Translate فتح الباري وتفسير بن كثير كيكي520.

الجمعة، 13 مايو 2022

مجلد 29. و مجلد 30.فتح الباري أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ)

 مجلد 29. و مجلد 30.فتح الباري أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ)

29.

مجلد 29.فتح الباري أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ) 

 =قوله: "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم من استطاع الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج" وقع في رواية السرخسي "لأنه" والأول أولى لأنه بقية لفظ الحديث، وإن كان تصرف فيه فاختصر منه لفظ: "منكم" وكأنه أشار إلى أن الشفاهي لا يخص، وهو كذلك اتفاقا، وإنما الخلاف هل يعم نصا أو استنباطا؟ ثم رأيته في الصيام أخرجه من وجه آخر عن الأعمش بلفظ: "من استطاع الباءة" كما ترجم به ليس فيه: "منكم". قوله:" وهل يتزوج من لا أرب له في النكاح" كأنه يشير إلى ما وقع بين ابن مسعود وعثمان، فعرض عليه عثمان فأجابه بالحديث، فاحتمل أن يكون لا أرب فيه له فلم يوافقه، واحتمل أن يكون وافقه وإن لم ينقل ذلك، ولعله رمز إلى ما بين العلماء فيمن لا يتوق إلى النكاح هل يندب إليه أم لا؟ وسأذكر ذلك بعد. قوله: "حدثني إبراهيم" هو النخعي، وهذا الإسناد مما ذكر أنه أصح الأسانيد، وهي ترجمة الأعمش عن إبراهيم النخعي عن علقمة عن ابن مسعود، وللأعمش في هذا الحديث إسناد آخر ذكره المصنف في الباب الذي يليه بإسناده بعينه إلى الأعمش. قوله: "كنت مع عبد الله" يعني ابن مسعود. قوله: "فلقيه عثمان بمنى" كذا وقع في أكثر الروايات. وفي رواية زيد بن أبي أنيسة عن الأعمش عند ابن حبان: "بالمدينة" وهي شاذة. قوله: "فقال: يا أبا عبد الرحمن" هي كنية ابن مسعود، وظن ابن المنير أن المخاطب بذلك ابن عمر لأنها كنيته المشهورة، وأكد ذلك عنده أنه وقع في نسخته من "شرح ابن بطال" عقب الترجمة "فيه ابن عمر، لقيه عثمان بمنى" وقص الحديث. فكتب ابن المنير في حاشيته: هذا يدل على أن ابن عمر شدد على نفسه في زمن الشباب، لأنه كان في زمن عثمان شابا، كذا قال، ولا مدخل لابن عمر في هذه القصة أصلا، بل القصة والحديث لابن مسعود، مع أن دعوى أن ابن عمر كان شابا إذ ذاك فيه نظر لما سأبينه قريبا. فإنه كان إذ ذاك جاوز الثلاثين. قوله: "فخليا" كذا للأكثر. وفي رواية الأصيلي: "فخلوا" قال ابن التين: وهي الصواب، لأنه واوي يعني من الخلوة مثل "دعوا" قال الله تعالى :{فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ} انتهى. ووقع في رواية جرير عن الأعمش عند مسلم. "إذ لقيه عثمان فقال: هلم يا أبا عبد الرحمن، فاستخلاه". قوله: "فقال عثمان: هل لك يا أبا عبد الرحمن في أن نزوجك بكرا تذكرك ما كنت تعهد" لعل عثمان رأى به قشفا ورثاثة هيئة فحمل ذلك على فقده الزوجة التي ترفهه، ووقع في رواية أبي معاوية عند أحمد ومسلم: "ولعلها أن تذكر ما مضى من زمانك" وفي رواية جرير عن الأعمش عند مسلم: "لعلك يرجع إليك من نفسك ما كنت تعهد" وفي رواية زيد بن أبي أنيسة عند ابن حبان: "لعلها أن تذكرك ما فاتك" ويؤخذ منه أن معاشرة الزوجة الشابة تزيد في القوة والنشاط، بخلاف عكسها فبالعكس. قوله: "فلما رأى عبد الله أن ليس له حاجة إلى هذا أشار إلي فقال: يا علقمة فانتهيت إليه وهو يقول أما لئن قلت ذلك لقد "هكذا عند الأكثر أن مراجعة عثمان لابن مسعود في أمر التزويج كانت قبل استدعائه لعلقمة. ووقع في رواية جرير عند مسلم وزيد بن أبي أنيسة عند ابن حبان بالعكس، ولفظ جرير بعد قوله فاستخلاه" فلما رأى عبد الله أن ليس له حاجة قال لي: تعال يا علقمة، قال فجئت، فقال له عثمان: ألا نزوجك"وفي رواية زيد "فلقي عثمان، فأخذ بيده فقاما، وتنحيت عنهما، فلما رأى عبد الله أن ليست له حاجة يسرها قال: ادن يا علقمة، فانتهيت إليه وهو يقول: ألا نزوجك" ويحتمل في الجمع بين الروايتين أن يكون عثمان أعاد علي ابن مسعود ما كان قال له بعد أن استدعى علقمة، لكونه فهم منه إرادة إعلام علقمة بما كان فيه. قوله: "لقد قال لنا النبي صلى الله عليه وسلم يا معشر الشباب" في رواية زيد "لقد كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم شبابا فقال لنا" وفي

(9/107)


رواية عبد الرحمن بن يزيد في الباب الذي يليه "دخلت مع علقمة والأسود على عبد الله، فقال عبد الله: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم شبابا لا نجد شيئا، فقال لنا: يا معشر الشباب" وفي رواية جرير عن الأعمش عند مسلم في هذه الطريق "قال عبد الرحمن وأنا يومئذ شاب، فحدث بحديث رأيت أنه حدث به من أجلي" وفي رواية وكيع عن الأعمش "وأنا أحدث القوم". قوله: "يا معشر الشباب" المعشر جماعة يشملهم وصف ما، والشباب جمع شاب ويجمع أيضا على شببة وشبان بضم أوله والتثقيل، وذكر الأزهري أنه لم يجمع فاعل على فعال غيره، وأصله الحركة والنشاط، وهو اسم لمن بلغ إلى أن يكمل ثلاثين، هكذا أطلق الشافعية. وقال القرطبي في "المفهم" يقال له حدث إلى ستة عشر سنة، ثم شاب إلى اثنتين وثلاثين ثم كهل، وكذا ذكر الزمخشري في الشباب أنه من لدن البلوغ إلى اثنتين وثلاثين. وقال ابن شاس المالكي في "الجواهر" إلى أربعين. وقال النووي: الأصح المختار أن الشاب من بلغ ولم يجاوز الثلاثين، ثم هو كهل إلى أن يجاوز الأربعين، ثم هو شيخ. وقال الروياني وطائفة: من جاوز الثلاثين سمى شيخا، زاد ابن قتيبة: إلى أن يبلغ الخمسين. وقال أبو إسحاق الأسفرايني عن الأصحاب: المرجع في ذلك إلى اللغة، وأما بياض الشعر فيختلف باختلاف الأمزجة. قوله: "من استطاع منكم الباءة" خص الشباب بالخطاب لأن الغالب وجود قوة الداعي فيهم إلى النكاح بخلاف الشيوخ. وإن كان المعنى معتبرا إذا وجد السبب في الكهول والشيوخ أيضا. قوله: "الباءة" بالهمز وتاء تأنيث ممدود، وفيها لغة أخرى بغير همز ولا مد، وقد يهمز ويمد بلا هاء، ويقال لها أيضا الباهة كالأول لكن بهاء بدل الهمزة، وقيل بالمد القدرة على مؤن النكاح وبالقصر الوطء، قال الخطابي: المراد بالباءة النكاح، وأصله الموضع الذي يتبوؤه ويأوي إليه. وقال المازري: اشتق العقد على المرأة من أصل الباءة، لأن من شأن من يتزوج المرأة أن يبوءها منزلا. وقال النووي: اختلف العلماء في المراد بالباءة هنا على قولين يرجعان إلى معنى واحد: أصحهما أن المراد معناها اللغوي وهو الجماع، فتقديره من استطاع منكم الجماع لقدرته على مؤنه - وهي مؤن النكاح - فليتزوج، ومن لم يستطع الجماع لعجزه عن مؤنه فعليه بالصوم ليدفع شهوته ويقطع شر منيه كما يقطعه الوجاء، وعلى هذا القول وقع الخطاب مع الشباب الذين هم مظنة شهوة النساء ولا ينفكون عنها غالبا. والقول الثاني أن المراد هنا بالباءة مؤن النكاح، سميت باسم ما يلازمها، وتقديره من استطاع منكم مؤن النكاح فليتزوج، ومن لم يستطع فليصم لدفع شهوته. والذي حمل القائلين بهذا على ما قالوه قوله: "ومن لم يستطع فعليه بالصوم" قالوا: والعاجز عن الجماع لا يحتاج إلى الصوم لدفع الشهوة، فوجب تأويل الباءة على المؤن. وانفصل القائلون بالأول عن ذلك بالتقدير المذكور انتهى. والتعليل المذكور للمازري. وأجاب عنه عياض بأنه لا يبعد أن تختلف الاستطاعتان، فيكون المراد بقوله: "من استطاع الباءة" أي بلغ الجماع وقدر عليه فليتزوج. ويكون قوله: "ومن لم يستطع" أي من لم يقدر على التزويج. قلت: وتهيأ له هذا لحذف المفعول في المنفي، فيحتمل أن يكون المراد ومن لم يستطع الباءة أو من لم يستطع التزويج، وقد وقع كل منهما صريحا، فعند الترمذي في رواية عبد الرحمن بن يزيد من طريق الثوري عن الأعمش "ومن لم يستطع منكم الباءة" وعند الإسماعيلي من هذا الوجه من طريق أبي عوانة عن الأعمش "من استطاع منكم أن يتزوج فليتزوج" ويؤيده ما وقع في رواية للنسائي من طريق أبي معشر عن إبراهيم النخعي "من كان ذا طول فلينكح" ومثله لابن ماجه من حديث عائشة، وللبزار من حديث أنس وأما تعليل المازري فيعكر عليه قوله في الرواية الأخرى التي في الباب

(9/108)


الذي يليه بلفظ: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم شبابا لا نجد شيئا" فإنه يدل على أن المراد بالباءة الجماع، ولا مانع من الحمل على المعنى الأعم بأن يراد بالباءة القدرة على الوطء ومؤن التزويج، والجواب عما استشكله المازري أنه يجوز أن يرشد من لا يستطيع الجماع من الشباب لفرط حياء أو عدم شهوة أو عنة مثلا إلى ما يهيئ له استمرار تلك الحالة، لأن الشباب مظنة ثوران الشهوة الداعية إلى الجماع فلا يلزم من كسرها في حالة أن يستمر كسرها، فلهذا أرشد إلى ما يستمر به الكسر المذكور، فيكون قسم الشباب إلى قسمين: قسم يتوقون إليه ولهم اقتدار عليه فندبهم إلى التزويج دفعا للمحذور، بخلاف الآخرين فندبهم إلى أمر تستمر به حالتهم، لأن ذلك أرفق بهم للعلة التي ذكرت في رواية عبد الرحمن بن يزيد وهي أنهم كانوا لا يجدون شيئا، ويستفاد منه أن الذي لا يجد أهبة النكاح وهو تائق إليه يندب له التزويج دفعا للمحذور. قوله: " فليتزوج" زاد في كتاب الصيام من طريق أبي حمزة عن الأعمش هنا "فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج" وكذا ثبتت هذه الزيادة عند جميع من أخرج الحديث المذكور من طريق الأعمش بهذا الإسناد، وكذا ثبت بإسناده الآخر في الباب الذي يليه، ويغلب على ظني أن حذفها من قبل حفص بن غياث شيخ شيخ البخاري. وإنما آثر البخاري روايته على رواية غيره لوقوع التصريح فيها من الأعمش بالتحديث، فاغتفر له اختصار المتن لهذه المصلحة. وقوله: "أغض" أي أشد غضا "وأحصن" أي أشد إحصانا له ومنعا من الوقوع في الفاحشة. وما ألطف ما وقع لمسلم حيث ذكر عقب حديث ابن مسعود هذا بيسير حديث جابر رفعه: "إذا أحدكم أعجبته المرأة فوقعت في قلبه فليعمد إلى امرأته فليواقعها؛ فإن ذلك يرد ما في نفسه" فإن فيه إشارة إلى المراد من حديث الباب. وقال ابن دقيق العيد: يحتمل أن تكون أفعل على بابها، فإن التقوى سبب لغض البصر وتحصين الفرج، وفي معارضتها الشهوية الداعية، وبعد حصول التزويج يضعف هذا العارض فيكون أغض وأحصن مما لم يكن، لأن وقوع الفعل مع ضعف الداعي أندر من وقوعه من وجود الداعي. ويحتمل أن يكون أفعل فيه لغير المبالغة بل إخبار عن الواقع فقط. قوله: "ومن لم يستطع فعليه بالصوم" في رواية مغيرة عن إبراهيم عند الطبراني "ومن لم يقدر على ذلك فعليه بالصوم" قال المازري: فيه إغراء بالغائب، ومن أصول النحويين أن لا يغري الغائب، وقد جاء شاذا قول بعضهم عليه رجلا ليسني على جهة الإغراء. وتعقبه عياض بأن هذا الكلام موجود لابن قتيبة والزجاجي، ولكن فيه غلط من أوجه: أما أولا فمن التعبير بقوله لا إغراء بالغائب، والصواب فيه إغراء الغائب، فأما الإغراء بالغائب فجائز، ونص سيبويه أنه لا يجوز دونه زيدا ولا يجوز عليه زيدا عند إرادة غير المخاطب، وإنما جاز للحاضر لما فيه من دلالة الحال، بخلاف الغائب فلا يجوز لعدم حضوره ومعرفته بالحالة الدالة على المراد. وأما ثانيا فإن المثال ما فيه حقيقة الإغراء وأن كانت صورته، فلم يرد القائل تبليغ الغائب وإنما أراد الإخبار عن نفسه بأنه قليل المبالاة بالغائب، ومثله قولهم: إليك عني، أي اجعل شغلك بنفسك، ولم يرد أن يغريه به وإنما مراده دعني وكن كمن شغل عني. وأما ثالثا فليس في الحديث إغراء الغائب بل الخطاب للحاضرين الذين خاطبهم أولا بقوله: "من استطاع منكم" فالخصاء في قوله: "فعليه" ليست لغائب وإنما هي للحاضر المبهم، إذ لا يصح خطابه بالكاف، ونظير هذا قوله: {كتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} إلى أن قال {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} ومثله لو قلت لاثنين من قام منكما فله درهم فالهاء للمبهم من المخاطبين لا لغائب ا ه ملخصا. وقد استحسنه القرطبي. وهو حسن بالغ، وقد تفطن له الطيبي فقال: قال أبو عبيد قوله

(9/109)


فعليه بالصوم إغراء غائب، ولا تكاد العرب تغري إلا الشاهد تقول عليك زيدا ولا تقول عليه زيدا إلا في هذا الحديث، قال: وجوابه أنه لما كان الضمير الغائب راجعا إلى لفظة "من" وهي عبارة عن المخاطبين في قوله: "يا معشر الشباب" وبيان لقوله: "منكم" جاز قوله: "عليه" لأنه بمنزلة الخطاب. وقد أجاب بعضهم بأن إيراد هذا اللفظ في مثال إغراء الغائب هو باعتبار اللفظ، وجواب عياض باعتبار المعنى، وأكثر كلام العرب اعتبار اللفظ. كذا قال، والحق مع عياض، فإن الألفاظ توابع للمعاني، ولا معنى لاعتبار اللفظ مجردا هنا. قوله: "بالصوم" عدل عن قوله فعليه بالجوع وقلة ما يثير الشهوة ويستدعي طغيان الماء من الطعام والشراب إلى ذكر الصوم إذ ما جاء لتحصيل عبادة هي برأسها مطلوبة. وفيه إشارة إلى أن المطلوب من الصوم في الأصل كسر الشهوة. قوله: "فإنه" أي الصوم. قوله: "له وجاء" بكسر الواو والمد، أصله الغمز، ومنه وجأه في عنقه إذا غمزه دافعا له، ووجأه بالسيف إذا طعنه به، ووجأ أنثييه غمزهما حتى رضهما. ووقع في رواية ابن حبان المذكورة "فإنه له وجاء وهو الإخصاء" وهي زيادة مدرجة في الخبر لم تقع إلا في طريق زيد بن أبي أنيسة هذه، وتفسير الوجاء بالإخصاء فيه نظر. فإن الوجاء رض الأنثيين والإخصاء سلهما، وإطلاق الوجاء على الصيام من مجاز المشابهة. وقال أبو عبيد قال بعضهم وجا بفتح الواو مقصور، والأول أكثر. وقال أبو زيد لا يقال وجاء إلا فيما لم يبرأ وكان قريب العهد بذلك. واستدل بهذا الحديث على أن من لم يستطع الجماع فالمطلوب منه ترك التزويج لأنه أرشده إلى ما ينافيه ويضعف دواعيه. وأطلق بعضهم أنه يكره في حقه. وقد قسم العلماء الرجل في الترويج إلى أقسام: الأول التائق إليه القادر على مؤنه الخائف على نفسه، فهذا يندب له النكاح عند الجميع، وزاد الحنابلة في رواية أنه يجب وبذلك قال أبو عوانة الأسفرايني من الشافعية وصرح به في صحيحه، ونقله المصيصي في "شرح مختصر الجويني" وجها، وهو قول داود وأتباعه. ورد عليهم عياض ومن تبعه بوجهين: أحدهما أن الآية التي احتجوا بها خيرت بين النكاح والتسري - يعني قوله تعالى :{فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} قالوا والتسري ليس واجبا اتفاقا فيكون التزويج غير واجب إذ لا يقع التخيير بين واجب ومندوب، وهذا الرد متعقب، فإن الذين قالوا بوجوبه قيدوه بما إذا لم يندفع التوقان بالتسري، فإذا لم يندفع تعين التزويج، وقد صرح بذلك ابن حزم فقال: وفرض على كل قادر على الوطء إن وجد ما يتزوج به أو يتسرى أن يفعل أحدهما، فإن عجز عن ذلك فليكثر من الصوم، وهو قول جماعة من السلف. الوجه الثاني أن الواجب عندهم العقد لا الوطء، والعقد بمجرده لا يدفع مشقة التوقان قال: فما ذهبوا إليه لم يتناوله الحديث، وما تناوله الحديث لم يذهبوا إليه، كذا قال، وقد صرح أكثر المخالفين بوجوب الوطء فاندفع الإيراد. وقال ابن بطال: احتج من لم يوجبه بقوله صلى الله عليه وسلم: "ومن لم يستطع فعليه بالصوم" قال: فلما كان الصوم الذي هو بدله ليس بواجب فمبدله مثله. وتعقب بأن الأمر بالصوم مرتب على عدم الاستطاعة ولا استحالة أن يقول القائل أوجبت عليك كذا فإن لم تستطع فأندبك إلى كذا. والمشهور عن أحمد أنه لا يجب للقادر التائق إلا إذا خشي العنت، وعلى هذه الرواية اقتصر ابن هبيرة. وقال المازري: الذي نطق به مذهب مالك أنه مندوب، وقد يجب عندنا في حق من لا ينكف عن الزنا إلا به. وقال القرطبي: المستطيع الذي يخاف الضرر على نفسه ودينه من العزوبة بحيث لا يرتفع عنه ذلك إلا بالتزويج لا يختلف في وجوب التزويج عليه. ونبه ابن الرفعة على صورة يجب فيها، وهي ما إذا نذره حيث كان مستحبا. وقال ابن دقيق العيد: قسم بعض الفقهاء النكاح

(9/110)


إلى الأحكام الخمسة، وجعل الوجوب فيما إذا خاف العنت وقدر على النكاح وتعذر التسري - وكذا حكاه القرطبي عن بعض علمائهم وهو المازري قال: فالوجوب في حق من لا ينكف عن الزنا إلا به كما تقدم. قال والتحريم في حق من يخل بالزوجة في الوطء والإنفاق مع عدم قدرته عليه وتوقانه إليه. والكراهة في حق مثل هذا حيث لا إضرار بالزوجة، فإن انقطع بذلك عن شيء من أفعال الطاعة من عبادة أو اشتغال بالعلم اشتدت الكراهة، وقيل الكراهة فيما إذا كان ذلك في حال العزوبة أجمع منه في حال التزويج. والاستحباب فيما إذا حصل به معنى مقصودا من كثر شهوة وإعفاف نفس وتحصين فرج ونحو ذلك. والإباحة فيما انتفت الدواعي والموانع. ومنهم من استمر بدعوى الاستحباب فيمن هذه صفته للظواهر الواردة في الترغيب فيه، قال عياض: هو مندوب في حق كل من يرجى منه النسل ولو لم يكن له في الوطء شهوة، لقوله صلى الله عليه وسلم: "فإني مكاثر بكم" ولظواهر الحض على النكاح والأمر به، وكذا في حق من له رغبة في نوع من الاستمتاع بالنساء غير الوطء، فأما من لا ينسل ولا أرب له في النساء ولا في الاستمتاع فهذا مباح في حقه إذا علمت المرأة بذلك ورضيت. وقد يقال: إنه مندوب أيضا لعموم قوله: "لا رهبانية في الإسلام". وقال الغزالي في الإحياء: من اجتمعت له فوائد النكاح وانتفت عنه آفاته فالمستحب في حقه التزويج، ومن لا فالترك له أفضل، ومن تعارض الأمر في حقه فليجتهد ويعمل بالراجح. قلت: الأحاديث الواردة في ذلك كثيرة، فأما حديث :" فإني مكاثر بكم" فصح من حديث أنس بلفظ: "تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم يوم القيامة" أخرجه ابن حبان، وذكره الشافعي بلاغا عن ابن عمر بلفظ: "تناكحوا تكاثروا فإني أباهي بكم الأمم" وللبيهقي من حديث أبي إمامة "تزوجوا، فإني مكاثر بكم الأمم، ولا تكونوا كرهبانية النصارى" وورد "فإني مكاثر بكم" أيضا من حديث الصنابحي وابن الأعسر ومعقل بن يسار وسهل بن حنيف وحرملة بن النعمان وعائشة وعياض بن غنم ومعاوية بن حيدة وغيرهم، وأما حديث: "لا رهبانية في الإسلام" فلم أره بهذا اللفظ، لكن في حديث سعد بن أبي وقاص عند الطبراني "إن الله أبدلنا بالرهبانية الحنيفية السمحة" وعن ابن عباس رفعه: "لا صرورة في الإسلام" أخرجه أحمد وأبو داود وصححه الحاكم، وفي الباب حديث النهي عن التبتل وسيأتي في باب مفرد، وحديث: "من موسرا فلم ينكح فليس منا" أخرجه الدارمي والبيهقي من حديث ابن أبا نجيح وجزم بأنه مرسل، وقد أورده البغوي في "معجم الصحابة" وحديث طاوس "قال عمر بن الخطاب لأبي الزوائد: إنما يمنعك من التزويج عجز أو فجور، أخرجه ابن أبي شيبة وغيره، وقد تقدم في الباب الأول الإشارة إلى حديث عائشة "النكاح سنتي، فمن رغب عن سنتي فليس مني" وأخرج الحاكم من حديث أنس رفعه: "من رزقه الله امرأة صالحة فقد أعانه على شطر دينه، فليتق الله في الشطر الثاني" وهذه الأحاديث وإن كان في الكثير منها ضعف فمجموعها يدل على أن لما يحصل به المقصود من الترغيب في التزويج أصلا، لكن في حق من يتأتى منه النسل كما تقدم، والله أعلم. وفي الحديث أيضا إرشاد العاجز عن مؤن النكاح إلى الصوم، لأن شهوة النكاح تابعة لشهوة الأكل تقوى بقوته وتضعف بضعفه، واستدل به الخطابي على جواز المعالجة لقطع شهوة النكاح بالأدوية، وحكاه البغوي في "شرح السنة"، وينبغي أن يحمل على دواء يسكن الشهوة دون ما يقطعها أصالة لأنه قد يقدر بعد فيندم لفوات ذلك في حقه، وقد صرح الشافعية بأنه لا يكسرها بالكافور ونحوه، والحجة فيه أنهم اتفقوا على منع الجب والخصاه فيلحق بذلك ما في معناه من التداوي بالقطع أصلا، واستدل به الخطابي

(9/111)


أيضا على أن المقصود من النكاح الوطء ولهذا شرع الخيار في العنة. وفيه الحث على غض البصر وتحصين الفرج بكل ممكن وعدم التكليف بغير المستطاع، ويؤخذ منه أن حظوظ النفوس والشهوات لا تتقدم على أحكام الشرع بل هي دائرة معها، واستنبط القرافي من قوله: "فإنه له وجاء" أن التشريك في العبادة لا يقدح فيها بخلاف الرياء، لأنه أمر بالصوم الذي هو قربة وهو بهذا القصد صحيح مثاب عليه، ومع ذلك فأرشد إليه لتحصيل غض البصر وكف الفرج عن الوقوع في المحرم ا ه. فإن أراد تشريك عبادة بعبادة أخرى فهو كذلك وليس محل النزاع. وإن أراد تشريك العبادة بأمر مباح فليس في الحديث ما يساعده. واستدل به بعض المالكية على تحريم الاستمناء لأنه أرشد عند العجز عن التزويج إلى الصوم الذي يقطع الشهوة، فلو كان الاستمناء مباحا لكان الإرشاد إليه أسهل. وتعقب دعوى كونه أسهل لأن الترك أسهل من الفعل. وقد أباح الاستمناء طائفة من العلماء، وهو عند الحنابلة وبعض الحنفية لأجل تسكين الشهوة، وفي قول عثمان لابن مسعود "ألا نزوجك شابة" استحباب نكاح الشابة ولا سيما إن كانت بكرا، وسيأتي بسط القول فيه بعد أبواب.

(9/112)


4- باب مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ الْبَاءَةَ فَلْيَصُمْ
5066- حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ حَدَّثَنِي عُمَارَةُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ دَخَلْتُ مَعَ عَلْقَمَةَ وَالأَسْوَدِ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَبَابًا لاَ نَجِدُ شَيْئًا فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنْ اسْتَطَاعَ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ"
قوله: "باب من لم يستطع الباءة فليصم" أورد فيه حديث ابن مسعود المذكور في الباب قبله، وهذا اللفظ ورد في رواية الثوري عن الأعمش في حديث الباب، فعند الترمذي عنه بلفظ: "فمن لم يستطع الباءة فعليه بالصوم" وعند النسائي عنه بلفظ: "ومن لا فليصم" وقد تقدمت مباحثه في الباب الذي قبله.

(9/112)


5- باب كَثْرَةِ النِّسَاءِ
5067- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ قَالَ أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ قَالَ حَضَرْنَا مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ جِنَازَةَ مَيْمُونَةَ بِسَرِفَ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ هَذِهِ زَوْجَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا رَفَعْتُمْ نَعْشَهَا فَلاَ تُزَعْزِعُوهَا وَلاَ تُزَلْزِلُوهَا وَارْفُقُوا فَإِنَّهُ كَانَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِسْعٌ كَانَ يَقْسِمُ لِثَمَانٍ وَلاَ يَقْسِمُ لِوَاحِدَةٍ"
5068- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَهُ تِسْعُ نِسْوَةٍ و قَالَ لِي خَلِيفَةُ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ أَنَسًا حَدَّثَهُمْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"

(9/112)


باب من هاجر أو عمل خيراً لتزويج امرأة فله مانوى
...
6- باب مَنْ هَاجَرَ أَوْ عَمِلَ خَيْرًا لِتَزْوِيجِ امْرَأَةٍ فَلَهُ مَا نَوَى
5070- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ قَزَعَةَ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الْعَمَلُ بِالنِّيَّةِ وَإِنَّمَا لِامْرِئٍ مَا نَوَى فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ"
قوله: "باب من هاجر أو عمل خيرا لتزويج امرأة فله ما نوى" ذكر فيه حديث عمر بلفظ: "العمل بالنية، وإنما لامرئ ما نوى" وقد تقدم شرحه مستوفى في أول الكتاب، وما ترجم به من الهجرة منصوص في الحديث، ومن عمل الخير مستنبط لأن الهجرة من جملة أعمال الخير، فكما عمم في الخير في شق المطلوب وتممه بلفظ: "فهجرته إلي ما هاجر إليه" فكذلك شق الطلب يشمل أعمال الخير هجرة أو حجا مثلا أو صلاة أو صدقة، وقصة مهاجر أم قيس أوردها الطبراني مسندة والآجري في كتاب الشريعة بغير إسناد، ويدخل في قوله: "أو عمل خيرا" ما وقع من أم سليم في امتناعها من التزويج بأبي طلحة حتى يسلم، وهو في الحديث الذي أخرجه النسائي بسند صحيح عن أنس قال: "خطب أبو طلحة أم سليم فقالت: والله ما مثلك يا أبا طلحة يرد، ولكنك رجل كافر وأنا امرأة مسلمة، ولا يحل لي أن أتزوجك، فإن تسلم فذاك مهري، فأسلم فكان ذلك مهرها" الحديث. ووجه دخوله أن أم سليم رغبت في تزويج أبي طلحة ومنعها من ذلك كفره، فتوصلت إلى بلوغ غرضها ببذل نفسها فظفرت بالخيرين، وقد استشكله

(9/115)


بعضهم بأن تحريم المسلمات على الكفار إنما وقع في زمن الحديبية وهو بعد قصة تزوج أبي طلحة بأم سليم بمدة، ويمكن الجواب بأن ابتداء تزوج الكافر بالمسلمة كان سابقا على الآية، والذي دلت عليه الآية الاستمرار، فلذلك وقع التفريق بعد أن لم يكن، ولا يحفظ بعد الهجرة أن مسلمة ابتدأت بتزوج كافر، والله أعلم

(9/116)


7- باب تَزْوِيجِ الْمُعْسِرِ الَّذِي مَعَهُ الْقُرْآنُ وَالإِسْلاَمُ. فِيهِ سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
5071- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي قَيْسٌ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنَّا نَغْزُو مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ لَنَا نِسَاءٌ فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلاَ نَسْتَخْصِي فَنَهَانَا عَنْ ذَلِكَ"
قوله: "باب تزويج المعسر الذي معه القرآن والإسلام. فيه سهل بن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم" يعني حديث سهل بن سعد في قصة التي وهبت نفسها. وما ترجم به مأخوذ من قوله: "التمس ولو خاتما من حديد" فالتمس فلم يجد شيئا ومع ذلك زوجه. قال الكرماني: لم يسق حديث سهل هنا لأنه ساقه قبل وبعد اكتفاء بذكره، أو لأن شيخه لم يروه له في سياق هذه الترجمة ا ه. والثاني بعيد جدا فلم أجد من قال إن البخاري يتقيد في تراجم كتابه بما يترجم به مشايخه، بل الذي صرح به الجمهور أن غالب تراجمه من تصرفه فلا وجه لهذا الاحتمال، وقد لهج الكرماني به في مواضع وليس بشيء. ثم ذكر طرفا من حديث ابن مسعود "كنا نغزو وليس لنا نساء، فقلنا: يا رسول الله نستخصي؟ فنهانا عن ذلك. وقد تلطف المصنف في استنباطه الحكم كأنه يقول: لما نهاهم عن الاختصاء مع احتياجهم إلى النساء - وهم مع ذلك لا شيء لهم كما صرح به في نفس هذا الخبر كما سيأتي تاما بعد باب واحد - وكان كل منهم لا بد وأن يكون حفظ شيئا من القرآن، فتعين التزويج بما معهم من القرآن، فحكمة الترجمة من حديث سهل بالتنصيص، ومن حديث ابن مسعود بالاستدلال. وقد أعرب المهلب فقال: في قوله تزويج المعسر دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزوج الرجل على أن يعلم المرأة القرآن، إذ لو كان كذلك ما سماه معسرا. قال: وكذلك قوله: "والإسلام" لأن الواهبة كانت مسلمة ا ه. والذي يظهر أن مراد البخاري المعسر من المال بدليل قول ابن مسعود "وليس لنا شيء" والله أعلم.

(9/116)


8- باب قَوْلِ الرَّجُلِ لِأَخِيهِ انْظُرْ أَيَّ زَوْجَتَيَّ شِئْتَ حَتَّى أَنْزِلَ لَكَ عَنْهَا، رَوَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ
5072- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ قَدِمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فَآخَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ الأَنْصَارِيِّ وَعِنْدَ الأَنْصَارِيِّ امْرَأَتَانِ فَعَرَضَ عَلَيْهِ أَنْ يُنَاصِفَهُ أَهْلَهُ وَمَالَهُ فَقَالَ بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ دُلُّونِي عَلَى السُّوقِ فَأَتَى السُّوقَ فَرَبِحَ شَيْئًا مِنْ أَقِطٍ وَشَيْئًا مِنْ سَمْنٍ فَرَآهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ أَيَّامٍ وَعَلَيْهِ وَضَرٌ مِنْ صُفْرَةٍ فَقَالَ مَهْيَمْ يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ فَقَالَ تَزَوَّجْتُ أَنْصَارِيَّةً قَالَ فَمَا سُقْتَ إِلَيْهَا قَالَ وَزْنَ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ قَالَ أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ"

(9/116)


باب مايكره من التبتل والخصاء
...
9- باب مَا يُكْرَهُ مِنْ التَّبَتُّلِ وَالْخِصَاءِ
5083- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ يَقُولُ سَمِعْتُ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ يَقُولُ رَدَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ التَّبَتُّلَ وَلَوْ أَذِنَ لَهُ لاَخْتَصَيْنَا"
[الحديث 5073- طرفه في: 5074]
5074- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ سَمِعَ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ يَقُولُ لَقَدْ رَدَّ ذَلِكَ يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ وَلَوْ أَجَازَ لَهُ التَّبَتُّلَ لاَخْتَصَيْنَا"
5075- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ إِسْمَاعِيلَ عَنْ قَيْسٍ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ كُنَّا نَغْزُو مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسَ لَنَا شَيْءٌ فَقُلْنَا أَلاَ نَسْتَخْصِي فَنَهَانَا عَنْ ذَلِكَ ثُمَّ رَخَّصَ لَنَا أَنْ نَنْكِحَ الْمَرْأَةَ بِالثَّوْبِ ثُمَّ قَرَأَ عَلَيْنَا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}
5076- وَقَالَ أَصْبَغُ أَخْبَرَنِي ابْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي رَجُلٌ شَابٌّ وَأَنَا أَخَافُ عَلَى نَفْسِي الْعَنَتَ وَلاَ أَجِدُ مَا أَتَزَوَّجُ بِهِ النِّسَاءَ فَسَكَتَ عَنِّي ثُمَّ قُلْتُ مِثْلَ ذَلِكَ فَسَكَتَ عَنِّي ثُمَّ قُلْتُ مِثْلَ ذَلِكَ فَسَكَتَ عَنِّي ثُمَّ قُلْتُ مِثْلَ ذَلِكَ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يَا أَبَا هُرَيْرَةَ جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا أَنْتَ لاَقٍ فَاخْتَصِ عَلَى ذَلِكَ أَوْ ذَرْ"

(9/117)


قوله: "باب ما يكره من التبتل" المراد بالتبتل هنا الانقطاع عن النكاح وما يتبعه من الملاذ إلى العبادة. وأما المأمور به في قوله تعالى :{وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} فقد فسره مجاهد فقال: أخلص له إخلاصا، وهو تفسير معنى، وإلا فأصل التبتل الانقطاع، والمعنى انقطع إليه انقطاعا. لكن لما كانت حقيقة الانقطاع إلى الله إنما تقع بإخلاص العبادة له فسرها بذلك، ومنه "صدقة بتلة" أي منقطعة عن الملك، ومريم البتول لانقطاعها عن التزويج إلى العبادة وقيل لفاطمة البتول إما لانقطاعها عن الأزواج غير على أو لانقطاعها عن نظرائها في الحسن والشرف. قوله: "والخصاء" هو الشق على الأنثيين وانتزاعهما، وإنما قال: "ما يكره من التبتل والخصاء للإشارة إلى أن الذي يكره من التبتل هو الذي يفضي إلى التنطع وتحريم ما أحل الله وليس التبتل من أصله مكرها، وعطف الخصاء عليه لأن بعضه يجوز في الحيوان المأكول، ثم أورد المصنف ثلاثة أحاديث. حديث سعد بن أبي وقاص في قصة عثمان بن مظعون أورده من طريقين إلى ابن شهاب الزهري، وقد أورده مسلم من طريق عقيل عن ابن شهاب بلفظ: "أراد عثمان بن مظعون أن يتبتل، فنهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم:" فعرف أن معنى قوله: "رد على عثمان" أي لم يأذن له بل نهاه. وأخرج الطبراني من حديث عثمان بن مظعون نفسه "أنه قال يا رسول الله إني رجل يشق على العزوبة، فأذن لي في الخصاء. قال: لا، ولكن عليك بالصيام" الحديث. ومن طريق سعيد ابن العاص "أن عثمان قال: يا رسول الله ائذن لي في الاختصاء، فقال : إن الله قد أبدلنا بالرهبانية الحنيفية السمحة" فيحتمل أن يكون الذي طلبه عثمان هو الاختصاء حقيقة فعبر عنه الراوي بالتبتل لأنه ينشأ عنه، فلذلك قال: "ولو أذن له لاختصينا" ويحتمل عكسه وهو أن المراد بقول سعد "ولو أذن له لاختصينا" لفعلنا فعل من يختصي وهو الانقطاع عن النساء. قال الطبري: التبتل الذي أراده عثمان بن مظعون تحريم النساء والطيب وكل ما يلتذ به، فلهذا أنزل في حقه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} وقد تقدم في الباب الأول من كتاب النكاح تسمية من أراد ذلك مع عثمان بن مظعون ومن وافقه، وكان عثمان من السابقين إلى الإسلام، وقد تقدمت قصته مع لبيد بن ربيعة في كتاب المبعث، وتقدمت قصة وفاته في كتاب الجنائز، وكانت في ذي الحجة سنة اثنتين من الهجرة، وهو أول من دفن بالبقيع. وقال الطيبي: قوله: "ولو أذن له لاختصينا" كان الظاهر أن يقول ولو أذن له لتبتلنا، لكنه عدل عن هذا الظاهر إلى قوله: "لاختصينا" لإرادة المبالغة، أي لبالغنا في التبتل حتى يفضي بنا الأمر إلى الاختصاء، ولم يرد به حقيقة الاختصاء لأنه حرام، وقيل بل هو على ظاهره، وكان ذلك قبل النهي عن الاختصاء، ويؤيده توارد استئذان جماعة من الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك كأبي هريرة وابن مسعود وغيرهما، وإنما كان التعبير بالخصاء أبلغ من التعبير بالتبتلي لأن وجود الآلة يقتضي استمرار وجود الشهوة، موجود الشهوة ينافي المراد من التبتل، فيتعين الخصاء طريقا إلى تحصيل المطلوب، وغايته أن فيه ألما عظيما في العاجل يغتفر في جنب ما يندفع به الآجل، فهو كقطع الإصبع إذا وقعت في اليد الأكلة صيانة لبقية اليد، وليس الهلاك بالخصاء محققا بل هو نادر، ويشهد له كثرة وجوده في البهائم مع بقائها، وعلى هذا فلعل الراوي عبر بالخصاء عن الجب لأنه هو الذي يحصل المقصود. والحكمة في منعهم من الاختصاء إرادة تكثير النسل ليستمر جهاد الكفار، وإلا لو أذن في ذلك لأوشك تواردهم عليه فينقطع النسل فيقل المسلمون بانقطاعه ويكثر الكفار، فهو خلاف المقصود من البعثة المحمدية. قوله: "جرير" هو ابن عبد الحميد وإسماعيل هو ابن أبي خالد وقيس هو ابن أبي حازم وعبد الله هو ابن

(9/118)


مسعود. وقد تقدم قبل بباب من وجه آخر عن إسماعيل بلفظ: "عن ابن مسعود" ووقع عند الإسماعيلي من طريق عثمان بن أبي شيبة عن جرير بلفظ: "سمعت عبد الله"، وكذا لمسلم من وجه آخر عن إسماعيل. قوله: "ألا نستخصي" أي ألا نستدعي من يفعل لنا الخصاء أو نعالج ذلك أنفسنا. وقوله: "فنهانا عن ذلك" هو نهى تحريم بلا خلاف في بني آدم، لما تقدم. وفيه أيضا من المفاسد تعذيب النفس والتشويه مع إدخال الضرر الذي قد يفضي إلى الهلاك. وفيه إبطال معنى الرجولية وتغيير خلق الله وكفر النعمة، لأن خلق الشخص رجلا من النعم العظيمة فإذا أزال ذلك فقد تشبه بالمرأة واختار النقص على الكمال. قال القرطبي: الخصاء في غير بني آدم ممنوع في الحيوان إلا لمنفعة حاصلة في ذلك كتطييب اللحم أو قطع ضرر عنه. وقال النووي: يحرم خصاء الحيوان غير المأكول مطلقا، وأما المأكول فيجوز في صغيره دون كبيره. وما أظنه يدفع ما ذكره القرطبي من إباحة ذلك في الحيوان الكبير عند إزالة الضرر. قوله: "ثم رخص لنا" في الرواية السابقة في تفسير المائدة "ثم رخص لنا بعد ذلك". قوله: "أن ننكح المرأة بالثوب" أي إلى أجل في نكاح المتعة. قوله: "ثم قرأ" في رواية مسلم: "ثم قرأ علينا عبد الله" وكذا وقع عند الإسماعيلي في تفسير المائدة. قوله : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ}. الآية" ساق الإسماعيلي إلى قوله: {الْمُعْتَدِينَ} وظاهر استشهاد ابن مسعود بهذه الآية هنا يشعر بأنه كان يرى بجواز المتعة، فقال القرطبي: لعله لم يكن حينئذ بلغه الناسخ، ثم بلغه فرجع بعد. قلت: يؤيده ما ذكره الإسماعيلي أنه وقع في رواية أبي معاوية عن إسماعيل بن أبي خالد "ففعله ثم ترك ذلك" قال: وفي رواية لابن عيينة عن إسماعيل "ثم جاء تحريمها بعد" وفي رواية معمر عن إسماعيل "ثم نسخ" وسيأتي مزيد البحث في حكم المتعة بعد أربعة وعشرين بابا. و قوله: "وقال أصبغ" كذا في جميع الروايات التي وقفت عليها، وكلام أبي نعيم في "المستخرج" يشعر بأنه قال فيه حديثا، وقد وصله جعفر الفريابي في كتاب القدر والجوزقي في "الجمع بين الصحيحين" والإسماعيلي من طرق عن أصبغ، وأخرجه أبو نعيم من طريق حرملة عن ابن وهب، وذكر مغلطاي أنه وقع عند الطبري رواه البخاري عن أصبغ بن محمد وهو غلط، هو أصبغ بن الفرج ليس في آبائه محمد. قوله: "إني رجل شاب وأنا أخاف" في رواية الكشميهني: "وإني أخاف" وكذا في رواية حرملة. قوله: "العنت" بفتح المهملة والنون ثم مثناة هو الزنا هنا، ويطلق الإثم والفجور والأمر الشاق والمكروه. وقال ابن الأنباري: أصل العنت الشدة. قوله: "ولا أجد ما أتزوج النساء، فسكت عني" كذا وقع. وفي رواية حرملة "ولا أجد ما أتزوج النساء، فائذن لي أختصي" وبهذا يرتفع الإشكال عن مطابقة الجواب للسؤال. قوله: "جف القلم بما أنت لاق" أي نفذ المقدور بما كتب في اللوح المحفوظ فبقي القلم الذي كتب به جافا لا مداد فيه لفراغ ما كتب به، قال عياض: كتابة الله ولوحه وقلمه من غيب علمه الذي نؤمن به ونكل علمه إليه. قوله: "فاختص على ذلك أو ذر" في رواية الطبري وحكاها الحميدي في الجمع ووقعت في المصابيح "فاقتصر على ذلك أو ذر" قال الطيبي: معناه اقتصر على الذي أمرتك به أو اتركه وافعل ما ذكرت من الخصاء ا ه. وأما اللفظ الذي وقع في الأصل فمعناه فافعل ما ذكرت أو اتركه واتبع ما أمرتك به، وعلى الروايتين فليس الأمر فيه لطلب الفعل بل هو للتهديد، وهو كقوله تعالى :{وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} والمعنى إن فعلت أو لم تفعل فلا بد من نفوذ القدر، وليس فيه تعرض لحكم الخصاء. ومحصل الجواب أن جميع الأمور بتقدير الله في الأزل، فالخصاء وتركه سواء، فإن الذي

(9/119)


قدر لا بد أن يقع. وقوله: "على ذلك" هي متعلقة بمقدر أي اختص حال استعلائك على العلم بأن كل شيء بقضاء الله وقدره، وليس إذنا في الخصاء، بل فيه إشارة إلى النهى عن ذلك، كأنه قال إذا علمت أن كل شيء بقضاء الله فلا فائدة في الاختصاء، وقد تقدم أنه صلى الله عليه وسلم نهى عثمان بن مظعون لما استأذنه في ذلك. وكانت وفاته قبل هجرة أبي هريرة بمدة. وأخرج الطبراني من حديث ابن عباس قال: "شكا رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العزوبة فقال ألا أختصي؟ قال: ليس منا من خصى أو اختصى" وفي الحديث ذم الاختصاء، وقد تقدم ما فيه وأن القدر إذا نفذ لا تنفع الحيل. وفيه مشروعية شكوى الشخص ما يقع له للكبير ولو كان مما يستهجن ويستقبح. وفيه إشارة إلى أن من لم يجد الصداق لا يتعرض للتزويج. وفيه جواز تكرار الشكوى إلى ثلاث، والجواب لمن لا يقنع بالسكوت، وجواز السكوت عن الجواب لمن يظن به أنه يفهم المراد من مجرد السكوت. وفيه استحباب أن يقدم طالب الحاجة بين يدي حاجته عذره في السؤال. وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة نفع الله به: ويؤخذ منه أن مهما أمكن المكلف فعل شيء من الأسباب المشروعة لا يتوكل إلا بعد عملها لئلا يخالف الحكمة، فإذا لم يقدر عليه وطن نفسه على الرضا بما قدره عليه مولاه ولا يتكلف من الأسباب ما لا طاقة به له. وفيه أن الأسباب إذا لم تصادف القدر لا تجدي. فإن قيل: لم لم يؤمر أبو هريرة بالصيام لكسر شهوته كما أمر غيره؟ فالجواب أن أبا هريرة كان الغالب من حاله ملازمة الصيام لأنه كان من أهل الصفة. قلت: ويحتمل أن يكون أبو هريرة سمع "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج" الحديث، لكنه إنما سأل عن ذلك في حال الغزو كما وقع لابن مسعود، وكانوا في حال الغزو يؤثرون الفطر على الصيام للتقوى على القتال، فأداه اجتهاده إلى حسم مادة الشهوة بالاختصاء كما ظهر لعثمان فمنعه صلى الله عليه وسلم من ذلك. وإنما لم يرشده إلى المتعة التي رخص فيها لغيره لأنه ذكر أنه لا يجد شيئا، ومن لم يجد شيئا أصلا لا ثوبا ولا غيره فكيف يستمتع والتي يستمتع بها لا بد لها من شيء.

(9/120)


10 - باب نِكَاحِ الأَبْكَارِ
وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِعَائِشَةَ لَمْ يَنْكِحْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكْرًا غَيْرَكِ
5077- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي أَخِي عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ لَوْ نَزَلْتَ وَادِيًا وَفِيهِ شَجَرَةٌ قَدْ أُكِلَ مِنْهَا وَوَجَدْتَ شَجَرًا لَمْ يُؤْكَلْ مِنْهَا فِي أَيِّهَا كُنْتَ تُرْتِعُ بَعِيرَكَ قَالَ فِي الَّذِي لَمْ يُرْتَعْ مِنْهَا تَعْنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَتَزَوَّجْ بِكْرًا غَيْرَهَا"
5078- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أُرِيتُكِ فِي الْمَنَامِ مَرَّتَيْنِ إِذَا رَجُلٌ يَحْمِلُكِ فِي سَرَقَةِ حَرِيرٍ فَيَقُولُ هَذِهِ امْرَأَتُكَ فَأَكْشِفُهَا فَإِذَا هِيَ أَنْتِ فَأَقُولُ إِنْ يَكُنْ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يُمْضِهِ"
قوله: "باب نكاح الأبكار" جمع بكر، وهي التي لم توطأ واستمرت على حالتها الأولى. قوله: "وقال ابن أبي

(9/120)


مليكة قال ابن عباس لعائشة: لم ينكح النبي صلى الله عليه وسلم بكرا غيرك" هذا طرف من حديث وصله المصنف في تفسير سورة النور. وقد تقدم الكلام عليه هناك. قوله: "حدثني أخي" هو عبد الحميد، وسليمان هو ابن بلال. قوله: "فيه شجرة قد أكل منها، ووجدت شجرا لم يؤكل منها" كذا لأبي ذر، ولغيره: "ووجدت شجرة" وذكره الحميدي بلفظ: "فيه شجرة قد أكل منها" وكذا أخرجه أبو نعيم في "المستخرج" بصيغة الجمع وهو أصوب لقوله بعد "في أيها" أي في أي الشجر، ولو أراد الموضعين لقال في أيهما. قوله: "ترتع" بضم أوله، أرتع بعيره إذا تركه يرعى ما شاء ورتع البعير في المرعى إذا أكل ما شاء ورتعه الله أي أنبت له ما يرعاه على سعة. قوله: "قال في التي لم يرتع منها" في رواية أبي نعيم "قال في الشجرة التي" وهو أوضح. وقوله: "يعني إلخ" زاد أبو نعيم قبل هذا "قالت فأنا هيه" بكسر الهاء وفتح التحتانية فسكون الهاء وهي للسكت، وفي هذا الحديث مشروعية ضرب المثل وتشبيه شيء موصوف بصفة بمثله مسلوب الصفة، وفيه بلاغة عائشة وحسن تأتيها في الأمور، ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: "في التي لم يرتع منها" أي أوثر ذلك في الاختيار على غيره، فلا يرد على ذلك كون الواقع منه أن الذي تزوج من الثيبات أكثر، ويحتمل أن تكون عائشة كنت بذلك عن المحبة بل عن أدق من ذلك. ذكر المصنف حديث عائشة "أريتك في المنام" سيأتي شرحه بعد ستة وعشرين بابا، ووقع في رواية الترمذي أن الملك الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بصورتها جبريل

(9/121)


11- باب تَزْوِيجِ الثَّيِّبَاتِ وَقَالَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ قَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ تَعْرِضْنَ عَلَيَّ بَنَاتِكُنَّ وَلاَ أَخَوَاتِكُنَّ
5079- حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ حَدَّثَنَا سَيَّارٌ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَفَلْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَزْوَةٍ فَتَعَجَّلْتُ عَلَى بَعِيرٍ لِي قَطُوفٍ فَلَحِقَنِي رَاكِبٌ مِنْ خَلْفِي فَنَخَسَ بَعِيرِي بِعَنَزَةٍ كَانَتْ مَعَهُ فَانْطَلَقَ بَعِيرِي كَأَجْوَدِ مَا أَنْتَ رَاءٍ مِنْ الإِبِلِ فَإِذَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مَا يُعْجِلُكَ قُلْتُ كُنْتُ حَدِيثَ عَهْدٍ بِعُرُسٍ قَالَ أَبِكْرًا أَمْ ثَيِّبًا قُلْتُ ثَيِّبًا قَالَ فَهَلاَ جَارِيَةً تُلاَعِبُهَا وَتُلاَعِبُكَ قَالَ فَلَمَّا ذَهَبْنَا لِنَدْخُلَ قَالَ أَمْهِلُوا حَتَّى تَدْخُلُوا لَيْلًا أَيْ عِشَاءً لِكَيْ تَمْتَشِطَ الشَّعِثَةُ وَتَسْتَحِدَّ الْمُغِيبَةُ"
5080- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا مُحَارِبٌ قَالَ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ تَزَوَّجْتُ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا تَزَوَّجْتَ فَقُلْتُ تَزَوَّجْتُ ثَيِّبًا فَقَالَ مَا لَكَ وَلِلْعَذَارَى وَلِعَابِهَا فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ فَقَالَ عَمْرٌو سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلاَ جَارِيَةً تُلاَعِبُهَا وَتُلاَعِبُكَ"
قوله: "باب تزويج الثيبات" جمع ثيبة بمثلثة ثم تحتانية ثقيلة مكسورة ثم موحدة، ضد البكر. قوله: "وقالت أم حبيبة قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: لا تعرضن على بناتكن ولا أخواتكن" هذا طرف من حديث سيأتي موصولا بعد عشرة أبواب، واستنبط المصنف الترجمة من قوله: "بناتكن" لأنه خاطب بذلك نساءه فاقتضى أن لهن بنات من غيره  فيستلزم أنهن ثيبات كما هو الأكثر الغالب. ذكر المصنف حديث جابر في قصة بعيره، وقد تقدم شرحه في الشروط فيما يتعلق بذلك. قوله: "ما يعجلك" بضم أوله، أي ما سبب إسراعك؟ قوله: "كنت حديث عهد بعرس" أي قريب عهد بالدخول على الزوجة. وفي رواية عطاء عن جابر في الوكالة "فلما دنونا من المدينة - على ساكنها أفضل الصلاة والسلام والتحية والإكرام - أخذت أرتحل، قال: أين تريد؟ قلت: تزوجت" وفي رواية أبي عقيل عن أبي المتوكل عن جابر "من أحب أن يتعجل إلى أهله فليتعجل" أخرجه مسلم. قوله: "قال أبكرا ثيبا؟ قلت: ثيبا" هو منصوب بفعل محذوف تقديره أتزوجت وتزوجت، وكذا وقع في ثاني حديث الباب: "فقلت تزوجت ثيبا" في رواية الكشميهني في الوكالة من طريق وهب بن كيسان عن جابر قال أتزوجت؟ قلت: نعم. قال بكرا أم ثيبا؟ قلت ثيبا. وفي المغازي عن قتيبة عن سفيان عن عمرو بن دينار عن جابر بلفظ: "هل نكحت يا جابر؟ قلت نعم قال: ماذا، أبكرا أم ثيبا؟ قلت: لا بل ثيبا" ووقع عند أحمد عن سفيان في هذا الحديث: "قلت: ثيب" وهو خبر مبتدأ محذوف تقديره التي تزوجتها ثيب، وكذا وقع لمسلم من طريق عطاء عن جابر. قوله: "فهلا جارية" في رواية وهب بن كيسان "أفلا جارية" وهما بالنصب أي فهلا تزوجت؟ وفي رواية يعقوب الدورقي عن هشام بإسناد حديث الباب: "هلا بكرا" ؟ وسيأتي قبيل أبواب الطلاق، وكذا لمسلم من طريق عطاء عن جابر، وهو معنى رواية محارب المذكورة في الباب بلفظ: "العذارى" وهو جمع عذراء بالمد. قوله: "تلاعبها وتلاعبك" زاد في رواية النفقات "وتضاحكها وتضاحكك" وهو مما يؤيد أنه من اللعب ووقع عند الطبراني من حديث كعب بن عجرة "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل" فذكر نحو حديث جابر وقال فيه: "وتعضها وتعضك" ووقع في رواية لأبي عبيدة "تداعبها وتداعبك" بالذال المعجمة بدل اللام، وأما ما وقع في رواية محارب بن دثار عن جابر ثاني حديثي الباب بلفظ: "مالك وللعذارى ولعابها" فقد ضبطه الأكثر بكسر اللام وهو مصدر من الملاعبة أيضا، يقال لاعب لعابا وملاعبة مثل قاتل قتالا ومقاتلة. ووقع في رواية المستملي بضم اللام والمراد به الريق، وفيه إشارة إلى مص لسانها ورشف شفتيها، وذلك يقع عند الملاعبة والتقبيل، وليس هو ببعيد كما قال القرطبي، ويؤيد أنه بمعنى آخر غير المعنى الأول قول شعبة في الباب أنه عرض ذلك على عمرو بن دينار فقال اللفظ الموافق للجماعة وفي رواية مسلم التلويح بإنكار عمرو رواية محارب بهذا اللفظ ولفظ: "إنما قال جابر تلاعبها وتلاعبك" فلو كانت الروايتان متحدتين في المعنى لما أنكر عمرو ذلك لأنه كان ممن يجيز الرواية بالمعنى، ووقع في رواية وهب بن كيسان من الزيادة "قلت كن لي أخوات فأحببت أن أتزوج امرأة تجمعهن وتمشطهن وتقوم عليهن" أي في غير ذلك من مصالحهن، وهو من العام بعد الخاص. وفي رواية عمرو عن جابر الآتية في النفقات "هلك أبي وترك سبع بنات - أو تسع بنات - فتزوجت ثيبا، كرهت أن أجيئهن بمثلهن. فقال: بارك الله لك" أو "قال خيرا" وفي رواية سفيان عن عمرو في المغازي "وترك تسع بنات كن لي تسع أخوات، فكرهت أن أجمع إليهن جارية خرقاء مثلهن، ولكن امرأة تقوم عليهن وتمشطهن. قال: أصبت" وفي رواية ابن جريج عن عطاء وغيره عن جابر "فأردت أن أنكح امرأة قد جربت خلا منها، قال فذلك" وقد تقدم التوفيق بين مختلف الروايات في عدد أخوات جابر في المغازي، ولم أقف على تسميتهن. وأما امرأة جابر المذكورة فاسمها سهلة بنت مسعود بن أوس بن مالك الأنصارية الأوسية ذكره ابن سعد. قوله: "فلما ذهبنا لندخل قال: امهلوا حتى تدخلوا ليلا أي عشاء" كذا هنا، ويعارضه الحديث الآخر الآتي

(9/122)


قبل أبواب الطلاق "لا يطرق أحدكم أهله ليلا" وهو من طريق الشعبي عن جابر أيضا، ويجمع بينهما أن الذي في الباب لمن علم مجيئه والعلم بوصوله، والآتي لمن قدم بغتة. ويؤيده قوله في الطريق الأخرى "يتخونهم بذلك" وسيأتي مزيد بحث فيه هناك. وفي الحديث الحث على نكاح البكر، وقد ورد بأصرح من ذلك عند ابن ماجه من طريق عبد الرحمن بن سالم بن عتبة بن عويم بن ساعدة عن أبيه عن جده بلفظ: "عليكم بالأبكار، فإنهن أعذب أفواها وأنتق أرحاما" أي أكثر حركة، والنتق بنون ومثناة الحركة، ويقال أيضا للرمي، فلعله يريد أنها كثيرة الأولاد. وأخرج الطبراني من حديث ابن مسعود نحوه وزاد: "وأرضى باليسير" ولا يعارضه الحديث السابق، "عليكم بالولود" من جهة أن كونها بكرا لا يعرف به كونها كثيرة الولادة، فإن الجواب عن ذلك أن البكر مظنة فيكون المراد بالولود من هي كثيرة الولادة بالتجربة أو بالمظنة، وأما من جربت فظهرت عقيما وكذا الآيسة فالخبران متفقان على مرجوحيتهما. وفيه فضيلة لجابر لشفقته على أخواته وإيثاره مصلحتهن على حظ نفسه. ويؤخذ منه أنه إذا تزاحمت مصلحتان قدم أهمهما لأن النبي صلى الله عليه وسلم صوب فعل جابر ودعا له لأجل ذلك. ويؤخذ منه الدعاء لمن فعل خيرا وإن لم يتعلق بالداعي. وفيه سؤال الإمام أصحابه عن أمورهم، وتفقده أحوالهم، وإرشاده إلى مصالحهم وتنبيههم على وجه المصلحة ولو كان في باب النكاح وفيما يستحيا من ذكره. وفيه مشروعية خدمة المرأة زوجها ومن كان منه بسبيل من ولد وأخ وعائلة، وأنه لا حرج على الرجل في قصده ذلك من امرأته وإن كان ذلك لا يجب عليها، لكن يؤخذ منه أن العادة جارية بذلك، فلذلك لم ينكره النبي صلى الله عليه وسلم. وقوله في الرواية المتقدمة "خرقاء" بفتح الخاء المعجمة وسكون الراء بعدها قاف، هي التي لا تعمل بيدها شيئا، وهي تأنيث الأخرق وهو الجاهل بمصلحة نفسه وغيره. قوله: "تمتشط الشعثة" بفتح المعجمة وكسر العين المهملة ثم مثلثة، أطلق عليها ذلك لأن التي يغيب زوجها في مظنة عدم التزين. قوله: "تستحد" بحاء مهملة أي تستعمل الحديدة وهي الموسى. والمغيبة بضم الميم وكسر المعجمة بعدها تحتانية ساكنة ثم موحدة مفتوحة أي التي غاب عنها زوجها، والمراد إزالة الشعر عنها وعبر بالاستحداد لأنه الغالب استعماله في إزالة الشعر، وليس في ذلك منع إزالته بغير الموسى، والله أعلم. قوله: "تزوجت، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تزوجت" ؟ هذا ظاهره أن السؤال وقع عقب تزوجه، وليس كذلك لما دل عليه سياق الحديث الذي قبله، وقد تقدم في الكلام على حديث جمل جابر في كتاب الشروط في آخره أن بين تزوجه والسؤال الذي دار بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم وفي ذلك مدة طويلة

(9/123)


