه أن تحريم الخمر كان بسبب قصة الشارفين ليس بصحيح، فإن قصة الشارفين كانت قبل أحد اتفاقا لأن حمزة استشهد بأحد وكان ذلك بين بدر وأحد عند تزويج علي بفاطمة وقد ثبت في الصحيح أن جماعة اصطبحوا الخمر يوم أحد واستشهدوا ذلك اليوم، فكان تحريم الخمر بعد أحد لهذا الحديث الصحيح. قوله: "وقال عثمان: ليس لمجنون ولا لسكران طلاق" وصله ابن أبي شيبة عن شبابة، ورويناه في الجزء الرابع من "تاريخ أبي زرعة الدمشقي" عن آدم بن أبي إياس كلاهما عن ابن أبي ذئب عن الزهري قال: "قال رجل لعمر بن عبد العزيز: طلقت امرأتي وأنا سكران، فكان رأي عمر بن عبد العزيز مع رأينا أن يجلده ويفرق بينه وبين امرأته، حتى حدثه أبان بن عثمان بن عفان عن أبيه أنه قال: ليس على المجنون ولا على السكران طلاق، قال عمر: تأمرونني وهذا يحدثني عن عثمان؟ فجلده، ورد إليه امرأته" وذكر البخاري أثر عثمان ثم ابن عباس استظهارا لما دل عليه حديث علي في قصة حمزة، وذهب إلى عدم وقوع طلاق السكران أيضا أبو الشعثاء وعطاء وطاوس وعكرمة والقاسم وعمر بن عبد العزيز، ذكره ابن أبي شيبة عنهم بأسانيد صحيحه، وبه قال ربيعة والليث وإسحاق والمزني، واختاره الطحاوي واحتج بأنهم أجمعوا على أن طلاق المعتوه لا يقع قال: والسكران معتوه بسكره. وقال بوقوعه طائفة من التابعين كسعيد بن المسيب والحسن وإبراهيم والزهري والشعبي، وبه قال الأوزاعي والثوري ومالك وأبو حنيفة، وعن الشافعي قولان: المصحح منهما وقوعه، والخلاف عند الحنابلة لكن الترجيح بالعكس. وقال ابن المرابط: إذا تيقنا ذهاب عقل السكران. لم يلزمه طلاق، وإلا لزمه. وقد جعل الله حد السكر الذي تبطل به الصلاة أن لا يعلم ما يقول، وهذا التفصيل لا يأباه من يقول بعدم طلاقه، وإنما استدل من قال بوقوعه مطلقا بأنه عاص بفعله لم يزل عنه الخطاب بذلك، ولا الإثم لأنه يؤمر بقضاء الصلوات وغيرها مما وجب عليه قبل وقوعه في السكر أو فيه، وأجاب الطحاوي بأنه لا تختلف أحكام فاقد العقل بين أن يكون ذهاب عقله بسبب من جهته أو من جهة غيره، إذ لا فرق بين من عجز عن القيام في الصلاة بسبب من قبل الله أو من قبل نفسه كمن كسر رجل نفسه فإنه يسقط عنه فرض القيام، وتعقب بأن القيام انتقل إلى بدل وهو القعود فافترقا. وأجاب ابن المنذر عن الاحتجاج بقضاء الصلوات بأن النائم يجب عليه قضاء الصلاة ولا يقع طلاقه فافترقا. وقال ابن بطال: الأصل في السكران العقل، والسكر شيء طرأ على عقله، فمهما وقع منه من كلام مفهوم فهو محمول على الأصل حتى يثبت ذهاب عقله. قوله: "وقال ابن عباس: طلاق السكران والمستكره ليس بجائز" وصله ابن أبي شيبة وسعيد بن منصور جميعا عن هشيم عن عبد الله بن طلحة الخزاعي عن أبي يزيد المزني عن

(9/391)


عكرمة عن ابن عباس قال: "ليس لسكران ولا لمضطهد طلاق" المضطهد: بضاد معجمة ساكنة ثم طاء مهملة مفتوحة ثم هاء ثم مهملة هو المغلوب المقهور، وقوله: "ليس بجائز" أي بواقع، إذ لا عقل للسكران المغلوب على عقله ولا اختيار للمستكره. قوله: "وقال عقبة بن عامر: لا يجوز طلاق الموسوس" أي لا يقع، لأن الوسوسة حديث النفس، ولا مؤاخذة بما يقع في النفس كما سيأتي. قوله: "وقال عطاء: إذا بدأ بالطلاق فله شرطه" تقدم مشروحا في "باب الشروط في الطلاق" وتقدم عن عطاء وسعيد بن المسيب والحسن، وبينت من وصله عنهم ومن خالف في ذلك. قوله: "وقال نافع: طلق رجل امرأته البتة إن خرجت، فقال ابن عمر: إن خرجت فقد بتت منه، وإن لم تخرج فليس بشيء" أما قوله: "البتة" فإنه بالنصب على المصدر. قال الكرماني هنا قال النحاة: قطع همزة البتة بمعزل عن القياس ا هـ، وفي دعوى أنها يقال بالقطع نظر فإن ألف البتة ألف وصل قطعا، والذي قاله أهل اللغة البتة القطع وهو تفسيرها بمرادفها لا أن المراد أنها تقال بالقطع، وأما قوله: "بتت" فبضم الموحدة وتشديد المثناة المفتوحة على البناء للمجهول، ومناسبة ذكر هذا هنا - وإن كانت المسائل المتعلقة بالبتة تقدمت - موافقة ابن عمر للجمهور في أن لا فرق في الشرط بين أن يتقدم أو يتأخر، وبهذا تظهر مناسبة أثر عطاء وكذا ما بعد هذا. وقد أخرج سعيد بن منصور من وجه صحيح عن ابن عمر أنه قال: "في الخلية والبتة ثلاث ثلاث". قوله: "وقال الزهري فيمن قال إن لم أفعل كذا وكذا فامرأتي طالق ثلاثا: يسأل عما قال وعقد عليه قلبه حين حلف بتلك اليمين، فإن سمى أجلا أراده وعقد عليه قلبه حين حلف جعل ذلك في دينه وأمانته" أي يدين فيما بينه وبين الله تعالى، أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن الزهري مختصرا ولفظه: "في الرجلين يحلفان بالطلاق والعتاقة على أمر يختلفان فيه ولم يقم على واحد منهما بينه" على قوله قال: يدينان ويحملان من ذلك ما تحملا. وعن معمر عمن سمع الحسن مثله. قوله: "وقال إبراهيم: إن قال لا حاجة لي فيك نيته" أي إن قصد طلاقا طلقت وإلا فلا، قال ابن أبي شيبة حدثنا حفص هو ابن غياث عن إسماعيل عن إبراهيم في رجل قال لامرأته لا حاجة لي فيك قال: نيته. وعن وكيع عن شعبة سألت الحكم وحمادا قالا: إن نوى طلاقا فواحدة، وهو أحق بها. قوله: "وطلاق كل قوم بلسانهم" وصله ابن أبي شيبة قال: "حدثنا إدريس قال حدثنا ابن أبي إدريس وجرير فالأول عن مطرف والثاني عن المغيرة كلاهما عن إبراهيم قال: طلاق العجمي بلسانه جائز" ومن طريق سعيد بن جبير قال: "إذا طلق الرجل بالفارسية يلزمه". قوله: "وقال قتادة: إذا قال إذا حملت فأنت طالق ثلاثا يغشاها عند كل طهر مرة، فإن استبان حملها فقد بانت منه" وصله ابن أبي شيبة عن عبد الأعلى عن سعيد بن أبي عروة عن قتادة مثله لكن قال: "عند كل طهر مرة ثم يمسك حتى تطهر" وذكر بقيته نحوه، ومن طريق أشعث عن الحسن "يغشاها إذا طهرت من الحيض ثم يمسك عنها إلى مثل ذلك" وقال ابن سيرين "يغشاها حتى تحمل" وبهذا قال الجمهور، واختلفت الرواية عن مالك: ففي رواية ابن القاسم إن وطئها مرة بعد التعليق طلقت سواء استبان بها حملها أم لا، وإن وطئها في الطهر الذي قال لها ذلك بعد الوطء طلقت مكانها. وتعقبه الطحاوي بالاتفاق على أن مثل ذلك إذا وقع في تعليق العتق لا يقع إلا إذا وجد الشرط، قال: فكذلك الطلاق فليكن. قوله: "وقال الحسن: إذا قال الحقي بأهلك نيته" وصله عبد الرزاق بلفظ: "هو ما نوى" وأخرجه ابن أبي شيبة من وجه آخر عن الحسن "في رجل قال لامرأته أخرجي استبرئي، اذهبي لا حاجة لي فيك هي تطليقة إن نوى الطلاق". قوله: "وقال ابن عباس: الطلاق عن وطر، والعتاق ما أريد به

(9/392)


وجه الله" أي أنه لا ينبغي للرجل أن يطلق امرأته إلا عند الحاجة كالنشوز، بخلاف العتق فإنه مطلوب دائما، والوطر بفتحتين الحاجة، قال أهل اللغة: ولا يبنى منها فعل. قوله: "وقال الزهري: إن قال ما أنت بامرأتي نيته، وإن نوى طلاقا فهو ما نوى" وصله ابن أبي شيبة عن عبد الأعلى عن معمر عن الزهري "في رجل قال لامرأته لست لي بامرأة قال: هو ما نوى" ومن طريق قتادة "إذا واجهها به وأراد الطلاق فهي واحدة" وعن إبراهيم "إن كرر ذلك مرارا ما أراه أراد إلا الطلاق" وعن قتادة "إن أراد طلاقا طلقت" وتوقف سعيد بن المسيب. وقال الليث "هي كذبة" وقال أبو يوسف ومحمد "لا يقع بذلك طلاق". قوله: "وقال علي: ألم تعلم أن القلم رفع عن ثلاثة عن المجنون حتى يفيق، وعن الصبي حتى يدرك، وعن النائم حتى يستيقظ" وصله البغوي في "الجعديات" عن علي بن الجعد عن شعبة عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس "أن عمر أتى بمجنونة قد زنت وهي حبلى، فأراد أن يرجمها فقال له علي: أما بلغك أن القلم قد وضع عن ثلاثة" فذكره، وتابعه ابن نمير ووكيع وغير واحد عن الأعمش، ورواه جرير بن حازم عن الأعمش فصرح فيه بالرفع أخرجه أبو داود وابن حبان من طريقه، وأخرجه النسائي من وجهين آخرين عن أبي ظبيان مرفوعا وموقوفا لكن لم يذكر فيهما ابن عباس، جعله عن أبي ظبيان عن علي ورجح الموقوف على المرفوع، وأخذ بمقتضى هذا الحديث الجمهور، لكن اختلفوا في إيقاع طلاق الصبي، فعن ابن المسيب والحسن يلزمه إذا عقل وميز، وحده عند أحمد أن يطيق الصيام ويحصى الصلاة، وعند عطاء إذا بلغ اثنتي عشرة سنة، وعن مالك رواية إذا ناهز الاحتلام. قوله: "وقال علي: وكل طلاق جائز إلا طلاق المعتوه" وصله البغوي في "الجعديات" عن علي بن الجعد عن شعبة عن الأعمش عن إبراهيم النخعي عن عابس بن ربيعة "أن عليا قال: كل طلاق جائز إلا طلاق المعتوه" وهكذا أخرجه سعيد بن منصور عن جماعة من أصحاب الأعمش عنه صرح في بعضها بسماع عابس ابن ربيعة من علي، وقد ورد فيه حديث مرفوع أخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة مثل قول علي وزاد في آخره: "المغلوب على عقله" وهو من رواية عطاء بن عجلان وهو ضعيف جدا. والمراد بالمعتوه - وهو بفتح الميم وسكون المهملة وضم المثناة وسكون الواو بعدها هاء - الناقص العقل، فيدخل فيه الطفل والمجنون والسكران؛ والجمهور على عدم اعتبار ما يصدر منه، وفيه خلاف قديم ذكر ابن أبي شيبة من طريق نافع أن المحبر بن عبد الرحمن طلق امرأته وكان معتوها فأمرها ابن عمر بالعدة، فقيل له: إنه معتوه، فقال: إني لم أسمع الله استثنى للمعتوه طلاقا ولا غيره. وذكر ابن أبي شيبة عن الشعبي وإبراهيم وغير واحد مثل قول علي. قوله: "حدثنا مسلم" هو ابن إبراهيم، وهشام هو الدستوائي. قوله: "عن زرارة" تقدم القول فيه في أوائل العتق، وذكرت فيه بعض فوائده، ويأتي بقيتها في كتاب الإيمان والنذور، وقوله: "ما حدثت به أنفسها" بالفتح على المفعولية، وذكر المطرزي عن أهل اللغة أنهم يقولونه بالضم يريدون بغير اختيارها، وقد أسند الإسماعيلي عن عبد الرحمن بن مهدي قال ليس عند قتادة حديث أحسن من هذا، وهذا الحديث حجة في أن الموسوس لا يقع طلاقه والمعتوه والمجنون أولى منه بذلك، واحتج الطحاوي بهذا الحديث للجمهور فيمن قال لامرأته أنت طلاق ونوى في نفسه ثلاثا أنه لا يقع إلا واحدة - خلافا للشافعي ومن وافقه - قال: لأن الخبر دل على أنه لا يجوز وقوع الطلاق بنية لا لفظ معها، وتعقب بأنه لفظ بالطلاق ونوى الفرقة التامة فهي نية صحبها لفظ؛ واحتج به أيضا لمن قال فيمن قال لامرأته يا فلانة ونوى بذلك طلاقها أنها لا تطلق، خلافا لمالك وغيره، لأن الطلاق لا يقع بالنية دون اللفظ ولم

(9/393)


يأت بصيغة لا صريحة ولا كناية، واستدل به على أن من كتب الطلاق طلقت امرأته لأنه عزم بقلبه وعمل بكتابته وهو قول الجمهور، وشرط مالك فيه الإشهاد على ذلك، واحتج من قال: إذا طلق نفسه طلقت - وهو مروي عن ابن سيرين والزهري - وعن مالك رواية ذكرها أشهب عنه وقواها ابن العربي، بأن من اعتقد الكفر بقلبه كفر ومن أصر على المعصية أثم، وكذلك من راءى بعمله وأعجب، وكذا من قذف مسلما بقلبه، وكل ذلك من أعمال القلب دون اللسان. وأجيب بأن العفو عن حديث النفس من فضائل هذه الأمة، والمصر على الكفر ليس منهم، وبأن المصر على المعصية الآثم من تقدم له عمل المعصية لا من لم يعمل معصية قط، وأما الرياء والعجب وغير ذلك فكله متعلق بالأعمال. واحتج الخطابي بالإجماع على أن من عزم على الظهار لا يصير مظاهرا قال: وكذلك الطلاق، وكذا لو حدث نفسه بالقذف لم يكن قاذفا، ولو كان حديث النفس يؤثر لأبطل الصلاة، وقد دل الحديث الصحيح على أن ترك الحديث مندوب فلو وقع لم تبطل، وتقدم البحث في الصلاة في ذلك في قول عمر "إني لأجهز جيشي وأنا في الصلاة" الحديث الثاني حديث جابر في قصة الذي أقر بالزنا فرجم، ذكرها من طريق يونس عن الزهري عن أبي سلمة عن جابر، ويأتي شرحه مستوفى في كتاب الحدود، والمراد منه ما أشار إليه في الترجمة من قوله: "هل بك جنون" فإن مقتضاه أنه لو كان مجنونا لم يعمل بإقراره، ومعنى الاستفهام هل كان بك جنون أو هل تجن تارة وتفيق تارة؟ وذلك أنه كان حين المخاطبة مفيقا. ويحتمل أن يكون وجه له الخطاب والمراد استفهام من حضر ممن يعرف حاله، وسيأتي بسط ذلك إن شاء الله تعالى. الحديث الثالث حديث أبي هريرة في القصة المذكورة، أوردها من طريق شعيب عن الزهري عن أبي سلمة وسعيد بن المسيب جميعا عن أبي هريرة، وسيأتي شرحها أيضا في الحدود، وقوله في هذه الرواية: "أن الآخر قد زنى" بفتح الهمزة وكسر الخاء المعجمة أي المتأخر عن السعادة وقيل معناه الأرذل. قوله: "وقال قتادة إذا طلق في نفسه فليس بشيء" وصله عبد الرزاق عن معمر عن قتادة والحسن قالا: من طلق سرا في نفسه فليس طلاقه ذلك بشيء، وهذا قول الجمهور وخالفهم ابن سيرين وابن شهاب فقالا تطليق، وهي رواية عن مالك. "تنبيه": وقع هذا الأثر عن قتادة في رواية النسفي عقب حديث قتادة المرفوع المذكور هنا بعد، فلما ساقه من طريق قتادة عن زرارة عن أبي هريرة فذكر الحديث المرفوع قال بعده "قال قتادة" فذكره. ثم ذكر المصنف في الباب ثلاثة أحاديث. قوله: "وعن الزهري قال فأخبرني من سمع جابر بن عبد الله" هو معطوف على قوله: "شعيب عن الزهري إلخ" وقد تقدم من رواية يونس عن الزهري عن أبي سلمة فيحتمل أن يكون أبهمه لما حدث به شعيبا، ويحتمل أن يكون هذا القدر عنده عن غير أبي سلمة فأدرج في رواية يونس عنه، وقوله في هذه الزيادة "أذلقته" بذال معجمة وقاف أي أصابته بحدها، وقوله: "جمز" بفتح الجيم والميم وبزاي أي أسرع هاربا

(9/394)


12- باب الْخُلْعِ وَكَيْفَ الطَّلاَقُ فِيهِ، وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : {وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلاَّ أَنْ يَخَافَا أَلاَ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} إِلَى قَوْلِهِ {الظَّالِمُونَ} وَأَجَازَ عُمَرُ الْخُلْعَ دُونَ السُّلْطَانِ وَأَجَازَ عُثْمَانُ الْخُلْعَ دُونَ عِقَاصِ رَأْسِهَا وَقَالَ طَاوُسٌ إِلاَّ أَنْ يَخَافَا أَلاَ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فِيمَا افْتَرَضَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ فِي الْعِشْرَةِ وَالصُّحْبَةِ وَلَمْ يَقُلْ قَوْلَ السُّفَهَاءِ لاَ يَحِلُّ حَتَّى تَقُولَ لاَ أَغْتَسِلُ لَكَ مِنْ جَنَابَةٍ

(9/394)


5273- حَدَّثَنَا أَزْهَرُ بْنُ جَمِيلٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ امْرَأَةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ أَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ مَا أَعْتِبُ عَلَيْهِ فِي خُلُقٍ وَلاَ دِينٍ وَلَكِنِّي أَكْرَهُ الْكُفْرَ فِي الإِسْلاَمِ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ قَالَتْ نَعَمْ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقْبَلْ الْحَدِيقَةَ وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ لاَ يُتَابَعُ فِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ"
[الحديث 5273- أطرافه في: 5274، 5275، 5276، 5277]
5274- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ الْوَاسِطِيُّ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ أُخْتَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ بِهَذَا وَقَالَ تَرُدِّينَ حَدِيقَتَهُ قَالَتْ نَعَمْ فَرَدَّتْهَا وَأَمَرَهُ يُطَلِّقْهَا وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ عَنْ خَالِدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَطَلِّقْهَا"
5275- وَعَنْ أَيُّوبَ بْنِ أَبِي تَمِيمَةَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ جَاءَتْ امْرَأَةُ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لاَ أَعْتِبُ عَلَى ثَابِتٍ فِي دِينٍ وَلاَ خُلُقٍ وَلَكِنِّي لاَ أُطِيقُهُ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ قَالَتْ نَعَمْ"
5276- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ الْمُخَرِّمِيُّ حَدَّثَنَا قُرَادٌ أَبُو نُوحٍ حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ جَاءَتْ امْرَأَةُ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَنْقِمُ عَلَى ثَابِتٍ فِي دِينٍ وَلاَ خُلُقٍ إِلاَّ أَنِّي أَخَافُ الْكُفْرَ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ فَقَالَتْ نَعَمْ فَرَدَّتْ عَلَيْهِ وَأَمَرَهُ فَفَارَقَهَا"
5277- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ جَمِيلَةَ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ"
قوله: "باب الخلع" بضم المعجمة وسكون اللام، وهو في اللغة فراق الزوجة على مال، مأخوذ من خلع الثوب لأن المرأة لباس الرجل معنى، وضم مصدره تفرقة بين الحسي والمعنوي. وذكر أبو بكر بن دريد في أماليه أنه أول خلع كان في الدنيا أن عامر بن الظرب - بفتح المعجمة وكسر الراء ثم موحدة - زوج ابنته من ابن أخيه عامر بن الحارث بن الظرب، فلما دخلت عليه نفرت منه، فشكا إلى أبيها فقال: لا أجمع عليك فراق أهلك ومالك، وقد خلعتها منك بما أعطيتها، قال فزعم العلماء أن هذا كان أول خلع في العرب ا هـ. وأما أول خلع في الإسلام فسيأتي ذكره بعد قليل. ويسمى أيضا فدية وافتداء. وأجمع العلماء على مشروعيته إلا بكر بن عبد الله المزني التابعي المشهور فإنه قال: لا يحل للرجل أن يأخذ من امرأته في مقابل فراقها شيئا لقوله تعالى :{فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً}، فأوردوا عليه {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ به} فادعى نسخها بآية النساء. أخرجه ابن أبي شيبة وغيره عنه، وتعقب مع شذوذه بقوله تعالى: في النساء أيضا {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ} وبقوله فيها {فَلا

(9/395)


جُنَاحَ عَلَيهِمَا أَنْ يُصْلِحَا} الآية، وبالحديث وكأنه لم يثبت عنده أو لم يبلغه، وانعقد الإجماع بعده على اعتباره وأن آية النساء مخصوصة بآية البقرة وبآيتي النساء الآخرتين، وضابطه شرعا فراق الرجل زوجته ببذل قابل للعوض يحصل لجهة الزوج. وهو مكروه إلا في حال مخافة أن لا يقيما - أو واحد منهما - ما أمر به، وقد ينشأ ذلك عن كراهة العشرة إما لسوء خلق أو خلق، وكذا ترفع الكراهة إذا احتاجا إليه خشية حنث يئول إلى البينونة الكبرى. قوله: "وكيف الطلاق فيه" أي هل يقع الطلاق بمجرده أو لا يقع حتى يذكر الطلاق إما باللفظ وإما بالنية، وللعلماء فيما إذا وقع الخلع مجردا عن الطلاق لفظا ونية ثلاثة آراء وهي أقوال للشافعي: أحدها ما نص عليه في أكثر كتبه الجديدة أن الخلع طلاق وهو قول الجمهور، فإذا وقع بلفظ الخلع وما تصرف منه نقص العدد، وكذا إن وقع بغير لفظه مقرونا بنيته، وقد نص الشافعي في "الإملاء" على أنه من صرائح الطلاق، وحجة الجمهور أنه لفظ لا يملكه إلا الزوج فكان طلاقا، ولو كان فسخا لما جاز على غير الصداق كالإقالة، لكن الجمهور على جوازه بما قل وكثر فدل على أنه طلاق. والثاني وهو قول الشافعي في القديم ذكره في "أحكام القرآن" من الجديد أنه فسخ وليس بطلاق، وصح ذلك عن ابن عباس أخرجه عبد الرزاق، وعن ابن الزبير، ما يقويه، وقد استشكله إسماعيل القاضي بالاتفاق على أن من جعل أمر المرأة بيدها ونوى الطلاق فطلقت نفسها طلقت، وتعقب بأن محل الخلاف ما إذا لم يقع لفظ طلاق ولا نية وإنما وقع لفظ الخلع صريحا أو ما قام مقامه من الألفاظ مع النية فإنه لا يكون فسخا تقع به الفرقة ولا يقع به طلاق، واختلف الشافعية فيما إذا نوى بالخلع الطلاق وفرعنا على أنه فسخ هل يقع الطلاق أو لا؟ ورجح الإمام عدم الوقوع، واحتج بأنه صريح في بابه وجد نفاذا في محله فلا ينصرف بالنية إلى غيره، وصرح أبو حامد والأكثر بوقوع الطلاق، ونقله الخوارزمي عن نص القديم قال: هو فسخ لا ينقص عدد الطلاق إلا أن ينويا به الطلاق "ويخدش فيما اختاره الإمام أن الطحاوي نقل الإجماع على أنه إذا نوى بالخلع الطلاق وقع الطلاق، وأن محل الخلاف فيما إذا لم يصرح بالطلاق ولم ينوه. والثالث إذا لم ينو الطلاق لا يقع به فرقة أصلا ونص عليه في "الأم" وقواه السبكي من المتأخرين، وذكر محمد ابن نصر المروزي به "كتاب اختلاف العلماء" أنه آخر قولي الشافعي. قوله: "وقوله عز وجل: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} زاد غير أبي ذر" إلى قوله :{الظَّالِمُونَ} وعند النسفي بعد قوله يخافا "الآية" ويذكر ذلك يتبين تمام المراد وهو بقوله: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} وتمسك بالشرط من قوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ} من منع الخلع إلا إذا حصل الشقاق من الزوجين معا، وسأذكر في الكلام على أثر طاوس بيان ذلك. قوله: "وأجاز عمر الخلع دون السلطان" أي بغير إذنه، وصله ابن أبي شيبة من طريق خيثمة بن عبد الرحمن قال: "أتى بشر بن مروان في خلع كان بين رجل وامرأة فلم يجزه، فقال له عبد الله بن شهاب الخولاني: قد أتى عمر في خلع فأجازه "وأشار المصنف إلى خلاف في ذلك أخرجه سعيد بن منصور "حدثنا هشيم أنبأنا يونس عن الحسن البصري قال: لا يجوز الخلع دون السلطان" وقال حماد بن زيد "عن يحيى بن عتيق عن محمد ابن سيرين: كانوا يقولون" فذكر مثله، واختاره أبو عبيد واستدل بقوله تعالى :{فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} وبقوله تعالى :{وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا} قال: فجعل الخوف لغير الزوجين، ولم يقل فإن خافا، وقوى ذلك بقراءة حمزة في

(9/396)


آية الباب: {إِلَّا أَنْ يَخَافَا} بضم أوله على البناء للمجهول قال: والمراد الولاة، ورده النحاس بأنه قول لا يساعده الإعراب ولا اللفظ ولا المعنى، والطحاوي بأنه شاذ مخالف لما عليه الجم الغفير، ومن حيث النظر أن الطلاق جائز دون الحاكم فكذلك الخلع. ثم الذي ذهب إليه مبني على أن وجود الشقاق شرط في الخلع والجمهور على خلافه وأجابوا عن الآية بأنها جرت على حكم الغالب، وقد أنكر قتادة هذا على الحسن فأخرج سعيد بن أبي عروبة في "كتاب النكاح" عن قتادة بن الحسن فذكره، قال قتادة: ما أخذ الحسن هذا إلا عن زياد، يعني حيث كان أمير العراق لمعاوية: قلت: وزياد ليس أهلا أن يقتدي به. قوله: "وأجاز عثمان الخلع دون عقاص رأسها" العقاص بكسر المهملة وتخفيف القاف وآخره صاد مهملة جمع عقصه وهو ما يربط به شعر الرأس بعد جمعه، وأثر عثمان هذا رويناه موصولا في "أمالي أبي القاسم بن بشران" من طريق شريك عن عبد الله بن محمد بن عقيل "عن الربيع بنت معوذ قالت: اختلعت من زوجي بما دون عقاص رأسي فأجاز ذلك عثمان" وأخرجه البيهقي من طريق روح بن القاسم عن ابن عقيل مطولا وقال في آخره: "فدفعت إليه كل شيء حتى أجفت الباب بيني وبينه" وهذا يدل على أن معنى "دون" سوى، أي أجاز للرجل أن يأخذ من المرأة في الخلع ما سوى عقاص رأسها. وقال سعيد بن منصور "حدثنا هشام عن مغيرة عن إبراهيم: كان يقال الخلع ما دون عقاص رأسها" وعن سفيان "عن ابن أبي نجيح عن مجاهد يأخذ من المختلعة حتى عقاصها" ومن طريق قبيصة بن ذويب "إذا خلعها جاز أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها. ثم تلا: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ}" وسنده صحيح. ووجدت أثر عثمان بلفظ آخر أخرجه ابن سعد في ترجمة الربيع بنت معوذ من "طبقات النساء" قال أنبأنا يحيى بن عباد حدثنا فليح بن سليمان حدثني عبد الله بن محمد بن عقيل "عن الربيع بنت معوذ قالت: كان بيني وبين ابن عمي كلام، وكان زوجها، قالت فقلت له: لك كل شيء وفارقني. قال: قد فعلت. فأخذ والله كل شيء حتى فراشي، فجئت عثمان وهو محصور فقال: الشرط أملك، خذ كل شيء حتى عقاص رأسها" قال ابن بطال ذهب الجمهور إلى أنه يجوز للرجل أن يأخذ في الخلع أكثر مما أعطاه. وقال مالك: لم أر أحدا ممن يقتدي به يمنع ذلك. لكنه ليس من مكارم الأخلاق. وسيأتي ذكر حجة القائلين بعدم الزيادة في الكلام على حديث الباب. قوله: "وقال طاوس: إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فيما افترض لكل واحد منهما على صاحبه في العشرة والصحبة، ولم يقل قول السفهاء لا يحل حتى تقول لا أغتسل لك من جنابة" هذا التعليق اختصره البخاري من أثر وصله عبد الرزاق قال: "أنبأنا ابن جريج أخبرني ابن طاوس وقلت له: ما كان أبوك يقول في الفداء؟ قال: كان يقول ما قال الله تعالى :{إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} ولم يكن يقول قول السفهاء: لا يحل حتى تقول لا أغتسل لك من جنابة، ولكنه يقول إلا أن يخافا أن لا يقيما حدود الله فيما افترض لكل واحد منهما على صاحبه في العشرة والصحبة". قال ابن التين: ظاهر سياق البخاري أن قوله: "ولم يقل إلخ" من كلامه، ولكن قد نقل الكلام المذكور عن ابن جريج، قال: ولا يبعد أن يكون ظهر له ما ظهر لابن جريج. قلت: وكأنه لم يقف على الأثر موصولا فتكلف ما قال، والذي قال: "ولم يقل" هو ابن طاوس، والمحكي عنه النفي هو أبوه طاوس، وأشار ابن طاوس بذلك إلى ما جاء عن غير طاوس وأن الفداء لا يجوز حتى تعصى المرأة الرجل فيما يرومه منها حتى تقول لا أغتسل لك من جنابة، وهو منقول عن الشعبي وغيره، أخرج سعيد بن منصور عن هشيم "أنبأنا إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي أن امرأة قالت لزوجها: لا أطيع لك أمرا ولا أبر لك قسما ولا

(9/397)


أغتسل لك من جنابة، قال: إذا كرهته فليأخذ منها وليخل عنها". وأخرج ابن أبي شيبة عن وكيع عن يزيد بن إبراهيم عن الحسن في قوله: {إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} قال: ذلك في الخلع إذا قالت لا أغتسل لك من جنابة. ومن طريق حميد بن عبد الرحمن قال: "يطيب الخلع إذا قالت لا أغتسل لك من جنابة. نحوه" ومن طريق علي نحوه ولكن بسند واه، والظاهر أن المنقول في ذلك عن الحسن وغيره ما هو إلا على سبيل المثال ولا يتعين شرطا في جواز الخلع، والله أعلم. وقد جاء عن غير طاوس نحو قوله، فروى ابن أبي شيبة من طريق القاسم أنه سئل عن قوله تعالى :{إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} قال فيما افترض عليهما في العشرة والصحبة. ومن طريق هشام بن عروة عن أبيه أنه كان يقول: لا يحل له الفداء حتى يكون الفساد من قبلها، ولم يكن يقول لا يحل له حتى تقول لا أبر لك قسما ولا أغتسل لك من جنابة. قوله: "حدثني أزهر بن جميل" هو بصري يكنى أبا محمد، مات سنة إحدى وخمسين ومائتين، ولم يخرج عنه البخاري في "الجامع" غير هذا الموضع، وقد أخرجه النسائي أيضا عنه، وذكر البخاري أنه لم يتابع على ذكر ابن عباس فيه كما سيأتي، لكن جاء الحديث موصولا من طريق أخرى كما ذكره في الباب أيضا. قوله: "حدثنا خالد" هو ابن مهران الحذاء. قوله: "إن امرأة ثابت بن قيس" أي ابن شماس بمعجمة ثم مهملة خطيب الأنصار، تقدم ذكره في المناقب، وأبهم في هذه الطريق اسم المرأة وفي الطرق التي بعدها، وسميت في آخر الباب في طريق حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة مرسلا جميلة، ووقع الرواية الثانية أن أخت عبد الله بن أبي يعني كبير الخزرج ورأس النفاق الذي تقدم خبره في تفسير سورة براءة وفي تفسير سورة المنافقين، فظاهره أنها جميلة بنت أبي ويؤيده أن في رواية قتادة عن عكرمة عن ابن عباس "أن جميلة بنت سلول جاءت" الحديث أخرجه ابن ماجه والبيهقي، وسلول امرأة اختلف فيها هل هي أم أبي أو امرأته. ووقع في رواية النسائي والطبراني من حديث الربيع بنت معوذ أن ثابت بن قيس بن شماس ضرب امرأته فكسر يدها، وهي جميلة بنت عبد الله بن أبي فأتى أخوها يشتكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث، وبذلك جزم ابن سعد في "الطبقات" فقال: جميلة بنت عبد الله بن أبي أسلمت وبايعت وكانت تحت حنظلة بن أبي عامر غسيل الملائكة فقتل عنها بأحد وهي حامل فولدت له عبد الله بن حنظلة فخلف عليها ثابت بن قيس فولدت له ابنه محمدا ثم اختلعت منه فتزوجها مالك بن الدخشم ثم خبيب بن أساف، ووقع في رواية حجاج بن محمد عن ابن جريج: أخبرني أبو الزبير أن ثابت بن قيس بن شماس كانت عنده زينب بنت عبد الله بن أبي بن سلول وكان أصدقها حديقة فكرهته، الحديث أخرجه الدار قطني والبيهقي وسنده قوي مع إرساله، ولا تنافي بينه وبين الذي قبله لاحتمال أن يكون لها اسمان أو أحدهما لقب، وإن لم يؤخذ بهذا الجمع فالموصول أصح، وقد اعتضد بقول أهل النسب أن اسمها جميلة، وبه جزم الدمياطي وذكر أنها كانت أخت عبد الله بن عبد الله بن أبي شقيقة أمهما خولة بنت المنذر بن حرام. قال الدمياطي والذي وقع في البخاري من أنها بنت أبي وهم. قلت: ولا يليق إطلاق كونه وهما فإن الذي وقع فيه أخت عبد الله بن أبي وهي أخت عبد الله بلا شك، لكن نسب أخوها في هذه الرواية إلى جده أبي كما نسبت هي في رواية قتادة إلى جدتها سلول، فبهذا يجمع بين المختلف من ذلك. وأما ابن الأثير وتبعه النووي فجزما بأن قول من قال إنها بنت عبد الله بن أبي وهم وأن الصواب أنها أخت عبد الله بن أبي، وليس كما قالا بل الجمع أولى، وجمع بعضهم باتحاد اسم المرأة وعمتها وأن ثابتا خالع الثنتين واحدة بعد أخرى، ولا يخفى بعده، ولا سيما مع اتحاد

(9/398)


المخرج. وقد كثرت نسبة الشخص إلى جده إذا كان مشهورا، والأصل عدم التعدد حتى يثبت صريحا. وجاء في اسم امرأة ثابت بن قيس قولان آخران أحدهما أنها مريم المغالية أخرجه النسائي وابن ماجه من طريق محمد بن إسحاق "حدثني عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت عن الربيع بنت معوذ قالت اختلعت من زوجي" فذكرت قصة فيها "وإنما تبع عثمان في ذلك قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في مريم المغالية، وكانت تحت ثابت بن قيس فاختلعت منه" وإسناده جيد، قال البيهقي: اضطرب الحديث في تسمية امرأة ثابت، ويمكن أن يكون الخلع تعدد من ثابت انتهى. وتسميتها مريم يمكن رده للأول لأن المغالية وهي بفتح الميم وتخفيف الغين المعجمة نسبة إلى مغالة وهي امرأة من الخزرج ولدت لعمرو بن مالك بن النجار ولده عديا، فبنو عدي بن النجار يعرفون كلهم ببني مغالة، ومنهم عبد الله بن أبي وحسان بن ثابت وجماعة من الخزرج، فإذا كان آل عبد الله بن أبي من بني مغالة فيكون الوهم وقع في اسمها، أو يكون مريم اسما ثالثا، أو بعضها لقب لها. والقول الثاني في اسمها أنها حبيبة بنت سهل أخرجه مالك في "الموطأ" عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن عمرة بنت عبد الرحمن عن حبيبة بنت سهل أنها كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى الصبح فوجد حبيبة عند بابه في الغلس [قال]: من هذه؟ قالت: أنا حبيبة بنت سهل. قال: ما شأنك؟ قالت: لا أنا ولا ثابت بن قيس. لزوجها" الحديث، وأخرجه أصحاب السنن الثلاثة، وصححه ابن خزيمة وابن حبان من هذا الوجه، وأخرجه أبو داود من طريق عبد الله بن أبي بكر بن عمر بن حزم "عن عمرة عن عائشة أن حبيبة بنت سهل كانت عند ثابت "قال ابن عبد البر اختلف في امرأة ثابت بن قيس، فذكر البصريون أنها جميلة بنت أبي وذكر المدنيون أنها حبيبة بنت سهل. قلت: والذي يظهر أنهما قصتان وقعتا لامرأتين لشهرة الخبرين وصحة الطريقين واختلاف السياقين، بخلاف ما وقع من الاختلاف في تسمية جميلة ونسبها فإن سياق قصتها متقارب فأمكن رد الاختلاف قيه إلى الوفاق، وسأبين اختلاف القصتين عند سياق ألفاظ قصة جميلة. وقد أخرج البزار من حديث عمر قال: "أول مختلعة في الإسلام حبيبة بنت سهل كانت تحت ثابت بن قيس الحديث، وهذا على تقدير التعدد يقتضي أن ثابتا تزوج حبيبة قبل جميلة، ولو لم يكن في ثبوت ما ذكره البصريون إلا كون محمد بن ثابت بن قيس من جميلة لكان دليلا على صحة تزوج ثابت بجميلة. "تنبيه": وقع لابن الجوزي في تنقيحه أنها سهلة بنت حبيب، فما أظنه إلا مقلوبا، والصواب حبيبة بنت سهل، وقد ترجم لها ابن سعد في "الطبقات" فقال: بنت سهل بن ثعلبة بن الحارث، وساق نسبها إلى مالك ابن النجار وأخرج حديثها عن حماد بن زيد عن يحيى بن سعيد قال: "كانت حبيبة بنت سهل تحت ثابت بن قيس، وكان في خلقه شدة" فذكر نحو حديث مالك وزاد في آخره: "وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم هم أن يتزوجها ثم كره ذلك لغيرة الأنصار وكره أن يسوءهم في نسائهم. قوله: "أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله ثابت بن قيس" في رواية إبراهيم بن طهمان عن أيوب وهي التي علقت هنا ووصلها الإسماعيلي: "جاءت امرأة ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري". وفي رواية سعيد عن قتادة عن عكرمة في هذه القصة "فقالت بأبي وأمي" أخرجها البيهقي. قوله: "ما أعتب عليه" بضم المثناة من فوق، ويجوز كسرها من العتاب يقال عتبت على فلان أعتب عتبا والاسم المعتبة، والعتاب هو الخطاب بالإدلال. وفي رواية بكسر العين بعدها تحتانية ساكنة من العيب وهي أليق بالمراد. قوله: "في خلق ولا دين" بضم الخاء المعجمة واللام ويجوز إسكانها، أي لا أريد مفارقته لسوء خلقه ولا لنقصان دينه، زاد في رواية أيوب

(9/399)


المذكورة "ولكني لا أطيقه" كذا فيه لم يذكر مميز عدم الطاقة، وبينه الإسماعيلي في روايته ثم البيهقي بلفظ: "لا أطيقه بغضا" وهذا ظاهره أنه لم يصنع بها شيئا يقتضي الشكوى منه بسببه، لكن تقدم من رواية النسائي أنه كسر يدها، فيحمل على أنها أرادت أنه سيء الخلق، لكنها ما تعيبه بذلك بل بشيء آخر. وكذا وقع في قصة حبيبة بنت سهل عند أبي داود أنه ضربها فكسر بعضها لكن لم تشكه واحدة منهما بسبب ذلك، بل وقع التصريح بسبب آخر وهو أنه كان دميم الخلقة، ففي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عند ابن ماجه: "كانت حبيبة بنت سهل عند ثابت بن قيس وكان رجلا دميما، فقالت: والله لولا مخافة الله إذا دخل علي لبصقت في وجهه" وأخرج عبد الرزاق عن معمر قال: "بلغني أنها قالت: يا رسول الله بي من الجمال ما ترى، وثابت رجل دميم" وفي رواية معتمر بن سليمان عن فضيل عن أبي جرير عن عكرمة عن ابن عباس "أول خلع كان في الإسلام امرأة ثابت بن قيس، أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله لا يجتمع رأسي ورأس ثابت أبدا، إني رفعت جانب الخباء فرأيته أقبل في عدة، فإذا هو أشدهم سوادا وأقصرهم قامة وأقبحهم وجها. فقال: أتردين عليه حديقته؟ قالت: نعم، وإن شاء زدته. ففرق بينهما". قوله: "ولكني أكره الكفر في الإسلام" أي أكره إن أقمت عنده أن أقع فيما يقتضي الكفر، وانتفى أنها أرادت أن يحملها على الكفر ويأمرها به نفاقا بقولها "لا أعتب عليه في دين" فتعين الحمل على ما قلناه. ورواية جرير بن حازم في أواخر الباب تؤيد ذلك حيث جاء فيها "إلا أني أخاف الكفر" وكأنها أشارت إلى أنها قد تحملها شدة كراهتها له على إظهار الكفر لينفسخ نكاحها منه، وهي كانت تعرف أن ذلك حرام لكن خشيت أن تحملها شدة البغض على الوقوع فيه، ويحتمل أن تريد بالكفر كفران العشير إذ هو تقصير المرأة في حق الزوج. وقال الطيبي: المعنى أخاف على نفسي في الإسلام ما ينافي حكمه من نشوز وفرك وغيره مما يتوقع من الشابة الجميلة المبغضة لزوجها إذا كان بالضد منها، فأطلقت على ما ينافي مقتضى الإسلام الكفر. ويحتمل أن يكون في كلامها إضمار، أي إكراه لوازم الكفر من المعاداة والشقاق والخصومة. ووقع في رواية إبراهيم بن طهمان "ولكني لا أطيقه" وفي رواية المستملي: "ولكن" وقد تقدم ما فيه. قوله: "أتردين" في رواية إبراهيم بن طهمان "فتردين" والفاء عاطفة على مقدر محذوف. وفي رواية جرير بن حازم "تردين" وهي استفهام محذوف الأداة كما دلت عليه الرواية الأخرى. قوله: "حديقته" أي بستانه، ووقع في حديث عمر أنه كان أصدقها الحديقة المذكورة ولفظه: "وكان تزوجها على حديقة نخل". قوله: "قالت نعم" زاد في حديث عمر "فقال ثابت أيطيب ذلك يا رسول الله؟ قال نعم". قوله: "اقبل الحديقة وطلقها تطليقة" هو أمر إرشاد وإصلاح لا إيجاب، ووقع في رواية جرير بن حازم "فردت عليه وأمره بفراقها" واستدل بهذا السياق على أن الخلع ليس بطلاق، وفيه نظر فليس في الحديث ما يثبت ذلك ولا ما ينفيه، فإن قوله: "طلقها إلخ" يحتمل أن يراد طلقها على ذلك فيكون طلاقا صريحا على عوض، وليس البحث فيه إنما الاختلاف فيما إذا وقع لفظ الخلع أو ما كان في حكمه من غير تعرض لطلاق بصراحة ولا كناية هل يكون الخلع طلاقا وفسخا؟ وكذلك ليس فيه التصريح بأن الخلع وقع قبل الطلاق أو بالعكس، نعم في رواية خالد المرسلة ثانية أحاديث الباب: "فردتها وأمره فطلقها" وليس صريحا في تقديم العطية على الأمر بالطلاق، بل يحتمل أيضا أن يكون المراد إن أعطتك طلقها، وليس فيه أيضا التصريح بوقوع صيغة الخلع، ووقع في مرسل أبي الزبير عند الدار قطني "فأخذها له وخلى سبيلها" وفي حديث حبيبة بنت سهل

(9/400)


"فأخذها منها وجلست في أهلها "لكن معظم الروايات في الباب تسميته خلعا، ففي رواية عمرو بن مسلم عن عكرمة عن ابن عباس "أنها اختلعت من زوجها" أخرجه أبو داود والترمذي. قوله: "قال أبو عبد الله" هو البخاري. قوله: "لا يتابع فيه عن ابن عباس" أي لا يتابع أزهر بن جميل عن ذكر ابن عباس في هذا الحديث بل أرسله غيره، ومراده بذلك خصوص طريق خالد الحذاء عن عكرمة، ولهذا عقبه برواية خالد وهو ابن عبد الله الطحان عن خالد وهو الحذاء عن عكرمة مرسلا ثم برواية إبراهيم بن طهمان عن خالد الحذاء مرسلا وعن أيوب موسولا، ورواية إبراهيم بن طهمان عن أيوب الموصولة وصلها الإسماعيلي. قوله في هذه الرواية "لا أطيقه" تقدم بيانه وهو في جميع النسخ بالقاف، وذكر الكرماني أن في بعضها أطيعه "بالعين المهملة وهو تصحيف. ثم أشار البخاري إلى أنه اختلف على أيوب أيضا في وصل الخبر وإرساله فاتفق إبراهيم بن طهمان وجرير بن حازم على وصله، وخالفهما حماد بن زيد فقال: "عن أيوب عن عكرمة" مرسلا. ويؤخذ من إخراج البخاري هذا الحديث في الصحيح فوائد: منها أن الأكثر إذا وصلوا وأرسل الأقل قدم الواصل ولو كان الذي أرسل أحفظ، ولا يلزم منه أنه تقدم رواية الواصل على المرسل دائما. ومنها أن الراوي إذا لم يكن في الدرجة العليا من الضبط ووافقه من هو مثله اعتضد وقاومت الروايتان رواية الضابط المتقن. ومنها أن أحاديث الصحيح متفاوتة المرتبة إلى صحيح وأصح. وفي الحديث من الفوائد - غير ما تقدم - أن الشقاق إذا حصل من قبل المرأة فقط جاز الخلع والفدية، ولا يتقيد ذلك بوجوده منهما جميعا، وأن ذلك يشرع إذا كرهت المرأة عشرة الرجل ولو لم يكرهها ولم ير منها ما يقتضي فراقها. وقال أبو قلابة ومحمد بن سيرين: لا يجوز له أخذ الفدية منها إلا أن يرى على بطنها رجلا، أخرجه ابن أبي شيبة، وكأنهما لم يبلغهما الحديث. واستدل ابن سيرين بظاهر قوله تعالى :{إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} وتعقب بأن آية البقرة فسرت المراد بذلك مع ما دل عليه الحديث. ثم ظهر لي قاله ابن سيرين توجيه، وهو تخصيصه بما إذا كان ذلك من قبل الرجل بأن يكرهها وهي لا تكرهه فيضاجرها لتفتدي منه. فوقع النهي عن ذلك إلا أن يراها على فاحشة ولا يجد بينة ولا يحب أن يفضحها فيجوز حينئذ أن يفتدي منها ويأخذ منها ما تراضيا عليه ويطلقها، فليس في ذلك مخالفة للحديث لأن الحديث ورد فيما إذا كانت الكراهة من قبلها، واختار ابن المنذر أنه لا يجوز حتى يقع الشقاق بينهما جميعا، وإن وقع من أحدهما لا يندفع الإثم، وهو قوي موافق لظاهر الآيتين ولا يخالف ما ورد فيه، وبه قال طاوس والشعبي وجماعة من التابعين، وأجاب الطبري وغيره عن ظاهر الآية بأن المرأة إذا لم تقم بحقوق الزوج التي أمرت بها كان ذلك منفرا للزوج عنها غالبا ومقتضيا لبغضه لها فنسبت المخافة إليهما لذلك، وعن الحديث بأنه صلى الله عليه وسلم لم يستفسر ثابتا هل أنت كارهها كما كرهتك أم لا؟ وفيه أن المرأة إذا سألت زوجها الطلاق على مال فطلقها وقع الطلاق. فإن لم يقع الطلاق صريحا ولا