12 - باب تَزْوِيجِ الصِّغَارِ مِنْ الْكِبَارِ
5081- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يَزِيدَ عَنْ عِرَاكٍ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ عَائِشَةَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ إِنَّمَا أَنَا أَخُوكَ فَقَالَ أَنْتَ أَخِي فِي دِينِ اللَّهِ وَكِتَابِهِ وَهِيَ لِي حَلاَلٌ"
قوله: "باب تزويج الصغار من الكبار" أي السن. قوله: "عن يزيد" هو ابن أبي حبيب، وعراك بكسر المهملة وتخفيف الراء ثم كاف هو ابن مالك تابعي شهير، وعروة هو ابن الزبير. قوله: "أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب

(9/123)


عائشة" قال الإسماعيلي: ليس في الرواية ما ترجم به الباب، وصغر عائشة عن كبر رسول الله صلى الله عليه وسلم معلوم من غير هذا الخبر، ثم الخبر الذي أورده مرسل، فإن كان يدخل مثل هذا في الصحيح فيلزمه في غيره من المراسيل. قلت: الجواب عن الأول يمكن أن يؤخذ من قول أبي بكر "إنما أنا أخوك" فإن الغالب في بنت الأخ أن تكون أصغر من عمها، وأيضا فيكفي ما ذكر في مطابقة الحديث للترجمة ولو كان معلوما من خارج. وعن الثاني أنه وإن كان صورة سياقه الإرسال فهو من رواية عروة في قصة وقعت لخالته عائشة وجده لأمه أبي بكر، فالظاهر أنه حمل ذلك عن خالته عائشة أو عن أمه أسماء بنت أبي بكر، وقد قال ابن عبد البر: إذا علم لقاء الراوي لمن أخبر عنه ولم يكن مدلسا حمل ذلك على سماعه ممن أخبر عنه ولو لم يأت بصيغة تدل على ذلك، ومن أمثلة ذلك رواية مالك عن ابن شهاب عن عروة في قصة سالم مولى أبي حذيفة، قال ابن عبد البر: هذا يدخل في المسند للقاء عروة عائشة وغيرها من نساء النبي صلى الله عليه وسلم وللقائه سهلة زوج أبي حذيفة أيضا. وأما الإلزام فالجواب عنه أن القصة المذكورة لا تشتمل على حكم متأصل، فوقع فيها التساهل في صريح الاتصال، فلا يلزم من ذلك إيراد جميع المراسيل في الكتاب الصحيح. نعم الجمهور على أن السياق المذكور مرسل، وقد صرح بذلك الدار قطني وأبو مسعود وأبو نعيم والحميدي. وقال ابن بطال. يجوز تزويج الصغيرة بالكبير إجماعا ولو كانت في المهد، لكن لا يمكن منها حتى تصلح للوطء، فرمز بهذا إلى أن لا فائدة للترجمة لأنه أمر مجمع عليه. قال: ويؤخذ من الحديث أن الأب يزوج البكر الصغيرة بغير استئذانها. قلت: كأنه أخذ ذلك من عدم ذكره، وليس بواضح الدلالة، بل يحتمل أن يكون ذلك قبل ورود الأمر باستئذان البكر وهو الظاهر، فإن القصة وقعت بمكة قبل الهجرة. وقول أبي بكر "إنما أنا أخوك" حصر مخصوص بالنسبة إلى تحريم نكاح بنت الأخ، وقوله صلى الله عليه وسلم في الجواب "أنت أخي في دين الله وكتابه" إشارة إلى قوله تعالى :{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} ونحو ذلك، وقوله: "وهي لي حلال" معناه وهي مع كونها بنت أخي يحل لي نكاحها لأن الأخوة المانعة من ذلك أخوة النسب والرضاع لا أخوة الدين. وقال مغلطاي: في صحة هذا الحديث نظر، لأن الخلة لأبي بكر إنما كانت بالمدينة، وخطبة عائشة كانت بمكة، فكيف يلتئم قوله: "إنما أنا أخوك". وأيضا فالنبي صلى الله عليه وسلم ما باشر الخطبة بنفسه كما أخرجه ابن أبي عاصم من طريق يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عن عائشة "أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل خولة بنت حكيم إلى أبي بكر يخطب عائشة، فقال لها أبو بكر: وهل تصلح له؟ إنما هي بنت أخيه، فرجعت فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال لها: أرجعي فقولي له أنت أخي في الإسلام وابنتك تصلح لي، فأتيت أبا بكر فذكرت ذلك له فقال: ادعى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء فأنكحه" قلت: اعتراضه الثاني يرد الاعتراض الأول من وجهين، إذ المذكور في الحديث الأخوة وهي أخوة الدين، والذي اعترض به الخلة وهي أخص من الأخوة. ثم الذي وقع بالمدينة إنما هو قوله صلى الله عليه وسلم: "لو كنت متخذا خليلا" الحديث الماضي في المناقب من رواية أبي سعيد، فليس فيه إثبات الخلة إلا بالقوة لا بالفعل. الوجه الثاني أن في الثاني إثبات ما نفاه في الأول، والجواب عن اعتراضه بالمباشرة إمكان الجمع بأنه خاطب بذلك بعد أن راسله

(9/124)


13- باب إِلَى مَنْ يَنْكِحُ وَأَيُّ النِّسَاءِ خَيْرٌ؟
وَمَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَخَيَّرَ لِنُطَفِهِ مِنْ غَيْرِ إِيجَابٍ

(9/124)


5082- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "خَيْرُ نِسَاءٍ رَكِبْنَ الإِبِلَ صَالِحُ نِسَاءِ قُرَيْشٍ أَحْنَاهُ عَلَى وَلَدٍ فِي صِغَرِهِ وَأَرْعَاهُ عَلَى زَوْجٍ فِي ذَاتِ يَدِهِ"
قوله: "باب إلى من ينكح، وأي النساء خير؟ وما يستحب أن يتخير لنطفه من غير إيجاب" اشتملت الترجمة على ثلاثة أحكام، وتناول الأول والثاني من حديث الباب واضح، وأن الذي يريد التزويج ينبغي أن ينكح إلى قريش لأن نساءهن خير النساء وهو الحكم الثاني، وأما الثالث فيؤخذ منه بطريق اللزوم لأن من ثبت أنهن خير من غيرهن استحب تخيرهن للأولاد، وقد ورد في الحكم الثالث حديث صريح أخرجه ابن ماجة وصححه الحاكم من حديث عائشة مرفوعا: "تخيروا لنطفكم وانكحوا الأكفاء" وأخرجه أبو نعيم من حديث عمر أيضا وفي إسناده مقال، ويقوى أحد الإسنادين بالآخر. قوله: "خير نساء ركبن الإبل" تقدم في أواخر أحاديث الأنبياء في ذكر مريم عليها السلام قول أبي هريرة في آخره: "ولم تركب مريم بنت عمران بعيرا قط" فكأنه أراد إخراج مريم من هذا التفضيل لأنها لم تركب بعيرا قط، فلا يكون فيه تفضيل نساء قريش عليها، ولا يشك أن لمريم فضلا وأنها أفضل من جميع نساء قريش إن ثبت أنها نبية أو من أكثرهن إن لم تكن نبية، وقد تقدم بيان ذلك في المناقب في حديث: "خير نسائها مريم وخير نسائها خديجة" وأن معناها أن كل واحدة منهما خير نساء الأرض في عصرها، ويحتمل أن لا يحتاج في إخراج مريم من هذا التفضيل إلى الاستنباط من قوله: "ركبن الإبل" لأن تفضيل الجملة لا يستلزم ثبوت كل فرد فرد منها، فإن قوله: "ركبن الإبل" إشارة إلى العرب لأنهم الذين يكثر منهم ركوب الإبل، وقد عرف أن العرب خير من غيرهم مطلقا في الجملة فيستفاد منه تفضيلهن مطلقا على نساء غيرهن مطلقا، ويمكن أن يقال أيضا: إن الظاهر أن الحديث سيق في معرض الترغيب في نكاح القرشيات، فليس فيه التعرض لمريم ولا لغيرها ممن انقضى زمنهن. قوله: "صالح نساء قريش" كذا للأكثر بالإفراد. وفي رواية غير الكشميهني: "صلح" بضم أوله وتشديد اللام بصيغة الجمع، وسيأتي في أواخر النفقات من وجه آخر عن أبي هريرة بلفظ: "نساء قريش" والمطلق محمول على المقيد. فالمحكوم له بالخيرية الصالحات من نساء قريش لا على العموم، والمراد بالصلاح هنا صلاح الدين، وحسن المخالطة مع الزوج ونحو ذلك. قوله: "أحناه" بسكون المهملة بعدها نون: أكثره شفقة، والحانية على ولدها هي التي تقوم عليهم في حال يتمهم فلا تتزوج، فإن تزوجت فليست بحانية قاله الهروي؛ وجاء الضمير مذكرا وكان القياس أحناهن، وكأنه ذكر باعتبار اللفظ والجنس أو الشخص أو الإنسان، وجاء نحو ذلك في حديث أنس "كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وجها وأحسنه خلقا، بالإفراد في الثاني وحديث ابن عباس في قول أبي سفيان عندي أحسن العرب وأجمله أم حبيبة بالإفراد في الثاني أيضا، قال أبو حاتم السجستاني: لا يكادون يتكلمون به إلا مفردا. قوله: "على ولده" في رواية الكشميهني: "على ولد" بلا ضمير وهو أوجه، ووقع في رواية لمسلم: "على يتيم" وفي أخرى "على طفل" والتقييد باليتم والصغر يحتمل أن يكون معتبرا من ذكر بعض أفراد العموم، لأن صفة الحنو على الولد ثابتة لها، لكن ذكرت الحالتان لكونهما أظهر في ذلك قوله: "وأرعاه على زوج" أي أحفظ وأصون لماله بالأمانة فيه والصيانة له وترك التبذير في الإنفاق. قوله: "في

(9/125)


ذات يده" أي في ماله المضاف إليه، ومنه قولهم فلان قليل ذات اليد أي قليل المال، وفي الحديث الحث على النكاح الأشراف خصوصا القرشيات، ومقتضاه أنه كلما كان نسبها أعلى تأكد الاستحباب. ويؤخذ منه اعتبار الكفاءة في النسب، وأن غير القرشيات ليس كفأ لهن، وفضل الحنو والشفقة وحسن التربية والقيام على الأولاد وحفظ مال الزوج وحسن التدبير فيه. ويؤخذ منه مشروعية إنفاق الزوج على زوجته، وسيأتي في أواخر النفقات بيان سبب هذا الحديث.

(9/126)


باب اتخاذ السراري ومن أعتق جارية ثم تزوجها
...
14- باب اتِّخَاذِ السَّرَارِيِّ وَمَنْ أَعْتَقَ جَارِيَتَهُ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا
5083- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا صَالِحُ بْنُ صَالِحٍ الْهَمْدَانِيُّ حَدَّثَنَا الشَّعْبِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَيُّمَا رَجُلٍ كَانَتْ عِنْدَهُ وَلِيدَةٌ فَعَلَّمَهَا فَأَحْسَنَ تَعْلِيمَهَا وَأَدَّبَهَا فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهَا ثُمَّ أَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا فَلَهُ أَجْرَانِ وَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمَنَ بِنَبِيِّهِ وَآمَنَ بِي فَلَهُ أَجْرَانِ وَأَيُّمَا مَمْلُوكٍ أَدَّى حَقَّ مَوَالِيهِ وَحَقَّ رَبِّهِ فَلَهُ أَجْرَانِ قَالَ الشَّعْبِيُّ خُذْهَا بِغَيْرِ شَيْءٍ قَدْ كَانَ الرَّجُلُ يَرْحَلُ فِيمَا دُونَهَا إِلَى الْمَدِينَةِ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ أَبِي حَصِينٍ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْتَقَهَا ثُمَّ أَصْدَقَهَا"
5084- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ تَلِيدٍ قَالَ أَخْبَرَنِي ابْنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم:" ح حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ إِلاَّ ثَلاَثَ كَذَبَاتٍ بَيْنَمَا إِبْرَاهِيمُ مَرَّ بِجَبَّارٍ وَمَعَهُ سَارَةُ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ فَأَعْطَاهَا هَاجَرَ قَالَتْ كَفَّ اللَّهُ يَدَ الْكَافِرِ وَأَخْدَمَنِي هآجَرَ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَتِلْكَ أُمُّكُمْ يَا بَنِي مَاءِ السَّمَاءِ"
5085- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ أَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ خَيْبَرَ وَالْمَدِينَةِ ثَلاَثًا يُبْنَى عَلَيْهِ بِصَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ فَدَعَوْتُ الْمُسْلِمِينَ إِلَى وَلِيمَتِهِ فَمَا كَانَ فِيهَا مِنْ خُبْزٍ وَلاَ لَحْمٍ أُمِرَ بِالأَنْطَاعِ فَأَلْقَى فِيهَا مِنْ التَّمْرِ وَالأَقِطِ وَالسَّمْنِ فَكَانَتْ وَلِيمَتَهُ فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ أَوْ مِمَّا مَلَكَتْ يَمِينُهُ فَقَالُوا إِنْ حَجَبَهَا فَهِيَ مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ وَإِنْ لَمْ يَحْجُبْهَا فَهِيَ مِمَّا مَلَكَتْ يَمِينُهُ فَلَمَّا ارْتَحَلَ وَطَّى لَهَا خَلْفَهُ وَمَدَّ الْحِجَابَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّاسِ"
قوله: "باب اتخاذ السراري" جمع سرية بضم السين وكسر الراء الثقيلة ثم تحتانية ثقيلة وقد تكسر السين أيضا سميت بذلك لأنها مشتقة من التسرر، وأصله من السر وهو من أسماء الجماع، ويقال له الاستسرار أيضا، أو أطلق عليها ذلك لأنها في الغالب يكتم أمرها عن الزوجة. والمراد بالاتخاذ الاقتناء، وقد ورد الأمر بذلك صريحا

(9/126)


في حديث أبي الدرداء مرفوعا: "عليكم بالسراري فإنهن مباركات الأرحام" أخرجه الطبراني وإسناده واه ولأحمد من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعا: "انكحوا أمهات الأولاد فإني أباهي بكم يوم القيامة" وإسناده أصلح من الأول. لكنه ليس بصريح في التسري. قوله: "ومن أعتق جارية ثم تزوجها" عطف هذا الحكم على الاقتناء لأنه قد يقع بعد التسري وقبله، وأول أحاديث الباب منطبق على هذا الشق الثاني. ثم ذكر في الباب ثلاثة أحاديث. حديث أبي موسى، قد تقدم شرحه في كتاب العلم. وقوله في هذه الطريق "أيما رجل كانت عنده وليدة" أي أمة، وأصلها ما ولد من الإماء في ملك الرجل، ثم أطلق ذلك على كل أمة. قوله: "فله أجران" ذكر ممن يحصل لهم تضعيف الأجر مرتين ثلاثة أصناف: متزوج الأمة بعد عتقها، ومؤمن أهل الكتاب وقد تقدم البحث فيه في كتاب العلم، والمملوك الذي يؤدي حق الله وحق مواليه وقد تقدم في العتق. ووقع في حديث أبي أمامة رفعه عند الطبراني "أربعة يؤتون أجرهم مرتين" فذكر الثلاثة كالذي هنا وزاد أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وتقدم في التفسير حديث الماهر بالقرآن، والذي يقرأ وهو عليه شاق، وحديث زينب امرأة ابن مسعود في التي تتصدق على قريبها لها أجران أجر الصدقة وأجر الصلة، وقد تقدم في الزكاة. وحديث عمرو بن العاص في الحاكم إذا أصاب له أجران وسيأتي في الأحكام؛ وحديث جرير "من سن سنة حسنة" وحديث أبي هريرة "من دعا إلى هدى" وحديث أبي مسعود "من دل على خير" والثلاثة بمعنى وهن في الصحيحين. ومن ذلك حديث أبي سعيد في الذي تيمم ثم وجد الماء فأعاد الصلاة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "لك الأجر مرتين" أخرجه أبو داود. وقد يحصل بمزيد التتبع أكثر من ذلك. وكل هذا دال على أن لا مفهوم للعدد المذكور في حديث أبي موسى. وفيه دليل على مزيد فضل من أعتق أمته ثم تزوجها سواء أعتقها ابتداء لله أو لسبب. وقد بالغ قوم فكرهوه فكأنهم لم يبلغهم الخبر، فمن ذلك ما وقع في رواية هشيم عن صالح بن صالح الراوي المذكور وفيه قال: "رأيت رجلا من أهل خراسان سأل الشعبي فقال: إن من قبلنا من أهل خراسان يقولون في الرجل إذا أعتق أمته ثم تزوجها فهو كالراكب بدنته. فقال الشعبي" فذكر هذا الحديث. وأخرج الطبراني بإسناد رجاله ثقات عن ابن مسعود أنه كان يقول ذلك. وأخرج سعيد بن منصور عن ابن عمر مثله: وعند ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن أنس أنه سئل عنه فقال: "إذا أعتق أمته لله فلا يعود فيها" ومن طريق سعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي أنهما كرها ذلك. وأخرج أيضا من طريق عطاء والحسن أنهما كانا لا يريان بذلك بأسا. قوله: "وقال أبو بكر" هو ابن عياش بتحتانية وآخره معجمة، وأبو حصين هو عثمان بن عاصم "عن أبي بردة" هو ابن أبي موسى. وهذا الإسناد مسلسل بالكوفيين وبالكنى. قوله: "عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أعتقها ثم أصدقها" كأنه أشار بهذه الرواية إلى أن المراد بالتزويج في الرواية الأخرى أن يقع بمهر جديد سوى العتق، لا كما وقع في قصة صفية كما سيأتي في الباب الذي بعده، فأفادت هذه الطريق ثبوت الصداق، فإنه لم يقع التصريح به في الطريق الأولى بل ظاهرها أن يكون العتق نفس المهر. وقد وصل طريق أبي بكر بن عياش هذه أبو داود الطيالسي في مسنده عنه فقال: "حدثنا أبو بكر الخياط" فذكره بإسناده بلفظ: "إذا أعتق الرجل أمته ثم أمهرها مهرا جديدا كان له أجران، وكأن أبا بكر كان يتعانى الخياطة في وقت، وهو أحد الحفاظ المشهورين في الحديث، والقراء المذكورين في القراءة، وأحد الرواة عن عاصم وله اختيار. وقد احتج به البخاري ووصله من طريقه أيضا الحسن بن سفيان وأبو بكر البزار في مسنديهما عنه، وأخرجه الإسماعيلي عن الحسن

(9/127)


ولفظه عنده "ثم تزوجها بمهر جديد" وكذا أخرجه يحيى بن عبد الحميد الحماني في مسنده عن أبي بكر بهذا اللفظ، ولم يقع لابن حزم إلا من رواية الحماني فضعف هذه الزيادة به ولم يصب. وذكر أبو نعيم أن أبا بكر تفرد بها عن أبي حصين، وذكر الإسماعيلي أن فيه اضطرابا على أبي بكر بن عياش، كأنه عنى في سياق المتن لا في الإسناد، وليس ذلك الاختلاف اضطرابا لأنه يرجع إلى معنى واحد وهو ذكر المهر، واستدل به على أن عتق الأمة لا يكون نفس الصداق، ولا دلالة فيه، بل هو شرط لما يترتب عليه الأجران المذكوران، وليس قيدا في الجواز. "تنبيه": وقع في رواية أبي زيد المروزي "عن أبي بردة عن أبيه عن أبي موسى" والصواب ما عند الجماعة "عن أبيه أبي موسى" بحذف عن التي قبل أبي موسى. قوله: "حدثنا سعد بن تليد" بفتح المثناة وكسر اللام الخفيفة وسكون التحتانية بعدها مهملة، مصري مشهور، وكذا شيخه، وبقية الإسناد إلى أبي هريرة من أهل البصرة، ومحمد هو ابن سيرين. وقوله في الرواية الثانية "عن أيوب عن محمد" كذا للأكثر، ووقع لأبي ذر بدله "عن مجاهد" وهو خطأ، وقد تقدم في أحاديث الأنبياء "عن محمد بن محبوب عن حماد بن زيد" على الصواب لكنه ساقه هناك موقوفا، واختلف هنا الرواة: فوقع في رواية كريمة والنسفي موقوفا أيضا، ولغيرهما مرفوعا، وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق سليمان بن حرب شيخ البخاري فيه موقوفا، وكذا ذكر أبو نعيم أنه وقع هنا للبخاري موقوفا، وبذلك جزم الحميدي، وأظنه الصواب في رواية حماد عن أيوب، وأن ذلك هو السر في إيراد رواية جرير بن حازم مع كونها نازلة، ولكن الحديث في الأصل ثابت الرفع، لكن ابن سيرين كان يقف كثيرا من حديثه تخفيفا. وأغرب المزي فعزا رواية حماد هذه هنا إلى رواية ابن رميح عن الفربري، وغفل عن ثبوتها في رواية أبي ذر والأصيلي وغيرهما من الرواة من طريق الفربري حتى في رواية أبي الوقت، وهي ثابتة أيضا في رواية النسفي. فما أدرى ما وجه تخصيص ذلك برواية ابن رميح. قوله: "لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات الحديث "ساقه مختصرا هنا، وقد تقدم شرحه مستوفى في ترجمة إبراهيم من أحاديث الأنبياء، قال ابن المنير: مطابقة حديث هاجر للترجمة أنها كانت مملوكة، وقد صح أن إبراهيم أولدها بعد أن ملكها فهي سرية. قلت: إن أراد أن ذلك وقع صريحا في الصحيح فليس بصحيح، وإنما الذي في الصحيح أن سارة ملكتها وأن إبراهيم أولدها إسماعيل، وكونه ما كان بالذي يستولد أمة امرأته إلا بملك مأخوذ من خارج الحديث غير الذي في الصحيح، وقد ساقه أبو يعلي في مسنده من طريق هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة في هذا الحديث قال في آخره: "فاستوهبها إبراهيم من سارة، فوهبتها له" ووقع في حديث حارثة بن مضرب عن علي عند الفاكهي "إن إبراهيم استوهب هاجر من سارة فوهبتها له وشرطت عليه أن لا يسرها فالتزم ذلك، ثم غارت منها فكان ذلك السبب في تحويلها مع ابنها إلى مكة" وقد تقدم شيء من ذلك في أحاديث الأنبياء. حديث أنس قال: "أقام النبي صلى الله عليه وسلم بين خيبر والمدينة ثلاثا" الحديث، وفيه "فقال المسلمون إحدى أمهات المؤمنين، أو مما ملكت يمينه" ووقع في رواية حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس عند مسلم: "فقال الناس: لا ندري أتزوجها أم اتخذها أم ولد" وشاهد الترجمة منه تردد الصحابة في صفية هل هي زوجة أو سرية فيطابق أحد ركني الترجمة، قال بعض الشراح: دل تردد الصحابة في صفية هل هي زوجة أو سرية على أن عتقها لم يكن نفس الصداق، كذا قال: وهو متعقب بأن التردد إنما كان في أول الحال ثم ظهر بعد ذلك أنها زوجة، وليس فيه دلالة لما ذكر. واستدل به على صحة النكاح بغير

(9/128)


شهود لأنه لو حضر في تزويج صفية شهود لما خفي عن الصحابة حتى يترددوا، ولا دلالة فيه أيضا لاحتمال أن الذين حضروا التزويج غير الذين ترددوا، وعلى تسليم أن يكون الجميع ترددوا فذلك مذكور من خصائصه صلى الله عليه وسلم أنه يتزوج بلا ولي ولا شهود كما وقع في قصة زينب بنت جحش، وقد سبق شرح أول الحديث في غزوة خيبر من كتاب المغازي، ويأتي ما يتعلق بالعتق في الذي بعده

(9/129)


15- باب مَنْ جَعَلَ عِتْقَ الأَمَةِ صَدَاقَهَا
5086- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ ثَابِتٍ وَشُعَيْبِ بْنِ الْحَبْحَابِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْتَقَ صَفِيَّةَ وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا"
قوله: "باب من جعل عتق الأمة صداقها" كذا أورده غير جازم بالحكم، وقد أخذ بظاهره من القدماء سعيد بن المسيب وإبراهيم وطاوس والزهري، ومن فقهاء الأمصار الثوري وأبو يوسف وأحمد وإسحاق، قالوا إذا أعتق أمته على أن يجعل عتقها صداقها صح العقد والعتق والمهر على ظاهر الحديث. وأجاب الباقون عن ظاهر الحديث بأجوبة أقربها أي لفظ الحديث أنه أعتقها بشرط أن يتزوجها فوجبت له عليها قيمتها وكانت معلومة فتزوجها بها. ويؤيده قوله في رواية عبد العزيز بن صهيب "سمعت أنسا قال: سبى النبي صلى الله عليه وسلم صفية فأعتقها وتزوجها. فقال ثابت لأنس: ما أصدقها قال نفسها، فأعتقها" هكذا أخرجه المصنف في المغازي. وفي رواية حماد عن ثابت وعبد العزيز عن أنس في حديث: "قال وصارت صفية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم تزوجها وجعل عتقها صداقها، فقال عبد العزيز لثابت: يا أبا محمد، أنت سألت أنسا ما أمهرها؟ قال: أمهرها نفسها. فتبسم. فهو ظاهر جدا في أن المجهول مهرا هو نفس العتق، فالتأويل الأول لا بأس به، فإنه لا منافاة بينه وبين القواعد حتى لو كانت القيمة مجهولة، فإن في صحة العقد بالشرط المذكور وجها عند الشافعية. وقال آخرون: بل جعل نفس العتق المهر، ولكنه من خصائصه وممن جزم بذلك الماوردي. وقال آخرون: قوله:" أعتقها وتزوجها، معناه أعتقها ثم تزوجها، فلما لم يعلم أنه ساق لها صداقا قال أصدقها نفسها، أي لم يصدقها شيئا فيما أعلم، ولم ينف أصل الصداق، ومن ثم قال أبو الطيب الطبري من الشافعية وابن المرابط من المالكية ومن تبغهما: أنه قول أنس، قاله ظنا من قبل نفسه ولم يرفعه. وربما تأيد ذلك عندهم بما أخرجه البيهقي من حديث أميمة - ويقال أمة الله - بنت رزينة عن أمها "أن النبي صلى الله عليه وسلم أعتق صفية وخطبها وتزوجها وأمهرها رزينة، وكان أتى بها مسبية من قريظة والنضير" وهذا لا يقوم به حجة لضعف إسناده، ويعارضه ما أخرجه الطبراني وأبو الشيخ من حديث صفية نفسها قالت: "أعتقني النبي صلى الله عليه وسلم وحصل عتقي صداقي" وهذا موافق لحديث أنس، وفيه رد على من قال إن أنسا قال ذلك بناء على ما ظنه. وقد خالف هذا الحديث أيضا ما عليه كافة أهل السير أن صفية من سبى خيبر. ويحتمل أن يكون أعتقها بشرط أن ينكحها بغير مهر فلزمها الوفاء بذلك، وهذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم غيره. وقيل يحتمل أنه أعتقها بغير عوض وتزوجها بغير مهر في الحال ولا في المال، قال ابن الصلاح: معناه أن العتق يحل محل الصداق وإن لم يكن صداقا، قال: وهذا كقولهم "الجوع زاد من لا زاد له" قال وهذا الوجه أصح الأوجه وأقربها إلى لفظ الحديث، وتبعه النووي في "الروضة". ومن المستغربات قول الترمذي بعد أن أخرج الحديث: وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق،

(9/129)


قال: وكره بعض أهل العلم أن يجعل عتقها صداقها حتى يجعل لها مهرا سوى العتق، والقول الأول أصح. وكذا نقل ابن حزم عن الشافعي. والمعروف عند الشافعية أن ذلك لا يصح، لكن لعل مراد من نقله عنه صورة الاحتمال الأول، ولا سيما نص الشافعي على أن من أعتق أمته على أن يتزوجها فقبلت عتقت ولم يلزمها أن تتزوج به، لكن يلزمها له قيمتها، لأنه لم يرض بعتقها مجانا فصار كسائر الشروط الفاسدة، فإن رضيت وتزوجته على مهر يتفقان عليه كان لها ذلك المسمى وعليها له قيمتها. فإن اتحدا تقاصا. وممن قال بقول أحمد من الشافعية ابن حبان صرح بذلك في صحيحه، قال ابن دقيق العيد: الظاهر مع أحمد ومن وافقه، والقياس مع الآخرين؛ فيتردد الحال بين ظن نشأ عن قياس وبين ظن نشأ عن ظاهر الخبر مع ما تحتمله الواقعة من الخصوصية، وهي وإن كانت على خلاف الأصل لكن يتقوى ذلك بكثرة خصائص النبي صلى الله عليه وسلم في النكاح، وخصوصا خصوصيته بتزويج الواهبة من قوله تعالى :{وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} الآية. وممن جزم بأن ذلك كان من الخصائص يحيى بن أكثم فيما أخرجه البيهقي قال: وكذا نقله المزني عن الشافعي. قال: وموضع الخصوصية أنه أعتقها مطلقا وتزوجها بغير مهر ولا ولي ولا شهود، وهذا بخلاف غيره. وقد أخرج عبد الرزاق جواز ذلك عن علي وجماعة من التابعين. ومن طريق إبراهيم النخعي قال: كانوا يكرهون أن يعتق أمته ثم يتزوجها، ولا يرون بأسا أن يجعل عتقها صداقها. وقال القرطبي: منع من ذلك مالك وأبو حنيفة لاستحالته، وتقرر استحالته بوجهين: أحدهما أن عقدها على نفسها إما أن يقع قبل عتقها وهو محال لتناقض الحكمين الحرية والرق، فإن الحرية حكمها الاستقلال والرق ضده، وأما بعد العتق فلزوال حكم الجبر عنها بالعتق، فيجوز أن لا ترضي وحينئذ لا تنكح إلا برضاها. الوجه الثاني أنا إذا جعلنا العتق صداقا فإما أن يتقرر العتق حالة الرق وهو محال لتناقضهما، أو حالة الحرية فيلزم أسبقيته على العقد، فيلزم وجود العتق حالة فرض عدمه وهو محال، لأن الصداق لا بد أن يتقدم تقرره على الزوج إما نصا وإما حكما حتى تملك الزوجة طلبه. فإن اعتلوا بنكاح التفويض فقد تحرزنا عنه بقولنا حكما، فإنها وإن لم يتعين لها حالة العقد شيء لكنها تملك المطالبة فثبت أنه يثبت لها حالة العقد شيء تطالب به الزوج، ولا يتأتى مثل ذلك في العتق فاستحال أن يكون صداقا. وتعقب ما ادعاه من الاستحالة بجواز تعليق الصداق على شرط إذا وجد استحقته المرأة كأن يقول تزوجتك على ما سيستحق لي عند فلان وهو كذا، فإذا حل المال الذي وقع العقد عليه استحقته. وقد أخرج الطحاوي من طريق نافع عن ابن عمر في قصة جويرية بنت الحارث "أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل عتقها صداقها" وهو مما يتأيد به حديث أنس، لكن أخرج أبو داود من طريق عروة عن عائشة في قصة جويرية "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها لما جاءت تستعين به في كتابتها: هل لك أن أقضي عنك كتابتك وأتزوجك؟ قالت: قد فعلت" وقد استشكله ابن حزم بأنه يلزم منه إن كان أدى عنها كتابتها أن يصير ولاؤها لمكاتبها. وأجيب بأنه ليس في الحديث التصريح بذلك، لأن معنى قولها "قد فعلت" رضيت، فيحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم عوض ثابت بن قيس عنها فصارت له فأعتقها وتزوجها كما صنع في قصة صفية، أو يكون ثابت لما بلغته رغبة النبي صلى الله عليه وسلم وهبها له، وفي الحديث: للسيد تزويج أمته إذا أعتقها من نفسه ولا يحتاج إلى ولي ولا حاكم. وفيه اختلاف يأتي في "باب إذا كان الولي هو الخاطب" بعد نيف وعشرين بابا. قال ابن الجوزي: فإن قيل ثواب العتق عظيم، فكيف فوته حيث جعله مهرا؟ وكان يمكن جعل المهر غيره، فالجواب أن صفية بنت ملك، ومثلها لا يقنع إلا بالمهر الكثير،

(9/130)


ولم يكن عنده صلى الله عليه وسلم إذ ذاك ما يرضيها به، ولم ير أن يقتصر، فجعل صداقها نفسها، وذلك عندها أشرف من المال الكثير

(9/131)


15 -باب تَزْوِيجِ الْمُعْسِرِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}
5087- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ جَاءَتْ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ جِئْتُ أَهَبُ لَكَ نَفْسِي قَالَ فَنَظَرَ إِلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَعَّدَ النَّظَرَ فِيهَا وَصَوَّبَهُ ثُمَّ طَأْطَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأْسَهُ فَلَمَّا رَأَتْ الْمَرْأَةُ أَنَّهُ لَمْ يَقْضِ فِيهَا شَيْئًا جَلَسَتْ فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكَ بِهَا حَاجَةٌ فَزَوِّجْنِيهَا فَقَالَ وَهَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَيْءٍ قَالَ لاَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ اذْهَبْ إِلَى أَهْلِكَ فَانْظُرْ هَلْ تَجِدُ شَيْئًا فَذَهَبَ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ لاَ وَاللَّهِ مَا وَجَدْتُ شَيْئًا فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: انْظُرْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ فَذَهَبَ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ لاَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلاَ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ وَلَكِنْ هَذَا إِزَارِي قَالَ سَهْلٌ مَا لَهُ رِدَاءٌ فَلَهَا نِصْفُهُ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا تَصْنَعُ بِإِزَارِكَ إِنْ لَبِسْتَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا مِنْهُ شَيْءٌ وَإِنْ لَبِسَتْهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ مِنْهُ شَيْءٌ فَجَلَسَ الرَّجُلُ حَتَّى إِذَا طَالَ مَجْلِسُهُ قَامَ فَرَآهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُوَلِّيًا فَأَمَرَ بِهِ فَدُعِيَ فَلَمَّا جَاءَ قَالَ مَاذَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ قَالَ مَعِي سُورَةُ كَذَا وَسُورَةُ كَذَا عَدَّدَهَا فَقَالَ تَقْرَؤُهُنَّ عَنْ ظَهْرِ قَلْبِكَ قَالَ نَعَمْ قَالَ اذْهَبْ فَقَدْ مَلَّكْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ"
قوله: "باب تزويج المعسر" تقدم في أوائل كتاب النكاح "باب تزويج المعسر الذي معه القرآن والإسلام، وهذه الترجمة أخص من تلك، وعلق هناك حديث سهل الذي أورده في هذا الباب مبسوطا، وسيأتي شرحه بعد ثلاثين بابا. قوله: "لقوله تعالى: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} هو تعليل لحكم الترجمة، ومحصله أن الفقر في الحال لا يمنع التزويج، لاحتمال حصول المال في المآل، والله أعلم

(9/131)


17- باب الأَكْفَاءِ فِي الدِّينِ
وَقَوْلُهُ: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنْ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا}
5088- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ أَبَا حُذَيْفَةَ بْنَ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ وَكَانَ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبَنَّى سَالِمًا وَأَنْكَحَهُ بِنْتَ أَخِيهِ هِنْدَ بِنْتَ الْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَهُوَ مَوْلًى لِامْرَأَةٍ مِنْ الأَنْصَارِ كَمَا تَبَنَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْدًا وَكَانَ مَنْ تَبَنَّى رَجُلًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ دَعَاهُ النَّاسُ إِلَيْهِ وَوَرِثَ مِنْ مِيرَاثِهِ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} إِلَى قَوْلِهِ:

(9/131)


18- باب الأَكْفَاءِ فِي الْمَالِ وَتَزْوِيجِ الْمُقِلِّ الْمُثْرِيَةَ
5092- حدثني يحيى بن بكير حدثنا الليث عن عقيل عن بن شهاب قال أخبرني عروة أنه ثم سأل عائشة رضي الله عنها {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} قالت يا بن أختي هذه اليتيمة تكون في حجر وليها فيرغب في جمالها ومالها ويريد أن ينتقص صداقها فنهوا عن نكاحهن إلا أن يقسطوا في إكمال

(9/136)


الصداق وامروا بنكاح من سواهن قالت واستفتى الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك فأنزل الله {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ} إلى {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} فأنزل الله لهم أن اليتيمة إذا كانت ذات جمال ومال رغبوا في نكاحها ونسبها في إكمال الصداق وإذا كانت مرغوبة عنها في قلة المال والجمال تركوها وأخذوا غيرها من النساء يتركونها حين يرغبون عنها فليس لهم أن ينكحوها إذا رغبوا فيها إلا أن يقسطوا لها ويعطوها حقها الأوفى في الصداق"
قوله: "باب الأكفاء في المال، وتزوج المقل المثرية" أما اعتبار الكفاءة بالمال فمختلف فيه عند من يشترط الكفاءة، والأشهر عند الشافعية أنه لا يعتبر، ونقل صاحب "الإفصاح" عن الشافعي أنه قال: الكفاءة في الدين والمال والنسب. وجزم باعتباره أبو الطيب والصيمري وجماعة. واعتبره الماوردي في أهل الأمصار، وخص الخلاف بأهل البوادي والقرى المتفاخرين بالنسب دون المال. وأما المثرية فبضم الميم وسكون المثلثة وكسر الراء وفتح التحتانية هي التي لها ثراء بفتح أوله والمد وهو الغني، ويؤخذ ذلك من حديث عائشة الذي في الباب من عموم التقسيم فيه لاشتماله على المثري والمقل من الرجال والمثرية والمقلة من النساء فدل على جواز ذلك، ولكنه لا يرد على من يشترطه لاحتمال إضمار رضا المرأة ورضا الأولياء، وقد تقدم شرح الحديث في تفسير سورة النساء، ومضى من وجه آخر في أوائل النكاح، واستدل به على أن للولي أن يزوج محجورته من نفسه، وسيأتي البحث فيه قريبا. وفيه أن للولي حقا في التزويج لأن الله خاطب الأولياء بذلك، والله أعلم

(9/137)


19- باب مَا يُتَّقَى مِنْ شُؤْمِ الْمَرْأَةِ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ}
5093- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ حَمْزَةَ وَسَالِمٍ ابْنَيْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "الشُّؤْمُ فِي الْمَرْأَةِ وَالدَّارِ وَالْفَرَسِ"
5094- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعَسْقَلاَنِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ ذَكَرُوا الشُّؤْمَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنْ كَانَ الشُّؤْمُ فِي شَيْءٍ فَفِي الدَّارِ وَالْمَرْأَةِ وَالْفَرَسِ"
5095- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إِنْ كَانَ فِي شَيْءٍ فَفِي الْفَرَسِ وَالْمَرْأَةِ وَالْمَسْكَنِ"
5096- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عُثْمَانَ النَّهْدِيَّ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرجال من النساء"
قوله: "باب ما يتقى من شؤم المرأة" الشؤم بضم المعجمة بعدها واو ساكنة وقد تهمز وهو ضد اليمن، يقال تشاءمت بكذا وتيمنت بكذا. قوله: "وقوله تعالى: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ} كأنه يشير إلى اختصاص

(9/137)


الشؤم ببعض النساء دون بعض مما دلت عليه الآية من التبعيض، وذكر في الباب حديث ابن عمر من وجهين وحديث سهل من وجه آخر وقد تقدم شرحهما مبسوطا في كتاب الجهاد. وقد جاء في بعض الأحاديث ما لعله يفسر ذلك وهو ما أخرجه أحمد وصححه ابن حبان والحاكم من حديث سعد مرفوعا: "من سعادة ابن آدم ثلاثة: المرأة الصالحة، والمسكن الصالح، والمركب الصالح. ومن شقاوة ابن آدم ثلاثة: المرأة السوء، والمسكن السوء، والمركب السوء" وفي رواية لابن حبان: "المركب الهني، والمسكن الواسع" وفي رواية للحاكم "وثلاثة من الشقاء: المرأة تراها فتسوؤك وتحمل لسانها عليك، والدابة تكون قطوفا فإن ضربتها أتعبتك وإن تركتها لم تلحق أصحابك، والدار تكون ضيقة قليلة المرافق". وللطبراني من حديث أسماء "إن من شقاء المرء في الدنيا سوء الدار والمرأة والدابة" وفيه سوء الدار ضيق مساحتها وخبث جيرانها وسوء الدابة منعها ظهرها وسوء طبعها، وسوء المرأة عقم رحمها وسوء خلقها. قوله: "عن أسامة بن زيد" زاد مسلم من طريق معتمر بن سليمان عن أبيه مع أسامة سعيد بن زيد، وقد قال الترمذي لا نعلم أحدا قال فيه: "عن سعيد بن زيد" غير معتمر بن سليمان. قوله: "ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء" قال الشيخ تقي الدين السبكي: في إيراد البخاري هذا الحديث عقب حديثي ابن عمر وسهل بعد ذكر الآية في الترجمة إشارة إلى تخصيص الشؤم بمن تحصل منها العداوة والفتنة، لا كما يفهمه بعض الناس من التشاؤم بكعبها أو أن لها تأثيرا في ذلك، وهو شيء لا يقول به أحد من العلماء، ومن قال إنها سبب في ذلك فهو جاهل، وقد أطلق الشارع على من ينسب المطر إلى النوء الكفر فكيف بمن ينسب ما يقع من الشر إلى المرأة مما ليس لها فيه مدخل، وإنما يتفق موافقة قضاء وقدر فتنفر النفس من ذلك، فمن وقع له ذلك فلا يضره أن يتركها من غير أن يعتقد نسبة الفعل إليها. قلت: وقد تقدم تقرير ذلك في كتاب الجهاد، وفي الحديث أن الفتنة بالنساء أشد من الفتنة بغيرهن، ويشهد له قوله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ} فجعلهن من حب الشهوات، وبدأ بهن قبل بقية الأنواع إشارة إلى أنهن الأصل في ذلك، ويقع في المشاهدة حب الرجل ولد من امرأته التي هي عنده أكثر من حبه ولده من غيرها، ومن أمثلة ذلك قصة النعمان بن بشير في الهبة، وقد قال بعض الحكماء: النساء شر كلهن وأشر ما فيهن عدم الاستغناء عنهن ومع أنها ناقصة العقل والدين تحمل الرجل على تعاطي ما فيه نقص العقل والدين كشغله عن طلب أمور الدين وحمله على التهالك على طلب الدنيا وذلك أشد الفساد وقد أخرج مسلم من حديث أبي سعيد في أثناء حديث : "واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء.

(9/138)


20 - باب الْحُرَّةِ تَحْتَ الْعَبْدِ
5097- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ كَانَ فِي بَرِيرَةَ ثَلاَثُ سُنَنٍ عَتَقَتْ فَخُيِّرَتْ وَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ وَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبُرْمَةٌ عَلَى النَّارِ فَقُرِّبَ إِلَيْهِ خُبْزٌ وَأُدْمٌ مِنْ أُدْمِ الْبَيْتِ فَقَالَ أَلَمْ أَرَ الْبُرْمَةَ فَقِيلَ لَحْمٌ تُصُدِّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ وَأَنْتَ لاَ تَأْكُلُ الصَّدَقَةَ قَالَ هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ وَلَنَا هَدِيَّةٌ"

(9/138)


قوله: "باب الحرة تحت العبد" أي جواز تزويج العبد الحرة إن رضيت به، وأورد فيه طرفا من قصة بريرة حيث خيرت حين عتقت، وسيأتي شرحه مستوفى في كتاب الطلاق، وهو مصير من المصنف إلى أن زوج بريرة حين عتقت كان عبدا، وسيأتي البحث فيه هناك إن شاء الله تعالى.

(9/139)


21- باب لاَ يَتَزَوَّجُ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ}
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ عَلَيْهِمَا السَّلاَم: يَعْنِي مَثْنَى أَوْ ثُلاَثَ أَوْ رُبَاعَ
وَقَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ: {أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ} يَعْنِي مَثْنَى أَوْ ثُلاَثَ أَوْ رُبَاعَ
5098- حدثنا محمد أخبرنا عبدة عن هشام عن أبيه" عن عائشة {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى}
قالت :هي اليتيمة تكون عند الرجل وهو وليها فيتزوجها على مالها ويسيء صحبتها ولا يعدل في مالها فليزوج ما طاب له من النساء سواها مثنى وثلاث ورباع"
قوله: "باب لا يتزوج أكثر من أربع لقوله تعالى :{مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ} أما حكم الترجمة فبالإجماع، إلا قول من لا يعتد بخلافه من رافضي ونحوه، وأما انتزاعه من الآية فلأن الظاهر منها التخيير بين الأعداد المذكورة بدليل قوله تعالى في الآية نفسها {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} ولأن من قال جاء القوم مثنى وثلاث ورباع أراد أنهم جاءوا اثنين اثنين وثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة، فالمراد تبيين حقيقة مجيئهم وأنهم لم يجيئوا جملة ولا فرادى، وعلى هذا فمعنى الآية انكحوا اثنتين اثنتين وثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة، فالمراد الجميع لا المجموع، ولو أريد مجموع العدد المذكور لكان قوله مثلا تسعا أرشق وأبلغ، وأيضا فإن لفظ: "مثنى" معدول عن اثنين اثنين كما تقدم تقريره في تفسير سورة النساء، فدل إيراده أن المراد التخيير بين الأعداد المذكورة، واحتجاجهم بأن الواو للجمع لا يفيد مع وجود القرينة الدالة على عدم الجمع، وبكونه صلى الله عليه وسلم جمع بين تسع معارض بأمره صلى الله عليه وسلم من أسلم على أكثر من أربع بمفارقة من زاد على الأربع، وقد وقع ذلك لغيلان بن سلمة وغيره كما خرج في كتب السنن فدل على خصوصيته صلى الله عليه وسلم بذلك، وقوله :{أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} تقدم الكلام عليه في تفسير فاطر، وهو ظاهر في أن المراد به تنويع الأعداد لا أن لكل واحد من الملائكة مجموع العدد المذكور. قوله: "وقال علي بن الحسين" أي ابن علي بن أبي طالب "يعني مثنى أو ثلاث أو رباع" أراد أن الواو بمعنى أو، فهي للتنوع، أو هي عاطفة على العامل والتقدير فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وانكحوا ما طاب من النساء ثلاث إلخ، وهذا من أحسن الأدلة في الرد على الرافضة لكونه من تفسير زين العابدين وهو من أئمتهم الذين يرجعون إلى قولهم ويعتقدون عصمتهم. ثم ساق المصنف طرفا من حديث عائشة في تفسير قوله تعالى :{وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} وقد سبق قبل هذا بباب أتم سياقا من الذي هنا وبالله التوفيق

(9/139)


باب (وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم) ويحرم من الرضاع ما يحرم من النسب
...
22- باب {وَأُمَّهَاتُكُمْ اللاَتِي أَرْضَعْنَكُمْ} وَيَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ"
5099- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَتْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عِنْدَهَا وَأَنَّهَا سَمِعَتْ صَوْتَ رَجُلٍ يَسْتَأْذِنُ فِي بَيْتِ

(9/139)


23- باب مَنْ قَالَ لاَ رَضَاعَ بَعْدَ حَوْلَيْنِ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} وَمَا يُحَرِّمُ مِنْ قَلِيلِ الرَّضَاعِ وَكَثِيرِهِ
5102- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الأَشْعَثِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَيْهَا وَعِنْدَهَا رَجُلٌ فَكَأَنَّهُ تَغَيَّرَ وَجْهُهُ كَأَنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ فَقَالَتْ إِنَّهُ أَخِي فَقَالَ انْظُرْنَ مَنْ إِخْوَانُكُنَّ فَإِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنْ الْمَجَاعَةِ"
قوله: "باب من قال لا رضاع بعد حولين، لقوله عز وجل: {حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} أشار بهذا إلى قول الحنفية إن أقصى مدة الرضاع ثلاثون شهرا وحجتهم قوله تعالى :{وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} أي المدة المذكورة لكل من الحمل والفصال، وهذا تأويل غريب. والمشهور عند الجمهور أنها تقدير مدة أقل الحمل وأكثر مدة الرضاع، وإلى ذلك صار أبو يوسف ومحمد بن الحسن، ويؤيد ذلك أن أبا حنيفة لا يقول إن أقصى الحمل سنتان ونصف. وعند المالكية رواية توافق قول الحنفية لكن منزعهم في ذلك أنه يغتفر بعد الحولين مدة يدمن الطفل فيها على الفطام، لأن العادة أن الصبي لا يفطم دفعة واحدة بل على التدريج في أيام قليلات، فللأيام التي يحاول فيها فطامه حكم الحولين. ثم اختلفوا في تقدير تلك المدة قيل يغتفر نصف سنة، وقيل شهران، وقيل شهر ونحوه، وقيل أيام يسيرة، وقيل شهر، وقيل لا يزاد على الحولين وهي رواية ابن وهب عن مالك وبه قال الجمهور ومن حجتهم حديث ابن عباس رفعه: "لا رضاع إلا ما كان في الحولين" أخرجه الدار قطني. وقال: لم يسنده عن ابن عيينة غير الهيثم بن جميل، وهو ثقة حافظ. وأخرجه ابن عدي. وقال غير الهيثم يوقفه على ابن عباس وهو المحفوظ، وعندهم متى وقع الرضاع بعد الحولين ولو بلحظة لم يترتب عليه حكم، وعند الشافعية لو ابتدأ الوضع في أثناء الشهر جبر المنكسر من شهر آخر ثلاثين يوما. وقال زفر: يستمر إلى ثلاث سنسن إذا كان يجتزئ باللبن ولا يجتزئ بالطعام، وحكى ابن عبد البر عنه أنه يشترط مع ذلك أن يكون يجتزئ باللبن، وحكى عن الأوزاعي مثله لكن قال. بشرط أن لا يفطم، فمتى فطم ولو قبل الحولين فما رضع بعده لا يكون رضاعا. قوله: "وما يحرم من قليل الرضاع وكثيره" هذا مصير منه إلى التمسك بالعموم الوارد في الأخبار مثل حديث الباب وغيره، وهذا قول مالك وأبي حنيفة والثوري والأوزاعي والليث، وهو المشهور عند أحمد. وذهب آخرون إلى أن الذي يحرم ما زاد على الرضعة الواحدة. ثم اختلفوا فجاء عن عائشة عشر رضعات أخرجه مالك في "الموطأ"، وعن حفصة كذلك، وجاء عن عائشة أيضا سبع رضعات أخرجه ابن أبي خيثمة بإسناد صحيح عن عبد الله بن الزبير عنها،

(9/146)


وعبد الرزاق من طريق عروة" كانت عائشة تقول لا يحرم دون سبع رضعات أو خمس رضعات "وجاء عن عائشة أيضا خمس رضعات، فعند مسلم عنها" كان فيما نزل من القرآن عشر رضعات معلومات، ثم نسخت بخمس رضعات معلومات فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن مما يقرأ: {وعند عبد الرزاق بإسناد صحيح عنها قالت: لا يحرم دون خمس رضعات معلومات، وإلى هذا ذهب الشافعي، وهي رواية عن أحمد. وقال به ابن حزم، وذهب أحمد في رواية وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور وابن المنذر وداود وأتباعه - إلا ابن حزم - إلى أن الذي يحرم ثلاث رضعات لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تحرم الرضعة والرضعتان" فإن مفهومه أن الثلاث تحرم، وأغرب القرطبي. فقال: لم يقل به إلا داود. ويخرج مما أخرجه البيهقي عن زيد بن ثابت بإسناد صحيح أنه يقول لا تحرم الرضعة والرضعتان والثلاث، وأن الأربع هي التي تحرم. والثابت من الأحاديث حديث عائشة في الخمس، وأما حديث: "لا تحرم الرضعة والرضعتان" فلعله مثال لما دون الخمس، وإلا فالتحريم بالثلاث فما فوقها إنما يؤخذ من الحديث بالمفهوم، وقد عارضه مفهوم الحديث الآخر المخرج عند مسلم وهو الخمس، فمفهوم "لا تحرم المصة ولا المصتان" أن الثلاث تحرم، ومفهوم خمس رضعات أن الذي دون الأربع لا يحرم فتعارضا، فيرجع إلى الترجيح بين المفهومين، وحديث الخمس جاء من طرق صحيحة، وحديث المصتان جاء أيضا من طرق صحيحة، لكن قد قال بعضهم إنه مضطرب لأنه اختلف فيه هل هو عن عائشة أو عن الزبير أو عن ابن الزبير أو عن أم الفضل، لكن لم يقدح الاضطراب عند مسلم فأخرجه من حديث أم الفضل زوج العباس "أن رجلا من بني عامر قال: يا رسول الله هل تحرم الرضعة الواحدة؟ قال لا" وفي رواية له عنها "لا تحرم الرضعة ولا الرضعتان ولا المصة ولا المصتان" قال القرطبي: هو أنص ما في الباب، إلا أنه يمكن حمله على ما إذا لم يتحقق وصوله إلى جوف الرضيع، وقوى مذهب الجمهور بأن الأخبار اختلفت في العدد، وعائشة التي روت ذلك قد اختلف عليها فيما يعتبر من ذلك فوجب الرجوع إلى أقل ما ينطلق عليه الاسم، ويعضده من حيث النظر أنه معنى طارئ يقتضي تأييد التحريم فلا يشترط فيه العدد كالصهر، أو يقال مائع يلج الباطن فيحرم فلا يشترط فيه العدد كالمني، والله أعلم. وأيضا فقول عائشة "عشر رضعات معلومات ثم نسخن بخمس معلومات فمات النبي صلى الله عليه وسلم وهن مما يقرأ: {لا ينتهض للاحتجاج على الأصح من قولي الأصوليين، لأن القرآن لا يثبت إلا بالتواتر، والراوي روى هذا على أنه قرآن لا خبر فلم يثبت كونه قرآنا ولا ذكر الراوي أنه خبر ليقبل قوله فيه، والله أعلم. قوله:" عن الأشعث" هو ابن أبي الشعثاء واسمه سليم بن الأسود المحاربي الكوفي. قوله: "أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها رجل" لم أقف على اسمه وأظنه ابنا لأبي القعيس، وغلط من قال هو عبد الله بن يزيد رضيع عائشة لأن عبد الله هذا تابعي باتفاق الأئمة، وكأن أمه التي أرضعت عائشة عاشت بعد النبي صلى الله عليه وسلم فولدته فلهذا قيل له رضيع عائشة. قوله: "فكأنه تغير وجهه كأنه كره ذلك" كذا فيه، ووقع في رواية مسلم من طريق أبي الأحوص عن أشعث "وعندي رجل قاعد فاشتد ذلك عليه، ورأيت الغضب في وجهه" وفي رواية أبي داود عن حفص بن عمر عن شعبة "فشق ذلك عليه وتغير وجهه" وتقدم من رواية سفيان الماضية في الشهادات "فقال: يا عائشة من هذا" ؟. قوله: "فقالت إنه أخي" في رواية غندر عن شعبة "إنه أخي من الرضاعة" أخرجه الإسماعيلي، وقد أخرجه أحمد عن غندر بدونها، وتقدم في الشهادات من طريق سفيان الثوري عن أشعث فذكرها، وكذا ذكرها أبو داود في روايته من طريق شعبة وسفيان جميعا عن الأشعث. قوله: "انظرن ما إخوانكن" في رواية الكشميهني: "من إخوانكن" وهي

(9/147)


أوجه، والمعنى تأملن ما وقع من ذلك هل هو رضاع صحيح بشرطه: من وقوعه في زمن الرضاعة، ومقدار الارتضاع فإن الحكم الذي ينشأ من الرضاع إنما يكون إذا وقع الرضاع المشترط. قال المهلب: معناه انظرن ما سبب هذه الأخوة، فإن حرمة الرضاع إنما هي في الصغر حتى تسد الرضاعة المجاعة. وقال أبو عبيد: معناه أن الذي جاع كان طعامه الذي يشبعه اللبن من الرضاع لا حيث يكون الغذاء بغير الرضاع. قوله: "فإنما الرضاعة من المجاعة" فيه تعليل الباعث على إمعان النظر والفكر، لأن الرضاعة تثبت النسب وتجعل الرضيع محرما. وقوله: "من المجاعة" أي الرضاعة التي تثبت بها الحرمة وتحل بها الخلوة هي حيث يكون الرضيع طفلا لسد اللبن جوعته، لأن معتده ضعيفة يكفيها اللبن وينبت بذلك لحمه فيصير كجزء من المرضعة فيشترك في الحرمة مع أولادها، فكأنه قال لا رضاعة معتبرة إلا المغنية عن المجاعة أو المطعمة من المجاعة، كقوله تعالى:{أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ} ومن شواهده حديث ابن مسعود "لا رضاع إلا ما شد العظم، وأنبت اللحم" أخرجه أبو داود مرفوعا وموقوفا، وحديث أم سلمة "لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء" أخرجه الترمذي وصححه. ويمكن أن يستدل به على أن الرضعة الواحدة لا تحرم لأنها لا تغني من جوع، وإذا كان يحتاج إلى تقدير فأولى ما يؤخذ به ما قدرته الشريعة وهو خمس رضعات، واستدل به على أن التغذية بلبن المرضعة يحرم سواء كان بشرب أم أكل بأي صفة كان، حتى الوجور والسعوط والثرد والطبخ وغير ذلك إذا وقع ذلك بالشرط المذكور من العدد لأن ذلك يطرد الجوع، وهو موجود في جميع ما ذكر فيوافق الخبر والمعنى وبهذا قال الجمهور. لكن استثنى الحنفية الحقنة وخالف في ذلك الليث وأهل الظاهر فقالوا إن الرضاعة المحرمة إنما تكون بالتقام الثدي ومص اللبن منه، وأورد على ابن حزم أنه يلزم على قولهم إشكال في التقام سالم ثدي سهلة وهي أجنبية منه، فإن عياضا أجاب عن الإشكال باحتمال أنها حلبته ثم شربه من غير أن يمس ثديها، قال النووي: وهو احتمال حسن، لكنه لا يفيد ابن حزم، لأنه لا يكتفي في الرضاع إلا بالتقام الثدي، لكن أجاب النووي بأنه عفي عن ذلك للحاجة. وأما ابن حزم فاستدل بقصة سالم على جواز مس الأجنبي ثدي الأجنبية والتقام ثديها إذا أراد أن يرتضع منها مطلقا؛ واستدل به على أن الرضاعة إنما تعتبر في حال الصغر لأنها الحال الذي يمكن طرد الجوع فيها باللبن بخلاف حال الكبر، وضابط ذلك تمام الحولين كما تقدم في الترجمة، وعليه دل حديث ابن عباس المذكور وحديث أم سلمة "لا رضاع إلا ما فتق الأمعاء وكان قبل الفطام" وصححه الترمذي وابن حبان، قال القرطبي: في قوله: "فإنما الرضاعة من المجاعة" تثبيت قاعدة كلية صريحة في اعتبار الرضاع في الزمن الذي يستغنى به الرضيع عن الطعام باللبن، ويعتضد بقوله تعالى :{لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} فأنه يدل على أن هذه المدة أقصى مدة الرضاع المحتاج إليه عادة المعتبر شرعا، فما زاد عليه لا يحتاج إليه عادة فلا يعتبر شرعا، إذ لا حكم للنادر وفي اعتبار إرضاع الكبير انتهاك حرمة المرأة بارتضاع الأجنبي منها لاطلاعه على عورتها ولو بالتقامه ثديها. قلت: وهذا الأخير على الغالب وعلى مذهب من يشترط التقام الثدي، وقد تقدم قبل خمسة أبواب أن عائشة كانت لا تفرق في حكم الرضاع بين حال الصغر والكبر، وقد استشكل ذلك مع كون هذا الحديث من روايتها واحتجت هي بقصة سالم موالي أبي حذيفة فلعلها فهمت من قوله: "إنما الرضاعة من المجاعة اعتبار مقدار ما يسد الجوعة من لبن المرضعة لمن يرتضع منها، وذلك أعم من أن يكون المرتضع صغيرا أو كبيرا فلا يكون الحديث نصا في منع اعتبار رضاع الكبير، وحديث ابن عباس مع تقدير ثبوته ليس نصا في ذلك ولا حديث أم سلمة

(9/148)


لجواز أن يكون المراد أن الرضاع بعد الفطام ممنوع، ثم لو وقع رتب عليه حكم التحريم، فما في الأحاديث المذكورة ما يدفع هذا الاحتمال، فلهذا عملت عائشة بذلك، وحكاه النووي تبعا لابن الصباغ وغيره عن داود. وفيه نظر. وكذا نقل القرطبي عن داود أن رضاع الكبير يفيد رفع الاحتجاب منه، ومال إلى هذا القول ابن المواز من المالكية. وفي نسبة لداود نظر فإن ابن حزم ذكر عن داود أنه مع الجمهور، وكذا نقل غيره من أهل الظاهر وهم أخبر بمذهب صاحبهم، وإنما الذي نصر مذهب عائشة هذا وبالغ في ذلك هو ابن حزم ونقله عن علي، وهو من رواية الحارث الأعور عنه، ولذلك ضعفه ابن عبد البر. وقال عبد الرزاق عن ابن جريج: قال رجل لعطاء أن امرأة سقتني من لبنها بعدما كبرت أفأنكحها؟ قال: لا. قال ابن جريج: فقلت له: هذا رأيك؟ قال: نعم. كانت عائشة تأمر بذلك بنات أخيها، وهو قول الليث بن سعد. وقال ابن عبد البر: لم يختلف عنه في ذلك. قلت: وذكر الطبري في" تهذيب الآثار" في مسند على هذه المسألة وساق بإسناده الصحيح عن حفصة مثل قول عائشة، وهو مما يخص به عموم قول أم سلمة "أبى سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يدخلن عليهن بتلك الرضاعة أحدا" أخرجه مسلم وغيره، ونقله الطبري أيضا عن عبد الله بن الزبير والقاسم بن محمد وعروة في آخرين، وفيه تعقب على القرطبي حيث خص الجواز بعد عائشة بداود، وذهب الجمهور إلى اعتبار الصغر في الرضاع المحرم وقد تقدم ضبطه، وأجابوا عن قصة سالم بأجوبة: منها أنه حكم منسوخ وبه جزم المحب الطبري في أحكامه، وقرره بعضهم بأن قصة سالم كانت في أوائل الهجرة والأحاديث الدالة على اعتبار الحولين من رواية أحداث الصحابة فدل على تأخرها، وهو مستند ضعيف إذ لا يلزم من تأخر إسلام الراوي ولا صغره أن لا يكون ما رواه متقدما، وأيضا ففي سياق قصة سالم ما يشعر بسبق الحكم باعتبار الحولين لقول امرأة أبي حذيفة في بعض طرقه حيث قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "أرضعيه، قالت: وكيف أرضعه وهو رجل كبير؟ فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: قد علمت أنه رجل كبير" وفي رواية لمسلم قالت: "إنه ذو لحية، قال: أرضعيه" وهذا يشعر بأنها كانت تعرف أن الصغر معتبر في الرضاع المحرم. ومنها دعوى الخصوصية بسالم وامرأة أبي حذيفة، والأصل فيه قول أم سلمة وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم: ما ترى هذا إلا رخصة أرخصها رسول الله صلى الله عليه وسلم لسالم خاصة، وقرره ابن الصباغ وغيره بأن أصل قصة سالم ما كان وقع من التبني الذي أدى إلى اختلاط سالم بسهلة، فلما نزل الاحتجاب ومنعوا من التبني شق ذلك على سهلة فوقع الترخيص لها في ذلك لرفع ما حصل لها من المشقة، وهذا فيه نظر لأنه يقتضي إلحاق من يساوي سهلة في المشقة والاحتجاج بها فتنفي الخصوصية ويثبت مذهب المخالف، لكن يفيد الاحتجاج. وقرره آخرون بأن الأصل أن الرضاع لا يحرم، فلما ثبت ذلك في الصغر خولف الأصل له وبقي ما عداه على الأصل، وقصة سالم واقعة عين يطرقها احتمال الخصوصية فيجب الوقوف عن الاحتجاج بها. ورأيت بخط تاج الدين السبكي أنه رأى في تصنيف لمحمد بن خليل الأندلسي في هذه المسألة أنه توقف في أن عائشة وإن صح عنها الفتيا بذلك لكن لم يقع منها إدخال أحد من الأجانب بتلك الرضاعة، قال تاج الدين: ظاهر الأحاديث ترد عليه، وليس عندي فيه قول جازم لا من قطع ولا من ظن غالب، كذا قال، وفيه غفلة عما ثبت عند أبي داود في هذه القصة "فكانت عائشة تأمر بنات إخوتها وبنات أخواتها أن يرضعن من أحبت أن يدخل عليها ويراها وإن كان كبيرا خمس رضعات ثم يدخل عليها" وإسناده صحيح، وهو صريح، فأي ظن غالب وراء هذا؟ والله سبحانه وتعالى أعلم. وفي الحديث أيضا جواز

(9/149)


دخول من اعترفت المرأة بالرضاعة معه عليها وأنه يصير أخا لها وقبول قولها فيمن اعترفت به، وأن الزوج يسأل زوجته عن سبب إدخال الرجال بيته والاحتياط في ذلك والنظر فيه، وفي قصة سالم جواز الإرشاد إلى الحيل. وقال ابن الرفعة يؤخذ منه جواز تعاطي ما يحصل الحل في المستقبل وإن كان ليس حلالا في الحال.

(9/150)


24 - باب لَبَنِ الْفَحْلِ
5103- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ أَفْلَحَ أَخَا أَبِي الْقُعَيْسِ جَاءَ يَسْتَأْذِنُ عَلَيْهَا وَهُوَ عَمُّهَا مِنْ الرَّضَاعَةِ بَعْدَ أَنْ نَزَلَ الْحِجَابُ فَأَبَيْتُ أَنْ آذَنَ لَهُ فَلَمَّا جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي صَنَعْتُ فَأَمَرَنِي أَنْ آذَنَ لَهُ"
قوله: "باب لبن الفحل" بفتح الفاء وسكون المهملة، أي الرجل، ونسبة اللبن إليه مجازية لكونه السبب فيه. قوله: "عن ابن شهاب" لمالك فيه شيخ آخر وهو هشام بن عروة، وسياقه للحديث عن عروة أتم، وسيأتي قبيل كتاب الطلاق. قوله: "إن أفلح أخا أبي القعيس" بقاف وعين وسين مهملتين مصغر، وتقدم في الشهادات من طريق الحكم عن عروة "استأذن علي أفلح فلم آذن له" وفي رواية مسلم من هذا الوجه أفلح بن قعيس والمحفوظ أفلح أخو أبي القعيس، ويحتمل أن يكون اسم أبيه قعيسا أو اسم جده فنسب إليه فتكون كنية أبي القعيس وافقت اسم أبيه أو اسم جده، ويؤيده ما وقع في الأدب من طريق عقيل عن الزهري بلفظ: "فإن أخا بني القعيس" وكذا وقع عند النسائي من طريق وهب بن كيسان عن عروة، وقد مضى في تفسير الأحزاب من طريق شعيب عن ابن شهاب بلفظ: "إن أفلح أخا أبي القعيس" وكذا لمسلم من طريق يونس ومعمر عن الزهري، وهو المحفوظ عن أصحاب الزهري، لكن وقع عند مسلم من رواية ابن عيينة عن الزهري أفلح بن أبي القعيس، وكذا لأبي داود من طريق الثوري عن هشام بن عروة عن أبيه، ولمسلم من طريق ابن جريج عن عطاء "أخبرني عروة أن عائشة قالت استأذن علي عمي من الرضاعة أبو الجعد" قال فقال لي هشام: إنما هو أبو القعيس. وكذا وقع عند مسلم من طريق أبي معاوية عن هشام "استأذن عليها أبو القعيس" وسائر الرواة عن هشام قالوا أفلح أخو أبي القعيس كما هو المشهور، وكذا قال سائر أصحاب عروة، ووقع عند سعيد بن منصور من طريق القاسم بن محمد "أن أبا قعيس أتى عائشة يستأذن عليها" وأخرجه الطبراني في "الأوسط" من طريق القاسم عن أبي قعيس، والمحفوظ أن الذي استأذن هو أفلح وأبو القعيس هو أخوه، قال القرطبي: كل ما جاء من الروايات وهم إلا من قال أفلح أخو أبي القعيس أو قال أبو الجعد لأنها كنية أفلح. قلت: وإذا تدبرت ما حررت عرفت أن كثيرا من الروايات لا وهم فيه ولم يخطئ عطاء في قوله أبو الجعد فإنه يحتمل أن يكون حفظ كنية أفلح، وأما اسم أبي القعيس فلم أقف عليه إلا في كلام الدار قطني فقال: هو وائل بن أفلح الأشعري، وحكى هذا ابن عبد البر ثم حكى أيضا أن اسمه الجعد، فعلى هذا يكون أخوه وافق اسمه اسم أبيه، ويحتمل أن يكون أبو القعيس نسب لجده ويكون اسمه وائل بن قعيس بن أفلح بن القعيس، وأخوه أفلح بن قعيس بن أفلح أبو الجعد، قال ابن عبد البر في "الاستيعاب" : لا أعلم لأبي القعيس ذكرا إلا في هذا الحديث. قوله: "وهو عمها من الرضاعة" فيه التفات، وكان السياق يقتضي أن يقول: "وهو

(9/150)


عمي" وكذا وقع عند النسائي من طريق معن عن مالك. وفي رواية يونس عن الزهري عند مسلم: "وكان أبو القعيس أخا عائشة من الرضاعة". قوله: "فأبيت أن آذن له" في رواية عراك الماضية في الشهادات "فقال أتحتجبين مني وأنا عمك" ؟ وفي رواية شعيب عن الزهري كما مضى في تفسير سورة الأحزاب "فقلت: لا آذن له حتى أستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن أخاه أبا القعيس ليس هو أرضعني، ولكن أرضعتني امرأة أبي القعيس" وفي رواية معمر عن الزهري عن مسلم: "وكان أبو القعيس زوج المرأة التي أرضعت عائشة". قوله: "فأمرني أن آذن له" في رواية شعيب "ائذني له فإنه عمك تربت يمينك" وفي رواية سفيان يداك أو يمينك، وقد تقدم شرح هذه اللفظة في "باب الأكفاء في الدين" وفي رواية مالك عن هشام بن عروة "إنه عمك فليلج عليك" وفي رواية الحكم "صدق أفلح، ائذني له" ووقع في رواية سفيان الثوري عن هشام عند أبي داود "دخل علي أفلح فاستترت منه فقال أتستترين مني وأنا عمك؟ قلت: من أين؟ قال: أرضعتك امرأة أخي، قلت إنما أرضعتني المرأة ولم يرضعني الرجل" الحديث، ويجمع بأنه دخل عليها أولا فاستترت ودار بينهما الكلام، ثم جاء يستأذن ظنا منه أنها قبلت قوله فلم تأذن له حتى تستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ووقع في رواية شعيب في آخره من الزيادة "قال عروة: فبذلك كانت عائشة تقول حرموا من الرضاع ما يحرم من النسب" ووقع في رواية سفيان بن عيينة "ما تحرمون من النسب" وهذا ظاهره الوقف، وقد أخرجه مسلم من طريق يزيد بن أبي حبيب عن عراك عن عروة في هذه القصة "فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تحتجبي منه، فإنه يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب" وقد تقدمت هذه الزيادة عن عائشة أيضا مرفوعة من وجه آخر في أول أبواب الرضاع. وفي الحديث أن لبن الفحل يحرم فتنتشر الحرمة من ارتضع الصغير بلبنه، فلا تحل له بنت زوج المرأة التي أرضعته من غيرها مثلا، وفيه خلاف قديم حكي عن ابن عمر وابن الزبير ورافع بن خديج وزينب بنت أم سلمة وغيرهم، ونقله ابن بطال عن عائشة وفيه نظر، ومن التابعين عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة والقاسم وسالم وسليمان بن يسار وعطاء بن يسار والشعبي وإبراهيم النخعي وأبي قلابة وإياس بن معاوية أخرجها ابن أبي شيبة وعبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن المنذر، وعن ابن سيرين "نبئت أن ناسا من أهل المدينة اختلفوا فيه:" وعن زينب بنت أبي سلمة أنها سألت والصحابة متوافرون وأمهات المؤمنين فقالوا الرضاعة من قبل الرجل لا تحرم شيئا. وقال به من الفقهاء ربيعة الرأي وإبراهيم بن عليه وابن بنت الشافعي وداود وأتباعه، وأغرب عياض ومن تبعه في تخصيصهم ذلك بداود وإبراهيم مع وجود الرواية عمن ذكرنا بذلك، وحجتهم في ذلك قوله تعالى :{وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} ولم يذكر العمة ولا البنت كما ذكرهما في النسب، وأجيبوا بأن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي الحكم عما عداه، ولا سيما وقد جاءت الأحاديث الصحيحة. واحتج بعضهم من حيث النظر بأن اللبن لا ينفصل من الرجل وإنما ينفصل من المرأة فكيف تنتشر الحرمة إلى الرجل؟ والجواب أنه قياس في مقابلة النص فلا يلتفت إليه، وأيضا فإن سبب اللبن هو ماء الرجل والمرأة معا فوجب أن يكون الرضاع منهما كالجد لما كان سبب الولد أوجب تحريم ولد الولد به لتعلقه بولده، وإلى هذا أشار ابن عباس بقوله في هذه المسألة "اللقاح واحد" أخرجه ابن أبي شيبة. وأيضا فإن الوطء يدر اللبن فللفحل فيه نصيب. وذهب الجمهور من الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار كالأوزاعي في أهل الشام والثوري وأبي حنيفة وصاحبيه في أهل الكوفة وابن جريج في أهل مكة ومالك في أهل المدينة والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور وأتباعهم إلى أن لبن الفحل يحرم وحجتهم هذا الحديث

(9/151)


الصحيح، وألزم الشافعي المالكية في هذه المسألة برد أصلهم بتقديم عمل أهل المدينة ولو خالف الحديث الصحيح إذا كان من الآحاد لما رواه عن عبد العزيز بن محمد عن ربيعة من أن لبن الفحل لا يحرم، قال عبد العزيز بن محمد: وهذا رأي فقهائنا إلا الزهري فقال الشافعي: لا نعلم شيئا من علم الخاصة أولى بأن يكون عاما ظاهرا من هذا، وقد تركوه للخبر الوارد، فيلزمهم على هذا إما أن يردوا هذا الخبر وهم ولم يردوه أو يردوا ما خالف الخبر، وعلى كل حال هو المطلوب. قال القاضي عبد الوهاب: يتصور تجريد لبن الفحل برجل له امرأتان ترضع إحداهما صبيا والأخرى صبية فالجمهور قالوا يحرم على الصبي تزويج الصبية. وقال من خالفهم: يجوز، واستدل به على أن من ادعى الرضاع وصدقه الرضيع يثبت حكم الرضاع بينهما ولا يحتاج إلى بينه، لأن أفلح ادعى وصدقته عائشة وأذن الشارع بمجرد ذلك. وتعقب باحتمال أن يكون الشارع اطلع على ذلك من غير دعوى أفلح وتسليم عائشة، واستدل به على أن قليل الرضاع يحرم كما يحرم كثيره لعدم الاستفصال فيه، ولا حجة فيه لأن عدم الذكر لا يدل على العدم المحض وفيه أن من شك في حكم يتوقف عن العمل حتى يسأل العلماء عنه، وأن من اشتبه عليه الشيء طالب المدعي ببيانه ليرجع إليه أحدهما، وأن العالم إذا سئل يصدق من قال الصواب فيها، وفيه وجوب احتجاب المرأة من الرجال الأجانب ومشروعية استئذان المحرم على محرمه، وأن المرأة لا تأذن في بيت الرجل إلا بإذنه، وفيه جواز التسمية بأفلح، ويؤخذ منه أن المستفتي إذا بادر بالتعليل قبل سماع الفتوى أنكر عليه لقوله لها "تربت يمينك" فإن فيه إشارة إلى أنه كان من حقها أن تسأل عن الحكم فقط ولا تعلل، وألزم به بعضهم من أطلق من الحنفية القائلين أن الصحابي إذا روى عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثا وصح عنه ثم صح عنه العمل بخلافه أن العمل بما رأى لا بما روى، لأن عائشة صح عنها أن لا اعتبار بلبن الفحل ذكره مالك في الموطأ وسعيد بن منصور في السنن وأبو عبيد في كتاب النكاح بإسناد حسن، وأخذ الجمهور ومنهم الحنفية بخلاف ذلك وعملوا بروايتها في قصة أخي أبي القعيس وحرموه بلبن الفحل فكان يلزمهم على قاعدتهم أن يتبعوا عمل عائشة ويعرضوا عن روايتها، ولو كان روى هذا الحكم غير عائشة لكان لهم معذرة لكنه لم يروه غيرها، وهو إلزام قوي

(9/152)


25- باب شَهَادَةِ الْمُرْضِعَةِ
5104- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَخْبَرَنَا أَيُّوبُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ حَدَّثَنِي عُبَيْدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ قالَ وَقَدْ سَمِعْتُهُ مِنْ عُقْبَةَ لَكِنِّي لِحَدِيثِ عُبَيْدٍ أَحْفَظُ قَالَ تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً فَجَاءَتْنَا امْرَأَةٌ سَوْدَاءُ فَقَالَتْ أَرْضَعْتُكُمَا فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ تَزَوَّجْتُ فُلاَنَةَ بِنْتَ فُلاَنٍ فَجَاءَتْنَا امْرَأَةٌ سَوْدَاءُ فَقَالَتْ لِي إِنِّي قَدْ أَرْضَعْتُكُمَا وَهِيَ كَاذِبَةٌ فَأَعْرَضَ عَنِّي فَأَتَيْتُهُ مِنْ قِبَلِ وَجْهِهِ قُلْتُ إِنَّهَا كَاذِبَةٌ قَالَ كَيْفَ بِهَا وَقَدْ زَعَمَتْ أَنَّهَا قَدْ أَرْضَعَتْكُمَا دَعْهَا عَنْكَ وَأَشَارَ إِسْمَاعِيلُ بِإِصْبَعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى يَحْكِي أَيُّوبَ"
قوله: "باب شهادة المرضعة" أي وحدها، وقد تقدم بيان الاختلاف في ذلك في كتاب الشهادات. وأغرب ابن بطال هنا فنقل الإجماع على أن شهادة المرأة وحدها لا تجوز في الرضاع وشبهه، وهو عجيب منه فإنه قول جماعة

(9/152)


من السلف حتى إن عند المالكية رواية أنها تقبل وحدها لكن بشرط فشو ذلك في الجيران. قوله: "علي بن عبد الله" هو ابن المديني، وإسماعيل بن إبراهيم هو المعروف بابن علية، وعبيد بن أبي مريم مكي ماله في الصحيح سوى هذا الحديث، ولا أعرف من حاله شيئا إلا أن ابن حبان ذكره في ثقات التابعين، وقد أوضحت في الشهادات بيان الاختلاف في إسناده على ابن أبي مليكة، وأن العمدة فيه على سماع ابن أبي مليكة له من عقبة بن الحارث نفسه، وتقدم تسمية المرأة المعبر عنها هنا بفلانة بنت فلان وتسمية أبيها، وأما المرضعة السوداء فما عرفت اسمها بعد. قوله: "فأعرض عني" في رواية المستملي: "فأعرض عنه" وفيه التفات. قوله : "دعها عنك، وأشار بإصبعيه السبابة والوسطى يحكي أيوب" يعني يحكي إشارة أيوب، والقائل علي والحاكي إسماعيل، والمراد حكاية فعل النبي صلى الله عليه وسلم حيث أشار بيده وقال بلسانه "دعها عنك" فحكى ذلك كل راو لمن دونه. واستدل به على أن الرضاعة لا يشترط فيها عدد الرضعات وفيه نظر لأنه لا يلزم من عدم ذكرها عدم الاشتراط لاحتمال أن يكون ذلك قبل تقرير حكم اشتراط العدد، أو بعد اشتهاره فلم يحتج لذكره في كل واقعة، وقد تقدم بيان الاختلاف في ذلك. ويؤخذ من الحديث عند من يقول أن الأمر بفراقها لم يكن لتحريمها عليه بقول المرضعة بل للاحتياط أن يحتاط من يريد أن يتزوج أو يزوج ثم اطلع على أمر فيه خلاف بين العلماء كمن زنى بها أو باشرها بشهوة أو زنى بها أصله أو فرعه أو خلقت من زناه بأمها أو شك في تحريمها عليه بصهر أو قرابة ونحو ذلك، والله أعلم

(9/153)


باب مايحل من النساء وما يحرم
...
26- باب مَا يَحِلُّ مِنْ النِّسَاءِ وَمَا يَحْرُمُ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ} إِلَى آخِرِ الْآيَتَيْنِ إِلَى قَوْلِهِ {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} وَقَالَ أَنَسٌ {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ النِّسَاءِ} ذَوَاتُ الأَزْوَاجِ الْحَرَائِرُ حَرَامٌ {إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} لاَ يَرَى بَأْسًا أَنْ يَنْزِعَ الرَّجُلُ جَارِيَتَهُ مِنْ عَبْدِهِ وَقَالَ {وَلاَ تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَا زَادَ عَلَى أَرْبَعٍ فَهُوَ حَرَامٌ كَأُمِّهِ وَابْنَتِهِ وَأُخْتِهِ
5105- وَقَالَ لَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ سُفْيَانَ حَدَّثَنِي حَبِيبٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ حَرُمَ مِنْ النَّسَبِ سَبْعٌ وَمِنْ الصِّهْرِ سَبْعٌ ثُمَّ قَرَأَ {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} الْآيَةَ وَجَمَعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ بَيْنَ ابْنَةِ عَلِيٍّ وَامْرَأَةِ عَلِيٍّ وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ لاَ بَأْسَ بِهِ وَكَرِهَهُ الْحَسَنُ مَرَّةً ثُمَّ قَالَ لاَ بَأْسَ بِهِ وَجَمَعَ الْحَسَنُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ بَيْنَ ابْنَتَيْ عَمٍّ فِي لَيْلَةٍ وَكَرِهَهُ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ لِلْقَطِيعَةِ وَلَيْسَ فِيهِ تَحْرِيمٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} وَقَالَ عِكْرِمَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ إِذَا زَنَى بِأُخْتِ امْرَأَتِهِ لَمْ تَحْرُمْ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ وَيُرْوَى عَنْ يَحْيَى الْكِنْدِيِّ عَنْ الشَّعْبِيِّ وأَبِي جَعْفَرٍ فِيمَنْ يَلْعَبُ بِالصَّبِيِّ إِنْ أَدْخَلَهُ فِيهِ فَلاَ يَتَزَوَّجَنَّ أُمَّهُ وَيَحْيَى هَذَا غَيْرُ مَعْرُوفٍ وَلَمْ يُتَابَعْ عَلَيْهِ وَقَالَ عِكْرِمَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ إِذَا زَنَى بِهَا لَمْ تَحْرُمْ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي نَصْرٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ حَرَّمَهُ وَأَبُو نَصْرٍ هَذَا لَمْ يُعْرَفْ بِسَمَاعِهِ مِنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَيُرْوَى عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَالْحَسَنِ وَبَعْضِ أَهْلِ الْعِرَاقِ تَحْرُمُ عَلَيْهِ وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ لاَ تَحْرُمُ حَتَّى يُلْزِقَ بِالأَرْضِ يَعْنِي يُجَامِعَ وَجَوَّزَهُ ابْنُ الْمُسَيَّبِ وَعُرْوَةُ وَالزُّهْرِيُّ وَقَالَ الزُّهْرِيُّ قَالَ عَلِيٌّ لاَ تَحْرُمُ وَهَذَا مُرْسَلٌ
قوله: "باب ما يحل من النساء وما يحرم، وقوله تعالى :{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} الآية إلى {عَلِيماً حَكِيماً} كذا لأبي ذر، وساق في رواية كريمة إلى قوله: {وَبَنَاتُ الْأُخْتِ} ثم قال إلى قوله: {عَلِيماً حَكِيماً} وذلك يشمل الآيتين، فإن الأول إلى قوله: {غَفُوراً رَحِيماً}. قوله: "وقال أنس {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} ذوات الأزواج الحرائر حرام {إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} ، لا يرى بأسا أن ينزع الرجل جاريته" وفي رواية الكشميهني جارية "من عبده" وصله إسماعيل القاضي في كتاب "أحكام القرآن" بإسناد صحيح من طريق سليمان التيمي عن أبي مجلز عن أنس بن مالك أنه قال في قوله تعالى :{وَالْمُحْصَنَاتُ} ذوات الأزواج الحرائر {إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} فإذا هو لا يرى بما ملك اليمين بأسا أن ينزع الرجل الجارية من عبده فيطأها، وأخرجه ابن أبي شيبة من طريق أخرى عن التيمي بلفظ ذوات البعول وكان يقول بيعها طلاقها، والأكثر على أن المراد بالمحصنات ذوات الأزواج يعني أنهن حرام وأن المراد بالاستثناء في قوله : {إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} المسبيات إذا كن متزوجات فإنهن حلال لمن سباهن. قوله: "وقال" أي قال الله عز وجل: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} أشار بهذا إلى التنبيه على من حرم نكاحها زائدا على ما في الآيتين فذكر المشركة وقد استثنيت الكتابية والزائدة على الرابعة فدل ذلك على أن العدد الذي في قول ابن العباس الذي بعده لا مفهوم له وإنما أراد حصر ما في الآيتين. قوله: "وقال ابن عباس: ما زاد على أربع فهو حرام كأمه وابنته وأخته" وصله الفريابي وعبد بن حميد بإسناد صحيح عنه ولفظه في قوله تعالى :{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}: لا يحل له أن يتزوج فوق أربع نسوة، فما زاد منهن عليه حرام، والباقي مثله، وأخرجه البيهقي. قوله: "وقال لنا أحمد بن حنبل" هذا فيما قيل أخذه المصنف عن الإمام أحمد في المذاكرة أو الإجازة، والذي ظهر لي بالاستقراء أنه إنما استعمل هذه الصيغة في الموقوفات، وربما استعملها فيما فيه قصور ما عن شرطه، والذي هنا من الشق الأول، وليس للمصنف في هذا الكتاب رواية عن أحمد إلا في هذا الموضع. وأخرج عنه في آخر المغازي حديثا بواسطة وكأنه لم يكثر عنه لأنه في رحلته القديمة لقي كثيرا من مشايخ أحمد فاستغنى بهم، وفي رحلته الأخيرة كان أحمد قد قطع التحديث فكان لا يحدث إلا نادرا فمن ثم أكثر البخاري عن علي بن المديني دون أحمد، وسفيان المذكور هذا الإسناد هو الثوري، وحبيب هو ابن أبي ثابت. قوله: "حرم من النسب سبع، ومن الصهر سبع" في رواية ابن مهدي عن سفيان عن الإسماعيلي: "حرم عليكم" وفي لفظ: "حرمت عليكم". قوله: "ثم قرأ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} الآية" في رواية يزيد بن هارون عن سفيان عند الإسماعيلي: "قرأ الآيتين" وإلى هذه الرواية أشار المصنف بقوله في الترجمة "إلى {عَلِيماً حَكِيماً}" فإنها آخر الآيتين، ووقع عند الطبراني من طريق عمير مولى ابن عباس عن ابن عباس في آخر الحديث: "ثم قرأ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} حتى بلغ: {وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ} ، ثم قال: هذا النسب. ثم قرأ: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} حتى بلغ : {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} ، وقرأ: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} فقال: هذا الصهر" انتهى، فإذا جمع بين الروايتين كانت الجملة خمس عشرة امرأة، وفي تسمية ما هو بالرضاع صهرا تجوز، وكذلك امرأة الغير، وجميعهن على التأبيد إلا الجمع بين الأختين وامرأة الغير، ويلتحق بمن ذكر موطوءة الجد وإن علا وأم الأم ولو علت وكذا أم الأب وبنت الابن ولو سفلت وكذا بنت البنت وبنت بنت الأخت ولو سفلت وكذا بنت بنت الأخ وبنت ابن الأخ والأخت وعمة الأب ولو علت وكذا عمة الأم وخالة الأم ولو علت وكذا خالة الأب وجدة الزوجة ولو علت وبنت الربيبة ولو سفلت وكذا بنت الربيب وزوجة ابن الابن وابن البنت والجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها، وسيأتي في باب مفرد "ويحرم من الرضاع ما يحرم من النسب" وتقدم في باب مفرد، وبيان ما قيل إنه يستثنى من ذلك قوله: "وجمع عبد الله بن جعفر" أي ابن أبي طالب "بين بنت علي وامرأة علي" كأنه أشار بذلك إلى دفع من يتخيل أن العلة في منع الجمع بين الأختين ما يقع بينهما من القطيعة فيطرده إلى كل قريبتين ولو بالصهارة فمن ذلك الجمع بين المرأة وبنت زوجها، والأثر المذكور وصله البغوي في "الجعديات" من طريق عبد الرحمن بن مهران أنه قال: "جمع عبد الله بن جعفر بين زينب بنت علي وامرأة علي ليلى بنت مسعود" وأخرجه سعيد بن منصور من وجه آخر فقال: "ليلى بنت مسعود النهشلية وأم كلثوم بنت علي لفاطمة فكانتا امرأتيه" وقوله لفاطمة أي من فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تعارض بين الروايتين في زينب وأم كلثوم لأنه تزوجهما واحدة بعد أخرى مع بقاء ليلى في عصمته، وقد وقع ذلك مبينا عند ابن سعد. قوله: "وقال ابن سيرين لا بأس به" وصله سعيد بن منصور عنه بسند صحيح، وأخرجه ابن أبي شيبة مطولا من طريق أيوب عن عكرمة بن خالد "أن عبد الله بن صفوان تزوج امرأة رجل من ثقيف وابنته - أي من غيرها - قال أيوب: فسئل عن ذلك ابن سيرين فلم ير به بأسا وقال: نبئت أن رجل كان بمصر اسمه جبلة جمع بين امرأة رجل وبنته من غيرها" وأخرج الدار قطني من طريق أيوب أيضا عن ابن سيرين أن "رجلا من أهل مصر كانت له صحبة يقال له جبلة" فذكره قوله: "وكرهه الحسن مرة ثم قال لا بأس به" وصله الدار قطني في آخر الأثر الذي قبله بلفظ: "وكان الحسن يكرهه" وأخرجه أبو عبيد في كتاب النكاح من طريق سلمة بن علقمة قال: "إني لجالس عند الحسن إذ سأله رجل عن الجمع بين البنت وامرأة زوجها فكرهه، فقال له بعضهم: يا أبا سعيد، هل ترى به بأسا؟ فنظر ساعة ثم قال: ما أرى به بأسا" وأخرج ابن أبي شيبة عن عكرمة أنه كرهه، وعن سليمان بن يسار ومجاهد والشعبي أنهم قالوا لا بأس به. قوله: "وجمع الحسن بن الحسن بن علي بين بنتي عم في ليلة" وصله عبد الرزاق وأبو عبيد من طريق عمرو ابن دينار بهذا وزاد: "في ليلة واحدة بنت محمد بن علي وبنت عمر بن علي، فقال محمد بن علي هو أحب إلينا منهما" وأخرج عبد الرزاق أيضا والشافعي من وجه آخر عن عمرو بن دينار عن الحسن بن محمد بن علي فلم ينسب المرأتين ولم يذكر قول محمد بن علي وزاد: "فأصبح النساء لا يدرين أين يذهبن". قوله: "وكرهه جابر بن زيد للقطيعة" وصله أبو عبيد من طريقه. وأخرج عبد الرزاق نحوه عن قتادة وزاد وليس بحرام. قوله: "وليس فيه تحريم" لقوله تعالى :{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} هذا من تفقه المصنف، وقد صرح به قتادة قبله كما ترى، وقد قال ابن المنذر: لا أعلم أحدا أبطل هذا النكاح، قال: وكان يلزم من يقول بدخول القياس في مثل هذا أن يحرمه، وقد أشار جابر بن زيد إلى العلة بقوله: "للقطيعة" أي لأجل وقوع القطيعة بينهما، لما يوجبه التنافس بين الضرتين في العادة، وسيأتي التصريح بهذه العلة في حديث النهي عن الجمع بين المرأة وعمتها، بل جاء ذلك منصوصا في جميع القرابات، فأخرج أبو داود وابن أبي شيبة من مرسل عيسى بن طلحة "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تنكح المرأة على قرابتها مخافة القطيعة" وأخرج الخلال من طريق إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أبيه عن أبي بكر وعمر وعثمان أنهم كانوا يكرهون الجمع بين القرابة مخافة الضغائن، وقد نقل العمل بذلك عن ابن أبي ليلى وعن زفر أيضا ولكن انعقد الإجماع على خلافه وقاله ابن عبد البر وابن حزم وغيرهما. قوله: "وقال عكرمة عن ابن عباس: إذا زنى بأخت امرأته لم تحرم عليه امرأته" هذا مصير من ابن عباس إلى أن المراد بالنهي عن الجمع بين الأختين إذا كان الجمع بعقد التزويج وهذا الأثر وصله عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء "عن ابن عباس في رجل زنى بأخت امرأته قال: تخطى حرمة إلى حرمة ولم تحرم عليه امرأته" قال ابن جريج وبلغني عن عكرمة مثله، وأخرجه ابن أبي شيبة من طريق قيس بن سعد عن عطاء عن ابن عباس قال: "جاوز حرمتين إلى حرمة ولم تحرم عليه امرأته" وهذا قول الجمهور، وخالفت فيه طائفة كما سيجيء. قوله: "ويروى عن يحيى الكندي عن الشعبي وأبي جعفر فيمن يلعب بالصبي أن أدخله فيه فلا يتزوجن أمه" في رواية أبي ذر عن المستملي: "وابن جعفر" يدل قوله وأبي جعفر، والأول هو المعتمد، وكذا وقع في رواية ابن نصر بن مهدي عن المستملي كالجماعة، وهكذا وصله وكيع في مصنفه عن سفيان الثوري عن يحيى. قوله: "ويحيى هذا غير معروف ولم يتابع عليه" انتهى وهو ابن قيس، روى أيضا عن شريح روى عنه الثوري وأبو عوانة وشريك. فقول المصنف "غير معروف" أي غير معروف العدالة وإلا فاسم الجهالة ارتفع عنه برواية هؤلاء، وقد ذكره البخاري في تاريخه وابن أبي حاتم ولم يذكر فيه جرحا، وذكره ابن حبان في الثقات كعادته فيمن لم يجرح، والقول الذي رواه يحيى هذا قد نسب إلى سفيان الثوري والأوزاعي وبه قال أحمد وزاد: وكذا لو تلوط بأبي امرأته أو بأخيها أو بشخص ثم ولد للشخص بنت فإن كلا منهن تحرم على الواطئ لكونها بنت أو أخت من نكحه، وخالف ذلك الجمهور فخصوه بالمرأة المعقود عليها، وهو ظاهر القرآن لقوله: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} والذكر ليس من النساء ولا أختا، وعند الشافعية فيمن تزوج امرأة فلاط بها هل تحرم عليه بنتها أم لا؟ وجهان. والله أعلم. قوله: "وقال عكرمة عن ابن عباس: إذا زنى بها لا تحرم عليه امرأته" وصله البيهقي من طريق هشام عن قتادة عن عكرمة بلفظ في رجل غشى أم امرأته قال: "تخطى حرمتين ولا تحرم عليه امرأته" وإسناده صحيح. وفي الباب حديث مرفوع أخرجه الدار قطني والطبراني من حديث عائشة "إن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الرجل يتبع المرأة حراما ثم ينكح ابنتها أو البنت ثم ينكح أمها، قال : لا يحرم الحرام الحلال إنما يحرم ما كان بنكاح حلال" وفي إسنادهما عثمان بن عبد الرحمن الوقاصي وهو متروك، وقد أخرج ابن ماجه طرفا منه من حديث ابن عمر لا يحرم الحرام الحلال، وإسناده أصلح من الأول. قوله: "ويذكر عن أبي نصر عن ابن عباس أنه حرمه" وصله الثوري في جامعه من طريقه ولفظه أن رجلا قال أنه أصاب أم امرأته، فقال له ابن عباس: حرمت عليك امرأتك، وذلك بعد أن ولدت منه سبعة أولاد كلهم بلغ مبالغ الرجال". قوله: "وأبو نصر هذا لم يعرف بسماعه من ابن عباس" كذا للأكثر. وفي رواية ابن المهدي عن المستملي لا يعرف سماعه وهي أوجه وأبو نصر هذا بصري أسدي، وثقه أبو زرعة. وفي الباب حديث ضعيف أخرجه ابن أبي شيبة من حديث أم هانئ مرفوعا: "من نظر إلى فرج امرأة لم تحل له أمها ولا بنتها" وإسناده مجهول قاله البيهقي. قوله: "ويروى عن عمران بن حصين والحسن وجابر بن زيد وبعض أهل العراق أنها تحرم عليه" أما قول عمران فوصله عبد الرزاق من طريق الحسن البصري عنه، قال فيمن فجر بأم امرأته حرمتا عليه جميعا، ولا بأس بإسناده، وأخرجه ابن أبي شيبة من طريق قتادة عن عمران وهو منقطع، وأما قول جابر بن زيد والحسن فوصله ابن أبي شيبة من طريق قتادة

(9/156)


عنهما قال: حرمت عليه امرأته. قال قتادة: لا تحرم غير أنه لا يغشى امرأته حتى تنقضي عدة التي زنى بها. وأخرجه أبو عبيد من وجه آخر عن الحسن بلفظ: إذا فجر بأم امرأته أو ابنة امرأته حرمت عليه امرأته. وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: قال يحيى بن يعمر للشعبي: والله ما حرم حرام قط حلالا قط، فقال الشعبي: بلى لو صببت خمرا على ماء حرم شرب ذلك الماء. قال قتادة: وكان الحسن يقول مثل قول الشعبي. وأما قوله: "وقال بعض أهل العراق" فلعله عنى به الثوري، فإنه ممن قال بذلك من أهل العراق. وقد أخرج ابن أبي شيبة من طريق حماد عن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود قال: لا ينظر الله إلى رجل نظر إلى فرج امرأة وبنتها. ومن طريق مغيرة عن إبراهيم وعامر هو الشعبي في رجل وقع على أم امرأته قال: حرمتا عليه كلتاهما، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، قالوا إذا زنى بامرأة حرمت عليه أمها وبنتها، وبه قال من غير أهل العراق عطاء والأوزاعي وأحمد وإسحاق، وهي رواية عن مالك، وأبى ذلك الجمهور وحجتهم أن النكاح في الشرع إنما يطلق على المعقود عليها لا على مجرد الوطء، وأيضا فالزنا لا صداق فيه ولا عدة ولا ميراث، قال ابن عبد البر: وقد أجمع أهل الفتوى من الأمصار على أنه لا يحرم على الزاني تزوج من زنى بها، فنكاح أمها وابنتها أجوز. قوله: "وقال أبو هريرة: لا تحرم عليه حتى يلزق بالأرض، يعني حتى يجامع" قال ابن التين يلزق بفتح أوله وضبطه غيره بالضم وهو أوجه، وبالفتح لازم وبالضم متعد يقال لزق به لزوقا وألزقه بغيره، وهو كناية عن الجماع كما قال المصنف وكأنه أشار إلى خلاف الحنفية فأنهم قالوا: تحرم عليه امرأته بمجرد لمس أمها والنظر إلى فرجها، فالحاصل أن ظاهر كلام أبي هريرة أنها لا تحرم إلا إن وقع الجماع، فيكون في المسألة ثلاثة آراء: فمذهب الجمهور لا تحرم إلا بالجماع مع العقد، والحنفية وهو قول عن الشافعي تلتحق المباشرة بشهوة بالجماع لكونه استمتاعا ومحل ذلك إذا كانت المباشرة بسبب مباح أما المحرم فلا يؤثر كالزنا، والمذهب الثالث إذا وقع الجماع حلالا أو زنا أثر بخلاف مقدماته. قوله: "وجوزه سعيد بن المسيب وعروة والزهري" أي أجازوا للرجل أن يقيم مع امرأته ولو زنى بأمها أو أختها سواء فعل مقدمات الجماع أو جامع ولذلك أجازوا له أن يتزوج بنت أو أم من فعل بها ذلك، وقد روى عبد الرزاق من طريق الحارث بن عبد الرحمن قال: سألت سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير عن الرجل يزني بالمرأة هل تحل له أمها؟ فقالا: لا يحرم الحرام الحلال، وعن معمر عن الزهري مثله، وعند البيهقي من طريق يونس بن يزيد عن الزهري أنه سئل عن الرجل يفجر بالمرأة أيتزوج ابنتها؟ فقال: قال بعض العلماء لا يفسد الله حلالا بحرام. قوله: "وقال الزهري قال علي: لا يحرم وهذا مرسل" أما قول الزهري فوصله البيهقي من طريق يحيى بن أيوب عن عقيل عنه أنه سئل عن رجل وطئ أم امرأته، فقال: قال علي بن أبي طالب لا يحرم الحرام الحلال. وأما قوله: وهذا مرسل، ففي رواية الكشميهني وهو مرسل أي منقطع، فأطلق المرسل على المنقطع كما تقدم في فضائل القرآن والخطب فيه سهل، والله أعلم

(9/157)


27- باب {وَرَبَائِبُكُمْ اللاَتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ اللاَتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ الدُّخُولُ وَالْمَسِيسُ وَاللِّمَاسُ هُوَ الْجِمَاعُ وَمَنْ قَالَ بَنَاتُ وَلَدِهَا مِنْ بَنَاتِهِ فِي التَّحْرِيمِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمِّ حَبِيبَةَ لاَ تَعْرِضْنَ عَلَيَّ بَنَاتِكُنَّ وَلاَ أَخَوَاتِكُنَّ وَكَذَلِكَ حَلاَئِلُ وَلَدِ الأَبْنَاءِ هُنَّ حَلاَئِلُ الأَبْنَاءِ وَهَلْ تُسَمَّى الرَّبِيبَةَ

(9/157)


وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِي حَجْرِهِ وَدَفَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَبِيبَةً لَهُ إِلَى مَنْ يَكْفُلُهَا وَسَمَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْنَ ابْنَتِهِ ابْنًا"
5106- حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ زَيْنَبَ عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ قَالَتْ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ لَكَ فِي بِنْتِ أَبِي سُفْيَانَ قَالَ فَأَفْعَلُ مَاذَا قُلْتُ تَنْكِحُ قَالَ أَتُحِبِّينَ قُلْتُ لَسْتُ لَكَ بِمُخْلِيَةٍ وَأَحَبُّ مَنْ شَرِكَنِي فِيكَ أُخْتِي قَالَ إِنَّهَا لاَ تَحِلُّ لِي قُلْتُ بَلَغَنِي أَنَّكَ تَخْطُبُ قَالَ ابْنَةَ أُمِّ سَلَمَةَ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ لَوْ لَمْ تَكُنْ رَبِيبَتِي مَا حَلَّتْ لِي أَرْضَعَتْنِي وَأَبَاهَا ثُوَيْبَةُ فَلاَ تَعْرِضْنَ عَلَيَّ بَنَاتِكُنَّ وَلاَ أَخَوَاتِكُنَّ وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنَا هِشَامٌ دُرَّةُ بِنْتُ أَبِي سَلَمَةَ"
قوله: "باب {وَرَبَائِبُكُمْ اللاَتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ اللاَتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} هذه الترجمة معقودة لتفسير الربيبة وتفسير المراد بالدخول. فأما الربيبة فهي بنت امرأة الرجل، قيل لها ذلك لأنها مربوبة، وغلط من قال هو من التربية. وأما الدخول ففيه قولان: أحدهما أن المراد به الجماع وهو أصح قولي الشافعي، والقول الآخر وهو قول الأئمة الثلاثة المراد به الخلوة. قوله: "وقال ابن عباس: الدخول والمسيس واللماس هو الجماع" تقدم ذكر من وصله عنه في تفسير المائدة، وفيه زيادة. وروى عبد الرزاق من طريق بكر بن عبد الله المزني قال قال ابن عباس: الدخول والتغشي والإفضاء والمباشرة والرفث واللمس الجماع، إلا أن الله حيي كريم يكنى بما شاء عما شاء. قوله: "ومن قال بنات ولدها هن من بناتها في التحريم" سقط من هنا إلى آخر الترجمة من رواية أبي ذر عن السرخسي، وقد تقدم حكم ذلك في الباب الذي قبله. قوله: "لقول النبي صلى الله عليه وسلم لأم حبيبة إلخ" قد وصله في الباب، ووجه الدلالة من عموم قوله: "بناتكن" لأن الابن بنت. قوله: "وكذلك حلائل ولد الأبناء هن حلائل الأبناء" أي مثلهن في التحريم، وهذا بالاتفاق، فكذلك بنات الأبناء وبنات البنات. قوله: "وهل تسمى الربيبة وإن لم تكن في حجره" أشار بهذا إلى أن التقييد بقوله: "في حجوركم" هل هو للغالب، أو يعتبر فيه مفهوم المخالفة؟ وقد ذهب الجمهور إلى الأول، وفيه خلاف قديم أخرجه عبد الرزاق وابن المنذر وغيرهما من طريق إبراهيم بن عبيد عن مالك بن أوس قال: كانت عندي امرأة قد ولدت لي، فماتت فوجدت عليها، فلقيت علي بن أبي طالب فقال لي: مالك؟ فأخبرته، فقال: ألها ابنة؟ يعني من غيرك، قلت: نعم قال: كانت في حجرك؟ قلت: لا، هي في الطائف، قال: فانكحها، قلت: فأين قوله تعالى :{وَرَبَائِبُكُمُ} قال إنها لم تكن في حجرك. وقد دفع بعض المتأخرين هذا الأثر وادعى نفي ثبوته بأن إبراهيم بن عبيد لا يعرف، وهو عجيب، فإن الأثر المذكور عند ابن أبي حاتم في تفسيره من طريق إبراهيم بن عبيد بن رفاعة، وإبراهيم ثقة تابعي معروف، وأبوه وجده صحابيان، والأثر صحيح عن علي. وكذا صح عن عمر أنه أفتى من سأله إذ تزوج بنت رجل كانت تحته جدتها ولم تكن البنت في حجره أخرجه أبو عبيد، وهذا وإن كان الجمهور على خلافه فقد احتج أبو عبيد للجمهور بقوله صلى الله عليه وسلم: "فلا تعرضن علي بناتكن" قال نعم ولم يقيد بالحجر، وهذا فيه نظر لأن المطلق محمول على المقيد، ولولا الإجماع الحادث في المسألة وندرة المخالف لكان الأخذ به أولى. لأن التحريم جاء مشروطا بأمرين: أن تكون في الحجر وأن يكون الذي يريد التزويج قد دخل بالأم، فلا تحرم بوجود أحد الشرطين.

(9/158)


واحتجوا أيضا بقوله صلى الله عليه وسلم: "لو لم تكن ربيبتي ما حلت لي" وهذا وقع في بعض طرق الحديث ما تقدم، وفي أكثر طرقه: "لو لم تكن ربيبتي في حجري" فقيد بالحجر كما قيد به القرآن فقوي اعتباره، والله أعلم. قوله: "ودفع النبي صلى الله عليه وسلم ربيبة له إلى من يكفلها" هذا طرف من حديث وصله البزار والحاكم من طريق أبي إسحاق عن فروة بن نوفل الأشجعي عن أبيه "وكان النبي صلى الله عليه وسلم دفع إليه زينب بنت أم سلمة وقال: إنما أنت ظئري، قال فذهب بها ثم جاء، فقال: ما فعلت الجويرة به؟ قال: عند أمها - يعني من الرضاعة - وجئت لتعلمني" فذكر حديثا فيما يقرأ عند النوم، وأصله عند أصحاب السنن الثلاثة بدون القصة، وأصل قصة زينب بنت أم سلمة عند أحمد وصححه ابن حبان من طريق أبي بكر بن عبد الرحمن ابن الحارث أن أم سلمة أخبرته أنها "لما قدمت المدينة - فذكرت القصة في هجرتها ثم موت أبي سلمة - قالت فلما وضعت زينب جاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم فخطبني - الحديث وفيه - فجعل يأتينا فيقول أين زناب؟ حتى جاء عمار هو ابن ياسر فاختلجها وقال: هذه تمنع رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجته، وكانت ترضعها، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال أين زناب؟ فقالت قريبة بنت أبي أمية وهي أخت أم سلمة: وافقتها عندما أخذها عمار بن ياسر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إني آتيكم الليلة" وفي رواية لأحمد "فجاء عمار وكان أخاها لأمها - يعني أم سلمة - فدخل علها فانتشطها من حجرها وقال: دعي هذه المقبوحة" الحديث. قوله: "وسمى النبي صلى الله عليه وسلم ابن ابنته ابنا" هذا طرف من حديث تقدم موصولا في المناقب من حديث أبي بكرة وفيه: "إن ابني هذا سيد" يعني الحسن بن علي، وأشار المصنف بهذا إلى تقوية ما تقدم ذكره في الترجمة أن بنت ابن الزوجة في حكم بنت الزوجة ثم ساق حديث أم حبيبة "قلت يا رسول الله هل لك في بنت أبي سفيان" وقد تقدم شرحه مستوفى قبل هذا، وقوله: "أرضعتني وأباها ثويبة" هو بفتح الهمزة والموحدة الخفيفة، وثويبة بالرفع الفاعل والضمير لبنت أم سلمة، والمعنى أرضعتني ثويبة وأرضعت والد درة بنت أبي سلمة، وقد تقدم في الباب الماضي التصريح بذلك فقال: "أرضعتني وأبا سلمة" وإنما نبهت على ذلك لأن صاحب "المشارق" نقل أن بعض الرواة عن أبي ذر رواها بكسر الهمزة وتشديد التحتانية فصحف، ويكفي في الرد عليه قوله الرواية في الأخرى "إنها ابنة أخي من الرضاعة" ووقع في رواية لمسلم: "أرضعتني وأباها أبا سلمة". قوله:" وقال الليث حدثنا هشام درة بنت أم سلمة "يعني أن الليث رواه عن هشام بن عروة بالإسناد المذكور فسمى بنت أم سلمة درة، وكأنه رمز بذلك إلى غلط من سماها زينب، وقد قدمت أنها في رواية الحميدي عن سفيان؛ وأن المصنف أخرجه عن الحميدي فلم يسمها، وقد ذكر المصنف الحديث أيضا في الباب الذي بعده من طريق الليث أيضا عن ابن شهاب عن عروة فسماها أيضا درة

(9/159)


باب وأن تجمعوا بين الأختين إلا ماقد سلف
...
28- باب {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ }
5107- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ أَخْبَرَهُ أَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ قَالَتْ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ انْكِحْ أُخْتِي بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ قَالَ وَتُحِبِّينَ قُلْتُ نَعَمْ لَسْتُ لَكَ بِمُخْلِيَةٍ وَأَحَبُّ مَنْ شَارَكَنِي فِي خَيْرٍ أُخْتِي فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ ذَلِكِ لاَ يَحِلُّ لِي قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَوَاللَّهِ إِنَّا لَنَتَحَدَّثُ أَنَّكَ تُرِيدُ أَنْ تَنْكِحَ دُرَّةَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ بِنْتَ أُمِّ سَلَمَةَ

(9/159)


فَقُلْتُ نَعَمْ قَالَ فَوَاللَّهِ لَوْ لَمْ تَكُنْ فِي حَجْرِي مَا حَلَّتْ لِي إِنَّهَا لاَبْنَةُ أَخِي مِنْ الرَّضَاعَةِ أَرْضَعَتْنِي وَأَبَا سَلَمَةَ ثُوَيْبَةُ فَلاَ تَعْرِضْنَ عَلَيَّ بَنَاتِكُنَّ وَلاَ أَخَوَاتِكُنَّ"
قوله: "باب {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} أورد فيه حديث أم حبيبة المذكور لقوله: "فلا تعرضن علي بناتكن ولا أخواتكن" والجمع بين الأختين في التزويج حرام بالإجماع، سواء كانتا شقيقتين أم من أب أم من أم، وسواء النسب والرضاع. واختلف فيما إذا كانتا بملك اليمين، فأجازه بعض السلف وهو رواية عن أحمد والجمهور، وفقهاء الأمصار على المنع، ونظيره الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها، وحكاه الثوري عن الشيعة.

(9/160)


29 - باب لاَ تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا
5108- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا عَاصِمٌ عَنْ الشَّعْبِيِّ سَمِعَ جَابِرًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُنْكَحَ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا وَقَالَ دَاوُدُ وَابْنُ عَوْنٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ"
5109- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال : "لاَ يُجْمَعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا وَلاَ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا"
[الحديث 5109- طرفه في: 5110]
5110- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ حَدَّثَنِي قَبِيصَةُ بْنُ ذُؤَيْبٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُنْكَحَ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَالْمَرْأَةُ وَخَالَتُهَا فَنُرَى خَالَةَ أَبِيهَا بِتِلْكَ الْمَنْزِلَةِ"
5111- لِأَنَّ عُرْوَةَ حَدَّثَنِي عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ حَرِّمُوا مِنْ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ"
قوله: "باب لا تنكح المرأة على عمتها" أي ولا على خالتها وهذا اللفظ رواية أبي بكر ابن أبي شيبة عن عبد الله ابن المبارك بإسناد حديث الباب، وكذا هو عند مسلم من طريق يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة ومن طريق هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة. قوله: "عاصم" هو ابن سليمان البصري الأحول. قوله: "الشعبي سمع جابرا" كذا قال عاصم وحده. قوله: "وقال داود وابن عون عن الشعبي عن أبي هريرة" أما رواية داود وهو ابن أبي هند فوصلها أبو داود والترمذي والدارمي من طريقه قال: "حدثنا عامر هو الشعبي أنبأنا أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن تنكح المرأة على عمتها. أو المرأة على خالتها، أو العمة على بنت أخيها، أو الخالة على بنت أختها لا الصغرى على الكبرى ولا الكبرى على الصغرى" لفظ الدارمي والترمذي نحوه، ولفظ أبي داود "لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها" وأخرجه مسلم من وجه آخر عن داود بن أبي هند فقال: "عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة فكان لداود فيه شيخين، وهو محفوظ لابن سيرين عن أبي هريرة من غير هذا الوجه. وأما رواية ابن عون وهو عبد الله فوصلها النسائي من طريق خالد بن الحارث

(9/160)


عنه بلفظ :" لا تزوج المرأة على عمتها ولا على خالتها" ووقع لنا في "فوائد أبي محمد بن أبي شريح" من وجه آخر عن ابن عون بلفظ: "نهى أن تنكح المرأة على ابنة أخيها أو ابنة أختها" والذي يظهر أن الطريقين محفوظان، وقد رواه حماد بن سلمة عن عاصم عن الشعبي عن جابر أو أبي هريرة لكن نقل البيهقي عن الشافعي أن هذا الحديث لم يرو من وجه يثبته أهل الحديث إلا عن أبي هريرة، وروى من وجوه لا يثبتها أهل العلم بالحديث، قال البيهقي هو كما قال، قد جاء من حديث علي وابن مسعود وابن عمر وابن عباس وعبد الله بن عمرو وأنس وأبي سعيد وعائشة، وليس فيها شيء على شرط الصحيح، وإنما اتفقا على إثبات حديث أبي هريرة. وأخرج البخاري رواية عاصم عن الشعبي عن جابر وبين الاختلاف على الشعبي فيه، قال: والحفاظ يرون رواية عاصم خطأ، والصواب رواية ابن عون وداود بن أبي هند ا هـ. وهذا الاختلاف لم يقدح عند البخاري، لأن الشعبي أشهر بجابر منه بأبي هريرة، وللحديث طرق أخرى عن جابر بشرط الصحيح أخرجها النسائي من طريق ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر، والحديث محفوظ أيضا من أوجه عن أبي هريرة، فلكل من الطريقين ما يعضده، وقول من نقل البيهقي عنهم تضعيف حديث جابر معارض بتصحيح الترمذي وابن حبان وغيرهما له، وكفى بتخريج البخاري له موصولا قوة. قال ابن عبد البر: كان بعض أهل الحديث يزعم أنه لم يرو هذا الحديث غير أبي هريرة - يعني من وجه يصح - وكأنه لم يصحح حديث الشعبي عن جابر وصححه عن أبي هريرة، والحديثان جميعا صحيحان. وأما من نقل البيهقي أنهم رووه من الصحابة غير هذين فقد ذكر مثل ذلك الترمذي بقوله: "وفي الباب:" لكن لم يذكر ابن مسعود ولا ابن عباس ولا أنسا، وزاد بدلهم أبا موسى وأبا أمامة وسمرة. ووقع لي أيضا من حديث أبي الدرداء ومن حديث عتاب بن أسيد ومن حديث سعد بن أبي وقاص ومن حديث زينب امرأة ابن مسعود فصار عدة من رواه غير الأولين ثلاثة عشر نفسا، وأحاديثهم موجودة عند ابن أبي شيبة وأحمد وأبي داود والنسائي وابن ماجه وأبي يعلى والبزار والطبراني وابن حبان وغيرهم، ولولا خشية التطويل لأوردتها مفصلة، لكن في لفظ حديث ابن عباس عند ابن أبي داود أنه كره أن يجمع بين العمة والخالة وبين العمتين والخالتين، وفي روايته عند ابن حبان: "نهي أن تزوج المرأة على العمة والخالة. وقال: إنكن إذا فعلتن ذلك قطعتن أرحامكن، قال الشافعي: تحريم الجمع بين من ذكر هو قول من لقيته من المفتين لا اختلاف بينهم في ذلك. وقال الترمذي بعد تخريجه: العمل على هذا عند عامة أهل العلم لا نعلم بينهم اختلافا أنه لا يحل للرجل أن يجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها ولا أن تنكح المرأة على عمتها أو خالتها. وقال ابن المنذر: لست أعلم في منع ذلك اختلافا اليوم، وإنما قال بالجواز فرقة من الخوارج، وإذا ثبت الحكم بالسنة واتفق أهل العلم على القول به لم يضره خلاف من خالفه، وكذا نقل الإجماع ابن عبد البر وابن حزم والقرطبي والنووي، لكن استثنى ابن حزم عثمان البتي وهو أحد الفقهاء القدماء من أهل البصرة وهو بفتح الموحدة وتشديد المثناة، واستثنى النووي طائفة من الخوارج والشيعة، واستثنى القرطبي الخوارج ولفظه: اختار الخوارج الجمع بين الأختين وبين المرأة وعمتها وخالتها، ولا يعتد بخلافهم لأنهم مرقوا من الدين ا هـ. وفي نقله عنهم جواز الجمع بين الأختين غلط بين، فإن عمدتهم التمسك بأدلة القرآن لا يخالفونها البتة وإنما يردون الأحاديث لاعتقادهم عدم الثقة بنقلتها، وتحريم الجمع بين الأختين بنصوص القرآن. ونقل ابن دقيق العيد تحريم الجمع بين المرأة وعمتها عن جمهور العلماء ولم يعين المخالف. قوله: "لا يجمع ولا ينكح" كله في الروايات بالرفع على الخبر عن المشروعية وهو يتضمن النهي

(9/161)


قاله القرطبي. قوله: "على عمتها" ظاهره تخصيص المنع بما إذا تزوج إحداهما على الأخرى، ويؤخذ منه منع تزويجهما معا، فإن جمع بينهما بعقد بطلا أو مرتبا بطل الثاني. قوله في الرواية الأخيرة "فنرى" بضم النون أي نظن، وبفتحها أي نعتقد. قوله: "خالة أبيها بتلك المنزلة" أي من التحريم. قوله: "لأن عروة حدثني إلخ" في أخذ هذا الحكم من هذا الحديث نظر، وكأنه أراد إلحاق ما يحرم بالصهر بما يحرم بالنسب كما يحرم بالرضاع ما يحرم بالنسب، ولما كانت خالة الأب من الرضاع لا يحل نكاحها فكذلك خالة الأب لا يجمع بينها وبين بنت ابن أخيها، وقد تقدم شرح حديث عائشة المذكور. قال النووي: احتج الجمهور بهذه الأحاديث وخصوا بها عموم القرآن في قوله تعالى :{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} وقد ذهب الجمهور إلى جواز تخصيص عموم القرآن بخبر الآحاد، وانفصل صاحب الهداية من الحنفية عن ذلك بأن هذا من الأحاديث المشهورة التي تجوز الزيادة على الكتاب بمثلها، والله أعلم

(9/162)


30- باب الشِّغَارِ
5112- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الشِّغَارِ وَالشِّغَارُ أَنْ يُزَوِّجَ الرَّجُلُ ابْنَتَهُ عَلَى أَنْ يُزَوِّجَهُ الْآخَرُ ابْنَتَهُ لَيْسَ بَيْنَهُمَا صَدَاقٌ"
[الحديث 5112- طرفه في: 6960]
قوله: "باب الشغار" بمعجمتين مكسور الأول. قوله: "نهى عن الشغار" في رواية ابن وهب عن مالك "نهى عن نكاح الشغار، ذكره ابن عبد البر، وهو مراد من حذفه. قوله: "والشغار أن يزوج الرجل ابنته إلخ" قال ابن عبد البر: ذكر تفسير الشغار جميع رواة مالك عنه. قلت: ولا يرد على إطلاقه أن أبا داود أخرجه عن القعنبي فلم يذكر التفسير، وكذا أخرجه الترمذي من طريق معن بن عيسى لأنهما اختصرا ذلك في تصنيفهما، وإلا فقد أخرجه النسائي من طريق معن بالتفسير، وكذا أخرجه الخطيب في "المدرج" من طريق القعنبي. نعم اختلف الرواة عن مالك فيمن ينسب إليه تفسير الشغار، فالأكثر لم ينسبوه لأحد، ولهذا قال الشافعي فيما حكاه البيهقي في "المعرفة" : لا أدري التفسير عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن ابن عمر أو عن نافع أو عن مالك، ونسبه محرز بن عون وغيره لمالك. قال الخطيب: تفسير الشغار ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم وإنما هو قول مالك وصل بالمتن المرفوع، وقد بين ذلك ابن مهدي والقعنبي ومحرز بن عون، ثم ساقه كذلك عنهم، ورواية محرز بن عون عند الإسماعيلي والدار قطني في "الموطآت" وأخرجه الدار قطني أيضا من طريق خالد بن مخلد عن مالك قال: سمعت أن الشغار أن يزوج الرجل إلخ، وهذا دال على أن التفسير من منقول مالك لا من مقوله. ووقع عند المصنف - كما سيأتي في كتاب ترك الحيل - من طريق عبيد الله بن عمر عن نافع في هذا الحديث تفسير الشغار من قول نافع ولفظه: "قال عبيد الله بن عمر قلت لنافع: ما الشغار؟ فذكره" فلعل مالكا أيضا نقله عن نافع. وقال أبو الوليد الباجي: الظاهر أنه من جملة الحديث، وعليه يحمل حتى يتبين أنه من قول الراوي وهو نافع. قلت: قد تبين ذلك، ولكن لا يلزم من كونه لم يرفعه أن لا يكون في نفس الأمر مرفوعا، فقد ثبت ذلك من غير روايته، فعند مسلم من رواية أبي أسامة وابن نمير عن عبيد الله بن عمر أيضا عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة مثله سواء، قال: وزاد ابن نمير