(9/401)


نوياه ففيه الخلاف المتقدم من قبل. واستدل لمن قال بأنه فسخ بما وقع في بعض طرق حديث الباب من الزيادة، ففي رواية عمرو بن مسلم عن عكرمة عن ابن عباس عند أبي داود والترمذي في قصة امرأة ثابت بن قيس "فأمرها أن تعتد بحيضة" وعند أبي داود والنسائي وابن ماجه من حديث الربيع بنت معوذ "أن عثمان أمرها أن تعتد بحيضة" قال: "وتبع عثمان في ذلك قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأة ثابت بن قيس" وفي رواية للنسائي والطبري من حديث الربيع بنت معوذ "أن ثابت بن قيس ضرب امرأته - فذكر نحو حديث الباب وقال في آخره - خذ الذي لها وخل سبيلها، قال: نعم، فأمرها أن تتربص حيضة وتلحق بأهلها" قال الخطابي في هذا أقوى دليل لمن قال أن الخلع فسخ وليس بطلاق، إذ لو طلاقا لم تكتف بحيضة للعدة ا هـ. وقد قال الإمام أحمد إن الخلع فسخ. وقال في رواية: وإنها لا تحل لغير زوجها حتى بمضي ثلاثة أقراء. فلم يكن عنده بين كونه فسخا وبين النقص من العدة تلازم، واستدل به على أن الفدية لا تكون إلا بما أعطى الرجل المرأة عينا أو قدرها لقوله صلى الله عليه وسلم: "أتردين عليه حديقته" وقد وقع في رواية سعيد عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس في آخر حديث الباب عند ابن ماجه والبيهقي "فأمره أن يأخذ منها ولا يزداد" وفي رواية عبد الوهاب بن عطاء عن سعيد قال أيوب لا أحفظ "ولا تزدد" ورواه ابن جريج عن عطاء مرسلا ففي رواية ابن المبارك وعبد الوهاب عنه "أما الزيادة فلا"، زاد ابن المبارك عن مالك وفي رواية الثوري "وكره أن يأخذ منها أكثر مما أعطى" ذكر ذلك كله البيهقي، قال ووصله الوليد بن مسلم عن ابن جريج بذكر ابن عباس فيه أخرجه أبو الشيخ قال: وهو غير محفوظ، يعني الصواب إرساله. وفي مرسل أبي الزبير عند الدار قطني والبيهقي "أتردين عليه حديقته التي أعطاك؟ قالت، نعم وزيادة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: أما الزيادة فلا، ولكن حديقته، قالت نعم. فأخذ ماله وخلى سبيلها" ورجال إسناده ثقات. وقد وقع في بعض طرقه سمعه أبو الزبير من غير واحد فإن كان فيهم صحابي فهو صحيح وإلا فيعتضد بما سبق، لكن ليس فيه دلالة على الشرط، فقد يكون ذلك وقع على سبيل الإشارة رفقا بها. وأخرج عبد الرزاق عن علي "لا يأخذ منها فوق ما أعطاها" وعن طاوس وعطاء والزهري مثله، وهو قول أبي حنيفة وأحمد وإسحاق. وأخرج إسماعيل بن إسحاق عن ميمون بن مهران "من أخذ أكثر مما أعطى لم يسرح بإحسان" ومقابل هذا ما أخرج عبد الرزاق بسند صحيح عن سعيد بن المسيب قال: "ما أحب أن يأخذ منها ما أعطاها ليدع لها شيئا" وقال مالك لم أزل أسمع أن الفدية تجوز بالصداق وبأكثر منه لقوله تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} ولحديث حبيبة بنت سهل، فإذا كان النشوز من قبلها حل للزوج ما أخذ منها برضاها، وإن كان من قبله لم يحل له ويرد عليها إن أخذ وتمضي الفرقة. وقال الشافعي: إذا كانت غير مؤدية لحقه كارهة له حل له أن يأخذ، فإنه يجوز أن يأخذ منها ما طابت به نفسا بغير سبب فبالسبب أولى. وقال إسماعيل القاضي: ادعى بعضهم أن المراد بقوله تعالى :{فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} أي بالصداق وهو مردود لأنه لم يقيد في الآية بذلك. وفيه أن الخلع جائز في الحيض لأنه صلى الله عليه وسلم لم يستفصلها أحائض هي أم لا؟ لكن يجوز أن يكون ترك دلك لسبق العلم به أو كان قبل تقريره فلا دلالة فيه لمن يخصه من منع طلاق الحائض، وهذا كله تفريع على أن الخلع طلاق. وفيه أن الأخبار الواردة في ترهيب المرأة من طلب طلاق زوجها محمولة على ما إذا لم يكن بسبب يقتضي ذلك لحديث ثوبان "أيما امرأة سألت زوجها الطلاق فحرام عليها رائحة الجنة" رواه

(9/402)


أصحاب السنن وصححه ابن خزيمة وابن حبان؛ ويدل على تخصيصه قوله في بعض طرقه: "من غير ما بأس" ولحديث أبي هريرة "المنتزعات والمختلعات هن المنافقات" أخرجه أحمد والنسائي، وفي صحته نظر لأن الحسن عند الأكثر لم يسمع من أبي هريرة، لكن وقع في رواية النسائي: قال الحسن لم أسمع من أبي هريرة غير هذا الحديث. وقد تأوله بعضهم على أنه أراد لم يسمع هذا إلا من حديث أبي هريرة، وهو تكلف، وما المانع أن يكون سمع هذا منه فقط وصار يرسل عنه غير ذلك فتكون قصته في ذلك كقصته مع سمرة في حديث العقيقة كما يأتي في بابه إن شاء الله تعالى. وقد أخرجه سعيد بن منصور من وجه آخر عن الحسن مرسلا لم يذكر فيه أبا هريرة. وفيه أن الصحابي إذا أفتى بخلاف ما روى أن المعتبر ما رواه لا ما رآه، لأن ابن عباس روى قصة امرأة ثابت بن قيس الدالة على أن الخلع طلاق وكان يفتي بأن الخلع ليس بطلاق، لكن ادعى ابن عبد البر شذوذ ذلك عن ابن عباس إذ لا يعرف له أحد نقل عنه أنه فسخ وليس بطلاق إلا طاوس، وفيه نظر لأن طاوسا ثقة حافظ فقيه فلا يضره تفرده، وقد تلقى العلماء ذلك بالقبول. ولا أعلم من ذكر الاختلاف في المسألة إلا وجزم أن ابن عباس كان يراه فسخا. نعم أخرج إسماعيل القاضي بسند صحيح عن ابن أبي نجيح "أن طاوسا لما قال إن الخلع ليس بطلاق أنكره عليه أهل مكة، فاعتذر وقال: إنما قاله ابن عباس" قال إسماعيل: لا نعلم أحدا قاله غيره ا هـ. ولكن الشأن في كون قصة ثابت صريحة في كون الخلع طلاقا. "تكميل": نقل ابن عبد البر عن مالك أن المختلعة هي التي اختلعت من جميع مالها، وأن المفتدية التي افتدت ببعض مالها، وأن المبارئة التي بارأت زوجها قبل الدخول. قال ابن عبد البر: وقد يستعمل بعض ذلك موضع بعض

(9/403)


13- باب الشِّقَاقِ وَهَلْ يُشِيرُ بِالْخُلْعِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} إِلَى قَوْلِهِ {خَبِيرًا}
5279- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ الزُّهْرِيِّ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِنَّ بَنِي الْمُغِيرَةِ اسْتَأْذَنُوا فِي أَنْ يَنْكِحَ عَلِيٌّ ابْنَتَهُمْ فَلاَ آذَنُ"
قوله:" باب الشقاق، وهل يشير بالخلع عند الضرورة؟ وقوله تعالى :{وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} الآية كذا لأبي ذر والنسفي، ولكن وقع عنده "الضرر" وزاد غيرهما {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} - إلى قوله :{خَبِيرًا} "قال ابن بطال: أجمع العلماء على أن المخاطب بقوله تعالى :{وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} الحكام، وأن المراد بقوله: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً} الحكمان، وأن الحكمين يكون أحدهما من جهة الرجل والآخر من جهة المرأة إلا أن لا يوجد من أهلهما من يصلح فيجوز أن يكون من الأجانب ممن يصلح لذلك، وأنهما إذا اختلفا لم ينفذ قولهما، وإن اتفقا نفذ في الجمع بينهما من غير توكيل. واختلفوا فيما إذا اتفقا على الفرقة، فقال مالك والأوزاعي وإسحاق: ينفذ بغير توكيل ولا إذن من الزوجين. وقال الكوفيون والشافعي وأحمد: يحتاجان إلى الإذن، فأما مالك ومن تابعه فألحقوه بالعنين والمولى فإن الحاكم يطلق عليهما فكذلك هذا، وأيضا فلما كان المخاطب بذلك الحكام وأن الإرسال إليهم دل على أن بلوغ الغاية من الجمع أو التفريق إليهم، وجرى الباقون على الأصل وهو أن الطلاق بيد

(9/403)


الزوج فإن إذن في ذلك وإلا طلق عليه الحاكم. ثم ذكر طرفا من حديث المسور في خطبة على بنت أبي جهل وقد تقدمت الإشارة إليه في النكاح، واعترضه ابن التين بأنه ليس فيه دلالة على ما ترجم به، ونقل ابن بطال قبله عن المهلب قال: إنما حاول البخاري بإيراده أن يجعل قول النبي صلى الله عليه وسلم: "فلا آذن" خلعا ولا يقوى ذلك لأنه قال في الخبر "إلا أن يريد ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي" فدل على الطلاق، فإن أراد أن يستدل بالطلاق على الخلع فهو ضعيف وإنما يؤخذ منه الحكم بقطع الذرائع. وقال ابن المنير في الحاشية: يمكن أن يؤخذ من كونه صلى الله عليه وسلم أشار بقوله: "فلا آذن" إلى أن عليا يترك الخطبة، فإذا ساغ جواز الإشارة بعدم النكاح التحق به جواز الإشارة بقطع النكاح. وقال الكرماني تؤخذ مطابقة الترجمة من كون فاطمة ما كانت ترضى بذلك، فكان الشقاق بينها وبين علي متوقعا، فأراد صلى الله عليه وسلم دفع وقوعه بمنع على من ذلك بطريق الإيماء والإشارة، وهي مناسبة جيدة، ويؤخذ من الآية ومن الحديث العمل بسد الذرائع، لأن الله تعالى أمر ببعثة الحكمين عند خوف الشقاق قبل وقوعه، كذا قال المهلب، ويحتمل أن يكون المراد بالخوف وجود علامات الشقاق المقتضى لاستمرار النكد وسوء المعاشرة

(9/404)


14- باب لاَ يَكُونُ بَيْعُ الأَمَةِ طَلاَقًا
5279- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ كَانَ فِي بَرِيرَةَ ثَلاَثُ سُنَنٍ إِحْدَى السُّنَنِ أَنَّهَا أُعْتِقَتْ فَخُيِّرَتْ فِي زَوْجِهَا وَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ وَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْبُرْمَةُ تَفُورُ بِلَحْمٍ فَقُرِّبَ إِلَيْهِ خُبْزٌ وَأُدْمٌ مِنْ أُدْمِ الْبَيْتِ فَقَالَ أَلَمْ أَرَ الْبُرْمَةَ فِيهَا لَحْمٌ قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ ذَلِكَ لَحْمٌ تُصُدِّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ وَأَنْتَ لاَ تَأْكُلُ الصَّدَقَةَ قَالَ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ وَلَنَا هَدِيَّةٌ"
قوله: "باب لا يكون بيع الأمة طلاقا" في رواية المستملي: "طلاقها" ثم أورد فيه قصة بريرة، قال ابن التين: لم يأت في الباب بشيء مما يدل عليه التبويب، لكن لو كانت عصمتها عليه باقية ما خيرت بعد عتقها، لأن شراء عائشة كان العتق بإزائه، وهذا الذي قاله عجيب، أما أولا فإن الترجمة مطابقة فإن العتق إذا لم يستلزم الطلاق فالبيع بطريق الأولى، وأيضا فإن التخيير الذي جر إلى الفراق لم يقع إلا بسبب العتق لا بسبب البيع، وأما ثانيا فإنها لو طلقت بمجرد البيع لم يكن للتخيير فائدة، وأما ثالثا فإن آخر كلامه يرد أوله، فإنه يثبت ما نفاه من المطابقة، قال ابن بطال: اختلف السلف هل يكون بيع الأمة طلاقا؟ فقال الجمهور: لا يكون بيعها طلاقا، وروى عن ابن مسعود وابن عباس وأبي بن كعب ومن التابعين عن سعيد بن المسيب والحسن ومجاهد قالوا: يكون طلاقا وتمسكوا بظاهر قوله تعالى :{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} وحجة الجمهور حديث الباب، وهو أن بريرة عتقت فخيرت في زوجها، فلو كان طلاقها يقع بمجرد البيع لم يكن للتخيير معنى. ومن حيث النظر أنه عقد على منفعة فلا يبطله بيع الرقبة كما في العين المؤجرة، والآية نزلت في المسبيات فهن المراد بملك اليمين على ما ثبت في الصحيح من سبب نزولها ا هـ ملخصا. وما نقله عن الصحابة أخرجه ابن أبي شيبة بأسانيد فيها انقطاع، وفيه عن جابر وأنس أيضا، وما نقله عن التابعين فيه بأسانيد صحيحة، وفيه أيضا عن عكرمة والشعبي نحوه، وأخرجه سعيد بن منصور عن

(9/404)


ابن عباس بسند صحيح، وروى حماد بن سلمة عن هشام بن عروة عن أبيه قال: إذا زوج عبده بأمته فالطلاق بيد العبد وإذا اشترى أمة لها زوج فالطلاق بيد المشتري. وأخرج سعيد بن منصور من طريق الحسن قال: إباق العبد طلاقه. حديث عائشة في قصة بريرة أورد المصنف في أول الصلاة وفي عدة أبواب مطولا ومختصرا، وطريق ربيعة التي أوردها هنا أوردها موصولة من طريق مالك عنه عن القاسم عن عائشة، وأوردها في الأطعمة من طريق إسماعيل بن جعفر عنه عن القاسم مرسلا، ولا يضر إرساله لأن مالكا أحفظ من إسماعيل وأتقن، وقد وافقه أسامة بن زيد وغير واحد عن القاسم، وكذلك رواه عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة، لكن صدره بقصة اشتراط الذين باعوها على عائشة أن يكون لهم الولاء، وقد تقدم مستوفى في كتاب العتق، وكذا رواه عروة وعمرة والأسود وأيمن المكي عن عائشة، وكذا رواه نافع عن ابن عمر أن عائشة، ومنهم من قال عن ابن عمر عن عائشة، وروى قصة البرمة واللحم أنس وتقدم حديثه في الهبة ويأتي، وروى ابن عباس قصة تخييرها لما عتقت كما يأتي بعد وطرقه كلها صحيحة. قوله: "كان في بريرة" تقدم ذكرها وضبط اسمها في أواخر العتق، وقيل إنها نبطية بفتح النون والموحدة وقيل إنها قبطة بكسر القاف وسكون الموحدة، وقيل إن اسم أبيها صفوان وأن له صحبة، واختلف في مواليها ففي رواية أسامة بن زيد عن عبد الرحمن بن القاسم عن القاسم عن عائشة أن بريرة كانت لناس من الأنصار، وكذا عند النسائي من رواية سماك عن عبد الرحمن، ووقع في بعض الشروح لآل أبي لهب وهو وهم من قائله انتقل وهمه من أيمن أحد رواة قصة بريرة عن عائشة إلى بريرة، وقيل لآل بني هلال أخرجه الترمذي من رواية جرير عن هشام ابن عروة. قوله: "ثلاث سنن" وفي رواية هشام بن عروة عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه "ثلاث قضيات" وفي حديث ابن عباس عند أحمد وأبي داود "قضى فيها النبي صلى الله عليه وسلم أربع قضيات" فذكر نحو حديث عائشة وزاد: "وأمرها أن تعتد عدة الحرة" أخرجه الدار قطني، وهذه الزيادة لم تقع في حديث عائشة فلذلك اقتصرت على ثلاث، لكن أخرج ابن ماجه من طريق الثوري عن منصور عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة قالت: "أمرت بريرة أن تعتد بثلاث حيض" وهذا مثل حديث ابن عباس في قوله: "تعتد عدة الحرة" ويخالف ما وقع في رواية أخرى عن ابن عباس "تعتد بحيضة" وقد تقدم البحث في عدة المختلعة وأن من قال الخلع فسخ قال تعتد بحيضة، وهنا ليس اختيار العتيقة نفسها طلاقا فكان القياس أن تعتد بحيضة، لكن الحديث الذي أخرجه ابن ماجه على شرط الشيخين بل هو في أعلى درجات الصحة، وقد أخرج أبو يعلى والبيهقي من طريق أبي معشر عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة "أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل عدة بريرة عدة المطلقة" وهو شاهد قوي، لأن أبا معشر وإن كان فيه ضعف لكن يصلح في المتابعات. وأخرج ابن أبي شيبة بأسانيد صحيحة عن عثمان وابن عمر وزيد بن ثابت وآخرين "أن الأمة إذا أعتقت تحت العبد فطلاقها طلاق عبد وعدتها عدة حرة" وقد قدمت في العتق أن العلماء صنفوا في قصة بريرة تصانيف، وأن بعضهم أوصلها إلى أربعمائة فائدة، ولا يخالف ذلك قول عائشة "ثلاث سنن" لأن مراد عائشة ما وقع من الأحكام فيها مقصودا خاصة، لكن لما كان كل حكم منها يشتمل على تقعيد قاعدة يستنبط العالم الفطن منها فوائد جمة وقع التكثر من هذه الحيثية، وانضم إلى ذلك ما وقع في سياق القصة غير مقصود، فإن في ذلك أيضا فوائد تؤخذ بطريق التنصيص أو الاستنباط، أو اقتصر على الثلاث أو الأربع لكونها أظهر ما فيها وما عداها إنما يؤخذ بطريق الاستنباط، أو لأنها أهم والحاجة إليها أمس. قال القاضي عياض: معنى ثلاث أو أربع

(9/405)


أنها شرعت في قصتها، وما يظهر فيها مما سوى ذلك فكان قد علم من غير قصتها، وهذا أولى من قول من قال: ليس في كلام عائشة حصر، ومفهوم العدد ليس بحجة وما أشبه ذلك من الاعتذارات التي لا تدفع سؤال ما الحكمة في الاقتصار على ذلك. قوله: "إنها أعتقت فخيرت" زاد في رواية إسماعيل بن جعفر "في أن تقر تحت زوجها أو تفارقه" وتقر بفتح وتشديد الراء أي تدوم، وتقدم في العتق من طريق الأسود عن عائشة "فدعاها النبي صلى الله عليه وسلم فخيرها من زوجها فاختارت نفسها" وفي رواية للدار قطني من طريق أبان صالح عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبريرة: اذهبي فقد عتق معك بضعك" زاد ابن سعد من طريق الشعبي مرسلا "فاختاري" ويأتي تمام ذلك في شرح الباب الذي بعد هذا ببابين. قوله: "وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الولاء لمن أعتق" هذه السنة الثانية، وقد تقدم بيان سببها مستوفى في العتق والشروط. وفي رواية نافع عن ابن عمر الماضية وكذا عن عدة طرق عن عائشة "إنما الولاء لمن أعتق" ويستفاد منه أن كلمة "إنما" تفيد الحصر وإلا لما لزم من إثبات الولاء للمعتق نفيه عن غيره وهو الذي أريد من الخبر، ويؤخذ منه أنه لا ولاء للإنسان على أحد بغير العتق فينتفي من أسلم على يده أحد، وسيأتي البحث فيه في الفرائض وأنه لا ولاء للملتقط خلافا لإسحاق، ولا لمن حالف إنسانا خلافا لطائفة من السلف، وبه قال أبو حنيفة. ويؤخذ من عمومه أن الحربي لو أعتق عبدا ثم أسلما أنه يستمر ولاؤه له وبه قال الشافعي. وقال ابن عبد البر إنه قياس قول مالك، ووافق على ذلك أبو يوسف، وخالف أصحابه فإنهم قالوا للعتيق في هذه الصورة أن يتولى من يشاء. قوله: "ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم" زاد في رواية إسماعيل بن جعفر "بيت عائشة". قوله: "والبرمة تفور بلحم، فقرب إليه خبز وأدم" في رواية إسماعيل بن جعفر "فدعا بالغداء فأتى بخبز". قوله: "ألم أر البرمة فيها لحم؟ قالوا: بلى، ولكن ذاك لحم تصدق به على بريرة وأنت لا تأكل الصدقة" وقع في رواية الأسود عن عائشة في الزكاة "وأتى النبي صلى الله عليه وسلم بلحم فقالوا هذا ما تصدق به على بريرة" وكذا في حديث أنس في الهبة، ويجمع بينهما بأنه لما سأل عنه أتى به وقيل له هل ذلك. ووقع في رواية عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة في كتاب الهبة "فأهدى لها لحم فقيل هذا تصدق به على بريرة" فإن كان الضمير لبريرة فكأنه أطلق على الصدقة عليها هدية لها، وإن كان لعائشة فلأن بريرة لما تصدقوا عليها باللحم أهدت منه لعائشة. ويؤيده ما وقع في رواية أسامة بن زيد عن القاسم عند أحمد وابن ماجه: "ودخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم والمرجل يفور بلحم، فقال: من أين لك هذا؟ قلت: أهدته لنا بريرة وتصدق به عليها" وعند أحمد ومسلم من طريق أبي معاوية عن هشام بن عروة عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة "وكان الناس يتصدقون عليها فتهدي لنا" وقد تقدم في الزكاة ما يتعلق بهذا المعنى، واللحم المذكور وقع في بعض الشروح أنه كان لحم بقر، وفيه نظر بل جاء عن عائشة "تصدق على مولاتي بشاة من الصدقة" فهو أولى أن يؤخذ به، ووقع بعد قوله: "هو عليها صدقة ولنا هدية" من رواية أبي معاوية المذكورة "فكلوه"، وسأذكر فوائده بعد بابين إن شاء الله تعالى

(9/406)


15- باب خِيَارِ الأَمَةِ تَحْتَ الْعَبْدِ
5280- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ وَهَمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ رَأَيْتُهُ عَبْدًا يَعْنِي زَوْجَ بَرِيرَةَ"
[الحديث 5280- أطرافه في: 5281، 5282، 5283]

(9/406)


5281- حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى بْنُ حَمَّادٍ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ ذَاكَ مُغِيثٌ عَبْدُ بَنِي فُلاَنٍ يَعْنِي زَوْجَ بَرِيرَةَ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ يَتْبَعُهَا فِي سِكَكِ الْمَدِينَةِ يَبْكِي عَلَيْهَا"
5282- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ كَانَ زَوْجُ بَرِيرَةَ عَبْدًا أَسْوَدَ يُقَالُ لَهُ مُغِيثٌ عَبْدًا لِبَنِي فُلاَنٍ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ يَطُوفُ وَرَاءَهَا فِي سِكَكِ الْمَدِينَةِ"
قوله: "باب خيار الأمة تحت العبد" يعني إذا عتقت، وهذا مصير من البخاري إلى ترجيح قول من قال إن زوج بريرة كان عبدا، وقد ترجم في أوائل النكاح بحديث عائشة في قصة بريرة "باب الحرة تحت العبد" وهو جزم منه أيضا بأنه كان عبدا، ويأتي بيان ذلك في الباب الذي يليه، واعترض عليه هناك ابن المنير بأنه ليس في حديث الباب أن زوجها كان عبدا، وإثبات الخيار لها لا يدل لأن المخالف يدعي أن لا فرق في ذلك بين الحر والعبد، والجواب أن البخاري جرى على عادته من الإشارة إلى ما في بعض طرق الحديث الذي يورده، ولا شك أن قصة بريرة لم تتعدد، وقد رجح عنده أن زوجها كان عبدا فلذلك جزم به، واقتضت الترجمة بطريق المفهوم أن الأمة إذا كانت تحت حر فعتقت لم يكن لها خيار، وقد اختلف العلماء في ذلك: فذهب الجمهور إلى ذلك، وذهب الكوفيون إلى إثبات الخيار لمن عتقت سواء كانت تحت حر أم عبد، وتمسكوا بحديث الأسود بن يزيد عن عائشة أن زوج بريرة كان حرا، وقد اختلف فيه على راوية هل هو من قول الأسود أو رواه عن عائشة أو هو قول غيره كما سأبينه، قال إبراهيم بن أبي طالب أحد حفاظ الحديث وهو من أقارن مسلم فيما أخرجه البيهقي عنه: خالف الأسود الناس في زوج بريرة. وقال الإمام أحمد إنما يصح أنه كان حرا عن الأسود وحده، وما جاء عن غيره فليس بذاك، وصح عن ابن عباس وغيره انه كان عبدا، ورواه علماء المدينة، وإذا روى علماء المدينة شيئا وعملوا به فهو أصح شيء، وإذا عتقت الأمة تحت الحر فعقدها المتفق على صحته لا يفسخ بأمر مختلف فيه ا هـ. وسيأتي مزيد لهذا بعد بابين وحاول بعض الحنفية ترجيح رواية من قال كان حرا على رواية من قال كان عبدا فقال: الرق تعقبه الحرية بلا عكس، وهو كما قال، لكن محل طريق الجمع إذا تساوت الروايات في القوة أما مع التفرد في مقابلة الاجتماع فتكون الرواية المنفردة شاذة والشاذ مردود، ولهذا لم يعتبر الجمهور طريق الجمع بين الروايتين مع قولهم إنه لا يصار إلى الترجيح مع إمكان الجمع، والذي يتحصل من كلام محققيهم وقد أكثر منه الشافعي ومن تبعه أن محل الجمع إذا لم يظهر الغلط في إحدى الروايتين، ومنهم من شرط التساوي في القوة، قال ابن بطال: أجمع العلماء أن الأمة إذا عتقت تحت عبد فإن لها الخيار، والمعنى فيه ظاهر لأن العبد غير مكافئ للحرة في أكثر الأحكام، فإذا عتقت ثبت لها الخيار من البقاء في عصمته أو المفارقة لأنها في وقت العقد عليها لم تكن من أهل الاختيار، واحتج من قال إن لها الخيار ولو كانت تحت حر بأنها عند التزويج لم يكن لها رأي لاتفاقهم على أن لمولاها أن يزوجها بغير رضاها فإذا عتقت تجدد لها حال لم يكن قبل ذلك. وعارضهم الآخرون بأن ذلك لو كان مؤثرا لثبت الخيار للبكر إذا زوجها أبوها ثم بلغت رشيدة وليس كذلك فكذلك الأمة تحت الحر فإنه لم يحدث لها بالعتق حال ترتفع به عن

(9/407)


الحر فكانت كالكتابية تسلم تحت المسلم، واختلف في التي تختار الفراق هل يكون ذلك طلاقا أو فسخا؟ فقال مالك والأوزاعي والليث: تكون طلقه بائنة، وثبت مثله عن الحسن وابن سيرين أخرجه ابن أبي شيبة. وقال الباقون يكون فسخا لا طلاقا. قوله: "عن ابن عباس قال: رأيته عبدا يعني زوج بريرة" هكذا أورده مختصرا من هذا الوجه وهو لفظ شعبة، وكذا أخرجه الإسماعيلي من طريق مربع عن أبي الوليد شيخ البخاري فيه عن شعبة وحده، وزاد الإسماعيلي من طريق عبد الصمد عن شعبة "رأيته يبكي" وفي رواية له "لقد رأيته يتبعها" وأما لفظ همام فأخرجه أبو داود من طريق عفان عنه بلفظ: "أن زوج بريرة كان عبدا أسود يسمى مغيثا، فخيرها النبي صلى الله عليه وسلم وأمرها أن تعتد" وساقه أحمد عن عفان عن همام مطولا وفيه أنها تعتد عدة الحرة. ثم أورد البخاري الحديث من وجهين عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس قال في أحدهما "ذاك مغيث عبد بني فلان" يعني زوج بريرة، وفي الأخرى "كان زوج بريرة عبدا أسود يقال له مغيث" وهكذا جاء من غير وجه أن اسمه مغيث، وضبط في البخاري بضم أوله كسر المعجمة ثم تحتانية ساكنة ثم مثلثة، ووقع عند العسكري بفتح المهملة وتشديد التحتانية وآخره موحدة، والأول أثبت وبه جزم ابن ماكولا وغيره، ووقع عند المستغفري في "الصحابة" من طريق محمد ابن عجلان عن يحيى بن عروة عن عروة عن عائشة في قصة بريرة أن اسم زوج بريرة مقسم، وما أظنه إلا تصحيفا. قوله: "عبدا لبني فلان" عند الترمذي من طريق سعيد بن أبي عروبة عن أيوب "كان عبدا أسود لبني المغيرة" وفي رواية هشيم عن سعيد بن منصور "وكان عبدا لآل المغيرة من بني مخزوم" ووقع في المعرفة لابن منده مغيث مولى أحمد بن جحش، ثم ساق الحديث من طريق سعيد بن أبي عروبة مثل ما وقع في الترمذي، لكن عند أبي داود بسند فيه ابن إسحاق "وهي عند مغيث عبد لآل أبي أحمد" وقال ابن عبد البر "مولى بني مطيع" والأول أثبت لصحة إسناده ويبعد الجمع لأن بني المغيرة من آل مخزوم في رواية هشيم وبني جحش من أسد بن خزيمة وبني مطيع من آل عدي بن كعب، ويمكن أن يدعي أنه كان مشتركا بينهم على بعده، أو انتقل. قوله: "عبدا لبني فلان" عند الترمذي من طريق سعيد بن أبي عروبة عن أيوب "كان عبدا أسود لبني المغيرة" وفي رواية هشيم عن سعيد بن منصور "وكان عبدا لآل المغيرة من بني مخزوم" ووقع في المعرفة لابن منده مغيث مولى أحمد بن جحش، ثم ساق الحديث من طريق سعيد بن أبي عروبة مثل ما وقع في الترمذي، لكن عند أبي داود بسند فيه ابن إسحاق "وهي عند مغيث عبد لآل أبي أحمد" وقال ابن عبد البر "مولى بني مطيع" والأول أثبت لصحة إسناده ويبعد الجمع لأن بني المغيرة من آل مخزوم في رواية هشيم وبني جحش من أسد بن خزيمة وبني مطيع من آل عدي بن كعب، ويمكن أن يدعي أنه كان مشتركا بينهم على بعده، أو انتقل.

(9/408)


16- باب شَفَاعَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي زَوْجِ بَرِيرَةَ
5283- حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ زَوْجَ بَرِيرَةَ كَانَ عَبْدًا يُقَالُ لَهُ مُغِيثٌ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ يَطُوفُ خَلْفَهَا يَبْكِي وَدُمُوعُهُ تَسِيلُ عَلَى لِحْيَتِهِ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لِعبَّاسٍ يَا عَبَّاسُ أَلاَ تَعْجَبُ مِنْ حُبِّ مُغِيثٍ بَرِيرَةَ وَمِنْ بُغْضِ بَرِيرَةَ مُغِيثًا فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لَوْ رَاجَعْتِهِ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ تَأْمُرُنِي قَالَ إِنَّمَا أَنَا أَشْفَعُ قَالَتْ لاَ حَاجَةَ لِي فِيهِ"
قوله: "باب شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في زوج بريرة" أي عند بريرة لترجع إلى عصمته، قال ابن المنير: موقع هذه الترجمة من الفقه تسويغ الشفاعة للحاكم عند الخصم في خصمه أن يحط عنه أو يسقط ونحو ذلك، وتعقب بأن قصة بريرة لم تقع الشفاعة فيها عند الترافع، وفيه نظر لأن ظاهر حديث الباب أنه بعد الحكم؛ لكن لم يصرح بالترافع إذ رؤية ابن عباس لزوجها يبكي، وقول العباس وبعده لو راجعته، فيحتمل أن يكون القول عند الترافع لأن الواو لا تقتضي الترتيب. قوله: "حدثني محمد" هو ابن سلام على ما بينت في المقدمة وقد أخرجه النسائي عن محمد بن بشار

(9/408)


وابن ماجه عن محمد بن المثنى ومحمد بن خلاد الباهلي قالوا "حدثنا عبد الوهاب الثقفي"، وابن بشار وابن المثنى من شيوخ البخاري فيحتمل أن يكون المراد أحدهما. قوله: "حدثنا عبد الوهاب" هو ابن عبد المجيد الثقفي وخالد شيخه هو الحذاء، وقد سبق في الباب الذي قبله عن قتيبة عن عبد الوهاب وهو الثقفي هذا عن أيوب، فكأن له فيه شيخين لكن رواية خالد الحذاء أتم سياقا كما ترى، وطريق أيوب أخرجها الإسماعيلي من طريق محمد بن الوليد البصري عن عبد الوهاب الثقفي، وطريق خالد أخرجها من طريق أحمد بن إبراهيم الدورقي عن الثقفي أيضا وساقه عنهما نحو ما وقع عند البخاري. قوله: "يطوف خلفها يبكي" في رواية وهيب عن أيوب في الباب الذي قبله "يتبعها في سكك المدينة يبكي عليها" والسكك بكسر المهملة وفتح الكاف جمع سكة وهي الطرق، ووقع في رواية سعيد بن أبي عروبة "في طرق المدينة ونواحيها، وأن دموعه تسيل على لحيته يترضاها لمختاره فلم تفعل" وهذا ظاهره أن سؤاله لها كان قبل الفرقة، وظاهر قول النبي صلى الله عليه وسلم في رواية الباب: "لو راجعته" أن ذلك كان بعد الفرقة، وبه جزم ابن بطال فقال: لو كان قبل الفرقة لقال لو اخترته، قلت: ويحتمل أن يكون وقع له ذلك قيل وبعد. وقد تمسك برواية سعيد من لم يشترط الفور في الخيار هنا، وسيأتي البحث فيه بعد. قوله: "يا عباس" هو ابن عبد المطلب والد راوي الحديث، وتقدم ما فيه. وفي رواية ابن ماجه: "فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "للعباس يا عباس" وعند سعيد بن منصور عن هشيم قال: "أنبأنا خالد هو الحذاء بسنده أن العباس كان كلم النبي صلى الله عليه وسلم أن يطلب إليها في ذلك" وفيه دلالة على أن قصة بريرة كانت متأخرة في السنة التاسعة أو العاشرة، لأن العباس إنما سكن المدينة بعد رجوعهم من غزوة الطائف وكان ذلك في أواخر سنة ثمان، ويؤيده أيضا قول ابن عباس أنه شاهد ذلك، وهو إنما قدم المدينة مع أبويه. ويؤيد تأخر قصتها أيضا - بخلاف قول من زعم أنها كانت قبل الإفك - أن عائشة في ذلك الزمان كانت صغيرة، فيبعد وقوع تلك الأمور والمراجعة والمسارعة إلى الشراء والعتق منها يومئذ، وأيضا فقول عائشة "إن شاء مواليك أن أعدها لهم عدة واحدة" فيه إشارة إلى وقوع ذلك في آخر الأمر لأنهم كانوا في أول الأمر في غاية الضيق ثم حصل لهم التوسع بعد الفتح، وفي كل ذلك رد على من زعم أن قصتها كانت متقدمة قبل قصة الإفك، وحمله على ذلك وقوع ذكرها في حديث الإفك، وقد قدمت الجواب عن ذلك هناك. ثم رأيت الشيخ تقي الدين السبكي استشكل القصة ثم جوز أنها كانت تخدم عائشة قبل شرائها أو اشترتها وأخرت عتقها إلى بعد الفتح أو دام حزن زوجها عليها مدة طويلة أو كان حصل الفسخ وطلب أن ترده بعقد جديد أو كانت لعائشة ثم باعتها ثم استعادتها بعد الكتابة ا هـ، وأقوى الاحتمالات الأول كما ترى. قوله: "لو راجعته" كذا في الأصول بمثناة واحدة ووقع في رواية ابن ماجه: "لو راجعتيه" بإثبات تحتانية ساكنة بعد المثناة وهي لغة ضعيفة، وزاد ابن ماجه: "فإنه أبو ولدك" وظاهره أنه كان له منها ولد. قوله: "تأمرني" زاد الإسماعيلي: "قال لا" وفيه إشعار بأن الأمر لا ينحصر في صيغة افعل لأنه خاطبها بقوله: "لو راجعته. فقالت: أتأمرني "أي تريد بهذا القول الأمر فيجب علي؟ وعند ابن مسعود من مرسل ابن سيرين يسند صحيح "فقالت: يا رسول الله. أشيء واجب على؟ قال: لا". قوله: "قال: إنما أنا أشفع" في رواية ابن ماجه: "إنما أشفع" أي أقول ذلك على سبيل الشفاعة له لا على سبيل الحتم عليك. قوله: "فلا حاجة لي فيه" أي فإذا لم تلزمني بذلك لا اختيار العود إليه. وقد وقع في الباب الذي بعده "لو أعطاني كذا وكذا ما كنت عنده".

(9/409)


باب الولاء لمن اعتق
...
17- باب 5284- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الأَسْوَدِ أَنَّ عَائِشَةَ أَرَادَتْ أَنْ تَشْتَرِيَ بَرِيرَةَ فَأَبَى مَوَالِيهَا إِلاَّ أَنْ يَشْتَرِطُوا الْوَلاَءَ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ اشْتَرِيهَا وَأَعْتِقِيهَا فَإِنَّمَا الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ وَأُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَحْمٍ فَقِيلَ إِنَّ هَذَا مَا تُصُدِّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ فَقَالَ هُوَ لَهَا صَدَقَةٌ وَلَنَا هَدِيَّة"ٌ
حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ وَزَادَ فَخُيِّرَتْ مِنْ زَوْجِهَا"
قوله: "باب" كذا لهم بغير ترجمة، وهو من متعلقات ما قبله، وأورد فيه قصة بريرة عن عبد الله بن رجاء عن شعبة عن الحكم وهو ابن عتيبة بمثناة وموحدة مصغر عن إبراهيم وهو النخعي عن الأسود وهو ابن يزيد "أن عائشة أرادت أن تشتري بريرة" فساق القصة مختصرة وصورة سياقه الإرسال، لكن أورده في كفارات الأيمان مختصرا عن سليمان بن حرب عن شعبة فقال فيه: "عن الأسود عن عائشة" وكذا أورده في الفرائض عن حفص ابن عمر عن شعبة وزاد في آخره: "قال الحكم: وكان زوجها حرا" ثم أورده بعده من طريق منصور عن إبراهيم عن الأسود أن عائشة فساق نحو سياق الباب وزاد فيه: "وخيرت فاختارت نفسها وقالت: لو أعطيت كذا وكذا ما كنت معه، قال الأسود: وكان زوجها حرا" قال البخاري: قول الأسود منقطع، وقول ابن عباس "رأيته عبدا" أصح. وقال في الذي قبله في قول الحكم نحو ذلك، وقد أورد البخاري عقب رواية عبد الله بن رجاء هذه عن آدم عن شعبة ولم يسق لفظه لكن قال: "وزاد: فخيرت من زوجها" وقد أورده في الزكاة عن آدم بهذا الإسناد فلم يذكر هذه الزيادة، وقد أخرجه البيهقي من وجه آخر عن آدم شيخ البخاري فيه فجعل الزيادة من قول إبراهيم ولفظه في آخره: "قال الحكم قال إبراهيم: وكان زوجها حرا فخيرت من زوجها" فظهر أن هذه الزيادة مدرجة وحذفها في الزكاة لذلك، وإنما أوردها هنا مشيرا إلى أن أصل التخيير في قصة بريرة ثابت من طريق أخرى وقد قال الدار قطني في "العلل" : لم يختلف على عروة عن عائشة أنه كان عبدا، وكذا قال جعفر بن محمد بن علي عن أبيه عن عائشة، وأبو الأسود وأسامة بن زيد عن القاسم. قلت: وقع لبعض الرواة فيه غلط، فأخرج قاسم بن أصبغ في مصنفه وابن حزم من طريقه قال أنبأنا أحمد بن يزيد المعلم حدثنا موسى بن معاوية عن جرير عن هشام عن أبيه عن عائشة "كان زوج بريرة حرا" وهذا وهم من موسى أو من أحمد، فإن الحفاظ من أصحاب هشام ومن أصحاب جرير قالوا كان عبدا، منهم إسحاق بن راهويه وحديثه عن النسائي، وعثمان بن أبي شيبة وحديثه عند أبي داود، وعلي بن حجر وحديثه عند الترمذي، وأصله عند مسلم وأحال به على رواية أبي أسامة عن هشام وفيه أنه كان عبدا، قال الدار قطني: وكذا قال أبو معاوية عن هشام بن عروة عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه. قلت: ورواه شعبة عن عبد الرحمن فقال كان حرا، ثم رجع عبد الرحمن فقال ما أدري، وقد تقدم في العتق قال الدار قطني وقال عمران بن حدير عن عكرمة عن عائشة كان حرا وهو وهم، قلت: في شيئين في قوله حر وفي قوله عائشة، وإنما هو من رواية عكرمة عن ابن عباس، ولم يختلف على ابن عباس في أنه كان عبدا، وكذا جزم به الترمذي عن ابن عمر وحديثه عند الشافعي والدار قطني وغيرهما، وكذا أخرجه النسائي من حديث صفية بنت أبي عبيد قالت كان زوج بريرة عبدا

(9/410)


وسنده صحيح. وقال النووي: يؤيد قول من قال أنه كان عبدا قول عائشة كان عبدا، ولو كان حرا لم يخيرها، فأخبرت وهي صاحبة القصة بأنه كان عبدا، ثم عللت بقولها "ولو كان حرا لم يخيرها" ومثل هذا لا يكاد أحد يقوله إلا توقيفا، وتعقب بأن هذه الزيادة في رواية جرير عن هشام بن عروة في آخر الحديث، وهي مدرجة من قول عروة، بين ذلك في رواية مالك وأبي داود والنسائي. نعم وقع في رواية أسامة بن زيد عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة قالت: "كانت بريرة مكاتبة لأناس من الأنصار وكانت تحت عبد" الحديث أخرجه أحمد وابن ماجه والبيهقي، وأسامة فيه مقال، وأما دعوى أن ذلك لا يقال إلا بتوقيف فمردودة فإن للاجتهاد فيه مجالا، وقد تقدم قريبا توجيهه من حيث النظر أيضا، قال الدار قطني "وقال إبراهيم عن الأسود عن عائشة: كان حرا". قلت: وأصرح ما رأيته في ذلك رواية أبي معاوية "حدثنا الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة قالت: كان زوج بريرة حرا فلما عتقت خيرت" الحديث أخرجه أحمد عنه. وأخرج ابن أبي شيبة عن إدريس عن الأعمش بهذا السند عن عائشة قالت: "كان زوج بريرة حرا" ومن وجه آخر عن النخعي عن الأسود أن عائشة حدثته "أن زوج بريرة كان حرا حين أعتقت" فدلت الروايات المفصلة التي قدمتها آنفا على أنه مدرج من قول الأسود أو من دونه فيكون من أمثلة ما أدرج في أول الخبر وهو نادر فإن الأكثر أن يكون في آخره ودونه أن يقع في وسطه، وعلى تقدير أن يكون موصولا فترجح رواية من قال كان عبدا بالكثرة، وأيضا فآل المرء أعرف بحديثه، فإن القاسم ابن أخي عائشة وعروة ابن أختها وتابعهما غيرهما فروايتهما أولى من رواية الأسود فإنهما أقعد بعائشة وأعلم بحديثها والله أعلم. ويترجح أيضا بأن عائشة كانت تذهب إلى أن الأمة إذا عتقت تحت الحر لا خيار لها، وهذا بخلاف ما روى العراقيون عنها فكان يلزم على أصل مذهبهم أن يأخذوا بقولها ويدعوا ما روي عنها لا سيما وقد اختلف عنها فيه، وادعى بعضهم أنه يمكن الجمع بين الروايتين بحمل قول من قال كان عبدا على اعتبار ما كان عليه ثم أعتق، فلذلك قال من قال كان حرا، ويرد هذا الجمع ما تقدم من قول عروة "كان عبدا ولو كان حرا لم تخير" وأخرجه الترمذي بلفظ: "أن زوج بريرة كان عبدا أسود يوم أعتقت" فهذا يعارض الرواية المتقدمة عن الأسود، ويعارض الاحتمال المذكور احتمال أن يكون من قال كان حرا أراد ما آل إليه أمره، وإذا تعارضا إسنادا واحتمالا احتيج إلى الترجيح ورواية الأكثر يرجح بها وكذلك الأحفظ وكذلك الألزم، وكل ذلك موجود في جانب من قال كان عبدا. وفي قصة بريرة من الفوائد وقد تقدم بعضها في المساجد وفي الزكاة والكثير منها في العتق: جواز المكاتبة بالسنة تقريرا لحكم الكتاب، وقد روى ابن أبي شيبة في "الأوائل" بسند صحيح أنها أول كتابة كانت في الإسلام، ويرد عليه قصة سلمان، فيجمع بأن أوليته في الرجال وأولية بريرة في النساء، وقد قيل إن أول مكاتب الإسلام أبو أمية عبد عمر، وادعى الروياني أن الكتابة لم تكن تعرف في الجاهلية وخولف. ويؤخذ من مشروعية نجوم الكتابة البيع إلى أجل والاستقراض ونحو ذلك، وفيه إلحاق الإماء بالعبيد لأن الآية طاهرة في الذكور، وفيه جواز كتابة أحد الزوجين الرقيقين، ويلحق به جواز بيع أحدهما دون الآخر، وجواز كتابة من لا مال له ولا حرفة، كذا قيل وفيه نظر لأنه لا يلزم من طلبها من عائشة الإعانة على حالها أن يكون لا مال لها ولا حرفة، وفيه جواز بيع المكاتب إذا رضي ولم يعجز نفسه إذا وقع التراضي بذلك، وحمله من منع على أنها عجزت نفسها قبل البيع ويحتاج إلى دليل، وقيل إنما وقع البيع على نجوم الكتابة وهو