(9/162)


"والشغار أن يقول الرجل للرجل زوجني ابنتك وأزوجك ابنتي وزوجني أختك وأزوجك أختي" وهذا يحتمل أن يكون من كلام عبيد الله بن عمر فيرجع إلى نافع، ويحتمل أن يكون تلقاه عن أبي الزناد، ويؤيد الاحتمال الثاني وروده في حديث أنس وجابر وغيرهما أيضا، فأخرج عبد الرزاق عن معمر عن ثابت وأبان عن أنس مرفوعا: "لا شغار في الإسلام، والشغار أن يزوج الرجل الرجل أخته بأخته" وروى البيهقي من طريق نافع بن يزيد عن ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر مرفوعا: "نهي عن الشغار، والشغار أن ينكح هذه بهذه بغير صداق، بضع هذه صداق هذه وبضع هذه صداق هذه. وأخرج أبو الشيخ في كتاب النكاح من حديث أبي ريحانة "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المشاغرة، والمشاغرة أن يقول زوج هذا من هذه وهذه من هذا بلا مهر" قال القرطبي: تفسير الشغار صحيح موافق لما ذكره أهل اللغة فإن كان مرفوعا فهو المقصود، وإن كان من قول الصحابي فمقبول أيضا لأنه أعلم بالمقال وأقعد بالحال ا هـ. وقد اختلف الفقهاء هل يعتبر في الشغار الممنوع ظاهر الحديث في تفسيره، فإن فيه وصفين أحدهما تزويج من الوليين وليته للآخر بشرط أن يزوجه وليته، والثاني خلو بضع كل منهما من الصداق، فمنهم من اعتبرهما معا حتى لا يمنع مثلا إذا زوج كل منهما الآخر بغير شرط وإن لم يذكر الصداق، أو زوج كل منهما الآخر بالشرط وذكر الصداق. وذهب أكثر الشافعية إلى أن علة النهي الاشتراك في البضع لأن بضع كل منهما يصير مورد العقد، وجعل البضع صداقا مخالف لا يراد عقد النكاح، وليس المقتضي للبطلان ترك ذكر الصداق لأن النكاح يصح بدون تسمية الصداق. واختلفوا فيما إذا لم يصرحا بذكر البضع فالأصح عندهم الصحة، ولكن وجد نص الشافعي على خلافه ولفظه: إذا زوج الرجل ابنته أو المرأة يلي أمرها من كانت لآخر على أن صداق كل واحدة بضع الأخرى أو على أن ينكحه الأخرى ولم يسم أحد منهما لواحدة منهما صداقا فهذا الشغار الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو منسوخ، هكذا ساقه البيهقي بإسناده الصحيح عن الشافعي، قال: وهو الموافق للتفسير المنقول في الحديث، واختلف نص الشافعي فيما إذا سمي مع ذلك مهرا فنص في "الإملاء" على البطلان، وظاهر نصه في "المختصر" الصحة، وعلى ذلك اقتصر في النقل عن الشافعي من ينقل الخلاف من أهل المذاهب. وقال القفال: العلة في البطلان التعليق والتوقيف، فكأنه يقول لا ينعقد لك نكاح بنتي حتى ينعقد لي نكاح بنتك. وقال الخطابي: كان ابن أبي هريرة يشبه برجل تزوج امرأة ويستثنى عضوا من أعضائها وهو مما لا خلاف في فساده، وتقرير ذلك أنه يزوج وليته ويستثنى بضعها حيث يجعله صداقا للأخرى. وقال الغزالي في "الوسيط" : صورته الكاملة أن يقول زوجتك ابنتي على أن تزوجني ابنتك على أن يكون بضع كل واحدة منهما صداقا للأخرى، ومهما انعقد نكاح ابنتي انعقد نكاح ابنتك. قال شيخنا في "شرح الترمذي" ينبغي أن يزاد: ولا يكون مع البضع شيء آخر ليكون متفقا على تحريمه في المذهب. ونقل الخرقي أن أحمد نص على أن علة البطلان ترك ذكر المهر، ورجح ابن تيمية في "المحرر" أن العلة التشريك في البضع. وقال ابن دقيق العيد: ما نص عليه أحمد هو ظاهر التفسير المذكور في الحديث لقوله فيه ولا صداق بينهما، فإنه يشعر بأن جهة الفساد ذلك، وإن كان يحتمل أن يكون ذلك ذكر لملازمته لجهة الفساد، ثم قال: وعلى الجملة ففيه شعور بأن عدم الصداق له مدخل في النهي، ويؤيده حديث أبي ريحانة الذي تقدم ذكره. وقال ابن عبد البر: أجمع العلماء على أن نكاح الشغار لا يجوز، ولكن اختلفوا في صحته فالجمهور على البطلان. وفي رواية عن مالك يفسخ قبل الدخول لا بعده، وحكاه ابن المنذر عن الأوزاعي. وذهب الحنفية

(9/163)


إلى صحته ووجوب مهر المثل، وهو قول الزهري ومكحول والثوري والليث ورواية عن أحمد وإسحاق وأبي ثور، وهو قول على مذهب الشافعي، لاختلاف الجهة. لكن قال الشافعي: إن النساء محرمات إلا ما أحل الله أو ملك يمين، فإذا ورد النهي عن نكاح تأكد التحريم.
"تنبيه": ذكر البنت في تفسير الشغار مثال، وقد تقدم في رواية أخرى ذكر الأخت، قال النووي: أجمعوا على أن غير البنات من الأخوات وبنات الأخ وغيرهن كالبنات في ذلك، والله أعلم

(9/164)


31- باب هَلْ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَهَبَ نَفْسَهَا لِأَحَدٍ
5113- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ قَالَ كَانَتْ خَوْلَةُ بِنْتُ حَكِيمٍ مِنْ اللاَئِي وَهَبْنَ أَنْفُسَهُنَّ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ عَائِشَةُ أَمَا تَسْتَحِي الْمَرْأَةُ أَنْ تَهَبَ نَفْسَهَا لِلرَّجُلِ فَلَمَّا نَزَلَتْ {تُرْجِئُ مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَرَى رَبَّكَ إِلاَّ يُسَارِعُ فِي هَوَاكَ رَوَاهُ أَبُو سَعِيدٍ الْمُؤَدِّبُ وَمُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ وَعَبْدَةُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ يَزِيدُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ"
قوله: "باب هل للمرأة أن تهب نفسها لأحد" أي فيحل له نكاحها بذلك، وهذا يتناول صورتين: إحداهما مجرد الهبة من غير ذكر مهر، والثاني العقد بلفظ الهبة. فالصورة الأولى ذهب الجمهور إلى بطلان النكاح، وأجازه الحنفية والأوزاعي، ولكن قالوا يجب مهر المثل. وقال الأوزاعي: إن تزوج بلفظ الهبة وشرط أن لا مهر لم يصح النكاح. وحجة الجمهور قوله تعالى :{خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} فعدوا ذلك من خصائصه صلى الله عليه وسلم وأنه يتزوج بلفظ الهبة بغير مهر في الحال ولا في المآل. وأجاب المجيزون عن ذلك بأن المراد أن الواهبة تختص به لا مطلق الهبة. والصورة الثانية ذهب الشافعية وطائفة إلى أن النكاح لا يصح إلا بلفظ النكاح أو التزويج، لأنهما الصريحان اللذان ورد بهما القرآن والحديث. وذهب الأكثر إلى أنه يصح بالكنايات، واحتج الطحاوي لهم بالقياس على الطلاق فإنه يجوز بصرائحه وبكناياته مع القصد. قوله: "حدثنا هشام" هو ابن عروة عن أبيه "قال كانت خولة" هذا مرسل، لأن عروة لم يدرك زمن القصة، لكن السياق يشعر بأنه حمله عن عائشة. وقد ذكر المصنف عقب هذه الطريق رواية من صرح فيه بذكر عائشة تعليقا، وقد تقدم في تفسير الأحزاب من طريق أبي أسامة عن هشام كذلك موصولا. قوله: "بنت حكيم" أي ابن أمية بن الأوقص السلمية، وكانت زوج عثمان بن مظعون، وهي من السابقات إلى الإسلام، وأمها من بني أمية. قوله: "من اللائي وهبن" وكذا وقع في رواية أبي أسامة المذكورة "قالت كنت أغار من اللائي وهبن أنفسهن" وهذا يشعر بتعدد الواهبات وقد تقدم تفسيرهن في تفسير سورة الأحزاب، ووقع في رواية أبي سعيد المؤدب الآتي ذكرها في المعلقات عن عروة عن عائشة "قالت التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم خولة بنت حكيم" وهذا محمول على تأويل أنها السابقة إلى ذلك، أو نحو ذلك من الوجوه التي لا تقتضي الحصر المطلق. قوله: "فقالت عائشة: أما تستحي المرأة أن تهب نفسها" وفي رواية محمد بن بشر الموصولة عن عائشة أنها كانت تعير اللائي التقبيح وهبن أنفسهن. قوله: "أن تهب نفسها" زاد في رواية محمد بن بشر "بغير صداق". قوله: "فلما نزلت: ترجئ من تشاء" في رواية عبدة بن سليمان" فأنزل الله ترجئ" وهذا

(9/164)


أظهر في أن نزول الآية بهذا السبب، قال القرطبي حملت عائشة على هذا القبيح الغيرة التي طبعت عليها النساء وإلا فقد علمت أن الله أباح لنبيه ذلك وأن جميع النساء لو ملكن له رقهن لكان قليلا. قوله: "ما أرى ربك إلا يسارع في هواك" في رواية محمد بن بشر "إني لأرى ربك يسارع لك في هواك" أي في رضاك، قال القرطبي: هذا قول أبرزه الدلال والغيرة، وهو من نوع قولها ما أحمدكما ولا أحمد إلا الله، وإلا فإضافة الهوى إلى النبي صلى الله عليه وسلم لا تحمل على ظاهره، لأنه لا ينطق عن الهوى ولا يفعل بالهوى، ولو قالت إلى مرضاتك لكان أليق، ولكن الغيرة يغتفر لأجلها إطلاق مثل ذلك. قوله: "رواه أبو سعيد المؤدب ومحمد بن بشر وعبدة عن هشام عن أبيه عن عائشة يزيد بعضهم على بعض" أما رواية أبي سعيد واسمه محمد بن مسلم بن أبي الوضاح فوصلها ابن مردويه في التفسير والبيهقي من طريق منصور بن أبي مزاحم عنه مختصرا كما نبهت عليه "قالت التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم خولة بنت حكيم" حسب، وأما رواية محمد بن بشر فوصلها الإمام أحمد عنه بتمام الحديث، وقد بينت ما فيه من زيادة وفائدة، وأما رواية عبدة وهو ابن سليمان فوصلها مسلم وابن ماجه من طريقه وهي نحو رواية محمد بن بشر.

(9/165)


32- باب نِكَاحِ الْمُحْرِمِ
5114- حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ أَخْبَرَنَا عَمْرٌو حَدَّثَنَا جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ قَالَ أَنْبَأَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا تَزَوَّجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ"
قوله: "باب نكاح المحرم" كأنه يحتج إلى الجواز، لأنه لم يذكر في الباب شيئا غير حديث ابن عباس في ذلك، ولم يخرج حديث المنع كأنه لم يصح عنده على شرطه. قوله: "أخبرنا عمرو" هو ابن دينار، وجابر بن زيد هو أبو الشعثاء. قوله: "تزوج النبي صلى الله عليه وسلم وهو محرم" تقدم في أواخر الحج من طريق الأوزاعي عن عطاء عن ابن عباس بلفظ: "تزوج ميمونة وهو محرم" وفي رواية عطاء المذكورة عن ابن عباس عند النسائي: "تزوج النبي صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو محرم جعلت أمرها إلى العباس فأنكحها إياه" وتقدم في عمرة القضاء من رواية عكرمة بلفظ حديث الأوزاعي وزاد: "وبنا بها وهي حلال" وماتت بسرف، قال الأثرم: قلت لأحمد إن أبا ثور يقول بأي شيء يدفع حديث ابن عباس - أي مع صحته - قال فقال: الله المستعان، ابن المسيب يقول: وهم ابن عباس، وميمونة تقول تزوجني وهو حلال ا هـ. وقد عارض حديث ابن عباس حديث عثمان "لا ينكح المحرم ولا ينكح" أخرجه مسلم، ويجمع بينه وبين حديث ابن عباس يحمل حديث ابن عباس على أنه من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم. وقال ابن عبد البر: اختلفت الآثار في هذا الحكم؛ لكن الرواية أنه تزوجها وهو حلال، جاءت من طرق شتى، وحديث ابن عباس صحيح الإسناد، لكن الوهم إلى الواحد أقرب إلى الوهم من الجماعة فأقل أحوال الخبرين أن يتعارضا فتطلب الحجة من غيرهما وحديث عثمان صحيح في منع نكاح المحرم فهو المعتمد ا هـ، وقد تقدم في أواخر كتاب الحج البحث في ذلك ملخصا وأن منهم من حمل حديث عثمان على الوطء، وتعقب بأنه ثبت فيه: "لا ينكح بفتح أوله ولا ينكح بضم أوله ولا يخطب" ووقع في صحيح ابن حبان زيادة "ولا يخطب عليه" ويترجح حديث عثمان بأنه تقعيد قاعدة، وحديث ابن عباس واقعة عين تحتمل أنواعا من الاحتمالات: فمنها أن ابن عباس كان يرى أن من قلد الهدي يصير محرما كما تقدم تقرير ذلك عنه في كتاب الحج، والنبي صلى الله عليه وسلم كان قلد الهدي في عمرته تلك التي تزوج فيها ميمونة، فيكون

(9/165)


إطلاقه أنه صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو محرم أي عقد عليها بعد أن قلد الهدي وإن لم يكن تلبس بالإحرام، وذلك أنه كان أرسل إليها أبا رافع يخطبها فجعلت أمرها إلى العباس فزوجها من النبي صلى الله عليه وسلم. وقد أخرج الترمذي وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما من طريق مطر الوراق عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن سليمان بن يسار عن أبي رافع "أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو حلال، وبنى بها وهو حلال، وكنت أنا الرسول بينهما" قال الترمذي: لا نعلم أحدا أسنده غير حماد بن زيد عن مطر، ورواه مالك عن ربيعة عن سليمان مرسلا. ومنها أن قول ابن عباس تزوج ميمونة وهو محرم أي داخل الحرام أو في الشهر الحرام، قال الأعشى "قتلوا كسرى بليل محرما" أي في الشهر الحرام.وقال آخر "قتلوا ابن عفان الخليفة محرما" أي في البلد الحرام، وإلى هذا التأويل جنح ابن حبان فجزم به في صحيحه. وعارض حديث ابن عباس أيضا حديث يزيد بن الأصم "أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو حلال" أخرجه مسلم من طريق الزهري قال: "وكانت خالته كما كانت خالة ابن عباس" وأخرج مسلم من وجه آخر عن يزيد ابن الأصم قال: "حدثتني ميمونة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو حلال، قال: وكانت خالتي وخالة ابن عباس" وأما أثر ابن المسيب الذي أشار إليه أحمد فأخرجه أبو داود. وأخرج البيهقي من طريق الأوزاعي عن عطاء عن ابن عباس الحديث قال: وقال سعيد بن المسيب ذهل ابن عباس وإن كانت خالته ما تزوجها إلا بعدما أحل، قال الطبري: الصواب من القول عندنا أن نكاح المحرم فاسد لصحة حديث عثمان، وأما قصة ميمونة فتعارضت الأخبار فيها ثم ساق من طريق أيوب قال: أنبئت أن الاختلاف في زواج ميمونة إنما وقع لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان بعث إلى العباس لينكحها إياه فأنكحه، فقال بعضهم أنكحها قبل أن يحرم النبي صلى الله عليه وسلم. وقال بعضهم بعدما أحرم، وقد ثبت أن عمر وعليا وغيرهما من الصحابة فرقوا بين محرم نكح وبين امرأته ولا يكون هذا إلا عن ثبت. "تنبيه": قدمت في الحج أن حديث ابن عباس جاء مثله صحيحا عن عائشة وأبي هريرة، فأما حديث عائشة فأخرجه النسائي من طريق أبي سلمة عنه، وأخرجه الطحاوي والبزار من طريق مسروق عنها وصححه ابن حبان، وأكثر ما أعل بالإرسال وليس ذلك بقادح فيه. وقال النسائي: "أخبرنا عمرو بن علي أنبأنا أبو عاصم عن عثمان بن الأسود عن ابن أبي مليكة عن عائشة مثله" قال عمرو بن علي قلت لأبي عاصم: أنت أمليت علينا من الرقعة ليس فيه عائشة، فقال: دع عائشة حتى أنظر فيه، وهذا إسناد صحيح لولا هذه القصة، لكن هو شاهد قوي أيضا وأما حديث أبي هريرة أخرجه الدار قطني وفي إسناده كامل أبو العلاء وفيه ضعف، لكنه يعتضد بحديثي ابن عباس وعائشة، وفيه رد على قول ابن عبد البر أن ابن عباس تفرد من بين الصحابة بأن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج وهو محرم، وجاء عن الشعبي ومجاهد مرسلا مثله أخرجهما ابن أبي شيبة. وأخرج الطحاوي من طريق عبد الله بن محمد بن أبي بكر قال: سألت أنسا عن نكاح المحرم فقال: لا بأس به وهل هو [إلا] كالبيع وإسناده قوي لكنه قياس في مقابل النص فلا عبرة به، وكان أنسا لم يبلغه حديث عثمان

(9/166)


باب نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نكاح المتعة أخيراً
...
33- باب نَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ آخِرًا
5115- حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ أَنَّهُ سَمِعَ الزُّهْرِيَّ يَقُولُ أَخْبَرَنِي الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ وَأَخُوهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِمَا أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الْمُتْعَةِ وَعَنْ لُحُومِ

(9/166)


الْحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ زَمَنَ خَيْبَرَ"
5116- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي جَمْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ سُئِلَ عَنْ مُتْعَةِ النِّسَاءِ فَرَخَّصَ فَقَالَ لَهُ مَوْلًى لَهُ إِنَّمَا ذَلِكَ فِي الْحَالِ الشَّدِيدِ وَفِي النِّسَاءِ قِلَّةٌ أَوْ نَحْوَهُ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ نَعَمْ"
5117، 5118- حَدَّثَنَا عَلِيٌّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ عَمْرٌو عَنْ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَسَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ قَالاَ كُنَّا فِي جَيْشٍ فَأَتَانَا رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ إِنَّهُ قَدْ أُذِنَ لَكُمْ أَنْ تَسْتَمْتِعُوا فَاسْتَمْتِعُوا"
5119- وَقَالَ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ حَدَّثَنِي إِيَاسُ بْنُ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّمَا رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ تَوَافَقَا فَعِشْرَةُ مَا بَيْنَهُمَا ثَلاَثُ لَيَالٍ فَإِنْ أَحَبَّا أَنْ يَتَزَايَدَا أَوْ يَتَتَارَكَا تَتَارَكَا فَمَا أَدْرِي أَشَيْءٌ كَانَ لَنَا خَاصَّةً أَمْ لِلنَّاسِ عَامَّةً قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ وَبَيَّنَهُ عَلِيٌّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ"
قوله: "باب نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن نكاح المتعة أخيرا" يعني تزويج المرأة إلى أجل فإذا انقضى وقعت الفرقة. وقوله في الترجمة "أخيرا" يفهم منه أنه كان مباحا وأن النهي عنه وقع في آخر الأمر. وليس في أحاديث الباب التي أوردها التصريح بذلك، لكن قال في آخر الباب: "أن عليا بين أنه منسوخ" وقد وردت عدة أحاديث صحيحة صريحة بالنهي عنها بعد الإذن فيها، وأقرب ما فيها عهدا بالوفاة النبوية ما أخرجه أبو داود من طريق الزهري قال: "كنا عند عمر بن عبد العزيز فتذاكرنا متعة النساء، فقال رجل يقال له ربيع بن سبرة" أشهد على أبي أنه حدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها في حجة الوداع، وسأذكر الاختلاف في حديث سبرة هذا - وهو ابن معبد - بعد هذا. قوله: "أخبرني الحسن بن محمد بن علي" أي ابن أبي طالب، وأبوه محمد هو الذي يعرف بابن الحنفية، وأخوه عبد الله بن محمد. أما الحسن فأخرج له البخاري غير هذا، منها ما تقدم له في الغسل من روايته عن جابر، ويأتي له في هذا الباب آخر عن جابر وسلمة بن الأكوع، وأما أخوه عبد الله بن محمد فكنيته أبو هاشم وليس له في البخاري سوى هذا الحديث، ووثقه ابن سعد والنسائي والعجلي، وقد تقدمت له طريق أخرى في غزوة خيبر من كتاب المغازي، وتأتي أخرى في كتاب الذبائح، وأخرى في ترك الحيل؛ وقرنه في المواضع الثلاثة بأخيه الحسن، وذكر في التاريخ عن ابن عيينة عن الزهري "أخبرنا الحسن وعبد الله ابنا محمد بن علي وكان الحسن أوثقهما" ولأحمد عن سفيان "وكان الحسن أرضاهما إلى أنفسنا، وكان عبد الله يتبع السبئية" ا هـ والسبئية بمهملة ثم موحدة ينسبون إلى عبد الله بن سبأ، وهو من رؤساء الروافض، وكان المختار بن أبي عبيد على رأيه، ولما غلب على الكوفة وتتبع قتلة الحسين فقتلهم أحبته الشيعة ثم فارقه أكثرهم لما ظهر منه من الأكاذيب، وكان من رأي السبئية موالاة محمد بن علي بن أبي طالب. وكانوا يزعمون أنه المهدي وأنه لا يموت حتى يخرج في آخر الزمان. ومنهم من أقر بموته وزعم أن الأمر بعده صار إلى ابنه أبي هاشم هذا. ومات أبو هاشم في آخر ولاية سليمان بن

(9/167)


عبد الملك سنة ثمان أو تسع وتسعين. قوله: "عن أبيهما" في رواية الدار قطني في "الموطآت" من طريق يحيى بن سعيد الأنصاري "عن مالك عن الزهري أن عبد الله والحسن ابني محمد أخبراه أن أباهما محمد بن علي بن أبي طالب أخبرهما". قوله: "أن عليا قال لابن عباس" سيأتي بيان تحديثه له بهذا الحديث في ترك الحيل بلفظ: "أن عليا قيل له أن ابن عباس لا يرى بمتعة النساء بأسا" وفي رواية الثوري ويحيى بن سعيد كلاهما عن مالك عند الدار قطني "أن عليا سمع ابن عباس وهو يفتي في متعة النساء فقال: أما علمت" وأخرجه سعيد بن منصور عن هشيم "عن يحيى بن سعيد عن الزهري بدون ذكر مالك ولفظه: "أن عليا مر بابن عباس وهو يفتي في متعة النساء أنه لا بأس بها"، ولمسلم من طريق جويرية عن مالك يسنده أنه "سمع علي بن أبي طالب يقول لفلان إنك رجل تائه" وفي رواية الدار قطني من طريق الثوري أيضا: "تكلم علي وابن عباس في متعة النساء فقال له علي: إنك امرؤ تائه" ولمسلم من وجه آخر أنه "سمع ابن عباس يلين في متعة النساء فقال له: مهلا يا ابن عباس" ولأحمد من طريق معمر "رخص في متعة النساء". قوله:" أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المتعة" في رواية أحمد عن سفيان نهى عن نكاح المتعة. قوله: "وعن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر" هكذا لجميع الرواة عن الزهري "خيبر" بالمعجمة أوله والراء آخره إلا ما رواه عبد الوهاب الثقفي عن يحيى بن سعيد عن مالك في هذا الحديث فإنه قال: "حنين" بمهملة أوله ونونين أخرجه النسائي والدار قطني ونبها على أنه وهم تفرد به عبد الوهاب، وأخرجه الدار قطني من طريق أخرى عن يحيى بن سعيد فقال خيبر على الصواب، وأغرب من ذلك رواية إسحاق بن راشد عن الزهري عنه بلفظ: "نهى في غزوة تبوك عن نكاح المتعة" وهو خطأ أيضا. قوله: "زمن خيبر" الظاهر أنه ظرف للأمرين، وحكى البيهقي عن الحميدي أن سفيان بن عيينة كان يقول: قوله: "يوم خيبر" يتعلق بالحمر الأهلية لا بالمتعة، قال البيهقي: وما قاله محتمل يعني في روايته هذه، وأما غيره فصرح أن الظرف يتعلق بالمتعة، وقد مضى في غزوة خيبر من كتاب المغازي ويأتي في الذبائح من طريق مالك بلفظ: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر عن متعة النساء وعن لحوم الحمر الأهلية" وهكذا أخرجه مسلم من رواية ابن عيينة أيضا، وسيأتي في ترك الحيل في رواية عبيد الله بن عمر عن الزهري "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها يوم خيبر" وكذا أخرجه مسلم وزاد من طريقه "فقال مهلا يا ابن عباس "ولأحمد من طريق معمر بسنده أنه "بلغه أن ابن عباس رخص في متعة النساء، فقال له: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها يوم خيبر، وعن لحوم الحمر الأهلية" وأخرجه مسلم من رواية يونس بن يزيد عن الزهري مثل رواية مالك، والدار قطني من طريق ابن وهب عن مالك ويونس وأسامة بن زيد ثلاثتهم عن الزهري كذلك، وذكر السهيلي أن ابن عيينة رواه عن الزهري بلفظ: "نهى عن أكل الحمر الأهلية عام خيبر، وعن المتعة بعد ذلك أو في غير ذلك اليوم" ا هـ وهذا اللفظ الذي ذكره لم أره من رواية ابن عيينة، فقد أخرجه أحمد وابن أبي عمر والحميدي وإسحاق في مسانيدهم عن ابن عيينة باللفظ الذي أخرجه البخاري من طريقه، لكن منهم من زاد لفظ: "نكاح" كما بينته، وكذا أخرجه الإسماعيلي من طريق عثمان بن أبي شيبة وإبراهيم بن موسى والعباس بن الوليد، وأخرجه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة ومحمد بن عبد الله بن نمير وزهير بن حرب جميعا عن ابن عيينة بمثل لفظ مالك، وكذا أخرجه سعيد بن منصور عن ابن عيينة لكن قال: "زمن" بدل "يوم" قال السهيلي: ويتصل بهذا الحديث تنبيه على إشكال لأن فيه النهي عن نكاح المتعة يوم خيبر، وهذا شيء لا يعرفه أحد من أهل السير ورواة الأثر، قال: فالذي يظهر

(9/168)


أنه وقع تقديم وتأخير لفظ الزهري، وهذا الذي قاله سبقه إليه غيره في النقل عن ابن عيينة، فذكر ابن عبد البر من طريق قاسم بن أصبغ أن الحميدي ذكر عن ابن عيينة أن النهي زمن خيبر عن لحوم الحمر الأهلية، وأما المتعة فكان في غير يوم خيبر، ثم راجعت "مسند الحميدي" من طريق قاسم بن أصبغ عن أبي إسماعيل السلمي عنه فقال بعد سياق الحديث: "قال ابن عيينة: يعني أنه نهى عن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر، ولا يعني نكاح المتعة" قال ابن عبد البر: وعلى هذا أكثر الناس. وقال البيهقي: يشبه أن يكون كما قال لصحة الحديث في أنه صلى الله عليه وسلم رخص فيها بعد ذلك ثم نهى عنها، فلا يتم احتجاج علي إلا إذا وقع النهي أخيرا لتقوم به الحجة على ابن عباس. وقال أبو عوانة في صحيحه سمعت أهل العلم يقولون: معنى حديث علي أنه نهى يوم خيبر عن لحوم الحمر، وأما المتعة فسكت عنها وإنما نهى عنها يوم الفتح ا هـ. والحامل لهؤلاء على هذا ما ثبت من الرخصة فيها بعد زمن خيبر كما أشار إليه البيهقي، لكن يمكن الانفصال عن ذلك بأن عليا لم تبلغه الرخصة فيها يوم الفتح لوقوع النهي عنها عن قرب كما سيأتي بيانه، ويؤيد ظاهر حديث على ما أخرجه أبو عوانة وصححه من طريق سالم بن عبد الله "أن رجلا سأل ابن عمر عن المتعة فقال: حرام. فقال: إن فلانا يقول فيها. فقال: والله لقد علم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرمها يوم خيبر وما كنا مسافحين" قال السهيلي: وقد اختلف في وقت تحريم نكاح المتعة فأغرب ما روي في ذلك رواية من قال في غزوة تبوك، ثم رواية الحسن أن ذلك كان في عمرة القضاء، والمشهور في تحريمها أن ذلك في غزوة الفتح كما أخرجه مسلم من حديث الربيع بن سبرة عن أبيه وفي رواية عن الربيع أخرجها أبو داود أنه كان في حجة الوداع، قال ومن قال من الرواة كان في غزوة أوطاس فهو موافق لمن قال عام الفتح ا هـ. فتحصل مما أشار إليه ستة مواطن: خيبر، ثم عمرة القضاء، ثم الفتح، ثم أوطاس، ثم تبوك، ثم حجة الوداع. وبقي عليه حنين لأنها وقعت في رواية قد نبهت عليها قبل، فأما أن يكون ذهل عنها أو تركها عمدا لخطأ رواتها، أو لكون غزوة أوطاس وحنين واحدة. فأما رواية تبوك فأخرجها إسحاق بن راهويه وابن حبان من طريقه من حديث أبي هريرة "أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل بثنية الوداع رأى مصابيح وسمع نساء يبكين، فقال: ما هذا؟ فقالوا: يا رسول الله، نساء كانوا تمتعوا منهن. فقال: هدم المتعة النكاح والطلاق والميراث" وأخرجه الحازمي من حديث جابر قال: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غزوة تبوك حتى إذا كنا عند العقبة مما يلي الشام جاءت نسوة قد كنا تمتعنا بهن يطفن برحالنا، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا ذلك له، قال فغضب وقام خطيبا فحمد الله وأثنى عليه ونهى عن المتعة، فتوادعنا يومئذ فسميت ثنية الوداع". وأما رواية الحسن وهو البصري فأخرجها عبد الرزاق من طريقه وزاد: "ما كانت قبلها ولا بعدها" وهذه الزيادة منكرة من راويها عمرو بن عبيد، وهو ساقط الحديث، وقد أخرجه سعيد بن منصور من طريق صحيحة عن الحسن بدون هذه الزيادة. وأما غزوة الفتح فثبتت في صحيح مسلم كما قال: وأما أوطاس فثبتت في مسلم أيضا من حديث سلمة بن الأكوع. وأما حجة الوداع فوقع عند أبي داود من حديث الربيع بن سبرة عن أبيه. وأما قوله لا مخالفة بين أوطاس والفتح ففيه نظر، لأن الفتح كان في رمضان ثم خرجوا إلى أوطاس في شوال، وفي سياق مسلم أنهم لم يخرجوا من مكة حتى حرمت، ولفظة "إنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الفتح، فأذن لنا في متعة النساء، فخرجت أنا ورجل من قومي - فذكر قصة المرأة، إلى أن قال - ثم استمتعت منها، فلم أخرج حتى حرمها" وفي لفظ له "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما بين الركن والباب وهو يقول: "بمثل حديث ابن نمير وكان تقدم في حديث

(9/169)


ابن نمير أنه قال: يا أيها الناس إني قد كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، وأن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة" وفي رواية: "أمرنا بالمتعة عام الفتح حين دخلنا مكة، ثم لم نخرج حتى نهانا عنها" وفي رواية له "أمر أصحابه بالتمتع من النساء - فذكر القصة قال - فكن معنا ثلاثا، ثم أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بفراقهن" وفي لفظ: "فقال إنها حرام من يومكم هذا إلى يوم القيامة" فأما أوطاس فلفظ مسلم: "رخص لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عام أوطاس في المتعة ثلاثا، ثم نهى عنها" وظاهر الحديثين المغايرة، لكن يحتمل أن يكون أطلق على عام الفتح عام أوطاس لتقاربهما، ولو وقع في سياقه أنهم تمتعوا من النساء في غزوة أوطاس لما حسن هذا الجمع، نعم ويبعد أن يقع الإذن في غزوة أوطاس بعد أن يقع التصريح قبلها في غزوة الفتح بأنها حرمت إلى يوم القيامة، وإذا تقرر ذلك فلا يصح من الروايات شيء بغير علة إلا غزوة الفتح. وأما غزوة خيبر وإن كانت طرق الحديث فيها صحيحة ففيها من كلام أهل العلم ما تقدم. وأما عمرة القضاء فلا يصح الأثر فيها لكونه من مرسل الحسن ومراسيله ضعيفة لأنه كان يأخذ عن كل أحد، وعلى تقدير ثبوته فلعله أراد أيام خيبر لأنهما كانا في سنة واحدة في الفتح وأوطاس سواء. وأما قصة تبوك فليس في حديث أبي هريرة التصريح بأنهم استمتعوا منهن في تلك الحالة، فيحتمل أن يكون ذلك وقع قديما ثم وقع التوديع منهن حينئذ والنهي، أو كان النهي وقع قديما فلم يبلغ بعضهم فاستمر على الرخصة، فلذلك قرن النهي بالغضب لتقدم النهي في ذلك، على أن في حديث أبي هريرة مقالا، فإنه من رواية مؤمل بن إسماعيل عن عكرمة بن عمار وفي كل منهما مقال. وأما حديث جابر فلا يصح فإنه من طريق عباد بن كثير وهو متروك. وأما حجة الوداع فهو اختلاف على الربيع بن سبرة، والرواية عنه بأنها في الفتح أصح وأشهر، فإن كان حفظه فليس في سياق أبي داود سوى مجرد النهي، فلعله صلى الله عليه وسلم أراد إعادة النهي ليشيع ويسمعه من لم يسمعه قبل ذلك. فلم يبق من المواطن كما قلنا صحيحا صريحا سوى غزوة خيبر وغزوة الفتح، وفي غزوة خيبر من كلام أهل العلم ما تقدم، وزاد ابن القيم في "الهدي" أن الصحابة لم يكونوا يستمتعون باليهوديات، يعني فيقوى أن النهي لم يقع يوم خيبر أو لم يقع هناك نكاح متعة، لكن يمكن أن يجاب بأن يهود خيبر كانوا يصاهرون الأوس والخزرج قبل الإسلام فيجوز أن يكون هناك من نسائهم من وقع التمتع بهن فلا ينهض الاستدلال بما قال، قال الماوردي في "الحاوي" : في تعيين موضع تحريم المتعة وجهان أحدهما أن التحريم تكرر ليكون أظهر وأنشر حتى يعلمه من لم يكن علمه لأنه قد يحضر في بعض المواطن من لا يحضر في غيرها، والثاني أنها أبيحت مرارا، ولهذا قال في المرة الأخيرة "إلى يوم القيامة" إشارة إلى أن التحريم الماضي كان مؤذنا بأن الإباحة تعقبه، بخلاف هذا فإنه تحريم مؤبد لا تعقبه إباحة أصلا، وهذا الثاني هو المعتمد، ويرد الأول التصريح بالأذن فيها في الموطن المتأخر عن الموطن الذي وقع التصريح فيه بتحريمها كما في غزوة خيبر ثم الفتح. وقال النووي: الصواب أن تحريمها وإباحتها وقعا مرتين فكانت مباحة قبل خيبر ثم حرمت فيها ثم أبيحت عام الفتح وهو عام أوطاس ثم حرمت تحريما مؤبدا، قال: ولا مانع من تكرير الإباحة. ونقل غيره عن الشافعي أن المتعة نسخت مرتين، وقد تقدم في أوائل النكاح حديث ابن مسعود في سبب الإذن في نكاح المتعة وأنهم كانوا إذا غزوا اشتدت عليهم العزبة فأذن لهم في الاستمتاع فلعل النهي كان يتكرر في كل مواطن بعد الإذن، فلما وقع في المرة الأخيرة أنها حرمت إلى يوم القيامة لم يقع بعد ذلك إذن والله أعلم. والحكمة في جمع علي بين النهي عن الحمر والمتعة أن ابن عباس كان يرخص في الأمرين معا،

(9/170)


وسيأتي النقل عنه في الرخصة في الحمر الأهلية في أوائل كتاب الأطعمة، فرد عليه علي في الأمرين معا وأن ذلك يوم خيبر، فإما أن يكون على ظاهره وأن النهي عنهما وقع في زمن واحد. وإما أن يكون الإذن الذي وقع عام الفتح لم يبلغ عليا لقصر مدة الإذن وهو ثلاثة أيام كما تقدم. والحديث في قصة تبوك على نسخ الجواز في السفر لأنه نهى عنها في أوائل إنشاء السفر مع أنه كان سفرا بعيدا والمشقة فيه شديدة كما صرح به في الحديث في توبة كعب، وكان علة الإباحة وهي الحاجة الشديدة انتهت من بعد فتح خيبر وما بعدها والله أعلم. والجواب عن قول السهيلي أنه لم يكن في خيبر نساء يستمتع بهن ظاهر مما بينته من الجواب عن قول ابن القيم لم تكن الصحابة يتمتعون باليهوديات، وأيضا فيقال كما تقدم لم يقع في الحديث التصريح بأنهم استمتعوا في خيبر، وإنما فيه مجرد النهي، فيؤخذ منه أن التمتع من النساء كان حلالا وسبب تحليله ما تقدم في حديث ابن مسعود حيث قال: "كنا نغزو وليس لنا شيء - ثم قال - فرخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب" فأشار إلى سبب ذلك وهو الحاجة مع قلة الشيء، وكذا في حديث سهل بن سعد الذي أخرجه ابن عبد البر بلفظ: "إنما رخص النبي صلى الله عليه وسلم في المتعة لعزبة كانت بالناس شديدة، ثم نهى عنها" فلما فتحت خيبر وسع عليهم من المال ومن السبي فناسب النهي عن المتعة لارتفاع سبب الإباحة، وكان ذلك من تمام شكر نعمة الله على التوسعة بعد الضيق، أو كانت الإباحة إنما تقع في المغازي التي يكون في المسافة إليها بعد ومشقة، وخيبر بخلاف ذلك لأنها بقرب المدينة فوقع النهي عن المتعة فيها إشارة إلى ذلك من غير تقدم إذن فيها، ثم لما عادوا إلى سفرة بعيدة المدة وهي غزاة الفتح وشقت عليهم العزوبة أذن لهم في المتعة لكن مقيدا بثلاثة أيام فقط دفعا للحاجة، ثم نهاهم بعد انقضائها عنها كما سيأتي من رواية سلمة، وهكذا يجاب عن كل سفرة ثبت فيها النهي بعد الإذن، وأما حجة الوداع فالذي يظهر أنه وقع فيها النهي مجردا إن ثبت الخبر في ذلك، لأن الصحابة حجوا فيها بنسائهم بعد أن وسع عليهم فلم يكونوا في شدة ولا طول عزبة، وإلا فمخرج حديث سبرة راوية هو من طريق ابنه الربيع عنه، وقد اختلف عليه في تعيينها؛ والحديث واحد في قصة واحدة فتعين الترجيح، والطريق التي أخرجها مسلم مصرحة بأنها في زمن الفتح أرجح فتعين المصير إليها والله أعلم. قوله: "عن أبي جمرة" هو الضبعي بالجيم والراء، ورأيته بخط بعض من شرح هذا الكتاب بالمهملة والزاي وهو تصحيف. قوله: "سمعت ابن عباس يسأل" بضم أوله. قوله: "فرخص" أي فيا، وثبتت في رواية الإسماعيلي. قوله: "فقال له مولى له" لم أقف على اسمه صريحا، وأظنه عكرمة. قوله: "إنما ذلك في الحال الشديد، وفي النساء قلة أو نحوه" في رواية الإسماعيلي: "إنما كان ذلك في الجهاد والنساء قليل". قوله: "فقال ابن عباس نعم" في رواية الإسماعيلي: "صدق". وعند مسلم من طريق الزهري عن خالد بن المهاجر أو ابن أبي عمرة الأنصاري "قال رجل - يعني لابن عباس، وصرح به البيهقي في روايته - إنما كانت - يعني المتعة - رخصة في أول الإسلام لمن اضطر إليها كالميتة والدم ولحم الخنزير" ويؤيده ما أخرجه الخطابي والفاكهي من طريق سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس لقد سارت بفتياك الركبان. وقال فيها الشعراء، يعني في المتعة. فقال: والله ما بهذا أفتيت وما هي إلا كالميتة لا تحل إلا للمضطر. وأخرجه البيهقي من وجه آخر عن سعيد بن جبير وزاد في آخره: ألا إنما هي كالميتة والدم ولحم الخنزير. وأخرجه محمد بن خلف المعروف بوكيع في كتاب "الغرر من الأخبار" بإسناد أحسن منه عن سعيد بن جبير بالقصة، لكن ليس في آخره قول ابن عباس المذكور. وفي حديث سهل بن سعد الذي أشرت

(9/171)


إليه قريبا نحوه فهذه أخبار يقوي بعضها ببعض، وحاصلها أن المتعة إنما رخص فيها بسبب العزبة في حال السفر وهو يوافق حديث ابن مسعود الماضي في أوائل النكاح. وأخرج البيهقي من حديث أبي ذر بإسناد حسن "إنما كانت المتعة لحربنا وخوفنا" وأما ما أخرجه الترمذي من طريق محمد بن كعب عن ابن عباس قال: "إنما كانت المتعة في أول الإسلام، كان الرجل يقدم البلد ليس له فيها معرفة، فيتزوج المرأة بقدر ما يقيم فتحفظ له متاعه" فإسناده ضعيف، وهو شاذ مخالف لما تقدم من علة إباحتها. قوله: "قال عمرو" هو ابن دينار، في رواية الإسماعيلي من طريق ابن أبي الوزير عن سفيان "عن عمرو بن دينار" وهو غريب من حديث ابن عيينة قل من رواه من أصحابه عنه، وإنما أخرجه البخاري مع كونه معنعنا لوروده عن عمرو بن دينار من غير طريق سفيان، نبه على ذلك الإسماعيلي، وهو كما قال قد أخرجه مسلم من طريق شعبة وروح بن القاسم، وأخرجه عبد الرزاق عن ابن جريج كلهم عن عمرو. قوله: "عن الحسن بن محمد" أي ابن علي بن أبي طالب، ووقع في رواية ابن جريج "الحسن بن محمد بن علي، وهو الماضي ذكره في الحديث الأول. وفي رواية شعبة المذكورة عن عمرو" سمعت الحسن بن محمد". قوله: "عن جابر بن عبد الله وسلمة بن الأكوع" في رواية روح بن القاسم تقديم سلمة على جابر، وقد أدركهما الحسن بن محمد جميعا لكن روايته عن جابر أشهر. قوله: "كنا في جيش" لم أقف على تعيينه، لكن عند مسلم من طريق أبي العميس عن إياس بن سلمة بن الأكوع عن أبيه قال: "رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم عام أوطاس في المتعة ثلاثا ثم نهى عنها". "تنبيه": ضبط جيش في جميع الروايات بفتح الجيم وسكون التحتانية بعدها معجمة، وحكى الكرماني أن في بعض الروايات "حنين" بالمهملة ونونين باسم مكان الوقعة المشهورة ولم أقف عليه. قوله: "فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم" لم أقف على اسمه، لكن في رواية شعبة "خرج علينا منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم:" فيشبه أن يكون هو بلال. قوله: "إنه قد إذن لكم أن تستمتعوا فاستمتعوا" زاد شعبة في روايته: "يعني متعة النساء" وضبط فاستمتعوا بفتح المثناة وكسرها بلفظ الأمر وبلفظ الفعل الماضي. وقد أخرج مسلم حديث جابر من طرق أخرى، منها عن أبي نضرة عن جابر أنه سئل عن المتعة فقال: "فعلناها مع سول الله صلى الله عليه وسلم:" ومن طريق عطاء عن جابر "استمتعنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر" وأخرج عن محمد ابن رافع عن عبد الرزاق عن ابن جريج "أخبرني أبو الزبير سمعت جابرا" نحوه وزاد: "حتى نهى عنها عمر في شأن عمرو بن حريث" وقصة عمرو بن حريث أخرجها عبد الرزاق في مصنفه بهذا الإسناد عن جابر قال: "قدم عمرو ابن حريث الكوفة فاستمتع بمولاة فأتى بها عمرو حبلى، فسأله فاعترف، قال فذلك حين نهى عنها عمر" قال البيهقي في رواية سلمة بن الأكوع التي حكيناها عن تخريج مسلم: "ثم نهى عنها" ضبطناه "نهى" بفتح النون ورأيته في رواية معتمدة "نها" بالألف قال: فإن قيل بل هي بضم النون والمراد بالناهي في حديث سلمة عمر كما في حديث جابر قلنا هو محتمل، لكن ثبت نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها في حديث الربيع بن سبرة ابن معبد عن أبيه بعد الإذن فيه، ولم نجد عنه الإذن فيه بعد النهي عنه، فنهى عمر موافق لنهيه صلى الله عليه وسلم. قلت: وتمامه أن يقال: لعل جابرا ومن نقل عنه استمرارهم على ذلك بعده صلى الله عليه وسلم إلى أن نهى عنها عمر لم يبلغهم النهي. ومما يستفاد أيضا أن عمر لم ينه عنها اجتهادا وإنما نهى عنها مستندا إلى نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد وقع التصريح عنه بذلك فيما أخرجه ابن ماجه من طريق أبي بكر بن حفص عن ابن عمر قال: "لما ولي عمر خطب فقال: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لنا في المتعة ثلاثا ثم حرمها"

(9/172)


وأخرج ابن المنذر والبيهقي من طريق سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال: "صعد عمر المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ما بال رجال ينكحون هذه المتعة بعد نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها"، وفي حديث أبي هريرة الذي أشرت إليه في صحيح ابن حبان: "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هدم المتعة النكاح والطلاق والعدة والميراث" وله شاهد صحيح عن سعيد بن المسيب أخرجه البيهقي. قوله: "وقال ابن أبي ذئب إلخ" وصله الطبراني والإسماعيلي وأبو نعيم من طرق عن ابن أبي ذئب. قوله: "أيما رجل وامرأة توافقا فعشرة ما بينهما ثلاث ليال" وقع في رواية المستملي: "بعشرة" بالموحدة المكسورة بدل الفاء المفتوحة، وبالفاء أصح، وهي رواية الإسماعيلي وغيره. والمعنى أن إطلاق الأجل محمول على التقييد بثلاثة أيام بلياليهن. قوله: "فإن أحبا" أي بعد انقضاء الثلاث "أن يتزايدا" أي في المدة؛ يعني تزايدا. ووقع في رواية الإسماعيلي التصريح بذلك، وكذا في قوله أن يتتاركا أي يتفارقا تتاركا. وفي رواية أبي نعيم "أن يتناقضا تناقضا" والمراد به التفارق. قوله: "فما أدري أشيء كان لنا خاصة أم للناس عامة" ووقع في حديث أبي ذر التصريح بالاختصاص أخرجه البيهقي عنه قال: "إنما أحلت لنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متعة النساء ثلاثة أيام، ثم نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم". قوله: "وقد بينه علي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه منسوخ" يريد بذلك تصريح علي عن النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي عنها بعد الإذن فيها، وقد بسطناه في الحد الأول. وأخرج عبد الرزاق من وجه آخر عن علي قال: "نسخ رمضان كل صوم، ونسخ المتعة الطلاق والعدة والميراث" وقد اختلف السلف في نكاح المتعة، قال ابن المنذر: جاء عن الأوائل الرخصة فيها، ولا أعلم اليوم أحدا يجيزها إلا بعض الرافضة، ولا معنى لقول يخالف كتاب الله وسنة رسوله. وقال عياض: ثم وقع الإجماع من جميع العلماء على تحريمها إلا الروافض. وأما ابن عباس فروي عنه أنه أباحها، وروي عنه أنه رجع عن ذلك. قال ابن بطال: روى أهل مكة واليمن عن ابن عباس إباحة المتعة، وروي عنه الرجوع بأسانيد ضعيفة وإجازة المتعة عنه أصح، وهو مذهب الشيعة. قال: وأجمعوا على أنه متى وقع الآن أبطل سواء كان قبل الدخول أم بعده، إلا قول زفر إنه جعلها كالشروط الفاسدة، ويرده قوله صلى الله عليه وسلم: "فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيلها". قلت: وهو في حديث الربيع بن سبرة عن أبيه عند مسلم. وقال الخطابي: تحريم المتعة كالإجماع إلا عن بعض الشيعة، ولا يصح على قاعدتهم في الرجوع في المختلفات إلى علي وآل بيته فقد صح عن علي أنها نسخت. ونقل البيهقي عن جعفر بن محمد أنه سئل عن المتعة فقال: "هي الزنا بعينه" قال الخطابي: ويحكى عن ابن جريج جوازها ا هـ. وقد نقل أبو عوانة في صحيحه عن ابن جريج أنه رجع عنها بعد أن روى بالبصرة في إباحتها ثمانية عشر حديثا. وقال ابن دقيق العيد: ما حكاه بعض الحنفية عن مالك من الجواز خطأ، فقد بالغ المالكية في منع النكاح المؤقت حتى أبطلوا توقيت الحل بسببه فقالوا: لو علق على وقت لا بد من مجيئه وقع الطلاق الآن لأنه توقيت للحل فيكون في معنى نكاح المتعة. قال عياض: وأجمعوا على أن شرط البطلان التصريح بالشرط، فلو نوى عند العقد أن يفارق بعد مدة صح نكاحه، إلا الأوزاعي فأبطله. واختلفوا هل يحد ناكح المتعة أو يعزر؟ على قولين مأخذهما أن الاتفاق بعد الخلاف هل يرفع الخلاف المتقدم. وقال القرطبي: الروايات كلها متفقة على أن زمن إباحة المتعة لم يطل وأنه حرم، ثم أجمع السلف والخلف على تحريمها إلا من لا يلتفت إليه من الروافض. وجزم جماعة من الأئمة بتفرد ابن عباس بإباحتها فهي من المسألة المشهورة وهي ندرة المخالف، ولكن قال ابن عبد البر: أصحاب ابن عباس

(9/173)


من أهل مكة واليمن على إباحتها، ثم اتفق فقهاء الأمصار على تحريمها. وقال ابن حزم: ثبت على إباحتها بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن مسعود ومعاوية وأبو سعيد وابن عباس وسلمة ومعبد ابنا أمية بن خلف وجابر وعمرو ابن حريث ورواه جابر عن جميع الصحابة مدة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر إلى قرب آخر خلافة عمر، قال: ومن التابعين طاوس وسعيد بن جبير وعطاء وسائر فقهاء مكة. قلت: وفي جميع ما أطلقه نظر، أما ابن مسعود فمستنده فيه الحديث الماضي في أوائل النكاح، وقد بينت فيه ما نقله الإسماعيلي من الزيادة فيه المصرحة عنه بالتحريم، وقد أخرجه أبو عوانة من طريق أبي معاوية عن إسماعيلي بن أبي خالد وفي آخره: "ففعلنا ثم ترك ذلك". وأما معاوية فأخرجه عبد الرزاق من طريق صفوان بن يعلى بن أمية "أخبرني يعلى أن معاوية استمتع بامرأة بالطائف" وإسناده صحيح، لكن في رواية أبي الزبير عن جابر عند عبد الرزاق أيضا أن ذلك كان قديما ولفظه: "استمتع معاوية مقدمه الطائف بمولاة لبني الحضرمي يقال لها معانة، قال جابر: ثم عاشت معانة إلى خلافة معاوية فكان يرسل إليها بجائزة كل عام" وقد كان معاوية متبعا لعمر مقتديا به فلا يشك أنه عمل بقوله بعد النهي، ومن ثم قال الطحاوي: خطب عمر فنهى عن المتعة، ونقل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم فلم ينكر عليه ذلك منكر، وفي هذا دليل على متابعتهم له على ما نهى عنه. وأما أبو سعيد فأخرج عبد الرزاق عن ابن جريج أن عطاء قال: "أخبرني من شئت عن أبي سعيد قال: لقد كان أحدنا يستمتع بملء القدح سويقا" وهذا - مع كونه ضعيفا للجهل بأحد رواته - ليس فيه التصريح بأنه كان بعد النبي صلى الله عليه وسلم. وأما ابن عباس فتقدم النقل عنه والاختلاف هل رجع أو لا. وأما سلمة ومعبد فقصتهما واحدة اختلف فيها هل وقعت لهذا أو لهذا، فروى عبد الرزاق بسند صحيح عن عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس قال: "لم يرع عمر إلا أم أراكة قد خرجت حبلى، فسألها عمر فقالت: استمتع بي سلمة بن أمية" وأخرج من طريق أبي الزبير عن طاوس فسماه معبد بن أمية. وأما جابر فمستنده قوله: "فعلناها" وقد بينته قبل، ووقع في رواية أبي نصرة عن جابر عند مسلم: "فنهانا عمر فلم نفعله بعد" فإن كان قوله فعلنا يعم جميع الصحابة فقوله ثم لم نعد يعم جميع الصحابة فيكون إجماعا، وقد ظهر أن مستنده الأحاديث الصحيحة التي بيناها. وأما عمرو بن حريث وكذا قوله رواه جابر عن جميع الصحابة فعجيب، وإنما قال جابر "فعلناها" وذلك لا يقتضي تعميم جميع الصحابة بل يصدق على فعل نفسه وحده، وأما ما ذكره عن التابعين فهو عند عبد الرزاق عنهم بأسانيد صحيحة، وقد ثبت عن جابر عند مسلم: "فعلناها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نهانا عمر فلم نعد لها" فهذا يرد عده جابرا فيمن ثبت على تحليلها، وقد اعترف ابن حزم مع ذلك بتحريمها لثبوت قوله صلى الله عليه وسلم: "إنها حرام إلى يوم القيامة" قال فأمنا بهذا القول نسخ التحريم. والله أعلم

(9/174)


34- باب عَرْضِ الْمَرْأَةِ نَفْسَهَا عَلَى الرَّجُلِ الصَّالِحِ
5120- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا مَرْحُومُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مِهْرَانَ قَالَ سَمِعْتُ ثَابِتًا الْبُنَانِيَّ قَالَ كُنْتُ عِنْدَ أَنَسٍ وَعِنْدَهُ ابْنَةٌ لَهُ قَالَ أَنَسٌ جَاءَتْ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعْرِضُ عَلَيْهِ نَفْسَهَا قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَكَ بِي حَاجَةٌ فَقَالَتْ بِنْتُ أَنَسٍ مَا أَقَلَّ حَيَاءَهَا وَا سَوْأَتَاهْ وَا سَوْأَتَاهْ قَالَ هِيَ خَيْرٌ مِنْكِ رَغِبَتْ فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَرَضَتْ عَلَيْهِ نَفْسَهَا"
[الحديث 5120- طرفه في: 6123]

(9/174)


5121- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ امْرَأَةً عَرَضَتْ نَفْسَهَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ زَوِّجْنِيهَا فَقَالَ مَا عِنْدَكَ قَالَ مَا عِنْدِي شَيْءٌ قَالَ اذْهَبْ فَالْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ فَذَهَبَ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ لاَ وَاللَّهِ مَا وَجَدْتُ شَيْئًا وَلاَ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ وَلَكِنْ هَذَا إِزَارِي وَلَهَا نِصْفُهُ قَالَ سَهْلٌ وَمَا لَهُ رِدَاءٌ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وَمَا تَصْنَعُ بِإِزَارِكَ إِنْ لَبِسْتَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا مِنْهُ شَيْءٌ وَإِنْ لَبِسَتْهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ مِنْهُ شَيْءٌ فَجَلَسَ الرَّجُلُ حَتَّى إِذَا طَالَ مَجْلِسُهُ قَامَ فَرَآهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَاهُ أَوْ دُعِيَ لَهُ فَقَالَ لَهُ مَاذَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ فَقَالَ مَعِي سُورَةُ كَذَا وَسُورَةُ كَذَا لِسُوَرٍ يُعَدِّدُهَا فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَمْلَكْنَاكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ"
قوله: "باب عرض المرأة نفسها على الرجل الصالح" قال ابن المنير في الحاشية، من لطائف البخاري أنه لما علم الخصوصية في قصة الواهبة استنبط من الحديث ما لا خصوصية فيه وهو جواز عرض المرأة نفسها على الرجل الصالح رغبة في صلاحه فيجوز لها ذلك، وإذا رغب فيها تزوجها بشرطه. قوله: "حدثنا مرحوم" زاد أبو ذر "ابن عبد العزيز بن مهران" وهو بصري مولى آل أبي سفيان ثقة مات سنة سبع وثمانين ومائة، وليس له في البخاري سوى هذا الحديث، وقد أورده عنه في كتاب الأدب أيضا، وذكر البزار أنه تفرد به عن ثابت. قوله: "وعنده ابنة له" لم أقف على اسمها وأظنها أمينة بالتصغير. قوله: "جاءت امرأة" لم أقف على تعينها، وأشبه من رأيت بقصتها ممن تقدم ذكر اسمهن في الواهبات ليلى بنت قيس بن الخطيم، ويظهر لي أن صاحبة هذه القصة غير التي في حديث سهل. قوله: "واسوأتاه" أصل السوءة - وهي بفتح المهملة وسكون الواو بعدها همزة - الفعلة القبيحة، وتطلق على الفرج، والمراد هنا الأول، والألف للندبة والهاء للسكت. ذكر المصنف حديث سهل بن سعد في قصة الواهبة مطولا، وسيأتي شرحه بعد ستة عشر بابا، وفي الحديثين جواز عرض المرأة نفسها على الرجل وتعريفه رغبتها فيه وأن لا غضاضة عليها في ذلك، وأن الذي تعرض المرأة نفسها عليه بالاختيار لكن لا ينبغي أن يصرح لها بالرد بل يكفي السكوت. وقال المهلب: فيه أن على الرجل أن ينكحها إلا إذا وجد في نفسه رغبة فيها، ولذلك صعد النظر فيها وصوبه انتهى. وليس في القصة دلالة لما ذكره قال: وفيه جواز سكوت العالم ومن سئل حاجة إذا لم يرد الإسعاف، وأن ذلك ألين في صرف السائل وأأدب من الرد بالقول

(9/175)


35- باب عَرْضِ الإِنْسَانِ ابْنَتَهُ أَوْ أُخْتَهُ عَلَى أَهْلِ الْخَيْرِ
5122- حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يُحَدِّثُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ حِينَ تَأَيَّمَتْ حَفْصَةُ بِنْتُ عُمَرَ مِنْ خُنَيْسِ بْنِ حُذَافَةَ السَّهْمِيِّ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتُوُفِّيَ بِالْمَدِينَةِ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَتَيْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ حَفْصَةَ فَقَالَ سَأَنْظُرُ فِي أَمْرِي فَلَبِثْتُ لَيَالِيَ ثُمَّ لَقِيَنِي فَقَالَ

(9/175)


قَدْ بَدَا لِي أَنْ لاَ أَتَزَوَّجَ يَوْمِي هَذَا قَالَ عُمَرُ فَلَقِيتُ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ فَقُلْتُ إِنْ شِئْتَ زَوَّجْتُكَ حَفْصَةَ بِنْتَ عُمَرَ فَصَمَتَ أَبُو بَكْرٍ فَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيَّ شَيْئًا وَكُنْتُ أَوْجَدَ عَلَيْهِ مِنِّي عَلَى عُثْمَانَ فَلَبِثْتُ لَيَالِيَ ثُمَّ خَطَبَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْكَحْتُهَا إِيَّاهُ فَلَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ لَعَلَّكَ وَجَدْتَ عَلَيَّ حِينَ عَرَضْتَ عَلَيَّ حَفْصَةَ فَلَمْ أَرْجِعْ إِلَيْكَ شَيْئًا قَالَ عُمَرُ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ فَإِنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أَرْجِعَ إِلَيْكَ فِيمَا عَرَضْتَ عَلَيَّ إِلاَّ أَنِّي كُنْتُ عَلِمْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ ذَكَرَهَا فَلَمْ أَكُنْ لِأُفْشِيَ سِرَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ تَرَكَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبِلْتُهَا"
5123- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّا قَدْ تَحَدَّثْنَا أَنَّكَ نَاكِحٌ دُرَّةَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَعَلَى أُمِّ سَلَمَةَ لَوْ لَمْ أَنْكِحْ أُمَّ سَلَمَةَ مَا حَلَّتْ لِي إِنَّ أَبَاهَا أَخِي مِنْ الرَّضَاعَةِ"
قوله: "باب عرض الإنسان ابنته أو أخته على أهل الخير" أورد عرض البنت في الحديث الأول، وعرض الأخت في الحديث الثاني. قوله: "حين تأيمت" بهمزة مفتوحة وتحتانية ثقيلة أي صارت أيما، وهي التي يموت زوجها أو تبين منه وتنقضي عدتها، وأكثر ما تطلق على من مات زوجها. وقال ابن بطال: العرب تطلق على كل امرأة لا زوج لها وكل رجل لا امرأة له أيما، زاد في "المشارق" وإن كان بكرا. وسيأتي مزيدا لهذا في "باب لا ينكح الأب وغيره البكر ولا الثيب إلا برضاها". قوله: "من خنيس" بخاء معجمة ونون وسين مهملة مصغر. قوله: "ابن حذافة" عند أحمد عن عبد الرزاق عن معمر عن ابن شهاب وهي رواية يونس عن الزهري "ابن حذافة أو حذيفة" والصواب حذافة، وهو أخو عبد الله بن حذافة الذي تقدم ذكره في المغازي. ومن الرواة من فتح أول خنيس وكسر ثانيه، والأول هو المشهور بالتصغير، وعند معمر كالأول لكن بحاء مهملة وموحدة وشين معجمة. وقال الدار قطني: اختلف على عبد الرزاق فروى عنه علي الصواب وروى عنه بالشك. قوله: "وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم" زاد في رواية معمر كما سيأتي بعد أبواب "من أهل بدر". قوله: "فتوفي بالمدينة" قالوا مات بعد غزوة أحد من جراحة أصابته بها، وقيل بل بعد بدر ولعله أولى، فإنهم قالوا أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها بعد خمسة وعشرين شهرا من الهجرة. وفي رواية بعد ثلاثين شهرا. وفي رواية بعد عشرين شهرا، وكانت أحد بعد بدر بأكثر من ثلاثين شهرا، ولكنه يصح على قول من قال بعد ثلاثين على إلغاء الكسر، وجزم ابن سعد بأنه مات عقب قدوم النبي صلى الله عليه وسلم من بدر وبه جزم ابن سيد الناس، وهو قول ابن عبد البر أنه شهد أحدا ومات من جراحة بها، وكانت حفصة أسن من أخيها عبد الله فإنها ولدت قبل البعثة بخمس سنين وعبد الله ولد بعد البعثة بثلاث أو أربع. قوله: "فقال عمر بن الخطاب" أعاد ذلك لوقوع الفصل، وإلا فقوله أولا "إن عمر بن الخطاب" لا بد له من تقدير، قال ووقع في رواية معمر عند النسائي وأحمد عن ابن عمر عن عمر قال: "تأيمت حفصة". قوله:" أتيت عثمان فعرضت عليه حفصة؟ فقال: سأنظر في أمري، إلى أن قال قد بدا لي أن لا أتزوج "هذا هو الصحيح، ووقع في رواية

(9/176)


ربعي بن حراش عن عثمان عند الطبري وصححه هو والحاكم "أن عثمان خطب إلى عمر بنته فرده، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فلما راح إليه عمر قال: يا عمر ألا أدلك على ختن خير من عثمان، وأدل عثمان على ختن خير منك؟ قال: نعم يا نبي الله. قال: تزوجني بنتك وأزوج عثمان بنتي" قال الحافظ الضياء: إسناده لا بأس به، لكن في الصحيح أن عمر عرض على عثمان حفصة فرد عليه "قد بدا لي أن لا أتزوج". قلت: أخرج ابن سعد من مرسل الحسن نحو حديث ربعي، ومن مرسل سعيد بن المسيب أتم منه، وزاد في آخره: "فخار الله لهما جميعا". ويحتمل في الجمع بينهما أن يكون عثمان خطب أولا إلى عمر فرده كما في رواية ربعي، وسبب رده يحتمل أن يكون من جهتها وهي أنها لم ترغب في التزوج عن قرب من وفاة زوجها، ويحتمل غير ذلك من الأسباب التي لا غضاضة فيها على عثمان في رد عمر له، ثم لما ارتفع السبب بادر عمر فعرضها على عثمان رعاية لخاطره كما في حديث الباب، ولعل عثمان بلغه ما بلغ أبا بكر من ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لها فصنع كما صنع من ترك إفشاء ذلك، ورد على عمر بجميل. ووقع في رواية ابن سعد "فقال عثمان: مالي في النساء من حاجة" وذكر ابن سعد عن الواقدي بسند له "أن عمر عرض حفصة على عثمان حين توفيت رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعثمان يومئذ يريد أم كلثوم بنت النبي صلى الله عليه وسلم. قلت: وهذا مما يؤيد أن موت خنيس كان بعد بدر فإن رقية ماتت ليالي بدر وتخلف عثمان عن بدر لتمريضها. وقد أخرج إسحاق في مسنده وابن سعد من مرسل سعيد بن المسيب قال: "تأيمت حفصة من زوجها وتأيم عثمان من رقية، فمر عمر بعثمان وهو حزين فقال: هل لك في حفصة؟ فقد انقضت عدتها من فلان" واستشكل أيضا بأنه لو كان مات بعد أحد للزم أن لا تنقضي عدتها إلا في سنة أربع، وأجيب باحتمال أن تكون وضعت عقب وفاته ولو سقطا فحلت. قوله: "سأنظر في أمري" أي أتفكر، ويستعمل النظر أيضا بمعنى الرأفة لكن تعديته باللام، وبمعنى الرؤية وهو الأصل ويعدى بإلى. وقد يأتي بغير صلة وهو بمعنى الانتظار. قوله: "قال عمر فلقيت أبا بكر" هذا يشعر بأنه عقب رد عثمان له بعرضها على أبي بكر. قوله: "فصمت أبو بكر" أي سكت وزنا ومعنى، وقوله بعد ذلك "فلم يرجع إلي شيئا" تأكيد لرفع المجاز، لاحتمال أن يظن أنه صمت زمانا ثم تكلم وهو بفتح الياء من يرجع. قوله: "وكنت أوجد عليه" أي أشد موجدة أي غضبا على أبى بكر من غضبي على عثمان، وذلك لأمرين: أحدهما ما كان بينهما من أكيد المودة، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان آخى بينهما، وأما عثمان فلعله كان تقدم من عمر رده فلم يعتب عليه حيث لم يجبه لما سبق منه في حقه، والثاني لكون عثمان أجابه أولا ثم اعتذر له ثانيا، ولكون أبي بكر لم يعد عليه جوابا. ووقع في رواية ابن سعد "فغضب على أبي بكر وقال فيها: كنت أشد غضبا حين سكت مني على عثمان". قوله: "لقد وجدت علي" في رواية الكشميهني: "لعلك وجدت" وهي أوجه. قوله: "فلم أرجع" بكسر الجيم أي أعد عليك الجواب. قوله: "إلا أني كنت علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ذكرها" في رواية ابن سعد "فقال أبو بكر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد كان ذكر منها شيئا وكان سرا. قوله: "فلم أكن لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم" في رواية ابن سعد "وكرهت أن أفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم". قوله: "ولو تركها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلتها" في رواية معمر المذكورة "نكحتها". وفيه أنه لولا هذا العذر لقبلها، فيستفاد منه عذره في كونه لم يقل كما قال عثمان قد بدا لي أن لا أتزوج، وفيه فضل كتمان السر فإذا أظهره صاحبه ارتفع الحرج عمن سمعه. وفيه عتاب الرجل لأخيه وعتبة عليه واعتذاره إليه وقد جبلت الطباع البشرية على ذلك، ويحتمل أن يكون سبب كتمان أبي بكر ذلك أنه خشي أن يبدو لرسول

(9/177)


الله صلى الله عليه وسلم أن لا يتزوجها فيقع في قلب عمر انكسار، ولعل اطلاع أبي بكر على أن النبي صلى الله عليه وسلم قصد خطبة حفصة كان بإخباره له صلى الله عليه وسلم إما على سبيل الاستشارة وإما لأنه كان لا يكتم عنه شيئا مما يريده حتى ولا ما في العادة عليه غضاضة وهو كون ابنته عائشة عنده، ولم يمنعه ذلك من اطلاعه على ما يريد لوثوقه بإيثاره إياه على نفسه، ولهذا اطلع أبو بكر على ذلك قبل اطلاع عمر الذي يقع الكلام معه في الخطبة. ويؤخذ منه أن الصغير لا ينبغي له أن يخطب امرأة أراد الكبير أن يتزوجها ولو لم تقع الخطبة فضلا عن الركون. وفيه الرخصة في تزويج من عرض النبي صلى الله عليه وسلم بخطبتها أو أراد أن يتزوجها لقول الصديق: لو تركها لقبلتها. وفيه عرض الإنسان بنته وغيرها من مولياته على من يعتقد خيره وصلاحه لما فيه من النفع العائد على المعروضة عليه، وأنه لا استحياء في ذلك. وفيه أنه لا بأس بعرضها عليه ولو كان متزوجا لأن أبا بكر كان حينئذ متزوجا. وفيه أن من حلف لا يفشي سر فلان فأفشى فلان سر نفسه ثم تحدث به الحالف لا يحنث لأن صاحب السر هو الذي أفشاه فلم يكن الإفشاء من قبل الحالف، وهذا بخلاف ما لو حدث واحد آخر بشيء واستحلفه ليكتمه فلقيه رجل فذكر له أن صاحب الحديث حدثه بمثل ما حدثه به فأظهر التعجب وقال ما ظننت أنه حدث بذلك غيري فإن هذا يحنث، لأن تحليفه وقع على أنه يكتم أنه حدثه وقد أفشاه. وفيه أن الأب يخطب إليه بنته الثيب كما يخطب إليه البكر ولا تخطب إلى نفسها كذا قال ابن بطال، وقوله لا تخطب إلى نفسها ليس في الخبر ما يدل عليه. قال وفيه أنه يزوج بنته الثيب من غير أن يستأمرها إذا علم أنها لا تكره ذلك وكان الخاطب كفوا لها، وليس في الحديث تصريح بالنفي المذكور إلا أنه يؤخذ من غيره، وقد ترجم له النسائي: "أنكاح الرجل بنته الكبيرة" فإن أراد بالرضا لم يخالف القواعد، وأن أراد بالإخبار فقد يمنع، والله أعلم. ذكر المصنف طرفا من حديث أم حبيبة في قصة بنت أم سلمة، وقد تقدم شرحه قريبا ولم يذكر فيه هنا مقصود الترجمة استغناء بالإشارة إليه وهو قولها "انكح أختي بنت أبي سفيان" والله أعلم

(9/178)


باب قول الله عز وجل (ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء )الآية
...
36- باب قَوْلِ اللَّهِ عز وجَلَّ : {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ} الْآيَةَ إِلَى قَوْلِهِ: {غَفُورٌ حَلِيمٌ} أَوْ أَكْنَنْتُمْ أَضْمَرْتُمْ وَكُلُّ شَيْءٍ صُنْتَهُ وَأَضْمَرْتَهُ فَهُوَ مَكْنُونٌ.
5124- وَقَالَ لِي طَلْقٌ حَدَّثَنَا زَائِدَةُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ {فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} يَقُولُ إِنِّي أُرِيدُ التَّزْوِيجَ وَلَوَدِدْتُ أَنَّهُ تَيَسَّرَ لِي امْرَأَةٌ صَالِحَةٌ وَقَالَ الْقَاسِمُ يَقُولُ إِنَّكِ عَلَيَّ كَرِيمَةٌ وَإِنِّي فِيكِ لَرَاغِبٌ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَائِقٌ إِلَيْكِ خَيْرًا أَوْ نَحْوَ هَذَا وَقَالَ عَطَاءٌ يُعَرِّضُ وَلاَ يَبُوحُ يَقُولُ إِنَّ لِي حَاجَةً وَأَبْشِرِي وَأَنْتِ بِحَمْدِ اللَّهِ نَافِقَةٌ وَتَقُولُ هِيَ قَدْ أَسْمَعُ مَا تَقُولُ وَلاَ تَعِدُ شَيْئًا وَلاَ يُوَاعِدُ وَلِيُّهَا بِغَيْرِ عِلْمِهَا وَإِنْ وَاعَدَتْ رَجُلًا فِي عِدَّتِهَا ثُمَّ نَكَحَهَا بَعْدُ لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا وَقَالَ الْحَسَنُ لاَ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا الزِّنَا وَيُذْكَرُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ {حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ"
قوله: "باب قول الله عز وجل: {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ}

(9/178)


الآية إلى قوله: {غَفُورٌ حَلِيمٌ} كذا للأكثر، وحذف ما بعد {أَكْنَنْتُمْ} من رواية أبي ذر، ووقع في شرح ابن بطال سياق الآية والتي بعدها إلى قوله: "أجله" الآية. قال ابن التين: تضمنت الآية أربعة أحكام: اثنان مباحان التعريض والإكنان، واثنان ممنوعان النكاح في العدة والمواعدة فيها. قوله: "أضمرتم في أنفسكم، وكل شيء صنته وأضمرته فهو مكنون" كذا للجميع، وعند أبي ذر بعده إلى آخر الآية. والتفسير المذكور لأبي عبيدة. قوله: "وقال لي طلق" هو ابن غنام بفتح المعجمة وتشديد النون. قوله: "عن ابن عباس فيما عرضتم" أي أنه قال في تفسير هذه الآية. قوله: "يقول إني أريد التزويج إلخ" وهو تفسير للتعريض المذكور في الآية، قال الزمخشري: التعريض أن يذكر المتكلم شيئا يدل به على شيء لم يذكره. وتعقب بأن هذا التعريف لا يخرج المجاز، وأجاب سعد الدين بأنه لم يقصد التعريف، ثم حقق التعريض بأنه ذكر شيء مقصود بلفظ حقيقي أو مجازي أو كنائي ليدل به على شيء آخر لم يذكر في الكلام، مثل أن يذكر المجيء للتسليم ومراده التقاضي، فالسلام مقصوده والتقاضي عرض، أي أميل إليه الكلام عن عرض أي جانب. وامتاز عن الكناية فلم يشتمل على جميع أقسامها. والحاصل أنهما يجتمعان ويفترقان، فمثل جئت لأسلم عليك كناية وتعريض، ومثل طويل النجاد كناية لا تعريض، ومثل آذيتني فستعرف خطابا لغير المؤذى تعريض بتهديد المؤذى لا كناية انتهى ملخصا. وهو تحقيق بالغ. قوله: "ولوددت أنه ييسر" بضم التحتانية وفتح أخرى مثلها بعدها وفتح المهملة. وفي رواية الكشميهني: "يسر" بتحتانية واحدة وكسر المهملة، وهكذا اقتصر المصنف في هذا الباب على حديث ابن عباس الموقوف. وفي الباب حديث صحيح مرفوع وهو قوله صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس "إذا حللت فآذنيني" وهو عند مسلم، وفي لفظ: "لا تفوتينا بنفسك" أخرجه أبو داود. واتفق العلماء على أن المراد بهذا الحكم من مات عنها زوجها، واختلفوا في المعتدة من الطلاق البائن، وكذا من وقف نكاحها، وأما الرجعية فقال الشافعي: لا يجوز لأحد أن يعرض لها بالخطبة فيها. والحاصل أن التسريح بالخطبة حرام لجميع المعتدات والتعريض مباح للأولى، حرام في الأخيرة، مختلف فيه في البائن. قوله: "وقال القاسم" يعني ابن محمد "إنك على كريمة" أي يقول ذلك، وهو تفسير آخر للتعريض، وكلها أمثلة، ولهذا قال في آخره أو نحو وهذا الأثر وصله مالك عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه أنه كان يقول قول الله عز وجل :{وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} أن يقول الرجل للمرأة وهي في عدتها من وفاة زوجها: إن إلى آخره. وقوله في الأمثلة إني فيك لراغب يدل على أن تصريحه بالرغبة فيها لا يمتنع ولا يكون صريحا في خطبتها حتى يصرح بمتعلق الرغبة كأن يقول: إنى في نكاحك لراغب، وقد نص الشافعي على أن ذلك من صور التعريض أعنى ما ذكره القاسم، وأما ما مثلت به فحكى الروياني فيه وجها، وعبر النووي في الروضة بقوله رب راغب فيك، فأوهم أنه لا يصرح بالرغبة مطلقا، وليس كذلك. وأخرج البيهقي من طريق مجاهد من صور التصريح: لا تسبقيني بنفسك فإني ناكحك، ولو لم يقل فإني ناكحك فهو من صور التعريض لحديث فاطمة بنت قيس كما بينته قريبا. وقد ذكر الرافعي من صور التصريح لا تفوتي على نفسك وتعقبوه. وروى الدار قطني من طريق عبد الرحمن بن سليمان بن الغسيل عن عمته سكينة قالت: استأذن على أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين ولم تنقض عدتي من مهلك زوجي فقال: قد عرفت قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن على وموضعي في العرب فقلت: غفر الله لك يا أبا جعفر، أنت رجل يؤخذ عنك تخطبني في عدتي؟ قال: إنما أخبرتك بقرابتي من

(9/179)


رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن على. قوله: "وقال عطاء يعرض ولا يبوح" أي لا يصرح "يقول إن لي حاجة وأبشري". قوله: "نافقة" بنون وفاء وقاف أي رائجة بالتحتانية والجيم. قوله: "ولا تعد شيئا" بكسر المهملة وتخفيف الدال، وأثر عطاء هذا وصله عبد الرزاق عن ابن جريج عنه مفرقا، وأخرجه الطبري من طريق ابن المبارك عن ابن جريج قال: قلت لعطاء كيف يقول الخاطب؟ قال يعرض تعريضا ولا يبوح بشيء، فذكر مثله إلى قوله ولا تعد شيئا. قوله: "وإن واعدت رجلا في عدتها ثم نكحها" أي تزوجها "بعد" أي عند انقضاء العدة "لم يفرق بينهما" أي لم يقدح ذلك في صحة النكاح وإن وقع الإثم. وذكر عبد الرزاق عن ابن جريج عقب أثر عطاء قال: وبلغني عن ابن عباس قال خير لك أن تفارقها. واختلف فيمن صرح بالخطبة في العدة لكن لم يعقد إلا بعد انقضائها "فقال مالك: يفارقها دخل بها أو لم يدخل. وقال الشافعي: صح العقد وإن ارتكب النهي بالتصريح المذكور لاختلاف الجهة. وقال المهلب: علة المنع من التصريح في العدة أن ذلك ذريعة إلى الموافقة في العدة التي هي محبوسة فيها على ماء الميت أو المطلق ا هـ. وتعقب بأن هذه العلة تصلح أن تكون لمنع العقد لا لمجرد التصريح، إلا أن يقال التصريح ذريعة إلى العقد والعقد ذريعة إلى الوقاع. وقد اختلفوا لو وقع العقد في العدة ودخل فاتفقوا على أنه يفرق بينهما. وقال مالك والليث والأوزاعي: لا يحل له نكاحها بعد. وقال الباقون بل يحل له إذا انقضت العدة أن يتزوجها إذا شاء. قوله: "وقال الحسن لا تواعدوهن سرا الزنا" وصله عبد بن حميد من طريق عمران بن حدير عنه بلفظه، وأخرجه عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن الحسن قال: هو الفاحشة. قال قتادة قوله: "سرا" أي لا تأخذ عهدها في عدتها أن لا تتزوج غيره. وأخرجه إسماعيل القاضي في "الأحكام" وقال: هذا أحسن من قول من فسره بالزنا، لأن ما قبل الكلام وما بعده لا يدل عليه، ويجوز في اللغة أن يسمى الجماع سرا فلذلك ويجوز إطلاقه على العقد، ولا شك أن المواعدة على ذلك تزيد على التعريض المأذون فيه، واستدل بالآية على أن التعريض في القذف لا يوجب الحد لأن خطة المعتدة حرام، وفرق فيها بين التصريح والتعريض فمنع التصريح وأجيز التعريض، مع أن المقصود مفهوم منهما، فكذلك فرق في إيجاب حد القذف بين التصريح والتعريض. واعترض ابن بطال فقال: يلزم الشافعية على هذا أن يقولوا بإباحة التعريض بالقذف، وهذا ليس بلازم لأن المراد أن التعريض دون التصريح في الإفهام فلا يلتحق به في إيجاب الحد، لأن للذي يعرض أن يقول لم أرد القذف بخلاف المصرح. قوله: "ويذكر عن ابن عباس حتى يبلغ الكتاب أجله انقضاء العدة" وصله الطبري من طريق عطاء الخراساني عن ابن عباس في قوله تعالى :{وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} يقول: حتى تنقضي العدة

(9/180)


37- باب النَّظَرِ إِلَى الْمَرْأَةِ قَبْلَ التَّزْوِيجِ
5125- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَيْتُكِ فِي الْمَنَامِ يَجِيءُ بِكِ الْمَلَكُ فِي سَرَقَةٍ مِنْ حَرِيرٍ فَقَالَ لِي هَذِهِ امْرَأَتُكَ فَكَشَفْتُ عَنْ وَجْهِكِ الثَّوْبَ فَإِذَا أَنْتِ هِيَ فَقُلْتُ إِنْ يَكُ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يُمْضِهِ"
5126- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ رَسُولَ اللَّهِ

(9/180)


صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ جِئْتُ لِأَهَبَ لَكَ نَفْسِي فَنَظَرَ إِلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَعَّدَ النَّظَرَ إِلَيْهَا وَصَوَّبَهُ ثُمَّ طَأْطَأَ رَأْسَهُ فَلَمَّا رَأَتْ الْمَرْأَةُ أَنَّهُ لَمْ يَقْضِ فِيهَا شَيْئًا جَلَسَتْ فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ أَيْ رَسُولَ اللَّهِ إِنْ لَمْ تَكُنْ لَكَ بِهَا حَاجَةٌ فَزَوِّجْنِيهَا فَقَالَ هَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَيْءٍ قَالَ لاَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ اذْهَبْ إِلَى أَهْلِكَ فَانْظُرْ هَلْ تَجِدُ شَيْئًا فَذَهَبَ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ لاَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا وَجَدْتُ شَيْئًا قَالَ انْظُرْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ فَذَهَبَ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ لاَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلاَ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ وَلَكِنْ هَذَا إِزَارِي قَالَ سَهْلٌ مَا لَهُ رِدَاءٌ فَلَهَا نِصْفُهُ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا تَصْنَعُ بِإِزَارِكَ إِنْ لَبِسْتَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا مِنْهُ شَيْءٌ وَإِنْ لَبِسَتْهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ مِنْهُ شَيْءٌ فَجَلَسَ الرَّجُلُ حَتَّى طَالَ مَجْلِسُهُ ثُمَّ قَامَ فَرَآهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُوَلِّيًا فَأَمَرَ بِهِ فَدُعِيَ فَلَمَّا جَاءَ قَالَ مَاذَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ قَالَ مَعِي سُورَةُ كَذَا وَسُورَةُ كَذَا وَسُورَةُ كَذَا عَدَّدَهَا قَالَ أَتَقْرَؤُهُنَّ عَنْ ظَهْرِ قَلْبِكَ قَالَ نَعَمْ قَالَ اذْهَبْ فَقَدْ مَلَّكْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ"
قوله: "باب النظر إلى المرأة قبل التزويج" استنبط البخاري جواز ذلك من حديثي الباب، لكون التصريح الوارد في ذلك ليس على شرطه، وقد ورد ذلك في أحاديث أصحها حديث أبي هريرة "قال رجل إنه تزوج امرأة من الأنصار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنظرت إليها؟ قال: لا. قال: فاذهب فانظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئا" أخرجه مسلم والنسائي. وفي لفظ له صحيح "أن رجلا أراد أن يتزوج امرأة" فذكره قال الغزالي في "الإحياء" : اختلف في المراد بقوله شيئا فقيل عمش وقيل صغر. قلت: الثاني وقع في رواية أبي عوانة في مستخرجه فهو المعتمد وهذا الرجل يحتمل أن يكون المغيرة، فقد أخرج الترمذي والنسائي من حديثه أنه "خطب امرأة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: انظر إليها، فإنه أحرى أن يدوم بينكما" وصححه ابن حبان. وأخرج أبو داود والحاكم من حديث جابر مرفوعا: "إذا خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل" وسنده حسن، وله شاهد من حديث محمد بن مسلمة، وصححه ابن حبان والحاكم، وأخرجه أحمد وابن ماجه. ومن حديث أبي حميد أخرجه أحمد والبزار. ثم ذكر المصنف فيه حديثين. حديث عائشة.قوله: "أريتك" بضم الهمزة "في المنام" زاد في رواية أبي أسامة في أوائل النكاح "مرتين". قوله: "يجيء بك الملك" وقع في رواية أبي أسامة "إذا رجل يحملك" فكأن الملك تمثل له حينئذ رجلا. ووقع في رواية ابن حبان من طريق أخرى عن عائشة "جاء بي جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم". قوله: "في سرقة من حرير" السرقة بفتح المهملة والراء والقاف هي القطعة، ووقع في رواية ابن حبان: "في خرقة حرير" وقال الداودي: السرقة الثوب، فإن أراد تفسيره هنا فصحيح، وإلا فالسرقة أعم. وأغرب المهلب فقال: السرقة كالكلة أو كالبرقع. وعند الآجري من وجه آخر عن عائشة "لقد نزل جبريل بصورتي في راحته حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزوجني" ويجمع بين هذا وبين ما قبله بأن المراد أن صورتها كانت في الخرقة والخرقة في راحته، ويحتمل أن يكون نزل بالكيفيتين لقولها في نفس الخبر "نزل مرتين" قوله: "فكشفت عن وجهك الثوب" في رواية أبي أسامة "فأكشفها" فعبر بلفظ المضارع استحضارا لصورة

(9/181)


الحال. قال ابن المنير: يحتمل أن يكون رأى منها ما يجوز للخاطب أن يراه، ويكون الضمير في "أكشفها" للسرقة أي أكشفها عن الوجه، وكأنه حمله على ذلك أن رؤيا الأنبياء وحي، وأن عصمتهم في المنام كاليقظة، وسيأتي في اللباس في الكلام على تحريم التصوير ما يتعلق بشيء من هذا: وقال أيضا: في الاحتجاج بهذا الحديث للترجمة نظر، لأن عائشة كانت إذ ذاك في سن الطفولية فلا عورة فيها البتة، ولكن يستأنس به في الجملة في أن النظر إلى المرأة قبل العقد فيه مصلحة ترجع إلى العقد. قوله: "فإذا أنت هي" في رواية الكشميهني: "فإذا هي أنت" وكذا تقدم من رواية أبي أسامة. قوله: "يمضه" بضم أوله، قال عياض: يحتمل أن يكون ذلك قبل البعثة فلا إشكال فيه، وإن كان بعدها ففيه ثلاث احتمالات: أحدها التردد هل هي زوجته في الدنيا والآخرة أو في الآخرة فقط، ثانيها أنه لفظ شك لا يراد به ظاهره وهو أبلغ في التحقق، ويسمى في البلاغة مزج الشك باليقين، ثالثها وجه التردد هل هي رؤيا وحي على ظاهرها وحقيقتها أو هي رؤيا وحي لها تعبير؟ وكلا الأمرين جائز في حق الأنبياء. قلت: الأخير هو المعتمد، وبه جزم السهيلي عن ابن العربي، ثم قال: وتفسيره باحتمال غيرها لا أرضاه، والأول يرده أن السياق يقتضي أنها كانت قد وجدت فإن ظاهر قوله: "فإذا هي أنت" مشعر بأنه كان قد رآها وعرفها قبل ذلك، والواقع أنها ولدت بعد البعثة. ويرد أول الاحتمالات الثلاث رواية ابن حبان في آخر حديث الباب: "هي زوجتك في الدنيا والآخرة" والثاني بعيد، والله أعلم. حديث سهل في قصة الواهبة، والشاهد منه للترجمة قوله فيه: "فصعد النظر إليها وصوبه" وسيأتي شرحه في "باب التزويج على القرآن وبغير صداق". قوله: "ثم طأطأ رأسه" وذكر الحديث كله، كذا في رواية أبي ذر عن السرخسي، وساق الباقون الحديث بطوله، قال الجمهور: لا بأس أن ينظر الخاطب إلى المخطوبة. قالوا: ولا ينظر إلى غير وجهها وكفيها. وقال الأوزاعي: يجتهد وينظر إلى ما يريد منها إلا العورة. وقال ابن حزم. ينظر إلى ما أقبل وما أدبر منها. وعن أحمد ثلاث روايات: الأولى كالجمهور، والثانية ينظر إلى ما يظهر غالبا، والثالثة ينظر إليها متجردة وقال الجمهور أيضا: يجوز أن ينظر إليها إذا أراد ذلك بغير إذنها. وعن مالك رواية يشترط إذنها. ونقل الطحاوي عن قوم أنه لا يجوز النظر إلى المخطوبة قبل العقد بحال لأنها حينئذ أجنبية، ورد عليهم بالأحاديث المذكورة

(9/182)


38- باب مَنْ قَالَ لاَ نِكَاحَ إِلاَّ بِوَلِيٍّ
لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ} فَدَخَلَ فِيهِ الثَّيِّبُ وَكَذَلِكَ الْبِكْرُ وَقَالَ {وَلاَ تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} وَقَالَ {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ}
5127- قَالَ يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ ح و حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا عَنْبَسَةُ حَدَّثَنَا يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ النِّكَاحَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَنْحَاءٍ فَنِكَاحٌ مِنْهَا نِكَاحُ النَّاسِ الْيَوْمَ يَخْطُبُ الرَّجُلُ إِلَى الرَّجُلِ وَلِيَّتَهُ أَوْ ابْنَتَهُ فَيُصْدِقُهَا ثُمَّ يَنْكِحُهَا وَنِكَاحٌ آخَرُ كَانَ الرَّجُلُ يَقُولُ لِامْرَأَتِهِ إِذَا طَهُرَتْ مِنْ طَمْثِهَا أَرْسِلِي إِلَى فُلاَنٍ فَاسْتَبْضِعِي مِنْهُ وَيَعْتَزِلُهَا زَوْجُهَا وَلاَ يَمَسُّهَا أَبَدًا حَتَّى يَتَبَيَّنَ حَمْلُهَا مِنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ الَّذِي تَسْتَبْضِعُ مِنْهُ فَإِذَا تَبَيَّنَ حَمْلُهَا أَصَابَهَا

(9/182)


زَوْجُهَا إِذَا أَحَبَّ وَإِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ رَغْبَةً فِي نَجَابَةِ الْوَلَدِ فَكَانَ هَذَا النِّكَاحُ نِكَاحَ الِاسْتِبْضَاعِ وَنِكَاحٌ آخَرُ يَجْتَمِعُ الرَّهْطُ مَا دُونَ الْعَشَرَةِ فَيَدْخُلُونَ عَلَى الْمَرْأَةِ كُلُّهُمْ يُصِيبُهَا فَإِذَا حَمَلَتْ وَوَضَعَتْ وَمَرَّ عَلَيْهَا لَيَالٍ بَعْدَ أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا أَرْسَلَتْ إِلَيْهِمْ فَلَمْ يَسْتَطِعْ رَجُلٌ مِنْهُمْ أَنْ يَمْتَنِعَ حَتَّى يَجْتَمِعُوا عِنْدَهَا تَقُولُ لَهُمْ قَدْ عَرَفْتُمْ الَّذِي كَانَ مِنْ أَمْرِكُمْ وَقَدْ وَلَدْتُ فَهُوَ ابْنُكَ يَا فُلاَنُ تُسَمِّي مَنْ أَحَبَّتْ بِاسْمِهِ فَيَلْحَقُ بِهِ وَلَدُهَا لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَمْتَنِعَ بِهِ الرَّجُلُ وَنِكَاحُ الرَّابِعِ يَجْتَمِعُ النَّاسُ الْكَثِيرُ فَيَدْخُلُونَ عَلَى الْمَرْأَةِ لاَ تَمْتَنِعُ مِمَّنْ جَاءَهَا وَهُنَّ الْبَغَايَا كُنَّ يَنْصِبْنَ عَلَى أَبْوَابِهِنَّ رَايَاتٍ تَكُونُ عَلَمًا فَمَنْ أَرَادَهُنَّ دَخَلَ عَلَيْهِنَّ فَإِذَا حَمَلَتْ إِحْدَاهُنَّ وَوَضَعَتْ حَمْلَهَا جُمِعُوا لَهَا وَدَعَوْا لَهُمْ الْقَافَةَ ثُمَّ أَلْحَقُوا وَلَدَهَا بِالَّذِي يَرَوْنَ فَالْتَاطَ بِهِ وَدُعِيَ ابْنَهُ لاَ يَمْتَنِعُ مِنْ ذَلِكَ فَلَمَّا بُعِثَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَقِّ هَدَمَ نِكَاحَ الْجَاهِلِيَّةِ كُلَّهُ إِلاَّ نِكَاحَ النَّاسِ الْيَوْمَ"
5128- حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ {وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللاَتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} قَالَتْ هَذَا فِي الْيَتِيمَةِ الَّتِي تَكُونُ عِنْدَ الرَّجُلِ لَعَلَّهَا أَنْ تَكُونَ شَرِيكَتَهُ فِي مَالِهِ وَهُوَ أَوْلَى بِهَا فَيَرْغَبُ عَنْهَا أَنْ يَنْكِحَهَا فَيَعْضُلَهَا لِمَالِهَا وَلاَ يُنْكِحَهَا غَيْرَهُ كَرَاهِيَةَ أَنْ يَشْرَكَهُ أَحَدٌ فِي مَالِهَا"
5129- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا هِشَامٌ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ قَالَ أَخْبَرَنِي سَالِمٌ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَخْبَرَهُ أَنَّ عُمَرَ حِينَ تَأَيَّمَتْ حَفْصَةُ بِنْتُ عُمَرَ مِنْ ابْنِ حُذَافَةَ السَّهْمِيِّ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ تُوُفِّيَ بِالْمَدِينَةِ فَقَالَ عُمَرُ لَقِيتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ فَقُلْتُ إِنْ شِئْتَ أَنْكَحْتُكَ حَفْصَةَ فَقَالَ سَأَنْظُرُ فِي أَمْرِي فَلَبِثْتُ لَيَالِيَ ثُمَّ لَقِيَنِي فَقَالَ بَدَا لِي أَنْ لاَ أَتَزَوَّجَ يَوْمِي هَذَا قَالَ عُمَرُ فَلَقِيتُ أَبَا بَكْرٍ فَقُلْتُ إِنْ شِئْتَ أَنْكَحْتُكَ حَفْصَةَ"
5130- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ ابْنُ أَبِي عَمْرٍو قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ عَنْ يُونُسَ عَنْ الْحَسَنِ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ قَالَ حَدَّثَنِي مَعْقِلُ بْنُ يَسَارٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيهِ قَالَ زَوَّجْتُ أُخْتًا لِي مِنْ رَجُلٍ فَطَلَّقَهَا حَتَّى إِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا جَاءَ يَخْطُبُهَا فَقُلْتُ لَهُ زَوَّجْتُكَ وَفَرَشْتُكَ وَأَكْرَمْتُكَ فَطَلَّقْتَهَا ثُمَّ جِئْتَ تَخْطُبُهَا لاَ وَاللَّهِ لاَ تَعُودُ إِلَيْكَ أَبَدًا وَكَانَ رَجُلًا لاَ بَأْسَ بِهِ وَكَانَتْ الْمَرْأَةُ تُرِيدُ أَنْ تَرْجِعَ إِلَيْهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ {فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ} فَقُلْتُ الْآنَ أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ فَزَوَّجَهَا إِيَّاهُ"
قوله: "باب من قال لا نكاح إلا بولي" استنبط المصنف هذا الحكم من الآيات والأحاديث التي ساقها،

(9/183)


لكون الحديث الوارد بلفظ الترجمة على غير شرطه، والمشهور فيه حديث أبي موسى مرفوعا بلفظه أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه وصححه ابن حبان والحاكم، لكن قال الترمذي بعد أن ذكر الاختلاف فيه: وأن من جملة من وصله إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي بردة عن أبيه، ومن جملة من أرسله شعبة وسفيان الثوري عن أبي إسحاق عن أبي بردة ليس فيه أبو موسى رواية، ومن رواه موصولا أصح لأنهم سمعوه في أوقات مختلفة، وشعبة وسفيان وإن كان أحفظ وأثبت من جميع من رواه عن أبي إسحاق لكنهما سمعاه في وقت واحد. ثم ساق من طريق أبي داود الطيالسي عن شعبة قال: "سمعت سفيان الثوري يسأل أبا إسحاق أسمعت أبا بردة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا نكاح إلا بولي؟ قال نعم" قال: وإسرائيل ثبت في أبي إسحاق. ثم ساق من طريق ابن مهدى قال: ما فاتني الذي فاتني من حديث الثوري عن أبي إسحاق إلا لما اتكلت به على إسرائيل لأنه كان يأتي به أتم. وأخرج ابن عدي عن عبد الرحمن بن مهدي قال: إسرائيل في أبي إسحاق أثبت من شعبة وسفيان. وأسند الحاكم من طريق علي بن المديني ومن طريق البخاري والذهلي وغيرهم أنهم صححوا حديث إسرائيل. ومن تأمل ما ذكرته عرف أن الذين صححوا وصله لم يستندوا ذلك إني كونه زيادة ثقة فقط، بل للقرائن المذكورة المقتضية لترجيح رواية إسرائيل الذي وصله على غيره، وسأشير إلى بقية طرق هذا الحديث بعد ثلاثة أبواب. على أن في الاستدلال بهذه الصيغة في منع النكاح بغير ولي نظرا، لأنها تحتاج إلى تقدير: فمن قدره نفي الصحة استقام له، ومن قدره نفي الكمال عكر عليه، فيحتاج إلى تأييد الاحتمال الأول بالأدلة المذكورة في الباب وما بعده. قوله: "لقول الله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ} أي لا تمنعوهن. وسيأتي في حديث معقل آخر أحاديث الباب بيان سبب نزول هذه الآية، ووجه الاحتجاج منها للترجمة. قوله: "فدخل فيه الثيب وكذلك البكر" ثبت هذا في رواية الكشميهني وعليه شرح ابن بطال، وهو ظاهر لعموم لفظ النساء. قوله: "وقال: {وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} ووجه الاحتجاج من الآية والتي بعدها أنه تعالى خاطب بإنكاح الرجال ولم يخاطب به النساء، فكأنه قال: لا تنكحوا أيها الأولياء مولياتكم للمشركين. قوله: "وقال {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} والأيامى جمع أيم، وسيأتي القول فيه بعد ثلاثة أبواب. ثم ذكر المصنف في الباب أربعة أحاديث. حديث عائشة ذكره من طريق ابن وهب ومن طريق عنبسة بن خالد جميعا عن يونس بن يزيد عن ابن شهاب الزهري، وقوله: "وقال، يحيى بن سليمان" هو الجعفي من شيوخ البخاري، وقد ساقه المصنف على لفظ عنبسة. وأما لفظ ابن وهب فلم أره من رواية يحيى بن سليمان إلى الآن لكن أخرجه الدار قطني من طريق أصبغ وأبو نعيم في "المستخرج" من طريق أحمد بن عبد الرحمن بن وهب والإسماعيلي والجوزقي من طريق عثمان بن صالح ثلاثتهم عن ابن وهب. قوله: "على أربعة أنحاء" جمع نحو أي ضرب وزنا ومعنى، ويطلق النحو أيضا على الجهة والنوع، وعلى العلم المعروف اصطلاحا. قوله: "أربعة" قال الداودي وغيره بقي عليها أنحاء لم تذكرها: الأول نكاح الخدن وهو في قوله تعالى :{وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} كانوا يقولون: ما استتر فلا بأس به، وما ظهر فهو لوم. الثاني نكاح المتعة وقد تقدم بيانه. الثالث نكاح البدل، وقد أخرج الدار قطني من حديث أبي هريرة "كان البدل في الجاهلية أن يقول الرجل للرجل أنزل لي عن امرأتك وأنزل لك عن امرأتي وأزيدك" ولكن إسناده ضعيف جدا. قلت والأول لا يرد لأنها أرادت ذكر بيان نكاح من لا زوج لها أو من أذن لها زوجها في ذلك، والثاني يحتمل أن لا يرد لأن الممنوع منه كونه مقدرا بوقت

(9/184)


لا أن عدم الولي فيه شرط وعدم ورود الثالث أظهر من الجميع. قوله: "وليته أو ابنته" هو للتنويع لا للشك. قوله: "فيصدقها" بضم أوله "ثم ينكحها" أي يعين صداقها ويسمى مقداره ثم يعقد عليها. قوله: "ونكاح الآخر" كذا لأبي ذر بالإضافة أي ونكاح المصنف الآخر، وهو من إضافة الشيء لنفسه على رأي الكوفيين. ووقع في رواية الباقين "ونكاح آخر" بالتنوين بغير لام وهو الأشهر في الاستعمال. قوله: "إذا طهرت من طمثها" بفتح المهملة وسكون الميم بعدها مثلثة أي حيضها، وكأن السر في ذلك أن يسرع علوقها منه. قوله: "فاستبضعي منه" بموحدة بعدها ضاد معجمة أي اطلبي منه المباضعة وهو الجماع. ووقع في رواية أصبغ عند الدار قطني استرضعي "براء بدل الموحدة. قال راوية محمد بن إسحاق الصغاني: الأول هو الصواب يعني بالموحدة، والمعنى اطلبي منه الجماع لتحملي منه، والمباضعة المجامعة مشتقة من البضع وهو الفرج. قوله: "وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد" أي اكتسابا من ماء الفحل لأنهم كانوا يطلبون ذلك من أكابرهم ورؤسائهم في الشجاعة أو الكرم أو غير ذلك. قوله: "فكان هذا النكاح نكاح الاستبضاع" بالنصب والتقدير يسمى وبالرفع أي هو. قوله: "ونكاح آخر يجتمع الرهط ما دون العشرة" تقدم تفسير الرهط في أوائل الكتاب، ولما كان هذا النكاح يجتمع عليه أكثر من واحد كان لا بد من ضبط العدد الزائد لئلا ينتشر. قوله: "كلهم يصيبها" أي يطؤها، والظاهر أن ذلك إنما يكون عن رضا منها وتواطؤ بينهم وبينها. قوله: "ومر ليال" كذا لأبي ذر. وفي رواية غيره: "ومر عليها ليال". قوله: "قد عرفتم" كذا للأكثر بصيغة الجمع. وفي رواية الكشميهني: "عرفت" على خطاب الواحد. قوله: "وقد ولدت" بالضم لأنه كلامها. قوله: "فهو ابنك" أي إن كان ذكرا، فلو كانت أنثى لقالت هي ابنتك، لكن يحتمل أن يكون لا تفعل ذلك إلا إذا كان ذكرا لما عرف من كراهتهم في البنت، وقد كان منهم من يقتل بنته التي يتحقق أنها بنت فضلا عمن تجيء بهذه الصفة. قوله: "فيلحق به ولدها" كذا لأبي ذر، ولغيره: "فيلتحق" بزيادة مثناة. قوله: "لا يستطيع أن يمتنع به" في رواية الكشميهني منه. قوله: "ونكاح الرابع" تقدم توجيهه. قوله: "لا تمنع من جاءها" وللأكثر لا تمتنع ممن جاءها. قوله: "وهن البغايا كن ينصبن على أبوابهن رايات تكون علما" بفتح اللام أي علامة. وأخرج الفاكهي من طريق ابن أبي مليكة قال: "تبرز عمر بأجياد، فدعا بماء، فأتته أم مهزول - وهي من البغايا التسع اللاتي كن في الجاهلية - فقالت: هذا ماء ولكنه في إناء لم يدبغ، فقال: هلم فإن الله جعل الماء طهورا" ومن طريق القاسم بن محمد عن عبد الله بن عمر "أن امرأة كانت يقال لها أم مهزول تسافح في الجاهلية، فأراد بعض الصحابة أن يتزوجها فنزلت: الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة" ومن طريق مجاهد في هذه الآية قال: "هن بغايا، كن في الجاهلية معلومات لهن رايات يعرفن بها" ومن طريق عاصم بن المنذر عن عروة بن الزبير مثله وزاد: "كرايات البيطار" وقد ساق هشام بن الكلبي في "كتاب المثالب" أسامي صواحبات الرايات في الجاهلية فسمى منهن أكثر من عشر نسوة مشهورات تركت ذكرهن اختيارا. قوله: "لمن أرادهن" في رواية الكشميهني: "فمن أرادهن". قوله: "القافة" جمع قائف بقاف ثم فاء وهو الذي يعرف شبه الولد بالوالد بالآثار الخفية. قوله: "فالتاطته" في رواية الكشميهني: "فالتاط" بغير مثناة أي استلحقته به، وأصل اللوط بفتح اللام اللصوق. قوله: "هدم نكاح الجاهلية" في رواية الدار قطني "نكاح أهل الجاهلية". قوله: "كله" دخل فيه ما ذكرت وما استدرك عليها. قوله: "إلا نكاح الناس اليوم" أي الذي بدأت بذكره، وهو أن يخطب الرجل إلى الرجل فيزوجه. احتج بهذا على

(9/185)


اشتراط الولي، وتعقب بأن عائشة وهي التي روت هذا الحديث كانت تجيز النكاح بغير ولي، كما روى مالك أنها زوجت بنت عبد الرحمن أخيها وهو غائب فلما قدم قال: مثلي يفتات عليه في بناته؟ وأجيب بأنه لم يرد في الخبر التصريح بأنها باشرت العقد، فقد يحتمل أن تكون البنت المذكورة ثيبا ودعت إلى كفء وأبوها غائب فانتقلت الولاية إلا الولي الأبعد أو إلى السلطان. وقد صح عن عائشة أنها "أنكحت رجلا من بني أخيها فضربت بينهم بستر ثم تكلمت حتى إذا لم يبق إلا العقد أمرت رجلا فأنكح ثم قالت: ليس إلى النساء نكاح" أخرجه عبد الرزاق. قوله: "حدثنا يحيى" هو ابن موسى أو ابن جعفر كما بينته في المقدمة، وساق الحديث عن عائشة مختصرا وقد تقدم شرحه في كتاب التفسير. حديث ابن عمر "تأيمت حفصة" تقدم شرحه قريبا ووجه الدلالة منه اعتبار الولي في الجملة. حديث معقل بن يسار. قوله: "حدثنا أحمد بن أبي عمرو" وهو النيسابوري قاضيها يكنى أبا علي، واسم أبي عمرو حفص بن عبد الله بن راشد. قوله: "حدثني إبراهيم" هو ابن طهمان: ويونس هو ابن عبيد، والحسن هو البصري. قوله: {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ} أي في تفسير هذه الآية. ووقع في تفسير الطبري من حديث ابن عباس أنها نزلت في ولي النكاح أن يضار وليته فيمنعها من النكاح. قوله: "حدثني معقل بن يسار أنها نزلت فيه" هذا صريح في رفع هذا الحديث ووصله، وقد تقدم في تفسير البقرة معلقا لإبراهيم بن طهمان، وموصولا أيضا لعباد بن راشد عن الحسن، وبصورة الإرسال من طريق عبد الوارث بن سعيد عن يونس، وقويت رواية إبراهيم بن طهمان بوصله بمتابعة عباد بن راشد على تصريح الحسن بقوله: "حدثني معقل بن يسار". قوله: "زوجت أختا لي" اسمها جميل بالجيم مصغر بنت يسار، وقع في تفسير الطبري من طريق ابن جريج وبه جزم ابن ماكولا، وسماها ابن فتحون كذلك لكن بغير تصغير وسيأتي مستنده، وقيل اسمها ليلى حكاه السهيلي في "مبهمات القرآن" وتبعه البدري، وقيل فاطمة وقع ذلك عند ابن إسحاق، ويحتمل التعدد بأن يكون لها اسمان ولقب أو لقبان واسم. قوله: "من رجل" قيل هو أبو البداح بن عاصم الأنصاري، هكذا وقع في "أحكام القرآن لإسماعيلي القاضي" من طريق ابن جريج "أخبرني عبد الله بن معقل أن جميل بنت يسار أخت معقل كانت تحت أبي البداح بن عاصم فطلقها فانقضت عدتها. فخطبها" وذكر ذلك أبو موسى في "ذيل الصحابة" وذكره أيضا الثعلبي ولفظه: "نزلت في جميلة بنت يسار أخت معقل وكانت تحت أبي البداح بن عاصم بن عدي بن العجلان" واستشكله الذهلي بأن البداح تابعي على الصواب، فيحتمل أن يكون صحابيا آخر. وجزم بعض المتأخرين بأنه البداح بن عاصم وكنيته أبو عمرو فإن كان محفوظا فهو أخو البداح التابعي. ووقع لنا في "كتاب المجاز" للشيخ عز الدين بن عبد السلام أن اسم زوجها عبد الله بن رواحة، ووقع في رواية عباد بن راشد عن الحسن عن البزار والدار قطني "فأتاني ابن عم لي فخطبها مع الخطاب "وفي هذا نظر لأن معقل بن يسار مزني وأبو البداح أنصاري فيحتمل أنه ابن عمه لأمه أو من الرضاعة. قوله: "حتى إذا انقضت عدتها" في رواية عباد بن راشد "فاصطحبا ما شاء الله ثم طلقها طلاقا له رجعة ثم تركها حتى انقضت عدتها فخطبها. قوله: "فجاء يخطبها" أي من وليها وهو أخوها كما قال أولا "زوجت أختا لي من رجل". قوله: "وأفرشتك" أي جعلتها لك فراشا، في رواية الثعلبي "وأفرشتك كريمتي وآثرتك بها على قومي". وهذا مما يبعد أنه ابن عمه. قوله: "لا والله لا تعود إليك أبدا" في رواية عباد بن راشد "لا أزوجك أبدا" زاد الثعلبي وحمزة "آنفا" وهو بفتح الهمزة والنون والفاء. قوله: "وكان رجلا لا بأس

(9/186)


به" في رواية الثعلبي "وكان رجل صدق" قال ابن التين: أي كان جيدا. وهذا مما غيرته العامة فكنوا به عمن لا خير فيه كذا قال. ووقع في رواية مبارك بن فضالة عن الحسن عند أبي مسلم الكجي "قال الحسن علم الله حاجة الرجل إلى امرأته وحاجة المرأة إلى زوجها، فأنزل الله هذه الآية". قوله: "فأنزل الله هذه الآية: {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ} هذا صريح في نزول هذه الآية في هذه القصة، ولا يمنع ذلك كون ظاهر الخطاب في السياق للأزواج حيث وقع فيها {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} ، لكن قوله في بقيتها {أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} ظاهر في أن العضل يتعلق بالأولياء، وقد تقدم التفسير بيان العضل الذي يتعلق بالأولياء في قوله تعالى: {لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ} فيستدل في كل مكان بما يليق به. قوله: "فقلت الآن أفعل يا رسول الله. قال فزوجها إياه" أي أعادها إليه بعقد جديد. وفي رواية أبي نعيم في المستخرج "فقلت الآن أقبل أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم:" وفي رواية أبي مسلم الكجي من طريق مبارك بن فضالة عن الحسن "فسمع ذلك معقل بن يسار فقال: سمعا لربي وطاعة، فدعا زوجها فزوجها إياه" ومن رواية الثعلبي "فإني أومن بالله" فأنكحها إياه وكفر عن يمينه "وفي رواية عباد بن راشد "فكفرت عن يميني وأنكحتها إياه" قال الثعلبي: ثم هذا قول أكثر المفسرين. وعن السدي: نزلت في جابر بن عبد الله زوج بنت عمه فطلقها زوجها تطليقة وانقضت عدتها ثم أراد تزويجها، وكانت المرأة تريده فأبي جابر، فنزلت، قال ابن بطال: اختلفوا في الولي فقال الجمهور ومنهم مالك والثوري والليث والشافعي وغيرهم: الأولياء في النكاح هم العصبة، وليس للخال ولا والد الأم ولا الإخوة من الأم ونحو هؤلاء ولاية. وعن الحنفية هم من الأولياء، واحتج الأبهري بأن الذي يرث الولاء هم العصبة دون ذوي الأرحام قال: فذلك عقدة النكاح. واختلفوا فيما إذا مات الأب فأوصى رجلا على أولاده هل يكون أولى من الولي القريب في عقدة النكاح أو مثله أو لا ولاية له؟ فقال ربيعة وأبو حنيفة ومالك: الوصي أولى، واحتج لهم بأن الأب لو جعل ذلك لرجل بعينه في حياته لم يكن لأحد من الأولياء أن يعترض عليه، فكذلك بعد موته. وتعقب بأن الولاية انتقلت بالموت فلا يقاس بحال الحياة وقد اختلف العلماء اشتراط الولي في النكاح فذهب الجمهور إلى ذلك وقالوا: لا تزوج المرأة نفسها أصلا، واحتجوا بالأحاديث المذكورة، ومن أقواها هذا السبب المذكور في نزول الآية المذكورة، وهي أصرح دليل على اعتبار الولي وإلا لما كان لعضله معنى، ولأنها لو كان لها أن تزوج نفسها لم تحتج إلى أخيها، ومن كان أمره إليه لا يقال إن غيره منعه منه. وذكر ابن المنذر أنه لا يعرف عن أحد من الصحابة خلاف ذلك، وعن مالك رواية أنها إن كانت غيره شريفة زوجت نفسها. وذهب أبو حنيفة إلى أنه لا يشترط الولي أصلا، ويجوز أن تزوج نفسها ولو بغير إذن وليها إذا تزوجت كفؤا، واحتج بالقياس على البيع فإنها تستقل به، وحمل الأحاديث الواردة في اشتراط الولي على الصغيرة وخص بهذا القيام عمومها، وهو عمل سائغ في الأصول، وهو جواز تخصيص العموم بالقياس، لكن حديث معقل المذكور رفع هذا القياس، ويدل على اشتراط الولي في النكاح دون غيره ليندفع عن موليته العار باختيار الكفء، وانفصل بعضهم عن هذا الإيراد بالتزامهم اشتراط الولي ولكن لا يمنع ذلك تزويجها نفسها، ويتوقف ذلك إجازة الولي كما قالوا لما في البيع، وهو مذهب الأوزاعي. وقال أبو ثور نحوه لكن قال: يشترط إذن الولي لها في تزويج نفسها. وتعقب بأن إذن الولي لا يصح إلا لمن ينوب عنه والمرأة لا تنوب عنه في ذلك لأن الحق لها، ولو أذن لها في إنكاح نفسها صارت كمن أذن لها في البيع من نفسها ولا

(9/187)


يصح. وفي حديث معقل أن الولي إذا عضل لا يزوج السلطان إلا بعد أن يأمره بالرجوع عن العضل، فإن أجاب فذاك، وإن أصر زوج عليه الحاكم، والله أعلم.
37- باب إِذَا كَانَ الْوَلِيُّ هُوَ الْخَاطِبَ وَخَطَبَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ امْرَأَةً هُوَ أَوْلَى النَّاسِ بِهَا فَأَمَرَ رَجُلًا فَزَوَّجَهُ وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ لِأُمِّ حَكِيمٍ بِنْتِ قَارِظٍ أَتَجْعَلِينَ أَمْرَكِ إِلَيَّ قَالَتْ نَعَمْ فَقَالَ قَدْ زَوَّجْتُكِ وَقَالَ عَطَاءٌ لِيُشْهِدْ أَنِّي قَدْ نَكَحْتُكِ أَوْ لِيَأْمُرْ رَجُلًا مِنْ عَشِيرَتِهَا وَقَالَ سَهْلٌ قَالَتْ امْرَأَةٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهَبُ لَكَ نَفْسِي فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ لَمْ تَكُنْ لَكَ بِهَا حَاجَةٌ فَزَوِّجْنِيهَا.
5131- حَدَّثَنَا ابْنُ سَلاَمٍ أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي قَوْلِهِ تعالى " وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ " إِلَى آخِرِ الْآيَةِ قَالَتْ هِيَ الْيَتِيمَةُ تَكُونُ فِي حَجْرِ الرَّجُلِ قَدْ شَرِكَتْهُ فِي مَالِهِ فَيَرْغَبُ عَنْهَا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا وَيَكْرَهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا غَيْرَهُ فَيَدْخُلَ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ فَيَحْبِسُهَا فَنَهَاهُمْ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ"
5132- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمِقْدَامِ حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا أَبُو حَازِمٍ حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جُلُوسًا فَجَاءَتْهُ امْرَأَةٌ تَعْرِضُ نَفْسَهَا عَلَيْهِ فَخَفَّضَ فِيهَا النَّظَرَ وَرَفَعَهُ فَلَمْ يُرِدْهَا فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ زَوِّجْنِيهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ أَعِنْدَكَ مِنْ شَيْءٍ قَالَ مَا عِنْدِي مِنْ شَيْءٍ قَالَ وَلاَ خَاتَمٌ مِنْ حَدِيدٍ قَالَ وَلاَ خَاتَمٌ مِنْ حَدِيدٍ وَلَكِنْ أَشُقُّ بُرْدَتِي هَذِهِ فَأُعْطِيهَا النِّصْفَ وَآخُذُ النِّصْفَ قَالَ لاَ هَلْ مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ شَيْءٌ قَالَ نَعَمْ قَالَ اذْهَبْ فَقَدْ زَوَّجْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ"
قوله: "باب إذا كان الولي" أي النكاح "هو الخاطب" أي هل يزوج نفسه، أو يحتاج إلى ولي آخر؟ قال ابن المنير: ذكر في الترجمة ما يدل على الجواز والمنع معا ليكل الأمر ذلك إلى نظر المجتهد. كذا قال، وكأنه أخذه من تركه الجزم بالحكم، لكن الذي يظهر من صنيعه أنه يرى الجواز، فإن الآثار التي فيها أمر الولي غيره أن يزوجه ليس فيها التصريح بالمنع من تزويجه نفسه. وقد أورد في الترجمة أثر عطاء الدال على الجواز، وإن كان الأولى عنده أن لا يتولى أحد طرفي العقد. وقد اختلف السلف في ذلك، فقال الأوزاعي وربيعة والثوري ومالك وأبو حنيفة أكثر أصحابه والليث: يزوج الولي نفسه، ووافقهم أبو ثور. وعن مالك لو قالت الثيب لوليها زوجني بمن رأيت فزوجها من نفسه أو ممن اختار لزمها ذلك ولو لم تعلم عين الزوج. وقال الشافعي: يزوجهما السلطان أو ولي آخر مثله أو أقعد منه. ووافقه زفر وداود. وحجتهم أن الولاية شرط في العقد، فلا يكون الناكح منكحا كما لا يبيع من نفسه. قوله: "وخطب المغيرة بن شعبة امرأة هو أولى الناس بها فأمر رجلا فزوجه" هذا الأثر وصله وكيع في مصنفه والبيهقي من طريقه عن الثوري عن عبد الملك بن عمير "أن المغيرة بن شعبة أراد أن يتزوج امرأة وهو وليها، فجعل أمرها إلى رجل المغيرة أولى منه فزوجه" وأخرجه عبد الرزاق عن الثوري وقال فيه: "فأمر أبعد منه فزوجه" وأخرجه سعيد بن منصور من طريق الشعبي ولفظه: "إن المغيرة خطب بنت عمه عروة بن مسعود،

(9/188)


فأرسل إلى عبد الله بن أبي عقيل فقال: زوجنيها، فقال: ما كنت لأفعل، أنت أمير البلد وابن عمها، فأرسل المغيرة إلى عثمان بن أبي العاص فزوجها منه" انتهى. والمغيرة هو ابن شعبة بن مسعود بن معتب من ولد عوف بن ثقيف فهي بنت عمه لحا. وعبد الله بن أبي عقيل هو ابن عمهما معا أيضا لأن جده هو مسعود المذكور. وأما عثمان بن أبي العاص فهو وإن كان ثقفيا أيضا لكنه لا يجتمع معهم إلا في جدهم الأعلى ثقيف لأنه من ولد جشم بن ثقيف، فوضح المراد بقوله هو أولى الناس، وعرف اسم الرجل المبهم في الأثر المعلق. قوله: "وقال عبد الرحمن بن عوف لأم حكيم بنت قارظ: أتجعلين أمرك إلى؟ قالت: نعم فقال: فقد تزوجتك" وصله ابن سعد من طريق ابن أبي ذئب "عن سعيد بن خالد أن أم حكيم بنت قارظ قالت لعبد الرحمن بن عوف: إنه قد خطبني غير واحد، فزوجني أيهم رأيت. قال: وتجعلين ذلك إلي؟ فقالت: نعم. قال قد تزوجتك" قال ابن أبي ذئب: فجاز نكاحه. وقد ذكر ابن سعد أم حكيم في النساء اللواتي لم يروين عن النبي صلى الله عليه وسلم وروين عن أزواجه، ولم يزد في التعريف بها على ما في هذا الخبر، وذكرها في تسمية أزواج عبد الرحمن بن عوف ترجمته فنسبها فقال: أم حكيم بنت قارظ بن خالد بن عبيد حليف بني زهرة. قوله: "وقال عطاء: ليشهد أني قد نكحتك، أو ليأمر رجلا من عشيرتها" وصله عبد الرزاق عن ابن جريج قال: "قلت لعطاء: امرأة خطبها ابن عم لها لا رجل لها غيره، قال: فلتشهد أن فلانا حطبها وإني أشهدكم أني قد نكحته، أو لتأمر رجلا من عشيرتها". قوله: "وقال سهل: قالت امرأة للنبي صلى الله عليه وسلم أهب لك نفسي، فقال رجل: يا رسول الله إن لم يكن لك بها حاجة فزوجنيها" هذا طرف من حديث الواهية، وقد تقدم موصولا في "باب تزويج المعسر" وفي "باب النظر إلى المرأة قبل التزويج" وغيرها، ووصله في الباب بلفظ آخبر، وأقربها إلى لفظ هذا التعليق رواية يعقوب بن عبد الرحمن عن أبي حازم بلفظ: "إن امرأة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله جئت لأهب لك نفسي وفيه - فقام رجل من أصحابه فقال: أي رسول الله" مثله. ذكر المصنف حديث عائشة في قوله تعالى :{وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ} أورده مختصرا، وقد تقدم شرحه مستوفى في التفسير، ووجه الدلالة منه أن قوله: "فرغب عنها أن يتزوجها" أعم من أن يتولى ذلك بنفسه أو يأمر غيره فيزوجه، وبه احتج محمد بن الحسن على الجواز، لأن الله لما عاتب الأولياء في تزويج من كانت من أهل المال والجمال بدون سنتها من الصداق وعاتبهم على ترك تزويج من كانت قليلة المال والجمال دل على أن الولي يصح منه. تزويجها من نفسه، إذ لا يعاتب أحد على ترك ما هو حرام عليه، ودل ذلك أيضا على أنه يتزوجها ولو كانت صغيرة لأنه أمر أن يقسط لها في الصداق، ولو كانت بالغا لما منع أن يتزوجها بما تراضيا عليه، فعلم أن المراد من لا أمر لها في نفسها. وقد أجيب باحتمال أن يكون المراد بذلك السفيهة فلا أثر لرضاها بدون مهر مثلها كالبكر. ذكر المصنف حديث سهل بن سعد في الواهبة، وسيأتي شرحه قريبا، ووجه الأخذ منه الإطلاق أيضا، لكن انفصل من منع ذلك بأنه معدود من خصائصه صلى الله عليه وسلم أن يزوج نفسه وبغير ولي ولا شهود. ولا استئذان وبلفظ الهبة كما يأتي تقريره، وقوله فيه: "فلم يردها" بسكون الدال من الإرادة، وحكى بعض الشراح تشديد الدال وفتح أوله وهو محتمل

(9/189)


39- باب إِنْكَاحِ الرَّجُلِ وَلَدَهُ الصِّغَارَ
لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَاللاَئِي لَمْ يَحِضْنَ} فَجَعَلَ عِدَّتَهَا ثَلاَثَةَ أَشْهُرٍ قَبْلَ الْبُلُوغِ

(9/189)


5133- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَهَا وَهِيَ بِنْتُ سِتِّ سِنِينَ وَأُدْخِلَتْ عَلَيْهِ وَهِيَ بِنْتُ تِسْعٍ وَمَكَثَتْ عِنْدَهُ تِسْعًا"
قوله: "باب إنكاح الرجل ولده الصغار" ضبط ولده بضم الواو وسكون اللام على الجمع وهو واضح، وبفتحهما على أنه اسم جنس، وهو أعم من الذكور والإناث. قوله: "لقول الله تعالى: {وَاللاَئِي لَمْ يَحِضْنَ} ، فجعل عدتها ثلاثة أشهر قبل البلوغ" أي فدل على أن نكاحها قبل البلوغ جائز، وهو استنباط حسن، لكن ليس في الآية تخصيص ذلك بالوالد ولا بالبكر. ويمكن أن يقال الأصل في الإيضاع التحريم إلا ما دل عليه الدليل، وقد ورد حديث عائشة في تزويج أبي بكر لها وهي دون البلوغ فبقي ما عداه على الأصل، ولهذا السر أورد حديث عائشة، قال المهلب: أجمعوا أنه يجوز للأب تزويج ابنته الصغيرة البكر ولو كانت لا يوطأ مثلها، إلا أن الطحاوي حكى عن ابن شبرمة منعه فيمن لا توطأ، وحكى ابن حزم عن ابن شبرمة مطلقا أن الأب لا يزوج بنته البكر الصغيرة حتى تبلغ وتأذن، وزعم أن تزويج النبي صلى الله عليه وسلم عائشة وهي بنت ست سنين كان من خصائصه، ومقابله وتجويز الحسن والنخعي للأب إجبار بنته كبيرة كانت أو صغيرة بكرا كانت أو ثيبا. "تنبيه": وقع في حديث عائشة من هذا الوجه إدراج يظهر من الطريق التي في الباب الذي بعده.