(9/411)


بعيد جدا ويؤخذ منه أن المكاتب عبد ما بقي عليه شيء، فيتفرع منه إجراء أحكام الرقيق كلها في النكاح والجنايات والحدود وغيرها. وقد أكثر بسردها من ذكرنا أنهم جمعوا الفوائد المستنبطة من حديث بريرة. ومن ذلك أن من أدى أكثر نجومه لا يعتق تغليبا لحكم الأكثر، وأن من أدى من النجوم بقدر قيمته يعتق، وأن من أدى بعض نجومه لم يعتق منه بقدر ما أدى، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن في شراء بريرة من غير استفصال. وفيه جواز بيعه المكاتب والرقيق بشرط العتق، وأن بيع الأمة المزوجة ليس طلاقا كما تقدم تقريره قريبا وأن عتقها ليس طلاقا ولا فسخا لثبوت التخيير، فلو طلقت بذلك واحدة لكان لزوجها الرجعة ولم يتوقف على إذنها، أو ثلاثا لم يقل لها لو راجعته لأنها ما كانت تحل له إلا بعد زوج آخر، وأن بيعها لا يبيح لمشتريها وطأها لأن تخييرها يدل على بقاء علقة العصمة وأن سيد المكاتب لا يمنعه من الاكتساب وأن اكتسابه من حين الكتابة يكون له جواز سؤال المكاتب من يعينه على بعض نجومه وإن لم تحل، وأن ذلك لا يقتضي تعجيزه، وجواز سؤال ما لا يضطر السائل إليه في الحال، وجواز الاستعانة بالمرأة المزوجة، وجواز تصرفها في مالها بغير إذن زوجها، وبذل المال في طلب الأجر حتى في الشراء بالزيادة على ثمن المثل بقصد التقرب بالعتق، ويؤخذ منه جواز شراء من يكون مطلق التصرف السلعة بأكثر من ثمنها لأن عائشة بذلت نقدا ما جعلوه نسيئة في تسع سنين لحصول الرغبة في النقد أكثر من النسيئة، وجواز السؤال في الجملة لمن يتوقع الاحتياج إليه فيتحمل الأخبار الواردة في الزجر عن السؤال على الأولوية. وفيه جواز سعي المرقوق في فكاك رقبته ولو كان بسؤال من يشتري ليعتق وإن أضر ذلك بسيده لتشوف الشارع إلى العتق، وفيه بطلان الشروط الفاسدة في المعاملات وصحة الشروط المشروعة لمفهوم قوله صلى الله عليه وسلم: "كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل" وقد تقدم بسطه في الشروط، ويؤخذ منه أن من استثنى خدمة المرقوق عند بيعه لم يصح شرطه، وأن من شرط شرطا فاسدا لم يستحق العقوبة إلا أن علم بتحريمه وأصر عليه، وأن سيد المكاتب لا يمنعه من السعي في تحصيل مال الكتابة ولو كان حقه في الخدمة ثابتا، وأن المكاتب إذا أدى نجومه من الصدقة لم يردها السعيد وإذا أدى نجومه قبل حلولها كذلك، ويؤخذ منه أنه يعتق أخذا من قول موالي بريرة "إن شاءت أن تحتسب عليك" فإن ظاهره في قبول تعجيل ما اتفقوا على تأجيله ومن لازمه حصول العتق، ويؤخذ منه أيضا أن من تبرع عن المكاتب بما عليه عتق، واستدل به على عدم وجوب الوضع عن المكاتب لقول عائشة "أعدها لهم عدة واحدة" ولم ينكر، وأجيب بجواز قصد دفعهم لها بعد القبض. وفيه جواز إبطال الكتابة وفسخ عقدها إذا تراضى السيد والعبد، وإن كان فيه إبطال التحرير لتقرير بريرة على السعي بين عائشة ومواليها في فسخ كتابتها لتشتريها عائشة. وفيه ثبوت الولاء للمعتق والرد على من خالفه، ويؤخذ من ذلك عدة مسائل كعتق السائبة واللقيط والحليف ونحو ذلك كثر بها العدد من تكلم على حديث بريرة. وفيه مشروعية الخطبة في الأمر المهم والقيام فيها، وتقدمة الحمد والثناء، وقول أما بعد عند ابتداء الكلام في الحاجة، وأن من وقع منه ما ينكر استحب عدم تعيينه؛ وأن استعمال السجع في الكلام لا يكره إلا إذا قصد إليه ووقع متكلفا. وفيه جواز اليمين فيما لا تجب فيه ولا سيما عند العزم على فعل شيء، وأن لغو اليمين لا كفارة فيه لأن عائشة حلفت أن لا تشترط ثم قال لها النبي صلى الله عليه وسلم اشترطي ولم ينقل كفارة. وفيه مناجاة الاثنين بحضرة الثالث في الأمر يستحي منه المناجي ويعلم أن من ناجاه يعلم الثالث به ويستثنى ذلك من النهي الوارد فيه، وفيه جواز سؤال الثالث عن المناجاة المذكورة إذا ظن أن له تعلقا به وجواز

(9/412)


إظهار السر في ذلك ولا سيما إن كان فيه مصلحة للمناجي. وفيه جواز المساومة في المعاملة والتوكيل فيها ولو للرقيق، واستخدام الرقيق في الأمر الذي يتعلق بمواليه وإن لم يأذنوا في ذلك بخصوصه. وفيه ثبوت الولاء للمرأة المعتقة فيستثنى من عموم الولاء لحمة كلحمة النسب فإن الولاء لا ينتقل إلى المرأة بالإرث بخلاف النسب. وفيه أن الكافر يرث ولاء عتيقه المسلم وإن كان لا يرث قريبه المسلم، وأن الولاء لا يباع ولا يوهب وقد تقدم في باب مفرد في العتق، ويؤخذ منه أن معنى قوله في الرواية الأخرى "الولاء لمن أعطى الورق" أن المراد بالمعطى المالك لا من باشر الإعطاء مطلقا فلا يدخل الوكيل، ويؤيده قوله في رواية الثوري عند أحمد "لمن أعطى الورق وولى النعمة" وفيه ثبوت الخيار للأمة إذا عتقت على التفصيل المتقدم وأن خيارها يكون على الفور لقوله في بعض طرقه: "إنها عتقت فدعاها فخيرها فاختارت نفسها" وللعلماء في ذلك أقوال: أحدها وهو قول الشافعي أنه على الفور، وعنه يمتد خيارها ثلاثا، وقيل بقيامها من مجلس الحاكم وقيل من مجلسها وهما عن أهل الرأي، وقيل يمتد أبدا وهو قول مالك والأوزاعي وأحمد وأحد أقوال الشافعي، واتفقوا على أنه إن مكنته من وطئها سقط خيارها، وتمسك من قال به بما جاء في بعض طرقه وهو عند أبي داود من طريق ابن إسحاق بأسانيد عن عائشة أن بريرة أعتقت فذكر الحديث وفي آخره: "إن قربك فلا خيار لك" وروى مالك بسند صحيح عن حفصة أنها أفتت بذلك. وأخرج سعيد بن منصور عن ابن عمر مثله، قال ابن عبد البر: لا أعلم لهما مخالفا من الصحابة. وقال به جمع من التابعين منهم الفقهاء السبعة، واختلف فيما لو وطئها قبل علمها بأن لها الخيار هل يسقط أو لا؟ على قولين للعلماء أصحهما عند الحنابلة لا فرق، وعند الشافعية تعذر بالجهل. وفي رواية الدار قطني: إن وطئك فلا خيار لك، ويؤخذ من هذه الزيادة أن المرأة إذا وجدت بزوجها عيبا ثم مكنته من الوطء بطل خيارها. وفيه أن الخيار فسخ لا يملك الزوج فيه رجعة، وتمسك من قال له الرجعة بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لو راجعته" ولا حجة فيه وإلا لما كان لها اختيار فتعين حمل المراجعة في الحديث على معناها اللغوي والمراد رجوعها إلى عصمته، ومنه قوله تعالى :{فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا} مع أنها في المطلق ثلاثا. وفيه إبطال قول من زعم استحالة أن يحب أحد الشخصين الآخر والآخر يبغضه لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا تعجب من حيث مغيث بريرة ومن بغض بريرة مغيثا" ؟ نعم يؤخذ منه أن ذلك هو الأكثر الأغلب، ومن ثم وقع التعجب لأنه على خلاف المعتاد، وجوز الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة نفع الله به أن يكون ذلك مما ظهر من كثرة استمالة مغيث لها بأنواع من الاستمالات كإظهاره حبها وتردده خلفها وبكائه عليها مع ما ينضم إلى ذلك من استمالته لها بالقول الحسن والوعد الجميل، والعادة في مثل ذلك أن يميل القلب ولو كان نافرا فلما خالفت العادة وقع التعجب، ولا يلزم منه ما قال الأولون. وفيه أن المرء إذا خير بين مباحين فآثر ما ينفعه لم يلم ولو أضر ذلك برفيقه. وفيه اعتبار الكفاءة في الحرية. وفيه سقوط الكفاءة برضا المرأة التي لا ولي لها، وأن من خير امرأته فاختارت فواقه وقع وانفسخ النكاح بينهما وقد تقدم، وأنها لو اختارت البقاء معه لم ينقص عدد الطلاق. وكثر بعض من تكلم على حديث بريرة هنا في سرد تفاريع التخيير. وفيه أن المرأة إذا ثبت لها الخيار فقالت لا حاجة لي به ترتب على ذلك حكم الفراق، كذا قيل وهو مبني على أن ذلك وقع قبل اختيارها الفراق ولم يقع إلا بهذا الكلام وفيه من النظر ما تقدم. وفيه جواز دخول النساء الأجانب بيت الرجل سواء كان فيه أم لا. وفيه أن المكاتبة لا يلحقها في العتق ولدها ولا زوجها. وفيه تحريم الصدقة على النبي

(9/413)


صلى الله عليه وسلم مطلقا، وجواز التطوع منها على ما يلحق به في تحريم صدقة الفرض كأزواجه ومواليه، وأن موالي أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لا تحرم عليهن الصدقة وإن حرمت على الأزواج، وجواز أكل الغنى ما تصدق به على الفقير إذا أهداه له وبالبيع أولى، وجواز قبول الغني هدية الفقير. وفيه الفرق قين الصدقة والهدية في الحكم. وفيه نصح أهل الرجل له في الأمور كلها وجواز أكل الإنسان من طعام من يسر بأكله منه ولو لم يأذن له فيه بخصوصه، وبأن الأمة إذا عتقت جاز لها التصرف بنفسها في أمورها ولا حجر لمعتقها عليها إذا كانت رشيدة، وأنها تتصرف في كسبها دون إذن زوجها إن كان لها زوج. وفيه جواز الصدقة على من يمونه غيره لأن عائشة كانت تمون بريرة ولم ينكر عليها قبولها الصدقة، وأن لمن أهدى لأهله شيء أن يشرك نفسه معهم في الإخبار عن ذلك لقوله: "وهو لنا هدية" وأن من حرمت عليه الصدقة جاز له أكل عينها إذا تغير حكمها، وأنه يجوز للمرأة أن تدخل إلى بيت زوجها ما لا يملكه بغير علمه، وأن تتصرف في بيته بالطبخ وغيره بالاته ووقوده، وجواز أكل المرء ما يجده في بيته إذا غلب الحل في العادة، وأنه ينبغي تعريفه بما يخشى توقفه عنه، واستحباب السؤال عما يستفاد به علم أو أدب أو بيان حكم أو رفع شبهة وقد يجب، وسؤال الرجل عما لم يعهده في بيته، وأن هدية الأدنى للأعلى لا تستلزم الإثابة مطلقا، وقبول الهدية وإن نزر قدرها جبر للمهدي، وأن الهدية تملك بوضعها في بيت المهدي له ولا يحتاج إلى التصريح بالقبول، وأن لمن تصدق عليه بصدقة أن يتصرف فيها بما شاء ولا ينقص أجر المتصدق، وأنه لا يجب السؤال عن أصل المال الواصل إذا لم يكن فيه شبهة، ولا عن الذبيحة إذا ذبحت بين المسلمين، وأن من تصدق عليه قليل لا يتسخطه. وفيه مشاورة المرأة زوجها في التصرفات، وسؤال العالم عن الأمور الدينية، وإعلام العالم بالحكم لمن رآه يتعاطى أسبابه ولو لم يسأل ومشاورة المرأة إذا ثبت لها حكم التخيير في فراق زوجها أو الإقامة عنده، وأن على الذي يشاور بذل النصيحة. وفيه جواز مخالفة المشير فيما يشير به في غير الواجب، واستحباب شفاعة الحاكم في الرفق بالخصم حيث لا ضرر ولا إلزام، ولا لوم على من خالف ولا غضب ولو عظم قدر الشافع، وترجم له النسائي: "شفاعة الحاكم في الخصوم قبل فصل الحكم ولا يجب على المشفوع عنده القبول"، ويؤخذ منه أن التصميم في الشفاعة لا يسوغ فيما تشق الإجابة فيه على المسئول بل يكون على وجه العرض والترغيب. وفيه جواز الشفاعة قبل أن يسألها المشفوع له لأنه لم ينقل أن مغيثا سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يشفع له، كذا قيل، وقد قدمت أن في بعض الطرق أن العباس هو الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك فيحتمل أن يكون مغيث سأل العباس في ذلك ويحتمل أن يكون العباس ابتدأ ذلك من قبل نفسه شفقة منه على مغيث، ويؤخذ منه استحباب إدخال السرور على قلب المؤمن. وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة نفع الله به: فيه أن الشافع يؤجر ولو لم تحصل إجابته، وأن المشفوع عنده إذا كان دون قدر الشافع لم تمتنع الشفاعة، قال: وفيه تنبيه الصاحب صاحبه على الاعتبار بآيات الله وأحكامه لتعجيب النبي صلى الله عليه وسلم العباس من حب مغيث بريرة، قال: ويؤخذ منه أن نظره صلى الله عليه وسلم كان كله بحضور وفكر، وأن كل ما خالف العادة يتعجب منه ويعتبر به. وفيه حسن أدب بريرة لأنها لم تفصح برد الشفاعة وإنما قالت: "لا حاجة لي فيه". وفيه أن فرط الحب يذهب الحياء لما ذكر من حال مغيث وغلبة الوجد عليه حتى لم يستطع كتمان حبها، وفي ترك النكير عليه بيان جواز قبول عذر من كان في مثل حاله ممن يقع منه ما لا يليق بمنصبه إذا وقع بغير اختياره، ويستنبط من هذا معذرة أهل المحبة في الله إذا حصل لهم الوجد من سماع ما يفهمون منه الإشارة إن أحوالهم حيث

(9/414)


يظهر منهم مالا يصدر عن اختيار من الرقص ونحوه، وفيه استحباب الإصلاح بين المتنافرين سواء كانا زوجين أم لا، وتأكيد الحرمة بين الزوجين إذا كان بينهما ولد لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنه أبو ولدك" ويؤخذ منه أن الشافع يذكر للمشفوع عنده ما يبعث إلى قبوله من مقتضى الشفاعة والحامل عليها، وفيه جواز شراء الأمة دون ولدها وأن الولد يثبت بالفراش والحكم بظاهر الأمر في ذلك. قلت: ولم أقف على تسمية أحد من أولاد بريرة، والكلام محتمل لأن يريد به أنه أبو ولدها بالقوة لكنه خلاف الظاهر. وفيه جواز نسبة الولد إلى أمه. وفيه أن المرأة الثيب لا إجبار عليها ولو كانت معتوقة، وجواز خطبة الكبير والشريف لمن هو دونه. وفيه حسن الأدب في المخاطبة حتى من الأعلى مع الأدنى، وحسن التلطف في الشفاعة. وفيه أن للعيد أن يخطب مطلقته بغير إذن سيد، وأن خطبة المعتدة لا تحرم على الأجنبي إذا خطبها لمطلقها، وأن فسخ النكاح لا رجعة فيه إلا بنكاح جديد، وأن الحب والبغض بين الزوجين لا لوم فيه على واحد منهما لأنه بغير اختيار، وجواز بكاء المحب على فراق حبيبه وعلى ما يفوته من الأمور الدنيوية ومن الدينية بطريق الأولى، وأنه لا عار على الرجل في إظهار حبه لزوجته، وأن المرأة إذا أبغضت الزوج لم يكن لوليها إكراهها على عشرته، وإذا أحبته لم يكن لوليها التفريق بينهما، وجواز ميل الرجل إلى امرأة يطمع في تزويجها أو رجعتها، وجواز كلام الرجل لمطلقته في الطرق واستعطافه لها واتباعها أين سلكت كذلك، ولا يخفى أن محل الجواز عند أمن الفتنة، وجواز الإخبار عما يظهر من حال المرء وإن لم تفصح به لقوله صلى الله عليه وسلم للعباس ما قال. وفيه جواز رد الشافع المنة على المشفوع إليه بقبول شفاعته، لأن قول بريرة للنبي صلى الله عليه وسلم: "أتأمرني" ظاهر في أنه لو قال: "نعم" لقبلت شفاعته، فلما قال: "لا" علم أنه رد عليها ما فهم من المنة في امتثال الأمر، كذا قيل وهو متكلف، بل يؤخذ منه أن بريرة علمت أن أمره وجب الامتثال، فلما عرض عليها ما عرض استفصلت هل هو أمر فيجب عليها امتثاله، أو مشورة فتتحير فيها؟ وفيه أن كلام الحاكم بين الخصوم في مشورة وشفاعة ونحوهما ليس حكما. وفيه أنه يجوز لمن سئل قضاء حاجة أن يشترط على الطالب ما يعود عليه نفعه، لأن عائشة شرطت أن يكون لها الولاء إذا أدت الثمن دفعة واحدة. وفيه جواز أداء الدين على المدين، وأنه يبرأ بأداء غيره عنه، وإفتاء الرجل زوجته فيما لها حظ وغرض إذا كان حقا، وجواز حكم الحاكم لزوجته بالحق، وجواز قول مشتري الرقيق اشتريته لأعتقه ترغيبا للبائع في تسهل البيع، وجواز المعاملة بالدراهم والدنانير عددا إذا كان قدرها بالكتابة معلوما لقولها "أعدها" ولقولها "تسع أواق" ويستنبط منه جواز بيع المعاطاة. وفيه جواز عقد البيع بالكتابة لقوله: "خذيها" ومثله قوله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر في حديث الهجرة "قد أخذتها بالثمن". وفيه أن حق اللد مقدم على حق الآدمي لقوله: "شرط الله أحق وأوثق" ومثله الحديث الآخر "دين الله أحق أن يقضي" وفيه جواز الاشتراك في الرقيق لتكرر ذكر أهل بريرة في الحديث. وفي رواية: "كانت لناس من الأنصار" ويحتمل مع ذلك الوحدة وإطلاق ما في الخبر على المجاز. وفيه أن الأيدي ظاهرة في الملك، وأن مشتري السلعة لا يسأل عن أصلها إذا لم تكن ريبة. وفيه استحباب إظهار أحكام العقد للعالم بها إذا كان العاقد يجهلها. وفيه أن حكم الحاكم لا يغير الحكم الشرعي فلا يحل حراما ولا عكسه. وفيه قبول خبر الواحد الثقة وخبر العبد والأمة وروايتهما. وفيه أن البيان بالفعل أقوى من القول، وجواز تأخير البيان إلى وقت الحاجة والمبادرة إليه عند الحاجة، وفيه أن الحاجة إذا اقتضت بيان حكم عام وجب إعلانه أو ندب بحسب الحال. وفيه جواز الرواية بالمعنى والاختصار من الحديث،

(9/415)


والاقتصار على بعضه بحسب الحاجة، فإن الواقعة واحدة وقد رويت بألفاظ مختلفة وزاد بعض الرواة ما لم يذكر الآخر ولم يقدح ذلك في صحته عند أحد العلماء. وفيه أن العدة بالنساء لما تقدم من حديث ابن عباس أنها أمرت أن تعتد عدة الحرة، ولو كان بالرجال لأمرت أن تعتد بعدة الإماء. وفيه أن عدة الأمة إذا عتقت تحت عبد فاختارت نفسها ثلاثة قروء، وأما ما وقع في بعض طرقه: "تعتد بحيضة" فهو مرجوح، ويحتمل أن أصله "تعتد بحيض" فيكون المراد جنس ما تستبرئ به رحمها لا الوحدة وفيه تسمية الأحكام سننا وإن كان بعضها واجبا، وأن تسمية ما دون الواجب سنة اصطلاح حادث. وفيه جواز جبر السيد أمته على تزويج من لا تختاره إما لسوء خلقه أو خلقه وهي بالضد من ذلك، فقد قيل إن بريرة كانت جميلة غير سوداء بخلاف زوجها وقد زوجت منه وظهر عدم اختيارها لذلك بعد عتقها. وفيه أن أحد الزوجين قد يبغض الآخر ولا يظهر له ذلك، ويحتمل أن تكون بريرة مع بغضها مغيثا كانت تصير على حكم الله عليها في ذلك ولا تعامله بما يقضيه البغض إلى أن فرج الله عنها. وفيه تنبيه صاحب الحق على ما وجب له إذا جهله، واستقلال المكاتب بتعجيز نفسه، وإطلاق الأهل على السادة وإطلاق العبيد على الأرقاء، وجواز تسمية العبد مغيثا، وأن مال الكتابة لا حد لأكثره وأن للمعتق أن يقبل الهدية من معتقه ولا يقدح ذلك في ثواب العتق، وجواز الهدية لأهل الرجل بغير استئذانه، وقبول المرأة ذلك حيث لا ريبة وفيه سؤال الرجل عما لم يعهده في بيته، ولا يرد على هذا ما تقدم في قصة أم زرع حيث وقع في سياق المدح "ولا يسأل عما عهد" لأن معناه كما تقدم ولا يسأل عن شيء عهده وفات فلا يقول لأهله أين ذهب؟ وهنا سألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء رآه وعاينه ثم أحضر له غيره فسأل عن سبب ذلك لأنه يعلم أنهم لا يتركون إحضاره له شحا عليه بل لتوهم تحريمه، فأراد أن يبين لهم الجواز. وقال ابن دقيق العيد: فيه دلالة على تبسيط الإنسان في السؤال عن أحوال منزله وما عهده فيه قبل والأول أظهر، وعندي أنه مبني على خلاف ما انبنى عليه الأول، لأن الأول بنى على أنه علم حقيقة الأمر في اللحم وأنه مما تصدق به على بريرة، والثاني بنى على أنه لم يتحقق من أين هو فجائز أن يكون مما أهدى لأهل بيته من بعض إلزامها كأقاربها مثلا ولم يتعين الأول. وفيه أنه لا يجب السؤال عن أصل المال الواصل إليه إذا لم يظن تحريمه أو تظهر فيه شبهة، إذ لم يسأل صلى الله عليه وسلم عمن تصدق على بريرة ولا عن حاله، كذا قيل، وقد تقدم أنه صلى الله عليه وسلم هو الذي أرسل إلى بريرة بالصدقة فلم يتم هذا.

(9/416)


باب قوله تعالى:(ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم)
...
18- باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : {وَلاَ تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلاَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ}
285- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا لَيْثٌ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا سُئِلَ عَنْ نِكَاحِ النَّصْرَانِيَّةِ وَالْيَهُودِيَّةِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْمُشْرِكَاتِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَلاَ أَعْلَمُ مِنْ الإِشْرَاكِ شَيْئًا أَكْبَرَ مِنْ أَنْ تَقُولَ الْمَرْأَةُ رَبُّهَا عِيسَى وَهُوَ عَبْدٌ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ"
قوله: "باب قول الله سبحانه {وَلاَ تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} كذا للأكثر؛ وساق في رواية كريمة إلى قوله: {وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} ولم يبت البخاري حكم المسألة لقيام الاحتمال عنده في تأويلها، فالأكثر أنها على العموم وأنها خصت

(9/416)


بآية المائدة، وعن بعض السلف أن المراد بالمشركات هنا عبدة الأوثان والمجوس حكاه ابن المنذر وغيره. ثم أورد المصنف فيه قول ابن عمر في نكاح النصرانية وقوله لا أعلم من الإشراك شيئا أكثر من أن تقول المرأة ربها عيسى" وهذا مصير منه إلى استمرار حكم عموم آية البقرة، فكأنه يرى أن آية المائدة منسوخة وبه جزم إبراهيم الحربي، ورده النحاس فحمله على التورع كما سيأتي، وذهب الجمهور إلى أن عموم آية البقرة خص بآية المائدة وهي قوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} فبقي سائر المشركات على أصل التحريم وعن الشافعي قول آخر أن عموم آية البقرة أريد به خصوص آية المائدة، وأطلق ابن عباس أن آية البقرة منسوخة بآية المائدة، وقد قيل إن ابن عمر شذ بذلك فقال ابن المنذر لا يحفظ عن أحد من الأوائل أنه حرم ذلك ا ه، لكن أخرج ابن أبي شيبة بسند حسن أن عطاء كره نكاح اليهوديات والنصرانيات وقال: كان ذلك والمسلمات قليل، وهذا ظاهر في أنه خص الإباحة بحال دون حال. وقال أبو عبيد: المسلمون اليوم على الرخصة. وروى عن عمر أنه كان يأمر بالتنزه عنهن من غير أن يحرمهن. وزعم ابن المرابط تبعا للنحاس وغيره أن هذا مراد ابن عمر أيضا لكنه خلاف ظاهر السياق، لكن الذي احتج به ابن عمر يقتضي تخصيص المنع بمن يشرك من أهل الكتاب لا من يوحد، وله أن يحمل آية الحل على من لم يبدل دينه مهم، وقد فصل كثير من العلماء كالشافعية بين من دخل آباؤها في ذلك الدين قبل التحريف أو النسخ أو بعد ذلك، وهو من جنس مذهب ابن عمر بل يمكن أن يحمل عليه، وتقدم بحث في ذلك الكلام على حديث هرقل في كتاب الإيمان، فذهب الجمهور إلى تحريم النساء المجوسيات، وجاء عن حذيفة أنه تسرى بمجوسية أخرجه ابن أبي شيبة وأورده أيضا عن سعيد بن المسيب وطائفة وبه قال أبو ثور. وقال ابن بطال هو محجوج بالجماعة والتنزيل، وأجيب بأنه لا إجماع مع ثبوت الخلاف عن بعض الصحابة والتابعين، وأما التنزيل فظاهره أن المجوس ليسوا أهل كتاب لقوله تعالى :{أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} لكن لما أخذ النبي صلى الله عليه وسلم الجزية من المجوس دل على أنهم أهل كتاب، فكان القياس أن يجري عليهم بقية أحكام الكتابيين، لكن أجيب عن أخذ الجزية من المجوس أنهم اتبعوا فيهم الخير، ولم يرد مثل ذلك في النكاح والذبائح، وسيأتي تعرض. لذلك في كتاب الذبائح إن شاء الله تعالى.

(9/417)


19- باب نِكَاحِ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ الْمُشْرِكَاتِ وَعِدَّتِهِنَّ
5286- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا هِشَامٌ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ وَقَالَ عَطَاءٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ كَانَ الْمُشْرِكُونَ عَلَى مَنْزِلَتَيْنِ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ كَانُوا مُشْرِكِي أَهْلِ حَرْبٍ يُقَاتِلُهُمْ وَيُقَاتِلُونَهُ وَمُشْرِكِي أَهْلِ عَهْدٍ لاَ يُقَاتِلُهُمْ وَلاَ يُقَاتِلُونَهُ وَكَانَ إِذَا هَاجَرَتْ امْرَأَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ لَمْ تُخْطَبْ حَتَّى تَحِيضَ وَتَطْهُرَ فَإِذَا طَهُرَتْ حَلَّ لَهَا النِّكَاحُ فَإِنْ هَاجَرَ زَوْجُهَا قَبْلَ أَنْ تَنْكِحَ رُدَّتْ إِلَيْهِ وَإِنْ هَاجَرَ عَبْدٌ مِنْهُمْ أَوْ أَمَةٌ فَهُمَا حُرَّانِ وَلَهُمَا مَا لِلْمُهَاجِرِينَ ثُمَّ ذَكَرَ مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ مِثْلَ حَدِيثِ مُجَاهِدٍ وَإِنْ هَاجَرَ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ لِلْمُشْرِكِينَ أَهْلِ الْعَهْدِ لَمْ يُرَدُّوا وَرُدَّتْ أَثْمَانُهُمْ"

(9/417)


5287- وَقَالَ عَطَاءٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ كَانَتْ قَرِيبَةُ بِنْتُ أَبِي أُمَيَّةَ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ فَطَلَّقَهَا فَتَزَوَّجَهَا مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ وَكَانَتْ أُمُّ الْحَكَمِ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ تَحْتَ عِيَاضِ بْنِ غَنْمٍ الْفِهْرِيِّ فَطَلَّقَهَا فَتَزَوَّجَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمانَ الثَّقَفِيُّ"
قوله: "باب نكاح من أسلم من المشركات وعدتهن" أي قدرها، والجمهور على أنها تعتد عدة الحرة، وعن أبي حنيفة يكفي أن تستبرأ بحيضة. قوله: "أنبأنا هشام" هو ابن يوسف الصنعاني. قوله: "وقال عطاء" هو معطوف على شيء محذوف، كأنه كان في جملة أحاديث حدث بها ابن جريج عن عطاء ثم قال: "وقال عطاء" كما قال بعد فراغه من الحديث: "قال وقال عطاء" فذكر الحديث الثاني بعد سياقه ما أشار إليه من أنه مثل حديث مجاهد. وفي هذا الحديث بهذا الإسناد علة كالتي تقدمت في تفسير سورة نوح، وقد قدمت الجواب عنها، وحاصلها أن أبا مسعود الدمشقي ومن تبعه جزموا بأن عطاء المذكور هو الخراساني، وأن ابن جرير لم يسمع منه التفسير وإنما أخذه عن أبيه عثمان عنه، وعثمان ضعيف، وعطاء الخراساني لم يسمع من ابن عباس وحاصله الجواب جواز أن يكون الحديث عند ابن جريج بالإسنادين، لأن مثل ذلك لا يخفى على البخاري مع تشدده في شرط الاتصال، مع كون الذي نبه على العلة المذكورة هو على بن المديني شيخ البخاري المشهور به، وعليه يعول غالبا في هذا الفن خصوصا علل الحديث. وقد ضاق مخرج هذا الحديث على الإسماعيلي ثم على أبي نعيم فلم يخرجاه إلا من طريق البخاري نفسه. قوله: "لم تخطب" بضم أوله "حتى تحيض وتطهر" تمسك بظاهره الحنفية، وأجاب الجمهور بأن المراد تحيض ثلاث حيض، لأنها صارت بإسلامها وهجرتها من الحرائر بخلاف ما لو سبيت. وقوله: "فإن هاجر زوجها معها" يأتي الكلام عليه في الباب الذي بعده. قوله: "وإن هاجر عبد منهم" أي من أهل الحرب. قوله: "ثم ذكر من أهل العهد مثل حديث مجاهد" يحتمل أن يعني بحديث مجاهد الذي وصفه بالمثلية الكلام المذكور بعد هذا وهو قوله: "وإن هاجر عبد أو أمة للمشركين إلخ"، ويحتمل أن يريد به كلاما آخر يتعلق بنساء أهل العهد وهو أولى، لأنه قسم المشركين إلى قسمين: أهل حرب، وأهل عهد. وذكر حكم نساء أهل الحرب ثم حكم أرقائهم، فكأنه أحال بحكم نساء أهل العهد على حديث مجاهد، ثم عقبه بذكر حكم أرقائهم. وحديث مجاهد في ذلك وصله عبد بن حميد من طريق ابن أبي نجيح عنه في قوله: {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ} أي إن أصبتم مغنما من قريش فأعطوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا عوضا، وسيأتي بسط هذا في الباب الذي يليه. قوله: "وقال عطاء عن ابن عباس" هو موصول بالإسناد المذكور أولا عن ابن جريج كما بينته قبل. قوله: "كانت قريبة" بالقاف والموحدة مصغرة في أكثر النسخ، وضبطها الدمياطي بفتح القاف وتبعه الذهبي، وكذلك هو في نسخة معتمدة من طبقات ابن سعد. وكذا للكشميهني في حديث عائشة الماضي في الشروط. وللأكثر بالتصعير كالذي هنا، وحكى ابن التين في هذا الاسم الوجهين. وقال شيخنا في القاموس بالتصغير وقد تفتح. قوله: "ابنة أبي أمية" أي ابن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وهي أخت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا ظاهر في أنها لم تكن أسلمت في هذا الوقت، وهو ما بين عمرة الحديبية وفتح مكة، وفيه نظر لأنه ثبت في النسائي بسند صحيح من طريق أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عن أم سلمة في قصة تزويج النبي صلى الله عليه وسلم بها ففيه: "وكانت أم سلمة

(9/418)


ترضع زينب بنتها فجاء عمار فأخذها، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أين زناب؟ فقالت قريبة بنت أبي أمية صادفها عندها: أخذها عمار" الحديث فهذا يقتضي أنها هاجرت قديما لأن تزويج النبي صلى الله عليه وسلم بأم سلمة كان بعد أحد وقبل الحديبية بثلاث سنين أو أكثر، لكن يحتمل أن تكون جاءت إلى المدينة زائرة لأختها قبل أن تسلم، أو كانت مقيمة عند زوجها عمر على دينها قبل أن تنزل الآية، وليس في مجرد كونها كانت حاضرة عند تزويج أختها أن تكون حينئذ مسلمة. لكن يرده أن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري لما نزلت: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} فذكر القصة وفيها "فطلق عمر امرأتين كانتا له بمكة" فهذا يرد أنها كانت مقيمة ولا يرد أنها جاءت زائرة، ويحتمل أن يكون لأم سلمة أختان كل منهما تسمى قريبة تقدم إسلام إحداهما وهي التي كانت حاضرة عند تزويج أم سلمة وتأخر إسلام الأخرى وهي المذكورة هنا، ويؤيد هذا الثاني أن ابن سعد قال في "الطبقات" قريبة الصغرى بنت أبي أمية أخت أم سلمة تزوجها عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق فولدت له عبد الله وحفصة وأم حكيم، وساق بسند صحيح أن قريبة قالت لعبد الرحمن وكان في خلقه شدة "لقد حذروني منك، قال: فأمرك بيدك، قالت: لا أختار على ابن الصديق أحدا. فأقام عليها" وتقدم في الشروط من وجه آخر في هذه القصة في آخر حديث الزهري عن عروة عن مروان والمسور فذكر الحديث ثم قال: "وبلغنا أن عمر طلق امرأتين كانتا له في الشرك قريبة وابنة أبي جرول، فتزوج قريبة معاوية وتزوج الأخرى أبو جهم بن حذيفة" وهو مطابق لما هنا وزائد عليه، وتقدم من وجه آخر مثله لكن قال: "وتزوج الأخرى صفوان بن أمية" فيمكن الجمع بأن يكون أحدهما تزوج قبل الآخر وأما بنت أبي جرول فوقع في المغازي الكبرى لابن إسحاق "حدثني الزهري عن عروة أنها أم كلثوم بنت عمرو بن جرول" فكأن أباها كنى باسم والده، وجرول بفتح الجيم، وقد بينت ق آخر الحديث الطويل في الشروط أن القائل "وبلغنا" هو الزهري وبينت هناك من وصله عنه من الرواة وأخرج ابن أبي حاتم بسند حسن من رواية بني طلحة مسلسلا بهم عن موسى بن طلحة عن أبيه قال: "لما نزلت هذه الآية {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} طلقت امرأتي أروى بنت ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب وطلق عمر قريبة وأم كلثوم بنت جرول" وقد روى الطبري من طريق سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحاق قال: "قال الزهري: لما نزلت هذه الآية طلق عمر قريبة وأم كلثوم وطلق طلحة أروى بنت ربيعة فرق بينهما الإسلام، حتى نزلت: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} ثم تزوجها بعد أن أسلمت خالد بن سعيد بن العاصي". واختلف في ترك رد النساء إلى أهل مكة مع وقوع الصلح بينهم وبين المسلمين في الحديبية على أن من جاء منهم إلى المسلمين ردوه ومن جاء من المسلمين إليهم لم يردوه هل نسخ حكم النساء من ذلك فمنع المسلمون مم ردهن أو لم يدخلن في أصل الصلح أو هو عام أريد به الخصوص وبين ذلك عند نزول الآية؟ وقد تمسك من قال بالثاني بما وقع في بعض طرقه: "على أن لا يأتيك منا رجل إلا رددته" فمفهومه أن النساء لم يدخلن وقد أخرج ابن أبي حاتم من طريق مقاتل بن حيان "أن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: رد علينا من هاجر من نسائنا، فإن شرطنا أن من أتاك منا أن ترده علينا. فقال: كان الشرط في الرجال ولم يكن في النساء" وهذا لو ثبت كان قاطعا للنزاع، لكن يؤيد الأول والثالث ما تقدم في أول الشروط أن أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط لما هاجرت جاء أهلها يسألون ردها فلم يردها لما نزلت: {إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} الآية، والمراد قوله فيها {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ}" وذكر ابن الطلاع في أحكامه أن سبيعة الأسلمية هاجرت فأقبل زوجها في طلبها، فنزلت الآية، فرد على زوجها

(9/419)


مهرها والذي أنفق عليها ولم يردها، واستشكل هذا بما في الصحيح أن سبيعة الأسلمية مات عنها سعد بن خولة وهو ممن شهد بدرا في حجة الوداع، فإنه دال على أنها تقدمت هجرتها وهجرة زوجها، ويمكن الجمع بأن يكون سعد بن خولة إنما تزوجها بعد أن هاجرت، ويكون الزوج الذي جاء في طلبها ولم ترد عليه آخر لم يسلم يومئذ، وقد ذكرت في أول الشروط أسماء عدة ممن هاجر من نساء الكفار في هذه القصة.

(9/420)


20- باب إِذَا أَسْلَمَتْ الْمُشْرِكَةُ أَوْ النَّصْرَانِيَّةُ تَحْتَ الذِّمِّيِّ أَوْ الْحَرْبِيِّ وَقَالَ عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ خَالِدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ إِذَا أَسْلَمَتْ النَّصْرَانِيَّةُ قَبْلَ زَوْجِهَا بِسَاعَةٍ حَرُمَتْ عَلَيْهِ وَقَالَ دَاوُدُ عَنْ إِبْراهِيمَ الصَّائِغِ سُئِلَ عَطَاءٌ عَنْ امْرَأَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ أَسْلَمَتْ ثُمَّ أَسْلَمَ زَوْجُهَا فِي الْعِدَّةِ أَهِيَ امْرَأَتُهُ قَالَ لاَ إِلاَّ أَنْ تَشَاءَ هِيَ بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ وَصَدَاقٍ وَقَالَ مُجَاهِدٌ إِذَا أَسْلَمَ فِي الْعِدَّةِ يَتَزَوَّجُهَا وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لاَ هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ فِي مَجُوسِيَّيْنِ أَسْلَمَا هُمَا عَلَى نِكَاحِهِمَا وَإِذَا سَبَقَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ وَأَبَى الْآخَرُ بَانَتْ لاَ سَبِيلَ لَهُ عَلَيْهَا وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ قُلْتُ لِعَطَاءٍ امْرَأَةٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ جَاءَتْ إِلَى الْمُسْلِمِينَ أَيُعَاوَضُ زَوْجُهَا مِنْهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا} قَالَ لاَ إِنَّمَا كَانَ ذَاكَ بَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ أَهْلِ الْعَهْدِ وَقَالَ مُجَاهِدٌ هَذَا كُلُّهُ فِي صُلْحٍ بَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ قُرَيْشٍ
5288- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ كَانَتْ الْمُؤْمِنَاتُ إِذَا هَاجَرْنَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْتَحِنُهُنَّ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ قَالَتْ عَائِشَةُ فَمَنْ أَقَرَّ بِهَذَا الشَّرْطِ مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ فَقَدْ أَقَرَّ بِالْمِحْنَةِ فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَقْرَرْنَ بِذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِنَّ قَالَ لَهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْطَلِقْنَ فَقَدْ بَايَعْتُكُنَّ لاَ وَاللَّهِ مَا مَسَّتْ يَدُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَ امْرَأَةٍ قَطُّ غَيْرَ أَنَّهُ بَايَعَهُنَّ بِالْكَلاَمِ وَاللَّهِ مَا أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى النِّسَاءِ إِلاَّ بِمَا أَمَرَهُ اللَّهُ يَقُولُ لَهُنَّ إِذَا أَخَذَ عَلَيْهِنَّ قَدْ بَايَعْتُكُنَّ كَلاَمًا"
قوله: "باب إذا أسلمت المشركة أو النصرانية تحت الذمي أو الحربي" كذا اقتصر على ذكر النصرانية وهو مثال وإلا فاليهودية كذلك، فلو عبر بالكتابية لكان أشمل، وكأنه راعى لفظ الأثر المنقول في ذلك ولم يجزم بالحكم لإشكاله، بل أورد الترجمة مورد السؤال فقط، وقد جرت عادته أن دليل الحكم إذا كان محتملا لا يجزم بالحكم، والمراد بالترجمة بيان حكم إسلام المرأة قبل زوجها هل تقع الفرقة بينهما بمجرد إسلامها، أو يثبت لها الخيار، أو يوقف في العدة فإن أسلم استمر النكاح وإلا وقعت الفرقة بينهما؟ وفيه خف مشهور وتفاصيل يطول شرحها، وميل البخاري إلى أن الفرقة تقع بمجرد الإسلام كما سأبينه. قوله: "وقال عبد الوارث عن خالد" هو

(9/420)


الحذاء عن عكرمة عن ابن عباس لم يقع لي موصولا عن عبد الوارث، لكن أحرج ابن أبي شيبة عن عباد بن العوام عن خالد الحذاء نحوه. قوله: "إذا أسلمت النصرانية قبل زوجها بساعة حرمت عليه" وهو عام في المدخول بها وغيرها، ولكن قوله: "حرمت عليه" ليس بصريح في المراد. ووقع في رواية ابن أبي شيبة: "فهي أملك بنفسها" وأخرج الطحاوي من طريق أيوب عن عكرمة عن ابن عباس في اليهودية أو النصرانية تكون تحت اليهودي أو النصراني فتسلم فقال: "يفرق بينهما الإسلام، ويعلو ولا يعلى عليه" وسنده صحيح. قوله: "وقال داود" هو ابن أبي الفرات، واسم أبي الفرات عمرو بن الفرات، وإبراهيم الصائغ هو ابن ميمون. قوله: "سئل عطاء" هو ابن أبي رباح "عن امرأة من أهل العهد أسلمت ثم أسلم زوجها في العدة أهي امرأته؟ قال: لا، إلا أن تشاء هي بنكاح جديد وصداق" وصله ابن أبي شيبة من وجه آخر عن عطاء بمعناه، وهو ظاهر في أن الفرقة تقع بإسلام أحد الزوجين ولا تنتظر انقضاء العدة. قوله: "وقال مجاهد إذا أسلم في العدة يتزوجها" وصله الطبري من طريق ابن أبي نجيح عنه. قوله: "وقال الله إلخ" هذا ظاهر في اختياره القول الماضي فإنه كلام البخاري، وهو استدلال منه لتقوية قول عطاء المذكور في هذا الباب، وهو معارض في الظاهر لروايته عن ابن عباس في الباب الذي قبله وهي قوله: "لم تخطب حتى تحيض وتطهر" ويمكن الجمع بينهما لأنه كما يحتمل أن يريد بقوله: "لم تخطب حتى تحيض وتطهر" انتظار إسلام زوجها ما دامت في عدتها يحتمل أيضا أن تأخير الخطبة إنما هو لكون المعتدة لا تخطب ما دامت في العدة، فعلى هذا الثاني لا يبقى بين الخبرين تعارض، وبظاهر قول ابن عباس في هذا وعطاء قال طاوس والثوري وفقهاء الكوفة ووافقهم أبو ثور واختاره ابن المنذر وإليه جنح البخاري، وشرط أهل الكوفة ومن وافقهم أن يعرض على زوجها الإسلام في تلك المدة فيمتنع إن كانا معا في دار الإسلام، وبقول مجاهد قال قتادة ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو عبيد، واحتج الشافعي بقصة أبي سفيان لما أسلم عام الفتح بمر الظهران في ليلة دخول المسلمين مكة في الفتح كما تقدم في المغازي، فإنه لما دخل مكة أخذت امرأته هند بنت عقبة بلحيته وأنكرت عليه إسلامه فأشار عليها بالإسلام فأسلمت بعد ولم يفرق بينهما ولا ذكر تجديد عقد، وكذا وقع لجماعة من الصحابة أسلمت نساؤهم قبلهم كحكيم بن حزام وعكرمة بن أبي جهل وغيرهما ولم ينقل أنه جددت عقود أنكحتهم، وذلك مشهور عند أهل المغازي لا اختلاف بينهم في ذلك، إلا أنه محمول عند الأكثر على أن إسلام الرجل وقع قبل انقضاء عدة المرأة التي أسلمت قبله، وأما ما أخرج مالك في "الموطأ" عن الزهري قال: لم يبلغنا أن امرأة هاجرت وزوجها مقيم بدار الحرب إلا فرقت هجرتها بينها وبين زوجها، فهذا محتمل للقولين لأن الفرقة يحتمل أن تكون قاطعة ويحتمل أن تكون موقوفة وأخرج حماد بن سلمة وعبد الرزاق في مصنفيهما بإسناد صحيح عن عبد الله بن يزيد الخطمي أن نصرانيا أسلمت امرأته فخيرها عمر إن شاءت فارقته وإن شاءت أقامت عليه. قوله: "وقال الحسن وقتادة في مجوسيين أسلما: عما على نكاحهما فإذا سبق أحدهما صاحبه" بالإسلام "لا سبيل له عليها". أما أثر الحسن فوصله ابن أبي شيبة بسند صحيح عنه بلفظ: "فإن أسلم أحدهما قبل صاحبه فقد انقطع ما بينهما من النكاح" ومن وجه آخر صحيح عنه بلفظ: "فقد بانت منه" وأما أثر قتادة فوصله ابن أبي شيبة أيضا بسند صحيح عنه بلفظ: "فإذا سبق أحدهما صاحبه بالإسلام فلا سبيل له عليها إلا بخطبة" وأخرج أيضا عن عكرمة وكتاب عمر بن عبد العزيز نحو ذلك. قوله: "وقال ابن جريج: قلت لعطاء امرأة من المشركين جاءت

(9/421)