(9/190)


40- باب تَزْوِيجِ الأَبِ ابْنَتَهُ مِنْ الإِمَامِ وَقَالَ عُمَرُ خَطَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيَّ حَفْصَةَ فَأَنْكَحْتُهُ
5134- حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَهَا وَهِيَ بِنْتُ سِتِّ سِنِينَ وَبَنَى بِهَا وَهِيَ بِنْتُ تِسْعِ سِنِينَ قَالَ هِشَامٌ وَأُنْبِئْتُ أَنَّهَا كَانَتْ عِنْدَهُ تِسْعَ سِنِينَ"
قوله: "باب تزويج الأب ابنته من الإمام" في هذه الترجمة إشارة إلى أن الولي الخاص يقدم على الولي العام، وقد اختلف فيه عن المالكية. قوله: "وقال عمر إلخ" هو طرف من حديثه الذي تقدم موصولا قريبا. ذكر حديث عائشة وقوله فيه: "قال هشام" يعني ابن عروة، وهو موصول بالإسناد المذكور. وقوله وأنبئت إلخ لم يسم من أنبأه بذلك، ويشبه أن يكون حمله عن امرأته فاطمة بنت المنذر عن جدتها أسماء، قال ابن بطال: دل حديث الباب على أن الأب أولى في تزويج ابنته من الإمام، وأن السلطان ولى من لا ولي لها، وأن الولي من شروط النكاح. قلت: ولا دلالة في الحديثين على اشتراط شيء من ذلك، وإنما فيهما وقوع ذلك، ولا يلزم منه منع ما عداه، وإنما يؤخذ ذلك من أدلة أخرى. وقال: وفيه أن النهي عن إنكاح البكر حتى تستأذن مخصوص بالبالغ حتى يتصور منها الإذن، وأما الصغرة فلا إذن لها، وسيأتي الكلام على ذلك في باب مفرد.

(9/190)


41- باب السُّلْطَانُ وَلِيٌّ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَوَّجْنَاكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ
5135- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ جَاءَتْ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ إِنِّي وَهَبْتُ مِنْ نَفْسِي فَقَامَتْ طَوِيلًا فَقَالَ رَجُلٌ زَوِّجْنِيهَا إِنْ لَمْ تَكُنْ لَكَ بِهَا حَاجَةٌ قَالَ هَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَيْءٍ تُصْدِقُهَا قَالَ مَا عِنْدِي إِلاَّ إِزَارِي فَقَالَ إِنْ أَعْطَيْتَهَا إِيَّاهُ جَلَسْتَ لاَ إِزَارَ لَكَ

(9/190)


42- باب لاَ يُنْكِحُ الأَبُ وَغَيْرُهُ الْبِكْرَ وَالثَّيِّبَ إِلاَّ بِرِضَاهَا
5136- حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ حَدَّثَهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لاَ تُنْكَحُ الأَيِّمُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ وَلاَ تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ إِذْنُهَا قَالَ أَنْ تَسْكُتَ"
[الحديث 5136- طرفاه في: 6968، 6970]
5137- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ الرَّبِيعِ بْنِ طَارِقٍ قَالَ أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو مَوْلَى عَائِشَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ الْبِكْرَ تَسْتَحِي قَالَ رِضَاهَا صَمْتُهَا"
[الحديث 5137- طرفاه في: 6946، 6971]
قوله: "باب لا ينكح الأب وغيره البكر والثيب إلا برضاهما" في هذه الترجمة أربع صور: تزويج الأب البكر، وتزويج الأب الثيب، وتزويج غير الأب البكر، وتزويج غير الأب الثيب. وإذا اعتبرت الكبر والصغر زادت الصور، فالثيب البالغ لا يزوجها الأب ولا غيره إلا برضاها اتفاقا إلا من شذ كما تقدم، والبكر الصغيرة يزوجها أبوها اتفاقا إلا من شذ كما تقدم، والثيب غير البالغ اختلف فيها فقال مالك وأبو حنيفة: يزوجها أبوها كما يزوج البكر. وقال الشافعي وأبو يوسف ومحمد: لا يزوجها إذا زالت البكارة بالوطء لا بغيره، والعلة عندهم أن إزالة البكارة تزيل الحياء الذي في البكر، والبكر البالغ يزوجها أبوها وكذا غيره من الأولياء، واختلف في استئمارها والحديث دال على أنه لا إجبار للأب عليها إذا امتنعت، وحكاه الترمذي عن أكثر أهل العلم. وسأذكر مزيد بحث فيه. وقد ألحق الشافعي الجد بالأب. وقال أبو حنيفة والأوزاعي في الثيب الصغيرة يزوجها كل ولي، فإذا بلغت ثبت الخيار. وقال أحمد: إذا بلغت تسعا جاز للأولياء غير الأب نكاحها، وكأنه أقام المظنة مقام المئنة، وعن مالك يلتحق بالأب في ذلك وصى الأب دون بقية الأولياء لأنه إقامة مقامه كما تقدمت الإشارة إليه. ثم إن الترجمة معقودة

(9/191)


لاشتراط رضا المزوجة بكرا كانت أو ثيبا صغيرة كانت أو كبيرة، وهو الذي يقتضيه ظاهر الحديث، لكن تستثنى الصغيرة من حيث المعنى لأنها لا عبارة لها. قوله: "حدثنا هشام" هو الدستوائي، ويحيى هو ابن أبي كثير. قوله: "عن أبي سلمة" في رواية مسلم من طريق خالد بن الحارث عن هشام عن يحيى "حدثنا أبو سلمة". قوله: "لا تنكح "بكسر الحاء للنهي، وبرفعها للخبر وهو أبلغ في المنع، وتقدم تفسير الأيم في "باب عرض الإنسان ابنته "وظاهر هذا الحدث أن الأيم هي الثيب التي فارقت زوجها بموت أو طلاق لمقابلتها بالبكر، وهذا هو الأصل في الأيم، ومنه قولهم "الغزو مأيمة "أي يقتل الرجال فتصير النساء أيامى، وقد تطلق على من لا زوج لها أصلا، ونقله عياض عن إبراهيم الحربي وإسماعيل القاضي وغيرهما أنه يطلق على كل من لا زوج لها صغيرة كانت أو كبيرة بكرا كانت أو ثيبا، وحكى الماوردي القولين لأهل اللغة. وقد وقع في رواية الأوزاعي عن يحيى في هذا الحديث عند ابن المنذر والدارمي والدار قطني "لا تنكح الثيب "ووقع عند ابن المنذر في رواية عمر بن أبي سلمة عن أبيه في هذا الحديث الثيب تشاور. قوله: "حتى تستأمر" أصل الاستئمار طلب الأمر، فالمعنى لا يعقد عليها حتى يطلب الأمر منها، ويؤخذ من قوله تستأمر أنه لا يعقد إلا بعد أن تأمر بذلك، وليس فيه دلالة على عدم اشتراط الولي في حقها، بل فيه إشعار باشتراطه. قوله: "ولا تنكح البكر حتى تستأذن" كذا وقع في هذه الرواية التفرقة بين الثيب والبكر، فعبر للثيب بالاستئمار وللبكر بالاستئذان، فيؤخذ منه فرق بينهما من جهة أن الاستئمار يدل على تأكيد المشاورة وجعل الأمر إلى المستأمرة، ولهذا يحتاج الولي إلى صريح إذنها في العقد، فإذا صرحت بمنعه امتنع اتفاقا والبكر بخلاف ذلك، والإذن دائر بين القول والسكوت بخلاف الأمر فإنه صريح في القول وإنما جعل السكوت إذنا في حق البكر لأنها قد تستحي أن تفصح. قوله: "قالوا يا رسول الله" في رواية عمر بن أبي سلمة "قلنا" وحديث عائشة صريح في أنها هي السائلة عن ذلك. قوله: "كيف إذنها" في حديث عائشة "قلت إن البكر تستحي" وستأتي ألفاظه. قوله: "حدثنا عمرو بن الربيع بن طارق" أي ابن قرة الهلالي أبو حفص المصري وأصله كوفي سمع من مالك والليث ويحيى بن أيوب وغيرهم، روى عنه القدماء مثل يحيى بن معين وإسحاق الكوسج وأبي عبيد وإبراهيم بن هانئ، وهو من قدماء شيوخ البخاري ولم أر له عنه في الجامع إلا هذا الحديث، وقد وثقه العجلي والدار قطني ومات سننه تسع عشرة ومائتين. قوله: "حدثنا الليث" في رواية الكشميهني: "أنبأنا". قوله:" عن أبي عمرو مولى عائشة "في رواية ابن جريج" عن ابن أبي مليكة عن ذكوان" وسيأتي في ترك الحيل، ويأتي في الإكراه من هذا الوجه بلفظ: "عن أبي عمرو هو ذكوان". قوله: "أنها قالت: يا رسول الله إن البكر تستحي" هكذا أورده من طريق الليث مختصرا، ووقع في رواية ابن جريج في ترك الحيل "قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: البكر تستأذن، قلت" فذكر مثله. وفي الإكراه بلفظ: "قلت: يا رسول الله، تستأمر النساء في أبضاعهن؟ قال: نعم. قلت: فإن البكر تستأمر فتستحي فتسكت" وفي رواية مسلم من هذا الوجه "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجارية ينكحها أهلها، أتستأمر أم لا؟ قال : نعم تستأمر. قلت: فإنها تستحي". قوله: "قال رضاها صمتها" في رواية ابن جريج "قال سكاتها إذنها" وفي لفظ له "قال إذنها صماتها" وفي رواية مسلم من طريق ابن جريج أيضا: "قال فذلك إذنها إذا هي سكتت" ودلت رواية البخاري على أن المراد بالجارية في رواية مسلم البكر دون الثيب. وعند مسلم أيضا من حديث ابن عباس والبكر تستأذن في نفسها، وإذنها صماتها "وفي لفظ له" والبكر يستأذنها أبوها في نقسها "قال ابن المنذر:

(9/192)


يستحب إعلام البكر أن سكوتها إذن، لكن لو قالت بعد العقد ما علمت أن صمتي إذن لم يبطل العقد بذلك عند الجمهور، وأبطله بعض المالكية. وقال ابن شعبان منهم: يقال لها ذلك ثلاثا إن رضيت فاسكتي وإن كرهت فانطقي. وقال بعضهم: يطال المقام عندها لئلا تخجل فيمنعها ذلك من المسارعة. واختلفوا فيما إذا لم تتكلم بل ظهرت منها قرينة السخط أو الرضا بالتبسم مثلا أو البكاء، فعند المالكية إن نفرت أو بكت أو قامت أو ظهر منها ما يدل على الكراهة لم تزوج، وعند الشافعية لا أثر لشيء من ذلك في المنع إلا إن قرنت مع البكاء الصياح ونحوه، وفرق بعضهم بين الدمع فإن كان حارا دل على المنع وإن كان باردا دل على الرضا. قال: وفي هذا الحديث إشارة إلى أن البكر التي أمر باستئذانها هي البالغ، إذ لا معنى لاستئذان من لا تدري ما الإذن، ومن يستوي سكوتها وسخطها. ونقل ابن عبد البر عن مالك أن سكوت البكر اليتيمة قبل إذنها وتفويضها لا يكون رضا منها، بخلاف ما إذا كان بعد تقويضها إلى وليها. وخص بعض الشافعية الاكتفاء بسكوت البكر البالغ بالنسبة إلى الأب والجد دون غيرهما، لأنها تستحي منهما أكثر من غيرهما. والصحيح الذي عليه الجمهور استعمال الحديث في جميع الأبكار بالنسبة لجميع الأولياء، واختلفوا في الأب يزوج البكر البالغ بغير إذنها فقال الأوزاعي والثوري والحنفية ووافقهم أبو ثور: يشترط استئذانها، فلو عقد عليها بغير استئذان لم يصح. وقال الآخرون: يجوز للأب أن يزوجها ولو كانت بالغا بغير استئذان، وهو قول ابن أبي ليلى ومالك والليث والشافعي وأحمد وإسحاق، ومن حجتهم مفهوم حديث الباب لأنه جعل الثيب أحق بنفسها من وليها، فدل على أن ولي البكر أحق بها منها. واحتج بعضهم بحديث يونس بن أبي إسحاق عن أبي بردة عن أبي موسى مرفوعا: "تستأمر اليتيمة في نفسها، فإن سكتت فهو إذنها" قال فقيد ذلك باليتيمة فيحمل المطلق عليه، وفيه نظر لحديث ابن عباس الذي ذكرته بلفظ: "يستأذنها أبوها" فنص على ذكر الأب. وأجاب الشافعي بأن المؤامرة قد تكون عن استطابة النفس، ويؤيده حديث ابن عمر رفعه: "وأمروا النساء في بناتهن" أخرجه أبو داود، قال الشافعي: لا خلاف أنه ليس للأم أمر، لكنه على معنى استطابة النفس. وقال البيهقي: زيادة ذكر الأب في حديث ابن عباس غير محفوظة، قال الشافعي: زادها ابن عيينة في حديثه، وكان ابن عمر والقاسم وسالم يزوجون الأبكار لا يستأمرونهن؛ قال البيهقي: والمحفوظ في حديث ابن عباس "البكر تستأمر" ورواه صالح بن كيسان بلفظ: "واليتيمة تستأمر" وكذلك رواه أبو بردة عن أبي موسى ومحمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة فدل على أن المراد بالبكر اليتيمة. قلت. وهذا لا يدفع زيادة الثقة الحافظ بلفظ الأب، ولو قال قائل: بل المراد باليتيمة البكر لم يدفع. وتستأمر بضم أوله يدخل فيه الأب وغيره فلا تعارض بين الروايات، ويبقى النظر في أن الاستئمار هل هو شرط في صحة العقد أو مستحب على معنى استطابة النفس كما قال الشافعي؟ كل من الأمرين محتمل، وسيأتي مزيد بحث فيه في الباب الذي يليه إن شاء الله تعالى. واستدل به على أن الصغيرة الثيب لا إجبار عليها لعموم كونها أحق بنفسها من وليها، وعلى أن من زالت بكارتها بوطء ولو كان زنا لا إجبار عليها لأب ولا غيره لعموم قوله: "الثيب أحق بنفسها" وقال أبو حنيفة: هي كالبكر، وخالفه حتى صاحباه، واحتج له بأن علة الاكتفاء بسكوت البكر هو الحياء وهو باق في هذه لأن المسألة مفروضة فيمن زالت بكارتها بوطء لا فيمن اتخذت الزنا ديدنا وعادة وأجيب بأن الحديث نص على أن الحياء يتعلق بالبكر وقابلها بالثيب فدل على أن حكمهما مختلف، وهذه ثيب لغة وشرعا بدليل أنه لو أوصى بعتق كل ثيب في ملكه دخلت إجماعا، وأما بقاء حيائها

(9/193)


كالبكر فممنوع لأنها تستحي من ذكر وقوع الفجور منها، وأما ثبوت الحياء من أصل النكاح فليست فيه كالبكر التي لم تجربه قط، والله أعلم. واستدل به لمن قال: إن للثيب أن تتزوج بغير ولي، ولكنها لا تزوج نفسها بل تجعل أمرها إلى رجل فيزوجها، حكاه ابن حزم عن داود، وتعقبه بحديث عائشة "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل" وهو حديث صحيح كما تقدم، وهو يبين أن معنى قوله: "أحق بنفسها من وليها أنه لا ينفذ عليها أمره بغير إذنها ولا يجبرها، فإذا أرادت أن تتزوج لم يجز لها إلا بإذن وليها واستدل به على أن البكر إذا أعلنت بالمنع لم يجز النكاح، وإلى هذا أشار المصنف في الترجمة، وإن أعلنت بالرضا فيجوز بطريق الأولى، وشذ بعض أهل الظاهر فقال: لا يجوز أيضا وقوفا عند ظاهر قوله: "وإذنها أن تسكت"

(9/194)


43- باب إِذَا زَوَّجَ الرجل ابْنَتَهُ وَهِيَ كَارِهَةٌ فَنِكَاحُهُ مَرْدُودٌ
5138- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَمُجَمِّعٍ ابْنَيْ يَزِيدَ بْنِ جَارِيَةَ عَنْ خَنْسَاءَ بِنْتِ خِذَامٍ الأَنْصَارِيَّةِ أَنَّ أَبَاهَا زَوَّجَهَا وَهْيَ ثَيِّبٌ فَكَرِهَتْ ذَلِكَ فَأَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَدَّ نِكَاحَهُ"
[الحديث 5138- أطرافه في: 5139، 6945، 6969]
5139- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا يَزِيدُ أَخْبَرَنَا يَحْيَى أَنَّ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ حَدَّثَهُ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ يَزِيدَ وَمُجَمِّعَ بْنَ يَزِيدَ حَدَّثَاهُ أَنَّ رَجُلًا يُدْعَى خِذَامًا أَنْكَحَ ابْنَةً لَهُ نَحْوَهُ"
قوله: "باب إذا زوج الرجل ابنته وهي كارهة فنكاحه مردود" هكذا أطلق، فشمل البكر والثيب، لكن حديث الباب مصرح فيه بالثيوبة، فكأنه أشار إلى ما ورد في بعض طرقه كما سأبينه، ورد النكاح إذا كانت ثيبا فزوجت بغير رضاها إجماع، إلا ما نقل عن الحسن أنه أجاز إجبار الأب للثيب ولو كرهت كما تقدم. وعن النخعي إن كانت في عياله جاز وإلا رد، واختلفوا إذا وقع العقد بغير رضاها، فقالت الحنفية إن أجازته جاز، وعن المالكية إن أجازته عن قرب جاز وإلا فلا، ورده الباقون مطلقا.
قوله: "ومجمع" بضم الميم وفتح الجيم وكسر الميم الثقيلة ثم عين مهملة. قوله: "ابني يزيد بن جارية" بالجيم أي ابن عامر بن العطاف الأنصاري الأوسي من بني عمرو بن عوف، وهو ابن أخي مجمع بن جارية الصحابي الذي جمع القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأخرج له أصحاب السنن، وقد وهم من زعم أنهما واحد، ومنه قيل إن لمجمع بن يزيد صحبة ليس كذلك، وإنما الصحبة لعمه مجمع بن جارية، وليس لمجمع بن يزيد في البخاري سوى هذا الحديث، وقد قرنه فيه بأخيه عبد الرحمن بن يزيد، وعبد الرحمن ولد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فيما جزم به العسكري وغيره، وهو أخو عاصم بن عمر بن الخطاب لأمه، قال ابن سعد: ولي القضاء لعمر بن عبد العزيز يعني لما كان أمير المدينة، ومات سنة ثلاث وتسعين وقيل سنة ثمان، ووثقه جماعة، وما له في البخاري أيضا سوى هذا الحديث. وقد وافق مالكا على إسناد هذا الحديث سفيان بن عيينة عن عبد الرحمن بن القاسم وإن اختلف الرواة عنهما في وصل هذا الحديث عن خنساء وفي إرساله حيث قال بعضهم عن عبد الرحمن ومجمع أن خنساء زوجت، وكذا اختلفوا عنهما في نسب عبد الرحمن ومجمع: فمنهم من أسقط يزيد وقال

(9/194)


ابني جارية والصواب وصله وإثبات يزيد في نسبهما، وقد أخرج طريق ابن عيينة المصنف في ترك الحيل بصورة الإرسال كما سيأتي، وأخرجها أحمد عنه كذلك، وأوردها الطبراني من طريقه موصولة، وأخرجه الدار قطني في "الموطئات" من طريق معلى بن منصور عن مالك بصورة الإرسال أيضا والأكثر وصلوه عنه، وخالفهما معا سفيان الثوري في راو من السند فقال: "عن عبد الرحمن بن القاسم عن عبد الله بن يزبد بن وديعة عن خنساء" أخرجه النسائي في "الكبرى" والطبراني من طريق ابن المبارك عنه، وهي رواية شاذة لكن يبعد أن ويكون لعبد الرحمن بن القاسم فيه شيخان، وعبد الله بن يزيد بن وديعة هذا لم أر من ترجم له، ولم يذكر البخاري ولا ابن أبي حاتم ولا ابن حبان إلا عبد الله بن وديعة بن خدام الذي روى عن سلمان الفارسي في غسل الجمعة وعنه المقبري، وهو تابعي غير مشهور إلا في هذا الحديث، ووثقه الدار قطني وابن حبان، وقد ذكره ابن منده في "الصحابة" وخطاه أبو نعيم في ذلك، وأظن شيخ عبد الرحمن بن القاسم ابن أخيه، وعبد الله بن يزيد بن وديعة هذا ممن أغفله المزي ومن تبعه فلم يذكروه في رجال الكتب الستة. قوله: "عن خنساء بنت خدام" بمعجمة ثم نون ثم مهملة وزن حمراء، وأبوها بكسر المعجمة وتخفيف المهملة، قيل اسم أبيه وديعة، والصحيح أن اسم أبيه خالد ووديعة اسم جده فيما أحسب، وقع ذلك في رواية لأحمد من طريق محمد بن إسحاق عن الحجاج بن السائب مرسلا في هذه القصة، ولكن قال في تسميتها خناس بتخفيف النون وزن فلان، ووقع في رواية الدار قطني والطبراني وابن السكن خنساء، ووصل الحديث عنها فقال: "عن حجاج بن السائب بن أبي لبابة عن أبيه عن جدته خنساء" وخناس مشتق من خنساء كما يقال في زينب زناب، وكنية خدام والد خنساء أبو وديعة كناه أبو نعيم، وقد وقع ذلك عند عبد الرزاق من حديث ابن عباس "أن خداما أبا وديعة أنكح ابنته رجلا" الحديث، ووقع عند المستغفري من طريق ربيعة بن عبد الرحمن بن يزيد ابن جارية أن وديعة بن خدام زوج ابنته، وهو وهم في اسمه، ولعله كان: أن خداما أبا وديعة، فانقلب. وقد ذكرت في كتاب الصحابة ما يدل على أن لوديعة بن خدام أيضا صحبة، وله قصة مع عمر في ميراث سالم مولى أبي حذيفة ذكرها البخاري في تاريخه، وقد أطلت في هذا الموضع، لكن جر الكلام بعضه بعضا ولا يخلو من فائدة. قوله: "إن أباها زوجها وهي ثيب فكرهت ذلك" ووقع في رواية الثوري المذكورة "قالت أنكحني أبي وأنا كارهة وأنا بكر" والأول أرجح، فقد ذكر الحديث الإسماعيلي من طرق شعبة عن يحيى بن سعيد عن القاسم فقال في روايته: "وأنا أريد أن أتزوج عم ولدي" وكذا أخرج عبد الرزاق عن معمر عن سعيد بن عبد الرحمن الجحشي عن أبي بكر بن محمد "أن رجلا من الأنصار تزوج خنساء بنت خدام فقتل عنها يوم أحد، فأنكحها أبوها رجلا، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أبي أنكحني، وإن عم ولدي أحب إلي" فهذا يدل على أنها كانت ولدت من زوجها الأول، واستفدنا من هذه الرواية نسبة زوجها الأول واسمه أنيس بن قتادة سماه الواقدي في روايته من وجه آخر عن خنساء، ووقع في "المبهمات للقطب القسطلاني" أن اسمه أسير وأنه استشهد ببدر ولم يذكر له مستندا، وأما الثاني الذي كرهته فلم أقف على اسمه إلا أن الواقدي ذكر بإسناد له أنه من بني مزينة، ووقع في رواية ابن إسحاق عن الحجاج بن السائب بن أبي لبابة عن أبيه عنها أنه من بني عمرو بن عوف، وروى عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء الخراساني عن ابن عباس "أن خداما أبا وديعة أنكح ابنته رجلا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لا تكرهوهن، فنكحت بعد ذلك أبا لبابة وكانت ثيبا" وروى الطبراني بإسناد آخر عن ابن عباس فذكر نحو

(9/195)


القصة قال فيه: "فنزعها من زوجها وكانت ثيبا، فنكحت بعده أبا لبابة" وروى عبد الرزاق أيضا عن الثوري عن أبي الحويرث عن نافع بن جبير قال: "تأيمت خنساء، فزوجها أبوها" الحديث نحوه وفيه: "فرد نكاحه، ونكحت أبا لبابة" وهذه أسانيد يقوى بعضها ببعض. كلها دالة على أنها كانت ثيبا. نعم أخرج النسائي من طريق الأوزاعي عن عطاء عن جابر "أن رجلا زوج ابنته وهي بكر من غير أمرها، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم ففرق بينهما" وهذا سند ظاهره الصحة، ولكن له علة أخرجه النسائي من وجه آخر عن الأوزاعي فأدخل بينه وبين عطاء إبراهيم بن مرة وفيه مقال، وأرسله فلم يذكر في إسناده جابرا. وأخرج النسائي أيضا وابن ماجه من طريق جرير بن حازم عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس "أن جارية بكرا أتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة، فخيرها" ورجاله ثقات، لكن قال أبو حاتم وأبو زرعة إنه خطأ وأن الصواب إرساله. وقد أخرجه الطبراني والدار قطني من وجه آخر عن يحيى بن أبي كثير عن عكرمة عن ابن عباس بلفظ: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد نكاح بكر وثيب أنكحهما أبوهما وهما كارهتان" قال الدار قطني: تفرد به عبد الملك الدماري وفيه ضعف، والصواب عن يحيى بن أبي كثير عن المهاجر بن عكرمة مرسل. وقال البيهقي: إن ثبت الحديث في البكر حمل على أنها زوجت بغير كفء والله أعلم قلت: وهذا الجواب هو المعتمد، فإنها واقعة عين فلا يثبت الحكم فيها تعميما، وأما الطعن في الحديث فلا معنى له فإن طرقه يقوى بعضها ببعض، ولقصة خنساء بنت خدام طريق أخرى أخرجها الدار قطني والطبراني من طريق هشيم عن عمر بن أبي سلمة عن أبيه عن أبي هريرة "أن خنساء بنت خدام زوجها أبوها وهي كارهة، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فرد نكاحها" ولم يقل فيه بكرا ولا ثيبا، قال الدار قطني: رواه أبو عوانة عن عمر مرسلا لم يذكر أبا هريرة. قوله: "حدثنا إسحاق" هو ابن راهويه ويزيد هو ابن هارون ويحيى هو ابن سعيد الأنصاري. قوله: "إن رجلا يدعى خداما أنكح ابنه له نحوه" ساق أحمد لفظه عن يزيد بن هارون بهذا الإسناد "أن رجلا منهم يدعى خداما أنكح ابنته، فكرهت نكاح أبيها، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فرد عنها نكاح أبيها، فتزوجت أبا لبابة بن عبد المنذر" فذكر يحيى بن سعيد أنه بلغه أنها كانت ثيبا، وهذا يوافق ما تقدم. وكذا أخرجه ابن ماجه عن أبي بكر بن شيبة عن يزيد بن هارون، وأخرجه الإسماعيلي من طرق عن يزيد كذلك، وأخرجه الطبراني والإسماعيلي من طريق محمد بن فضيل عن يحيى بن سعيد نحوه. وأخرجه الطبراني من طريق عيسى بن يونس عن يحيى كذلك. وأخرجه أحمد عن أبي معاوية عن يحيى كذلك، لكن اقتصر على ذكر مجمع بن يزيد، والذي بلغ يحيى ذلك يحتمل أن يكون عبد الرحمن بن القاسم، فسيأتي في ترك الحيل من طريق ابن عيينة عن يحيى بن سعيد عن القاسم "إن امرأة من ولد جعفر تخوفت أن يزوجها وليها وهي كارهة فأرسلت إلى شيخين من الأنصار عبد الرحمن ومجمع ابني جارية قالا: فلا تخشين فإن خنساء بنت خدام أنكحها أبوها وهي كارهة فرد النبي صلى الله عليه وسلم ذلك قال سفيان: وأما عبد الرحمن بن القاسم فسمعته يقول عن أبيه أن خنساء انتهى، وقد أخرجه الطبراني من وجه آخر عن سفيان بن عيينة عن عبد الرحمن عن أبيه عن خنساء موصولا، والمرأة التي من ولد جعفر هي أم جعفر بنت القاسم بن محمد بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، ووليها هو عم أبيها معاوية بن عبد الله بن جعفر، أخرجه المستغفري من طريق يزيد بن الهاد عن ربيعة بإسناده أنها تأيمت من زوجها حمزة بن عبد الله بن الزبير، فأرسلت إلى القاسم بن محمد وإلى عبد الرحمن بن يزيد فقالت: إني لا آمن معاوية أن يضعني حيث لا يوافقني، فقال لها عبد الرحمن: ليس له ذلك

(9/196)


ولو صنع ذلك لم يجز، فذكر الحديث إلا أنه لم يضبط اسم والد خنساء ولا سمي بنته كما قدمته. وكنت ذكرت في المقدمة في تسمية المرأة من ولد جعفر ومن ذكر معها غير الذي هنا، والمذكور هنا هو المعتمد، وقد حصل من تحرير ذلك ما لا أظن أنه يزاد عليه، فلله الحمد على جميع مننه

(9/197)


44- باب تَزْوِيجِ الْيَتِيمَةِ لِقَوْلِهِ {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا} وَإِذَا قَالَ لِلْوَلِيِّ زَوِّجْنِي فُلاَنَةَ فَمَكُثَ سَاعَةً أَوْ قَالَ مَا مَعَكَ فَقَالَ مَعِي كَذَا وَكَذَا أَوْ لَبِثَا ثُمَّ قَالَ زَوَّجْتُكَهَا فَهُوَ جَائِزٌ فِيهِ سَهْلٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
5140- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَ لَهَا يَا أُمَّتَاهْ {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} إِلَى قَوْلِهِ {مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} قَالَتْ عَائِشَةُ يَا ابْنَ أُخْتِي هَذِهِ الْيَتِيمَةُ تَكُونُ فِي حَجْرِ وَلِيِّهَا فَيَرْغَبُ فِي جَمَالِهَا وَمَالِهَا وَيُرِيدُ أَنْ يَنْتَقِصَ مِنْ صَدَاقِهَا فَنُهُوا عَنْ نِكَاحِهِنَّ إِلاَّ أَنْ يُقْسِطُوا لَهُنَّ فِي إِكْمَالِ الصَّدَاقِ وَأُمِرُوا بِنِكَاحِ مَنْ سِوَاهُنَّ مِنْ النِّسَاءِ قَالَتْ عَائِشَةُ اسْتَفْتَى النَّاسُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ} إِلَى قَوْلِهِ {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْيَتِيمَةَ إِذَا كَانَتْ ذَاتَ مَالٍ وَجَمَالٍ رَغِبُوا فِي نِكَاحِهَا وَنَسَبِهَا وَالصَّدَاقِ وَإِذَا كَانَتْ مَرْغُوبًا عَنْهَا فِي قِلَّةِ الْمَالِ وَالْجَمَالِ تَرَكُوهَا وَأَخَذُوا غَيْرَهَا مِنْ النِّسَاءِ قَالَتْ فَكَمَا يَتْرُكُونَهَا حِينَ يَرْغَبُونَ عَنْهَا فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَنْكِحُوهَا إِذَا رَغِبُوا فِيهَا إِلاَّ أَنْ يُقْسِطُوا لَهَا وَيُعْطُوهَا حَقَّهَا الأَوْفَى مِنْ الصَّدَاقِ"
قوله: "باب تزويج اليتيمة" لقول الله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا} ذكر فيه حديث عائشة في تفسير الآية المذكورة، وقد تقدم شرحه في التفسير، وفي دلالة على تزويج الولي غير الأب التي دون البلوغ بكرا كانت أو ثيبا، لأن حقيقة اليتيمة من كانت دون البلوغ ولا أب لها، وقد أذن في تزويجها بشرط أن لا يبخس من صداقها، فيحتاج من منع ذلك إلى دليل قوي. وقد احتج بعض الشافعية بحديث: "لا تنكح اليتيمة حتى تستأمر" قال فإن قيل الصغيرة لا تستأمر، قلنا فيه إشارة إلى تأخير تزويجها حتى تبلغ فتصير أهلا للاستثمار، فإن قيل لا تكون بعد البلوغ يتيمة قلنا التقدير لا تنكح اليتيمة حتى تبلغ فتستأمر، جمعا بين الأدلة. قوله: "وإذا قال للولي زوجني فلانة فمكث ساعة أو قال ما معك؟ فقال معي كذا وكذا أو لبثا، ثم قال زوجتكها فهو جائز، فيه سهل عن النبي صلى الله عليه وسلم" يعني حديث الواهبة، وقد تقدم مرارا ويأتي شرحه قريبا، ومراده منه أن التفريق بين الإيجاب والقبول إذا كان في المجلس لا يضر ولو تخلل بينهما كلام آخر، وفي أخذه من هذا الحديث نظر لأنها واقعة عين يطرقها احتمال أن يكون قبل عقب الإيجاب قوله: "حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري. وقال الليث حدثني عقيل عن ابن شهاب" تقدم طريق الليث موصولا في "باب الأكفاء في المال" وساق المتن هناك على لفظه

(9/197)


وهنا على لفظ شعيب، وقد أفرده بالذكر في كتاب الوصايا كما تقدم، والله أعلم.

(9/198)


45- باب إِذَا قَالَ الْخَاطِبُ لِلْوَلِيِّ زَوِّجْنِي فُلاَنَةَ فَقَالَ قَدْ زَوَّجْتُكَ بِكَذَا وَكَذَا
جَازَ النِّكَاحُ وَإِنْ لَمْ يَقُلْ لِلزَّوْجِ أَرَضِيتَ أَوْ قَبِلْتَ.
5141- حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ امْرَأَةً أَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَرَضَتْ عَلَيْهِ نَفْسَهَا فَقَالَ مَا لِي الْيَوْمَ فِي النِّسَاءِ مِنْ حَاجَةٍ فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ زَوِّجْنِيهَا قَالَ مَا عِنْدَكَ قَالَ مَا عِنْدِي شَيْءٌ قَالَ أَعْطِهَا وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ قَالَ مَا عِنْدِي شَيْءٌ قَالَ فَمَا عِنْدَكَ مِنْ الْقُرْآنِ قَالَ كَذَا وَكَذَا قَالَ فَقَدْ مَلَّكْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ"
قوله: "باب إذا قال الخاطب زوجني فلانة فقال قد زوجتك بكذا وكذا جاز النكاح وإن لم يقل للزوج أرضيت أو قبلت" في رواية الكشميهني: "إذا قال الخاطب للولي" وبه يتم الكلام، وهو الفاعل في قوله: "وإن لم يقل" وأورد المصنف فيه حديث سهل بن سعد في قصة الواهبة أيضا وهذه الترجمة معقودة لمسألة هل يقوم الالتماس مقام القبول فيصير كما لو تقدم القبول على الإيجاب كأن يقول تزوجت فلانة على كذا فيقول الولي زوجتكها بذلك، أو لا بد من إعادة القبول؟ فاستنبط المصنف من قصة الواهبة أنه لم ينقل بعد قول النبي صلى الله عليه وسلم: "زوجتكها بما معك من القرآن" أن الرجل قال قد قبلت، لكن اعترضه المهلب فقال: بساط الكلام في هذه القصة أغني عن توقيف الخاطب على القبول لما تقدم من المراوضة والطلب والمعاودة في ذلك، فمن كان في مثل حال هذا الرجل الراغب لم يحتج إلى تصريح منه بالقبول لسبق العلم برغبته، بخلاف غيره ممن لم تقم القرائن على رضاه انتهى. وغايته أنه يسلم الاستدلال لكن يخصه بخاطب دون خاطب، وقد قدمت في الذي قبله وجه الخدش في أصل الاستدلال. قوله في هذه الرواية "فقال مالي اليوم في النساء من حاجة" فيه إشكال من جهة أن في حديث: "فصعد النظر إليها وصوبه" فهذا دال على أنه كان يريد التزويج لو أعجبته، فكان معنى الحديث مالي في النساء إذا كن بهذه الصفة من حاجة. ويحتمل أن يكون جواز النظر مطلقا من خصائصه وإن لم يرد التزويج، وتكون فائدته احتمال أنها تعجبه فيتزوجها مع استغنائه حينئذ عن زيادة على من عنده من النساء صلى الله عليه وسلم.

(9/198)


46- باب لاَ يَخْطُبُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ حَتَّى يَنْكِحَ أَوْ يَدَعَ
5142- حَدَّثَنَا مَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ سَمِعْتُ نَافِعًا يُحَدِّثُ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانَ يَقُولُ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَبِيعَ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ وَلاَ يَخْطُبَ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ حَتَّى يَتْرُكَ الْخَاطِبُ قَبْلَهُ أَوْ يَأْذَنَ لَهُ الْخَاطِبُ"
5143- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ الأَعْرَجِ قَالَ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَأْثُرُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : "إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ تَحَسَّسُوا وَلاَ تَبَاغَضُوا

(9/198)


47- باب تَفْسِيرِ تَرْكِ الْخِطْبَةِ
5145- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يُحَدِّثُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ حِينَ تَأَيَّمَتْ حَفْصَةُ قَالَ عُمَرُ لَقِيتُ أَبَا بَكْرٍ فَقُلْتُ إِنْ شِئْتَ أَنْكَحْتُكَ حَفْصَةَ بِنْتَ عُمَرَ فَلَبِثْتُ لَيَالِيَ ثُمَّ خَطَبَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ إِنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أَرْجِعَ إِلَيْكَ فِيمَا عَرَضْتَ إِلاَّ أَنِّي قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ ذَكَرَهَا فَلَمْ أَكُنْ لِأُفْشِيَ سِرَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ تَرَكَهَا لَقَبِلْتُهَا تَابَعَهُ يُونُسُ وَمُوسَى بْنُ عُقْبَةَ وَابْنُ أَبِي عَتِيقٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ"
قوله: "باب تفسير ترك الخطبة" ذكر فيه طرفا من حديث عمر حين تأيمت حفصة، وفي آخره قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه "ولو تركها لقبلتها" وقد تقدم شرحه مستوفي قبل أبواب. قال ابن بطال ما ملخصه: تقدم في الباب الذي قبله تفسير ترك الخطبة صريحا في قوله: "حتى ينكح أو يترك" وحديث عمر في قصة حفصة لا يظهر منه تفسير ترك الخطبة لأن عمر لم يكن علم أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب حفصة، قال: ولكنه قصد معنى دقيقا يدل على ثقوب ذهنه ورسوخه في الاستنباط، وذل أن أبا بكر علم أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب إلى عمر أنه لا يرده بل يرغب فيه ويشكر الله على ما أنعم عليه به من ذلك، فقام علم أبي بكر بهذا الحال مقام الركون والتراضي، فكأنه يقول: كل من علم أنه لا يصرف إذا خطب لا ينبغي لأحد أن يخطب على خطبته. وقال ابن المنير الذي يظهر لي أن البخاري أراد أن يحقق امتناع الخطبة على الخطبة مطلقا، لأن أبا بكر امتنع ولم يكن انبرم الأمر بين الخاطب والولي فكيف لو انبرم وتركنا فكأنه استدلال منه بالأولى. قلت: وما أبداه ابن بطال أدق وأولى والله أعلم. قوله: "تابعه يونس وموسى بن عقبة وابن أبي عتيق عن الزهري" أي بإسناده، أما متابعة يونس وهو ابن يزيد فوصلها الدار قطني في "العلل" من طريق أصبغ عن ابن وهب عنه، وأما متابعة الآخرين فوصلها الذهلي في "الزهريات" من طريق سليمان بن بلال عنهما، وقد تقدم للمصنف هذا الحديث من رواية معمر من رواية صالح بن كيسان أيضا عن الزهري أيضا.

(9/201)


48- باب الْخُطْبَةِ
5146- حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ جَاءَ رَجُلاَنِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَخَطَبَا فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ مِنْ الْبَيَانِ لَسِحْرًا"
[الحديث 5146، طرفه في: 5767]

(9/201)


49- باب ضَرْبِ الدُّفِّ فِي النِّكَاحِ وَالْوَلِيمَةِ
5147- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ ذَكْوَانَ قَالَ قَالَتْ الرُّبَيِّعُ بِنْتُ مُعَوِّذِ بْنِ عَفْرَاءَ جَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلَ حِينَ بُنِيَ عَلَيَّ فَجَلَسَ عَلَى فِرَاشِي كَمَجْلِسِكَ مِنِّي فَجَعَلَتْ جُوَيْرِيَاتٌ لَنَا يَضْرِبْنَ بِالدُّفِّ وَيَنْدُبْنَ مَنْ قُتِلَ مِنْ آبَائِي يَوْمَ بَدْرٍ إِذْ قَالَتْ إِحْدَاهُنَّ وَفِينَا نَبِيٌّ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ فَقَالَ دَعِي هَذِهِ وَقُولِي بِالَّذِي كُنْتِ تَقُولِينَ"
قوله: "باب ضرب الدف في النكاح والوليمة" يجوز في الدف ضم الدال وفتحها، وقوله: "والوليمة" معطوف على النكاح أي ضرب الدف في الوليمة وهو من العام بعد الخاص، ويحتمل أن يريد وليمة النكاح خاصة وأن ضرب الدف يشرع في النكاح عند العقد وعند الدخول مثلا وعند الوليمة كذلك، والأول أشبه، وكأنه أشار بذلك إلى ما في بعض طرقه على ما سأبينه. قوله: "حدثنا خالد بن ذكوان" هو المدني يكنى أبا الحسن، وهو من صغار التابعين قوله: "جاء النبي صلى الله عليه وسلم يدخل على" في رواية الكشميهني: "فدخل على" ووقع عند ابن ماجه في أوله قصة من طريق

(9/202)


حماد بن سلمة عن أبي، الحسين واسمه خالد المدني قال: "كنا بالمدينة يوم عاشوراء والجواري يضربن بالدف ويتغنين، فدخلنا على الربيع بنت معوذ فذكرنا ذلك لها، فقالت: دخل على" الحديث، هكذا أخرجه من طريق يزيد بن هارون عنه، وأخرجه الطبراني من طريق عن حماد بن سلمة فقال: "عن أبي جعفر الخطمي" بدل أبي الحسين. قوله: "حين بنى على" في رواية حماد بن سلمة صبيحة عرسي، والبناء الدخول بالزوجة، وبين ابن سعد أنها تزوجت حينئذ إياس بن البكير الليثي وأنها ولدت له محمد بن إياس قيل له صحبة. قوله: "كمجلسك" بكسر اللام أي مكانك. قال الكرماني: هو محمول على أن ذلك كان من وراء حجاب، أو كان قبل نزول آية الحجاب، أو جاز النظر للحاجة أو عند الأمن من الفتنة ا هـ. والأخير هو المعتمد، والذي وضح لنا بالأدلة القوية أن من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم جواز الخلوة بالأجنبية والنظر إليها، وهو الجواب الصحيح عن قصة أم حرام بنت ملحان في دخوله عليها ونومه عندها وتفليتها رأسه ولم يكن بينهما محرمية ولا زوجية، وجوز الكرماني أن تكون الرواية: "مجلسك" بفتح اللام أي جلوسك ولا إشكال فيها. قوله: "فجعلت جويريات لنا" لم أقف على اسمهن، ووقع في رواية حماد بن سلمة بلفظ جاريتان تغنيان، فيحتمل أن كون الثنتان هما المغنيتان ومعهما من يتبعهما أو يساعدهما في ضرب الدف من غير غناء، وسيأتي في "باب النسوة اللاتي يهدين المرأة إلى زوجها" زيادة في هذا. قوله: "ويندبن" من الندبة بضم النون وهي ذكر أوصاف الميت بالثناء عليه وتعديد محاسنه بالكرم والشجاعة ونحوها. قوله: "من قتل من آبائي يوم بدر" تقدم بيان ذلك في المغازي وإن الذي قتل من آبائها إنما قتل بأحد، وآباؤها الذين شهدوا بدرا معوذ ومعاذ وعوف وأحدهم أبوها والآخران عماها أطلقت الأبوة عليهما تغليبا. قوله: "فقال دعي هذه" أي اتركي ما يتعلق بمدحي الذي فيه الإطراء المنهي عنه، زاد في رواية حماد بن سلمة "لا يعلم ما في غد إلا الله" فأشار إلى علة المنع. قوله: "وقولي بالذي كنت تقولين" فيه إشارة إلى جواز سماع المدح والمرثية مما ليس فيه مبالغة تفضي إلى الغلو. وأخرج الطبراني في "الأوسط" بإسناد حسن من حديث عائشة "أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بنساء من الأنصار في عرس لهن وهن يغنين:
وأهدى لها كبشا تنحنح في المربد
وزوجك في البادي وتعلم ما في غد
فقال: لا يعلم ما في غد إلا الله" قال المهلب: في هذا الحديث إعلان النكاح بالدف وبالغناء المباح، وفيه إقبال الإمام إلى العرس وإن كان فيه لهو ما لم يخرج عن حد المباح. وفيه جواز مدح الرجل في وجهه ما لم يخرج إلى ما ليس فيه. وأغرب ابن التين فقال: إنما نهاها لأن مدحه حق والمطلوب في النكاح اللهو فما أدخلت الجد في اللهو منعها، كذا قال، وتمام الخبر الذي أشرت إليه يرد عليه، وسياق القصة يشعر بأنهما لو استمرتا على المرائي لم ينههما، وغالب حسن المرائي جد لا لهو، وإنما أنكر عليها ما ذكر من الإطراء حيث أطلق علم الغيب له وهو صفة تختص بالله تعالى قال تعالى :{قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله} وقوله لنبيه {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ} وسائر ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يخبر به من الغيوب بإعلام الله تعالى إياه لا أنه يستقل بعلم ذلك كما قال تعالى :{عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} وسيأتي مزيد بحث مسألة الغناء في العرس بعد اثنى عشر بابا

(9/203)


50- باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً}
وَكَثْرَةِ الْمَهْرِ وَأَدْنَى مَا يَجُوزُ مِنْ الصَّدَاقِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلاَ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} وَقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ {أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} وَقَالَ سَهْلٌ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ
5148- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى وَزْنِ نَوَاةٍ فَرَأَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَشَاشَةَ الْعُرْسِ فَسَأَلَهُ فَقَالَ إِنِّي تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً عَلَى وَزْنِ نَوَاةٍ وَعَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى وَزْنِ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ"
قوله: "باب قول الله تعالى :{وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} وكثرة المهر، وأدنى ما يجوز من الصداق، وقوله تعالى :{وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً} وقوله جل ذكره: {أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً}. هذه الترجمة معقودة لأن المهر لا يتقدر أقله، والمخالف في ذلك المالكية والحنفية، ووجه الاستدلال مما ذكره الإطلاق من قوله: "صدقاتهن" ومن قوله: "فريضة" وقوله في حديث سهل "ولو خاتما من حديد". وأما قوله: "وكثرة المهر" فهو بالجر عطف على قول الله في الآية التي تلاها وهو قوله: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً} فيه إشارة إلى جواز كثرة المهر. وقد استدلت بذلك المرأة التي نازعت عمر رضي الله تعالى عنه في ذلك، وهو ما أخرجه عبد الرزاق من طريق أبي عبد الرحمن السلمي قال قال عمر: لا تغالوا في مهور النساء: فقالت امرأة ليس ذلك لك يا عمر، إن الله يقول وآتيتم إحداهن قنطارا من ذهب، قال وكذلك هي في قراءة ابن مسعود "فقال عمر: امرأة خاصمت عمر فخصمته" وأخرجه الزبير بن بكار من وجه آخر منقطع "فقال عمر: امرأة أصابت رجل أخطأ" وأخرجه أبو يعلى من وجه آخر عن مسروق عن عمر فذكره متصلا مطولا، وأصل قول عمر "لا تغالوا في صدقات النساء" عند أصحاب السنن وصححه ابن حبان والحاكم، لكن ليس فيه قصة المرأة، ومحصل الاختلاف أنه أقل ما يتمول، وقيل أقله ما يجب فيه القطع، وقيل أربعون وقيل خمسون، وأقل ما يجب فيه القطع مختلف فيه فقيل ثلاثة دراهم وقيل خمسة وقيل عشرة. قوله: "وقال سهل قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ولو خاتما من حديد" هذا طرف من حديث الواهبة وسيأتي شرحه مستوفى بعد هذا، ويأتي مزيد في هذه المسألة بعد قليل أيضا، ثم ذكر حديث أنس في قصة تزويج عبد الرحمن بن عوف وفيه قوله: "تزوجت امرأة على وزن نواة" وسيأتي شرحه مستوفى في "باب الوليمة ولو بشاة" بعد بضعة عشر بابا. قوله: "وعن قتادة عن أنس" هو معطوف على قوله عن عبد العزيز بن صهيب، وهو من رواية شعبة عنهما، فبين أن عبد العزيز بن صهيب أطلق عن أنس النواة وقتادة زاد أنها من ذهب، ويحتمل أن يكون قوله: "وعن قتادة" معلقا. وقد أخرج الإسماعيلي الحديث عن يوسف القاضي عن سليمان بن حرب بطريق عبد العزيز فقط. وأخرج طريق قتادة من رواية علي بن الجعد وعاصم بن علي كلاهما عن شعبة، وكذا صنع أبو نعيم أخرج من رواية سليمان طريق عبد العزيز وحده وأخرج طريق قتادة من رواية أبي داود الطيالسي عن شعبة، والله أعلم

(9/204)


51- باب التَّزْوِيجِ عَلَى الْقُرْآنِ وَبِغَيْرِ صَدَاقٍ
5149- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ سَمِعْتُ أَبَا حَازِمٍ يَقُولُ سَمِعْتُ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ السَّاعِدِيَّ يَقُولُ إِنِّي لَفِي الْقَوْمِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ قَامَتْ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهَا قَدْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لَكَ فَرَ فِيهَا رَأْيَكَ فَلَمْ يُجِبْهَا شَيْئًا ثُمَّ قَامَتْ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهَا قَدْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لَكَ فَرَ فِيهَا رَأْيَكَ فَلَمْ يُجِبْهَا شَيْئًا ثُمَّ قَامَتْ الثَّالِثَةَ فَقَالَتْ إِنَّهَا قَدْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لَكَ فَرَ فِيهَا رَأْيَكَ فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْكِحْنِيهَا قَالَ هَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَيْءٍ قَالَ لاَ قَالَ اذْهَبْ فَاطْلُبْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ فَذَهَبَ فَطَلَبَ ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ مَا وَجَدْتُ شَيْئًا وَلاَ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ فَقَالَ هَلْ مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ شَيْءٌ قَالَ مَعِي سُورَةُ كَذَا وَسُورَةُ كَذَا قَالَ اذْهَبْ فَقَدْ أَنْكَحْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ"
قوله: "باب التزويج على القران وبغير صداق" أي على تعليم القرآن وبغير صداق مالي عيني، ويحتمل غير ذلك كما سيأتي البحث فيه. قوله: "حدثنا سفيان" هو ابن عيينة، وقد ذكره المصنف من رواية سفيان الثوري بعد هذا لكن باختصار، وأخرجه ابن ماجه من روايته أتم منه، والإسماعيلي أتم من ابن ماجه، والطبراني مقرونا برواية معمر؛ وأخرج رواية ابن عيينة أيضا مسلم والنسائي. وهذا الحديث مداره على أبي حازم سلمة بن دينار المدني وهو من صغار التابعين، حدث به كبار الأئمة عنه مثل مالك، وقد تقدمت روايته في الوكالة وقبل أبواب هنا، ويأتي في التوحيد، وأخرجه أيضا أبو داود والترمذي والنسائي والثوري كما ذكرته، وحماد بن زيد وروايته في فضائل القرآن، وتقدمت قبل أبواب هنا أيضا وأخرجها مسلم، وفضيل بن سليمان ومحمد بن مطرف أبي غسان، وقد تقدمت روايتهما قريبا في النكاح ولم يخرجهما مسلم، ويعقوب بن عبد الرحمن الإسكندراني وعبد العزيز بن أبي حازم وروايتهما في النكاح أيضا، ويعقوب أيضا في فضائل القرآن وعبد العزيز يأتي في اللباس وأخرجها مسلم، وعبد العزيز بن محمد الدراوردي وزائدة بن قدامة وروايتهما عند مسلم، ومعمر وروايته عند أحمد والطبراني، وهشام بن سعد وروايته في "صحيح أبي عوانة" والطبراني، ومبشر بن مبشر وروايته عند الطبراني، وعبد الملك بن جريج وروايته عند أبي الشيخ في كتاب النكاح، وقد روى طرفا منه سعيد بن المسيب عن سهل بن سعد أخرجه الطبراني. وجاءت القصة أيضا من حديث أبي هريرة عند أبي داود باختصار والنسائي مطولا، وابن مسعود عند الدار قطني، ومن حديث ابن عباس عند أبي عمر بن حيوة في فوائده، وضميرة جد حسين بن عبد الله عند الطبراني، وجاءت مختصرة من حديث أنس كما تقدم قبل أبواب، وعند الترمذي طرف منه آخر، ومن حديث أبي أمامة عند تمام في فوائده، ومن حديث جابر وابن عباس عند أبي الشيخ في كتاب النكاح، وسأذكر ما في هذه الروايات من فائدة زائدة إن شاء الله تعالى. قوله: "عن سهل بن سعد" في رواية ابن جريج حدثني أبو حازم أن سهل بن سعد أخبره. قوله: "إني لفي القوم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قامت امرأة" في رواية فضيل بن سليمان "كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم جلوسا فجاءته امرأة. وفي رواية هشام بن سعد "بينما نحن عند النبي صلى الله عليه وسلم أتت إليه امرأة" وكذا

(9/205)


في معظم الروايات "أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم:" ويمكن رد رواية سفيان إليها بأن يكون معنى قوله: "قامت" وقفت، والمراد أنها جاءت إلى أن وقفت عندهم، لا أنها كانت جالسة في المجلس فقامت. وفي رواية سفيان الثوري عند الإسماعيلي: "جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد" فأفاد تعيين المكان الذي وقعت فيه القصة. وهذه المرأة لم أقف على اسمها، ووقع في "الأحكام لابن القصاع" أنها خولة بنت حكيم أو أم شريك، وهذا نقل من اسم الواهبة الوارد في قوله تعالى:{وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} وقد تقدم بيان اسمها في تفسير الأحزاب وما يدل على تعدد الواهبة. قوله: "فقالت يا رسول الله إنها قد وهبت نفسها لك" كذا فيه على طريق الالتفات، وكذا في رواية حماد ابن زيد لكن قال: "إنها قد وهبت نفسها لله ولرسوله" وكان السياق يقتضي أن تقول إني قد وهبت نفسي لك، وبهذا اللفظ وقع في رواية مالك، وكذا في رواية زائدة عند الطبراني. وفي رواية يعقوب، وكذا الثوري عند الإسماعيلي: "فقالت يا رسول الله جئت أهب نفسي لك" وفي رواية فضيل بن سليمان "فجاءته امرأة تعرض نفسها عليه" وفي كل هذه الروايات حذف مضاف تقديره أمر نفسي أو نحوه، وإلا فالحقيقة غير مرادة لأن رقبة الحر لا تملك، فكأنها قالت أتزوجك من غير عوض. قوله: "فر فيها رأيك" كذا للأكثر براء واحدة مفتوحة بعدها فاء التعقيب، وهي فعل أمر من الرأي، ولبعضهم بهمزة ساكنة بعد الراء وكل صواب، ووقع بإثبات الهمزة في حديث ابن مسعود أيضا. قوله: "فلم يجبها شيئا" في رواية معمر والثوري وزائدة "فصمت". وفي رواية يعقوب وابن حازم وهشام بن سعد "فنظر إليها فصعد النظر إليها وصوبه" وهو بتشديد العين من صعد والواو من صوب، والمراد أنه نظر أعلاها وأسفلها، والتشديد إما للمبالغة في التأمل وإما للتكرير، وبالثاني جزم القرطبي في "المفهم" قال: أي نظر أعلاها وأسفلها مرارا. ووقع في رواية فضيل بن سليمان "فخفض فيها البصر ورفعه:" وهما بالتشديد أيضا ووقع في رواية الكشميهني من هذا الوجه "النظر" بدل البصر. وقال في هذه الرواية: "ثم طأطأ رأسه" وهو بمعنى قوله: "فصمت" وقال في رواية فضيل بن سليمان "فلم يردها" وقد قدمت ضبط هذه اللفظة في "باب إذا كان الولي هو الخاطب". قوله: "ثم قامت فقالت" وقع هذا في رواية المستملي والكشميهني وسياق لفظها كالأول، وعندهما أيضا: "ثم قامت الثالثة" وسياقها كذلك. وفي رواية معمر والثوري معا عند الطبراني "فصمت، ثم عرضت نفسها عليه فصمت، فلقد رأيتها قائمة مليا تعرض نفسها عليه وهو صامت" وفي رواية مالك "فقامت طويلا" ومثله للثوري عنه وهو نعت مصدر محذوف أي قياما طولا، أو لظرف محذوف أي زمانا طويلا. وفي رواية مبشر "فقامت حتى رئينا لها من طول القيام، زاد في رواية يعقوب وابن أبي حازم "فلما رأت المرأة أنه لم يقض فيها شيئا جلست" ووقع في رواية حماد بن زيد أنها "وهبت نفسها لله ولرسوله فقال: مالي في النساء حاجة" ويجمع بينها وبين ما تقدم أنه قال ذلك في آخر الحال، فكأنه صمت أولا لتفهم أنه لم يردها، فلما أعادت الطلب أفصح لها بالواقع. ووقع في حديث أبي هريرة عند النسائي: "جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرضت نفسها عليه، فقال لها اجلسي، فجلست ساعة ثم قامت، فقال : اجلسي بارك الله فيك، أما نحن فلا حاجة لنا فيك" فيؤخذ منه وفور أدب المرأة مع شدة رغبتها لأنها لم تبالغ في الإلحاح في الطلب، وفهمت من السكوت عدم الرغبة، لكنها لما لم تيأس من الرد جلست تنتظر الفرج، وسكوته صلى الله عليه وسلم إما حياء من مواجهتها بالرد وكان صلى الله عليه وسلم شديد الحياء جدا كما تقدم في صفته أنه كان أشد حياء

(9/206)


لشركها النبي صلى الله عليه وسلم فيه، وهذا بعيد إذ ليس في كلام النبي ولا الرجل ما يدل على شيء من ذلك، قال ويمكن أن يقال أن مراد سهل أنه لو كان عليه رداء مضاف إلى الإزار لكان للمرأة نصف ما عليه الذي هو إما الرداء وإما الإزار لتعليله المنع بقوله: "إن لبسته لم يكن عليك منه شيء" فكأنه قال لو كان عليك ثوب تنفرد أنت بلبسه وثوب آخر تأخذه هي تنفرد بلبسه لكان لها أخذه، فإما إذا لم يكن ذلك فلا انتهى. وقد أخذ كلامه هذا بعض المتأخرين فذكره ملخصا، وهو كلام صحيح لكنه مبني على الفهم الذي دخله الوهم، والذي قال: "فلها نصفه" هو الرجل صاحب القصة، وكلام سهل إنما هو قوله: "ماله رداء فقط" وهي جملة معترضة، وتقدير الكلام: ولكن هذا إزاري فلها نصفه، وقد جاء ذلك صريحا في رواية أبي غسان محمد بن مطرف ولفظه: "ولكن هذا إزاري ولها نصفه" قال سهل: وماله رداء. ووقع في رواية الثوري عند الإسماعيلي: "فقام رجل عليه إزار وليس عليه رداء" ومعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن لبسته إلخ" أي إن لبسته كاملا وإلا فمن المعلوم من ضيق حالهم وقلة الثياب عندهم أنها لو لبسته بعد أن تشقه لم يسترها، ويحتمل أن يكون المراد بالنفي نفي الكمال لأن العرب قد تنفي جملة الشيء إذا انتفى كماله والمعنى لو شققته بينكما نصفين لم يحصل كمال سترك بالنصف إذا لبسته ولا هي. وفي رواية معمر عند الطبراني ما وجدت والله شيئا غير ثوبي هذا اشققه بيني وبينها قال ما في ثوبك فضل عنك. وفي رواية فضيل بن سليمان "ولكني أشق بردتي هذه فأعطيها النصف وآخذ النصف" وفي رواية الدراوردي "قال ما أملك إلا إزاري هذا، قال: أرأيت إن لبسته فأي شيء تلبس" وفي رواية مبشر" هذه الشملة التي علي ليس عندي غيرها" وفي رواية هشام بن سعد "ما عليه إلا ثوب وأحد عاقد طرفيه على عنقه" وفي حديث ابن عباس وجابر "والله ما لي ثوب إلا هذا الذي علي" وكل هذا مما يرجح الاحتمال الأول والله أعلم. ووقع في رواية حماد بن زيد "فقال أعطها ثوبا، قال لا أجد، قال أعطها ولو خاتما من حديد فاعتل له" ومعنى قوله: "فاعتل له" أي اعتذر بعدم وجدانه كما دلت عليه رواية غيره، ووقع في رواية أبي غسان قبل قوله: هل معك من القرآن شيء "فجلس الرجل حتى إذا طال مجلسه قام فرآه النبي صلى الله عليه وسلم فدعاه أو دعي له" وفي رواية الثوري عند الإسماعيلي: "فقام طويلا ثم ولي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "علي الرجل" وفي رواية عبد العزيز بن أبي حازم ويعقوب مثله لكن قال: "فرآه النبي صلى الله عليه وسلم موليا فأمر به فدعي له، فلما جاء قال: ماذا معك من القرآن؟" ويحتمل أن كون هذا بعد قوله كما في رواية مالك "هل معك من القرآن شيء" فاستفهمه حينئذ عن كميته، ووقع الأمران في رواية معمر قال: "فهل تقرأ من القرآن شيئا؟ قال: نعم، قال: ماذا؟ قال: سورة كذا" وعرف بهذا المراد بالمعية وأن معناها الحفظ عن ظهر قلبه، وقد تقدم تقرير ذلك في فضائل القرآن وبيان من زاد فيه: "أتقرؤهن عن ظهر قلبك" وكذا وقع في رواية الثوري عند الإسماعيلي: "قال معي سورة كذا ومعي سورة كذا، قال عن ظهر قلبك؟ قال نعم". قوله: "سورة كذا وسورة كذا" زاد مالك تسميتها. وفي رواية يعقوب وابن أبي حازم "عدهن" وفي رواية أبي غسان "لسور يعددها" وفي رواية سعيد بن المسيب عن سهل بن سعد "أن النبي صلى الله عليه وسلم زوج رجلا امرأة على سورتين من القرآن يعلمها إياهما" ووقع في حديث أبي هريرة قال: "ما تحفظ من القرآن؟ قال: سورة البقرة أو التي تليها" كذا في كتابي أبي داود والنسائي بلفظ: "أو" وزعم بعض من لقيناه أنه عند أبي داود بالواو وعند النسائي بلفظ: "أو" ووقع في حديث ابن مسعود "قال نعم سورة البقرة وسورة المفصل" وفي حديث ضميرة "أن النبي صلى الله عليه وسلم زوج رجلا على سورة البقرة لم يكن عنده شيء" وفي حديث

(9/208)


أبي أمامة "زوج النبي صلى الله عليه وسلم رجلا من أصحابه امرأة على سورة من المفصل جعلها مهرها وأدخلها عليه وقال: علمها" وفي حديث أبي هريرة المذكور "فعلمها عشرين آية وهي امرأتك" وفي حديث ابن عباس "أزوجها منك على أن تعلمها أربع - أو خمس - سور من كتاب الله" وفي مرسل أبي النعمان الأزدي عند سعيد بن منصور "زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة على سورة من القرآن" وفي حديث ابن عباس وجابر "هل تقرأ من لقرآن شيئا؟ قال: نعم، إنا أعطيناك الكوثر. قال: أصدقها إياها" ويجمع بين هذه الألفاظ بأن بعض الرواة حفظ ما لم يحفظ بعض، أو أن القصص متعددة. قوله: "اذهب فقد أنكحتكها بما معك من القرآن" في رواية زائدة مثله، لكن قال في آخره: "فعلمها من القرآن" وفي رواية مالك "قال له قد زوجتكها بما معك من القرآن" ومثله في رواية الدراوردي عن إسحاق بن راهويه، وكذا في رواية فضيل بن سليمان ومبشر. وفي رواية الثوري عند ابن ماجه: "قد زوجتكها على ما معك من القرآن" ومثله في رواية هشام بن سعد وفي رواية الثوري عند الإسماعيلي: "أنكحتكها بما معك من القرآن" وفي رواية الثوري ومعمر عند الطبراني "قد ملكتكها بما معك من القرآن"، وكذا في رواية يعقوب وابن أبي حازم وابن جريج وحماد بن زيد في إحدى الروايتين عنه. وفي رواية معمر عند أحمد "قد أملكتكها" والباقي مثله. وقال في أخرى "فرأيته يمضي وهي تتبعه" وفي رواية أبي غسان "أمكناكها" والباقي مثله، وفي حديث ابن مسعود "قد أنكحتكها على أن تقرئها وتعلمها، وإذا رزقك الله عوضتها، فتزوجها الرجل على ذلك". وفي هذا الحديث من الفوائد أشياء غير ما ترجم به البخاري في كتاب الوكالة وفضائل القرآن وعدة تراجم في كتاب النكاح، وقد بينت في كل واحد توجيه الترجمة ومطابقتها للحديث ووجه الاستنباط منها. وترجم عليه أيضا في كتاب اللباس والتوحيد كما سيأتي تقريره. وفيه أيضا أن لا حد لأقل المهر، قال ابن المنذر: فيه رد على من زعم أن أقل المهر عشرة دراهم وكذا من قال ربع دينار، قال: لأن خاتما من حديد لا يساوي ذلك. وقال المازري تعلق به من أجاز النكاح بأقل من ربع دينار لأنه خرج مخرج التعليل ولكن مالك قاسه على القطع في السرقة. قال عياض: تفرد بهذا مالك عن الحجازيين، لكن مستنده الالتفات إلى قوله تعالى :{انْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} وبقوله: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً} فإنه يدل على أن المراد ماله بال من المال وأقله ما استبيح به قطع العضو المحترم، قال: وأجازه الكافة بما تراضى عليه الزوجان أو من العقد إليه بما فيه منفعة كالسوط والنعل إن كانت قيمته أقل من درهم، وبه قال يحيى ابن سعيد الأنصاري وأبو الزناد وربيعة وابن أبي ذئب وغيرهم من أهل المدينة غير مالك ومن تبعه وابن جريج ومسلم بن خالد وغيرهما من أهل مكة والأوزاعي في أهل الشام والليث في أهل مصر والثوري وابن أبي ليلى وغيرهما من العراقيين غير أبي حنيفة ومن تبعه والشافعي وداود وفقهاء أصحاب الحديث وابن وهب من المالكية. وقال أبو حنيفة: أقله عشرة، وابن شبرمة أقله خمسة، ومالك أقله ثلاثة أو ربع دينار بناء على اختلافهم في مقدار ما يجب فيه القطع. وقد قال الدراوردي لمالك لما سمعه يذكر هذه المسألة: تعرقت يا أبا عبد الله، أي سلكت سبيل أهل العراق في قياسهم مقدار الصداق على مقدار نصاب السرقة وقال القرطبي: استدل من قاسه بنصاب السرقة بأنه عضو آدمي محترم فلا يستباح بأقل من كذا قياسا على يد السارق، وتعقبه الجمهور بأنه قياس في مقابل النص فلا يصح، وبأن اليد تقطع وتبين ولا كذلك الفرج، وبأن القدر المسروق يجب على السارق رده مع القطع ولا كذلك الصداق. وقد ضعف جماعة من المالكية أيضا هذا

(9/209)


القياس، فقال أبو الحسن اللخمي: قياس قدر الصداق بنصاب السرقة ليس بالبين، لأن اليد إنما قطعت في ربع دينار نكالا للمعصية، والنكاح مستباح بوجه جائز، ونحوه لأبي عبد الله بن الفخار منهم. نعم قوله تعالى : {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً} يدل على أن صداق الحرة لا بد وأن يكون ما ينطلق عليه اسم مال له قدر ليحصل الفرق بينه وبين مهر الأمة، وأما قوله تعالى :{أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} فإنه يدل على اشتراط ما يسمى مالا في الجملة قل أو كثر وقد حده بعض المالكية بما تجب فيه الزكاة، وهو أقوى من قياسه على نصاب السرقة، وأقوى من ذلك رده إلى المتعارف. وقال ابن العربي: وزن الخاتم من الحديد لا يساوي ربع دينار، وهو مما لا جواب عنه ولا عذر فيه، لكن المحققين من أصحابنا نظروا إلى قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً} فمنع الله القادر على الطول من نكاح الأمة، فلو كان الطول درهما ما تعذر على أحد. ثم تعقبه بأن ثلاثة دراهم كذلك، يعني فلا حجة فيه للتحديد ولا سيما مع الاختلاف في المراد بالطول. وفيه أن الهبة النكاح خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم لقول الرجل "زوجنيها" ولم يقل هبها لي. ولقولها هي "وهبت نفسي لك" وسكت صلى الله عليه وسلم على ذلك، فدل على جوازه له خاصة، مع قوله تعالى :{خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} وفيه جواز انعقاد نكاحه صلى الله عليه وسلم بلفظ الهبة دون غيره من الأمة على أحد الوجهين للشافعية، والآخر لا بد من لفظ النكاح أو التزويج. وسيأتي البحث فيه. وفيه أن الإمام يزوج من ليس لها ولي خاص لمن يراه كفؤا لها ولكن لا بد من رضاها بذلك. وقال الداودي: ليس في الخبر أنه استأذنها ولا أنها وكلته وإنما هو من قوله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} يعني فيكون خاصا به صلى الله عليه وسلم أنه يزوج من شاء من النساء بغير استئذانها لمن شاء، وبنحوه قال ابن أبي زيد. وأجاب ابن بطال بأنها لما قالت له "وهبت نفسي لك" كان كالأذن منها في تزويجها لمن أراد، لأنها لا تملك حقيقة، فيصير المعنى جعلت لك أن تتصرف في تزويجي ا هـ. ولو راجعا حديث أبي هريرة لما احتاجا إلى هذا التكلف، فإن فيه كما قدمته "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمرأة: إني أريد أن أزوجك هذا إن رضيت، فقالت: ما رضيت لي فقد رضيت. وفيه جواز تأمل محاسن المرأة لإرادة تزويجها وإن لم تتقدم الرغبة في تزويجها ولا وقعت خطبتها، لأنه صلى الله عليه وسلم صعد فيها النظر وصوبه، وفي الصيغة ما يدل على المبالغة في ذلك ولم يتقدم منه رغبة فيها ولا خطبة، ثم قال: "لا حاجة لي في النساء" ولو لم يقصد أنه إذا رأى منها ما يعجبه أنه يقبلها ما كان للمبالغة في تأملها فائدة. ويمكن الانفصال عن ذلك بدعوى الخصوصية له لمحل العصمة. والذي تحرر عندنا أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يحرم عليه النظر إلى المؤمنات الأجنبيات بخلاف غيره. وسلك ابن العربي في الجواب مسلكا آخر فقال: يحتمل أن ذلك قبل الحجاب، أو بعده لكنها كانت متلففة، وسياق الحديث يبعد ما قال. وفيه أن الهبة لا تتم إلا بالقبول، لأنها لما قالت: "وهبت نفسي لك" ولم يقل قبلت لم يتم مقصودها ولو قبلها لصارت زوجا له ولذلك لم ينكر على القائل "زوجنيها" وفيه جواز الخطبة على خطبة من خطب إذا لم يقع بينهما ركون ولا سيما إذا لاحت مخايل الرد، قاله أبو الوليد الباجي، وتعقبه عياض وغيره بأنه لم يتقدم عليها خطبة لأحد ولا ميل، بل هي أرادت أن يتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم فعرضت نفسها مجانا مبالغة منها في تحصيل مقصودها فلم يقبل، ولما قال: "ليس لي حاجة في النساء" عرف الرجل أنه لم يقبلها فقال: "زوجنيها" ثم بالغ في الاحتراز فقال: "إن لم يكن لك بها حاجة" وإنما قال ذلك بعد تصريحه بنفي الحاجة لاحتمال أن يبدو له بعد ذلك ما يدعوه إلى إجابتها، فكان ذلك دالا على وفور فطنة الصحابي المذكور وحسن أدبه. قلت: ويحتمل أن يكون الباجي أشار إلى أن الحكم

(9/210)


الذي ذكره يستنبط من هذه القصة، لأن الصحابي لو فهم أن للنبي صلى الله عليه وسلم فيها رغبة لم يطلبها، فكذلك من فهم أن له رغبة في تزويج امرأة لا يصلح لغيره أن يزاحمه فيها حتى يظهر عدم رغبته فيها إما بالتصريح أو ما في حكمه. وفيه أن النكاح لا بد فيه من الصداق لقوله : "هل عندك من شيء تصدقها" ؟ وقد أجمعوا على أنه لا يجوز لأحد أن يطأ فرحا وهب له دون الرقبة بغير صداق. وفيه أن الأولى أن يذكر الصداق في العقد لأنه أقطع للنزاع وأنفع للمرأة، فلو عقد بغير ذكر صداق صح ووجب لها مهر المثل بالدخول على الصحيح، وقيل بالعقد. ووجه كونه أنفع لها أنه يثبت لها نصف المسمى أن لو طلقت قبل الدخول. وفيه استحباب تعجيل تسليم المهر. وفيه جواز الحلف بغير استحلاف للتأكيد، لكنه يكره لغير ضرورة وفي قوله: "أعندك شيء؟ فقال: لا" دليل على تخصيص العموم بالقرينة، لأن لفظ شيء يشمل الخطير والتافه، وهو كان لا يعدم شيئا تافها كالنواة ونحوها، لكنه فهم أن المراد ما له قيمة في الجملة، فلذلك نفي أن يكون عنده. ونقل عياض الإجماع على أن مثل الشيء الذي لا يتمول ولا له قيمة لا يكون صداقا ولا يحل به النكاح، فإن ثبت نقله فقد خرق هذا الإجماع أبو محمد بن حزم فقال: يجوز بكل ما يسمى شيئا ولو كان حبة من شعير، ويؤيد ما ذهب إليه الكافة قوله صلى الله عليه وسلم: "التمس ولو خاتما من حديد" لأنه أورده مورد التقليل بالنسبة لما فوقه، ولا شك أن الخاتم من الحديد له قيمة وهو أعلى خطرا من النواة وحبة الشعير، ومساق الخبر يدل على أنه لا شيء دونه يستحل به البضع، وقد وردت أحاديث في أقل الصداق لا يثبت منها شيء، منها عند ابن أبي شيبة من طريق أبي لبيبة رفعه: "من استحل بدرهم في النكاح فقد استحل ومنها عند أبي داود عن جابر رفعه: "من أعطى في صداق امرأة سويقا أو تمرا فقد استحل"، وعند الترمذي من حديث عامر بن ربيعة "أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز نكاح امرأة على نعلين" وعند الدار قطني من حديث أبي سعيد في أثناء حديث المهر "ولو على سواك من أراك" وأقوى شيء ورد في ذلك حديث جابر عند مسلم كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نهى عنها عمر" قال البيهقي: إنما نهى عمر عن النكاح إلى أجل لا عن قدر الصداق، وهو كما قال. وفيه دليل للجمهور لجواز النكاح بالخاتم الحديد وما هو نظير قيمته، قال ابن العربي من المالكية كما تقدم: لا شك أن خاتم الحديد لا يساوي ربع دينار، وهذا لا جواب عنه لأحد ولا عذر فيه، وانفصل بعض المالكية عن هذا الإيراد مع قوته بأجوبة: منها أن قوله: "ولو خاتما من حديد". خرج مخرج المبالغة في طلب التيسير عليه ولم يرد عين الخاتم الحديد ولا قدر قيمته حقيقة، لأنه لما قال لا أجد شيئا عرف أنه فهم أن المراد بالشيء ما له قيمة فقيل له ولو أقل ما له قيمة كخاتم الحديد، ومثله "تصدقوا ولو بظلف محرق ولو بفرسن شاة" مع أن الظلف والفرسن لا ينتفع به ولا يتصدق به، ومنها احتمال أنه طلب منه ما يعجل نقده قبل الدخول لا أن ذلك جميع الصداق، وهذا جواب ابن القصار، وهذا يلزم منه الرد عليهم حيث استحبوا تقديم ربع دينار أو قيمته قبل الدخول لا أقل، ومنها دعوى اختصاص الرجل المذكور بهذا القدر دون غيره وهذا جواب الأبهري، وتعقب بأن الخصوصية تحتاج إلى دليل خاص. ومنها احتمال أن تكون قيمته إذ ذاك ثلاثة دراهم أو ربع دينار. وقد وقع عند الحاكم والطبراني من طريق الثوري عن أبي حازم عن سهل بن سعد "أن النبي صلى الله عليه وسلم زوج رجلا بخاتم من حديد فصه فضة" واستدل به على جواز اتخاذ الخاتم من الحديد، وسيأتي البحث فيه في كتاب اللباس إن شاء الله تعالى، وعلى وجوب تعجيل الصداق قبل الدخول، إذ لو ساغ تأخيره لسأله هل يقدر

(9/211)


على تحصيل ما يمهرها بعد أن يدخل عليها ويتقرر ذلك في ذمته، ويمكن الانفصال عن ذلك بأنه صلى الله عليه وسلم أشار بالأولى، والحامل على هذا التأويل ثبوت جواز نكاح المفوضة وثبوت جواز النكاح على مسمى في الذمة والله أعلم. وفيه أن إصداق ما يتمول يخرجه عن يد مالكه حتى أن من أصدق جارية مثلا حرم عليه وطؤها وكذا استخدامها بغير إذن من أصدقها، وأن صحة المبيع تتوقف على صحة تسليمه فلا يصح ما تعذر إما حسا كالطير في الهواء وإما شرعا كالمرهون، وكذا الذي لو زال إزاره لانكشفت عورته، كذا قال عياض وفيه نظر، واستدل به على جواز جعل المنفعة صداقا ولو كان تعليم القرآن، قال المازري: هذا ينبني على أن الباء للتعويض كقولك بعتك ثوبي بدينار وهذا هو الظاهر وإلا لو كانت بمعنى اللام على معنى تكريمه لكونه حاملا للقرآن لصارت المرأة بمعنى الموهوبة والموهوبة خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم ا هـ. وانفصل الأبهري - وقبله الطحاوي ومن تبعهما كأبي محمد بن أبي زيد - عن ذلك بأن هذا خاص بذلك الرجل، لكون النبي صلى الله عليه وسلم كان يجوز له نكاح الواهبة فكذلك يجوز له أن ينكحها لمن شاء بغير صداق، ونحوه للداودي وقال: إنكاحها إياه بغير صداق لأنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وقواه بعضهم بأنه لما قال له "ملكتكها" لم يشاورها ولا استأذنها، وهذا ضعيف لأنها هي أولا فوضت أمرها إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم في رواية الباب: "فر في رأيك" وغير ذلك من ألفاظ الخبر التي ذكرناها، فلذلك لم يحتج إلى مراجعتها في تقدير المهر وصارت كمن قالت لوليها زوجني بما ترى من قليل الصداق وكثيره، واحتج لهذا القول بما أخرجه سعيد بن منصور من مرسل أبي النعمان الأزدي قال: "زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة على سورة من القرآن وقال: لا تكون لأحد بعدك مهرا" وهذا مع إرساله فيه من لا يعرف. وأخرج أبو داود من طريق مكحول قال. ليس هذا لأحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم. وأخرج أبو عوانة من طريق الليث بن سعد نحوه. وقال عياض: يحتمل قوله: "بما معك من القرآن" وجهين أظهرهما أن يعلمها ما معه من القرآن أو مقدارا معينا منه ويكون ذلك صداقها وقد جاء هذا التفسير عن مالك، ويؤيده قوله في بعض طرقه الصحيحة "فعلمها من القرآن" كما تقدم، وعين في حديث أبي هريرة مقدار ما يعلمها وهو عشرون آية، ويحتمل أن تكون الباء بمعنى اللام أي لأجل ما معك من القرآن فأكرمه بأن زوجه المرأة بلا مهر لأجل كونه حافظا للقرآن أو لبعضه، ونظيره قصة أبي طلحة مع أم سليم وذلك فيما أخرجه النسائي وصححه من طريق جعفر بن سليمان عن ثابت عن أنس قال: "خطب أبو طلحة مع أم سليم، فقالت والله ما مثلك يرد، ولكنك كافر وأنا مسلمة ولا يحل لي أن أتزوجك، فإن تسليم فذاك مهري ولا أسألك غيره، فأسلم، فكان ذلك مهرها". وأخرج النسائي من طريق عبد الله بن عبيد الله بن أبي طلحة عن أنس قال: "تزوج أبو طلحة أم سليم فكان صداق ما بينهما الإسلام، فذكر القصة وقال في آخره: فكان ذلك صداق ما بينهما ترجم عليه النسائي: "التزويج على الإسلام" ثم ترجم على حديث سهل "التزويج على سورة من القرآن" فكأنه مال إلى ترجيح الاحتمال الثاني. ويؤيد أن الباء للتعويض لا للسببية ما أخرجه ابن أبي شيبة والترمذي من حديث أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل رجلا من أصحابه: يا فلان هل تزوجت؟ قال: لا، وليس عندي ما أتزوج به، قال: أليس معك قل هو الله أحد" الحديث. واستدل الطحاوي للقول الثاني من طريق النظر بأن النكاح إذا وقع على مجهول كان كما لم يسم فيحتاج إلى الرجوع إلى المعلوم، قال: والأصل المجمع عليه لو أن رجلا استأجر رجلا على أن يعلمه سورة من القرآن بدرهم لم يصح لأن الإجازة لا تصح إلا على عمل معين كغسل الثوب أو وقت معين،

(9/212)


والتعليم قد لا يعلم مقدار وقته، فقد يتعلم في زمان يسير وقد يحتاج إلى زمان طويل، ولهذا لو باعه داره على أن يعلمه سورة من القرآن لم يصح، قال: فإذا كان التعليم لا تملك به الأعيان لا تملك به المنافع. والجواب عما ذكره أن المشروط تعليمه معين كما تقدم في بعض طرقه، وأما الاحتجاج بالجهل بمدة التعليم فيحتمل أن يقال اغتفر ذلك في باب الزوجين لأن الأصل استمرار عشرتهما، ولأن مقدار تعليم عشرين آية لا تختلف فيه أفهام النساء غالبا، خصوصا مع كونها عربية من أهل لسان الذي يتزوجها كما تقدم. وانفصل بعضهم بأنه زوجها إياه لأجل ما معه من القرآن الذي حفظه وسكت عن المهر فيكون ثابتا لها في ذمته إذا أيسر كنكاح التفويض، وإن ثبت حديث ابن عباس المتقدم حيث قال فيه: "فإذا رزقك الله فعوضها" كان فيه تقوية لهذا القول، لكنه غير ثابت. وقال بعضهم يحتمل أن يكون زوجه لأجل ما حفظه من القرآن وأصدق عنه كما كفر عن الذي وقع على امرأته في رمضان ويكون ذكر القرآن وتعليمه على سبيل التحريض؛ على تعلم القرآن وتعليمه وتنويها بفضل أهله، قالوا: ومما يدل على أنه لم يجعل التعليم صداقا أنه لم يقع معرفة الزوج بفهم المرأة وهل فيها قابلية التعليم بسرعة أو ببطء، ونحو ذلك مما تتفاوت فيه الأغراض، والجواب عن ذلك قد تقدم في بحث الطحاوي، ويؤيد قول الجمهور قوله صلى الله عليه وسلم أولا "هل معك شيء تصدقها" ولو قصد استكشاف فضله لسأله عن نسبه وطريقته ونحو ذلك. فإن قيل: كيف يصح جعل تعليمها القرآن مهرا وقد لا تتعلم؟ أجيب: كما يصح جعل تعليمها الكتابة مهرا وقد لا تتعلم، وإنما وقع الاختلاف عند من أجاز جعل المنفعة مهرا هل يشترط أن يعلم حذق المتعلم أو لا كما تقدم، وفيه جواز كون الإجارة صداقا ولو كانت المصدوقة المستأجرة، فتقوم المنفعة من الإجارة مقام الصداق، وهو قول الشافعي وإسحاق والحسن بن صالح، وعند المالكية فيه خلاف، ومنعه الحنفية في الحر وأجازوه العبد إلا في الإجارة في تعليم القرآن فمنعوه مطلقا بناء على أصلهم في أن أخذ الأجرة على تعليم القرآن لا يجوز، وقد نقل عياض جواز الاستئجار لتعليم القرآن عن العلماء كافة إلا الحنفية. وقال ابن العربي: من العلماء من قال زوجه على أن يعلمها من القرآن فكأنها كانت إجارة، وهذا كرهه مالك ومنعه أبو حنيفة وقال ابن القاسم: يفسخ قبل الدخول ويثبت بعده، قال: والصحيح جوازه بالتعليم. وقد روى يحيى بن مضر عن مالك في هذه القصة أن ذلك أجرة على تعليمها وبذلك جاز أخذ الأجرة على تعليم القرآن، وبالوجهين قال الشافعي وإسحاق، وإذا جاز أن يؤخذ عنه العوض جاز أن يكون عوضا، وقد أجازه مالك من إحدى الجهتين فيلزم أن يجيزه من الجهة الأخرى وقال القرطبي: قوله: "علمها" نص في الأمر بالتعليم، والسياق يشهد بأن ذلك لأجل النكاح فلا يلتفت لقول من قال إن ذلك كان إكراما للرجل فإن الحديث يصرح بخلافه، وقولهم أن الباء بمعنى اللام ليس بصحيح لغة ولا مساقا، واستدل به على أن من قال زوجني فلانة فقال زوجتكها بكذا كفى ذلك ولا يحتاج إلى قول الزوج قبلت قاله أبو بكر الرازي من الحنفية وذكره الرافعي من الشافعية، وقد استشكل من جهة طول الفصل بين الاستيجاب والإيجاب وفراق الرجل المجلس لالتماس ما يصدقها إياه، وأجاب المهلب بأن بساط القصة أغنى عن ذلك، وكذا كل راغب في التزويج إذا استوجب فأجيب بشيء معين وسكت كفى إذا ظهر قرينة القبول، وإلا فيشترط معرفة رضاه بالقدر المذكور. واستدل به على جواز ثبوت العقد بدون لفظ النكاح والتزويج، وخالف ذلك الشافعي ومن المالكية ابن دينار وغيره. والمشهور عن المالكية جوازه بكل لفظ دل على معناه إذا قرن بذكر الصداق أو قصد النكاح كالتمليك

(9/213)


والهبة والصدقة والبيع، ولا يصح عندهم بلفظ الإجارة ولا العارية ولا الوصية، واختلف عندهم في الإحلال والإباحة، وأجازه الحنفية بكل لفظ يقتضي التأبيد مع القصد، وموضع الدليل من هذا الحديث ورود قوله صلى الله عليه وسلم: "ملكتكها" ، لكن ورد أيضا بلفظ: "زوجتكها" قال ابن دقيق العيد: هذه لفظة واحدة في قصة واحدة واختلف فيها مع اتحاد مخرج الحديث، فالظاهر أن الواقع من النبي صلى الله عليه وسلم أحد الألفاظ المذكورة، فالصواب في مثل هذا النظر إلى الترجيح، وقد نقل عن الدار قطني أن الصواب رواية من روى "زوجتكها" وأنهم أكثر وأحفظ، قال: وقال بعض المتأخرين يحتمل صحة اللفظين ويكون قال لفظ التزويج أولا ثم قال اذهب فقد ملكتكها بالتزويج السابق، قال ابن دقيق العيد: وهذا بعيد لأن سياق الحديث يقتضي تعيين لفظة قبلت لا تعددها وأنها هي التي انعقد بها النكاح، وما ذكره يقتضي وقوع أمر آخر انعقد به النكاح، والذي قاله بعيد جدا، وأيضا فلخصمه أن يعكس ويدعى أن العقد وقع بلفظ التمليك ثم قال زوجتكها بالتمليك السابق. قال ثم إنه لم يتعرض لرواية: "أمكناكها" مع ثبوتها، وكل هذا يقتضي تعين المصير إلى الترجيح ا هـ. وأشار بالمتأخر إلى النووي فإنه كذلك قال في شرح مسلم، وقد قال ابن التين لا يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم عقد بلفظ التمليك والتزويج معا في وقت واحد فليس أحد اللفظين بأولى من الآخر فسقط الاحتجاج به، هذا على تقدير تساوي الروايتين فكيف مع الترجيح؟ قال: ومن زعم أن معمرا وهم فيه ورد عليه أن البخاري أخرجه في غير موضع من رواية غير معمر مثل معمر ا هـ. وزعم ابن الجوزي في "التحقيق" أن رواية أبي غسان "أنكحتكها" ورواية الباقين "زوجتكها" إلا ثلاثة أنفس وهم معمر ويعقوب وابن أبي حازم، قال ومعمر كثير الغلط والآخران لم يكونا حافظين ا هـ. وقد غلط في رواية أبي غسان فإنها بلفظ: "أمكناكها" في جميع نسخ البخاري، نعم وقعت بلفظ: "زوجتكها" عند الإسماعيلي من طريق حسين بن محمد عن أبي غسان، والبخاري أخرجه عن سعيد بن أبي مريم عن أبي غسان بلفظ: "أمكناكها"، وقد أخرجه أبو نعيم في" المستخرج "من طريق يحيى بن عثمان بن صالح عن سعيد شيخ البخاري فيه بلفظ: "أنكحتكها" فهذه ثلاثة ألفاظ عن أبي غسان، ورواية: "أنكحتكها" في البخاري لابن عيينة كما حررته، وما ذكره من الطعن في الثلاثة مردود ولا سيما عبد العزيز فإن روايته تترجح يكون الحديث عن أبيه وآل المرء أعرف بحديثه من غيرهم، نعم الذي تحرر مما قدمته أن الذين رووه بلفظ التزويج أكثر عددا ممن رواه بغير لفظ التزويج، ولا سيما وفيهم من الحفاظ مثل مالك، ورواية سفيان بن عيينة "أنكحتكها" مساوية لروايتهم، ومثلها رواية زائدة، وعد ابن الجوزي فيمن رواه بلفظ التزويج حماد بن زيد وروايته بهذا اللفظ في فضائل القرآن، وأما في النكاح فبلفظ: "ملكتكها" وقد تبع الحافظ صلاح الدين العلائي ابن الجوزي فقال في ترجيح رواية التزويج: ولا سيما وفيهم مالك وحماد بن زيد ا هـ. وقد تحرر أنه اختلف على حماد فيها كما اختلف على الثوري فظهر أن رواية التمليك وقعت في إحدى الروايتين عن الثوري وفي رواية عبد العزيز بن أبي حازم ويعقوب بن عبد الرحمن وحماد بن زيد. وفي رواية معمر "ملكتكها" وهي بمعناها، وانفرد أبو غسان برواية: "أمكناكها" وأخلق بها أن تكون تصحيفا من ملكناكها فرواية التزويج أو الإنكاح أرجح، وعلى تقدير أن تساوي الروايات يقف الاستدلال بها لكل من الفريقين، وقد قال البغوي في "شرح السنة" لا حجة في هذا الحديث لمن أجاز انعقاد النكاح بلفظ التمليك لأن العقد كان واحدا فلم يكن اللفظ إلا واحدا، واختلف الرواة في

(9/214)


اللفظ الواقع، والذي يظهر أنه كان بلفظ التزويج على وفق قول الخاطب زوجنيها إذ هو الغالب في أمر العقود إذ قلما يختلف فيه لفظ المتعاقدين؛ وم روى بلفظ غير لفظ التزويج لم يقصد مراعاة اللفظ الذي انعقد به العقد، وإنما أراد الخبر عن جريان العقد على تعليم القرآن. وقيل إن بعضهم رواه بلفظ الإمكان، وقد اتفقوا على أن هذا العقد بهذا اللفظ لا يصح، كذا قال، وما ذكر كاف في دفع احتجاج المخالف بانعقاد النكاح بالتمليك ونحوه. وقال العلائي: من المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل هذه الألفاظ كلها تلك الساعة، فلم يبق إلا أن يكون قال لفظة منها وعبر عنه بقية الرواة بالمعنى، فمن قال بأن النكاح ينعقد بلفظ التمليك ثم احتج بمجيئه في هذا الحديث إذا عورض ببقية الألفاظ لم ينتهض احتجاجه، فإن جزم بأنه هو الذي تلفظ به النبي صلى الله عليه وسلم ومن قال غيره ذكره بالمعنى قلبه عليه مخالفه وادعى ضد دعواه فلم يبق إلا الترجيح بأمر خارجي، ولكن القلب إلى ترجيح رواية التزويج أميل لكونها رواية الأكثرين، ولقرينة قول الرجل الخاطب "زوجنيها يا رسول الله"، قلت: وقد تقدم النقل عن الدار قطني أنه رجح رواية من قال زوجتكها، وبالغ ابن التين فقال. أجمع أهل الحديث على أن الصحيح رواية زوجتكها وأن رواية ملكتكها وهم، وتعلق بعض المتأخرين بأن الذين اختلفوا في هذه اللفظة أئمة فلولا أن هذه الألفاظ عندهم مترادفة ما عبروا بها فدل على أن كان لفظ منها يقوم مقام الآخر عند ذلك الإمام، وهذا لا يكفي في الاحتجاج بجواز انعقاد النكاح بكل لفظة منها، إلا أن ذلك لا يدفع مطالبهم بدليل الحصر في اللفظين مع الاتفاق على إيقاع الطلاق بالكنايات بشرطها ولا حصر في الصريح، وقد ذهب جمهور العلماء إلى أن النكاح ينعقد بكل لفظ يدل عليه وهو قول الحنفية والمالكية وإحدى الروايتين عن أحمد، واختلف الترجيح في مذهبه فأكثر نصوصه تدل على موافقة الجمهور، واختار ابن حامد وأتباعه الرواية الأخرى الموافقة للشافعية، واستدل ابن عقيل منهم لصحة الرواية الأولى بحديث: "أعتق صفية وجعل عتقها صداقها" فإن أحمد نص على أن من قال عتقت أمتي وجعلت عتقها صداقها أنه ينعقد نكاحها بذلك، واشترط من ذهب إلى الرواية الأخرى بأنه لا بد أن يقول في مثل هذه الصورة تزوجتها، وهي زيادة على ما في الخبر وعلى نص أحمد، وأصوله تشهد بأن العقود تنعقد بما يدل على مقصودها من قول أو فعل. وفيه أن من رغب تزويج من هو أعلى قدرا منه لا لوم عليه لأنه بصدد أن يجاب إلا إن كان مما تقطع العادة برده كالسوقي يخطب من السلطان بنته أو أخته. وأن من رغبت في تزويج من هو أعلى منها لا عار عليها أصلا ولا سيما إن كان هناك غرض صحيح أو قصد صالح إما لفضل ديني في المخطوب أو لهوى فيه يخشى من السكوت عنه الوقوع في محذور. واستدل به على صحة قول من جعل عتق الأمة عوضا عن بضعها، كذا ذكره الخطابي، ولفظه: إن من أعتق أمة كان له أن يتزوجها ويجعل عتقها عوضا عن بضعها، وفي أخذه من هذا الحديث بعد، وقد تقدم البحث فيه مفصلا قبل هذا. وفيه أن سكوت من عقد عليها وهي ساكتة لازم إذا لم يمنع من كلامها خوف أو حياء أو غيرهما. وفيه جواز نكاح المرأة دون أن تسأل هل لها ولي خاص أو لا، ودون أن تسأل هل هي في عصمه رجل أو في عدته، قال الخطابي: ذهب إلى ذلك جماعة حملا على ظاهر الحال، ولكن الحكام يحتاطون في ذلك ويسألونها قلت: وفي أخذ هذا الحكم م هذه القصة نظر، لاحتمال أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم اطلع على جلية أمرها أو أخبره بذلك من حضر مجلسه ممن يعرفها ومع هذا الاحتمال لا ينتهض الاستدلال به، وقد نص الشافعي على أنه ليس للحاكم أن يزوج امرأة حتى يشهد عدلان أنها ليس لها ولي خاص

(9/215)


ولا أنها في عصمة رجل ولا في عدته، لكن اختلف أصحابه هل هذا على سبيل الاشتراط أو الاحتياط، والثاني المصحح عندهم. وفيه أنه لا يشترط في صحة العقد تقدم الخطبة إذ لم يقع في شيء من طريق هذا الحديث وقوع حمد ولا تشهد ولا غيرهما من أركان الخطبة، وخالف في ذلك الظاهرية فجعلوها واجبة، ووافقهم من الشافعية أبو عوانة فترجم في صحيحه "باب وجوب الخطبة عند العقد" وفيه أن الكفاءة في الحرية وفي الدين وفي النسب لا في المال، لأن الرجل كان لا شيء له وقد رضيت به، كذا قاله ابن بطال، وما أدري من أين له أن المرأة كانت ذات مال. وفيه أن طالب الحاجة لا ينبغي له أن يلح في طلبها بل يطلبها برفق وتأن، ويدخل في ذلك طالب الدنيا والدين من مستفت وسائل وباحث عن علم. وفيه أن الفقير يجوز له نكاح من علمت بحاله ورضيت به إذا كان واجدا للمهر وكان عاجزا عن غيره من الحقوق، لأن المراجعة وقعت في وجدان المهر وفقده لا في قدر زائد قاله الباجي، وتعقب باحتمال أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم اطلع من حال الرجل على أنه يقدر على اكتساب قوته وقوت امرأته، ولا سيما مع ما كان عليه أهل ذلك العصر من قلة الشيء والقناعة باليسير. واستدل به على صحة النكاح بغير شهود، ورد بأن ذلك وقع بحضرة جماعة من الصحابة كما تقدم ظاهرا في أول الحديث. وقال ابن حبيب: هو منسوخ بحديث: "لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل" وتعقب. واستدل به على صحة النكاح بغير ولي وتعقب باحتمال أنه لم يكن لها ولي خاص والإمام ولي من لا ولي له. واستدل به على جواز استمتاع الرجل بشورة امرأته وما يشتري بصداقها لقوله: "إن لبسته" من أن النصف لها، ولم يمنعه مع ذلك من الاستمتاع بنصفه الذي وجب لها بل جوز له لبسه كله، وإنما وقع المنع لكونه لم يكن له ثوب آخر قاله أبو محمد بن أبي زيد، وتعقبه عياض وغيره بأن السياق يرشد إلى أن المراد تعذر الاكتفاء بنصف الإزار لا في إباحة لبسه كله، وما المانع أن يكون المراد أن كلا منهما يلبسه مهايأة لثبوت حقه فيه، لكن لما لم يكن للرجل ما يستتر به إذا جاءت نوبتها في لبسه قال له "إن لبسته جلست ولا إزار لك" وفيه نظر الإمام في مصالح رعيته وإرشاده إلى ما يصلحهم. وفي الحديث أيضا المراوضة في الصداق، وخطبة المرء لنفسه، وأنه لا يجب إعفاف المسلم بالنكاح كوجوب إطعامه الطعام والشراب؛ قال ابن التين بعد أن ذكر فوائد الحديث: فهذه إحدى وعشرون فائدة بوب البخاري على أكثرها. قلت: وقد فصلت ما ترجم به البخاري من غيره، ومن تأمل ما جمعته هنا علم أنه يزيد على ما ذكره مقدار ما ذكر أو أكثر. ووقع التنصيص على أن النبي صلى الله عليه وسلم زوج رجلا امرأة بخاتم من حديد، وهذا هو النكتة في ذكر الخاتم دون غيره من العروض أخرجه البغوي في "معجم الصحابة" من طريق القعنبي عن حسين بن عبد الله بن ضميرة عن أبيه عن جده "أن رجلا قال يا رسول الله أنكحني فلانة، قال: ما تصدقها؟ قال: ما معي شيء. قال: لمن هذا الخاتم؟ قال: لي، قال: فأعطها إياه، فأنكحه" وهذا وإن كان ضعيف السند لكنه يدخل في مثل هذه الأمهات.

(9/216)


52- باب الْمَهْرِ بِالْعُرُوضِ وَخَاتَمٍ مِنْ حَدِيدٍ
5150- حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِرَجُلٍ تَزَوَّجْ وَلَوْ بِخَاتَمٍ مِنْ حَدِيدٍ"
قوله: "باب المهر بالعروض وخاتم من حديد" العروض بضم العين والراء المهملتين جمع عرض بفتح أوله

(9/216)


وسكون ثانيه والضاد معجمة: ما يقابل النقد، وقوله بعده "وخاتم من حديد" هو من الخاص بعد العام، فإن الخاتم من حديد من جملة العروض، والترجمة مأخوذة من حديث الباب للخاتم بالتنصيص والعروض بالإلحاق، وتقدم في أوائل النكاح حديث ابن مسعود "فأرخص لنا أن تنكح المرأة بالثوب" وتقدم في الباب قبله عدة أحاديث في ذلك. قوله: "حدثنا يحيى" هو ابن موسى كما صح به ابن السكن وسفيان هو الثوري. قوله: "قال الرجل: تزوج ولو بخاتم من حديد" هذا مختصر من الحديث الطويل الذي قبله، وقد ذكرت من ساقه عن الثوري مطولا وهو عبد الرزاق، لكنه قرنه في روايته بمعمر، وأخرجه ابن ماجه من رواية سفيان الثوري أتم مما هنا، وقد ذكرت ما في روايته من فائدة زائده في الحديث الذي قبله، وتقدم من الكلام فيه ما يغني عن إعادته، والله أعلم.

(9/217)


53- باب الشُّرُوطِ فِي النِّكَاحِ
وَقَالَ عُمَرُ مَقَاطِعُ الْحُقُوقِ عِنْدَ الشُّرُوطِ وَقَالَ الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ صِهْرًا لَهُ فَأَثْنَى عَلَيْهِ فِي مُصَاهَرَتِهِ فَأَحْسَنَ قَالَ حَدَّثَنِي فَصَدَقَنِي وَوَعَدَنِي فَوَفَى لِي"
5151- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ حَدَّثَنَا لَيْثٌ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ عَنْ عُقْبَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : "أَحَقُّ مَا أَوْفَيْتُمْ مِنْ الشُّرُوطِ أَنْ تُوفُوا بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ"
قوله: "باب الشروط في النكاح" أي التي تحل وتعتبر، وقد ترجم في كتاب الشروط "الشروط في المهر عند عقدة النكاح" وأورد الأثر المعلق، والحديث الموصول المذكور هنا. قوله: "وقال عمر: مقاطع الحقوق عند الشروط" وصله سعيد بن منصور من طريق إسماعيل بن عبيد الله وهو ابن أبي المهاجر عن عبد الرحمن بن غنم قال: "كنت مع عمر حيث تمس ركبتي ركبته. فجاءه رجل فقال: يا أمير المؤمنين تزوجت هذه وشرطت لها دارها، وإني أجمع لأمري - أو لشأني - أن أنتقل إلى أرض كذا وكذا، فقال: لها شرطها. فقال الرجل: هلك الرجال إذ لا تشاء امرأة أن تطلق زوجها إلا طلقت. فقال عمر: المؤمنون على شروطهم، عند مقاطع حقوقهم" وتقدم في الشروط من وجه آخر عن ابن أبي المهاجر نحوه وقال في آخر "فقال عمر: إن مقاطع الحقوق عند الشروط، ولها ما اشترطت". قوله:" وقال المسور بن مخرمة سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ذكر صهرا له فأثنى عليه" تقدم موصولا في المناقب في ذكر أبي العاص بن الربيع وهو الصهر المذكور وبينت هناك نسبه والمراد بقوله حدثني فصدقني" وسيأتي شرحه مستوفى في أبواب الغيرة في أواخر كتاب النكاح، والغرض منه هنا ثناء النبي صلى الله عليه وسلم عليه لأجل وفائه بما شرط له. قوله: "حدثنا أبو الوليد" هو الطيالسي. قوله: "عن يزيد بن أبي حبيب" تقدم في الشروط عن عبد الله بن يوسف عن الليث "حدثني يزيد بن أبي حبيب". قوله: "عن أبي الخير" هو مرثد بن عبد الله اليزني، وعقبة هو ابن عامر الجهني. قوله: "أحق ما أوفيتم من الشروط أن توفوا به" في رواية عبد الله بن يوسف "أحق الشروط أن توفوا به" وفي رواية مسلم من طريق عبد الحميد بن جعفر عن يزيد بن أبي حبيب أنه "أحق الشروط أن يوفى به". قوله: "ما استحللتم به الفروج" أي أحق الشروط بالوفاء شروط النكاح لأن أمره أحوط وبابه أضيق. وقال الخطابي: الشروط في النكاح مختلفة، فمنها ما يجب الوفاء به اتفاقا وهو ما أمر الله به من إمساك بمعروف

(9/217)


أو تسريح بإحسان، وعليه حمل بعضهم هذا الحديث. ومنها ما لا يوفى به اتفاقا كسؤال طلاق أختها، وسيأتي حكمه في الباب الذي يليه. ومنها ما اختلف فيه كاشتراط أن لا يتزوج عليها أو لا يتسرى أو لا ينقلها من منزلها إلى منزله. وعند الشافعية الشروط في النكاح على ضربين: منها ما يرجع إلى الصداق فيجب الوفاء به، وما يكون خارجا عنه فيختلف الحكم فيه، فمنه ما يتعلق الزوج وسيأتي بيانه، ومنه ما يشترطه العاقد لنفسه خارجا عن الصداق وبعضهم يسميه الحلوان، فقيل هو للمرأة مطلقا وهو قول عطاء وجماعة من التابعين وبه قال الثوري وأبو عبيد، وقيل هو لمن شرطه قاله مسروق وعلي بن الحسين، وقيل يختص ذلك بالأب دون غيره من الأولياء. وقال الشافعي إن وقع نفس العقد وجب للمرأة مهر مثلها، وإن وقع خارجا عنه لم يجب. وقال مالك إن وقع في حال العقد فهو من جملة المهر، أو خارجا عنه فهو لمن وهب له، وجاء ذلك في حديث مرفوع أخرجه النسائي من طريق ابن جريج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو بن العاص "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أيما امرأة نكحت على صداق أو حياء أو عدة قبل عصمة النكاح فهو لها، فما كان بعد عصمة النكاح فهو لمن أعطيه، وأحق ما أكرم به الرجل ابنته أو أخته، وأخرجه البيهقي من طريق حجاج بن أرطاة عن عمرو بن شعيب عن عروة عن عائشة نحوه. وقال الترمذي بعد تخريجه: والعمل على هذا عند بعض أهل العلم من الصحابة منهم عمر قال: "إذا تزوج الرجل المرأة وشرط أن لا يخرجها لزم" وبه يقول الشافعي وأحمد وإسحاق، كذا قال، والنقل في هذا عن الشافعي غريب، بل الحديث عندهم محمول على الشرط التي لا تنافي مقتضى النكاح بل تكون من مقتضياته ومقاصده كاشتراطه العشرة بالمعروف والإنفاق والكسوة والسكنى وأن لا يقصر في شيء من حقها من قسمة ونحوها، وكشرطه عليها ألا تخرج إلا بإذنه ولا تمنعه نفسها ولا تتصرف في متاعه إلا برضاه ونحو ذلك، وأما شرط ينافي مقتضى النكاح كأن لا يقسم لها أو لا يتسرى عليها أو لا ينفق أو نحو ذلك فلا يجب الوفاء به بل إن وقع في صلب العقد كفى وصح النكاح بمهر المثل، وفي وجه يجب المسمى ولا أثر للشرط، وفي قول للشافعي يبطل النكاح. وقال أحمد وجماعة: يجب الوفاء بالشرط مطلقا. وقد استشكل ابن دقيق العيد حمل الحديث على الشروط التي هي من مقتضيات النكاح قال: تلك الأمور لا تؤثر الشروط في إيجابها، فلا تشتد الحاجة إلى تعليق الحكم باشتراطها، وسياق الحديث يقتضي خلاف ذلك، لأن لفظ: "أحق الشروط" "يقتضي أن يكون بعض الشروط يقتضي الوفاء بها وبعضها أشد اقتضاء، والشروط هي من مقتضى العقد مستوية في وجوب الوفاء بها. قال الترمذي: وقال علي سبق شرط الله شرطها، قال: وهو قول الثوري وبعض أهل الكوفة، والمراد في الحديث الشروط الجائزة لا المنهي عنها ا هـ. وقد اختلف عن عمر، فروى ابن وهب بإسناد جيد عن عبيد بن السباق "أن رجلا تزوج امرأة فشرط لها أن لا يخرجها من دارها، فارتفعوا إلى عمر فوضع الشرط وقال: المرأة مع زوجها" قال أبو عبيد: تضادت الروايات عن عمر في هذا، وقد قال بالقول الأول عمرو بن العاص، ومن التابعين طاوس وأبو الشعثاء وهو قول الأوزاعي وقال الليث والثوري والجمهور بقول علي حتى لو كان صداق مثلها مائة مثلا فرضيت بخمسين على أن لا يخرجها فله إخراجها ولا يلزمه إلا المسمى وقالت الحنفية: لها أن ترجع عليه بما نقصته له من الصداق. وقال الشافعي: يصح النكاح ويلغو الشرط ويلزمه مهر المثل وعنه يصح وتستحق الكل. وقال أبو عبيد: والذي نأخذ به أنا نأمره بالوفاء بشرطه من غير أن يحكم عليه بذلك. قال: وقد أجمعوا على أنها لو اشترطت عليه أن لا يطأها لم يجب الوفاء بذلك الشرط فكذلك هذا

(9/218)


ومما يقوي حمل حديث عقبة على الندب ما سيأتي في حديث عائشة في قصة بريرة "كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل" والوطء والإسكان وغيرهما من حقوق الزوج إذا شرط عليه إسقاط شيء منها كان شرطا ليس في كتاب الله فيبطل، وقد تقدم في البيوع الإشارة إلى حديث: "المسلمون عند شروطهم، إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا" وحديث: "المسلمون عند شرطهم ما وافق الحق" وأخرج الطبراني في "الصغير" بإسناد حسن عن جابر "أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب أم مبشر بنت البراء بن معرور فقالت: إني شرطت لزوجي أن لا أتزوج بعده، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن هذا لا يصلح" وقد ترجم المحب الطبري على هذا الحديث: "استحباب تقدمة شيء من المهر قبل الدخول" وفي انتزاعه من الحديث المذكور غموض، والله أعلم.

(9/219)


54- باب الشُّرُوطِ الَّتِي لاَ تَحِلُّ فِي النِّكَاحِ، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ لاَ تَشْتَرِطْ الْمَرْأَةُ طَلاَقَ أُخْتِهَا
5152- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ زَكَرِيَّاءَ هُوَ ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لاَ يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تَسْأَلُ طَلاَقَ أُخْتِهَا لِتَسْتَفْرِغَ صَحْفَتَهَا فَإِنَّمَا لَهَا مَا قُدِّرَ لَهَا"
قوله: "باب الشروط التي لا تحل في النكاح" في هذه الترجمة إشارة إلى تخصيص الحديث الماضي في عموم الحث على الوفاء بالشرط بما يباح لا بما نهى عنه، لأن الشروط الفاسدة لا يحل الوفاء بها فلا يناسب الحث عليها. قوله: "وقال ابن مسعود لا تشترط المرأة طلاق أختها" كذا أورده معلقا عن ابن مسعود، وسأبين أن هذا اللفظ بعينه وقع في بعض طرق الحديث المرفوع عن أبي هريرة، ولعله لما لم يقع له اللفظ مرفوعا أشار إليه في المعلق إيذانا بأن المعنى واحد. قوله: "لا يحل لامرأة تسأل طلاق أختها لتستفرغ صحفتها، فإنما لها ما قدر لها" هكذا أورده البخاري بهذا اللفظ، وقد أخرجه أبو نعيم في "المستخرج" من طريق ابن الجنيد عن عبيد الله بن موسى شيخ البخاري فيه بلفظ: "لا يصلح لامرأة أن تشترط طلاق أختها لتكفئ إناءها" وكذلك أخرجه البيهقي من طريق أبي حاتم الرازي عن عبيد الله بن موسى لكن قال: "لا ينبغي" بدل "لا يصلح" وقال: "لتكفئ"، وأخرجه الإسماعيلي من طريق يحيى بن زكرياء بن أبي زائدة عن أبيه بلفظ ابن الجنيد لكن قال: "لتكفئ" فهذا هو المحفوظ من هذا الوجه من رواية أبي سلمة عن أبي هريرة. وأخرج البيهقي من طريق أحمد بن إبراهيم بن ملحان عن الليث عن جعفر بن ربيعة عن الأعرج عن أبي هريرة في حديث طويل أوله "إياكم والظن - وفيه - ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتستفرغ إناء صاحبتها ولتنكح، فإنما لها ما قدر لها" وهذا قريب من اللفظ الذي أورده البخاري هنا. وقد أخرج البخاري من أول الحديث إلى قوله: "حتى ينكح أو يترك" ونبهت على ذلك فيما تقدم قريبا في "باب لا يخطب على خطبة أخيه" فإما أن يكون عبيد الله بن موسى حدث به على اللفظين أو انتقل الذهن من متن إلى متن، وسيأتي في كتاب القدر من رواية أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة بلفظ: "لا تسأل المرأة طلاق أختها لتستفرغ صحفتها ولتنكح، فإنما لها ما قدر لها" وتقدم في البيوع من رواية الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة في حديث أوله "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيع حاضر لباد - وفي آخره - ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكفئ ما في إنائها".

(9/219)


قوله: "لا يحل" ظاهر في تحريم ذلك، وهو محمول على ما إذا لم يكن هناك سبب يجوز ذلك كريبة في المرأة لا ينبغي معها أن تستمر في عصمة الزوج ويكون ذلك على سبيل النصيحة المحضة أو لضرر يحصل لها من الزوج أو للزوج منها أو يكون سؤالها ذلك بعوض وللزوج رغبة في ذلك فيكون كالخلع مع الأجنبي إلى غير ذلك من المقاصد المختلفة. وقال ابن حبيب: حمل العلماء هذا النهي على الندب، فلو فعل ذلك لم يفسخ النكاح وتعقبه ابن بطال بأن نفي الحل صريح في التحريم، ولكن لا يلزم منه فسخ النكاح، وإنما فيه التغليظ على المرأة أن تسأل طلاق الأخرى، ولترض بما قسم الله لها. قوله: "أختها" قال النووي: معنى هذا الحديث نهي المرأة الأجنبية أن تسأل رجلا طلاق زوجته وأن يتزوجها هي فيصير لها من نفقته ومعروفه ومعاشرته ما كان للمطلقة، فعبر عن ذلك بقوله: "تكفئ ما في صحفتها، قال والمراد بأختها غيرها سواء كانت أختها من النسب أو الرضاع أو الدين، ويلحق بذلك الكافرة في الحكم وإن لم تكن أختا في الدين إما لأن المراد الغالب أو أنها أختها في الجنس الآدمي، وحمل ابن عبد البر الأخت هنا على الضرة فقال: فيه من الفقه أنه لا ينبغي أن تسأل المرأة زوجها أن يطلق ضرتها لتنفرد به، وهذا يمكن في الرواية التي وقعت بلفظ: "لا تسأل المرأة طلاق أختها"، وأما الرواية التي فيها لفظ الشرط فظاهرها أنها في الأجنبية ويؤيده قوله فيها "ولتنكح" أي ولتتزوج الزوج المذكور من غير أن يشترط أن يطلق التي قبلها، وعلى هذا فالمراد هنا بالأخت الأخت في الدين؛ ويؤيده زيادة ابن حبان في آخره من طريق أبي كثير عن أبي هريرة بلفظ: "لا تسأل المرأة طلاق أختها لتستفرغ صحفتها فإن المسلمة أخت المسلمة" وقد تقدم في "باب لا يخطب الرجل على خطبة أخيه" نقل الخلاف عن الأوزاعي وبعض الشافعية أن ذلك مخصوص بالمسلمة، وبه جزم أبو الشيخ في كتاب النكاح، ويأتي مثله هنا، ويجيء على رأي ابن القاسم أن يستثنى ما إذا كان المسئول طلاقها فاسقة، وعند الجمهور لا فرق. قوله: "لتستفرغ صحفتها" يفسر المراد بقوله: "تكتفئ" وهو بالهمز افتعال من كفأت الإناء إذا قلبته وأفرغت ما فيه، وكذا يكفأ وهو بفتح أوله وسكون الكاف وبالهمز، وجاء أكفأت الإناء إذا أملته وهو في رواية ابن المسيب "لتكفئ" بضم أوله من أكفأت وهي بمعنى أملته ويقال بمعنى أكببته أيضا، والمراد بالصحفة ما يحصل من الزوج كما تقدم من كلام النووي. وقال صاحب النهاية: الصحفة إناء كالقصعة المبسوطة، قال: وهذا مثل، يريد الاستئثار عليها بحظها فيكون كمن قلب إناء غيره في إنائه. وقال الطيبي: هذه استعارة مستملحة تمثيلية، شبه النصيب والبخت بالصحفة وحظوظها وتمتعاتها بما يوضع في الصحفة من الأطعمة اللذيذة، وشبه الافتراق المسبب عن الطلاق باستفراغ الصحفة عن تلك الأطعمة، ثم أدخل المشبه في جنس المشبه به واستعمل في المشبه ما كان مستعملا في المشبه به. قوله: "ولتنكح" بكسر اللام وبإسكانها وبسكون الحاء على الأمر، ويحتمل النصب عطفا على قوله: "لتكتفئ" فيكون تعليلا لسؤال طلاقها، ويتعين على هذا كسر اللام، ثم يحتمل أن المراد ولتنكح ذلك الرجل من غير أن تتعرض لإخراج الضرة من عصمته بل تكل الأمر في ذلك إلى ما يقدره الله، ولهذا ختم بقوله: "فإنما لها ما قدر لها" إشارة إلى أنها وإن سألت ذلك وألحت فيه واشترطته فإنه لا يقع من ذلك إلا ما قدره الله، فينبغي أن لا تتعرض هي لهذا المحذور الذي لا يقع منه شيء بمجرد إرادتها، وهذا مما يؤيد أن الأخت من النسب أو الرضاع لا تدخل في هذا، ويحتمل أن يكون المراد ولتنكح غيره وتعرض عن هذا الرجل، أو المراد ما يشمل الأمرين، والمعنى ولتنكح من تيسر لها فإن كانت التي قبلها أجنبية فلتنكح

(9/220)


الرجل المذكور وإن كانت أختها فلتنكح غيره، والله أعلم.