إلى المسلمين أيعاوض زوجها منها" وقع في رواية ابن عساكر أيعاض بغير واو وقوله: "لقوله تعالى :{وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا} قال لا إنما كان ذلك بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أهل العهد". وصله عبد الرزاق عن ابن جريج قال: قلت لعطاء أرأيت اليوم امرأة من أهل الشرك فذكره سواء، وعن معمر عن الزهري نحو قول مجاهد الآتي وزاد: وقد انقطع ذلك يوم الفتح فلا يعاوض زوجها منها بشيء. قوله: "وقال مجاهد هذا كله في صلح بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قريش" وصله ابن أبي حاتم من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى :{وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلوا مَا أَنْفَقُوا} قال: من ذهب من أزواج المسلمين إلى الكفار فليعطهم الكفار صدقاتهن وليمسكوهن، ومن ذهب من أزواج الكفار إلى أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فكذلك، هذا كله في صلح كان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قريش، وقد تقدم في أواخر الشروط من وجه آخر عن الزهري قال: بلغنا أن الكفار لما أبوا أن يقروا بما أنفق المسلمون على أزواجهم، أي أبوا أن يعملوا بالحكم المذكور في الآية وهو أن المرأة إذا جاءت من المشركين إلى المسلمين مسلمة لم يردها المسلمون إلى زوجها المشرك بل يعطونه ما أنفق عليها من صداق ونحوه وكذا بعكسه، فامتثل المسلمون ذلك وأعطوهم، وأبى المشركون أن يمتثلوا ذلك فحبسوا من جاءت إليهم مشركة ولم يعطوا زوجها المسلم ما أنفق عليها، فلهذا نزلت: {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ} قال والعقب ما يؤدي المسلمون إلى من هاجرت امرأته من الكفار إلى الكفار. وأخرج هذا الأثر للطبري من طريق يونس عن الزهري وفيه: "فلو ذهبت امرأة من أزواج المؤمنين إلى المشركين رد المؤمنون إلى زوجها النفقة التي أنفق عليها من العقب الذي بأيديهم الذي أمروا أن يردوه على المشركين من نفقاتهم التي أنفقوا على أزواجهم اللاتي آمن وهاجرن، ثم ردوا إلى المشركين فضلا إن كان بقي لهم "ووقع في الأصل" فأمر أن يعطي من ذهب له زوج من المسلمين ما أنفق من صداق نساء الكفار اللاتي هاجرن" ومعناه أن العقب المذكور في قوله: {فَعَاقَبْتُمْ} أي أصبتم من صدقات المشركات عوض ما فات من صدقات المسلمات، وهذا تفسير الزهري. وقاله مجاهد أي أصبتم غنيمة فأعطوا منها، وبه صرح جماعة من التابعين كما أخرجه الطبري، لكن جمله على ما إذا لم يحصل من الجهة الأولى شيء، وهو حمل حسن. وقوله في آخر الخبر المذكور "وما يعلم أن أحدا من المهاجرات ارتدت بعد إيمانها" وهذا النفي لا يرده ظاهر ما دلت عليه الآية والقصة، لأن مضمون القصة أن بعض أزواج المسلمين ذهبت إلى زوجها الكافر فأبى أن يعطي زوجها المسلم ما أنفق عليها، فعلى تقدير أن تكون مسلمة فالنفي مخصوص بالمهاجرات فيحتمل كون من وقع منها ذلك من غير المهاجرات كالأعرابيات مثلا، أو الحصر على عمومه فتكون نزلت في المرأة المشركة إذا كانت تحت مسلم مثلا فهربت منه إلى الكفار، ويؤيده رواية يونس الماضية. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق أشعث عن الحسن في قوله تعالى :{وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} قال نزلت في أم الحكم بنت أبي سفيان ارتدت فتزوجها رجل ثقفي، ولم ترتد امرأة من قريش غيرها، ثم أسلمت مع ثقيف حين أسلموا، فإن ثبت هذا استثنى من الحصر المذكور في حديث الزهري، لأن أم الحكم هي أخت أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم في حديث ابن عباس أنها كانت تحت عياض بن غنم، وظاهر سياقه أنها كانت عند نزول قوله تعالى :{وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} مشركة وأن عياض بن غنم فارقها لذلك فتزوجها عبد الله بن عثمان الثقفي، فهذا أصح من رواية الحسن. "تنبيه": استطرد البخاري من أصل ترجمة الباب إلى شيء مما يتعلق بشرح آية الامتحان، فذكر أثر عطاء فيما يتعلق بالمعاوضة المشار إليها في الآية بقوله تعالى :{وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ

(9/422)


مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ} ثم ذكر أثر مجاهد المقوى لدعوى عطاء أن ذلك كان خاصا بذلك العهد الذي وقع بين المسلمين وبين قريش وأن ذلك انقطع يوم الفتح، وكأنه أشار بذلك إلى أن الذي وقع في ذلك الوقت من تقرير المسلمة تحت المشرك لانتظار إسلامه ما دامت في العدة منسوخ لما دلت عليه هذه الآثار من اختصاص ذلك بأولئك، وأن الحكم بعد ذلك فيمن أسلمت أن لا تقر تحت زوجها المشرك أصلا ولو أسلم وهي في العدة، وقد ورد في أصل المسألة حديثان متعارضان: أحدهما أخرجه أحمد من طريق محمد بن إسحاق قال: "حدثني داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد ابنته زينب على أبي العاص وكان إسلامها قبل إسلامه بست سنتين على النكاح الأول ولم يحدث شيئا" وأخرجه أصحاب السنن إلا النسائي. وقال الترمذي لا بأس بإسناده، وصححه الحاكم، ووقع في رواية بعضهم "بعد سنتين" وفي أخرى "بعد ثلاث" وهو اختلاف جمع بينه على أن المراد بالست ما بين هجرة زينب وإسلامه وهو بين في المغازي فإنه أسر ببدر فأرسلت زينب من مكة في فدائه فأطلق لها بغير فداء، وشرط النبي صلى الله عليه وسلم عليه أن يرسل له زينب فوفي له بذلك، وإليه الإشارة في الحديث الصحيح بقوله صلى الله عليه وسلم في حقه "حدثني فصدقني، ووعدني فوفي لي" والمراد بالسنتين أو الثلاث ما بين نزول قوله تعالى :{لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ} وقدومه مسلما فإن بينهما سنتين وأشهرا. الحديث الثاني أخرجه الترمذي وابن ماجه من رواية حجاج بن أرطاة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده "أن النبي صلى الله عليه وسلم رد ابنته زينب على أبي العاص بن الربيع بمهر جديد ونكاح جديد" قال الترمذي: وفي إسناده مقال. ثم أخرج عن يزيد بن هارون أنه حدث بالحديثين عن ابن إسحاق وعن حجاج بن أرطاة ثم قال يزيد: حديث ابن عباس أقوى إسنادا، والعمل على حديث عمرو بن شعيب، يريد عمل أهل العراق. وقال الترمذي في حديث ابن عباس: لا يعرف وجهه، وأشار بذلك إلى أن ردها إليه بعد ست سنين أو بعد سنتين أو ثلاث مشكل لاستبعاد أن تبقى في العدة هذه المدة، ولم يذهب أحد إلى جواز تقرير المسألة تحت المشرك إذا تأخر إسلامه عن إسلامها حتى انقضت عدتها، وممن نقل الإجماع في ذلك ابن عبد البر، وأشار إلى أن بعض أهل الظاهر قال بجوازه ورده بالإجماع المذكور، وتعقب بثبوت الخلاف فيه قديما وهو منقول عن على وعن إبراهيم النخعي أخرجه ابن أبي شيبة عنهما بطرق قوية، وبه أفتى حماد شيخ أبي حنيفة، وأجاب الخطابي عن الإشكال بأن بقاء العدة في تلك المدة ممكن وإن لم تجر العادة غالبا به ولا سيما إذا كانت المدة إنما هي سنتان وأشهر فإن الحيض قد يبطئ عن ذوات الإقراء لعارض علة أحيانا. وبحاصل هذا أجاب البيهقي، وهو أولى ما يعتمد في ذلك. وحكى الترمذي في "العلل المفرد" عن البخاري أن حديث ابن عباس أصح من حديث عمرو بن شعيب، وعلته تدليس حجاج بن أرطاة، وله علة أشد من ذلك وهي ما ذكره أبو عبيد في كتاب النكاح عن يحيى القطان أن حجاجا لم يسمعه من عمرو بن شعيب وإنما حمله عن العزرمي والعزرمي ضعيف جدا، وكذا قال أحمد بعد تخريجه، قال: والعزرمي لا يساوي حديثه شيئا، قال: والصحيح أنهما أقرا على النكاح الأول. وجنح ابن عبد البر إلى ترجيح حديث ما دل عليه حديث عمرو بن شعيب وأن حديث ابن عباس لا يخالفه قال: والجمع بين الحديثين أولى من إلغاء أحدهما، فحمل قوله في حديث ابن عباس "بالنكاح الأول" أي بشروطه، وأن معنى قوله: "لم يحدث شيئا" أي لم يزد على ذلك شيئا، قال: وحديث عمرو بن شعيب تعضده الأصول، وقد صرح فيه بوقوع عقد جديد ومهر جديد والأخذ بالصريح أولى من الأخذ بالمحتمل، ويؤيده مذهب ابن عباس المحكي

(9/423)


عنه في أول الباب فأنه موافق لما دل عليه حديث عمرو بن شعيب، فإن كانت الرواية المخرجة عنه في السنن ثابتة فلعله كان يرى تخصيص ما وقع في قصة أبي العاص بذلك العهد كما جاء ذلك عن أتباعه كعطاء ومجاهد، ولهذا أفتى بخلاف ظاهر ما جاء عنه في ذلك الحديث، على أن الخطابي قال في إسناد حديث ابن عباس: هذه نسخة ضعفها على ابن المديني وغيره من علماء الحديث، يشير إلى أنه من رواية داود بن الحصين عن عكرمة قال: وفي حديث عمرو بن شعيب زيادة ليست في حديث ابن عباس، والمثبت مقدم على النافي، غير أن الأئمة رجحوا إسناد حديث ابن عباس ا ه. والمعتمد ترجيح إسناد حديث ابن عباس على حديث عمرو بن شعيب لما تقدم، ولإمكان حمل حديث ابن عباس على وجه ممكن. وادعى الطحاوي أن حديث ابن عباس منسوخ وأن النبي صلى الله عليه وسلم رد ابنته على أبي العاص بعد رجوعه من بدر لما أسر فيها ثم افتدى وأطلق، وأسند ذلك عن الزهري وفيه نظر، فإن ثبت عنه فهو مؤول لأنها كانت مستقرة عنده بمكة، وهي التي أرسلت في افتدائه كما هو مشهور في المغازي، فيكون معنى قوله: "ردها" أقرها، وكان ذلك قبل التحريم. والثابت أنه لما أطلق اشترط عليه أن يرسلها ففعل كما تقدم، وإنما ردها عليه حقيقة بعد إسلامه. ثم حكى الطحاوي عن بعض أصحابهم أنه جمع بين الحديثين بطريق أخرى، وهي أن عبد الله بن عمرو كان قد اطلع على تحريم نكاح الكفار بعد أن كان جائزا فلذلك قال: "ردها عليه فنكاح جديد" ولم يطلع ابن عباس على ذلك فلذلك قال: "ردها بالنكاح الأول" وتعقب بأنه لا يظن بالصحابة أن يجزموا بحكم بناء على أن البناء بشيء قد يكون الأمر بخلافه، وكيف يظن بابن عباس أن يشتبه عليه نزول آية الممتحنة والمنقول من طريق كثيرة عنه يقتضي إطلاعه على الحكم المذكور وهو تحريم استقرار المسلمة تحت الكافر، فلو قدر اشتباهه عليه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجز استمرار الاشتباه عليه بعده حتى يحدث به بعد دهر طويل، وهو يوم حدث به يكاد أن يكون أعلم أهل عصره. وأحسن المسالك في هذين الحديثين ترجيح حديث ابن عباس كما رجحه الأئمة وحمله على تطاول العدة فيما بين نزول آية التحريم وإسلام أبي العاص، ولا مانع من ذلك من حيث العادة فضلا عن مطلق الجواز. وأغرب ابن حزم فقال ما ملخصه: إن قوله: "ردها إليه بعد كذا" مراده جمع بينهما، وإلا فإسلام أبي العاص كان قبل الحديبية، وذلك قبل أن ينزل تحريم المسلمة على المشرك. هكذا زعم وهو مخالف لما أطبق عليه أهل المغازي أن إسلامه كان في الهدنة بعد نزول آية التحريم. وقد سلك بعض المتأخرين فيه مسلكا آخر فقرأت في "السيرة النبوية للعماد بن كثير" بعد ذكر بعض ما تقدم قال: وقال آخرون بل الظاهر انقضاء عدتها، وضعف رواية من قال جدد عقدها، وإنما يستفاد منه أن المرأة إذا أسلمت وتأخر إسلام زوجها أن نكاحها لا ينفسخ بمجرد ذلك بل تتخير بين أن تتزوج غيره أو تتربص إلى أن يسلم فيستمر عهده عليها، وحاصله أنها زوجته ما لم تتزوج، ودليل ذلك ما وقع في حديث الباب في عموم قوله: "فإن هاجر زوجها قبل أن تنكح ردت إليه" والله أعلم، ثم ذكر البخاري حديث عائشة في شأن الامتحان وبيانه لشدة تعلقه بأصل المسألة. قوله: "وقال إبراهيم بن المنذر حدثني ابن وهب" ذكر أبو مسعود أنه وصله عن إبراهيم بن المنذر، وقد وصله أيضا الذهلي في "الزهريات" عن إبراهيم بن المنذر وسيأتي اللفظ في البخاري كرواية يونس، فإن مسلما أخرجه عن أبي الطاهر بن السرح عن ابن وهب كذلك، وأما لفظ رواية عقيل فتقدمت في أول الشروط، وأشار الإسماعيلي إلى أن رواية عقيل المذكورة في الباب لا تخالفها. قوله: "كانت المؤمنات إذا هاجرن" أي من

(9/424)


مكة إلى المدينة قبل عام الفتح. قوله: "يمتحنهن بقول الله تعالى" أي يختبرهن فيما يتعلق بالإيمان فيما يرجع إلى ظاهر الحال دون الاطلاع على ما في القلوب، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى :{اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ}. قوله: {مُهَاجِرَاتٍ} جمع مهاجرة والمهاجرة بفتح الجيم المغاضبة، قال الأزهري: أصل الهجرة خروج البدوي من البادية إلى القرية وإقامته بها، والمراد بها هاهنا خروج النسوة من مكة إلى المدينة مسلمات. قوله: "إلى آخر الآية" يحتمل الآية بعينها وآخرها {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} ويحتمل أن يريد بالآية القصة وآخرها {غَفُورٌ رَحِيمٌ} وهذا هو المعتمد، فقد تقدم في أوائل الشروط من طريق عقيل وحده عن ابن شهاب عقب حديثه عن عروة عن المسور ومروان "قال عروة فأخبرتني عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمتحنهن بهذه الآية: يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات - إلى - غفور رحيم" وكذا وقع في رواية ابن أخي الزهري عن الزهري في تفسير الممتحنة. قوله: "قالت عائشة" هو موصول بالإسناد المذكور. قوله: "فمن أقر بهذا الشرط من المؤمنات فقد أقر بالمحنة" يشير إلى شرط الإيمان، وأوضح من هذا ما أخرجه الطبري من طريق العوفي عن ابن عباس قال: "كان امتحانهن أن يشهدن أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله" وأما ما أخرجه الطبري أيضا والبزار من طريق أبي نصر عن ابن عباس "كان يمتحنهن: والله ما خرجت من بغض زوج، والله ما خرجت رغبة عن أرض، إلى أرض، والله ما خرجت التماس دنيا، والله ما خرجت إلا حبا لله ولرسوله" ومن طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد نحو هذا ولفظه: "فاسألوهن عما جاء بهن، فإن كان من غضب على أزواجهن أو سخطه أو غيره ولم يؤمن فأرجعوهن إلى أزواجهن" ومن طريق قتادة "كانت محنتهن أن يستحلفن بالله ما أخرجكن نشوز، وما أخرجكن إلا حب الإسلام وأهله فإذا قلن ذلك قبل منهن" فكل ذلك لا ينافي رواية العوفي لاشتمالها على زيادة لم يذكرها. قوله: "انطلقن فقد بايعتكن" بينته بعد ذلك بقولها في آخر الحديث "فقد بايعتكن كلاما" أي كلاما يقوله. ووقع في رواية عقيل المذكورة "كلاما يكلمها به ولا يبايع بضرب اليد على اليد، كما كان يبايع الرجال" وقد أوضحت ذبك بقولها "ما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة قط، زاد في رواية عقيل في المبايعة غير أنه بايعهن بالكلام. وقد تقدم في تفسير الممتحنة وفي غير موضع حديث ابن عباس وفيه:" حتى أتى النساء فقال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ} - الآية كلها. ثم قال حين فرغ -: أنتن على ذلك؟ فقالت امرأة منهن نعم "وقد ورد ما قد يخالف ذلك، ولعلها أشارت إلى رده، وقد تقدم بيان ذلك مستوفى في تفسير سورة الممتحنة. واختلف في استمرار حكم امتحان من هاجر من المؤمنات: فقيل منسوخ،. بل ادعى بعضهم الإجماع على نسخه، والله أعلم

(9/425)


باب قوله تعالى(للذين يولون من نسائهم تربص أربعة أشهر ـإلى قوله ـ سميع عليم).
...
21- باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:
{لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} إلى قوله { سَمِيعٌ عَلِيمٌ} فَإِنْ فَاءُوا رَجَعُوا
5289- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ عَنْ أَخِيهِ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ آلَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ نِسَائِهِ وَكَانَتْ انْفَكَّتْ رِجْلُهُ فَأَقَامَ فِي مَشْرُبَةٍ لَهُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ ثُمَّ نَزَلَ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ آلَيْتَ شَهْرًا فَقَالَ الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ"

(9/425)


5290- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانَ يَقُولُ فِي الإِيلاَءِ الَّذِي سَمَّى اللَّهُ لاَ يَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدَ الأَجَلِ إِلاَّ أَنْ يُمْسِكَ بِالْمَعْرُوفِ أَوْ يَعْزِمَ بِالطَّلاَقِ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ و قَالَ لِي إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ إِذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ يُوقَفُ حَتَّى يُطَلِّقَ وَلاَ يَقَعُ عَلَيْهِ الطَّلاَقُ حَتَّى يُطَلِّقَ"
وَيُذْكَرُ ذَلِكَ عَنْ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَعَائِشَةَ وَاثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قوله: "باب قول الله تعالى {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} كذا للأكثر، وساق في رواية كريمة إلى {سَمِيعٌ عَلِيمٌ}. ووقع في "شرح ابن بطال" : باب الإيلاء قوله تعالى إلخ. ووقع لأبي ذر والنسفي بعد قوله: {فَإِنْ فَاءُوا}: رجعوا وهذا تفسير أبي عبيدة قاله في هذه الآية قال: فإن فاءوا أي رجعوا عن اليمين، فاء يفي فيئا وفيوءا ا ه. وأخرج الطبري عن إبراهيم النخعي قال: الفيء الرجوع باللسان، ومثله عن أبي قلابة، وعن سعيد بن المسيب والحسن وعكرمة: الفيء الرجوع بالقلب واللسان لمن به مانع عن الجماع، وفي غيره بالجماع. ومن طريق أصحاب ابن مسعود منهم علقمة مثله، ومن طريق سعيد بن المسيب أيضا: إن حلف أن لا يكلم امرأته يوما أو شهرا فهو إيلاء، إلا أن كان يجامعها وهو لا يكلمها فليس بمول. ومن طريق الحكم عن مقسم عن ابن عباس: الفيء الجماع، وعن مسروق وسعيد بن جبير والشعبي مثله، والأسانيد بكل ذلك عنهم قوية. قال الطبري: اختلافهم في هذا من اختلافهم في تعريف الإيلاء، فمن خصه بترك الجماع قال: لا يفيء إلا بفعل الجماع، ومن قال: الإيلاء الحلف على ترك كلامها أو على أن يغيظها أو يسوءها أو نحو ذلك لم يشترط في الفيء الجماع، بل رجوعه بفعل ما حلف أن لا يفعله. ونقل عن ابن شهاب: لا يكون الإيلاء إلا أن يحلف المرء بالله فيما يريد أن يضار به امرأته من اعتزالها، فإذا لم يقصد الإضرار لم يكن إيلاء. ومن طريق علي وابن عباس والحسن وطائفة لا إيلاء إلا في غضب، فإذا حلف أن لا يطأها بسبب كالخوف على الولد الذي يرضع منها من الغيلة فلا إيلاء. ومن طريق الشعبي: كلي يمين بين الرجل وبين امرأته فهي إيلاء، ومن طريق القاسم وسالم فيمن قال لامرأته إن كلمتك سنة فأنت طالق: إن مضت أربعة أشهر ولم يكلمها طلقت، وإن كلمها قبل سنة فهي طالق. ومن طريق يزيد بن الأصم أن ابن عباس قال له: ما فعلت امرأتك، لعهدي بها سيئة الخلق؟ قال: لقد خرجت وما أكلمها. قال: أدركها قبل أن يمضي أربعة أشهر فإن مضت فهي تطليقة. ومن طريق أبي بن كعب أنه قرأ: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} يقسمون، قال الفراء: التقدير على نسائهم، و "من" بمعنى على. وقال غيره بل فيه حذف تقديره: يقسمون على الامتناع من نسائهم، والإيلاء مشتق من الألية بالتشديد وهي اليمين، والجمع ألايا بالتخفيف وزن عطايا، قال الشاعر:
قليل الألايا حافظ ليمينه
...
فإن سبقت منه الألية برت
فجمع بين المفرد والجمع. ثم ذكر البخاري حديث أنس "آلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من نسائه" الحديث، وإدخاله في هذا الباب على طريقة من لا يشترط في الإيلاء ذكر الجماع، ولهذا قال ابن العربي: ليس في هذا الباب - يعني من

(9/426)


المرفوع - سوى هذه الآية وهذا الحديث. ا ه، وأنكر شيخنا في "التدريب" إدخال هذا الحديث في هذا الباب فقال: الإيلاء المعقود له الباب حرام يأثم به من علم بحاله فلا تجوز نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم ا ه، وهو مبني على اشتراط ترك الجماع فيه، وقد كنت أطلقت في أوائل الصلاة والمظالم أن المراد بقول أنس "آلى" أي حلف، وليس المراد به الإيلاء العرفي في كتب الفقه اتفاقا، ثم ظهر لي أن فيه الخلاف قديما فليقيد ذلك بأنه على رأى معظم الفقهاء، فإنه لم ينقل عن أحد من فقهاء الأمصار أن الإيلاء ينعقد حكمه بغير ذكر ترك الجماع إلا عن حماد بن أبي سليمان شيخ أبي حنيفة، وإن كان ذلك قد ورد عن بعض من تقدمه كما تقدم. وفي كونه حراما أيضا خلاف، وقد جزم ابن بطال وجماعة بأنه صلى الله عليه وسلم امتنع من جماع نسائه في ذلك الشهر، ولم أقف على نقل صريح في ذلك، فإنه لا يلزم من ترك دخوله عليهن أن لا تدخل إحداهن عليه في المكان الذي اعتزل فيه، إلا إن كان المذكور من المسجد فيتم استلزام عدم الدخول عليهن مع استمرار الإقامة في المسجد العزم على ترك الوطء لامتناع الوطء في المسجد، وقد تقدم في النكاح في آخر حديث عمر مثل حديث أنس في أنه آلى من نسائه شهرا، ومن حديث أم سلمة أيضا آلى من نسائه شهرا، ومن حديث ابن عباس أقسم أن لا يدخل عليهن شهرا، ومن حديث جابر عند مسلم اعتزل نساءه شهرا. وأخرج الترمذي من طريق الشعبي عن مسروق عن عائشة قالت: "آلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من نسائه وحرم فجعل الحرام حلالا" ورجاله موثقون، لكن رجح الترمذي إرساله على وصله. وقد يتمسك بقوله: "حرم" من ادعى أنه امتنع من جماعهن، لكن تقدم البيان الواضح أن المراد بالتحريم تحريم شرب العسل أو تحريم وطء مارية سريته فلا يتم الاستدلال لذلك بحديث عائشة، وأقوى ما يستدل به لفظ: "اعتزل" مع ما فيه. قوله: "حدثنا إسماعيل بن أبي أويس عن أخيه" هو أبو بكر بن عبد الحميد بن أبي أويس عبد الله بن عبد الله الأصبحي ابن عم مالك، وسليمان هو ابن بلال، وقد نزل البخاري في هذا الإسناد بالنسبة لحميد درجتين، لأنه أخرج في كتابه عن بعض أصحابه بلا واسطة كمحمد بن عبد الله الأنصاري، ودرجة بالنسبة لسليمان بن بلال فإنه أخرج عنه الكثير بواسطة واحد فقط، وقد تقدم في هذا الحديث بعينه في الصيام وفي النكاح كذلك، والنكتة في اختيار هذا الإسناد النازل التصريح فيه عن حميد بسماعه له من أنس، وقد تقدم بيان قوله: "آلى من نسائه شهرا" وشرحه في أواخر الكلام على شرح حديث عمر في المتظاهرتين في النكاح، ووقع في حديث أنس هذا في أوائل الصلاة زيادة قصة مشهورة سقوطه صلى الله عليه وسلم عن الفرس وصلاته بأصحابه جالسا، وتقدم شرح الزيادة هناك. ومن أحكام الإيلاء أيضا عند الجمهور أن يخالف على أربعة أشهر فصاعدا فإن حلف على أنقص منها لم يكن موليا. وقال إسحاق إن حلف أن لا يطأ على يوم فصاعدا ثم لم يطأ حتى مضت أربعة أشهر كان إيلاء، وجاء عن بعض التابعين مثله وأنكره الأكثر، وصنيع البخاري ثم الترمذي في إدخال حديث أنس في باب الإيلاء يقتضي موافقة إسحاق في ذلك، وحمل هؤلاء قوله تعالى :{تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} على المدة التي تضرب للمولى، فإن فاء بعدها وإلا ألزم بالطلاق. وقد أخرج عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء "إذا حلف أن لا يقرب امرأته - سمى أجلا أو لم يسمه - فإن مضت أربعة أشهر" يعني ألزم حكم الإيلاء. وأخرج سعيد بن منصور عن الحسن البصري "إذا قال لامرأته: والله لا أقربها الليلة، فتركها أربعة أشهر من أجل يمينه تلك فهو إيلاء" وأخرج الطبري من حديث ابن عباس "كان إيلاء الجاهلية السنة والسنتين، فوقت الله لهم أربعة أشهر، فمن كان إيلاؤه أقل من أربعة أشهر فليس بإيلاء". قوله: "إن ابن عمر رضي الله عنهما كان يقول في الإيلاء الذي سمى

(9/427)


الله تعالى:{لا يحل لأحد بعد الأجل "الذي يحلف عليه بالامتناع من زوجته" إلا أن يمسك بالمعروف، أو يعزم كما أمر الله عز وجل" هو قول الجمهور في أن المدة إذا انقضت بخير الحالف: فإما أن يفيء، وإما أن يطلق.وذهب الكوفيون إلى أنه إن فاء بالجماع قبل انقضاء المدة استمرت عصمته، وإن مضت المدة وقع الطلاق بنفس مضي المدة قياسا على العدة، لأنه لا تربص على المرأة بعد انقضائها. وتعقب بأن ظاهر القرآن التفصيل في الإيلاء بعد مضي المدة، بخلاف العدة فإنها شرعت في الأصل للبائنة والمتوفي عنها بعد انقطاع عصمتها لبراءة الرحم فلم يبق بعد مضي المدة تفصيل وأخرج الطبري بسند صحيح عن ابن مسعود، وبسند آخر لا بأس به عن علي "إن مضت أربعة أشهر ولم يفئ طلقت طلقة بائنة" وبسند حسن عن علي وزيد بن ثابت مثله، وعن جماعة من التابعين من الكوفيين ومن غيرهم كابن الحنفية وقبيصة بن ذؤيب وعطاء والحسن وابن سيرين مثله، ومن طريق سعيد بن المسيب وأبي بكر بن عبد الرحمن وربيعة ومكحول والزهري والأوزاعي تطلق لكن طلقة رجعية. وأخرج سعيد بن منصور من طريق جابر بن زيد "إذا آلى فمضت أربعة اشهر طلقت بائنا ولا عدة عليها" وأخرج إسماعيل القاضي في "أحكام القرآن" بسند صحيح عن ابن عباس مثله. وأخرج سعيد بن منصور من طريق مسروق "إذا مضت الأربعة بانت بطلقة وتعتد بثلاث حيض" وأخرج إسماعيل من وجه آخر عن مسروق عن ابن مسعود مثله. وأخرج ابن أبي شيبة بسند صحيح عن أبي قلابة "أن النعمان بن بشير آلى من امرأته، فقال ابن مسعود. إذا مضت أربعة أشهر فقد بانت منه بتطليقة". "تنبيه": سقط أثر ابن عمر هذا وأثره المذكور بعد ذلك وكذا ما بعده إلى آخر الباب من رواية النسفي، وثبت للباقين. قوله: "وقال لي إسماعيل" هو ابن أبي أويس المذكور قبل، وفي بعض الروايات "قال إسماعيل" مجردا وبه جزم بعض الحفاظ فعلم عليه علامة التعليق، والأول المعتمد، وهو ثابت في رواية أبي ذر وغيره. قوله: "إذا مضت أربعة أشهر يوقف"، في رواية الكشميهني يوقفه "حتى يطلق، ولا يقع عليه الطلاق حتى يطلق" كذا وقع من هذا الوجه مختصرا، وهو في "الموطأ" عن مالك أخصر منه، وأخرجه الإسماعيلي من طريق معن بن عيسى عن مالك بلفظ: "أنه كان يقول: أيما رجل آلى من امرأته فإذا مضت أربعة أشهر يوقف حتى يطلق أو يفيء، ولا يقع عليه طلاق إذا مضت حتى يوقف" وكذا أخرجه الشافعي عن مالك وزاد: "فإما أن يطلق وإما أن يفيء" وهذا تفسير للآية من ابن عمر، وتفسير الصحابة في مثل هذا له حكم الرفع عند الشيخين البخاري ومسلم كما نقله الحاكم، فيكون فيه ترجيح لمن قال يوقف. قوله: "ويذكر ذلك "أي الإيقاف "عن عثمان وعلى وأبي الدرداء وعائشة واثني عشر رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم" أما قول عثمان فوصله الشافعي وابن أبي شيبة وعبد الرزاق من طريق طاوس "إن عثمان بن عفان كان يوقف المولى، فإما أن يفيء وإما أن يطلق" وفي سماع طاوس من عثمان نظر، لكن قد أخرجه إسماعيل القاضي في "الأحكام" من وجه آخر منقطع عن عثمان "أنه كان لا يرى الإيلاء شيئا وإن مضت أربعة أشهر حتى يوقف" ومن طريق سعيد بن جبير عن عمر نحوه، وهذا منقطع أيضا، والطريقان عن عثمان يعضد أحدهما الآخر. وجاء عن عثمان خلافه: فأخرج عبد الرزاق والدار قطني من طريق عطاء الخراساني عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عثمان وزيد بن ثابت "إذا مضت أربعة أشهر فهي تطليقة بائنة" وقد سئل أحمد عن ذلك فرجح رواية طاوس. وأما قول على فوصله الشافعي وأبو بكر بن أبي شيبة من طريق عمرو بن سلمة "أن عليا وقف المولى" وسنده صحيح. وأخرج مالك عن جعفر بن محمد

(9/428)


عن أبيه عن على نحو قول ابن عمر "إذا مضت الأربعة أشهر لم يقع عليه الطلاق حتى يوقف، فإما أن يطلق وإما أن يفيء" وهذا منقطع يعتضد بالذي قبله. وأخرج سعيد بن منصور من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى "شهدت عليا أوقف رجلا عند الأربعة بالرحبة إما أن يفيء وإما أن يطلق" وسنده صحيح أيضا. وأخرج إسماعيل القاضي من وجه آخر عن علي نحوه وزاد في آخره: "ويجبر على ذلك". وأما قول أبي الدرداء فوصله ابن أبي شيبة وإسماعيل القاضي من طريق سعيد بن المسيب "أن أبا الدرداء قال يوقف في الإيلاء عند انقضاء الأربعة، فأما أن يطلق وإما أن يفيء" وسنده صحيح إن ثبت سماع سعيد بن المسيب من أبي الدرداء. وأما قول عائشة فأخرج عبد الرزاق عن معمر عن قتادة "أن أبا الدرداء وعائشة قالا" فذكر مثله، وهذا منقطع. وأخرجه سعيد بن منصور بسند صحيح عن عائشة بلفظ: "أنها كانت لا ترى الإيلاء شيئا حتى يوقف" وللشافعي عنها نحوه وسنده صحيح أيضا. وأما الرواية بذلك عن اثنى عشر رجلا من الصحابة فأخرجها البخاري في التاريخ من طريق عبد ربه بن سعيد "عن ثابت بن عبيد مولى زيد ابن ثابت عن اثنى عشر رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: الإيلاء لا يكون طلاقا حتى يوقف" وأخرجه الشافعي من هذا الوجه فقال: "بضعة عشر" وأخرج إسماعيل القاضي من طريق يحيى بن سعيد الأنصاري "عن سليمان بن يسار قال: أدركت بضعة عشر رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: الإيلاء لا يكون طلاقا حتى يوقف" وأخرج الدار قطني من طريق "سهل بن أبي صالح عن أبيه أنه قال سألت اثنى عشر رجلا من الصحابة عن الرجل يولى، فقالوا: ليس عليه شيء حتى تمضي أربعة أشهر فيوقف، فإن فاء وإلا طلق وأخرج إسماعيل من وجه آخر عن يحيى بن سعيد "عن سليمان بن يسار قال: أدركنا الناس يقفون الإيلاء إذا مضت الأربعة" وهو قول مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وسائر أصحاب الحديث، إلا أن للمالكية والشافعية بعد ذلك تفاريع يطول شرحها: منها أن الجمهور ذهبوا إلى أن الطلاق يكون فيه رجعيا، لكن قال مالك لا تصح رجعته إلا إن جامع في العدة. وقال الشافعي: ظاهر كتاب الله تعالى على أن له أربعة أشهر، ومن كانت له أربعة أشهر أجلا فلا سبيل عليه فيها حتى تنقضي، فإذا انقضت فعليه أحد أمرين: إما أن يفيء وإما أن يطلق، فلهذا قلنا لا يلزمه الطلاق بمجرد مضي المدة حتى يحدث رجوعا أو طلاقا، ثم رجح قول الوقف بأن أكثر الصحابة قال به، والترجيح قد يقع بالأكثر مع موافقة ظاهر القرآن. ونقل ابن المنذر عن بعض الأئمة قال لم يجد في شيء من الأدلة أن العزيمة على الطلاق تكون طلاقا، ولو جاز لكان العزم على الفيء يكون فيئا ولا قائل به، وكذلك ليس في شيء من اللغة أن اليمين التي لا ينوي بها الطلاق تقتضي طلاقا. وقال غيره: العطف على الأربعة أشهر بالفاء يدل على أن التخيير بعد مضي المدة، والذي يتبادر من لفظ التربص أن المراد به المدة المضروبة ليقع التخيير بعدها. وقال غيره: جعل الله الفيء والطلاق معلقين بفعل المولى بعد المدة، وهو من قوله تعالى :{فَإِنْ فَاءُوا، وَإِنْ عَزَمُوا} فلا يتجه قول من قال أن الطلاق يقع بمجرد مضي المدة. والله أعلم

(9/429)


22- باب حُكْمِ الْمَفْقُودِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ
وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ إِذَا فُقِدَ فِي الصَّفِّ عِنْدَ الْقِتَالِ تَرَبَّصُ امْرَأَتُهُ سَنَةً وَاشْتَرَى ابْنُ مَسْعُودٍ جَارِيَةً وَالْتَمَسَ صَاحِبَهَا سَنَةً فَلَمْ يَجِدْهُ وَفُقِدَ فَأَخَذَ يُعْطِي الدِّرْهَمَ وَالدِّرْهَمَيْنِ وَقَالَ اللَّهُمَّ عَنْ فُلاَنٍ فَإِنْ أَتَى فُلاَنٌ فَلِي وَعَلَيَّ وَقَالَ هَكَذَا فَافْعَلُوا بِاللُّقَطَةِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ وَقَالَ

(9/429)


الزُّهْرِيُّ فِي الأَسِيرِ يُعْلَمُ مَكَانُهُ لاَ تَتَزَوَّجُ امْرَأَتُهُ وَلاَ يُقْسَمُ مَالُهُ فَإِذَا انْقَطَعَ خَبَرُهُ فَسُنَّتُهُ سُنَّةُ الْمَفْقُودِ
5292- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ يَزِيدَ مَوْلَى الْمُنْبَعِثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ ضَالَّةِ الْغَنَمِ فَقَالَ خُذْهَا فَإِنَّمَا هِيَ لَكَ أَوْ لِأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ وَسُئِلَ عَنْ ضَالَّةِ الإِبِلِ فَغَضِبَ وَاحْمَرَّتْ وَجْنَتَاهُ وَقَالَ مَا لَكَ وَلَهَا مَعَهَا الْحِذَاءُ وَالسِّقَاءُ تَشْرَبُ الْمَاءَ وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا وَسُئِلَ عَنْ اللُّقَطَةِ فَقَالَ اعْرِفْ وِكَاءهَا وَعِفَاصَهَا وَعَرِّفْهَا سَنَةً فَإِنْ جَاءَ مَنْ يَعْرِفُهَا وَإِلاَ فَاخْلِطْهَا بِمَالِكَ قَالَ سُفْيَانُ فَلَقِيتُ رَبِيعَةَ بْنَ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ سُفْيَانُ وَلَمْ أَحْفَظْ عَنْهُ شَيْئًا غَيْرَ هَذَا فَقُلْتُ أَرَأَيْتَ حَدِيثَ يَزِيدَ مَوْلَى المُنْبَعِثِ فِي أَمْرِ الضَّالَّةِ هُوَ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ قَالَ نَعَمْ قَالَ يَحْيَى وَيَقُولُ رَبِيعَةُ عَنْ يَزِيدَ مَوْلَى الْمُنْبَعِثِ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ قَالَ سُفْيَانُ فَلَقِيتُ رَبِيعَةَ فَقُلْتُ لَهُ
قوله: "باب حكم المفقود في أهله وماله" كذا أطلق ولم يفصح بالحكم، ودخول حكم الأهل يتعلق بأبواب الطلاق بخلاف المال، لكن ذكره معه استطرادا. قوله: "وقال ابن المسيب: إذا فقد في الصف عند القتال تربص امرأته سنة" وصله عبد الرزاق أتم منه عن الثوري عن داود بن أبي هند عنه قال: "إذا فقد في الصف تربصت امرأته سنة، وإذا فقد في غير الصف فأربع سنين" وقوله في الأصل "تربص" بفتح أوله على حذف إحدى التاءين، واتفقت النسخ والشروح والمستخرجات على قوله: "سنة" إلا ابن التين قوقع عنده "ستة أشهر" ولفظ ستة تصحيف ولفظ أشهر زيادة وإلى قول سعيد ابن المسيب في هذا ذهب مالك، لكن فرق بين ما إذا وقع القتال في دار الحرب أو في دار الإسلام. قوله: "واشترى ابن مسعود جارية فالتمس صاحبها سنة فلم يجده وفقد، فأخذ يعطي الدرهم والدرهمين وقال: اللهم عن فلان فإن أتى فلان فلي وعلي" وقع في رواية الأكثر "أتى" بالمثناة بمعنى جاء، وللكشميهني بالموحدة من الامتناع، وسقط هذا التعليق من رواية أبي ذر عن السرخسي، وقد وصله سفيان بن عيينة في جامعه رواية سعيد بن عبد الرحمن عنه، وأخرجه أيضا سعيد بن منصور عنه بسند له جيد "أن ابن مسعود اشترى جارية بسبعمائة درهم، فإما غاب صاحبها وإما تركها، فنشده حولا فلم يجده، فخرج بها إلى مساكين عند سدة بابه فجعل يقبض ويعطي ويقول: اللهم عن صاحبها، فإن أتى فمني وعلى الغرم، وأخرجه الطبراني من هذا الوجه أيضا وفيه: "أبي" بالموحدة. قوله: "وقال هكذا فافعلوا باللقطة" يشير إلى أنه انتزع فعله في ذلك من حكم اللقطة للأمر بتعريفها سنة والتصرف فيها بعد ذلك فإن جاء صاحبها غرمها له، فرأى ابن مسعود أن يجعل التصرف صدقة فإن أجازها صاحبها إذا جاء حصل له أجرها وإن لم يجزها كان الأجر للمتصدق وعليه الغرم لصاحبها، وإلى ذلك أشار بقوله: "فلي وعلي" أي فلي الثواب وعلى الغرامة وغفل بعض الشراح فقال: معنى قوله فلي وعلي لي الثواب وعلي العقاب أي أنهما مكتسبان له بفعله. والذي قلته أولى لأنه ثبت مفسرا في رواية ابن عيينة كما ترى. وأما قوله في رواية الباب: "فلي" فمعناه فلي ثواب الصدقة، وإنما حذفه للعلم به. قوله: "وقال ابن عباس نحوه" ثبت هذا التعليق في رواية أبي ذر فقط عن المستملى والكشميهني خاصة، وقد وصله سعيد بن منصور من طريق عبد العزيز بن رفيع عن أبيه "أنه ابتاع ثوبا من رجل بمكة فضل منه في الزحام، قال فأتيت ابن عباس فقال: إذا كان العام المقبل فانشد الرجل في

(9/430)


المكان الذي اشتريت منه، فإن قدرت عليه وإلا تصدق بها؛ فإن جاء فخيره بين الصدقة وإعطاء الدراهم" وأخرج دعلج في "مسند ابن عباس" له بسند صحيح عن ابن عباس قال: "انظر هذه الضوال فشد يدك بها عاما، فإن جاء ربها فادفعها إليه، وإلا فجاهد بها وتصدق، فإن جاء فخيره بين الأجر والمال. قوله: "وقال الزهري في الأسير يعلم مكانه: تتزوج امرأته ولا يقسم ماله، فإذا انقطع خبره فسنته سنة المفقود" وصله ابن أبي شيبة من طريق الأوزاعي قال: "سألت الزهري عن الأسير في أرض العدو متى تزوج امرأته؟ فقال: لا تزوج ما علمت أنه حي" ومن وجه آخر عن الزهري قال: يوقف مال الأسير وامرأته حتى يسلما أو يموتا. وأما قوله فسنته سنة المفقود فإن مذهب الزهري في امرأة المفقودة أنها تربص أربع سنين، وقد أخرجه عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة بأسانيد صحيحة عن عمر، منها لعبد الرزاق من طريق الزهري عن سعيد بن المسيب "أن عمر وعثمان قضيا بذلك" وأخرج سعيد بن منصور بسند صحيح عن ابن عمر وابن عباس قالا "تنتظر امرأة المفقود أربع سنين" وثبت أيضا عن عثمان وابن مسعود في رواية وعن جمع من التابعين كالنخعي وعطاء والزهري ومكحول والشعبي واتفق أكثرهم على أن التأجيل من يوم ترفع أمرها للحاكم، وعلى أنها تعتد عدة الوفاة بعد مضي الأربع سنين. واتفقوا أيضا على أنها إن تزوجت فجاء الزوج الأول خير بين زوجته وبين الصداق. وقال أكثرهم إذا اختار الأول الصداق غرمه له الثاني، ولم يفرق أكثرهم بين أحوال الفقد إلا ما تقدم عن سعيد بن المسيب، وفرق مالك بين من فقد في الحرب فتؤجل الأجل المذكور، وبين من فقد في غير الحرب فلا تؤجل بل تنتظر مضي العمر الذي يغلب على الظن أنه لا يعيش أكثر منه. وقال أحمد وإسحاق: من غاب عن أهله فلم يعلم خبره لا تأجيل فيه، وإنما يؤجل من فقد في الحرب أو في البحر أو في نحو ذلك. وجاء عن علي: إذا فقدت المرأة زوجها لم تزوج حتى يقدم أو يموت أخرجه أبو عبيد في كتاب النكاح. وقال عبد الرزاق: بلغني عن بن مسعود أنه وافق عليا في امرأة المفقود أنها تنتظره أبدا. وأخرج أبو عبيد أيضا بسند حسن عن علي: لو تزوجت فهي امرأة الأول دخل بها الثاني أو لم يدخل. وأخرج سعيد بن منصور عن الشعبي: إذا تزوجت فبلغها أن الأول حي فرق بينها وبين الثاني واعتدت منه، فإن مات الأول اعتدت منه أيضا وورثته. ومن طريق النخعي: لا تزوج حتى يستبين أمره، وهو قول فقهاء الكوفة والشافعي وبعض أصحاب الحديث، واختار ابن المنذر التأجيل لاتفاق خمسة من الصحابة عليه والله أعلم. قوله: "حدثنا علي بن عبد الله" هو ابن المديني، وسفيان هو ابن عيينة. قوله: "عن يحيى بن سعيد" هو الأنصاري. وفي رواية الحميدي عن سفيان "حدثنا يحيى بن سعيد". قوله: "عن يزيد مولى المنبعث أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل" في رواية الحميدي "سمعت يزيد مولى المنبعث قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم:" فذكر حديث اللقطة، وهذا صورته الإرسال، ولهذا قال بعد فراغ المتن: قال سفيان فلقيت ربيعة بن أبي عبد الرحمن، قال سفيان: ولم أحفظ عنه شيئا غير هذا، فقلت: أرأيت حديث يزيد مولى المنبعث في أمر الضالة هو عن زيد بن خالد؟ قال: نعم. قال سفيان: قال يحيى يعني ابن سعيد الذي حدثه مرسلا، ويقول ربيعة عن يزيد مولى المنبعث عن يزيد بن خالد قال سفيان: فلقيت ربيعة فقلت له، أي قلت له الكلام الذي تقدم وهو قوله: "أرأيت حديث يزيد إلخ" وحاصل ذلك أن يحيى بن سعيد حدث به عن يزيد مولى المنبعث مرسلا، ثم ذكر لسفيان أن ربيعة يحدث به عن يزيد مولى المنبعث عن زيد بن خالد فيوصله فحمل ذلك سفيان على أن لقي ربيعة فسأله عن ذلك فاعترف له به، وقد أخرجه

(9/431)


الإسماعيلي من وجه آخر عن سفيان عن يحيى بن سعيد عن يزيد مرسلا وعن ربيعة موصولا وساقه بسياقة واحدة، وما وقع في رواية ابن المديني من التفصيل أتقن وأضبط، فإنه دل على أن السياق ليحيى بن سعيد وأن ربيعة لم يحدث سفيان إلا بإسناده فقط. وأخرجه النسائي عن إسحاق بن إسماعيل عن سفيان عن يحيى بن سعيد عن ربيعة قال سفيان: فلقيت ربيعة فصال حدثني به يزيد عن زيد، وهذا أيضا فيه إيهام، ورواية ابن المديني أوضح وقد وافقه الحميدي ولفظه: قال سفيان فأتيت ربيعة فقلت له: الحديث الذي يحدثه يزيد مولى المنبعث في اللقطة هو عن زيد بن خالد عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. قال سفيان: كنت أكرهه للرأي، أي لأجل كثرة فتواه بالرأي، قال فلذلك لم أسأله إلا عن إسناده وهذا السبب في قلة رواية سفيان عن ربيعة أولى من السبب الذي أبداه ابن التين فقال: كان قصد سفيان لطلب الحديث أكثر من قصده لطلب الفقه، وكان الفقه عند ربيعة أكثر منه عند الزهري فلذلك أكثر عنه سفيان دون ربيعة، مع أن الزهري تقدمت وفاته على وفاة ربيعة بنحو عشر سنين بل أكثر ا ه. واقتضى قول سفيان بن عيينة هذا أن يحيى بن سعيد ما سمعه من شيخه يزيد مولى المنبعث موصولا وإنما وصله له ربيعة، ولكن تقدم الحديث لا اللقطة من طريق سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد عن يزيد عن زيد موصولا، فلعل يحيى بن سعيد لما حدث به ابن عيينة ما كان يتذكر وصله أو دلسه لسليمان بن بلال حين حدثه به موصولا وإنما سمع وصله من ربيعة فأسقط ربيعة. وقد أخرجه مسلم من رواية سليمان بن بلال موصولا أيضا، ومن رواية حماد بن سلمة عن يحيى بن سعيد وربيعة جميعا عن يزيد عن زيد موصولا، وهذا يقتضي أنه حمل إحدى الروايتين على الأخرى. وقد تقدم شرح حديث اللقطة مستوفى في بابها، وأراد المصنف بذكره هاهنا الإشارة إلى أن التصرف في مال الغير إذا غاب جائز ما لم يكن المال مما لا يخشى ضياعه كما دل عليه التفصيل بين الإبل والغنم. وقال ابن المنير: لما تعارضت الآثار في هذه المسألة وجب الرجوع إلى الحديث المرفوع فكان فيه أن ضالة الغنم يجوز التصرف فيها قبل تحقق وفاة صاحبها، فكان إلحاق المال المفقود بها متجها. وفيه أن ضالة الإبل لا يتعرض لها لاستقلالها بأمر نفسها فاقتضى أن الزوجة كذلك لا يتعرض لها حتى يتحقق، خبر وفاته، فالضابط أن كل شيء يخشى ضياعه يجوز التصرف فيه صونا له عن الضياع، وما لا فلا وأكثر أهل العلم على أن حكم ضالة الغنم حكم المال في وجوب تعويضه لصاحبه إذا حضر. والله أعلم

(9/432)


23- باب الظِّهَارِ
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا- إِلَى قَوْلِهِ- فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} وَقَالَ لِي إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي مَالِكٌ أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ شِهَابٍ عَنْ ظِهَارِ الْعَبْدِ فَقَالَ نَحْوَ ظِهَارِ الْحُرِّ قَالَ مَالِكٌ وَصِيَامُ الْعَبْدِ شَهْرَانِ وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ الْحُرِّ ظِهَارُ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ مِنْ الْحُرَّةِ وَالأَمَةِ سَوَاءٌ وَقَالَ عِكْرِمَةُ إِنْ ظَاهَرَ مِنْ أَمَتِهِ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ إِنَّمَا الظِّهَارُ مِنْ النِّسَاءِ وَفِي الْعَرَبِيَّةِ لِمَا قَالُوا أَيْ فِيمَا قَالُوا وَفِي بَعْضِ مَا قَالُوا وَهَذَا أَوْلَى لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَدُلَّ عَلَى الْمُنْكَرِ وَقَوْلِ الزُّورِ
قوله: "باب الظهار" بكسر المعجمة، هو قول الرجل لامرأته: أنت علي كظهر أمي. وإنما خص الظهر بذلك دون سائر الأعضاء لأنه محل الركوب غالبا، ولذلك سمى المركوب ظهرا، فشبهت الزوجة بذلك لأنها مركوب الرجل،

(9/432)


فلو أضاف لغير الظهر - كالبطن مثلا - كان ظهارا على الأظهر عند الشافعية. واختلف فيما إذا لم يعين الأم كأن قال: كظهر أختي مثلا فعن الشافعي في القديم لا يكون ظهارا بل يختص بالأم كما ورد في القرآن، وكذا في حديث خولة التي ظاهر منها أوس. وقال في الجديد: يكون ظهارا، وهو قول الجمهور لكن اختلفوا فيمن لم تحرم على التأبيد: فقال الشافعي لا يكون ظهارا، وعن مالك هو ظهار وعن أحمد روايتان كالمذهبين، فلو قال كظهر أبي مثلا فليس بظهار عند الجمهور، وعن أحمد رواية أنه ظهار، وطرده في كل من يحرم عليه وطؤه حتى في البهيمة. ويقع الظهار بكل لفظ يدل على تحريم الزوجة لكن بشرط اقترانه بالنية، وتجب الكفارة على قائله كما قال الله تعالى لكن بشرط العود عند الجمهور وعند الثوري وروى عن مجاهد: تجب الكفارة بمجرد الظهار. قوله: "وقول الله تعالى :{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} إلى قوله :{فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً} كذا لأبي ذر والأكثر، وساق في رواية كريمة الآيات إلى الموضع المذكور وهو قوله: {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً} واستدل بقوله تعالى :{وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً} على أن الظهار حرام. وقد ذكر المصنف في الباب آثارا اقتصر على الآية وعليها، وكأنه أشار بذكر الآية إلى الحديث المرفوع الوارد في سبب ذلك، وقد ذكر بعض طرقه تعليقا في أوائل كتاب التوحيد من حديث عائشة وسيأتي ذكره، وفيه تسمية المظاهر، وتسمية المجادلة وهي التي ظاهر منها وأن الراجح أنها خولة بنت ثعلبة؛ وأنه أول ظهار كان في الإسلام كما أخرجه الطبراني وابن مردويه من حديث ابن عباس قال: "كان الظهار في الجاهلية يحرم النساء، فكان أول من ظاهر في الإسلام أوس بن الصامت، وكانت امرأته خولة" الحديث وقال الشافعي: سمعت من أرضي من أهل العلم بالقرآن يقول: كان أهل الجاهلية يطلقون بثلاث الظهار والإيلاء والطلاق، فأقر الله الطلاق طلاقا وحكم في الإيلاء والظهار بما بين في القرآن انتهى. وجاء من حديث خوله بنت ثعلبة نفسها عند أبي داود قالت: "ظاهر مني زوجي أوس بن الصامت، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم أشكو إليه" الحديث. وأخرج أصحاب السنن من حديث سلمة بن صخر أنه ظاهر من امرأته، وقد تقدمت الإشارة إلى حديثه في كتاب الصيام في قصة المجامع في رمضان، وأن الأصح أن قصته كانت نهارا. ولأبي داود والترمذي من حديث ابن عباس "أن رجلا ظاهر من امرأته فوقع عليها قبل أن يكفر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: فاعتزلها حتى تكفر عنك" وفي رواية أبي داود "فلا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله" وأسانيد هذه الأحاديث حسان.وحكم كفارة الظهار منصوص بالقرآن، واختلف السلف في أحكامه في مواضع ألم البخاري ببعضها في الآثار التي أوردها في الباب، واستدل بآية الظهار وبآية اللعان على القول بالعموم ولو ورد في سبب خاص، واتفقوا على دخول السبب، وأن أوس بن الصامت شمله حكم الظهار، لكن استشكله السبكي من جهة تقدم السبب وتأخر النزول فكيف ينعطف على ما مضى مع أن الآية لا تشمل إلا من وجد منه الظهار بعد نزولها، لأن الفاء في قوله تعالى :{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} يدل على أن المبتدأ تضمن معنى الشرط والخبر تضمن معنى الجزاء ومعنى الشرط مستقبل، وأجاب عنه بأن دخول الفاء في الخبر يستدعي العموم في كل مظاهر، وذلك يشمل الحاضر والمستقبل، قال: وأما دلالة الفاء على الاختصاص بالمستقبل ففيه نظر، كذا قال، ويمكن أن يحتج للإلحاق بالإجماع. قوله: "وقال لي إسماعيل" هو ابن أبي أويس كذا للأكثر، ووقع في رواية النسفي "وقال إسماعيل" بدون حرف الجر والأول أولى، وهو موصول، فعند جماعة أنه يستعمل هذه الصيغة فيما تحمله عن شيوخه مذاكرة، والذي ظهر لي بالاستقراء أنه إنما يستعمل ذلك فيما

(9/433)


يورده موصولا من الموقوفات أو مما لا يكون من المرفوعات على شرطه. وقد أخرجه أبو نعيم في "المستخرج" من طريق القعنبي عن مالك أنه سأل ابن شهاب فذكر مثله وزاد: "وهو عليه واجب". قوله: "قال مالك" هو موصول بالإسناد المذكور. قوله: "وصيام العبد شهران" يحتمل أن يكون ابن شهاب الذي نقل مالك عنه أن ظهار العبد نحو ظهار الحر كأن يعطي العبد في ذلك جميع أحكام الحر، ويحتمل أن يكون أراد بالتشبيه مطلق صحة الظهار من العبد كما يصح من الحر ولا يلزم أن يعطي جميع أحكامه، لكن نقل ابن بطال الإجماع على أن العبد إذا ظاهر لزمه، وأن كفارته بالصيام شهران كالحر نعم اختلفوا في الإطعام والعتق، فقال الكوفيون والشافعي: لا يجزئه إلا الصيام فقط. وقال ابن القاسم عن مالك: إن أطعم بإذن مولاه أجزأه. وما ادعاه من الإجماع مردود فقد نقل الشيخ الموفق في "المغني" عن بعضهم أنه لا يصح ظهار العبد لأن الله تعالى قال: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} والعبد لا يملك الرقاب، وتعقبه بأن تحرير الرقبة إنما هو على من يجدها فكان كالمعسر ففرضه الصيام. وأما ما ذكره من قدر صيامه فقد أخرج عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن إبراهيم: لو صام شهرا أجزأ عنه. وعن الحسن يصوم شهرين. وعن ابن جريج عن عطاء في رجل ظاهر من زوجة أمة قال: شطر الصوم. قوله: "وقال الحسن بن الحر" كذا للأكثر. وفي رواية أبي ذر عن المستملي: "الحسن بن حي" وفي رواية: "وقال الحسن" فقط، فأما الحسن بن الحر فهو بضم المهملة وتشديد الراء ابن الحكم النخعي الكوفي نزيل دمشق، ثقة عندهم، وليس له في البخاري ذكر إلا هذا الموضع إن ثبت ذلك، وأما الحسن بن حي فبفتح المهملة وتشديد التحتانية نسب لجد أبيه وهو الحسن بن صالح بن صالح بن حي واسم حي حيان كوفي ثقة فقيه عابد من طبقة سفيان الثوري، وقد تقدم ذكر أبيه في أوائل هذا الكتاب، وقد أخرج الطحاوي في كتاب "اختلاف العلماء" هذا الأثر "عن الحسن بن حي" وأخرج سعيد بن منصور بسند صحيح عن إبراهيم النخعي قال: "الظهار من الأمة كالظهار من الحرة" وقد وقع لنا الكلام المذكور من قول الحسن البصري وذلك فيما أخرجه ابن الأعرابي في معجمه من طريق همام "سئل قتادة عن رجل ظاهر من سريته، فقال: قال الحسن وابن المسيب وعطاء وسليمان بن يسار: مثل ظهار الحرة، وهو قول الفقهاء السبعة، وبه قال مالك وربيعة والثوري والليث، واحتجوا بأنه فرج حلال فيحرم بالتحريم. وأخرج سعيد بن منصور بسند صحيح عن الحسن: إن وطئها فهو ظهار، وإن لم يكن وطئها فلا ظهار عليه، وهو قول الأوزاعي. قوله: "وقال عكرمة: إن ظاهر من أمته فليس بشيء، إنما الظهار من النساء" وصله إسماعيل القاضي بسند لا بأس به، وجاء أيضا عن مجاهد مثله أخرجه سعيد بن منصور من رواية داود بن أبي هند سألت مجاهدا عن الظهار من الأمة فكأنه لم يره شيئا فقلت: أليس الله يقول: {مِنْ نِسَائِهِمْ} أفليست من النساء؟ فقال: قال الله تعالى :{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} أو ليس العبيد من الرجال؟ أفتجوز شهادة العبيد؟ وقد جاء عن عكرمة خلافه، قال عبد الرزاق أنبأنا ابن جريج أخبرني الحكم بن أبان عن عكرمة مولى ابن عباس قال، يكفر عن ظهار الأمة مثل كفارة الحرة، وبقول عكرمة الأول قال الكوفيون والشافعي والجمهور، واحتجوا بقوله تعالى :{مِنْ نِسَائِهِمْ} وليست الأمة من النساء، واحتجوا أيضا بقول ابن عباس: إن الظهار كان طلاقا ثم أحل بالكفارة، فكما لا حظ للأمة في الطلاق لا حظ لها في الظهار، ويحتمل أن يكون المنقول عن عكرمة في الأمة المزوجة قلا يكون بين قوليه اختلاف. قوله: "وفي العربية لما قالوا أي فيما قالوا" أي يستعمل في كلام العرب

(9/434)


عاد لكذا بمعنى أعاد فيه وأبطله. قوله: "وفي نقض ما قالوا" كذا للأكثر بنون وقاف. وفي رواية الأصيلي والكشميهني: "بعض" بموحدة ثم مهملة والأول أصح، والمعنى أنه يأتي بفعل ينقض قوله الأول. وقد اختلف العلماء هل يشترط الفعل فلا يجوز له وطؤها إلا بعد أن يكفر، أو يكفي العزم على وطئها، أو العزم على إمساكها وترك فراقها؟ والأول قول الليث والثاني قول الحنفية ومالك، وحكى عنه أنه الوطء بعينه يشرط أن يقدم عليه الكفارة، وحكى عنه العزم على الإمساك والوطء معا وعليه أكثر أصحابه، والثالث قول الشافعي ومن تبعه، وثم قول رابع سنذكره هنا. قوله: "وهذا أولى لأن الله تعالى لم يدل على المنكر وقول الزور" هذا كلام البخاري ومراده الرد على من زعم أن شرط العود هنا أن يقع بالقول وهو إعادة لفظ الظهار، فأشار إلى هذا القول وجزم بأنه مرجوح وإن كان هو ظاهر الآية وهو قول أهل الظاهر، وقد روى ذلك عن أبي العالية ويكبر بن الأشج من التابعين وبه قال الفراء النحوي، ومعنى قوله: { ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا لِمَا قَالُوا} أي إلى قول ما قالوا: وقد بالغ ابن العربي في إنكاره ونسب قائله إلى الجهل لأن الله تعالى وصفه بأنه منكر من القول وزور فكيف يقال إذا أعاد القول المحرم المنكر يجب عليه أن يكفر ثم تحل له المرأة؟ انتهى. وإلى هذا أشار البخاري بقوله: "لأن الله لم يدل على المنكر والزور" وقال إسماعيل القاضي: لما وقع بعد قوله: " ثُمَّ يَعُودُونَ} {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} دل على أن المراد وقوع ضد ما وقع منه من المظاهرة، فإن رجلا لو قال إذا أردت أن تمس فأعتق رقبة قبل أن تمس لكان كلاما صحيحا، بخلاف ما لو قال إذا لم ترد أن تمس فأعتق رقبة قبل أن تمس.وقد جرى بحث بين أبي العباس بن سريج ومحمد بن داود الظاهري فاحتج عليه ابن سريج بالإجماع، فأنكره ابن داود وقال: الذين خالفوا القرآن لا أعد خلافهم خلافا. وأنكر ابن العربي أن يصح عن بكير الأشج، واختلف المعربون في معنى اللام في قوله: {لِمَا قَالُوا} فقيل معناها ثم يعودون إلى الجماع فتحرير رقبة لما قالوا أي فعليهم تحرير رقبة من أجل ما قالوا، فادعوا أن اللام في قوله: {لِمَا قَالُوا} متعلق بالمحذوف وهو قوله عليهم قاله الأخفش، وقيل المعنى الذين كانوا يظاهرون في الجاهلية ثم يعودون لما قالوا أي إلى المظاهرة في الإسلام، وقيل اللام بمعنى عن أي يرجعون عن قولهم، وهذا موافق قول من يوجب الكفارة بمجرد وقوع كلمة الظهار. وقال ابن بطال: يشبه أن تكون ما بمعنى من، أي اللواتي قالوا لهن أنتن علينا كظهور أمهاتنا، قال ويجوز أن يكون قالوا بتقدير المصدر أي يعودون للقول فسمى المقول فيهن باسم المصدر وهو القول كما قالوا درهم ضرب الأم وهو مضروب الأم، والله أعلم بالصواب.

(9/435)


الله صلى الله عليه وسلم: "مَثَلُ الْبَخِيلِ وَالْمُنْفِقِ كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُبَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ مِنْ لَدُنْ ثَدْيَيْهِمَا إِلَى تَرَاقِيهِمَا فَأَمَّا الْمُنْفِقُ فَلاَ يُنْفِقُ شَيْئًا إِلاَّ مَادَّتْ عَلَى جِلْدِهِ حَتَّى تُجِنَّ بَنَانَهُ وَتَعْفُوَ أَثَرَهُ وَأَمَّا الْبَخِيلُ فَلاَ يُرِيدُ يُنْفِقُ إِلاَّ لَزِمَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ مَوْضِعَهَا فَهُوَ يُوسِعُهَا فَلاَ تَتَّسِعُ وَيُشِيرُ بِإِصْبَعِهِ إِلَى حَلْقِهِ"
قوله: "باب الإشارة في الطلاق والأمور" أي الحكمية وغيرها، وذكر فيه عدة أحاديث معلقة وموصولة: أولها قوله: "وقال ابن عمر" هو طرف من حديث تقدم موصولا في الجنائز، وفيه قصة لسعد بن عبادة وفيها "ولكن يعذب بهذا وأشار إلى لسانه "ثانيها" وقال كعب بن مالك "هو أيضا طرف من حديث تقدم موصولا في الملازمة وفيها" وأشار إلى أن خذ النصف "ثالثها" وقالت أسماء "هي بنت أبي بكر. قوله: "صلى النبي صلى الله عليه وسلم في الكسوف" الحديث تقدم موصولا في كتاب الإيمان بلفظ: "فأشارت إلى السماء" وفيه: "فأشارت برأسها أي نعم" وفي صلاة الكسوف بمعناه، وفي صلاة السهو باختصار. رابعها "وقال أنس أومأ النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر أن يتقدم" هو طرف من حديث ابن عباس. خامسها "وقال ابن عباس" هو طرف من حديث تقدم موصولا في العلم في "باب من أجاب الفتيا بإشارة اليد والرأس" وفيه: "وأومأ بيده ولا حرج"، سادسها "وقال أبو قتادة" هو أيضا طرف من حديث تقدم موصولا في "باب لا يشير المحرم إلى الصيد" من كتاب الحج، وفيه: "أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها". قوله: "أبو عامر" هو العقدي، وإبراهيم شيخه جزم المزي بأنه ابن طهمان، وزعم بعض، الشراح أنه أبو إسحاق الفزاري والأول أرجح. وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق يحيى بن أبي بكير عن إبراهيم بن طهمان عن خالد وهو الحذاء، وتقدم الحديث مشروحا في كتاب الحج، وفيه: "كلما أتى على الركن أشار إليه". الثامن. قولة "وقالت زينب" هي بنت جحش أم المؤمنين. قوله: "مثل هذه وهذه وعقد تسعين" تقدم في أحاديث الأنبياء وعلامات النبوة موصولا، ويأتي في الفتن لكن بلفظ: "وحلق بإصبعه الإبهام والتي تليها وهي صورة عقد التسعين" وسيأتي في الفتن من حديث أبي هريرة بلفظ: "وعقد تسعين" ووجه إدخاله في الترجمة أن العقد على صفة مخصوصة لإرادة عدد معلوم يتنزل منزلة الإشارة المفهمة، فإذا اكتفى بها عن النطق مع القدرة عليه دل على اعتبار الإشارة ممن لا يقدر على النطق بطريق الأولى. قوله: "سلمة بن علقمة" بفتح المهملة واللام شيخ ثقة، وهو بصري وكذا سائر رواه هذا الإسناد، وقد يلتبس بمسلمة بن علقمة شيخ بصري أيضا لكن في أول اسمه زيادة ميم والمهملة ساكنة وهو دون سلمة بن علقمة في الطبقة والثقة. قوله: "وقال بيده" أي أشار بها وهو من إطلاق القول على الفعل. قوله: "ووضع أنملته على بطن الوسطى والخنصر قلنا يزهدها" أي يقللها، بين أبو مسلم الكحبي في روايته عن مسدد شيخ البخاري أن الذي فعل ذلك هو بشر بن المفضل راويه عن سلمة بن علقمة، فعل هذا ففي سياق البخاري إدراج وقد قيل إن المراد بوضع الأنملة في وسط الكف الإشارة إلى أن ساعة الجمعة في وسط يوم الجمعة، وبوضعها على الخنصر الإشارة إلى أنها في آخر النهار لأن الخنصر آخر أصابع الكف، وقد تقدم بسط الأقاويل في تعيين وقتها في كتاب الجمعة.قوله: "وقال الأويسي" هو عبد العزيز بن عبد الله شيخ البخاري، أخرج عنه الكثير في العلم وفي غيره، وقد أورده أبو نعيم في "المستخرج" من طريق يعقوب بن سفيان عنه، ويأتي في الديات من وجه آخر عن شعبة مع شرحه. وقوله فيه: "أوضاحا"

(9/337)


25- باب اللِّعَانِ ، وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ}
إِلَى قَوْلِهِ { مِنْ الصَّادِقِينَ} فَإِذَا قَذَفَ الأَخْرَسُ امْرَأَتَهُ بِكِتَابَةٍ أَوْ إِشَارَةٍ أَوْ بِإِيمَاءٍ مَعْرُوفٍ فَهُوَ كَالْمُتَكَلِّمِ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَجَازَ الإِشَارَةَ فِي الْفَرَائِضِ وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَهْلِ الْحِجَازِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} وَقَالَ الضَّحَّاكُ إِلاَّ "رَمْزًا" إِلاَّ إِشَارَةً وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ لاَ حَدَّ وَلاَ لِعَانَ ثُمَّ زَعَمَ أَنَّ الطَّلاَقَ بِكِتَابٍ أَوْ إِشَارَةٍ أَوْ إِيمَاءٍ جَائِزٌ وَلَيْسَ بَيْنَ الطَّلاَقِ وَالْقَذْفِ فَرْقٌ فَإِنْ قَالَ الْقَذْفُ لاَ يَكُونُ إِلاَّ بِكَلاَمٍ قِيلَ لَهُ كَذَلِكَ الطَّلاَقُ لاَ يَجُوزُ إِلاَّ بِكَلاَمٍ وَإِلاَ بَطَلَ الطَّلاَقُ وَالْقَذْفُ وَكَذَلِكَ الْعِتْقُ وَكَذَلِكَ الأَصَمُّ يُلاَعِنُ وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَقَتَادَةُ إِذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ فَأَشَارَ بِأَصَابِعِهِ تَبِينُ مِنْهُ بِإِشَارَتِهِ وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ الأَخْرَسُ إِذَا كَتَبَ الطَّلاَقَ بِيَدِهِ لَزِمَهُ وَقَالَ حَمَّادٌ الأَخْرَسُ وَالأَصَمُّ إِنْ قَالَ بِرَأْسِهِ جَازَ"
5300- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا لَيْثٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ دُورِ الأَنْصَارِ قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ بَنُو النَّجَّارِ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ بَنُو عَبْدِ الأَشْهَلِ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ بَنُو الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ بَنُو سَاعِدَةَ ثُمَّ قَالَ بِيَدِهِ فَقَبَضَ أَصَابِعَهُ ثُمَّ بَسَطَهُنَّ كَالرَّامِي بِيَدِهِ ثُمَّ قَالَ وَفِي كُلِّ دُورِ الأَنْصَارِ خَيْرٌ"
5301- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ أَبُو حَازِمٍ سَمِعْتُهُ مِنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ كَهَذِهِ مِنْ هَذِهِ أَوْ كَهَاتَيْنِ وَقَرَنَ بَيْنَ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى"
5302- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا جَبَلَةُ بْنُ سُحَيْمٍ سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا يَعْنِي ثَلاَثِينَ ثُمَّ قَالَ وَهَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا يَعْنِي تِسْعًا وَعِشْرِينَ يَقُولُ مَرَّةً ثَلاَثِينَ وَمَرَّةً تِسْعًا وَعِشْرِينَ"
5303- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ إِسْمَاعِيلَ عَنْ قَيْسٍ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ وَأَشَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ نَحْوَ الْيَمَنِ الإِيمَانُ هَا هُنَا مَرَّتَيْنِ أَلاَ وَإِنَّ الْقَسْوَةَ وَغِلَظَ الْقُلُوبِ فِي الْفَدَّادِينَ حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنَا الشَّيْطَانِ رَبِيعَةَ وَمُضَرَ"
5304- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَهْلٍ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وَأَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ فِي الْجَنَّةِ هَكَذَا وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى وَفَرَّجَ بَيْنَهُمَا شَيْئًا"
[الحديث 5304- طرفه في: 600]

(9/439)


قوله: "باب اللعان" هو مأخوذ من اللعن، لأن الملاعن يقول: "لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين" واختير لفظ اللعن دون الغضب في التسمية لأنه قول الرجل، وهو الذي بدئ به في الآية، وهو أيضا يبدأ به، وله أن يرجع عنه فيسقط عن المرأة بغير عكس، وقيل سمى لعانا لأن اللعن الطرد والإبعاد وهو مشترك بينهما، وإنما خصت المرأة بلفظ الغضب لعظم الذنب بالنسبة إليها، لأن الرجل إذا كان كاذبا لم يصل ذنبه إلى أكثر من القذف، وإن كانت هي كاذبة فذنبها أعظم لما فيه من تلويث الفراش والتعرض لإلحاق من ليس من الزوج به، فتنتشر المحرمية، وتثبت الولاية والميراث لمن لا يستحقهما. واللعان والالتعان والملاعنة بمعنى، ويقال تلاعنا والتعنا ولاعن الحاكم بينهما والرجل ملاعن والمرأة ملاعنة لوقوعه غالبا من الجانبين وأجمعوا على مشروعية اللعان وعلى أنه لا يجوز مع عدم التحقق. واختلف في وجوبه على الزوج، لكن لو تحقق أن الولد ليس منه قوي الوجوب. قوله: "وقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} - إلى قوله: {إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} كذا للأكثر، وساق في رواية كريمة الآيات كلها، وكأن البخاري تمسك بعموم قوله تعالى :{يَرْمُونَ} لأنه أعم من أن يكون باللفظ أو بالإشارة المفهمة، وقد تمسك غيره للجمهور بها في أنه لا يشترط في الالتعان أن يقول الرجل رأيتها تزني، ولا أن ينفي حملها إن كانت حاملا أو ولدها إن كانت وضعت خلافا لمالك، بل يكفي أن يقول إنها زانية أو زنت، ويؤيده أن الله شرع حد القذف على الأجنبي برمي المحصنة، ثم شرع اللعان برمي الزوجة، فلو أن أجنبيا قال يا زانية وجب عليه حد القذف، فكذلك حكم اللعان. وأوردوا على المالكية الاتفاق على مشروعية اللعان للأعمى فانفصل عنه ابن القصار بأن شرطه أن يقول لمست فرجه في فرجها، والله أعلم. قوله: "فإذا قذف الأخرس امرأته بكتابة" بمثناة ثم موحدة، وعند الكشميهني: "بكتاب" بلا هاء. قوله: "أو إشارة أو إيماء معروف فهو كالمتكلم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أجاز الإشارة في الفرائض" أي في الأمور المفروضة. قوله: "وهو قول بعض أهل الحجاز وأهل العلم" أي من غيرهم، وخالف الحنفية والأوزاعي وإسحاق، وهي رواية عن أحمد اختارها بعض المتأخرين. قوله: "وقال الله تعالى: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} أخرج ابن أبي حاتم من طريق ميمون بن مهران قال: لما قالوا لمريم {لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً} إلخ" أشارت إلى عيسى أن كلموه، فقالوا: تأمرنا أن نكلم من هو في المهد زيادة على ما جاءت به من الداهية ووجه الاستدلال به أن مريم كانت نذرت أن لا تتكلم فكانت في حكم الأخرس فأشارت إشارة مفهمة اكتفوا بها عن معاودة سؤالها وان كانوا أنكروا عليها ما أشارت به، وقد ثبت من حديث أبي بن كعب وأنس بن مالك أن معنى قوله تعالى : {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً} أي صمتا أخرجه الطبراني وغيره. قوله: "وقال الضحاك" أي ابن مزاحم "إلا رمزا إشارة" وصله عبد بن حميد وأبو حذيفة في تفسير سفيان الثوري ولفظهما عنه في قوله تعالى :{آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً} استثنى الرمز من الكلام فدل على أن له حكمه. وأغرب الكرماني فقال: الضحاك هو ابن شراحيل الهمداني، فلم يصب فإن المشهور بالتفسير هو ابن مزاحم، وقد وجد الأثر المذكور عنه مصرحا أنه ابن مزاحم، وأما ابن شراحيل ويقال ابن شرحبيل فهو من التابعين لكن لم ينقلوا عنه شيئا من التفسير، بل له عند البخاري حديثان فقط أحدهما في فضائل القرآن والآخر في استتابة المرتدين وكلاهما من روايته عن أبي سعيد الخدري قال: الرمز الإشارة. قوله: "وقال بعض الناس لا حد ولا لعان" أي بالإشارة من الأخرس وغيره "ثم زعم إن طلق بكتابة أو إشارة

(9/440)


أو إيماء جاز" كذا لأبي ذر، ولغيره أن الطلاق بكتابة إلخ. قوله: "وليس بين الطلاق والقذف فرق، فإن قال القذف لا يكون إلا بكلام قيل له: كذلك الطلاق لا يكون إلا بكلام" أي وأنت وافقت على وقوعه بغير الكلام فليزمك مثله في اللعان والحد. قوله: "وإلا بطل الطلاق والقذف، وكذلك العتق" يعني إما أن يقال باعتبار الإشارة فيها كلها أو بترك اعتبارها فتبطل كلها بالإشارة، وإلا فالتفرقة بينهما بغير دليل تحكم، وقد وافقه بعض الحنفية على هذا البحث وقال: القياس بطلان الجميع، لكن عملنا به في غير اللعان والحد استحسانا، ومنهم من قال: منعناه في اللعان والحد للشبهة لأنه يتعلق بالصريح كالقذف فلا يكتفي فيه بالإشارة لأنها غير صريحة، وهذه عمدة من وافق الحنفية من الحنابلة وغيرهم، ورده ابن التين بأن المسألة مفروضة فيما إذا كانت الإشارة مفهمة إفهاما واضحا لا يبقى معه ريبة، ومن حجتهم أيضا أن القذف يتعلق بصريح الزنا دون معناه، بدليل أن من قال لآخر وطئت وطأ حراما لم يكن قذفا لاحتمال أن يكون وطئ وطء شبهة فاعتقد القائل أنه حرام، والإشارة لا يتضح بها التفصيل بين المعنيين، ولذلك لا يجب الحد في التعريض، وأجاب ابن القصار بالنقض عليهم بنفوذ القذف بغير اللسان العربي وهو ضعيف، ونقض غيره بالقتل فإنه ينقسم إلى عمد وشبه عمد وخطأ ويتميز بالإشارة وهو قوي، واحتجوا أيضا بأن اللعان شهادة وشهادة الأخرس مردودة بالإجماع، وتعقب بأن مالكا ذكر قبولها فلا إجماع، وبأن اللعان عند الأكثر يمين كما سيأتي البحث فيه. قوله: "وكذلك الأصم يلاعن" أي إذا أشير إليه حتى فهم، قال المهلب: في أمره إشكال، لكن قد يرتفع بترداد الإشارة إلى أن تفهم معرفة ذلك عنه. قلت: والإطلاع على معرفته بذلك سهل لأنه يعرف من نطقه. قوله: "وقال الشعبي وقتادة: إذا قال أنت طالق فأشار بأصابعه تبين منه بإشارته" وصله ابن أبي شيبة بلفظ: سئل الشعبي فقال سئل رجل مرة أطلقت امرأتك قال فأومأ بيده بأربع أصابع ولم يتكلم ففارق امرأته. قال ابن التين: معناه أنه عبر عما نواه من العدد بالإشارة فاعتلوا عليه بذلك. قوله: "وقال إبراهيم: الأخرس إذا كتب الطلاق بيده لزمه" وصله ابن أبي شيبة بلفظه، وأخرجه الأثرم عن ابن أبي شيبة كذلك، وأخرجه عبد الرزاق بلفظ الرجل يكتب الطلاق ولا بلفظ به أنه كان يراه لازما، ونقل ابن التين عن مالك أن الأخرس إذا كتب الطلاق أو نواه لزمه؛ وقال الشافعي: لا يكون طلاقا، يعني أن كلا منهما على انفراده لا يكون طلاقا، أما لو جمعهما فإن الشافعي يقول بالوقوع سواء كان ناطقا أم أخرس. قوله: "وقال حماد: الأخرس والأصم إن قال برأسه جاز" هو حماد بن أبي سليمان شيء أبي حنيفة، فكأن البخاري أراد إلزام الكوفيين بقول شيخهم، ولا يخفى أن محل الجواز حيث يسبق ما ينطبق عليه من الإيماء بالرأس الجواب. ثم ذكر المصنف في الباب خمسة أحاديث تتعلق بالإشارة أيضا. حديث أنس في فضل دور الأنصار وقد تقدم شرحه في المناقب، فإنه أورده هناك من وجه آخر عن أنس عن أبي أسيد الساعدي، وأورده هنا عن أنس بغير واسطة والطريقان صحيحان، وفي زيادة أنس هذه الإشارة وليست في روايته عن أبي أسيد. وفي رواية عن أبي أسيد من الزيادة قصة لسعد بن عبادة كما تقدم. والمقصود من الحديث هنا قوله: "ثم قال بيده فقبض أصابعه ثم بسطهن كالرامي بيده" ففيه استعمال الإشارة المفهمة مقرونة بالنطق، وقوله كالرامي بيده أي كالذي يكون بيده الشيء قد ضم أصابعه عليه ثم رماه فانتشرت. قوله: "قال أبو حازم" كذا وقع عنده وأخرجه الإسماعيلي من وجهين عن سفيان بلفظ: "عن أبي حازم" وصرح الحميدي

(9/441)


عن سفيان بالتحديث فقال في روايته: "حدثنا أبو حازم أنه سمع سهلا" أخرجه أبو نعيم. قوله: "كهذه من هذه أو كهاتين" شيء من الراوي، واقتصر الحميدي على قوله: "كهذه من هذه". قوله: "وفرق وأشار سفيان بالسبابة" سيأتي شرحه مستوفي في كتاب الرقاق إن شاء الله تعالى. قال الكرماني: قد انقضى من يوم بعثته إلى يومنا هذا - يعني سنة سبع وستين وسبعمائة - سبعمائة وثمانون سنة، فكيف تكون المقاربة؟ وأجاب الخطابي أن المراد أن الذي بقي بالنسبة إلى ما مضى قدر فضل الوسطى إلى السبابة. قلت: وسيأتي البحث في ذلك حيث أشرت إليه حديث ابن عمر "الشهر هكذا وهكذا وهكذا" تقدم شرحه مستوفي في كتاب الصيام. حديث أبي مسعود - وهو عقبة بن عمرو - ووقع في رواية القابسي والكشميهني: "ابن مسعود" قال عياض: وهو وهم، وهو كما قال، فقد تقدم كذلك في بدء الخلق والمناقب والمغازي من طرق عن إسماعيل وهو ابن أبي خالد عن قيس وهو ابن أبي حازم، وصرح في بدء الخلق باسمه ولفظه: "حدثني قيس عن عقبة بن عمرو أبي مسعود" "وقد تقدم شرحه في ذكر الجن في بدء الخلق، وبقية شرحه في أول المناقب. حديث سهل في فضل كافل اليتيم، وسيأتي شرحه في كتاب الأدب إن شاء الله تعالى، وقوله فيه: "بالسبابة" في رواية الكشميهني: "بالسباحة" وهما بمعنى.

(9/442)


26- باب إِذَا عَرَّضَ بِنَفْيِ الْوَلَدِ
5305- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ قَزَعَةَ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وُلِدَ لِي غُلاَمٌ أَسْوَدُ فَقَالَ هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ قَالَ نَعَمْ قَالَ مَا أَلْوَانُهَا قَالَ حُمْرٌ قَالَ هَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَأَنَّى ذَلِكَ قَالَ لَعَلَّهُ نَزَعَهُ عِرْقٌ قَالَ فَلَعَلَّ ابْنَكَ هَذَا نَزَعَهُ"
[الحديث 5305- طرفه في: 6847، 7314]
قوله: "باب إذا عرض بنفي الولد" بتشديد الراء من التعريض، وهو ذكر شيء يفهم منه شيء آخر لم يذكر، ويفارق الكناية بأنها ذكر شيء بغير لفظه الموضوع يقوم مقامه، وترجم البخاري لهذا الحديث في الحدود "ما جاء في التعريض" وكأنه أخذه من قوله في بعض طرقه: "يعرض بنفيه:" وقد اعترضه ابن المنير فقال: ذكر ترجمة التعريض عقب ترجمة الإشارة لاشتراكهما في إفهام المقصود، لكن كلامه يشعر بإلغاء حكم التعريض فيتناقض مذهبه في الإشارة. والجواب أن الإشارة المعتبرة هي التي لا يفهم منها إلا المعنى المقصود، بخلاف التعريض فإن الاحتمال فيه إما راجح وإما مساو فافترقا، قال الشافعي في "الأم" : ظاهر قول الأعرابي أنه اتهم امرأته، لكن لما كان لقوله وجه غير القذف لم يحكم النبي صلى الله عليه وسلم فيه بحكم القذف فدل ذلك على أنه لا حد في التعريض، ومما يدل على أن التعريض لا يعطي حكم التصريح الإذن بخطبة المعتدة بالتعريض لا بالتصريح فلا يجوز، والله أعلم. قوله: "عن ابن شهاب" قال الدار قطني: أخرجه أبو مصعب في "الموطأ" عن مالك، وتابعه جماعة من الرواة خارج الموطأ، ثم ساقه من رواية محمد بن الحسن عن مالك "أنا الزهري" ومن طريق عبد الله بن محمد بن أسماء عن مالك، ومن طريق ابن وهب "أخبرني ابن أبي ذئب ومالك كلاهما عن ابن شهاب" وطريق ابن وهب هذه أخرجها أبو داود. قوله: "إن سعيد بن المسيب أخبره" كذا لأكثر أصحاب الزهري، وخالفهم يونس فقال

(9/442)


عنه "عن أبي سلمة عن أبي هريرة" وسيأتي في كتاب الاعتصام من طريق ابن وهب عنه، وهو مصير من البخاري إلى أنه عند الزهري عن سعيد وأبي سلمة معا، وقد وافقه مسلم على ذلك، ويؤيده رواية يحيى بن الضحاك عن الأوزاعي عن الزهري عنهما جميعا، وقد أطلق الدار قطني أن المحفوظ رواية مالك ومن تابعه، وهو محمول على العمل بالترجيح، وأما طريق الجمع فهو ما صنعه البخاري، ويتأيد أيضا بأن عقيلا رواه عن الزهري قال: "بلغنا عن أبي هريرة" فإن ذلك، يشعر بأنه عنده عن غير واحد، وإلا لو كان عن واحد فقط كسعيد مثلا لاقتصر عليه. قوله: "إن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم" في رواية أبي مصعب "جاء أعرابي" وكذا سيأتي في الحدود عن إسماعيل بن أبي أويس عن مالك، وللنسائي: "جاء رجل من أهل البادية" وكذا في رواية أشهب عن مالك عند الدار قطني. وفي رواية ابن وهب التي عند أبي داود "أن أعرابيا من بني فزارة" وكذا عند مسلم وأصحاب السنن من رواية سفيان بن عيينة عن ابن شهاب، واسم هذا الأعرابي ضمضم بن قتادة أخرج حديثه عبد الغني بن سعيد في "المبهمات" له من طريق قطبة بنت عمرو بن هرم أن مدلوكا حدثها "إن ضمضم بن قتادة ولد له مولود أسود من امرأة من بني عجل فشكا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هل لك من إبل" ؟ قوله: "أتى النبي صلى الله عليه وسلم" في رواية ابن أبي ذئب "صرخ بالنبي صلى الله عليه وسلم". قوله: "فقال: يا رسول الله إن امرأتي ولدت غلاما أسود" لم أقف على اسم المرأة ولا على اسم الغلام، وزاد في رواية يونس "وإني أنكرته" أي استنكرته بقلبي ولم يرد أنه أنكر كونه ابنه بلسانه وإلا لكان تصريحا بالنفي لا تعريضا، ووجه التعريض، أنه قال غلاما أسود أي وأنا أبيض فكيف يكون مني؟ ووقع في رواية معمر عن الزهري عند مسلم: "وهو حينئذ يعرض بأن ينفيه:" ويؤخذ منه أن التعريض بالقذف ليس قذفا وبه قال الجمهور، واستدل الشافعي بهذا الحديث لذلك، وعن المالكية يجب به الحد إذا كان مفهوما، وأجابوا عن الحديث بما سيأتي بيانه في آخر شرحه. وقال ابن دقيق العيد: في الاستدلال بالحديث نظر، لأن المستفتي لا يجب عليه حد ولا تعزير. قلت: وفي هذا الإطلاق نظر، لأنه قد يستفتي بلفظ لا يقتضي القذف وبلفظ يقتضيه، فمن الأول أن يقول مثلا إذا كان زوج المرأة أبيض فأتت بولد أسود: ما الحكم؟ ومن الثاني أن يقول مثلا: أن امرأتي أتت بولد أسود وأبا أبيض فيكون تعريضا، أو يزيد فيه مثلا زنت فيكون تصريحا، والذي ورد في حديث الباب هو الثاني فيتم الاستدلال. وقد نبه الخطابي على عكس هذا فقال: لا يلزم الزوج إذا صرح بأن الولد الذي وضعته امرأته ليس منه حد قذفه لجواز أن يريد أنها وطئت بشهبة أو وضعته من الزوج الذي قبله إذا كان ذلك ممكنا. قوله: "قال : فما ألوانها؟ قال: حمر" في رواية محمد بن مصعب عن مالك عند الدار قطني "قال رمك" والأرمك الأبيض إلى حمرة، وقد تقدم تفسيره في شرح حديث جمل جابر في الشرط. قوله: "فهل فيها من أورق" بوزن أحمر. قوله: "إن فيها لورقا" بضم الواو بوزن حمر، والأورق الذي فيه سواد ليس بحالك بل يميل إلى الغبرة، ومنه قبل للحمامة ورقاء. قوله: "فأني ذلك" بفتح النون الثقيلة أي من أين أتاها اللون الذي خالفها، هل هو بسب فحل من غير لونها طرأ عليها أو لأمر آخر؟. قوله: "لعل نزعه عرق" في رواية كريمة: "لعله" ولا إشكال فيها بخلاف الأول فجزم جمع بأن الصواب النصب أي لعل عرقا نزعه. وقال الصغاني: ويحتمل أن يكون في الأصل "لعله" فسقطت الهاء، ووجهه ابن مالك باحتمال أنه حذف منه ضمير الشأن، ويؤيد توجيهه ما وقع في رواية كريمة، والمعنى يحتمل أن يكون في أصولها ما هو باللون المذكور فاجتذبه إليه فجاء على لونه، وادعى الداودي أن لعل هنا للتحقيق. قوله: "ولعل ابنك هذا نزعه" كذا في رواية أبي ذر

(9/443)


بحذف الفاعل، ولغيره: "نزعه عرق" وكذا في سائر الروايات، والمراد بالعرق الأصل من النسب شبهه بعرق الشجرة، ومنه قولهم: فلان عريق في الأصالة أي أن أصله متناسب، وكذا معرق في الكرم أو اللؤم، وأصل النزع الجذب، وقد يطلق على الميل، ومنه ما وقع في قصة عبد الله بن سلام حين سئل عن شبه الولد بأبيه أو بأمه: نزع إلى أبيه أو إلى أمه، وفي الحديث ضرب المثل، وتشبيه المجهول بالمعلوم تقريبا لفهم السائل، واستدل به لصحة العمل بالقياس، قال الخطابي: هو أصل في قياس الشبه. وقال ابن العربي: فيه دليل على صحة القياس والاعتبار بالنظير؛ وتوقف فيه ابن دقيق العيد فقال: هو تشبيه في أمر وجودي، والنزاع إنما هو في التشبيه في الأحكام الشرعية من طريق واحدة قوية. وفيه أن الزوج لا يجوز له الانتفاء من ولده بمجرد الظن، وأن الولد يلحق به ولو خالف لونه لون أمه. وقال القرطبي تبعا لابن رشد: لا خلاف في أنه لا يحل نفي الولد باختلاف الألوان المتقاربة كالأدمة والسمرة، ولا في البياض والسواد إذا كان قد أقر بالوطء ولم تمض مدة الاستبراء، وكأنه أراد في مذهبه، وإلا فالخلاف ثابت عند الشافعية بتفصيل فقالوا: إن لم ينضم إليه قرينة زنا لم يجز النفي، فإن اتهمها فأتت بولد على لون الرجل الذي اتهمها به جاز النفي على الصحيح، وفي حديث ابن عباس الآتي في اللعان ما يقويه. وعند الحنابلة يجوز النفي مع القرينة مطلقا، والخلاف إنما هو عند عدمها، وهو عكس ترتيب الخلاف عند الشافعية. وفيه تقديم حكم الفراش على ما يشعر به مخالفة الشبه. وفيه الاحتياط للأنساب وإبقائها مع الإمكان، والزجر عن تحقيق ظن السوء. وقال القرطبي: يؤخذ منه منع التسلسل، وأن الحوادث لا بد لها أن تستند إلى أول ليس بحادث. وفيه أن التعريض بالقذف لا يثبت حكم القذف حتى يقع التصريح خلافا للمالكية، وأجاب بعض المالكية أن التعريض الذي يجب به القذف عندهم هو ما يفهم منه القذف كما يفهم من التصريح، وهذا الحديث لا حجة فيه لدفع ذلك، فإن الرجل لم يرد قذفا، بل جاء سائلا مستفتيا عن الحكم لما وقع له من الريبة، فلما ضرب له المثل أذعن. وقال المهلب: التعريض إذا كان على سبيل السؤال لا حد فيه، وإنما يجب الحد في التعريض إذا كان على سبيل المواجهة والمشاتمة. وقال ابن المنير: الفرق بين الزوج والأجنبي في التعريض أن الأجنبي يقصد الأذية المحضة، والزوج قد يعذر بالنسبة إلى صيانة النسب، والله أعلم.