(9/221)


55- باب الصُّفْرَةِ لِلْمُتَزَوِّجِ، وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
5153- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِهِ أَثَرُ صُفْرَةٍ فَسَأَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ تَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنْ الأَنْصَارِ قَالَ كَمْ سُقْتَ إِلَيْهَا قَالَ زِنَةَ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ"
قوله: "باب الصفرة للمتزوج" كذا قيده بالمتزوج إشارة إلى الجمع بين حديث الباب وحديث النهي عن التزعفر للرجال، وسيأتي البحث فيه بعد أبواب. قوله: "رواه عبد الرحمن بن عوف عن النبي صلى الله عليه وسلم" يشير إلى حديثه الذي تقدم موصولا في أول البيوع قال: "لما قدمنا المدينة - فذكر الحديث بطوله وفيه - جاء عبد الرحمن بن عوف وعليه أثر صفرة فقال: تزوجت؟ قال نعم". أورد المصنف هذه القصة في هذا الباب من طريق مالك عن حميد مختصرة، وسيأتي شرحها في "باب الوليمة ولو بشاة" مستوفى إن شاء الله تعالى.

(9/221)


باب أولم النبي صلى الله عليه وسلم بزينب فأوسع المسلمين خيراً
...
56- باب 5154- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ أَوْلَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِزَيْنَبَ فَأَوْسَعَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا فَخَرَجَ كَمَا يَصْنَعُ إِذَا تَزَوَّجَ فَأَتَى حُجَرَ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ يَدْعُو وَيَدْعُونَ لَهُ ثُمَّ انْصَرَفَ فَرَأَى رَجُلَيْنِ فَرَجَعَ لاَ أَدْرِي آخْبَرْتُهُ أَوْ أُخْبِرَ بِخُرُوجِهِمَا"
قوله: "باب" كذا لهم بغير ترجمة "وسقط لفظ باب من رواية النسفي، وكذا من شرح ابن بطال، ثم استشكله بأن الحديث المذكور لا يتعلق بترجمة الصفرة للمتزوج، وأجيب بما ثبت في أكثر الروايات من لفظ: "باب" والسؤال باق فإن الإتيان بلفظ باب وإن كان بغير ترجمة لكنه كالفصل من الباب الذي قبله كما تقرر غير مرة، والحديث المذكور هنا حديث أنس "أولم النبي صلى الله عليه وسلم بزينب" يعني بنت جحش أورده مختصرا، وقد تقدم مطولا في تفسير سورة الأحزاب مع شرحه، ومناسبته للترجمة من جهة أنه لم يقع في قصة تزويج زينب بنت جحش ذكر للصفرة، فكأنه يقول: الصفرة للمتزوج من الجائز لا من المشروط لكل متزوج

(9/221)


57- باب كَيْفَ يُدْعَى لِلْمُتَزَوِّجِ
5155- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ هُوَ ابْنُ زَيْدٍ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَثَرَ صُفْرَةٍ قَالَ مَا هَذَا قَالَ إِنِّي تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً عَلَى وَزْنِ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ قَالَ بَارَكَ اللَّهُ لَكَ أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ"
قوله: "باب كيف يدعى للمتزوج" ذكر فيه قصة تزويج عبد الرحمن بن عوف مختصرة من طريق ثابت عن أنس وفيه: "قال بارك الله لك" قال ابن بطال: إنما أراد بهذا الباب والله أعلم رد قول العامة عند العرس بالرفاء والبنين

(9/221)


58- باب الدُّعَاءِ لِلنِّسَاءِ اللاَتِي يَهْدِينَ الْعَرُوسَ وَلِلْعَرُوسِ
5156- حَدَّثَنَا فَرْوَةُ بْنُ أَبِي الْمَغْرَاءِ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَزَوَّجَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَتْنِي أُمِّي فَأَدْخَلَتْنِي الدَّارَ فَإِذَا نِسْوَةٌ مِنْ الأَنْصَارِ فِي الْبَيْتِ فَقُلْنَ عَلَى الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ وَعَلَى خَيْرِ طَائِرٍ"
قوله: "باب الدعاء للنسوة اللاتي يهدين العروس وللعروس" في رواية الكشميهني للنساء بدل النسوة، وأورد

(9/222)


فيه حديث عائشة "تزوجني صلى الله عليه وسلم فأتتني أمي فأدخلتني الدار، فإذا نسوة من الأنصار فقلن: على الخير والبركة" وهو مختصر من حديث مطول تقدم بتمامه بهذا السند بعينه في "باب تزويج عائشة" قبيل أبواب الهجرة إلى المدينة، وظاهر هذا الحديث مخالف للترجمة فإن فيه دعاء النسوة لمن أهدى العروس لا الدعاء لهن، وقد استشكله ابن التين فقال: لم يذكر في الباب الدعاء للنسوة، ولعله أراد كيف صفة دعائهن للعروس، لكن اللفظ لا يساعد على ذلك. وقال الكرماني: الأم هي الهادية للعروس المجهزة فهن دعون لها ولمن معها وللعروس حيث قلن على الخير جئتن أو قدمتن على الخير، قال: ويحتمل أن تكون اللام في النسوة للاختصاص أي الدعاء المختص بالنسوة اللاتي يهدين، ولكن يلزم منه المخالفة بين اللام التي للعروس لأنها بمعنى المدعو لها والتي في النسوة لأنها الداعية، وفي جواز مثله خلاف، انتهى. والجواب الأول أحسن ما توجه به الترجمة، وحاصله أن مراد البخاري بالنسوة من يهدي العروس سواء كن قليلا أو كثيرا وأن من حضر ذلك يدعو لمن أحضر العروس، ولم يرد الدعاء للنسوة الحاضرات في البيت قبل أن تأتي العروس، ويحتمل أن تكون اللام بمعنى الباء على حذف أي المختص بالنسوة، ويحتمل أن الألف واللام بدل من المضاف إليه والتقدير دعاء النسوة الداعيات للنسوة المهديات، ويحتمل أن تكون بمعنى من أي الدعاء الصادر من النسوة، وعند أبي الشيخ في كتاب النكاح من طريق يزيد بن حفصة عن أبيه عن جده "أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بجوار بناحية بني جدرة وهن يقلن: فحيونا نحييكم، فقال: قلن حيانا الله وحياكم" فهذا فيه دعاء للنسوة اللاتي يهدين العروس وقوله: "يهدين" بفتح أوله من الهداية وبضمه من الهدية، ولما كانت العروس تجهز من عند أهلها إلى الزوج احتاجت إلى من يهديها الطريق إليه أو أطلقت عليها أنها هدية فالضبط بالوجهين على هذين المعنيين وأما قوله: "وللعروس" فهو اسم للزوجين عند أول اجتماعهما يشمل الرجل والمرأة، وهو داخل في قول النسوة على الخير والبركة فإن ذلك يشمل المرأة وزوجها، ولعله أشار إلى ما ورد في بعض طرق حديث عائشة كما نبهت عليه هناك، وفيه أن أمها لما أجلستها في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: هؤلاء أهلك يا رسول الله، بارك الله لك فيهم. وقوله في حديث الباب: "فإذا نسوة من الأنصار" سمى منهن أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية فقد أخرج جعفر المستغفري من طريق يحيى بن أبي كثير عن كلاب بن تلاد عن تلاد عن أسماء مقينة عائشة قالت: "لما أقعدنا عائشة لنجليها على رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءنا فقرب إلينا تمرا ولبنا الحديث". وأخرج أحمد والطبراني هذه القصة من حديث أسماء بنت يزيد بن السكن، ووقع في رواية للطبراني أسماء بنت عميس ولا يصح لأنها حينئذ كانت مع زوجها جعفر بن أبي طالب بالحبشة، والمقينة بقاف ونون التي تزين العروس عند دخولها على زوجها.

(9/223)


59- باب مَنْ أَحَبَّ الْبِنَاءَ قَبْلَ الْغَزْوِ
5157- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "غَزَا نَبِيٌّ مِنْ الأَنْبِيَاءِ فَقَالَ لِقَوْمِهِ لاَ يَتْبَعْنِي رَجُلٌ مَلَكَ بُضْعَ امْرَأَةٍ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَبْنِيَ بِهَا وَلَمْ يَبْنِ بِهَا"
قوله: "باب من أحب البناء" أي بزوجته التي لم يدخل بها "قبل الغزو" أي إذا حضر الجهاد ليكون فكره

(9/223)


مجتمعا. حديث أبي هريرة الماضي في كتاب الجهاد ثم في فرض الخمس، وقد شرحته فيه وبينت الاختلاف في اسم النبي الذي غزا هل هو يوشع أو داود، قال ابن المنير. يستفاد منه الرد على العامة في تقديمهم الحج على الزواج ظنا منهم أن التعفف إنما يتأكد بعد الحج، بل الأولى أن يتعفف ثم يحج.

(9/224)


60- باب مَنْ بَنَى بِامْرَأَةٍ وَهِيَ بِنْتُ تِسْعِ سِنِينَ
5158- حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ بْنُ عُقْبَةَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ عُرْوَةَ تَزَوَّجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَائِشَةَ وَهِيَ بِنْتُ سِتِّ سِنِينَ وَبَنَى بِهَا وَهِيَ بِنْتُ تِسْعٍ وَمَكَثَتْ عِنْدَهُ تِسْعًا"
قوله: "باب من بنى بامرأة وهي بنت تسع سنين" ذكر فيه حديث عائشة في ذلك، وقد تقدم شرحه في مناقبها حديث عائشة في ذلك، قد تقدم شرحه في مناقبها"

(9/224)


61 - باب الْبِنَاءِ فِي السَّفَرِ
5159- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ أَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ خَيْبَرَ وَالْمَدِينَةِ ثَلاَثًا يُبْنَى عَلَيْهِ بِصَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ فَدَعَوْتُ الْمُسْلِمِينَ إِلَى وَلِيمَتِهِ فَمَا كَانَ فِيهَا مِنْ خُبْزٍ وَلاَ لَحْمٍ أَمَرَ بِالأَنْطَاعِ فَأُلْقِيَ فِيهَا مِنْ التَّمْرِ وَالأَقِطِ وَالسَّمْنِ فَكَانَتْ وَلِيمَتَهُ فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ أَوْ مِمَّا مَلَكَتْ يَمِينُهُ فَقَالُوا إِنْ حَجَبَهَا فَهِيَ مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ وَإِنْ لَمْ يَحْجُبْهَا فَهِيَ مِمَّا مَلَكَتْ يَمِينُهُ فَلَمَّا ارْتَحَلَ وَطَّى لَهَا خَلْفَهُ وَمَدَّ الْحِجَابَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّاسِ"
قوله: "باب البناء" أي بالمرأة "في السفر" ذكر فيه حديث أنس في قصة صفية بنت حيي، وقد تقدم في أول النكاح. حديث أنس في قصة صفية بنت حيي، وقد تقدم في أول النكاح. وقوله: "ثلاثا يبنى عليه بصفية" أي تجلى عليه، وفيه إشارة إلى أن سنة الإقامة عند الثيب لا تختص بالحضر ولا تتقيد بمن له امرأة غيرها. ويؤخذ منه جواز تأخير الأشغال العامة للشغل الخاص إذا كان لا يفوت به غرض، والاهتمام بوليمة العرس وإقامة سنة النكاح بإعلامه وغير ذلك مما تقدم ويأتي إن شاء الله تعالى.

(9/224)


62- باب الْبِنَاءِ بِالنَّهَارِ بِغَيْرِ مَرْكَبٍ وَلاَ نِيرَانٍ
5160- حَدَّثَنِي فَرْوَةُ بْنُ أَبِي الْمَغْرَاءِ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ تَزَوَّجَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَتْنِي أُمِّي فَأَدْخَلَتْنِي الدَّارَ فَلَمْ يَرُعْنِي إِلاَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضُحًى"
قوله: "باب البناء بالنهار بغير مركب ولا نيران" ذكر فيه طرفا من حديث عائشة في تزويج النبي بها، وأشار بقوله بالنهار إلى أن الدخول على الزوجة لا يختص بالليل، وبقوله: "وبغير مركب ولا نيران" إلى ما أخرجه سعيد بن منصور - ومن طريقه أبو الشيخ في كتاب النكاح - من طريق عروة بن رويم "أن عبد الله بن قرظ الثمالي وكان عامل عمر على حمص مرت به عروس وهم يوقدون النيران بين يديها فضربهم بدرته حتى تفرقوا عن عروسهم، ثم خطب فقال: أن عروسكم أوقدوا النيران وتشبهوا بالكفرة والله مطفئ نورهم

(9/224)


63- باب الأَنْمَاطِ وَنَحْوِهَا لِلنِّسَاءِ
5161- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هَلْ اتَّخَذْتُمْ أَنْمَاطًا قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَنَّى لَنَا أَنْمَاطٌ قَالَ إِنَّهَا سَتَكُونُ"
قوله: "باب الأنماط ونحوه للنساء" أي من الكلل والأستار والفرش وما في معناه، والأنماط جمع نمط بفتح النون والميم تقدم بيانه في علامات النبوة، وقوله: "ونحوه" أعاد الضمير مفردا على مفرد الأنماط، وتقدم بيان وجه الاستدلال على الجواز من هذا الحديث، ولعل المصنف أشار إلى ما أخرجه مسلم من حديث عائشة قالت: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاته فأخذت نمطا فنشرته على الباب فلما قدم فرأى النمط عرفت الكراهة في وجهه فجذبه حتى هتكه فقال: إن الله لم يأمرنا أن نكسو الحجارة والطين، قال فقطعت منه وسادتين فلم يعب ذلك علي" فيؤخذ منه أن الأنماط لا يكره اتخاذها لذاتها بل لما يصنع بها، وسيأتي البحث في ستر الجدر في "باب هل يرجع إذا رأى منكرا" من أبواب الوليمة قال ابن بطال: يؤخذ من الحديث إن المشورة للمرأة دون الرجل، لقول جابر لامرأته "أخري عني أنماطك" كذا قال، ولا دلالة في ذلك لأنها كانت لامرأة جابر حقيقة فلذلك أضافها لها، وإلا ففي نفس الحديث أنه "ستكون لكم أنماط" فأضافها إلى أعم من ذلك، وهو الذي استدلت به امرأة جابر على الجواز، قال: وفيه أن مشورة النساء للبيوت من الأمر القديم المتعارف، كذا قال، وبعكر عليه حديث عائشة وسيأتي البحث فيه.

(9/225)


باب النسوة التي يهدين المرأة إلى زوجها ودعائهن بالبركة
...
64- باب النِّسْوَةِ اللاَتِي يَهْدِينَ الْمَرْأَةَ إِلَى زَوْجِهَا وَدُعَائِهِنَّ بِالْبَرَكَةِ
5162- حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ يَعْقُوبَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَابِقٍ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا زَفَّتْ امْرَأَةً إِلَى رَجُلٍ مِنْ الأَنْصَارِ فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا عَائِشَةُ مَا كَانَ مَعَكُمْ لَهْوٌ فَإِنَّ الأَنْصَارَ يُعْجِبُهُمْ اللَّهْوُ"
قوله: "باب النسوة التي يهدين المرأة إلى زوجها" في رواية الكشميهني: "اللاتي" بصيغة الجمع وهو أولى. قوله: "ودعائهن بالبركة" ثبتت هذه الزيادة في رواية أبي ذر وحده وسقطت لغيره، ولم يذكر هنا الإسماعيلي ولا أبو نعيم ولا وقع في حديث عائشة الذي ذكره المصنف في الباب ما يتعلق بها، لكن إن كانت محفوظة فلعله أشار إلى ما ورد في بعض طرق حديث عائشة، وذلك فيما أخرجه أبو الشيخ في كتاب النكاح من طريق بهية "عن عائشة أنها زوجت يتيمة كانت في حجرها رجلا من الأنصار، قالت وكنت فيمن أهداها إلى زوجها، فلما رجعنا قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما قلتم يا عائشة؟ قالت قلت سلمنا ودعونا الله بالبركة ثم انصرفنا". قوله: "إنها زفت امرأة إلى رجل من الأنصار" لم أقف على اسمها صريحا وقد تقدم أن المرأة كانت يتيمة في حجر عائشة، وكذا للطبراني في "الأوسط" من طريق شريك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، ووقع عند ابن ماجه من حديث ابن عباس "أنكحت عائشة قرابة لها" ولأبي الشيخ من حديث جابر "أن عائشة زوجت بنت أخيها أو ذات قرابة منها" وفي "أمالي

(9/225)


المحاملي" من وجه آخر عن جابر "نكح بعض أهل الأنصار بعض أهل عائشة فأهدتها إلى قباء" وكنت ذكرت في المقدمة تبعا لابن الأثير في "أسد الغابة" فإنه قال إن اسم هذه اليتيمة المذكورة في حديث عائشة الفارعة بنت أسعد بن زرارة، وأن اسم زوجها نبيط بن جابر الأنصاري. وقال في ترجمة الفارعة: أن أباها أسعد بن زرارة أوصى بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم نبيط بن جابر، ثم ساق من طريق المعافى بن عمران الموصلي حديث عائشة الذي ذكرته أولا من طريق بهية عنها ثم قال: "هذه اليتيمة هي الفارعة المذكورة" كذا قال، وهو محتمل، لكن منع من تفسيرها بها ما وقع من الزيادة أنها كانت قرابة عائشة فيجوز التعدد، ولا يبعد تفسير المبهمة في حديث الباب بالفارعة إذ ليس فيه تقييد بكونها قرابة عائشة. قوله: "ما كان معكم لهو" في رواية شريك فقال: فهل بعثتم معها جارية تضرب بالدف وتغني؟ قلت: تقول ماذا؟ قال تقول:
أتيناكم أتيناكم
فحيانا وحياكم
ولولا الذهب الأحم
ر ما حلت بواديكم
ولولا الحنطة السمرا
ء ما سمنت عذاريكم
وفي حديث جابر بعضه، وفي حديث ابن عباس أوله إلى قوله: "وحياكم". قوله: "فإن الأنصار يعجبهم اللهو" في حديث ابن عباس وجابر "قوم فيهم غزل" وفي حديث جابر عند المحاملي" أدركيها يا زينب، امرأة كانت تغني بالمدينة، ويستفاد منه تسمية المغنية الثانية في القصة التي وقعت في حديث عائشة الماضي في العيدين حيث جاء فيه: "دخل عليها وعندها جاريتان تغنيان" وكنت ذكرت هناك أن اسم إحداهما حمامة كما ذكره ابن أبي الدنيا في "كتاب العيدين" له بإسناد حسن، وأني لم أقف على اسم الأخرى، وقد جوزت الآن أن تكون هي زينب هذه. وأخرج النسائي من طريق عامر بن سعد عن قرظة بن كعب وأبي مسعود الأنصاريين قال: "أنه رخص لنا في اللهو عند العرس" الحديث وصححه الحاكم، وللطبراني من حديث السائب بن يزيد عن النبي صلى الله عليه وسلم: "وقيل له أترخص في هذا؟ قال: نعم، إنه نكاح لا سفاح، أشيدوا النكاح" وفي حديث عبد الله بن الزبير عند أحمد وصححه ابن حبان والحاكم "أعلنوا النكاح" زاد الترمذي وابن ماجه من حديث عائشة "واضربوا عليه بالدف" وسنده ضعيف، ولأحمد والترمذي والنسائي من حديث محمد بن حاطب "فصل ما بين الحلال والحرام الضرب بالدف" واستدل بقوله: "واضربوا" على أن ذلك لا يختص بالنساء لكنه ضعيف، والأحاديث القوية فيها الإذن في ذلك للنساء فلا يلتحق بهن الرجال لعموم النهي عن التشبه بهن.

(9/226)


65- باب الْهَدِيَّةِ لِلْعَرُوسِ
5163- وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ واسْمُهُ الْجَعْدُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ مَرَّ بِنَا فِي مَسْجِدِ بَنِي رِفَاعَةَ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا مَرَّ بِجَنَبَاتِ أُمِّ سُلَيْمٍ دَخَلَ عَلَيْهَا فَسَلَّمَ عَلَيْهَا ثُمَّ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرُوسًا بِزَيْنَبَ فَقَالَتْ لِي أُمُّ سُلَيْمٍ لَوْ أَهْدَيْنَا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَدِيَّةً فَقُلْتُ لَهَا افْعَلِي فَعَمَدَتْ إِلَى تَمْرٍ وَسَمْنٍ وَأَقِطٍ فَاتَّخَذَتْ حَيْسَةً فِي بُرْمَةٍ فَأَرْسَلَتْ بِهَا مَعِي إِلَيْهِ فَانْطَلَقْتُ بِهَا إِلَيْهِ فَقَالَ لِي ضَعْهَا ثُمَّ أَمَرَنِي فَقَالَ:

(9/226)


ادْعُ لِي رِجَالًا سَمَّاهُمْ وَادْعُ لِي مَنْ لَقِيتَ قَالَ فَفَعَلْتُ الَّذِي أَمَرَنِي فَرَجَعْتُ فَإِذَا الْبَيْتُ غَاصٌّ بِأَهْلِهِ فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى تِلْكَ الْحَيْسَةِ وَتَكَلَّمَ بِهَا مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ جَعَلَ يَدْعُو عَشَرَةً عَشَرَةً يَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَقُولُ لَهُمْ اذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ وَلْيَأْكُلْ كُلُّ رَجُلٍ مِمَّا يَلِيهِ قَالَ حَتَّى تَصَدَّعُوا كُلُّهُمْ عَنْهَا فَخَرَجَ مِنْهُمْ مَنْ خَرَجَ وَبَقِيَ نَفَرٌ يَتَحَدَّثُونَ قَالَ وَجَعَلْتُ أَغْتَمُّ ثُمَّ خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَ الْحُجُرَاتِ وَخَرَجْتُ فِي إِثْرِهِ فَقُلْتُ إِنَّهُمْ قَدْ ذَهَبُوا فَرَجَعَ فَدَخَلَ الْبَيْتَ وَأَرْخَى السِّتْرَ وَإِنِّي لَفِي الْحُجْرَةِ وَهُوَ يَقُولُ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لاَ يَسْتَحْيِي مِنْ الْحَقِّ} قَالَ أَبُو عُثْمَانَ قَالَ أَنَسٌ إِنَّهُ خَدَمَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ سِنِينَ"
قوله: "باب الهدية للعروس" أي صبيحة بنائه بأهله. قوله: "وقال إبراهيم" ابن طهمان "عن أبي عثمان واسمه الجعد عن أنس بن مالك قال: مر بنا في مسجد بني رفاعة" يعني بالبصرة قال: "فسمعته يقول: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا مر بجنبات أم سليم" كذا فيه، والجنبات بفتح الجيم والنون ثم موحدة جمع جنبة وهي الناحية. قوله: "دخل عليها فسلم عليها" هذا القدر من هذا الحديث مما تفرد به إبراهيم بن طهمان عن أبي عثمان في هذا الحديث، وشاركه في بقيته جعفر بن سليمان ومعمر بن راشد كلاهما عن أبي عثمان أخرجه مسلم من حديثهما، ولم يقع لي موصولا من حديث إبراهيم بن طهمان إلا أن بعض من لقيناه من الشراح زعم أن النسائي أخرجه عن أحمد بن حفص بن عبد الله بن راشد عن أبيه عنه، ولم أقف على ذلك بعد. قوله: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عروسا بزينب" يعني بنت جحش، وقد تقدم بيان آيته صلى الله عليه وسلم في تكثير الطعام واضحا في علامات النبوة، وقد استشكل عياض ما وقع في هذا الحديث من أن الوليمة بزينب بنت جحش كانت من الحيس الذي أهدته أم سليم، وأن المشهور من الروايات أنه أولم عليها بالخبز واللحم، ولم يقع في القصة تكثير ذلك الطعام وإنما فيه: "أشبع المسلمين خبزا ولحما" وذكر في حديث الباب أن أنسا قال: "فقال لي ادع رجالا سماهم وادع من لقيت، وأنه أدخلهم ووضع صلى الله عليه وسلم يده على تلك الحيسة وتكلم بما شاء الله، ثم جعل يدعو عشرة عشرة حتى تصدعوا كلهم عنها" يعني تفرقوا، قال عياض: هذا وهم من راويه وتركيب قصة على أخرى. وتعقبه القرطبي بأنه لا مانع من الجمع بين الروايتين، والأولى أن يقال لا وهم في ذلك، فلعل الذين دعوا إلى الخبز واللحم فأكلوا حتى شبعوا وذهبوا لم يرجعوا، ولما بقي النفر الذين كانوا يتحدثون جاء أنس بالحيسة فأمر بأن يدعو ناسا آخرين ومن لقي فدخلوا فأكلوا أيضا حتى شبعوا، واستمر أولئك النفر يتحدثون. وهو جمع لا بأس به، وأولى منه أن يقال إن حضور الحيسة صادف حضور الخبز واللحم فأكلوا كلهم من كل ذلك. وعجبت من إنكار عياض وقوع تكثير الطعام في قصة الخبز واللحم مع أن أنسا يقول إنه أولم عليها بشاة كما سيأتي قريبا ويقول إنه أشبع المسلمين خبزا ولحما. وما الذي يكون قدر الشاة حتى يشبع المسلمين جميعا وهم يومئذ نحو الألف لولا البركة التي حصلت من جملة آياته صلى الله عليه وسلم في تكثير الطعام. وقوله فيه: "وبقي نفر يتحدثون"

(9/227)


تقدم بيان عدتهم في تفسير سورة الأحزاب. وقوله: "وجعلت أغتم" هو من الغم، وسببه ما فهمه من النبي صلى الله عليه وسلم من حيائه من أن يأمرهم بالقيام ومن غفلتهم بالتحدث عن العمل عما يليق من التخفيف حينئذ، وقوله في آخره: "قال أبو عثمان قال أنس: إنه خدم النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين" تقدم بيانه قبل قليل، وسيأتي الإلمام به أيضا في كتاب الأدب إن شاء الله تعالى.

(9/228)


66- باب اسْتِعَارَةِ الثِّيَابِ لِلْعَرُوسِ وَغَيْرِهَا
5164- حَدَّثَنِي عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا اسْتَعَارَتْ مِنْ أَسْمَاءَ قِلاَدَةً فَهَلَكَتْ فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِهِ فِي طَلَبِهَا فَأَدْرَكَتْهُمْ الصَّلاَةُ فَصَلَّوْا بِغَيْرِ وُضُوءٍ فَلَمَّا أَتَوْا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَكَوْا ذَلِكَ إِلَيْهِ فَنَزَلَتْ آيَةُ التَّيَمُّمِ فَقَالَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ جَزَاكِ اللَّهُ خَيْرًا فَوَاللَّهِ مَا نَزَلَ بِكِ أَمْرٌ قَطُّ إِلاَّ جَعَلَ اللَّهُ لَكِ مِنْهُ مَخْرَجًا وَجُعِلَ لِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ بَرَكَةٌ"
قوله: "باب استعارة الثياب للعروس وغيرها" أي وغير الثياب، ذكر فيه حديث عائشة أنها استعارت من أسماء قلادة، وقد تقدم شرحه مستوفى في كتاب التيمم، ووجه الاستدلال به من جهة المعنى الجامع بين القلادة وغيرها من أنواع الملبوس الذي يتزين به للزوج أعم من أن يكون عند العرس أو بعده، وقد تقدم في كتاب الهبة لعائشة حديث أخص من هذا وهو قولها "كان لي منهن - أي من الدروع القطنية - درع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما كانت امرأة تقين بالمدينة - أي تتزين - إلا أرسلت إلى تستعيره" وترجم عليه "الاستعارة للعرس عند البناء" وينبغي استحضار هذه الترجمة وحديثها هنا. حديث عائشة أنها استعارت من أسماء قلادة، قد تقدم شرحه مستوفى في كتاب التيمم، ووجه الاستدلال به من جهة المعنى الجامع بين القلادة وغيرها من أنواع الملبوس الذي يتزين به للزوج أعم من أن يكون عند العرس أو بعده، وقد تقدم في كتاب الهبة لعائشة حديث أخص من هذا وهو قولها "كان لي منهن - أي من الدروع القطنية - درع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما كانت امرأة تقين بالمدينة - أي تتزين - إلا أرسلت إلى تستعيره" وترجم عليه "الاستعارة للعرس عند البناء" وينبغي استحضار هذه الترجمة وحديثها هنا.

(9/228)


باب مايقول الرجل إذا أتى أهله
...
67- باب مَا يَقُولُ الرَّجُلُ إِذَا أَتَى أَهْلَهُ
5165- حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ كُرَيْبٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَمَا لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ يَقُولُ حِينَ يَأْتِي أَهْلَهُ بِاسْمِ اللَّهِ اللَّهُمَّ جَنِّبْنِي الشَّيْطَانَ وَجَنِّبْ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا ثُمَّ قُدِّرَ بَيْنَهُمَا فِي ذَلِكَ أَوْ قُضِيَ وَلَدٌ لَمْ يَضُرَّهُ شَيْطَانٌ أَبَدًا"
قوله: "باب ما يقول الرجل إذا أتى أهله" أي جامع. قوله: "عن شيبان" هو ابن عبد الرحمن النحوي، ومنصور هو ابن المعتمر، وفي الإسناد ثلاثة من التابعين في نسق هو أولهم. قوله: "أما لو أن أحدهم" كذا للكشميهني هنا، ولغيره بحذف "أن" وتقدم في بدء الخلق من رواية همام عن منصور بحذف "لو" ولفظه: "أما أن أحدكم إذا أتى أهله" وفي رواية جرير عن منصور عند أبي داود وغيره: "لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله" وهي مفسرة لغيرها من الروايات دالة على أن القول قبل الشروع. قوله: "حين يأتي أهله" في رواية إسرائيل عن منصور عند الإسماعيلي: "أما أن أحدكم لو يقول حين يجامع أهله" وهو ظاهر أن القول يكون مع الفعل، لكن يمكن حمله على المجاز، وعنده في رواية روح بن القاسم عن منصور "لو أن أحدهم إذا جامع امرأته ذكر الله". قوله:

(9/228)


68- باب الْوَلِيمَةُ حَقٌّ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ قَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ"

(9/229)


5166- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ ابْنَ عَشْرِ سِنِينَ مَقْدَمَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ فَكَانَ أُمَّهَاتِي يُوَاظِبْنَنِي عَلَى خِدْمَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَدَمْتُهُ عَشْرَ سِنِينَ وَتُوُفِّيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا ابْنُ عِشْرِينَ سَنَةً فَكُنْتُ أَعْلَمَ النَّاسِ بِشَأْنِ الْحِجَابِ حِينَ أُنْزِلَ وَكَانَ أَوَّلَ مَا أُنْزِلَ فِي مُبْتَنَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِزَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ أَصْبَحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا عَرُوسًا فَدَعَا الْقَوْمَ فَأَصَابُوا مِنْ الطَّعَامِ ثُمَّ خَرَجُوا وَبَقِيَ رَهْطٌ مِنْهُمْ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَطَالُوا الْمُكْثَ فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَرَجَ وَخَرَجْتُ مَعَهُ لِكَيْ يَخْرُجُوا فَمَشَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَشَيْتُ حَتَّى جَاءَ عَتَبَةَ حُجْرَةِ عَائِشَةَ ثُمَّ ظَنَّ أَنَّهُمْ خَرَجُوا فَرَجَعَ وَرَجَعْتُ مَعَهُ حَتَّى إِذَا دَخَلَ عَلَى زَيْنَبَ فَإِذَا هُمْ جُلُوسٌ لَمْ يَقُومُوا فَرَجَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَجَعْتُ مَعَهُ حَتَّى إِذَا بَلَغَ عَتَبَةَ حُجْرَةِ عَائِشَةَ وَظَنَّ أَنَّهُمْ خَرَجُوا فَرَجَعَ وَرَجَعْتُ مَعَهُ فَإِذَا هُمْ قَدْ خَرَجُوا فَضَرَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ بِالسِّتْرِ وَأُنْزِلَ الْحِجَابُ"
قوله: "باب الوليمة حق" هذه الترجمة لفظ حديث أخرجه الطبراني من حديث وحشي بن حرب رفعه: "الوليمة حق، والثانية معروف، والثالثة فخر" ولمسلم من طريق الزهري عن الأعرج وعن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: "شر الطعام طعام الوليمة يدعى الغني ويترك المسكين وهي حق" الحديث. ولأبي الشيخ والطبراني في "الأوسط" من طريق، مجاهد عن أبي هريرة رفعه: "الوليمة حق وسنة، فمن دعي فلم يجب فقد عصى" الحديث، وسأذكر حديث زهير ابن عثمان في ذلك وشواهده بعد ثلاثة أبواب. وروى أحمد من حديث بريدة قال: "لما خطب علي فاطمة قال رسول صلى الله عليه وسلم: أنه لا بد للعروس من وليمة" وسنده لا بأس به، قال ابن بطال قوله: "الوليمة حق" أي ليست بباطل بل يندب إليها وهي سنة فضيلة، وليس المراد بالحق الوجوب. ثم قال: ولا أعلم أحدا أوجبها. كذا قال، وغفل عن رواية في مذهبه بوجوبها نقلها القرطبي وقال: إن مشهور المذهب أنها مندوبة. وابن التين عن أحمد لكن الذي في "المغني" أنها سنة، بل وافق ابن بطال في نفي الخلاف بين أهل العلم في ذلك، قال وقال بعض الشافعية: هي واجبة لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بها عبد الرحمن بن عوف، ولأن الإجابة إليها واجبة فكانت واجبة. وأجاب بأنه طعام لسرور حادث فأشبه سائر الأطعمة، والأمر محمول على الاستحباب بدليل ما ذكرناه، ولكونه أمره بشاة وهي غير واجبة اتفاقا، وأما البناء فلا أصل له. قلت: وسأذكر مزيدا في "باب إجابة الداعي" قريبا. والبعض الذي أشار إليه من الشافعية هو وجه معروف عندهم، وقد جزم به سليم الرازي وقال: إنه ظاهر نص "الأم" ونقله عن النص أيضا الشيخ أبو إسحاق في المهذب، وهو قول أهل الظاهر كما صرح به ابن حزم، وأما سائر الدعوات غيرها فسيأتي البحث فيه بعد ثلاثة أبواب. قوله: "وقال عبد الرحمن بن عوف قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: أولم ولو بشاة" هذا طرف من حديث طويل وصله المصنف في أول البيوع من حديث عبد الرحمن بن عوف نفسه، ومن حديث أنس أيضا وسأذكر شرحه مستوفى إن شاء الله تعالى في الباب الذي يليه، والمراد منه ورود صيغة الأمر بالوليمة، وأنه لو رخص في تركها لما وقع الأمر باستدراكها بعد انقضاء الدخول. وقد اختلف السلف في وقتها هل هو عند العقد

(9/230)


أو عقبه أو عند الدخول أو عقبه أو موسع من ابتداء العقد إلى انتهاء الدخول على أقوال: قال النووي: اختلفوا فحكى عياض أن الأصح عند المالكية استحبابه بعد الدخول، وعن جماعة منهم أنه عند العقد، وعند ابن حبيب عند العقد وبعد الدخول. وقال له موضع آخر: يجوز قبل الدخول وبعده. وذكر ابن السبكي أن أباه قال: لم أر في كلام الأصحاب تعين وقتها، وأنه استنبط من قول البغوي: ضرب الدف في النكاح جائز في العقد والزفاف قبل وبعد قريبا منه، أن وقتها موسع من حين العقد، قال: والمنقول من فعل النبي صلى الله عليه وسلم أنها بعد الدخول كأنه يشير إلى قصة زينب بنت جحش، وقد ترجم عليه البيهقي في وقت الوليمة ا هـ، وما نفاه من تصريح الأصحاب متعقب بأن الماوردي صرح بأنها عند الدخول، وحديث أنس في هذا الباب صريح في أنها بعد الدخول لقوله فيه: "أصبح عروسا بزينب فدعا القوم" واستحب بعض المالكية أن تكون عند البناء ويقع الدخول عقبها وعليه عمل الناس اليوم، ويؤيد كونها للدخول لا للإملاك أن الصحابة بعد الوليمة ترددوا هل هي زوجة أو سرية، فلو كانت الوليمة عند الإملاك لعرفوا أنها زوجة لأن السرية لا وليمة لها فدل على أنها عند الدخول أو بعده. قوله في حديث أنس "مقدم النبي صلى الله عليه وسلم" بالنصب على الظرف أي زمان قدومه، وسيأتي في الأشربة من طريق شعيب عن الزهري عن أنس "قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وأنا ابن عشر سنين، ومات وأنا ابن عشرين" وتقدم قبل بابين في الحديث المعلق عن أبي عثمان عن أنس أنه خدم النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين، ويأتي في كتاب الآداب من طريق سلام بن مسكين عن ثابت عن أنس قال: "خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين، والله ما قال لي أف قط" الحديث. ولمسلم من رواية إسحاق بن أبي طلحة عن أنس في حديث آخره: "قال أنس والله لقد خدمته تسع سنين" ولا منافاة بين الروايتين، فإن مدة خدمته كانت تسع سنين وبعض أشهر فألغى الزيادة تارة وجبر الكسر أخرى. قوله: "فكن أمهاتي" يعني أمه وخالته ومن في معناهما، وإن ثبت كون مليكة جدته فهي مرادة هنا لا محالة. قوله: "يواظبنني" كذا للأكثر بظاء مشالة وموحدة ثم نونين من المواظبة، وللكشميهني بطاء مهملة بعدها تحتانية مهموزة بدل الموحدة من المواطأة وهي الموافقة. وفي رواية الإسماعيلي يوطنني بتشديد الطاء المهملة ونونين الأولى مشددة بغير ألف بعد الواو ولا حرف آخر بعد الطاء من التوطين، وفي لفظ له مثله لكن بهمزة ساكنة بعدها النونان من التوطئة تقول وطأته على كذا أي حرضته عليه. قوله: "وكنت أعلم الناس بشأن الحجاب" تقدم البحث فيه وبسط شرحه في تفسير سورة الأحزاب

(9/231)


69- باب الْوَلِيمَةِ وَلَوْ بِشَاةٍ
5167- حَدَّثَنَا عَلِيٌّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ حَدَّثَنِي حُمَيْدٌ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَأَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ وَتَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنْ الأَنْصَارِ كَمْ أَصْدَقْتَهَا قَالَ وَزْنَ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ وَعَنْ حُمَيْدٍ سَمِعْتُ أَنَسًا قَالَ لَمَّا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ نَزَلَ الْمُهَاجِرُونَ عَلَى الأَنْصَارِ فَنَزَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ عَلَى سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ فَقَالَ أُقَاسِمُكَ مَالِي وَأَنْزِلُ لَكَ عَنْ إِحْدَى امْرَأَتَيَّ قَالَ بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ فَخَرَجَ إِلَى السُّوقِ فَبَاعَ وَاشْتَرَى فَأَصَابَ شَيْئًا مِنْ أَقِطٍ وَسَمْنٍ فَتَزَوَّجَ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ"

(9/231)


5168- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ مَا أَوْلَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ نِسَائِهِ مَا أَوْلَمَ عَلَى زَيْنَبَ أَوْلَمَ بِشَاةٍ"
5169- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ شُعَيْبٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْتَقَ صَفِيَّةَ وَتَزَوَّجَهَا وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا وَأَوْلَمَ عَلَيْهَا بِحَيْسٍ"
5170- حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ عَنْ بَيَانٍ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسًا يَقُولُ بَنَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِامْرَأَةٍ فَأَرْسَلَنِي فَدَعَوْتُ رِجَالًا إِلَى الطَّعَامِ"
قوله: "باب الوليمة ولو بشاة" أي لمن كان موسرا كما سيأتي البحث فيه، وذكر المصنف في الباب خمسة أحاديث كلها عن أنس: الأول والثاني قصة عبد الرحمن بن عوف، قطعها قطعتين. قوله: "حدثنا علي" هو ابن المديني، وسفيان هو ابن عيينة، وقد صرح بتحديث حميد له وسماع حميد عن أنس فأمن تدليسهما، لكنه فرقه حديثين: فذكر في الأول سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن عن قدر الصداق، وفي الثاني أول القصة قال: "لما قدموا المدينة نزل المهاجرون على الأنصار" وعبر في هذا بقوله: "وعن حميد قال سمعت أنسا" وفي رواية الكشميهني أنه سمع أنسا كما قال في الذي قبله، وهذا معطوف فيما جزم به المزي وغيره على الأول، ويحتمل أن يكون معلقا والأول هو المعتمد. وقد أخرجه الإسماعيلي: "عن الحسن بن سفيان عن محمد بن خلاد عن سفيان حدثنا حميد سمعت أنسا" وساق الحديثين معا، وأخرجه الحميدي في مسنده ومن طريقه أبو نعيم في "المستخرج" عن سفيان بالحديث كله مفرقا وقال في كل منهما "حدثنا حميد أنه سمع أنسا" وقد أخرجه ابن أبي عمر في مسنده عن سفيان، ومن طريقه الإسماعيلي فقال عن حميد عن أنس وساق الجميع حديثا واحدا، وقدم القصة الثانية على الأولى كما في وراية غير سفيان؛ فقد تقدم في أوائل النكاح من طريق الثوري وفي "باب الصفرة للمتزوج" من رواية مالك وفي "فضل الأنصار" من طريق إسماعيل بن جعفر، وفي أول البيوع من رواية زهير بن معاوية، ويأتي في الأدب من رواية يحيى القطان كلهم عن حميد. وأخرجه محمد بن سعد في "الطبقات" عن محمد بن عبد الله الأنصاري عن حميد، وتقدم في "باب ما يدعى للمتزوج" من رواية ثابت، وفي "باب وآتوا النساء صدقاتهن" من رواية عبد العزيز بن صهيب وقتادة كلهم عن أنس، وأورده في أول كتاب البيوع من حديث عبد الرحمن بن عوف نفسه، وسأذكر ما في رواياتهم من فائدة زائدة. وتقدم في البيوع في الكلام على حديث أنس بيان من زاد في روايته فجعله من حديث أنس عن عبد الرحمن بن عوف، وأكثر الطرق تجعله من مسند أنس، والذي يظهر من مجموع الطرق أنه حضر القصة وإنما نقل عن عبد الرحمن منها ما لم يقع له عن النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: "لما قدموا المدينة" أي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. وفي رواية ابن سعد "لما قدم عبد الرحمن ابن عوف المدينة". قوله: "نزل المهاجرون على الأنصار" تقدم بيان ذلك في أول الهجرة. قوله: "فنزل عبد الرحمن بن عوف على سعد بن الربيع" في رواية زهير "لما قدم عبد الرحمن بن عوف المدينة آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع الأنصاري" وفي رواية إسماعيل بن جعفر "قدم علينا عبد الرحمن فآخى" ونحوه في حديث عبد الرحمن بن عوف نفسه. وفي رواية يحيى بن سعيد الأنصاري عن حميد عند النسائي والطبراني "آخى

(9/232)


"سأل النبي صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن عوف وتزوج امرأة من الأنصار "هذه الجملة حالية أي سأله حين تزوج، وهذه المرأة جزم الزبير بن بكار في "كتاب النسب" أنها بنت أبي الحيسر أنس بن رافع بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشهل، وفي ترجمة عبد الرحمن بن عوف من "طبقات ابن سعد" أنها بنت أبي الحشاش وساق نسبه، وأظنهما ثنتين، فإن في رواية الزبير قال: "ولدت لعبد الرحمن القاسم وعبد الله" وفي رواية ابن سعد "ولدت له إسماعيل وعبد الله" وذكر ابن القداح في "نسب الأوس" أنها أم إياس بنت أبي الحيسر بفتح المهملتين بينهما تحتانية ساكنة وآخره راء واسمه أنس بن رافع الأوسي. وفي رواية مالك "فسأله فأخبره أنه تزوج امرأة من الأنصار" وفي رواية زهير وابن علية وابن سعد وغيرهم "فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: مهيم" ؟ ومعناه ما شأنك أو ما هذا؟ وهي كلمة استفهام مبنية على السكون، وهل هي بسيطة أو مركبة؟ قولان لأهل اللغة. وقال ابن مالك: هي اسم فعل بمعنى أخبر، ووقع في رواية للطبراني في الأوسط "فقال له مهيم؟ وكانت كلمته إذا أراد أن يسأل عن الشيء" ووقع في رواية ابن السكن "مهين" بنون آخره بدل الميم والأول هو المعروف. ووقع في رواية حماد بن زيد عن ثابت عند المصنف وكذا في رواية عبد العزيز بن صهيب عند أبي عوانة "قال ما هذا" وقال في جوابه "تزوجت امرأة من الأنصار" وللطبراني في "الأوسط" من حديث أبي هريرة بسند فيه ضعف "أن عبد الرحمن بن عوف أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد خضب بالصفرة فقال: ما هذا الخضاب، أعرست؟ قال نعم" الحديث. قوله: "كم أصدقتها" كذا في رواية حماد بن سلمة ومعمر عن ثابت وفي رواية الطبراني "على كم". وفي رواية الثوري وزهير "ما سقت إليها" وكذا في رواية عبد الرحمن نفسه. وفي رواية مالك "كم سقت إليها". قوله: "وزن نواة" بنصب النون على تقدير فعل أي أصدقتها، ويجوز الرفع على تقدير مبتدأ أي الذي أصدقتها هو. قوله: "من ذهب" كذا وقع الجزم به في رواية ابن عيينة والثوري، وكذا في رواية حماد بن سلمة عن ثابت وحميد. وفي رواية زهير وابن علية "نواة من ذهب، أو وزن نواة من ذهب" وكذا في رواية عبد الرحمن نفسه بالشك. وفي رواية شعبة عن عبد العزيز بن صهيب "على وزن نواة" وعن قتادة "على وزن نواة من ذهب" ومثل الأخير في رواية حماد بن زيد عن ثابت، وكذا أخرجه مسلم من طريق أبي عوانة عن قتادة، ولمسلم من رواية شعبة عن أبي حمزة عن أنس "على وزن نواة. قال فقال رجل من ولد عبد الرحمن: من ذهب" ورجح الداودي رواية من قال: "على نواة من ذهب" واستنكر رواية من روى "وزن نواة" واستنكاره هو المنكر لأن الذين جزموا بذلك أئمة حفاظ، قال عياض لا وهم في الرواية لأنها إن كانت نواة تمر أو غيره أو كان للنواة قدر معلوم صلح أن يقال في كل ذلك وزن نواة، واختلف في المراد بقوله: "نواة" فقيل المراد واحدة نوى التمر كما يوزن بنوى الخروب وأن القيمة عنها يومئذ كانت خمسة دراهم، وقيل كان قدرها يومئذ ربع دينار، ورد بأن نوى التمر يختلف في الوزن فكيف يجعل معيارا لما يوزن به؟ وقيل: لفظ النواة من ذهب عبارة عما قيمته خمسة دراهم من الورق، وجزم به الخطابي واختاره الأزهري ونقله عياض عن أكثر العلماء، ويؤيده أن في رواية للبيهقي من طريق سعيد بن بشر عن قتادة "وزن نواة من ذهب قومت خمسة دراهم" وقيل وزنها من الذهب خمسة دراهم حكاه ابن قتيبة وجزم به ابن فارس، وجعله البيضاوي الظاهر، واستبعد لأنه يستلزم أن يكون ثلاثة مثاقيل ونصفا. ووقع في رواية حجاج بن أرطاة عن قتادة عند البيهقي "قومت ثلاثة دراهم وثلثا "وإسناده

(9/234)


ضعيف، ولكن جزم به أحمد، وقيل ثلاثة ونصف، وقيل ثلاثة وربع، وعن بعض المالكية النواة عند أهل المدينة ربع دينار، ويؤيد هذا ما وقع عند الطبراني في الأوسط في آخر حديث قال أنس جاء وزنها ربع دينار، وقد قال الشافعي: النواة ربع النش والنش نصف أوقية والأوقية أربعون درهما فيكون خمسة دراهم، وكذا قال أبو عبيد: إن عبد الرحمن بن عوف دفع خمسة دراهم، وهي تسمى نواة كما تسمى الأربعون أوقية، وبه جزم أبو عوانة وآخرون. قوله آخر الرواية الثانية "فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أولم ولو بشاة" ليست "لو" هذه الامتناعية وإنما هي التي للتقليل، وزاد في رواية حماد بن زيد "فقال بارك الله لك" قبل قوله: "أولم" ، وكذا في رواية حماد بن سلمة عن ثابت وحميد وزاد في آخر الحديث: "قال عبد الرحمن: فلقد رأيتني ولو رفعت حجرا لرجوت أن أصيب ذهبا أو فضة، فكأنه قال ذلك إشارة إلى إجابة الدعوة النبوية بأن يبارك الله له. ووقع في حديث أبي هريرة بعد قوله أعرست" قال نعم. قال: أولمت؟ قال: لا. فرمى إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بنواة من ذهب فقال: أولم ولو بشاة" وهذا لو صح كان فيه أن الشاة من إعانة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يعكر على من استدل به على أن الشاة أقل ما يشرع للموسر، ولكن الإسناد ضعيف كما تقدم. وفي رواية معمر عن ثابت "قال أنس: فلقد رأيته قسم لكل امرأة من نسائه بعد موته مائة ألف". قلت: مات عن أربع نسوة فيكون جميع تركته ثلاثة آلاف ألف ومائتي ألف، وهذا بالنسبة لتركة الزبير التي تقدم شرحها في فرض الخمس قليل جدا، فيحتمل أن تكون هذه دنانير وتلك دراهم لأن كثرة مال عبد الرحمن مشهورة جدا، واستدل به على توكيد أمر الوليمة وقد تقدم البحث فيه. وعلى أنها تكون بعد الدخول، ولا دلالة فيه وإنما فيه أنها تستدرك إذا فاتت بعد الدخول، وعلى أن الشاة أقل ما تجزئ عن الموسر، ولولا ثبوت أنه صلى الله عليه وسلم أولم على بعض نسائه كما سيأتي بأقل من الشاة لكان يمكن أن يستدل به على أن الشاة أقل ما تجزئ في الوليمة، ومع ذلك فلا بد من تقييده بالقادر عليها، وأيضا فيعكر على الاستدلال أنه خطاب واحد، وفيه اختلاف هل يستلزم العموم أو لا، وقد أشار إلى ذلك الشافعي فيما نقله البيهقي عنه قال: لا أعمله أمر بذلك غير عبد الرحمن، ولا أعلمه أنه صلى الله عليه وسلم ترك الوليمة فجعل ذلك مستندا في كون الوليمة ليست بحتم، ويستفاد من السياق طلب تكثير الوليمة لمن يقدر، قال عياض: وأجمعوا على أن لا حد لأكثرها، وأما أقلها فكذلك، ومهما تيسر أجزأ، والمستحب أنها على قدر حال الزوج، وقد تيسر على الموسر الشاة فما فوقها، وسيأتي البحث في تكرارها في الأيام بعد قليل. وفي الحديث أيضا منقبة لسعد بن الربيع في إيثاره على نفسه بما ذكر، ولعبد الرحمن بن عوف في تنزهه عن شيء يستلزم الحياء والمروءة اجتنابه ولو كان محتاجا إليه. وفيه استحباب المؤاخاة وحسن الإيثار من الغني للفقير حتى بإحدى زوجتيه، واستحباب رد مثل ذلك على من آثر به لما يغلب في العادة من تكلف مثل ذلك، فلو تحقق أنه لم يتكلف جاز. وفيه أن من ترك ذلك بقصد صحيح عوضه الله خيرا منه وفيه استحباب التكسب، وأن لا نقص على من يتعاطى من ذلك ما يليق بمروءة مثله، وكراهة قبول ما يتوقع منه الذل من هبة وغيرها، وأن العيش من عمل المرء بتجارة أو حرفة أولى لنزاهة الأخلاق من العيش بالهبة ونحوها. وفيه استحباب الدعاء للمتزوج، وسؤال الإمام والكبير أصحابه وأتباعه عن أحوالهم، ولا سيما إذا رأى منهم ما لم يعهد. وجواز خروج العروس وعليه أثر العرس من خلوق وغيره، واستدل به على جواز التزعفر للعروس، وخص به عموم النهي عن التزعفر للرجال كما سيأتي بيانه في كتاب اللباس، وتعقب باحتمال أن تكون تلك الصفرة

(9/235)


كانت في ثيابه دون جسده، وهذا الجواب للمالكية على طريقتهم في جوازه في الثوب دون البدن، وقد نقل ذلك مالك عن علماء المدينة، وفيه حديث أبي موسى رفعه: "لا يقبل الله صلاة رجل في جسده شيء من خلوق" أخرجه أبو داود، فإن مفهومه أن ماعدا الجسد لا يتناوله الوعيد، ومنع من ذلك أبو حنيفة والشافعي ومن تبعهما في الثوب أيضا، وتمسكوا بالأحاديث في ذلك وهي صحيحة، وفيها ما هو صريح في المدعي كما سيأتي بيانه، وعلى هذا فأجيب عن قصة عبد الرحمن بأجوبة: أحدها أن ذلك كان قبل النهي وهذا يحتاج إلى تاريخ، ويؤيده أن سياق قصة عبد الرحمن يشعر بأنها كانت في أوائل الهجرة، وأكثر من روى النهي ممن تأخرت هجرته. ثانيها أن أثر الصفرة التي كانت على عبد الرحمن تعلقت به من جهة زوجته فكان ذلك غير مقصود له، ورجحه النووي وعزاه للمحققين، وجعله البيضاوي أصلا رد إليه أحد الاحتمالين أبداهما في قوله: "مهيم" فقال: معناه ما السبب في الذي أراه عليك؟ فلذلك أجاب بأنه تزوج قال ويحتمل أن يكون استفهام إنكار لما تقدم من النهي عن التضمخ بالخلوق، فأجاب بقوله تزوجت، أي فتعلق بي منها ولم أقصد إليه. ثالثها أنه كان قد احتاج إلى التطيب للدخول على أهله فلم يجد من طيب الرجال حينئذ شيئا فتطيب من طيب المرأة، وصادف أنه كان فيه صفرة فاستباح القليل منه عند عدم غيره جمعا بين الدليلين، وقد ورد الأمر في التطيب للجمعة ولو من طيب المرأة فبقي أثر ذلك عليه. رابعها كان يسيرا ولم يبق إلا أثره فلذلك لم ينكر. خامسها وبه جزم الباجي أن الذي يكره من ذلك ما كان من زعفران وغيره من أنواع الطيب، وأما ما كان ليس بطيب فهو جائز. سادسها أن النهي عن التزعفر للرجال ليس على التحريم بدلالة تقريره لعبد الرحمن بن عوف في هذا الحديث. سابعها أن العروس يستثنى من ذلك ولا سيما إذا كان شابا، ذكر ذلك أبو عبيد قال: وكانوا يرخصون للشاب في ذلك أيام عرسه، قال وقيل: كان في أول الإسلام من تزوج لبس ثوبا مصبوغا علامة لزواجه ليعان على وليمة عرسه، قال وهذا غير معروف. قلت: وفي استفهام النبي صلى الله عليه وسلم له عن ذلك دلالة على أنه لا يختص بالتزويج، لكن وقع في بعض طرقه عند أبي عوانة من طريق شعبة عن حميد بلفظ: "فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فرأى علي بشاشة العرس فقال: أتزوجت؟ قلت: تزوجت امرأة من الأنصار" فقد يتمسك بهذا السياق للمدعي ولكن القصة واحدة، وفي أكثر الروايات أنه قال له "مهيم أو ما هذا" فهو المعتمد، وبشاشة العرس أثره وحسنه أو فرحه وسروره، يقال بش فلان بفلان أي أقبل عليه فرحا به ملطفا به، واستدل به على أن النكاح لا بد فيه من صداق لاستفهامه على الكمية، ولم يقل هل أصدقها أو لا؟ ويشعر ظاهره بأنه يحتاج إلى تقدير لإطلاق لفظ: "كم" الموضوعة للتقدير، كذا قال بعض المالكية، وفيه نظر لاحتمال أن يكون المراد الاستخبار عن الكثرة أو القلة فيخبره بعد ذلك بما يليق بحال مثله، فلما قال له القدر لم ينكر عليه بل أقره، واستدل به على استحباب تقليل الصداق لأن عبد الرحمن بن عوف كان من مياسير الصحابة وقد أقره النبي صلى الله عليه وسلم على إصداقه وزن نواة من ذهب، وتعقب بأن ذلك كان في أول الأمر حين قدم المدينة وإنما حصل له اليسار بعد ذلك من ملازمة التجارة حتى ظهرت منه من الإعانة في بعض الغزوات ما اشتهر، وذلك ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له كما تقدم. واستدل به على جواز المواعدة لمن يريد أن يتزوج بها إذا طلقها زوجها وأوفت العدة، لقول سعد بن الربيع "انظر أي زوجتي أعجب إليك حتى أطلقها فإذا انقضت عدتها تزوجتها" ووقع تقرير ذلك، ويعكر على هذا أنه لم ينقل أن المرأة علمت بذلك ولا سيما ولم يقع تعيينها، لكن الاطلاع على أحوالهم إذ ذاك يقتضي أنهما علمتا معا لأن ذلك كان قبل نزول آية الحجاب

(9/236)


فكانوا يجتمعون، ولولا وثوق سعد بن الربيع من كل منهما بالرضا ما جزم بذلك. وقال ابن المنير: لا يستلزم المواعدة بين الرجلين وقوع المواعدة بين الأجنبي والمرأة، لأنها إذا منع وهي في العدة من خطبتها تصريحا ففي هذا يكون بطريق الأولى لأنها إذا طلقت دخلت العدة قطعا، قال: ولكنها وإن اطلعت على ذلك فهي بعد انقضاء عدتها بالخيار، والنهي إنما وقع عن المواعدة بين الأجنبي والمرأة أو وليها لا مع أجنبي آخر. وفيه جواز نظر الرجل إلى المرأة قبل أن يتزوجها. "تنبيه": حقه أن يذكر في مكانه من كتاب الأدب، لكن تعجلته هنا لتكميل فوائد الحديث، وذلك أن البخاري ترجم في كتاب الأدب "باب الإخاء والحلف" ثم ساق حديث الباب من طريق يحيى بن سعيد القطان عن حميد واختصره فاقتصر منه على قوله: "عن أنس قال: لما قدم علينا عبد الرحمن بن عوف فآخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أولم ولو بشاة" فرأى ذلك المحب الطبري فظن أنه حديث مستقل فترجم في أبواب الوليمة: ذكر الوليمة للإخاء، ثم ساق هذا الحديث بهذا اللفظ وقال: أخرجه البخاري. وكون هذا طرفا من حديث الباب لا يخفى على من له أدنى ممارسة بهذا الفن، والبخاري يصنع ذلك كثيرا، والأمر لعبد الرحمن بن عوف بالوليمة إنما كان لأجل الزواج لا لأجل الإخاء، وقد تعرض المحب لشيء من ذلك لكنه أبداه احتمالا، ولا يحتمل جريان هذا الاحتمال ممن يكون محدثا، فالله أعلم بالصواب. حديث: "ما أولم النبي صلى الله عليه وسلم على شيء من نسائه ما أولم على زينب" هي بنت جحش كما في الباب الذي بعده، وحماد المذكور في إسناده هو ابن زيد وهذا الذي ذكره بحسب الاتفاق لا التحديد كما سأبينه في الباب الذي بعد، وقد يؤخذ من عبارة صاحب "التنبيه" من الشافعية أن الشاة حد لأكثر الوليمة لأنه قال: وأكملها شاة، لكن نقل عياض الإجماع على أنه لا حد لأكثرها. وقال ابن أبي عصرون: أقلها للموسر شاة، وهذا موافق لحديث عبد الرحمن بن عوف الماضي وقد تقدم ما فيه. قوله: "حدثنا عبد الوارث" في رواية الكشميهني: "عن عبد الوارث" وشعيب هو ابن الحبحاب، وقد تقدم شرح الحديث في "باب من جعل عتق الأمة صداقها" وقوله في آخره: "وأولم عليها بحيس" تقدم في "باب اتخاذ السراري" من طريق حميد عن أنس "أنه أمر بالأنطاع فألقى فيها من التمر والأقط والسمن فكانت وليمته" ولا مخالفة بينهما لأن هذه من أجزاء الحيس، قال أهل اللغة: الحيس يؤخذ التمر فينزع نواه ويخلط بالأقط أو الدقيق أو السويق ا ه. ولو جعل فيه السمن لم يخرج عن كونه حيسا. قوله: "زهير" هو ابن معاوية الجعفي. قوله: "عن بيان" هو ابن بشر الأحمسي، ووقع في رواية ابن خزيمة عن موسى بن عبد الرحمن المسروقي عن مالك بن إسماعيل شيخ البخاري فيه عن زهير "حدثنا بيان". قوله: "بامرأة" يغلب على الظن أنها زينب بنت جحش لما تقدم قريبا في رواية أبي عثمان عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه يدعو رجالا إلى الطعام، ثم تبين ذلك واضحا من رواية الترمذي لهذا الحديث تاما من طريق أخرى عن بيان بن بشر فزاد بعد قوله إلى الطعام "فلما أكلوا وخرجوا قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى رجلين جالسين" فذكر قصة نزول {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ} الآية، وهذا في قصة زينب بنت جحش لا محالة كما تقدم سياقه مطولا وشرحه في تفسير الأحزاب

(9/237)


70- باب مَنْ أَوْلَمَ عَلَى بَعْضِ نِسَائِهِ أَكْثَرَ م