(9/444)


باب إخلاف الملاعن
...
27- باب إِحْلاَفِ الْمُلاَعِنِ
5306- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا مِنْ الأَنْصَارِ قَذَفَ امْرَأَتَهُ فَأَحْلَفَهُمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا"
قوله: "باب إحلاف الملاعن" ذكر فيه حديث ابن عمر من رواية جويرية بن أسماء عن نافع مختصرا بلفظ: "فأحلفهما" وكذا سيأتي بعد ستة أبواب من طريق عبيد الله بن عمر عن نافع، وتقدم في تفسير النور من وجه آخر عن عبيد الله بن عمر بلفظ: "لاعن بين رجل وامرأة" حديث ابن عمر من رواية جويرية بن أسماء عن نافع مختصرا بلفظ: "فأحلفهما" وكذا سيأتي بعد ستة أبواب من طريق عبيد الله بن عمر عن نافع، وتقدم في تفسير النور من وجه آخر عن عبيد الله بن عمر بلفظ: "لاعن بين رجل وامرأة" والمراد بالإحلاف هنا النطق بكلمات اللعان، وقد تمسك به من قال أن اللعان يمين، وهو قول مالك والشافعي والجمهور. وقال أبو حنيفة: اللعان شهادة وهو وجه للشافعية، وقيل شهادة فيها شائبة اليمين، وقيل بالعكس، ومن ثم قال بعض العلماء: ليس بيمين ولا شهادة، وانبنى على الخلاف أن اللعان يشرع بين كل زوجين مسلمين أو كافرين حرين أو عبدين عدلين أو فاسقين بناء على أنه

(9/444)


يمين، فمن صح يمينه صح لعانه، وقيل لا يصح اللعان إلا من زوجين حرين مسلمين، لأن اللعان شهادة ولا يصح من محدود في قذف، وهذا الحديث حجة للأولين لتسوية الراوي بين لاعن وحلف، ويؤيده أن اليمين ما دل على حث أو منع أو تحقيق خبر وهو هنا كذلك، ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم في بعض طرق حديث ابن عباس "فقال له: احلف بالله الذي لا إله إلا هو إني لصادق، يقول ذلك أربع مرات أخرجه الحاكم والبيهقي من رواية جرير بن حازم عن أيوب عن عكرمة عنه، وسيأتي قريبا "لولا الأيمان لكان لي ولها شأن" واعتل بعض الحنفية بأنها لو كانت يمينا لما تكررت، وأجيب بأنها خرجت عن القياس تغليظا لحرمة الفروج كما خرجت القسامة لحرمة الأنفس، وبأنها لو كانت شهادة لم تكرر أيضا. والذي تحرر لي أنها من حيث الجزم بنفي الكذب وإثبات الصدق يمين، لكن أطلق عليها شهادة لاشتراط أن لا يكتفي في ذلك بالظن بل لا بد من وجود علم كل منهما بالأمرين علما يصح معه أن يشهد به، ويؤيد كونها يمينا أن الشخص لو قال أشهد بالله لقد كان كذا لعد حالفا. وقد قال القفال في "محاسن الشريعة" : كررت أيمان اللعان لأنها أقيمت مقام أربع شهود في غيره ليقام عليها الحد، ومن ثم سميت شهادات.

(9/445)


28- باب يَبْدَأُ الرَّجُلُ بِالتَّلاَعُنِ
5307- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ هِلاَلَ بْنَ أُمَيَّةَ قَذَفَ امْرَأَتَهُ فَجَاءَ فَشَهِدَ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ ثُمَّ قَامَتْ فَشَهِدَتْ"
قوله: "باب يبدأ الرجل بالتلاعن" ذكر فيه حديث ابن عباس في قصة هلال بن أمية مختصرا وكأنه أخذ الترجمة من قوله: "ثم قامت فشهدت" فإنه ظاهر في أن الرجل يقدم قبل المرأة في الملاعنة، وقد ورد ذلك صريحا من حديث ابن عمر كما سأذكره في "باب صداق الملاعنة" وبه قال الشافعي ومن تبعه وأشهب من المالكية ورجحه ابن العربي وقال ابن القاسم لو ابتدأت به المرأة صح واعتد به وهو قول أبي حنيفة، واحتجوا بأن الله عطفه بالواو وهي لا تقتضي الترتيب. واحتج للأولين بأن اللعان شرع لدفع الحد عن الرجل، ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم لهلال "البينة وإلا حد في ظهرك"، فلو بدئ بالمرأة لكان دفعا لأمر لم يثبت، وبأن الرجل يمكنه أن يرجع بعد أن يلتعن كما تقدم فيندفع عن المرأة، بخلاف ما لو بدأت به المرأة. قوله: "عن عكرمة عن ابن عباس" كذا وصله هشام بن حسان عن عكرمة، وتابعه عباد بن منصور عن عكرمة أخرجه أبو داود في السنن، وساقه أبو داود الطيالسي في مسنده مطولا، واختلف على أيوب: فرواه جرير ابن حازم عنه موصولا أخرجه الحاكم والبيهقي في "الخلافيات" وغيرها وكذا أخرجه النسائي وابن أبي حاتم وابن المنذر وابن مردويه من رواية حماد بن زيد عن أيوب موصولا، وأخرجه الطبري من طريق حماد مرسلا، قال الترمذي سألت محمدا عن هذا الاختلاف فقال: حديث عكرمة عن ابن عباس في هذا محفوظ. قوله: "إن هلال بن أمية قذف امرأته فجاء فشهد" كذا أورده هنا مختصرا، وتقدم في تفسير النور مطولا، وفيه شرح قوله: "البينة أو حد في ظهرك" وفيه قول هلال "لينزلن الله ما يبرئ ظهري من

(9/445)


الجلد فنزلت" ووقع فيه أنه اتهمهما بشريك بن سحماء، ووقع في رواية مسلم من حديث أنس "إن شريك بن سحماء كان أخا البراء بن مالك لأمه" وهو مشكل فإن أم البراء هي أم أنس بن مالك وهي أم سليم ولم تكن سحماء ولا تسمى سحماء فلعل شريكا كان أخاه من الرضاعة. وقد وقع عند البيهقي في الخلافيات من مرسل محمد بن سيرين "أن شريكا كان يأوي إلى منزل هلال" وفي تفسير مقاتل: أن والدة شريك التي يقال لها سحماء كانت حبشية وقيل كانت يمانية، وعند الحاكم من مرسل ابن سيرين "كانت أمة سوداء" واسم والد شريك عبدة بن مغيث بن الجد بن العجلان، وحكى عبد الغني بن سعيد وأبو نعيم في الصحابة أن لفظ شريك صفة لا اسم، وأنه كان شريكا لرجل يهودي يقال له ابن سحماء، وحكى البيهقي في "المعرفة" عن الشافعي أن شريك بن سحماء كان يهوديا، وأشار عياض إلى بطلان هذا القول وجزم بذلك النووي تبعا له وقال: كان صحابيا، وكذا عده جمع في الصحابة فيجوز أن يكون أسلم بعد ذلك. ويعكر على هذا قول ابن الكلبي: أنه شهد أحدا؛ وكذا قول غيره أن أباه شهد بدرا وأحدا؛ فالله أعلم. قوله في هذه الرواية "فجاء فشهد والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: الله يعلم أن أحد كما كاذب" ظاهره أن هذا الكلام صدر منه صلى الله عليه وسلم في حال ملاعنتهما، بخلاف من زعم أنه قاله بعد فراغهما، وزاد في تفسير النور من هذا الوجه بعد قوله فشهدت "فلما كان عند الخامسة وقفوها وقالوا: إنها موجبة" ووقع عند النسائي في هذه القصة "فأمر رجلا أن يضع يده عند الخامسة على فيه، ثم على فيها. وقال: إنها موجبة" قال ابن عباس "فتلكأت ونكصت حتى قلنا إنها ترجع، ثم قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم، فمضت" وفيه أيضا قوله صلى الله عليه وسلم: "أبصروها فإن جاءت إلخ" وسأذكر شرحه في "باب التلاعن في المسجد"

(9/446)


29- باب اللِّعَانِ وَمَنْ طَلَّقَ بَعْدَ اللِّعَانِ
5308- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ السَّاعِدِيَّ أَخْبَرَهُ أَنَّ عُوَيْمِرًا الْعَجْلاَنِيَّ جَاءَ إِلَى عَاصِمِ بْنِ عَدِيٍّ الأَنْصَارِيِّ فَقَالَ لَهُ يَا عَاصِمُ أَرَأَيْتَ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ أَمْ كَيْفَ يَفْعَلُ سَلْ لِي يَا عَاصِمُ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَ عَاصِمٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسَائِلَ وَعَابَهَا حَتَّى كَبُرَ عَلَى عَاصِمٍ مَا سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا رَجَعَ عَاصِمٌ إِلَى أَهْلِهِ جَاءَهُ عُوَيْمِرٌ فَقَالَ يَا عَاصِمُ مَاذَا قَالَ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ عَاصِمٌ لِعُوَيْمِرٍ لَمْ تَأْتِنِي بِخَيْرٍ قَدْ كَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسْأَلَةَ الَّتِي سَأَلْتُهُ عَنْهَا فَقَالَ عُوَيْمِرٌ وَاللَّهِ لاَ أَنْتَهِي حَتَّى أَسْأَلَهُ عَنْهَا فَأَقْبَلَ عُوَيْمِرٌ حَتَّى جَاءَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَطَ النَّاسِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ أَمْ كَيْفَ يَفْعَلُ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قَدْ أُنْزِلَ فِيكَ وَفِي صَاحِبَتِكَ فَاذْهَبْ فَأْتِ بِهَا قَالَ سَهْلٌ فَتَلاَعَنَا وَأَنَا مَعَ النَّاسِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا فَرَغَا مِنْ تَلاَعُنِهِمَا قَالَ عُوَيْمِرٌ كَذَبْتُ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ أَمْسَكْتُهَا فَطَلَّقَهَا ثَلاَثًا قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ فَكَانَتْ سُنَّةَ الْمُتَلاَعِنَيْنِ"

(9/446)


قوله: "باب اللعان" تقدم معنى اللعان قبل، وهو ينقسم إلى واجب ومكروه وحرام، فالأول أن يراها تزني أو أقرت بالزنا فصدقها، وذلك في طهر لم يجامعها فيه ثم اعتزلها مدة العدة فأتت بولد لزمه قذفها لنفي الولد لئلا يلحقه فيترتب عليه المفاسد. الثاني أن يرى أجنبيا يدخل عليها بحيث يغلب على ظنه أنه زنى بها فيجوز له أن يلاعن، لكن لو ترك لكان أولى للستر لأنه يمكنه فراقها بالطلاق الثالث ما عدا ذلك، لكن لو استفاض فوجهان لأصحاب الشافعي وأحمد، فمن أجار تمسك بحديث: "انظروا فإن جاءت به" فجعل الشبه دالا على نفيه منه، ولا حجة فيه لأنه سبق اللعان في الصورة المذكورة كما سيأتي، ومن تمسك بحديث الذي أنكر شبه ولده به. قوله: "ومن طلق" أي بعد أن لاعن، في هذه الترجمة إشارة إلى الخلاف هل تقع الفرقة في اللعان بنفس اللعان أو بإيقاع الحاكم بعد الفراغ أو بإيقاع الزوج، فذهب مالك والشافعي ومن تبعهما إلى أن الفرقة نقع بنفس اللعان، قال مالك وغالب أصحابه: بعد فراغ المرأة. وقال الشافعي وأتباعه وسحنون من المالكية: بعد فراغ الزوج، واعتل بأن التعان المرأة إنما شرع لدفع الحد عنها بخلاف الرجل فإنه يزيد على ذلك في حقه نفي النسب ولحاق الولد وزوال الفراش، وتظهر فائدة الخلاف في التوارث لو مات أحدهما عقب فراع الرجل، وفيما إذا علق طلاقه امرأة بفراق أخرى ثم لاعن الأخرى. وقال الثوري وأبو حنيفة وأتباعهما لا تقع الفرقة حتى يوقعها عليهما الحاكم، واحتجوا بظاهر ما وقع في أحاديث اللعان كما سيأتي بيانه، وعن أحمد روايتان، وسيأتي مزيد بحث في ذلك بعد خمسة أبواب، وذهب عثمان البتي أنه لا تقع الفرقة حتى يوقعها الزوج، واعتل بأن الفرقة لم تذكر في القرآن، ولأن ظاهر الأحاديث أن الزوج هو الذي طلق ابتداء، ويقال إن عثمان تفرد بذلك لكن نقل الطبري عن أبي الشعثاء جابر بن زيد البصري أحد أصحاب ابن عباس، من فقهاء التابعين نحوه، ومقابله قول أبي عبيد: أن الفرقة بين الزوجين تقع بنفس القذف ولو لم يقع اللعان، وكأنه مفرع على وجوب اللعان على من تحقق ذلك من المرأة، فإذا أخل به عوقب بالفرقة تغليطا عليه. قوله: "عن ابن شهاب" في رواية الشافعي عن مالك "حدثني ابن شهاب". قوله: "إن عويمرا العجلاني" في رواية القعنبي عن مالك "عويمر بن أشقر" وكذا أخرجه أبو داود وأبو عوانة من طريق عياض بن عبد الله الفهري عن الزهري، ووقع في "الاستيعاب" عويمر بن أبيض، وعند الخطيب في "المبهمات" عويمر بن الحارث، وهذا هو المعتمد فإن الطبري نسبه في "تهذيب الآثار" فقال: هو عويمر بن الحارث بن زيد بن الجد بن عجلان، فلعل أباه كان يلقب أشقر أو أبيض، وفي الصحابة ابن أشقر آخر وهو مازني أخرج له ابن ماجه. واتفقت الروايات عن ابن شهاب على أنه في مسند سهل إلا ما أخرجه النسائي من طريق عبد العزيز بن أبي سلمة وإبراهيم بن سعد كلاهما عن الزهري فقال فيه: "عن سهل عن عاصم بن عدي قال: كان عويمر رجلا من بنى العجلان، فقال: "أي عاصم فذكر الحديث، والمحفوظ الأول، وسيأتي عن سهل أنه حضر القصة، فستأتي في الحدود من رواية سفيان بن عيينة عن الزهري قال: "قال سهل بن سعيد شهدت المتلاعن وأنا ابن خمس عشرة سنة" ووقع في نسخة أبي اليمان عن شعيب عن الزهري عن سهل بن سعد قال: "توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ابن خمس عشرة سنة" فهذا يدل على أن قصة اللعان كانت في السنة الأخيرة من زمان النبي صلى الله عليه وسلم، لكن جزم الطبري وأبو حاتم وابن حبان بأن اللعان كان في شعبان سنة تسع، وجزم به غير واحد من المتأخرين، ووقع في حديث عبد الله بن جعفر عند الدار قطني أن قصة اللعان كانت بمنصرف النبي صلى الله عليه وسلم من تبوك، وهو قريب من قول الطبري، ومن وافقه،

(9/447)


لكن في إسناده الواقدي فلا بد من تأويل أحد القولين، فإن أمكن وإلا فطريق شعيب أصح. ومما يوهن رواية الواقدي ما اتفق عليه أهل السير أن التوجه إلى تبوك كان في رجب، وما ثبت في الصحيحين أن هلال بن أمية أحد الثلاثة الذين تيب عليهم، وفي قصته أن امرأته استأذنت له النبي صلى الله عليه وسلم أن تخدمه فأذن لها بشرط أن لا يقربها فقالت: إنه لا حراك به، وفيه أن ذلك كان بعد أن مضى لهم أربعون يوما، فكيف تقع قصة اللعان في الشهر الذي انصرفوا فيه من تبوك ويقع لهلال مع كونه فيما ذكر من الشغل بنفسه وهجران الناس له وغير ذلك، وقد ثبت في حديث ابن عباس أن آية اللعان نزلت في حقه، وكذا عند مسلم من حديث أنس أنه أول من لاعن في الإسلام، ووقع في رواية عباد بن منصور في حديث ابن عباس عند أبي داود وأحمد "حتى جاء هلال بن أمية وهو أحد الثلاثة الذين تيب عليهم فوجد عند أهله رجلا" الحديث، فهذا يدل على أن قصة اللعان تأخرت عن قصة تبوك والذي يظهر أن القصة كانت متأخرة، ولعلها كانت في شعبان سنة عشر لا تسع، وكانت الوفاة النبوية في شهر ربيع الأول سنة إحدى عشرة باتفاق، فيلتئم حينئذ مع حديث سهل بن سعد، ووقع عند مسلم من حديث ابن مسعود "كنا ليلة جمعة في المسجد إذ جاء رجل من الأنصار" فذكر القصة في اللعان باختصار، فعين اليوم لكن لم يعين الشهر ولا السنة. قوله: "جاء إلى عاصم بن عدي" أي ابن الجد بن العجلان العجلاني، وهو ابن عم والد عويمر. وفي رواية الأوزاعي عن الزهري التي مضت في التفسير "وكان عاصم سيد بني عجلان" والجد بفتح الجيم وتشديد الدال والعجلان بفتح المهملة وسكون الجيم هو ابن حارثة بن ضبيعة من بني بلى بن عمرو بن الحاف بن قضاعة، وكان العجلان حالف بني عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس من الأنصار في الجاهلية وسكن المدينة فدخلوا في الأنصار. وقد ذكر ابن الكلبي أن امرأة عويمر هي بنت عاصم المذكور وأن اسمها خولة. وقال ابن منده في "كتاب الصحابة" خولة بنت عاصم التي. قذفها زوجها فلاعن النبي صلى الله عليه وسلم بينهما، لها ذكر ولا تعرف لها رواية، وتبعه أبو نعيم، ولم يذكرا سلفهما في ذلك وكأنه ابن الكلبي، وذكر مقاتل بن سليمان فيما حكاه القرطبي أنها خولة بنت قيس، وذكر ابن مردويه أنها بنت أخي عاصم، فأخرج من طريق الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى "أن عاصم بن عدي لما نزلت: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} قال: يا رسول الله أين لأحدنا أربعة شهداء؟ فابتلى به في بنت أخيه" وفي سنده مع إرساله ضعف. وأخرج ابن أبي حاتم في التفسير عن مقاتل بن حيان قال: "لما سأل عاصم عن ذلك ابتلى به في أهل بيته، فأتاه ابن عمه تحته ابنة عمه رماها بابن عمة المرأة والزوج والحليل ثلاثتهم بنو عم عاصم" وعن ابن مردويه في مرسل ابن أبي ليلى المذكور أن الرجل الذي رمي عويمر امرأته به هو شريك بن سحماء. وهو يشهد لصحة هذه الرواية لأنه ابن عم عويمر كما بينت نسبه في الباب الماضي، وكذا في مرسل مقاتل بن حيان عند أبي حاتم، فقال الزوج لعاصم: يا ابن عم أقسم بالله لقد رأيت شريك بن سحماء على بطنها وإنها لحبلى وما قربتها منذ أربعة أشهر، وفي حديث عبد الله بن جعفر عند الدار قطني "لاعن بين عويمر العجلاني وامرأته، فأنكر حملها الذي في بطنها وقال: هو لابن سحماء" ولا يمتنع أن يتهم شريك بن سحماء بالمرأتين معا. وأما قول ابن الصباغ في "الشامل" أن المزني ذكر في "المختصر" أن العجلاني قذف زوجته بشريك بن سحماء وهو سهو في النقل، وإنما القاذف بشريك هلال بن أمية، فكأنه لم يعرف مستند المزني في ذلك وإذا جاء الخبر من طرق متعددة فإن بعضها يعضد بعضا، والجمع ممكن فيتعين المصير إليه فهو أولى من التغليط. قوله: "أرأيت رجلا" أي أخبرني عن حكم. رجل. قوله: "وجد مع امرأته

(9/448)


رجلا" كذا اقتصر على قوله: "مع" فاستعمل الكناية، فإن مراده معية خاصة، ومراده أن يكون وجده عند الرؤية. قوله: "أيقتله فتقتلونه" أي قصاصا لتقدم علمه بحكم القصاص لعموم قوله تعالى :{النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} لكن في طرقه احتمال أن يخص من ذلك ما يقع بالسبب الذي لا يقدر على الصبر عليه غالبا من الغيرة التي في طبع البشر، ولأجل هذا قال: "أم كيف يفعل" ؟ وقد تقدم في أول "باب الغيرة" استشكال سعد بن عبادة مثل ذلك وقوله: "لو رأيته لضربته بالسيف غير مصفح" وتقدم في تفسير النور قول النبي صلى الله عليه وسلم لهلال ابن أمية لما سأله عن مثل ذلك "البينة، وإلا حد في ظهرك" وذلك كله قبل أن ينزل اللعان. وقد اختلف العلماء فيمن وجد مع امرأته رجلا فتحقق الأمر فقتله هل يقتل به؟ فمنع الجمهور الإقدام وقالوا: يقتص منه إلا أن يأتي ببينة الزنا أو على المقتول بالاعتراف أو يعترف به ورثته فلا يقتل القاتل به بشرط أن يكون المقتول محصنا، وقيل بل يقتل به لأنه ليس له أن يقيم الحد بغير إذن الإمام. وقال بعض السلف: بل لا يقتل أصلا ويعزر فيما فعله إذا ظهرت أمارات صدقه، وشرط أحمد وإسحاق ومن تبعهما أن يأتي بشاهدين أنه قتله بسبب ذلك، ووافقهم ابن القاسم وابن حبيب من المالكية، لكن زاد أن يكون المقتول قد أحصن، قال القرطبي: ظاهر تقرير عويمر على ما قال يؤيد قولهم، كذا قال والله أعلم. وقوله: "أم كيف يفعل" ؟ يحتمل أن تكون "أم" متصلة والتقدير: أم يصبر على ما به من المضض، ويحتمل أن تكون منقطعة بمعنى الإضراب أي بل هناك حكم آخر لا يعرفه ويريد أن يطلع عليه، فلذلك قال: سل لي يا عاصم. وإنما خص عاصما بذلك لما تقدم من أنه كان كبير قومه وصهره على ابنته أو ابنة أخيه، ولعله كان اطلع على مخايل ما سأل عنه لكن لم يتحققه فلذلك لم يفصح به، أو اطلع حقيقة لكن خشي إذا صرح به من العقوبة التي تضمنها من رمي المحصنة بغير بينة، أشار إلى ذلك ابن العربي قال: ويحتمل أن يكون لم يقع له شيء من ذلك لكن اتفق أنه وقع في نفسه إرادة الاطلاع على الحكم فابتلى به كما يقال البلاء موكل بالمنطق، ومن ثم قال: إن الذي سألتك عنه قد ابتليت به. وقد وقع في حديث ابن عمر عند مسلم في قصة العجلاني "فقال: أرأيت إن وجد رجل مع امرأته رجلا، فإن تكلم به تكلم بأمر عظيم، وإن سكت سكت على مثل ذلك". وفي حديث ابن مسعود عنده أيضا: "إن تكلم جلدتموه، أو قتل قتلتموه، وإن سكت سكت على غيظ" وهذه أتم الروايات في هذا المعنى. قوله: "فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها حتى كبر" بفتح الكاف وضم الموحدة أي عظم وزنا ومعنى، وسببه أن الحامل لعاصم على السؤال غيره فأختص هو بالإنكار عليه، ولهذا قال لعويمر لما رجع فاستفهمه عن الجواب: لم تأبني بخير. "تنبيهات": الأول تقدم في تفسير النور أن النووي نقل عن الواحدي أن عاصما أحد من لاعن، وتقدم إنكار ذلك. ثم وقفت على مستنده وهو مذكور في "معاني القرآن للفراء" لكنه غلط. الثاني وقع في السيرة لابن حبال في حوادث سنة تسع "ثم لاعن بين عويمر بن الحارث العجلاني وهو الذي يقال له عاصم وبين امرأته بعد العصر في المسجد" وقد أنكر بعض شيوخنا قوله: "وهو الذي يقال له عاصم" والذي يظهر لي أنه تحريف، وكأنه كان في الأصل "الذي سأل له عاصم" والله أعلم. وسبب كراهة ذلك ما قال الشافعي: كانت المسائل فيما لم ينزل فيه حكم زمن نزول الوحي ممنوعة لئلا ينزل الوحي بالتحريم فيما لم يكن قبل ذلك محرما فيحرم، ويشهد له الحديث المخرج في الصحيح "أعظم الناس جرما من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته" وقال النووي: المراد كراهة المسائل التي لا يحتاج إليها، لا سيما ما كان فيه هتك ستر مسلم أو إشاعة فاحشة أو شناعة عليه، وليس المراد المسائل المحتاج إليها إذا

(9/449)


وقعت، فقد كان المسلمون يسألون عن النوازل فيجيبهم صلى الله عليه وسلم بغير كراهة، فلما كان في سؤال عاصم شناعة ويترتب عليه تسليط اليهود والمنافقين على أعراض المسلمين كره مسألته، وربما كان في المسألة تضييق، وكان صلى الله عليه وسلم يحب التيسير على أمته وشواهد ذلك في الأحاديث كثيرة، وفي حديث جابر "ما نزلت آية اللعان إلا لكثرة السؤال" أخرجه الخطيب في "المبهمات" من طريق مجالد عن عامر عنه. قوله: "فقال عويمر: والله لا انتهي" في رواية الكشميهني: "ما انتهى" أي ما أرجع عن السؤال ولو نهيت عنه، زاد ابن أبي ذئب في روايته عن ابن شهاب في هذا الحديث كما سيأتي الاعتصام "فأنزل الله القرآن خلف عاصم" أي بعد أن رجع من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي رواية ابن جريج في الباب الذي بعد هذا "فأنزل الله في شأنه ما ذكر في القرآن من أمر الملاعنة "وفي رواية إبراهيم بن سعد "فأتاه فوجده قد أنزل الله عليه". قوله: "فأقبل عويمر حتى جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم" بالنصب "وسط الناس" بفتح السين وبسكونها. قوله: "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد أنزل الله فيك وفي صاحبتك" ظاهر هذا السياق أنه كان تقدم منه إشارة إلى خصوص ما وقع له مع امرأته، فيترجح أحد الاحتمالات التي أشار إليها ابن العربي، لكن ظهر لي من بقية الطرق أن في السياق اختصارا، ويوضح ذلك ما وقع في حديث ابن عمر في قصة العجلاني بعد قوله: "إن تكلم تكلم بأمر عظيم، وإن سكت سكت على مثل ذلك" فسكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم، فلما كان بعد ذلك أتاه فقال: إن الذي سألتك عنه قد ابتليت به، فدل على أنه لم يذكر امرأته إلا بعد أن انصرف ثم عاد. ووقع في حديث ابن مسعود "إن الرجل لما قال: وإن سكت سكت على غيظ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم افتح، وجعل يدعو، فنزلت آية اللعان" وهذا ظاهره أن الآية نزلت عقب السؤال، لكن يحتمل أن يتخلل بين الدعاء والنزول زمن بحيث يذهب عاصم ويعود عويمر، وهذا كله ظاهر جدا في أن القصة نزلت بسبب عويمر، ويعارضه ما تقدم في تفسير النور من حديث ابن عباس "أن هلال بن أمية قذف امرأته بشريك بن سحماء" فقال النبي صلى الله عليه وسلم: البينة أو حد في ظهرك. فقال هلال: والذي بعثك بالحق إنني لصادق، ولينزلن الله في ما يبرئ ظهري من الحد، فنزل جبريل فأنزل عليه: والذين يرمون أزواجهم" الحديث. وفي رواية عباد بن منصور عن عكرمة عن ابن عباس في هذا الحديث عند أبي داود "فقال هلال: وإني لأرجو أن يجعل الله لي فرجا. قال فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك إذ نزل عليه الوحي" وفي حديث أنس عند مسلم: "أن هلال بن أمية قذف امرأته بشريك بن سحماء وكان أخا البراء بن مالك لأمه، وكان أول رجل لاعن في الإسلام" فهذا يدل على أن الآية نزلت بسبب هلال، وقد قدمت اختلاف أهل العلم في الراجح من ذلك، وبينت كيفية الجمع بينهما في تفسير سورة النور بأن يكون هلال سأل أولا ثم سأل عويمر فنزلت في شأنهما معا، وظهر لي الآن احتمال أن يكون عاصم سأل قبل النزول ثم جاء هلال بعده فنزلت عند سؤاله، فجاء عويمر في المرة الثانية التي قال فيها "إن الذي سألتك عنه قد ابتليت به" فوجد الآية نزلت في شأن هلال، فأعلمه صلى الله عليه وسلم بأنها نزلت فيه، يعني أنها نزلت في كل من وقع له ذلك، لأن ذلك لا يختص بهلال. وكذا يجاب على سياق حديث ابن مسعود يحتمل أنه لما شرع يدعو بعد توجه العجلاني جاء هلال فذكر قصته فنزلت، فجاء عويمر فقال: قد نزل فيك وفي صاحبتك. قوله: "فاذهب فأت بها" يعني فذهب فأتي بها. واستدل به على أن اللعان يكون عند الحاكم وبأمره، فلو تراضيا بمن يلاعن بينهما فلاعن لم يصح، لأن في اللعان من التغليظ ما يقتضي أن يختص به الحكام. وفي حديث ابن عمر "فتلاهن عليه" أي الأياب التي في سورة النور ووعظه وذكره، وأخبره أن عذاب

(9/450)


الدنيا أهون من عذاب الآخرة، قال: لا والذي بعثك بالحق ما كذبت عليها. ثم دعاها فوعظها وذكرها وأخبرها أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة قالت: والذي بعثك بالحق إنه لكاذب. قوله: "قال سهل" هو موصول بالإسناد المبدأ به. قوله: "فتلاعنا" فيه حذف تقديره فذهب فأتى بها فسألها فأنكرت؛ فأمر باللعان فتلاعنا. قوله: "وأنا مع الناس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم" زاد ابن جريج كما في الباب الذي بعده "في المسجد" وزاد ابن إسحاق روايته عن ابن شهاب في هذا الحديث: "بعد العصر" أخرجه أحمد. وفي حديث عبد الله بن جعفر "بعد العصر عند المنبر" وسنده ضعيف، واستدل بمجموع ذلك على أن اللعان يكون بحضرة الحكام وبمجمع من الناس، وهو أحد أنواع التغليظ. ثانيها الزمان. ثالثها المكان. وهذا التغليظ مستحب وقيل واجب. "تنبيه" لم أر في شيء من طرق حديث سهل صفة تلاعنهما إلا ما في رواية الأوزاعي الماضية في التفسير فإنه قال: "فأمرهما بالملاعنة بما سمى في كتابه" وظاهره أنهما لم يزيدا على ما في الآية، وحديث ابن عمر عند مسلم صريح في ذلك فإن فيه: "فبدأ بالرجل فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ثم ثنى بالمرأة" الحديث. وحديث ابن مسعود نحوه لكن زاد فيه: "فذهبت لتلتعن فقال النبي صلى الله عليه وسلم: مه، فأبت، فالتعنت" وفي حديث أنس عند أبي يعلى وأصله في مسلم: "فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أتشهد بالله إنك لمن الصادقين فيما رميتها به من الزنا؟ فشهد بذلك أربعا ثم قال له في الخامسة: ولعنة الله عليك إن كنت من الكاذبين؟ ففعل، ثم دعاها فذكر نحوه، فلما كان في الخامسة سكتت سكتة حتى ظنوا أنها ستعترف، ثم قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم، فمضت على القول" . وفي حديث ابن عباس من طريق عاصم بن كليب عن أبيه عنه عند أبي داود والنسائي وابن أبي حاتم" فدعا الرجل، فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، فأمر به فأمسك على فيه، فوعظه فقال: كل شيء أهون عليك من لعنة الله. ثم أرسله فقال: لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين. وقال في المرأة نحو ذلك" وهذه الطريق لم يسم فيها الزوج ولا الزوجة، بخلاف حديث أنس فصرح فيه بأنها في قصة هلال بن أمية، فإن كانت القصة واحدة وقع الوهم في تسمية الملاعن كما جزم به غير واحد ممن ذكرته في التفسير. فهذه زيادة من ثقة فتعتمد، وإن كانت متعددة فقد ثبت بعضها في قصه امرأة هلال كما ذكرته في آخر "باب يبدأ الرجل بالتلاعن". قوله: "فلما فرغا من تلاعنهما قال عويمر: كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها" في رواية الأوزاعي "إن حبستها فقد ظلمتها". قوله: "فطلقها ثلاثا" في رواية ابن إسحاق "ظلمتها إن أمسكتها فهي الطلاق فهي الطلاق" وقد تفرد بهذه الزيادة ولم يتابع عليها، وكأنه رواه بالمعنى لاعتقاده منع جمع الطلقات الثلاث بكلمة واحدة، وقد تقدم البحث فيه من قبل في أوائل الطلاق، واستدل بقوله: "طلقها ثلاثا" أن الفرقة بين المتلاعنين تتوقف على تطليق الرجل كما تقدم نقله عن عثمان البتي، وأجيب بقوله في حديث ابن عمر "فرق النبي صلى الله عليه وسلم بين المتلاعنين" فإن حديث سهل وحديث ابن عمر في قصة واحدة، وظاهر حديث ابن عمر أن الفرقة وقعت بتفريق النبي صلى الله عليه وسلم، وقد وقع في "شرح مسلم للنووي" قوله: "كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها" هو كلام مستقل، وقوله: "فطلقها" أي ثم عقب قوله ذلك بطلاقها وذلك لأنه ظن أن اللعان لا يحرمها عليه، فأراد تحريمها بالطلاق فقال: "هي طالق ثلاثا. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم لا سبيل لك عليها" أي لا ملك لك عليها فلا يقع طلاقك انتهى. وهو يوهم أن قوله: "لا سبيل لك عليها" وقع منه صلى الله عليه وسلم

(9/451)


عقب قول الملاعن هي طالق ثلاثا وأنه موجود كذلك في حديث سهل بن سعد الذي شرحه، وليس كذلك فإن قوله لا سبيل لك عليها لم يقع في حديث سهل، وإنما وقع في حديث ابن عمر عقب قوله: "الله يعلم أن أحدكما كاذب، لا سبيل لك عليها" وفيه: "قال يا رسول الله مالي" الحديث كذا في الصحيحين، وظهر من ذلك أن قوله : "لا سبيل لك عليها" إنما استدل من استدل به من أصحابنا لوقوع الفرقة بنفس الطلاق من عموم لفظه لا من خصوص السياق والله أعلم. قوله: "قال ابن شهاب فكانت سنة المتلاعنين" زاد أبو داود عن القعنبي عن مالك "فكانت تلك وهي إشارة إلى الفرقة. وفي رواية ابن جريج في الباب بعده" فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فرغا من التلاعن، ففارقها عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ذلك تفريق بين كل متلاعنين "كذا للمستملي، وللباقين" فكان ذلك تفريقا، وللكشميهني: "فصار" بدل "فكان" وأخرجه مسلم من طريق ابن جريج بلفظ: "فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ذلك التفريق بين كل متلاعنين" وهو يؤيد رواية المستملي، ومن طريق يونس عن ابن شهاب قال بمثل حديث مالك، قال مسلم: لكن أدرج قوله: "وكان فراقه إياها بعد سنة بين المتلاعنين" وكذا ذكر الدار قطني في "غرائب مالك" اختلاف الرواة على ابن شهاب ثم على مالك في تعيين من قال: "فكان فراقها سنة" هل هو من قول سهل أو من قول ابن شهاب، وذكر ذلك الشافعي وأشار إلى أن نسبته إلى ابن شهاب لا تمنع نسبته إلى سهل، ويؤيده ما وقع عند أبي داود من طريق عياض بن عبد الله الفهري عن ابن شهاب عن سهل قال: "فطلقها ثلاث تطليقات عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنفذه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ما صنع عند رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة" قال سهل "حضرت هذا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمضت السنة بعد في المتلاعنين أن يفرق بينهما ثم لا يجتمعان أبدا" فقوله: "فمضت السنة" ظاهر في أنه من تمام قول سهل، ويحتمل أنه من قول ابن شهاب، ويؤيده أن ابن جريج كما في الباب الذي بعده أورد قول ابن شهاب في ذلك بعد ذكر حديث سهل فقال بعد قوله ذلك تفريق بين كل متلاعنين: قال ابن جريج قال ابن شهاب كانت السنة بعدها أن يفرق بين المتلاعنين، ثم وجدت في نسخة الصغاني آخر الحديث. قال أبو عبد الله: قوله: "ذلك تفريق بين المتلاعنين" من قول الزهري وليس من الحديث. انتهى، وهو خلاف ظاهر سياق ابن جريج فكأن المصنف رأى أنه مدرج فنبه عليه.

(9/452)


30- باب التَّلاَعُنِ فِي الْمَسْجِدِ
5309- حَدَّثَنَا يَحْيَى أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي ابْنُ شِهَابٍ عَنْ الْمُلاَعَنَةِ وَعَنْ السُّنَّةِ فِيهَا عَنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَخِي بَنِي سَاعِدَةَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ الأَنْصَارِ جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا أَيَقْتُلُهُ أَمْ كَيْفَ يَفْعَلُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي شَأْنِهِ مَا ذَكَرَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ أَمْرِ الْمُتَلاَعِنَيْنِ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "قَدْ قَضَى اللَّهُ فِيكَ وَفِي امْرَأَتِكَ قَالَ فَتَلاَعَنَا فِي الْمَسْجِدِ وَأَنَا شَاهِدٌ فَلَمَّا فَرَغَا قَالَ كَذَبْتُ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ أَمْسَكْتُهَا فَطَلَّقَهَا ثَلاَثًا قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ فَرَغَا مِنْ التَّلاَعُنِ فَفَارَقَهَا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ ذَاكَ تَفْرِيقٌ بَيْنَ كُلِّ مُتَلاَعِنَيْنِ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ فَكَانَتْ السُّنَّةُ بَعْدَهُمَا أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ الْمُتَلاَعِنَيْنِ وَكَانَتْ حَامِلًا وَكَانَ ابْنُهَا يُدْعَى لِأُمِّهِ قَالَ ثُمَّ جَرَتْ السُّنَّةُ فِي مِيرَاثِهَا أَنَّهَا تَرِثُهُ

(9/452)


وَيَرِثُ مِنْهَا مَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنْ جَاءَتْ بِهِ أَحْمَرَ قَصِيرًا كَأَنَّهُ وَحَرَةٌ فَلاَ أُرَاهَا إِلاَّ قَدْ صَدَقَتْ وَكَذَبَ عَلَيْهَا وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَسْوَدَ أَعْيَنَ ذَا أَلْيَتَيْنِ فَلاَ أُرَاهُ إِلاَّ قَدْ صَدَقَ عَلَيْهَا فَجَاءَتْ بِهِ عَلَى الْمَكْرُوهِ مِنْ ذَلِكَ
قوله: "باب التلاعن في المسجد" أشار بهذه الترجمة إلى خلاف الحنفية أن اللعان لا يتعين في المسجد وإنما يكون حيث كان الإمام أو حيث شاء. قوله: "حدثنا يحيى" هو ابن جعفر. قوله: "أخبرني ابن شهاب عن الملاعنة وعن السنة فيها عن حديث سهل بن سعد أخي بني ساعدة" وقع عند الطبري في أول الإسناد زيادة، فإنه أخرج من طريق حجاج بن محمد عن ابن جريج عن عكرمة في هذه الآية {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} نزلت في هلال بن أمية فذكره مختصرا، قال ابن جريج: وأخبرني ابن شهاب فذكره، فكأن ابن جريج أشار إلى بيان الاختلاف في الذي نزل ذلك فيه، وقد ذكرت ما في رواية ابن جريج من الفائدة في الباب الذي قبله. قوله: "قال وكانت حاملا وكان ابنها يدعي لأمه، قال: ثم جرت السنة في ميراثها أنها ترثه ويرث منها ما فرض الله لها" هذه الأقوال كلها أقوال ابن شهاب، وهو موصول إليه بالسند المبدأ به، وقد وصله سويد بن سعيد عن مالك عن ابن شهاب عن سهل بن سعد، قال الدار قطني في "غرائب مالك" : لا أعلم أحدا رواه عن مالك غيره. قلت: وقد تقدم في التفسير من طريق فليح بن سليمان عن الزهري عن سهل، فذكر قصة المتلاعنين مختصرة وفيه: "ففارقها، فكانت سنة أن يفرق بين المتلاعنين، وكانت حاملا - إلى قوله :{ما فرض الله لها" ، وظاهر أنه من قول سهل مع احتمال أن يكون من قول ابن شهاب كما تقدم، وهذا صريح في أن اللعان بينهما وقع وهي حامل، ويتأيد بما في رواية العباس بن سهل بن سعد عن أبيه عند أبي داود" فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لعاصم بن عدي: أمسك المرأة عندك حتى تلد"، وتقدم في أثناء الباب الذي قبله من مرسل مقاتل ابن حيان ومن حديث عبد الله بن جعفر أيضا التصريح بذلك. قوله: "قال ابن جريج عن ابن شهاب عن سهل ابن سعد الساعدي في هذا الحديث" هو موصول بالسند المبدأ به. قوله: "إن جاءت به أحمر" في رواية أبي داود من طريق إبراهيم بن سعد عن ابن شهاب "أحيمر" بالتصغير، وفي مرسل سعيد بن المسيب عند الشافعي "أشقر" قال ثعلب المراد بالأحمر الأبيض، لأن الحمرة إنما تبدو في البياض، قال: والعرب لا تطلق الأبيض لا اللون وإنما تقوله في نعت الطاهر والنقي والكريم ونحو ذلك. قوله: "قصيرا كأنه وحرة" بفتح الواو والمهملة: دويبة تترامى على الطعام واللحم فتفسده، وهي من نوع الوزغ. قوله: "فلا أراها إلا صدقت" في رواية عباس بن سهل عن أبيه عند أبي داود فهو لأبيه الذي انتفى منه. قوله: "وإن جاءت به أسود أعين ذا أليتين" أي عظيمتين، ويوضحه ما في رواية أبي داود المذكورة من طريق إبراهيم بن سعد "أدعج العينين عظيم الأليتين" ومثله في رواية الأوزاعي الماضية في التفسير وزاد: "خدلج الساقين" والدعج شدة سواد الحدقة والأعين الكبير العين. وفي رواية عباس بن سهل المذكورة "وإن ولدته قطط الشعر أسود اللسان فهو لابن سحماء" والقطط تفلفل الشعر. قوله: "فجاءت به على المكروه من ذلك" في رواية الأوزاعي "فجاءت به على النعت الذي نعت به رسول الله صلى الله عليه وسلم من تصديق عويمر" وفي رواية عباس المذكورة "قال عاصم: فلما وقع أخذته إلى فإذا رأسه مثل فروة الحمل الصغير، ثم أخذت بفقميه فإذا هو مثل النبعة، واستقبلني لسانه أسود مثل الثمرة فقلت: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم"، والحمل بفتح المهملة والميم ولد

(9/453)


الضأن، والنبعة واحدة النبع بفتح النون وسكون الموحدة بعدها مهملة، وهو شجر يتخذ منه القسي والسهام، ولون قشره أحمر إلى الصفرة.

(9/454)


31- باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ كُنْتُ رَاجِمًا بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ
5310- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ ذُكِرَ التَّلاَعُنُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ عَاصِمُ بْنُ عَدِيٍّ فِي ذَلِكَ قَوْلًا ثُمَّ انْصَرَفَ فَأَتَاهُ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ يَشْكُو إِلَيْهِ أَنَّهُ قَدْ وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا فَقَالَ عَاصِمٌ مَا ابْتُلِيتُ بِهَذَا الأَمْرِ إِلاَّ لِقَوْلِي فَذَهَبَ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ بِالَّذِي وَجَدَ عَلَيْهِ امْرَأَتَهُ وَكَانَ ذَلِكَ الرَّجُلُ مُصْفَرًّا قَلِيلَ اللَّحْمِ سَبْطَ الشَّعَرِ وَكَانَ الَّذِي ادَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ وَجَدَهُ عِنْدَ أَهْلِهِ خَدْلًا آدَمَ كَثِيرَ اللَّحْمِ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ بَيِّنْ فَجَاءَتْ شَبِيهًا بِالرَّجُلِ الَّذِي ذَكَرَ زَوْجُهَا أَنَّهُ وَجَدَهُ فَلاَعَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا قَالَ رَجُلٌ لِابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْمَجْلِسِ هِيَ الَّتِي قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لَوْ رَجَمْتُ أَحَدًا بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ رَجَمْتُ هَذِهِ فَقَالَ لاَ تِلْكَ امْرَأَةٌ كَانَتْ تُظْهِرُ فِي الإِسْلاَمِ السُّوءَ قَالَ أَبُو صَالِحٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ آدَمَ خَدِلًا"
[الحديث 5310- أطرافه في: 5316، 6855، 6856، 7238]
قوله: "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لو كنت راجما بغير بينة" أي من أنكر، وإلا فالمعترف أيضا يرجم. قوله: "عن يحيى بن سعد" هو الأنصاري. قوله: "عن عبد الرحمن بن القاسم" في رواية سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد "أخبرني عبد الرحمن بن القاسم" وسيأتي بعد ستة أبواب. قوله: "عن القاسم بن محمد" أي ابن أبي بكر الصديق وهو والد عبد الرحمن راويه عنه، ووقع في رواية النسائي: "عن أبيه". قوله: "عن ابن عباس أنه ذكر التلاعن" يعني أنه قال ذكر فحذف لفظ: "قال:" وصرح بذلك في رواية سليمان الآتية، وقوله: "ذكر" بضم أوله على البناء للمجهول، وقوله: "التلاعن" وقع في رواية سليمان "المتلاعنان" والمراد ذكر حكم الرجل يرمي امرأته بالزنا فعبر عنه بالتلاعن باعتبار ما آل إليه الأمر بعد نزول الآية. قوله: "فقال عاصم بن عدي في ذلك قولا ثم انصرف" قال الكرماني: معنى قوله: "قولا" أي كلاما لا يليق به كعجب النفس والنخوة والمبالغة في الغيرة وعدم المرد إلى إرادة الله وقدرته. قلت: وكل ذلك بمعزل عن الواقع، وإنما المراد بقول عاصم ما تقدم في حديث سهل بن سعد أنه سأل عن الحكم الذي أمره عويمر أن يسأل له عنه. وإنما جزمت بذلك لأنه تبين لي أن حديثي سهل بن سعد وابن عباس من رواية القاسم بن محمد عنه في قصة واحدة، بخلاف رواية عكرمة عن ابن عباس فإنها في قصة أخرى كما تقدم في تفسير النور عن ابن عبد البر أن القاسم روي قصة اللعان عن ابن عباس كما رواه سهل بن سعد وغيره في أن الملاعن، وبينت هناك توجيهه، وعلى هذا فالقول المبهم عن عاصم في رواية القاسم هذه هو قوله: "أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه" ؟ الحديث، ولا مانع أن يروى ابن عباس القصتين معا، ويؤيد التعدد اختلاف السياقين وخلو أحدهما عما وقع في الآخر وما وقع بين القصتين من المغايرة كما أبينه. قوله:

(9/454)


"فأتاه رجل من قومه" هو عويمر كما تقدم، ولا يمكن تفسيره بهلال بن أمية لأنه لا قرابة بينه وبين عاصم، لأنه هلال بن أمية بن عامر بن عبد قيس من بني واقف، وهو مالك بن امرئ القيس بن مالك بن الأوس، فلا يجتمع مع بني عمرو بن عوف الذي ينتهي عاصم إلى حلفهم إلا في مالك بن الأوس لأن عمرو بن عوف هو ابن مالك. قوله: "فقال عاصم ما ابتليت بهذا إلا لقولي" تقدم بيان المراد من ذلك، لأن عويمر بن عمرو كانت تحته بنت عاصم أو بنت أخيه فلذلك أضاف ذلك إلى نفسه بقوله: "ما ابتليت" وقوله: "إلا بقولي" أي بسؤالي عما لم يقع، كأنه قال فعوقبت بوقوع ذلك في آل بيتي، وزعم الداودي أن معناه أنه قال مثلا لو وجدت أحدا يفعل ذلك لقتلته، أو عير أحدا بذلك فابتلى به، وكلامه أيضا بمعزل عن الواقع، فقد وقع في مرسل مقاتل بن حيان عند ابن أبي حاتم "فقال عاصم: إنا لله وإنا إليه راجعون، هذا والله بسؤالي عن هذا الأمر بين الناس فابتليت به" والذي كان قال: "لو رأيته لضربته بالسيف" هو سعد بن عبادة كما تقدم في "باب الغيرة" وقد أورد الطبري من طريق أيوب عن عكرمة مرسلا، ووصله ابن مردويه بذكر ابن عباس قال: "لما نزلت: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} قال سعد بن عبادة: إن أنا رأيت لكاع يفجر بها رجل" فذكر القصة وفيه: "فوالله ما لبثوا إلا يسيرا حتى جاء هلال بن أمية فذكر قصته، وهو عند أبي داود في رواية عباد بن منصور عن عكرمة عن ابن عباس، فوضح أن قول عاصم كان في قصة عويمر وقول سعد بن عبادة كان في قصة هلال، فالكلامان مختلفان، وهو مما يؤيد تعدد القصة، ويؤيد التعدد أيضا أنه وقع في آخر حديث ابن عباس عند الحاكم" قال ابن عباس: فما كان بالمدينة أكثر غاشية منه" وعند أبي داود وغيره: "قال عكرمة: فكان بعد ذلك أميرا على مصر وما يدعى لأب" فهذا يدل على أن ولد الملاعنة عاش بعد النبي صلى الله عليه وسلم زمانا، وقوله: "على مصر" أي من الأمصار، وظن بعض شيوخنا أنه أراد مصر البلد المشهور فقال: فيه نظر، لأن أمراء مصر معروفون معدودون ليس فيهم هذا، ووقع في حديث عبد الله بن جعفر عند ابن سعد في "الطبقات" أن ولد الملاعنة عاش بعد ذلك سنتين ومات، فهذا أيضا مما يقوي التعدد والله أعلم. قوله: "وكان ذلك الرجل" أي الذي رمى امرأته. قوله: "مصفرا" بضم أوله وسكون الصاد المهملة وفتح الفاء وتشديد الراء، أي قوي الصفرة، وهذا لا يخالف قوله في حديث سهل أنه كان أحمر أو أشقر لأن ذاك لونه الأصلي والصفرة عارضة، وقوله قليل اللحم أي نحيف الجسم، وقوله سبط الشعر بفتح المهملة وكسر الموحدة هو ضد الجعودة. قوله: "وكان الذي ادعى عليه أنه وجده عند أهله آدم" بالمد أي لونه قريب من السواد. قوله: "خدلا" بفتح المعجمة ثم المهملة وتشديد اللام أي ممتلئ الساقين. وقال أبو الحسين بن فارس "ممتلئ الأعضاء". وقال الطبري: لا يكون إلا مع غلظ العظم مع اللحم. قوله: "كثير اللحم" أي في جميع جسده. يحتمل أن تكون صفة شارحة لقوله: "خدلا" بناء على أن الخدل الممتلئ البدن، وأما على قول من قال أنه المملئ الساق فيكون فيه تعميم بعد تخصيص، وزاد في رواية سليمان بن بلال الآتية "جعدا قططا" وقد تقدم تفسيره في شرح حديث سهل قريبا، وهذه الصفة موافقة للتي في حديث سهل بن سعد حيث فيه: "عظيم الأليتين خدلج الساقين إلخ". قوله: "فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم بين" يأتي الكلام عليه بعد أربعة أبواب. قوله: "فجاءت" في رواية سليمان بن بلال "فوضعت". قوله: "فلاعن النبي صلى الله عليه وسلم بينهما" هذا ظاهره أن الملاعنة بينهما تأخرت حتى وضعت فيحمل على أن قوله: "فلاعن" معقب بقوله فذهب به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بالذي وجد عليه امرأته، واعترض قوله: "وكان ذلك الرجل إلخ" والحامل على ذلك

(9/455)


ما قدمناه من الأدلة على أن رواية القاسم هذه موافقة لحديث سهل بن سعد. قوله: "لو كنت راجما بغير بينة" تمسك به من قال إن نكول المرأة عن اللعان لا يوجب عليها الحد، وهو قول الأوزاعي وأصحاب الرأي، واحتجوا بأن الحدود لا تثبت بالنكول، وبأن قوله صلى الله عليه وسلم لو كنت راجما لم يقع بسبب اللعان فقط. وقال أحمد: إذا امتنعت تحبس، وأهاب أن أقول ترجم، لأنها لو أقرت صريحا ثم رجعت لم ترجم فكيف ترجم إذا أبت الالتعان. قوله: "فقال رجل لابن عباس في المجلس" يأتي بيانه في "باب قول الإمام اللهم بين" قريبا. قوله: "قال أبو صالح وعبد الله بن يوسف: آدم خدلا" يعني بسكون الدال ويقال بفتحها مخففا في الوجهين وبالسكون ذكره أهل اللغة. وأبو صالح هذا هو عبد الله بن صالح كاتب الليث، وقد وقع في بعض النسخ عن أبي ذر "وقال لنا أبو صالح" ورواية عبد الله بن يوسف وصلها المؤلف في الحدود

(9/456)


32- باب صَدَاقِ الْمُلاَعَنَةِ
5311- حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ رَجُلٌ قَذَفَ امْرَأَتَهُ فَقَالَ فَرَّقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَخَوَيْ بَنِي الْعَجْلاَنِ وَقَالَ اللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ فَأَبَيَا وَقَالَ اللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ فَأَبَيَا فَقَالَ اللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ فَأَبَيَا فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا قَالَ أَيُّوبُ فَقَالَ لِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ إِنَّ فِي الْحَدِيثِ شَيْئًا لاَ أَرَاكَ تُحَدِّثُهُ قَالَ قَالَ الرَّجُلُ مَالِي قَالَ قِيلَ لاَ مَالَ لَكَ إِنْ كُنْتَ صَادِقًا فَقَدْ دَخَلْتَ بِهَا وَإِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَهُوَ أَبْعَدُ مِنْكَ"
[ الحديث 5311، أطرافه في: 5312، 5349، 5350]
قوله: "باب صداق الملاعنة" أي بيان الحكم فيه، وقد انعقد الإجماع على أن المدخول بها تستحق جميعه، واختلف في غير المدخول بها: فالجمهور على أن لها النصف كغيرها من المطلقات قبل الدخول، وقيل بل لها جميعه قاله أبو الزناد والحكم وحماد، وقيل لا شيء لها أصلا قاله الزهري وروى عن مالك. قوله: "أخبرنا إسماعيل" هو المعروف بابن علية. قوله: "قلت لابن عمر: رجل قذف امرأته" أي ما الحكم فيه؟ وقد أورده مسلم من وجه آخر عن سعيد ابن جبير فزاد في أوله" قال لم يفرق المصعب - يعني ابن الزبير - بين المتلاعنين، أي حيث كان أميرا على العراق، قال سعد فذكرت ذلك لابن عمر. ومن وجه آخر عن سعيد "سئلت عن المتلاعنين في امرأة مصعب ابن الزبير فما دريت ما أقول، فمضيت إلى منزل ابن عمر بمكة" الحديث وفيه: "فقلت يا أبا عبد الرحمن، المتلاعنان أيفرق بينهما؟ قال: سبحان الله، نعم، إن أول من سأل عن ذلك فلان ابن فلان، وعرف من قوله بمكة أن في الرواية التي قبلها حذفا تقديره فسافرت إلى مكة فذكرت ذلك لابن عمر، ووقع في رواية عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن سعيد بن جبير قال: "كنا بالكوفة نختلف في الملاعنة، يقول بعضنا يفرق بينهما ويقول بعضنا لا يفرق" ويؤخذ منه أن الخلاف في ذلك كان قديما، وقد استمر عثمان البتي من فقهاء البصرة على أن اللعان لا يقتضي الفرقة كما تقدم نقله عنه. وكأنه لم يبلغه حديث ابن عمر. قوله: "فرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أخوي بني العجلان" سيأتي البحث فيه بعد باب، وتقدمت تسميتهما في حديث سهل بن سعد، ووقع في رواية أبي أحمد الجرجاني

(9/456)


"بين أحد بني العجلان" بحاء ودال مهملتين وهو تصحيف. قوله: "وقال: الله يعلم أن أحدكما لكاذب" كذا للمستملي وسقطت اللام لغيره. قوله: "فهل منكما تائب؟ فأبيا" ظاهره أن ذلك كان قبل صدور اللعان بينهما، وسيأتي أيضا. قوله: "قال أيوب" هو موصول بالسند المبدأ به. قوله: "فقال لي عمرو بن دينار أن في الحديث شيئا لا أراك تحدثه، قال قال الرجل: مالي، قال قيل لا مال لك إلى آخره" حاصله أن عمرو بن دينار وأيوب سمعا الحديث جميعا من سعيد بن جبير فحفظ فيه عمرو ما لم يحفظه أيوب، وقد بين ذلك سفيان بن عيينة حيث رواه عنهما جميعا في الباب الذي بعد هذا، فوقع في روايته عن عمرو بسنده قال النبي صلى الله عليه وسلم: "للمتلاعنين: حسابكما على الله، أحدكما كاذب، لا سبيل لك عليها. قال: مالي قال لا مال لك" أما معنى قوله: "لا سبيل لك" أي لا تسليط، وأما قوله: "مالي" فإنه فاعل فعل محذوف، كأنه لما سمع لا سبيل لك عليها قال: أيذهب مالي؟ والمراد به الصداق. قال ابن العربي: قوله: "مالي" أي الصداق الذي دفعته إليها، فأجيب بأنك استوفيته بدخولك عليها، وتمكينها لك من نفسها. ثم أوضح له ذلك بتقسيم مستوعب فقال: إن كنت صادقا فيما ادعيته عليها فقد استوفيت حقك منها قبل ذلك، وإن كنت كذبت عليها فذلك أبعد لك من مطالبتها لئلا تجمع عليها الظلم في عرضها ومطالبتها بمال قبضته منك قبضا صحيحا تستحقه. وعرف من هذه الرواية اسم القائل "لا مال لك" حيث أبهم في حديث الباب بلفظ: "قيل لا مال لك" مع أن النسائي رواه عن زياد بن أيوب عن ابن علية بلفظ: "قال لا مال لك" وقوله: "فقد دخلت بها" فسره في رواية سفيان بلفظ: "فهو بما استحللت من فرجها" وقوله: "فهو أبعد منك" كذا عند النسائي أيضا، ووقع عند الإسماعيلي من رواية عثمان بن أبي شيبة عن ابن علية "فهو أبعد لك" وسيأتي قبل كتاب النفقات سواء من طريق عمرو بن دينار عن سعيد بن جبير بلفظ: "فذلك أبعد وأبعد لك منها" وكرر لفظ أبعد تأكيدا، قوله: "ذلك" الإشارة إلى الكذب، لأنه مع الصدق يبعد عليه استحقاق إعادة المال ففي الكذب أبعد، ويستفاد من قوله: "فهو بما استحللت من فرجها" أن الملاعنة لو أكذبت نفسها بعد اللعان وأقرت بالزنا وجب عليها الحد، لكن لا يسقط مهرها.

(9/457)


باب قول الإمام للمتلاعنين إن أحدكما كاذب فهل منكما من تائب
...
33- باب قَوْلِ الإِمَامِ لِلْمُتَلاَعِنَيْنِ إِنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ
5312- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ عَمْرٌو سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ قَالَ سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ عَنْ حَدِيثِ الْمُتَلاَعِنَيْنِ فَقَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لِلْمُتَلاَعِنَيْنِ حِسَابُكُمَا عَلَى اللَّهِ أَحَدُكُمَا كَاذِبٌ لاَ سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا قَالَ مَالِي قَالَ لاَ مَالَ لَكَ إِنْ كُنْتَ صَدَقْتَ عَلَيْهَا فَهُوَ بِمَا اسْتَحْلَلْتَ مِنْ فَرْجِهَا وَإِنْ كُنْتَ كَذَبْتَ عَلَيْهَا فَذَاكَ أَبْعَدُ لَكَ قَالَ سُفْيَانُ حَفِظْتُهُ مِنْ عَمْرٍو وَقَالَ أَيُّوبُ سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ قَالَ قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ رَجُلٌ لاَعَنَ امْرَأَتَهُ فَقَالَ بِإِصْبَعَيْهِ وَفَرَّقَ سُفْيَانُ بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى فَرَّقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَخَوَيْ بَنِي الْعَجْلاَنِ وَقَالَ اللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ قَالَ سُفْيَانُ حَفِظْتُهُ مِنْ عَمْرٍو وَأَيُّوبَ كَمَا أَخْبَرْتُكَ"
قوله: "باب قول الإمام للمتلاعنين إن أحدكما كاذب" فيه تغليب المذكر على المؤنث. وقال عياض وتبعه

(9/457)


النووي: في "قوله أحدكما" رد على من قال من النحاة إن لفظ أحد لا يستعمل إلا في النفي، وعلى من قال منهم لا يستعمل إلا في الوصف، وأنها لا توضع موضع واحد ولا توقع موقعه. وقد أجازه المبرد. وجاء في هذا الحديث في غير وصف ولا نفي وبمعنى واحد ا هـ. قال الفاكهي: هذا من أعجب ما وقع للقاضي مع براعته وحذقه، فإن الذي قاله النحاة إنما هو في "أحد" التي للعموم نحو ما في الدار من أحد وما جاءني من أحد، وأما أحد بمعنى واحد فلا خلاف في استعمالها في الإثبات نحو {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ونحو {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ} ونحو "أحدكما كاذب". قوله: "فهل منكما من تائب" ؟ يحتمل أن يكون إرشادا لا أنه لم يحصل منهما ولا من أحدهما اعتراف، ولأن الزوج لو أكذب نفسه كانت توبة منه. قوله: "سفيان قال عمرو" هو ابن دينار. وفي رواية الحميدي "عن سفيان أنبأنا عمرو" فذكره. وقد بينت ما فيه في الذي قبله. قوله: "قال سفيان حفظته من عمرو" هذا كلام علي بن عبد الله يريد بيان سماع سفيان له من عمرو. قوله: "قال أيوب" هو موصول بالسند المبدأ به وليس بتعليق، وحاصله أن الحديث كان عند سفيان عن عمرو بن دينار وعن أيوب جميعا عن ابن عمر، وقد وقع في رواية الحميدي عن سفيان "قال وحدثنا أيوب في مجلس عمرو بن دينار فحدثه عمرو بحديثه هذا فقال له أيوب: أنت أحسن حديثا مني" وقد بينت في الذي قبله سبب ذلك، وهو أن فيه عند عمرو ما ليس عند أيوب. قوله: "فقال بإصبعيه" هو من إطلاق القول على الفعل، وقوله: "وفرق سفيان بين السبابة والوسطى" جملة معترضة أراد بها بيان الكيفية، والذي يظهر أنه لا يجزم بذلك إلا عن توقيف، وقوله فرق النبي صلى الله عليه وسلم إلخ هو جواب السؤال. قوله: "وقال: الله يعلم أن أحدكما كاذب" قال عياض ظاهره أنه قال هذا الكلام بعد فراغهما من اللعان، فيؤخذ منه عرض التوبة على المذنب ولو بطريق الإجمال، وأنه يلزم من كذبه التوبة من ذلك. وقال الداودي: قال ذلك قبل اللعان تحذيرا لهما منه، والأول أظهر وأولى بسياق الكلام. قلت: والذي قاله الداودي أولى من جهة أخرى وهي مشروعية الموعظة قبل الوقوع في المعصية، بل هو أحرى مما بعد الوقوع، وأما سياق الكلام فمحتمل في رواية ابن عمر للأمرين، وأما حديث ابن عباس فسياقه ظاهر فيما قال الداودي، ففي رواية جرير بن حازم عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس عند الطبري والحاكم والبيهقي في قصة هلال بن أمية "قال فدعاهما حين نزلت آية الملاعنة فقال: الله يعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما تائب؟ فقال هلال: والله إني لصادق" الحديث، وقد قدمت أن حديث ابن عباس من رواية عكرمة في قصة غير القصة التي في حديث سهل بن سعد وابن عمر، فيصح الأمران معا باعتبار التعدد.

(9/458)


بلا ترجمة، وسقط ذلك للباقين، والأول أنسب، وفيه حديث ابن عمر من طريق عبيد الله بن عمر العمري عن نافع من وجهين، ولفظ الأول "فرق بين رجل وامرأة قذفها فأحلفهما" ولفظ الثاني "لاعن بين رجل وامرأة فأحلفهما" ويؤخذ منه أن إطلاق يحيى بن معين وغيره تخطئة الرواية بلفظ: "فرق بين المتلاعنين" إنما المراد به في حديث سهل بن سعد بخصوصه، فقد أخرجه أبو داود من طريق سفيان بن عيينة عن الزهري عنه بهذا اللفظ وقال بعده "لم يتابع ابن عيينة على ذلك أحد" ثم أخرج من طريق ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن سعيد بن جبير عن ابن عمر "فرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أخوي بني العجلان" قال ابن عبد البر: لعل ابن عيينة دخل عليه حديث في حديث. وذكر ابن أبي خيثمة أن يحيى بن معين سئل عن الحديث فقال: إنه غلط. قال ابن عبد البر: إن أراد من حديث سهل فسهل، وإلا فهو مردود. قلت: تقدم أيضا في حديث سهل من طريق ابن جريج "فكانت سنة في المتلاعنين لا يجتمعان أبدا" ولكن ظاهر سياقه أنه من كلام الزهري فيكون مرسلا، وقد بينت من وصله وأرسله في "باب اللعان ومن طلق"، وعلى تقدير ذلك فقد ثبت هذا اللفظ من هذا الوجه فتمسك به من قال إن الفرقة بين المتلاعنين لا تقع بنفس اللعان حتى يوقعها الحاكم، ورواية ابن جريج المذكورة تؤيد أن الفرقة تقع بنفس اللعان، وعلى تقدير إرسالها فقد جاء عن ابن عمر بلفظه عند الدار قطني، ويتأيد بذلك قول من حمل التفريق في حديث الباب على أنه بيان حكم لا إيقاع فرقة، واحتجوا أيضا بقوله في الرواية الأخرى "لا سبيل لك عليها" وتعقب بأن ذلك وقع جوابا لسؤال الرجل عن ماله الذي أخذته منه، وأجيب بأن العبرة بعموم اللفظ وهو نكرة في سياق النفي فيشمل المال والبدن، ويقتضي نفي تسليطه عليها بوجه من الوجوه. ووقع في آخر حديث ابن عباس عند أبي داود "وقضى أن ليس عليه نفقة ولا سكنى من أجل أنهما يفترقان بغير طلاق ولا متوفى عنها" وهو ظاهر في أن الفرقة وقعت بينهما بنفس اللعان، ويستفاد منه أن قوله في حديث سهل "فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بفراقها" أن الرجل إنما طلقها قبل أن يعلم أن الفرقة تقع بنفس اللعان فبادر إلى تطليقها لشدة نفرته منها، واستدل بقوله: "لا يجتمعان أبدا" على أن فرقة اللعان على التأبيد "وأن الملاعن لو أكذب نفسه لم يحل له أن يتزوجها بعد. وقال بعضهم: يجوز له أن يتزوجها، وإنما يقع باللعان طلقة واحدة بائنة، هذا قول حماد وأبي حنيفة ومحمد بن الحسن، وصح عن سعيد بن المسيب، قالوا: ويكون الملاعن إذا أكذب نفسه خاطبا من الخطاب، وعن الشعبي والضحاك: إذا أكذب نفسه ردت إليه امرأته. قال ابن عبد البر: هذا عندي قول ثالث. قلت: ويحتمل أن يكون معنى قوله: "ردت إليه" أي بعد العقد الجديد فيوافق الذي قبله، قال ابن السمعاني: لم أقف على دليل لتأبيد الفرقة من حيث النظر، وإنما المتبع في ذلك النص. وقال ابن عبد البر أبدى بعض أصحابنا له فائدة وهو أن لا يجتمع ملعون مع غير ملعون، لأن أحدهما ملعون في الجملة بخلاف ما إذا تزوجت المرأة غير الملاعن فإنه لا يتحقق، وتعقب بأنه لو كان كذلك لامتنع عليهما معا التزويج لأنه يتحقق أن أحدهما ملعون، ويمكن أن يجاب بأن في هذه الصورة افترقا في الجملة. قال السمعاني: وقد أورد بعض الحنفية أن قوله: "المتلاعنان" يقتضي أن فرقة التأبيد يشترط لها أن يقع التلاعن من الزوجين، والشافعية يكتفون في التأبيد بلعان الزوج فقط كما تقدم، وأجاب بأنه لما كان لعانه بسبب لعانها وصريح لفظ اللعن يوجد في جانبه دونها سمي الموجود منه ملاعنة، ولأن لعانه سبب في إثبات الزنا عليها فيستلزم انتفاء نسب الولدية فينتفي الفراش فإذا انتفى الفراش انقطع النكاح، فإن قيل إذا أكذب الملاعن نفسه يلزم ارتفاع الملاعنة حكما وإذا

(9/459)


ارتفعت صارت المرأة محل استمتاع، قلنا: اللعان عندكم شهادة، والشاهد إذا رجع بعد الحكم لم يرتفع الحكم، وأما عندنا فهو يمين واليمين إذا صارت حجة وتعلق بها الحكم لا ترتفع، فإذا أكذب نفسه فقد زعم أنه لم يوجد منه ما يسقط الحد عنه فيجب عليه الحد ولا يرتفع موجب اللعان.

(9/460)


35- باب يَلْحَقُ الْوَلَدُ بِالْمُلاَعِنَةِ
5315- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا مَالِكٌ قَالَ حَدَّثَنِي نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَعَنَ بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَتِهِ فَانْتَفَى مِنْ وَلَدِهَا فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا وَأَلْحَقَ الْوَلَدَ بِالْمَرْأَةِ"
قوله: "باب يلحق الولد بالملاعنة" أي إذا انتفى الزوج منه قبل الوضع أو بعده. قوله: "إن النبي صلى الله عليه وسلم لاعن بين رجل وامرأته فانتفى من ولدها" قال الطيبي: الفاء سببية أي الملاعنة سبب الانتفاء، فإن أراد أن الملاعنة سبب ثبوت الانتفاء فجيد، وإن أراد أن الملاعنة سبب وجود الانتفاء فليس كذلك، فإنه إن لم يتعرض لنفي الولد في الملاعنة لم ينتف، والحديث في الموطأ بلفظ: "وانتقى" بالواو لا بالفاء. وذكر ابن عبد البر أن بعض الرواة عن مالك ذكره بلفظ: "وانتقل" يعني بقاف بدل الفاء ولام آخره وكأنه تصحيف، وإن كان محفوظا فمعناه قريب من الأول، وقد تقدم الحديث في تفسير النور من وجه آخر عن نافع بلفظ: "إن رجلا رمى امرأته وانتفى من ولدها، فأمرهما النبي صلى الله عليه وسلم فتلاعنا" فوضح أن الانتفاء سبب الملاعنة لا العكس، واستدل بهذا الحديث على مشروعية اللعان لنفي الولد، وعن أحمد ينتفي الولد بمجرد اللعان ولو لم يتعرض الرجل لذكره في اللعان، وفيه نظر لأنه لو استلحقه لحقه، وإنما يؤثر لعان الرجل دفع حد القذف عنه وثبوت زنا المرأة ثم يرتفع عنها الحد بالتعانها. وقال الشافعي: إن نفي الولد في الملاعنة انتفى وإن لم يتعرض له فله أن يعيد اللعان لانتفائه ولا إعادة على المرأة، وإن أمكنه الرفع إلى الحاكم فأخر بغير عذر حتى ولدت لم يكن له أن ينفيه كما في الشفعة. واستدل به على أنه لا يشترط في نفي الحمل تصريح الرجل بأنها ولدت من زنا، ولا أنه استبرأها بحيضة، وعن المالكية يشترط ذلك، واحتج بعض من خالفهم بأنه نفى الحمل عنه من غير أن يتعرض لذلك بخلاف اللعان الناشئ عن قذفها، واحتج الشافعي بأن الحامل قد تحيض فلا معنى لاشتراط الاستبراء، قال ابن العربي: ليس عن هذا جواب مقنع. قوله: "ففرق بينهما وألحق الولد بالمرأة" قال الدار قطني: تفرد مالك بهذه الزيادة، قال ابن عبد البر: ذكروا أن مالكا تفرد بهذه اللفظة في حديث ابن عمر، وقد جاءت من أوجه أخرى في حديث سهل بن سعد كما تقدم من رواية يونس عن الزهري عند أبي داود بلفظ: "ثم خرجت حاملا فكان الولد إلى أمه" ومن رواية الأوزاعي عن الزهري "وكان الولد يدعى إلى أمه" ومعنى قوله ألحق الولد بأمه أي صيره لها وحدها ونفاه عن الزوج فلا توارث بينهما، وأما أمه فترث منه ما فرض الله لها كما وقع صريحا في حديث سهل بن سعد كما تقدم في شرح حديثه في آخره، وكان ابنها يدعى لأمه، ثم جرت السنة في ميراثها أنها ترثه ويرث منها ما فرض الله لها. وقيل معنى إلحاقه بأمه أنه صيرها له أبا وأما فترث جميع ماله إذا لم يكن له وارث آخر من ولد ونحوه، وهو قول ابن مسعود وواثلة وطائفة ورواية عن أحمد وروى أيضا عن ابن القاسم، وعنه معناه أن عصبة أمه تصير عصبة له وهو قول علي وابن عمر والمشهور عن أحمد، وقيل ترثه أمه وإخوته منها بالفرض والرد وهو قول أبي عبيد ومحمد بن الحسن ورواية عن أحمد،

(9/460)


قال: فإن لم يرثه ذو فرض بحال فعصبته عصبة أمه، واستدل به على أن الولد المنفي باللعان لو كان بنتا حل للملاعن نكاحها، وهو وجه شاذ لبعض الشافعية، والأصح كقول الجمهور أنها تحرم لأنها ربيبته في الجملة

(9/461)


36- باب قَوْلِ الإِمَامِ اللَّهُمَّ بَيِّنْ
5316- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ بِلاَلٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ ذُكِرَ الْمُتَلاَعِنَانِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ عَاصِمُ بْنُ عَدِيٍّ فِي ذَلِكَ قَوْلًا ثُمَّ انْصَرَفَ فَأَتَاهُ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ فَذَكَرَ لَهُ أَنَّهُ وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا فَقَالَ عَاصِمٌ مَا ابْتُلِيتُ بِهَذَا الأَمْرِ إِلاَّ لِقَوْلِي فَذَهَبَ بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ بِالَّذِي وَجَدَ عَلَيْهِ امْرَأَتَهُ وَكَانَ ذَلِكَ الرَّجُلُ مُصْفَرًّا قَلِيلَ اللَّحْمِ سَبْطَ الشَّعَرِ وَكَانَ الَّذِي وَجَدَ عِنْدَ أَهْلِهِ آدَمَ خَدْلًا كَثِيرَ اللَّحْمِ جَعْدًا قَطَطًا فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ بَيِّنْ فَوَضَعَتْ شَبِيهًا بِالرَّجُلِ الَّذِي ذَكَرَ زَوْجُهَا أَنَّهُ وَجَدَ عِنْدَهَا فَلاَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا فَقَالَ رَجُلٌ لِابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْمَجْلِسِ هِيَ الَّتِي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَوْ رَجَمْتُ أَحَدًا بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ لَرَجَمْتُ هَذِهِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لاَ تِلْكَ امْرَأَةٌ كَانَتْ تُظْهِرُ السُّوءَ فِي الإِسْلاَمِ"
قوله: "باب قول الإمام اللهم بين" قال ابن العربي: ليس معنى هذا الدعاء طلب ثبوت صدق أحدهما فقط بل معناه أن تلد ليظهر الشبه، ولا يمتنع دلالتها بموت الولد مثلا فلا يظهر البيان، والحكمة فيه ردع من شاهد ذلك عن التلبس بمثل ما وقع لما يترتب على ذلك من القبح ولو اندرأ الحد. قوله: "حدثنا إسماعيل" هو ابن أبي أويس ويحيى بن سعيد هو الأنصاري. قوله: "أخبرني عبد الرحمن بن القاسم" ثبتت هذه الرواية وكذا رواية الليث السابقة قبل أربعة أبواب أن رواية ابن جريج عن يحيى بن سعيد عن القاسم التي أخرجها الشافعي وغيره وقعت فيها تسوية، ويحيى وإن كان سمع من القاسم لكنه ما سمع هذا الحديث إلا من ولده عبد الرحمن عنه. قوله: "فوضعت شبيها بالرجل الذي ذكر زوجها أنه وجد عندها فلاعن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما" ظاهره أن الملاعنة تأخرت إلى وضع المرأة لكن قد أوضحت أن رواية ابن عباس هذه هي في القصة التي في حديث سهل بن سعد، وتقدم قبل من حديث سهل أن اللعان وقع بينهما قبل أن تضع، فعلى هذا تكون الفاء في قوله: "فلاعن" معقبة بقوله: "فأخبره بالذي وجد عليه امرأته" وأما قوله: "وكان ذلك الرجل مصفرا إلخ" فهو كلام اعترض بين الجملتين، ويحتمل - على بعد - أن تكون الملاعنة وقعت مرة بسبب القذف وأخرى بسبب الانتفاء والله أعلم. قوله: "فقال رجل لابن عباس" هذا السائل هو عبد الله بن شداد بن الهاد، وهو ابن خالة ابن عباس، سماه أبو الزناد عن القاسم بن محمد في هذا الحديث كما سيأتي في كتاب الحدود. قوله: "كانت تظهر في الإسلام السوء" أي كانت تعلن بالفاحشة، ولكن لم يثبت عليها ذلك ببينة ولا اعت راف. قال الداودي: فيه جواز عيب من يسلك مسالك السوء، وتعقب بأن ابن عباس لم يسمها. فإن أراد إظهار العيب على الإبهام فمحتمل، وقد مضى في التفسير في رواية عكرمة عن ابن عباس "إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن" أي لولا ما سبق من حكم الله، أي أن اللعان يدفع الحد عن

(9/461)


المرأة لأقمت عليها الحد من أجل الشبه الظاهر بالذي رميت به، ويستفاد منه أنه صلى الله عليه وسلم كان يحكم بالاجتهاد فيما لم ينزل عليه فيه وحي خاص فإذا أنزل الوحي بالحكم في تلك المسألة قطع النظر وعمل بما نزل وأجرى الأمر على الظاهر ولو قامت قرينة تقتضي خلاف الظاهر، وفي أحاديث اللعان من الفوائد غير ما تقدم أن المفتي إذا سئل عن واقعة ولم يعلم حكمها ورجا أن يجد فيها نصا لا يبادر إلى الاجتهاد فيها. وفيه الرحلة في المسألة النازلة، لأن سعيد بن جبير رحل من العراق إلى مكة من أجل مسألة الملاعنة. وفيه إتيان العالم في منزله ولو كان في قائلته إذا عرف الآتي أنه لا يشق عليه. وفيه تعظيم العالم ومخاطبته بكنيته. وفيه التسبيح عند التعجب، وإشعار بسعة علم سعيد بن جبير لأن ابن عمر عجب من خفاء مثل هذا الحكم عليه، ويحتمل أن يكون تعجبه لعلمه بأن الحكم المذكور كان مشهورا من قبل فتعجب كيف خفي على بعض الناس. وفيه بيان أوليات الأشياء والعناية بمعرفتها لقول ابن عمر "أول من سأل عن ذلك فلان" وقوله أنس "أول لعان كان" وفيه أن البلاء موكل بالمنطق، وأنه إن لم يقع بالناطق وقع بمن له به وصلة، وأن الحاكم يردع الخصم عن التمادي على الباطل بالموعظة والتذكير والتحذير ويكرر ذلك ليكون أبلغ. وفيه ارتكاب أخف المفسدتين بترك أثقلهما، لأن مفسدة الصبر على خلاف ما توجبه الغيرة مع قبحه وشدته أسهل من الإقدام على القتل الذي يؤدي إلى الاقتصاص من القاتل، وقد نهج له الشارع سبيلا إلى الراحة منها إما بالطلاق وإما باللعان. وفيه أن الاستفهام بأرأيت كان قديما، وأن خبر الواحد يعمل به إذا كان ثقة، وأنه يسن للحاكم وعظ المتلاعنين عند إرادة التلاعن، ويتأكد عند الخامسة، ونقل ابن دقيق العيد عن الفقهاء أنهم خصوه بالمرأة عند إرادة تلفظها بالغضب، واستشكله بما في حديث ابن عمر، لكن قد صرح جماعة من الشافعية وغيرهم باستحباب وعظهما معا. وفيه ذكر الدليل مع بيان الحكم. وفيه كراهة المسائل التي يترتب عليها هتك المسلم أو التوصل إلى أذيته بأي سبب كان، وفي كلام الشافعي إشارة إلى أن كراهة ذلك كانت خاصة بزمنه صلى الله عليه وسلم من أجل نزول الوحي لئلا تقع المسألة عن شيء مباح فيقع التحريم بسبب المسألة، وقد ثبت في الصحيح "أعظم المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته" وقد استمر جماعة من السلف على كراهة السؤال عما لم يقع، لكن عمل الأكثر على خلافه فلا يحصى ما فرعه الفقهاء من المسائل قبل وقوعها. وفيه أن الصحابة كانوا يسألون عن الحكم الذي لم ينزل فيه وحي. وفيه أن للعالم إذا كره السؤال أن يعيبه ويهجنه، وأن من لقي شيئا من المكروه بسبب غيره يعاتبه عليه، وأن المحتاج إلى معرفة الحكم لا يرده كراهة العالم لما سأل عنه ولا غضبه عليه ولا جفاؤه له بل يعاود ملاطفته إلى أن يقضي حاجته، وأن السؤال عما يلزم من أمور الدين مشروع سرا وجهرا، وأن لا عيب في ذلك على السائل ولو كان مما يستقبح. وفيه التحريض على التوبة، والعمل بالستر، وانحصار الحق في أحد الجانبين عند تعذر الواسطة لقوله: "إن أحدكما كاذب" وأن الخصمين المتكاذبين لا يعاقب واحد منهما وإن أحاط العلم بكذب أحدهما لا بعينه. وفيه أن اللعان إذا وقع سقط حد القذف عن الملاعن للمرأة وللذي رميت به، لأنه صرح في بعض طرقه بتسمية المقذوف، ومع ذلك لم ينقل أن القاذف حد، قال الداودي: لم يقل به مالك لأنه لم يبلغه الحديث ولو بلغه لقال به وأجاب بعض من قال يحد من المالكية والحنفية بأن المقذوف لم يطلب وهو حقه فلذلك لم ينقل أن القاذف حد لأن الحد سقط من أصله باللعان. وذكر عياض أن بعض أصحابهم اعتذر عن ذلك بأن شريكا كان يهوديا، وقد بينت ما فيه في "باب يبدأ الرجل بالتلاعن". وفيه أنه ليس على الإمام أن يعلم المقذوف بما

(9/462)


وقع من قاذفه. وفيه أن الحامل تلاعن قبل الوضع لقوله في الحديث: "انظروا فإن جاءت به إلخ" كما تقدم في حديث سهل وفي حديث ابن عباس. وعند مسلم من حديث ابن مسعود "فجاء يعني الرجل هو وامرأته فتلاعنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لعلها أن تجيء به أسود جعدا، فجاءت به أسود جعدا" وبه قال الجمهور خلافا لمن أبى ذلك من أهل الرأي معتلا بأن الحمل لا يعلم لأنه قد يكون نفخة، وحجة الجمهور أن اللعان شرع لدفع حد القذف عن الرجل ودفع حد الرجم عن المرأة، فلا فرق بين أن تكون حاملا أو حائلا، ولذلك يشرع اللعان مع الآيسة. وقد اختلف في الصغيرة: فالجمهور على أن الرجل إذا قذفها فله أن يلتعن لدفع حد القذف عنه دونها. واستدل به على أن لا كفارة في اليمين الغموس لأنها لو وجبت لبينت في هذه القصة، وتعقب بأنه لم يتعين الحانث، وأجيب بأنه لو كان واجبا لبينه مجملا بأن يقول مثلا فليكفر الحانث منكما عن يمينه كما أرشد أحدهما إلى التوبة. وفي قوله عليه السلام "البينة وإلا حد في ظهرك" دلالة على أن القاذف لو عجز عن البينة فطلب تحليف المقذوف لا يجاب، لأن الحصر المذكور لم يتغير منه إلا زيادة مشروعية اللعان. وفيه جواز ذكر الأوصاف المذمومة عند الضرورة الداعية إلى ذلك ولا يكون ذلك من الغيبة المحرمة، واستدل به على أن اللعان لا يشرع إلا لمن ليست له بينة، وفيه نظر لأنه لو استطاع إقامة البينة على زناها ساغ له أن يلاعنها لنفي الولد لأنه لا ينحصر في الزنا، وبه قال مالك والشافعي ومن تبعهما. وفيه أن الحكم يتعلق بالظاهر وأمر السرائر موكول إلى الله تعالى، قال ابن التين وبه احتج الشافعي على قبول توبة الزنديق، وفيه نظر لأن الحكم يتعلق بالظاهر فيما لا يتعلق فيه حكم للباطن، والزنديق قد علم باطنه بما تقدم فلا يقبل منه ظاهر ما يبديه بعد ذلك كذا قال، وحجة الشافعي ظاهرة لأنه صلى الله عليه وسلم قد تحقق أن أحدهما كاذب وكان قادرا على الاطلاع على عين الكاذب لكن أخبر أن الحكم بظاهر الشرع يقتضي أنه لا ينقب عن البواطن، وقد لاحت القرائن بتعيين الكاذب في المتلاعنين ومع ذلك فأجراهما على حكم الظاهر ولم يعاقب المرأة. ويستفاد منه أن الحاكم لا يكتفي بالمظنة والإشارة في الحدود إذا خالفت الحكم الظاهر كيمين المدعى عليه إذا أنكر ولا بينة، واستدل به الشافعي على إبطال الاستحسان لقوله: "لولا الأيمان لكان لي ولها شأن". وفيه أن الحاكم إذا بذل وسعه واستوفى الشرائط لا ينقض حكمه إلا إن ظهر عليه إخلال شرط أو تفريط في سبب. وفيه أن اللعان يشرع في كل امرأة دخل بها أو لم يدخل، ونقل فيه ابن المنذر الإجماع، وفي صداق غير المدخول بها خلاف للحنابلة تقدمت الإشارة إليه في بابه. فلو نكح فاسدا أو طلق بائنا فولدت فأراد نفي الولد فله الملاعنة. وقال أبو حنيفة: يلحقه الولد ولا نفي ولا لعان لأنها أجنبية. وكذا لو قذفها ثم أبانها بثلاث فله اللعان. وقال أبو حنيفة: لا، وقد أخرج ابن أبي شيبة عن هشيم عن مغيرة قال الشعبي إذا طلقها ثلاثا فوضعت فانتفى منه فله أن يلاعن، فقال له الحارث: إن الله يقول: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} أفتراها له زوجة؟ فقال الشعبي: إني لأستحي من الله إذا رأيت الحق أن لا أرجع إليه، فلو التعن ثلاث مرات فقط فالتعنت المرأة مثله ففرق الحاكم بينهما لم تقع الفرقة عند الجمهور لأن ظاهر القرآن أن الحد وجب عليهما وأنه لا يندفع إلا بما ذكر فيتعين الإتيان بجميعه. وقال أبو حنيفة: أخطأ السنة وتحصل الفرقة لأنه أتى بالأكثر فتعلق به الحكم، واستدل به على أن الالتعان ينتفي به الحمل خلافا لأبي حنيفة ورواية عن أحمد لقوله: "انظروا فإن جاءت به" إلخ، فإن الحديث ظاهر في أنها كانت حاملا وقد ألحق الولد مع ذلك بأمه. وفيه جواز الحلف على ما يغلب على الظن ويكون المستند

(9/463)


التمسك بالأصل أو قوة الرجاء من الله عند تحقق الصدق لقول من سأله هلال "والله ليجلدنك" ولقول هلال "والله لا يضربني وقد علم أني رأيت حتى استفتيت". وفيه أن اليمين التي يعتد بها في الحكم ما يقع بعد إذن الحاكم لأن هلالا قال: "والله إني لصادق" ثم لم يحتسب بها من كلمات اللعان الخمس. وتمسك به من قال بإلغاء حكم القافة، وتعقب بأن إلغاء حكم الشبه هنا إنما وقع حيث عارضه حكم الظاهر بالشرع، وإنما يعتبر حكم القافة حيث لا يوجد ظاهر يتمسك به، ويقع الاشتباه فيرجع حينئذ إلى القافة، والله أعلم

(9/464)


باب إذا طلقها ثلاثا ثم تزوجت بعد المدة زوجا غيره فلم يمسها
...
37- باب إِذَا طَلَّقَهَا ثَلاَثًا ثُمَّ تَزَوَّجَتْ بَعْدَ الْعِدَّةِ زَوْجًا غَيْرَهُ فَلَمْ يَمَسَّهَا
5317- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا هِشَامٌ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ح حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا عَبْدَةُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيَّ تَزَوَّجَ امْرَأَةً ثُمَّ طَلَّقَهَا فَتَزَوَّجَتْ آخَرَ فَأَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَتْ لَهُ أَنَّهُ لاَ يَأْتِيهَا وَأَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ إِلاَّ مِثْلُ هُدْبَةٍ فَقَالَ لاَ حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ"
قوله: "باب إذا طلقها ثلاثا ثم تزوجت بعد العدة زوجا غيره فلم يمسها" أي هل تحل للأول إن طلقها الثاني بغير مسيس؟ "تنبيه": لم يفرد كتاب العدة عن كتاب اللعان فيما وقفت عليه من النسخ. ووقع في شرح ابن بطال قبل الباب الذي يلي هذا وهو "باب واللائي يئسن من المحيض" : "كتاب العدة" ولبعضهم "أبواب العدة" والأولى إثبات ذلك هنا، فإن هذا الباب لا تعلق له باللعان لأن الملاعنة لا تعود للذي لاعن منها ولو تزوجت غيره سواء جامعها أم لم يجامع. قوله: "يحيى" هو ابن سعيد القطان، وهشام هو ابن عروة. وقوله: "حدثني عثمان بن أبي شيبة إلخ" ساقه على لفظ عبدة، وإنما احتاج إلى رواية يحيى لتصريح هشام في روايته بقوله: "حدثني أبي". قوله: "إن رفاعة القرظي" هو رفاعة القرظي بن سموأل بفتح المهملة والميم وسكون الواو بعدها همزة ثم لام، والقرظي بالقاف والظاء المعجمة وقد تقدم ضبط قريظة والنضير في أوائل المغازي. قوله: "تزوج امرأة" في رواية عمرو بن علي عند الإسماعيلي: "امرأة من بني قريظة" وسماها مالك من حديث عبد الرحمن بن الزبير نفسه كما أخرجه ابن وهب والطبراني والدار قطني في "الغرائب" موصولا وهو في الموطأ مرسل تميمة بنت وهب، وهي بمثناة واختلف هل هي بفتحها أو بالتصغير والثاني أرجح ووقع مجزوما به في النكاح لسعيد بن أبي عروبة من روايته عن قتادة، وقيل اسمها سهيمة بسين مهملة مصغر أخرجه أبو نعيم وكأنه تصحيف، وعند ابن منده أميمة بألف أخرجها من طريق أبي صالح عن ابن عباس وسمي أباها الحارث، وهي واحدة اختلف في التلفظ باسمها والراجح الأول. قوله: "ثم طلقها فتزوجت آخر" سماه مالك في روايته عبد الرحمن بن الزبير وأبوه بفتح الزاي، واتفقت الروايات كلها عن هشام بن عروة أن الزوج الأول رفاعة والثاني عبد الرحمن، وكذا قال عبد الوهاب بن عطاء عن سعيد بن أبي عروبة في كتاب النكاح له عن قتادة أن تميمة بنت أبي عبيد القرظية كانت تحت رفاعة فطلقها فخلف عليها عبد الرحمن بن الزبير، وتسميته لأبيها لا تنافي رواية مالك فلعل اسمه وهب وكنيته أبو عبيد إلا ما وقع عند ابن إسحاق في المغازي من رواية سلمة بن الفضل عنه وتفرد به عنه عن هشام عن أبيه قال كانت امرأة من قريظة

(9/464)


يقال لها تميمة تحت عبد الرحمن بن الزبير فطلقها. فتزوجها رفاعة ثم فارقها، فأرادت أن ترجع إلى عبد الرحمن بن الزبير، وهو مع إرساله مقلوب، والمحفوظ ما اتفق عليه الجماعة عن هشام، وقد وقع لامرأة أخرى قريب من قصتها فأخرج النسائي من طريق سليمان بن يسار عن عبيد الله بن العباس أي ابن عبد المطلب "أن الغميصاء أو الرميصاء أتت النبي صلى الله عليه وسلم تشكو من زوجها أنه لا يصل إليها، فلم يلبث أن جاء فقال: إنها كاذبة ولكنها تريد أن ترجع إلى زوجها الأول، فقال: ليس ذلك لها حتى تذوق عسيلته" ورجاله ثقات لكن اختلف فيه على سليمان بن يسار. ووقع عند شيخنا في شرح الترمذي "عبد الله بن عباس" مكبر وتعقب على ابن عساكر والمزي أنهما لم يذكرا هذا الحديث في "الأطراف" ولا تعقب عليهما فإنهما ذكراه في مسند عبيد الله بالتصغير وهو الصواب، وقد اختلف في سماعه من النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنه ولد في عصره فذكر لذلك في الصحابة، واسم زوج الغميصاء هذه عمرو بن حزم أخرجه الطبراني وأبو مسلم الكجي وأبو نعيم في الصحابة من طريق حماد بن سلمة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن عمرو بن حزم طلق الغميصاء فتزوجها رجل قبل أن يمسها فأرادت أن ترجع إلى زوجها الأول الحديث ولم أعرف اسم زوجها الثاني، ووقعت لثالثة قصة أخرى مع رفاعة رجل آخر غير الأول والزوج الثاني عبد الرحمن بن الزبير أيضا أخرجه مقاتل بن حيان في تفسيره ومن طريقه ابن شاهين في "الصحابة" ثم أبو موسى قوله تعالى: {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} قال: "نزلت في عائشة بنت عبد الرحمن بن عقيل النضرية كانت تحت رفاعة بن وهب بن عتيك وهو ابن عمها فطلقها طلاقا بائنا فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير ثم طلقها فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت إنه طلقني قبل أن يمسني أفأرجع إلى ابن عمي زوجي الأول؟ قال: لا" الحديث وهذا الحديث إن كان محفوظا فالواضح من سياقه أنها قصة أخرى وأن كلا من رفاعة القرظي ورفاعة النضري وقع له مع زوجة له طلاق فتزوج كلا منهما عبد الرحمن بن الزبير فطلقها قبل أن يمسها فالحكم في قصتهما متحد مع تغاير الأشخاص، وبهذا يتبين خطأ من وحد بينهما ظنا منه أن رفاعة بن سموأل هو رفاعة بن وهب فقال اختلف في امرأة رفاعة على خمسة أقوال، فذكر الاختلاف في النطق بتميمة وضم إليها عائشة والتحقيق ما تقدم. ووقعت لأبي ركانة قصة أخرى سأذكرها آخر هذا الباب. قوله: "فأتت النبي صلى الله عليه وسلم" في الكلام حذف تقديره يظهر من الروايات الأخرى، فعند المصنف من طريق أبي معاوية عن هشام "فتزوجت زوجا غيره فلم يصل منها إلى شيء يريده" وعند أبي عوانة من طريق الدراوردي عن هشام "فنكحها عبد الرحمن بن الزبير فاعترض عنها" وكذا في رواية مالك بن عبد الرحمن ابن الزبير نفسه وزاد: "فلم يستطع أن يمسها" وقوله فاعترض بضم المثناة وآخره ضاد معجمة أي حصل له عارض حال بينه وبين إتيانها إما من الجن وإما من المرض. قوله: "فذكرت له أنه لا يأتيها" وقع في رواية أبي معاوية عن هشام "فلم يقربني إلا هنة واحدة ولم يصل مني إلى شيء" والهنة بفتح الهاء وتخفيف النون المرة الواحدة الحقيرة. قوله: "وإنه ليس معه إلا مثل هدبة" بضم الهاء وسكون المهملة بعدها موحدة مفتوحة هو طرف الثوب الذي لم ينسج مأخوذ من هدب العين وهو شعر الجفن، وأرادت أن ذكره يشبه الهدبة في الاسترخاء وعدم الانتشار، واستدل به على أن وطء الزوج الثاني لا يكون محللا ارتجاع الزوج الأول للمرأة إلا إن كان حال وطئه منتشرا فلو كان ذكره أشل أو كان هو عنينا أو طفلا لم يكف على أصح قولي العلماء، وهو الأصح عند الشافعية أيضا. قوله: "فقال لا" هكذا وقع من هذا الوجه مختصرا، ووقع في رواية أبي معاوية عن هشام بن عروة كما

(9/465)


تقدم قريبا في "باب من قال لامرأته أنت علي حرام" : "ولم يكن معه إلا مثل الهدبة فلم يقربني إلا هنة واحدة ولم يصل مني إلى شيء أفأحل لزوجي الأول؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تحلين لزوجك الأول" الحديث. وفي رواية الزهري عن عروة كما تقدم أيضا في أوائل الطلاق "وإنما معه مثل الهدبة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لعلك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة، لا" الحديث. وسيأتي في اللباس من طريق أيوب عن عكرمة "أن رفاعة طلق امرأته فتزوجها عبد الرحمن بن الزبير، قالت عائشة: فجاءت وعليها خمار أخضر فشكت إليها - أي إلى عائشة - من زوجها وأرتها خضرة بجلدها، فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم والنساء يبصرن بعضهن بعضا قالت عائشة "ما رأيت ما يلقى المؤمنات، لجلدها أشد خضرة من ثوبها. وسمع زوجها فجاء ومعه ابنان له من غيرها، قالت: والله مالي إليه من ذنب إلا أن ما معه ليس بأغنى عني من هذه - وأخذت هدبة من ثوبها - فقال: كذبت والله يا رسول الله، إني لأنفضها نفض الأديم، ولكنها ناشزة تريد رفاعة. قال: فإن كان ذلك لم تحل له" الحديث. وكأن هذه المراجعة بينهما هي التي حملت خالد بن سعيد بن العاص على قوله الذي وقع في رواية الزهري عن عروة فإن في آخر الحديث كما سيأتي في كتاب اللباس من طريق شعيب عنه "قال فسمع خالد بن سعيد قولها وهو بالباب فقال: يا أبا بكر ألا تنهي هذه عما تجهر به عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فوالله ما يزيد رسول الله صلى الله عليه وسلم على التبسم". وفيه ما كان الصحابة عليه من سلوك الأدب بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم وإنكارهم على من خالف ذلك بفعله أو قوله لقول خالد بن سعيد لأبي بكر الصديق وهو جالس "ألا تنهي هذه" ؟ وإنما قال خالد ذلك لأنه كان خارج الحجرة، فاحتمل عنده أن يكون هناك ما يمنعه من مباشرة نهيها بنفسه، فأمر به أبا بكر لكونه كان جالسا عند النبي صلى الله عليه وسلم مشاهدا لصورة الحال، ولذلك لما رأى أبو بكر النبي صلى الله عليه وسلم يتبسم عند مقالتها لم يزجرها، وتبسمه صلى الله عليه وسلم كان تعجبا منها، إما لتصريحها بما يستحي النساء من التصريح به غالبا، وإما لضعف عقل النساء لكون الحامل لها على ذلك شدة بغضها في الزوج الثاني ومحبتها في الرجوع إلى الزوج الأول، ويستفاد منه جواز وقوع ذلك. "تنبيه": وقع في جميع الطرق من قول خالد بن سعيد لأبي بكر "ألا تنهي هذه عما تجهر به" ؟ أي ترفع به صوتها، وذكره الداودي بلفظ: "تهجر" بتقديم التاء على الجيم، والهجر بضم الهاء الفحش من القول، والمعنى هنا عليه، لكن الثابت في الروايات ما ذكرته، وذكر عياض أنه وقع كذلك في غير الصحيح. وتقدم البحث في الشهادات مع من استدل بكلام خالد هذا لجواز الشهادة على الصوت. قوله: "حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك" كذا في الموضعين بالتصغير، واختلف في توجيهه فقيل: هي تصغير العسل لأن العسل مؤنث، جزم به القزاز ثم قال وأحسب التذكير لغة. وقال الأزهري يذكر ويؤنث، وقيل لأن العرب إذا حفرت الشيء أدخلت فيه هاء التأنيث، ومن ذلك قولهم دريهمات فجمعوا الدرهم جمع المؤنث عند إرادة التحقير. وقالوا أيضا في تصغير هند هنيدة. وقيل التأنيث باعتبار الوطأة إشارة إلى أنها تكفي في المقصود من تحليلها للزوج الأول، وقيل المراد قطعة من العسل والتصغير للتقليل إشارة إلى أن القدر القليل كاف في تحصيل الحل، قال الأزهري: الصواب أن معنى العسيلة حلاوة الجماع الذي يحصل بتغييب الحشفة في الفرج، وأنث تشبيها بقطعة من عسل. وقال الداودي: صغرت لشدة شبهها بالعسل وقيل: معنى العسيلة النطفة، وهذا يوافق قول الحسن البصري. وقال جمهور العلماء: ذوق العسيلة كناية عن المجامعة وهو تغييب حشفة الرجل في فرج المرأة، وزاد الحسن البصري: حصول الإنزال. وهذا الشرط انفرد به

(9/466)


عن الجماعة قاله ابن المنذر وآخرون. وقال ابن بطال: شذ الحسن في هذا، وخالفه سائر الفقهاء وقالوا: يكفي من ذلك ما يوجب الحد ويحصن الشخص ويوجب كمال الصداق ويفسد الحج والصوم. قال أبو عبيد: العسيلة لذة الجماع والعرب تسمي كل شيء تستلذه عسلا، وهو في التشديد يقابل قول سعيد بن المسيب في الرخصة، ويرد قول الحسن أن الإنزال لو كان شرطا لكان كافيا، وليس كذلك لأن كلا منهما إذا كان بعيد العهد بالجماع مثلا أنزل قبل تمام الإيلاج، وإذا أنزل كل منهما قبل تمام الإيلاج لم يذق عسيلة صاحبه، لا إن فسرت العسيلة بالإمناء ولا بلذة الجماع قال ابن المنذر: أجمع العلماء على اشتراط الجماع لتحل للأول، إلا سعيد بن المسيب. ثم ساق بسنده الصحيح عنه قال: يقول الناس لا تحل للأول حتى يجامعها الثاني، وأنا أقول: إذا تزوجها تزويجا صحيحا لا يريد بذلك إحلالها للأول فلا بأس أن يتزوجها الأول. وهكذا أخرجه ابن أبي شيبة وسعيد بن منصور، وفيه تعقب على من استبعد صحته عن سعيد، قال ابن المنذر: وهذا القول لا نعلم أحدا وافقه عليه إلا طائفة من الخوارج، ولعله لم يبلغه الحديث فأخذ بظاهر القرآن. قلت: سياق كلامه يشعر بذلك. وفيه دلالة على ضعف الخبر الوارد في ذلك. وهو ما أخرجه النسائي من رواية شعبة عن علقمة بن مرثد عن سالم بن رزين عن سالم بن عبد الله عن سعيد بن المسيب "عن ابن عمر رفعه في الرجل تكون له المرأة فيطلقها ثم يتزوجها آخر فيطلقها قبل أن يدخل بها فترجع إلى الأول، فقال: لا، حتى تذوق العسيلة، وقد أخرجه النسائي أيضا من رواية سفيان الثوري عن علقمة بن مرثد فقال عن رزين بن سليمان الأحمري عن ابن عمر نحوه، قال النسائي: هذا أولى بالصواب، وإنما قال ذلك لأن الثوري أتقن وأحفظ من شعبة، وروايته أولى بالصواب من وجهين: أحدهما أن شيخ علقمة شيخهما هو رزين بن سليمان كما قال الثوري لا سالم بن رزين كما قال شعبة، فقد رواه جماعة عن علقمة كذلك، منهم غيلان بن جامع أحد الثقات. ثانيهما أن الحديث لو كان عند سعيد بن المسيب عن ابن عمر مرفوعا ما نسبه إلى مقالة الناس الذين خالفهم، ويؤخذ من كلام ابن المنذر أن نقل أبي جعفر النحاس في "معاني القرآن" وتبعه عبد الوهاب المالكي في "شرح الرسالة" القول بذلك عن سعيد بن جبير وهم، وأعجب منه أن أبا حبان جزم به عن السعيد بن سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير، ولا يعرف له سند عن سعيد بن جبير في شيء من المصنفات، وكفى قول ابن المنذر حجة في ذلك. وحكى ابن الجوزي عن داود أنه وافق سعيد بن المسيب على ذلك، قال القرطبي: ويستفاد من الحديث على قول الجمهور أن الحكم يتعلق بأقل ما ينطلق عليه الاسم، خلافا لمن قال لا بد من حصول جميعه. وفي قوله: "حتى تذوقي عسيلته إلخ" إشعار بإمكان ذلك، لكن قولها "ليس معه إلا مثل هذه الهدبة" ظاهر في تعذر الجماع المشترط، فأجاب الكرماني بأن مرادها بالهدبة التشبيه بها في الدقة والرقة لا في الرخاوة وعدم الحركة واستبعد ما قال، وسياق الخبر يعطي بأنها شكت منه عدم الانتشار، ولا يمنع من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "حتى تذوقي" لأنه علقه على الإمكان وهو جائز الوقوع، فكأنه قال صبري حتى يتأتى منه ذلك، وإن تفارقا فلا بد لها من إرادة الرجوع إلى رفاعة من زوج آخر يحصل لها م نه ذلك. واستدل بإطلاق وجود الذوق منهما لاشتراط على الزوجين به حتى لو وطئها نائمة أو مغمى عليها لم يكف ولو أنزل هو. وبالغ ابن المنذر فنقله عن جميع الفقهاء. وتعقب وقال القرطبي: فيه حجة لأحد القولين في أنه لو وطئها نائمة أو مغمى عليها لم تحل. وجزم ابن القاسم بأن وطء المجنون يحلل، وخالفه أشهب، واستدل به على جواز رجوعها لزوجها الأول إذا حصل الجماع من الثاني، لكن

(9/467)


شرط المالكية ونقل عن عثمان وزيد بن ثابت أن لا يكون في ذلك مخادعة من الزوج الثاني ولا إرادة تحليلها للأول. وقال الأكثر: إن شرط ذلك في العقد فسد وإلا فلا، واتفقوا على أنه إذا كان في نكاح فاسد لم يحلل، وشذ الحكم فقال يكفي، وأن من تزوج أمة ثم بت طلاقها ثم ملكها لم يحل له أن يطأها حتى تتزوج غيره. وقال ابن عباس وبعض أصحابه والحسن البصري: تحل له بملك اليمين، واختلفوا فيما إذا وطئها حائضا أو بعد أن طهرت قبل أن تطهر أو أحدهما صائم أو محرم. وقال ابن حزم: أخذ الحنفية بالشرط الذي في هذا الحديث عن عائشة، وهو زائد على ظاهر القرآن، ولم يأخذوا بحديثها في اشتراط خمس رضعات لأنه زائد على ما في القرآن، فيلزمهم الأخذ به أو ترك حديث الباب، وأجابوا بأن النكاح عندهم حقيقة في الوطء فالحديث موافق لظاهر القرآن، واستدل بقولها "بت طلاقي" على أن البتة ثلاث تطليقات، وهو عجب ممن استدل به فإن البت بمعنى القطع والمراد به قطع العصمة، وهو أعم من أن يكون بالثلاث مجموعة أو بوقوع الثالثة التي هي آخر ثلاث تطليقات، وسيأتي في اللباس صريحا أنه طلقها آخر ثلاث تطليقات فبطل الاحتجاج به. ونقل ابن العربي عن بعضهم أنه أورد على حديث الباب ما ملخصه أنه يلزم من القول به إما الزيادة بخير الواحد على ما في القرآن فيستلزم نسخ القرآن بالسنة التي لم تتواتر، أو حمل اللفظ الواحد على معنيين مختلفين مع ما فيه من الإلباس. والجواب عن الأول أن الشرط إذا كان من مقتضيات اللفظ لم تكن إضافته نسخا ولا زيادة، وعن الثاني أن النكاح في الآية أضيف إليها وهي لا تتولى العقد بمجردها فتعين أن المراد به في حقها الوطء، ومن شرطه اتفاقا أن يكون وطأ مباحا فيحتاج إلى سبق العقد. ويمكن أن يقال: لما كان اللفظ محتملا للمعنيين بينت السنة أنه لا بد من حصولهما، فاستدل به على أن المرأة لا حق لها في الجماع لأن هذه المرأة شكت أن زوجها لا يطؤها وأن ذكره لا ينتشر وأنه ليس معه ما يغني عنها ولم يفسخ النبي صلى الله عليه وسلم نكاحها بذلك، ومن ثم قال إبراهيم بن إسماعيل بن علية وداود بن علي: لا يفسخ بالعنة ولا يضرب للعنين أجل. وقال ابن المنذر: اختلفوا في المرأة تطالب الرجل بالجماع، فقال الأكثر إن وطئها بعد أن دخل بها مرة واحدة لم يؤجل أجل العنين، وهو قول الأوزاعي والثوري وأبي حنيفة ومالك والشافعي وإسحاق. وقال أبو ثور: إن ترك جماعها لعلة أجل له سنة، وإن كان لغير علة فلا تأجيل. وقال عياض، اتفق كافة العلماء على أن للمرأة حقا في الجماع، فيثبت الخيار لها إذا تزوجت المجبوب والممسوح جاهلة بهما، ويضرب للعنين أجل سنة لاحتمال زوال. ما به. وأما استدلال داود ومن يقول بقوله بقصة امرأة رفاعة فلا حجة فيها، لأن في بعض طرقه أن الزوج الثاني كان أيضا طلقها كما وقع عند مسلم صريحا من طريق القاسم عن عائشة قالت: "طلق رجل امرأته ثلاثا فتزوجها رجل آخر فطلقها قبل أن يدخل بها فأراد زوجها الأول أن يتزوجها، فسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: لا" الحديث، وأصله عند البخاري وقد تقدم في أوائل الطلاق. ووقع في حديث الزهري عن عروة كما سيأتي في اللباس في آخر الحديث بعد قوله: لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك "قال ففارقته بعد" زاد ابن جريج عن الزهري في هذا الحديث أنها "جاءت بعد ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت إنه - يعني زوجها الثاني - مسها فمنعها أن ترجع إلى زوجها الأول" وصرح مقاتل بن حيان في تفسيره مرسلا أنها "قالت: يا رسول الله إنه كان مسني، فقال كذبت بقولك الأول فلن أصدقك في الآخر، وأنها أتت أبا بكر ثم عمر فمنعاها" وكذا وقعت هذه الزيادة الأخيرة في رواية ابن جريج المذكورة أخرجها عبد الرزاق عنه، ووقع عند مالك في "الموطأ" عن المسور

(9/468)


بن رفاعة عن الزبير بن عبد الرحمن بن الزبير، زاد خارج الموطأ فيما رواه ابن وهب عنه وتابعه إبراهيم بن طهمان عن مالك عند الدار قطني في "الغرائب" عن أبيه "أن رفاعة طلق امرأته تميمة بنت وهب ثلاثا، فنكحها عبد الرحمن، فاعترض عنها فلم يستطع أن يمسها ففارقها، فأراد رفاعة أن يتزوجها" الحديث. ووقع عند أبي داود من طريق الأسود عن عائشة "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل طلق امرأته فتزوجت غيره فدخل بها وطلقها قبل أن يواقعها أتحل للأول؟ قال: لا" الحديث. وأخرج الطبري وابن أبي شيبة من حديث أبي هريرة نحوه، والطبري أيضا والبيهقي من حديث أنس كذلك، وكذا وقع في رواية حماد ابن سلمة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة "أن عمرو بن حزم طلق الغميصاء فنكحها رجل فطلقها قبل أن يمسها، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لا، حتى يذوق الآخر عسيلتها وتذوق عسيلته" وأخرجه الطبراني ورواته ثقات، فإن كان حماد بن سلمة حفظه فهو حديث آخر لعائشة في قصة أخرى غير قصة امرأة رفاعة، وله شاهد من حديث عبيد الله - بالتصغير - ابن عباس عند النسائي في ذكره الغميصاء، لكن سياقه يشبه قصة رفاعة كما تقدم في أول شرح هذا الحديث، وقد قدمت أنه وقع لكل من رفاعة بن سموأل ورفاعة بن وهب أنه طلق امرأته وأن كلا منهما تزوجها عبد الرحمن بن الزبير وأن كلا منهما شكت أنه ليس معه إلا مثل الهدبة، فلعل إحدى المرأتين شكته قبل أن يفارقها والأخرى بعد أن فارقها، ويحتمل أن تكون القصة واحدة ووقع الوهم من بعض الرواة في التسمية أو في النسبة وتكون المرأة شكت مرتين من قبل المفارقة ومن بعدها، والله أعلم. وأما ما أخرجه أبو داود من حديث ابن عباس قال: "طلق عبد يزيد أبو ركانة أم ركانة ونكح امرأة من مزينة، فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: ما يغني عني إلا كما تغني هذه الشعرة - لشعرة أخذتها من رأسها - ففرق بيني وبينه، قال فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لعبد يزيد: طلقها وراجع أم ركانة، ففعل" فليس فيه حجة لمسألة العنين، والله أعلم بالصواب.

(9/469)


38- باب {وَاللاَئِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنْ ارْتَبْتُمْ}
قَالَ مُجَاهِدٌ: إِنْ لَمْ تَعْلَمُوا يَحِضْنَ أَوْ لاَ يَحِضْنَ وَاللاَئِي قَعَدْنَ عَنْ الْمَحِيضِ وَاللاَئِي لَمْ يَحِضْنَ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ

(9/469)


باب (وألات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن)
...
39- بَاب {وَأُولاَتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}
5318- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ الأَعْرَجِ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ أَخْبَرَتْهُ عَنْ أُمِّهَا أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ أَسْلَمَ يُقَالُ لَهَا سُبَيْعَةُ كَانَتْ تَحْتَ زَوْجِهَا تُوُفِّيَ عَنْهَا وَهِيَ حُبْلَى فَخَطَبَهَا أَبُو السَّنَابِلِ بْنُ بَعْكَكٍ فَأَبَتْ أَنْ تَنْكِحَهُ فَقَالَ وَاللَّهِ مَا يَصْلُحُ أَنْ تَنْكِحِيهِ حَتَّى تَعْتَدِّي آخِرَ الأَجَلَيْنِ فَمَكُثَتْ قَرِيبًا مِنْ عَشْرِ لَيَالٍ ثُمَّ جَاءَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ انْكِحِي"
5319- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ عَنْ اللَّيْثِ عَنْ يَزِيدَ أَنَّ ابْنَ شِهَابٍ كَتَبَ إِلَيْهِ أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ أَخْبَرَهُ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى ابْنِ الأَرْقَمِ أَنْ يَسْأَلَ سُبَيْعَةَ الأَسْلَمِيَّةَ كَيْفَ أَفْتَاهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ

(9/469)


باب قوله تعالى :(والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء)
...
40- باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ}
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ فِيمَنْ تَزَوَّجَ فِي الْعِدَّةِ فَحَاضَتْ عِنْدَهُ ثَلاَثَ حِيَضٍ بَانَتْ مِنْ الأَوَّلِ وَلاَ تَحْتَسِبُ بِهِ لِمَنْ بَعْدَهُ وَقَالَ الزُّهْرِيُّ تَحْتَسِبُ وَهَذَا أَحَبُّ إِلَى سُفْيَانَ يَعْنِي قَوْلَ الزُّهْرِيِّ وَقَالَ مَعْمَرٌ يُقَالُ أَقْرَأَتْ الْمَرْأَةُ إِذَا دَنَا حَيْضُهَا وَأَقْرَأَتْ إِذَا دَنَا طُهْرُهَا وَيُقَالُ مَا قَرَأَتْ بِسَلًى قَطُّ إِذَا لَمْ تَجْمَعْ وَلَدًا فِي بَطْنِهَا.
قوله: "باب قول الله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ} سقط لفظ: "باب" لأبي ذر، والمراد بالمطلقات هنا ذوات الحيض كما دلت عليه آية سورة الطلاق المذكورة قبل، والمراد بالتربص الانتظار وهو خبر بمعنى الأمر، وقرأ الجمهور "قروء" بالهمز وعن نافع بتشديد الواو بغير همز. قوله: "وقال إبراهيم" هو النخعي "فيمن تزوج في العدة فحاضت عنده ثلاث حيض بانت من الأول ولا تحتسب به لمن بعده. وقال الزهري: تحتسب، وهذا أحب إلى سفيان" زاد في نسخة الصغاني "يعني قول الزهري" وصله ابن أبي شيبة عن عبد الرحمن بن مهدي "عن سفيان وهو الثوري عن مغيرة عن إبراهيم في رجل طلق فحاضت فتزوجها رجل فحاضت، قال: بانت من الأول، ولا تحتسب الذي بعده "وعن سفيان عن معمر عن الزهري "تحتسب" قال ابن عبد البر لا أعلم أحدا ممن قال الأقراء الأطهار يقول هذا غير الزهري قال: ويلزم على قوله أن المعتدة لا تحل حتى تدخل في الحيضة الرابعة، وقد اتفق علماء المدينة من الصحابة فمن بعدهم وكذا الشافعي ومالك وأحمد وأتباعهم على أنها إذا طعنت في الحيضة الثالثة طهرت بشرط أن يقع طلاقها في الطهر، وأما لو وقع في الحيض لم تعتد بتلك الحيضة. وذهب الجمهور إلى أن من اجتمعت عليها عدتان أنها تعتد عدتين، وعن الحنفية ورواية عن مالك يكفي لها عدة واحدة كقول الزهري والله أعلم. قوله: "وقال معمر: يقال أقرأت المرأة إلخ" معمر هو أبو عبيدة بن المثنى، وقد تقدم بيان ذلك عنه في أوائل تفسير سورة النور، وقوله: "بسلي" بكسر الموحدة وفتح المهملة والتنوين بغير همز، السلي هو غشاء الولد. وقال الأخفش: أقرأت المرأة إذا صارت ذات حيض، والقرء انقضاء الحيض ويقال هو الحيض نفسه، ويقال هو من الأضداد. ومراد أبي عبيدة أن القرء يكون بمعنى الطهر وبمعنى الحيض وبمعنى الضم والجمع وهو كذلك، وجزم به ابن بطال وقال: لما احتملت الآية واختلف العلماء في المراد بالأقراء فيها ترجح قول من قال إن الأقراء الأطهار بحديث ابن عمر حيث أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطلق في الطهر. وقال في حديثه "فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء" فدل على أن المراد بالأقراء الأطهار والله أعلم.

(9/476)


41- باب قِصَّةِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ وَقَوْلِ اللَّهِ: {وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لاَ تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلاَ تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاَتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ- إِلَى قَوْلِهِ- بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا}
5321، 5322- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ أَنَّهُ سَمِعَهُمَا يَذْكُرَانِ أَنَّ يَحْيَى بْنَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ طَلَّقَ بِنْتَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَكَمِ فَانْتَقَلَهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ فَأَرْسَلَتْ عَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِيِنَ إِلَى مَرْوَانَ بْنِ الحَكَمِ وَهُوَ أَمِيرُ الْمَدِينَةِ اتَّقِ اللَّهَ وَارْدُدْهَا إِلَى بَيْتِهَا قَالَ مَرْوَانُ فِي حَدِيثِ سُلَيْمَانَ إِنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْحَكَمِ غَلَبَنِي وَقَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَوَمَا بَلَغَكِ شَأْنُ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ قَالَتْ لاَ يَضُرُّكَ أَنْ لاَ تَذْكُرَ حَدِيثَ فَاطِمَةَ فَقَالَ مَرْوَانُ بْنُ الحَكَمِ إِنْ كَانَ بِكِ شَرٌّ فَحَسْبُكِ مَا بَيْنَ هَذَيْنِ مِنْ الشَّرِّ"
[الحديث 5321- أطرافه في: 5323، 5325، 3527]
[الحديث 5322- أطرافه في: 5324، 5326، 5328]
5323، 5324- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ مَا لِفَاطِمَةَ أَلاَ تَتَّقِي اللَّهَ يَعْنِي فِي قَوْلِهَا لاَ سُكْنَى وَلاَ نَفَقَةَ"
5325، 5326- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَبَّاسٍ حَدَّثَنَا ابْنُ مَهْدِيٍّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ لِعَائِشَةَ أَلَمْ تَرَيْ إِلَى فُلاَنَةَ بِنْتِ الْحَكَمِ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا الْبَتَّةَ فَخَرَجَتْ فَقَالَتْ بِئْسَ مَا صَنَعَتْ قَالَ أَلَمْ تَسْمَعِي فِي قَوْلِ فَاطِمَةَ قَالَتْ أَمَا إِنَّهُ لَيْسَ لَهَا خَيْرٌ فِي ذِكْرِ هَذَا الْحَدِيثِ وَزَادَ ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَابَتْ عَائِشَةُ أَشَدَّ الْعَيْبِ وَقَالَتْ إِنَّ فَاطِمَةَ كَانَتْ فِي مَكَانٍ وَحْشٍ فَخِيفَ عَلَى نَاحِيَتِهَا فَلِذَلِكَ أَرْخَصَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
قوله: "قصة فاطمة بنت قيس" كذا للأكثر، ولبعضهم "باب" وبه جزم ابن بطال والإسماعيلي؛ وفاطمة هي بنت قيس بن خالد من بني محارب بن فهر بن مالك، وهي أخت الضحاك بن قيس الذي ولى العراق ليزيد ابن معاوية وقتل بمرج راهط، وهو من صغار الصحابة، وهي أسن منه وكانت من المهاجرات الأول، وكان لها عقل وجمال وتزوجها أبو عمرو بن حفص - ويقال أبو حفص بن عمرو - بن المغيرة المخزومي وهو ابن عم خالد بن الوليد بن المغيرة فخرج مع علي لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فبعث إليها بتطليقة ثالثة بقيت لها، وأمر ابني عميه الحارث بن هشام وعياش بن أبي ربيعة أن يدفعا لها تمرا وشعيرا، فاستقلت ذلك وشكت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال لها: ليس لك

(9/477)


سكنى ولا نفقة، هكذا أخرج مسلم قصتها من طرق متعددة عنها، ولم أرها في البخاري وإنما ترجم لها كما ترى، وأورد أشياء من قصتها بطريق الإشارة إليها، ووهم صاحب "العمدة" فأورد حديثها بطوله في المتفق. واتفقت الروايات عن فاطمة على كثرتها عنها أنها بانت بالطلاق، ووقع في آخر صحيح مسلم في حديث الجساسة عن فاطمة بنت قيس "نكحت ابن المغيرة، وهو من خيار شباب قريش يومئذ، فأصيب في الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما تأيمت خطبني أبو جهم" الحديث. وهذه الرواية وهم، ولكن أولها بعضهم على أن المراد أصيب بجراحة أو أصيب في ماله أو نحو ذلك حكاه النووي وغيره، والذي يظهر أن المراد بقولها "أصيب" أي مات على ظاهره، وكان في بعث علي إلى اليمن، فيصدق أنه أصيب في الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أي في طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يلزم من ذلك أن تكون بينونتها منه بالموت بل بالطلاق السابق على الموت، فقد ذهب جمع جم إلى أنه مات مع علي باليمن وذلك بعد أن أرسل إليها بطلاقها، فإذا جمع بين الروايتين استقام هذا التأويل وارتفع الوهم، ولكن يبعد بذلك قول من قال إنه بقي إلى خلافة عمر. قوله: "وقول الله عز وجل :{وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} الآية" كذا للأكثر، وللنسفي بعد قوله بيوتهن "إلى قوله :{بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} ، وساق الآيات كلها إلى "يسرا" في رواية كريمة. قوله: "إسماعيل" هو ابن أبي أويس. قوله: "يحيى بن سعيد بن العاص" أي ابن سعيد بن العاص بن أمية وكان أبوه أمير المدينة لمعاوية؛ ويحيى هو أخو عمرو بن سعيد المعروف بالأشدق. قوله: "طلق بنت عبد الرحمن بن الحكم" هي بنت أخي مروان الذي كان أمير المدينة أيضا لمعاوية حينئذ وولي الخلافة بعد ذلك، واسمها عمرة فيما قيل، وسيأتي في الخبر الثالث أنه طلقها البتة. قوله: "قال مروان في حديث سليمان أن عبد الرحمن غلبني" وهو موصول بالإسناد المذكور إلى يحيى بن سعيد، وهو الذي فصل بين حديثي شيخيه فساق ما اتفقا عليه ثم بين لفظ سليمان وهو ابن يسار وحده ولفظ القاسم بن محمد وحده، وقول مروان أن عبد الرحمن غلبني أي لم يطعني في ردها إلى بيتها، وقيل مراده غلبني بالحجة لأنه احتج بالشر الذي كان بينهما. قوله: "قالت لا يضرك أن لا تذكر حديث فاطمة" أي لأنه لا حجة فيه لجواز انتقال المطلقة من منزلها بغير سبب. قوله: "فقال مروان بن الحكم إن كان بك شر" أي إن كان عندك أن سبب خروج فاطمة ما وقع بينها وبين أقارب زوجها من الشر فهذا السبب موجود ولذلك قال: "فحسبك ما بين هذين من الشر"، وهذا مصير من مروان إلى الرجوع عن رد خبر فاطمة فقد كان أنكر ذلك على فاطمة بنت قيس كما أخرجه النسائي من طريق شعيب عن الزهري "أخبرني عبيد الله بن عبد الله أن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان طلق بنت سعيد بن زيد البتة وأمها حزمة بنت قيس، فأمرتها خالتها فاطمة بنت قيس بالانتقال، فسمع بذلك مروان فأنكر، فذكرت أن خالتها أخبرتها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفتاها بذلك، فأرسل مروان قبيصة بن ذؤيب إلى فاطمة يسألها عن ذلك فذكرت" الحديث، وأخرجه مسلم من طريق معمر عن الزهري دون ما في أوله وزاد: "فقال مروان لم يسمع هذا الحديث إلا من امرأة فسنأخذ بالعصمة التي وجدنا عليها الناس" وسيأتي له طريق أخرى في الباب الذي بعده، فكأن مروان أنكر الخروج مطلقا ثم رجع إلى الجواز بشرط وجود عارض يقتضي جواز خروجها من منزل الطلاق كما سيأتي. قوله: "حدثنا محمد بن بشار" كذا في الروايات التي اتصلت لنا من طريق الفربري، وكذا أخرجه الإسماعيلي عن ابن عبد الكريم عن بندار وهو محمد بن بشار. وقال المزي في "الأطراف" أخرجه البخاري عن محمد غير منسوب وهو محمد بن بشار كذا

(9/478)


نسبه أبو مسعود. قلت ولم أره غير منسوب إلا في رواية النسفي عن البخاري، وكأنه وقع كذلك في "أطراف خلف" ومنها نقل المزي، ولم أنبه على هذا الموضع في المقدمة اعتمادا على ما اتصل لنا من الروايات إلى الفربري. قوله: "عن عائشة أنها قالت: ما لفاطمة، ألا تتقي الله؟ يعني في قولها: لا سكنى ولا نفقة" وقع في رواية مسلم من هذا الوجه "ما لفاطمة خير أن تذكر هذا" كأنها تشير إلى أن سبب الإذن في انتقال فاطمة ما تقدم في الخبر الذي قبله، ويؤيده ما أخرج النسائي من طريق ميمون بن مهران قال: "قدمت المدينة فقلت لسعيد ابن المسيب: إن فاطمة بنت قيس طلقت فخرجت من بيتها، فقال: إنها كانت لسنة" ولأبي داود من طريق سليمان بن يسار "إنما كان ذلك من سوء الخلق". قوله: "سفيان" هو الثوري. قوله: "قال عروة" أي ابن الزبير "لعائشة: ألم ترى إلى فلانة بنت الحكم" نسبها إلى جدها، وهي بنت عبد الرحمن بن الحكم كما في الطريق الأولى. قوله: "فقالت بئس ما صنعت" في رواية الكشميهني: "ما صنع" أي زوجها في تمكينها من ذلك، أو أبوها في موافقتها، ولهذا أرسلت عائشة إلى مروان عمها وهو الأمير أن يردها إلى منزل الطلاق. قوله: "ألم تسمعي قول فاطمة" يحتمل أن يكون فاعل "قال: "هو عروة. قوله: "قالت: أما إنه ليس لها خير في ذكر هذا الحديث" في رواية مسلم من طريق هشام بن عروة عن أبيه "تزوج يحيى بن سعيد بن العاص بنت عبد الرحمن بن الحكم فطلقها وأخرجها، فأتيت عائشة فأخبرتها فقالت: ما لفاطمة خير في أن تذكر هذا الحديث:" كأنها تشير إلى ما تقدم وأن الشخص لا ينبغي له أن يذكر شيئا عليه فيه غضاضة. قوله: "وزاد ابن أبي الزناد عن هشام عن أبيه: عابت عائشة أشد العيب وقالت: إن فاطمة كانت في مكان وحش، فخيف على ناحيتها فلذلك أرخص لها النبي صلى الله عليه وسلم" وصله أبو داود من طريق ابن وهب عن عبد الرحمن بن أبي الزناد بلفظ: "لقد عابت" وزاد: "يعني فاطمة بنت قيس" وقوله: "وحش" بفتح الواو وسكون المهملة بعدها معجمة أي خال لا أنيس به، ولرواية ابن أبي الزناد هذه شاهد من رواية أبي أسامة عن هشام بن عروة لكن قال: "عن أبيه عن فاطمة بنت قيس قالت: قلت يا رسول الله إن زوجي طلقني ثلاثا فأخاف أن يقتحم علي، فأمرها فتحولت" وقد أخذ البخاري الترجمة من مجموع ما ورد في قصة فاطمة فرتب الجواز على أحد الأمرين: إما خشية الاقتحام عليها وإما أن يقع منها على أهل مطلقها فحش من القول، ولم ير بين الأمرين في قصة فاطمة معارضة لاحتمال وقوعهما معا في شأنها. وقال ابن المنير: ذكر البخاري في الترجمة علتين وذكر في الباب واحدة فقط، وكأنه أومأ إلى الأخرى إما لورودها على غير شرطه وإما لأن الخوف عليها إذا اقتضى خروجها، فمثله الخوف منها، بل لعله أولى في جواز إخراجها، فلما صح عنده معنى العلة الأخرى ضمنها الترجمة. وتعقب بأن الاقتصار في بعض طرق الحديث على بعضه لا يمنع قبول بعض آخر إذا صح طريقه، فلا مانع أن يكون أصل شكواها ما تقدم من استقلال النفقة، وأنه اتفق أنه بدا منها بسبب ذلك شر لأصهارها واطلع النبي صلى الله عليه وسلم عليه من قبلهم وخشي عليها إن استمرت هناك أن يتركوها بغير أنيس فأمرت بالانتقال. قلت: ولعل البخاري أشار بالثاني إلى ما ذكره في الباب قبله من قول مروان لعائشة "إن كان بك شر" فإنه يومئ إلى أن السبب في ترك أمرها بملازمة السكن ما وقع بينها وبين أقارب زوجها من الشر. وقال ابن دقيق العيد: سياق الحديث يقتضي أن سبب الحكم أنها اختلفت مع الوكيل بسبب استقلالها ما أعطاها، وأنها لما قال لها الوكيل لا نفقة لك سألت النبي صلى الله عليه وسلم فأجابها بأنها لا نفقة لها ولا سكنى، فاقتضى أن التعليل إنما هو

(9/479)


بسبب ما جرى من الاختلاف لا بسبب الاقتحام والبذاءة، فإن قام دليل أقوى من هذا الظاهر عمل به. قلت: المتفق عليه في جميع طرقه أن الاختلاف كان في النفقة، ثم اختلفت الروايات: ففي بعضها "فقال لا نفقة لك ولا سكنى" وفي بعضها أنه لما قال لها "لا نفقة لك" استأذنته في الانتقال فأذن لها، وكلها في صحيح مسلم، فإذا جمعت ألفاظ الحديث من جميع طرقه خرج منها أن سبب استئذانها في الانتقال ما ذكر من الخوف عليها ومنها، واستقام الاستدلال حينئذ على أن السكنى لم تسقط لذاتها وإنما سقطت للسبب المذكور. نعم كانت فاطمة بنت قيس تجزم بإسقاط سكنى البائن ونفقتها وتستدل لذلك كما سيأتي ذكره، ولهذا كانت عائشة تنكر عليها. "تنبيه": طعن أبو محمد بن حزم في رواية ابن أبي الزناد المعلقة فقال: عبد الرحمن بن أبي الزناد ضعيف جدا، وحكم على روايته هذه بالبطلان، وتعقب بأنه مختلف فيه، ومن طعن فيه لم يذكر ما يدل على تركه فضلا عن بطلان روايته، وقد جزم يحيى بن معين بأنه أثبت الناس في هشام بن عروة، وهذا من روايته عن هشام، فلله در البخاري ما أكثر استحضاره وأحسن تصرفه في الحديث والفقه. وقد اختلف السلف في نفقة المطلقة البائن وسكناها: فقال الجمهور لا نفقه لها. ولها السكنى، واحتجوا لإثبات السكنى بقوله تعالى :{أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} ولإسقاط النفقة بمفهوم قوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} فإن مفهومه أن غير الحامل لا نفقة لها وإلا لم يكن لتخصيصها بالذكر معنى، والسياق يفهم أنها في غير الرجعية، لأن نفقة الرجعية واجبة لو لم تكن حاملا. وذهب أحمد وإسحاق وأبو ثور إلى أنه لا نفقه لها ولا سكنى على ظاهر حديث فاطمة بنت قيس، ونازعوا في تناول الآية الأولى المطلقة البائن، وقد احتجت فاطمة بنت قيس صاحبة القصة على مروان حين بلغها إنكاره بقولها: بيني وبينكم كتاب الله، قال الله تعالى :{لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} إلى قوله : {يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} قالت هذا لمن كانت له مراجعة، فأي أمر يحدث بعد الثلاث؟ وإذا لم يكن لها نفقة وليست حاملا فعلام يحبسونها؟ وقد وافق فاطمة على أن المراد بقوله تعالى: {يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} المراجعة قتادة والحسن والسدي والضحاك أخرجه الطبري عنهم ولم يحك عن أحد غيرهم خلافه، وحكى غيره أن المراد بالأمر ما يأتي من قبل الله تعالى من نسخ أو تخصيص أو نحو ذلك فلم ينحصر ذلك في المراجعة، وأما ما أخرجه أحمد من طريق الشعبي عن فاطمة في آخر حديثها مرفوعا: "إنما السكنى والنفقة لمن يملك الرجعة" فهو من أكثر الروايات موقوف عليها، وقد بين الخطيب في "المدرج" أن مجالد بن سعيد تفرد برفعه وهو ضعيف، ومن أدخله في رواية غير رواية مجالد عن الشعبي فقد أدرجه، وهو كما قال، وقد تابع بعض الرواة عن الشعبي في رفعه مجالدا لكنه أضعف منه. وأما قولها "إذا لم يكن لها نفقة فعلام يحبسونها" ؟ فأجاب بعض العلماء عنه بأن السكنى التي تتبعها النفقة هو حال الزوجية الذي يمكن معه الاستمتاع ولو كانت رجعية، وأما السكنى بعد البينونة فهو حق لله تعالى بدليل أن الزوجين لو اتفقا على إسقاط العدة لم تسقط بخلاف الرجعية فدل على أن لا ملازمة بين السكنى والنفقة. وقد قال بمثل قول فاطمة أحمد وإسحاق وأبو ثور وداود وأتباعهم. وذهب أهل الكوفة من الحنفية وغيرهم إلى أن لها النفقة والكسوة، وأجابوا عن الآية بأنه تعالى إنما قيد النفقة بحالة الحمل ليدل على إيجابها في غير حالة الحمل بطريق الأولى، لأن مدة الحمل تطول غالبا. ورده ابن السمعاني بمنع العلة في طول مدة الحمل، بل تكون مدة الحمل أقصر من غيرها تارة وأطول أخرى فلا أولوية؛ وبأن قياس الحائل على الحامل فاسد، لأنه يتضمن إسقاط تقييد ورد به النص في

(9/480)


القرآن والسنة. وأما قول بعضهم إن حديث فاطمة أنكره السلف عليها كما تقدم من كلام عائشة، وكما أخرج مسلم من طريق، أبي إسحاق "كنت مع الأسود بن يزيد في المسجد فحدث الشعبي بحديث فاطمة بنت قيس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجعل لها سكنى ولا نفقة، فأخذ الأسود كفا من حصى فحصبه به وقال: ويلك تحدث بهذا؟ قال عمر: لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري لعلها حفظت أو نسيت، قال الله تعالى :{لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} فالجواب عنه أن الدار قطني قال: قوله في حديث عمر "وسنة نبينا" غير محفوظ والمحفوظ "لا ندع كتاب ربنا" وكأن الحامل له على ذلك أن أكثر الروايات ليست فيها هذه الزيادة، لكن ذلك لا يرد رواية النفقة، ولعل عمر أراد بسنة النبي صلى الله عليه وسلم ما دلت عليه أحكامه من اتباع كتاب الله، لا أنه أراد سنة مخصوصة في هذا، ولقد كان الحق ينطق على لسان عمر، فإن قوله: "لا ندري حفظت أو نسيت" قد ظهر مصداقه في أنها أطلقت في موضع التقييد أو عممت في موضع التخصيص كما تقدم بيانه، وأيضا فليس في كلام عمر ما يقتضي إيجاب النفقة وإنما أنكر إسقاط السكنى. وادعى بعض الحنفية أن في بعض طرق حديث عمر "للمطلقة ثلاثا السكنى والنفقة" ورده ابن السمعاني بأنه من قول بعض المجازفين فلا تحل روايته، وقد أنكر أحمد ثبوت ذلك عن عمر أصلا، ولعله أراد ما ورد من طريق إبراهيم النخعي عن عمر لكونه لم يلقه، وقد بالغ الطحاوي في تقرير مذهبه فقال: خالفت فاطمة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن عمر روى خلاف ما روت، فخرج المعنى الذي أنكر عليها عمر خروجا صحيحا، وبطل حديث فاطمة فلم يجب العمل به أصلا، وعمدته على ما ذكر من المخالفة ما روي عمر بن الخطاب، فإنه أورده من طريق إبراهيم النخعي عن عمر قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لها السكنى والنفقة" وهذا منقطع لا تقوم به حجة.

(9/481)


باب المطلقة إذا خشي عليها في مسكن زوجها أن يقتحم عليها أوتبذو على أهلها بفاحشة
...
42 - باب الْمُطَلَّقَةِ إِذَا خُشِيَ عَلَيْهَا فِي مَسْكَنِ زَوْجِهَا أَنْ يُقْتَحَمَ عَلَيْهَا أَوْ تَبْذُوَ عَلَى أَهْلِهَا بِفَاحِشَةٍ
5327، 5328- حَدَّثَنِي حِبَّانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّ عَائِشَةَ أَنْكَرَتْ ذَلِكَ عَلَى فَاطِمَةَ"
قوله: "باب المطلقة إذا خشي عليها في مسكن زوجها أن يقتحم عليها أو قبل تبذو على أهلها بفاحشة" في رواية الكشميهني: "على أهله". والاقتحام الهجوم على الشخص بغير إذن، والبذاء بالموحدة والمعجمة القول الفاحش. قوله: "حبان" بكسر أوله والموحدة هو ابن موسى، وعبد الله هو ابن المبارك. قوله: "إن عائشة أنكرت ذلك على فاطمة" كذا أورده من طريق ابن جريج عن ابن شهاب مختصرا، وأورده مسلم من طريق صالح بن كيسان عن ابن شهاب أن أبا سلمة بن عبد الرحمن أخبره "أن فاطمة بنت قيس أخبرته أنها جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم تستفتيه في خروجها من بيتها، فأمرها أن تنتقل إلى ابن أم مكتوم الأعمى، فأبى مروان أن يصدق في خروج المطلقة من بيتها" وقال عروة "إن عائشة أنكرت ذلك على فاطمة بنت قيس".

(9/481)


باب قوله تعالى:(ولا يحل لهن أن يكتمن ماخلق الله في أرحامهن) من الحيض والحبل
...
43- باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : {وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} مِنْ الْحَيْضِ وَالْحَبَلِ
5329- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ

(9/481)


44- باب {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} فِي الْعِدَّةِ
وَكَيْفَ يُرَاجِعُ الْمَرْأَةَ إِذَا طَلَّقَهَا وَاحِدَةً أَوْ ثِنْتَيْنِ
5330- حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا يُونُسُ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ زَوَّجَ مَعْقِلٌ أُخْتَهُ فَطَلَّقَهَا تَطْلِيقَةً"
5331- و حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ أَنَّ مَعْقِلَ بْنَ يَسَارٍ كَانَتْ أُخْتُهُ تَحْتَ رَجُلٍ فَطَلَّقَهَا ثُمَّ خَلَّى عَنْهَا حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُهَا ثُمَّ خَطَبَهَا فَحَمِيَ مَعْقِلٌ مِنْ ذَلِكَ أَنَفًا فَقَالَ خَلَّى عَنْهَا وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَيْهَا ثُمَّ يَخْطُبُهَا فَحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ {وَإِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ فَدَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَأَ عَلَيْهِ فَتَرَكَ الْحَمِيَّةَ وَاسْتَقَادَ لِأَمْرِ اللَّهِ"
5332- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا طَلَّقَ امْرَأَةً لَهُ وَهِيَ حَائِضٌ تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُرَاجِعَهَا ثُمَّ يُمْسِكَهَا حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ عِنْدَهُ حَيْضَةً ==

=

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أشعار النساء - ط عالم الكتب المؤلف المرزباني

  أشعار النساء للمرزباني ثالث ما ألف من الكتب في أشعار النساء، بعد (أشعار الجواري) للمفجع البصري المتوفى سنة 327هـ و(الإماء الشواعر)...